الوراثه الاصطفائیه لفاطمه الزهرا علیها السلام تقریرا لابحاث المحقق آیه الله الشیخ محمد السند

اشارة

سرشناسه:سند، محمد، 1962- م.

عنوان و نام پدیدآور:الوراثه الاصطفائیه لفاطمه الزهرا علیها السلام تقریرا لابحاث المحقق آیه الله الشیخ محمد السند / بقلم محمدصالح الموسوی التبریزی.

مشخصات نشر:قم: باقیات، 1431 ق.= 1389.

مشخصات ظاهری:432 ص.

شابک:978-600-5126-92-1

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

یادداشت:عربی.

یادداشت:کتابنامه: ص. [415]- 423؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:فاطمه زهرا (س)، 8؟ قبل از هجرت - 11ق. -- فضایل

موضوع:فاطمه زهرا (س)، 8؟ قبل از هجرت - 11ق. -- جنبه های قرآنی

موضوع:Fatimah Zahra, The Saint -- Koranic aspects

موضوع:کلام شیعه امامیه

موضوع:شیعه امامیه -- عقاید

موضوع:ارث -- جنبه های قرآنی

موضوع:Inheritance and succession -- Qur'anic teaching

موضوع:فدک (عربستان سعودی)

موضوع:Fadak (Saudi Arabia)

شناسه افزوده:موسوی تبریزی، محمدصالح

رده بندی کنگره:BP27/25/س9و4 1389

رده بندی دیویی:297/973

شماره کتابشناسی ملی:2009357

ص :1

اشارة

ص :2

الوراثه الاصطفائیه لفاطمه الزهرا علیها السلام

تقریرا لابحاث المحقق آیه الله الشیخ محمد السند

بقلم محمدصالح الموسوی التبریزی

ص :3

ص :4

المقدّمة

هناک مجموعة من التساؤلات تمتزج بالاستغراب والتعجّب یبدیها البعض تجاه القول بحجّیة فاطمة علیها السلام ، ناشئة هذه التساؤلات :

تارةً من أنّ کتب المتکلّمین لم تُفرزها کأصل آخر من اصول الاعتقادات وراء الاُصول الخمسة من : التوحید ، والعدل ، والنبوّة ، والإمامة ، والمعاد ، فکیف یمکن القول بأنّ الاعتقاد بحجّیتها علیها السلام کأصل من اصول العقیدة ؟ !

واُخری : إنّ الحجّیة التی بحثها المتکلّمون ، إمّا هی النبوّة أو الرسالة أو الإمامة ، ولیس وراء هذه الأقسام الثلاثة قسم آخر للحجّیة .

وثالثة : ما هو الأثر التشریعی الذی یترتّب علی القول بحجّیتها علیها السلام ؟

ورابعة : إنّ الأئمّة هم إثنا عشر ، و هذا العدد من الثوابت التی لا تُرفع الید عنها بالزیادة أو النقصان .

وغیرها من التساؤلات .

وقد قامت هذه الدراسة بتسلیط الأضواء علی هذه التساؤلات والإجابة علیها ، متّبعة منهج الاستدلال والبرهان فی حلّها ، وإلیک خلاصة جواب هذه التساؤلات فی الإجابة هنا ، وسنوافیک إن شاء اللّه تعالی بتفصیل ذلک فی طیّات صفحات الکتاب :

إنّ ما یشاهد من التبویب الخماسی لاُصول العقیدة الذی اعتمده المتکلّمون ، لیس حصراً شرعیّاً لاُصول العقائد فی هذا العدد ، وإنّما هو تبویب وتنظیم فنّی

ص:5

لمباحث ومسائل العقیدة من قِبل المتکلّمین المتأخّرین ، وإلّا فأعلام الطائفة نظیر الشیخ الکلینیّ والشیخ الصدوق وشیوخهما ، وکذا الشیخ المفید وغیرهم من متقدّمی الأصحاب لم یعتمدوا هذا الحصر فی کتبهم العقائدیة ، نظیر قوله تعالی : آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَیْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِکَتِهِ وَ کُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (1) حیث عدّدت الآیة جملة من الاُصول الاعتقادیّة تزید علی الاُصول الخمسة المعهودة فی الکتب الکلامیّة .

کما أنّ الحجج الإلهیّة لا تنحصر فی النبوّة ، والرسالة والإمامة ، فهذه مریم علیها السلام قد اصطفاها اللّه تعالی وجعلها حجّة علی العالمین ، قال تعالی : وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ (2) .

وقوله تعالی : وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْیَمَ وَ أُمَّهُ آیَةً (3) .

و هذا نظیر الاستظهار الموجود فی قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ* ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ (4) .

وقد أخبر أیضاً عن تحدیث جبرئیل لها فی قوله تعالی : فَأَرْسَلْنا إِلَیْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِیًّا* قالَتْ إِنِّی أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْکَ إِنْ کُنْتَ تَقِیًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّکِ لِأَهَبَ لَکِ غُلاماً زَکِیًّا (5) .

کما أنّه قد حُمّلت مسؤولیة من السماء بغیر وساطة نبیّ أو رسول لتکون أوّل منذر بشریعة ناسخة لبعض شریعة موسی ، لقوله تعالی : فَإِمّا تَرَیِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً

ص:6


1- (1) البقرة : 285 .
2- (2) آل عمران : 42 .
3- (3) المؤمنون : 50 .
4- (4) آل عمران : 33 و 34 .
5- (5) مریم : 17 - 19 .

فَقُولِی . . . فَأَشارَتْ إِلَیْهِ قالُوا کَیْفَ نُکَلِّمُ مَنْ کانَ فِی الْمَهْدِ صَبِیًّا (1) .

وأمّا حجّیة الزهراء علیها السلام فهی عین حجّیة المعصومین الإثنی عشر علیهم السلام ، أی حجّیة أقوالهم وأفعالهم وتقریرهم وسیرتهم وسننهم ومواقفهم ، سواءً فی موقفها العقائدیّ من إبطال مسار السقیفة ونهجها ، وتثبیت أنّ ولایة الأمر هی لأهل البیت علیهم السلام وقُربی النبیّ صلی الله علیه و آله المطهّرین . وغیره من المعانی العَقَدیّة ، وصولاً إلی تثبیتها جملة شرائع الدین ، أو التشریعات المرتبطة بالمرأة فی الاُسرة کشخصیّة فاعلة ، وکدورها فی ساحة الدین والنظام السیاسیّ .

ولا یخفی أنّ وجوب الطاعة والانقیاد لا یقتصر علی منصب الإمامة .

کما أنّ هناک تساؤلاً آخر وحاصله : إنّه مع التسلیم بحجّیتها علیها السلام لعصمتها إلّاأنّه لا دلیل علی وجوب الإیمان بذلک علی نحو الإطلاق ، بنحو یکون دخیلاً بتحقّق أصل الإیمان ، نظیر الاعتقاد بإمامة الأئمّة الإثنی عشر علیهم السلام .

وبعبارة اخری : إنّ هناک من الاعتقادات ما یکون وجوب الإذعان والتسلیم بها معلّقاً علی حصول العلم ، أی أنّ وجوب الاعتقاد بها مقیّد بحصول العلم ، فلا مؤاخذة إلّابعد حصول المعرفة ، لکن لیست هناک مسؤولیة تجاه تحصیل المعرفة ، و هذا بخلاف النمط الأوّل من الاُمور الاعتقادیّة الدخیلة فی أصل الإیمان ، فإنّ هناک مسؤولیة تجاه التقصیر فی تحصیل أصل المعرفة بها ، إذ بدونها لا یتحقّق الإیمان من رأس ، فیقع الکلام فی هل أنّ الإیمان بحجّیتها علیها السلام هو من النمط الأوّل أو من النمط الثانی ؟

ونقول فی مقام الإجابة : إنّ الذی یظهر من النصوص القرآنیّة والحدیثیّة هو کون الاعتقاد بحجّیتها علیها السلام شرط فی أصل الإیمان ، وأنّه لابدّ من تحصیله علی کلّ مسلم ، وإلی ذلک قد یشیر ما روی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أخذ البیعة علی عمّه حمزة بن

ص:7


1- (1) مریم : 26 - 29 .

عبد المطّلب خاصّة یوم خروجه إلی بدر ، حیث دعا رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیّاً وحمزة وفاطمة علیها السلام إلی البیعة فقال لهم :

بایعونی بیعة الرضا .

فقال حمزة : بأبی أنت وأمّی علی ما نبایع ؟ ألیس قد بایعنا ؟

فقال :

یا أسد اللّه وأسد رسوله ، تبایع للّه ولرسوله بالوفاء والاستقامة لابن أخیک ،

إذن تستکمل الإیمان .

قال : نعم ، سمعاً وطاعة . وبسط یدیه ، فقال لهم :

ید اللّه فوق أیدیکم ، علیّ أمیر المؤمنین ، وحمزة سیّد الشهداء ، وجعفر الطیّار فی الجنّة ، وفاطمة سیّدة نساء العالمین ، والسبطان الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنة ، هذا شرط من اللّه علی جمیع المسلمین من الجنّ والإنس أجمعین ، فَمَنْ نَکَثَ فَإِنَّما یَنْکُثُ عَلی نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفی بِما عاهَدَ عَلَیْهُ اللّهَ فَسَیُؤْتِیهِ أَجْراً عَظِیماً (1) ، ثمّ قرأ إِنَّ الَّذِینَ یُبایِعُونَکَ إِنَّما یُبایِعُونَ اللّهَ (2) .

وقد جدّد النبیّ صلی الله علیه و آله هذا الإقرار وشرط الإیمان علی عمّه حمزة فی موضع آخر ، وهو اللیلة التی أصیب حمزة فی یومها ، دعاه رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال :

یا حمزة ، یا عمّ رسول اللّه ، یوشک أن تغیب غیبة بعیدة ، فما تقول لو وردت علی اللّه تبارک وتعالی ،

فسألک عن شرائع الإسلام ، وشروط الإیمان ؟

فبکی حمزة وقال : بأبی أنت وأمّی ، أرشدنی وفهّمنی .

فقال :

یا حمزة ، تشهد أن لا إله إلّااللّه مخلصاً ، وأنّی رسول اللّه تعالی بعثنی بالحقّ .

قال حمزة : شهدت .

ص:8


1- (1) الفتح : 10 .
2- (2) بحار الأنوار : 22 : 278 ، الحدیث 32 ، عن کتاب الطرف للسیّد ابن طاووس ، نقلاً عن کتاب الوصیّة لعیسی بن المستفاد ، عن موسی بن جعفر ، عن أبیه علیهما السلام .

قال :

وأنّ الجنّة حقّ ، وأنّ النّار حقّ ، وأنّ الساعة آتیة لا ریب فیها ، وأنّ الصراط حقّ ، والمیزان حقّ ، ومن یعمل مثقال ذرّة خیراً یره ، ومن یعمل مثقال ذرّة شرّاً یره ،

وفریق فی الجنّة وفریق فی السعیر ، وأنّ علیّاً أمیر المؤمنین .

قال حمزة : شهدت وأقررت ، وآمنت ، وصدّقت .

وقال :

الأئمّة من ذرّیته الحسن والحسین ، وفی ذرّیّته .

قال حمزة : آمنت وصدّقت .

وقال :

فاطمة سیّدة نساء العالمین من الأوّلین والآخرین . قال : نعم ، وصدّقت .

وقال :

حمزة سیّد الشهداء وأسد اللّه وأسد رسوله وعمّ نبیّه .

فبکی حمزة وقال : نعم ، صدقت وبررت یا رسول اللّه .

وبکی حمزة حتّی سقط علی وجهه و جعل یقبّل عینی رسول اللّه .

وقال :

جعفر ابن أخیک طیّار فی الجنّة مع الملائکة ، وأنّ محمّداً وآله خیر البریّة ،

تؤمن یا حمزة بسرّهم وعلانیّتهم ، وظاهرهم وباطنهم ، وتحیی علی ذلک وتموت ،

وتوالی من والاهم ، وتعادی من عاداهم .

قال : نعم یا رسول اللّه اشهد اللّه واُشهدک و کفی باللّه شهیداً .

فقال رسول اللّه :

سدّدک اللّه ووفّقک(1) .

وتفصیل الأدلّة سنوافیک به فی فصول الکتاب إن شاء اللّه تعالی .

هذا وقد جاءت هذه الدراسة للوقوف علی محطّات عدیدة ذات أهمّیة کبری فی عالم العقیدة ، وحلّ مجموعة من معضلات المسائل الشائکة فیها ، والتی لازالت مزلّاً للأقدام ، کما هو الحال فی معنی وراثتها علیها السلام لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، والآثار المترتّبة علی ذلک ، أو ما ورد فی مؤدّی مناقبها المتّفق علیها وأنّها من ضرورات الدین ،

ص:9


1- (1) بحار الأنوار : 22 : 279 .

وتداعیاته علی موقعیتها فی العقیدة واُصول الإیمان ، أو حجّیتها من بین الحجج المعصومین علیهم السلام رُغم انوثتها ، أو تفسیر ولایتها وافتراض طاعتها علی عامّة الخلائق ، وکذا معنی تقدّم حجّیتها بعد علیّ علیه السلام علی الأئمّة الأحد عشر علیهم السلام ، وتفسیر وساطتها العلمیّة اللدنیّة ضمن مجموعة من المقالات ، تقع فی قسمین :

القسم الأوّل : الوراثة الاصطفائیّة .

القسم الثانی : موقعیّة الاعتقاد بحجّیتها فی اصول الدین .

والوقوف علی معانی الحجّیة فی الاعتقاد ، ثمّ تفسیر الفارق بین العصمة والعدالة .

وقد جاء فی المقالة الاُولی العصمة بین الجبر والتفویض ، والعصمة والاکتساب .

و جاءت المقالة الثانیة فی بیان الوراثة فی القرآن ، وحقیقة وراثة الأنبیاء .

والمقالة الثالثة لبیان مواضع شراکتها علیها السلام لمقامات النبیّ صلی الله علیه و آله بالوراثة عدا النبوّة والإمامة فی المجال الإجرائی .

والمقالة الرابعة تدور حول مصادر سیادة أهل البیت علیهم السلام ورئاستهم علی الناس ، الذی تعرّضت له سیّدة النساء علیها السلام فی احتجاجها المشهور .

وقد جاء القسم الثانی من الکتاب ضمن مقالات أیضاً ، حیث کانت المقالة الخامسة منه تحت عنوان : مقام ولایتها ووجوب طاعتها علی جمیع الخلائق حتّی الأنبیاء .

وأمّا المقالة السادسة لبیان موقع فاطمة علیها السلام فی سلسلة الأنبیاء والأوصیاء والحجج الإلهیّة .

والمقالة السابعة لبیان دور الزهراء علیها السلام فی صیانة الإسلام عن التحریف .

والمقالة الثامنة فی بیان دور الزهراء علیها السلام فی العقیدة والبُنیة الاُولی للإسلام .

ص:10

والمقالة التاسعة تحت عنوان : فاطمة علیها السلام أحصنت فرجها فحرّم اللّه ذرّیتها علی النار .

والمقالة العاشرة فی بیان قوله صلی الله علیه و آله :

« فاطمة علیها السلام حوراء إنسیّة » .

والمقالة الحادیة عشر وهی خاتمة الکتاب ، فکانت تحت عنوان : ولایتها العامّة فی الأموال ، أو إضاءات قانونیّة حول فدک والفیء .

وهنا أودّ أن اشیر إلی أنّ ما سُطّر هنا هو باقة من البحوث التی تمّ تداولها وتحریرها فی أکثر من ثلاث سنین ، مع شیخنا الأستاذ المحقّق الشیخ محمّد السند حفظه اللّه تعالی ، وقد جاءت علی شکل مقالات ، ونسأل اللّه تبارک وتعالی أن یجعلها فی ذخیرة أعمالنا .

والحمد للّه ربّ العالمین ،

والصلاة والسلام علی محمّد وآله الطاهرین

السید محمّد صالح الموسوی التبریزی

15 شعبان 1430 ه

ص:11

ص:12

القسم الأوّل : الوراثة الاصطفائیّة

اشارة

وفیه مقالات :

المقالة الاُولی : الحجّیة ومعانیها

المقالة الثانیة : الوراثة فی القرآن وحقیقة وراثة الأنبیاء علیهم السلام

المقالة الثالثة : شراکتها علیها السلام لمقامات النبیّ صلی الله علیه و آله بالوراثة

عدا النبوّة والإمامة

المقالة الرابعة : مصادر سیادة أهل البیت علیهم السلام العلیا فی

احتجاجها علیها السلام

ص:13

ص:14

تمهید : المنهج التحلیلی فی معانی المناقب والفضائل

تعدّدت المناهج فی دراسة حیاة أهل البیت علیهم السلام ، ومقاماتهم ومواقعهم الدینیّة ، فمن تلک المناهج المنهج المعروف فی استقصاء الأخبار والآثار الواردة فی المصادر ، وتمحیصها ، لمعرفة صحّة صدورها ، ودرجة الوثوق بطرقها ، وقد کُتب علی نمط هذا المنهج الکثیر من الموسوعات ، فضلاً عن الکتب ، عبر القرون المتتالیة المتعاقبة .

ولم ینفرد علماء الإمامیّة بهذا الإنجاز ، بل خاض فی إنتاج هذا الجهد علی هذا المنهج ، الرعیل الکبیر من علماء المذاهب الاُخری ، لا سیّما أولئک الذین تتملّکهم نزعة معنویّة روحیّة ، وتربطهم بأهل البیت علیهم السلام روابط المحبّة والتعظیم والولاء .

ولا یخفی أمر أهمّیة هذا المنهج ، لما فیه من حفظ الحدیث النبویّ وسنّة الرسول صلی الله علیه و آله والأحادیث القدسیّة ، من الضیاع والاندراس ، وصیانة للأمانة الإلهیّة ، وإیصالها إلی الأجیال اللاحقة .

ولا ندّعی کفایة ما أُنجز ، إذ هو باب واسع ، لا زال منهج التحقیق فیه یتکامل ویتجدّد ، وکم ترک الأوّل للآخر ! !

والملاحظ أنّ مساعی التحقیق فی هذا المنهج قد أخذت أبعاداً جدیدة ، وقواعد بدیعة ، فی تطویر هذا المنهج وضبط المصادر ، ورسم منظومات إحصائیّة ،

ص:15

وجرد جداول وقوائم بحسب التسلسل التاریخی والطبقی ، تنتهی بالباحث إلی کشوفات دقیقة فی الدراسات عن مدی سعة طرق ومصادر الحدیث ، ومتانة الوثوق باستفاضته أو تواتره .

إلّا أنّ هذا المنهج رغم خطورته وأهمّیته لیس بکاف وحده فی باب المعرفة ، بل لابدّ من ضمّ منهج آخر إلیه أیضاً ، وهو بمکانة من الخطورة والأهمّیة ، إذ هو بمنزلة الغایة للمنهج الأوّل ، ألا وهو منهج فقه تلک النصوص القرآنیّة والحدیثیّة ، الواردة فی فضائل أهل البیت علیهم السلام .

حیث إنّ تحلیل العناوین الواردة فی نعوتهم وأوصافهم ، ودلالاتها ودرایة معانیها ، بالغ التأثیر فی بُنیة المعرفة ، بل هو الأساس فیها ، ولذلک ورد عنهم علیهم السلام

« حدیث تدریه خیر من ألف حدیث ترویه »(1) .

و قولهم علیهم السلام :

« أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معانی کلامنا ، إنّ الکلمة لتنصرف علی وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف کلامه کیف شاء ، ولا یکذب »(2) .

وبتوسّط هذا المنهج ، یمکن الوقوف علی درجات مهمّة من الحقائق ، والوصول إلی حاقّ الطبقات من المعانی ، فإنّ الغایة من النصوص اللفظیة والدلالات لیس المشارفة الإجمالیة علی ضفاف المعانی ، بل هو الخوض فی عُباب بحارها ومحیطاتها ، ومن ثَمّ شُبّه الثقلان : القرآن الکریم وعترة النبیّ صلی الله علیه و آله بالحبل الممدود من السماء إلی الأرض ، طرف منه بید الناس والطرف الآخر بید اللّه تعالی وهو بیان وحثّ علی الرُّقی والارتقاء فی درجات وسلالم هذا الحبل ، والوقوف به علی مکنونات غیبیّة .

ومن نتائج هذا الباب الالتفات إلی قاعدة مهمّة ، وهی : ما هی حقیقة الفضیلة أو الفضائل الواردة فی لسان القرآن والأحادیث الشریفة ، فإنّ الکثیر من الناس

ص:16


1- (1) معانی الأخبار للشیخ الصدوق : 1 .
2- (2) معانی الأخبار للشیخ الصدوق : 1 .

قد یفهم منها معنی بسیطاً جدّاً ، وهو کونها مدیحاً وثناءاً وتقدیراً وشکراً ، فی حین یغفل عن حقیقتها ، وعن أنّها مراتب فی الحجّیة ، ومواقع مناصب فی الدین الحنیف ، بعد الالتفات إلی القالب الحقیقی الذی انطوت علیه خصوصیّة تلک الفضیلة ، وأنّ المادح وصاحب الأخبار هو الباری تعالی ، الذی لا زلل ولا خطل فی قوله ، ولا باطل فیما یستهدفه من کلامه .

وبعبارة اخری : إنّ الفضیلة لغة من لغات الحکمة العملیّة والنظریة ، إلّاأنّ لها وجهاً آخراً ، بلغة اخری مترجمة وموازیة لها ، فهی وجوه متعدّدة لحقیقة واحدة ، و ذلک لأنّ الفضیلة ترادف الکمال ، وبیان الکمال من قبل اللّه تعالی ووصفه لبعض أفراد البشر هو فی الحقیقة بیان لکون ذلک البعض هو من الصفوة التی اختارها اللّه تعالی ، وانتخبها واصطفاها ، کما أنّه تبیان للمؤهّلات التی أودعها اللّه تعالی وقدّرها فیهم ، وذکرُ هذه الصفات لهم هو لسان آخر لبیان حجّیتهم من قِبله تعالی علی البشر .

أضف إلی ذلک أنّها بیان إلی أنّهم وسائط بینه تعالی وبین خلقه أیضاً ، إذ فی هذا البیان إیضاح لدنوّ درجتهم منه تعالی .

وبکلمة : إنّ أسلوب ذکر الفضائل ینطوی علی مدالیل اخری ، أُعرض عن التصریح بها صیانة لبقائها ، وحفاظاً علیها من ید التحریف والطمس والتلاعب .

مضافاً إلی أنّها لغة أسهل فهماً لعموم الناس من اللغات والأسالیب الاُخری القانونیّة والحقوقیّة ، ذات القوالب والأُطر المعرفیّة التی یصعب إدراکها علی عموم الناس ، هذا مع ما لهذه اللغة من تأثیر فی سهولة الحفظ فی الذاکرة البشریّة ، لانسیابیّتها مع الإدراک الإجمالی للفطرة .

ولکنّ اللازم علی الباحثین والدارسین فی العلوم التخصّصیة ، تحلیل وتفکیک قوالب هذه اللغة ، والقیام بترجمتها إلی اللغات العلمیّة الاُخری ، والتی بها یتمّ إرساء قواعد العقیدة والشریعة ، وتمییز الراعی من الرعیّة ، والولیّ المنصوب من المولّی

ص:17

علیه ، والناطق عن السماء من المتخرّص برجم الغیب بظنون ، ومعرفة الحجّة وصاحب الحجّیة ممّن هو محجوج .

وبعبارة ثالثة : إنّ نصوص الفضیلة لیست إخبارات تکوینیّة لظواهر کونیّة ، بل هی تشریع و جعل إلهیّ ، وتقنین فرائض هی من أمّهات أرکان الدین ، فلابدّ من الخوض فیها بتحلیل علی طبق موازین متینة ، کی تُستکشف حقائقها ویُدرک مغزی لُبابها الذی أُرید منها ، وبالتالی یتمّ تفصیل ما هو مجمل وتبیین ما أُبهم .

وهو علاوة علی ذلک منهج استنباطیّ ، یتمّ فیه استخراج الأجوبة العدیدة عن مسائل اعتقادیة مطروحة بإلحاح ، وبذلک تکون نصوص الفضائل الهائلة کمّاً وکیفاً موادّ وتراثاً ضخماً ، ومنبعاً للإجابة علی کثیر من الإشکالات الفکریّة ، والمسائل المستجدّة فی المعرفة .

ثمّ إنّ هناک أبعاداً اخری عدیدة تُستفاد من خلال العلم بالفضائل والفضیلة ، لا تُحصر فیما ذکرنا ، فمنها :

1 - الوصول إلی الصورة الواضحة عن حقیقة الأحداث فی صدر الإسلام ، وحقائق سلسلة تلک المشاهد والوقائع ، فإنّه من الطبیعیّ بالضرورة أنّ صفات ونعوت أصحاب الفضائل تعکس صورة واضحة وشفّافة صافیة وقریبة جدّاً من نمط سلوکهم وأدوارهم فی العصر الإسلامیّ الأوّل ، لا سیّما وأنّ الناعت لهم بهذه الأوسمة هو الباری تعالی ونبیّه صلی الله علیه و آله لا أقلام المؤرّخین ، أو کلمات المعاصرین لهم ، أو غیرهم من شرائح البشر ، الذین تتجاذبهم المیول أو المصالح .

2 - الوصول إلی الحقیقة الواضحة عن جملة من متشابه شؤون أحوالهم ، فإنّ هناک من یُغرق فی الجانب البشریّ لهم ، ویتناسی الجانب الروحیّ والمعنویّ لهم ، من اصطفائهم والمواهب اللدنیّة التی حباها اللّه تعالی بهم .

کما أنّ هناک من یَشکل علیه الجمع بین کلا الجانبین ، فینکر مقتضیاتهم البشریّة ،

ص:18

کما حکی اللّه تعالی عنهم ما لِهذَا الرَّسُولِ یَأْکُلُ الطَّعامَ وَ یَمْشِی فِی الْأَسْواقِ (1) .

وحکی لنا قولهم أیضاً : أَ بَشَرٌ یَهْدُونَنا (2) .

أو قولهم : لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَیْهِ مَلَکٌ فَیَکُونَ مَعَهُ نَذِیراً (3) .

أو قولهم : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَیْهِ کَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَکٌ (4) .

أو قولهم : أَوْ یُلْقی إِلَیْهِ کَنْزٌ أَوْ تَکُونُ لَهُ جَنَّةٌ یَأْکُلُ مِنْها (5) .

مع أنّ الباری تعالی قد أجاب فی مواضع عدیدة عن ذلک بضرورة اجتماع الجنبتین فقال تعالی : وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَکاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَیْهِمْ ما یَلْبِسُونَ (6) .

وکذا قوله تعالی علی لسان نبیّه : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ یُوحی إِلَیَّ (7) ، حیث إنّ فی نصوص الفضائل تفصیل ما أُجمل من مقاماتهم ومناصبهم التشریعیّة ، ومواقعهم فی الخلقة التکوینیّة .

فمثلاً کون انعقاد نطفة فاطمة علیها السلام من ثمار الجنّة ، و ذلک بعد صیام الرسول صلی الله علیه و آله أربعین یوماً ، واعتزاله خدیجة رضی الله عنها، ثمّ إفطاره علی المائدة السماویة ، إلی غیر ذلک ممّا ذکر من تمهیدات بعنایة إلهیّة فی الإعداد لانعقاد نطفتها ، ممّا یرسم إعداداً

ص:19


1- (1) الفرقان : 7 .
2- (2) التغابن : 6 .
3- (3) الفرقان : 7 .
4- (4) هود : 12 .
5- (5) الفرقان : 8 .
6- (6) الأنعام : 9 .
7- (7) الکهف : 110 .

إلهیّاً اصطفائیاً بالغ العلوّ فی تنسیل فاطمة علیها السلام ، وطینة خلقتها ، لتُفاض تلک الروح المطهّرة الموصوفة فی القرآن بأنّها تمسّ الکتاب المکنون الغیبیّ .

مع أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وهو أبوها هو أشرف الکائنات طُرّاً ، قد کان بدنه الشریف مصدر البرکات وینبوع الحیاة ، کما رُوی أنّه بِریقهِ قد نبعت عیون الآبار بالمیاه ، وبمسّ یده أینعت الأشجار ، وبکفّ راحته ازداد الطعام وأوفر لجمیع من حضر ، وقد بلغوا المئات ، وبسؤره الشریف شُفی المرضی ، إلی غیر ذلک ممّا قد أحصته کتب الفریقین .

ص:20

المقالة الاُولی : الحجّیة ومعانیها

اشارة

قد وقع الجدل الدینی والمذهبی کثیراً حول نبوّات الأنبیاء ، وإمامة الأوصیاء والخلفاء من بعدهم ، وقد عنون هذین البحثین الکثیر من المتکلّمین والباحثین فی المذاهب والأدیان ، إلّاأنّه یبقی البحث شاغراً عن منصب وموقع دینیّ لا یقلّ خطورة عن الموقعین السابقین ، ورغم ذلک لا نجد له المزید من البلورة والبحث والتعمیق والترکیز ، نظیر ما جری فی النبوّة والإمامة ، وإن کنّا نقف علی أبحاث عدیدة متناثرة هنا وهناک حول هذا الموقع الثالث ، إلّاأنّها غیر منضَّدة ولا مرتّبة ترتیباً واضح المعالم یجمعه إطار واحد .

و هذا الموقع الثالث فی الوقت الذی یشمل النبوّة والإمامة بل هو أعمّ منهما قالباً ، إلّاأنّه ینفرد عنهما فی موارد کثیرة ، ویشترک معهما فی حیثیّات وجهات عدیدة ، أهمّها العصمة والحجّیة ، والعلم اللدنّی ، والاصطفاء ، والتوفّر علی جملة من الصلاحیّات الشرعیة ، والمقامات الغیبیّة التکوینیّة .

وبکلمة أکثر وضوحاً : أنّ المشاهَد فی النصوص القرآنیّة والسُّنّة الشریفة أنّ لبعض النساء والرجال موقعیة فی ( الحجّة المصطفاة ) ، والتی هی بدرجة العصمة ، والمزوّدة بالعلم اللدنّی ، ومع ذلک لم توصف بالنبوّة ولا بالإمامة ، فی حین أنّها وُصفت بالحجّیة والقدوة الربّانیة بالمعنی العامّ ، وقُلّدت أوسِمة ، وجملة من الصلاحیات الخطیرة ، بها شارکت مقام النبوّة والإمامة ، ومن نماذج هذه الموقعیّة فی القرآن الکریم هو الخضر ، وعُزیر ، ومریم ، وفاطمة ، وغیرهم ممّن ذُکر بالاسم

ص:21

خاصّة ، أو بالعنوان العامّ (1) .

ولا یخفی أنّ هذه الموقعیة وإن لم تکن نبوّة ولا إمامة ، إلّاأنّها ذات مراتب ، قد تبلغ بعض المراتب منها شأناً خطیراً ، کما فی قصّة النبیّ موسی علیه السلام وهو من اولی العزم ، حیث اتّبع الخضر ، کما فی قوله تعالی : فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً* قالَ لَهُ مُوسی هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلی أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً (2) .

فإنّ کلّاً من هذه المناصب الثلاثة هی ذات مراتب ودرجات ، کما فی قوله تعالی : تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلی بَعْضٍ (3) ، وقوله تعالی : وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِیِّینَ عَلی بَعْضٍ (4) فإنّ منصب الحجّة المصطفاة وإن غایر النبوّة والإمامة ، إلّاأنّ ذلک لا یقلّل من أهمّیته وحساسیّته البالغة فی الدین ، لا سیّما وأنّ النماذج التی تمثّل هذا المنصب هم منبع من منابع أحکام الشریعة ، وقدوة منصوبة منه تعالی یجب التأسّی بها ، کما أنّ نطقها یکشف عن رأی السماء ،

ص:22


1- (1) کما فی آباء النبیّ صلی الله علیه و آله وعلیّ علیه السلام ، و ذلک فی قوله تعالی علی لسان إبراهیم وإسماعیل : (رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ . . .رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ) البقرة : 128 و 129 .وقوله تعالی لإبراهیم : (إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی) البقرة : 124 .وقوله تعالی : (وَ جَعَلَها کَلِمَةً باقِیَةً فِی عَقِبِهِ) الزخرف : 28 .وقوله تعالی : (هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ) الحجّ : 78 ، فإنّ هذه الآیات تبیّن أنّ ذرّیة إبراهیم من إسماعیل ، والاُمّة المسلمة المجتباة بقیت فی عقب إبراهیم من إسماعیل إلی أن بُعث النبیّ صلی الله علیه و آله فصارت فی أهل بیته ، و کانوا هم الذروة فی الذرّیة .
2- (2) الکهف : 65 و 66 .
3- (3) البقرة : 253 .
4- (4) الإسراء : 55 .

فهی ناطق رسمیّ عن السماء ، وإن اختلفت موقعیتها عن النبوّة والإمامة ، کما فی قوله تعالی فی شأن الخضر : وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِی ذلِکَ تَأْوِیلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَیْهِ صَبْراً (1) .

أو کما فی قوله فی شأن مریم : فَإِمّا تَرَیِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِی إِنِّی نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُکَلِّمَ الْیَوْمَ إِنْسِیًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ . . . فَأَشارَتْ إِلَیْهِ قالُوا کَیْفَ نُکَلِّمُ مَنْ کانَ فِی الْمَهْدِ صَبِیًّا (2) .

وبناءً علی ذلک نقول : إنّ هناک مقاماً ثالثاً من الحجّیة والاصطفاء لم یُعنوَن فی کتب الکلامیین ، ولکن اشیر إلیه فی القرآن الکریم فی آیات وسور عدیدة لقائمة من الأفراد لیسوا بأنبیاء ولا أئمّة ، ولکنّهم حجج مصطَفَون علی العباد ، وهم مبیِّنون وحافظون لشرائع الأنبیاء ، نعم قد تطرّقت السُّنّة وکتب الحدیث والسیر إلی جملة من أحوالهم وشؤونهم .

وحینئذٍ یقع الحدیث عن فاطمة علیها السلام ، بعدما ورد فیها من النصوص القرآنیّة الکثیرة مباشرة وبالخصوص ، أو ضمناً عند ذکر أصحاب الکساء ، وکذلک ورد الحدیث النبویّ المستفیض أو المتواتر بین الفریقین بالخصوص أو بالتضمّن .

فهل یجب الاعتقاد بحجّیة فاطمة علیها السلام وتحصیل مثل هذه المعرفة ؟

وما هو نمط هذه الحجّیة بعد الفراغ عن کونها لیست من النبوّة أو الرسالة ؟

وما هو الأثر الذی یترتّب علی الاعتقاد بحجّیتها ، وما هی الثمرة الخطیرة لذلک ؟

وعلی تقدیر ثبوت العصمة لها ، فهل هناک ارتباط بین عصمتها وطهارتها من جانب ، وکونها حجّة من جانب آخر ؟

وللإجابة عن هذه التساؤلات توضیحاً لا استدلالاً - وسیأتی الاستدلال علی

ص:23


1- (1) الکهف : 82 .
2- (2) مریم : 26 - 29 .

کلّ ذلک مفصّلاً إن شاء اللّه تعالی - نقول :

معانی الحجّیة

إنّ الحجّیة لها جملة من المعانی وجملة من الأقسام ، وهی :

الأوّل : تطلق الحجّیة ویراد بها الطریق الکاشف للحقیقة والواقع ، والذی یُعبّر عنه بالحجّة النظریة ، وبالبرهان ، عند الفلاسفة والمناطقة ، وأصحاب العلوم التجریبیة .

وفی استعمالات القرآن قد عُبّر عنه بالآیة البیّنة تارةً ، کما فی قوله تعالی :

سَلْ بَنِی إِسْرائِیلَ کَمْ آتَیْناهُمْ مِنْ آیَةٍ بَیِّنَةٍ (1) ، وقوله تعالی : قَدْ جاءَتْکُمْ بَیِّنَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ هذِهِ ناقَةُ اللّهِ لَکُمْ آیَةً (2) .

أو بالبرهان تارةً اخری ، کما فی قوله تعالی : أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ (3) ، وقوله تعالی : تِلْکَ أَمانِیُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ (4) .

وهی تنقسم إلی قسمین : فتارةً یقینیة ، واُخری ظنّیّة ، فالیقینیّ منها کالبرهان العقلیّ المعتمد علی البدیهیّات أو القریب منها ، والظنّیّ منها کالدلیل العقلیّ المبنیّ علی مقدمات متوغّلة فی البحث النظریّ ، أو الاستقراء الناقص فی العلوم التجریبیّة .

الثانی : تطلق علی الطریق الکاشف أیضاً ولو بنحو الإجمال ، لکن لا من حیثیّة کشفه فقط ، بل من حیثیّة لزوم متابعته ، واستحقاق المدح والثواب علی ذلک ،

ص:24


1- (1) البقرة : 211 .
2- (2) الأعراف : 73 .
3- (3) النمل : 64 .
4- (4) البقرة : 111 .

أو التحسین ، أو استحقاق الذمّ أو العقاب والتقبیح لمخالفته ، فیلاحظ فی هذا القسم الجانب العملیّ والانقیاد ، ویُطلق علیها « الحجّة العملیّة » ، کما فی الحکمة العملیّة ، والعلوم الإنسانیة ، وعلم الکلام ، وفقه الشریعة ، وقد استعملها القرآن فی هذا المعنی ، کما فی قوله تعالی : وَ الَّذِینَ یُحَاجُّونَ فِی اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِیبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ (1) فمفهومه أنّ الحجّة غیر المدحوضة حکمها الاستجابة والمتابعة والانقیاد .

وقوله تعالی : فَإِنْ حَاجُّوکَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِیَ لِلّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ (2) فبیّنت الآیة أنّ الحجّة الحقّ لابدّ أن تُتَّبَع ویُسلَمْ لها الانقیاد .

وینقسم هذا القسم - الحجّة العملیّة - إلی قسمین ، هما : الیقینیّ والظنّی ، فمثال الیقینیّ الحجّیة فی مُحْکَمات الآیات من القرآن الکریم ، أو السنّة القطعیّة .

ومثال الظنّیّ : حجّیة الروایة التی هی خبر الراوی الواحد العادل ، وهکذا حجّیة الدلالة الواحدة الظنّیة فی الکتاب والسنّة .

وإذا اتّضح مجمل هذه الأقسام فی الحجّیة ، فاعلم أنّ لفظ المعرفة یطلق وینقسم إلی تلک الأقسام بعینها .

فیقال : ( معرفة نظریّة ) ویراد بها مجرّد الإدراک وآلیّاته ، و ( معرفة عملیّة ) ویراد بها الإیمان والتصدیق والتسلیم .

ثمّ إنّ المعرفة الاُولی قد یطلق علیها المعرفة البشریّة ، و ذلک لأنّها لا تستدعی التزاماً عملیّاً تصدیقیّاً .

والمراد من العمل لیس العمل الجوارحی بل الجوانحی ، بلحاظ الدرجات العالیة

ص:25


1- (1) الشوری : 16 .
2- (2) آل عمران : 20 .

منه ، کالإذعان ، حیث إنّه علمیّ ، أی تقوم به النفس فی مقام تصدیقها بالقضایا .

وأمّا المعرفة العملیّة فهی التی یُراد منها المعرفة الدینیّة ، والتی تکرّرت علی لسان القرآن الکریم ، والسنّة الشریفة ، تحت عنوان الإیمان ، والتسلیم ، والتصدیق ، وغیرها (1) .

ویشیر إلی الفارق بین هاتین المعرفتین قوله تعالی : وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا (2) فتری التفکیک واضحاً بین الإدراک النظریّ والتسلیم والمتابعة .

ومن هذا القبیل ما رواه الکلینیّ ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : « قلت له : ما العقل ؟

فقال علیه السلام :

ما عبد به الرحمن ، واکتسب به الجنان .

قال : قلت : فالذی کان فی معاویة ؟

فقال :

تلک النکراء ، تلک الشیطنة ، وهی شبیهة بالعقل ، ولیست بالعقل »(3) .

ففیها إشارة إلی أنّ العقل أیضاً یطلق علی القوّة التی تحصل بها المعرفة النظریة ، ویُسمّی « العقل النظری » ، کما یطلق علی القوّة التی یتحصّل بها المعرفة العملیّة ، ویُسمّی « العقل العملی » .

ص:26


1- (1) کما فی قوله تعالی فی الأمر بالإیمان : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَیْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِکَتِهِ وَ کُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ) البقرة : 276 .أو أمره بالتسلیم کقوله تعالی : (وَ مَنْ أَحْسَنُ دِیناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ) النساء : 125 .أو التصدیق : (أَنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکَ بِیَحْیی مُصَدِّقاً بِکَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ...) آل عمران : 39 .أو قوله تعالی : (وَ صَدَّقَتْ بِکَلِماتِ رَبِّها وَ کُتُبِهِ وَ کانَتْ مِنَ الْقانِتِینَ) التحریم : 12 .
2- (2) النمل : 14 .
3- (3) الکافی للشیخ الکلینی : 1 : 11 ، الحدیث 3 ، المطبعة الحیدریّة .

أسماء الحجّیة العملیّة فی الشریعة

ومن ثمار هذا التقسیم التنبیه إلی أنّ الحجّیة العملیّة یعبّر عنها بألسنة وعناوین تختلف عن الألسنة المعبّر بها عن الحجّیّة النظریة .

فلو نظرت إلی جملة من نعوت الفضائل ، نظیر التعبیر بالاصطفاء والتطهیر ، کقوله تعالی : إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ (1)فإنّ الإتیان بلفظة ( علی ) للدلالة علی الحجیّة ، کما فی قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ (2) .

أو نظیر التعبیر بنفی الضلالة أو الغوایة أو اتّباع الهوی ، کما فی قوله تعالی :

ما ضَلَّ صاحِبُکُمْ وَ ما غَوی * وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی (3) فهو تعبیر بألفاظ الحجّة العملیّة .

کالتعبیر الوارد بعنوان « سیّد الأنبیاء » حیث إنّ المراد به هو مقام الحجّیة علی سائر الأنبیاء ، کما هو مفاد قوله تعالی : وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ (4) .

أو کالتعبیر الوارد ب « سیّد الأوصیاء » لأمیر المؤمنین علیه السلام (5) .

ص:27


1- (1) مریم : 42 .
2- (2) آل عمران : 33 .
3- (3) النجم : 2 و 3 .
4- (4) آل عمران : 81 .
5- (5) کما روی ابن أبی الحدید فی شرح النهج : 13 : 209 . ینابیع المودّة : 1 : 197 ، 239 . فرائد السمطین : 409 . حلیة الأبرار : 1 : 235 ، وغیرها .

أو التعبیر الوارد ب « سیّدة نساء أهل الجنة »(1) ، أو « سیّدة نساء العالمین »(2) ، لفاطمة الزهراء علیها السلام ، وهکذا التعبیر الوارد ب « سیّدی شباب أهل الجنة » فی الإمامین الحسن والحسین علیهما السلام (3) فإنّ المراد من السیادة والسؤدد ، هو تعبیر آخر عن الحجّة العملیّة ، و ذلک لأنّ السیادة والسؤدد عبارة عن تدبیر السیّد وطاعة المسود علیه ، حیث إنّ السیّد لغةً هو من ترأّس قومه وسادهم .

وهکذا التعبیر بالمعیّة فی الحدیث المتواتر فی قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

« علیّ مع الحقّ ، والحقّ مع علیّ »(4) فإنّ المعیّة مع الحقّ تقتضی العصمة ، وحقّانیّة کلّ أقواله وأفعاله وسیرته .

ونظیره التعبیر :

« إنّ اللّه لیغضب لغضب فاطمة ویرضی لرضاها »(5) فإنّ مقتضاه أنّ أقوالها وأفعالها وسیرتها کلّها مبیِّنة لمواطن رضا اللّه تعالی ومواطن سخط اللّه تعالی وغضبه ، لأنّها إذا رضیت قولاً فإنّ رضاها یکشف عن رضا اللّه تعالی ، وإن سخطت قولاً فسخطها یکشف عن سخط اللّه ، وکذلک فی الأفعال والسیرة ،

ص:28


1- (1) مسند أحمد : 3 : 80 و 5 : 291 . صحیح البخاری : 4 : 183 ، 209 ، 219 . سنن الترمذی :5 : 326 ، الحدیث 3870 .
2- (2) مسند أبی داود الطیالسی : 197 . المصنّف لابن أبی شیبة : 7: 527 . السنن الکبری للنسائی : 4 : 252 و 5 : 147 . المستدرک علی الصحیحین : 3 : 156 . مجمع الزوائد : 7 : 76 .
3- (3) الأمالی للصدوق : 524 . الإرشاد للمفید : 1 : 37 . أمالی الطوسی : 546 ، وغیرها کثیر من کتب علمائنا .وکذلک روتها کتب أهل السنّة ، کما فی مسند أحمد : 3 : 3 . سنن الترمذی : 5 : 321 . المستدرک للحاکم : 3 : 167 ، سنن النسائی : 5 : 50 ، وغیرهم کثیر .
4- (4) تاریخ بغداد : 14 : 321 . المستدرک علی الصحیحین : 3 : 124 . الهیثمی فی الزوائد :7 : 235 ، وغیرهم . و هذا غیر ما رواه علماؤنا فی عشرات المصادر .
5- (5) المستدرک علی الصحیحین : 3 : 154 . میزان الاعتدال : 1 : 535 . کنز العمّال : 12 : 111 .

فهو نظیر التعبیر بالاصطفاء علی نساء العالمین .

العصمة والحجّیة

إنّ العصمة تعنی الأمان من الخطأ ، والزلل ، عمداً أو جهلاً ، وهی إمّا فی العلم ، أو فی العمل ، ومن ثَمّ قسّموا العصمة إلی عصمة علمیّة وعصمة عملیّة .

فالعلمیة منها تارة تُفسّر بعدم الوقوع فی الخطأ إدراکاً ، واُخری بعدم القصور العلمیّ فی کلّ ما یسوق إلی الهدایة ، وقد یُسمّی الأوّل منه بالعلم الشأنیّ ، والثانی بالعلم الفعلیّ .

وأمّا العصمة العملیّة فقد فسّرت بالعلم اللدنّی ، أو الصفة النوریّة المانعة لصاحبها عن الوقوع فی المعصیة أو المخالفة ، کما فی قوله تعالی : ما ضَلَّ صاحِبُکُمْ وَ ما غَوی * وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی فهی إشارة إلی کلّ من العصمتین ، فنفی الضلال هو نفی للزلل فی الإدراک العلمی ، کما أنّ نفی الغوایة هو نفی للزلل فی السلوک العملی ، وکذا قوله تعالی : وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأی بُرْهانَ رَبِّهِ کَذلِکَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِینَ (1) وفی الآیة إشارة إلی العصمة العملیّة وأنّها بسبب علم حضوری وهو معاینة البرهان الإلهی .

إلّا أنّه لا یخفی أنّ کلَّ واحدة من العصمتین قد تُسمّی بالحجّة العلمیّة تارة ، وبالحجّة العملیّة اخری ، أی أنّ العصمة العلمیّة یطلق علیها تارة حجة علمیة ، ویطلق علیها اخری حجة عملیة ، وکذلک العصمة العملیّة .

والوجه فی ذلک أنّ العصمة العلمیّة تتوفر علی الیقین وانکشاف حقیقة الواقع علی ما هو علیه فی مراتبه العالیة فتسبِّب تلقائیاً الاستقامة العملیّة بالضرورة ،

ص:29


1- (1) یوسف : 24 .

وتجنّب صاحبها المعصیة ذات الهلکة المشهودة فیها .

وکذلک الحال فی العصمة العملیّة ، فإنّها ولیدة انکشاف علمی للواقع والحقیقة علی ما هو علیه ، إذ کیف یمکن فرض الاستقامة فی العمل فی کلّ الموارد والموضوعات والحالات من دون معرفة ملابسات تلک الموارد والموضوعات ، وما تؤول وتؤدّی إلیه من نتائج .

ومن ثَمّ تتوقّف العصمة العملیّة علی العصمة العلمیّة السابقة علیها .

وبعبارة اخری : أنّ العصمة العلمیّة موجبة للیقین بإدراک حقیقة الشیء ، کما أنّها تستتبع العمل أیضاً ، وأمّا العصمة العملیّة ، فهی وإن کانت بالذات استقامة لدنّیة فی العمل والسلوک ، إلّاأنّها کاشفة بالتبع عن نهج الحقّ ، فتکون حجّة علمیة ، وحیث تستلزم التأسی والاتباع تکون حجّة عملیة أیضاً .

ثمّ إنّ العصمة تلازم الحجیّة ولا تنفکّ عنها ، لأنّ بیانها من قِبَل الشارع إیصال لها إلی المکلّفین ، فیکون إیصال لما یوجب الیقین ، وهو یستلزم العمل ، فلا یُعقل التفکیک بین العصمة والحجّیة .

العصمة بین الجبر والتفویض والاصطفاء

إنّ العصمة التی سبقت الإشارة إلیها ، حقیقتها الإصطفاء ، وهو یغایر الجبر ، الذی هو من الإلجاء ، ویغایر التفویض الذی هو من الاکتساب ، فلا هی إلجائیّة ولا هی - أی العصمة - کسبیّة ، بل اصطفائیّة .

فلا جبر فی العصمة ولا تفویض ، وإنّما هی اصطفاء واختیار .

ومعنی ذلک : أنّ العصمة لا تُلجیء المتّصِف بها علی الأفعال الحسنة ، ولا تسلب منه القدرة علی الأفعال القبیحة ، کیف والعصمة - کما مرّ - نحوٌ من العلم الحضوریّ ، یزید صاحبه قدرة واختیاراً ، ولا یسلبه القدرة والاستطاعة علی فعل ذلک ،

ص:30

وأمّا امتناع صدور القبیح منه ، فیکون بسبب العلم بحقیقة الفعل ، وجهات قبحه ، وما یترتّب علیه من آثار سیّئة ، أخرویّة ودنیویّة .

کما أنّ أصل إعطاء ومنح هذه الصفة لشخصٍ لم یکن جزافاً ، واعتباطاً ، بل هو تابع لنظام الاصطفاء والاختیار الإلهیّ ، بحسب علم اللّه الغابر السابق علی الخلق ، واطّلاعه علی قابلیات النفوس ومعادنها وطواعیّتها ، وانقیادها له تعالی ، فعلمه بما سیکون اقتضی اختیاره واصطفاءه تعالی للمؤهّلین لهذه المقامات من البشر ، فعلمه السابق بما سیکون علیه حالهم من التفوّق فی الوفاء والطاعة ، والتسلیم له ، والانقیاد ، والطواعیّة علی جمیع الخلق ، هو الذی اقتضی ذلک الإعطاء والمنح .

فصفة العصمة ومقامها وإن کانت هبة وتفضّل منه تعالی ، إلّاأنّ منحها علی طبق ما سیکون علیه اختیار العبد من الطاعة .

کما أنّ العصمة لیست تفویضیّة تُکتسب فی دار الدنیا بالجدّ والجهد ، وسبر المقامات المعنویة العالیة بالسیر والسلوک والریاضات ، بأن تُستحصل بعد ما لم تکن فی أوّل العمر ، بل کما قال تعالی : وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ یَخْتارُ ما کانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالی عَمّا یُشْرِکُونَ (1) أی أنّ الاصطفاء فعل إلهیّ لا جهد بشریّ ، فلیس شأنها شأن الفضائل والملکات المکتسَبة ، کالتقوی والعدالة والشجاعة ، والمروءة . . . الخ .

ولیس الاصطفاء شیء یتعلّق بمجرد علمه تعالی بالصفوة من خلقه ، ذات الصفات والفضائل والمکارم الکمالیة ، کما أنّ الاختیار لیس مجرّد الرغبة فی الذی اختیر للعصمة ، بل هو معنی یتعلّق بشخص ینتخب ویمنح مقاماً ومن ثمّ یتعلّق به مادّة الاصطفاء فیکون قد اختاره ثمّ اصطفاه ، واختاره لذلک الموقع أو الشیء ،

ص:31


1- (1) القصص : 68 .

فلا بدّ أن تنضاف المادّتین إلی جعل وإسناد لموقعیّة ما ، فیکون مؤدّی الاصطفاء والاختیار هو التنصیب والجعل لمنصب ومقام ما هو من مراتب الحجّیة ، وقد مرّ أنّ الحجّیة أعمّ من النبوّة والرسالة والإمامة ، وغیرها من موارد اخری ، تنفرد الحجّیة الاصطفایة عنها .

ولا شکّ أنّ مفاد هذه الآیات فی الدلالة علی المطلوب واضح ، وهو قوله تعالی : وَ تِلْکَ حُجَّتُنا آتَیْناها إِبْراهِیمَ عَلی قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّکَ حَکِیمٌ عَلِیمٌ* وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ کُلاًّ هَدَیْنا وَ نُوحاً هَدَیْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَیْمانَ وَ أَیُّوبَ وَ یُوسُفَ وَ مُوسی وَ هارُونَ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ (1) .

وقوله تعالی فی شأن یوسف : وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَیْناهُ حُکْماً وَ عِلْماً وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ (2) .

وکذلک قوله تعالی فی شأن موسی : وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوی آتَیْناهُ حُکْماً وَ عِلْماً وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ (3) .

وفی هذه الآیات بیان واضح لکون المواهب الإلهیّة اللدنّیة الإیتائیّة من لدنه لیست إلجائیة جبریّة ، ولا کسبیّة تفویضیّة ، وإنّما هی أمر بین أمرین ، وهو معنی الاصطفاء .

ونظیر مفاد هذه الآیات المتقدّمة قوله تعالی : إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً حیث إنّ التعبیر فی الآیة لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ یفترق عن التعبیر ( لیذهبکم عن الرجس ) حیث إنّ الأوّل یفید إبعاد الرجس عن أن یقترب إلیهم ، بخلاف التعبیر الثانی فإنّ معناه أنّه یبعدهم عن أن یُقبلوا علی

ص:32


1- (1) الأنعام : 84 .
2- (2) یوسف : 22 .
3- (3) القصص : 14 .

الرجس ، فالتعبیر الأوّل یفید أنّ العصمة أمر بین أمرین ، أی جانب منها من فعل العبد المصطفی ، وجانب آخر من فعل اللّه تعالی ، حیث یحصّنه عن إقبال الرجس والسوء إلیه من البیئة المحیطة به .

وقوله تعالی : وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً هو زیادة کمالات ومواهب لدنّیة .

وعلیه ، فإنّ العصمة کسائر المقامات الاصطفائیّة الأربع وبقیّة المواهب اللدنّیة ذات الصلة بالإنذار الإلهیّ ، وهی النبوّة ، والرسالة ، والإمامة ، والحجّة المصطفاة ، فی أنّها غیر جبریّة ولا تفویضیّة کسبیّة ، بل هی أمر بین أمرین ، وهو الاصطفاء ، کقوله تعالی فی مقام النبوّة : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ* ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (1) . فبیّنت هذه الآیة عدم کسبیّتها ، بل ولا جبریّتها ، بل فعل منه تعالی لوجود مواصفات وملکات خاصّة فی نفس الصفوة .

وقوله تعالی فی علم الکتاب والحکم والنبوّة : ما کانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُؤْتِیَهُ اللّهُ الْکِتابَ وَ الْحُکْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُولَ لِلنّاسِ کُونُوا عِباداً لِی مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لکِنْ کُونُوا رَبّانِیِّینَ (2) .

وبعبارة اخری : لیس من شأن أیّ بشرٍ ممّن یتّصف بالانحراف أن یؤتیه اللّه الکتاب ، والحُکم ، والنبوّة .

فالذی یُؤتی هذه الاُمور الثلاثة هو الذی یمتنع علیه الانحراف بحسب قابلیة ذاته . ومن ثمّ لا یُؤتی مثل بلعم بن باعورا الکتاب والحکم والنبوّة .

فدلّ علی أنّ علم الکتاب وعلم القضاء والنبوّة ، لیست کسبیّة ، بل إیتائیّة منه تعالی ، یخصّها من یمتنع علیه النکث فی تبلیغ أمانة الرسالة والتفریط فی صونها .

ص:33


1- (1) آل عمران : 33 .
2- (2) آل عمران : 79 .

وقوله تعالی فی الاصطفاء : اَللّهُ یَصْطَفِی مِنَ الْمَلائِکَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النّاسِ (1) .

وقد مرّ معنی الاصطفاء أنّه ذو جنبتین .

وقوله تعالی فی الإمامة : وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ (2) .

وقوله تعالی : وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ کانُوا بِآیاتِنا یُوقِنُونَ (3) .

وقوله تعالی فی الحجّة الاصطفائیّة : وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ (4) وقد مرّت الإشارة إلی أنّ کلمة ( علی ) واضحة الدلالة علی الحجّیة کما فی قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ .

وکذلک من موارد الحجّیة الاصطفائیّة قوله تعالی : فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً (5) فتری أنّه لم یوصف صاحب موسی علیه السلام بالنبوّة ، أو الرسالة ، أو الإمامة ، ولکن وُصف بالعلم اللدنّی ، وبتأهّله بتوسّط ذلک إلی العلم بإرادة اللّه تعالی ومشیئته ، وبعلمه بالتأویل وبالمشیئة الإلهیّة والإرادة فی الموارد الخاصّة ، حیث قال : وَ أَمَّا الْغُلامُ فَکانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَیْنِ فَخَشِینا أَنْ یُرْهِقَهُما طُغْیاناً وَ کُفْراً * فَأَرَدْنا أَنْ یُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَیْراً مِنْهُ زَکاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً * و أَمَّا الْجِدارُ فَکانَ لِغُلامَیْنِ یَتِیمَیْنِ فِی الْمَدِینَةِ وَ کانَ تَحْتَهُ کَنْزٌ لَهُما وَ کانَ أَبُوهُما

ص:34


1- (1) الحج : 75 .
2- (2) البقرة : 124 .
3- (3) السجدة : 24 .
4- (4) مریم : 42 .
5- (5) الکهف : 65 .

صالِحاً فَأَرادَ رَبُّکَ أَنْ یَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ یَسْتَخْرِجا کَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِی ذلِکَ تَأْوِیلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَیْهِ صَبْراً (1) .

وقوله تعالی : وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنّا رَادُّوهُ إِلَیْکِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ . . . فَرَدَدْناهُ إِلی أُمِّهِ کَیْ تَقَرَّ عَیْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ (2) .

وقوله تعالی : وَ لَقَدْ مَنَنّا عَلَیْکَ مَرَّةً أُخْری * إِذْ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّکَ ما یُوحی * أَنِ اقْذِفِیهِ فِی التّابُوتِ فَاقْذِفِیهِ فِی الْیَمِّ . . . (3) .

وقوله تعالی فی العصمة عن الزلل : کَذلِکَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِینَ (4) .

والملاحظ هنا هو التعبیر بصرف السوء عنه لا صرفه عن السوء ، ولا یخفی الفارق بینهما علی الفطن اللبیب کما تقدّم فی آیة التطهیر .

فتلحظ فی الآیتین أنّ فعل الإذهاب للرجس ، وصرف السوء ، قد أُسند إلی اللّه تعالی مباشرة .

العصمة والاکتساب

العصمة والعدالة

من الضروریّ الإشارة هنا إلی الفرق بین العدالة التی هی من الصفات العملیّة المکتسَبة ، وبین العصمة العملیّة التی هی من المقامات اللدنیّة الاصطفائیّة

ص:35


1- (1) الکهف : 80 - 82 .
2- (2) القصص : 13 .
3- (3) طه : 38 - 39 .
4- (4) یوسف : 24 .

من حیثیّات متعدّدة .

فمن جهة العمل فالعصمة العملیّة مرتبطة بالجانب العملیّ ، أی أنّ صاحبها مسدَّد من الزلل والخطأ فی السلوک .

ومن جهة العلم فإنّ العصمة العلمیّة وهی المرتبطة بالجانب العلمیّ ، فیکون صاحبها مسدَّد بالهدایة عن الضلالة فی المعرفة والعلم .

ومن جهة الاختیار فهی اصطفائیّة ، أی لا جبر فیها ولا تفویض .

ومن جهة کونها بالذات أو بالغیر ، فهی العصمة الذاتیة الإلهیّة والعصمة النبویّة والتی هی عصمة باللّه تعالی ، والفرق بین الفقاهة التی هی صفة علمیّة مکتسَبة ، وبین العصمة فی العلم التی هی مقام وهبی لدنّی .

وضرورة معرفة الفارق تظهر ببیان الخطأ فیما یُتداول فی بعض الکتابات ، التی تدّعی وجود عصمة مکتسَبة ، ویعرّفونها بأنّها : عدم ارتکاب المعصیة طیلة العُمر . مع أنّ هذا التعریف لیس هو إلّاالعدالة بعینها ، وبعض درجات التقوی المکتسَبة ، ومنشأ الوقوع فی هذا الخلط هو عدم التفریق بین الصفات الاکتسابیة والمقامات اللدنّیة الاصطفائیّة .

فوارق ما بین العصمة والعدالة :

أوّلاً : إنّ العدالة ملکة لا یمتنع أن یقع صاحبها فی المعصیة ، فضلاً عن المخالفة غیر العمدیّة ، بخلاف العصمة ، فإنّه یمتنع فیها المعصوم عن الوقوع فی المخالفة ، فضلاً عن المعصیة . ولا یخفی أنّ المخالفة أعمّ مطلقاً من المعصیة ، حیث إنّ المراد بالمخالفة هی مطلق ارتکاب الفعل المبغوض شرعاً ، أو ترک الفعل المطلوب ولو من دون علم ، بخلاف المعصیة فإنّه یشترط فیها العلم والقدرة .

والسبب فی ذلک أنّ العصمة فی العمل عبارة عن طهارة ذاتیّة ، وعلم حضوریّ یعاین فیه قبائح الأفعال فی وجهها الدنیویّ والاُخرویّ ، وعلیه فیمتنع فیه صدور

ص:36

الفعل القبیح منه ، ولو عن غیر عمد ، ولا یخفی أنّ هذا الامتناع فی مقام الوقوع ولیس امتناعاً ذاتیاً ، لا سیّما مع یقظته الدائمة للحضور الإلهیّ ، ولیس الحال کذلک فی العدالة ، فإنّ ملکة التقوی والورع ، وإن بلغت أوجها عند شخص ، فلا یمتنع معها صدور المعصیة منه ، فضلاً عن وقوع المخالفة فی الغالب ، حیث إنّ الغفلة أو الجهل بالموضوعات کثیر الوقوع من غیر المعصوم ، وکذلک المعصیة ، لإمکان تغلّب قوی الشهوة والغضب وشُعَبِهما علی ملکة التقوی .

وقد ضرب لنا القرآن الکریم أمثلة لذلک ، کما فی قوله تعالی : وَ اتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی آتَیْناهُ آیاتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطانُ فَکانَ مِنَ الْغاوِینَ * وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لکِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَی الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ کَمَثَلِ الْکَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَیْهِ یَلْهَثْ أَوْ تَتْرُکْهُ یَلْهَثْ ذلِکَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ (1) .

فتری أنّ القرآن یشهد ( لبلعم بن باعورا ) أنّه قد آتاه اللّه من الآیات ، ومع ذلک انزلق واتّبع هواه .

وفی معتبرة الحسین بن خالد عن الإمام أبی الحسن الرضا علیه السلام :

« أنّه أُعطی بلعم بن باعورا الإسم الأعظم وکان یدعو به فیستجاب له »(2) .

لکنّه حیث اعترضه له هواه ، فافتُتن به واتّبعه ، ولم یصدّ عنه ، مع أنّه کان قد بلغ إلی درجة المتّقین ، بل من أهل الیقین ، حیث أُوتی بعض أحرف الإسم الأعظم کما مرّ ، فلم یمنعه ذلک کلّه من الوقوع فی معصیة هی من أکبر الکبائر .

وکذلک الحال فی السامریّ ، حیث قال تعالی عن لسان موسی علیه السلام : فَما خَطْبُکَ یا سامِرِیُّ* قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ یَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها

ص:37


1- (1) الأعراف : 175 و 176 .
2- (2) تفسیر القمّی : 1 : 249 .

وَ کَذلِکَ سَوَّلَتْ لِی نَفْسِی (1) ، حیث کان من خیار أصحاب موسی علیه السلام ، کما فی « تفسیر القمّی » ، حتّی أنّه بصُر بما لم یُبصره بنو إسرائیل ، و شاهد جبرئیل ومرکوبه ، و أخذ من التراب الذی کان تحت حافر مرکوبه ، حیث کانت تدبّ فیه الحیاة .

و هذا بخلاف مقام العصمة ، فإنّه یمتنع فیها الزلل مهما اشتدّت فیها فتنة الامتحان .

ویحکی لنا القرآن فی قصّة یوسف علیه السلام ، فی قوله تعالی : وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأی بُرْهانَ رَبِّهِ کَذلِکَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِینَ (2) فقد عبّرت الآیة أنّ اللّه تعالی قد صرف عنه السوء ، ولم تعبّر قد صرفه عن السوء ، ولا یخفی الفرق بین التعبیرین .

بل إنّ العصمة فی العمل لا یخالج صاحبها حتّی خطور المعصیة ، ویدلّ علیه قوله تعالی فی یوسف علیه السلام : وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأی بُرْهانَ رَبِّهِ ، فإنّ کلمة ( لولا ) تدلّ علی الامتناع للامتناع ، أی أنه امتنع أن یمیل لعدم احتجابه عن نور اللّه تعالی .

مضافاً إلی تقبیح العقل للتجرّی علی المولی ، وإن کان بدرجة النیّة ، ومن ثَمّ ورد العفو عن نیة المعصیة فی روایات الفریقین ، کما فی معتبرة زرارة عن أحدهما علیهما السلام :

« إنّ اللّه تبارک وتعالی قد جعل لآدم فی ذرّیته . . . من هَمَّ بسیئةٍ لم تُکتب علیه ومن هَمّ بها وعملها کُتبت علیه سیئة »(3) .

و هذا ممّا یدلّ علی اقتضاء نیّة المعصیة للقبح ، وللمؤاخذة علیها ، إلّاأنّ اللّه تبارک وتعالی تفضّل علی عباده بذلک .

ص:38


1- (1) طه : 96 .
2- (2) یوسف : 24 .
3- (3) وسائل الشیعة : 1 : 36 ، الحدیث 6 .

حتّی أنه قد ورد فی جملة من الروایات الشریفة بیان أثر نیّة المعصیة علی النفس الإنسانیة ، کما ورد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام عن عیسی علیه السلام : کما ورد عن أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام فی حدیث کلام عیسی علیه السلام مع الحواریین ، قال :

« إنّ موسی نبیّ اللّه علیه السلام أمرکم أن لا تزنوا ، و أنا آمرکم أن لا تحدّثوا أنفسکم بالزنا ، فضلاً عن أن تزنوا ، فإنّ من حدّث نفسه بالزنا کان کمن أوقد فی بیت مزوّق ، فأفسد التزاویقَ الدخانُ ، وإن لم یحترق البیت »(1) .

ثانیاً : وهناک فرق آخر بین العصمة فی العمل وبین ملکة العدالة ، وهو درجة القدرة فی المناعة عن المعصیة ، و ذلک أنّ العصمة فی العمل تتحدّی کافّة المغریات ، والإثارات الشهویة ، والغضبیة ، والشیطانیة عن الوقوع فی المعصیة ، مهما بلغت فی شدّة عنفوانها وتکالبها علی شخص المعصوم ، و هذا بخلاف العدالة ، فإنّ العادل ، أو المتّقی ، أو صاحب الیقین ، إنّما تصل قدرة مناعته إلی درجة من مقاومة المغریات ، لکنّها تنهار وتنکسر إذا تجاوزت المغریات ذلک الحدّ من الشدّة ، وقد أشارت النصوص الشریفة إلی ذلک ، فقد ورد أنّ :

« أشدّ الناس بلاءاً الأنبیاء ثمّ الذین یلونهم ، ثمّ الأمثل فالأمثل »(2) .

فهی واضحة الدلالة علی أنّ الافتتان الذی یکابده الأنبیاء أشدّ ممّا یکابده سائر الناس ، ثمّ الذین یلونهم وهم الأوصیاء ، ثمّ الأمثل فالأمثل .

وقد سَرَد لنا القرآن جملة من الأنبیاء الذین ابتلاهم اللّه تعالی واختبرهم ، ومدحهم علی الاستقامة ، رغم شدّة الافتتان ، کما فی سورة ص ، حیث ذکرت أنّ داود ذا الأید . . . أنّا سخرنا الجبال معه یسبحن بالعشی والإشراق ، والطیر . . .

ص:39


1- (1) الکافی للشیخ الکلینی : 5 : 542 ، وقد وردت بهذا المضمون کذلک فی الدرّ المنثور للسیوطی : 2 : 32 .
2- (2) الکافی للشیخ الکلینی : 2 : 252 .

وشددنا ملکه و آتیناه الحکمة وفصل الخطاب ، ووصفه اللّه تعالی بأنّه عبدٌ أوّاب ، وکذلک فی سلیمان ، حیث آتاه اللّه الملک ، وسُخّرت له الریح تجری بأمره والشیاطین کلّ بنّاء وغوّاص ، ومع ذلک لم یلهه کلّ ذلک ولم یتّبع الهوی بکلّ ذلک ، فوصفه اللّه بأنّه عبد أوّاب رجّاع إلی ربه ، وقد مرّ الحدیث عن یوسف علیه السلام کذلک .

ونظیر ذلک ما حصل لسید الشهداء أبی عبد اللّه الحسین علیه السلام ، حیث توالت علیه المحن والمصائب ، مع خذلان القوم وعظائم الأهوال ، وبقی وحیداً فریداً لم یهن ولم ینهدّ رکنه ، حتّی قال فیه الراوی : « ما رأیت مکثوراً قطّ أربط جأشاً ، ولا أمضی جناناً ، ولا أجرأ مقدماً ، من الحسین علیه السلام ، قتل ولده وجمیع أصحابه حوله ، وأحاطت الکتائب به ، فو اللّه کان یشدّ علیهم فینکشفوا عنه انکشاف المعزی إذا شدّ علیها الأسد »(1) .

ومن ثمّ قال العلّامة الطباطبائی فی ذیل قصّة امتحان یوسف علیه السلام : « إنّ التدبّر البالغ فی أطراف القصّة ، وإمعان النظر فیما احتفّ به من الجهات والأسباب والشرائط ، یُعطی أنّ نجاة یوسف منها لم تکن إلّاأمراً خارقاً للعادة ، وواقعة هی أشبه بالرؤیا منها بالیقظة . . . » .

ثمّ أخذ یعدّد تلک الأسباب ، ثمّ قال:

« فهذه أسباب وأمور هائلة ، لو توجهت إلی جبل لهدّته ، أو أقبلت علی صخرة صمّاء لأذابتها ، ولم یکن هناک ما یتوهّم مانعاً . . . فلم یکن عند یوسف ما یدفع به عن نفسه ، ویظهر به علی هذه الأسباب القویّة ، إلّاأصل التوحید ، وهو الإیمان باللّه ، وإن شئت فقل المحبّة الإلهیّة التی ملأت وجوده ، وشغلت قلبه ، فلم تترک

ص:40


1- (1) الطبری : 4 : 345 . البدایة والنهایة 8 : 204 . شرح الأخبار للقاضی النعمان المغربی : 3 : 164 ، وغیرهم ممّن روی واقعة عاشوراء .

لغیرها محلّاً ولا موضع إصبع »(1) .

ثالثاً : إنّ العصمة العملیّة تستند إلی العصمة العلمیّة بالضرورة ، لأنّ العصمة کما تجنّب صاحبها الوقوع فی المخالفة عمداً ، فإنّها تجنّبه أیضاً الوقوع فی المخالفة سهواً وغفلة ، و ذلک لکون أحد مناشیء العصمة العملیّة هو العصمة فی العلم ، وهذه الأخیرة لا تقتصر علی معرفة الأحکام والتشریع فحسب ، بل تشمل الموضوعات التی تنطبق علیها الأحکام أیضاً .

ولذلک تتّسع الممانعة عن الوقوع فی المخالفة فی الموضوعات ، لعدم تصوّر الجهل والغفلة فی الموضوعات . و هذا بخلاف العدالة المصطلحة فی الثقات والمؤمنین ، فإنّها لا تنطوی علی علم شامل ومحیط ، لا فی جانب الأحکام - أی الشبهة الحکمیّة وهی المعرفة النظریة للدین - ولا فی جانب الموضوعات ، أی الشبهة الموضوعیّة ، وهی المعرفة التطبیقیّة له .

ومن ثَمّ فإنّ العدالة لا تحفظ صاحبها من الانحراف الفکری ولا العملی .

وهناک فروق اخری بین العصمة فی العمل والعدالة ، ولا تنحصر فیما ذکر .

فوارق ما بین العصمة والفقاهة

هناک فوارق مهمّة بین العصمة وبین الفقاهة ، نجملها فی نقاط :

أوّلاً : إنّ العصمة فی العلم هی من سنخ العلم الحضوری اللدنّی الإیتائیّ من عنده تعالی .

وبعبارة اخری : هی من نمط العلم الذی یُلهم به المعصوم ، ویُنفث فی رَوْعه ، ویسدّد به ، وأما الفقاهة فهی من نمط العلم الحصولی الکسبی ، أی أنّها عبارة عن الصور الذهنیّة الفکریة ، التی تکتسب بالقراءة والتعلیم والتعلّم مع الریاضة الفکریّة .

ص:41


1- (1) تفسیر المیزان للعلّامة الطباطبائی : 11 : 126 .

ثانیاً : إنّ العلم اللدنّی عند المعصوم هو علم بحقائق الأشیاء ، وبالأحکام فی اللوح المحفوظ ، لأنّ مصدره لیس من الطرق الظنّیة الکسبیة ، کدلالة الألفاظ ، وأخبار الرواة ، ولا ترتیب المقدّمات فی الاستنتاج ، بل عبر طریقة الوحی ، بخلاف العلم الحاصل عن طریق الاجتهاد والفقاهة ، فإنّه علم بظواهر الأحکام وظواهر الأشیاء بدرجة ظنّیة ، ولذا یخطئ فی جملة من الموارد ، ویقع الاختلاف فی کثیر من الموارد بین الفقهاء ، بخلاف علم المعصومین فإنّه إصابة لعین الواقع ، لا مع اختلاف بینهم ، وإلیه یشیر قوله تعالی : وَ لَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً (1) .

ثالثاً : إنّ العلم فی الاجتهاد والفقاهة علاوة علی کونه ظنّیاً ظاهریاً ، فهو محدود ، لا یُحیط بکافّة التشریعات ، فضلاً عن کافّة معارف الدین ، ومن ثَمّ یُستعان فی الاستدلال الاجتهادی بقواعد تُسمّی بالوظائف العملیّة ، والتی مفادها رفع الشکّ والتحیّر فی مقام العمل ، لا الکشف عن التشریع الواقعی ، و هذا بخلاف العلم اللدنّی عند المعصوم ، فإنّه یُحیط بالتشریع فی اللوح المحفوظ ، وبجملة المعارف الدینیّة ، والآداب والحکمة ، وإلی ذلک أشار قوله تعالی : ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْ ءٍ (2) ، وقال تعالی : وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً (3) .

ولا یخفی أنّ کونه تبیاناً لکلّ شیء ، إنّما هو وصفٌ للقرآن فی المرتبة والمنزلة العُلیا له ، وهی منزلة عالم الملکوت واللوح المحفوظ ، وإلّا فظاهر المصحف قد وصفه اللّه تعالی بأنّ منه آیات محکمات ، وأخر متشابهات ، وقد أخبر تعالی أنّ هذا

ص:42


1- (1) النساء : 82 .
2- (2) الأنعام : 38 .
3- (3) النحل : 89 .

الکتاب المبین لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (1) ، وهم أهل التطهیر ، وقال : بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ (2) ، فأخبر أنّ أهل آیة التطهیر هم الذین یدرکون حقیقة الکتاب المکنون ، حیث إنّه تعالی جعل علمه فی صدورهم ، فلهم الإحاطة التامّة بعلم الکتاب .

نعم ، هناک تفاضل فی درجات هذه الإحاطة بین الأنبیاء علیهم السلام ، لقوله تعالی :

وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَیْمِناً عَلَیْهِ (3) ، فهی تبیّن أنّ هناک هیمنة وفوقیة وإحاطة للقرآن الکریم علی بقیّة الکتب السماویة المنزلة ، کالتوراة ، والإنجیل ، والزبور ، وصحف إبراهیم وغیرها ، ممّا یعنی وجود زیادة وهیمنة فیما أوحی إلی النبیّ صلی الله علیه و آله أکثر ممّا أوحی إلی غیره من الأنبیاء السابقین .

إلّا أنّ أدنی مستویات هذه الإحاطة لا تقصر عمّا یحتاجه العباد إلی المعارف والتشریعات ، إلزاماً أو ندباً .

وعلی ضوء هذا الفارق بین الفقاهة والعصمة فی العلم یتبیّن أن لا عصمة فی العمل مع عدم العصمة فی العلم ، و ذلک حیث إنّ عدمها فی المساحات الوسیعة یوجب الوقوع فی المخالفة ، إمّا عن جهل أو ضلال .

وبذلک یتبیّن وجه آخر لعدم إمکان اکتساب العصمة ، و ذلک لأنّ کسب العلم مهما استمرّ وطال ، واشتدّ الذکاء ، فإنّه لا یحقّق السعة والإحاطة التامّة فی العلم من جانب معرفة الأحکام والمعارف ، ولا من جانب الموضوعات ، والموارد التطبیقیّة .

وأهمّ فارق بین العصمة الاصطفائیّة والصفات الاکتسابیّة الاُخری ، هو أنّ العصمة

ص:43


1- (1) الواقعة : 79 .
2- (2) العنکبوت : 49 .
3- (3) المائدة : 48 .

الاصطفائیّة هی عطیة لدنّیة إلهیّة ، تسبق الفعل ، وتکون ابتداءاً ، بخلاف الصفات الاکتسابیّة ، وإن کانت لدنّیة ، فإنّها تکون کنتیجة متأخّرة عن الفعل .

وبعبارة اخری : إنّ العصمة والاصطفاء وإن کانت بحسب صلاح الأفعال وسدادها ، إلّاأنّ ذلک یمنح بحسب علم الباری تعالی فی سابق وغابر علمه المتقدّم علی الخِلقة ، بخلاف عطایاه تعالی ، التی یحصّلها الإنسان بالاکتساب ، فإنها لا یُعطاها العبد إلّابعد تحقّق الأفعال فی الخارج ، کنتیجة مکتسَبة مترتّبة من تلک الأفعال ، وإن کانت نسبة الأفعال إلیها بمقدار نسبة الإعداد والتهیّؤ .

ویشیر إلی هذا الفرق قوله علیه السلام فی دعاء الندبة :

« اللّهُمَّ لَکَ الْحَمْدُ عَلی مَا جَری بِهِ قَضاؤُکَ فی أوْلِیَائِکَ الَّذِینَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِکَ وَدِینِکَ ، إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزِیلَ مَا عِنْدَکَ مِنَ النَّعِیمِ الْمُقِیمِ الَّذِی لَازَوالَ لَهُ وَلَا اضْمِحْلَالَ ، بَعْدَ أنْ شَرَطَتْ عَلَیْهِمُ الزُّهْدَ فی دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنیا الدَّنِیَّةِ وَزُخْرُفِهَا وَزِبْرِجِهَا ، فَشَرَطُوا لَکَ ذلِکَ ، وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ ، فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّکْرَ الْعَلِیَّ ، وَالثَّناءَ الْجَلِیَّ ، وَأهْبَطْتَ عَلَیْهِمْ مَلَائِکَتَکَ ، وَکَرَّمْتَهُمْ بِوَحْیِکَ ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِکَ ، وَجَعَلْتَهُمُ الذَّریعَةَ إِلَیْکَ ، وَالْوَسِیلَةَ إلی رِضْوَانِکَ» .

وفی هذه الفقرة بیان رشیق لحقیقة العصمة ، حیث بیّن علیه السلام أنّ حقیقة الاصطفاء فی العصمة لیست جبریّة ولا إلجائیّة ، ولا تفویضیّة قابلة لاکتساب البشر ، بل هی عطیّة من اللّه تعالی ، تستند إلی علمه السابق بما سیکون علیه الأصفیاء من نجاح فی الامتحان الإلهیّ ، وأنّها نحو عهد إلهیّ سابق ، والتزام من الأصفیاء به ووفاء به ، و هذا العهد نحو مشارطة تکلیفیّة بتکلیف خاصّ جزاء الطاعة فیه هو عطیّة العصمة وهبتها ، إلّاأنّ هذه العطیّة والجزاء یسبق وقت الامتثال والعمل ، ولکنّه مشروط به ، ومتولّد من علم اللّه تعالی بوقوع الامتثال والطاعة .

ومن ثَمّ کانت العصمة بهذا اللحاظ لیست جبریّة ، بل اختیاریّة ، لأنّها جزاء إلهیّ

ص:44

عاجل فی دار الدنیا علی عمل الأصفیاء ، إلّاأنّه یتقدّم العطاء والثواب من قبل اللّه تعالی لهذا الشخص علی وقت العمل .

ومن ثَمّ أکّد عجل الله فرجه الشریف فی هذا الدعاء الشریف علی هذه النقاط :

أوّلاً : بقوله :

« بَعْدَ أنْ شَرَطَتْ عَلَیْهِمُ . . . ، فَشَرَطُوا لَکَ » بأنّ منشأ إعطاء العصمة هو مشارطة تکلیفیّة بعهد خاصّ علی ذمّة الأصفیاء .

ثانیاً : إنّ إعطاء وهبة العصمة هی قبل أوان العمل ، فهی مترتّبة علی علمه تعالی السابق ، بطاعتهم ووفائهم اللاحق ، کما یشیر إلی ذلک قوله علیه السلام :

« وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ ، فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ . . .

وَکَرَّمْتَهُمْ بِوَحْیِکَ ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِکَ » .

ثالثاً : إنّ عمل الأصفیاء و حسن وفائهم وطاعتهم ، له دور مهمّ یساهم فی اصطفائهم ، وحبائهم بالعطیة الإلهیّة ، و هذا ما یُبیّن نفی الإلجاء والجبر ، ودور الاختیار فی الاتّصاف بصفة العصمة ، فضلاً عن الأفعال الصادرة بعد الاتّصاف بالعصمة .

رابعاً : إنّ العصمة ذات حیثیّات متعدّدة ، فهی إلی جانب توفّرها علی الحیثیّات التی مرّ ذکرها ، الراجعة إلی کونها فعل إنسانیّ ، فهی من جانب آخر وحیثیّة اخری فعل إلهیّ ، وأشار إلیه علیه السلام بقوله :

« وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّکْرَ الْعَلِیَّ ، وَالثَّناءَ الْجَلِیَّ ،

وَأهْبَطْتَ عَلَیْهِمْ مَلَائِکَتَکَ ، وَکَرَّمْتَهُمْ بِوَحْیِکَ ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِکَ » .

خامساً : إنّ حقیقة العصمة تتقدّم وتتألّف من بُنی متعدّدة ، أی من أنماط وأنواع من العلوم المختلفة ، وکذلک من أدوات بیئیّة متعدّدة ، فمن قبولهم فی قُرب المحضر الإلهیّ ، وتقدیم الذکر العلیّ لهم ، وإهباط وإنزال الملائکة علیهم ، وجعلهم أدلّاء علی اللّه لخلقه علی لقائه وقُربه واکتساب رضاه ، کما فی قوله علیه السلام :

« فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّکْرَ الْعَلِیَّ ، وَالثَّناءَ الْجَلِیَّ ، وَأهْبَطْتَ عَلَیْهِمْ مَلَائِکَتَکَ ، . . .الخ » .

ص:45

وممّا یؤکّد هذا المعنی فی الاصطفاء ومغایرته للاکتساب ، واشتمال الاصطفاء النافیین للجبر والتفویض ، ما رواه الشیخ فی « التهذیب » عن أبی جعفر الثانی علیه السلام فی زیارة سیّدة النساء علیها السلام :

« یا مُمْتَحَنَةُ امْتَحَنَکِ اللّهُ الَّذی خَلَقَکِ قَبْلَ أَنْ یَخْلُقَکِ فَوَجَدَکِ لِمَا امْتَحَنَکِ صابِرَةً »(1) .

فضیلة الصفات الاصطفائیّة علی الصفات الکسبیّة

هناک إثارة وتساؤل عن فضیلة الصفات الاصطفائیّة للمعصومین علیهم السلام ککون تقلّبهم فی الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة ، و أنهم من النسل الطاهر ، أو کون بدء خلقتهم من النور ، وهی أعلی مراتب ذاتهم ، وکون طینتهم وأرواحهم من مقام علویّ ، وطینة أبدانهم من مقام رفیع ، وغیرها من الصفات ، کما هو الحال فی شأن فاطمة الزهراء علیها السلام .

والإثارة هی : إنّ هذه الصفات حیث لم تکن مکتسبة ، فلا فضیلة فیها لأصحابها ، لأنّها لم تکن نتیجة لإرادتهم واختیارهم کالصفات الکسبیة ، فکیف تعدّ فضیلة یحمدون علیها ، إذ لا یُحمد الفاعل المختار علی ما لم یصدر منه باختیاره ولم یکن نتیجة سیرته وعمله ، بل هو من الصفات المجبور علیها ، وعلی ضوء هذه الإثارة فکیف یفضَّلون ویقدَّمون علی غیرهم بهذه الصفات ؟ وکیف تکون هذه الصفات منشأً لاختیار اللّه تعالی لهم واصطفائهم بالنبوّة والرسالة کما هو الحال فی سیّد الرسل صلی الله علیه و آله ، واصطفائهم بالإمامة کما فی الأئمّة الأطهار علیهم السلام ، وبالاصطفاء والتطهیر کما هو الحال فی سیّدة النساء علیها السلام .

ونقول فی مقام الإجابة عن ذلک ضمن عدّة نقاط :

ص:46


1- (1) التهذیب للشیخ الطوسی : 6 : 9 و 10 . ورواها الشیخ فی مصباح المتهجّد : 717 ، الحدیث 792 .

1 - إنّ الصفات الاصطفائیّة لیست - کما یُظنّ - جبریّة ، کما أنّها لیست تفویضیّة ، بحیث یتقمّصها ویرتدیها من یشاء ، بل هی أمر بین أمرین ، بل ومن نمط خاصّ راجعة إلی هبات اللّه تبارک وتعالی الخاصّة وفق علمه بمستقبل أحوال أصفیائه ، وما سیکونون علیه من طاعة وانقیاد وتسلیم له تعالی فی مستقبل أیّامهم ، تبلغ درجات لا یصل إلیها غیرهم ، فعلمه الغابر بما سیکونون علیه ، یوجب الاختیار الإلهی لهم بالاصطفاء والاختیار ، وهذه الألطاف والمواهب اللدنیّة الممنوحة لهم تقع تفضّلاً منه تعالی وجزاءاً لما یعهد منهم من الإخلاص ، فلا یساوی بینهم وبین غیرهم فی العطاء والهبات اللدنیّة .

وهنا نحاول أن نشیر إلی تحلیل معنی الاصطفاء والصفوة والتصفیة ، فهی - لغة - بمعنی التمییز والانتقاء ، قال فی « لسان العرب » : « واستصفیت الشیء إذا استخلصته واستصفی صفو الشیء : أخذه ، وصفا الشیء أخذ صفوه ، والصفیّ الخالص من کلّ شیء »(1) .

فانتقاء النخبة من البشر هو اختیار اللّه تعالی لهم وفق علمه بما یکونون علیه فی مستقبل أعمالهم وأحوالهم وصفاتهم ونیّاتهم ، أی بمعنی اختیار ما هو خالص من الکدورة ونقیّ من رذائل الصفات ، ومن ثَمّ یقال لصفایا الملوک من الأموال ما هو أعزّ وأکرم الأموال التی یختارها لنفسه ، فالاصطفاء فی أصل معناه لیس إحداث أمر فی الشیء ، وإنّما هو اختیار وانتخاب له لما فیه من قابلیة مزایا یفوق غیره ، فبعد « الاصطفاء » یأتی « الاحتباء » ، أی : إعطاء الحبوة والمواهب اللدنیّة ، ویشیر إلی هذا المعنی أیضاً ما ورد فی دعاء الندبة من قوله علیه السلام :

«اللّهُمَّ لَکَ الْحَمْدُ عَلی مَا جَری بِهِ قَضاؤُکَ فی أوْلِیَائِکَ الَّذِینَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِکَ وَدِینِکَ ،

إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزِیلَ مَا عِنْدَکَ مِنَ النَّعِیمِ الْمُقِیمِ الَّذِی لَازَوالَ لَهُ وَلَا اضْمِحْلَالَ ،

ص:47


1- (1) لسان العرب لابن منظور : 14 : 463 ، نشر أدب الحوزة - قم .

بَعْدَ أنْ شَرَطَتْ عَلَیْهِمُ الزُّهْدَ فی دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنیا الدَّنِیَّةِ وَزُخْرُفِهَا وَزِبْرِجِهَا ، فَشَرَطُوا لَکَ ذلِکَ ، وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ ، فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّکْرَ الْعَلِیَّ ،

وَالثَّناءَ الْجَلِیَّ ، وَأهْبَطْتَ عَلَیْهِمْ مَلَائِکَتَکَ ، وَکَرَّمْتَهُمْ بِوَحْیِکَ ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِکَ ،

وَجَعَلْتَهُمُ الذَّریعَةَ إِلَیْکَ ، وَالْوَسِیلَةَ إلی رِضْوَانِکَ» ، حیث بیّن علیه السلام أنّ علمه تعالی السابق بأنّهم سیفون للّه تعالی بخالص الطاعة ، ذلک العلم السابق هو الذی أوجب استخلاصه لهم واختیاره إیّاهم ومن ثَمّ حباهم بالقرب ووهب لهم مقوّمات العصمة ، من الذکر العلیّ ، والثناء الجلی ، وهبوط الملائکة علیهم ، والوحی لهم ، وإرفادهم بالعلم ، ومن ثَمّ منحهم منصب الهداة إلیه والدلائل إلی رضوانه .

2 - إنّه بمقتضی النقطة السابقة حیث تبیّن أنّ اصطفاء اللّه تعالی ومنحه العصمة لأصفیائه لیست علی نحو الجبر وإنّما علی وفق التزام من قبلهم علی الطاعة وخلوص العمل والانقیاد لأوامره انقیاداً تامّاً یظهر من ذلک أمر آخر ، وهو أنّ الصفات الاصطفائیّة والمواهب اللدنیّة هی أیضاً بسبب أفعال اختیاریة ، إلّاأنّ هذه الأفعال علی درجة عالیة جداً من الکمال تفوق الکمال الذی یصل إلیه الفاعل للخیرات والإحسان ، المستحقّ للصفات الکسبیّة ، نظیر المتّقین ، والصدّیقین ، وأهل الیقین ، والمحسنین ، والزاهدین ، والعبّاد ، والحکماء ، والمجاهدین وغیرهم ، و ذلک لأنّ الاصطفاء - کما مرّ - یکون تحت درایة تامّة وعلم من اللّه تعالی بما یکون علیه الصفیّ من أفعال یتمیّز ویرتقی بها علی الأبرار و الصالحین ، وبقیّة الأصناف التی مرّت الإشارة إلیها .

ومن ثَمّ اختلف الاصطفاء والعصمة عن سائر المواهب اللدنیّة التی یحبوها اللّه تعالی لصاحب الصفات الاکتسابیة ، کالعلم الإیتائیّ والحکمة لمن یصل إلی درجة الإحسان والمحسنین ولکنّها لا تصل إلی مرتبة العصمة والحجّیة .

ص:48

قاعدة أفضلیة الصفات الاصطفائیّة

النقطة الثالثة : إنّ الجزاء فی نمطه الإعدادیّ متقدّم علی العمل فی الاصطفاء والعصمة ، بخلافه فی الصفات الکسبیة ، فإنها تتأخّر عن الکسب والعمل .

أی : إنّ علمه السابق علی خلق المخلوقات ، المتعلّق بما یکون علیها حالها من الطاعة والانقیاد بدرجة متمیّزة ؛ یستوجب توفیر أرضیّة وسُبل إعداد لتکامل تلک القابلیات الخاصّة ، لما لها من الاستعداد الکامل تختصّ به دون غیرها ، ممّن لیس لها تلک الاستعدادات والقابلیات .

ص:49

ص:50

المقالة الثانیة : الوراثة فی القرآن وحقیقة وراثة الأنبیاء علیهم السلام

اشارة

لا تخفی أهمّیة هذا البحث ، وهو حقیقة الوراثة فی القرآن ، ضمن سلسلة الأنبیاء علیهم السلام ، و ذلک لأنّ من عمدة أدلّة حجّیة أهل البیت علیهم السلام ، وولایتهم علی الدین والاُمّة من بعد النبیّ صلی الله علیه و آله هو وراثتهم له صلی الله علیه و آله ، حیث إنّ مقتضی عموم الوراثة لمقامات ومناصب النبیّ صلی الله علیه و آله الإلهیّة هو ثبوتها لهم علیهم السلام ، کما فی قوله تعالی :

اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ الآیة(1) حیث تشیر الآیة إلی ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله العامّة علی الاُمّة ، وأنّ أولی الأرحام من القربی أولی بهذا المقام والمنصب من المؤمنین ، الأنصار منهم والمهاجرین .

وکذا عموم قوله تعالی : وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ (2) .

وکذا قوله تعالی : إِنَّ أَوْلَی النّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اللّهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَ (3) ، فإنّ الأولویّة هنا أولویة وراثیّة خاصّة بشؤونه ومقاماته ، والتی منها مقام الإمامة ، فهذه الأولویّة هی أولویّة وراثیّة ، والتی تعلّقت باُولی الأرحام بعضهم ببعض ، وأنّ الأحقّ بمقامات وشؤون إبراهیم ورئاسته

ص:51


1- (1) الأحزاب : 6 .
2- (2) الأنفال : 75 .
3- (3) آل عمران : 68 .

- ومنها إمامته علی الناس - هو من اتّصف بصفتین أو سببین : أحدهما : هو الرحم ، والآخر : هو الطاعة ، والأوّل یشیر إلیه قانون الأولویّة فی اولی الأرحام بعضهم ببعض ، وقول إبراهیم عندما جُعل إماماً داعیاً اللّه عزّ وجلّ : قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ .

وإن کانت تلک المقامات لسیّد الأنبیاء إلهیّة غیبیّة وإیتائیّة لدنّیة ، فإنّها یرثها أهل بیته عدا مقام النبوّة والرسالة ، وسیادة فضله صلی الله علیه و آله علی سائر المعصومین ، ولا ینافی ذلک اقتضاء مفهوم الوراثة لوراثة المال أیضاً .

واعلم أنّه قد وقع الخلاف الکبیر بین أهل السنّة والخلافة وبین الإمامیّة ، فی ما یورّثه الأنبیاء ، فبین من یخصّه بالعلم والنبوّة ، وبین من یذهب إلی أنّ إرثهم کإرث غیرهم من الناس ، أی کلّ ما ینتقل من الموروث إلی الوارث ، من الأموال والحقوق المنقولة .

والحقّ هو عموم الإرث لکلّ ذلک ، أی یشمل حتّی المقامات المعنویة ، وهی العلم ، والنبوّة ، والشؤون المادیة ، ولا موجب لتخصیص الإرث بأحدهما ، بل یعمّ کلاًّ منهما .

ولنستعرض نبذة من أقوال الفریقین فی ذلک :

ص:52

نظریّة علماء أهل السنّة الخلافة فی الوراثة النبویّة

1 - قال الآلوسی فی ذیل قوله تعالی علی لسان زکریّا : فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا * یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیًّا (1) قال : « واستدلّ الشیعة بالآیة علی أنّ الأنبیاء علیهم السلام تورث عنهم أموالهم ، لأنّ الوراثة حقیقة فی وراثة المال ، ولا داعی إلی الصرف عن الحقیقة ، وقد ذکر الجلال السیوطی فی « الدرّ المنثور » ، عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، وعکرمة ، وأبی صالح ، أنّهم قالوا فی الآیة : یرثنی مالی . . . وقال بعضهم : إنّ الوراثة ظاهرة فی ذلک ولا یجوز هاهنا حملها علی وراثة النبوّة ، لئلّا یلغو قوله : وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیًّا ، ولا علی وراثة العلم لأنّه کسبیّ ، والموروث حاصل بلا کسب .

ومذهب أهل السنّة أنّ الأنبیاء لا یرثون مالاً ولا یورثون ، کما صحّ عندهم من الأخبار ، وقد جاء ذلک أیضاً من طریق الشیعة ، فقد روی الکلینی فی الکافی ، عن أبی البختری ، عن أبی عبد اللّه جعفر الصادق (رضی اللّه تعالی عنه) أنّه قال :

« إنّ العلماء ورثة الأنبیاء ، و ذلک أنّ الأنبیاء لم یورّثوا درهماً ولا دیناراً ،

وإنّما ورّثوا أحادیث من أحادیثهم ، فمن أخذ بشیء منها فقد أخذ بحظّ وافر » ،وکلمة « إنّما » مفیدة للحصر قطعاً باعتراف الشیعة ، والوراثة فی الآیة محمولة علی ما سمعت ، ولا نسلّم کونها حقیقة لغویّة فی وراثة المال ، بل هی حقیقة فی ما یعمّ وراثة العلم ، والمنصب ، والمال ، وإنّما صارت لغلبة الاستعمال فی عرف

ص:53


1- (1) مریم : 5 .

الفقهاء ما اختصّ بالمال ، کالمنقولات العرفیة ، ولو سلّمنا أنّها مجاز فی ذلک ، فهو مجاز متعارف مشهور ، خصوصاً فی استعمال القرآن المجید بحیث یساوی الحقیقة ، ومن ذلک قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا (1) .

وقوله تعالی : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْکِتابَ (2) .

وقوله تعالی : إِنَّ الَّذِینَ أُورِثُوا الْکِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ (3) .

وقوله تعالی : إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ یُورِثُها مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (4) ، وَ لِلّهِ مِیراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (5) »(6) .

وذکر الآلوسی نظیر ذلک فی ذیل سورة النمل عند قوله تعالی : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ (7) . انتهی کلامه .

أقول : وقبل التعرّض لبقیة کلامهم یلزم تسجیل بعض الملاحظات علی کلام الآلوسی ، وهی :

أوّلاً : إنّه قد أقرّ بأنّ الإرث حقیقة فیما یعمّ وراثة العلم ، والمنصب ، والمال ، ومع ذلک یدّعی بأنّ اللفظ قد استعمل فی الآیتین فی خصوص إرث العلم والنبوّة من دون شاهد قرآنیّ .

ثانیاً : إنّ الآلوسیّ تبعاً لأهل سُنّة الخلافة لم یفرّقوا بین اشتقاق مادّة التعبیر

ص:54


1- (1) فاطر : 32 .
2- (2) الأعراف : 169 .
3- (3) الشوری : 14 .
4- (4) الأعراف : 128 .
5- (5) آل عمران : 180 .
6- (6) تفسیر روح المعانی للآلوسی : 16 : 64 .
7- (7) المصدر المتقدّم : 19 : 224 .

الوارد فی الحدیث الشریف :

« نحن معاشر الأنبیاء لا نورِّث . . . » ، أی بکسر الراء وتشدیدها ، وبین أن یُعبّر « لا نورَث » بفتح الراء ، حیث إنّ الأوّل هو من باب التفعیل ، أو الإفعال(1) ، وهو بمعنی السعی لجمع المال ، حرصاً علی مستقبل الوارث له ، وهی حالة مذمومة بطبیعتها المفرطة .

نعم لو کان التعبیر بکلمة ( لا نورَث ) ، فإنّه من باب الفعل والفعالة(2) ، فهو بمعنی انتقال ما للموروث إلی الوارث .

ومن ثَمّ ذُیّل الحدیث بقوله علیه السلام :

« وإنّما ورّثوا أحادیث من أحادیثهم » ، أی قاموا بتبلیغ ونشر أحادیث معرفة الدین ، کی تؤخذ عنهم .

فالحدیث فی صدد بیان ما یقوم به المورِّث وهم الأنبیاء ، لا فی صدد بیان حکم تَرکتِهِم . ولذا اقتصر الطعن علی الحدیث الذی رواه أبو بکر علی خصوص ذیل الحدیث ، الذی ادّعاه وزعمه ، وهو « ما ترکناه صدقة » ، حیث إنّ مفاد هذه العبارة هو نفی حکم الوراثة بین الأنبیاء وذویهم ، بینما صدر الحدیث وهو « نحن معاشر الأنبیاء لا نورِّث . . . » بصدد بیان نفی حرص معاشر الأنبیاء علی جمع الأموال لمن یرثهم من بعدهم(3) .

2 - قال الفخر الرازی فی ذیل قوله تعالی : یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ

ص:55


1- (1) أی الراء المکسورة إمّا مشدّدة أو مخفّفة ، أی من باب « ورَّث ، یورِّث » ، أو من باب« أورَث ، یورِث » .
2- (2) أی : وَرث یرث إرثاً ووراثة .
3- (3) وقد بسط الکلام ابن أبی الحدید المعتزلی فی بیان تناقض ووضع الروایات المذکورة لدیهم فی الصحاح حول الحدیث المزعوم « ما ترکناه صدقة » فلاحظ : شرح نهج البلاغة : 16 : 219 - 230 .کما حکی عن الجوهری فی کتاب « السقیفة وفدک » أنّ نزاع فاطمة أبا بکر کان فی ثلاثة امور ، فی المیراث ، والنِّحلة ، وسهم ذوی القربی .

وقوله : وَ إِنِّی خِفْتُ الْمَوالِیَ مِنْ وَرائِی . . . قال : « والمختار أنّ المراد من الموالی الذین یخلفون بعده إمّا فی السیاسة أو فی المال الذی کان له ، أو فی القیام بأمر الدین ، فقد کانت العادة جاریة أنّ کلّ من کان إلی صاحب الشرع أقرب فإنّه کان متعیّناً فی الحیاة »(1) .

وقال فی جواب اعتراض أنّ النبوّة لا تورَث قال :

« قلنا : المال إنّما یقال ورثه الابن بمعنی قام فیه مقام أبیه ، وحصل له من فائدة التصرّف فیه ما حصل لأبیه ، وإلّا فملک المال من قبل اللّه لا من قبل المورِّث ، فکذلک إذا کان المعلوم فی الابن أن یصیر نبیّاً بعده فیقوم بأمر الدین بعده ، جاز أن یقال : وَرِثَه »(2) .

وقال أیضاً : « واعلم أنّ هذه الروایات ترجع إلی أحد أمور خمسة ، وهی المال ، ومنصب الحبوة ، والعلم ، والنبوّة ، والسیرة الحسنة ، ولفظ الإرث مستعمل فی کلّها ، أمّا فی المال فلقوله تعالی : وَ أَوْرَثَکُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِیارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ ، وأما فی العلم فلقوله تعالی : وَ لَقَدْ آتَیْنا مُوسَی الْهُدی وَ أَوْرَثْنا بَنِی إِسْرائِیلَ الْکِتابَ »(3) .

وقال فی ذیل قوله تعالی : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ : « فقد اختلفوا فیه ، وقال الحسن : المال ، لأنّ النبوّة عطیّة مبتدأة ولا تورَث ، وقال غیره : بل النبوّة ، وقال آخرون : بل الملک والسیاسة .

ولو تأمّل الحسن لعلم أنّ المال إذا ورثه ولد فهو أیضاً عطیّة مبتدأة من اللّه تعالی ، ولذلک یرث الولد إذا کان مؤمناً ، ولا یرث إذا کان کافراً أو قاتلاً ، لکن اللّه

ص:56


1- (1) التفسیر الکبیر للفخر الرازی : 21 : 182 .
2- (2) التفسیر الکبیر للفخر الرازی : 21 : 184 .
3- (3) التفسیر الکبیر للفخر الرازی : 21 : 184 .

تعالی جعل سبب الإرث فیمن یرث المیّت علی شرائط ، ولیس کذلک النبوّة ، لأنّ الموت لا یکون سبباً لنبوّة الولد ، فمن هذا الوجه یفترقان ، و ذلک لا یمنع من أن یوصف بأنّه ورث النبوّة ، لما قام به عند موته ، کما یرث الولد المال إذا قام به عند موته ، وممّا یبیّن ما قلناه ، أنّه تعالی لو فصّل فقال : (وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ ما له) لم یکن لقوله : (وَ قالَ یا أَیُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ) معنی ، وإذا قلنا :

ورث مقامه من النبوّة والملک حَسُنَ ذلک ، لأنّ تعلّم منطق الطیر یکون داخلاً فی جملة ما ورثه ، وکذلک قوله تعالی : وَ أُوتِینا مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ لأنّ وارث الملک یجمع ذلک ، ووارث المال لا یجمعه ، وقوله : إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ لا یلیق أیضاً إلّابما ذکرناه ، دون المال الذی قد یحصل للکامل والناقص ، فبطل بما ذکرنا قول من زعم أنّه لم یرث إلّاالمال ، فأمّا إذا قیل : ورث المال والملک معاً ، فهذا لا یبطل بالوجوه التی ذکرناها ، بل بظاهر قوله علیه السلام : « نحن معاشر الأنبیاء لا نورّث » »(1) ، انتهی کلامه .

أقول :

أوّلاً : إنّ إقراره بأنّ الإرث یشمل الوراثة للمقامات المعنویة والاُمور المادیة هو الصحیح ، لکن ما تشبّث به من تخصیص عموم الآیة فی غیر المال ، قد مرّت الإشارة أنّ هذا المقطع من الحدیث النبویّ لیس مفاده نفی الإرث بین الأنبیاء وذرّیتهم ، بل نفی حرص الأنبیاء علی الجمع لتکون إرثاً لذریّتهم ، وهو غیر ما زعمه أهل سنّة الخلافة ، تبعاً لزعم أبی بکر .

ثانیاً : إنّ ما ذکره من « أنّ إرث المال له شرائط وموانع » ، فکذلک إرث النبوّة ، وعلومها ، من المقامات المعنویة ، فلها شرائط وموانع أیضاً ، کما سیأتی بیان ذلک مفصلاً ، من دون أن یستلزم ذلک امتناع صدق حقیقة الوراثة فی مورد النبوّة

ص:57


1- (1) التفسیر الکبیر للفخر الرازی : 23 : 186 .

وعلومها من المقامات المعنویة ، وعلیه فإنّ ظاهرة الوراثة کحقیقة قرآنیّة عامّة شاملة لکلٍّ من وراثة المال ، ووراثة المقامات الغیبیّة ، أی لکلٍّ من الوراثة التشریعیّة والتکوینیّة .

3 - وقال القرطبیّ فی « الجامع لأحکام القرآن » فی ذیل قوله تعالی : یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیًّا .

قال : فللعلماء فیه ثلاثة أجوبة . قیل : هی وراثة النبوّة ، وقیل : هی وراثة حکمة ، وقیل : هی وراثة مال .

فأمّا قولهم هی وراثة نبوّة ، فمحال ، ولو کانت تورث لقال قائل : الناس ینتسبون إلی نوح علیه السلام ، وهو نبیّ مرسل .

ووراثة العلم والحکمة مذهب حسن ، وفی الحدیث « العلماء ورثة الأنبیاء » .

وأمّا وراثة المال فلا یمتنع ، وإن کان قوم قد أنکروه لقول النبیّ صلی الله علیه و سلم : « لا نورث ما ترکناه صدقة » ، فهذا لا حجّة فیه ؛ لأنّ الواحد یخبر عن نفسه بأخبار الجمع ، وقد یُؤوّل هذا بمعنی : لا نورث الذی ترکناه صدقة ؛ لأنّ النبیّ صلی الله علیه و سلم لم یخلّف شیئاً یورث عنه؛ وإنّما کان الذی أباحه اللّه عزّ وجلّ إیّاه فی حیاته بقوله تبارک اسمه :

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ لأنّ معنی « للّه» لسبیل اللّه ، ومن سبیل اللّه ما یکون فی مصلحة الرسول صلی الله علیه و سلم ما دام حیّاً؛ فإن قیل : ففی بعض الروایات « إنّا معاشر الأنبیاء لا نورث ما ترکناه صدقة » ففیه التأویلان جمیعاً ، أن یکون « ما » بمعنی الذی ، والآخر لا یورث من کانت هذه حاله .

وقال أبو عمر : « واختلف العلماء فی تأویل قوله علیه السلام : « لا نورث ما ترکناه صدقة » علی قولین : أحدهما - وهو الأکثر وعلیه الجمهور - أنّ النبیّ صلی الله علیه و سلم لا یورث وما ترک صدقة . والآخر أنّ نبیّنا علیه الصلاة والسلام لم یُورَث ؛ لأنّ اللّه تعالی خصّه بأن جعل ماله کلّه صدقة ، زیادة فی فضیلته ، کما خُصّ فی النکاح بأشیاء ، أباحها له وحرّمها

ص:58

علی غیره؛ و هذا القول قاله بعض أهل البصرة ، منهم ابن عُلَیّة ، وسائر علماء المسلمین علی القول الأوّل » .

انتهی کلامه(1) .

أقول : وفی کلامه مواقع للنظر :

الأوّل : دعواه استحالة الوراثة فی النبوّة وعلومها ، ومقاماتها المعنویة ، واستدلّ علی دعواه بأنّ الناس سواسیة فی الانتساب إلی نوح علیه السلام ، وهو نبیّ مرسل ، فلم یصبحوا کلّهم أنبیاء مرسلین .

ففیه : أنّه لم یذهب أحد إلی أنّ مجرّد النسبة هی السبب المنفرد فی وراثة علوم ومقامات النبوّة ، بل لا یدّعی ذلک حتّی فی وراثة المال ، إذ للوراثة شرائط ، وعدّة موانع ، کما سیأتی بیان ذلک مفصّلاً

هذا مضافاً إلی أنّ الناس ینتسبون بمقتضی قوله تعالی : ذُرِّیَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ کانَ عَبْداً شَکُوراً (2) ، هو عدم انتساب جمیع الناس إلی نوح علیه السلام ، وإنّما ینتسبون إلی من حُمل مع نوح ، لا أنّه کلّهم ذریّته .

الثانی : قد أقرّ القرطبی بأنّ الوراثة فی قوله تعالی : یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ لا یمتنع شمولها لوراثة المال ، وهو یناقض دعوی أبی بکر من نفی الإرث بین الأنبیاء وذراریهم ، وکذلک التناقض واضح بین ما ذهب إلیه جمهور علماء سُنّة الخلافة وبین دعوی أبی بکر ، حیث إنّهم ذهبوا إلی أنّ معنی الحدیث النبویّ

« نحن معاشر الأنبیاء لا نورث » لیس لنفی الوراثة بین الأنبیاء وذراریهم ، بل علی أنّ معناه أنّ الأنبیاء لا یبقوا مالاً أصلاً کی یورث ، وأنّهم یتصدّقوا بما عندهم قبل أن ینتقل إلی الوارث ، لسدّ طریق انتقاله إلی وارثه .

ص:59


1- (1) الجامع لأحکام القرآن للقرطبی : 6 : 82 .
2- (2) الإسراء : 3 .

ومن المعلوم أنّ هذا خلاف دعوی أبی بکر ، من نفی أصل الوراثة بین الأنبیاء وأبنائهم .

مع أنّ ذیل الحدیث وهو « ما ترکناه صدقة » مکذوب علی النبیّ صلی الله علیه و آله ، لم یروه برغم روایته إلّاأبو بکر ، مع أنّه مناقض بنحو المباینة لنصّ القرآن الکریم فی الآیتین بوراثة یحیی لزکریّا ، وسلیمان لداود ، فلا یُعبأ به ویطرح ، لأنّه مناقض للکتاب .

بل إنّ أبا بکر قد ناقض نفسه حین منع فاطمة علیها السلام فدکاً وترک سیف رسول اللّه صلی الله علیه و آله وبغلته ، وعمامته ، والبُردة ، والقضیب ، وجملة من مختصّاته فی ید أمیر المؤمنین علیه السلام علی سبیل النحلة ، بغیر بیّنة ظهرت ولا شهادة قامت ، بینما انتزع فدکاً وهی نحلة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لفاطمة علیها السلام ، وقد شهد أمیر المؤمنین علیه السلام والحسنان وغیرهم بنحلة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فدکاً لها ، ولم یرعو أبو بکر إلی ذلک کلّه .

ومن ثَمّ التجأ جمهور أهل سُنّة الخلافة إلی تفسیر الحدیث علی غیر ما ادّعاه أبو بکر ، کی لا یناقض أو یباین النصّ القرآنی ، واضطرّوا إلی ذکر تأویلات اخری بعد أن تأکّدت هذه المناقضة والمباینة لصریح القرآن ، فمن تلک التأویلات :

دعوی أنّ المراد بقوله صلی الله علیه و آله :

« نحن معاشر الأنبیاء لا نورث » هو خصوص سیّد الأنبیاء محمّد صلی الله علیه و آله ، والتعبیر بالجمع للتفخیم ، و هذا التأویل کما تری مخالف لظاهر الحدیث ، لا سیّما التعبیر بکلمة ( معاشر ) .

ومن هذه التأویلات أیضاً : دعوی أنّ الذی کان بید رسول اللّه صلی الله علیه و آله من فدک وغیرها إنّما هو من سهم سبیل اللّه ولیس ملکاً للنبیّ صلی الله علیه و آله ولا ترکة له ، وعلیه فلا تکون ترکة یُبقیها لورثته ، فهو یُصرف فی مصلحة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ما دام حیّاً .

ولا یخفی فساد هذا التأویل ، فإنّه خلاف مفاد آیة الخمس ، والفیء ، والأنفال ، فی قوله تعالی : وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی . . . .

ص:60

وقوله : ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی .. . .

وقوله تعالی : یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ ، حیث إنّه قد کُرّرت اللام الداخلة علی لفظ الجلالة وعلی لفظ الرسول ، ممّا یدلّل علی تعدّد السهم والملکیّة .

ومن الاُمور التی اعتمدوها فی دعم روایة أبی بکر : هو أنّ المسلمین ترکوا النکیر علی أبی بکر . و هذا دلیل علی صواب منع الإرث من قبل أبی بکر .

فأجاب الشریف المرتضی قدس سره : « بأنّ فی ترک المسلمین أیضاً النکیر علی فاطمة علیها السلام دلیلاً علی صواب طلبها .

وأدنی ما کان یجب علیهم فی ذلک تعریفها ما جهلت ، وتذکیرها ما نسیت ، وصرفها عن الخطأ ، و رفع خطرها عن البذاء ، و أن تقول هجراً ، أو تجوّر عادلاً ، أو تقطع أصلاً ، فإذا لم تجدهم أنکروا علی الخصمین جمیعاً فقد تکافأت الاُمور ، واستوت الأسباب ، والرجوع إلی أصل حکم اللّه فی المواریث أولی بنا وبکم ، وأوجب علینا وعلیکم »(1) .

الثالث : إنّ تفسیره لما کان بید النبیّ صلی الله علیه و آله من کونه من سهم سبیل اللّه تعالی ، خلاف ما علیه جمهورهم ، کما ستأتی الإشارة إلیه ، من تغایر سهم النبیّ صلی الله علیه و آله مع سهم سبیل اللّه ، فضلاً عن سهم ذوی القربی .

کما أنّ حصر القرطبیّ ما کان للنبیّ صلی الله علیه و آله بالخمس فقط ، هو خلاف آیة الفیء والأنفال ، مضافاً إلی أنّ هناک أسباباً اخری للملک له صلی الله علیه و آله ، کالهبة ، وغیرها ، کما فی مشربة امّ إبراهیم ، والحوائط السبعة التی أهداها الیهودیّ للنبیّ صلی الله علیه و آله بعد أن أسلم ، وغیرها .

ص:61


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 264 و 265 .

فقد ذکر ابن حجر فی « فتح الباری » من کتاب فرض الخمس قال : « وروی عمر بن شُبّة من طریق أبی عون عن الزهری قال : کانت صدقة النبیّ صلی الله علیه و سلم بالمدینة أموالاً لمُخیریق - بالمعجمة والقاف مصغّر - ، وکان یهودیاً من بقایا بنی القینقاع ، نازلاً ببنی النضیر ، فشهد أُحداً فقُتل به ، فقال النبیّ صلی الله علیه و سلم : مُخیریق سابق یهود ، وأوصی مخیریق بأمواله للنبیّ صلی الله علیه و سلم » .

ومن طریق الواقدی بسنده عن عبد اللّه بن کعب قال : « قال مخیریق : إن أُصبتُ فأموالی لمحمّد صلی الله علیه و سلم ، یضعها حیث أراه اللّه » .

أقول : قال ابن شبّة بعد أن نقل ذلک : « وأسماء أموال مُخیریق التی صارت للنبیّ صلی الله علیه و سلم : ( الدلال ) و ( البُرقة ) و ( العواف ) و ( الصافیة ) و ( المیثب ) و ( الحسنی ) و ( مشربة امّ إبراهیم ) »(1) .

وقد حکی عن الواقدی أنّ هذه الحوائط السبعة من أموال بنی النضیر(2) .

4 - قال ابن الجوزی فی کتابه « زاد المسیر » ، ذیل قوله تعالی : یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ : « إنّه لا یجوز أن یتأسّف نبیّ اللّه علی مصیر ماله بعد موته ، إذا وصل إلی ورّاثه المستحقّ له شرعاً »(3) .

وحکی ابن أبی الحدید عن کتاب « المغنی » للقاضی عبد الجبّار ، أیضاً فی قوله :

وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ : « إنّ المراد العلم والحکمة ، لأنّه لا یرث أموال یعقوب فی الحقیقة ، وإنّما یرث ذلک غیره »(4) .

ص:62


1- (1) تاریخ المدینة المنوّرة لابن شبّة : 1 : 173 ، باب ما جاء فی أموال النبیّ صلی الله علیه و سلم وصدقاته ونفقاته بالمدینة .
2- (2) المصدر المتقدّم : 1 : 175 .
3- (3) زاد المسیر لابن الجوزی : 5 : 147 .
4- (4) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 239 .

وقد لخّص ابن الجوزی الأقوال التی وردت فی تفسیر المیراث هذا :

أحدها : یرثنی مالی ، ویرث من آل یعقوب النبوّة ، رواه عکرمة عن ابن عبّاس ، وبه قال أبو صالح .

الثانی : یرثنی العلم ، ویرث من آل یعقوب المُلْک ، فأجابه اللّه إلی وراثة العلم دون الملک ، و هذا مرویّ عن ابن عبّاس أیضاً .

الثالث : یرثنی نبوّتی وعلمی ، ویرث من آل یعقوب النبوّة أیضاً ، قاله الحسن .

الرابع : یرثنی النبوّة ، ویرث من آل یعقوب الأخلاق ، قاله عطاء(1) .

أقول : قد أجاب الشریف المرتضی عن ذلک بقوله : « أنّه خاف من بنی عمّه ، لأنّ الموالی هاهنا هم بنو العمّ بلا شبهة ، وإنّما خافهم أن یرثوا ماله فینفقوه فی الفساد ، لأنّه کان یعرف ذلک من خلائقهم وطرائقهم . . .

وأیضاً فإنّه تعالی خبّر عن نبیّه أنّه اشترط فی وارثه أن یکون رضیّاً ، ومتی لم یُحمل المیراث فی الآیة علی المال دون العلم والنبوّة ، لم یکن للاشتراط معنی . . . ، ولا یلیق خوفه منهم إلّابالمال دون العلم والنبوّة ، لأنّه علیه السلام کان أعلم باللّه تعالی من أن یخاف أن یبعث نبیّاً لیس أهلاً للنبوّة ، و أن یورّث علمه وحکمه من لیس أهلاً لهما ، ولأنّه إنّما بُعث لإذاعة العلم ونشره فی الناس ، فلا یجوز أن یخاف من الأمر الذی هو الغرض فی البعثة . . . .

ولیس من الضنّ ( البخل ) أن یأسی علی بنی عمّه - وهم من أهل الفساد - أن یظفروا بماله فینفقوه علی المعاصی ، ویصرفوه فی غیر وجوهه المحبوبة ، بل ذلک غایة الحکمة وحُسن التدبیر فی الدین ، لأنّ الدین یحظر تقویة الفسّاق ، وإمدادهم بما یعینهم علی طرائقهم المذمومة » (2) .

ص:63


1- (1) زاد المسیر لابن الجوزی : 5 : 209 .
2- (2) الشافی للسیّد المرتضی : 4 : 63 .

تورّط أهل السُّنّة فی موارد استثنوها من عدم وراثة النبیّ صلی الله علیه و آله

ومن التدافعات التی وقع أهل السُّنّة فی حرج توجیهها ، والتوفیق بینها وبین مقالة أبی بکر المزعومة ، من عدم جریان قانون الوراثة فی تَرِکات الأنبیاء :

منها : ما قاله القاضی عبد الجبّار فی « المغنی » : « فأمّا حُجَرُ أزواج النبیّ صلی الله علیه و سلم فإنّما ترکت فی أیدیهنّ لأنّها کانت لهُنّ ، ونصّ الکتاب یشهد بذلک ، وقوله :

وَ قَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ (1) وروی فی الأخبار أنّ النبیّ صلی الله علیه و سلم قسّم ما کان له من الحُجَر علی نسائه وبناته »(2) .

ومنها : مختصّات أدوات رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، کسیفه ، وبغلته ، وعمامته ، وبُردته ، وخاتمه ، وغیرها ممّا کانت فی ید أمیر المؤمنین صلی الله علیه و آله علی سبیل النِحْلَة .

ص:64


1- (1) الأحزاب : 33 .
2- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 270 .

نظریّة علماء الإمامیّة فی الوراثة النبویّة

1 - قال الشیخ المفید قدس سره : « فصل : مع أنّ للشیعة أن یقولوا : إنّ الرِّباع لیست ممّا ترکها الأزواج لجمیع الورثة ، وإنّما قضی عموم القرآن لاستحقاق الزوجة الربع من ترکات الأزواج ، والثُّمن ، علی ما بیّنه اللّه عزّ وجلّ ، وإذا لم یثبت من جهة الإجماع ولا دلیل قاطع للعذر أنّ التربة والرباع من ترکات الأزواج للزوجات ، بطل التعلّق بالعموم فی هذا الباب .

فصل : علی أنّک أیّها الشیخ قد خصصت - وأئمّتک من قبلک - عموم هذه الآیة ، بل رفعتم حکمها فی أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله وحرمتموهنّ من استحقاق برکات میراثه جملة ، وحرمتموهنّ شیئاً منها بخبر واحد ، ینقضه القرآن . وهو ما رواه صاحبکم عن النبیّ صلی الله علیه و آله أنّه قال : نحن معاشر الأنبیاء لا نورث ما ترکناه صدقة ، فردّ علی اللّه قوله :وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ (1) .

وقوله : فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا * یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیًّا (2) .

وخصّص عموم قوله تعالی : لِلرِّجالِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ کَثُرَ نَصِیباً مَفْرُوضاً (3) .

ص:65


1- (1) النمل : 16 .
2- (2) مریم : 5 و 6 .
3- (3) النساء : 7 .

وقوله تعالی : وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَکْتُمْ إِنْ لَمْ یَکُنْ لَکُمْ وَلَدٌ فَإِنْ کانَ لَکُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ (1). وقصد بذلک منع سیّدة نساء العالمین علیها السلام میراثها من أبیها صلی الله علیه و آله ، مع ما بیّناه من إیجاب عموم القرآن ذلک ، وظاهر قوله تعالی : یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ (2) ، و جعل هذه الصدّیقة الطاهرة علیها السلام فی معنی القاتلة الممنوعة من میراث والدها لجرمها ، والذمّیّة الممنوعة من المیراث لکفرها ، والمملوکة المسترقّة الممنوعة من المیراث لرقّها ، فأعظم الفریة علی اللّه عزّ وجلّ ، وردّ کتابه ، ولم تقشعرّ لذلک جلودکم ، ولا أبته نفوسکم .

فلمّا ورد الخبر عن النبیّ صلی الله علیه و آله من جهة عترته الصادقین الأبرار ، بمنع الزوجات ملک الرباع ، وتعویضهن من ذلک قیمة الطوب ، والآلات ، والبناء ، جعلتم ذلک خلافاً للقرآن ، وخروجاً عن الإسلام ، جرأة علی اللّه ، وعناداً لأولیائه علیهم السلام ، هذا مع أنّا قد بیّنا أنّه یجب علیکم إثبات الرباع فی الترکات المعروفات للأزواج ، حتّی یصحّ احتجاجکم بالعموم ، فأنی لکم بذلک ، ولن تقدروا علیه إلّابالدعاوی المُعَرّاة من البرهان »(3) .

2 - قال السیّد المرتضی قدس سره : « والذی یدلّ علی أنّ المراد المذکور فی الآیة میراث المال ، دون العلم والنبوّة ، علی ما یقولون ، أنّ لفظة المیراث فی اللغة والشریعة جمیعاً لا یُعهد إطلاقها إلّاعلی ما یحقّ أن ینتقل علی الحقیقة من الموروث إلی الوارث ، کالأموال ، وما فی معناها ، ولا یستعمل فی غیر المال إلّاتجوّزاً واتّساعاً ، ولهذا لا یفهم من قول القائل لا وارث لفلان إلّافلان ، وفلان یرث مع فلان ، بالظاهر والإطلاق إلّامیراث الأموال والأعراض ، دون العلوم وغیرها ،

ص:66


1- (1) النساء : 12 .
2- (2) النساء : 11 .
3- (3) المسائل الصاغانیة للشیخ المفید : 99 .

ولیس لنا أن نعدل عن ظاهر الکلام وحقیقته إلی مجازه بغیر دلالة .

إلی أن قال - فی معرض الحدیث عن وراثة العلم والنبوّة - : لا یخلو هذا العلم الذی أشرتم إلیه من أین یکون هو کتب علمه وصحف حکمته - فی قول زکریّا علیه السلام یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ - لأنّ ذلک قد یُسمّی علماً علی طریق المجاز ، أو أن یکون هو العلم الذی یحلّ القلوب ، فإن کان الأوّل فهو یرجع إلی معنی المال ، ویصحّح أنّ الأنبیاء علیهم السلام یورّثون أموالهم ، وما فی معناها .

وإن کان هذا الثانی لم یخل هذا العلم من أن یکون هو العلم الذی بُعث النبیّ صلی الله علیه و آله بنشره وأدائه ، أو أن یکون علماً مخصوصاً لا یتعلّق بالشریعة ، ولا یجب إطلاع جمیع الاُمّة علیه ، کعلم العواقب ، وما یجری فی المستقبل من الأوقات .

والقسم الأوّل لا یجوز علی النبیّ أن یخاف من وصوله إلی بنی عمّه ، وهم من جملة أمّته ، الذین بعث إلی أن یطلعهم علی ذلک ، ویؤدّیه إلیهم ، وکأنه علی هذا الوجه یخاف ممّا هو الغرض فی بعثته ، والقسم الثانی فاسد؛ لأنّ هذا العلم المخصوص إنّما یستفاد من جهته ، ویوقف علیه بإطلاعه وإعلامه ، ولیس هو ممّا یجب نشره فی جمیع الناس ، فقد کان یجب إذا خاف من إلقائه إلی بعض الناس فساداً ، أن لا یلقیه إلیه ، فإنّ ذلک فی یده ، ولا یحتاج إلی أکثر من ذلک »(1) .

وذکر السیّد المرتضی أیضاً مثله فی ذیل قوله تعالی : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ وقوله تعالی : یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ .

3 - قال الشیخ الطوسی رضی الله عنه : « إنّ لفظة المیراث المذکور - ذیل آیة یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ - فی اللغة والشریعة جمیعاً لا یفید إطلاقهما إلّاعلی ما یجوز أن ینتقل علی الحقیقة من الموروث إلی الوارث ، کالأموال ، وما فی معناها ،

ص:67


1- (1) الشافی للمرتضی : 4 : 63 - 65 .

ولا یستعمل فی غیر المال إلّاتجوّزاً واتّساعاً ، ولهذا لا یفهم من قول القائل :

( لا وارث لفلان ) و ( فلان یرث مع فلان ) بالظاهر والإطلاق ، إلّامیراث الأموال والأعراض ، دون العلوم وغیرها .

ولیس لنا أن نعدل عن ظاهر الکلام وحقیقته إلی مجازه بغیر دلالة »(1) .

ثمّ ذکر قرینیّة اشتراط أن یکون رضیّاً بکون المیراث هو المال ، کما مرّ سابقاً .

وقال فی ذیل قوله تعالی : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ : « إنّه لا یمتنع أن یرید بالظاهر میراث المال ، وبهذا الضرب من الاستدلال : العلم ، ولا تنافی بینهما .

ولیست إذا دلّت الدلالة علی معنی یجب قصره علیه ، إلّاإذا لم یکن حمله مع ذلک علی الحقیقة ، علی أنّه لا یمتنع أن یرید میراث المال خاصّة ، ویکون قوله :

عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ وَ أُوتِینا مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ إشارة بذکر الفضل المبین إلی العلم والمال جمیعاً ، فله بالأمرین جمیعاً فضلاً علی من لم یکن علیهما ، وقوله :

وَ أُوتِینا مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ یحتمل المال کما یحتمل العلم »(2) .

ص:68


1- (1) تلخیص الشافی للطوسی : 3 : 133 .
2- (2) تلخیص الشافی للطوسی : 3 : 133 .

الصحیح فی وراثة الأنبیاء

إقرار جمهور السنّة بالوراثة الاصطفائیّة :

إنّ جمهور أهل سنّة الخلافة قد أقرّوا بأنّ قاعدة الوراثة فی الأنبیاء بحسب نصوص الآیات یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وقوله تعالی : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ هما فی مورد إرث النبوّة ، وعلم النبوّة ، ومقاماتها کمناصب إلهیّة ، کما مرّ استعراض نبذة من کلماتهم .

وعلی ضوء ذلک ، فقاعدة الإرث فی قربی الأنبیاء تقتضی إرث الوارث من قربی النبیّ ، مع توفّر الشرائط فی الوارث لمقامات ومناصب النبوّة الإلهیّة .

وقد أراد أهل سنّة الخلافة نفی شمول قاعدة الإرث للأنبیاء من جهة شخصیّتهم الحقیقیّة فی أموالهم الشخصیّة ، ولکنّهم أثبتوا الإرث فی الأنبیاء فی شخصیّتهم الحقوقیّة والاعتباریّة ، أی فیما ثبت للأنبیاء من جهة منصب النبوّة لا من الجهة العامّة البشریّة ، والتی هی فی الأموال التی له فی الشأن الخاصّ ، وإنّما اضطرّوا لهذا الإقرار ، لأنّهم لو نفوا الوراثة مطلقاً فی کلا الجانبین لوقعوا فی دعوی النسخ ، بل التکذیب ، والإنکار لصریح القرآن بإرث سلیمان لداود ، وإرث یحیی لزکریّا ، فهم مُلجَأون إلی الإقرار بالإرث فی أحد الجانبین ، ولم یتفطّنوا إلی أنّ ما أثبتوه وأقرّوا به أعظم شأناً وأخطر علی معتقدهم ممّا قد نفوه ، و ذلک لأنّ حقیقة مطالبة الزهراء علیها السلام فی الإرث لم تکن فی الجانب الشخصیّ الحقیقیّ ، والجانب البشری العادی ، فی النبیّ صلی الله علیه و آله ، بل کانت حقیقة مطالبتها کما أشرنا إلیه فی نقطة سابقة

ص:69

- وستأتی - هو فی إرث مقام ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله علی الأموال ، الذی له فی شأن ولایته ومنصبه النبویّ ، وهو من مقامات مناصب النبوّة الإلهیّة .

مع أنّهم فی نفیهم الإرث فی جانب الشخصیّة الحقیقیّة قد وقعوا فی تناقض ، مع ممارسة سلطة الخلافة فی إعطاء بیوت النبیّ صلی الله علیه و آله وحجراته لأزواجه ، وهو عبارة اخری عن الإرث فی الجانب الشخصیّ ، مع أنّه غیر ثابت للأزواج إرث العرصة .

فهم وقعوا بین محذورین لتبریر موقف السلطة فی اغتصاب فدک ، وحقوق الزهراء علیها السلام .

فهم إمّا أن ینفوا الوراثة فی الأموال التی له فی الشأن الشخصیّ ، والأموال التی فی شؤون ولایته العامّة ، ویثبتوها فی المقامات الرسمیة الإلهیّة للنبیّ ، وهذا أشدّ علیهم ممّا فرّوا منه .

وإمّا أن یثبتوا الوراثة فی الجانب الشخصیّ البشریّ للنبیّ ، ویلزمهم علی ذلک الإنکار علی ممارسة سلطة الخلافة فیما ارتکبته فی حقّ الزهراء علیها السلام أیضاً .

والغریب کما قال الشهید الثالث فی « إحقاق الحقّ » : « إنّهم إذا سمعوا استدلال الإمامیّة بأنّه ینبغی أن تکون الخلافة لعلیّ علیه السلام ، بأن لا یخرجوا سلطان محمّد صلی الله علیه و آله من داره وقعر بیته ، قالوا : هذه سنّة هرقلیّة لا تجتمع النبوّة والإمامة فی بیت واحد ، وهاهنا یثبتون مذهبهم الهرقلیّ و یقولون : إنّ النبیّ یتولّد منه النبیّ ، ویرث منه النبوّة »(1) .

مطالبة الزهراء علیها السلام بإرث الاصطفاء :

أقول : إنّ الإمامیّة إذا استدلّت علی إثبات الخلافة بقاعدة الوراثة ، کما قد روی فی احتجاج علیّ علیه السلام علی أصحاب السقیفة ، بعین هذا البیان وبعنوان القربی ،

ص:70


1- (1) إحقاق الحقّ : 226 .

أی وراثة القربی ، اعترض علیهم العامّة بأنّ إجراء قاعدة الوراثة هی سُنّة القیاصرة ، وهرقل الروم ، من الوراثة النسبیّة ، مع أنّ أهل سنّة الخلافة یصرّحون ویؤکّدون ویشدّدون علی أنّ معنی الإرث فی وراثة سلیمان داود ووراثة یحیی لزکریّا هی وراثة فی المناصب الإلهیّة الشرعیة ، وأنّ هذه سنّة إلهیة قرآنیة أصیلة ، فکلامهم متدافع متهافت .

بل الأمر الأخطر فی ذلک أنّهم ینبذون کتاب اللّه فی هذه السنّة الإلهیّة فی بیوتات الأنبیاء ، مع أنّهم قد أقرّوا بها .

ولم یؤدّ بهم إلی هذا التدافع إلّاتخیّلهم خطأً أنّ احتجاج الزهراء علیها السلام قائم علی إرث المال ، دون إرث الاصطفاء ، والحال مبتنٍ علی إرث الاصطفاء أکثر من ابتنائه علی إرث المال ، بینما نری موقفهم فی احتجاج أمیر المؤمنین علیه السلام علی أبی بکر وبطانته معاکس لموقفهم الأوّل ، وأنّ قاعدة الإرث لا تعمّ المناصب الإلهیّة والشرعیّة ، وأنّ القول بالوراثة فی الخلافة فی بیوت الأنبیاء سُنّة کسرویة هرقلیّة ، و هذا تشنیع علی السنّة الإلهیّة القرآنیّة ، وهی وراثة الاصطفاء ، وعدم التمییز بین السُّنّة الملوکیّة القبلیّة فی الوراثة ، وبین السُّنّة الإلهیّة القرآنیّة فی وراثة الاصطفاء ، کما سیأتی شرحها مفصّلاً فی الآیات الکریمة ، لا سیّما قوله تعالی :

إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (1) .

احتجاجها علیها السلام فی الوراثة عقائدیّ لا فقهیّ :

والغریب من أصحابنا فی تفسیرهم لاحتجاج الزهراء علیها السلام أنّهم ضیّقوا دائرة الاحتجاج علی نطاق إرث المال ، و هذا هبوط عن مستوی علوّ الحجّة ، التی أبانت

ص:71


1- (1) آل عمران : 33 و 34 .

عنها الصدّیقة الزهراء علیها السلام . فإنّ مقام وراثة الاصطفاء أرفع شأناً ، وأعظم قدراً من درجة إرث المال ونحوها ، فإنّها علیها السلام وأصحاب الکساء علیهم السلام أهل آیة التطهیر من أهل البیت إذا ورثوا مناصب النبیّ صلی الله علیه و آله فالحجّة علی أبی بکر وأصحاب السقیفة أتمّ وأبلغ .

فالتفسیر السائد بین علماء المدرستین لم یرقَ إلی معالی تلک الحقیقة ، التی احتجّت بها الصدّیقة الطاهرة علیها السلام .

فإنّ السرّ الذی کشفت عنه علیها السلام فی الحجّة ، والبیّنة الإلهیّة التی أنارتها فی عقول الاُمّة ، هی إیقاظهم وإرشادهم إلی قاعدة الوراثة الاصطفائیّة ، وأنّ عموم قاعدة الوراثة شامل لکلّ من الاصطفاء والمال ونحوهما ، بینما تری الأصحاب فی تفسیر احتجاج أمیر المؤمنین علیه السلام فی الخلافة والإمامة التی هی من المناصب الإلهیّة قد فسّروه بوراثة القربی ، إلّاأنّهم لم یتوسّعوا فی بلورة القاعدة ، وأنّها من امّ الحجج والبیّنات الإلهیّة القرآنیّة ، ولم یخوضوا فی شرائط الوراثة الاصطفائیّة بنحو مرکّز ، وإن بحثوا ذلک بشکل منتشر فی موارد متباعدة ، فما فسّره الأصحاب فی احتجاج أمیر المؤمنین علیه السلام من معنی عالٍ راق ، قد غفلوا عنه فی تفسیر احتجاج الزهراء علیها السلام ، مع أنّ الاحتجاجین من باب واحد .

ومن ثَمّ یتبیّن أنّ مطالبتها کانت للوراثة الاصطفائیّة فی الولایة العامّة علی الأمّة .

التباس فی دور القرابة فی الوراثة الاصطفائیّة :

هناک مسار یخطئ إصابة الحقیقة فی قاعدة وراثة الأنبیاء ، القاعدة الاعتقادیّة المعروفة ، ویری أصحاب هذا المسار أنّ وراثة الأنبیاء تختصّ بوراثتهم الأموال دون وراثة المناصب والمقامات المعنویّة ، فیقتصرون عند البحث عن وراثة الزهراء علیها السلام باعتبارها أقرب أقرباء النبیّ أو هی الوارث الوحید للنبیّ صلی الله علیه و آله ، فهی ترثه فی الجانب المادی ، أی ترث شخصیته البشریّة ، وهو ما یعرف فی القانون المدنی ب

ص:72

« الشخصیّة الحقیقیّة » .

بینما الأهمّ فی ذلک - فی بحث الوراثة - هو وراثة الجانب المعنوی والحقوقی لشخص النبیّ صلی الله علیه و آله ، أی أنّها ترث مناصب النبیّ صلی الله علیه و آله أو مقاماته ، وأنّه کیف تکون القربی موضوعاً وسبباً للوراثة فی هذا الجانب ، أی المناصب الرسمیة فی السُّنّة الإلهیّة .

فقاعدة الوراثة أعظم شأناً من أن تختصّ بالأموال وتقتصر علی الشؤون التی تتعلّق بالجانب الشخصیّ المالیّ ، بل هی شاملة لبُعد آخر أهمّ ، وهو شمولها للشؤون الحقوقیّة والمقامات والمناصب الإلهیّة ، وأنّ القرابة وسببیة الوراثة تقتضی نقل البُعد الثانی إلی الذرّیة ، إذا توفّرت الشرائط فی الذرّیة .

وسیأتی فی ذیل البحث عن هذه القاعدة - قاعدة وراثة الأنبیاء - أنّ احتجاج الصدّیقة الزهراء علیها السلام بقاعدة الوراثة وآیاتها فی مورد فدک ، هو لکون فدک والحوائط السبعة هی من أموال الولایة المختصّة بالنبیّ صلی الله علیه و آله لا علی نحو الملک المعتاد للأشیاء .

فالتخاصم فیها تخاصم فی الولایة المختصّة بأهل البیت علیهم السلام ، أی فی جانب الشخصیّة الحقوقیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله ، وهی مختصّة بهم علیهم السلام ، لا فی الجانب الشخصی العادی له صلی الله علیه و آله .

ص:73

أدلّة قاعدة الوراثة الاصطفائیّة

اشارة

ویدلّ علی هذه القاعدة الاعتقادیّة - کسُنّةٍ إلهیّة فی بیوت الأنبیاء والأصفیاء ، من وراثة ذرّیتهم لمقاماتهم الغیبیّة ، ومناصبهم الولائیة - طوائف من الآیات الکریمة ، والروایات النبویّة الشریفة .

أمّا الآیات الدالّة علی ذلک ، فهی :

الآیة الاُولی
اشارة

قوله تعالی : اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلی أَوْلِیائِکُمْ مَعْرُوفاً کانَ ذلِکَ فِی الْکِتابِ مَسْطُوراً (1) .

فإنّ صدر الآیة هو لبیان ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله العامّة علی المؤمنین ، بل قد قُرّبت هذه الولایة بالولایة المتمیّزة ، الفائقة علی الولایة العامّة ، حیث إنّها ظاهرة فی نفوذ ولایته حتّی فی الشؤون الشخصیّة للمؤمنین ، لا فی مجرّد شؤونهم العامّة فقط ، کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی فی قصّة تزویج زینب بنت جحش وَ ما کانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَی اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ یَکُونَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ یَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِیناً (2) .

ص:74


1- (1) الأحزاب : 6 .
2- (2) الأحزاب : 36 .

وهی فی نفس سورة الأحزاب ، حیث کانت زینب بنت جحش ، وهی ابنة عمّة الرسول صلی الله علیه و آله ، وأخوها عبد اللّه بن جحش قد أبیا نکاحها من زید بن حارثة ، ومن المعلوم أنّ النکاح من الشؤون والأحوال الشخصیّة .

ثمّ بعد ذلک تتعرّض الآیة إلی تکریم أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله ، لشرف عُلقتهم السببیّة به صلی الله علیه و آله ، وأنّ هذه العُلقة السببیّة أوجبت نحو تکریم لهم ، نعم فی الآیات اللاحقة تشترط لهذا الاحترام و هذا التکریم شروطاً وتعلّقه علی التقوی ، کما یشیر إلیه قوله تعالی : یا نِساءَ النَّبِیِّ لَسْتُنَّ کَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَیْتُنَّ (1) .

ثمّ تردف الآیة بجملة وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ ، ومقتضی عموم مفاد أولویة الرحم ، أی أنّ الرحم یلی رَحِمَه ، فیرثه فیما کان له ، فمقتضی عموم هذا المعنی وإردافه لجملة اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ هو وراثة الأقرب رحماً للنبیّ صلی الله علیه و آله ، لِما کان للنبیّ صلی الله علیه و آله من مقام الولایة العامّة علی المؤمنین ، والأقرب له صلی الله علیه و آله هم أصحاب الکساء بحسب الترتیب .

ویعضد وراثة قرباه صلی الله علیه و آله له فی الولایة العامّة ، نفی ذلک عن سائر المؤمنین والمهاجرین ، فلا تکون صحابته من عامّة المؤمنین والمهاجرین خلفاء له صلی الله علیه و آله فی سلطته العامّة ، وقد بیّنه تعالی بالإخبار عن عنوان و أولوا الأرحام أنّهم أولی ببعض من المؤمنین والمهاجرین ، أی أنّ أولی الأرحام مقدّمون علی المؤمنین والمهاجرین .

ودعوی أنّ الجار والمجرور فی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ متعلّق بالظرف المستقرّ للأرحام ، فتکون العبارة حینئذٍ ( و أولوا الأرحام من المؤمنین و المهاجرین بعضهم أولی ببعض ) فتکون « من » بیانیّة للأرحام ، فیکون المراد من الأرحام

ص:75


1- (1) الأحزاب : 32 .

لیس خصوص قربی النبیّ صلی الله علیه و آله ، وإنّما لبیان عموم قاعدة الوراثة فی تمام الآیة .

لکن هذا المعنی خلاف الظاهر جدّاً ، وخلاف القواعد الأدبیّة ، و ذلک :

أوّلاً : إنّ العامل الأقرب وهو « أولی ببعض » أحقّ بالعمل فی الجار والمجرور من العامل الأبعد الذی قبله ، لاسیّما وأنّ أفعل التفضیل اشتهر فی استعمالها فی مقام المفاضلة والمقابلة بإتیان « من » فی متعلّقها ومدخولها .

ثانیاً : إنّ هذه الآیة وأمثالها من آیات وأولویة الأرحام بعضهم ببعض جُعلت ناسخة لولایة المهاجرین بعضهم ببعض فی مورد التوارث(1) ، والمؤمنین بعضهم ببعض(2) ، فعلی النسخ تکون « من » للمقابلة ، وحینئذ یتعیّن هذا المعنی .

والظریف فی تعبیر الآیة أنّها لم تنعت المهاجرین بالإیمان ، وجعلته وصفاً للأنصار وغیرهم ، وجعلت المقابلة بین الأرحام أنّهم مقدّمون علی هذین الفریقین ، وهما ( الفریق المدنیّ والقرشیّ ) ؛ فکأنّه تلویح بأطراف القوی المتنازعة علی القدرة بعد النبیّ صلی الله علیه و آله ، وقد استشهد بهذه الآیة الکریمة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی یوم الغدیر ، عندما أمر المسلمین بالمبایعة لعلیّ علیه السلام بالولایة .

کما استشهدت بهذه الآیة أیضاً الصدّیقة الزهراء علیها السلام فی محاججتها لأبی بکر .

دلالة الآیة علی عموم الوراثة فی مناصب الاصطفاء :

إنّ الآیة الکریمة فی صدد بیان أنّ الولایة السیاسیّة هی للنبیّ صلی الله علیه و آله ، ونفوذ سلطته علی سلطة کلّ مؤمن حتّی علی نفسه ، سواء کان ذلک فی الشؤون الفردیة أو

ص:76


1- (1) وهو قوله تعالی : (إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الَّذِینَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِکَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْ ءٍ حَتّی یُهاجِرُوا) الأنفال : 72 .
2- (2) وهو قوله تعالی : (وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ یَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْکَرِ) التوبة : 71 .

الشخصیّة ، فضلاً عن الشأن العامّ .

فتکون فیها دلالة علی أنّ قاعدة أولویة أولی الأرحام بعضهم ببعض ، ووراثة الأرحام بعضهم لبعض ، عامّة وشاملة لوراثة التَّرِکة المعنویة ، من المناصب ، والصلاحیات العامّة ، السیاسیّة ، والدینیّة . . . الخ ، و هذا العموم یتّفق مع الأدلّة الاُخری المفسِّرة لنمط هذه الوراثة ، أی أنّها وراثة اصطفائیة للمناصب الإلهیّة اللدنّیة .

ص:77

الآیة الثانیة

ومن ثمَّ یتقرّر عموم الاستدلال بالآیة الثانیة ، الواردة فی أولی الأرحام ، وهی قوله تعالی : وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیمٌ (1) .

حیث إنّ هذه الآیة والتی هی أصل فی الوراثة عامّة ، وغیر خاصّة فی وراثة المال ، ولا بما کان یمتلکه المورِّث من الاُمور الخاصّة ، أو ما یخصّ شؤون الفرد بشخصیته الحقیقیّة ، بل یعمّ ما کان یمتلکه وما کان یختصّ به من صلاحیات علی الصعید العامّ فی شخصیته المعنویّة .

فهذه الآیة تؤکّد علی عموم الوراثة فی إطارها اللفظیّ ، ولا تختصّ بوراثة المال ، غایة الأمر أنّ لوراثة الاصطفاء شرائط کما لوراثة الأموال شرائط تتحکّم بها ، ولابدّ منها لیحصل التوارث ، کذلک الحال فی وراثة الاُمور المعنویة ، فلابدّ فیها من توفّر شرائطٍ دلّت علیها الآیات الاُخری ، والروایات الواردة فی وراثة المناصب الإلهیّة .

والتقیید والاشتراط للترکة فی الوراثة المالیّة لا ینفی أصل الوراثة وطبیعتها ، کذلک الحال فی الوراثة المعنویة .

وسیأتی فی الآیات الاُخری إشارات عدیدة فی دلالتها علی عموم وراثة وأولویة أولی الأرحام بعضهم لبعض للشؤون المعنویة .

ص:78


1- (1) الأنفال : 75 .
الآیتان الثالثة والرابعة
اشارة

قوله تعالی : وَ لَقَدْ آتَیْنا داوُدَ وَ سُلَیْمانَ عِلْماً وَ قالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی فَضَّلَنا عَلی کَثِیرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِینَ* وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ وَ قالَ یا أَیُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ وَ أُوتِینا مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ (1) .

وقوله تعالی : قالَ رَبِّ إِنِّی وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّی وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَیْباً وَ لَمْ أَکُنْ بِدُعائِکَ رَبِّ شَقِیًّا * وَ إِنِّی خِفْتُ الْمَوالِیَ مِنْ وَرائِی وَ کانَتِ امْرَأَتِی عاقِراً فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا * یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیًّا (2) .

ذهب جُلّ مفسّری العامّة إلی أنّ مفاد الآیة فی وراثة العلم والنبوّة ، من الشؤون والمقامات المعنویة .

وحاصل قولهم : إنّ قوله : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ إنّما یعنی بذلک الملک والنبوّة ، أی جعلناه قائماً بعده ، فیما کان یلیه من الملک وتدبیر الرعایا ، والحکم بین بنی إسرائیل ، وجعلناه نبیّاً کریماً کأبیه ، وکما جمع لأبیه الملک والنبوّة ، کذلک جمع لولده ذلک من بعده .

کقولهم : « فسأل ربّه ولداً صالحاً یأمنه علی أمّته ، ویرث نبوّته وعلمه ، لئلّا یضیع الدین ، یرث مقامه من النبوّة والملک ، ویرث من آل یعقوب النبوّة »(3) .

ص:79


1- (1) النمل : 16 .
2- (2) مریم : 1 - 4 .
3- (3) تفسیر البغوی : 3 : 189 . تفسیر الرازی : 12 جزء 24 : 186 . تفسیر المراغی : 6 جزء » « 16 : 135 . شرح الترمذی لابن العربی : 4 جزء 7 : 112 .

أو قولهم : « فسأل اللّه تعالی ولداً یکون نبیّاً من بعده لیسوسهم بنبوّته ، فأُجیب فی ذلک »(1) .

مع تصریح کثیر منهم أنّ هذا تأویل للّفظ .

قال فی « فتح الباری » : « حمله أهل العلم بالتأویل علی العلم والحکمة ، وکذا قول زکریّا فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا * یَرِثُنِی »(2) .

بینما ذهب جُلّ مفسّری الخاصّة إلی إرادة إرث المال ، ومنهم من ذهب إلی إرادة الأعم ، والمعنی شامل للاثنین ، وهو المختار کما سنبیّن شواهده فی مفاد الآیة .

شواهد قول العامّة من اختصاص الوراثة بالاصطفائیّة :

قد ذکر مفسّرو أهل سنّة الخلافة جملة من الشواهد علی ما ذهبوا إلیه :

الشاهد الأوّل : لَغویة کون مفاد الخبر فی الآیة هو إرث المال ، لأنّ الناس یعلمون أنّ الأبناء یرثون من الآباء أموالهم ، ولا یعلمون أنّ کلّ ابن یقوم مقام أبیه فی العلم والملک والنبوّة(3) .

الشاهد الثانی : أنّ تخصیص سلیمان دون بقیّة أولاد داود بالإرث یقتضی إرادة خصوص وراثة الاصطفاء ، لأنّ إرث المال قد تحقّق لأولاد داود أیضاً (4) .

الشاهد الثالث : سیاق الآیات ، حیث إنّ لفظ « وَرِثَ » ها هنا قد سبقه بیان

ص:80


1- (1) تفسیر ابن کثیر : 3 : 112 .
2- (2) فتح الباری فی شرح البخاری : 12 : 6 .
3- (3) تأویل مختلف الحدیث لابن قتیبة : 282 .
4- (4) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 244 . وأیضاً معانی القرآن للنحّاس : 5 : 118 . والطبری فی جامع البیان : 19 : 172 ، وزاد المسیر لابن الجوزی : 6 : 60 .

إیتاء العلم منه تعالی : وَ لَقَدْ آتَیْنا داوُدَ وَ سُلَیْمانَ عِلْماً ولحقه تعلیم منطق الطیر عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ ، والإیتاء من کلّ شیء ، ممّا یبیّن اندراج هذه النعم الاصطفائیّة فی المراد من الإرث(1) .

الشاهد الرابع : استعمال لفظ الإرث فی وراثة العلم فی جملة من الآیات ، منها قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا ، وقوله :

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْکِتابَ .

وقوله تعالی : فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا*یَرِثُنِی ، وغیرها (2) .

الشاهد الخامس : أنّ یحیی قُتل قبل زکریّا ، فلو کان المراد إرث المال لبقی بعده ، بمقتضی استجابة الدعاء(3) .

الشاهد السادس : قوله تعالی حکایة عن زکریّا علیه السلام : مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وهم أولاد الأنبیاء ، أی أنّ الموروث لیس هو خصوص زکریّا ، بل عموم آل یعقوب ، ومن الواضح أنّ الوارث لکلّ ذلک لیس هو فی المال ، بل فی العلم والدین ، فمعنی خوفه من الموالی ، من أن یضیّعوا العلم والدین(4) .

الشاهد السابع : قوله تعالی فی سلیمان علیه السلام : وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَیْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ (5) فهی فی معرض الثناء علی سلیمان بکثرة الطاعة والإنابة إلی اللّه عزّ وجلّ ، ممّا یشهد ویدلّل علی قابلیته لوراثة النبوّة ، وأنّ الإرث هو إرث

ص:81


1- (1) الصواعق المحرقة ، کما نقل قوله فی الصوارم المهرقة : 165 ، وأیضاً فی المغنی للقاضی عبد الجبّار المعتزلی نقل عنه المرتضی فی الشافی : 4 : 59 .
2- (2) المصدر المتقدّم .
3- (3) جملة من المصادر المتقدّمة .
4- (4) الصواعق المحرقة ، بنقل الصوارم المهرقة للتستری : 165 .
5- (5) سورة ص : 30 .

النبوّة والعلم .

وقد روی ابن أبی حاتم فی سنده عن مکحول ، قال : « لمّا وهب اللّه تعالی لداود سلیمان ، قال له : یا بُنیّ ، ما أحسن ؟ قال : سکینة اللّه والإیمان .

قال : فما أقبح ؟ قال : کفر بعد إیمان .

قال : فما أحلی ؟ قال : روح اللّه بین عباده .

قال : فما أبرد ؟ قال : عفو اللّه عن الناس ، وعفو الناس بعضهم عن بعض .

قال داود علیه السلام : فأنت نبیّ »(1) .

شواهد قول علماء الإمامیّة من اختصاص الوراثة بالمال :

وأمّا الشواهد التی استدلّ بها جملة من علماء الإمامیّة علی کون المراد وراثة المال :

فالشاهد الأوّل : أنّ النبوّة لا تقبل الوراثة ، لعدم قبولها الانتقال ، والعلم الذی یختصّ به الأنبیاء والرسل وهبیّ من اللّه ، لا یکتسب بالفکر ، وما یکتسب من الأنبیاء من العلم عبر الفکر وإن قبل الانتقال ، وأطلق علیه الإرث بنحو من العنایة ؛ لکنّ النبیّ لا یرث علمه من نبیّ آخر(2) .

ولا یکون وراثة فی الحقیقة بل یکون کسباً جدیداً مبتدأً ، إنّما التوریث لا یتحقّق إلّا فی المال علی سبیل الحقیقة(3) .

فالنبوّة والعلم لیسا بالإرث ، وإنّما هما من اللّه تعالی أصالة .

ص:82


1- (1) تفسیر ابن کثیر : مجلد 4 : 34 .
2- (2) تفسیر المیزان للعلّامة الطباطبائی : 15 : 349 .
3- (3) رسالة فی حدیث « نحن معاشر الأنبیاء » للشیخ المفید : 25 .

الشاهد الثانی : إنّ الظاهر المتبادر من إطلاق المیراث هو میراث الأموال والأعراض ، دون العلوم وغیرها ، ولم یُعهد إطلاقها إلّاعلی ما یستحقّ أن ینتقل علی الحقیقة ، من المورِّث إلی الوارث ، فاستعمالها فی غیر المال تجوّز واتّساع ، لابدّ له من قرینة وشاهد(1) .

الشاهد الثالث : إنّه لو أرید من الإرث إرث العلم والشرع والنبوّة والمقامات الإلهیّة ، لکان ذلک من الانتقال من محلّ إلی آخر(2) .

أقول : ولعل المراد من هذا الشاهد هو استحالة انتقال العرض من محلّ إلی آخر .

الشاهد الرابع : إنّ النبوّة متوقّفة علی ما یعلم اللّه سبحانه وتعالی من صلاح الخلق ، وما یحدثه اللّه تعالی ویفعله من تصدیق النبیّ لبیان ذلک ، ووقوف العلم علی اکتساب العالم له(3) .

والنبوّة تابعة للمصلحة العامّة ، مقدّرة لأهلها من أول یومها عند بارئها ، و اللّه أعلم حیث یجعل رسالته ، ولا مدخل للنسب فیها ، کما لا أثر للدعاء والمسألة فی اختیار اللّه تعالی أحداً من عباده نبیّاً ، والعلم موقوف علی من یتعرّض له ویتعلّمه(4) .

الشاهد الخامس : لو کان العلم والنبوّة ممّا یورث ، لوجب أن یکون جمیع ولد آدم أنبیاء وعلماء ، وکذلک أولاد أولاده ، إلی یوم القیامة ، ولم یکن علی وجه الأرض إلّاالأنبیاء والعلماء ، إذ المیراث لا یجوز أن یکون لواحد من الورثة دون الآخر ، وأوّل الخلق کان نبیّاً ، وهو آدم علیه السلام (5) .

ص:83


1- (1) الشافی للمرتضی : 4 : 63 .
2- (2) زبدة البیان للمقدّس الأردبیلی : 657 .
3- (3) تقریب المعارف لأبی الصلاح الحلبی : 339 .
4- (4) الغدیر للعلّامة الأمینی : 7 : 192 .
5- (5) الصوارم المهرقة للشیخ نور اللّه التستری : 166 .

الشاهد السادس : أنّه لا اختصاص للعلم والدین بالولد الوارث ، بل هو یشمل جمیع الاُمّة ، فیمکن للولد غیر المرضیّ تضییع ذلک ، وکذا حفظ العلم والدین لا یخصّ الولد ، بل ربّما یحصل ذلک لغیره من المرضیّین(1) .

الشاهد السابع : أنّ زکریّا علیه السلام خاف بنی عمّه ، فطلب وارثاً لأجل خوفه ، ولا یلیق خوفهم إلّابالمال دون العلم والنبوّة ، لأنّه علیه السلام کان أعلم باللّه تعالی من أن یخاف أن یبعث نبیّاً لیس بأهلٍ للنبوّة ، أو أن یورّث علمه وحکمه من لیس أهلاً لهما ، بخلاف المال فإنّه یرثه الصالح والطالح .

الشاهد الثامن : إنّه لا یصحّ أن یکون المراد إرث العلم ، و ذلک لأنّ الغرض من علم الشرائع وعلم الدین هو النشر والبثّ فی سائر الناس ، حتّی الأشرار منهم ، وبنو عمّ زکریّا علیه السلام من جملة الأمّة ، الذین بُعث لإطلاعهم علی ذلک ، فکیف یخاف من وصوله إلیهم ؟

وأمّا العلم المخصوص الذی لا یتعلّق بالشریعة ، ولا یجب إطلاع جمیع الاُمّة علیه ، کعلم العواقب ، وما یجری فی المستقبل من الأوقات ، وما جری مجری ذلک ؛ فلا یتصوّر خوفه من انتشاره ، لأنّه إنّما یستفاد وینتشر من جهته ، ویوقف علیه بإطلاعه وإعلامه ، فإذا خاف من إلقائه ، کتمه(2) .

الرأی المختار فی عموم وراثة الأنبیاء :

إنّ الآیتین الواردتین فی إرث سلیمان لداود ویحیی لزکریّا - أی الثالثة والرابعة - تفیدان کلا المقامین من الإرث ، أی الإرث فی الأموال والإرث فی الاصطفاء للمقامات ، کما قرّرنا ذلک فی آیات الإرث العامّة - أی الاُولی والثانیة - وأنّ عنوان

ص:84


1- (1) الصوارم المهرقة للشیخ نور اللّه التستری : 167 .
2- (2) إحقاق الحقّ لنور اللّه التستری : 65 .

ومادّة « وَرِثَ » بطبعه یشمل کلّاً من الوراثة التکوینیّة والوراثة الاعتباریّة ، أی الوراثة فی المقامات التکوینیّة ، کالعلم والنبوّة والإمامة ، ووراثة المال والحقوق .

بل إنّ الوراثة الاعتباریّة فی نفسها غیر مختصّة بالمال ، بل شاملة للمناصب والصلاحیات الاعتباریّة فی الشؤون العامّة .

والشواهد علی عموم هذا المعنی ، وعموم إرادته ، هی مجموع شواهد القولین السابقین - أی قول العامّة والخاصّة - فإنّ الشواهد السابقة عند التدبّر فیها غیر متنافیة ، ولا متدافعة ، ولا دلالة فیها علی حصر الوراثة بأحد المعنیین بحسب مفادها ، بل هی دالّة علی أصل اقتضاء وشمول مقتضی الإرث لأحد الجانبین ، من دون نفی اقتضائه لاستعماله فی المعنی العامّ الشامل للجانب الآخر .

وبعبارة اخری : إنّ الذی أوقع أصحاب القولین فی الحصر ، هو تخیّل تباین المعنیین الاعتباری والتکوینی ، وعدم وجود جامع بینهما ، ولکن الصحیح هو وجود الجامع ، وإمکان إرادة المعنی العامّ الشامل لکلا النمطین من ذلک الجامع بلحاظ الجهة المشترکة .

و مثل هذا الاستعمال - أی استعمال اللفظ فی المعنی الجامع للاعتباری والتکوینی - قد تکرّر فی الآیات القرآنیّة ، بل لا یقف هذا التعمیم علی استعمال اللفظ فی المعنی الشامل للوجود التکوینی والاعتباری ، بل إنّه یبیّن العموم فی السُّنن الإلهیّة ، من کونها سُنناً واحدة تکویناً وتشریعاً .

وإلیک جملة من الأمثلة علی ذلک :

ص:85

الشواهد القرآنیّة علی عموم السُّنن الإلهیّة
فی التکوین والتشریع

منها : قوله تعالی : إِنِ الْحُکْمُ إِلاّ لِلّهِ (1) .

وقوله تعالی : أَ لَیْسَ اللّهُ بِأَحْکَمِ الْحاکِمِینَ (2) ، إذ أنّ المراد من الحکم هاهنا لیس خصوص الحکم الاعتباریّ ، ولا خصوص الحکم التکوینیّ ، بل المراد کلّ منهما .

ومنها : قوله تعالی علی لسان موسی علیه السلام : حَقِیقٌ عَلی أَنْ لا أَقُولَ عَلَی اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ (3) ، فإنّ الحقّ هنا أعمّ ممّا هو صدق بحسب التکوین ، وما هو بحسب التشریع .

ومنها : قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلی أَهْلِها (4) ، فإنّ الأمانات هنا هی ما استؤمن علیه ، سواء کان فی شؤون النبوّة والإمامة ، ممّا ینتقل اعتباراً ، کالکتب ، والصحف ، أو ینتقل تکویناً ، کنقل بعض المقامات التکوینیّة ، وقد ورد فی طرق أهل البیت علیهم السلام جملة من الروایات فی ذیل الآیة :

من أنّ المراد تأدیة الإمام الأوّل إلی الإمام الذی بعده ، الکتب ، والعلم ، والسلاح ، وفی بعضها ، أن یؤدّی الإمامة ، وفی بعضها الوصیّة ، وفی بعضها أن یدفع ما عنده إلی الإمام الذی بعده(5) .

مع أنّ تأدیة الکتب والسلاح من قبیل الأموال المنقولة ، بینما تأدیة العلم فهی

ص:86


1- (1) یوسف : 67 .
2- (2) التین : 8 .
3- (3) الأعراف : 105 .
4- (4) النساء : 58 .
5- (5) تفسیر البرهان ذیل الآیة 58 من سورة النساء .

من التأدیة التکوینیّة ، و ذلک بأن ینتقل الروح المسدِّد لهم من الإمام السابق إلی الإمام اللاحق .

ونظیر هذا الاستعمال کما فی صحیحة أبی علیّ بن راشد ، قال : « قلت لأبی الحسن الثانی علیه السلام : إنّا نؤتی بالشیء فیقال : هذا کان لأبی جعفر علیه السلام عندنا ، فکیف نصنع ؟

فقال علیه السلام :

ما کان لأبی علیه السلام بسبب الإمامة فهو لی ، وما کان غیر ذلک فهو میراث ، علی کتاب اللّه وسنّة نبیّه »(1) .

فإنّ اللّام هاهنا قد استعملت فی الأعم ممّا کان من اختصاص اعتباریّ شخصیّ ، أو معنویّ حقوقیّ ، غایة الأمر أنّ الإمام علیه السلام قد فرّق بین ما کان معنویّاً حقوقیّاً ، فهو الوارث له خاصّة ، وبین ما کان اعتباره شخصیّاً ، فیشارکه فیه بقیّة إخوته .

ومنها : قوله تعالی فی شأن إبراهیم علیه السلام : إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً فإنّ الجعل لایقتصر فی الإمامة علی الجعل التشریعی ، بل یعمّ کلّاً من التکوینیّ والتشریعیّ ، ویشیر إلی ذلک أیضاً قوله تعالی : وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَیْنا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْراتِ ، فإنّ الهدایة الأمریة - أی التی من عالم الأمر ، وهو الملکوت والوحی - فعل إلهیّ تکوینیّ .

ومنها : قوله تعالی : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فإنّها شاملة للعهود والعقود التی تقع بین البشر ، بین بعضهم البعض ، وفیما بینهم وبین اللّه تعالی ، مع أنّ التی بینهم وبین اللّه لیست عهوداً اعتباریة فقط ، من قبیل الإقرار بالشهادتین ، بل شاملة للعهود التکوینیّة .

کما یشیر إلی میثاق عالم الذرّ والإقرار فیه قوله تعالی : وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّکَ مِنْ

ص:87


1- (1) وسائل الشیعة : 9 : 527 ، الحدیث 6 .

بَنِی آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّیَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلی أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّکُمْ قالُوا بَلی شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا یَوْمَ الْقِیامَةِ إِنّا کُنّا عَنْ هذا غافِلِینَ (1) .

وکما یشیر إلی ذلک أیضاً قوله تعالی : وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ (2) .

وکذلک قوله تعالی : وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِیِّینَ مِیثاقَهُمْ وَ مِنْکَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِیمَ وَ مُوسی وَ عِیسَی ابْنِ مَرْیَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِیثاقاً غَلِیظاً (3) ، إلی أنّ جمیعها من العهد التکوینی فی عالم المیثاق .

ومنها : أوامره تعالی ، فإنّها شاملة لکلّ من الأمر التکوینیّ والأمر التشریعیّ ، کما فی قوله تعالی : وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ أَبی وَ اسْتَکْبَرَ وَ کانَ مِنَ الْکافِرِینَ (4) .

وفی قوله تعالی مخاطباً إبلیس : قالَ ما مَنَعَکَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ قالَ أَنَا خَیْرٌ مِنْهُ (5) .

وقوله تعالی : إِذْ یُوحِی رَبُّکَ إِلَی الْمَلائِکَةِ أَنِّی مَعَکُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِینَ آمَنُوا . . . فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ کُلَّ بَنانٍ (6) .

ص:88


1- (1) الأعراف : 172 .
2- (2) آل عمران : 81 .
3- (3) الأحزاب : 7 .
4- (4) البقرة : 34 .
5- (5) الأعراف : 12 .
6- (6) الأنفال : 12 .

وقوله تعالی فی شأن الملائکة والأصفیاء : بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ (1) .

وقوله فی شأنهم أیضاً : لا یَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ یَفْعَلُونَ ما یُؤْمَرُونَ (2) .

إلی غیر ذلک من السنن الإلهیّة ، المتناثرة فی القرآن الکریم ، الدالّة علی أنّ سُنّته تعالی واحدة تکویناً وتشریعاً ، وأنّ متعلّق تلک السنّة الإلهیّة یُراد منه الأعمّ من الوجود التکوینیّ والوجود الاعتباری التشریعیّ .

وممّا یدعم إرادة عموم المعنی العامّ الشامل للموردین ، ما تقدّم من الآیات فی قاعدة الإرث ، وما سیأتی من آیات اخری ، الواردة فی خصوص إرث القرابة ، لکلّ من المقامات والمناصب الدینیّة والاعتباریّة فی الشأن العامّ ، فضلاً عن الأموال والتَّرِکات الشخصیّة ، کما فی قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ* ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (3) ، حیث تشیر الآیة الکریمة - کما سیأتی - إلی توریث الاصطفاء للذرّیة بحسب التناسل .

وقفة مع شواهد القولین :
قول العامّة :

أما شواهد القول الأوّل : فقد مرّ أنّه لا غبار فی دلالتها علی إرادة إرث العلم والنبوّة ، والشؤون والمقامات المعنویة ، إنّما الخدشة فی توظیف تلک الشواهد لنفی المعنی العامّ ، الشامل لإرث المال ، وتخصیص المعنی بأحد فردیه دون المعنی الآخر ، أی دون المعنی العامّ الشامل لکلا الموردین ( إرث العلم والنبوّة والمال ) .

ص:89


1- (1) الأنبیاء : 26 و 27 .
2- (2) التحریم : 6 .
3- (3) آل عمران : 33 و 34 .

فمثلاً الشاهد الأوّل من لَغویة إرادة إرث المال ، لوضوحه ، دون إرث المقامات الغیبیة ، إنّما یتمّ لو أرید إرث المال بخصوصه ، وأمّا لو أرید المعنی العامّ الشامل لهما فلا لَغویة فی البین .

أمّا الشاهد الثانی من تخصیص سلیمان علیه السلام دون بقیّة أولاد داود ، لبیان امتیازه بإرث المقامات الغیبیة دونهم ، فهو وإن کان متیناً فی نفسه ، إلّاأنّ ذلک لا یقتضی حصر الإرث به دون المعنی العامّ للإرث ، لأنه یرث أباه فی المال ونحوه من الترکة ، کبقیة إخوانه .

وقد أقرّ مفسّرو العامّة بأنّ بقیّة أولاد داود علیه السلام ورثوا من أبیهم ماله الخاصّ ، کما فی میراث الترکة للأولاد من الآباء ، ولم یکن ما ترکه داود علیه السلام صدقة ، فلا محالة یکون الإرث هاهنا لسلیمان علیه السلام بمعناه العامّ ، الجامع لکلا النحوین من الإرث ، و هذا منهم کرٌّ علی ما فرّوا منه ، وإقرار منهم بتحقّق إرث النمط الثانی فی الأنبیاء أی إرث المال .

ومن ثَمَّ صاروا فی حیص وبیص فی تفسیر الحدیث الذی رووا « نحن معاشر الأنبیاء لا نورث ما ترکناه صدقة » ، لا سیّما وأنّ هذا الحدیث الذی زعموه بضمیمة الذیل ، حیث زعمه أبو بکر ، عامّ لجمیع الأنبیاء ، فالتزم بعضهم بأنّ الحدیث خاصّ بالنبیّ صلی الله علیه و آله ، وأنّه ناسخ لما کانت علیه سنّة الأنبیاء . وغیر ذلک من التکلّفات والتمحّلات ، فلاحظ کلماتهم فی ذیل الآیتین .

فتبیِّن أنّ الشاهد الثانی شاهد قویّ ، ناصع علی إرادة المعنی الجامع المنطبق علی النمطین .

وأمّا الشاهد الثالث وهو أنّ سیاق الآیات فی وراثة سلیمان لداود علیهما السلام متضمّن لإیتائهما العلم ، وعلم منطق الطیر ، ونحوها من العطایا والهبات الاصطفائیّة ، فلا محال تکون الوراثة اصطفائیة .

ص:90

فهو فی نفسه أیضاً متین ، ودالّ علی إرادة الوراثة الاصطفائیّة ، ولکن کما مرّ فی الشاهد الثانی ، لا یعنی ذلک التخصیص بها ، وعدم إرادة الجامع .

وقد أقرّوا بوجود الأولاد لداود علیه السلام ، ومشارکة سلیمان لبقیة أولاد داود علیه السلام فی الترکة .

وأمّا الشاهد الرابع من استعمال لفظ الإرث فی وراثة العلم فی جملة من الآیات ، فهو متین فی نفسه أیضاً ، إلّاأنه کما استعمل فی ذلک ، قد استعمل فی آیات کثیرة اخری فی إرث المال أیضاً ، وبالتالی فالإرث قد استعمل فی المعنی العامّ ، وطبّق علی کلا الفردین والنمطین ، فالأصل فی بقیّة الموارد التی لا یمتنع فیها إرادة کلا الفردین أن یستعمل اللفظ فی المعنی الجامع المنطبق علیهما ، من دون موجب لتخصیصه بأحدهما .

أمّا الشاهد الخامس وهو « کون یحیی قُتل قبل زکریّا ، وأنّه لو کان مراد زکریّا من دعائه إرث المال لبقی بعده » .

أقول : لم یثبت بشیء محقَّق أنّ یحیی علیه السلام قتل قبل زکریّا علیه السلام ، بل إنّ بعض المؤرّخین ذکر أنّ زکریّا قُتل قبل یحیی ، و ذلک عندما اتّهموه بمریم علیها السلام ، وفی بعض الروایات أنّ یحیی قام بالوصیة بعد رفع عیسی .

ولو سُلّم کونه قُتل قبل زکریّا فلا ینافی عموم إرادة الإرث ، لتحقق الکلّی الطبیعی بأحد فردیه ، وهو وراثة الاصطفاء ، ولیس من اللازم الاستغراق والشمول لکلّ من النمطین من الإرث ، مع أنّ الإشکال بظاهره قد یقرّر بنحو مشترک الورود علی کلا النمطین من الإرث .

وبعبارة اخری : إنّ هذا الإشکال بظاهره یرد أیضاً علی إرث الاصطفاء لیحیی بن زکریّا علیه السلام ، مع سبق قتله علی قتل أبیه .

وأمّا الشاهد السادس من کون الموروث لیس خصوص زکریّا علیه السلام ، بل عموم

ص:91

آل یعقوب ، لقوله تعالی : یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ ممّا یدلّ علی أنّ الإرث فی العلم والدین ، وفی المناصب الإلهیّة .

فهو شاهد متین فی نفسه ، إلّاأنّه لا ینفی إرادة العموم ، حیث إنّ إثبات الشیء لا ینفی ما عداه ، فالإرث طبیعة عامّة شاملة لکلا النمطین .

ومثله الشاهد السابع من قوله تعالی : وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَیْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ ، حیث یشیر النعت إلی قابلیة سلیمان علیه السلام لوراثة مقامات داود علیه السلام ، وأنّ الوراثة فی المقامات دون المال .

فهو کما مرّ أیضاً ، من أنّ ذلک لا ینفی إرادة العموم ، وإن صرّحت به الآیة بنحو بارز ، بل إنّ الوراثة الاصطفائیّة إنّما یتقرّر تحقّقها وحصولها بمقتضی طبعها الأوّلی فی مورد وجود عموم قاعدة الوراثة ، أی فی طبقات الأرحام ، والقربی من الولادة .

غایة الأمر أنّ الوراثة الاصطفائیّة إنّما تثبت فی الذرّیة بشرائط زائدة علی شرائط إرث المال ، وهی شرائط خاصّة .

وبعبارة اخری : إنّ مقتضی قانون وسُنّة الوراثة بسبب الرحم والاستیلاد هو المقتضی لکلّ من وراثة المال ووراثة الاصطفاء ، إلّاأنّ وراثة المال لها شرائط وموانع ، کأن یبقی الوارث بعد المورّث ، و أن یکونا من أهل ملّة واحدة ، وأن لا یکون قاتل أبیه ، و أن یکون طاهر المولد ، وغیر ذلک ممّا ذکر فی باب المیراث ، فکذلک الحال فی وراثة الاصطفاء ، بل هی تزید علی شرائط وراثة المال ، کشرط صلاح الوارث ، وطهارته عن المعاصی ، وإنباته نباتاً حسناً کما سیأتی الإشارة إلی ذلک مفصّلاً .

ص:92

الثانی : قول الخاصّة :
منع حصر الإرث فی المال :

أمّا الشواهد التی أقامها جملة من علماء الإمامیّة علی إرادة إرث المال ، فإنّها وإن کانت تشهد بشمول الإرث للمال ، إلّاأنّها لا تستلزم الحصر فی إرث المال .

أمّا الشاهد الأوّل : فدعوی أنّ النبوّة لا تقبل الوراثة ، لعدم قبولها الانتقال ، إضافة إلی أنّ العلم المختصّ بالأنبیاء والرسل وهبیّ من اللّه تعالی ، غیر کسبیّ ، وما یکتسب الآخرون من الأنبیاء لیس هو علم النبوّة ، الذی هو لدی نبیّ لاحق من بعد نبیّ سابق ، فما لدی اللاحق علم جدید ، غیر منتقل من السابق ، فالنبوّة والعلم من اللّه أصالة لا بالوراثة .

فجوابه : أنّ القرآن قد أثبت الوراثة فی النبوّة ، وسائر المقامات الغیبیة ، کما فی قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ* ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ فبیّنت الآیة أنّ الاصطفاء الإلهی انتقل إلی الذرّیة ، من الآباء إلی الأعقاب ، وأنّ دور التنسیل والذرّیة والتوالد بعضهم من بعض ، دخیل فی انتقال الاصطفاء فی الأعقاب ووراثتهم له ، کما أورد فی التعبیر « بآل عمران وآل إبراهیم » للتنبیه والتدلیل علی أنّ الاصطفاء فی هذه البیوتات بمقتضی النسبة والعلاقة الرحمیّة الخاصّة ، ثمّ ذکرت الآیات بعد ذلک اصطفاء مریم بنت عمران ، من عمران الصّفیّ ، کما ذکرت اصطفاء یحیی من زکریّا ، واصطفاء عیسی من مریم ، وکان عیسی ویحیی ابنا خالة .

وکما فی قوله تعالی : أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً (1) .

ص:93


1- (1) النساء : 54 .

فبیّن تعالی أنّ النبوّة والحکمة والإمامة قد تعاقبت فی نسل إبراهیم علیه السلام ، بسبب الوراثة من الرحم ، فیمن هو صالح من الذرّیة ، سابق بالخیرات ، مؤهّل لحمل الأمانة الإلهیّة .

وکما فی قوله تعالی : وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ (1) .

فدعا إبراهیم ربّه بأن یبقی الإمامة وراثةً فی ذرّیته ، وقد استجاب له تعالی ذلک ، فجعل الإمامة باقیة فی عقبه إلی یوم القیامة ، حیث قال : وَ جَعَلَها کَلِمَةً باقِیَةً فِی عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ (2) کما نُبّه وأُشیر إلی ذلک فی روایات أهل البیت علیهم السلام ذیل هذه الآیات .

فهذه جاءت إجابة للدعوة التی دعا بها إبراهیم وإسماعیل ، المتطابقة مع الدعوة السابقة ، حیث قالا : رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ . . . رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ (3)أی وابعث فی هذه الذرّیة والاُمّة المسلمة منها رسولاً من نفس هذه الذرّیة .

وأشار اللّه تبارک وتعالی إلی إجابة الدعوة بجعل الإمامة فی عقبه ونسله ، ونسل إسماعیل ، فی قوله تعالی : یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْکَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّکُمْ وَ افْعَلُوا الْخَیْرَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ* وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ (4) .

ص:94


1- (1) البقرة : 124 .
2- (2) الزخرف : 28 .
3- (3) البقرة : 128 و 129 .
4- (4) الحج : 77 و 78 .

فأنبأ تعالی باجتباء ثُلّة من ذرّیة إبراهیم وإسماعیل من هذه الاُمّة ، وأنّ الرسول صلی الله علیه و آله الخاتم المبعوث فیهم هو من هذه الذرّیة والاُمّة المسلمة ، فبینه وبینهم رَحِمٌ .

کما قد ذکرهم القرآن فی قوله تعالی : سَلامٌ عَلی إِلْ یاسِینَ فسلّم علیهم کما سلّم علی بقیّة النبیّین ، دون آل بقیّة النبیّین ، فإنّ القراءة بفتح الهمزة ومدّها - آل - هی مشهورة من بین القراءات ، وعلی القراءة الاُخری بالکسر ، فالمعنی متّفق علیه أیضاً ، لأنّ الإِل - بالکسر - فی اللغة بمعنی الرحم ، کما فی قوله تعالی :

لا یَرْقُبُوا فِیکُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً (1) ، ویاسین اسم للنبیّ صلی الله علیه و آله .

کما أخبر تعالی بوجود وراثة الاصطفاء فی آل النبیّین فی الاُمم السابقة ، کما فی قوله تعالی المتقدّم فی آل عمران .

وکما فی قوله تعالی فی آل موسی وآل هارون : وَ قالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَنْ یَأْتِیَکُمُ التّابُوتُ فِیهِ سَکِینَةٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَ بَقِیَّةٌ مِمّا تَرَکَ آلُ مُوسی وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِکَةُ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ (2) .

وکما فی قوله تعالی فی آل یعقوب : یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیًّا (3) .

ویشیر إلی الوراثة أیضاً فی هذه الاُمّة فی نسل إبراهیم وإسماعیل قوله تعالی :

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا (4) .

غایة الأمر أنّ الوراثة المعنویة والروحیّة للکمالات لیست من قبیل الوراثة فی

ص:95


1- (1) التوبة : 8 .
2- (2) البقرة : 248 .
3- (3) مریم : 6 .
4- (4) فاطر : 32 .

المال ، وانتقالها الحسّیّ المادّیّ من ید إلی ید .

لطیفة فی الوراثة المعنویّة :

قد ورد فی جملة من الآیات والروایات الإشارة إلی أنّ من الأسباب التکوینیّة للعلم اللدنّی والسبب لجملة من المقامات الغیبیّة والمناصب الإلهیّة ، هو تزوید الأنبیاء والأصفیاء من الأولیاء والأوصیاء وتأییدهم بأرواح مقدّسة من عالم الأمر ، یکون معهم کقوّة من القوی الروحیّة الخادمة لهم ، فتسندهم وتؤیّدهم علی خوارق الأفعال ، وتکون بمثابة نافذة یشرفون بها علی العوالم الغیبیّة الاُخری ، وتظهر منهم غرائب الأحوال والأفعال ، کما فی قوله تعالی : وَ آتَیْنا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّناتِ وَ أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (1) .

وأشار تعالی إلی أنّ هذا التأیید بروح القدس یُورثه تعالی وینقله إلی من یشاء من عباده ، ویختارهم ویصطفیهم ویجتبیهم لذلک ، حیث قال : یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (2) .

وقال تعالی : یُلْقِی الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (3) .

وکذلک قوله تعالی لسیّد الأنبیاء صلی الله علیه و آله : وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ وَ لکِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِی بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (4) .

فالآیة تشیر إلی الارتباط الوثیق بین الروح الذی هو من عالم الأمر والعلم

ص:96


1- (1) البقرة : 253 .
2- (2) النحل : 2 .
3- (3) غافر : 15 .
4- (4) الشوری : 52 .

بالکتاب ، وأنّ هذا الروح الذی هو علم الکتاب نور یُؤیّد ویسدّد الباری تعالی به من یشاء من عباده .

و هذا التأیید لسلسلة من یریدهم ویصطفیهم تعالی من عباده قد أشار إلیه قوله تعالی أیضاً : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا (1) ، فعِلْم الکتاب بتوسّط التأیید بهذا الروح ، ورّثه تعالی بنحو التعاقب إلی سلسلة من اصطفاهم من عباده .

وقد أشارت جملة من الروایات إلی ذلک کما فی صحیحة أبی بصیر ، قال :

« سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه تعالی : وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ .

قال :

خَلْقٌ من خلق اللّه عزّ وجلّ أعظم من جبرئیل ومیکائیل ، کان مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله یُخبره ویسدّده ، وهو مع الأئمّة من بعده »(2) .

وکذلک فی صحیحة أبی بصیر الاُخری ، قال : « سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : وَ یَسْئَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی .

فقال :

خَلْقٌ أعظم من جبرئیل ومیکائیل ، کان مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله ،

وهو مع الأئمّة ، وهو من الملکوت »(3) .

ویُشار فی جملة من الآیات إلی ذلک المقام الغیبیّ للقرآن والکتاب ، والذی حقیقته ذلک الروح ، کما فی قوله تعالی : وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی (4) .

ص:97


1- (1) فاطر : 32 .
2- (2) الکافی : 1 : 273 ، الحدیث 2 .
3- (3) المصدر المتقدّم .
4- (4) الرعد : 31 .

فأثبتت الآیة الکریمة قدرة تسییر الجبال ، وإحیاء الموتی ، وانشقاق الأرض به ، مع أنّ هذه لیست للمصحف الشریف ، بل هی آثار ذلک المقام الغیبیّ ، کما فی قوله تعالی : لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلی جَبَلٍ لَرَأَیْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ (1) .

وممّا یشیر إلی کون هذا الروح أعظم من الملائکة قوله تعالی : یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (2) ، حیث تشیر الآیة أنّ جمیع الملائکة إنّما یتنزّلون ویعرجون بتوسّط هذا الروح .

والخلاصة : أنّ هذا الروح العظیم الذی هو من عالم الأمر والملکوت یؤیّد الباری تعالی به الصفوة من الأنبیاء والأوصیاء ، کقوّة روحیّة مسخَّرة لهم ، وینقلها بنحو التعاقب الوراثیّ من واحد لآخر .

ولیس فی ذلک تناسخ کما ظنّه جملة من الفرق ، فما أبهمه المتکلّمون من کیفیّة إحداث اللّه تعالی العلم لأولیائه وأبهم بیانه علیهم ، قد بیّنته هذه الآیات والروایات من کونه بنحو الانتقال .

ثمّ لا یخفی أنّ هذا الانتقال فی عالم المقامات والمنازل والکمالات الملکوتیّة لیس بمعنی فقد السابق من الأصفیاء لما کان لدیه من ذلک الکمال ، وانتقاله بنحو التجافی عن الموقع الأوّل إلی الموقع الثانی ، بل هو حصول اللاحق إلی المنزل والمقام الذی وصل إلیه السابق من الأهلیّة والمکانة التی یُؤیّد بها بروح القدس ، إذ لا یستعصی علی قدرة ذلک الروح التأیید لجملة الأولیاء ، والتعبیر بالانتقال والوراثة إنّما هو بلحاظ رحیل السابق عن دار الدنیا إلی الرفیق الأعلی ، ووصول النوبة فی الخلافة الإلهیّة إلی اللاحق ، فبلحاظ ذلک المنصب یُقرّر معنی الانتقال والوراثة .

ص:98


1- (1) الحشر : 21 .
2- (2) النحل : 2 .

ولابدّ من الالتفات إلی أنّ هناک جملة من الفوارق بین الوراثة فی المقامات الغیبیّة وبین الوراثة فی الأموال والشؤون المادیّة :

الأوّل : إنّ الوراثة المعنویّة لا تسبّب خلوّ المورِّث من التَّرِکَة المعنویة ، مع أنّها قد انتقلت إلی الوارث ، بخلاف المادّیة .

وإلیه یشیر قول أمیر المؤمنین علیه السلام لکمیل :

« الْمالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ ، والْعِلْمُ یَزْکُو عَلَی الْإِنْفاقِ . . .

اللّهُمَّ بَلَی ! لَاتَخْلُوا الْأَرْضُ مِنْ قائِمٍ للّهِ ِ بِحُجَّةٍ ، إِمّا ظاهِراً مَشْهُوراً ، وَإِمِّا خائِفاً مَغْمُوراً ، . . .

یَحْفَظُ اللّهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَیِّناتِهِ ، حَتَّی یُودِعُوها نُظَراءَهُمْ ، وَیَزْرَعُوها فی قُلُوب أَشْباهِهِمْ »(1) .

الثانی : إنّ قابلیة الوعاء المادّی محدودة ، فإذا امتلأ ضاق عن استیعاب الزائد ، و هذا بخلاف الوعاء فی المقامات المعنویّة ، حیث إنّ الوعاء فیها یزداد سعة بالإملاء ، ولا یضیق بالزائد بل تزداد قابلیته .

وإلیه یشیر قول أمیر المؤمنین علیه السلام :

« کلّ وعاء یضیق بما جُعل فیه إلّاوعاء العلم فإنّه یتّسع » .

الثالث : إنّ الوارث فی الوراثة التکوینیّة لیس من الضروری خلوّه عن الشیء الموروث قبل الوراثة ، ومع ذلک تصدق معه حقیقة الوراثة ، لوجود معنی البقاء للشیء له .

وبالجملة : فإنّ جملة من آثار ولوازم الوراثة الاعتباریّة لا تنسحب علی الوراثة التکوینیّة ، وإن اشترکتا فی أصل معنی الوراثة ، وهو بقاء الشیء للوارث .

وعلی ضوء ما تقدّم من بیان الوراثة المعنویّة والروحیّة یزداد الإشکال جلاءاً فی استدلالهم فی الشاهد الثانی ، فإنّه إن أرید بالشاهد المتقدّم من نفی الوراثة فی

ص:99


1- (1) نهج البلاغة : الخطبة 147 .

النبوّة والمقامات الغیبیة والمعنویة نفی هذا الانتقال المادّی ، فهو صحیح ، لکنّه لا یستلزم نفی وراثة النبوّة ، والعلم اللدنّی ، والمقامات الغیبیة بنمط آخر ، بحیث تکون طینة الوراثة سبباً معِدّاً لتأهّل الذرّیة ، فی نیل هذه الهبات من اللّه تعالی .

فیکون الرحم والتنسیل الذرّی من الأسباب المُعِدَّة ، مع اجتماع بقیّة الشرائط الموجبة لإعطاء اللّه تعالی ، ونقله لتلک المقامات الغیبیّة فی الملکوت لا بنحو العزل عن السابق ، من الأب بعد موته إلی الذرّیة ، فانتصاب وتقلّد تلک المناصب من قبل الولیّ اللاحق ، نحوٌ من الاستخلاف والانتقال .

غایة الأمر أنّ هذه الوراثة ذات طابع تکوینیّ کونیّ ، ولیست ذات طابع اعتباریّ ، کما فی إرث المال ، لا سیّما مع قاعدة تطابق السنن التشریعیة مع السنن التکوینیّة ، وأنّ کلّ معنی قانونیّ أدبیّ اعتباریّ هو فی أصله مأخوذ من تحقّق تکوینیّ کونیّ له .

فمن المحال بناء وتأطیر قانون تشریعی من غیر أن یکون مستلّاً ومأخوذاً من واقع تکوینیّ لذلک المعنی فی الأصل .

أمّا الشاهد الثانی وهو دعوی تبادر میراث الأموال والأعراض من إطلاق المیراث دون میراث العلوم وغیرها ، وأنّه لم یعهد إطلاق الوراثة علی العلوم ، مع ملاحظة عدم الانتقال الحقیقی من المعنی الأوّل إلی الثانی ، فاستعمالها فیها نحو تجوّز وتوسّع لا بدّ له من قرینة .

ففیه : أنّ معنی الإرث کما مرّ هو ، معنی جامع وشامل لکلّ من النمطین - أی وراثة المقامات الملکوتیّة والمالیة معاً - وإذا اطلق شَمَلَهما ، غایة الأمر یتحدّد النمط والمصداق فی کلّ مورد بحسب المتعلّق الذی یسند إلیه الإرث .

وأمّا إطلاق الإرث علی إرث المقامات الغیبیّة من دون اختصاصه بها ، فقد تقدّم فی جملة من الموارد .

ص:100

وبعبارة اخری : إنّ الأصل فی المعانی ، عدم اختصاصها بالمصادیق والأفراد القانونیّة والاعتباریّة ، بل هی شاملة فی الأصل للأفراد التکوینیّة ذات الطابع الکونیّ ، ثمّ ادرجت فیها وأُلحقت بها المصادیق الاعتباریّة القانونیّة ، کما تقدّم التمثیل بجملة من العناوین ، کالملک ، والولایة ، والحقّ ، والأمر ، والعهد ، وذلک لما تقدّم من أنّ المعانی فی الأصل لیست موضوعة للوجود الأدبی القانونی الاعتباری ، بل هی موضوعة فی الأصل للوجود التکوینیّ ، ثمّ تُوسّع فی الوضع بما یشمل الوجود الأدبی الاعتباری القانونی من المصادیق .

الشاهد الثالث وهو استحالة انتقال العلم والنبوّة والمقامات اللدنّیة من محلّ لآخر ، وکونها بمنزلة انتقال العرض من محلّ لآخر .

فجوابه : إنّ وراثة المقامات اللدنّیة الملکوتیّة لیس بمعنی سلب تلک المقامات عن السابق المورِّث ، وتوفّر اللاحق لها بخلوّها عمّن مضی ، أی لیست بنحو التجافی والعزل والإخلاء کما مرّ ، فلیست الوراثة اللدنّیة کانتقال الشیء المادّی من الأموال من موضع لآخر ، إذ طبیعة الشیء المادّی خلوّ الموضع السابق منه بانتقاله إلی موضع آخر ، لأنّ الأمر المادی لا یشغل حیّزین فی آن واحد ، و هذا بخلاف الأمر الملکوتی ، والاُمور الروحانیة ، فإنّها تفاض من العالی إلی التالی ، من دون أن یستلزم تجافیها وخلوّ العالی منها .

غایة الأمر هو اتّساع فی ظهور أنوار الملکوت ، وازدیاد فی انعکاسها فی مرایا النفوس ، فحیث بُنی علی أنّ معنی الإرث والوراثة انتقال شیء من موضع إلی موضع ، بُنی علی مجازیة معنی الوراثة فی المقامات المعنویة ، مع أنّ التوریث لا ینحصر فی أصل معناه ولا یقتصر علی المصادیق والنماذج ذات الوجود الأدبیّ الاعتباری ، شأنه شأن بقیّة المعانی التی لها مصادیق ونماذج اعتباریة ، إلّاأنّها فی أصل وضعها موضوعة للمعنی المنطبق علی المصادیق التکوینیّة الحقیقیّة ،

ص:101

فضلاً عن أن تنحصر بالمصادیق الاعتباریّة الأدبیّة القانونیّة .

بیان ذلک : إنّ الإرث فی أصل معناه لغةً بحسب تتبّع المعنی فی موارد الاستعمال ، هو بقاء الشیء .

قال ابن منظور فی « لسان العرب » : « الوارث صفة من صفات اللّه عزّ وجلّ ، وهو الباقی الدائم الذی یرث الخلائق ، ویبقی بعد فنائهم ، و اللّه عزّ وجلّ یرث الأرض ومن علیها ، وهو خیر الوارثین ، أی یبقی بعد فناء الکلّ . . . وقوله عزّ وجلّ وَ لِلّهِ مِیراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (1) أی اللّه یفنی أهلهما فتبقیان بما فیهما ولیس لأحد فیهما ملک . . .

وفی قوله صلی الله علیه و آله :

اللّهمّ أمتعنی بسمعی وبصری واجعلهما الوارث منّی(2) . أی :

أبقهما معی صحیحین سلیمین حتّی أموت ، وقیل : أراد بقاءهما وقوّتهما عند الکبر وانحلال القوی الجسمانیّة . . . وأورثه الشیء : أعقبه إیّاه . . .

وفی الحدیث :

اثبتوا علی مشاعرکم هذه فإنّکم علی إرثٍ من إرث إبراهیم ، أی إنّکم علی بقیّة من ورث إبراهیم ، الذی ترک الناس علیه بعد موته »(3) .

ویُستشفّ من موارد الاستعمال هذه أنّ الوِرْث فی أصل معناه هو بقاء الشیء ووصوله وانتهاؤه إلی آخَر ، و هذا المعنی فی أصله ینطبق علی البقاء التکوینی للشیء الکونیّ ، ومن ثَمّ استحدثت له مصادیق ونماذج ذات طابع وجود أدبیّ قانونی ، نظیر انتقال ملکیّة الأشیاء والأعیان التی توصف بعنوان اعتباری أدبی وهو المال ، وبقائها عند الوارث بعد موت المورِّث .

ص:102


1- (1) آل عمران : 180 .
2- (2) المستدرک علی الصحیحین : 2 : 142 . مجمع الزوائد : 10 : 178 . کنز العمّال : 2 : 215 ،الحدیث 3827 و 3828 .
3- (3) لسان العرب : مادة « ورث » .

وعلی ضوء هذا التقدیر لعنوان ولفظ الإرث یتبیّن أنّ بقاء العلم اللدنّی فی الطبیعة البشریّة وبقاء المقامات الغیبیة ، وبقاء السبب المتصل بین الطبیعة البشریّة والسماء الذی کان عند نبیّ سابق لدی نبی لاحق ، أو وصیّ یخلُفه ، ینطبق علیه حقیقة معنی الإرث ، لأنه من بقاء الشیء ، وعدم زواله بذهاب السابق من دون أن یستلزم ذلک فقدان السابق لتلک المقامات بحسب دار الآخرة التی ینتقل إلیها .

فلیس الانتقال مأخوذ فی أصل معنی الإرث ، لیستلزم خلوّ السابق منه ، بل هو بقاء الشیء ، ولو بحسب طبیعته ، لا شخص فرده .

و هذا نظیر استعمال عنوان الخلافة فی توریث اللّه تعالی ، واستخلافه الأرض لعباده الصالحین ، کما فی قوله تعالی : إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً (1)فمن الواضح أنّه لا یعنی به عزل الید والقدرة الإلهیّة عن مورد الاستخلاف ، بل تمکین الطرف الآخر من القدرة ، من دون انحسار تلک القدرة عنه تعالی .

وهکذا الحال بالنسبة إلی قوله تعالی : وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ (2) فجعلهم الوارثین للأرض لیس بمعنی انحسار قدرته تعالی عن الأرض .

أو قوله تعالی : وَ لِلّهِ مِیراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ (3) ، فهی لیس بمعنی عدم واجدیّة القدرة الإلهیّة علی ملک السماوات و الأرض من قبل وانتقالها إلیه من بعد ، بل هی بمعنی أنّ القدرة الباقیة علی السماوات والأرض هی للّه تعالی .

ونظیر ذلک أیضاً ما ورد فی عنوان الوکالة ، والتی هی ضرب من التخویل

ص:103


1- (1) البقرة : 30 .
2- (2) القصص : 5 .
3- (3) آل عمران : 180 .

والتنویب ، ومعناها فی أصل طبیعته ذو مصادیق ذات طابع تکوینی ، ووسّع إلی المصادیق ذات الوجود الاعتباری ، والمصادیق الاعتباریّة تختلف عن المصادیق التکوینیّة من حیث اللوازم والآثار ، ممّا یوجب الغرابة فی انطباق المعنی علی المصادیق التکوینیّة التی هی الأصل فی المعنی ، و ذلک نتیجة الأنس والانشداد والعکوف علی تعاطی اللفظ فی المصادیق الاعتباریّة .

فمثلاً فی الوکالة الاعتباریّة یکون الموکّل منحسراً عن الإشراف فی صعید الفعل الذی هو مورد التوکیل ، بینما لیس الحال کذلک فی الوکالة التکوینیّة ، کما فی قوله تعالی : قُلْ یَتَوَفّاکُمْ مَلَکُ الْمَوْتِ الَّذِی وُکِّلَ بِکُمْ ثُمَّ إِلی رَبِّکُمْ تُرْجَعُونَ (1) ، مع أنّ الباری تعالی لا تنحسر قدرته عن الفعل الذی أقدر ملک الموت علیه ، وهو إماتة جمیع الکائنات الحیّة ، بل تعالی أقدر منه فیما أقدره علیه ، وقدرة ملک الموت برمّتها هی بحول من اللّه وقوّته .

فنری أنّ طبیعة الوکالة التکوینیّة تختلف فی جملة خصائصها وأحکامها عن الوکالة الاعتباریّة .

ونظیر ذلک فی عنوان الزوجیّة ، فإنّ هذا المعنی والعنوان فی الأصل ذو مصادیق تکوینیّة ، إلّاأنّ شأنه شأن بقیّة المعانی والعناوین تُوسّع فیها إلی المصادیق ذات الوجود الأدبی القانونی الاعتباری ، وأُخذ العنوان والمعنی فی ضلّ المصادیق الاعتباریّة ، مع ما له من آثار تختلف عن العنوان والمعنی فی وجوده فی المصادیق التکوینیّة ، ولترکیز الاستعمال وکثرته فی المصادیق الاعتباریّة استوحش من صدقه واستعماله فی المصادیق التکوینیّة ، والذی هو الأصل فی الوضع ، مثل قوله تعالی :

سُبْحانَ الَّذِی خَلَقَ الْأَزْواجَ کُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّا لا یَعْلَمُونَ 2

ص:104


1- (1) السجدة : 11 .

أو قوله تعالی : وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتّی (1) فإنّ الزوجیة التکوینیّة هی ممّا تشتمل علی ارتباط وعلاقة تفاعل تکوینی ، بخلاف الزوجیة الاعتباریّة فإنّها علقة فرضیة اعتباریة ، وإن تسبّبت فی حدوث آثار تکوینیّة .

وغیرها من الأمثلة التی یقف علیها الباحث بالتتبّع ، الدالّة علی أنّ المعانی التی تستعمل فی الموارد ذات الوجود القانونی الاعتباری الأدبی ، هی فی أصل وضعها موضوعة للموارد ذات الوجود التکوینی .

الشاهد الرابع : وهو أنّ النبوّة متوقّفة علی علم اللّه سبحانه وتعالی بصلاح الخلق ، وما یحدثه تعالی من تسدید النبیّ لبیان ذلک ، وتصدیق الناس له ، ولا مدخل للنسب فیها ، کما أنّ العلم موقوف علی اکتساب الشخص له وتعلّمه .

وجوابه : إنّ النبوّة وبقیّة المقامات الغیبیّة لا ریب فی دخالة جملة من العوامل المؤثّرة فیها ضمن نظام التکوین للسنن الإلهیّة ، ومجموعها أسباب کثیرة ، کما هو الحال فی جملة من التقدیرات الإلهیّة لعظائم الاُمور المهمّة ، کنظام الخلقة والتکوین ، و هذا لا ینفی کون البیئة الوراثیة أحد تلک العوامل المؤثّرة ، ولو من جهة الإعداد ، ولیس المراد الحصر والتأثیر بالنسب ، ولکن أحد الأسباب المهمّة الدخیلة هی طهارة الأعراق ، ونجابة الأصل ، وکرامة المعدن ، ومن ثَمّ أنّ الوراثة بالنسب للمقامات المعنویة یشترط فیها شرائط تزید علی شرائط وراثة المال کما مرّ سابقاً .

الشاهد الخامس : لو کان العلم والنبوّة ممّا یورّث ، لکان جمیع من علی وجه الأرض أنبیاء وعلماء ، من أولاد آدم والنبیّین ، إذ المیراث لا یختصّ بواحد من الورثة دون الآخر .

وجوابه : إنّ الوراثة بالنَّسب یشترط فیها جملة من الشرائط الاُخری ، لا تتوفّر

ص:105


1- (1) طه : 53 .

فی الأغلب إلّافی سلسلة حلقات خاصّة ، کما فی هابیل دون قابیل ، وفی هبة اللّه شِیث دون أولاد قابیل ، إلی أن تصل السلسلة إلی نوح ، ثمّ فی أولاد نوح وهو سام ، وهکذا إلی إبراهیم وآل إبراهیم ، وآل عمران ، وآل إسماعیل .

کما أنّ هذه الوراثة لم یتناسلها کلّ من کان فی ذرّیة إبراهیم ، کما قال اللّه تبارک وتعالی فی جواب دعاء إبراهیم لذرّیته بالإمامة بعد نیله إیاها : لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ فاستثنی تعالی الظالم منهم ، وخصّها بالذی لا یرتکب الذنب ، فدلّ علی أنّ هذه الوراثة یشترط فیها الطهارة من الذنوب کما مرّ .

وکما فی قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ (1) .

فخصّ تعالی الوراثة اللدنّیة للکتاب لمن اصطفاهم ، وهم البعض من العباد ، والعباد بعض منهم ظالم لنفسه ، وبعض مقتصد ، أی علی درجة متوسّطة من الخیر وسبیل الهدی ، وبعض منهم سابق بالخیرات ، بتمکین من اللّه عزّ وجلّ من لدنه ، وهو الفضل الکبیر .

فلم یجعل الوراثة المعنویّة للکتاب من نصیب المقتصد فضلاً عن الظالم لنفسه ، بل خصّها بمن اصطفاهم ، وهم السابقون بالخیرات ، فتدلّ الآیة علی شرطیة اخری لوراثة الکتاب اللدنّیة المعنویة ، وهی وراثة خاصّة من بین المقامات الغیبیة المعنویة ، وهو عدم الاکتفاء فیها بالبراءة عن ارتکاب الذنب ، والاعتدال فی السلوک والأخلاق ، بل هذا المقام من الوراثة یشترط فیه کون الوارث سابق بالخیرات ، وهو الرائد فی کلّ خیر من الخیرات ، لا یتفوّق علیه أحد ، کیف لا و هذا المقام من الوراثة اللدنّیة هو من أعظم المقامات ، لأنّها وراثة وإحاطة بالعلم بالکتاب کلّه ، الذی هو مهیمِن علی جمیع الکتب السابقة .

ص:106


1- (1) فاطر : 32 .

الشاهد السادس : عدم اختصاص العلم والدین بالولد الوارث ، بل یشمل ذلک جمیع الاُمّة ، ممّن هو مرضی منها ، بل لعلّ الولد الوارث یکون غیر مرضیّ .

فجوابه : ما مرّ مراراً ، من أنّ الولادة لیس هی تمام الموضوع والسبب للوراثة اللدنّیة ، بل هی أحد الشرائط المهمّة ، فلا هی تمام الموضوع ، ولا هی أجنبیّة عن أرکان موضوع الوراثة ، فأحد الأسباب المؤثّرة غایة التأثیر هی البیئة الوراثیّة والتربویّة . وقد مرّ أنّ الآیات دالّة علی شرطیة التوالد من السلالة الطاهرة فی الاصطفاء الإلهیّ .

الشاهد السابع : إنّ خوف زکریّا من بنی عمّه من جهة انتهاء المال إلیهم ، دون العلم والنبوّة ، لعلمه بأنّ اللّه تعالی لا یبعث نبیّاً لیس أهلاً لذلک ، ولا یورَّث العلم والحکمة من لیس أهلاً ، بخلاف المال فإنّه یرثه الصالح والطالح .

فجوابه : أنّه کان فی بنی إسرائیل کثرة من الأنبیاء ، فلم یکن بقاء النبوّة متعیّن أن یکون من نسل زکریّا ، إذ من الممکن أن یکون الوارث فی آل یعقوب من نسل أنبیاء آخرین .

أضف إلی ذلک أنّ الوارد فی روایة عن الإمام الباقر علیه السلام ، رواها علیّ بن إبراهیم :

أنّ خوفه کان مِن استیلاء مَن لیس أهلاً لمنصب إدارة الأموال العامّة ، أی فی المناصب الدینیّة فی ملّة بنی إسرائیل .

فقد روی علی بن إبراهیم قال : روی أبو الجارود عن أبی جعفر علیه السلام فی ذیل الآیة :

« ولم یکن لزکریّا یومئذٍ ولد یقوم مقامه ویرثه ، وکانت هدایا بنی إسرائیل ونذورهم للأحبار ، وکان زکریّا رئیس الأحبار ، وکانت امرأة زکریّا اخت(1) مریم بنت عمران بن ماثان ، وبنو ماثان إذ ذاک رؤساء بنی إسرائیل ، وبنو ملوکهم ، وهم من ولد سلیمان بن

ص:107


1- (1) الظاهر أنّ الاشتباه من الراوی ، حیث إنّها اخت امّ مریم .

داود . . . الخ »(1) .

فتکون الآیة نصّاً فی المطلوب لقاعدة الوراثة ، والتی نحن بصددها ، ونصّاً فی مورد احتجاج فاطمة علیها السلام فی منصب ولایتها ، وولایة أهل البیت علیهم السلام علی الفیء ، وعلی فدک ، وأنّ الوراثة هی وراثة للمناصب الإلهیّة الدینیّة الشاملة للولایة علی الأموال العامّة .

وبذلک یتبیّن أنّ الوراثة لیست منحصرة فی الأموال الخاصّة ، بل شاملة للولایة علی الأموال العامّة ، وللمقامات المعنویة .

الشاهد الثامن : إنّ علم الشرائع وعلم الدین لابدّ من نشره وبثّه فی سائر الناس حتّی بین الأشرار منهم ، وبنو عمّ زکریّا من جملة الاُمّة الذین بُعث لاطلاعهم علی ذلک ، فکیف یخاف من وصوله إلیهم ، وأمّا العلوم الغیبیّة اللدنّیة فلا یتصوّر الخوف من انتشارها ، حیث إنّه لا سبیل إلیها إلّاعنه علیه السلام .

وجوابه : إنّ علم الشرائع لا یمکن تحمّله بأکمله من غیر الأصفیاء ، لأنّ تأویل الشریعة بحرٌ لا ینفد ، وکون الغرض من الشریعة بثّها ، لا یعنی إحاطة الناس بتفاصیل أسرار وأعماق الشریعة ، بل ذلک لیس فی مقدور الفقهاء ، والعلماء ، والأحبار ؛ لأنّ أسرار الشریعة سیاسة إلهیّة ، وحکمة ربّانیة لتربیة خلقه ، لا یُطلع علیها إلّا أصفیاءه من أولیائه الحجج ، وإلی ذلک یشیر قوله تعالی حول تأویل الشریعة :

وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ فخصّ علم تأویل الشریعة بهم .

وکذا قوله تعالی : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ* فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ* لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ وقوله تعالی : بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ وقد مرّ فی قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فخصّ

ص:108


1- (1) تفسیر القمّی : 2 : 48 ، مطبعة النجف .

توریث الکتاب کلّه بمن اصطفاهم من عباده .

وأمّا بالنسبة إلی العلوم اللدنّیة الغیبیة الاُخری ، فتصوّر الخوف علیها ، من جهة أنّ بقاءها متوقّف علی بقاء سلسلة من یصطفیه اللّه تعالی لحمل تلک العلوم ، فالتخوّف من ارتفاعها من جهة عدم وجود العَقِب ، وهذه العلوم هی مصدر هدایة بنی إسرائیل ، وعلیه یکون التخوّف علیهم من زوالها والتخوّف من ضلالهم .

ص:109

الآیة الخامسة : فی الوراثة الاصطفائیّة
اشارة

قوله تعالی : وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ (1) .

ومن الملفت فی مفاد الآیة وشأن نزولها أنّها بصدد الوراثة الاصطفائیّة لمقامات النبیّ صلی الله علیه و آله ، وأنّ الذی یستحقّ هذه الوراثة هم الأقربون من قرباه ، ولکن تحت شرائط خاصّة بالوراثة الاصطفائیّة ، قد بیّنها النبیّ صلی الله علیه و آله فی حدیث الدار المرویّ عند الفریقین .

ومؤدّی هذا الحدیث المستفیض ، أنّ الوارث بالوراثة الاصطفائیّة لمقامات النبیّ الغیبیّة من قرباه الأقربین لا بدّ أن یتأهّل ویتوفّر علی شرائط خاصّة ، کما أنّ الآیة تؤکّد رکناً هامّاً وهو أنّ مقامات النبیّ صلی الله علیه و آله ومناصبه الإلهیّة یَخلُفه فیها الأقرب من قرباه ، الواجد لشرائط الاصطفاء ، بنصب من اللّه تبارک وتعالی .

وتقریب بیان الآیة أنّه قد ورد فی قراءتها عطف لفظ «ورهطک منهم المخلصین» ، والرهط فی اللغة القرابة الأدنَون والعترة ، ورهط الرجل عترته وقرابته الأدنَون .

قال الجوهری : عترة الرجل : « نسله ورهطهُ الأدنون »(2) .

وقال الراغب : « العشیرة : أهل الرجل الذین یتکثّر بهم ، أی یصیرون له بمنزلة العدد الکامل »(3) .

ص:110


1- (1) الشعراء : 214 .
2- (2) الصحاح : 1 : 2 .
3- (3) مفردات غریب القرآن : 335 .

فقد روی مسلم فی « صحیحه » فی کتاب الإیمان باب قوله تعالی : وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ . . .) أنّه « . . . لمّا نزلت هذه الآیة (وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ و رهطک منهم المخلصین . . .)»(1) وهذه القراءة کالتفسیر لمعنی الأقربین ، وهم رهطه المخلصین .

و أخرج السیوطی ، عن ابن جریر ، عن عمرو بن مرّة ، أنّه کان یقرأ « وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ و رهطک منهم المخلصین ».

و أخرج السیوطی أیضاً عن ابن مردویه عن ابن عبّاس . . . الحدیث(2) .

قیل : « إنّما خصّ الإنذار بالأقربین لدفع توهّم المحاباة ، و أن الاهتمام بشأنهم ، و أن البدء یکون بمن یلی ، ثمّ بعده »(3) .

وسیأتی بطلان هذه المقولة ، وأنّ التخصیص نوع اصطفاء .

دلالة الآیة علی الوراثة الاصطفائیّة فی روایات أهل السنّة :

أخرج فی « کنز العمّال » : عن ابن جریر الطبری ، وابن أبی حاتم ، وابن مردویه ، وأبی نعیم فی الدلائل ، عن علیّ علیه السلام قال :

« لمّا نزلت هذه الآیة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ دعانی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال : یا علیّ ، إنّ اللّه أمرنی

ص:111


1- (1) صحیح مسلم : 1 : 134 .ورواه البخاری صحیحه : 6 : 94 ، ذیل تفسیر سورة المسد .ورواه ابن أبی حاتم فی تفسیره کذلک : 10 : 3473 .ورواه البغوی فی تفسیره : 3 : 401 .ورواه الثعالبی فی : 4 : 448 .ورواه القرطبی فی تفسیره فی عدة مواضع منها : 13 : 413 و 4 : 132 و 20 : 234 .ورواه ابن حبان فی صحیحه : 14 : 487 .ورواه البیهقی فی سننه : 9 : 7 ، باب مبتدأ الفرض علی النبیّ .
2- (2) الدرّ المنثور : 5 : 96 و 97 .
3- (3) روح المعانی : 19 : 135 .

أن أنذر عشیرتی الأقربین ، فضقت بذلک ذرعاً ، وعرفت أنّی متی ما انادیهم بهذا الأمر أری منهم ما أکره ، فَصَمَتُّ حتّی جاء جبرئیل فقال : یا محمّد ، إنّک إن لا تفعل ما تؤمر به یُعذّبک ربّک ، فاصنع لنا صاعاً من طعام ، واجعل علیه رجل شاة ، واملأ لنا عُسّاً من لبن ، ثمّ اجمع لی بنی عبد المطّلب حتّی أکلمهم ، وأبلّغهم ما أُمرت به ، ففعلت ما أمرنی به ، ثمّ دعوتهم ، وهم یومئذٍ أربعون رجلاً ، یزیدون رجلاً أو ینقصونه ، فیهم أعمامه ، أبو طالب ، وحمزة ، والعبّاس ، وأبو لهب .

فلمّا اجتمعوا إلیه دعانی بالطعام الذی صنعته لهم فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول اللّه صلی الله علیه و آله حِذیَة من اللحم فشقّها بأسنانه ، ثمّ ألقاها فی نواحی الصُّحفة ، قال :

خذوا باسم اللّه ، فأکل القوم حتّی ما لهم بشیء حاجة ، وما أری إلّامواضع أیدیهم ،

وأیم اللّه الذی نفس علیّ بیده ، إن کان الرجل الواحد لیأکل ما قدّمت لجمیعهم .

ثمّ قال : إسق الناس ، فجئتهم بذلک العُسّ ، فشربوا حتّی رووا منه جمیعاً ، وأیم اللّه ، إن کان الرجل الواحد لیشرب مثله .

فلمّا أراد رسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یکلّمهم ، بدره أبو لهب إلی الکلام ، فقال : لقد سحرکم صاحبکم ، فتفرّق القوم ولم یکلّمهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقال : الغد یا علیّ ، إنّ هذا الرجل قد سبقنی إلی ما قد سمعت من القوم ، فتفرّق القوم قبل أن أکلّمهم ، فأعدّ لنا من الطعام مثل الذی صنعت ، ثمّ اجمعهم .

قال : ففعلت ثمّ جمعتهم ، ثمّ دعانی بالطعام فقرّبته لهم ، ففعل کما فعل بالأمس ،

فأکلوا حتّی ما لهم بشیء حاجة .

قال : إسقهم ، فجئتهم بذلک العُسّ حتّی رووا منه جمیعاً .

ثمّ تکلّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ،

فقال : یا بنی عبد المطّلب ، إنّی و اللّه ما أعلم شابّاً فی العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتکم به ، إنّی قد جئتکم بخیر الدنیا والآخرة ،

وقد أمرنی اللّه أن أدعوکم إلیه ، فأیّکم یؤازرنی علی أمری هذا ، علی أن یکون أخی وکذا وکذا ؟

ص:112

قال : فأحجم القوم عنها جمیعاً .

فقلت - و أنا أحدثهم سنّاً ، وأرمصهم عیناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً - :

أنا یا نبیّ اللّه أکون وزیرک علیه .

فأخذ برقبتی وقال : إنّ هذا أخی ، ووصیّی ، وخلیفتی فیکم ، فاسمعوا له وأطیعوا ،

فقام القوم یضحکون ، و یقولون لأبی طالب : قد أمرک أن تسمع وتطیع لعلیّ »(1) .

و أخرج فی « کنز العمال » أیضاً عن ابن جریر ، عن علیّ ، قال : « إنّه قیل له :

کیف ورثت ابن عمّک دون عمّک ؟

فقال :

جمع رسول اللّه صلی الله علیه و آله بنی عبد المطّلب ، فیهم رهطٌ ، کلّهم یأکل الجذعة ویشرب الفرق . . .

إلی أن قال :

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : یا بنی عبد المطّلب ، إنّی بعثت إلیکم خاصّة ، وإلی الناس عامّة ، وقد رأیتم من هذه الآیة ما رأیتم ، فأیّکم یبایعنی علی أن یکون أخی ،

وصاحبی ، ووارثی ؟ فلم یقم إلیه أحد ،

فقمت إلیه ، وکنت من أصغر القوم ، فقال :

إجلس .

ثمّ قال ثلاث مرات ، کلّ ذلک أقوم إلیه فیقول لی : إجلس ، حتّی کان فی الثالثة ضرب بیده علی یدی .

قال :

فلذلک ورثت ابن عمّی دون عمّی »(2) .

وفی « مسند أحمد » بإسناده عن علیّ علیه السلام أنّه :

« فقال لهم : مَن یضمن عنّی دینی ،

ومواعیدی ، ویکون خلیفتی فی أهلی ؟ »(3) .

ورواها « الطبری فی تفسیره » ، بإسناده عن علیّ علیه السلام فی ذیل الآیة .

ص:113


1- (1) کنز العمّال : 6 : 396 ، وقریب منها فی تفسیر الطبری ذیل آیة الإنذار : 19 : 123 .
2- (2) کنز العمّال : 2 : 396 .
3- (3) مسند أحمد : 1 : 111 .

وروی سبط ابن الجوزی فی « التذکرة » ، عن أحمد بن حنبل فی « الفضائل » ، بإسناده عن السلوی ، وکان قد شهد حجّة الوداع ، قال : « سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول فی ذلک الیوم :

علیّ منّی و أنا منه ، ولا یقضی دینی سواه .

قیل : قاله یوم نزل علیه وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ »(1) .

وذکر الراغب الأصفهانی فی « المفردات » : « روی بلفظ :

أنت أخی ووارثی .

قال : وما أرث منک یا رسول اللّه ؟

قال :

ما ورّثت الأنبیاء من قبلی .

قال : وما ورّثت الأنبیاء من قبلک ؟

قال :

کتاب ربّهم وسنّتی »(2) .

أقول : والمحصّل من هذه الروایات من طرق العامّة هو :

1 - إنّ الآیة نزلت فی توریث بعض الأقربین من رهطه المخلصین وراثة اصطفاء .

2 - إنّ هذه الوراثة هی وراثة اصطفاء ، وأنّ قوامها بالقَرابة لسلالة النبیّین .

3 - إنّ من شرائط وراثة الاصطفاء للوارث من القربی هی مؤازرة الوارث للمورِّث فی أمر السماء ، وصیرورته وزیراً له ، یشرکه فی أعباء ما حُمّل من أمانة الدین والرسالة ، وإبلاغها ، وإقامتها ، و أن یضمن عن المورِّث عداته المترتّبة علی مقاماته ، ومناصبه الدینیّة ، کسفیر من السماء إلی البشر ، فیکون ضامناً له فی کلّ عهوده وعقوده السیاسیّة ، التی أبرمها مع الجماعات ، والملل ، و النحل ، والدول .

وغیرها من الشرائط التی تختلف فیها وراثة الاصطفاء عن الوراثة المالیة العادیة .

ص:114


1- (1) تذکرة الخواص لسبط ابن الجوزی : 44 .
2- (2) مفردات غریب القرآن للراغب الأصفهانی : 519 .
آیة الإنذار وشرائط الوراثة الاصطفائیّة

فقد روی الصدوق بسند معتبر ، عن الریّان بن الصّلت ، قال : « حضر الرضا علیه السلام مجلس المأمون بمَرو ، وقد اجتمع فی مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان . فقال المأمون : أخبرونی عن معنی هذه الآیة : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا .

فقالت العلماء : أراد اللّه عزّ وجلّ بذلک الاُمّة کلّها .

فقال المأمون : ما تقول یا أبا الحسن ؟

فقال الرضا علیه السلام :

لا أقول کما قالوا ، ولکنّی أقول : أراد اللّه عزّ وجلّ بذلک العترة الطاهرة .

فقال المأمون : وکیف عنی العترة من دون الاُمّة ؟

فقال له الرضا علیه السلام :

إنّه لو أراد الاُمّة لکانت أجمعها فی الجنّة ، لقول اللّه عزّ وجلّ :

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ ، ثمّ جمعهم کلّهم فی الجنّة ، فقال عزّ وجلّ : جَنّاتُ عَدْنٍ یَدْخُلُونَها یُحَلَّوْنَ فِیها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ الآیة(1)

فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغیرهم .

فقال المأمون : من العترة الطاهرة ؟

فقال الرضا علیه السلام :

الذین وصفهم اللّه فی کتابه فقال عزّ وجلّ : إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً (2) ،

وهم الذین قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : إنّی مخلّف فیکم الثقلین ، کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی ، ألا وإنّهما لن یفترقا حتّی یردا علیّ الحوض ، فانظروا کیف تخلفونی فیهما . أیّها الناس ، لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منکم .

ص:115


1- (1) فاطر : 32 و 33 .
2- (2) الأحزاب : 33 .

قالت العلماء : أخبرنا یا أبا الحسن عن العترة ، أهم الآل أم غیر الآل ؟

فقال الرضا علیه السلام :

هم الآل .

فقالت العلماء : فهذا رسول اللّه صلی الله علیه و آله یؤثَر عنه أنّه قال :

اُمّتی آلی ، وهؤلاء أصحابه ، یقولون بالخبر المستفاض ، الذی لا یمکن دفعه : آل محمّد امّته .

فقال أبو الحسن علیه السلام :

أخبرونی فهل تحرم الصدقة علی الآل ؟

فقالوا : نعم .

قال :

فتحرم علی الاُمّة ؟

قالوا : لا .

قال :

هذا فرق بین الآل والاُمّة . ویْحکم أین یذهب بکم ، أضربتم عن الذکر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون(1) ،

أما علمتم أنّه وقعت الوراثة والطهارة علی المصطفین المهتدین دون سائرهم ؟

قالوا :

ومن أین یا أبا الحسن ؟

فقال : من قول اللّه عزّ وجلّ : وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِیمَ وَ جَعَلْنا فِی ذُرِّیَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْکِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ کَثِیرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (2) ،

فصارت وراثة النبوّة والکتاب للمهتدین دون الفاسقین .

أما علمتم أنّ نوحاً حین سأله ربّه عزّ وجلّ : فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی وَ إِنَّ وَعْدَکَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْکَمُ الْحاکِمِینَ (3) و ذلک أنّ اللّه عزّ وجلّ وعده أن ینجیه وأهله ، فقال ربّه عزّ وجلّ : یا نُوحُ إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صالِحٍ

ص:116


1- (1) إشارة لقوله تعالی : أَ فَنَضْرِبُ عَنْکُمُ الذِّکْرَ صَفْحاً أَنْ کُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِینَ الزخرف : 5 .
2- (2) الحدید : 26 .
3- (3) هود : 45 .

فَلا تَسْئَلْنِ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّی أَعِظُکَ أَنْ تَکُونَ مِنَ الْجاهِلِینَ (1) .

فقال المأمون : هل فضّل اللّه العترة علی سائر الناس ؟

فقال أبوالحسن :

إنّ اللّه عزّوجلّ أبان فضل العترة علی سائر الناس فی محکم کتابه .

فقال له المأمون : وأین ذلک من کتاب اللّه ؟

فقال له الرضا علیه السلام :

فی قول اللّه عزّ وجلّ : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ* ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (2) .

وقال عزّ وجلّ فی موضع آخر : أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً (3) .

ثمّ ردّ المخاطبة فی أثر هذه إلی سائر المؤمنین ، فقال : یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ

یعنی الذی قرنهم بالکتاب والحکمة وحُسدوا علیهما .

فقوله عزّ وجلّ : أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً

یعنی الطاعة للمصطفین الطاهرین ، فالملک هاهنا هو الطاعة لهم .

فقالت العلماء : فأخبرنا هل فسّر اللّه عزّ وجلّ الاصطفاء فی الکتاب ؟

فقال الرضا علیه السلام :

فسّر الاصطفاء فی الظاهر سوی الباطن فی اثنی عشر موطناً وموضعاً . . . فقول اللّه عزّ وجلّ فی آیة التحریم : حُرِّمَتْ عَلَیْکُمْ أُمَّهاتُکُمْ وَ بَناتُکُمْ

ص:117


1- (1) هود : 46 .
2- (2) آل عمران : 33 .
3- (3) النساء : 54 .

وَ أَخَواتُکُمْ... الآیة(1) ، فأخبرونی هل تصلح ابنتی وابنة ابنی وما تناسل من صلبی لرسول اللّه صلی الله علیه و آله أن یتزوجها لو کان حیّاً ؟

قالوا : لا .

قال :

فأخبرونی هل کانت ابنة أحدکم تصلح له أن یتزوجها لو کان حیّاً ؟

قالوا : نعم .

قال :

ففی هذا بیان ، لأنّی أنا من آله ولستم من آله ، ولو کنتم من آله لَحرُم علیه بناتکم کما حَرُم علیه بناتی ، لأنّی من آله وأنتم من امّته ، فهذا فرق بین الآل والاُمّة ،

لأنّ الآل منه ، والاُمّة إذا لم تکن من الآل فلیست منه »(2) .

شرائط الوارث فی وراثة الاصطفاء :

ویظهر من الروایة بیان لجملة من شرائط وراثة الاصطفاء ، استشهاداً بجملة من الآیات :

الأوّل : إنّ الوارث هو من الذریّة لا من مطلق القرابة ، أی ممّن یکون محرَّماً ، استناداً إلی قوله تعالی : وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِیمَ وَ جَعَلْنا فِی ذُرِّیَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْکِتابَ . . . (3) .

وکذلک قوله تعالی : إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی... (4) .

وکذا قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی

ص:118


1- (1) النساء : 23 .
2- (2) تحف العقول : 425 و 436 . أمالی الصدوق : 625 و 636 . بحار الأنوار : 25 : 233 - 244 . الحدائق الناضرة : 12 : 403 - 414 .
3- (3) الحدید : 26 .
4- (4) البقرة : 124 .

اَلْعالَمِینَ*ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ... (1) .

وغیرها من الآیات المتعدّدة التی أخذت عنوان الذُّرّیة فی وراثة الاصطفاء .

الثانی : إنّ الوارث طاهر من الذنوب والمعصیة : و ذلک استناداً إلی قوله تعالی :

إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً (2) .

وکذلک قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ (3) .

وکذا قوله تعالی : إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ (4) .

الثالث : إنّ الوارث من الذرّیة مهتد ، لا ضالٌّ ولا فاسق : و ذلک استناداً إلی قوله تعالی : وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِیمَ وَ جَعَلْنا فِی ذُرِّیَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْکِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ کَثِیرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (5) .

وکذا قوله تعالی : فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی وَ إِنَّ وَعْدَکَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْکَمُ الْحاکِمِینَ* قالَ یا نُوحُ إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهْلِکَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَیْرُ صالِحٍ . . . (6) .

الرابع : إنّ الوارث هو الأقرب فی القرابة : و ذلک استناداً إلی قوله تعالی :

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ (7) .

ص:119


1- (1) آل عمران : 34 .
2- (2) الأحزاب : 33 .
3- (3) فاطر : 32 .
4- (4) البقرة : 124 .
5- (5) الحدید : 26 .
6- (6) هود : 46 .
7- (7) الأنفال : 75 .

وقوله تعالی : وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ (1) .

الخامس : إنّ الوارث سابق بالخیرات : و ذلک استناداً إلی قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ (2) ، أی لا یسبقه أحد فی أیّ سبیل من سُبل الخیر ، ولذا ورد عن أهل البیت علیهم السلام فی أکثر من موضع قولهم :

« لو کان خیراً ما سبقونا إلیه »(3) .

السادس : کونه مخلصاً للّه تبارک وتعالی کما فی قوله تعالی علی قراءة ابیّ بن کعب ، ومصحف عبد اللّه بن مسعود : « وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ و رهطک منهم المخلصین » فقیّد الوارث من الأقربین أن یکون من المخلصین ، وکذلک فی جملة من الروایات التی رووها ، کما مرّت الإشارة إلیه .

السابع : أن تقع الخیرة الإلهیّة والاصطفاء علیه ، فیختار اللّه تبارک وتعالی من الذرّیة من هو أهل لهذه الوراثة ، استناداً إلی قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا (4) .

واستناداً إلی لفظ « جعلنا » فی قوله تعالی وَ جَعَلْنا فِی ذُرِّیَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ (5) .

ولفظ « یرید اللّه » فی قوله تعالی : إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً .

وقوله تعالی : وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ یَخْتارُ ما کانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ (6) .

ص:120


1- (1) الشعراء : 214 .
2- (2) فاطر : 32 .
3- (3) کما فی التهذیب للطوسی : 6 : 126 . الکافی : 5 : 19 ، وغیرهما .
4- (4) فاطر : 32 .
5- (5) الحدید : 26 .
6- (6) القصص : 68 .

الثامن : کلّ ما اشترط من شرائط وراثة المال ، حیث إنّ هذه الوراثة الاصطفائیّة أُخذ فیها الشرائط العامّة فی الوراثة ، وزید فیها شرائط اخری .

التاسع : قبول الوارث وتعهّده بمیثاق الاصطفاء ، فإنّ الاصطفاء مقام یتضمّن مسؤولیّات وتکالیف خاصّة لهذا المقام ، و تلک المسؤولیات والوظائف تختلف بحسب مقام الاصطفاء ، حیث إنّ الاصطفاء هو الاختیار الإلهیّ للمناصب الإلهیّة ، وتختلف فیها المسؤولیات ، فمثلاً فی قوله تعالی : وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ (1) .

فاشترط اللّه تعالی الإیمان بخاتم النبیّین علیهم فی میثاق اصطفائهم للنبوّة ، والتعهّد بنصرته ، و أخذ علیهم المیثاق الغلیظ المشدّد ، وأقام الاشهاد علیهم .

وکذلک فی حدیث الدار ، وعند نزول قوله تعالی : وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ ، حیث کان ذلک الإنذار میثاق تعاقد لاصطفاء الوصیّ ، والوزیر ، والإمام ، والخلیفة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، علی أن یؤازره علی أمر الدین ، ویشارکه فی حمل أعباء أمانة الدین ، ویقضی دیونه ، أی التزاماته بما هو رسول وحاکم من قبل اللّه تعالی ، ومواعیده أی عهوده المبتدأة مع الآخرین .

الفارق بین الوراثة الاصطفائیّة والوراثة فی المال الخاصّ :

إنّ هناک تغایراً جوهریّاً بین طبیعة الوراثة المالیة والوراثة الاصطفائیّة ، کما أنّ هناک اختلافاً فی الآثار بتبع ذلک ، فهناک فوارق وتمایز فی جهة الموضوع ، وکذلک فی جهة الحکم والآثار ، وإن کان بینهما جامع فی أصل التوریث ، وحصول الوارث

ص:121


1- (1) آل عمران : 81 .

علی أمور وأشیاء من المورِّث ، من هنا اتّجه البحث لبیان الفوارق ، لئلّا یقع الخلط بینهما ، لا سیّما وأنّ الوراثة الاصطفائیّة لها بُعد عقائدیّ مهمّ ، وکثیراً ما یحصل سرایة قواعد وأُطر الوراثة المالیة إلی الوراثة الاصطفائیّة .

وبالأحری فإنّ الوراثة الاصطفائیّة مغفول عنها فی أذهان الکثیر من المسلمین ، وینسبق إلی أذهانهم الوراثة المالیة حصریاً ، بینما الوراثة الاصطفائیّة هی أخطر شأناً فی المصیر العامّ للاُمّة والدِّین .

ولنستعرض جملة من الفوارق کی یتمّ التعرّف علی الوراثة الاصطفائیّة وأهمّیتها ، وآثارها ، والانقیاد إلی الالتزام بها ، لا سیّما وأنّها فریضة عقائدیة ، ولیست هی کفرائض الأموال :

الفارق الأوّل : إنّ الشرائط التی یلزم توفّرها فی الوارث الاصطفائی تزید علی الشرائط التی یلزم توفّرها فی الوارث المالی ، أی أنّه یشترط فیه مضافاً إلی شرائط الوراثة المالیة جملة من الشرائط الکثیرة الاُخری ، والتی تتناسب مع خطورة الوراثة الاصطفائیّة .

الفارق الثانی : إنّ الوراثة المالیة لا تکون فعلیة إلّابموت المورِّث ، بینما الوراثة الاصطفائیّة تتحقّق فعلیّتها بمجرّد التنسیل من المورِّث ، فلو مات الوارث قبل مورِّثه فی الوراثة المالیة لم تتحقّق الوراثة ، و هذا بخلاف الوراثة الاصطفائیّة فإنّها تتحقّق بمجرّد وجود الوارث سواء کان ذلک فی حیاة المورّث أو بعد وفاته ، کما هو الحال فی هارون علیه السلام ، حیث کان وصیّاً وخلیفة ووزیراً لموسی علیه السلام ، وتُوفّی قبله ، وکذلک هابیل حیث کان وصیّاً لآدم ، ولکن قُتل قبل وفاة آدم ، وخلف من بعده هبة اللّه شِیث .

الفارق الثالث : إنّ الوراثة المالیة اعتباریة غیر تکوینیّة ، أی تجری فی انتقال الملک والحقّ الاعتباری ، فهی تابعة إلی التشریع ، بینما الوراثة الاصطفائیّة هی

ص:122

فی الأصل تکوینیّة ، ووراثة تنسیل ، أی تنتقل الصفات الوراثیة الروحیّة التکوینیّة من المورِّث إلی الوارث ، نظیر الصفات الوراثیة الجسدیة .

فقد روی الفریقان من أنّ فاطمة بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله أتت بابنیها الحسن والحسین علیهما السلام فی شکواه التی توفّی فیها فقالت :

« یا رسول اللّه ، هذان ابناک فورّثهما شیئاً .

قال صلی الله علیه و آله :

أمّا الحسن فإنّ له هیبتی وسؤددی ، وأمّا الحسین فإنّ له جرأتی وجودی »(1) .

نعم هی تشمل المواریث الاعتباریّة والمناصب القانونیّة بالتبع .

الفارق الرابع : إنّ موضوع الوراثة المالیة هو فی الأموال والملکیة الخاصّة ، بینما موضوع الوراثة الاصطفائیّة ومتعلّقها الشؤون العامّة فی الشخصیّة الحقوقیّة ، والمقامات الملکوتیة اللدنّیة .

الفارق الخامس : إنّ میراث الوراثة المالیة هو نتیجة ما یکسبه المورِّث ویترکه للوارث ، بینما فی المیراث فی الوراثة الاصطفائیّة فهی مواهب لدنّیة إلهیّة ، کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی : وَ إِذا جاءَتْهُمْ آیَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّی نُؤْتی مِثْلَ ما أُوتِیَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ (2) .

الفارق السادس : إنّ الوراثة المالیة حکم فقهیّ تشریعیّ ، بینما الوراثة

ص:123


1- (1) الخصال للصدوق : 77 ، باب الاثنین ، الحدیث 122 - 124 . إرشاد الشیخ المفید : 187 . المناقب لابن شهرآشوب : 3 : 396 . مسند فاطمة : 55 . المعجم الکبیر للطبرانی : 22 : 423 ، الحدیث 1041 . شرح نهج البلاغة : 16 : 10 . وأورده العسقلانی فی تهذیب التهذیب : 2 : 299 . کنز العمّال : 7 : 268 ، الحدیث 18839 و 13 : 670 ، الحدیث 37709 . تاریخ مدینة دمشق : 13 : 230 .
2- (2) الأنعام : 124 .

الاصطفائیّة حکم عقائدی ، لأنّه یرتبط بالاصطفاء الإلهیّ لفئة خاصّة من البشر بحسب المناصب الإلهیّة .

دلالة الآیة علی أنّ للنبیّ صلی الله علیه و آله بعثتین :

إنّ تقیید الآیة فی أوائل البعثة فی مکّة المکرّمة الإنذار بخصوص الأقربین ، لا سیّما علی قراءة أو تفسیر « و رهطک منهم المخلصین »(1)، یدلّ علی أنّ الأمر الإلهیّ ببعثة الرسول صلی الله علیه و آله ونذارته علی نمطین وصعیدین ، فبعثته الاُولی ونذارته خاصّة بأهل بیته الأقربین ورهطه المخلصین ، دون سائر الاُمّة ، وأنّ ما ابتعث به فی هذه البعثة هی أوامر وإنذار ، یخصّ أهل بیته الأقربین ، ولا یشمل بقیّة الاُمّة ، و هذا بخلاف البعثة الثانیة للنبیّ صلی الله علیه و آله ، فإنّها بعثة عامّة لسائر الناس ، کما فی قوله تعالی : وَ ما أَرْسَلْناکَ إِلاّ کَافَّةً لِلنّاسِ بَشِیراً وَ نَذِیراً (2) .

وفی هذه البعثة العامّة تعمّ الأوامر الإلهیّة والنذر کلّاً من رهطه الأقربین وسائر الأمّة ، وقد ورد ذلک فی الأحادیث النبویّة التی رواها الفریقان ، حیث روی ابن حنبل فی « مسنده » عن علیّ علیه السلام وفی طیّ ذکره لحدیث الدار أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال :

« یا بنی عبد المطّلب ، إنّی بعثت إلیکم خاصّة ، وإلی الناس بعامّة ، وقد رأیتم من هذه الآیة ما رأیتم ، فأیّکم یبایعنی علی أن یکون أخی ، وصاحبی ؟

قال :

فلم یقم إلیه أحد ، فقمت إلیه وکنت أصغر القوم .

قال :

فقال : إجلس ، قال : ثلاث مرّات کلّ ذلک أقوم إلیه فیقول لی : إجلس ، حتّی إذا کان فی الثالثة ضرب بیده علی یدی »(3) .

ص:124


1- (1) کما هو الحال فی قراءة ابیّ بن کعب ، ومثبّتة فی مصحف عبد اللّه بن مسعود « و رهطک المخلصین ».
2- (2) سبأ : 28 .
3- (3) مسند أحمد : 2 : 465 ، الحدیث 1371 .

ورواه الطبری فی « تاریخه » أیضاً باختلاف یسیر و ذلک فی قوله صلی الله علیه و آله :

« یا بنی عبد المطّلب ، إنّی بعثت إلیکم بخاصّة ، وإلی الناس بعامّة ، وقد رأیتم من هذا الأمر ما رأیتم ، فأیّکم یبایعنی ، علی أن یکون أخی ، وصاحبی ، ووارثی . . . »

الحدیث(1) .

ورواه النسائی أیضاً بنفس لفظ الطبری إلّاأنه زاد : « ووزیری »(2) .

وفی روایة ابن عساکر قوله صلی الله علیه و آله :

« یا بنی عبد المطّلب ، إنّه لم یبعث اللّه نبیّاً إلّا جعل له من أهله أخاً ووزیراً ووصیّاً وخلیفة فی أهله »(3) .

هذا مضافاً إلی أنّ هذا هو حدیث الدار قد روی بطرق مستفیضة ، أو متواترة(4)فی مصادر الجمهور ، فضلاً عن المصادر الخاصّة ، بألفاظ اخری ، والذی کان فی بدایة البعثة قبل أن یبلّغ النبیّ صلی الله علیه و آله بالبعثة إلی عامّة الناس .

هدف البعثة الاُولی التی للأقربین هو ( میثاق الوصایة ) :

ومقتضی تعدّد النذارة والبعثة هو أنّ ما ابتعث به صلی الله علیه و آله لرهطه الأقربین ، هو بأمر یخصّهم دون سائر العالمین ، کما یفیده لفظ الاختصاص فی الآیة بالعشیرة التی هی أقرب ، دون مطلق القربی ، وتفیده أیضاً ألفاظ الروایات المرویّة من أنّه صلی الله علیه و آله قد بُعث إلی قرباه بخاصّة وإلی الناس بعامّة ، حیث إنّ التعبیر النبویّ

« بعثت إلیکم بخاصّة »(5) هی لبیان محتوی ما بُعث به ، وقد وصفه صلی الله علیه و آله علی أنّه أمر خاصّ بهم ،

ص:125


1- (1) تاریخ الطبری : 2 : 62 ، باب خبر عمّا کان عن أمر عند ابتداء اللّه تعالی ذکره إیّاه بإرسال جبرئیل إلیه .
2- (2) خصائص أمیر المؤمنین علیه السلام للنسائی : 97 ، الحدیث 56 . السنن الکبری للنسائی : 5 : 126 .
3- (3) تاریخ مدینة دمشق : 42 : 50 ، ترجمة علیّ بن أبی طالب ، الحدیث 4933 .
4- (4) لاحظ موسوعة الإمامة فی نصوص أهل السنّة للسیّد المرعشی : 2 : 24 - 33 .
5- (5) فقد سبق نقل نصّ حدیث الدار من مصادر عدیدة ، فلاحظ .

ولیس عامّاً لکلّ الناس ، و هذا بخلاف مضمون ومحتوی ما بُعث به صلی الله علیه و آله وأُمر بإبلاغه لسائر الناس ، فإنّه أمر یعمّ جمیع الناس .

وقد طفحت الروایات المتواترة فی حدیث الدار الوارد فی بیان حادثة نزول الآیة الکریمة أنّه صلی الله علیه و آله أنذرهم بأن یکونوا أوّل من یتحمّل مسؤولیّة إقامة هذا الدین ونشره ، والذین یشیّدون أرکانه ، بأن یؤازروه ویناصروه فی ذلک ، ویتحمّلون هذه المسؤولیّة من بعده أیضاً ، من الوصایة علی حفظ هذا الدین وإقامته ونشره ما دام هذا الدین باقیاً .

ومن الواضح أنّ هذه النذارة لیست لمجرّد دخول عشیرته الأقربین ورهطه المخلصین فی الإسلام ، بل للتعهّد والالتزام والبیعة علی أن یشارکوه فی القیام بأصل الدعوة ، ویؤازروه علی قیادتها ، ویناصروه علی ریادتها ، فیکونوا طاقم قیادة کأیدی وأذرع له صلی الله علیه و آله ، فی مرکز رئاسة هذه الدعوة الجدیدة ، ویتحمّلون معه الأعباء فی کلّ صغیرة وکبیرة ، ویخلفوه من بعده فی هذا المقام .

و هذا المعنی القویم فی الآیة فی قبال ما ذهب إلیه جملة من المفسرین ، من کون الدعوة کانت ذات مراتب فی توسعتها ، فابتدأت الدعوة بدعوة العشیرة الأقربین ثمّ الناس عامّة .

أو من باب أنّ الأوْلی أن یأمر الإنسان نفسه ، ثمّ ذویه ، ثمّ الأبعد فالأبعد .

وإن کان ما ذکروه تامّاً فی نفسه إلّاأنّه لا یفسّر تخصیص الإنذار الوارد فی القرآن الکریم بالأقربین المفاد الوارد فی الحدیث النبویّ أنّ البعثة الإلهیّة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله خاصّة بالأقربین ، دون البعثة الثانیة لسائر الناس ، أو أنّه صلی الله علیه و آله بُعث بخاصّة لهم ، أی باُمور وأوامر خاصّة لهم دون غیرهم .

ص:126

القیادة فی الدین حصریّة ببنی عبد المطّلب :

وممّا یؤکّد أنّ محتوی هذه البعثة الخاصّة هی أوامر إلهیة خاصّة بالعشیرة الأقربین ، مرتبطة بمسؤولیّة الطاقم القیادی هو جملة من الشواهد :

الشاهد الأوّل : ما تکرّر وروده فی حدیث الدار المرویّ عند الفریقین ، من طلبه صلی الله علیه و آله منهم المؤازرة والنصرة والبیعة علی الولایة والوصایة والخلافة من بعده ، وهو قوله صلی الله علیه و آله :

« إنّ اللّه لم یبعث رسولاً إلّاجعل له من أهله أخاً ووزیراً ووارثاً ووصیّاً »(1) .

ویشهد لهذه السنّة الإلهیّة ما فی قول موسی علیه السلام وَ اجْعَلْ لِی وَزِیراً مِنْ أَهْلِی * هارُونَ أَخِی * اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِی * وَ أَشْرِکْهُ فِی أَمْرِی... الآیة(2) وهذه الاُخوّة لا تقتصر علی المشارکة فی النسب والأهل فقط ، بل هی تمتدّ إلی المشارکة بالنسب والارتباط الروحی ،والمشارکة فی الموقعیة والمسؤولیّة فی الدین کحجّة من الحُجج .

الفارق بین الوزیر والخلیفة :

الوزارة هی المشاطرة فی العبء ، لأنّ الوزر من الثقل ، ولا یخفی الفارق بین عنوان الوزیر والخلیفة ، فإنّ مقتضی الوزارة هی مباشرة المسؤولیّة والولایة فی عهد وزمن من یُؤازَر وهو الرئیس ، بخلاف عنوان الخلیفة فإنّه تصدّی للولایة فی زمن یقع ما بعد حیاة المستخلَف .

و هذا یفید أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کانت له ولایة فعلیّة مساندة وتابعة للرسول صلی الله علیه و آله فی ظلّ عهد حیاته صلی الله علیه و آله .

وهذه من خواصّ ولایة ومقامات أمیر المؤمنین علیه السلام ، کما أنّ من خواصّ

ص:127


1- (1) تاریخ مدینة دمشق : 42 : 50 .
2- (2) طه : 29 - 32 .

ومقامات فاطمة الزهراء علیها السلام تفعیل ولایتها فی الفیء والاُمور العامّة ، فی عهد أمیر المؤمنین علیه السلام فضلاً عن الحقبة التی أعقبت وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله .

الشاهد الثانی : ما رواه ابن عساکر أیضاً بسنده عن أبی بکر أنّه قال للعبّاس بن عبد المطلّب : « أنشدک اللّه ، هل تعلم أنّ رسول اللّه جمع بنی عبد المطّلب وأولادهم وأنت فیهم ، وجمعکم دون قریش ، فقال :

یا بنی عبد المطّلب ، إنّه لم یبعث اللّه نبیّاً إلّاجعل له من أهله أخاً ووزیراً ووصّیاً . . .

یا بنی عبد المطّلب ، کونوا فی الإسلام رؤوساً ولا تکونوا أذناباً و اللّه لیقومنّ قائمکم أو لتکوننّ فی غیرکم ثمّ لتندمنّ ، فقام علیّ من بینکم فبایعه علی ما شرطه له ودعاه إلیه ، أتعلم هذا من رسول اللّه ؟ قال : نعم »(1) .

فقد صُرّح فی هذه الروایة بأنّ مضمون هذه البعثة الخاصّة لتقلّد بنی عبد المطّلب إمامة الاُمّة وقیادتها من اللّه ، کطاقم قیادة مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وقد روی هذا اللفظ - رؤوساً - بطرق اخری أیضاً(2) .

الشاهد الثالث : ما ورد من تشدید اللّه تعالی علی نبیّه فی إبلاغ هذا الإنذار والرسالة الخاصّة ، فهو نظیر ما ورد فی آخر حیاة الرسول صلی الله علیه و آله من واقعة غدیر خمّ فی آیة الإبلاغ : یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللّهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْکافِرِینَ (3) .

وقد ورد فی الحدیث بعدّة طرق من الفریقین فی بیان سبب نزول الآیة :

أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قد اشتدّ علیه ذلک .

فقد روی عن الإمام علیّ بن أبی طالب علیه السلام أنّه قال :

« لمّا نزلت هذه الآیة

ص:128


1- (1) تاریخ مدینة دمشق : 42 : 50 .
2- (2) المصدر المتقدّم .
3- (3) المائدة : 76 .

وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ اشتدّ علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأنعمت أن یشقّ علیه ،

فأتاه جبرئیل علیه السلام فقال : یا محمّد ، لتبلّغنّ ما أمرک اللّه به أو لیعذّبنّک اللّه .

قال : فدعانی وقال : یا علیّ ، إنّ اللّه أمرنی بأمر اشتدّ علیّ وأنعمت أن یشقّ علیّ ، فجاءنی جبرئیل فقال : یا محمّد ، لتبلغنّ ما أمرک اللّه به أو لیعذّبنّک »(1) .

وقد ورد هذا الحدیث فی مصادر أهل سنّة الجماعة(2) . وقریب منه ما رواه السیوطی وابن مردویه والطبری(3) .

الشاهد الرابع : قوله صلی الله علیه و آله :

« یا بنی عبد المطّلب ، کونوا فی الإسلام رؤوساً ولا تکونوا أذناباً ، و اللّه لیقومنّ قائمکم أو لتکوننّ فی غیرکم » ومن الواضح أنّ مضمون الدعوة ممّا یرتبط برئاسة الدین والقیام بأعباء الدعوة الإلهیّة ، حیث إنّ المراد من ( الرؤوس ) القادة والقیادات فی الدین .

الشاهد الخامس : قول أبی لهب وجماعة من بنی هاشم حین قاموا وانفضّوا

ص:129


1- (1) مناقب أمیر المؤمنین لابن سلیمان الکوفی : 1 : 307 .وفی روایة اخری للبیهقی فی الدلائل ، بإسناده عن علیّ بن أبی طالب قال : « لمّا نزلت هذه الآیة علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله (وَأَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ) قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : عرفت أنّی إن بادأت بها قومی رأیت منهم ما أکره فصمتّ ، فجاءنی جبرئیل علیه السلام فقال : یا محمّد ، إن لم تفعل ما أمرک به ربّک عذّبک بالنار . . . » دلائل النبوّة : 2 : 180 .
2- (2) تفسیر مقاتل : 531 . تفسیر عبد الرزّاق الصنعانی : 3 : 77 . تفسیر الطبری : 19 : 145 ،الحدیث 20364 و 20 : 429 ، الحدیث 29588 . تفسیر ابن أبی حاتم : 9 : 2825 . تفسیر الفخر الرازی : 24 : 172 و 32 : 165 . دلائل النبوّة لأبی نعیم : 1 : 378 ، باب وأنذر عشیرتک الأقربین . تاریخ الطبری : 2 : 62 .
3- (3) کما فی کنز العمّال : 13 : 131 ، الحدیث 36419 . الطبری فی تفسیره : 19 : 74 .وأخرجه السیوطی فی مسند علیّ بن أبی طالب : 1 : 149 ، عن ابن إسحاق ، وابن جریر ، وابن أبی حاتم ، وابن مردویه ، وأبی نعیم .

من المجلس قولهم لأبی طالب : « أطع ابنک فقد أمّره علیک » فیظهر منها أنّ مضمون الدعوة التی لم یلتزم بها فی ذلک المجلس إلّاعلیّ بن أبی طالب قد فهم منها القوم أنّها دعوة مرتبطة بالجهاز القیادی للدعوة الإلهیّة ، وأنّها مسؤولیة ورسالة خاصّة مرتبطة بحمل أعباء الرسالة والدین فی موقعیة ریادة وریاسة .

بل صرّح النبیّ صلی الله علیه و آله وأمر بالسمع له والطاعة ، أی تنصیبه والیاً علیهم فی قوله صلی الله علیه و آله :

« فاسمعوا له وأطیعوا » فی جملة من طرق هذا الحدیث .

الشاهد السادس : ما ورد فی جملة من طرق هذا الحدیث ، من أنّ طلبه صلی الله علیه و آله من بنی هاشم - من الأقربین - هو علی مؤازرتهم ونصرتهم له صلی الله علیه و آله علی هذا الأمر ، علی أن یکون وزیراً له صلی الله علیه و آله وخلیفة من بعده ، فلم یکن طلبه صلی الله علیه و آله منهم علی أصل الإیمان بالدِّین ، وکأنّ هذا أمر مفروغ عنه فیما بینه صلی الله علیه و آله وبینهم من قبل ، کما فی قوله صلی الله علیه و آله :

« . . . وقد أمرنی اللّه أن أدعوکم إلیه فأیّکم یؤازرنی علی هذا الأمر علی أن یکون أخی ووصیّی وخلیفتی فیکم » .

الشاهد السابع : ما ورد فی عدّة طرق روایة هذا الحدیث قوله صلی الله علیه و آله :

« یا بنی عبد المطّلب ، إنّ اللّه لم یبعث رسولاً إلّاجعل له من أهله أخاً ووزیراً ووارثاً ووصیّاً »(1) .

والنتیجة : فکما أنّ هناک دعوة لاعتناق الإسلام والإقرار بالشهادتین ، ودعوة للإیمان بالإقرار والتسلیم القلبی للشهادات الثلاث ، فإنّ هناک فی مقابلها دعوة إلهیّة اخری لبنی هاشم خاصّة ، وهی دعوة بالاستیزار والخلافة ، ومقتضی ظاهر الآیة وروایات الفریقین تخصیص هذه الدعوة والمقام بهم خاصّة ، دون غیرهم من عامّة الخلق .

ص:130


1- (1) شواهد التنزیل للحاکم الحسکانی : 1 : 544 . تاریخ دمشق لابن عساکر : 42 : 49 . کنز الفوائد للکراجکی : 280 . المناقب لابن شهر آشوب : 1 : 307 .
تشریعات البعثة الخاصة :

فی هذه الدعوة خصوصیة اخری وهی أنّ فیها من الأوامر والفرائض تتعلق بمسؤولیة وأعباء قیادة الدعوة ، ومشارکة الرسول صلی الله علیه و آله فی مسؤولیة إبلاغ الرسالة السماویّة ، ومؤازرته کمؤازرة الوزیر فی ذلک ، وهو المقام الذی یشیر إلیه قوله تعالی علی لسان موسی وَ اجْعَلْ لِی وَزِیراً مِنْ أَهْلِی * هارُونَ أَخِی * اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِی * وَ أَشْرِکْهُ فِی أَمْرِی (1) .

وکقوله تعالی : وَ لَقَدْ آتَیْنا مُوسَی الْکِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِیراً (2) .

فإنّ قبول هذه الدعوة یتضمن الدخول فی تحمّل أعباء مسؤولیات ، ومنظومة أوامر وفرائض هذا المقام وقوانینه ، لا یخاطب بها سائر أفراد الناس ، بل لا یطّلعون علی جملة أحکامه ، لأنّها مجموعة بنودٍ مختصة بالطاقم القیادی الإداری ، کما هو مألوف فی الأنظمة الاجتماعیة البشریّة طوال التاریخ حتّی النظام القبلی ، فضلاً عن النظام المدنی .

وإذا أردنا أن نمثّل لهذه المنظومة من القوانین بمثال ، فإنّه یمکن لنا التمثیل بما تعتمده الدول من مجموعة قوانین إداریة ، ولوائح داخلیة للهیئات العلیا فی النظام ، فإنّ هذه القوانین لا یخاطب بها عموم الناس بل حتّی قد لا یطلعوا ، فإنّ جملة من بنوده تکون سرّیة ، ویتأثّر موازنة أمن النظام وقوة إدارته بسریّتها .

کما أنّ من یشغل المناصب العلیا فی إدارة النظام یطلع علی أسرار النظام ممّا لا یطلع علیه آحاد الناس ، بل ولا جملة المُدراء المتوسّطین ، حتّی أنّه بات فی عرف الدول بقاء من یشغل المسؤولیات العلیا ولو لمدّة یسیرة ، بقاءه تحت الرقابة

ص:131


1- (1) طه : 29 - 32 .
2- (2) الفرقان : 35 .

طیلة حیاته ، نظراً لما یحمل من معلومات سرّیة تتعلّق بمصدر النظام وأمنه .

وبالتالی فإنّ رجالات النظام تحکمهم مقرّرات وقوانین تختلف عن بقیّة طبقات الإداریین ، فضلاً عن عموم أوساط الناس .

فهذا حال طبیعة أیّ نظام اجتماعیّ سیاسیّ یدار من قبل رجالاته .

بل لا یقتصر ذلک علی النظام الاجتماعی والسیاسی ، بل نلاحظ فی جملة من النُّظم الاُخری ، کالنظام التجاری ، والنظام المالی ، والنظام التعلیمی ، وغیرها .

فإنّ الملاحظ فیها أنّه کلّما ارتقت المواقع فی هیئاتها العلیا فإنّ الملحوظ وجود أعراف ومقرّرات خاصّة تحکم العناصر الرائدة فی ذلک النظام ، بل من دون تلک القوانین والمقرّرات الخاصّة بالطبقات العلیا فی النظام لا یستتبّ أمن النظام ووجوده . و هذا قد بات واضحاً فی علوم النظم والإدارة .

ومن ثَمّ یتبیّن لنا الحال بأنّ الدعوة الإلهیّة والرسالة السماویة التی هی من أکبر وأضخم النظم ، والجامعة لکلّ الأنظمة ، والمقدَّر لها البقاء إلی یوم القیامة ، لا ریب فی وجود منظومة من المقرّرات والتشریعات الخاصّة بالطاقم القیادی المنتخب من قبل السماء لإدارة وقیادة هذه الدعوة من حین ولادتها إلی نهایة مطافها .

ویشیر إلی ذلک جملة من الآیات والروایات الواردة فی نزول المقدّرات والمقضیّات من کلّ أمر ، وتدبیر شؤون الأرض فی شتّی المجالات ، تنزّل تلک المعلومات الهائلة فی لیلة القدر ، المرتبطة بخزائن نزول القرآن الکریم علی فئة خاصّة لتدبیر قیادة شؤون الأرض ، کما تشیر إلی ذلک سورة الدخان حم * وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ * إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ إِنّا کُنّا مُنْذِرِینَ * فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا کُنّا مُرْسِلِینَ (1) .

ص:132


1- (1) الدخان : 1 - 5 .

ومثلها قوله تعالی : إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ . . . تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ (1) ، فهذه المعلومات الهائلة المرتبطة بنزول خاصّ للقرآن الکریم فی لیلة القدر من کلّ عام یُبیّن القرآن أنّها لا تتنزّل علی سائر البشر ، بل علی فئة خاصّة اصطفاها اللّه لذلک ، کما فی قوله تعالی : یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (2) .

وقوله تعالی : یُلْقِی الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (3) .

وهؤلاء هم الذین أورثهم اللّه تعالی الکتاب فی قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا (4) .

وهم أهل البیت من بنی عبد المطّلب الذین أفصح عنهم القرآن فی قوله تعالی :

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (5) ، أی أهل آیة التطهیر .

ومن الواضح أنّ هذا الکمّ الهائل من المعلومات بحسب قواعد العلوم الاستراتیجیّة والإداریّة ، إنّما یستعین به الجهاز القیادی فی إدارة شؤون النظام .

ومن ثَمّ نلاحظ استمرار هذا الإنذار بالرسالة الخاصّة من قبل النبیّ صلی الله علیه و آله للأقربین فی یوم الدار ، عند نزول قوله تعالی : وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ إلی أوان وصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله عند حضور وفاته صلی الله علیه و آله .

فقد روی الأصحاب بطرق مستفیضة عن أبی عبداللّه ، عن أبیه ، عن جدّه علیهم السلام :

ص:133


1- (1) القدر : 1 - 5 .
2- (2) النحل : 3 .
3- (3) غافر : 15 .
4- (4) فاطر : 32 .
5- (5) الواقعة : 77 - 79 .

قال :

« لمّا حضرت رسول اللّه صلی الله علیه و آله الوفاة دعا العبّاس بن عبد المطّلب وأمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام ،

فقال للعبّاس : یا عمّ محمّد ، تأخذ تراث محمّد ، وتقضی دینه ، وتنجز عِداته ؟

فردّ علیه وقال : یا رسول اللّه ، أنا شیخ کبیر ، کثیر العیال ، قلیل المال ، من یطیقک وأنت تباری الریح ؟

فقال : فأطرق صلی الله علیه و آله هنیئة ، ثمّ قال : یا عبّاس ، أتأخذ تراث رسول اللّه ، وتنجز عِداته ، وتؤدّی دَینه ؟

فقال : بأبی أنت واُمّی ، أنا شیخ کبیر ، کثیر العیال ، قلیل المال ، من یطیقک وأنت تباری الریح ؟

فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : أما إنّی سأعطیها مَن یأخذ بحقّها .

ثمّ قال : یا علیّ ، یا أخا محمّد ، أتنجز عداة محمّد ، وتقضی دینه ، وتأخذ تراثه ؟

قال : نعم بأبی أنت واُمّی ، [

ذاک علیّ ولی]

.

قال : فنظرتُ إلی الخاتم ، حین وضعه علیّ علیه السلام فی إصبعه الیمنی ، فصاح رسول اللّه صلی الله علیه و آله : یا بلال ، علَیَّ بالمِغْفَر ، والدرع ، والرایة ، وسیفی ذی الفقار ، وعمامتی السحاب ، والبُرد ، والأبرقة ، والقضیب [

یقال له الممشوق] ،

فو اللّه ما رأیتها قبل ساعتی تلک ، یعنی الأبرقة ، کادت تخطف الأبصار ، فإذا هی من أبرق الجنّة ، فقال :

یا علیّ ، إنّ جبرئیل أتانی بها فقال : یا محمّد ، اجعلها فی حلقة الدرع ، واستوفر بها مکان المنطقة ،ثمّ دعا بزوجَی نعال عربیّین ، إحداهما مخصوفة والاُخری غیر مخصوفة ، والقمیص الذی اسری به فیه ، والقمیص الذی خرج فیه فی احد ،

والقلانس الثلاث . . . » الحدیث .

وتتمّته قد ذکرت فیه بقیّة مواریثه صلی الله علیه و آله .

وقد روی هذا الحدیث الشیخ الصدوق بعدّة طرق ، وکذلک الکلینی فی

ص:134

« الکافی »(1) ، ورواه المفید فی « الإرشاد »(2) ، والطبرسی فی « إعلام الوری »(3) ، بل قد رواه جمهور العامّة بطرق متعدّدة ، وفی جملة من تلک الطرق أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أعادها علی العبّاس ثلاث مرّات .

وقد روی علماء العامّة ذلک أیضاً کما فی « سنن النسائی » وغیره(4) .

الإنذار رسالة خاصّة ، لا استنصار عامّ :

لا یقال : إنّ هذه الدعوة الخاصّة ، التی بعث بها النبیّ صلی الله علیه و آله إلی بنی عبد المطّلب ، لیست إلّامجرّد طلب للنصرة ، واستنصار للدعوة العامّة ، والمؤازرة ، لا أنّها دعوة ورسالة خاصّة ، متضمّنة لمنظومة من الأوامر ، والنواهی ، والفرائض الخاصّة بالطاقم القیادی للدعوة الإلهیّة ، موازیة للدعوة العامّة للناس ، التی بعث بها النبیّ صلی الله علیه و آله .

فلیست هی بعثة بتمام حقیقة معنی البعثة ، فاستعمال لفظ البعثة الخاصّة - فی قوله صلی الله علیه و آله :

بعثت إلیکم بخاصّة - توسّعی مجازیّ .

والجواب : إنّ مستهلّ کلّ دعوة إلهیة هو التزام إجمالی عامّ بمضمون تلک الدعوة ، وتعهّد عامّ بها ، نظیر من یلتزم بدعوة الإسلام بأن یُقرّ بالتوحید والنبوّة فی البدء ویتشهّد بالشهادتین ، وأنّ هذا الإقرار الإجمالیّ یستتبع الالتزام من قبل المسلم الجدید الإیمان القلبی ، وأداء فرائض معیّنة ، کالصلاة والصوم . . . الخ مع الأخذ بالاعتبار التدرّج فی الخطاب فی الفرائض .

ص:135


1- (1) علل الشرائع : 66 و 67 . الکافی : 1 : 236 و 237 . معانی الأخبار : 110 و 111 .
2- (2) الإرشاد للمفید : 1 : 185 ، مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث .
3- (3) إعلام الوری للطبرسی : 1 : 266 ، مؤسسة آل البیت علیهم السلام لإحیاء التراث .
4- (4) السنن الکبری للنسائی : 5 : 125 ، الحدیث 8451 . تاریخ الطبری : 3 : 321 . شرح ابن أبی الحدید : 13 : 212 یرویها عن الطبری فی تاریخه : 2 : 63 . کنز العمّال 13 : 174 ، الحدیث 36520 .

وکذلک یتعهّد مَن یقرّ بدعوة الإیمان من الشهادات الثلاث ، من ولایة اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله وأهل بیته المطهّرین ، فإنّ هذا تسلیم إجمالی بقلبه ومعرفته لیخاطب بعد ذلک بالتفاصیل ، فبضمیمة وظائف ظاهر الإسلام یخاطب بوظائف حقیقة الإیمان .

کذلک یتعهّد بالالتزام بالإیمان بدعوة الخلافة ، والإمامة ، ووزارة النبوّة ، والرسالة ، فإنّها من أوائل الالتزامات یتعقّبه جملة من الفرائض والأوامر والنواهی الخاصّة بمقام الإمامة الإلهیّة ، ومقام الخلیفة عن اللّه تعالی فی الأرض ، فلها جملة من المراسم والطقوس الخاصّة .

وقد بُیّن هذا الالتزام فی دعوة الرسول صلی الله علیه و آله الخاصّة لبنی عبد المطّلب ، أنّها بیعة والتزام بالمؤاخاة ، أی بتمام معنی وحقیقة المؤاخاة ، والمؤازرة بکلّ أعبائها ، وإنجاز عهود عداته وهی عهود مواعید النبیّ صلی الله علیه و آله المبتدأة لکافّة العالمین ، وقضاء دیونه ، وهی کلّ ما تعهّد النبیّ صلی الله علیه و آله بوفائه للآخرین ، من عهود والتزامات فی ضمن عقود(1) .

وبتعهّده بأن یکون وصیّاً أی ینفّذ وصایا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، المتعلّقة بإقامة الدین وإدارة وتدبیر الاُمّة .

وفی بعض طرق الروایات « مَن منکم یتابعنی علی أن یکون أخی ووزیری » ، وفی بعضها الآخر « ووزیراً ووارثاً » ، أی وارثاً لکلّ مسؤولیة ومقامات الرسالة والنبوّة عدا النبوّة .

و هذا ما یدلّل علی أنّ التزامات مبدأ هذه الدعوة الخاصّة یتضمّن الالتزام والإقرار والتعهّد بخمس أو سبع بنود ، وهی التزامات إجمالیّة تنفتح علی تفاصیل جمّة .

ص:136


1- (1) بخلاف العدات فإنّها العهود المبتدأة لا فی ضمن عقود ، أی لیست عهود متقابلة مع عهود الآخرین .
لا منافاة بین النصّ فی الإمامة والتخییر فی إنذار یوم الدار :

ولا یقال أیضاً : إنّه کیف یلتئم مضمون هذه الدعوة الخاصّة وعدم إجبار علیّ علیه السلام علی قبولها والاستجابة لها والالتزام بها ، بل وتخییر عموم بنی عبد المطّلب علی أنّ الإمامة والوصایة والوراثة للنبیّ صلی الله علیه و آله اصطفائیة من اللّه تعالی ، مقدّرة محتومة عنده .

فکیف ینسجم ذلک مع قبول علیّ علیه السلام باختیاره ، وأنّها تمّت عبر مفاوضة وعرض إلهیّ .

فإنّه یجاب : إنّ الاصطفاء فی النبوّة والرسالة والإمامة والخلافة الإلهیّة ، لا یعنی الإلجاء والجبر والإکراه ، بل ینطوی علی عنصر الاختیار والطاعة من العبد ، فهو أمر بین أمرین ، نعم لیس هو تفویضاً مطلقاً لإرادة العبد ، حتّی یکون اکتسابیاً ، ولا أمراً إلجائیاً جبریاً ، بل هو أمر بین أمرین .

ویشیر إلی ذلک قوله تعالی : یا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنْذِرْ .

وقوله تعالی : فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ .

وقوله تعالی : اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِی خَلَقَ ، فإنّ هذه الأوامر الإلهیّة فی بدایة البعثة للقیام بأعباء الرسالة تعلّقت بفعل اختیاری من النبیّ صلی الله علیه و آله طاعة لربّه واستجابة ، بعدما اختاره اللّه تعالی لهذه المسؤولیّة .

وکذلک قوله تعالی حکایة عن لسان موسی علیه السلام : فَلَمّا أَتاها نُودِیَ یا مُوسی * إِنِّی أَنَا رَبُّکَ فَاخْلَعْ نَعْلَیْکَ إِنَّکَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُویً * وَ أَنَا اخْتَرْتُکَ فَاسْتَمِعْ لِما یُوحی * إِنَّنِی أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِی وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِکْرِی . . . اِذْهَبْ إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی * قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِی صَدْرِی * وَ یَسِّرْ لِی أَمْرِی * وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِی * یَفْقَهُوا قَوْلِی * وَ اجْعَلْ لِی وَزِیراً مِنْ أَهْلِی * هارُونَ أَخِی * اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِی * وَ أَشْرِکْهُ فِی أَمْرِی*

ص:137

کَیْ نُسَبِّحَکَ کَثِیراً* وَ نَذْکُرَکَ کَثِیراً* إِنَّکَ کُنْتَ بِنا بَصِیراً* قالَ قَدْ أُوتِیتَ سُؤْلَکَ یا مُوسی (1) .

فنری أنّ أصل ومُجمل الرسالة أُمِرَ بها الرسول صلی الله علیه و آله کوظیفة تکلیفیّة ، علی نحو بقیّة التکالیف والقیام بالأفعال والوظائف الشرعیة ، ولم تکن بنحو الإلجاء علی الفعل .

وبعبارة اخری : إنّ علم اللّه تبارک وتعالی السابق بحال أصفیائه من الطاعة ، والتسلیم ، والاستجابة ، موجب لاصطفائه لهم ، واختیاره إیّاهم لهذه المقامات ، وحبائه لهم بالمواهب اللدنّیة ، والنعم الملکوتیة ، و هذا ما یشیر إلیه قوله علیه السلام فی دعاء الندبة :

« اللّهُمَّ لَکَ الْحَمْدُ عَلی مَا جَری بِهِ قَضاؤُکَ فی أوْلِیَائِکَ الَّذِینَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِکَ وَدِینِکَ ، إِذِ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزِیلَ مَا عِنْدَکَ مِنَ النَّعِیمِ الْمُقِیمِ الَّذِی لَا

زَوالَ لَهُ وَلَا اضْمِحْلَالَ ، بَعْدَ أنْ شَرَطَتْ عَلَیْهِمُ الزُّهْدَ فی دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنیا الدَّنِیَّةِ وَزُخْرُفِهَا وَزِبْرِجِهَا ، فَشَرَطُوا لَکَ ذلِکَ ، وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الْوَفَاءَ بِهِ ، فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّکْرَ الْعَلِیَّ ، وَالثَّناءَ الْجَلِیَّ ، وَأهْبَطْتَ عَلَیْهِمْ مَلَائِکَتَکَ ، وَکَرَّمْتَهُمْ بِوَحْیِکَ ، وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِکَ ، وَجَعَلْتَهُمُ الذَّریعَةَ إِلَیْکَ ، وَالْوَسِیلَةَ إلی رِضْوَانِکَ »(2) .

فیقرَّر مفاد الدعاء أنّ اصطفاءهم وقبولهم وتقریبهم وإرفادهم بالذکر اللدنّی ، وإهباط الملائکة علیهم ، وتکریمهم بالوحی ، ورفدهم بالعلم ، إلی غیر ذلک من المقامات اللدنّیة الغیبیة ، إنّما کانت علی أثر علم اللّه تبارک تعالی السابق الغابر بأنّهم علی مدرجة الوفاء ، بکلّ ما یشترط علیهم ، ویأخذه علیهم من العهود والالتزامات ، وأنّهم فی موضع الاستقامة والأمانة والصدق ، وشدّة الطاعة .

ص:138


1- (1) طه : 11 - 36 .
2- (2) المزار لابن المشهدی : 574 .

فمعنی کون الاصطفاء أمر بین أمرین ، أی جانب منه مرتبط بفعل اللّه تبارک وتعالی وعلمه ، وخیاره واختیاره وانتقائه ، من صفو علمه الذی لا یتخلّف ولا یختلف .

وجانب آخر منه مرتبط بفعل العبد ، الذی یُصطفی للمقام الإلهیّ ، باختیاره للطاعة بأعلی درجاتها الفائقة ، والسابقة لسائر أفراد البشر ، فبسبقه وتفوّقه مُنح المواهب الإلهیّة اللدنّیة .

فلیس جعل اللّه تبارک وتعالی لشخص نبیّاً أو رسولاً أو إماماً أو خلیفة فی الأرض ، یعنی إلجاؤه وعدم اختیاره فی الاتّصاف بالمقام ، بل هو جعل تکوینیّ من اللّه تعالی وفق علمه السابق الغابر بطاعة وانقیاد من سیصطفیه فی الأزمنة اللاحقة .

وفی هذا السیاق یفهم قوله تعالی : وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَیْنا بَعْضَ الْأَقاوِیلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْیَمِینِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِینَ * فَما مِنْکُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِینَ (1) حیث یشیر إلی وجود القدرة علی المخالفة ، وإن امتنع وقوعاً صدورها من النبیّ صلی الله علیه و آله .

فلا غرابة ولا استنکار من وجود هذه الظواهر فی سُنن هذه المقامات الإلهیّة ، أی فی عرض النبیّ صلی الله علیه و آله لمقام الإمامة یوم الدار ، وتخییره لِبَنی عبد المطّلب تولّیها مقابل شروط إلهیّة عظیمة وقبولها من طرف العبد ، الذی یصطفیه اللّه تبارک وتعالی لذلک .

تساؤلات حول حدیث الدار ودرجات الاصطفاء :

لماذا یعمّ العرض لهذه الدعوة والرسالة الخاصّة من اللّه تبارک وتعالی والإنذار جمیع بنی عبد المطّلب ، و هل هؤلاء جمیعاً یشارکون علیّاً علیه السلام فی مهمّته ؟

ثمّ لماذا التخصیص بهم دون بقیّة الاُمّة ؟

ولماذا سُمّیت هذه الدعوة والرسالة إنذاراً ؟

ص:139


1- (1) الحاقّة : 47 .

وما هو التهدید الذی تضمّنته هذه الرسالة إن لم یقم بنو عبد المطّلب بأعبائها ؟

ویمکن أن یقرّر الجواب عن ذلک بما یلی : بدءاً بالثالث من الأسئلة :

فنقول : إنّ مضمون ما ورد فی أحادیث یوم الدار هو ما مرّت الإشارة إلیه من قوله صلی الله علیه و آله :

« یا بنی عبد المطّلب ، کونوا فی الإسلام رؤوساً ، ولا تکونوا أذناباً ،

و اللّه لیقومنّ قائمکم أو لتکوننّ فی غیرکم ثمّ لتندمنّ » فالإنذار هو بلحاظ فوات هذا المقام الغیبیّ وهو الإمامة ، عنهم إلی غیرهم إن لم یقوموا به .

وأمّا الجواب عن الثانی : فلما قد قُرّر فی الحدیث النبویّ أنّه صلی الله علیه و آله قال :

« قسّم اللّه تبارک وتعالی أهل الأرض قسمین ، فجعلنی فی خیرهما ، ثمّ قسّم النصف الآخر علی ثلاثة ، فکنت خیر الثلاثة ، ثمّ اختار العرب من الناس ، ثمّ اختار قریشاً من العرب ،

ثمّ اختار بنی هاشم من قریش ، ثمّ اختار بنی عبد المطّلب من بنی هاشم ، ثمّ اختارنی من بنی عبد المطّلب »(1) .

وقد روی مضمون هذا الحدیث بألفاظ اخری عند الفریقین ، ومحصّله : أنّ بنی عبد المطّلب وبنی هاشم هم خیرة الخیر ، وصفوة الصفوة ، فهم من حیث استعداد الوراثة سلالة من سلالة ، کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (2)) .

وأمّا الجواب عن الأوّل : فإنّ اللّه تعالی وإن کان قد اصطفی آل إبراهیم علی العالمین ، إلّاأنّه قد فضّل بعض ذرّیة آل إبراهیم علی بعض ، فقد آتی داود علیه السلام

ص:140


1- (1) الخصال : 36 ، الحدیث 11 . بحار الأنوار : 16 : 321 .ولاحظ کتب التفسیر بما أخرجوه من حدیث النبیّ صلی الله علیه و آله فی ذیل قوله تعالی : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْیاءَ إِنْ تُبْدَ لَکُمْ تَسُؤْکُمْ) المائدة : 101 .
2- (2) آل عمران : 33 و 34 .

زبوراً ، وقال فی شأن بعض تلک الذرّیة عندما سأله إبراهیم علیه السلام أن یجعل الإمامة فیها ، فی قوله تعالی : إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ ، فتری أنّه رغم اصطفائه لجمیعهم إلّاأنّه اصطفی مرّة اخری منهم بعضاً آخر .

وبعبارة اخری : إنّ الاصطفاء درجات ، إلّاأنّ عموم درجاته تدلّ علی وجود أرضیة الاستعداد الخاصّ ، ومن ثَمّ یکون للمُحسِن منهم أجرین ، وللمسیء ضعفین . فلا یُستغرب من عرض هذا المقام العظیم والرسالة علی بنی عبد المطّلب ، وفی ضمنهم أبو لهب ، وقد ضرب القرآن لهذه الظاهرة مثلاً ، وهی ظاهرة وجود الأرضیة والاستعداد الخاصّ ، إلّاأنه رغم ذلک قد یقع الإخفاق ، کما فی قوله تعالی : وَ اتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ الَّذِی آتَیْناهُ آیاتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطانُ فَکانَ مِنَ الْغاوِینَ * وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لکِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَی الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ (1) .

ومن ذلک یظهر أنّ فی هذه السلالة التی اصطفیت من السلالات ، قد تکرّر وقوع الاصطفاء فیها مرّة بعد اخری ، فوقع التفضیل والاصطفاء فی بنی هاشم وبنی عبد المطّلب أیضاً ، فکان الاصطفاء النهائیّ قد وقع علی علیّ علیه السلام من بینهم .

ویشیر إلی ذلک ما رواه المجلسی فی « البحار » ، عن کتاب الشیرازی :

« أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله لما نزل الوحی علیه أتی المسجد الحرام ، وقام یصلّی فیه ، فاجتاز به علیّ ، وکان ابن تسع سنین ، فناداه :

یا علیّ ، إلیّ أقبل ، فأقبل إلیه ملبّیاً .

قال :

إنّی رسول اللّه إلیک خاصّة ، وإلی الخلق عامّة ، تعال - یا علیّ - فقف عن یمینی وصلّ معی . . .

فاجتاز بهما أبو طالب وهما یصلّیان ، فقال : یا محمّد ، ما تصنع ؟

قال :

أعبد إله السماوات و الأرض ، ومعی أخی علیّ یعبد ما أعبد . یا عمّ ،

ص:141


1- (1) الأعراف : 176 .

و أنا أدعوک إلی عبادة اللّه الواحد القهّار ، فضحک أبو طالب حتّی بدت نواجذه ، وأنشأ یقول :

وَاللّهِ لَنْ یَصِلوا إِلَیْکَ بِجَمْعِهِمْ حَتّی اغَیَّبُ فی التُّرابِ دَفِینا »(1)

و هذا الذی تشیر إلیه بقیّة الروایات التی رواها الفریقان ، من أنّه لم یستجب لهذه الدعوة الخاصّة من اللّه ، ولم یدخل فیها إلّاعلیّ علیه السلام ، ولم یستجب لهذه الدعوة وهی دعوة الإمامة والوزارة حتّی مثل أبی طالب وحمزة وجعفر الطیّار ، وإن استجابوا لدعوة الإسلام والإیمان .

شدّة المسؤولیّة وقوّة الإرادة عند رُقیّ المقامات الغیبیة :

وربّما یُتساءل : أنّه مع البتّ فی تنصیب علیّ إماماً فی یوم الدار ، وبحسب النصوص القرآنیّة ، وتنصیبه یوم الغدیر والنصّ علیه ، فما معنی التفویض والتخییر بعد ذلک من النبیّ صلی الله علیه و آله عند وفاته صلی الله علیه و آله بین العبّاس وعلیّ علیه السلام ، کما مرّت الإشارة إلیه فی الروایات السابقة ؟

والجواب : أوّلاً : إنّه لا بدّ من الالتفات إلی أنّ المقامات الإلهیّة کالنبوّة والرسالة والإمامة وغیرها من المناصب الاصطفائیّة للحجج فی الوقت الذی تشتمل علی الِمِنَحٍ الإلهیّة ، والمواهب اللدنّیة ، ومنازل من التمکین التکوینی ، فإنّه بالرغم ذلک فإنّ هذه الأعطیات ما هی إلّازیادة فی قابلیة التکلیف لوظائف أشدّ ، نظیر قاعدة :

« إنّ اللّه یحاسب الناس علی قدر عقولهم » ، فکلّما ازدادت القابلیّات من ناحیة العلم والمعرفة والقدر والولایة التکوینیّة ، کلّما ازدادت الوظائف والتکالیف علی عهدة ذلک المُصطفی للمقام الإلهیّ .

کما لابدّ من الانتباه إلی أنّ هذه المعادلة فی السُّنّة الإلهیّة مع الأصفیاء لیست

ص:142


1- (1) بحار الأنوار للمجلسی : 38 : 207 .

بحسب الحدوث والابتداء فقط ، بل هی مستمرّة إلی الانتهاء .

کما لا بدّ من الالتفات إلی أنّ المواهب اللدنّیة الخاصّة ، ومنح المقامات مشروطة حدوثاً وبقاءاً واستمراراً بامتثال تلک الوظائف الخاصّة ، بحیث لو فُرض محالاً حصول تقصیر أو إخفاق فی الطاعة لسُلبت عنه تلک المنح والمواهب والمقامات ، و أصبح حاله حال أوساط البشر .

وهذه الحقیقة فی المقامات اللدنّیة الإلهیّة تبیّن بجلاء دور عنصر الاختیار فی هذه المقامات ، ودرجة الامتحان ، شأنها شأن بقیّة سُنن الجزاء والاُعطیات الإلهیّة ، وأنّ الأصفیاء بمجرّد تمکینهم من تلک المنازل والمقامات لا یفقدون عامل الاختیار والإرادة ، ولا یُرفع عنهم التکلیف والامتحان ، بل یزداد شدّة وغلظة بقدر ازدیاد قوّة الاختیار والإرادة ، بحسب ازدیاد العلم والقدرة فی عوالم التکوین .

فلیس الاصطفاء والعصمة رافع للاختیار والإرادة ، بل الاصطفاء یؤکّد شدّة ودرجة الاختیار ، کما أنّها موجبة لتعاظم التکلیف وتراکم الوظائف الملقاة علی عاتقه ، وزیادة الحصار فی المراقبة والمحاسبة الإلهیّة .

و هذا علی خلاف ما یفتریه أصحاب البدع من بعض المتصوّفة ، والفرق الباطنیّة ، من رفع یدها عن أحکام الشریعة ، وإسقاط التکالیف عن الفرائض الإلهیّة والسُّنن النبویّة ، واستباحة المحرّمات ، تحت شعار التأویل الزائف لقوله تعالی :

وَ اعْبُدْ رَبَّکَ حَتّی یَأْتِیَکَ الْیَقِینُ (1) .

وکذلک تندفع دعوی مزیّفة اخری من أنّ الاصطفاء والعصمة یُجبِران ویلجئان من اصطفاه اللّه تعالی علی فعل الطاعة ، فلا تکون الأفعال الحسنة الصادرة منه منشأً للمدح ولا مستحقّاً للثواب له ، ولا تحتسب له فضیلة ، إذ هو مجبول علیها .

وأمّا الشواهد والإشارات القرآنیّة علی هذه الحقیقة فی المقامات والمناصب

ص:143


1- (1) الحجر : 99 .

الإلهیّة ، أی اقتران التکلیف والامتحان وشدّتهما مع الإرادة والاختیار لمن تُوهب له المنح والمواهب اللدنّیة ، فمن هذه الشواهد القرآنیّة ما یلی :

الشاهد الأوّل : قوله تعالی فی اخریات حیاة النبیّ صلی الله علیه و آله ، وبعد حجّة الوداع :

یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النّاسِ الآیة(1) .

ومفاد الآیة ظاهر بوضوح فی أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله مکلّف بإبلاغ أمر من اللّه تعالی و هذا الأمر ینطوی علی مخاطر ، من قبیل تمرّد الناس عن الاستجابة لذلک ، مع التشدید فی إجراء التبلیغ دونما تردّد .

الشاهد الثانی : قوله تعالی : وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَیْنا بَعْضَ الْأَقاوِیلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْیَمِینِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِینَ * فَما مِنْکُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِینَ (2) .

ومفاد الآیة صریح فی أنّ إبلاغ النبیّ صلی الله علیه و آله عن اللّه تعالی ، یقوم به فی حالة من الاختیار التامّ ، لا إلجاء فیه ولا إکراه ، ومن ثَمّ لو صدر عنه تقوّلاً علی اللّه تعالی لکان جزاؤه العقوبة ، ومن الواضح أنّ العقوبة تترتّب علی الفعل الاختیاریّ .

الشاهد الثالث : قوله تعالی فی شأن نبیّ اللّه آدم : وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً... وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ... قالَ یا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ . . . وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ... وَ قُلْنا یا آدَمُ اسْکُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُکَ الْجَنَّةَ وَ کُلا مِنْها رَغَداً حَیْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَکُونا مِنَ الظّالِمِینَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّیْطانُ عَنْها... فَتَلَقّی آدَمُ

ص:144


1- (1) المائدة : 67 .
2- (2) الحاقّة : 46 .

مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ الآیات(1) .

مع قوله تعالی أیضاً : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ* ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (2) .

والزلل هنا فی فَأَزَلَّهُمَا الشَّیْطانُ وإن کان بمعنی ترک الأوْلی ، فلا معصیة ولا إثم بعد طهارة واصطفاء الأنبیاء ، إذ ما کان اللّه تعالی لیصطفی نبیّاً یعلم أنّه سیقدم علی معصیته ، کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی : ما کانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُؤْتِیَهُ اللّهُ الْکِتابَ وَ الْحُکْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُولَ لِلنّاسِ کُونُوا عِباداً لِی مِنْ دُونِ اللّهِ وَ لکِنْ کُونُوا رَبّانِیِّینَ بِما کُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْکِتابَ وَ بِما کُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَ لا یَأْمُرَکُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِکَةَ وَ النَّبِیِّینَ أَرْباباً أَ یَأْمُرُکُمْ بِالْکُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (3) .

والمحصّل : إنّ صدور ترک الأوْلی من الأنبیاء ممّا استعرضته الآیات السابقة دلیل علی وجود عنصر الاختیار ، کما استعرضتْ جملة من السور والآیات حالات مشابهة لترک الأوْلی من الأنبیاء ، ولسان تلک الآیات فیه من التشدید ممّا قد یتوهّم القارئ فی الوهلة الاُولی أنّها معاصی ، مع أنّها لیست کذلک ، ولکنّ هذا التشدید فی القول والعتاب هو بمقتضی شدّة المسؤولیّة الملقاة علی عاتقهم ، ویترتّب علیها شدّة المحاسبة والمراقبة ، و ذلک بحسب ما أعطاهم اللّه تعالی من مواهب لدنّیة ، وعلوم إلهیّة ، وقدرة فی الولایة ، فاشتدّت مداقّته وحسابه تعالی معهم .

ونظیر ذلک ما ورد فی شأن یُونس فی قوله تعالی : وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَیْهِ فَنادی فِی الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَکَ إِنِّی کُنْتُ مِنَ

ص:145


1- (1) البقرة : 30 - 37 .
2- (2) آل عمران : 30 - 34 .
3- (3) آل عمران : 79 - 80 .

اَلظّالِمِینَ*فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّیْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ کَذلِکَ نُنْجِی الْمُؤْمِنِینَ (1) حیث إنّه فارق قومه بعد أن دعا علیهم بالعذاب ، وکان الأوْلی أن ینتظر ویصبر حتّی یأتیه أمر اللّه .

ونظیره أیضاً قوله تعالی : عَفَا اللّهُ عَنْکَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْکاذِبِینَ (2) حیث کان الأوْلی أن لا یأذن النبیّ صلی الله علیه و آله لمن طلب الرخصة منه فی التخلّف عن الجهاد ، کی ینکشف أمام الناس کِذبُ من یتعذّر منهم .

ثانیاً : بأنّ العرض الذی قدّمه رسول اللّه صلی الله علیه و آله بین یدی العبّاس والإمام علیّ علیه السلام وخیّرهما فیه اقتصر علی الترشیح بتراث النبیّ صلی الله علیه و آله ، فی قبال إنجاز عداته وقضاء دیونه ، وتراث النبیّ صلی الله علیه و آله ووراثته وإن کانت شاملة فی الأساس إلی مقامات ومناصب رسول اللّه صلی الله علیه و آله الإلهیّة فی الدین - عدا النبوّة - وبالتالی فهی تشمل الإمامة والخلافة عن اللّه تعالی ، التی هی أحد مناصب النبیّ صلی الله علیه و آله ، إلّاأنّ هذا التخییر تبیان من النبیّ صلی الله علیه و آله إلی أنّ وراثته صلی الله علیه و آله تختلف عن وراثة غیره من الناس ، لأنّ تراثه تراثاً ربّانیّاً ، وهو ما امتلکه من صلاحیّات دینیّة ومسؤولیّات فی الدعوة الإلهیّة .

ولا یخفی أنّ میراثه الربّانی هذا لا تتساوی شرائط الوارث فیه مع شرائط الوارث فی تراث وترکة الآخرین ، فإنّ فی شرائط الوارث فی هذا المقام شرائط اخری خاصّة ، مضافاً إلی شرائط الورّاث الآخرین ، وهی بیعته والتزامه بالدعوة الخاصّة ، واستجابته للبعثة الخاصّة ، التی بعث بها النبیّ صلی الله علیه و آله یوم الدار ، وتحمّل العبء الشدید لأوامر الرسالة وأثقال الدین .

ثالثاً : إنّ هذا العرض من النبیّ صلی الله علیه و آله تبیان منه لهذا الشرط ، وتأکید منه أنّه لا یتأهّل لهذا المقام ، أی مقام وراثة النبیّ صلی الله علیه و آله إلّامن یستجیب لهذه الشروط ، لا یستطیع أن یقوم بهذه الشروط إلّاعلیّ أمیر المؤمنین علیه السلام ، ولا یحدّث العبّاس نفسه غداً

ص:146


1- (1) الأنبیاء : 87 و 88 .
2- (2) التوبة : 43 .

بمنازعة علیّ علیه السلام علی تراث رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

رابعاً : إنّ مقام الوراثة عن النبیّ صلی الله علیه و آله کانت أرضیّته بنحو الإعداد العامّ ، تعمّ کلّاً من علیّ علیه السلام والعبّاس ، لمساسة رحمهما بالنبیّ صلی الله علیه و آله ، کما کانت الدعوة والبعثة الخاصّة تعمّ من حیث الأهلیّة العامّة کلّ بنی عبد المطّلب فی یوم الدار ، إلّا أنّ الأهلیّة الخاصّة اختصّت بعلیّ علیه السلام .

بعثة النبیّ صلی الله علیه و آله برسالة خاصّة فی بنی عبد المطّلب :

وممّا یسلّط الضوء علی عمق ما تقدّم من تضمّن البعثة الخاصّة لتشریعات تخصّ بنی عبد المطّلب ، مرتبطة بمسؤولیة الإمامة والخلافة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، واتّضاح ذلک بصورة جلیّة ، ما رواه ابن عساکر وغیره بسنده عن أبی بکر من قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

« یا بنی عبد المطّلب ، إنّه لم یبعث اللّه نبیّاً إلّاجعل له من أهله أخاً ووزیراً ووصیّاً وخلیفة فی أهله »(1) .

وأیضاً ما رواه الثقفی فی کتاب « الغارات » من احتجاج الإمام الحسن علیه السلام علی معاویة فی قوله علیه السلام :

« . . . ولکلّ نبیّ دعوة فی خاصّة نفسه وذرّیته وأهله ، ولکل نبی وصیّة فی آله ، ألم تعلم أنّ إبراهیم أوصی بابنه یعقوب ، ویعقوب أوصی بنیه إذ حضره الموت ، وأنّ محمّداً صلی الله علیه و آله أوصی إلی آله ، سُنّة إبراهیم ، والنبیّین ، اقتداءاً بهم کما أمره اللّه ، لیس لک منهم ولا منه سُنّة فی النبیّین ، وفی هذه الذرّیة التی بعضها من بعض ، قال اللّه لإبراهیم وإسماعیل وهما یرفعان القواعد من البیت : رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ فنحن الاُمّة المسلمة ، وقالا : رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ فنحن أهل

ص:147


1- (1) تاریخ مدینة دمشق : 42 : 50 ، ترجمة علیّ بن أبی طالب ، الحدیث 4933 . شواهد التنزیل : 1 : 545 .

هذه الدعوة ، ورسول اللّه منّا ، ونحن منه ، وبعضنا من بعض ، وبعضنا أولی ببعض فی الولایة والمیراث ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ وعلینا نزل الکتاب ،

وفینا بعث الرسول ، وعلینا تُلیت الآیات ، ونحن المنتحلون للکتاب ، و الشهداء علیه ، والدعاة إلیه ، والقُوّام به ، فَبِأَیِّ حَدِیثٍ بَعْدَهُ یُؤْمِنُونَ (1)»(2) .

فإنّه علیه السلام بیّن أنّ بعثة النبیّ صلی الله علیه و آله لها دعوتان : خاصّة وعامّة ، سُنة إلهیّة فی کلّ الأنبیاء ، وأنّ دعوته الخاصّة هی فی ذرّیته وقرباه وأهل بیته ، وأنّ متعلّق الدعوة الخاصّة یکون متعلّقاً لوصیته بعد مماته ، فهذه الوصیّة خاصّة مرتبطة بشخصیّته الحقوقیّة ، أی بمقاماته ومناصبه الإلهیّة .

ومنه یظهر وجه الاستدلال بآیة الوصیّة علی الوراثة اللدنّیة ، وهی قوله تعالی :

یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ والتی استدلّت بها سیّدة النساء علیها السلام فی خطبتها ، حیث تبیّن الروایات الواردة فی یوم الدار أنّ وراثة بیوت الأنبیاء من الأنبیاء لا تقتصر علی الوراثة المالیّة ، بل تعمّ وتشمل وراثة المقامات ، والمناصب الإلهیّة التی حظی بها ذلک النبیّ .

کما أنّه علیه السلام یشیر إلی قوله تعالی فی شأن یعقوب فی وصیته لبنیه ، بأنّ اللّه اصطفی لهم الدِّین ، و هذا ممّا یشیر إلی أنّ لُباب الدین الخالص قد شُرّع فی الدرجة الاُولی للأنبیاء والمصطفَیْنَ من ذراریهم ، والمقصود من ذلک هو الإشارة إلی أنّ تشریعات الدعوة الخاصّة ، والرسالة والبعثة هو فی خاصّة ذرّیتهم المصطفاة ، وهذه التشریعات وإن کانت من الدین والشریعة ، إلّاأنّ المخاطب بها خاصّة القربی والرهط المخلَصین لکلّ نبیّ .

ص:148


1- (1) الأحزاب : 40 .
2- (2) الغارات : 1 : 200 .
إنّما یَعرِف القرآن مَن خُوطب به :

إنّ مقتضی أنّ بعثة الأنبیاء لها دعوتان : خاصّة وعامّة ، أنّ بعض الدرجات العالیة من الشریعة والدین والکتاب لا یخاطب بها إلّاقُربی النبیّ وأهل بیته ، وبعض درجات القرآن لم یخاطب بها إلّاهُم .

بل یظهر من لحن بعض الآیات والروایات أنّ المخاطب الأوّل للقرآن هو سیّد الأنبیاء صلی الله علیه و آله ، وهو ما یعبّر عنه عدّة من المحققین : إنّ قطب خطاب القرآن الأوّل هو سیّد الأنبیاء صلی الله علیه و آله ، فاختصاص الخطاب القرآنیّ بعضه بالنبیّ خاصّة ، أو بأهل بیته خاصّة ، شاهد آخر علی تعدّد الدعوة والبعثة والرسالة ، أو فقل : دالّ علی اختصاص التکلیف الإلهیّ والمسؤولیّة فی دوائرها العلیا بالنبیّ وأهل بیته .

وممّا یشیر إلی اختصاص الخطاب بالدرجة الاُولی بسیّد الأنبیاء صلی الله علیه و آله ، هو جملة السور التی تفتتح بالحروف المقطّعة المقرونة بذکر الکتاب ، فإنّها أسماء للنبیّ صلی الله علیه و آله کما روی ذلک عن الإمام زین العابدین علیه السلام فی الصحیفة السجادیة فی دعائه علیه السلام یوم الفطر :

« وَخَصَصْتَهُ بِالْکِتابِ الْمُنْزَلِ عَلَیْه ، وَالسَّبْعِ الْمَثانِی الْمُوحاةِ إِلَیْهِ ، وَأَسْمَیْتَهُ الْقُرْآنَ ، وَأَکْنَیْتَهُ الْقُرْقانَ الْعَظیمَ ، . . . فَخَصَصْتَهُ أَنْ جَعَلْتَه قَسَمَکَ حینَ أَسْمَیْتَهُ وَقَرَنْتَ الْقُرْآنَ بِهِ ، فما فی کِتابِکَ مِنْ شاهِدِ قَسَمٍ وَالْقُرْآنُ مُرْدَفٌ بِهِ إِلَّا وَهُوَ اسْمُهُ . . . » .

وقد اشتملت هذه الحروف علی علم جمّ ، من أمّ الکتاب ، فقد ذکر الطبرسیّ فی « مجمع البیان » : أنّه روت العامّة عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال :

« إنّ لکلّ کتاب صفوة ، وصفوة هذا الکتاب حروف التهجّی »(1) ، وصفوة الشیء لُبابه وأعالیه .

ص:149


1- (1) روته العامّة والخاصّة ، فممّن رواه من العامّة الرازی فی التفسیر الکبیر : 2 : 3 . القندوزی الحنفی فی ینابیع المودّة : 3 : 218 . الثعلبی فی تفسیره : 1 : 136 ، وغیرهم .ومن الخاصّة الطبرسی فی مجمع البیان : 1 : 75 . المجلسی فی البحار : 88 : 11 . الفیض الکاشانی فی التفسیر الصافی : 1 : 91 .

وروی العیّاشیّ عن أبی لبید ، عن أبی جعفر علیه السلام ، قال :

« یا أبا لبید ، إنّ لی فی حروف القرآن المقطّعة لعلماً جمّاً »(1) .

وممّا ورد مبیّناً لاختصاص الخطاب ، وبالتالی اختصاص الدعوة الخاصّة بهم ، ما استفاض عن أهل البیت علیهم السلام من قولهم :

« إنّما یعرف القرآن من خوطب به »(2) ،أی أنّ لُباب معرفة القرآن العمیق ، المکنون فی اللوح المحفوظ إنّما خوطب به بخطاب خاصّ هم أهل البیت علیهم السلام ، ویشهد لهذا الحدیث المتواتر عنهم قوله تعالی :

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (3) وهم أهل آیة التطهیر .

فخصّص اللّه تبارک وتعالی نیل الکتاب المکنون بالمطهّرین ، وهم أهل آیة التطهیر ، وهم الذین طهارتهم لدنّیة وهبیّة منه تعالی ، لا طهارة اکتسابیة ، وهم المطهّرون لا المتطهّرون ، حیث إنّ عنوان المطهّر هو الذی طهّره اللّه تعالی ، کما فی آیة التطهیر ، بینما المتطهّر هو الذی ورد فی قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ التَّوّابِینَ وَ یُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ (4) .

ویشهد له قوله تعالی : وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ (5) ، فبیّن تعالی أنّ جملة علم القرآن العزیز مختصّ بالراسخین بالعلم .

ص:150


1- (1) تفسیر العیّاشی : 2 : 2 .
2- (2) الکافی : 8 : 312 . مستدرک الوسائل : 17 : 335 ، الحدیث 31 .ولاحظ وسائل الشیعة : 27 : 175 ، باب 13 من أبواب صفات القاضی ، تحت عنوان ( عدم جواز استنباط الأحکام النظریّة من ظواهر القرآن إلّابعد معرفة تفسیرها من الأئمّة علیهم السلام ) ، طبعة مؤسسة آل البیت علیهم السلام .
3- (3) الواقعة : 77 - 79 .
4- (4) البقرة : 222 .
5- (5) آل عمران : 7 .

وهکذا قوله تعالی : بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ (1) ، وهنا کذلک قد بیّن أنّ اللّه تبارک وتعالی قد خصّ عِلمَ بیان الکتاب کلّه بفئة خاصّة من هذه الاُمّة ، ووصفهم بأنّهم وُهبوا من لدنه العلم فرسخوا فیه .

وأفصح عن الراسخین فی العلم بأنّهم المطهّرون من هذه الاُمّة ، وقد خصّهم بعلم القرآن ، وهو شاهد علی اختصاصهم بجملة الخطاب القرآنی .

دعوة بنی عبد المطّلب للوصایة والإمامة فی الدین :
اشارة

إنّ فی المقام إثارة لا بدّ من الالتفات إلیها ، وهی :

إنّ ما ورد فی جمیع الروایات التی رویت من طرق الفریقین التی تدور حول حدیث الدار ، من أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله لم یعرض علی أعمامه وبنی عبد المطّلب ، وهم یومئذٍ أربعون رجلاً ، لم یعرض علیهم أصل الإسلام فحسب ، بل کان ترکیزه علی أخذ البیعة من شخص منهم یکون أخاً ووزیراً ووصیّاً وناصراً وخلیفة له ، أمّا أصل الدعوة إلی الإسلام فکأنّه أمر مفروغ عنه بینه صلی الله علیه و آله وبینهم ، ومعهود لا حاجة لتبیانه ، بل إنّه صلی الله علیه و آله یدعوهم إلی تقلّد الوزارة والوصایة والخلافة من بعده .

وبعبارة اخری : إنّ المتتبّع والمتأمّل لمتون الروایات المرویّة عند الفریقین ، یلاحظ أنّ طلبه صلی الله علیه و آله الأصلیّ من بنی هاشم هو : طلب البیعة منهم علی المؤازرة ، والنصرة ، وتحمّل أعباء الدعوة الجدیدة ، مشاطرة للنبیّ صلی الله علیه و آله .

وفی متون جُلّ هذه الروایات لم تکن دعوته لهم منصبّة علی الشهادتین ، وأنّه نبیّ مبعوث ، إلّافی متن بعض قلیل من تلک الروایات ، فقد ورد فیها التعرّض إلی الشهادتین بنحو إجمالیّ ، کقوله صلی الله علیه و آله :

« یا بنی عبد المطّلب ، إنّی أنا النذیر إلیکم من اللّه عزّ وجلّ ، والبشیر بما لم یجئ به أحد ، جئتکم بالدنیا والآخرة ، فأسلموا

ص:151


1- (1) العنکبوت : 49 .

وأطیعونی تهتدوا ، ومن یؤاخینی منکم ، ویؤازرنی ، ویکون ولیّی ، ووصیّی بعدی ،

وخلیفتی فی أهلی ، ویقضی دینی ، فسکت القوم ، وأعاد ذلک ثلاثاً ، کلّ ذلک یسکت القوم ، و یقول علی :

أنا .

فقال :

أنت ، فقام القوم وهم یقولون لأبی طالب : أطع ابنک فقد أمّره علیک »(1) .

ویستفاد من هذه عدّة امور :

الأوّل : خصائص بنی هاشم :

إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله لم یلمس ولم یجد من الأقربین منه من بنی عبد المطّلب تمنّعاً ، أو إنکاراً ، أو مجابهة لأصل دعوته ، من الشهادة بالتوحید ، والشهادة بالنبوّة ، والرسالة فی قرارة نفوسهم ، وإن لم یکن ذلک بمعنی استجابتهم الفعلیة لإبراز الشهادتین ، والإقرار بها فی العلن ، لاتّخاذ موقف المساندة والوقوف مع النبیّ صلی الله علیه و آله فی مقابل قریش والمشرکین ، إذ کان ذلک یجرّ علیهم مشاکل وأعباء بالغة الثقل ، وخیر شاهد علی ذلک ما لاقاه أبو طالب ( رضوان اللّه علیه ) من عناء شدید فی حمایة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، والدفاع عن دین الإسلام وأهله ، بما لم یلقَ أحد من المسلمین .

کما أنّ ما سجّله التاریخ من مواقف دفاع من بقیّة أعمام النبیّ عنه صلی الله علیه و آله وإن کانت لا ترقی إلی مستوی ما قام به أبو طالب ( رضوان اللّه علیه ) لکنّهم سجّلوا مواقف عدیدة ، بل وصل الأمر فی بعض الأحیان إلی أنّ أبا لهب وقف مدافعاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وإن کان الطابع العامّ لمواقفه کان عدائیاً للنبیّ صلی الله علیه و آله ومسانداً لقریش .

والحاصل : أنّ ترکیز رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی أخذ البیعة منهم علی المؤازرة والمشارکة فی تحمّل المسؤولیّة دالّ بوضوح علی عدم تمنّع بنی عبد المطّلب

ص:152


1- (1) شواهد التنزیل للحسکانی : 1 : 542 ، الحدیث 580 . فرائد السمطین : 2 : 65 ، الحدیث 851 . الدرّ المنثور للسیوطی : 5 : 181 .

من الإیمان بالأصلین الأوّلین فی الإسلام ، وهما الشهادتین ، وإنّما کان إحجامهم وامتناعهم عن البیعة لشدة ثقل المسؤولیّة فی بیعة الوصایة والوزارة والخلافة نیابة عن الرسول صلی الله علیه و آله .

والالتفات إلی هذه النقطة لا یحتاج إلی مؤنة کثیرة بعد الالتفات إلی أنّ مطالبته صلی الله علیه و آله إیّاهم بالبیعة علی الأصل الثالث ، وهو الوصایة والوزارة ، لا تعقل مع فرض رفضهم للأصلین الأوّلین فی الإسلام ، إذ لو فرض رفضهم للأصلین الأوّلین فکیف یطالبهم بما هو تابع لهما ، ویکون من قبیل المطالبة بالزکاة والصلاة منهم مثلاً مع رفضهم للشهادتین ، أی أنّه سیکون الحال نظیر ما بُحث من عدم معقولیة خطاب الکفّار بالفروع مع رفضهم للاُصول ، حتّی لو قیل بأنّ الکفّار مکلّفون بالفروع بحسب الواقع لا بحسب الخطاب ، وإن کان الأمر فی الوصایة والوزارة لیس علی حذو أرکان الفروع ، بل هو الأصل الثالث فی الإیمان .

ولو قیل : بأنّ الدعوة إلی الإسلام ربّما تکون قد سبقت یوم الدار ولو بنحو الخفاء وکان بنو عبد المطّلب قد تسامعوا بها ، فمن الطبیعیّ والمنطقیّ حینئذ أن تکون دعوته صلی الله علیه و آله إیّاهم فی یوم الدار ، هو إلی البیعة علی الأصل الثالث فی الإیمان ، وهی الوصایة ، والولایة ، والوزارة .

ویجاب : بأنّه لو سُلّم ذلک إلّاأنّه لا یُبرّر مطالبته صلی الله علیه و آله إیّاهم بالأصل الثالث ، مع فرض إبائهم وتمنّعهم عن الأصلین الأوّلین .

وهناک شواهد اخری علی هذه النقطة :

منها : إنّ الإمام علیّ علیه السلام کان قد أسلم قبل یوم الدار ، وکان بنو عبد المطّلب یعلمون ذلک منه ، وإجابته علیه السلام للنبیّ صلی الله علیه و آله إنّما کانت فی بیعة الوصایة والوزارة والخلافة والمشارکة فی تحمّل المسؤولیّة ، فالذی أجاب إلیه علیّ علیه السلام هو الذی قد عُرض علی بقیّة بنی عبد المطّلب .

ص:153

ومنها : قول أبی لهب کما فی ذیل بعض طرق الروایة التی رواها ابن عساکر ، وهی : « فقام علیّ بن أبی طالب فبایعه بینهم فتفل فی فیه . فقال أبو لهب : بئس ما جبرت به ابن عمک إذ أجاب إلی ما دعوته إلیه فملأت فاه بصاقاً »(1) .

فإنّ أبا لهب قد حدّد دعوة النبیّ صلی الله علیه و آله فی الذی قد أجابه به علیّ علیه السلام ، ومن الواضح أنّ الإجابة من علیّ علیه السلام لم تکن إلی أصل الإسلام ، إذ کانت قد حصلت قبل ذلک ، وإنّما کانت البیعة علی الخلافة والوصایة والولایة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

ومنها : قول أبی لهب أو معه بعض بنی عبد المطّلب قولهم لأبی طالب « أطع إبنک فقد أمّره علیک » فإنّ الترکیز علی من له حقّ الطاعة والسؤدد بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، دون التطرّق إلی أصل طاعة رسول اللّه صلی الله علیه و آله یُظهر أنّ الدعوة منصبّة علی من یکون له أهلیّة المقام والصلاحیات بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وأنّ مقامه صلی الله علیه و آله مفروغ عنه بینهم .

الثانی : إیمان أبی طالب :

فی نهایة هذه الواقعة ، وفی ذیل جملة من الروایات الواردة فی المقام تقول :

فقام القوم - أی بعد مبایعة علیّ للنبیّ صلی الله علیه و آله - « وهم یقولون لأبی طالب : أطع إبنک فقد أمّره علیک »(2) .

وفی بعضها قالوا لأبی طالب أیضاً : « یا أبا طالب ، ألا تری إبنک ؟

فقال : دعوه فلن یألو ابن عمّه خیراً »(3) .

ص:154


1- (1) تاریخ مدینة دمشق : 42 : 49 و 50 ، الحدیث 4933 .
2- (2) شواهد التنزیل : 1 : 542 ، الحدیث 580 . فرائد السمطین : 2 : 65 ، الحدیث 851 . الدرّ المنثور للسیوطی : 5 : 181 .
3- (3) الطبقات الکبری لابن سعد : 1 : 147 .

فإنّ جواب أبی طالب ظاهر بیّن فی دعم الدعوة الجدیدة ، والمشروع الإلهیّ الذی استنصر النبیّ صلی الله علیه و آله بنی هاشم فیه .

کما أنّ هذا الجواب من أبی طالب رغم ما أعلنه النبیّ صلی الله علیه و آله من وصایة علیّ وخلافته ، وإلزام کهول وشیوخ بنی عبد المطّلب بطاعة علیّ علیه السلام ، ورغم صغر سنّه ، فإنّ جواب أبی طالب وأمام بنی عبد المطّلب ، وبرغم تضاحک بعضهم واستخفافهم ، یدلّ علی مدی استجابة أبی طالب للرسول صلی الله علیه و آله ، ولولایة ووصایة ابنه علی نفسه ، رغم أنّ مقام الاُبوّة یقتضی الترفّع والتعالی لا الخضوع والنزول أمام الإبن ، مع ملاحظة أنّ أبا طالب کان سیّد قریش .

فدراسة هذا الموقف یکشف عن إیمان أبی طالب ومدی انقیاده وإطاعته لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ولأوامر اللّه تعالی ، ولإبنه کوصیّ ، ووزیر ، وأخ یشارک رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی تحمّل أعباء الرسالة .

هذا إذا أضفنا إلی أنّ أبا طالب کان هو الحامی لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، والراعی لتربیته ورعایته ، منذ طفولته صلی الله علیه و آله إلی سنّ الأربعین وما بعدها ، حتّی یوم الدار والإنذار .

ومن ذلک یتّضح وجه دلالة جمیع الروایات الاُخری ، التی یظهر فیها سکوت أبی طالب ومبایعة ابنه علیّاً ، وبعد أن نصبه رسول اللّه صلی الله علیه و آله وزیراً وخلیفة ، وأمر عشیرته بالسمع والطاعة له ، فإنّ أبا طالب لم یبادر بالإنکار ولا بالاعتراض ولا بالمشاغبة ولا بالردّ أمام ملأ بنی عبد المطّلب وساداتهم ، مع مخاطبة النبیّ صلی الله علیه و آله له ولهم بالأمر بالطاعة والسمع لعلیّ علیه السلام ، إذ لم یستثنه النبیّ صلی الله علیه و آله منهم لذلک ، بل أعلن النصرة والقبول بجوابه السابق .

والتزام أبی طالب بهذا الموقف المشرّف یعدّ فی قمّة المسؤولیّة ، ویُعدّ أبو طالب بناءً علی ذلک من أرکان وأعمدة صرح الدین ، إذ رغم حراجة الموقف حیث إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قد أخّر القیام بإبلاغ ذلک الإنذار عدّة مرّات ، والقیام بتنصیب

ص:155

الوزیر والخلیفة والوصیّ من بعده ، وأمرهم بطاعته والسمع له ، حیث قال صلی الله علیه و آله لعلی علیه السلام :

« یا علی ، إنّ اللّه أمرنی أن انذر عشیرتی الأقربین ، فضقت بذلک ذرعاً ،

وعرفت أنّی متی ما أبادیهم بهذا الأمر أری منهم ما أکره ، فصمتّ علیه ، حتّی جاء جبرئیل فقال : یا محمّد ، إنّک إن لا تفعل ما تؤمر به یعذّبک ربّک »(1) .

وحراجة هذا الموقف وصعوبته تنشأ من خطورة منصب الإمامة ورئاسة الدین بعد النبیّ صلی الله علیه و آله ، ولذا نجد تکرّر الوضع العصیب مرّة اخری فی بیعة الغدیر ، حیث تمهّل النبیّ صلی الله علیه و آله فی أخذ بیعة الغدیر من عموم الصحابة والمهاجرین والأنصار ، ونزل علیه النداء الإلهیّ یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النّاسِ (2) .

فالمهمّة صعبة وذات خطورة علی مصیر الرسالة والدین ، وتُعدّ من أکبر الامتحانات الإلهیّة لکلّ شرائح المجتمع .

ومن هنا یمکن للباحث أن یقدّر حراجة الموقف وشدّته ، ویوضّح ثقل الامتحان فیه وما تکرّر ذکره فی الروایات الواصفة لمجلس یوم حدیث الدار ، فی قول علی علیه السلام :

« فقمتُ وإنّی لأحدثهم سنّاً ، وأرمصهم عیناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً . . . »(3) .

وفی عبارة اخری من طرق العامّة :

« وأسوأهم هیئة »(4) .

فکلّ هذا یبیّن صعوبة الامتحان ، ورغم کلّ ذلک فإنّ موقف أبی طالب کان موقف

ص:156


1- (1) تاریخ الطبری : 2 : 62 . تفسیر الطبری : 19 : 148 . شرح نهج البلاغة : 13 : 210 . الکامل فی التاریخ : 2 : 62 . کنز العمّال : 13 : 132 ، الحدیث 36419 .
2- (2) المائدة : 67 .
3- (3) الأمالی للطوسی : 2 : 194 .
4- (4) تاریخ دمشق : 42 : 47 ، الحدیث 4933 .

الحامی ، والناصر والمدافع ، المجیب لاستنصار رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، المشجّع لابنه علیّاً فی بیعة الوصایة والخلافة .

فلم تکن زعامته لقریش عائقاً أمام نصرته وتأییده ورضوخه للحقّ ، والتنازل عن تلک الزعامّة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ومن بعده لابنه علیّ علیه السلام ، کما ورد : « إنّ آخر ما یخرج من قلوب الصدّیقین حبّ الرئاسة » .

الثالث : أهلیّة بنی عبد المطّلب للترشیح الإلهیّ لمقام الإمامة :

فقد ورد فی الحدیث عن النبیّ صلی الله علیه و آله :

« قسّم اللّه تبارک وتعالی أهل الأرض قسمین ،

فجعلنی فی خیرهما ، ثمّ قسّم النصف الآخر علی ثلاثة ، فکنت خیر الثلاثة ، ثم اختار العرب من الناس ، ثمّ اختار قریشاً من العرب ، ثمّ اختار بنی هاشم من قریش ، ثمّ اختار بنی عبد المطّلب من بنی هاشم ، ثمّ اختارنی من بنی عبد المطّلب »(1) .

وقوله صلی الله علیه و آله فی حدیث یوم الدار المتقدّم :

« یا بنی عبد المطّلب ، کونوا فی الإسلام رؤوساً ، ولا تکونوا أذناباً ، و اللّه لیقومنّ قائمکم أو لتکوننّ فی غیرکم ثمّ لتندمنّ » .

حیث یدلّ علی أنّ لبنی عبد المطّلب اصطفاء واختصاص وأهلیّة ، وإعداد لتحمّل الرسالة وأعبائها ، دون بقیّة أفخاذ قریش .

کما یدلّ الحدیث علی نوع اختصاص لقریش أی آباء النبیّ صلی الله علیه و آله وأجداده علی بقیّة العرب ، حیث کانوا سَدَنَة الحرم ، ورعاته ، والمتکفّلین بعمارته ، وإقامة طقوس الملّة الحنیفیّة الإبراهیمیّة ، وإن دبّ فی بطون قریش الانحراف بعبادة الأصنام والأوثان عدا آباء النبیّ صلی الله علیه و آله ، لکن ظلّ لقب أهل الحرم مختصّ بهم دون بقیّة العرب .

ص:157


1- (1) الخصال : 36 ، الحدیث 11 . بحار الأنوار : 16 : 321 .ولاحظ کتب التفسیر ، ما أخرجوه من حدیث النبیّ صلی الله علیه و آله ذیل قوله تعالی : (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْیاءَ إِنْ تُبْدَ لَکُمْ تَسُؤْکُمْ) المائدة : 101 .

کما أنّ بنی هاشم وبنی عبد المطّلب کان لهم اختصاص ، حیث کانوا سادات قریش ، و کانوا أشدّ الناس محافظة علی شرائع ملّة إبراهیم الحنیفیّة ، و کانوا یتوارثون ما ترک إبراهیم وآل إبراهیم ، وإسماعیل وآل إسماعیل ، من مواریث الأنبیاء والأوصیاء . وقد شهدت العرب عامّة وقریش خاصّة ، الکرامات والمعاجز المتعدّدة من آباء وأجداد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، حتّی أنّ حُسّادهم من بقیّة بطون قریش کانوا یصفون ذلک بالسحر .

ومن ثَمّ کان فی بنی عبد المطّلب استعداد خاصّ للقیام بمسؤولیة الدعوة الإلهیّة العظمی ، ومؤازرة النبیّ صلی الله علیه و آله فیما حُمّل فی تبلیغ الأمر الإلهیّ ، و هذا ما تشیر إلیه جملة الأحادیث الواردة من طرق الفریقین فی حدیث الدار .

فقد أشار إلی ذلک قوله تعالی : (وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ و رهطک منهم المخلصین ) کما مرّ أنّه مُثبَّت فی بعض المصاحف ، کمصحف عبد اللّه بن مسعود ، وعدّة من القرّاء .

کما تکرّر قوله صلی الله علیه و آله فی طرق الحدیث :

« إنّ اللّه لم یبعث نبیّاً إلّاجعل له أخاً من أهله ، ووارثاً ، ووصیاً ، ووزیراً ، فأیّکم یقوم فیبایعنی » . فبیّن صلی الله علیه و آله أنّ البیوت التی ینحدر منها أیّ نبیّ من الأنبیاء لا بدّ أن یُقدّر اللّه تعالی فیها أهلیّة خاصّة ، لیتّخذ ویصطفی منهم رجلاً آخر یکون وارثاً لذلک النبیّ ، ووصیّاً من بعده ، ووزیراً له فی حیاته .

وکذا ما تکرّر من قوله صلی الله علیه و آله :

« یا بنی عبد المطّلب ، کونوا فی الإسلام رؤوساً ولا تکونوا أذناباً » .

أو قوله صلی الله علیه و آله :

« و اللّه لیقومنّ قائمکم أو لتکوننّ فی غیرکم ثمّ لتندمنّ » .

فهذه البیانات منه صلی الله علیه و آله کلّها دالّة علی ترشیح وأهلیّة خاصّة لبنی عبد المطّلب دون غیرهم لهذا المقام ، کما صرّح صلی الله علیه و آله فی قوله فی حدیث الدار بجمیع طرقه

ص:158

الواردة

« بعثت إلیکم بخاصّة » فإنّ لفظ هذه الجملة قد تکرّر فی طرق الحدیث بدخول الباء علی « خاصّة » ، وهو یغایر التعبیر « بعثت إلیکم خاصّة » ، حیث یتضمّن معناه وزیادة ، أی بأمور وتکالیف ومسؤولیات خاصّة ومناصب ، ودون بقیّة عامّة الناس .

یوم الدار مائدة سماویّة لبنی عبد المطّلب :

ففی بعض طرق تلک الروایات ما رواه السیّد ابن طاووس بسنده عن النبیّ صلی الله علیه و آله :

« یا بنی عبد المطّلب ، إنّی نذیر لکم من اللّه جلّ وعزّ ، إنّی أتیتکم بما لم یأت به أحد من العرب ، فإن تطیعونی ترشدوا وتفلحوا وتنجحوا ، إنّ هذه مائدة أمرنی اللّه بها ،

فصنعتها کما صنع عیسی بن مریم علیه السلام لقومه ، فمن کفر بعد ذلک منکم فإنّ اللّه یعذّبه عذاباً لا یعذّبه أحداً من العالمین ، واتّقوا اللّه واسمعوا ما أقول لکم .

و اعلموا یا بنی عبد المطّلب إنّ اللّه لم یبعث رسولاً إلّاجعل له أخاً ووزیراً ووصیّاً ووارثاً من أهله ، وقد جعل لی وزیراً کما جعل للأنبیاء قبلی ، وأنّ اللّه قد أرسلنی إلی الناس کافّة ، و أنزل علیّ ( وأنذر عشیرتک الأقربین ورهطک المخلصین ) ، وقد واللّه أنبأنی به وسمّاه لی ، ولکن أمرنی أن أدعوکم ، وأنصح لکم ، و أعرض علیکم لئلّا یکون لکم الحجّة فیما بعد ، وأنتم عشیرتی وخالص رهطی .

فأیّکم یسبق إلیها ، علی أن یؤاخینی فی اللّه ، ویؤازرنی فی اللّه جلّ وعزّ ، ومع ذلک یکون لی یداً علی جمیع من خالفنی ، فأتّخذه وصیّاً ، وولیّاً ، ووزیراً یؤدّی عنّی ،

ویبلّغ رسالتی ، ویقضی دینی من بعدی وعداتی ، مع أشیاء أشترطها ؟

فسکتوا ، فأعادها ثلاث مرّات ، کلّها یسکتون ویثب فیها علیٌّ .

فلمّا سمعها أبو لهب قال : تبّاً لک یا محمّد ولما جئتنا به ، ألهذا دعوتنا ؟

وهمّ أن یقوم مولّیاً . فقال : أما و اللّه لتقومنّ أو یکون فی غیرکم ، وقال یحرّضهم لئلّا یکون لأحد منهم فیما بعد حجّة .

ص:159

قال : فوثب علیّ علیه السلام ،

فقال : یا رسول اللّه ، أنا لها .

فقال رسول اللّه : یا أبا الحسن ، أنت لها ، قضی القضاء ، وجفّ القلم . یا علیّ ،

اصطفاک اللّه بأوّلها ، وجعلک ولیّ آخرها »(1) .

ولا یخفی اشتمال الروایة علی دلالات عدّة ، دالّة علی خصائص اصطفائیّة لبنی عبد المطّلب ، وإن لم یکونوا علی درجة واحدة فی التوفّر علیها .

فالإعجاز فی المائدة کبیّنة إلهیة والتی تکرّر ذکرها فی جمیع طرق الحدیث بین الفریقین ، تبیّن هذه الروایة أنّه نظیر ما صنعه نبیّ اللّه عیسی علیه السلام مع خاصّته وأنصاره من الحواریّین .

کما أنّه ذُکر فیها ما تکرّر ذکره فی عدّة طرق روایات الحدیث عند الفریقین :

« إنّ اللّه لم یبعث رسولاً إلّاجعل له من أهله أخاً ووزیراً ووصیّاً ووارثاً » وأنّ ذلک معیَّن فی علم اللّه تعالی ، وهو علیّ بن أبی طالب(2) .

إلّا أنّ الباری تعالی قد سبقت منه سُنّة الامتحان لئلّا یکون للعباد الحجّة علی اللّه تعالی ، وتکون الحجّة البالغة له تعالی علی العباد .

فکان امتحان الإمامة الکبری والوصایة والعهد فی بنی عبد المطّلب خاصّة ، من دون أن ینافی ذلک التعیین السابق فی علمه تعالی ، لا سیّما وأنّ الامتحان ممّا تنوء عن حمله الجبال الرواسخ ، ویثقل علی الراسیات الطوامح .

ص:160


1- (1) بحار الأنوار : 18 : 216 .
2- (2) المناقب لابن شهرآشوب : 1 : 307 . تاریخ دمشق لابن عساکر : 42 : 47 من ترجمة أمیر المؤمنین علیه السلام . شواهد التنزیل : 1 : 486 ، 542 ، 545 ، وغیرها .
الآیة السادسة فی الوراثة الاصطفائیّة لأهل البیت علیهم السلام
اشارة

قوله تعالی : وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ مِنَ الْکِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ إِنَّ اللّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِیرٌ بَصِیرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ * جَنّاتُ عَدْنٍ یَدْخُلُونَها یُحَلَّوْنَ فِیها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِیها حَرِیرٌ * وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَکُورٌ * اَلَّذِی أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا یَمَسُّنا فِیها نَصَبٌ وَ لا یَمَسُّنا فِیها لُغُوبٌ (1) .

الفرق بین سلسلتی وراثة الکتاب ووراثة النبوّة أو الإمامة

الآیات الکریمة فی صدد التعرّض لسلسلة وراثة الکتاب دون السلسلتین الأخیرتین ، وإن کان بینهما عموم وخصوص مطلق ، حیث إنّ کلّ من ینال وراثة النبوّة أو الإمامة لا بدّ أن یکون قد نال درجة وراثة الکتاب ، دون العکس .

ومجمل مفاد الآیات یقرّر حقیقة أنّ قربی النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام وهم « علیّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسین ، وذرّیة الحسین التسعة علیهم السلام » قد ورثوا ما قد أوحی إلی النبیّ صلی الله علیه و آله من طبقات ومنازل الکتاب(2) .

ص:161


1- (1) فاطر : 31 - 35 .
2- (2) حیث إنّه قد بیّن القرآن الکریم أنّ له مواقع تکوینیّة متصاعدة ، کاُمّ الکتاب ، والکتاب المبین ، والکتاب المکنون ، واللوح المحفوظ .

وهذه الوراثة للکتاب مقام من مقامات أهل البیت علیهم السلام ، وهی من مقامات رسول اللّه صلی الله علیه و آله ورثوها عنه ، وسیتبیّن لنا أنّ هذا المقام المتوارث انتقل عبر سلسلة الأصفیاء من آدم إلی النبیّ الخاتم صلی الله علیه و آله إلی أهل البیت علیهم السلام ، وهو یباین مقام النبوّة ومقام الإمامة .

وتبیان هذا المفاد علی نحو التفصیل یتمّ عبر التوقّف فی مفاد العناوین التی اشتملت علیها الآیات .

المحطّة الاُولی : المراد من « الکتاب » :

فقد ابتدأت الآیات بالحدیث عن الذی أوحی من الکتاب ، وعنوان الکتاب کما یصحّ إطلاقه علی المصحف الشریف الذی بین الدفّتین ، کذلک یصحّ إطلاقه علی مقام الکتاب فی طرف ملکوت الوحی ، والذی تلقّاه قلب وروح النبیّ صلی الله علیه و آله .

وقد استعمل هذا المعنی الثانی فی جملة من الموارد ، منها قوله تعالی : وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ وَ لکِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) (1).

وقوله تعالی : وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ کُلِّمَ بِهِ الْمَوْتی (2) .

وکذا قوله تعالی : وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً وَ بُشْری لِلْمُسْلِمِینَ (3) .

وکذا قوله تعالی : لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلی جَبَلٍ لَرَأَیْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ (4) .

ص:162


1- (1) الشوری : 52 .
2- (2) الرعد : 31 .
3- (3) النحل : 89 .
4- (4) الحشر : 21 .

وغیرها من الموارد الکثیرة ، حیث أُطلق فیها عنوان واسم الکتاب علی تلک المقامات .

والمعنی الثانی هو المراد فی الآیات المتقدّمة لمورد البحث ، بقرینة تخصیص وراثته بخصوص المصطفَین ، إذ لو کان المراد المصحف الشریف لما صحّ الاختصاص والتخصیص بوارث خاصّ ، إذ المصحف الشریف فی متناول کلّ البشر فضلاً عن المسلمین والمؤمنین .

وبعبارة اخری : إنّ الکلام الآتی فی تخصیص الوارث بخصوص أهل البیت علیهم السلام وهم قربی النبیّ صلی الله علیه و آله دون سائر الاُمّة ، ودون عموم البشر یقتضی کون الکتاب المخصَّص وراثته هو المعنی الثانی .

وسیأتی الإشارة إلی شواهد اخری ضمن بیان مفردات الآیة علی کون المراد هو المعنی الثانی .

المحطّة الثانیة : الوراثة المقصودة :
اشارة

فإنّ الوراثة أیضاً فی القرآن الکریم قد استعملت بمعان متعدّدة :

الأوّل : الوراثة المالیة والحقوقیّة فی حدود ونطاق شؤون ذوی الأرحام ، بما لهم من شؤون خاصّة فی شخصیّتهم الحقیقیّة ، کما فی قوله تعالی : یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ . . . فَإِنْ لَمْ یَکُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ (1) .

وکذا فی قوله تعالی : لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَی الْوارِثِ مِثْلُ ذلِکَ (2) .

الثانی : مطلق الإعطاء والتمکین ، کما فی قوله تعالی : إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ یُورِثُها مَنْ

ص:163


1- (1) النساء : 11 .
2- (2) البقرة : 233 .

یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ (1) وهو معنی یقارب معنی الاستخلاف العامّ .

ومثله قوله تعالی : وَ نُودُوا أَنْ تِلْکُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (2) .

وقوله تعالی : وَ أَوْرَثَکُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِیارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها (3) .

الثالث : الوراثة بمعنی جامع للوراثة المعنویّة والمادّیة ، مثل قوله تعالی :

وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ وَ قالَ یا أَیُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ وَ أُوتِینا مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ (4) .

وقوله تعالی علی لسان زکریّا علیه السلام : فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا * یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیًّا (5) .

الرابع : مَن ینتهی إلیه الشیء ، أو انتهاء شیء إلی شیء ، فالوراثة هی انتهاء الشیء إلیه ، کما فی قوله تعالی : وَ لِلّهِ مِیراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ (6) .

والمراد فی المقام من الوراثة هو المعنی الثالث ، أی الوراثة بالمعنی الشامل للوراثة المادّیة والمعنویّة ، و ذلک لجملة من الشواهد التی سیأتی بیانها ، وإن کانت وراثة الکتاب قد استعملت فی موضع آخر من القرآن فی المعنی الثانی والرابع ، کما فی قوله تعالی : وَ إِنَّ الَّذِینَ أُورِثُوا الْکِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِی شَکٍّ مِنْهُ مُرِیبٍ (7) .

ص:164


1- (1) الأعراف : 128 .
2- (2) الأعراف : 43 .
3- (3) الأحزاب : 27 .
4- (4) النمل : 16 .
5- (5) مریم : 6 .
6- (6) آل عمران : 180 .
7- (7) الشوری : 14 .

وکما فی قوله تعالی : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْکِتابَ یَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنی وَ یَقُولُونَ سَیُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ یَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ یَأْخُذُوهُ أَ لَمْ یُؤْخَذْ عَلَیْهِمْ مِیثاقُ الْکِتابِ أَنْ لا یَقُولُوا عَلَی اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِیهِ (1) .

ومن استعمالها فی المعنی الثالث هو قوله تعالی : وَ لَقَدْ آتَیْنا مُوسَی الْهُدی وَ أَوْرَثْنا بَنِی إِسْرائِیلَ الْکِتابَ* هُدیً وَ ذِکْری لِأُولِی الْأَلْبابِ (2) فلا یبعد أن یکون المراد بها هو الوراثة الشاملة للمعنویّة اللدنّیة للکتاب ، وإسنادها لعموم بنی إسرائیل بلحاظ المصطفَین منهم ، نظیر قوله تعالی : وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِیمَ وَ جَعَلْنا فِی ذُرِّیَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْکِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ کَثِیرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (3) .

شواهد الوراثة الشاملة للّدنّیة :

أمّا الشواهد علی إرادة الوراثة العامّة الشاملة للمعنویّة اللدنّیة فی الآیات المبحوث عنها فهی :

الشاهد الأوّل : تخصیص هذه الوراثة بالمصطفَین ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا الدالّ علی أنّ الوارث فی هذه الوراثة یشترط فیه أهلیة خاصّة ، وأنّه - کما سیأتی فی بقیّة المفردات - هو السابق فی کلّ الاُمور بالخیرات الوارد فی هذه الآیات ، بتسدید وإذن خاص من اللّه تبارک وتعالی ، والسابق هو الشاهد علی أعمال العباد .

وهذه الشهادة مقام ملکوتیّ یتمکّن بسببه من الإحاطة بکتاب الأبرار ، وکتاب أعمال العباد .

ص:165


1- (1) الأعراف : 169 .
2- (2) غافر : 53 .
3- (3) الحدید : 36 .

وقد وصفهم تعالی فی سورة الواقعة بکونهم المقرّبون ، وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِکَ الْمُقَرَّبُونَ ، والمقرّبون قد وُصفوا فی سورة المطفّفین کَلاّ إِنَّ کِتابَ الْأَبْرارِ لَفِی عِلِّیِّینَ * وَ ما أَدْراکَ ما عِلِّیُّونَ * کِتابٌ مَرْقُومٌ * یَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (1) .

ولا یخفی أنّ هذا الاصطفاء فی وراثة أهل البیت علیهم السلام لرسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یرد فی القرآن إلّافی المطهّرین من الحجج والأنبیاء ، کآدم ، ونوح ، وآل إبراهیم ، وآل عمران ، ومریم بنت عمران ، وطالوت ، وغیرهم .

الشاهد الثانی : أنّه قد أخبر تعالی بأنّهم یدخلون الجنّة ، وعلیه فلا یمکن أن یکون المراد کلّ الاُمّة کما هو واضح ، حیث إنّ فی جملة من السور قد أخبر تعالی عن وجود المنافقین فی هذه الاُمّة ، فی الرعیل والصدر الأوّل من الإسلام ، وأنّهم فی الدرک الأسفل من النار ، وکذلک أخبر تعالی عن الذین فی قلوبهم مرض ، ممّن کان قد أسلم فی أوائل البعثة ، کما فی سورة المدّثّر ، وهکذا فی طوائف اخری من الاُمّة غاویة ضالّة ، شهدت بوجودهم سورة براءة ، إلی غیر ذلک من السور ، وهکذا روایات الحوض ، وأنّ من الصحابة ممّن یؤمر به إلی النار ، ویُحال بینه وبین دخول الجنّة ، وفی بعض الأحادیث أنّه لا یبقی منهم إلّاکهَمل النعم ، وهکذا حدیث الفرقة الناجیة ، وأنّه لا تنجو إلّافرقة من ثلاث وسبعین فرقة ، وغیرها من النعوت الدالّة علی أنّ طوائف کثیرة من هذه الأمّة ممّن یدخل النّار .

وعلیه فلا یمکن أن یکون الوعد بدخول الجنة لکلّ الاُمّة ، فلا یبقی إلّاأن یکون المراد بعض الاُمّة ، وهم الذین یکون لهم شأن وأهلیّة لدخول الجنّة ، و هذا ممّا یدلّل علی أنّ الکتاب الموروث لیس هو ما بین الدفّتین ، وإلّا لکانت الاُمّة کلّها وارثة .

الشاهد الثالث : إنّ اللّه تبارک وتعالی قد أخبر بوجود مواقع ومنازل غیبیّة

ص:166


1- (1) المطفّفین : 18 - 21 .

تکوینیّة اخری للقرآن الکریم ، کما أخبر أنّ تلک المواقع الغیبیة للکتاب لا ینالها إلّا المطهّرون ، کما فی قوله تعالی : فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِیمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِیلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ (1) .

وقد وصفهم بالطهارة اللدنّیة منه تعالی ، کما کشف عنهم أنّهم هم أهل البیت علیهم السلام فی قوله تعالی : إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً و هذا تطابق وتشابه واضح بین الآیة فی المقام وبین ما فی سورة الواقعة والأحزاب ، حیث إنّ کلّاً من المفادین دالّین علی أنّ هناک وراثة معنویة لدنّیة للکتاب ، خاصّة بالمصطفَین من هذه الاُمّة بالطهارة .

الشاهد الرابع : إنّ القرآن دلّ علی أنّ له مواقع غیبیّة متعدّدة ، وکلّها قد ألمّ وأحاط بها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وقد أوحیت له ، وقد نُعتت تلک المواقع بأنّ فیها تبیان کلّ شیء ، وبعد وفاته صلی الله علیه و آله لا یُعقل تعطیل تلک المقامات للقرآن لهدایة البشر ، فلا بدّ من بقاء الوسیط الإلهیّ المطّلع علیها کی یرفد البشریّة بأنوار هدایتها ، إذ تلک المقامات لیست فی مَنال وتناول خواص الاُمّة ، فضلاً عن عامّتها .

و تلک المقامات نظیر وصف القرآن بالمکنون کما مرّ فی سورة الواقعة ، أو فی قوله تعالی : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِیدٌ * فِی لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (2) ، أو قوله تعالی :

وَ ما یَعْزُبُ عَنْ رَبِّکَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِی الْأَرْضِ وَ لا فِی السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِکَ وَ لا أَکْبَرَ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ (3) .

ص:167


1- (1) الواقعة : 78 و 79 .
2- (2) البروج : 21 .
3- (3) یونس : 61 .

وکذا قوله تعالی : وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً وَ بُشْری لِلْمُسْلِمِینَ (1) .

وکذا قوله تعالی : یَمْحُوا اللّهُ ما یَشاءُ وَ یُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْکِتابِ (2) .

وقوله تعالی : بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ (3) .

ومقام الکتاب المبین الذی بُیّن فیه کلّ صغیرة وکبیرة فی السماوات و الأرض ، وقد أخبر تعالی أنّ هناک جماعة من هذه الأمّة قد أُوتوا وعُلّموا ذلک کلّه .

وما بین الدفّتین لم یستطر فیه کلّ غائبة فی السماء و الأرض ، فلیس ذلک إلّا موقعاً غیبیّاً ملکوتیّاً قد أطلع اللّه عزّ وجلّ علیه الذین أوتوا العلم ، وهم المطهّرون الذین لهم أن یمسّوا الکتاب المکنون .

الشاهد الخامس : وصف اللّه تعالی هذه الوراثة بالفضل الکبیر ، ومن الواضح أنّ هذا الفضل لا یُنعت به کلّ من تعلّم ظاهر آیات المصحف وعلوم التفسیر ، فإنّه قد خاض فیها حتّی من لیس علی ملّة الإسلام ، کجملة من المستشرقین المتخصّصین فی علوم القرآن ، فلا محالة أن هذا النعت إنّما بلحاظ المواقع الغیبیة للکتاب ووراثتهم لها .

مَن هم الذین عُلّموا الکتاب وورثوه :

وربّما یعترض :

أوّلاً : إنّ قوله تعالی فی سورة الجمعة : هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً

ص:168


1- (1) النحل : 89 .
2- (2) الرعد : 39 .
3- (3) العنکبوت : 49 .

مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ * وَ آخَرِینَ مِنْهُمْ لَمّا یَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ * ذلِکَ فَضْلُ اللّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ * مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوها کَمَثَلِ الْحِمارِ یَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِ اللّهِ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ فیکون المراد من وراثة الکتاب تلاوته وتعلیمه للأمة ، وهذا هو الفضل ، وعلیه فلیست هی وراثة لدنّیة اصطفائیة ، وإنّما هی تعلیم حسّیّ سُماعیّ . کما هو الحال فی تعلیم التوراة للیهود ، حیث حمّلوا التوراة ، أی عُلّموا التوراة وکلّفوا العمل بها ، ثمّ لم یعملوا وینتفعوا بها .

ونظیره قوله تعالی : کَما أَرْسَلْنا فِیکُمْ رَسُولاً مِنْکُمْ یَتْلُوا عَلَیْکُمْ آیاتِنا وَ یُزَکِّیکُمْ وَ یُعَلِّمُکُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُعَلِّمُکُمْ ما لَمْ تَکُونُوا تَعْلَمُونَ (1) .

البعثة فی الاُمّیین ووراثة الکتاب :

ثانیاً : ما ذکره البعض من أنّ مقتضی أمره تعالی لنبیّه صلی الله علیه و آله بتعلیم الاُمّة الکتاب والحکمة هو امتثاله صلی الله علیه و آله لذلک الأمر ، وقیامه بتعلیم بعض الصحابة الکتاب کلّه ، تنزیلاً وتأویلاً ، أمثال عبد اللّه بن عبّاس ، وعبد اللّه بن مسعود ، واُبیّ بن کعب ، وزید بن ثابت ، وعلی ذلک فیکون حجّیة قول هذا البعض من الصحابة کحجّیة قول أهل البیت علیهم السلام .

وعلیه فلا تنحصر وراثة الکتاب بأهل البیت علیهم السلام ، بل یشارکهم مجموعة من صحابة النبیّ صلی الله علیه و آله ، وبعض التابعین الذین تربّوا علی ید أولئک .

ص:169


1- (1) البقرة : 151 .
تطابق البعثة الخاصة فی الاُمّیین مع البعثة الخاصّة فی الأقربین :

أمّا الجواب عن ذلک :

أوّلاً : بأنّ البعثة فی الأمّیین ، المذکورة فی سورتی الجمعة والبقرة ، وهما سورتان مدنیّتان ، هی بعثة خاصّة للمجتبی من بنی عبد المطّلب ، وهی نفسها البعثة الخاصّة فی قوله تعالی : وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ ، وفی قوله تعالی علی لسان إبراهیم : رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً .

وعلیه فإنّه لیس المراد من الاُمّیّین هم کلّ العرب ، ولا کلّ قریش ، ولا کلّ بنی عبد المطّلب ، بل المراد هو المجتبی والمختار من بنی عبدالمطّلب .

ومرّ بمقتضی بعض الآیات والأحادیث النبویّة أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله بُعث بخاصّة للمجتبی من بنی عبد المطّلب ، کما فی قوله تعالی : وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ ، وقوله صلی الله علیه و آله فی الحدیث المستفیض یوم الدار مخاطباً بنی عبد المطّلب أوائل البعثة ، بعد نزول الآیة :

« بعثت إلیکم بخاصّة » ، ومقتضاه أنّه صلی الله علیه و آله بُعث فی المرحلة الاُولی وابتداءاً إلی بنی عبد المطّلب کبعثة خاصّة ، دون سائر الاُمّة ، وأنّ الذین استجابوا من بنی عبد المطّلب لتلک البعثة الخاصّة ، هو علیّ علیه السلام خاصّة ، وأصحاب الکساء من بعده بمقتضی البعثة فی الاُمّیّین ، کما سیأتی توضیحها ، حیث إنّ أعباء ومسؤولیة هذه البعثة ممتدّة إلی یوم القیامة ، وقد تقدّم فی روایات الفریقین لحدیث یوم الدار أنّ الوارث للنبیّ صلی الله علیه و آله بمقتضی تلک البعثة الخاصّة هو علیّ علیه السلام .

ویشهد لهذه البعثة الخاصّة ، أی بعثة النبیّ صلی الله علیه و آله الخاصّة لمن یستجیب لها من بنی عبد المطّلب ، ویشاطر النبیّ صلی الله علیه و آله فی أعباء الرسالة ، قوله تعالی : وَ إِذْ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّکَ أَنْتَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ * رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ وَ أَرِنا مَناسِکَنا وَ تُبْ عَلَیْنا إِنَّکَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ * رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ

ص:170

وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ (1) .

حیث إنّ دعوة إبراهیم وإسماعیل ودعاءهم اللّه تبارک وتعالی أن یبعث فیهم خاتم النبیّین فی الاُمّة المسلمة من ذرّیته ، و أن یکون خاتم النبیّین من تلک الاُمّة ، حیث إنّ الضمیر فی قوله تعالی : وَ ابْعَثْ فِیهِمْ یعود إلی الاُمّة المسلمة من الذرّیة ، لا إلی کلّ الذرّیة فضلاً عن کلّ العرب وکل المسلمین ، کما أنّ الضمیر فی قوله تعالی : رَسُولاً مِنْهُمْ أیضاً یعود إلی تلک الاُمّة المسلمة من تلک الذرّیة ، فرسول اللّه صلی الله علیه و آله من تلک الاُمّة ، و تلک الاُمّة منه ، فهذه البعثة التی دعا إبراهیم وإسماعیل بها هی البعثة الخاصّة دون البعثة العامّة التی لخاتم النبیّین والتی هی لجمیع العالمین .

وعلیه فالمبعوث فیهم أی فی الأمّة المسلمة من ذرّیة إسماعیل وإبراهیم ، أی بعض من الذرّیة ، والرسول المبعوث هو من تلک الأمّة الخاصّة . فالبعثة خاصّة لتلک الأمّة .

ومفاد وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا للتبعیض ، أی أنّ هذه الاُمّة المسلمة هی بعض من ذرّیته ، وهم أهل بیته خاصّة ، الذین هم من النبیّ صلی الله علیه و آله وهو منهم ، دون سائر قریش والعرب؛ و ذلک لأنّ اللّه تبارک وتعالی کان قد أعلم إبراهیم أنّ من ذرّیته من لا ینال عهده ، لما یرتکبه من الظلم ، فدعوة إبراهیم بجعل الإمامة فی ذرّیته متطابقة مع دعوته ودعوة إسماعیل ، بأن تکون الاُمّة المسلمة فی ذرّیته .

وکذلک یشیر إلی أنّ الاُمّة المسلمة هی مجموعة خاصّة ومعیّنة من الذرّیة قوله تعالی أیضاً علی لسان إبراهیم حیث أردف إبراهیم دعوته الاُولی - وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ - بدعوته الاُخری - وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً - فسأل لهم أی للبعض من تلک الذرّیة وهی الأمّة المسلمة ، أن یطهّرهم من الشرک ومن عبادة

ص:171


1- (1) البقرة : 127 - 129 .

الأصنام ، فقال : وَ اجْنُبْنِی وَ بَنِیَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ کَثِیراً مِنَ النّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِی فَإِنَّهُ مِنِّی وَ مَنْ عَصانِی فَإِنَّکَ غَفُورٌ رَحِیمٌ (1) ، لیصحّ دعاؤه الأسبق فیهم وهو : قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ ، فإنّ فی دعائه هذا أیضاً طلب بقاء وامتداد واستمرار الأمانة فی بعض المتعاقِب من ذرّیته .

فإنّ مجموع هذه الآیات دالّ علی أنّ الأئمّة من ذرّیة إبراهیم ، والاُمّة المسلمة التی بعث منها وفیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله لیست إلّابعضاً من ذرّیة إبراهیم وإسماعیل ، فهم الذین طلب إبراهیم وإسماعیل أن یُبعث فیهم رسول اللّه خاصّة ، أی بالبعثة الخاصّة ، ویعلّمهم الکتاب والحکمة ویزکّیهم . ومنه یتّضح أنّ بعثة النبیّ الخاصّة ونذارته المختصّة هی لرهطه المخلصین من عشیرته الأقربین .

وممّا یعضد هذا الاختصاص فی التعلیم اللدنّی عبر أسباب الوراثة الملکوتیة ، قوله تعالی فی اصطفاء آل إبراهیم ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ففیهم بعث رسول اللّه ، وهم منه وهو منهم ، حیث إنّهم الأقربون رهطاً له ، والمتفانون فی مناصرته فی دعوته .

کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی : أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً (2) ، حیث تشیر الآیة إلی أنّ إیتاء الکتاب توریثیّ فی آل الأنبیاء ، لا عموم الاُمّة ، وأنّ فی هذه الاُمّة آل النبیّ صلی الله علیه و آله ، وهم محسودون علی إیتاء اللّه تعالی الکتاب والحکمة لهم .

فذکر آل إبراهیم بأنّهم اوتوا الکتاب والحکمة والملک العظیم ، إنّما هو لتفسیر الفضل الذی آتاه اللّه تعالی لثُلّة من هذه الاُمّة .

وهذه القلّة من هذه الأمّة وهی امّة النبیّ صلی الله علیه و آله ، فالمراد بها هم أهل البیت علیهم السلام ،

ص:172


1- (1) إبراهیم : 35 و 36 .
2- (2) النساء : 54 .

و ذلک لوجهین فی دلالة الآیة :

الأوّل : إنّ أهل البیت علیهم السلام هم من آل إبراهیم ، وهم الاُمّة المسلمة من ذرّیة إبراهیم وإسماعیل ، وهم دعوة إبراهیم علیه السلام بأن تکون الإمامة فیهم وأنّ الرسول یبعث فیهم أیضاً .

الثانی : إنّ إیتاء اللّه تعالی الکتاب والحکمة والملک العظیم لآل إبراهیم هو سُنّة إلهیّة فی آل الأنبیاء ، وبیوتات الرسل وذرّیّاتهم .

وهذه الآیة تکون کالنتیجة المحصّلة لمجموع الآیات فی ذرّیة إبراهیم ، وقد عُبّر عن إیتاء الکتاب بالفضل من اللّه تعالی کالتعبیر بالفضل الکبیر عن الآیة المبحوث عنها فی المقام ، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا ، وقد أُشیر إلی هذا المحصّل فی آخر سورة الحجّ ، فی قوله تعالی : یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْکَعُوا . . . وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ (1) .

و هذا متطابق مع ما فی سورة الواقعة من تخصیص نیل الکتاب المکنون فی اللوح المحفوظ بخصوص المطهّرین من هذه الاُمّة ، الذین عرّفتهم سورة الأحزاب فی آیة التطهیر من أهل البیت .

العلم اللدنّی لأهل البیت والعلم المکتسب لبعض الصحابة

(2):

وأمّا ما فی سورة الجمعة من قوله تعالی : هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ... فهی بلحاظ

ص:173


1- (1) الحجّ : 77 و 78 .
2- (2) هذه الإثارة تبنّاها البعض أخیراً فی تفسیره .

البعثة العامّة ، والتعلیم بلحاظ التعلیم الکسبیّ والاکتسابیّ ، لا فی العلم الوراثیّ اللدنّیّ ، وأنّ هذا التعلیم یتمّ لعموم الناس وعموم الصحابة والتابعین ، بعد أن یتمّ نصب من یکمّل لهم ذلک التعلیم بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، کما هو الحال فی قوله تعالی : اَلْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً فإنّ إکمال الدین وتعلیم الناس جمیع أحکام دینهم إنّما یتمّ ویحصل بعد نصب علیّ علیه السلام مکمّلاً لدور النبیّ صلی الله علیه و آله بعده .

ولا شکّ أنّ التعلیم الکامل والشامل للدین والکتاب والحکمة لا یمکن أن یستوعبه الزمن المحدود الذی عاشه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، کما لا یتسنّی للناس الذین عاصروه وصحبوه أن یستوعبوا کلّ الکتاب والحکمة والشریعة؛ و هذا الأمر قد وصفه القرآن نفسه ووصف حقائقه وواقعیاته وأنّها غیر محدودة ولا تنفذ ، کما فی قوله تعالی : قُلْ لَوْ کانَ الْبَحْرُ مِداداً لِکَلِماتِ رَبِّی لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِماتُ رَبِّی (1) .

وقوله تعالی : وَ لَوْ أَنَّ ما فِی الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ کَلِماتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ (2) .

وکذا قوله تعالی : وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَیْبِ لا یَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ یَعْلَمُ ما فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ یَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِی ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا یابِسٍ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ (3) .

وقوله تعالی : وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِی السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ (4) .

ص:174


1- (1) الکهف : 109 .
2- (2) لقمان : 27 .
3- (3) الأنعام : 59 .
4- (4) النمل : 75 .

ومن المعلوم أنّ الکتاب المبین هو حقیقة القرآن العُلویّة ، کما صُرّح بذلک فی مطلع سورة الدخان ، وسورة الزخرف ، فی قوله تعالی : حم * وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ * إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ إِنّا کُنّا مُنْذِرِینَ .

و قوله تعالی : وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً وَ بُشْری لِلْمُسْلِمِینَ (1) .

ومن ثَمّ بُیّن فی سورة القدر ، وسورة النحل ، وسورة الدخان ، أنّه یتنزّل فی لیلة القدر من کلّ عام تأویل الکتاب العزیز ، ینزل علی من یصطفیه اللّه تعالی من عباده ، وهو من سلسلة المطهّرین ، الذین ینالون ویمسّون الکتاب المکنون من أهل البیت علیهم السلام .

وثانیاً : أنّ من البیّن أنّ جماعة من الرعیل الأوّل من الصحابة ممّن عُرفوا بتخصّصهم بعلوم القرآن وتفسیره ، لم یکونوا یحیطون علماً بجلّ القرآن ، وبجلّ تأویله وتنزیله ، کیف وقد کان الاختلاف بینهم فی امّهات المسائل الاعتقادیّة والتشریعیّة ظاهر ، وقد انعکس ذلک فی کتب السیر ، وتاریخ تدوین القرآن ، وکتب الحدیث ، کما قد استشری الخلاف بینهم فی القراءات ، فقد کان عبد اللّه بن مسعود یحسب أنّ المعوّذتین لیستا من القرآن ، وإنّما هما تعویذتان نزل بهما جبرئیل حرزاً للحسنین علیهما السلام وغیر ذلک کثیر .

وقصّة إنکار حذیفة علی عبد اللّه بن مسعود وبقیّة القرّاء فی الکوفة - وحُذیفة هذا من أصحاب أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام - معروفة فی کتب السیر والتواریخ والحدیث ، ممّا دعت حذیفة إلی الإشارة علی عثمان بأن یقوم بتوحید المصاحف(2) .

ص:175


1- (1) النمل : 89 .
2- (2) الکامل فی التاریخ لابن الأثیر : 3 : 55 . المصاحف لابن أبی داود السجستانی : 11 .

وکذا قد اشتمل مصحف ابیّ بن کعب علی سورتی الخلع والحفد(1) .

کما أنّ مصحف ابن مسعود قد اسقط منه سورة الفاتحة(2) ، إلی غیر ذلک ممّا ذکروه فی وصف المصاحف .

فیا تری هل أنّ ما انتشر من علم من هذه الثُّلة من الصحابة فی جنب ما انتشر من علوم أهل البیت علیهم السلام فی امّهات معارف الدین وأبواب التشریع والآداب ، إلّاکالقطرة بجنب البحر الخضمّ ، وأین الثری من الثریا !

ثمّ ما وجه تخصیص القرآن الکریم الإحاطة بالکتاب الکریم واللوح المحفوظ بالمطهّرین من أهل البیت ، دون سائر الاُمّة والصحابة ؟ ومن الذی تتنزّل علیه الملائکة والروح الأعظم فی لیلة القدر ، یُنبؤونه عن ربّ العزّة بتأویل الکتاب فی کلّ عامّ ، إلی غیر ذلک ممّا یطول ذکره من خصائص القرآن التی خصّها بأهل البیت علیهم السلام دون الصحابة وبقیّة الاُمّة ، کالفیء ، والمودّة ، والخمس ، والولایة ، والمباهلة ، والإیثار ، والتطهیر ، والاجتباء ، والاصطفاء ، ومقام الشهادة علی الأعمال ، وإظهار الدین کلّه فی الأرض یختم بهم کما بدأ بهم ، وإکمال الدین وإتمام النعمة بهم ، إلی غیر ذلک من المقامات والخصائص القرآنیّة التی خُصّوا بها علیهم السلام .

التوفیق بین کون القرآن علماً لدنّیاً وموروثاً :

وقد یثار تساؤل قد تبنّاه جملة من متکلّمی الإمامیّة ، وهو : هل أنّ إطلاق الوراثة علی العلم اللدنّی هو من المجاز ؟ إذ الوراثة انتقال الشیء من المورِّث إلی الوارث ، و هذا بخلاف العلم اللدنّی ، فإنّه إلقاء من عالم الملکوت علی نفس المعصوم .

ص:176


1- (1) الإتقان للسیوطی : 1 : 64 و 65 .
2- (2) المصدر المتقدّم : 80 .

ویجاب علی ذلک : إنّ العلم وإن کان لدنّیاً ومن عالم الملکوت ، ولیس جوهراً مادّیّاً ینتقل بواسطة الأبدان ، إلّاأنّ الصفات الوراثیة المنتقلة من الآباء والاُمّهات فی النطفة وأمشاجها إلی الذرّیة والأولاد هی بیئة وأرضیة أُعدّت لتکامل الروح المتعلّقة بتلک النطفة ، بحیث تتحلّی الروح بقابلیتها للفیوضات السَّنیّة والمواهب اللدنّیة التی کانت لدی المورِّث ، فالعامل الوراثی فی أمشاج النطفة یؤثر أثره فی ضمن قانون الصفات المکتسبة من الوراثة .

ولعلّه إلی ذلک یشیر قوله تعالی : ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ ، أو وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ یَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِی ذُرِّیَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْکِتابَ (1) .

ومن ثمَّ ورد عنهم علیهم السلام أیضاً أنّ هناک شبه الجسم اللطیف النورانی الذی ینتقل من الإمام السابق إلی اللاحق ، فإذا انتقل إلیه ینتقل إلیه روح القدس ، کما ورد ذلک فیما رواه الصدوق عن أبی الصلت الهرویّ فی حدیث شهادة الإمام الرضا علیه السلام ومجیء الإمام الجواد علیه السلام إلیه(2) .

وکذلک ما تواتر واستفاض فی ألفاظ زیاراتهم علیهم السلام المأثورة عنهم فی نعت الإمام کما فی قولهم :

« أَشْهَدُ أَنَّکَ کُنْتَ نُوراً فی الْأَصْلَابِ الشّامِخَةِ ، وَ الْأَرْحامِ الْمُطَهَّرَةِ » .

و هذا ممّا یؤکّد ضرورة البیئة القابلة وأرضیّة الاستعداد الموروث .

المحطّة الثالثة : اصطفاء الوارثین لعلم الکتاب فی الآیة :

وهی قوله تعالی : اَلَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ حیث وقع الکلام فی المراد من الاصطفاء ، وکیف یتلاءم مع کون بعض منهم ظالم لنفسه ، وبعض مقتصد ، وبعض سابق بالخیرات ، ومن

ص:177


1- (1) العنکبوت : 27 .
2- (2) عیون أخبار الرضا علیه السلام : 2 : 242 .

ثَمّ حمل بعضٌ المعنی فی المقام علی معنی الاختصاص بالنعمة ، کما فی قوله تعالی : ما یَوَدُّ الَّذِینَ کَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ وَ لاَ الْمُشْرِکِینَ أَنْ یُنَزَّلَ عَلَیْکُمْ مِنْ خَیْرٍ مِنْ رَبِّکُمْ وَ اللّهُ یَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ (1) .

وکما فی قوله تعالی : وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْکِتابِ آمِنُوا بِالَّذِی أُنْزِلَ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اکْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ یَرْجِعُونَ * وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِینَکُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدی هُدَی اللّهِ أَنْ یُؤْتی أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِیتُمْ أَوْ یُحاجُّوکُمْ عِنْدَ رَبِّکُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِیَدِ اللّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ * یَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ (2) .

أم أنّ المراد بالاصطفاء هنا هو المعنی المعهود ، کما فی اصطفاء الأنبیاء والأوصیاء والحجج ، کما فی قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ اصْطَفی آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِیمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَی الْعالَمِینَ * ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ (3) .

وکما فی قوله تعالی : یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ (4) .

وما فی شأن طالوت إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَیْکُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِی الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ) (5) .

وفی شأن موسی علیه السلام إِنِّی اصْطَفَیْتُکَ عَلَی النّاسِ بِرِسالاتِی وَ بِکَلامِی (6) ، وفی شأن إبراهیم علیه السلام : وَ مَنْ یَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِیمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَیْناهُ

ص:178


1- (1) البقرة : 105 .
2- (2) آل عمران : 74 .
3- (3) آل عمران : 33 .
4- (4) مریم : 42 .
5- (5) البقرة : 247 .
6- (6) الأعراف : 144 .

فِی الدُّنْیا وَ إِنَّهُ فِی الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِینَ (1) .

وقال فی شأن إبراهیم وإسحاق ویعقوب علیهم السلام : وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَیْنَ الْأَخْیارِ (2) .

والصحیح هو إرادة المعنی الثانی ورجوع المعنی الأوّل إلیه ، لأنّ النعمة الخاصّة إنّما هی نازلة علی النبیّ صلی الله علیه و آله ، وحیث إنّه من قریش ، فلذا أسند الاختصاص إلیهم بلحاظ وجوده فیهم ، وحظوتهم لدیه .

وأمّا الضمیر فی قوله تعالی : وَ مِنْهُمْ فهو عائد إلی العباد لا إلی اَلَّذِینَ اصْطَفَیْنا .

ومن ثَمّ وصف فی الجملة اَلَّذِینَ اصْطَفَیْنا بأنّهم بعض من العباد ، حیث إنّ عِبادِنا جُعل مقسماً لکلّ من الذین اصطفوا ، وکذلک للأقسام الثلاثة اللاحقة ، فمحور التقسیم هو عِبادِنا وقد وُصف بجمیع أقسامه أنّهم جمیعاً یدخلون جنّات عدن . ولا یستقیم ذلک إلّاأن یکون المراد من عِبادِنا هو بعض الاُمّة ، فضلاً عن المصطفین منهم ، فإنّهم قسم من ذلک البعض .

کما أنّ الظاهر من القسم الظالم من هؤلاء هو الظلم الذی یُتغاضی عنه ویُغفر ، ویُکتب له التوبة فی المآل ، وقرینة ذلک هو دخولهم الجنّة ، کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی حکایة عن هذا القسم : وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَکُورٌ ، ویشیر إلی ذلک ما روی عن الإمام الصادق علیه السلام عندما سُئل عن الآیة فقال علیه السلام :

« الظالم یحوم حول نفسه ، والمقتصد یحوم حول قلبه ، والسابق یحوم حول ربّه »(3) .

ص:179


1- (1) البقرة : 130 .
2- (2) ص : 47 .
3- (3) معانی الأخبار للصدوق : 104 .

ومؤدّی هذه الآیة : أنّ هناک مصطفَین فی هذه الاُمّة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وأنّهم طائفة وجماعة من هذه الاُمّة ، ویتطابق مفاد هذه الآیة مع طوائف الآیات الواردة فی اصطفاء بعض ذرّیة إبراهیم علیه السلام للإمامة ، وبقاء الإمامة فی عقبه من نسل إسماعیل ، فتلک الطوائف هی الاُخری تشیر إلی وقوع الاصطفاء فی نسل إبراهیم وإسماعیل ، وإنّه یُبعث فیهم الرسول صلی الله علیه و آله ، وهم علی صلة منه ، فکما أنّه صلی الله علیه و آله من نسل إسماعیل وآل إبراهیم ، فهم کذلک ، و تلک المجموعة من الآیات هی قوله تعالی : وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ (1) .

وقوله تعالی علی لسان إبراهیم وإسماعیل : رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ . . . رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ (2) .

وقوله تعالی : یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْکَعُوا وَ اسْجُدُوا . . . وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ ) (3).

وقوله تعالی : وَ جَعَلَها کَلِمَةً باقِیَةً فِی عَقِبِهِ (4) .

فهذه وغیرها یستفاد منها أنّ الاجتباء الإلهیّ وقع فی ذرّیة إسماعیل وإبراهیم ،

ص:180


1- (1) البقرة : 124 .
2- (2) البقرة : 128 و 129 .
3- (3) الحجّ : 77 و 78 .
4- (4) الزخرف : 28 .

أی فی قریش ، وأنّ هؤلاء الذین اجتباهم اللّه وهم طائفة من قریش هی الاُمّة المسلمة ، ومن ذرّیة إبراهیم وهی بعض الذرّیة لا کلّها ، فضلاً عن کلّ المسلمین ، وهی التی دعا إبراهیم علیه السلام أن تکون فیهم الإمامة .

کما أنّ هؤلاء جعلهم اللّه تعالی شهداء علی الناس ، و جعل سیّد الرسل شهیداً علیهم ، فهاتان آیتان دالّتان علی وقوع الاصطفاء والاجتباء لطائفة من قریش ، وهؤلاء هم دعوة إبراهیم علیه السلام بالإمامة ، وهم الذین ورثوا الکتاب ، فیتبیّن أنّ هؤلاء الذین اصطُفوا واجتُبوا هم بعضٌ من ذرّیة إبراهیم وإسماعیل ، لا کلّ ذریّته فضلاً عن کلّ المسلمین .

وقد مرّ أنّ العباد لیسوا جمیع أمة المسلمین ، لأنّهم موعودون بالجنّة ، کما تبیّن من هذه الآیات أنّهم من ذرّیة إبراهیم وإسماعیل ، فلا محال أن یکون المراد من عِبادِنا هم بعض قریش ، وکذلک المراد من المصطفین المجتبین هم بعض من ذلک البعض .

ولا یخفی أنّ هذا مستفاد من الإشارات والبیانات الواردة فی روایات أهل البیت علیهم السلام فی طوائف هذه الآیات .

وقد خصّ القرآن أهل البیت بالطهارة دون بقیّة الاُمّة ، فیتبیّن أنّ المجتبَین المصطفَین دون سائر الاُمّة هم أهل البیت ، وهم بعض ذرّیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لا کلها ، وأنّ قوله تعالی : عِبادِنا هم ذرّیة خاتم الأنبیاء .

وإلیک جملة من الشواهد الاُخری علی کون الوارثین بالعلم اللدنّی بالکتاب لمقاماته الوحیانیّة الغیبیّة المصطفَین لذلک هم أهل البیت علیهم السلام :

الشاهد الأوّل : ما ورد فی سورة الواقعة فی آیة التطهیر فی قوله تعالی : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (1) وعنوان ( المطهّرون )

ص:181


1- (1) الواقعة : 77 - 79 .

یغایر عنوان ( المتطهّرین ) فالمطهّرون هم المعنیّون فی قوله تعالی : إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً (1) ، والمتطهّرون هم غیرهم ، وهم عموم الاُمّة ، المخاطبون فی قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ التَّوّابِینَ وَ یُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِینَ (2) .

الشاهد الثانی : حدیث الثقلین ، وهو قوله صلی الله علیه و آله :

« إنّی تارک فیکم الثقلین : کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی فإنّکم لن تضلّوا أبداً ما إن تمسّکتم بهما »(3) ، فقد قرنهم النبیّ صلی الله علیه و آله بالکتاب وخصّهم به ، المقتضی لاختصاص علم الکتاب کلّه بهم ، دون سائر الاُمّة .

الشاهد الثالث : قوله تعالی : قالَ الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْکِتابِ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ (4) ، حیث إنّه بیّن تعالی أنّ العلم بالکتاب من نمط خاصّ من أنماط العلم ، له آثار تکوینیّة خارجة عن دائرة قدرة البشر ، حیث إنّ الاقتصار علی الوصف یدلّ علی العلّیة ، وأنّ هذا الوصف علّة لهذا الأثر .

ومن الواضح أنّ هذا العلم لیس علماً بظاهر التنزیل ، وإلّا لحصلت تلک القدرة لکلّ من اکتسب العلم بذلک ، فمن الواضح أنّ هذا الإیتاء بهذا الحجم من القدرة یکشف عن تعالی الروح إلی مکانة یتأتّی منها هذا الفعل ، فتکون الروح محیطة بموقع الفعل المقدور علیه ، ممّا یؤکّد أنّ ذلک الموقع من الکتاب وموطن العلم به هو فی الملکوت .

ص:182


1- (1) الأحزاب : 33 .
2- (2) البقرة : 222 .
3- (3) هو من الأحادیث المستفیضة ، قد رواه أکثر المحدّثین بألفاظ متقاربة ، وأسانیدهم فیه صحیحة .
4- (4) النمل : 40 .

ومن الواضح البیّن أنّ کلّ مقامات الکتاب ومنازله الغیبیّة قد أوحیت إلی روح وقلب النبیّ صلی الله علیه و آله ، والوارث للکتاب الذی أُوحی بمنازله ومقاماته للنبیّ صلی الله علیه و آله یرث کلّ تلک المنازل ، و ذلک بمقتضی عموم الوراثة المدلول علیها بالآیة ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ (1) .

والحاصل : أنّ المتدبّر فی دلالات القرآن یقف علی دلائل عدیدة دالّة علی أنّ هذا الاصطفاء فی ثُلّة من ذرّیة إبراهیم وإسماعیل من قریش هی العترة المطهّرة من آل محمّد صلی الله علیه و آله ، و أن هذا الاصطفاء والاجتباء نعتٌ ذکر لأهل البیت علیهم السلام ، وهو شامل لکلّ من الصدّیقة فاطمة علیها السلام والأئمّة الإثنی عشر علیهم السلام .

وهؤلاء المصطفَون هم السابقون بالخیرات بإذن اللّه ، و هذا النعت ممّا یفید أنّهم الأفضل فی کلّ المقامات علی جمیع الاُمّة ، إذ مقتضی السبق فی الخیرات هو ذلک ، لا سیّما أنّ هذا السبق کما هو مفاد النعت ( بإذن اللّه ) ، أی بتسدید من اللّه عزّ وجلّ ، نظیر التعبیر الوارد فی عیسی علیه السلام وَ أُبْرِئُ الْأَکْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْیِ الْمَوْتی بِإِذْنِ اللّهِ (2) .

و هذا السبق قریب من قوله تعالی أیضاً : وَ السّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِکَ الْمُقَرَّبُونَ * فِی جَنّاتِ النَّعِیمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِینَ * وَ قَلِیلٌ مِنَ الْآخِرِینَ .

کما أنّه قد نُعت المقرّبون فی القرآن أنّهم یشهدون کتاب أعمال الأبرار کَلاّ إِنَّ کِتابَ الْأَبْرارِ لَفِی عِلِّیِّینَ * وَ ما أَدْراکَ ما عِلِّیُّونَ * کِتابٌ مَرْقُومٌ * یَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (3) .

و هذا مطابق لما مرّ فی سورة الحجّ من وصف المجتبِین من قریش من ذرّیة

ص:183


1- (1) فاطر : 32 .
2- (2) آل عمران : 49 .
3- (3) المطفّفین : 21 .

إبراهیم وإسماعیل من ذرّیة آل محمّد صلی الله علیه و آله ، بأنّهم الشهداء علی النّاس ، والرسول شهید علیهم ، کما أنه مطابق لما ورد فی نعت أهل البیت المطهّرین فی سورتی الدهر والإنسان ، من أنّهم یشرفون علی رِفد الأبرار بعین الکافور إِنَّ الْأَبْرارَ یَشْرَبُونَ مِنْ کَأْسٍ کانَ مِزاجُها کافُوراً * عَیْناً یَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ یُفَجِّرُونَها تَفْجِیراً * یُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ یَخافُونَ یَوْماً کانَ شَرُّهُ مُسْتَطِیراً * وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً * إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَ لا شُکُوراً * إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا یَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِیراً .

ص:184

الآیة السابعة فی الوراثة الاصطفائیّة
اشارة

قوله تعالی : أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً (1) .

وهذه الآیة تدلّ إجمالاً علی وجود جماعة فی هذه الاُمّة أوتیت الکتاب والحکمة ، وأوتیت الملک العظیم ، فالبحث ینصبّ علی تحدید هویّة هؤلاء ، والمراد بإیتاء الکتاب والحکمة ، وتفسیر الملک العظیم .

وسیاق هذه الآیات وإن کان ضمن خطاب خاص بالیهود ، حیث قال تعالی :

أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ أُوتُوا نَصِیباً مِنَ الْکِتابِ من جهة أنّهم قبلوا النبوّة والرسالة والإمامة فی إبراهیم وآل إبراهیم ، ولم یقبلوها فی النبیّ صلی الله علیه و آله وذویه ، ولکنّ الظاهر أنّ الخطاب یعمّ غیرهم أیضاً ، بقرینة أنّ ما بعد الآیة فی قوله تعالی : فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ، وقوله : إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا بِآیاتِنا وقوله تعالی :

وَ الَّذِینَ آمَنُوا هی عامّة للمسلمین أیضاً ، فضلاً عمّا هو مقرّر فی علم اصول الفقه من أنّ المورد لا یختصّ بالخطاب ، ولا یخصِّص الوارد .

وبادیء ذی بدء فإنّ القاریء للآیة ینتبه إلی إخبار القرآن عن وجود أناس ولیس فرداً واحداً من هذه الاُمّة من بیوتات الأنبیاء من آل النبیّ صلی الله علیه و آله بسبب التشبیه بآل إبراهیم علیه السلام قد أوتوا الکتاب والحکمة والملک العظیم .

وهنا أمر ملفت للانتباه وهو أنّ غالب مفسّری الجمهور تحاشوا الوقوف علی

ص:185


1- (1) النساء : 54 .

معانی وحقائق هذه الآیات ، وتشاغلوا فی أمور جانبیّة کالحواشی للمتن الأصلیّ ، والحال أنّ هناک عدّة مواقف ومحطّات هامّة جدیرة بالدرس ، سوف نقف عندها فی مفاد هذه الآیة :

المحطّة الاُولی : فی تحدید هؤلاء الناس :

إنّ أول مؤشّر فی دلالة الآیة علی تحدید هؤلاء الناس هو أنّهم لهم صلة ما ، وتشابه ما مع آل إبراهیم ، وأنّ إیتاءهم هذه المقامات والتی هی فضل عظیم وسُنّة إلهیّة ، ولیس هو بدعاً من سُننه تعالی ، بل قد وجد قبل ذلک فی تاریخ النبوّات وأنّ المراد منهم هم آل محمّد صلی الله علیه و آله .

وممّا یشهد أنّ المراد بهؤلاء الناس هم آل محمّد صلی الله علیه و آله جملة من الشواهد :

1 - قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله

: « فإنّ اللّه ما اصطفی نبیّاً إلّااصطفی آل ذلک النبیّ فجعل منهم الصدّیقین و الشهداء و الصالحین »(1) ، وحیث إنّ آل إبراهیم هم آل نبی من الأنبیاء فلا محالة أن یکون المقصود من ( الناس ) هنا فی هذه الاُمّة هم آل النبیّ محمّد صلی الله علیه و آله ، وأنّ إیتاء اللّه عزّ وجلّ لآل محمّد هذه المواهب اللدنّیة الثلاث - الکتاب ، والحکمة ، والملک العظیم - هو کسُنّته تعالی فی آل إبراهیم .

2 - إنّ تقریر الآیة فی أنّ آل إبراهیم قد أوتوا الکتاب ، والحکمة ، والنبوّة ، یفید ثبات وبقاء واستمرار هذه العطیّة ، والسنّة الإلهیّة فیهم ، أی فی آل إبراهیم ، ومحمّد صلی الله علیه و آله وآله هم من آل إبراهیم ، لاسیّما وأنّ قول إبراهیم فی حقّ ذرّیته من إسماعیل فی دعائه ببقاء هذه المقامات لهم کما فی قوله : رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ .

ص:186


1- (1) تاریخ ابن عساکر : 42 : 49 و 50 ، ترجمة علیّ بن أبی طالب ، الحدیث 4933 .

وقول إبراهیم أیضاً حینما قال اللّه تبارک وتعالی : إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً ، طلبها لذرّیته أیضاً ، حیث قال : قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی .

وأیضاً قال إبراهیم وإسماعیل فی دعائهما : رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ . . . رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ .

فمن ثَمّ قال تعالی فی شأن إبراهیم : وَ جَعَلَها کَلِمَةً باقِیَةً فِی عَقِبِهِ .

3 - إنّ القرآن الکریم قد أشاد بالفضل الإلهیّ لجملة من آل الأنبیاء ، وبیوت النبیّین ، حیث ذکر آل إبراهیم ، وآل لوط ، وآل عمران ، وآل یعقوب ، وآل موسی ، وآل هارون ، وآل داود ، و هذا یقتضی إشادته بآل محمّد صلی الله علیه و آله لکونه أشرف الأنبیاء ، وهو یقتضی کون آله أشرف الآل فی آل النبیّین .

ومن ثَمّ خصّ القرآنُ آلَ محمّد صلی الله علیه و آله بالتسلیم ، کما نبّه علی ذلک الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام ، کما فی سورة الصافّات ، حیث قال تعالی : سَلامٌ عَلی إِلْ یاسِینَ (1) کما فی جملة من القراءات قد أشرنا إلیها سابقاً .

4 - إنّ القرآن قد خصّ آل محمّد صلی الله علیه و آله بکرائم قرآنیة ، کما فی قوله تعالی :

ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی ، فجعل ولایة الفیء لهم .

وکذلک خمس الغنائم وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی (2) .

وکذلک تخصیصهم بعلم الکتاب کما فی قوله تعالی : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی

ص:187


1- (1) الصافّات : 130 .
2- (2) الأنفال : 41 .

کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ والمطهّر هم أهل آیة التطهیر ، الذین شهد لهم القرآن بذلک ، کما بسطنا ذلک فی الآیة السابقة من آیات الوراثة .

وبالجملة : فما أوتوا من فضل مذکور فی خصائص وکرائم القرآن لهم ، مع کونهم من آل إبراهیم ، ومناسبة استشهاد الباری تعالی بآل إبراهیم ، کلّ ذلک قرینة علی أنّ المقصود هو محمّد صلی الله علیه و آله ، وآله علیهم السلام هم المحسودون ، وأنّ ما آتاهم اللّه تعالی فهو علم الکتاب ، والحکمة ، والملک العظیم ، وهی الولایة والطاعة ، وهذه ثلاثة امور قد ذکرت فی آیات عدیدة کخصائص وقرائن قرآنیة لهم .

فما ذکرته الآیات فی سور متعدّدة شاهد علی الصلة بین تلک المقامات والآیة فی المقام .

ونظیر ذلک ما ورد عند الفریقین من کیفیة الصلاة « اللهم صلّ علی محمّد وآل محمّد . . . کما صلّیت . . . علی إبراهیم وآل إبراهیم » فإنّ هذا التنزیل والمشابهة بین آل إبراهیم وآل محمّد یفید أنّه لم یعط إبراهیم وآله شیئاً إلّاوأعطی محمّد وآله مثله . بل فی الحقیقة إنّ آل محمّد من آل إبراهیم .

وقد روی ابن أبی حاتم الرازی فی تفسیره ذیل الآیة عن أبی جعفر محمّد بن علیّ علیه السلام أنّه قال :

« نحن النّاس »(1) .

وقریب منه ما أخرجه السیوطی فی « الدرّ المنثور » ذیل الآیة عن ابن المنذر والطبرانی عن ابن عبّاس ، قال : « نحن النّاس دون الناس »(2) .

ومن هنا یظهر أنّ استعمال لفظ ( الناس ) فی القرآن علی معان :

منها : من استکمل الحقیقة الإنسانیة ، و هذا ینطبق علیهم علیهم السلام ، کما ورد عن الإمام زین العابدین علیه السلام :

« نحن النّاس ، وشیعتنا أشباه الناس ، وأعداؤنا

ص:188


1- (1) تفسیر ابن أبی حاتم : 3 : 59 ، الحدیث 5506 .
2- (2) الدرّ المنثور : 2 : 239 ، ذیل الآیة .

النَّسْناس »(1) ، أی أنّ صورتهم صورة إنسان ، ولکنّ القلب قلب حیوان ، کما روی ذلک فی تأویل قوله تعالی : وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ فی قباحة صور بعضهم ، أنّه یَحسُن عندها صور القردة والخنازیر .

ومنها : عموم البشر .

ومنها : فی قبال من لم یتحلّ بالإیمان ، وأنّه باق علی طبیعته الناقصة الأوّلیّة ، وأنّه لم یتکامل .

المحطّة الثانیة : المراد بإیتاء الکتاب والحکمة :
اشارة

قد تقدّم فی قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا أنّ علم الکتاب لا یعنی بالضرورة النبوّة ، بل یعنی الاصطفاء ، کما ورّث اللّه تبارک وتعالی علم الکتاب الذین اصطفاهم من هذه الاُمّة ، بمقتضی الآیة السابقة ، کما أنّ إیتاء الحکمة هنا أیضاً دالّ علی أنّ هناک مواهب لدنّیة من اللّه تعالی للعباد غیر النبوّة .

فالتعبیر بالإیتاء دالّ علی أنّ هذه المقامات لیست کسبیّة ، بل مواهب لدنّیة وعطایا غیبیّة ، لاسیّما وأنّه قد اختصّ ذلک بهم دون سائر الاُمّة ، و هذا نظیر ما ورد فی قوله تعالی : وَ لَقَدْ آتَیْنا لُقْمانَ الْحِکْمَةَ أَنِ اشْکُرْ لِلّهِ (2) .

وقوله تعالی : وَ لَقَدْ آتَیْنا داوُدَ وَ سُلَیْمانَ عِلْماً (3) .

وقوله تعالی : وَ لَقَدْ آتَیْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً (4) .

وقوله تعالی فی شأن یحیی : وَ آتَیْناهُ الْحُکْمَ صَبِیًّا (5) .

ص:189


1- (1) روضة الکافی : 8 : 244 .
2- (2) لقمان : 12 .
3- (3) النمل : 15 .
4- (4) سبأ : 10 .
5- (5) مریم : 12 .

وفی شأن موسی : وَ لَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوی آتَیْناهُ حُکْماً وَ عِلْماً (1) .

وفی شأن داود : وَ شَدَدْنا مُلْکَهُ وَ آتَیْناهُ الْحِکْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (2) .

فالآیة المبحوثة فی المقام وهذه الآیات تدلّ علی وجود مقامات غیبیّة کثیرة غیر النبوّة والرسالة ، یعطیها اللّه عزّ وجلّ لخاصّة أولیائه المصطفَین ، وإن لم یکونوا أنبیاء ، کما هو الشأن فی لقمان ، وطالوت ، وذی القرنین حیث قال فیه تعالی : وَ آتَیْناهُ مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ سَبَباً (3) .

وکذلک فی الخضر علیه السلام فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً (4) ، ومن تلک المواقع هی وراثة الکتاب ، والحکمة ، وفصل الخطاب ، والملک ، والحُکم ، والعلم اللدنّی ، وتأویل الأحادیث ، ومنطق الطیر ، وتلیین الحدید ، والبیّنات ، والتأیید بروح القدس ، والسلطان المبین .

و هذا ممّا یدلّ علی أنّ هناک مناصب إلهیّة ومقامات غیر النبوّة والرسالة ، وکلّها ذات مواقع غیبیّة ، ومواهب من اللّه تعالی لدنّیة ، وهذه المواهب لم تکن لتُعطی للأصفیاء المصطفَین فی الاُمم السابقة ، وتنقطع عن الأصفیاء المصطفَین فی هذه الاُمّة ، من نسل آل إبراهیم ، و هذا هو مغزی استدلال القرآن فی هذه الآیة ، واستنکاره علی الحاسدین الجاحدین فی الاعتراف بوجود هذه المقامات فی آل النبیّ صلی الله علیه و آله ، مع اعترافهم بوجودها فی آل إبراهیم ، فکیف یقرّون بوجودها فی آل إبراهیم وینکرونها فی آل محمّد صلی الله علیه و آله فما هو إلّاالحسد والجحود .

ص:190


1- (1) القصص : 14 .
2- (2) ص : 20 .
3- (3) الکهف : 84 .
4- (4) الکهف : 65 .
وراثة الکتاب وحی نبویّ أم علم لدنّی ؟

وقد یثار تساؤل(1) حاصله : أنّ علم أوصیاء النبیّ صلی الله علیه و آله بحقیقة الکتاب الملکوتیّة الغیبیّة إن کانت هی عین ما تلقّاه النبیّ صلی الله علیه و آله ؛ فیکون حینئذٍ علمهم وحی نبوّة ، وإن کان من سنخ آخر فما هو ؟

وبعبارة اخری : إنّ ما تلقّاه الأوصیاء من الکتاب إن کان هو مجرّد ألفاظ الصور المسموعة والمدوّنة ، فهذا لا یمیّزهم عن سائر الاُمّة ، وإن کان ما تلقّوه هو حقیقة الکتاب التی تلقّاها النبیّ صلی الله علیه و آله ، والتی هی من سنخ الغیب والملکوت ، وهی حقیقة وراء الألفاظ والمعانی ، فهذا هو وحی النبوّة !

هناک فروق فی کیفیة تلقّی الوحی حقیقة الکتاب قد بیّنتها الروایات ، وذلک أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله یتلقّی حقیقة الکتاب مع المعاینة والرؤیة ، بینما الإمام یتلقّی ذلک بدون المعاینة والرؤیة ، بل بالإلهام ، والسماع ، والنَّکْت ، ونحوها .

وهناک فارق آخر ، وهو أنّ الإنزال لتلک الحقیقة فی البدء هو علی النبیّ صلی الله علیه و آله ، و ذلک لما تتمتّع به النفس والروح النبویّة من قدرة علی العروج إلی الغیب ، والاطّلاع علی تلک المقامات الملکوتیّة والارتباط بها ، والذی یوجب نحو تنزّل لتلک الحقائق العُلویّة ، فهذه القدرة هی من مختصات خاتم الأنبیاء صلی الله علیه و آله ، أما الأوصیاء علیهم السلام فإنّهم یتلقّون بعد ذلک ما تنزّل علی النفس النبویّة ، ولم یکن تلک القدرة من التلقی لهم دونه صلی الله علیه و آله .

و هذا فارق الوحی النبویّ الخاصّ بخاتم الأنبیاء مع ما ورثه تکویناً الأوصیاء منه .

وقد مرّ فی قوله تعالی : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا أنّ وراثة

ص:191


1- (1) کما أُثیر أخیراً فی بعض الأوساط الثقافیّة الأکادیمیّة ، وإن لم تکن الإثارة جدیدة فی مضمونها .

الکتاب غیر وراثة النبوّة .

وروی العلّامة المجلسی فی « بحاره » عن کتاب « کشف الیقین » بسنده عن الإمام الباقر علیه السلام قال :

« قال ابن عبّاس : کنت أتتبّع غضب أمیر المؤمنین علیه السلام إذا ذکر شیئاً أو هاجه خبر . . . إلی أن قال :

قال علیّ علیه السلام : یابن عبّاس ، ذهب الأنبیاء فلا تری نبیّاً ، والأوصیاء ورثتهم ، عنهم أخذوا علم الکتاب وتحقیق الأسباب . . . »الحدیث(1) .

فهو یشیر إلی المقام الغیبیّ لعلم الکتاب ، وبقیّة المقامات الغیبیّة الاُخری .

المحطّة الثالثة : المراد بالمُلک العظیم :

ما المراد بالملک العظیم الذی أوتی آل إبراهیم ؟ مع أنّهم لم یؤتوا المُلک الظاهری عدا یوسف علیه السلام ، ومع ذلک لا یوصف ما أوتی یوسف علیه السلام بالملک العظیم ، نعم ذلک قد تحقّق فی سلیمان علیه السلام ، وعلیه فلم ینقل لنا تاریخ النبوّات أنّ إبراهیم أو إسماعیل أو إسحاق أو یعقوب علیهم السلام قد تسنّموا مُلکاً بحسب السطح المعلن الظاهر ، ولم تکن بیدهم زمام القدرة الرسمیّة البارزة .

و هذا التساؤل بعینه قد أثیر فی قوله تعالی : وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً فإنّ هذا الإخبار من اللّه تعالی بأن جعله إماماً لابدّ أنّه قد تحقّق ، ومع ذلک فلم یُنقل لنا أنّ إبراهیم قد تسلّم زمام سلطة ودولة .

وللإجابة عن ذلک نقول : إنّ التاریخ قد خلّد لإبراهیم علیه السلام ظاهرة تعجز عن القیام بها حضارات ، فضلاً عن دول ، وهی ظاهرة انتشار ملّة التوحید الحنیفیّة ، وتغییر کثیر من المجتمعات البشریّة ، التی عاش فی وسطها إبراهیم علیه السلام من الوثنیّة إلی الحنیفیّة ، ولا شکّ أنّ ظاهرة تغییر العقیدة وتحوّلها تعجز عنها قدرات ودول جبّارة وحضارات

ص:192


1- (1) بحار الأنوار : 29 : 554 . کشف الیقین للعلّامة الحلّی : 100 - 104 .

عملاقة ، و ذلک لأنّه مهما کانت فمن الصعوبة بمکان أن یتخلّی عنها الإنسان أو الاُمم والمجتمعات .

من هنا فقد وُصف ذلک الملک الذی آتاه اللّه تعالی آل إبراهیم بالملک العظیم ، مع أنّ اللّه تعالی یصف متاع الحیاة الدنیا برمّته بأنّه متاع قلیل .

ثم إنّ المُلک فی أصل الوضع اللغویّ یفید السلطة والقدرة والاقتدار ، وهذه القدرة بحسب وصفها بالعظمة یفید أنّها قدرة غالبة علی کلّ القدرات الموجودة علی الأرض .

والذی یمکن أن یکون تفسیراً لهذا الملک العظیم هو ما أشارت إلیه روایات أهل البیت علیهم السلام فی قوله تعالی فی وصف خلیفة اللّه فی الأرض ، أی المجعول إماماً من قِبَلِه تعالی للناس ، فی قوله تعالی : وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً... وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ أَبی وَ اسْتَکْبَرَ1.

وفی موضع آخر قوله تعالی : إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ * فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ * فَسَجَدَ الْمَلائِکَةُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (1) ، وغیرها من السور التی تبیّن أنّ جمیع الملائکة قد أُمروا بالخضوع والطاعة والانقیاد والاتّباع لخلیفة اللّه فی الأرض ، مع أنّ القرآن الکریم قد وصف للملائکة کثیراً من القدرات الهائلة فی الکون ، نظیر الإماتة ، والإحیاء ، والتدبیر ، والوحی ، وکتابة الأعمال ، والعذاب ، حتّی أنّ بعض الملائکة کجبرئیل وُصف فی قوله تعالی : ذِی قُوَّةٍ عِنْدَ ذِی الْعَرْشِ مَکِینٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِینٍ (2) ، وغیرها من القدرات والأدوار التی انیطت

ص:193


1- (2) البقرة : 30 .
2- (3) ص : 71 - 73 .

بهم ، والتی أشار إلیها القرآن الکریم .

فإذا کان جمیع الملائکة کلّهم أجمعون قد امروا بطاعة خلیفة اللّه تعالی ، وکانت قدراتهم رهن إشارته ، کان هذا سلطاناً وملکاً عظیماً ، یفوق ملک سلیمان علیه السلام .

ففی صحیحة بُرید العجلی : عن أبی جعفر علیه السلام ، فی قول اللّه عزّ وجلّ :

فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً (1) .

قال :

جعل منهم الرُّسل والأنبیاء والأئمّة ، فکیف یُقرّون فی آل إبراهیم وینکرونه فی آل محمّد ؟

قال : قلت : وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً .

قال :

المُلک العظیم أن جعل فیهم أئمّة ، من أطاعهم أطاع اللّه ، ومن عصاهم عصی اللّه ، فهو المُلک العظیم »(2) .

وسیأتی فی معنی الحسد ما یدلّ علی حساسیّة مقام الملک العظیم ، الذی أوتیته هذه الجماعة من الناس فی الاُمّة الإسلامیة ، والذین هم من آل النبیّ صلی الله علیه و آله .

المحطّة الرابعة : الجمع بین الملک والنبوّة لآل إبراهیم :

ثمّ إنّ الآیة ترکّز علی أمر آخر ، وهو الجمع فی مواهب اللّه تبارک وتعالی بین إیتاء النبوّة والحکمة والملک ، وأنّ الحُسّاد ینکرون علی آل محمّد صلی الله علیه و آله وبنی هاشم بأن جمع اللّه لهم بین النبوّة والخلافة ، و ( الإمامة ) ، فلیس الجمع بین هذه المقامات بِدْعاً فی السُّنن الإلهیّة ، بل هی سنّة إلهیة فی جمیع بیوتات الأنبیاء ، کما سبق الإشارة إلیه فی حدیث الدار ، من أنّه ما بُعث نبیٌّ إلّاوبُعث من بیته وصیاً ، ووزیراً ، ووارثاً ، وخلیفة له .

ص:194


1- (1) النساء : 54 .
2- (2) الکافی ، الشیخ الکلینی ، 1 : 206 ، الحدیث 5 ، ط دار الکتب الإسلامیة - طهران .

وقد رُوی فی مصادر الآثار أنّ أهل البیت علیهم السلام وبنی هاشم قد أجابوا مع کثیر من الاستغراب والإنکار علی رفض قریش لجمع اللّه تعالی النبوّة والخلافة لبنی هاشم ، وقد أجابوا بهذه الآیة أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ... .

ومّما یؤکّد أنّ سبب الحسد هی الخلافة والإمامة ، وهی الملک فی أهل البیت علیهم السلام ، هو أنّ الذی یُجمع له النبوّة والخلافة غیر متصوّر فی هذه الاُمّة إلّابیت النبیّ صلی الله علیه و آله ، إذ لیست النبوّة إلّافیهم ، فالجمع بینها وبین الخلافة لهم لا فی غیرهم .

و هذا تنصیص من الآیة علی کلّ من الخلافة فی آل محمّد صلی الله علیه و آله والنبوّة فی محمّد صلی الله علیه و آله ، وأنّ المحسودین هم أهل البیت علیهم السلام .

فقد روی الصدوق بسنده عن الإمام الرضا علیه السلام ، فی حدیث قال علیه السلام :

« قال اللّه عزّ وجلّ : أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً (1) .

ثمّ ردّ المخاطبة فی أثر هذا إلی سائر المؤمنین فقال : یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ (2)

یعنی الذین قرنهم بالکتاب والحکمة وحُسدوا علیهما فقوله عزّ وجلّ : أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ . . . یعنی الطاعة للمصطفَین الطاهرین ، فالملک هاهنا الطاعة لهم »(3) .

المحطّة الخامسة : حسد قریش لأهل البیت علیهم السلام علی الخلافة :
اشارة

هناک صلة واضحة بین هذه الآیة وبین قوله تعالی فی سورة المائدة : یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النّاسِ

ص:195


1- (1) النساء : 54 .
2- (2) النساء : 59 .
3- (3) عیون أخبار الرضا علیه السلام : 2 : 209 . أمالی الصدوق : 617 ، الحدیث 843 .

إِنَّ اللّهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْکافِرِینَ ، حیث إنّ هذه الآیة نزلت فی سورة المائدة ، وهی آخر السور نزولاً ، وأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قد أُمر بتبلیغها ، إلّاأنّه کان یخشی تمرّداً عامّاً فی الناس علی ذلک الأمر الإلهیّ ، فهو ممّا یمتّ بصلة بالشأن العامّ الاجتماعیّ والسیاسیّ ، وأنّ هناک منصباً وصلاحیّات أُسندت إلی شخص بأمر إلهی ، کما فی هذه الآیة ، وهو یتمتّع بالحکمة اللدنّیة وعلم الکتاب ، وأنّه قد أوتی ملکاً عظیماً منه تعالی ، ومن عظمة هذا المقام قد ساوی الباری تعالی التبلیغ لإمامته وبین تبلیغ کافّة شؤون الرسالة ، و هذا إشارة اخری لطیفة إلی معنی عظمة الملک .

وممّا یشیر إلی أنّ مورد الحسد هاهنا هو منصب تکوینیّ لدنّی من اللّه تبارک وتعالی ، هو ما ورد نظیر هذا اللسان فی قوله تعالی فی سورة ص : وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْکافِرُونَ هذا ساحِرٌ کَذّابٌ... أَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ الذِّکْرُ مِنْ بَیْنِنا... أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّکَ الْعَزِیزِ الْوَهّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْکُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَیْنَهُما فَلْیَرْتَقُوا فِی الْأَسْبابِ (1) .

ونظیر التعبیر فی الآیة فی المقام أَمْ لَهُمْ نَصِیبٌ مِنَ الْمُلْکِ فَإِذاً لا یُؤْتُونَ النّاسَ نَقِیراً (2) فقد ورد فی شأن نزول هذه الآیة : أنه « أقبل أبو جهل بن هشام ، ومعه قوم من قریش لمّا أظهر رسول اللّه الدعوة فی مکّة ، فاجتمعت قریش إلی أبی طالب فقالوا : إنّ ابن أخیک قد آذانا وآذی آلهتنا ، فادعُه ومُره أن یکفّ عن آلهتنا ، ونکفّ عن إلهه ، وأنه قد سفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا . . .

الخ ، فردّ علیهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فأنزل اللّه تبارک وتعالی هذه الآیات من سورة « ص » ، وبیّن فیها تعالی أنّ حسد قریش وجحودهم ناشئ من عدّة أسباب ، منها :

حسدهم للنبیّ صلی الله علیه و آله علی منصب النبوّة ، ولما خصّه اللّه تعالی بذلک ، وإلی هذا أشار

ص:196


1- (1) ص : 1 - 4 .
2- (2) النساء : 53 .

الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام فی محاججته مع معاویة فی قوله علیه السلام :

« وأوّل من حُسد آدم الذی خلقه اللّه عزّ وجلّ بیده ، ونفخ فیه من روحه ، وأسجد له ملائکته ، وعلّمه الأسماء کلّها ، واصطفاه علی العالمین ، فحسده الشیطان فکان من الغاوین .

ثمّ حسد قابیلُ هابیلَ فقتله ، فکان من الخاسرین .

ونوح حسده قومُه فقالوا : ما هذا إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُکُمْ یَأْکُلُ مِمّا تَأْکُلُونَ مِنْهُ وَ یَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ* وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَکُمْ إِنَّکُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (1)

وللّه الخیرة یختار من یشاء ، ویختصّ برحمته من یشاء ، ویؤتی الحکمة والعلم من یشاء .

ثمّ حسدوا نبیّنا محمّداً صلی الله علیه و آله ، ألا ونحن أهل البیت الذین أذهب اللّه عنهم الرجس ، ونحن المحسودون کما حُسد آباؤنا »(2) ، وإلی ذلک أشارت الآیة الکریمة من قوله تعالی : أَ أُنْزِلَ عَلَیْهِ الذِّکْرُ مِنْ بَیْنِنا (3) وقوله : أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّکَ الْعَزِیزِ الْوَهّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْکُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (4) .

فتطابق الحسد هناک علی النبوّة مع الحسد هنا علی الإمامة ، للتعبیر عنها بالملک ، وأنّه منصب تکوینیّ لدنّی إیتائیّ من اللّه تعالی ، وهو یغایر منصب النبوّة بتسمیته بالملک ، کما ورد فی إمامة طالوت وسلیمان .

شمول المُلک العظیم لفاطمة علیها السلام :

لمّا کان مصطلح آل البیت یشمل فاطمة علیها السلام دون أدنی شکّ فإنّه یعلم ثبوت وتقرّر هذا المقام لها ، وقد اشیر إلی ذلک فی جملة من الروایات الواردة .

منها : ما رواه الطبری فی « دلائل الإمامة » ، بسنده عن أبی بصیر ، عن أبی جعفر

ص:197


1- (1) المؤمنون : 33 .
2- (2) الاحتجاج : 1 : 234 .
3- (3) ص : 8 .
4- (4) ص : 9 - 10 .

محمّد بن علیّ علیه السلام ، فی حدیث عن مصحف فاطمة ، قال علیه السلام :

ولقد کانت ( صلوات اللّه علیها ) طاعتها مفروضة علی جمیع من خلق اللّه من الجنّ ، والإنس ، والطیر، والبهائم ، والأنبیاء ، و الملائکة »(1) .

وسیأتی فی الفصول اللاحقة مزیدمن البحث حول فرض طاعتها علیها السلام علی جمیع الخلق .

ص:198


1- (1) دلائل الإمامة للطبری : 104 - 106 .
الآیة الثامنة : فی الوراثة الاصطفائیّة
اشارة

قوله تعالی : ما کانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِکُمْ وَ لکِنْ رَسُولَ اللّهِ وَ خاتَمَ النَّبِیِّینَ وَ کانَ اللّهُ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیماً (1) .

و قالت علیها السلام فی خطبتها :

« فَإِنْ تَعْزُوهُ تَجِدُوهُ أَبِی دُونَ نِسائِکُمْ ، وَأَخَا ابْنِ عَمِّی دُونَ رِجالِکُمْ ، وَلَنِعْمَ الْمَعْزِیُّ إِلَیْهِ»(2) .

فهی علیها السلام تشیر إلی السبب الذی به یحصل وراثة المقامات النبویّة أی تشیر إلی ما مفاد الآیة ، من أنّه لا یرث مقام النبیّ صلی الله علیه و آله ومناصبه وصلاحیاته أحد من رجال هذه الاُمّة ، لأنّه لم تثبت بینه وبینهم عُلقة الرَّحِم ، والتی هی سبب أصلیّ للوراثة ، إذا توفّرت فیها شرائط الوراثة المعنویّة الملکوتیّة ، والتی تقدّمت الإشارة إلی بیانها وتعدادها .

نظیر ما فی قوله تعالی : اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ (3) ، حیث خصّت مقام الولایة العامّة للنبیّ بأولاهم به رَحِماً ، دون بقیّة المؤمنین والمهاجرین .

فلسان الآیتین واحدٌ ، وکلّ منهما من سورة واحدة ، وهی الأحزاب . ولنذکر عدّة نصوص تاریخیة قبل الخوض فی دلالة الآیة :

ص:199


1- (1) الأحزاب : 40 .
2- (2) الاحتجاج للطبرسی 1 : 131 .
3- (3) الأحزاب : 6 .
النصّ التاریخیّ الأوّل : وراثة مقامات النبیّ صلی الله علیه و آله حکم فطریّ :

وقد احتجّ أبو بکر یوم السقیفة علی الأنصار بوراثة النسب والقرابة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فقال أبو بکر : « ولن تعرف العرب هذا الأمر إلّالهذا الحیّ من قریش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً »(1) .

وقال أیضاً : « وقد بعث اللّه محمّداً بالهدی ودین الحقّ ، وکنّا معاشر المهاجرین أوّل الناس إسلاماً ، ونحن عشیرته ، وذوو رحمه ، ونحن أهل النبوّة والخلافة ، ونحن الاُمراء وأنتم الوزراء »(2) .

الثانی : وفی نقل آخر للطبری أنّهم ترادّوا الکلام فیما بینهم فقالوا : فإن أَبتْ مهاجرة قریش ، فقالوا نحن المهاجرون وصحابة رسول اللّه الأوّلون ونحن عشیرته وأولیاؤه ، فعلام تنازعون هذا الأمر بعده »(3) .

الثالث : ذکر الطبری أنّهم أعادوا الاحتجاج بالقرابة عدّة مرّات ، وذکر أنّ عمر بن الخطّاب خاطب الأنصار قائلاً : « و اللّه لا ترضی العرب أن یؤمّروکم ونبیّها من غیرکم ، ولکنّ العرب لا تمتنع أن تولّی أمرها من کانت النبوّة فیهم ، وولیّ امورهم منهم ، ولنا بذلک علی من أبی من العرب الحجّة الظاهرة ، والسلطان المبین ، من ذا ینازعنا سلطان محمّد وإمارته ، ونحن أولیاؤه وعشیرته ، إلّامدلٍّ بباطل ، أو متجانف لإثم ، أو متورّط فی هلکة »(4) .

الرابع : ذکر الطبری أنّ بشیر بن سعد أبو النعمان بن بشیر قال : « ألا إنّ محمّداً من

ص:200


1- (1) سیرة ابن هشام : 4 : 659 ، تاریخ الطبری : 2 : 446 .
2- (2) السنن الکبری للبیهقی : 6 : 165 ، وأخرجه ابن حجر فی فتح الباری : 7 : 24 ، عن المغازی لموسی بن عقبة ، عن ابن شهاب ، إکمال الإکمال .
3- (3) تاریخ الطبری : 2 : 456 .
4- (4) تاریخ الطبری : 2 : 457 .

قریش ، وقومه أحقّ به وأولی ، وأیم اللّه لا یرانی اللّه أنازعهم هذا الأمر أبداً »(1) .

ویمکن تسجیل جملة من النقاط علی هذه النصوص التاریخیة ، قبل الحدیث عن مفاد الآیة ، ومؤدّی خطبة سیّدة النساء علیها السلام :

السقیفة وارتکازیّة میراث الخلافة :

النقطة الاُولی : أنّ شمولیة قاعدة الوراثة لمقامات ومناصب النبیّ صلی الله علیه و آله أمر مرتکز فی ذهنیّة المسلمین ، ویُعدّ قاعدة دینیّة صلبة ، إلی درجة أنّ الجدال العصیب الذی دار بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله ، بین قریش المهاجرة وبین الأنصار ، إنّما حُسم لقریش بناءً علی هذه القاعدة ، مع أنّ النزاع شدید ، والأمر عصیب ، والحال خطیر ، و هذا ممّا یُبیّن مدی رکنیّة هذه القاعدة فی الاُصول و القواعد .

تناقض السقیفة فی المیراث :

النقطة الثانیة : أنّ أصحاب السقیفة کالخلیفة الأوّل والثانی وأنصارهما ، قد وقعوا فی تناقض شدید ، حیث استدلّ کلّ منهما علی أحقّیة قریش من الأنصار بسلطان النبیّ صلی الله علیه و آله وولایته ، بقاعدة وراثة القرابة والرحم ، مع أنّهم منعوا فاطمة وعلیّاً علیهما السلام من الفیء ، والخمس ، وفدک ومواریث النبیّ صلی الله علیه و آله ، تحت ذریعة الحدیث الذی زعموه وینسبوه إلی النبیّ صلی الله علیه و آله ، من أنّ النبیّ لا یورَث وما ترکه صدقة .

فإذا کان النبیّ لا یورَث ، فکیف ترث قریش سلطان النبیّ ، وولایته وإمارته ، وتکون أحقّ بإرث النبیّ - بموجب الرحم - من الأنصار ، مع أنّ السلطان والولایة والحاکمیة أعظم خطراً من المال ، وإن کان فی الحقیقة الفیء وولایته هی عین الحاکمیة والإمارة والسلطان ، کما مرّ توضیحه . ومن ثَمّ بادر أصحاب السقیفة إلی

ص:201


1- (1) تاریخ الطبری : 2 : 458 .

غصبه من أهله ، وهم أهل البیت علیهم السلام .

العبّاسیّون ومیراث الخلافة :

النقطة الثالثة : قد سجّل التاریخ من إثارة المنصور الدوانیقی حول دلالة الآیة علی وراثة بنی هاشم للخلافة الإسلامیة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، یُعزّز متانة هذه الآیة فی الفکر والوعی لدی المسلمین تجاه مفادها ، فقد ذکر الطبری فی « تاریخه » رسائل متبادلة بین المنصور الدوانیقی وبین محمّد بن عبد اللّه بن الحسن المثنّی ابن الإمام الحسن المجتبی علیه السلام ، حینما ظهر بالمدینة ، فممّا کتب الدوانیقی إلیه :

« . . . فإذا جلّ فخرک بقرابة النساء . . . ولم یجعل اللّه النساء کالعمومة والآباء ، ولا کالعُصبة والأولیاء . . .

وأمّا قولک إنّکم بنو رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فإنّ اللّه تعالی یقول فی کتابه : ما کانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِکُمْ ، ولکنّکم بنو ابنته ، وإنّها لقرابة قریبة ، ولکنّها لا تحوز المیراث ، ولا ترث الولایة ، ولا تجوز لها الإمامة ، فکیف تورث بها . . . ، وقد علمت أنّه لم یبق أحد من بنی عبد المطّلب بعد النبیّ صلی الله علیه و آله غیره - أی العبّاس - فکان ورّاثه من عمومته ، . . . فکیف تفخر علینا . . . وورثنا دونکم خاتم الأنبیاء »(1) .

فإنّ الظاهر من شعار العباسیّین ومنطلقاتهم ، تخطئة مهاجرة قریش وأصحاب السقیفة ، بمقتضی قاعدة الوراثة والقرابة ، حیث إنّ بنی هاشم هم أمسّ رحماً وأقرب من أبی بکر التَیْمی ، وعمر العَدَوی .

فسلطان بنی العبّاس والخلافة العبّاسیّة قائمة علی قاعدة لتبریر المشروعیة تتنافی مع الخلفاء الثلاثة الأوائل وإن کانت القاعدة التی انطلق منها أصحاب السقیفة وبنو العبّاس واحدة ، إلّاأنّ تطبیقها اختلف بینهما ، فأصحاب السقیفة طبّقوها

ص:202


1- (1) تاریخ الطبری : 6 : 198 .

علی عموم وراثة القُربی البعیدة ، وبنو العبّاس طبّقوها علی وراثة کلّ بنی هاشم ، فی القرابة المتوسطة .

وعلی أیّ تقدیر فهذان الاحتجاجان والمستندان یعکسان بداهة تطبیق قاعدة وراثة القربی لمناصب النبیّ صلی الله علیه و آله ، وولایته ، وحاکمیته ، وأنّها باتت من مسلّمات الدین .

ومن ثَمّ جُعل من شرائط الإمامة أن یکون الإمام قرشیّاً عند کافّة فرق المسلمین(1) ، عدا الخوارج وجُلّ المعتزلة ، وممّا احتجّوا به علی ذلک هو عین ما جری من احتجاج قریش یوم السقیفة علی الأنصار ، الذی تقدّم نقله .

ومن ذلک یتبیّن أنّ قاعدة وراثة النبیّ صلی الله علیه و آله ظلّت هی المستند الأوّل لمشروعیة الخلافة الإسلامیّة ، منذ الصدر الأوّل إلی القرون اللاحقة من أجیال المسلمین ، و هذا یبیّن مدی تجذّر هذه القاعدة فی المعرفة الدینیّة ، والنظام السیاسی للمسلمین منذ الصدر الأوّل الإسلامیّ .

أهل البیت علیهم السلام مقدّمون علی بنی هاشم :

النقطة الرابعة : إنّ فاطمة والحسن والحسین وأمیر المؤمنین علیهم السلام مقدّمون فی الوراثة علی العبّاس عمّ النبیّ صلی الله علیه و آله ، أمّا فاطمة وأبناؤها علیهم السلام فإنّهم من الطبقة الاُولی فی الإرث ، وأمّا علیّ علیه السلام فلأنّه ابنُ عمٍّ صُلبیّ للنبیّ صلی الله علیه و آله من الأب والاُمّ ، بخلاف العبّاس عمّ النبیّ صلی الله علیه و آله فهو عمّ من الأب دون الأمّ ، و ذلک لجملة دلائل :

ص:203


1- (1) فقد اشترط المالکیّة فی الإمام کونه قرشیّاً کما فی حاشیة الدسوقی : 2 : 120 ، ونسب التفتازانی ذلک إلی کافّة المسلمین فی شرح المقاصد : 5 : 243 و 244 ، وقد ذکر النووی فی شرح مسلم إجماع الصحابة والتابعین ، فمن بعدهم ونقل أحادیث عن الصحاح فی ذلک . شرح مسلم للنووی : 12 : 199 و 200 ، وقد اشترط القاضی الأیجی فی کتاب المواقف وشرحه لزوم کون الإمام قرشیّاً . کتاب شرح المواقف : 8 : 350 .

الأوّل : نصّ القرآن بالخصوص علی إرث فاطمة علیها السلام لولایة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، کما بیّنا شرح ذلک مفصّلاً فی قوله تعالی : ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی (1) .

وقوله تعالی : وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ (2) .

وقوله تعالی فی سورة الروم : فَآتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ (3) .

وقد نقلنا أقوال المفسّرین وروایاتهم فی ذلک ، وأنّ هذا الحقّ الذی أمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله بإیتائه لذی القُربی هو ولایة الفیء .

کما أشرنا أیضاً إلی أنّ اختصاص ذی القربی بالفیء لیس ملکیة اعتیادیة لمال خاصّ ، وإنّما هی ولایة خاصّة علی مال عامّ .

ومن ثَمّ تکرّرت اللام فی الآیة بالإضافة إلیه تعالی فَلِلّهِ ، ورسوله صلی الله علیه و آله وَ لِلرَّسُولِ ولذی القربی وَ لِذِی الْقُرْبی ، دون الیتامی و المساکین وابن السبیل ، فهذا تنصیص قرآنی علی اختصاص فاطمة لإرث رسول اللّه صلی الله علیه و آله وولایته دون غیرها .

هذا مضافاً إلی ما أشرنا إلیه من شراکتها علیها السلام لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، بالتبع فی جملة من المقامات ، مثل : الحجّیة کما فی آیة المباهلة ، والعصمة والطهارة کما فی آیة التطهیر ، والعلم بالکتاب المکنون الغیبیّ کما فی قوله تعالی : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ، أی لأهل آیة التطهیر المطهّرین فحسب من هذه الاُمّة .

وفی الطاعة والولایة ، کما فی قوله تعالی : اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ

ص:204


1- (1) الحشر : 7 .
2- (2) الإسراء : 17 .
3- (3) الروم : 38 .

وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ (1) .

وکقوله تعالی : أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ (2) ، بعد کون المراد من الأمر فی الآیة هو الأمر فی قوله تعالی : تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ (3) .

وفی قوله تعالی : یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (4) ، وهو الأمر فی قوله تعالی : وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ) (5). فهذه نصوص قرآنیّة خاصّة دلّت علی إرث فاطمة علیها السلام لهذه المقامات .

وغیرها من الآیات التی فصّلنا ذکرها التی تؤکّد علی شراکتها لمقامات النبیّ صلی الله علیه و آله .

الثانی : بطلان التعصیب(6) الذی زعمه المنصور الدوانیقی لیحجب إرث الزهراء علیها السلام وأبنائها المطهّرین لمقامات رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، و ذلک لأنّ التعصیب فی الأصل من أحکام الجاهلیّة الذی نسخه اللّه تعالی فی شریعة نبیّنا صلی الله علیه و آله ، وذمّ من أقام علیه ، واستمرّ بالعمل به ، بقوله تعالی : أَ فَحُکْمَ الْجاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُکْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ (7) .

ص:205


1- (1) الأحزاب : 6 .
2- (2) النساء : 59 .
3- (3) القدر : 4 .
4- (4) النحل : 2 .
5- (5) الشوری : 52 .
6- (6) التعصیب : ردّ ما فضل من سهام الإرث المفروضة علی من کان من عصبة المیّت ، وهو من یمتّ إلی المیّت نسباً ؛ الأقرب فالأقرب من غیر ردّ علی ذوی السهام ، ولا تعصیب فی مذهب آل البیت علیهم السلام .
7- (7) المائدة : 50 .

والقول بالعُصبة والتعصیب یبطله قوله تعالی : لِلرِّجالِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ کَثُرَ نَصِیباً مَفْرُوضاً (1) حیث إنّ الآیة نزلت لإبطال التعصیب ، الذی کان فی الجاهلیّة یقوم علی حرمان النساء من التَّرِکَة ، وتخصیص ذلک بالرجال .

وبعبارة اخری : إنّ الإرث إمّا بالفرض والسهم المسمّی فی کتاب اللّه والسنّة المطهّرة ، أو بقُرب القرابة ودنوّها التی تمنع الأبعد ، أو بالسبب کالزوجیة ، وولاء العتق ، وولاء الجریرة ، وأمّا الذکورة کنمط خاص من القرابة فلیست سبباً موجباً للإرث ، ولا یمنع ولا یحجب الآخرین من القرابة عن الإرث .

ومن ثَمّ تکون الآیة نصّاً فی إبطال هذا السبب والموجب للإرث ، وهو الذکورة من النَّسَب - الذی هو معنی العُصبة والتعصیب - ممّا کان من موجبات الإرث عند الجاهلیّة ، کما أنّه من موجبات الحجب والمنع عن الإرث للمعصَّبة .

ثمّ إنّ فی الآیة فی لفظة مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ دلالة اخری علی أنّه مع الاستواء فی القرابة والدرجة یستوی الذکور والإناث فی استحقاق الإرث ، وعدم حاجبیّة الذکورة للإناث فی الإرث .

وکذا قوله تعالی : وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ (2)وهذه الآیة تنصّ علی أنّ القُربی وتدانی الأرحام سبب فی استحقاق المیراث ، فالبنت الأقرب والأدنی رَحِماً تمنع الأبعد ، حیث إنّه فُسّرت الباء بمعنی « مِن » ، أی أنّ بعض أولی الأرحام لمسیس وقُرب الرحم أولی بولایة وإرث وترکة الرحم من بعضهم الأبعد رَحِماً .

فهذه الآیة تبطل التعصیب من جهة اخری ، وهی أنّ الأقرب رحماً ولو کان

ص:206


1- (1) النساء : 7 .
2- (2) الأحزاب : 6 .

بنتاً یمنع الأبعد رحماً و لو کان رجلاً وعُصبة(1) .

وأمّا ما استدلّوا به للعُصبة بقوله تعالی فی شأن زکریّا علیه السلام : وَ إِنِّی خِفْتُ الْمَوالِیَ مِنْ وَرائِی وَ کانَتِ امْرَأَتِی عاقِراً فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا * یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِیًّا بأنّ المراد بالموالی عصبته ، أی فخاف أن تَرِثَه عصبتُه ، فسأل اللّه تعالی أن یجعل له ولیّاً یرثه دون عصبته ، ولم یسأل وَلِیّةً ( بالتاء ) ترثه ، فهو مردود .

ودلیلنا علی ذلک : أنّه تأویل للآیة علی خلاف الظاهر ، فإنّ الآیة دالّة علی أنّ العُصبة لا ترث مع الولد الأنثی ، لقوله تعالی : وَ کانَتِ امْرَأَتِی عاقِراً والعاقر هی التی لا تلد ، فلو کانت تلد لم یخف الموالی من ورائه ، إذ متی ولدت ذکراً أم أنثی ارتفع عُقرها ، وأحرز الولد المیراث .

فالآیة دالّة بوضوح علی أنّ العصبة لا ترث مع أحد من الولد ، ذکراً کان أم انثی ، کما أنّ لفظ الولیّ قد یستخدم بمعنی اسم الجنس ، کما فی قوله تعالی : یُخْرِجُکُمْ طِفْلاً (2) ، کما أنّ خوفه من إرث موالیه مع عدم الولد یشمل ما لو کان له بنات عمّ یرثنه بسبب ذوی الأرحام ، فخوف الموالی لا یختصّ بالعُصبة ، لیکون دالّاً علیه ، کما أنّ ظاهر قوله تعالی : وَ کَفَّلَها زَکَرِیّا کُلَّما دَخَلَ عَلَیْها زَکَرِیَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ یا مَرْیَمُ أَنّی لَکِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ یَرْزُقُ مَنْ یَشاءُ بِغَیْرِ حِسابٍ * هُنالِکَ دَعا زَکَرِیّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ ذُرِّیَّةً طَیِّبَةً إِنَّکَ سَمِیعُ

ص:207


1- (1) وللمزید من البحث لاحظ کتاب الانتصار للسیّد المرتضی رحمه الله : 552 ، کلامه فی إبطال التعصیب تحت عنوان ( فصل فی الکلام علی العصبة ) ، وکلام الشیخ الطوسی فی کتاب الخلاف : 4 : 62 من کتاب الفرائض ، المسألة 80 ، طبعة جامعة المدرّسین ، ولاحظ أقوال المفسرین أیضاً ذیل الآیة (7) من سورة النساء ، وتهذیب الأحکام : 9 : 265 .
2- (2) غافر : 67 .

اَلدُّعاءِ (1) ، یدلّ علی أنّ الذی دعا به أعمّ من کونه ذکراً أم أنثی ، لأنّه شاهَدَ مریم علیها السلام قرّة عین فی الصلاح والتقوی والطهارة ، مع کونها أنثی .

ص:208


1- (1) آل عمران : 37 - 38 .

المقالة الثالثة : شراکتها علیها السلام لمقامات النبیّ صلی الله علیه و آله بالوراثة عدا النبوّة والإمامة

اشارة

ذکر القرآن الکریم والسنّة الشریفة عدّة مقامات وشؤون لشخص النبیّ صلی الله علیه و آله ، وقد یعبّر عنها فی لسان أهل العلم بالمناصب .

فمنها : النبوّة ، والبشارة ، والنذارة ، قال تعالی : یا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِنّا أَرْسَلْناکَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِیراً (1) وکثیر من الآیات القرآنیّة تخاطبه بلفظ یا أَیُّهَا النَّبِیُّ .

ومنها : العصمة والطهارة ، قال تعالی : إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً ، ما ضَلَّ صاحِبُکُمْ وَ ما غَوی * وَ ما یَنْطِقُ عَنِ الْهَوی * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْیٌ یُوحی .

ومنها : الرسالة ، قال تعالی : قُلْ یا أَیُّهَا النّاسُ إِنِّی رَسُولُ اللّهِ إِلَیْکُمْ جَمِیعاً (2) .

ومنها : الشاهد لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً (3) ، وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ (4) .

ص:209


1- (1) الأحزاب : 45 .
2- (2) الأعراف : 158 .
3- (3) البقرة : 143 .
4- (4) التوبة : 105 .

ومنها : النذیر ، قال تعالی : یا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنْذِرْ (1) .

ومنها : الداعی إلی اللّه بإذنه ، قال تعالی : یا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِنّا أَرْسَلْناکَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِیراً* وَ داعِیاً إِلَی اللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِیراً (2) .

ومنها : الحجّة ، قال تعالی : رُسُلاً مُبَشِّرِینَ وَ مُنْذِرِینَ لِئَلاّ یَکُونَ لِلنّاسِ عَلَی اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (3) .

ومنها : العلم بالکتاب المبین المکنون فی اللوح المحفوظ ، قال تعالی :

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (4) .

ومنها : الهادی ، هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ (5) ، وَ إِنَّکَ لَتَهْدِی إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ (6) .

ومنها : الولایة فی الطاعة والإمامة مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ (7) ، وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِیُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ (8) ، إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا... ، اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ .

ومنها : الحکم والقضاء ، قوله تعالی : فَلا وَ رَبِّکَ لا یُؤْمِنُونَ حَتّی یُحَکِّمُوکَ

ص:210


1- (1) المدثر : 1 - 2 .
2- (2) الأحزاب : 46 .
3- (3) النساء : 165 .
4- (4) الواقعة : 77 - 79 .
5- (5) الجمعة : 1 .
6- (6) الشوری : 52 .
7- (7) النساء : 80 .
8- (8) النساء : 64 .

فِیما شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لا یَجِدُوا فِی أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَیْتَ وَ یُسَلِّمُوا تَسْلِیماً (1) ، إِنّا أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْکُمَ بَیْنَ النّاسِ بِما أَراکَ اللّهُ (2) .

ومنها : ولیّ الخمس ، والأنفال ، والفیء ، قال تعالی : یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ (3) .

وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ خَیْلٍ وَ لا رِکابٍ وَ لکِنَّ اللّهَ یُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلی مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ* ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ . . . (4) .

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ إِنْ کُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلی عَبْدِنا یَوْمَ الْفُرْقانِ یَوْمَ الْتَقَی الْجَمْعانِ (5) .

بیان ثبوت المقامات المتقدّمة للنبیّ صلی الله علیه و آله فی أهل البیت علیهم السلام :

وبعد معرفة هذه المجموعة من المقامات والمناصب الإلهیّة للنبیّ صلی الله علیه و آله نقول - علی نحو الإجمال وسیأتی تفصیله فی الفصول اللاحقة : إنّ القرآن الکریم أکّد علی أنّ هذه المقامات موروثة عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، وإن کانت مقامات إلهیّة غیبیّة ، وإیتائیّة لدنّیة ، عدا مقام النبوّة والرسالة ، وسیادته فی الفضل ، أی أفضلیّته علی سائر المعصومین علیهم السلام . وأکّدت علی حصر هذه الوراثة بأهل البیت علیهم السلام دون

ص:211


1- (1) النساء : 65 .
2- (2) النساء : 105 .
3- (3) الأنفال : 1 .
4- (4) الحشر : 7 .
5- (5) الأنفال : 41 .

غیرهم ، ومنهم فاطمة علیها السلام . فإنّ مقام العصمة والطهارة ثابتة لها فی آیة التطهیر ، لأنّ المراد فی الآیة النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته ، وغیرها من الآیات المقتضیة للعصمة والطهارة فی أهل البیت علیهم السلام ، ممّا مرّ وسیأتی بیان ذلک .

وأمّا مقامها علیها السلام فی الشهادة علی الاُمّة : فیدلّ علیه مثل قوله تعالی : یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْکَعُوا... وَ جاهِدُوا فِی اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ (1) .

فإنّ المخاطب فی الآیة بهذا الخطاب هم ذرّیة إبراهیم خاصّة ، لا عموم المسلمین ، و ذلک لقوله تعالی : مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ ، وتسمیتهم بالمسلمین إشارة إلی دعوة إبراهیم وإسماعیل ، فی قوله تعالی : رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ (2) ، فإنّ هذا الدعاء یُفصح أنّ المخاطبین لیس هم جمیع ذرّیة إبراهیم ، بل جماعة خاصّة من تلک الذرّیة ، موصوفة بأنّها مسلمة علی حذو ودرجة وصف إبراهیم وإسماعیل بالمسلمین ، أی بدرجة خاصّة من التسلیم ، فهم مورد دعاء إبراهیم لجعل عهد الإمامة من اللّه فیهم ، حیث قال :

وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ (3) .

ویشیر إلی أنّ المراد هو الأمّة الخاصّة من الذرّیة دون سائر الذرّیة وصف « الاجتباء » فی الآیة هُوَ اجْتَباکُمْ کما فی سورة الحجّ ، الذی هو بمعنی الاصطفاء ، و ذلک لأنّ الاجتباء هو الاصطفاء والاختیار الخاصّ من اللّه تعالی ، لجماعة من المسلمین اختصّهم اللّه تعالی بذلک دون غیرهم ، ولا نجد فی ذرّیة

ص:212


1- (1) الحج : 78 .
2- (2) البقرة : 128 .
3- (3) البقرة : 124 .

إبراهیم وهم قریش من اختصّ بخصائص دون بقیّة بطون قریش إلّاأهل البیت ، وهم أهل آیة التطهیر ، وولایة الخمس ، وولایة الفیء ، والمودّة .

وهکذا قوله تعالی : وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ (1) ، فإنّ الرؤیة لنفس العمل ، لا نتیجته وجزاؤه الأخروی ، ممّا یقضی بأنّ هناک ثُلّة من هذه الاُمّة تشهد أعمال الخلق حین صدور العمل ، و هذا معناه تحمّل هذه الثُّلّة للشهادة علی أعمال الخلق ، وهذه الثُّلّة هم ما عرّفتهم وأشارت إلیهم الآیات السابقة ، وهم أهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله .

ومقامها علیها السلام فی الحجّیة : قوله تعالی : فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکاذِبِینَ (2) فإنّ مفادها کما سیأتی بیانه حجّیة أصحاب الکساء من نمط وسنخ حجّیة النبیّ صلی الله علیه و آله ، وأنّها بلحاظ توفّرهم علی مقامات غیبیة .

ومن ثَمّ لم یندب اللّه تعالی غیرهم من کبار الصحابة أو حتّی أزواجه صلی الله علیه و آله إلی ذلک ، بل خصّ أهل البیت ؛ لأنّهم من النبیّ صلی الله علیه و آله فی الاصطفاء ، والاجتباء ، والتطهیر .

ومقامها علیها السلام فی الإنذار : فقوله تعالی : یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ (3) فإنّ قوله تعالی : عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، أی علی من یصطفیه من عباده ، ولم یعبّر : ( ینزل علی أنبیائه ) ، تنبیهاً علی أنّ الآیة عامّة ، لکلّ مصطفی ومجتبی من خلقه تعالی ، باعتبار

ص:213


1- (1) التوبة : 105 .
2- (2) آل عمران : 61 .
3- (3) النحل : 2 .

أنّ هذا النزول للملائکة والروح مستمرّ لما بعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله ، وذلک لبقاء لیلة القدر ، وعدم اقتصارها علی أیام حیاته صلی الله علیه و آله ، ومن المعلوم أنّه لیس هناک من عباد اللّه تعالی من اصطفاه اللّه تعالی بعد النبیّ صلی الله علیه و آله إلّاأهل بیته ، الذین اصطفاهم اللّه تعالی بالطهارة .

مضافاً إلی کون من ینزل علیه الروح و الملائکة لا بدّ أن یکون مَن عنده علم الکتاب ، و ذلک لارتباط نزول الکتاب بنزول الروح ، کما اشیر إلیه فی سورة القدر ، وسورة الدخان ، حیث قال تعالی : إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ . . . تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ ، وقد أخْبَرَنا القرآن أن الذین عندهم علم الکتاب المکنون ویمسّونه من هذه الاُمّة هم المطهّرون ، قال تعالی : فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ وهم أهل آیة التطهیر .

ومحصّل الکلام : إنّ مقام الإنذار ثابت لمن یتنزّل علیه الروح فی لیلة القدر ، وهم الذین عندهم علم الکتاب ، وهم الذین اصطفاهم اللّه تعالی بالطهارة .

ومقامها علیها السلام فی الهدایة : قال تعالی : إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ (1) ، فقوله تعالی : وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ إخبار بنحو القضیة العامّة الدائمیة وإلی یوم القیامة ، من أنّ هناک هداة للأقوام یقومون بهدایتهم لاُولئک ، وأنّ مقام الهدایة لهؤلاء الهداة علی وزان مقام النبوّة ، لکونه مقاماً غیبیّاً ، و قد ورد فی سورة الفاتحة أنّ هذه الهدایة قد جُعلت لمن توفّرت فیهم ثلاث صفات :

الاُولی : أنّهم مُنْعَم علیهم بنعمة خاصّة دون بقیّة الاُمّة .

الثانیة : أنّهم لا یضلّون قطّ ، وإلّا لما کانوا هداة لغیرهم علی الدوام .

الثالثة : أنّهم لا ینالهم غضب إلهیّ قطّ .

ص:214


1- (1) الرعد : 7 .

ولا نری فی هذه الاُمّة أناساً قد أنعم اللّه تعالی علیهم بنعمة خاصّة ، دون بقیّة الأمّة ، إلّاأهل البیت علیهم السلام ، حیث خصّهم اللّه تعالی فی کتابه باصطفاء الطهارة ، وبمسّ الکتاب المکنون ، وأنّ مودّتهم أجر للرسالة ، وحصر بهم الولایة ، وولایة الخمس والفیء .

وشهد لهم القرآن بالطهارة عن رجس المعصیة ، وحلول الغضب الإلهی ، وبمسّ الکتاب المکنون ، ومع هذه الخصائص فلا یتصوّر وقوعهم فی الضلالة .

ومقامها علیها السلام فی الإمامة والولایة فی الطاعة : فقوله تعالی : إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ (1) ، وقوله تعالی : یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ (2) .

وشأن نزول الآیة الاُولی هو ما ورد عن الفریقین ، أنّها نزلت فی علیّ بن أبی طالب علیه السلام عندما تصدّق بالخاتم فی أثناء رکوعه فی الصلاة(3) ، وهی دالة علی أنّ ولایة الطاعة المطلقة لعلیّ علیه السلام بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی حذو طاعة الرسول ، والتی هی علی حذو طاعة اللّه تعالی .

وهکذا الکلام فی الآیة الثانیة ، فی قوله تعالی : وَ أُولِی الْأَمْرِ فإنّ الأمر یشار به إلی الأمر الذی ذُکر فی سورة القدر ، و النحل ، والدخان ، وهم الذین تتنزل علیهم

ص:215


1- (1) المائدة : 55 .
2- (2) النساء : 59 .
3- (3) راجع : الدرّ المنثور للسیوطی : 2 : 293 ، ذیل الآیة . البلاذری فی أنساب الأشراف : 150 ،الحدیث 151 ، فی ترجمة الإمام علیّ . کنز العمّال : 18 : 165 . ابن عساکر فی تاریخ دمشق فی ترجمة الإمام علیّ علیه السلام : 2 : 409 ، الحدیث 915 . الطبرانی فی الأوسط : 6 : 218 . الهیثمی فی مجمع الزوائد : 7 : 17 . ابن مردویه فی لباب النقول فی أسباب النزول : 90 ، وغیرهم .

الروح و الملائکة فی لیلة القدر ، وفی غیرها .

وبعبارة اخری : إنّ لفظ الأمر استعمل فی القرآن الکریم فی مواضع متعدّدة ، ترتبط بصلة وثیقة بالروح النازل فی لیلة القدر مع الملائکة ، وبنزول الکتاب ، کقوله تعالی : إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ... تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِیَ حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ (1) .

وقوله تعالی : حم * وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ * إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ إِنّا کُنّا مُنْذِرِینَ * فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنا (2) .

وقوله تعالی : وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ وَ لکِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِی بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (3) .

وقوله تعالی : یُلْقِی الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (4) .

فإنّ المتأمّل لهذه الآیات وغیرها ، یجد ارتباطاً وثیقاً وتلازماً بین نزول الکتاب ونزول الروح بالأمر ، وأنّ الروح والأمر یتنزّل علی من یشاءهم اللّه ویصطفیهم من عباده .

وعلیه فللروح أصحاب هم ولاةٌ له اصطفاهم اللّه تعالی لیکونوا ولاة وأصحاباً لذلک الأمر وهو الروح ، فهم أولوا الأمر ، فهذا مقام غیبیّ استحقّوا لأجله وجوب الطاعة من الخلق علی شاکلة رسالة الرسول صلی الله علیه و آله ، حیث استحقّ به مقام الطاعة ، فی سیاق واحد ، بآیة الطاعة والولایة ، لاسیّما وأنّ هذا الأمر الإلهیّ هو ما یفرق فی لیلة القدر المبارکة من کلّ أمر حکیم ، من المشیئات الإلهیّة .

ص:216


1- (1) القدر : 1 - 5 .
2- (2) الدخان : 1 - 5 .
3- (3) الشوری : 52 .
4- (4) غافر : 15 .

فالطاعة لاُولی الأمر فی قوله تعالی : یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ (1) راجعة فی حقیقتها إلی طاعة الإرادة الإلهیّة .

ثم لا یخفی إلی أنّ المراد بالولیّ فی الآیة لا یمکن أن یکون هو الولیّ بمعنی مطلق الحاکم ، وعموم الماسک بالزمام ، ولا المراد بالأمر هو مجرّد الشأن العامّ فی النظام الاجتماعی للمسلمین .

و ذلک لعدم تعقّل فرض الطاعة المطلقة لغیر المعصوم ، ولا أنّ الطاعة لغیر المعصوم بمنزلة طاعة اللّه ورسوله ، إذ مع عدم الأمن من وقوعه فی المخالفة والضلال فکیف تکون طاعته مطلقة وطاعته بمثابة طاعة اللّه ورسوله .

وقد تقدّم فی الآیة الاُولی وهی آیة التصدّق بالخاتم من حصر الولایة فی اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله ، وفی علیّ علیه السلام ، الذی هو من أهل البیت علیهم السلام .

و هذا کلّه(2) فی أصل وراثة مقام الإمامة وولایة الطاعة عن النبیّ صلی الله علیه و آله لأهل بیته علیهم السلام .

ثمّ إنّ هذه الآیات وإن کانت فی مقام تقریر الطاعة لمقام الإمامة ، والتی هی مختصّة بالأئمة من أهل بیته علیهم السلام ، إلّاأنّه سیأتی أنّ الصدّیقة الزهراء علیها السلام من أهل البیت ، الذین یتنزّل علیهم الأمر فی لیلة القدر ، وإن لم تکن إماماً ، فتشملها ولایة الطاعة ، کما تشملها ولایة الفیء ، والخمس ، وهی متفرّعة عن ولایة الأمر ، وسیأتی بیان ذلک تفصیلاً .

ومقامها علیها السلام فی علم الکتاب : فقد قال تعالی : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِیلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ (3) فهذه الآیات الکریمة

ص:217


1- (1) النساء : 59 .
2- (2) سیأتی تفصیل وراثة ولایة الطاعة لاحقاً .
3- (3) الواقعة : 77 - 80 .

تشیر إلی وجود القرآن فی النشأة الغیبیة ، وهو الکتاب المکنون ، الذی عُبّر عنه فی سورة البروج بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِیدٌ*فِی لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (1) ، وهو ما أشار إلیه قوله تعالی فی سورة الرعد یَمْحُوا اللّهُ ما یَشاءُ وَ یُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْکِتابِ (2)حیث یشیر إلی أنّ أصل جملة الکتاب ، ومنبع نزوله هو من نشأة الغیب ، وهی نشأة فوق نشأة لوح القضاء والقدر ، والتی هی أیضاً من النشآت الغیبیة أیضاً .

فالآیة من سورة الواقعة فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ تشیر :

أوّلاً : إلی وجود القرآن فی النشأة الغیبیة .

ثانیاً : إلی أنّ هذا الوجود لا یدرکه إلّاالمطهرون ، دون بقیّة الخلق ، والمطهّر فی اللغة وفی الاستعمال القرآنی غیر المتطهّر ، إذ یُستخدم الثانی فیمن یحصّل الطهارة بالغسل أو الوضوء ونحوها من المطهّرات ، بخلاف المطهّر ، فهو الذی فُطر علی الطهارة الذاتیّة ، بفعل وإرادة من اللّه تعالی ، کما نصّ علیه قوله تعالی :

إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً (3) .

ومقتضی ألفاظ الآیة ، أنّها تختصّ فی الخمسة من أصحاب الکساء ، ویعضدها فی ذلک روایات الفریقین وهی تشمل الصدّیقة الطاهرة علیها السلام . وکذلک قوله تعالی :

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا (4) وهی دالّة علی توریث الکتاب لمن اصطفاهم اللّه تعالی من عباده ، و ذلک لما سبقها من قوله تعالی : وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ مِنَ الْکِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ إِنَّ اللّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِیرٌ بَصِیرٌ (5) .

ص:218


1- (1) الطارق : 21 - 22 .
2- (2) الرعد : 39 .
3- (3) الأحزاب : 33 .
4- (4) فاطر : 32 .
5- (5) فاطر : 31 .

ومن الواضح أنّ التوریث هنا لیس توریثاً للمصحف الشریف ، وإلّا لما اختصّ بمن یصطفیه اللّه تعالی من عباده ، إذ هو فی متناول کلّ البشر ، الکافر منهم والمسلم ، وحجّة علی الناس أجمعین ، بل المراد هو وجود الکتاب فی النشآت الغیبیة ، المتضمّن لمدارج التأویل ، وحقائق الأشیاء ، ولم یشر فی القرآن إلی اجتباء واصطفاء أحد من هذه الاُمّة اختصّ بهذه الخصائص غیر العترة من أهل البیت علیهم السلام فی آیة التطهیر ، والفیء ، والخمس ، والمودّة .

فالمحصل من هذا الإجمال أنّ الوارث لعلم الکتاب شامل للصدّیقة الطاهرة علیها السلام .

ومقامها علیها السلام فی الحکم والقضاء : قال تعالی : أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ (1) إنّ متعلّق الطاعة هنا لم یقیّد بأمر خاصّ بل کان مطلقاً ولا یخفی أنّ إطلاقه یساوق الولایة علی الدین ، علی نمط سعة دائرة طاعة اللّه ثمّ سعة طاعة الرسول ، ثمّ فی النوبة الثالثة تصل لاُولی الأمر ، ومن المعلوم أنّ من شُعب تلک الولایة المطلقة الوسیعة هی الولایة علی الحکم والقضاء .

وکذلک قوله تعالی : وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَی الرَّسُولِ وَ إِلی أُولِی الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِینَ یَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَیْکُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّیْطانَ إِلاّ قَلِیلاً (2) ، فإنّ مورد الآیة هو ما یعتری الجانب الأمنی من النظام الاجتماعی ، کما ذکر فی شأن نزولها من أنّه کان البعض منهم یُرجف ویُزلزل الوضع الاجتماعیّ والأمنیّ فی المدینة بإشاعة بعض الأخبار عن هجوم العدوّ ومداهمته للمدینة ، وهو المراد بکلمة اَلْخَوْفِ فی الآیة الکریمة ، أو یذیعوا أخبار المسلمین وانتصاراتهم علی عدوّهم ، وهو المعبّر عنه فی الآیة اَلْأَمْنِ ، فإنّ إفشاء وعدم ستر تلک الأخبار من الخطورة بمکان ؛ لأنّ العدوّ

ص:219


1- (1) النساء : 59 .
2- (2) النساء : 83 .

سیّدرک بها مواطن الضعف فیهم ، وهکذا یؤثّر انتشارها علی الوضع العامّ ویوجب اضطراب التدبیر فی النظم العامّ .

ولذلک أمر تعالی بإنهاء مثل تلک الأخبار إلی الرسول صلی الله علیه و آله وإلی ولاة الأمر ، کی یُتّخذ الإجراء المناسب لمعالجة الوضع بصورة صحیحة .

فالمحصّل من الاستدلال بهذه الآیة هو أنّ الآیة فی مورد تدبیر الحاکم فی حکومته السیاسیّة وفعالیتها ، تجاه الحالة الأمنیة .

وقد مرّت الإشارة فی الآیة السابقة أنّ ولاة الأمر هم أهل البیت علیهم السلام ، الشامل للصدّیقة الطاهرة علیها السلام .

الوراثة ومقام الفیء والخمس :

وأمّا مقامها علیها السلام فی ولایة الفیء والخمس : فقد قال تعالی : وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ خَیْلٍ وَ لا رِکابٍ وَ لکِنَّ اللّهَ یُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلی مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ * ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ وَ ما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِیدُ الْعِقابِ (1) .

قال الشیخ الطوسی فی باب الفیء من کتاب « الخلاف » : « ما کان للنبیّ صلی الله علیه و آله ینتقل إلی ورثته ، وهو موروث . وخالف جمیع الفقهاء فی ذلک .

دلیلنا : إجماع الفرقة .

وأیضاً قوله تعالی : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ وقوله فی قصّة زکریّا : یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ وأیضاً قوله تعالی : یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلادِکُمْ عامّ ،

ص:220


1- (1) الحشر : 6 - 7 .

إلّا من خصّه الدلیل .

وکذلک قوله تعالی : لِلرِّجالِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وکلّ ذلک علی عمومه ، وتخصیصه یحتاج إلی دلیل »(1) .

وقال أیضاً فی کتاب الفیء وقسمة الغنائم من کتاب الخلاف : « مسألة 2 : الفیء کان لرسول اللّه صلی الله علیه و آله خاصّة ، وهو لمن قام مقامه من الأئمّة علیهم السلام ، وبه قال علیّ علیه السلام ، وابن عبّاس وعمر . ولم یعرف لهم مخالف »(2) .

ولا یخفی أنّ الوراثة فی کلام الشیخ لمقام الرسول صلی الله علیه و آله ، هی وراثة لولایته صلی الله علیه و آله ، کما تراه یصرّح فی المسألة الثانیة ، من أنّ هذا هو من مقام ولایة الرسول صلی الله علیه و آله ، وولایة الأئمّة علیهم السلام من قرباه ، لا أنّ لهم مجرّد أسهم وحصص ، کما هو الحال فی الیتامی ، و المساکین ، و ابن السبیل وغیرهم .

وقال الشیخ المفید : « وکانت الأنفال لرسول اللّه صلی الله علیه و آله خاصّة فی حیاته ، وهی للإمام القائم مقامه من بعده خالصة ، کما کانت له علیه وآله السلام فی حیاته ، قال اللّه عزّ وجلّ : یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِکُمْ وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ (3) وما کان للرسول علیه السلام من ذلک فهو لخلیفته فی الاُمّة ، القائم مقامه من بعده »(4) .

أقول : تعبیره قدس سره بأنّ الأنفال کانت خاصّة للرسول صلی الله علیه و آله فی حیاته ، أی فی مقابل نفیها عن المسلمین ، وإلّا فذو القربی وهی فاطمة علیها السلام قد استحقّت ولایة الفیء

ص:221


1- (1) کتاب الخلاف : 4 : 184 طبعة مؤسسة النشر الإسلامی .
2- (2) کتاب الخلاف : 4 : 181 طبعة مؤسسة النشر الإسلامی .
3- (3) الأنفال : 1 .
4- (4) المقنعة : 272 .

والأنفال فی عهد الرسول صلی الله علیه و آله ، کما نصّت علیه آیة الفیء ، وسورة الإسراء ، والروم .

کما أنّ الصحیح أنّ ولایة الرسول صلی الله علیه و آله لا تنقطع بموته ، بل هی باقیة إلی یوم القیامة ، وتصرّفه صلی الله علیه و آله عبر ارتباطه بالإمام القائم مقامه بالعلم اللدنّی(1) .

وقال ابن قدامة فی « المغنی » : « الفیء هو الراجع إلی المسلمین من مال الکفّار بغیر قتال ، یقال : فاء الفیء إذا رجع نحو المشرق ، والغنیمة ما أخذ منهم قهراً بالقتال ، واشتقاقها من الغُنم وهو الفائدة »(2) .

وقال فی « الغنائم » : « ثم کانت فی أول الإسلام لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، بدلیل قول اللّه تعالی : یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ ثمّ صار أربعة أخماسها للغانمین ، والخمس لغیرهم ، بدلیل قوله تعالی : اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ فأضاف الغنیمة إلیه ، و جعل الخمس لغیره ، فیدل ذلک علی أن سائرها لهم . . . وقال تعالی : فَکُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَیِّباً فأحلّها لهم »(3) .

وقال أیضاً فی الفیء : « قول اللّه تعالی : ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ (4) ، فظاهر هذا أنّ جمیعه لهؤلاء ، وهم أهل الخمس ، وجاءت الأخبار عن عمر دالّة علی اشتراک جمیع المسلمین فیه ، فوجب الجمع بینهما کی لا تتناقض الآیة والأخبار فتتعارض ، وفی إیجاب الخمس فیه جمع بینهما وتوفیق ، فإنّ خمسه للذی سمّی فی الآیة ، وسائره ینصرف إلی من فی الخبر ، کالغنیمة ،

ص:222


1- (1) وقد فصّلنا الحدیث عن ذلک فی الجزء الثانی من کتاب الإمامة الإلهیّة ، فراجع .
2- (2) المغنی لابن قدامة : 7 : 297 .
3- (3) المصدر المتقدّم : 298 .
4- (4) الحشر : 7 .

ولأنّه مالک مشترک مظهور علیه ، فوجب أن یُخمّس کالغنیمة والرکاز »(1) .

أقول : فی کلامه مواقع للنظر :

الأوّل : دعواه نسخ آیة الخمس لآیة الفیء ، وقد تقدّم أنّ الأنفال لا تختصّ بالغنائم ، بل بکلّ الأموال الزائدة علی الأموال الشخصیّة ، ثروات الأرض وکلّ ما أخذ من دار الحرب بلا قتال ، و الأرض الموات ورؤوس الجبال وبطون الأودیة ومیراث من لا وارث له . . . الخ ، فلو سلّمنا التنافی بین آیة الخمس والأنفال ، فغایة ما یدلّ ذلک هو أنّ آیة الخمس مخصِّصة للأنفال لا ناسخة لها .

مع أنّه لا تنافی بینهما؛ حیث إنّ ولایة تدبیر الأنفال بید اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله ، ولم تخرج الغنائم فی التدبیر عن ولایة اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله ، فإنّ التوزیع بید رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، غایة الأمر فی خصوص الغنائم والتی هی قسم من الأنفال قد حُدّد مصرفها علی الغانمین بعد إخراج الخمس ، وهو فی الحقیقة إبقاؤه علی حکم الأنفال من حیث موارد المصرف .

ثمّ کیف یکون کلّ من الناسخ والمنسوخ ینزلان فی واقعة واحدة ، ولاسیّما أنّ کلیهما نزلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها ، ونزاع المقاتلین فی الغنائم .

الثانی : کیف نوفّق بین آیة الفیء التی تنفی أن یکون الفیء للمسلمین أو للمقاتلین ، بعد أن بیّنت العلة من ذلک ، وهی أنّهم لم یبذلوا جهداً ولا عناءاً فی الاستیلاء علی الفیء ، وإنّما قد سلّط اللّه تعالی رسوله صلی الله علیه و آله علی أموال الفیء ، کما هو الحال فی لسان آیة الأنفال ، فکیف نوفّق بینها وبین الأخبار التی تضمّنت رأی عمر بن الخطاب الدالّ علی اشتراک المسلمین جمیعاً بالفیء .

و هل یُرفع الید عن کتاب اللّه تعالی برأی أحد الصحابة ، لاسیّما وأنّ آیة الفیء صریحة فی نفی ملکیّتها عن المقاتلین لأنّهم لم یأخذوها بقتال .

ص:223


1- (1) المغنی لابن قدامة : 7 : 299 .

هذا مع تکرار الفیء فی الآیة النافیة لملکیّة المسلمین له ، وفی الآیة الثانیة المثبتة لملکیّته للّه تعالی ولرسوله صلی الله علیه و آله ولذی القربی .

والحال أنّه قد سلّم دلالة آیة الأنفال علی کون مفادها أنّ جمیع الأنفال کانت لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، و هذا اللسان بنفسه هو فی آیة الفیء ، لاسیّما وأنّ فی آیة الفیء تصریح بعدم استیلاء المسلمین علیه بقتال ، والذی هو سبب لتملّکهم وغنیمتهم .

الثالث : إنّ ما ادّعاه من الروایة عن عمر من أنّ الفیء هو لجمیع المسلمین ، فإنّه یرد علیه أنّه قد رُوی عن عمر إقراره بأنّها کانت لرسول اللّه صلی الله علیه و آله خاصّة ، فقد روی سفیان بن عیینة ، عن الزهریّ ، عن مالک بن أوس بن الحدثان ، قال :

« اختصم علیّ علیه السلام والعبّاس إلی عمر بن الخطّاب فی أموال بنی النظیر ، فقال عمر : کانت أموال بنی النظیر ممّا أفاء اللّه علی رسوله ، ممّا لم یوجف علیه بخیل ولا رکاب ، فکانت لرسول اللّه صلی الله علیه و آله خاصّة دون المسلمین ، وکان یُعطی منها لعیاله نفقة سنة ، ویجعل ما یفضل فی الکراع والسلاح عدّة للمسلمین ، فولیها رسول اللّه » .

الحدیث(1) .

وقال ابن قدامة فی موضع آخر من کلامه فی بیان مصرف الخمس : « فإنّ اللّه تعالی سمّی لرسوله ولقرابته شیئاً ، و جعل لهما فی الخمس حقّاً ، کما سمّی للثلاثة الأصناف الباقیة ، فمن خالف ذلک فقد خالف نصّ الکتاب ، وأمّا حمل أبی بکر وعمر علی سهم ذی القربی فی سبیل اللّه ، فقد ذُکر لأحمد فسکت وحرّک رأسه ، ولم یذهب إلیه ، ورأی أنّ قول ابن عبّاس ومن وافقه أولی ، لموافقته کتاب اللّه وسنّة رسول اللّه ، فإنّ ابن عبّاس لمّا سُئل عن سهم ذی القربی ، فقال : إنّا کنا نزعم

ص:224


1- (1) صحیح مسلم : 3 : 137 ، الحدیث 48 . البیهقی فی سننه : 6 : 299 . أبو داود فی سننه : 2 : 20 ، الحدیث 2963 و : 22 ، الحدیث 2965 . النسائی : 7 : 132 . الترمذی فی سننه : 3 : 131 ، الحدیث 1773 .

أنّه لنا ، فأبی ذلک علینا قومنا ، ولعلّه أراد بقوله : « أبی ذلک علینا قومنا » فعل أبی بکر وعمر ، فی حملهما علیه فی سبیل اللّه ومن تبعهما علی ذلک ، ومتی اختلف الصحابة وکان قول بعضهم موافقاً للکتاب والسنّة کان أوْلی ، وقول ابن عبّاس موافقاً للکتاب والسنّة ، فإنّ جبیر بن مطعم روی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یُقسّم لبنی عبد شمس ولا بنی نوفل من الخمس شیئاً ، کما کان یُقسّم لبنی هاشم وبنی عبدالمطّلب ، وإنّ أبا بکر کان یقسّم الخمس نحو قسم رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، غیر أنّه لم یکن یعطی قربی رسول اللّه کما کان یعطیهم ، وکان عمر یعطیهم وعثمان من بعده ، رواه أحمد فی مسنده . . .

فإن قالوا : فالنبیّ صلی الله علیه و آله لیس بباق ، فکیف یبقی سهمه ؟

قلنا : جهة صرفه إلی النبیّ صلی الله علیه و آله مصلحة المسلمین ، والمصالح باقیة . . .

و هذا السهم - الخمس - کان لرسول اللّه صلی الله علیه و آله من الغنیمة حضر أو لم یحضر ، کما أنّ بقیّة سهم أصحاب الخمس ، لهم حضروا أو لم یحضروا ، وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یصنع به ما شاء ، فلمّا توّفی ولیه أبو بکر ، ولم یسقط بموته ، وقد قیل :

إنّما أضافه اللّه تعالی إلی نفسه وإلی رسوله لیُعلم أنّ جهته جهة المصلحة ، وأنّه لیس مختصّاً بالنبیّ فیسقط بموته »(1) .

أقول : إذا استظهر أنّ اللام فی ( للّه وللرسول ) للولایة ولیس حصّة وسهم مصرف ، فما له لم یستظهر ذلک من اللام ، وإسناد الفیء والخمس لذی القربی ، إذ العطف فی سیاق واحد ، مع اختلاف الأسناد فی الیتامی ، و المساکین ، وابن السبیل ، حیث لم تتکرّر اللام ، لا سیّما وأنّ ذکر عنوان القربی والذی هو سبب الإرث دالّ علی أنّ مالهم إنّما انتقل إلیهم ممّا هو للرسول صلی الله علیه و آله ، وما کان للرسول صلی الله علیه و آله هو الولایة ، ومن المعلوم أنّ الولایة أعظم شأناً من الملکیّة الخاصّة .

ص:225


1- (1) المغنی لابن قدامة : 7 : 301 و 302 .

الفیء والأنفال لیسا ملکاً للمسلمین :

إنّ قوله تعالی : وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْهُمْ الآیة ، ینفی ملکیّة المسلمین للفیء ، معلّلة ذلک أنّه لم تحصل السیطرة علیه بجهد عسکریّ منهم ( لم یوجفوا علیه بخیل ولا رکاب ) ، فهو مالٌ حکمه من جهة الولایة حکم المباحات والأموال والثروات الطبیعیة الأولیّة ، والتی إدارتها بید اللّه تبارک وتعالی ، ورسوله ، والإمام المنصوب من قِبَلِهما .

وأنّ سیطرة الرسول صلی الله علیه و آله علی هذه الأموال حصلت بتسبیب من اللّه تعالی ، من دون إعانة ونصر من قبل المسلمین ، وَ لکِنَّ اللّهَ یُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلی مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ (1) .

و هذا المفاد فی آیة الفیء یشابه نفس المفاد فی آیة الأنفال ، قال تعالی :

یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِکُمْ وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ (2) .

حیث إنّ الأنفال علی القول الصحیح الوارد فی أحادیث أهل بیت العصمة علیهم السلام ، والمطابق لمعناه اللغوی ، هی الأموال العامّة التی لیس لها مالک خاص ، وجمیع المباحات الأوّلیّة ، لا خصوص غنائم الحرب ، کما هی عند أهل سنّة الجماعة ، فلیس آیة الخمس ناسخة لآیة الأنفال کما زعموا .

نعم ، إنّ غنائم الحرب قد عُیّن لها مصرفاً خاصّاً ، بعد إخراج ضریبة الخمس منها ، لکنّ ولایة توزیعها وتدبیرها هی تحت ولایة اللّه تعالی ورسوله والإمام ، وأمّا بقیّة موارد الأنفال ، والتی یصدق علیها عنوان الفیء أیضاً ، فولایة تدبیرها

ص:226


1- (1) الحشر : 6 .
2- (2) الأنفال : 1 .

کما نُصّ علیه فی آیة الفیء ، بید اللّه تعالی ورسوله ولذی القربی المطهّرین من آل بیته صلی الله علیه و آله .

حیث یضعها الإمام فی شؤون الإمامة ، والحاکمیّة ، وبسط العدل ، وإغاثة المحرومین والمحاویج .

کما أنّ من شؤونه المهمّة أیضاً کفالة الفقراء من ذرّیة الرسول صلی الله علیه و آله ، وبنی هاشم .

معنی الفیء والأنفال :

قال الشیخ الطوسی فی « التبیان » : « رُوی عن أبی جعفر وأبی عبد اللّه علیهما السلام :

إنّ الأنفال کلّ ما أخذ من دار الحرب بغیر قتال ، إذا انجلی عنها أهلها - وتسمّیه الفقهاء فیئاً -

ومیراث من لا وارث له ، وقطائع الملوک إذا کانت فی أیدیهم من غیر غصب ،

والآجام ، وبطون الأودیة ، والموات ، وغیر ذلک . . .

والأنفال جمع نفل ، والنفل هو الزیادة علی الشیء ، یقال : نفلتک کذا إذا زدته . . . ، والنفل هو ما اعطیه المرء علی البلاء والعناء زائداً علی الجیش علی غیر قسمة ، وکل شیء کان زیادة علی الأصل فهو نفل ونافلة ، ومنه قیل لولد الولد :

نافلة ، ولما زاد علی فرائض الصلاة نافلة »(1) .

وقال فی « المیزان » : « وتطلق الأنفال علی ما یُسمی فیئاً أیضاً . . . ، وتطلق علی غنائم الحرب کأنّها زیادة علی ما قُصد منها ، فإنّ المقصود بالحرب والغزوة ، الظفر علی الأعداء ، واستیصالها ، فإذا غلبوا وظُفر بهم فقد حصل المقصود ، والأموال التی غَنَمها المقاتلون ، والقوم الذین أسروهم زیادة علی أصل الغَرَض »(2) .

وقد تقدّم عموم معنی الأنفال لغنائم الحرب ، وإن لم تختصّ بالغنائم ، کما ورد

ص:227


1- (1) التبیان للطوسی : 5 : 72 .
2- (2) المیزان للطباطبائی : 9 : 5 .

بذلک العموم فی کلّ من هذه الأنماط عدد من الأحادیث الصحیحة .

ففی الصحیح عن زرارة قال :

« الإمام یُجری وینفل ویعطی ما شاء قبل أن تقع السهام ، وقد قاتل رسول اللّه صلی الله علیه و آله بقوم لم یجعل لهم فی الفیء نصیباً ، وإن شاء قسّم ذلک بینهم »(1) .

وصحیح البختری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال :

« الأنفال ما لم یُوجف علیه بخیل ولا رکاب ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأیدیهم ، وکلّ أرض خربة ، وبطون الأودیة ، فهو لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ،

وهو للإمام من بعده یضعه حیث یشاء »(2) .

وأمّا الفیء ففی « تفسیر النعمانی » بإسناده عن علیّ علیه السلام فی حدیث :

« قال اللّه تعالی : إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً فکانت الأرض بأسرها لآدم ، ثمّ هی للمصطفین ، الذین اصطفاهم اللّه وعصمهم ، فکانوا هم الخلفاء فی الأرض ، فلمّا غصبهم الظلمة علی الحقّ الذی جعله اللّه ورسوله لهم ، وحصل ذلک فی أیدی الکفّار ،

وصار فی أیدیهم علی سبیل الغصب ، حتّی بعث اللّه رسوله محمّداً صلی الله علیه و آله فرجع له ولأوصیائه ، فما کانوا غصبوا علیه ، أخذوه منهم بالسیف ، فصار ذلک ممّا أفاء اللّه به ،

أی ممّا أرجعه اللّه إلیهم »(3) .

فتشیر الروایة إلی وجه تسمیة موارد الأنفال بالفیء ، وهو الشیء الراجع .

ومن ثَمّ ورد فی الأحادیث المستفیضة عنهم علیهم السلام تطابق الفیء والأنفال ، کصحیحة محمّد بن مسلم عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، أنه سمعه یقول :

« إنّ الأنفال ما کان من أرض لم یکن فیها هراقة دم ، أو قوم صولحوا وأعطوا بأیدیهم ، وما کان من أرض خربة ، أو بطون أودیة ، فهذا کلّه من الفیء والأنفال للّه وللرسول ، فما کان للّه فهو

ص:228


1- (1) الکافی : 1 : 544 ، الحدیث 9 .
2- (2) الکافی :1 : 539 ، الحدیث 3 .
3- (3) نقل عنه فی وسائل الشیعة : 9 : 531 ، الباب 1 من أبواب الأنفال ، الحدیث 19 .

للرسول ، یضعه حیث یحبّ »(1) .

ومصحَّح محمّد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : « سمعته یقول :

الفیء والأنفال ما کان من أرض لم یکن فیها هراقة الدماء ، وقوم صولحوا وأعطوا بأیدیهم ، وما کان من أرض خربة ، أو بطون أودیة ، فهو کلّه من الفیء ، فهذا للّه ولرسوله ، فما کان للّه فهو لرسوله ، یضعه حیث یشاء ، وهو للإمام بعد الرسول »(2) .

ویتحصّل ممّا سبق : أنّ آیتی الأنفال والفیء ، أکّدتا علی نفی ملکیّة الأنفال والفیء - وهما الأموال والثروات العامّة فی الأرض - للمسلمین ، فلا یتقاسمونهما کتقاسم الغنائم .

فهذه الآیات تؤکّد علی أنّ ولایة الفیء والأنفال هی للّه تعالی ، وللرسول صلی الله علیه و آله ، ولذی القربی ، وأنّ توزیع الفیء والأموال العامّة علی الطبقات المحرومة ، من الیتامی ، و المساکین ، و ابن السبیل ، إنّما هو بتدبیر ولایة اللّه تعالی ، ورسوله صلی الله علیه و آله ، وذی القربی ، فإنّ إسناد الفیء والأنفال إلی اللّه تعالی ، ورسوله صلی الله علیه و آله ، ولذی القربی ، بلفظ اللام لیس کحصص وملک استئثار ، لیکون ملک الرسول صلی الله علیه و آله کملک قارون ، وفرعون ، ونمرود ، بل بما هو نبیّ اللّه تعالی ، ورسول من قبله ، وله ذلک المقام الإلهیّ ، کما أنّ تخصیص حصّة من الأموال العامّة للّه تعالی لیس تقریراً لملکیة اللّه تعالی علی شاکلة ملکیة المخلوقین لأموالهم ، ولیس بأن تُخصّ ملکیة اللّه تعالی بحصّة خاصّة دون بقیّة مال الفیء والأنفال .

بل ملکیّته تعالی ولو بالاعتبار التشریعیّ ، عامّة وشاملة لکلّ الفیء والأنفال ، وهی فی المرتبة الاُولی ، فهی ولایة ، والولایة أشدّ مراتب السلطنة ، بخلاف الملکیّة الفردیّة للأشخاص فی الأموال ، فإنّها سلطنة محدودة ، تحتمی تحت ظلّ حام لها

ص:229


1- (1) وسائل الشیعة : 9 : 527 ، الحدیث 10 .
2- (2) المصدر المتقدّم : الحدیث 12 .

أقوی منها ، فملکه تعالی ولایته ، وسلطانه الذی لا یُحدّ ، ومن ثمّ یأتی بعده أو امتداداً لولایته تعالی تأتی ولایة رسوله صلی الله علیه و آله ، لا أنّه هناک محاصصة بین الملکیّتین ، کمحاصصة الشرکاء ، بل هی ولایات بعضها امتداد لبعض ، فأموال مقام الرسالة والنبوّة لیس شأنها کشأن الأموال الخاصّة ، بل هی من شأن منصب الرسالة والنبوّة .

فهذا المعنی من الملکیة وهی الولایة أعطیت وأسندت لذی القربی ، وأَخْذ عنوان القربی فی إسناد هذا المقام لهم ، یُفصح بأنّ هذا المقام لهم بمقتضی قرابتهم للنبیّ صلی الله علیه و آله ، فالوصف یُشعر أو یفید العلّة فی الحکم ، کما أنّ التأخّر فی الرتبة یفید أنّ هذا المقام انتقل لهم وبمقتضی القرابة ، وهو معنی الإرث حکماً وموضوعاً .

وبذلک تکون آیة الفیء دالّة علی وراثة القربی لشؤون منصب الرسالة والنبوّة واستخلافهم فیها ، وهذه الوراثة اصطفائیة ، لا الوراثة المعروفة بین الناس فی الأموال الخاصّة .

وبهذا التقریب یتقرّر مفاد آیة الخمس فی قوله تعالی : وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ... (1)

بعد ملاحظة ما تقدّمت الإشارة إلیه ، من أنّ آیة الخمس فی الغنائم لیست ناسخة ولا منافیة لآیة الأنفال بعد شمول الأنفال لغیر الغنائم ، بل إنّ للغنائم أیضاً ولایة یکون تدبیرها وتوزیعها بید اللّه تعالی وبید رسوله صلی الله علیه و آله ، وإن حُدّد لها مصرف وهم المقاتلون ، إلّاأنّها غیر خارجة عن الأنفال تدبیراً ، وتکون ضریبة الخمس بمثابة إبقاء حکم الأنفال من حیث المصارف .

ومن القرائن علی المفاد المتقدّم أنّ آیة الأنفال وآیة الخمس کلتاهما نزلتا فی واقعة بدر ، ویظهر من آیة الأنفال أنّ نزاعاً کان قد حصل بین المقاتلین ، ویشیر إلیه

ص:230


1- (1) الأنفال : 41 .

قوله تعالی : . . . فَاتَّقُوا اللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِکُمْ وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ (1) فجعل اللّه تعالی أمر الغنائم من الأنفال ، بل عموم الأنفال أمرها بیده تعالی وبید رسوله ، أی أنّ ولایة تدبیرها بید اللّه تعالی وبید الرسول صلی الله علیه و آله .

ویشهد لذلک أیضاً التأکید بقوله تعالی : وَ أَطِیعُوا اللّهَ وَ رَسُولَهُ ، فمع کون نزول الآیتین فی واقعة واحدة لا یتصوّر النسخ بینهما ، و هذا ممّا یدلّل علی أنّ مفاد الآیة الفیء وآیة الخمس غیر متضاربین ، وأنّهما مؤتلفان ، حیث إنّه مضافاً إلی شمول الأنفال لغیر الغنائم أیضاً أنّ مفاد آیة الأنفال ناظر إلی ولایة وتدبیر الأنفال ، والتی منها غنائم الحرب ، بینما آیة الخمس فهی ناظرة إلی مصرف الأنفال ، وکیفیة توزیعها ، وعلیه فلا تضارب بین المفادین .

وفی الحقیقة أنّ مجموع مفاد الآیتین الأنفال والخمس قد جُمعا فی آیة الفیء ، فبُیّن فیها أی کلا الأمرین ، من له ولایة التدبیر للفیء ، ومن هو مصرف لتوزیع الفیء من سائر الأنفال غیر الغنائم .

فنزول آیة الأنفال والخمس فی واقعة واحدة ، وهی واقعة بدر ، شاهد جمع لصیغة هذا المفاد المتقدّم .

النحلة وقوامة القربی :

وإذا تقرّر هذا المفاد فی آیة الفیء والأنفال والخمس ، یتّضح أنّ المراد فی قوله تعالی : وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ (2) ، وفی قوله تعالی : فَآتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ (3) ، هو إشارة إلی ما جعله اللّه تعالی لذی القربی من حقّ الولایة علی الفیء

ص:231


1- (1) الأنفال : 1 .
2- (2) الإسراء : 26 .
3- (3) الروم : 38 .

والأنفال ، کما أنّ المجیء بعنوان القربی إشعار بأنّ استحقاق الفیء إنّما تقرّر لهم من جهة قرابتهم لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وراثة عنه .

ولیست هذه الوراثة وراثة عادیة نَسَبیّة ، وإنّما هی وراثة اصطفائیة ، والتی یرث فیها الوارث الاصطفائی صلاحیّات من المورِّث فی حیاته ، کما مرّ تفصیل ذلک .

فالنحلة فی قوله تعالی : وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ وَ الْمِسْکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ (1) ، وفی قوله تعالی : فَآتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ وَ الْمِسْکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ (2) هی قوامة القربی ، وولایتهم علی الفیء .

فقد روی السیوطی فی « الدرّ المنثور » ذیل قوله تعالی : وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ : « و أخرج البزّار ، وأبو یعلی ، وابن أبی حاتم ، وابن مردویه ، عن أبی سعید الخدری رضی الله عنه قال : لمّا نزلت هذه الآیة وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ دعا رسول اللّه صلی الله علیه و آله فاطمة فأعطاها فدکاً . و أخرج ابن مردویه عن ابن عبّاس رضی الله عنه قال : « لمّا نزلت وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ أقطع رسول اللّه صلی الله علیه و آله فاطمة فدکاً »(3) .

و أخرج أیضاً : « عن ابن جریر ، عن علیّ بن الحسین علیه السلام أنّه قال لرجل من أهل الشام :

أقرأت القرآن ؟

قال : نعم .

قال :

أفما قرأت فی بنی إسرائیل وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ ؟

قال : وإنّکم من القرابة الذی أمر اللّه أن یؤتی حقّه ؟

قال علیه السلام :

نعم »(4) .

ص:232


1- (1) الإسراء : 26 .
2- (2) الروم : 38 .
3- (3) الدرّ المنثور للسیوطی : 4 : 177 ، ط . دار المعرفة - بیروت .
4- (4) وذکر إسناد ابن جریر فی جامع البیان : 15 : 92 ، عن محمّد بن عمارة الأسدی ، » « قال : « حدثنا إسماعیل ابن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن یحیی المزنی ، عن السدّی ، عن أبی الدیلم ، قال : قال . . . » .

و أخرج أیضاً : « عن ابن أبی حاتم عن السدّی فی الآیة قال : کان ناس من بنی عبد المطّلب یأتون النبیّ صلی الله علیه و آله یسألونه ، فإذا صادفوا عنده شیئاً أعطاهم ، وإن لم یصادفوا عنده شیئاً سکت ، لم یقل لهم : نعم ، ولا : لا ، والقربی بنی عبد المطّلب »(1) .

وقال ابن جریر الطبری فی « الجامع » ذیل الآیة بعدما نقل الأقوال فی معنی القربی ، قال : « و قال آخرون : بل عنی به قرابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله - إلی أن قال : - فتأویل الکلام : وأعط یا محمّد ذا قرابتک حقه ، من صلتک إیّاه ، وبرّک به ، والعطف علیه ، وخرج ذلک مخرج الخطاب لنبیّ اللّه صلی الله علیه و آله ، والمراد بحکمه جمیع من لزمته فرائض اللّه »(2) .

وقال القرطبی ذیل قوله تعالی : فَآتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ (3) : « وقیل : المراد بالقربی أقرباء النبیّ صلی الله علیه و آله ، والأوّل - أی أنّ الخطاب للنبیّ صلی الله علیه و آله والمراد هو وأمته - فإنّ حقّهم مبیّن فی کتاب اللّه عزّ وجلّ فی قوله : فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی »(4) .

وحکی العلّامة الکاندهلوی الهندی : « عن الحاکم فی تاریخه ، وابن النجّار ، عن أبی سعید قال : « لمّا نزلت وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ قال النبیّ صلی الله علیه و آله :

یا فاطمة لک فدک . قال الحاکم : تفرّد به إبراهیم بن محمّد بن میمون عن علیّ بن عابس »(5) .

ص:233


1- (1) الدرّ المنثور للسیوطی : 4 : 176 ، ط . دار المعرفة - بیروت .
2- (2) جامع البیان : 15 : 92 .
3- (3) الروم : 38 .
4- (4) الجامع لأحکام القرآن : 14 : 35 .
5- (5) إحقاق الحقّ : 19 : 119 .

وقال ابن عربی فی « أحکام القرآن » ذیل قوله تعالی : وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ : « ثمّ ثنّی التوصیة بذی القربی عموماً ، وأمر بتوصیل حقّه إلیه ، من صلة رحم ، وأداء حقّ ، من میراث وسواه ، فلا یبدّل فیه ولا یغیّر عن جهته بتولیج وصیّة ، أو سوی ذلک من الدخل ، ویدخل فی ذلک قرابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله دخولاً متقدّماً ، أو من طریق الأوْلی ، من جهة أنّ الآیة للقرابة الأدنین المختصّین بالرجل ، فأمّا قرابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقد أبان اللّه علی الاختصاص حقّهم ، وأخبر أنّ محبّتهم هی أجر النبیّ صلی الله علیه و آله علی هداه لنا »(1) .

فلسفة ولایة الفیء لذی القربی :

ویرشد إلی کون ملکیة ذی القربی هی ملکیة الولایة المجعولة لذواتهم - وأنّهم الولاة لتوزیع الأموال العامّة من الفیء علی الطبقات المحرومة ، من الیتامی و المساکین و ابن السبیل ، إرساءاً للعدالة فی البشریّة - قوله تعالی فی ذیل آیة التشریع القرآنی الخالد کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ (2) ، أی أنّ توزیع الثروات فی الکرة الأرضیة علی الطبقات المحرومة ، والحیلولة دون استئثار الطبقات الغنیة لاحتکارها ، لا سبیل له فی أیّ نظام حاکم إلّافی جهاز الحکم الذی یرأسه المطهّرون من أهل البیت ، ذوی قربی النبیّ صلی الله علیه و آله ، الذین شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم یمسّون ویعلمون بالکتاب المکنون ، فهم بما زوّدوا من علم لدنّی وطهارة من الزلل والخطأ ، هم الوحیدون المُؤهّلون فی البشریّة لرسم نظام عادل ، وقدرة فی التنفیذ لا یخالجها انحراف ولا استئثار .

وبعبارة اخری : إنّ العدالة والتی هی انشودة بشریّة قد فشلت المدارس البشریّة

ص:234


1- (1) أحکام القرآن لابن عربی : 3 : 189 .
2- (2) الحشر : 7 .

جمعاء فی إقامتها وإرساء قواعدها ، و هذا الفشل والعجز البشری لیس علی صعید التنفیذ فحسب ، بل علی صعید التنظیر أیضاً ، فإنّ المحافل الدولیّة ومراکز الدراسات وأصحاب النظریّات المختلفة فی العلوم الاقتصادیّة ما زالت عاجزة فی رسم نظام نقدی مالی عادل ، وفی رسم نظام مصرفی یُرسی العدالة ، وفی صیاغة نظام تجاریّ سوقیّ یفسح الفرص أمام الجمیع علی السواء ، وفی بناء منظومة ضرائب تفی بإعطاء الحقوق ، وتحمّل مسؤولیة التکافل ، وفی رسم نظام جمرکی عادل یساوی بین الفرص ، لا یوجب الاحتکار للطبقات الغنیة علی حساب حرمان الطبقات الفقیرة ، وفی إقامة نظام زراعیّ هادف ، وتنمیة نظام صناعیّ منتج بحسب الحاجیات الحقیقیّة ، لا بحسب الإثراء الفاحش والتسابق لزیادة القدرة والنفوذ ، إلی غیر ذلک من محاور وأرکان النظام الاقتصادی .

فإنّ المدرسة الشیوعیّة ومن بعدها الاشتراکیّة دأبت جاهدة فی تنظیر ذلک ، وها هی البشریّة رأت فشلهما علی مستوی التنظیر فضلاً عن التطبیق ، وکان ذلک منهما فی مواجهة الرأسمالیّة ونظام السوق الاقطاعیّ ، الذی أنتج الفارق الطبقی الفاحش بین الأغنیاء والطبقات المحرومة المسحوقة ، حتّی آلت ثروات الدول الغربیة عند عدد من أفرادها تتراوح نسبتهم 4 % من بین شعوبها وهی تمتلک الغالبیة العظمی من ثرواتها قرابة ال 90 % ، فإذا کان هذا حال البشریّة علی صعید التنظیر ، فدع عنک حدیث التطبیق ، فإنّ الدول ووزاراتها آلت إلی عصابات نهب للثروات بنحو مقنّن .

وها نحن نشهد فی وقتنا الراهن کیف أنّ النظام الرأسمالی قد نُکب بأزمة مالیّة حادّة مترامیة الأطراف ، تکاد تقوّض الاقتصاد البشریّ ، وقد ظهرت تداعیاتها المُجحفة بالأوضاع المالیة والتنمیة آخذة لها إلی الهویّ فی وادی سحیق ، وفی مستنقعات العجز ، والبطالة ، والرکود الاقتصادی ، والعلمیّ ، وازدیاد خطّ الفقر فی الجماعة البشریّة ، وما یتلو ذلک من تفاعلات علی الصعید الاجتماعیّ والخلقیّ

ص:235

والسیاسیّ الأمنیّ ، إذ هی حلقات متّصلة بعضها ببعض ، ولا یسع المجال لاستعراض جملة تلک المحاور .

إقامة العدل تحت رایة أهل البیت علیهم السلام ملحمة ونبوءة قرآنیة:

وعلی ضوء ذلک یتّضح أنّ التعلیل فی الآیة الکریمة نبوءة قرآنیّة ، وملحمة کبری ، یتنبّأ بها القرآن ، ویتحدّی البشریّة ، فی أنّه لم ولن ولا ترسو العدالة إلّا إذا استقرّ النظام الاقتصادی والسیاسی بید من یتمتّع بعلم لدنّی ، یطلع من خلاله علی النظام الأمثل لتحقیق العدالة فی کافّة الأصعدة والمیادین ، مضافاً إلی تمتّعه باستقامة دائبة غیر قابلة للانکسار والتأثّر ، ولو تجمّعت علیه کافّة عوامل الضغط والتأثیر .

و هذا ما یشهد له القرآن فی شأن أهل بیت النبوّة علیهم السلام ، کما فی آیة التطهیر ، وآیة مسّ الکتاب من المطهّرین لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ، ومجموعة آیات وسورة القدر ، وما ینزل فیها من مقدّرات ، وإحصائیات إلهیّة هائلة حول الأرزاق ، والخیرات ، والآجال ، والحرب ، والسلم ، وکلّ ما هو کائن ومقدّر علی البشر والدول والبیئة ، من مجامیع إحصائیات لم تتفطّن العلوم الحدیثة فی یومنا هذا إلی استقصائها ، وإحصائها ، وکیفیة تدخّلها فی نظام الدولة ، فبهذه العلمیّة الفائقة القدرة التی تفوق قدرة البشر ، وبهذه الأمانة التی یحفظ فی کنفها العدل ، بما له من عرض عریض وعمق وسیع یفوق استقامة المتقین والموقنین ، یتمکّن حینئذٍ من تحقیق العدالة المنشودة بحقیقتها العظیمة التی ترسمها ید السماء .

والظریف فی الآیة الکریمة أنّها تتحدّی بهذه النبوءة والملحمة فی تعلیل إسناد الفیء إلی قربی النبیّ صلی الله علیه و آله وأنها لن تتحقّق علی ید غیرهم ، و هذا یشمل حتّی الأنبیاء الباقین الأحیاء ، کالنبیّ عیسی علیه السلام ، وإلیاس ، والذی هو علی قید الحیاة ، کما فی جملة من روایات الفریقین ، والنبیّ إدریس علیه السلام بناء علی حیاته ورجوعه ، کما هو

ص:236

محتمل قوله تعالی : وَ رَفَعْناهُ مَکاناً عَلِیًّا (1) ، والخضر علیه السلام علی القول بنبوّته ، حیث إنّ هؤلاء الأنبیاء سیکونون حضوراً فی دولة المهدیّ عجل الله فرجه الشریف ، والتشریع القرآنی خالد أبدیّ إلی یوم القیامة ، فیشمل النفی حتّی هؤلاء الأنبیاء علیهم السلام .

وحصر الولایة بأهل البیت علیهم السلام دونهم ، ممّا یشیر إلی أنّ هذا المقام - مقام إرساء العدالة - لا یمکن أن یضطلع به إلّاأهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله ، کیف لا وقد شهد القرآن بأنّ علم الکتاب کلّه لم یهبه اللّه عزّ وجلّ إلّالنبیّه محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، دون بقیّة الأنبیاء ، حتّی أولی العزم منهم .

فالقرآن یحدّثنا فی شأن عیسی علیه السلام فی قوله تعالی : قَدْ جِئْتُکُمْ بِالْحِکْمَةِ وَ لِأُبَیِّنَ لَکُمْ بَعْضَ الَّذِی تَخْتَلِفُونَ فِیهِ (2) ، فبعث النبیّ عیسی علیه السلام لیزیل بعض الاختلاف ، لا کلّ ما یختلفون فیه .

وکذلک فی شأن النبیّ موسی علیه السلام ، حیث نُعتت التوراة التی بُعث بها ، فی قوله تعالی : وَ کَتَبْنا لَهُ فِی الْأَلْواحِ مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِیلاً لِکُلِّ شَیْ ءٍ (3) ، فلم تکن التوراة تفصیل کلّ شیء ، بل کانت تفصیلاً لکلّ شیء ببیان بعض أحکامه ، فمن ثَمّ کان التعبیر فی الآیة الکریمة مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ .

وعلی ضوء ذلک یتّضح أنّ ذکر التعلیل - کی لا یکون دولة بین الأغنیاء - هو لملکیة قربی النبیّ صلی الله علیه و آله لولایة تدبیر الفیء ، الذی هو عموم ثروات الأرض ، وأنّ هذه الملکیة لیست ملکیة عادیة کملکیة الأشخاص ، والتی هی سلطنة متوسّطة متعلّقة بالمال ، قابلة للزوال ، بأن یوصی المورّث بأنّ ما ترکناه صدقة ، فیوجب ذلک الممانعة عن وجودها ، أو أن تُزاحَم بملکیات عامّة اخری ، فتُزال

ص:237


1- (1) مریم : 57 .
2- (2) الزخرف : 63 .
3- (3) الأعراف : 145 .

کما لو افترض أنّ الأرض المملوکة بالملکیة العادیة الشخصیّة اقتضت حاجة أهالی المدینة أن یمرّ طریقهم بتلک الأرض بدرجة اضطرار باتّ ، فیستلزم تسبیل تلک الأرض .

بل ملکیّة الولایة للأموال المجعولة من قبله تعالی لقربی النبیّ صلی الله علیه و آله غیر قابلة للتصرّف فیها بنحو الوصیّة لغیرهم ، لأنّها لیست من التَّرِکَة العادیة للأموال ، وإنّما هو مقام ولایة لأحکام الإرث وصلاحیة منصب إلهی ، فلیس هو من الأموال التی یجمعها المورِّث ویکدی فی اقتنائها کی یورّثها وتنتقل إلی الوارث ، کی تکون مشمولة لأحکام الإرث من قبل المورِّث ، کما هو الشأن فی الأموال العادیة .

ومن ثَمّ هی خارجة موضوعاً عن البحث فی الوصیّة فی الأموال العادیة ، ویتبیّن بکلّ وضوح أنّ تخیّل أبی بکر فیما زعمه من نسبة مقولة « ما ترکناه صدقة » للنبیّ صلی الله علیه و آله فی مورد فدک ، باطل وزیف ، مع جهالته بحقیقة الحال بملکیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله للفیء وملکیة قرباه أنّها لیست ملکیة متوسّطة عادیة متعلّقة به ، وإنّما هی ملکیّة ولایة وتدبیر ، خاصّة بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، بل هی من الأمانة الإلهیّة العظمی ، التی یخاطب بها الحاکم المنصوب من قبل اللّه تعالی بأن یؤدّیها إلی أهلها الذین نصبهم اللّه تعالی لذلک ، وهم قرباه صلی الله علیه و آله ، کما فی قوله تعالی :

إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلی أَهْلِها وَ إِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمّا یَعِظُکُمْ بِهِ إِنَّ اللّهَ کانَ سَمِیعاً بَصِیراً * یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ (1) .

ممّا یدلّ علی أنّه الذی نُصب للحکم من قبله تعالی ، فإنّ هذا المقام أمانة إلهیة منه تعالی یؤدّیه إلی أهله ممّن قد نصبه اللّه تعالی لذلک من بعده .

ص:238


1- (1) النساء : 58 - 59 .

براهین قاعدة الوراثة فی سیرة الصحابة

إنّ هناک ظاهرة ملحوظة فی سیرة المسلمین فی بیعتهم للإمام الحسن بن علیّ ابن أبی طالب علیه السلام ، بعد شهادة أبیه الإمام علیّ علیه السلام ، حیث إنّ هذه البیعة قد قام بها جُلّ المهاجرین والأنصار آنذاک والذین کانوا فی الکوفة فضلاً عن کبار التابعین .

وقد کانت هذه البیعة بملء إرادتهم واختیارهم ، من دون سطوة ضاغطة علیهم ، ولا سیف مسلّط علی رؤوسهم ، ولا تهدید یفتک بهم ، ولا إغراء ولا طمع ، مع أنّ بیعتهم للإمام الحسن علیه السلام تعنی انتقال الخلافة من أبیه الإمام علیّ علیه السلام إلی الولد وهو الإمام الحسن علیه السلام ، فلم ینکروا من ذلک أمراً ، ولم یجدوا فی وراثته للخلافة أمراً نُکراً ، بل بادروا من عند أنفسهم ، ووجدوا فیه الشرعیة الأصیلة .

ولم یتماد الزمن ، بل بعد مدّة یسیرة تقرب من اثنی عشر عاماً استشهد الإمام الحسن علیه السلام ، وقام معاویة بعده بعقد البیعة لإبنه یزید ، فما کان من المهاجرین والأنصار وکبار التابعین إلّاالإنکار بشدّة ، ووصموا تصرّف معاویة هذا بأنّه خلاف الشرعیة وقد حوّل الخلافة إلی مِلک عضوض ، وإلی سُنّة هرقلیة ، وملک کسرویّ ، وحکم قیصریّ ، فهذه المفارقة منهم فی الموقف تستدعی الانتباه ، والتساؤل بقوّة ، عن سرّ التباین فی الموقفین ، وما هی المنطلقات ومناشیء اختلاف الرؤیة والمرتکزات الدینیّة الداعیة لذلک ، لاسیّما من الجیل الأوّل الذی أدرک عصر النبوّة .

بل نجد هذه الظاهرة قد تکرّرت قبل ذلک ، أی فی عهد أمیر المؤمنین علیه السلام ، وبعد ذلک أی فی عهد بقیّة الأئمّة علیهم السلام ، أمّا قبل ذلک فنلاحظ البیعة الجماهیریّة والتی قام بها جموع الناس انهیالاً علی مصافقة ید أمیر المؤمنین علیّ بن أبی

ص:239

طالب علیه السلام ، بیعةً لم یشهد المسلمون فی عهد الخلفاء الثلاثة من قبل مثلها ، بل کانت بإصرار من عموم الاُمّة بلا ابتدار منه علیه السلام ، و هذا کان بعکس ما حصل للخلفاء الثلاثة تماماً .

وقد أشار الإمام علیّ علیه السلام إلی ذلک بقوله فی الخطبة الشقشقیّة :

« فَما راعَنی إلَّا والنّاسُ کَعُرْفِ الضَّبُعِ ، یَنْثالُونَ عَلَیَّ مِنْ کُلِّ جانِبٍ ، حَتَّی لَقَدْ وُطِیءَ الحَسَنانِ ،

وَشُقَّ عِطْفایَ ، مُجْتَمِعِینَ حَوْلی کَرَبِیَضَةِ الغَنَمِ » .

ولم یتمّ هذا الأمر بإلجاء وإرغام ، وإنّما زالت قوّة الجماعات المتعاضدة یوم السقیفة علی الحیلولة دون إقبال الناس علی علیّ علیه السلام .

وکذلک نشهد هذه الظاهرة فی إقبال الناس علی بیعة الإمام الحسین علیه السلام فی عهد یزید ، حیث تکاثرت کتب أهل العراق ، الکوفة والبصرة ، مع توافد جموع الحجیج فی مکّة المکرّمة علی سیّد الشهداء علیه السلام ، بل نجد فی بعض المصادر توافد حتّی کتب من أهل الشام أیضاً ، و هذا ما اضطرّ عبید اللّه بن زیاد أن یُقیم حصاراً عسکریاً من الکوفة إلی کربلاء ، ویطوّق کربلاء بأحزمة دوائر أمنیّة متعدّدة ، کی لا یصل المدد من القبائل للحسین علیه السلام فی أرض المعرکة .

هذا مضافاً إلی ما یُشاهد من إقبال عموم المسلمین ورواج صیت الإمام زین العابدین ، والإمام الباقر ، والصادق علیهم السلام ، حتّی وصل أوج ذلک فی عهد الإمام موسی بن جعفر علیه السلام ، وقد بلغ الذروة فی ذلک ، حتّی خشی هارون العبّاسیّ علی نظامه السیاسی من الإطاحة به .

فقد نقل التاریخ عبارة هارون مخاطباً ومعاتباً ومعنّفاً الإمام موسی بن جعفر علیه السلام :

« یا موسی بن جعفر ، خلیفتین یجبی إلیهما الخراج . . . »(1) .

ص:240


1- (1) عیون أخبار الرضا للصدوق : 2 : 78 . المناقب لابن شهرآشوب : 3 : 440 . سرّ السلسلة العلویّة لابن نصر البخاری : 35 ، وغیرها .

فمن ثَمّ قد ورد أنّه کان قد قُدّر أن تبدأ دولة الأئمّة من عهد الإمام موسی بن جعفر علیه السلام ، وهکذا ورد فی عصر الإمام الصادق علیه السلام ، حیث عرض أبو مسلم الخراسانی البیعة علیه قبل أن یعرضها علی العبّاسیّین ، إذ لم تستطع رایات خراسان أن تزیل حکم الأمویّین إلّاباستنهاض المسلمین بشعار محفّز جذّاب لعموم المسلمین وهو « الرضا من آل محمّد علیهم السلام » .

وکذلک نجد الحال فی عهد الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام ، حیث تکاثرت ثورات العلویّین فی أطراف العالم الإسلامی ، ولم یستطع الجهاز العبّاسیّ الحاکم من السیطرة علی زمام الاُمور ، حتّی لجأ إلی حیلة سیاسیّة واضحة المقاصد ، وهی فرض منصب ولایة العهد علی الإمام علیّ بن موسی الرضا علیه السلام .

وکذلک الحال نفسه نجده صنعه المأمون العبّاسیّ مع الإمام محمّد الجواد علیه السلام ، وبنفس الحیلة .

وأمّا الإمامین العسکریّین علیهما السلام فقد تصاعد الأمر إلی استنفار تعبویّ عسکریّ ، حیث سجن الإمامین فی أکبر قاعدة عسکریة آنذاک وهی مدینة سامرّاء .

ولا یخفی الفارق بین السجین العسکری وبین السجین السیاسی ، والذی هو أخطر علی الدولة من سابقه .

وعندما نفتّش عن مناشئ هذه الظاهرة و هذا الارتکاز لدی الجیل الأوّل ، نری أنّه یُعزی إلی التعالیم القرآنیّة ونصوص الآیات التی مرّت الإشارة إلی نبذة منها فی بحوث الوراثة ، والأوسمة والمناصب الواردة فیه للإمامین السبطین الحسن والحسین علیهما السلام ، وإلی النصوص النبویّة المترسّخة فی أذهانهم ومعرفتهم والتی مرّ نُبذ منها فی البحوث السابقة ، والناس قد جبلوا علی اتّباع أهل البیت علیهم السلام ومودّتهم ، وأنّه إذا لم یحل حائل یمانعهم عن ذلک ، فإنّهم سرعان ما یظهرون ودادهم وتعلّقهم واقتدائهم بأهل البیت ، وتمسّکهم بهم .

ص:241

ولم تکن هذه الظاهرة کما مرّ مقتصرة علی الإمام الحسن علیه السلام ، بل یجدها الناظر بعینها تجاه السبط الثانی ، وریحانة النبیّ صلی الله علیه و آله سیّد الشهداء علیه السلام ، حیث توالت البیعة له من العراقین وغیرهم من سائر الأقطار ، قبل أن تشتدّ قبضة یزید علی مقدّرات الاُمّة .

وقد سرت هذه الظاهرة وبألوان اخری للتابعین ، وتابعی التابعین ، وبقیّة أجیال الاُمّة تجاه أئمة أهل البیت علیهم السلام ، فعکف الناس علی الأخذ والنهل من علومهم ، وإظهار التبجیل والتوقیر والإجلال والتعظیم والمحبّة لهم ، وإبراز محبّتهم ، إلّا أنّ السلطات الحاکمة آنذاک ما فَتِئَت تقیم جدار الإرعاب والتهدید ، ونشر سیاسة نصب العداء لهم بین صفوف الاُمّة ، والحیلولة دون انعطافها ومیلانها نحو أهل البیت علیهم السلام .

وقد حفل التأریخ الإسلامی منذ الصدر الأوّل إلی یومنا هذا بأحداث مذهلة فی هذا الصدد ، لا یستعصی علی الباحث الوقوف علیها بمجرّد تصفّحه لأیّ کتاب من کتب التاریخ یتحدّث عن ماضی الاُمّة ، بل وحاضرها .

فالتنقیب عن أسباب هذه الظاهرة فی نفوس الاُمّة یوصلنا إلی منشأ ذلک وهو ورود جملة من النصوص القرآنیّة مثل قوله تعالی : فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکاذِبِینَ (1)حیث انتدب اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله الحسنین علیهما السلام رغم صغر سنّهما دون سائر الصحابة ، وحمّلهما مسؤولیة الدفاع عن الدِّین ، وإقامة الحجّة الإلهیّة علیهم .

و مثل قوله تعالی : إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً (2) فخصّهم بالطهارة والاصطفاء بها دون بقیّة الاُمّة ، و مثل قوله تعالی :

ص:242


1- (1) آل عمران: 61 .
2- (2) الأحزاب : 33 .

قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی (1) فقرن مودّتهم بالرسالة والدِّین .

و مثل قوله تعالی : ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ فخصّهم بولایة الأموال العامّة ، وکذا آیة الخمس وغیرها من عشرات الآیات ، الناصّة علی اختصاصهم بالمناصب الإلهیّة لهم .

وهکذا الحال فی هذه الظاهرة من السنّة النبویّة ، کمثل قوله صلی الله علیه و آله :

« إنّی تارک فیکم الثقلین کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا بعدی أبداً »(2) .

أو قوله صلی الله علیه و آله :

« مثل أهل بیتی کسفینة نوح مَن رکبها نجا ، ومَن تخلّف عنها غرق وهوی »(3) .

أو قوله صلی الله علیه و آله :

« الحسن والحسین سیّدا شباب أهل الجنّة »(4) .

مضافاً إلی ما رأوه من سیرته صلی الله علیه و آله مع أهل الکساء من أهل البیت من إجلال وتعظیم وحفاوة ، وإنزالهم منزلة عظیمة منه ، وأمام أعین المسلمین .

ص:243


1- (1) الشوری : 23 .
2- (2) مختصر البصائر : 90 .
3- (3) إعلام الوری : 1 : 34 . الأحکام : 2 : 555 .
4- (4) الأمالی للصدوق : 112 ، الحدیث 90 . روضة الواعظین : 157 . ذخائر العقبی : 129 .

حجّیتها علیها السلام وولایتها علی الأمّة عند الصحابة

اشارة

قد أقرّ وروی الخلیفة الأوّل جملة من مقامات فاطمة علیها السلام و ذلک عند احتجاجها علیه ، وقد رواه الفریقان .

قوله لها :

أوّلاً : « فأنتم عترة رسول اللّه الطیّبون ، الخیرة المنتجبون ، علی الخیر أدلّتنا ، وإلی الجنّة مسالکنا »(1) .

وخطاب الخلیفة هذا کان بعد أن ذکر جملة من مقامات علیّ علیه السلام کما سیأتی بیان ذلک ، فخطابه بلفظ « أنتم » هو خطاب لکلّ من فاطمة وعلیّ علیهما السلام ، والإقرار باصطفائهم وانتجابهم علی الأمّة ، وأنّهم الأدلّة المنصوبة من قبله تعالی علی الخیر والهدایة لجمیع الاُمّة بما فیهم هو وبقیّة الرعیل الأوّل من الصحابة ، وأنّ السبیل والمسلک للصحابة وللأمّة إلی الجنّة هم عترة الرسول صلی الله علیه و آله ، وهم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها .

وجمع الخلیفة الأوّل بکلامه لقوله : « و لا یحبّکم إلّاسعید ، ولا یبغضکم إلّاشقیّ بعید » وقوله فی وصف عترة الرسول صلی الله علیه و آله : « وإلی الجنّة مسالکنا » هو مقتبس من قول رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

« لا یحبّنا أهل البیت إلّامؤمن تقیّ ، ولا یبغضنا إلّامنافق شقیّ »(2) .

ص:244


1- (1) الاحتجاج للطبرسی : 1 : 141 ، وراجع مصادر خطبة الزهراء علیها السلام .
2- (2) رواه الطبری فی ذخائر العقبی : 18 ، أخرجه الملّا .

ومقتبس أیضاً من قوله تعالی : قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی (1) .

وقوله تعالی : قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ (2) .

وقوله تعالی : قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلاً (3) .

حیث یتبیّن من هذه الآیات أنّ مودّة ذوی القربی وحبّهم وهم عترة الرسول صلی الله علیه و آله هو السبیل إلی اللّه تعالی والمسالک إلی الجنّة .

والمهمّ فی هذا المقام الذی رواه وأقرّ به الخلیفة الأوّل فی شأن علیّ وفاطمة علیهما السلام هو بیان ولایة حجّیة کلّ من علیّ وفاطمة علیهما السلام من قِبل اللّه تعالی ، وأنّ فاطمة علیها السلام قدوة إلهیّة علی شاکلة إمامة علیّ علیه السلام للاُمّة .

ثانیاً : قوله :

« وأنّک أنت سیّدةُ امّة أبیک » .

فهذا القول بمثابة الإقرار لفاطمة علیها السلام وبهذه المنقبة والفضیلة ، وقد بیّن أنّ سؤددها علی جمیع الاُمّة رجالاً ونساءاً ، و هذا مقام مرویّ عن النبیّ صلی الله علیه و آله هو غیر ما روی عنه صلی الله علیه و آله فی کونها

« سیّدة نساء العالمین » أو

« سیّدة نساء أهل الجنّة »(4).

مع أنه قد قال الخلیفة قبل ذلک فی کلامه لها فی وصفها بقوله : « وأنت یا خیرة النساء وابنة خیر الأنبیاء » ، حیث إنّ سؤددها وسیادتها علی نساء أهل الجنّة وإن استنتج منه جمهرة علماء الفریقین أفضلیّتها علی مریم بنت عمران ، وبالتالی فإنّ اصطفاءها وحجّیتها علی نساء العالمین ، واضح دون أدنی شکّ إلّاأنّ سؤددها

ص:245


1- (1) الشوری : 23 .
2- (2) سبأ : 47 .
3- (3) الفرقان : 57 .
4- (4) تقدّمت تخریجاته فی الصفحة 28 .

علی جمیع الاُمّة رجالاً ونساءاً هو نصّ علی حجّیتها علی کلّ من الرجال والنساء ، ولزوم طاعتها وولایتها فی رقاب جمیع الأمّة ، فبین سیّدة امّة محمّد صلی الله علیه و آله وسیّدة نساء العالمین ، هذه المغایرة اللطیفة .

و هذا المقام یتطابق مع المقام السابق الذی أقرّ به الخلیفة الأوّل ، من کونها قدوة إلهیّة لجمیع الاُمم .

ثمّ إنّ قوله بعد ذلک : « والشجرة الطیّبة لبنیک لا ندفع مالک من فضلک ، ولا یوضع فی فرعک وأصلک » هو إقرار وبیان لثبوت هذا المقام لها ولأصحاب الکساء من عترة الرسول صلی الله علیه و آله .

وفیها إقرار أیضاً بالوراثة الاصطفائیّة .

ثالثاً : قوله : « صدق اللّه ورسوله وصدقت ابنته » ، فتراه قد جعل صدق کلامها یتلو فی المرتبة الثالثة بعد صدق اللّه تعالی وصدق رسوله ، والصدق فی هذا المقام یُراد به الحجّیة وولایة الطاعة ، علی حذو قوله تعالی : أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ .

وکلّ هذا یُغزّز کون الرعیل الأوّل من الصحابة قد تبیّن لهم من النصوص القرآنیّة الواردة فی شأن فاطمة علیها السلام من شراکتها مع أصحاب الکساء فی جملة من المقامات ، کالطهارة فی آیة التطهیر ، والحجّیة فی آیة المباهلة ، والعلم بالکتاب المکنون فی قوله تعالی : لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ، وغیرها من المقامات المنصوصة فی القرآن .

فضلاً عن النصوص النبویّة الواردة فی شأنها ، ککونها سیّدة الأمّة ، وسیّدة نساء العالمین ، وسیّدة نساء أهل الجنّة ، وأنّ اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله یغضبان لغضبها ویرضیان لرضاها ، وغیر ذلک من النصوص التی تؤکّد وتبیّن هذا المقام من الحجّیة والولایة لها الذی یتلو مقام النبیّ صلی الله علیه و آله .

ص:246

وممّا یشیر إلی ارتکاز هذه المعرفة عند الرعیل الأوّل بسبب بیانات القرآن الکریم النازلة فی حقّها علیها السلام وبیانات النبیّ صلی الله علیه و آله ما رواه ابن مردویه عن أنس بن مالک وبُریدة قال : « قرأ رسول اللّه صلی الله علیه و آله هذه الآیة : فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ فقام إلیه رجل فقال : أی بیوت هذه یا رسول اللّه ؟

فقال صلی الله علیه و آله :

بیوت الأنبیاء .

فقام إلیه أبو بکر فقال : یا رسول اللّه ، هذا البیت منها ؟ لبیت علیّ وفاطمة ؟

قال صلی الله علیه و آله :

نعم من أفاضلها »(1) .

فإنّ تساؤل أبی بکر عن بیت علیّ وفاطمة علیهما السلام هل هی من بیوت الأنبیاء ؟ مع أنّه من الواضح أنّ علیّاً وفاطمة لیسا من الأنبیاء ولکن المرتکز عند الخلیفة من أنّ حجّیة علیّ وفاطمة علیهما السلام وولایتهما فی مصاف حجّیة الأنبیاء .

و هذا الحدیث النبویّ هو أحد الموارد التی تبیّن وتوضّح بیان القرآن الکریم الوارد فی إعظام شأن علیّ وفاطمة علیهما السلام وتبیان النبیّ صلی الله علیه و آله لهذا المقام .

رابعاً : قوله : « أنت معدن الحکمة وموطن الهدی والرحمة » .

فإنّ هذه المقولة تبیّن ما حفظه عن النبیّ صلی الله علیه و آله ، وعرفه الصحابة من بیانات القرآن فی شأنها ، من أنّ علمها کعلم أصحاب الکساء لدنّیاً ، یفیض من مکنون اللوح المحفوظ ، حیث یشیر إلی ذلک قوله تعالی : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِیلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ (2) ، وهو ما یشیر إلیه القرآن أیضاً فی موضع آخر : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِیدٌ * فِی لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)3، مضافاً إلی آیة التطهیر .

خامساً : قوله بعد ذلک فی وصفها علیها السلام : « أنت معدن الحکمة . . . ورکن الدین

ص:247


1- (1) الدرّ المنثور للسیوطی : 5 : 50 ، ذیل الآیة 36 من سورة النور .
2- (2) الواقعة : 77 - 80 .

وعین الحجّة لا أُبعد صوابک ولا أُنکر خطابک » .

إثارة : التوفیق بین خاتمیّة النبوّة وبقاء الارتباط الغیبی :

ربّما یثار اعتراض وتساؤل ، بل وقد أثیر قدیماً أیضاً وحاصله : تسجیل التقاطع والتصادم بین الاعتقاد بخاتمیة النبوّة وانقطاع الوحی النبویّ وبین الاعتقاد ببقاء الارتباط بالغیب ، والذی هو مفاد الوراثة اللدنّیة لمقامات النبیّ صلی الله علیه و آله الغیبیة من قبل أهل بیته علیهم السلام ، و هل الارتباط بالغیب مفاده غیر الوحی النبویّ .

و هل التحدّث بأحکام فی الحلال والحرام بیّنها أهل البیت علیهم السلام سواء أخذوه من مصحف فاطمة علیها السلام ، أو من کتاب علیّ علیه السلام ، أو أن الأئمّة من أهل البیت علیهم السلام أخذوه من الصحیفة والجامعة ، والتی لم یُبرزها رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، و هل هی إلّانبوّات جدیدة أم ماذا ، أهی علم من ذی علم ؟

ثمّ ما هی الآثار المحسوسة للوراثة اللدنّیة من أهل البیت علیهم السلام ومن منهاجهم ، التی یتمیّزون بها عن بقیّة المسلمین ؟

نماذج من الارتباط الغیبی فی غیر النبوّة :

إنّ المستفاد من حقائق القرآن الکریم جملة من الاُمور تدفع التساؤل الأوّل :

الأوّل : أنّه لیس کلّ ارتباط بالغیب هو من سنخ الوحی النبویّ ، بل هناک أنواع من الارتباط بالغیب لا یصفها القرآن بأنّها نبوّة ، مع أنّه أثبت لها حصانة وقداسة فی الاعتبار الإلهیّ والتکوینیّ :

منها : ما ورد فی طالوت فی قوله تعالی : وَ زادَهُ بَسْطَةً فِی الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ . . . قالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِیکُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَیْسَ مِنِّی (1) فأخبر عن اللّه تعالی

ص:248


1- (1) البقرة : 247 - 249 .

بلا واسطة ، بتدبیر معیّن خاص ، لا بتشریع عامّ نبویّ .

ومنها : ما ورد فی مریم علیه السلام فی قوله تعالی : وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ * یا مَرْیَمُ اقْنُتِی لِرَبِّکِ وَ اسْجُدِی وَ ارْکَعِی مَعَ الرّاکِعِینَ... إِذْ قالَتِ الْمَلائِکَةُ یا مَرْیَمُ إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ وَجِیهاً فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِینَ * وَ یُکَلِّمُ النّاسَ فِی الْمَهْدِ وَ کَهْلاً وَ مِنَ الصّالِحِینَ * قالَتْ رَبِّ أَنّی یَکُونُ لِی وَلَدٌ وَ لَمْ یَمْسَسْنِی بَشَرٌ قالَ کَذلِکِ اللّهُ یَخْلُقُ ما یَشاءُ إِذا قَضی أَمْراً فَإِنَّما یَقُولُ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ (1) .

أو فی قوله تعالی : فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَیْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِیًّا * قالَتْ إِنِّی أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْکَ إِنْ کُنْتَ تَقِیًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّکِ لِأَهَبَ لَکِ غُلاماً زَکِیًّا * قالَتْ أَنّی یَکُونُ لِی غُلامٌ وَ لَمْ یَمْسَسْنِی بَشَرٌ وَ لَمْ أَکُ بَغِیًّا * قالَ کَذلِکِ قالَ رَبُّکِ هُوَ عَلَیَّ هَیِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آیَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ کانَ أَمْراً مَقْضِیًّا (2) .

فنری أنّ مریم علیه السلام قد أوحی إلیها بمجیء ناسخ لشریعة نبیّ اللّه موسی علیه السلام ، وکانت هی أوّل من بلّغ ذلک للبشر عن السماء .

ومنها : صاحب موسی ، قال تعالی : فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً * قالَ لَهُ مُوسی هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلی أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قالَ إِنَّکَ لَنْ تَسْتَطِیعَ مَعِیَ صَبْراً * وَ کَیْفَ تَصْبِرُ عَلی ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً... سَأُنَبِّئُکَ بِتَأْوِیلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَیْهِ صَبْراً... فَأَرادَ رَبُّکَ أَنْ یَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ یَسْتَخْرِجا کَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّکَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِی ذلِکَ تَأْوِیلُ ما لَمْ تَسْطِعْ

ص:249


1- (1) آل عمران : 42 - 47 .
2- (2) مریم : 21 .

عَلَیْهِ صَبْراً (1) .

فمع أنّ القرآن لم یصفه بالنبوّة فهو یخبر غیبیّاً عن إرادة اللّه تعالی التفصیلیّة فی تدبیر الاُمور ، والتدبیر الإلهیّ فی الأرض .

ومنها : ذو القرنین فی قوله تعالی : إِنّا مَکَّنّا لَهُ فِی الْأَرْضِ وَ آتَیْناهُ مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ سَبَباً... قُلْنا یا ذَا الْقَرْنَیْنِ إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِیهِمْ حُسْناً * قالَ أَمّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ یُرَدُّ إِلی رَبِّهِ فَیُعَذِّبُهُ عَذاباً نُکْراً (2) ، فلم یصفه القرآن بالنبوّة ولا بالرسالة ، ولکن أثبت له القرآن أوصافاً لدنّیة اخری ، وأثبت له ولایة ممنوحة منه تعالی ، وارتباطاً بالغیب علماً وقدرة .

ومنها : امّ موسی ، فی قوله تعالی : وَ أَوْحَیْنا إِلی أُمِّ مُوسی أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَیْهِ فَأَلْقِیهِ فِی الْیَمِّ وَ لا تَخافِی وَ لا تَحْزَنِی إِنّا رَادُّوهُ إِلَیْکِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِینَ... فَرَدَدْناهُ إِلی أُمِّهِ کَیْ تَقَرَّ عَیْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ (3) .

وقد اشتمل هذا الوحی والارتباط بالغیب رغم أنّ أمّ موسی لم تکن من الأنبیاء ولا من الأوصیاء ولیست بإمام ، ومع ذلک أثبت القرآن لها ذلک الارتباط بالغیب ، بعد اصطفائها لاُمومة نبیّ اللّه موسی علیه السلام .

ومنها : العدّة الذین أخبر عنهم تعالی فی هذه الاُمّة ، کما فی قوله تعالی :

هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْکَ الْکِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ... وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ (4) ، وهکذا فی قوله تعالی : إِنَّهُ

ص:250


1- (1) الکهف : 65 - 82 .
2- (2) الکهف : 84 - 87 .
3- (3) القصص : 7 - 18 .
4- (4) آل عمران : 7 .

لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (1) .

أو فی قوله تعالی : بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ (2) .

وقد أشار إلی تلک العدّة فی قوله تعالی : إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً (3) ، وهم الذین أشار إلیهم فی قوله تعالی : وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ (4) .

ومن ثَمّ کانت فاطمة علیها السلام شاهد لأعمال العباد کأئمّة أهل البیت علیهم السلام کما سیأتی بیانه ، ولذلک تکون فاطمة علیها السلام معنیّة ومرادة علی مثل أئمّة أهل البیت علیهم السلام فی قوله تعالی : وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً (5) .

وکذلک فی قوله تعالی : هُوَ اجْتَباکُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ (6) .

وسیأتی لاحقاً بیان أنّها علیها السلام معنیّة ومرادة وأنّها من أولی الأمر فی قوله تعالی :

أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ (7) ، فهی شاهدة علی أعمال العباد وولیّة الأمر مفترضة الطاعة علی العباد .

ص:251


1- (1) الواقعة : 79 .
2- (2) العنکبوت : 49 .
3- (3) الأحزاب : 33 .
4- (4) فاطر : 31 - 32 .
5- (5) البقرة : 143 .
6- (6) الحج : 78 .
7- (7) النساء : 59 .

والمحصّل من هذه الطوائف من الآیات وغیرها ، سواء من الاُمم السابقة أو فی هذه الاُمّة ، هو إثبات ووجود جماعة مصطفاة لیست بأنبیاء ولا رُسل یثبت لهم القرآن ارتباطاً بالغیب ، ولیس من سنخ النبوّة .

وراثة المقام النبویّ فی التشریع :

ویدفع التساؤل الثانی أنّ هناک حقیقة قرآنیة اخری تلمسنا إیّاها الآیات القرآنیّة ، وهی أنّ تفاصیل الشریعة والأحکام لا یبلغ غورها فی القرآن الکریم إلّاطائفة من هذه الاُمّة ، انتجبهم اللّه تعالی وأورثهم الکتاب ، کما أشارت الآیات السابقة التی بیّنت أنّ تأویل الکتاب خُصّ به الراسخون فی العلم ، الذین یحملون الکتاب کلّه بین جوانحهم .

فالکتاب الکریم کلّه آیات بیّنات لا متشابه فیه ، محفوظ فی صدور هؤلاء ، فالمکنون الغیبیّ من الکتاب والمحفوظ لا یمسّه غیرهم إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (1) .

وأنّ هؤلاء هم الذین اصطفاهم الباری لوراثة علم الکتاب ، حیث قال تعالی :

وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ مِنَ الْکِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ إِنَّ اللّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِیرٌ بَصِیرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ (2) .

فالعباد الذین اصطفی اللّه بعضاً منهم لا کلّهم علی ثلاثة أصناف : فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، و : وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ متوسّط فی سبیل الخیر ، وثالث وهو الذی اصطفی وهو سابِقٌ بِالْخَیْراتِ ، قد أورثه اللّه الکتاب ، وهذه الوراثة هی

ص:252


1- (1) الواقعة : 77 - 79 .
2- (2) فاطر : 31 - 32 .

اَلْفَضْلُ الْکَبِیرُ .

ومنه یعرف أنّ الوراثة لعلم الکتاب والذی ینبسط منه مقامات النبیّ صلی الله علیه و آله ، قد أثبته القرآن الکریم لثُلّة من هذه الاُمّة ، فلا ینحصر علم الکتاب بظاهر ألفاظ التنزیل ، ولا یقتصر علیه ، بل إنّ للکتاب منازل ومواطن متعدّدة ، قد وصف بعضها بقوله تعالی : قُلْ لَوْ کانَ الْبَحْرُ مِداداً لِکَلِماتِ رَبِّی لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِماتُ رَبِّی) (1) . وقال تعالی : وَ لَوْ أَنَّ ما فِی الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ کَلِماتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ (2) .

فهذا النعت یُظهر أنّ علم الشریعة لا ینفد ، ویترامی ویتشعّب من أصله ، وهی امّ الکتاب .

وقد أفصح القرآن عن هذه الطائفة التی اصطفیت لعلم الکتاب ، وأنّهم هم المطهّرون من أهل البیت ، وأنّ لهم هذا الدور لتبیان علم الشریعة ، غیر المتناهی تشعّباً وإحاطة ، والأحکام التی یدلون بها متشعّبة ، من اصول فرائض وسنن النبیّ صلی الله علیه و آله ، کانشعاب التأویل من محکمات التنزیل ، وکإحصاء الکتاب المبین لما نزل من امّ الکتاب .

ولو أردنا أن نمثّل لذلک بمثال قانونیّ فإنّ التشریعات القانونیّة لیست کلّها علی مدرج واحد ومرحلة فاردة ، بل هی علی مدارج تتبع بعضها البعض ، فمثلاً التشریع النیابی یتبع التشریع الدستوری ، ولیس فی عرضه ، ولا من نوعه ونمطه ، ولا یعترض علی التشریع النیابی أنّه احتلّ مکانة التشریع الدستوری ، أو أنّه تقمّص مقامه ، بل هو تابع له ومنقاد ، مفعّل ومقیم للقوانین الدستوریة ، والتشریعات الدستوریة حاکمة علی التشریعات النیابیّة ، ودور الثانیة کالمفسّر للتشریعات

ص:253


1- (1) الکهف : 109 .
2- (2) لقمان : 27 .

الاُولی ، فکون المشرّع النیابی یقوم بالتشریع وسنّ القانون وله صلاحیة ذلک ، لا یعنی أنّه مشرّع دستوری ، کما أنّ نفی کونه مشرّعاً دستوریاً لا یعنی نفی کونه مشرعاً للقوانین النیابیّة .

فالخلط حاصل نتیجة اعتقاد أنّ تشریع الأحکام هو علی نمط واحد ، والحال أنّه لیس کذلک ، حیث إنّ تشریعات اللّه تعالی من الفرائض تعدّ بمثابة الأسس التشریعیة لتشریعات النبیّ صلی الله علیه و آله من السنن ، فالسنن النبویّة تعدّ مرحلة ثانیة للتشریع ، کما أنّ فرائض اللّه تعالی وسنن نبیّه تعدّ أسساً تشریعیة لسنن الأئمّة المعصومین علیهم السلام ، وهدیهم ومنهاجهم .

فهذه ثلاث مراحل تشریعیّة ، فکما أنّ ضرورة المسلمین قائمة علی وجود تشریعات نبویّة نظیر کون الصلاة رکعتین فی الفرائض الخمس ، ثمّ شرّع النبیّ صلی الله علیه و آله رکعتین فی الرباعیة ، ورکعة فی المغرب ، ولم یتوهّم أحد أنّ تشریعات النبیّ صلی الله علیه و آله والتی هی امتداد وتبع لتشریعات اللّه تبارک وتعالی ، أنّ تلک التشریعات تستدعی مقام الاُلوهیة للنبیّ صلی الله علیه و آله ، ولیس ذلک إلّالأنّ نمط التشریعات النبویّة هی فی مرحلة ثانیة ، منحدرة ومتنزّلة تابعة للتشریعات الإلهیّة .

کذلک الحال فی التشریعات والدور التشریعی الذی یضطلع به الأئمّة من أهل البیت علیهم السلام ، فإنّه لا یستدعی لهم مقام النبوّة؛ لأنّ سننهم وأحکامهم تابعة ومنحدرة ومشتقّة من سنن النبیّ صلی الله علیه و آله ، وفی مرحلة لاحقة تأتی فی البُعد طولیاً ، لا بعداً عرضیاً موازیاً له .

فتبیّن من ذلک کلّه أنّ الاعتراض الثانی متولّد من عدم الإحاطة بعلم التشریع القانونی والتقنین .

أمّا بالنسبة إلی التساؤل الثالث عن أثر الوراثة اللدنّیة وما قدّمه أهل البیت علیهم السلام ، فهی امور عظیمة کثیرة .

ص:254

فإنّ الرؤی الاعتقادیّة الصحیحة التی قام بنشرها أهل البیت علیهم السلام هی إلی الیوم شامخة لا یضاهیها فی العقلانیّة ، وسعة أفق الحقیقة والغور ، أیّ رؤی لأیّ نحلة وملّة ، وها هی تخوض معترک الأندیة العلمیّة المختلفة ، مُجلیة لأنصع البنود المعرفیّة توازناً ، ورحابة ، وسعة ، وغوراً .

وأمّا نشأة العلوم الإسلامیة من مدرسة أهل البیت علیهم السلام فقد خُصّصت جملة من الکتب لبیان ذلک(1) .

کما أنّ المشاهد أنّ جملة الفرق الإسلامیة سواء الفرق الکلامیة منها ، أو الفقهیّة ، أو السیاسیّة ، أو الصوفیة ، وهکذا مذاهب التفسیر وغیرها من الفرق قد نشأت ببرکة أهل البیت علیهم السلام وعلومهم .

وربّما یظنّ المتوهّم أنّ هذا شاهد سلبیّ فی تأثیر أهل البیت علیهم السلام ، لکنّه شاهد علی ریادتهم فی مسارات الدین .

وبیان ذلک :

الخلط بین أقسام الإلهام :

إنّ من أزمات المعارف القدیمة والحدیثة ، والمشاکل المفصّلة فی المعرفة الدینیّة هو عدم التمییز بین أنماط المقامات الغیبیة ، فالأنظار کانت فی تضارب بین إفراط وتفریط ، و ذلک لعدم الإحاطة بتلک المعارف الدینیّة والقرآنیّة .

فبین نظرة تفسّر کلّ ارتباط بالغیب بأنّها نبوّة ، فتنفی الارتباط بالغیب ، مستندة إلی انتهاء النبوّات وانقطاع الوحی بعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله .

وبین من یثبت الارتباط بالغیب ویحسبها نبوّة أیضاً ، فیشطّ به القول إلی ادّعاء

ص:255


1- (1) کما فی کتاب تأسیس الشیعة لعلوم الإسلام للسیّد حسن الصدر ، أو المقدّمة التی کتبها السیّد محسن الأمین لکتابه أعیان الشیعة ، وکتاب الذریعة فی تصانیف الشیعة .

النبوّة لمن یثبت له الارتباط بالغیب .

وبین نظرة ثالثة تنفی الارتباط بالغیب ، فی حین تثبت الاصطفاء الإلهیّ مع النصّ . وغیرها من النظرات المختلفة المتباینة .

وکلّ هذه النظرات ناشئة من عدم تأصیل الرؤیة الصحیحة المستمدّة من القرآن الکریم والسنّة القطعیة فی معرفة أنواع الارتباط بالغیب ، وتعدّد وتنوّع المقامات اللدنّیة فی الدین ، وأنّ الوحی لا ینحصر بالوحی النبویّ ، ووحی الشریعة والتشریع ، کما مرّت الإشارة إلی جملة من الدلالات القرآنیّة علی ذلک .

ومن نماذج هذا الخلط ما وقعت فیه الفرقة الخطّابیة(1) من انحراف ، فقد زعموا أنّ الأئمّة علیهم السلام أنبیاء ، کما یشیر إلی ذلک ما فی صحیحة زیاد بن سوقة ، عن الحکم ابن عتیبة - من فقهاء العامّة - ، قال : « دخلت علی علیّ بن الحسین علیهما السلام یوماً فقال :

یا

حکم ، هل تدری الآیة التی کان علیّ بن أبی طالب علیه السلام یعرف قاتله بها ، ویعرف بها الاُمور العظام التی کان یحدّث بها النّاس ؟

قال الحکم : فقلت فی نفسی : قد وقعت علی علم من علم علیّ بن الحسین ، أعلم بذلک تلک الاُمور العظام قال : فقلت : لا و اللّه لا أعلم .

قال : ثمّ قلت : الآیة تخبرنی بها یابن رسول اللّه ؟

قال :

هو و اللّه قول اللّه عزّ وجلّ : وما أرسلنا من قبلک من رسول ولا نبیّ ( ولا محدّث ) ، وکان علیّ بن أبی طالب محدّثاً .

فقال له رجل یقال له : عبد اللّه بن زید ، کان أخا علی لاُمّه : سبحان اللّه محدّثاً ؟ ! کأنّه ینکر ذلک .

فأقبل علینا أبو جعفر فقال : أما و اللّه إنّ ابن امّک بعدُ قد کان یعرف ذلک .

ص:256


1- (1) الخطابیّة : وهم أصحاب أبی الخطاب محمّد بن أبی زینب الأسدی الأجدع .

قال : فلمّا قال ذلک سکت الرجل ، فقال : هی التی هلک فیها أبو الخطّاب ، فلم یدر ما تأویل المحدّث والنبیّ »(1) .

وفی موثّقة حمران قال : قال أبو جعفر علیه السلام :

« إنّ علیّاً علیه السلام کان محدّثاً ، فخرجت إلی أصحابی فقلت : جئتکم بعجیبة .

فقالوا : ما هی ؟

فقلت : سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول :

کان علیّاً محدّثاً .

فقالوا : ما صنعت شیئاً ، ألا سألته مَن کان یحدّثه ؟

فرجعت إلیه فقلت : إنّی حدّثت أصحابی بما حدّثتنی فقالوا : ما صنعت شیئاً إلّا سألته مَن کان یحدّثه ؟

فقال لی :

یحدّثه ملک .

قلت : نقول إنّه نبیّ ؟

قال : فحرّک یده - هکذا - :

أو کصاحب سلیمان ، أو کصاحب موسی ، أو کذی القرنین ، أو ما بلغکم أنّه قال : وفیکم مثله »(2) .

والحدیث یشیر إلی أنّ القصور فی التمییز بین أنواع الارتباط بالغیب هو الذی یوقع الکثیر فی هذا الاضطراب ، والإمام الباقر علیه السلام یشیر فی ذیل الحدیث إلی الرؤیة والبصیرة القرآنیّة الدالّة علی تنوّع وتعدّد الارتباط بالغیب ، ففی سورة الکهف یشیر القرآن إلی العلم اللدنّی للخضر علیه السلام ، الذی یؤهّله إلی الارتباط بالغیب ، من دون أن یصفه بالنبوّة ، وهکذا الحال فی ذی القرنین ، وقد تحدّثت سورة النمل عن صاحب سلیمان ( آصف بن برخیا ) ، حیث لم تصفه بالنبوّة ، وإن وصفت له الارتباط اللدنّی ، والعلم بجملة من الکتاب .

ص:257


1- (1) الکافی : 1 : 270 ، الحدیث 2 .
2- (2) الکافی : 1 : 271 ، الحدیث 5 .

ص:258

المقالة الرابعة :مصادر سیادة أهل البیت العلیا فی احتجاجها علیها السلام

تمهید :

إنّ من الأخطاء الشائعة فی فهم النزاع والمواجهة التی کانت بین سیّدة النّساء علیها السلام وأبی بکر ، أنّ صورة النزاع هو اختلاف قائم علی الاستحقاقات فی الشأن الشخصیّ والبُعد الفردیّ ، لکنّه کان بداعی النزاع فی الشأن العامّ من الخلافة والولایة .

فصورة النزاع تختلف عن دواعیه وغایاته ، وأنّ احتجاجاتها منصبّة علی الحقّ الشخصیّ ، وإن کان دواعی النزاع والقطیعة هو إنکارها لعقد البیعة لأبی بکر ، واغتصاب الخلافة والولایة من علیّ وأهل البیت علیهم السلام .

إلّا أنّ الصحیح أنّ هذا التحلیل هو فهم خاطیء لصورة النزاع ، وإن کان صحیحاً بلحاظ الدواعی والغایات .

فإنّ الصحیح والحقیقة فی صورة النزاع ومواد احتجاجاتها لیست بحال من الأحوال شأناً شخصیّاً ، بل قوالب تلک الاحتجاجات فی عمق الشأن العامّ ، وفی موقعیّتها وموقعیّة أهل البیت علیهم السلام فی الولایة العامّة .

نعم ، الذی أوقعهم فی هذا الوهم هو أنّ موادّ احتجاجاتها کالإرث والوصیّة والنِّحلة و . . . هی مستندات ووثائق صالحة للاحتجاج علی الاستحقاقات الشخصیّة فی الحقوق الفردیّة ، کما تصلح مستندات ومصادر للإلزام والالتزام علی الاستحقاقات فی الشأن العامّ ، فصلاحیّتها لکلا الجانبین هو الذی أوهم الانطباع

ص:259

لدی الفهم السائد ، من کون قالب وصورة النزاع فی الحقّ الشخصیّ الجزئیّ .

بل إنّ الذی زاد من ترسیخ هذا الوهم فی الفهم هو خفاء صلاحیة هذه المواد الاحتجاجیة لإثبات وتقریر الاستحقاقات فی الشأن العامّ والخلافة والولایة .

ولأجل رفع هذا الخطأ فی الفهم ودفع هذا الوهم ، وبیان أنّ قوالب هذا الاحتجاج منصبّة علی استحقاقها علیها السلام وأهل البیت فی الشأن العامّ ، وحقوقهم فی الولایة العامّة والخلافة ، فلا بدّ من الخوض فی بیان کیفیّة تعدّد مصادر ومستندات الشیء الواحد ، وأنّه رغم وحدانیّته فإنّ له وجوهاً متعدّدة للإثبات ، کما لا بدّ من بیان أنّ المستند الواحد والوثیقة القانونیّة الواحدة کما یتولّد منها حقّ واستحقاق فی الشأن الشخصیّ ، کذلک یتولّد منها حقّ واستحقاق فی دوائر عامّة ، تترامی وتتعدد فی دائرة سعتها ، رغم وحدانیّة طبیعة هذا المستند والمصدر .

حیث إنّ جملة من قواعد المعرفة فی شتّی المدارس المعرفیّة ، وکذا قواعد القانون فی مختلف مدارسه ، لا یقتصر تأصیلها النظریّ علی مصدر واحد ، ولا یعتمد فی توثیقها علی مستند واحد ، ولا یقتصر تخریج شرعیّتها علی وجه واحد ، بل یکون المنبع والمستند متعدّد .

والوجه فی ذلک هو الارتباط العضویّ والنُّظمیّ بین القواعد المعرفیّة المتعدّدة ، وکذلک فیما بین القواعد القانونیّة .

فمثلاً القاعدة الریاضیّة الواحدة من الهندسة ، أو الجبر ، أو الحساب ، قد تتولّد من قواعد متعدّدة ، و ذلک للارتباط البُنیویّ بین هذه القاعدة وکلّ تلک القواعد علی حِدَة .

وعلی هذه الشاکلة القواعد العامّة فی باب الحکمة ، فإنّه تقام علی کلّ قاعدة جملة من البراهین و القواعد المولِّدة لتلک القاعدة .

وهذه الحقیقة المعرفیّة ظاهرة موجودة فی معارف الدین وقوانین الشریعة ،

ص:260

فنری براهین التوحید فی القرآن الکریم والأحادیث الشریفة قد بُیّنت بدلائل ومناهج متعدّدة ، کبرهان النظم ، والفطرة ، وبرهان الصدّیقین ، والحدوث وغیرها .

کما هو الحال فی مؤدّی المعاجز المختلفة علی نبوّة الرسول صلی الله علیه و آله ، فإنّها أبواب ودلالات معرفیّة متعدّدة ، تطلّ علی هذه العقیدة .

ومن ذلک أیضاً السیادة العلیا المفوّضة لأهل البیت علیهم السلام فی الدین والشریعة ، سواء السیادة القانونیّة منها ، أو السیادة السیاسیّة ، فإنّ الأدلّة علیها فی القرآن والسنّة النبویّة قد تعدّدت وجوهها ، وتکثّرت القواعد الدینیّة المعرفیّة المقتضیة لذلک ، وأنّ موقعهم هو فی ذروة السلطات العلیا ، والنظارة والإشراف فی نظام الدین ، وأشکال الدولة والحکومات ، ورأس الهرم فی أنواع السلطات ، وقد تنوّعت الوجوه القرآنیّة والبیانات فی الحدیث النبویّ ، لتأصیل هذه الحقیقة المعرفیة فی الدین ، ومن ثمّ تکثّرت المناهج وطوائف النصوص الشریفة فی ذلک .

وعلی ضوء ذلک ، فإنّ من الملاحم الکبری المعرفیّة فی فقه هذه العقیدة ، والتی قامت سیّدة النّساء علیها السلام بهدایة الاُمّة إلیها ، فی معرفة حجّیتها وولایتها وحجّیة أهل البیت وولایتهم ، وهو عمدة المستندات علی ذلک ، وعلی استحقاقهم لمقامات النبیّ صلی الله علیه و آله وصلاحیّاته ، فإنّها علیها السلام قد احتجّت فی اعتراضها ونکیرها علی أبی بکر ، وعلی تقمّصه الخلافة ، ومواجهتها لتحالف السقیفة بستّ حُجج ومصادر لمرجعیّتهم العُلیا :

الاُولی : احتجاجها بالنِّحلة ، والمراد بها التنصیب والتفویض العملیّ فی إدارة الأموال العامّة فی حیاته صلی الله علیه و آله .

الثانیة : احتجاجها بالمیراث الشامل للمقامات المعنویة ، فضلاً عن المادّیة .

الثالثة : احتجاجها بقوامة ذوی القُربی وقیمومتهم علی الناس .

الرابعة : احتجاجها بعموم وصیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لأهل بیته علیهم السلام ، الشاملة للخلافة

ص:261

والإمامة والتولیة .

الخامسة: احتجاجها بقاعدة الخراج بالضمان ، أو من علیه الغُرم فله الغُنم .

السادسة: احتجاجها ببیعة الأنصار فی العَقَبَة ، ونُصرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وذرّیّته لإقامة الدین .

عموم مصادر الالتزام والإلزام فی احتجاجها علیها السلام السیاسیّ والدینی والتکوینیّ

اشارة

وللوقوف علی عمومیّة ما احتجّت علیها السلام من الإرث ، والوصیّة ، والنِّحلة ، وقوة تمامیّة قالبه لإثبات الاستحقاق فی الولایة العامّة ، وأنّ الشأن العامّ هو قالب وصورة نزاعها مع أبی بکر ؛ فلا بدّ من بیان قاعدة کبری تتفتّق وتتولّد منها عدّة قواعد ، وهی عموم مصادر الالتزام القانونی ، وموجبات الاستحقاق للشؤون العامّة ، علی حذو شمولها للشؤون الخاصّة ، فإنّ هذه المصادر تنطبق علی الشخصیّة المعنویّة الحقوقیّة والتزاماتها فی البُعد العامّ کما تنطبق علی الشخصیّة الحقیقیّة والتزاماتها الخاصّة .

بل إنّ تلک المصادر تعمّ الشؤون التکوینیّة ، فضلاً عن شمولها للشؤون والاُمور الاعتباریّة الأدبیّة .

ومصادر الالتزام هذه هی کلّ التزام من عقد أو إیقاع ، فجمیع العقود کمصدر للالتزام والإلزام ولتولّد الاستحقاق ؛ لا تختصّ بالعقود المالیّة ، بل هی تشمل العقود السیاسیّة أیضاً ، کما تشمل کلّ عقد بین الحاکم والمحکوم فی المسؤولیّات العامّة ، بل تشمل کلّ عقد بین الخالق والمخلوق فی المسؤولیّات الدینیّة .

إذن فالالتزام العقدیّ شامل للعقد المالی ، والعقد السیاسی ، والعقد الدینی ، وکذلک الحال فی الالتزام فی الإیقاعات ، فهو لا یختصّ بالعقد أو الإیقاع فی الشؤون

ص:262

الشخصیّة ، بل یشمل الشؤون العامّة ، والشؤون الدینیّة ، والاُمور التکوینیّة .

وعلی ضوء هذه القاعدة من عمومیّة وشمولیّة مصدریّة الالتزام فی العقود والإیقاعات للمجالات الأربعة ، تظهر وتنتظم القراءة لحقیقة احتجاجاتها ، الذی نظمناها فی ستّ قواعد ، وأنّ کلّ واحد من هذه الاُمور الستّة قاعدة معرفیة اعتقادیّة ، وهی مستندات لسیادتهم العُلیا :

الاُولی : قاعدة النِّحْلة :

والمراد بها التفویض العملی ( فی إدارة الأموال العامّة ) من قبل رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی حیاته لفاطمة وعلیّ ولأئمة أهل البیت علیهم السلام من بعدهم ، وهو من شؤون السیادة والسلطة العُلیا فی الأمّة ، کالولایة فی إدارة وتدبیر أموال الفیء والأنفال ، کما هو مفاد قوله تعالی : وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ (1) ، وقوله تعالی : فَآتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ (2) .

حیث إنّ هاتین الآیتین نزلتا بعدما أمر اللّه تعالی نبیّه صلی الله علیه و آله بتفویض هذه الولایة تحت ظلّ إشرافه صلی الله علیه و آله فی سورة الحشر : ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی (3) .

ومثله قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی (4) .

و هذا النُّحْل والنِّحْلة لذی القربی لا یختصّ بالشؤون الشخصیّة والأموال والحقوق الخاصّة ، بل إنّ مورده الولایة السیاسیّة علی الأموال والثروات العامّة ،

ص:263


1- (1) الإسراء : 26 .
2- (2) الروم : 38 .
3- (3) الحشر : 7 .
4- (4) النحل : 90 .

بل یعمّ الولایة الدینیّة ، کولایة التشریع فی الأموال ، ونظام التعاطی القائم فیها بعد عموم وسعة وشمول الدین لسُبل المعیشة وأبوابها .

وممّا یقرّر شمول النِّحلة للعطیّة التکوینیّة قوله تعالی : وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللّهُ الْمُلْکَ وَ الْحِکْمَةَ (1) ، وقوله تعالی : أَمْ یَحْسُدُونَ النّاسَ عَلی ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً (2) .

وعلیه فالعطیة والعطاء والنِّحلة تختلف مواردها بحسب موقعیة المعطی والناحل ، فإنّ ذا الرئاسة والزعامّة إذا نحل شخصاً بحسب ما لَه من الصلاحیات والموقعیة ، کما هو الحال فی مورد فدک ، فإنّها من الفیء الخالص لرسول اللّه صلی الله علیه و آله فی إدارته وولایته ، فالتفویض منه صلی الله علیه و آله فی الفیء هو عبارة عن نحلة فی الولایة فی شُعبة من شُعبها .

وقد أشارت الصدّیقة الکبری علیها السلام إلی هذه القاعدة بقولها لأبی بکر فی احتجاجها :

« إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أعطانی فدکاً . . . »(3) ، وفی بعض المصادر أنها علیها السلام قالت :

« إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله نحلنیها »(4) .

الثانیة : قاعدة شمولیّة المیراث للولایة :

فإنّ الإرث والوراثة شامل للمیراث فی المقامات المعنویة کما یعمّ المیراث المادّی ، فالوارث یرث من المورِّث شؤونه وصلاحیاته الشخصیّة الحقیقیّة ،

ص:264


1- (1) البقرة : 251 .
2- (2) النساء : 54 .
3- (3) تاریخ المدینة المنوّرة لابن شُبّه : 1 : 199 . وفاء الوفا للسمهودی : 3 : 1000 . السقیفة وفدک للجوهری : 7 . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 219 . الصواعق المحرقة : 79 . السیرة الحلبیة للحلبی : 3 : 487 . فتوح البلدان للبلاذری : 44 .
4- (4) وفاء الوفا للسمهودی : 3 : 999 .

کما یرث شؤونه وصلاحیّاته الشخصیّة الحقوقیّة ، والاعتباریّة القانونیّة ، بل یرث جملة من مکوّناته التکوینیّة ، و هذا مجال ثالث ، وقد بسطنا القول فی عمومیّة قاعدة الإرث فی المقالات السابقة ، وبیّنا أنّ الصحیح هو عمومیّة الإرث لکلّ ذلک ، ولا اختصاص له بالإرث المادّیّ ، کما یوهمه ظاهر کلمات متکلّمو الإمامیّة ومفسّروهم ، ولا اختصاص له بالإرث المعنویّ ، أو التکوینیّ ، کما یصرّ علی ذلک متکلّمو أهل السُّنّة ومفسّروهم ، بل إنّ مفادها العموم والشمول کما هو مفاد قوله تعالی : اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ (1) .

وکذا قوله تعالی : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ (2) .

وقوله تعالی علی لسان زکریّا علیه السلام : فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا * یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ (3) .

وقد تعرّضنا لبیان مفاد هذه الآیات فیما مضی .

وقد أشارت الزهراء علیها السلام إلی هذه القاعدة بقولها :

« وَأَنْتُمْ الْآنَ تَزْعُمُونَ أَن لَاإِرْثَ لَنا ، أَ فَحُکْمَ الْجاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُکْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ 4

. أَفَلَا تَعْلَمُونَ ؟ بَلی قَدْ تَجَلّی لَکُمْ کَالشَّمْسِ الضّاحِیَةِ أَنّی ابْنَتُهُ . أَ أُغْلَبُ عَلی إِرْثی ؟

یَابْنَ أَبِی قُحَافَةَ ، أَفِی کِتَابِ اللّهِ أَنْ تَرِثَ أَبَاکَ وَلَا أَرِثَ أَبِی ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَیْئاً فَرِیّاً ،

ص:265


1- (1) الأحزاب : 6 .
2- (2) النمل : 16 .
3- (3) مریم : 5 - 6 .

أَفَعلی عَمْدٍ تَرَکْتُمْ کِتِابَ اللّهِ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِکُمْ إِذْ یَقُولُ : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ (1) .

وَقَالَ فِیمَا اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ یَحْیَی بْنِ زَکَرِیّا إِذْ قَالَ : فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا * یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ (2) .

وَقَالَ : وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ (3) .

وَقَالَ : یُوصِیکُمُ اللّهُ فِی أَوْلادِکُمْ لِلذَّکَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَیَیْنِ (4) .

وَقَالَ : إِنْ تَرَکَ خَیْراً الْوَصِیَّةُ لِلْوالِدَیْنِ وَ الْأَقْرَبِینَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَی الْمُتَّقِینَ ) (5).

وَزَعَمْتُمْ أَنْ لَاحِظْوَةَ لِی ، وَلَا إِرْثَ مِنْ أَبِی ، وَلَا رَحِمَ بَیْنَنا .

أَفَخَصَّکُمُ اللّهُ بِآیَةٍ أَخْرَجَ أَبِی مِنْها ؟ أَمْ تَقُولُونَ : إِنّا أَهْلَ مِلَّتَیْنِ لَایَتَوَارَثَانِ ؟ أَوَلَسْتُ أَنا وَأَبِی مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ ؟ أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِی وَابْنِ عَمِّی ؟ »(6) .

الثالثة : قاعدة قوامة ذوی القربی علی الاُمّة :

أی المنصب المجعول لهم من قبل اللّه تعالی لقیمومتهم علی الناس ، حیث جُعل الفیء وهو کلّ ثروات الأرض تحت ولایتهم وتدبیرهم ، کامتداد لولایة اللّه تعالی

ص:266


1- (1) النمل : 16 .
2- (2) مریم : 5 و 6 .
3- (3) الأنفال : 75 . الأحزاب : 6 .
4- (4) النساء : 11 .
5- (5) البقرة : 180 .
6- (6) بلاغات النساء للبغدادی . السقیفة وفدک للجوهری : 142 . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 250 .

ورسوله صلی الله علیه و آله ، کما مرّ ذلک فی الآیة السابعة من سورة الحشر ، وعُلّل ذلک ببسط العدل بین الناس ، بعد أن ذکر تعالی أنّ الطبقات المحرومة مصرف للثروات ، ففی ذیل الآیة : ...وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ أی أنّ العدالة بین أهل الأرض لا ینهض بإقامتها إلّاذوی القُربی ، لتوفّر الکفاءة والمؤهّلات فیهم ، سواء من جهة المؤهّلات العلمیّة من الکفاءة ، أو من جهة المؤهلات العملیّة من الأمانة والاستقامة .

وهذه فی الحقیقة إحدی الملاحم التی تنبّأ بها القرآن منذ أربعة عشر قرناً ، ویشیر إلیها بعینها قوله تعالی : إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی (1) ، حیث ربط اللّه تعالی بین العدل وإیتاء ذی القربی .

والتعبیر هنا بإیتاء ذی القربی فعلاً ومتعلّقاً هو الذی مرّ فی سورتی الإسراء والروم(2) ، حیث أُرید بهما قُربی الرسول صلی الله علیه و آله ، لاسیّما بعد بیان القرآن أنّ أعظم من أُمر بوصله کفریضة عُظمی علی کافّة المسلمین هم قُربی الرسول صلی الله علیه و آله ، وذلک فی قوله تعالی : قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی (3) .

وکذا یشیر إلی ولایتهم قوله تعالی : وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَیْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی (4) .

ومن المعلوم أنّ الخمس ضریبة مالیة عامّة خطیرة .

ولا یخفی الإیعاز والإشارة الواضحة فی الترتیب المذکور ( للّه، وللرسول ، ولذی القربی ) ، وفی الخمس ( للّه، وللرسول ، ولذی القربی ) ، أی أنّ هذا الاقتران مع

ص:267


1- (1) النحل : 90 .
2- (2) أی قوله تعالی : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَی حَقَّهُ ) و ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَی حَقَّهُ ) .
3- (3) الشوری : 23 .
4- (4) الأنفال : 41 .

اللّه ورسوله لبیان أنّ ولایتهم هی خلافة واستخلاف لولایة اللّه تعالی ولولایة رسوله صلی الله علیه و آله ، علی نسق ما فی قوله تعالی : أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ ، فهذا القرن والاقتران فیه إشارة واضحة إلی سلسلة مراتب الولایة ، مبدأً ومراتباً .

وقد أشارت الزهراء علیها السلام إلی ذلک فی خطبتها بقولها :

« وَزَعَمْتُمْ أَنْ لَاحِظْوَةَ لِی ، . . . وَلَا رَحِمَ بَیْنَنا » .

وقولها :

« أَیُّها النّاسُ ، اعْلَمُوا أَنِّی فاطِمَةُ ، وَأَبِی مُحَمَّدٌ ، . . .

فَإِنْ تَعْزُوهُ تَجِدُوهُ أَبِی دُونَ نِسائِکُمْ ، وَأَخَا ابْنِ عَمِّی دُونَ رِجالِکُمْ ، وَلَنِعْمَ الْمَعْزِیُّ إِلَیْهِ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ . . . » .

وقولها :

« وَأَشْهَدُ أَنَّ أَبِی مُحَمَّداً صلی الله علیه و آله عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ » .

وقولها :

« أَفَلَا تَعْلَمُونَ ؟ بَلی قَدْ تَجَلّی لَکُمْ کَالشَّمْسِ الضّاحِیَةِ أَنّی ابْنَتُهُ »(1) .

الرابعة : قاعدة شمولیّة الوصیّة لکلّ صلاحیّات الموصی ، واستقلال الوصیّ فیها

حیث إنّها علیها السلام احتجّت بعموم وصیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لأهل بیته علیهم السلام ، الشاملة والمتعلّقة بما یمتلکه صلی الله علیه و آله من ملکیة تدبیر أمور الاُمّة ، وإقامة الدین الحنیف ورعایته ، أی للخلافة والإمامة ، فوصیّته تولیة لأهل بیته علی مقالید الدین والأمّة .

ولنقدّم نماذج من استعمال الوصیّة فی الاُمور العامّة ، ثمّ نشیر إلی ألفاظ خطبة احتجاجها :

ص:268


1- (1) السقیفة وفدک للجوهری : 142 . شرح النهج لابن أبی الحدید : 16 : 250 . بلاغات النساء لابن طیفور ، وغیرهم .

أمّا نماذج شمول الوصیّة للاُمور العامّة فکقوله تعالی : شَرَعَ لَکُمْ مِنَ الدِّینِ ما وَصّی بِهِ نُوحاً وَ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ وَ ما وَصَّیْنا بِهِ إِبْراهِیمَ وَ مُوسی وَ عِیسی أَنْ أَقِیمُوا الدِّینَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِیهِ (1) ، فجُعل متعلّق الوصیّة هنا عموم ولایة الدین وإقامته ، فالموصی هنا اللّه عزّ وجلّ ، والوصی هم الأنبیاء ، ومتعلّق الوصیّة هو کلّ أبواب الدین ، وما یطیع به العبیدُ ربّهم .

وقد أشار الفقهاء فی باب الوصیّة إلی أنّ الوصیّة تنقسم إلی تملیکیّة وعهدیّة ، فالتملیکیّة هی ما تتعلّق بالأموال التی تقبل ملکیّتها الانتقال ، وعهدیّة وهی التی تتعلّق بما للمُوصی من ولایة وقیمومة علی بعض أموره ، کأولاده وغیر ذلک من الموارد التی له نظارة وولایة تدبیر وإشراف .

ومن ثَمّ فإنّ ماهیة الوصیّة والإیصاء بلحاظ متعلّقها قد تأخذ طابع العهد ، أو طابع التولیة ، أو الاستخلاف ، فیما إذا کان موضوعها فی الولایة السیاسیّة العامّة ، أو الدینیّة .

ونظیر ذلک قوله تعالی : وَ وَصّی بِها إِبْراهِیمُ بَنِیهِ وَ یَعْقُوبُ یا بَنِیَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفی لَکُمُ الدِّینَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (2) .

وغیرها من الموارد التی جُعل فیها متعلّق الوصیّة هو الدین ، لا خصوص الشؤون الشخصیّة الفردیّة ، و ذلک لکون حفظ الدین الحنیف من مهامّ ومسؤولیات الرُّسل وصلاحیتهم ، فیعهدون بهذه المسؤولیّة والولایة لمن یخلفهم من بعدهم من الأوصیاء ، أنبیاءاً کانوا أو أسباطاً .

وقد أشارت الصدّیقة الکبری علیها السلام إلی هذه القاعدة والاحتجاج بها فی قولها :

« فوسمتم غیرَ إبلکم ووردتم غیر مشربکم هذا والعهدُ قریب » .

ص:269


1- (1) الشوری : 13 .
2- (2) البقرة : 132 .

وقولها علیها السلام للأنصار :

« ما هذه الغمیزة فی حقّی والسِّنَةُ عن ظلامتی ؟

أما کان رسول اللّه یقول : المرء یحفظ فی ولده » .

الخامسة : قاعدة الخراج بالضمان ، أو من علیه الغُرم فله الغنم

وهو مطابق لقاعدة أنّ مالک العمل یملک نتاجه ، ویملک عوضه ، سواء علی صعید المال الفردی ، کما فی الأجارة فی الاُمور الخاصّة ، أو نتائج الصنائع والحِرَف ، والتی تکون ذات قیم باهضة وأثمان عالیة ، أو علی صعید الاُمور السیاسیّة العامّة ، کما فی مؤسّسی الدول والأنظمة ، أو علی صعید الاُمور الدینیّة ، کالروّاد فی بناء صَرْح الدین ، کالأنبیاء ، والرسل ، وذرّیاتهم الوارثین لمقاماتهم .

ویشیر إلی مفاد هذه القاعدة قوله تعالی : قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی ، فجعل تعالی أجر وعوض جهود النبیّ صلی الله علیه و آله فی إبلاغ دین اللّه تعالی مودّة أهل بیته علیهم السلام ، بل حُصرت المودّة والولایة بهم ، مع أنّ نفع هذا الأجر عائد للمسلمین أنفسهم ، حیث قال : قُلْ ما سَأَلْتُکُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ (1) ، وبیّن أنّ هذا الأجر الذی نفعه لهم کعوض لجهود وزحمات النبیّ صلی الله علیه و آله ، من مودّتهم ، وولایتهم ، هی سبیل إلیه تعالی ، حیث قال : قُلْ ما أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ یَتَّخِذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلاً (2) ، فهم الولاة والهداة إلی سبیله تعالی ، فضیلة ، ومنقبة ، ومنصباً ، جعله اللّه تعالی لهم عوضاً عمّا أبلوا من جهد وجهاد فی إقامة الدین .

ویشیر إلی هذه المودّة والولایة لأهل البیت علیهم السلام - الذین هم من ذرّیة النبیّ إبراهیم الذی أسکنها بوادی مکّة - قول إبراهیم علیه السلام : رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی

ص:270


1- (1) سبأ : 47 .
2- (2) الفرقان : 57 .

بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ (1) ، فتفریع المودّة والولایة فی ذرّیته مترتّب علی ما کابدته تلک الذرّیة من جهود فی إقامة الدین عند البیت الحرام ، کإشعاع منه إلی سائر أرجاء الأرض ، وهو الذی یشیر إلیه تعالی فی قوله : وَ جَعَلْنا فِی ذُرِّیَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْکِتابَ وَ آتَیْناهُ أَجْرَهُ (2) .

وإلی ذلک أشارت الصدّیقة الکبری فی خطبتها علیها السلام :

« فَأَنارَ اللّهُ بِأَبِی مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله ظُلَمَها ، وَکَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَها ، وَجَلی عَنِ الْأَبْصارِ غُمَمَها ، وَقامَ فِی النّاسِ بِالْهِدایَةِ ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغَوایَةِ ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمایَةِ ، . . .

فَأَنْقَذَکُمُ اللّهُ تَبارَکَ وَتَعالی بِمُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله بَعْدَ اللَّتَیّا وَالَّتِی ، وَبَعْدَ أَنْ مُنِیَ بِبُهَمِ الرِّجالِ ، وَذُؤْبانِ الْعَرَبِ ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْکِتابِ . کُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ الشَّیْطانِ ، أَوْ فَغَرَتْ فاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ ، قَذَفَ أَخاهُ فِی لَهَواتِها ، فَلَا یَنْکَفِئُ حَتّی یَطَأَ صِماخَها بِأَخْمَصِهِ ، وَیُخْمِدَ لَهَبَها بِسَیْفِهِ ، مَکْدُوداً فِی ذاتِ اللّهِ ، مُجْتَهِداً فِی أَمْرِ اللّهِ ، قَرِیباً مِنْ رَسُولِ اللّهِ ، سَیِّداً فِی أَوْلِیاءِ اللّهِ ، مُشْمِّراً ناصِحاً ، مُجِدّاً کادِحاً ، وَأَنْتُمْ فِی رَفاهِیَّةٍ مِنَ الْعَیْشِ ، وادِعُونَ فاکِهُونَ آمِنُونَ ، تَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوائِرَ ، وَتَتَوَکَّفُونَ الْأَخْبارَ ،

وَتَنْکُصُونَ عِنْدَ النِّزالِ ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ الْقِتالِ .

فَلَمّا اخْتارَ اللّهُ لِنَبِیِّهِ صلی الله علیه و آله دارَ أَنْبِیائِهِ وَمأْوی أَصْفِیائِهِ ، ظَهَرَ فِیکُمْ حَسَیکَةُ النِّفاقِ ، . . .

وَالرَّسُولُ لَمّا یُقْبَرْ ، ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ . . . » .

وبعبارة اخری : إنّ مضمون احتجاجها هو قاعدة الخراج بالضمان ، أو من علیه الغُرم فله الغُنم .

ص:271


1- (1) إبراهیم : 37 .
2- (2) العنکبوت : 27 .

و هذا نفسه مضمون قوله تعالی : قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی حیث إنّ مفادها مبنیّ علی هذه القاعدة أیضاً ، فإنّه فی قبال جهوده صلی الله علیه و آله فی نشر الدین کان أجر تلک الجهود مودّة أهل بیته علیهم السلام ، ومن الواضح أنّ هذا الأجر راجع للأمة نفسها .

أو قوله تعالی : وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللّهُ الْمُلْکَ وَ الْحِکْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا یَشاءُ (1) حیث تأهّل داود للإمامة والعلم اللدنّی خَلَفاً عن طالوت حینما فدّی نفسه فی مبارزة رأس معسکر الشرّ وهو جالوت وقتله .

ولا یخفی أنّ هذه القاعدة لا یختصّ إجراؤها بالأمور المالیّة وفی الشؤون الفردیّة ، بل هی مطلق مِلک النتیجة فی قبال العمل الذی وَلّد تلک النتیجة ، سواء کانت بیئة ذلک العمل فی الشؤون الفردیّة کما فی الأجیر الخاصّ فی مرافق المعیشة أو الصناعة والحِرَف ، أو کانت بیئته فی الشؤون السیاسیّة العامّة ، کالدور الذی یقوم به فی بناء النظام السیاسیّ ، فإنّ المؤسّسین لذلک النظام یشغلون صلاحیات ونفوذاً خاصّاً فی السلطة ، کما هو الحال فی أعراف العقلاء فی تغیّرات الأنظمة ، أو فی بیئته الدینیّة وبناء صرح الدین ، کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی علی لسان إبراهیم علیه السلام : رَبَّنا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِیُقِیمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ (2) حیث بیّنت الآیة أنّ تحمّل إبراهیم وذرّیته لتأسیس البیت الحرام فی الأرض القفراء غیر المأهولة لإحیاء وعمارة المسجد الحرام وإقامة الدین عنده ، هو الذی أهّلهم لاستحقاق ذلک الموقع الدینیّ الکبیر الذی یستحقّوه ، وهو المحبّة فی قلوب المؤمنین ، والریادة فی إقامة أرکان الدین وتشییده .

ص:272


1- (1) البقرة : 251 .
2- (2) إبراهیم : 37 .
السادسة : البیعة علی نصرة رسول اللّه وذرّیّته لإقامة الدین

احتجّت الزهراء علیها السلام فی خطبتها ببیعتی الأنصار فی العقبة لنصرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وذرّیته فی إقامة الدین ، حیث ورد فی متن البیعة وشرط رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیها : « علی أن یمنعوا رسول اللّه وأهل بیته وذرّیته ما یمنعون منه أنفسهم وذراریهم »(1) .

وقد أشار إلی مفاد هذه البیعة أیضاً الإمام جعفر الصادق علیه السلام فی حادثة بنی الحسن ، بعد اعتقالهم فی المدینة المنوّرة أیام الحکم العبّاسیّ ، حیث روی الحسین ابن زید ، قال : « إنّی لواقف بین القبر والمنبر ، إذ رأیت بنی الحسن یُخرج بهم من دار مروان مع أبی الأزهر ، یُراد بهم الربذة ، فأرسل إلیّ جعفر بن محمّد ، فقال :

ما وراءک ؟

قلت : رأیت بنی الحسن یُخرج بهم فی محامل .

فقال : إجلس ، فجلست .

قال : فدعا غلاماً له ، ثمّ دعا ربّه کثیراً ، ثمّ قال لغلامه :

إذهب فإذا حُملوا فَاتِ فأخبرنی .

قال : فأتاه الرسول ، فقال : قد أقبل بهم .

فقام جعفر علیه السلام فوقف وراء ستر شعر أبیض من ورائه ، فطلع بعبد اللّه بن الحسن ، وإبراهیم بن الحسن ، وجمیع أهله ، کلّ واحد منهم معاد لهم مسوّد ، فلمّا نظر إلیهم جعفر بن محمّد علیه السلام ؛ هملت عیناه ، حتّی جرت دموعه علی لحیته ، فقال :

یا أبا عبد اللّه ، و اللّه ، لا تحفظ للّه حرمة بعد هذا ، و اللّه ما وفت الأنصار ولا أبناء الأنصار لرسول اللّه صلی الله علیه و آله بما أعطوه من البیعة علی العقبة .

ص:273


1- (1) مقاتل الطالبیّین : 149 . السقیفة وفدک للجوهری : 71 . مجمع الزوائد للهیثمی : 6 : 49 . المعجم الأوسط للطبرانی : 2 : 207 .

ثمّ قال جعفر :

حدّثنی أبی ، عن أبیه ، عن جدّه ، عن علیّ بن أبی طالب أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال له : خذ علیهم البیعة بالعقبة .

فقال : کیف آخذ علیهم ؟

قال :

خذ علیهم یبایعون اللّه ورسوله . . . علی أن تمنعوا رسول اللّه وذرّیته ممّا تمنعون منه أنفسکم وذراریکم .

قال : فو اللّه ما وفوا له حتّی خرج من بین أظهرهم ، ثمّ لا أحد یمنع ید لامس ، اللهمّ فاشدد وطأتک علی الأنصار »(1) .

وفی مسند زید بن علیّ ، عن أبیه ، عن جده ، عن علیّ علیه السلام قال :

« بایعنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ،

وکنّا نبایعه علی السمع والطاعة فی المکره ، والمنشر ، وفی الیُسر والعُسر ،

وفی الإثرة علینا ، و أن نقیم ألسنتنا بالعدل ، ولا تأخذنا فی اللّه لومة لائم ، فلمّا کثر الإسلام قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام : ألحق فیها : و أن تمنعوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وذرّیته ممّا تمنعون منه أنفسکم وذراریکم .

قال : فوضعتها و اللّه علی رقاب القوم ، فوفی بها من وفی ، وهلک بها من هلک »(2) .

أقول : ما رواه فی « مقاتل الطالبیّین » عن ابن شبّه ولعلّه عن کتابه « تاریخ المدینة » ، عن ابن زبالة ، بطریقه عن الصادق علیه السلام ، مفاده أنّ هذا العهد قد أخذ فی بیعة العقبة .

وذکر الهیثمی(3) أنّ الطبرانی فی « المعجم الأوسط »(4) روی من طریق عبد اللّه

ص:274


1- (1) مقاتل الطالبیّین : 149 ، نقلاً عن تاریخ المدینة لابن شبّة ، عن ابن زبالة .
2- (2) مسند زید بن علی : 430 ، ورواه الجوهری فی السقیفة وفدک : 71 بسنده إلی زید بن علیّ ز عن آبائه ، أیضاً .
3- (3) مجمع الزوائد : 6 : 49 .
4- (4) المعجم الأوسط : 2 : 207 .

ابن مروان وهو ضعیف وقد وثّق ، بطریقه عن الحسین بن علیّ ، قال : « جاءت الأنصار تبایع رسول اللّه صلی الله علیه و آله علی العقبة ، فقال :

قم یا علیّ فبایعهم .

فقال :

علی ما أبایعهم یا رسول اللّه ؟

قال :

علی أن یطاع اللّه ولا یُعصی ، وعلی أن تمنعوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله ،

وأهل بیته ،

وذرّیته ، ممّا تمنعون منه أنفسکم وذراریکم » .

وهذه الروایة صریحة فی أنّ هذا العهد قد أخذ علی الأنصار فی بیعة العقبة .

إذن فبیعة الرسول صلی الله علیه و آله مع الأنصار فی بیعة العقبة ، وکذا بیعته صلی الله علیه و آله مع سائر المسلمین ، کان قد أخذ فیها جملة من البنود ، من الشهادتین ، ونصرة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وذرّیته ، وغیرها .

و هذا بنفسه مفاد ولایة الرسول صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، فهو التزام سیاسیّ وعسکریّ ، وهو من المظاهر الخطیرة الهامّة للولایة .

وقد أشارت الصدّیقة الکبری علیها السلام فی خطبتها إلی هذه القاعدة ، حیث استنهضت الأنصار عسکریاً للوقوف أمام تواطؤ السقیفة ، و أخذت تعبّئهم بقولها :

« یَا مَعْشَرِ النَّقِیبةِ ، وَأَعْضَادَ الْمِلَّةِ ، وَأَنْصارَ الْإِسْلَامِ ، مَا هذِهِ الْغَمِیزَةُ فِی حَقِّی ، وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلَامَتِی ؟ أَمَا کَانَ رَسُولُ اللّهِ أَبِی یَقُولُ : « الْمَرْءُ یُحْفَظُ فِی وُلْدِهِ ؟ » .

فهی تشیر فی هذا الکلام إلی مضمون بیعة العقبة .

ونظیر هذا قولها علیها السلام :

« أَیْهاً بَنِی قَیْلَةَ ، أاُهْضَمُ تُراثَ أَبِی وَأَنْتُمْ بِمَرْأی مِنِّی وَمَسْمَعٍ ،

وَمُنْتَدیً وَمَجْمَعٍ » .

وأما کلامها فی حثّهم علی المواجهة المسلّحة مع جماعة السقیفة فقولها علیها السلام للأنصار أیضاً :

« سُرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُمْ ، وَعَجْلَانَ ذَا إِهَالَةً ، وَلَکُمْ طَاقَةٌ بِمَا احَاوِلُ ، وَقُوَّةٌ عَلی مَا أَطْلُبُ وَاُزَاوِلُ ؟ أَتَقُولُونَ : مَاتَ مُحَمَّدٌ ؟ فَخَطْبٌ جَلِیلٌ . . . وَ ما مُحَمَّدٌ

ص:275

إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلی أَعْقابِکُمْ وَ مَنْ یَنْقَلِبْ عَلی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللّهَ شَیْئاً وَ سَیَجْزِی اللّهُ الشّاکِرِینَ

. . . تَلْبَسُکُمُ الدَّعْوَةُ، وَتَشْمَلُکُمُ الْخُبْرَةُ ، وَأَنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ ، وَالْأَدَاةِ وَالْقُوَّةِ ، وَعِنْدَکُمُ السِّلَاحُ وَالْجُنَّةُ ، تُوَافِیکُمُ الدَّعْوَةُ فَلَا تُجِیبُونَ ، وَتَأْتِیکُمُ الصَّرْخَةُ فَلَا تُغِیثُونَ ، وَأَنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْکِفَاحِ ، مَعْرُوفُونَ بِالْخَیْرِ وَالصَّلَاحِ » .

وهذه الألفاظ فی خطبتها صریحة فی دعوتها لاستنهاض الأنصار عسکریاً .

وقد ذکر ابن أبی الحدید : « أنّه سأل أستاذه النقیب أبی یحیی جعفر بن یحیی ابن أبی زید البصری « قلت : فما مقالة الأنصار ؟

قال : هتفوا بذکر علیّ فخاف - أی أبا بکر - من اضطراب الأمر علیهم فنهاهم »(1) .

وعادت الزهراء علیها السلام تذکّر الأنصار بالعهد وبیعة العقبة :

« وَأَنْتُمْ . . .

وَالنُّجْبَةُ الَّتِی انْتُخِبَتْ ، وَالْخِیَرَةُ الَّتِی اخْتِیرَتْ لَنا أَهْلَ الْبَیْتِ . قَاتَلْتُمُ الْعَرَبَ ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْکَدَّ وَالتَّعَبَ ،

وَنَاطَحْتُمُ الْاُمَمَ ، وَکَافَحْتُمُ الْبُهَمَ ، فَلَا نَبْرَحُ أَوْ تَبْرَحُونَ ، نَأْمُرُکُمْ فَتَأْتَمِرُونَ ، حَتّی إِذَا دَارَتْ بِنَا رَحَی الْإِسْلَامِ ، وَدَرَّ حَلَبُ الْأَیَّامِ ، وَخَضَعَتْ ثُغرَةُ الشِّرْکِ ، وَسَکَنَتْ فَوْرَةُ الْإِفْکِ ، وَخَمَدَتْ نِیرَانُ الْکُفْرِ ، وَهَدَأَتْ دَعْوَةُ الْهَرَجِ ، وَاسْتَوْسَقَ نِظَامُ الدِّینِ ، فَأَنّی حِزْتُمْ بَعْدَ الْبَیَانِ ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الاِْعْلَانِ ، وَنَکَصْتُمْ بَعْدَ الاِْقْدَامِ ، وَأَشْرَکْتُمْ بِعْدَ الْاِیْمَانِ ؟ بُؤْساً لِقَوْمٍ نَکَثُوا أَیْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ » .

فتری الإشارة الصریحة إلی العهد والأیمان الذی کانوا قد أعطوه لرسول اللّه صلی الله علیه و آله .

ثمّ حثّتهم علی الإقدام ومکافحة ومقاتلة أصحاب السقیفة ، بقولها فی خطبتها نفسها مع الأنصار :

« . . . أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ أَلَا وَقَدْ

ص:276


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 215 .

أَری أَنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إِلَی الْخَفْضِ ، وَأَبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ ، وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ ، وَنَجَوْتُمْ مِنَ الضِّیْقِ بِالسِّعَةِ ، فَمَجَجْتُمْ ما وَعِیتُمْ ، وَدَسَعْتُمُ الَّذِی تَسَوَّغْتُمْ ، فإن تَکْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ) » .

ص:277

ص:278

المقالة الخامسة : مقام ولایتها وافتراض طاعتها علی جمیع الخلائق حتّی الأنبیاء

اشارة

قد روی ابن جریر الطبری فی « دلائل الإمامة » بسند معتبر إلی أبی بصیر ، قال :

سألت أبا جعفر محمّد بن علیّ عن مصحف فاطمة فقال علیه السلام :

« أنزل علیها بعد موت أبیها . . .

ولقد کانت علیها السلام مفروضة الطاعة علی جمیع من خلق اللّه من الجنّ والإنس والطیر والوحش والأنبیاء و الملائکة . . . » الحدیث(1) .

وبیان هذا المقام یمکن تصویره وبیانه بعدّة وجوه قرآنیّة وروائیّة :

الوجه الأوّل : بمعرفة الأنوار الخمسة استُخلف آدم

اشارة

من سورة البقرة الآیات التی أشارت إلی استخلاف آدم ، بعد أن عُلّم علم الأسماء الجامع ، وتأهّل بذلک لمنصب الخلافة ، وصار علمه بها شاهداً علی أهلیّته فی قبال تساؤل الملائکة عن عدم أهلیّته ، وتبیان الآیات أنّ تلک الأسماء أو المسمّیات حیّة شاعرة عاقلة ، وموجودة فی غیب السماوات و الأرض وملکوتها ، أی فی ملکوت غائب عن إدراک أهل السماوات و الأرض .

ومن ذلک یظهر أنّ استحقاق آدم للخلافة کان بشرف تلک الأسماء ، حیث قال تعالی : وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِیها

ص:279


1- (1) دلائل الإمامة لابن جریر الطبری : 27 .

مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَ نُقَدِّسُ لَکَ قالَ إِنِّی أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ* قالُوا سُبْحانَکَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّکَ أَنْتَ الْعَلِیمُ الْحَکِیمُ* قالَ یا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ غَیْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ* وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ أَبی وَ اسْتَکْبَرَ وَ کانَ مِنَ الْکافِرِینَ (1) ، حیث إنّ الضمیر الراجع إلی الأسماء أو المسمّیات قد عُبّر عنه بضمیر الحیّ الشاعر العاقل ، لا الجامد غیر العاقل ، فی ثلاث مرات فی هذه الآیات .

وکذلک اسم الإشارة حیث اشیر إلیها ب « هؤلاء » وهو للجمع الحیّ الشاعر العاقل .

فبیّن تعالی أهلیّة آدم واستحقاقه للخلافة ، بفضل وشرف علمه بهذه الأسماء والموجودات الحیّة الشاعرة ، التی فی غیب السماوات و الأرض .

فمن الواضح أنّ هذه الموجودات هی أعلی مقاماً من آدم نفسه ، وبشرفها قد شُرّف آدم وبفضلها قد فُضّل علی الملائکة ، ومن ثمّ استحقّ طاعة وانقیاد الملائکة له .

من هنا فهذه الأسماء تستحقّ علی آدم طاعته لها ، وقد رُوی من نصوص الفریقین أنّ من تلک الأسماء سیّد الأنبیاء . . . .

فقد روی الحاکم فی « المستدرک » عن عمر قال : « . . . قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

لمّا اقترف آدم الخطیئة قال : یا ربّ ، أسألک بحقّ محمّد لما غفرت لی .

فقال اللّه : یا آدم ، وکیف عرفت محمّد ولم أخلقه .

ص:280


1- (1) البقرة : 30 - 34 .

قال : یا ربّ ، لأنّک لما خلقتنی بیدک ، ونفخت فیّ من روحک ، رفعت رأسی ،

فرأیت علی قوائم العرش مکتوباً : لا إله إلّااللّه محمّد رسول اللّه ، فعلمت أنّک لم تضف إلی إسمک إلّاأحبّ الخلق إلیک . فقال : صدقت یا آدم إنّه لأحبّ الخلق إلیّ ادعنی بحقّه فقد غفرتُ لک ، ولولا محمّد ما خلقتک »(1) .

و أخرج الحاکم الحسکانی فی « شواهد التنزیل » عن ابن عبّاس قال : « سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن الکلمات التی تلقّاها آدم من ربّه فتاب علیه .

قال :

سأل بحقّ محمّد وعلی وفاطمة والحسن والحسین إلّاتبتَ علیّ ، فتاب علیه »(2) .

و أخرج السیوطی فی « الدرّ المنثور » عن علیّ علیه السلام أنّه ذکر أنّ اللّه عزّ وجلّ علّم آدم الکلمات التی تاب بها علیه وهی :

« اللّهمّ إنّی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانک لا إله إلّاأنت عملت سوءاً ، وظلمت نفسی ، فاغفر لی إنّک أنت الغفور الرحیم .

اللّهمّ إنّی أسألک بحقّ محمّد وآل محمّد سبحانک یا لا إله إلّاأنت عملت سوءاً وظلمت نفسی وتب علیّ إنّک أنت التوّاب الرحیم ، فهؤلاء الکلمات التی تلقّی آدم »(3) .

لا سیّما وأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله هو سیّد الخلائق من الجنّ والإنس و الملائکة والأرواح والأنوار ، وکلّ ما خلق اللّه ، کما تدلّ علی ذلک الآیات الکثیرة ، ولا ریب أن یکون هو صلی الله علیه و آله أبرز هذه الأسماء والمسمّیات ، لا ببدنه الشریف وروحه ونفسه الجزئیة المتعلّقة ببدنه ، بل بنوره الذی هو أوّل ما خلق اللّه ، کما ورد عنه صلی الله علیه و آله

: « أوّل ما خلق

ص:281


1- (1) المستدرک للحاکم النیسابوری : 2 : 615 .
2- (2) شواهد التنزیل للحاکم الحسکانی : 1 : 101 .
3- (3) الدرّ المنثور للسیوطی : 1 : 60 .

اللّه نور نبیّک یا جابر »(1) .

وورد عنه صلی الله علیه و آله :

« کنت نبیّاً وآدم بین الماء والطین »(2) .

ومن ثَمّ تبیّن أنّ هذه الموجودات الحیّة الشاعرة العاقلة هی من عالم الأنوار ، والذی هو غیب وملکوت باطن خفیّ عن عالم السماوات السبع کلّها ، ولأجل ذلک لم تکن الملائکة التی هی أهل السماوات علی علم ومعرفة بها .

وصریح هذه الآیات أنّ هذه الأنوار هی أنوار جماعة ولیست مقتصرة علی نور سیّد الأنبیاء .

سورة النور وأنوار أصحاب الکساء :

وقد أفصح فی سورة النور عن کون تعداد هذه الأنوار وأرکانها خمسة ،یتعاقب من بعدها أنوار متتابعة ، و ذلک فی قوله تعالی : اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکاةٍ فِیها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِی زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ کَأَنَّها کَوْکَبٌ دُرِّیٌّ یُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَکَةٍ زَیْتُونَةٍ لا شَرْقِیَّةٍ وَ لا غَرْبِیَّةٍ یَکادُ زَیْتُها یُضِیءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ

ص:282


1- (1) فقد ذکر صاحب العبقات فی الجزء 4 و 5 أنّهم رووا أنّه صلی الله علیه و آله قال : « کنت أنا وعلیّ بن أبی طالب نوراً بین یدی اللّه قبل أن یُخلق آدم بأربعة آلاف سنة ، ولمّا خلق اللّه آدم قُسّم ذلک النور جزءین فجزء أنا وجزء علیّ بن أبی طالب . . . » ، وذکر أسماء رواة هذا الحدیث من الصحابة وعدّتهم ثمانیة ، ومن التابعین وعدّتهم ثمانیة ، ومن العلماء والمحدّثین والحفّاظ الذین رووا هذا الحدیث فی مجامیعهم وعدّتهم واحد وأربعون بطرقهم المختلفة ، ومنهم أحمد بن حنبل فی « فضائل الصحابة » ، وابنه عبد اللّه ، وابن مردویه ، وأبو نعیم الأصبهانی ، وابن عبد البرّ القرطبی ، وابن المغازلی ، والخطیب الخوارزمی المکّی ، وابن عساکر الدمشقی ، والمحبّ الطبری ، وابن حجر العسقلانی ، وغیرهم .
2- (2) کشف الخفاء لإسماعیل بن محمّد العجلونی الجرّاحی : 1 : 311 ، وقریب منه ما رواه ابن الجوزی فی تذکرة الخواص : 46 .

نارٌ نُورٌ عَلی نُورٍ یَهْدِی اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ یَشاءُ وَ یَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ وَ اللّهُ بِکُلِّ شَیْ ءٍ عَلِیمٌ * فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ یُسَبِّحُ لَهُ فِیها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ * رِجالٌ لا تُلْهِیهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَیْعٌ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِیتاءِ الزَّکاةِ یَخافُونَ یَوْماً تَتَقَلَّبُ فِیهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ * لِیَجْزِیَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ یَزِیدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ یَرْزُقُ مَنْ یَشاءُ بِغَیْرِ حِسابٍ (1) .

حیث إنّ هذه الآیات تشیر إلی الخلقة النوریة ، وأنّ بدء خلقته تعالی النوریّة للأشیاء هی فی خمسة أنوار ، حیث إنّ التشبیه فی الآیات قد وقع بخمس أمور :

المشکاة ، والمصباح ، والزجاجة ، والشجرة ، والزیت ، ثمّ تتابع الآیات نُورٌ عَلی نُورٍ أی نور علی إثر نور ، أی هناک أنوار متعاقبة علی إثر بعضها البعض .

فعن أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجلّ : « اللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ کَمِشْکاةٍ فاطمة علیه السلام فِیها مِصْباحٌ الحسن ، اَلْمِصْباحُ فِی زُجاجَةٍ الحسین ، اَلزُّجاجَةُ کَأَنَّها کَوْکَبٌ دُرِّیٌّ فاطمة علیها السلام ، کوکب درّی بین نساء أهل الدنیا ، یُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَکَةٍ إبراهیم علیه السلام ، زَیْتُونَةٍ لا شَرْقِیَّةٍ وَ لا غَرْبِیَّةٍ لا یهودیّة ، ولا نصرانیّة ، یَکادُ زَیْتُها یُضِیءُ یکاد العلم یتفجّر منها ، وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلی نُورٍ إمام من بعد إمام ، یَهْدِی اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ یَشاءُ یهدی اللّه للأئمّة علیهم السلام من یشاء وَ یَضْرِبُ اللّهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ . . . » الحدیث(2) .

وروی قریب منه ابن المغازلی فی کتابه « مناقب علیّ بن أبی طالب »(3) .

ثم قوله تعالی فی الآیة الثانیة : فِی بُیُوتٍ... الآیة متعلّق بالنور ، أی أنّ

ص:283


1- (1) النور 35 - 38 .
2- (2) البرهان فی تفسیر القرآن للبحرانی : 5 : 386 ، ذیل الآیة .
3- (3) مناقب علیّ بن أبی طالب لابن المغازلی : 316 و 317 .

هذا النور فی بیوت .

وقد ورد فی روایات الفریقین أنّها بیوت الأنبیاء ، وأنّ من أفاضلها هو بیت علیّ وفاطمة(1) . ولا یخفی ما فیها من الدلالة علی أفضلیتهم علیهم السلام .

وکذلک قوله تعالی : رِجالٌ... مرتبطة بلفظة فِی بُیُوتٍ ، فکلّ من لفظة مَثَلُ نُورِهِ ولفظة فِی بُیُوتٍ ولفظة رِجالٌ مرتبط بعضها بالبعض الآخر .

وهذه البیوت لا تخلو إمّا أن یکون المراد منها الطین والمدر ، أو أبدان أولئک الرجال ، وعلی کلا التقدیرین فتعظیم البیوت إنّما هو تعظیم لاُولئک الرجال ، فهم الذین أذِنَ اللّه تعالی أن یُرفعوا ویعظّموا ، وهم الذاکرون لإسمه ، والدائبون لذکره بالغدوّ والآصال ، وهم الذین لا تلهیهم قطّ تجارة ولا بیع عن ذکر اللّه ، وإقام الصلاة وإیتاء الزکاة ، والخوف والوجل من اللّه ، فهم فی خواطرهم ومیول أنفسهم عُصموا عن اللهو المباح ، واستغرقوا فی ذکر اللّه ، والتوجّه إلی حضرته ، فضلاً عن الذنوب والمعاصی .

ولا ریب أنّ سیّد الأنوار الخمسة هو نور سیّد الأنبیاء ، وقد أفصح فی الروایات أنّهم علیّ وفاطمة أیضاً ، کما أنّ العدد الخمسة قد عُثر فی روایات متواترة بین الفریقین أنّهم أصحاب الکساء ، وهم أهل آیة المباهلة ، وأهل آیة التطهیر .

وقد وُصف فی هذه الآیات أنّ نور هذه الأنوار الخمسة الذی هو نور مخلوق للّه تعالی ، أنّه نور لا تحویه السماوات و الأرض ، إذ هو مخرج للسماوات والأرض من الظلمة إلی النور ، فهو غیب عن السماوات و الأرض ، فیتطابق هذا المفاد مع ما مرّ فی سورة البقرة من أنّ الأسماء مستقرّة فی ملکوت الغیب عن السماوات و الأرض ، ویتمّ الإفصاح عن تلک الأسماء أنّها الأنوار الخمسة الحیّة الشاعرة

ص:284


1- (1) الدرّ المنثور للسیوطی ، ذیل سورة النور (فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ) .

العاقلة ، والتی تسبّح وتقدّس اللّه تعالی قبل الملائکة ، وقبل أهل السماوات و الأرض .

نبوّة الأنبیاء بإقرارهم بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام :

وهناک طائفة ثالثة من الآیات تعزّز ذلک المعنی ، وهی قوله تعالی : وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ (1) .

حیث تُبیّن الآیة الکریمة أنّ اللّه تعالی قد أخذ علی النبیّین عند إیتائهم الکتاب والحکمة میثاقاً وشرطاً ، وهو التعهّد بالإیمان بخاتم الرسل صلی الله علیه و آله ، والنصرة له ، أی أنّ الأنبیاء إنّما أوتوا النبوّة والکتاب والحکمة لإیمانهم والتزامهم بنبوّة وولایة سیّد الرسل ، و هذا الالتزام هو الذی أهّلهم وأوصلهم واستحقّوا به إعطاءهم وإیتاءهم الکتاب والحکمة . وقد أخذ علیهم نصرة سیّد الأنبیاء ، وهو یتمثّل نموذجاً فیما ورد من طرق الفریقین من صلاة النبیّ عیسی علیه السلام خلف الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف ونصرته له ، ویکون وزیراً له ، إذ نُصرة خلفاء الرسول صلی الله علیه و آله هی نصرة له(2) .

و هذا المفاد کما تری متطابق مع ما فی آیات استخلاف آدم ، من استحقاقه للخلافة وطاعة جمیع الملائکة ، حیث إنّه استحقّ الخلافة بمعرفة تلک الأسماء ، وشُرّف بها ، وقد اتّضح أن أبرزها نور سیّد الأنبیاء ، ومعه أنوار أصحاب الکساء .

ص:285


1- (1) آل عمران : 81 .
2- (2) الخصال - باب الستّة : 320 . کمال الدین : 251 ، وذکر تواتر الأخبار بذلک فی فتح الباری : 6 : 358 ، باب أحادیث الأنبیاء ، باب قول اللّه تعالی : (وَ اذْکُرْ فِی الْکِتابِ) . عون المعبود للعظیم آبادی : 11 : 308 ، باب خروج الدجّال . السیوطی فی الحاوی : 2 : 158 . الفصول المهمّة ابن الصباغ المالکی : 277 ، وقال : « أخرجه الدارقطنی » .
إمامة الأنبیاء بإقرارهم بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام :

وهناک طائفة رابعة أیضاً تشیر إلی نفس هذه الحقیقة ، وهی الکلمات التی تاب اللّه تعالی بها علی آدم ، وهی التی ابتلی وامتحن بها إبراهیم علیه السلام فی قوله تعالی :

فَتَلَقّی آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِماتٍ فَتابَ عَلَیْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِیمُ (1) .

وقوله تعالی : وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً الآیة(2) .

والکلمة قد أطلقت علی حُجج اللّه تعالی علی البشر کالنبیّ عیسی فی قوله تعالی لمریم علیها السلام علی لسان الملائکة : إِنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ (3) . وقوله تعالی : إِنَّمَا الْمَسِیحُ عِیسَی ابْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللّهِ وَ کَلِمَتُهُ (4) .

وقد نُعت النبیّ یحیی علیه السلام فی ضمن صفاته النبویّة أنه مصدّقاً بکلمة من اللّه أی بالنبیّ عیسی ، فی قوله تعالی : أَنَّ اللّهَ یُبَشِّرُکَ بِیَحْیی مُصَدِّقاً بِکَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ . . . (5) .

فکما یُنعت الأنبیاء بالإیمان فإنّه نُعت النبیّ یحیی بالتصدیق بالکلمة ، التی هی من اللّه تعالی ، ممّا یُعزِّز أنّ الأنبیاء یُؤخذ علیهم ویمتحنون بالتصدیق لبعضهم البعض ، کما جاء فی شأن مریم علیها السلام أیضاً فی قوله تعالی : وَ صَدَّقَتْ بِکَلِماتِ رَبِّها وَ کُتُبِهِ وَ کانَتْ مِنَ الْقانِتِینَ (6) أی برسل اللّه تعالی وحججه وخلفائه .

ص:286


1- (1) البقرة : 35 .
2- (2) البقرة : 124 .
3- (3) آل عمران : 45 .
4- (4) النساء : 171 .
5- (5) آل عمران : 39 .
6- (6) التحریم : 12 .

والکلمة التی تصدَّق هی الحجّة الناطقة عن اللّه تعالی ، فی قبال تکذیبها ، فالتصدیق والتکذیب إنّما هما وصفان للشیء الذی ینطق ویُخبر ، وذو مفاد خبریّ ، ومدّعی وادّعاء ، فیُصدَّق تارة ویکذَّب اخری ، فمن ثَمّ فهو وَصْفُ من ینطق عن اللّه تعالی ، أی حُجج اللّه وخلفائه فی أرضه .

کما مرّ فی سورة آل عمران فی قولهم عند المیثاق الذی أخذه اللّه علی النبیّ :

وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِیثاقَ النَّبِیِّینَ لَما آتَیْتُکُمْ مِنْ کِتابٍ وَ حِکْمَةٍ ثُمَّ جاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلی ذلِکُمْ إِصْرِی قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَکُمْ مِنَ الشّاهِدِینَ (1) .

فبیّنت الآیة الامتحانات والعهود التی یُکلّف بها الأنبیاء ویوثّقون بها الإیمان بسیّد وخاتم الرسل ، و هذا ما یُفصح عن الکلمات التی امتحن بها إبراهیم علیه السلام ، ومن ثَمّ تأهّل لمنصب الإمامة ، أنّ تلک الکلمات أوّلها سیّد الأنبیاء ثمّ أصحاب الکساء وأهل البیت علیهم السلام .

وهی التی تلقّاها آدم فتشفّع بها لتوبته عند اللّه تبارک وتعالی ، کیف لا وهی الأسماء التی تشرّف بها ، واستحقّ بمعرفتها مقام الخلافة الإلهیّة ، فتری أنّ المفاد متطابق فی هذه الآیات والمقامات ، من استخلاف آدم ، و جعل إبراهیم إماماً ، و أخذ المیثاق علی النبیّین فی إعطائهم النبوّة .

فقد ورد فی التفسیر المروی عن الإمام العسکری علیه السلام فی ذیل الآیة :

« قال اللّه . . .

لآدم - فتوسّل بمحمّد ، وعلیّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسین خصوصاً ، وادعنی أُجبک إلی ملتمسک ، وأزدک فوق مرادک .

فقال آدم : یا ربّ ، یا إلهی ، وقد بلغ عندک من محلّهم أنّک بالتوسّل بهم تقبل توبتی ، وتغفر خطیئتی ، و أنا الذی أسجدتَ له ملائکتک ، وأسکنته جنّتک ،

ص:287


1- (1) آل عمران : 81 .

زوّجته

حوّاء أمتک ، وأخدمته کرام ملائکتک .

قال اللّه تعالی : یا آدم ، إنّما أمرت الملائکة بتعظیمک بالسجود لک إذ کنت وعاءاً لهذه الأنوار ، ولو کنت سألتنی بهم قبل خطیئتک أن أعصمک منها ، و أن أفطّنک لدواعی عدوک إبلیس حتّی تحترز منها لکنت قد فعلت ذلک ، ولکنّ المعلوم فی سابق علمی یجری موافقاً لعلمی ، والآن فبهم فادعنی لاُجیبک »(1) .

وقد روی الطبرانی فی « المعجم الصغیر » بسنده عن عمر بن الخطّاب قال :

« قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله :

لمّا أذنب آدم الذنب الذی أذنبه ، رفع رأسه إلی العرش فقال :

أسألک بحقّ محمّد إلّاغفرت لی .

فأوحی اللّه إلیه : وما محمّد ، ومَن محمّد ؟

فقال : تبارک اسمک لمّا خلقتنی رفعت رأسی إلی عرشک فإذا فیه مکتوب : لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه ، فعلمت أنّه لیس أحد أعظم عندک قدراً ممّن جعلت اسمه مع اسمک .

فأوحی اللّه عزّ وجلّ إلیه : یا آدم ، إنّه آخر النبیّین من ذرّیّتک ، وأنّ امّته آخر الاُمم من ذرّیّتک ، ولولاه یا آدم ما خلقتک »(2) .

وقد روی الحاکم النیسابوری نظیر ألفاظ هذه الروایة ، وفی ذیله :

« فقال اللّه :

صدقت یا آدم إنّه لأحبّ الخلق إلیّ ، أُدعنی به بحقّه فقد غفرت لک ، ولولا محمّد ما خلقتک » ووصفه الحاکم بأنّه صحیح الأسناد(3) .

وغیرها من مصادر الفریقین .

فمن الواضح أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله هو أعظم وأتمّ تلک الکلمات ، مع أنّ الآیة تشیر إلی

ص:288


1- (1) تفسیر العسکری : 225 ، ذیل الآیة ، الحدیث 105 .
2- (2) المعجم الصغیر : 2 : 82 .
3- (3) المستدرک للحاکم : 2 : 615 .

أنّ الذی تلقّاه آدم هی کلمات - بصیغة الجمع - ولیست کلمة واحدة ، ممّا یعزّز أن توسّل آدم وتشفّعه کان بالنبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام الذین أُشرکوا معه فی آیة التطهیر ، وآیة المباهلة ، والعلم بالکتاب المبین ، الذی هو منزلة غیبیّة للقرآن ، کما یشیر إلیه قوله تعالی : لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (1) .

ووجه إطلاق الکلمة علی حُجج اللّه وخلفائه أنّ معنی لفظ « الکلمة » هو الشیء الدالّ علی أمر ، وقد أصدره فاعل مختار لتلک الکلمة الدالّة .

وبعبارة اخری : إنّ معانی الألفاظ إذا جُرّدت عن مصادیقها الحسّیة والمادّیة أی بأخذ الغایات وترک المبادئ فتتجرّد حینئذٍ الغایات عن المبادئ الحسّیّة ، ویُستخلَص معنی کلّی عامّ ، یتّسع إلی دوائر أوسع ، و هذا علی نظریة فی وضع الألفاظ فی علم الأدب واللغة « خُذْ الغایات واترک المبادی » ، کمنهج فی تحدید معانی الألفاظ؛ لأنّ حقیقة المعانی وذاتیّاتها هو من شأن العلوم الباحثة عن الحقائق ، لا من شأن علوم اللغة الباحثة عن مجرّد الاستعمال ، وعن مجرّد الرابطة الإجمالیّة بین اللفظ وإجمال المعنی .

فما یقال عنه کلمة عند أهل اللغة من « اللفظ الدالّ علی معنی » لیس مصداقاً حقیقیاً لمعنی الکلمة ، لأنّ دلالة ذلک الصوت علی المعنی لیست دلالة تکوینیّة ذاتیّة ، بل هی دلالة اعتباریة ناشئة من رابطة اعتباریة من عُلقة الوضع .

فلیس اللفظ المصوّت مصداقاً حقیقیاً لمعنی الکلمة ، إذ لولا الاعتبار لما کانت له دلالة .

وعلی ضوء ذلک فلا بدّ من البحث عن المصادیق الحقیقیّة لمعنی الکلمة .

کما أنّه یتبیّن أنّ ما جعلوه تفسیراً لمعنی الکلمة إنّما هو تفسیر بمصداق مجازی .

ومنه یتّضح أنّ صدق معنی الکلمة علی النبیّ عیسی علیه السلام واستعماله فیه هو

ص:289


1- (1) الواقعة : 97 .

استعمال للمعنی فی المصداق الحقیقی .

کما أنّ إسناد التکلّم والنطق إلی اللّه تعالی لیس علی حذو المصادیق المجازیة ، من تکلّمنا بألفاظ مصوّتة ، بل هو عبارة عن إیجاد اللّه وإبداعه ، ومن ثَمّ ورد عن الإمام الرضا علیه السلام :

« . . . وکان أوّل إبداعه وإرادته ومشیّته الحروف التی جعلها أصلاً لکل شیء ، ودلیلاً علی کلّ مدرک ، وفاصلاً لکلّ مشکل » الحدیث(1) .

ووجه صدق معنی الکلمة علی إیجاده تعالی والمبدَعات ، أنّ أوائل المخلوقات العظیمة ذات دلالة علی الصفات الإلهیّة ، حیث إنّها تُنبیء عن معانٍ خفیّة مضمرة عن الخلق ، فنطق اللّه تعالی إبداعه ، وإیجاده ، وخلقه الخلق .

فتحصّل : أنّ الکلمات التی تلقّاها آدم علیه السلام وامتُحن وابتُلی بها إبراهیم علیه السلام ، هی :

النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، کما روی ذلک الصدوق بسنده عن المفضّل بن عمر ، عن الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام قال : « سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : وَ إِذِ ابْتَلی إِبْراهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِماتٍ ما هذه الکلمات ؟

قال علیه السلام :

هی الکلمات التی تلقّاها آدم من ربّه فتاب علیه ، وهو أنّه قال : یا ربّ ،

أسألک بحقّ محمّد وعلیّ وفاطمة والحسن والحسین إلّاتبت علیّ ، فتاب اللّه علیه ،

إنّه هو التوّاب الرحیم .

فقلت : یابن رسول اللّه ، ما یعنی عزّ وجلّ بقوله : فَأَتَمَّهُنَّ ؟

قال :

یعنی فأتمّهنّ إلی القائم علیه السلام اثنی عشر إماماً ، تسعة من ولد الحسین . . . »الحدیث(2) .

وعلی ضوء ذلک فالمعنی العامّ للکلمة هو الشیء الدالّ علی مقصود المتکلّم ،

ص:290


1- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام للصدوق : 2 : 154 .
2- (2) الخصال : 304 ، الحدیث 48 ، ونظیره ما رواه العیاشی فی ذیل الآیتین عن الإمام علیّ علیه السلام .

والصادر منه ، وحیث إنّ دلالة الأصوات علی المعانی بالاعتبار والمواضعة فیما بین البشر فدلالتها علی المعنی ولیدة الاعتبار والافتراض .

فصدق المعنی العامّ للکلمة علی الأصوات هو بتوسّط الاعتبار ، لا بالحقیقة والتکوین ، بخلاف إطلاق الکلمة علی نبیّ اللّه عیسی علیه السلام ، فإنّ دلالة تولّد النبیّ عیسی علیه السلام من غیر أبٍ ، وإحیاءه للموتی بإذن اللّه تبارک وتعالی ، وخلقه من الطین کهیئة الطیر ، دالّ علی قدرة اللّه تعالی ، ودلالته تکوینیّة ولیست بتوسّط الاعتبار والافتراض .

ومنه یتّضح أنّ إطلاق الکلمات التامّات علی سیّد الأنبیاء وأهل بیته بلحاظ ذوات مراتبهم العلمیّة من الإطلاق الحقیقی ، والمصادیق الحقیقیّة .

ومن ذلک یظهر أنّ أعظم کلمات اللّه تعالی هم النبیّ صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام ، وأنّه هو وجه إطلاق الکلمات علیهم فی الآیات والروایات .

فأهل البیت علیهم السلام هم الکلمات التی یتشفّع ویتوسّل وینال بهم سائر الأنبیاء نبوّتهم ومقاماتهم الإلهیّة من الإمامة وغیرها ، فلا محالة یوجب ذلک أشرطیّة وأعظمیّة أصحاب الکساء ومنهم فاطمة علیها السلام علی سائر الأنبیاء ، و أن لأصحاب الکساء ولایة ، وافتراض طاعة علی سائر الأنبیاء ، فضلاً عن الملائکة وبقیّة الخلائق .

الوجه الثانی: علم فاطمة علیها السلام بالکتاب کلّه :

وقد بسطنا الکلام حول هذا الموضوع فی بحث الوراثة الاصطفائیّة وحاصله بما یرتبط بالمقام : أنّ القرآن الکریم قد أشار إلی مشارکة فاطمة علیها السلام وأصحاب الکساء للنبیّ صلی الله علیه و آله فی جملة من المقامات ، تبعاً للنبیّ صلی الله علیه و آله .

منها : الطهارة والعصمة ، کما فی آیة التطهیر ، والتی هی خاصّة بأصحاب الکساء.

ومنها : الحجّیة کما فی آیة المباهلة ، حیث احتجّ اللّه تعالی بأصحاب الکساء دون بقیّة الأمّة .

ص:291

ومنها : علمها بالکتاب المهیمن علی بقیّة الکتب السماویة ، کما فی قوله تعالی :

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِیلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ (1) ، فأثبت فی هذه الآیة علمهم بالکتاب المکنون المحض ، واللوح المحفوظ ، والقرآن فی منزله الغیبیّ العلمیّ ، والمطهّرون هم أهل آیة التطهیر من أصحاب الکساء ، وهو عنوان یغایر عنوان المتطهّرین ، بالتوبة والطهارة بالماء ، أی الذین تعلّقت الإرادة الإلهیّة بطهارتهم .

ویشیر إلی علمهم بالکتاب کلّه آیات اخری أیضاً : وَ ما کُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ کِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِیَمِینِکَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ (2) .

فبیّنت الآیة أنّ هناک ثُلّة من هذه الاُمّة یعلمون بجمیع الکتاب ، وجمیع الکتاب آیات بیّنات فی صدورهم ، فلیس بعضه محکم وبعضه متشابه عندهم ، بل کلّه بیّن .

وقد أشار قوله تعالی فی سورة النحل : وَ یَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِکَ شَهِیداً عَلی هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً وَ بُشْری لِلْمُسْلِمِینَ (3) إلی ذلک .

فبیّنت الآیة أنّ الکتاب تبیاناً لکلّ شیء ، کما بیّنت الآیة السابقة أنّ الکتاب کلّه بیّن واضح فی صدور تلک الثُلّة .

و هذا اللسان فی مفاد الآیات هو مفاد حدیث الثقلین ، بل إنّ کلّ آیة بمفردها متضمّنة لمفاد حدیث الثقلین ، حیث إنّها من جهة تبیّن إحاطة القرآن والکتاب بکلّ شیء ، ومرجعیّته لکلّ شیء ، ومن جهة اخری فهی تبیّن أیضاً مرجعیة هذه

ص:292


1- (1) الواقعة : 77 - 80 .
2- (2) العنکبوت : 48 و 49 .
3- (3) النحل : 89 .

الثُلّة المطهّرة من الاُمّة من أصحاب الکساء ، التی تحیط بالقرآن کلّه .

وکذلک قوله تعالی : هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْکَ الْکِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ (1) .

فإذا تقرّر أنّ أصحاب الکساء وأهل البیت علیهم السلام یحیطون علماً بالکتاب کلّه ، والقرآن أعظم من جمیع کتب بقیّة الأنبیاء ، ومهیمن علیها ، فلا محالة یتحصّل أنّ أصحاب هذا الکتاب المهیمن أعظم منزلة وهم مهیمنون علی سائر الأنبیاء ، فالهیمنة والعظمة لکلّ من القرآن وأصحابه علی کلّ من الکتب السابقة وأصحابها الأنبیاء السابقین .

وأمّا هیمنة القرآن ، فالقرآن هو الکتاب الذی وصف بکونه مُهیمناً فی قوله تعالی :

وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَیْمِناً عَلَیْهِ (2) .

بینما وُصف التوراة بأنّ فیه تفصیل جملة من الاُمور لا کلّها ، کما فی قوله تعالی :

وَ کَتَبْنا لَهُ فِی الْأَلْواحِ مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِیلاً لِکُلِّ شَیْ ءٍ (3) .

وکما وُصف الإنجیل أیضاً فی قوله تعالی علی لسان النبیّ عیسی علیه السلام : وَ لَمّا جاءَ عِیسی بِالْبَیِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُکُمْ بِالْحِکْمَةِ وَ لِأُبَیِّنَ لَکُمْ بَعْضَ الَّذِی تَخْتَلِفُونَ فِیهِ الآیة(4) فوُصف أنّه بیان لبعض ما یُختلف فیه ، لا تبیان لکلّ ما یُختلف فیه ، فضلاً عن کونه تبیاناً لکلّ شیء .

ومن ثَمّ کان القرآن مهیمناً علی کلّ الکتب السماویة السابقة نزولاً . فَمَن یحیط

ص:293


1- (1) آل عمران : 7 .
2- (2) المائدة : 48 .
3- (3) الأعراف : 145 .
4- (4) الزخرف : 63 .

علماً بالقرآن کلّه أعلی مقاماً وصلاحیة وحجّیة ، ممّن هو دون ذلک فی العلم ، کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی حکایة عن صاحب موسی علیه السلام : قالَ لَهُ مُوسی هَلْ أَتَّبِعُکَ عَلی أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قالَ إِنَّکَ لَنْ تَسْتَطِیعَ مَعِیَ صَبْراً * وَ کَیْفَ تَصْبِرُ عَلی ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (1) .

فالنبیّ موسی علیه السلام رغم کونه من أولی العزم إلّاأنّه کان قد أُوحی إلیه أن یتّبع الخضر علیه السلام فیما اختصّ به من علم التأویل والولایة ، رغم أنّ النبیّ موسی علیه السلام کان قد اختصّ دون مستوی العلم الذی اختصّ به الخضر ، وهو علم الشریعة .

و هذه الآیة تبیّن لنا أصلاً قرآنیاً واعتقادیّاً معرفیّاً ، وهو أنّ صاحب العلم الأکبر والأشرف والأعلی ، مفترض الطاعة ، وإمام متبوع وإن لم یکن نبیّاً ، علی من دونه فی العلم ، وإن کان نبیّاً مرسلاً من أولی العزم .

و هذا المفاد تُعزّزه آیات استخلاف آدم لعلمه الفائق علی علم الملائکة ، ومن ثَمّ فرض اللّه تعالی طاعة جمیع الملائکة لخلیفته ، بعد أن کان هو المعلّم ، وقد مرّ أنّ هذه الواقعة قد أشار إلیها القرآن فی سبع سور ، فکلّ هذه الآیات تبیّن وتکشف عن هذا الأصل المهمّ الخطیر .

فکذلک علم فاطمة علیها السلام ، فقد فاق بنصّ الآیات علم سائر الأنبیاء وجمیع الملائکة وسائر الخلق ، فلا محالة أن تکون طاعتها وولایتها مفروضة علیهم ، کما افتُرض طاعة آدم علی جمیع الملائکة لتفوّق علمه علیهم .

الوجه الثالث : مشارکتها علیها السلام لجمیع مقامات النبیّ صلی الله علیه و آله عدا النبوّة

وقد بسطنا الکلام حول هذا الموضوع فی المقالات السابقة .

وحاصله بما یرتبط بالمقام أنّ القرآن الکریم قد أشار إلی مشارکة فاطمة علیها السلام

ص:294


1- (1) الکهف : 66 - 68 .

وأصحاب الکساء للنبیّ صلی الله علیه و آله فی جملة المقامات التی یختصّ بها تبعاً له ، عدا النبوّة .

ومن هذه المقامات :

منها : الطهارة والعصمة ، کما فی آیة التطهیر ، والتی هی خاصّة بأصحاب الکساء .

ومنها : الحجّیة ، کما فی آیة المباهلة ، حیث احتجّ اللّه تعالی بأصحاب الکساء دون بقیّة الأمّة .

ومنها : العلم بالکتاب المبین والقرآن المجید ، کما فی سورة الواقعة فی قوله تعالی : لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (1) .

ومقتضی هذه المشارکة والاقتران أفضلیة أصحاب الکساء وأهل البیت علیهم السلام بتبع أفضلیة النبیّ صلی الله علیه و آله علی سائر الأنبیاء والمرسلین والأوصیاء والحجج ، إذ عصمة النبیّ صلی الله علیه و آله وطهارته وحجیّته وعلمه وفضائله لم یشارکه أحد من الأنبیاء بحسب نصوص القرآن الکریم .

الوجه الرابع :

ما تقدّم من وراثة فاطمة علیها السلام لمقامات النبیّ صلی الله علیه و آله ، وقد تقدّم ذکر الآیات والروایات التی دلّت علی هذه الوراثة ، ومقتضی هذه الوراثة ثبوت الصلاحیات الاصطفائیّة التکوینیّة والاعتباریّة التی ثبتت لسیّد الأنبیاء صلی الله علیه و آله وانتقلت لفاطمة علیها السلام ، إلّا ما هو مرتبط بخصائص النبوّة .

ومن هنا قد احتجّت علیها السلام فی مطالبتها لحقّها فی ولایة الفیء بوراثتها لذلک عن أبیها ، والتی هی وراثة اصطفائیة ووراثة عامّة ، فلاحظ ما تقدّم من ذلک .

وهذه الوراثة انتقلت منها إلی بنیها ، ومن ثمّ فضُلت هی علی بنیها المعصومین ،

ص:295


1- (1) الواقعة : 97 .

ولا تنتقل هذه الوراثة للنبیّ عیسی علیه السلام عند نزوله ، ولا للأنبیاء الذین یکون حظورهم وظهورهم عند ظهور الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف من ذرّیة فاطمة علیها السلام ، کإدریس وإلیاس والخضر ، بل هذه الوراثة خاصّة بولدها المهدی عجل الله فرجه الشریف.

فوراثة الأئمّة من ذرّیتها لرسول اللّه صلی الله علیه و آله لم تکن تتمّ لولا فاطمة علیها السلام ، ولعلّ ذلک هو معنی کونها الحجاب بین النبوّة والولایة ، لا سیّما وأنّ هذه الوراثة لیست وراثة اعتباریّة فحسب ، بل وراثة تکوینیّة غیبیّة ملکوتیّة فهی واسطة فی الفیض ، أی فیض جمیع کمالات المقامات المحمّدیة للأئمة المطهّرون علیهم السلام .

ولعلّ هذا هو تفسیر مصحف فاطمة ، أی أنّها علیها السلام فی لوائح الغیب الملکوتیّة روحها ونورها مصحف یفیض العلم والکمالات علی صحائف وکتب الأئمّة عن أرواحهم وأنوارهم ، هذا بحسب ما للمصحف من موقع غیبی ، لا بحسب تنزّله فی أوراق مرموقة .

کما أنّ هذا المعنی لعلّه تفسیر ما ورد من

« أنّها ارخیت دونها حجاب النبوّة »(1) .

وهو مفاد ما رواه الشیخ الطوسی فی غیبته من قول الحجّة عجل الله فرجه الشریف :

« وفی ابنة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لی اسوة حسنة »(2) .

کما هو مفاد ما اشتهر فی الألسن أخیراً نسبته إلی الإمام العسکریّ قوله :

« نحن حجج اللّه ، وفاطمة حجة اللّه علینا »(3) .

ویشیر إلی هذا المعنی موثقة عبد اللّه بن سنان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال : « قال أبو عبداللّه علیه السلام :

علی کلّ امرئ غنم أو اکتسب الخمس ممّا أصاب لفاطمة علیها السلام ، ولمن

ص:296


1- (1) إقبال الأعمال لابن طاووس فی زیارة الصدّیقة الکبری علیها السلام : 3 : 166 ، باب أعمال جمادی الآخرة .
2- (2) الغیبة للشیخ الطوسی : 286 .
3- (3) تفسیر أطیب البیان : 3 : 226 .

یلی أمرها من بعدها من ذرّیتها ( أو ورثتها ) الحُجج علی النّاس فذاک لهم خاصّة یضعونه حیث شاؤوا »(1) .

ومفاد الروایة ینبّه علی أنّ ولایة الفیء والأنفال إنّما ثبتت للأئمّة علیهم السلام وراثة من ولایة امّهم فاطمة علیها السلام لذلک ، وهو یقتضی تقدّمها علیهم فی الولایة .

الوجه الخامس : آیة (أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی

آیة (أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی. . .)(2)

حیث إنّ إیراد الآیة الکریمة عنوان لاُولی الأمر و ولایة الأمر کمنشأ للطاعة ولم تورد وصفاً آخر یفید أنّ المناط والمدار فی الطاعة ذلک ، والمراد بالأمر لیس الشأن السیاسیّ العامّ کما تُوهّم ، بل عالم الأمر والروح الأمری الذی أُشیر إلیه فی آیات لیلة القدر تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ (3) .

و حم * وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ * إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ إِنّا کُنّا مُنْذِرِینَ * فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ (4) .

وقوله تعالی : یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (5) .

وفی قوله تعالی : وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ وَ لکِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِی بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (6) .

ص:297


1- (1) وسائل الشیعة : 9 : 503 ، الباب 8 من أبواب ما یجب فیه الخمس ، باب أنّ الأئمّة یلون ولایتها فی الخمس ، الحدیث 8 .
2- (2) النساء : 59 .
3- (3) القدر : 4 .
4- (4) الدخان : 1 .
5- (5) الشوری : 52 .
6- (6) غافر : 15 .

وقوله تعالی : یُلْقِی الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (1) .

کما فی قوله أیضاً : إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ (2) .

وقوله تعالی : أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ (3) .

والروح الأمریّ هذا هو حقیقة القرآن الکریم کما قد فصّلنا ذلک فی الجزء الثانی من کتاب الإمامة الإلهیّة .

وقد أفصح القرآن عمّن هم أصحاب وأولیاء هذا الروح الذی هو الحقیقة الغیبیّة للقرآن ، کما یشیر إلیه قوله : حم* وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ* إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةٍ مُبارَکَةٍ (4) فربط بین الکتاب المبین الذی هو حقیقة غیبیّة للقرآن بما یتنزّل فی لیلة القدر من الروح الأمریّ .

کذلک الحال فی مفاد سورة القدر حیث ربط بین نزول القرآن والروح الأمریّ .

وفی قوله تعالی : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (5) قد أفصح عن أنّ أهل آیة التطهیر المطهّرون لا المتطهّرون هم الذین ینالون الکتاب الغیبی ، وبذلک یتمّ أنّ فاطمة علیها السلام صاحبة ذلک الأمر ، فهی ولیّة الأمر مفترضة الطاعة ، و هذا معنی أنّها لیلة القدر .

ثمّ إنّ طاعة أولی الأمر وهم أهل البیت علیهم السلام وهم قربی النبیّ ، وقد أفصح عن ولایتهم فی آیة الفیء ، فولایتهم علی الفیء هی تبع لولایة اللّه وولایة الرسول صلی الله علیه و آله علی الفیء .

ص:298


1- (1) یس : 82 .
2- (2) الأعراف : 54 .
3- (3) الدخان : 1 - 3 .
4- (4) النحل : 2 .
5- (5) الواقعة : 77 - 79 .

وکذلک فی آیة ولایة الخمس ، وفی آیة حصر الولایة فی قوله تعالی : إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ النازلة فی علیّ علیه السلام .

مع أنّ مفاد هذا الخطاب فی الآیات لا یتعرّض لحکم فرعی فی الشریعة ، بل یتعرّض إلی أصل أصیل فی دین الإسلام الذی بعثت به کافّة أنبیاء اللّه تعالی ورسله ، وهو غیر ما اختلفت فیه شرائعهم ، مع أنّ هذا الخطاب شامل للنبیّ عیسی وإلیاس وغیرهما ، الذین یظهرون عند ظهور الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف ، فتکون الولایة لذی القربی وأبرزهم فاطمة ، ومن ثمّ یصلّی عیسی علیه السلام خلف الإمام المهدی عجل الله فرجه الشریف، ویأتمّ به .

من هنا کانت علیها السلام شریکة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی المسؤولیّة والعناء والابتلاء فی مرحلة مکّة ، کما یشیر إلی ذلک تسمیته صلی الله علیه و آله باُمّ أبیها ، ولم تکن فی زوجاته صلی الله علیه و آله من تشاطره همومه وابتلاءاته غیر خدیجة علیها السلام ، وهکذا کانت ابنتها .

ونظیر ذلک شراکتها فی الموقف مع زوجها أمیر المؤمنین علیه السلام ، فإنّ التشریک فی المسؤولیّة کما فی واقعة المباهلة وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ لا یتمّ إلّامع خصوصیّة فی القابلیّة والشراکة فی الهموم لا تتحقق إلّامع علوّ المقام العقلی والروحی ، والمشارکة فی إدراک حقیقة الأهداف ، فترتبط المسانخة بالمقام العلمی وأهلیّة الصفات الروحی .

الوجه السادس :

ماورد من طریق الفریقین أنّ اللّه تعالی قد جعل صداق ومهر فاطمة علیها السلام فی زواجها بعلیّ علیه السلام الأرض ، أو خمس الأرض ، أو خمسة أنهر فی الأرض وما سقت من أراضی ، وهو کنایة عن ولایتها علی الأرض ، وهو یتطابق مع آیة الفیء ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی حیث إنّ

ص:299

الفیء هو ثروات الأرض(1) .

ولا یخفی أنّ هذا المقام لم یُعط لکثیر من الأنبیاء والرسل ، بل ظاهر سورة الکهف أنّه لم یعط لمثل النبیّ موسی وعیسی علیهما السلام ، کما أنّ هذا المقام لم یرثه عن خاتم النبیّین أحد من الأنبیاء بعده ممّن هم علی قید الحیاة ، و هذا یقضی بولایتها علیها السلام علیهم .

الوجه السابع :

ما ورد من اشتراط محبّتها فی عرض اشتراط محبّة علیّ والحسنین علیهم السلام لکونهم جمیعاً فی درجة واحدة مع النبیّ صلی الله علیه و آله فی الجنّة ، وقد روی ذلک الفریقان :

فقد روی أحمد بن حنبل فی « مسنده » وفی « فضائل الصحابة » ، والترمذی فی « صحیحه » ، والطبرانی فی « المعجم الکبیر والصغیر » ، وغیرهم من الحفّاظ بأسانیدهم عن علیّ علیه السلام أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أخذ بید الحسن والحسین قائلاً :

« من أحبّ هذین وأباهما واُمّهما کان معی فی درجتی یوم القیامة »(2) .

ولا یخفی أنّ هذه الروایات تشیر إلی مفاد آیة مودة ذوی القربی ، وأقرب القُربی إلی النبیّ صلی الله علیه و آله هی فاطمة علیها السلام ، بل إنّ سائر قربی النبیّ یتقرّبون إلی النبیّ بفاطمة

« لکلّ بنی امّ عصبة ینتمون إلیه ، وإنّ بنی فاطمة عصبتی » أو

« لکلّ بنی امّ عصبة إلّا ابنی فاطمة فأنا ولیّهما وعصبتهما »(3) .

ص:300


1- (1) فعن ابن عبّاس أنّه صلی الله علیه و آله قال : « یا علیّ ، إنّ اللّه عزّ وجلّ زوّجک فاطمة ، و جعل صداقها الأرض ، فمن مشی علیها مبغضاً لک مشی حراماً » . بحار الأنوار : 40 : 78 ، الحدیث 113 عن فردوس الأخبار للدیلمی ، وقریب منه القندوزی الحنفی فی ینابیع المودّة : 2 : 241 ، الحدیث 677 .
2- (2) انظر إحقاق الحقّ : 9 : 174 - 180 ، فقد ذکر عشرات المصادر فی ذلک .
3- (3) ابن حجر العسقلانی فی المطالب العالیة : 4 : 72 ط . الکویت . الحاکم النیشابوری » فی المستدرک : 3 : 164 . الهیثمی فی مجمع الزوائد : 4 : 224 . الطبرانی فی المعجم الکبیر : 22 : 422 . والمتّقی الهندی فی کنز العمّال : 12 : 114 ، الحدیث 34254 ، وغیرهم .

وقد حرّرنا فی مواضع عدیدة دلالة آیة المودّة علی الولایة لا المحبّة الدانیة کما قد یُتوهّم ، کیف وقد جُعلت أجراً للدین والرسالة بأجمعها ، أی عدلاً للدین بما له من توحید ونبوّة ومعاد ، فلا یمکن أن یکون ذلک حکماً فرعیاً فی تفاصیل الشریعة ، بل أصلاً اعتقادیاً یُقرن بالاُصول الاعتقادیّة المأخوذة فی دین الإسلام ، والذی قد عرفت أنّه دین موحّد بُعث به جمیع الأنبیاء والرسل ، غیر ما افترقت فیه فیما بینهم من الشرائع ، کما فی قوله تعالی : إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ (1)وقوله تعالی : لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً (2) .

وهذه الآیة الشریفة تبیّن أنّ ولایة ومحبّة ذوی قُربی النبیّ وهم : فاطمة وعلیّ والحسنین وذرّیتهم المطهّرین علیهم السلام قد أخذت علی جمیع الأنبیاء والرسل بعد ولایة اللّه وولایة الرسول ، لأنّ هذه الفریضة العظیمة - المودّة - من الدین لا من الشریعة .

وبذلک یتبیّن ولایة فاطمة علیها السلام علی جمیع الاُمم ومنهم سائر الأنبیاء والرسل الذین بعثوا بدین الإسلام ، بل محبّة فاطمة وولایتها أخذت علی جمیع الملائکة وسائر الخلق ، لأنّ دین الإسلام لا یختصّ بالجنّ والإنس بل یعمّ جمیع الملائکة وجمیع المخلوقات الاُخری ، کما یشیر إلیه قوله تعالی : وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (3) .

وبنفس هذا التقریب یُستدلّ بحدیث الکساء الذی تکرّر فی عدّة مشاهد للنبیّ صلی الله علیه و آله عند المباهلة ، وعند نزول آیة التطهیر ، وفی بیت امّ سلمة ، وعند الخروج

ص:301


1- (1) آل عمران: 19 .
2- (2) المائدة : 48 .
3- (3) آل عمران : 83 .

إلی خیبر ، أو وقعة الأحزاب ، وغیرها من المشاهد ، حیث فی ذیله قال صلی الله علیه و آله مشیراً إلی فاطمة وعلیّ والحسنین

« هؤلاء أهل بیتی وحامّتی وخاصّتی أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم ، ألا من آذی قرابتی فقد آذانی ، ومن آذانی فقد آذی اللّه»(1).

وقد روی هذا الحدیث بألفاظ عدیدة جدّاً عند الفریقین .

وهذه الحصانة الإلهیّة الخاصّة التی طوّق بها النبیّ صلی الله علیه و آله أصحاب الکساء ، والقدسیة الربّانیة الممتازة التی لم تدخل فیها أم سلمة ، ودخل فیها خصوص جبرئیل ، دالّة هی الاُخری علی شراکة أصحاب الکساء مع النبیّ صلی الله علیه و آله تبعاً له فی الولایة والحجّیة علی سائر الخلق ، حتّی سائر بقیّة الأنبیاء والرسل .

فشراکتهم للنبیّ صلی الله علیه و آله دالّة علی فوقیّتهم علی الأنبیاء والرسل .

ونظیر هذا الاستدلال لولایتها وفرض طاعتها علی الأنبیاء ما یمکن أن یقرّر من کونها کفؤاً لعلیّ علیه السلام ، وما ورد عن النبیّ صلی الله علیه و آله ما ساوی اللّه قطّ امرأة برجل إلّاما کان من تسویة اللّه فاطمة بعلیّ علیه السلام وإلحاقها ، وهی امرأة بأفضل رجال العالمین(2) .

فیبیّن الحدیث النبویّ أنّه کما أنّ علیّاً بمنزلة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وفاق بهذه الفضیلة الأنبیاء واُولی العزم ، بل افترضت طاعته علیهم ، کما حرّرناه فی کتاب « الإمامة الإلهیّة» بحسب نصوص روایات الفریقین ، فکذلک الحال فی فاطمة التی هی کفؤ له .

بل إنّ نفس حدیث النبیّ صلی الله علیه و آله الذی رواه الفریقان

« لولا علیّ لما کان لفاطمة کفؤ ،

آدم فمن دون »(3) دالّ علی تفضیل علیّ وفاطمة علیهما السلام علی بقیّة الأنبیاء من أولی

ص:302


1- (1) لاحظ ما جمعه السیّد المرعشی فی ملحقات إحقاق الحقّ : 9 : 160 - 174 ، فقد أخرجه عن العدید من مصادر الصحاح من أهل السنّة . وکذا لاحظ من : 145 - 159 من نفس المجلّد .
2- (2) بحار الأنوار للمجلسی : 37 : 49 ، عن تفسیر الإمام العسکری علیه السلام .
3- (3) ینابیع المودّة : 2 ، الحدیث 819 باختلاف یسیر . عیون أخبار الرضا علیه السلام : 2 : 203 ، الباب 21 ، الحدیث 3 . الخطیب الخوارزمی فی مقتل الحسین : 66 ، ط . الغری . العلّامة المناوی فی کنوز الدقائق : 133 ، ط . بولاق بمصر .

العزم ، فضلاً عن سائر المرسلین ، ویشیر إلی تفضیلها وعلیّ علی اولی العزم أیضاً ما رواه السیوطی وأخرجه عن جملة من الحفّاظ فی ذیل قوله تعالی : فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ یُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ الآیة ، أنّه قام رجل وسأل النبیّ صلی الله علیه و آله عن هذه البیوت ، أهی بیوت الأنبیاء ؟

فقال صلی الله علیه و آله :

نعم .

فقام أبو بکر وقال : یا رسول اللّه ، هذا البیت منها ؟ لبیت علیّ وفاطمة .

قال صلی الله علیه و آله :

نعم من أفاضلها (1) .

وممّا یشیر إلی تساوی مقامها مع علیّ علیه السلام ، ما ورد فی مفاخرتها لعلیّ :

« أنا البحر المسجور » ، وورد بعینه فی أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام وصفه أنّه البحر المسجور(2) .

وکذلک فی لیلة القدر ورد عن علیّ علیه السلام :

« أنا لیلة القدر »(3) ، کما ورد عن الصادق علیه السلام فی فاطمة علیها السلام أنّها :

« لیلة القدر »(4) .

ولکن لا یخفی أنّ هذا التساوی والکفئیة لا ینفی أنّ هناک جهات امتیاز لأمیر المؤمنین علیه السلام ، تشیر إلیها روایات اشتقاق النور ، من تقدّم نوره علی نورها علیها السلام .

ص:303


1- (1) الدرّ المنثور : ذیل الآیة 36 سورة النور .
2- (2) مشارق أنوار الیقین للحافظ البرسی : 261 . فضائل ابن شاذان : 82 .
3- (3) مشارق أنوار الیقین للحافظ البرسی : 261 .
4- (4) تفسیر فرات : 581 . بحار الأنوار : 43 : 65 ، الحدیث 58 .

ص:304

القسم الثانی : موقعیّة فاطمة الزهراء علیها السلام فی اصول الدین

اشارة

وفیه مقالات :

الاُولی : موقع فاطمة علیها السلام فی سلسلة الأنبیاء والأوصیاء

والحجج الإلهیّة

الثانیة : الزهراء علیها السلام وصیانة الإسلام عن التحریف

الثالثة : دور الزهراء علیها السلام فی العقیدة والبُنیة الاُولی للإسلام

الرابعة : فاطمة علیها السلام أحصنت فرجها فحرّم اللّه ذرّیتها علی النار

الخامسة : فاطمة علیها السلام حوراء إنسیّة

السادسة : ولایتها علیها السلام العامّة

ص:305

ص:306

المقدّمة :

موقعیّة فاطمة الزهراء علیها السلام فی اصول الدین

إنّ من یستقریء کتب علم الکلام لعلماء الإمامیّة یشاهد بوضوح الترکیز فیها علی أنّ إمامة أئمّة أهل البیت علیهم السلام هی من صمیم اصول الدین الإیمانیّة ، لکنّهم أجملوا الحدیث عن ولایة سیّدة النّساء فاطمة الزهراء علیها السلام ، واصطفائها فی طیّات حدیثهم عن أهل البیت علیهم السلام . مع أنّ الاعتقاد بإمامة الأئمّة الإثنی عشر وولایتهم مجرّداً عن الاعتقاد بولایة واصطفاء فاطمة علیها السلام غیر کاف فی أصل الإیمان .

فکما أنّ ولایة الأئمّة الإثنی عشر تأتی بعد ولایة اللّه ورسوله ولها دخل مشهود فی النجاة ، وفی صحّة العقیدة ، وقبول الأعمال ، فکذلک الحال فی ولایتها علیها السلام .

ولیس هذا الأمر بدعاً فی الشرائع السماویة ، بل عقیدة قد سنّها اللّه عزّ وجلّ فی الشرائع السابقة ، کما هو الحال فی شریعة عیسی علیه السلام ، حیث إنّ اصطفاء مریم علیها السلام وحجّیتها قد جعله اللّه تعالی وقرّره فی شریعته ، حیث قال اللّه تعالی علی لسان ملائکته : إِنَّ اللّهَ اصْطَفاکِ وَ طَهَّرَکِ وَ اصْطَفاکِ عَلی نِساءِ الْعالَمِینَ (1) .

وقال تعالی : وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْیَمَ وَ أُمَّهُ آیَةً (2) .

ص:307


1- (1) آل عمران : 42 .
2- (2) المؤمنون : 50 .

وقال تعالی : وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آیَةً لِلْعالَمِینَ (1) .

بل التصدیق والإیمان باصطفائها لیس ممّا یختصّ به أتباع شریعة عیسی علیه السلام ، بل تشمل حتّی کلّ من یعتنق الإسلام ، کما لاحظت فیما تقدّم من الآیات القرآنیّة .

موقعیّة عصمتها بین المعصومین علیهم السلام :

شرح حدیث :

« لولا علیّ لم یکن لفاطمة کفؤٌ ، آدم فما دونه »(2) .

قد یقال : إنّ حدیث الکفاءة بین علیّ والزهراء یفید عدم جواز أو إمکان قیمومة غیر المعصوم علی المعصومة ، بل وعدم جواز قیمومة من هو فی الدرجات الدنیا من العصمة علی من هو فی الدرجات العلیا من العصمة .

کما أنّه لا یخفی إشارة قوله تعالی : وَ کَفَّلَها زَکَرِیّا (3) علی المطلوب فی المقام .

وسیکون البحث من عدّة جهات :

الجهة الاُولی : فی أصل حجّیتها وولایتها .

الجهة الثانیة : أن مقام حجّیتها وولایتها من الشروط الأولیّة لصحّة تحقّق کمال الإیمان وتمامه .

الجهة الثالثة : أنّ لفاطمة علیها السلام جمیع مقامات الإمامة الملکوتیّة عدا بعض

ص:308


1- (1) الأنبیاء : 91 .
2- (2) بحار الأنوار : 100 : 259 ، باب 5 من أبواب النکاح ، الحدیث 1 و 101 : 206 ، أبواب الشهادات . تفسیر العسکری : 659 . الخصال : 414 ، باب التسعة ، الحدیث 3 . علل الشرائع : 178 . عیون أخبار الرضا علیه السلام : 2 : 203 . من لا یحضره الفقیه : 3 : 393 ، الحدیث 4382 .
3- (3) آل عمران : 37 .

الشؤون الاعتباریّة فی الرئاسة الدنیویّة .

الجهة الرابعة : کفؤیّتها ومساواتها لعلیّ علیه السلام .

مقامات الأنبیاء والحجج السابقین ضربه القرآن لأهل البیت علیهم السلام

إنّ ما استعرضه القرآن الکریم من أبعاد مختلفة ومتعدّدة لمقامات الأنبیاء والمصطفین من الحجج تحمل فی طیّاتها أبعاداً وحقائق متنوّعة .

منها : لزوم الاعتقاد بهم ، وإثبات تلک المقامات لهم ، والتصدیق بها ، لقوله تعالی : وَ الْمُؤْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِکَتِهِ وَ کُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ (1) .

ومنها : أنّهم عبرة لما لابدّ من الالتزام به من العقائد الحقّة لمقامات الحجج فی هذه الاُمّة . وهذه العبرة تمهّد الطریق للاعتقاد الحقّ علی مرحلتین ومقامین :

المقام الأوّل : إمکانیة هذه المقامات للمقرّبین من الخلق ، وعدم کون القول بها لهم هو من خرق القول ، ولا من الغلوّ ولا هو من التألیه بمکان ، بل هو من الإذعان لأهل الفضل بفضلهم .

و هذا المقام فی غایة الأهمیة والخطورة ، لأنّنا نجد أنّ هناک مقامات ذکرت للأولیاء المصطفَین فی الاُمم السابقة لیس لها تفسیرٌ عقائدیٌّ عند المذاهب الإسلامیة ، فهما من مختصّات مدرسة أهل البیت علیهم السلام ، کما فی مقام مریم علیها السلام واُمّ موسی ، وطالوت ، وذی القرنین ، والخضر ، ولقمان ، وآصف بن برخیا صاحب سلیمان ، وغیرهم .

فالاعتقاد بهذه المنازل والمقامات للحجج السابقین أمر لا بدّ منه بغضّ النظر عن کونهم عبرة ومَثَلاً للاعتقاد بهذه المقامات فی شأن أهل البیت علیهم السلام ، وتفسیر تلک

ص:309


1- (1) البقرة : 285 .

المقامات وتقریرها بأنّ هناک مراتب ومواقع فی سلسلة المنظومة العقائدیة لا تنحصر فی النبوّة والرسالة ، وأنّ تلک المقامات لیست مجرّد هبات لدنیّة وکرامات ، بل لها مؤدّی وموقعیة فی دائرة الحجج والاصطفاء والمناصب الإلهیّة ، المجعولة منه تعالی ، وأنّ تلک المقامات سُنن إلهیّة فی الدین الحنیف ومناهج وطرائق فی التشریع الإلهی .

المقام الثانی : کون هذه المقامات الثابتة للحجج السابقین بیان لتقرّر ثبوتها لأهل البیت علیهم السلام ، وأنّ ذکرها فیما مضی مَثَل ضربه اللّه تعالی لشؤون وأحوال أهل البیت علیهم السلام .

ص:310

تمهید : إنّ لفاطمة کلّ المقامات الملکوتیّة للإمامة عدا بعض الشؤون الاعتباریّة فی الرئاسة الدنیویّة

ممّا لا یخفی وجود مجموعة من المقامات الملکوتیّة لمنصب الإمامة ، والتی أشار إلیها القرآن الکریم فی مواضع عدیدة ، وأنّ هذه المقامات هی من شؤون الحجّیة والولایة لمنصب الإمامة .

ونلاحظ أنّ القرآن الکریم والأحادیث النبویّة المتواترة أو المستفیضة قد أثبتت جُلّها لسیّدة النّساء فاطمة الزهراء علیها السلام مجموعة من هذه المقامات ، ممّا یستلزم ثبوت الولایة والحجّیة لها علیها السلام بنفس المناط والسبب .

وإلیک جملة من تلک المقامات الملکوتیّة :

منها : مقام الشهادة علی الأعمال :

ولا یخفی أنّ هذا المقام من المقامات المقوّمة لماهیّة الإمامة الإلهیّة فی أبعادها التکوینیّة ، وقد ورد فی جملة من الآیات القرآنیّة بیان مقام هذه الشهادة لأهل البیت علیهم السلام کاُمّة مصطفاة من هذه الأمّة کما فی قوله تعالی : وَ یَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِکَ شَهِیداً عَلی هؤُلاءِ (1) وکما فی قوله تعالی :

ص:311


1- (1) النحل : 89 .

وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِیکُمْ إِبْراهِیمَ هُوَ سَمّاکُمُ الْمُسْلِمِینَ مِنْ قَبْلُ وَ فِی هذا لِیَکُونَ الرَّسُولُ شَهِیداً عَلَیْکُمْ وَ تَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ (1) .

فبیّن تعالی أنّ الشهداء الذین یکون الرسول صلی الله علیه و آله شهیداً علیهم هم من ذرّیة إبراهیم ، ومن ذرّیة إسماعیل أیضاً المسمّاة بالمسلمَینِ فی دعاء النبیّ إبراهیم وإسماعیل فی قوله تعالی : رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَیْنِ لَکَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَکَ . . . رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِکَ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُزَکِّیهِمْ إِنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ (2) .

وهو من رَحِم النبیّ صلی الله علیه و آله وقرباه ، وهو موضع لفظ « منهم » کما یشیر له قوله تعالی :

أَ فَمَنْ کانَ عَلی بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ یَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ (3) فتری أنّ ( الشاهد ) قد قُیّد بلفظ ( منه ) ، أی أنّه من رحم الرسول وقرباه ، کما ورد فی قوله صلی الله علیه و آله :

« علیّ منّی وأنا من علیّ »(4) .

وقد أشار القرآن الکریم إلی أنّ کتاب الأبرار وصحائف أعمالهم یشهده المقرّبون ، فی قوله تعالی : کَلاّ إِنَّ کِتابَ الْأَبْرارِ لَفِی عِلِّیِّینَ * وَ ما أَدْراکَ ما عِلِّیُّونَ * کِتابٌ مَرْقُومٌ * یَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (5) .

وقد أفصح عن هؤلاء ( المقرّبون ) فی سورة الدهر ( الإنسان ) حیث قال تعالی :

إِنَّ الْأَبْرارَ یَشْرَبُونَ مِنْ کَأْسٍ کانَ مِزاجُها کافُوراً * عَیْناً یَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ یُفَجِّرُونَها تَفْجِیراً * یُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ یَخافُونَ یَوْماً کانَ شَرُّهُ مُسْتَطِیراً * وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ

ص:312


1- (1) الحجّ : 78 .
2- (2) البقرة : 128 و 129 .
3- (3) هود : 17 .
4- (4) الأمالی للصدوق : 58 ، الحدیث 14 . الخصال : 496 ، الحدیث 5 . الأمالی للطوسی : 50 ، 271 . مناقب ابن شهرآشوب : 1 : 296 و 2 : 58 .
5- (5) المطفّفین : 18 - 21 .

مِسْکِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً فبیّن تعالی أنّ الأبرار یتلقّون ما یشربون من کأس ممزوج بما یأتی من عین الکافور ، وأنّ عین الکافور مصدرها عباد اللّه حیث یفجّرونها ویجرونها حیث شاؤوا من عندهم ، فهم یشرفون فی علوّ رتبتهم علی الأبرار وهم الذین یوفون بالنذر و یطعمون الطعام ، وهم : ( علیّ وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام ) الذین نزلت فیهم السورة .

فهذا تبیان من القرآن عن طاقم ومجموعة الشهداء الذین یؤازرون النبیّ صلی الله علیه و آله فی هذا المقام ، والنبیّ صلی الله علیه و آله هو سیّدهم فی هذا المقام .

ومن حساسیّة وعظمة مقام الشهادة ما اشیر إلیه فی قوله تعالی : یا أَیُّهَا النَّبِیُّ إِنّا أَرْسَلْناکَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِیراً (1) فبیّن تعالی أن مقام الشهادة علی الأعمال للنبیّ صلی الله علیه و آله مقدّم علی مقام کونه بشیراً ونذیراً ، أی أنّ إرسال اللّه تعالی للنبیّ صلی الله علیه و آله قبل أن یکون لإبلاغ کافّة الناس بالدین والرسالة وأنّه تعالی أرسله لمقام الولایة من الشهادة علی النفوس ، ورعایة سیر تکاملها .

وممّا یشیر أیضاً إلی ثبوت هذا المقام لفاطمة علیها السلام هو ثبوت أمرین دلّت علیهما الآیات العدیدة فی السور القرآنیّة :

الأوّل : هو تدوین وکتابة کلّ شیء فی الکتاب المبین ، وأنّه یُستطر فیه کلّ صغیر وکبیر من الاُمور والأشیاء التکوینیّة ، والتی منها أعمال العباد ، کما یشیر إلیه قوله تعالی : اِقْرَأْ کِتابَکَ کَفی بِنَفْسِکَ الْیَوْمَ عَلَیْکَ حَسِیباً (2) .

وقوله تعالی : وَ یَقُولُونَ یا وَیْلَتَنا ما لِهذَا الْکِتابِ لا یُغادِرُ صَغِیرَةً وَ لا کَبِیرَةً إِلاّ أَحْصاها (3) .

ص:313


1- (1) الأحزاب : 45 .
2- (2) الإسراء : 14 .
3- (3) الکهف : 49 .

وقوله تعالی : وَ کُلُّ شَیْ ءٍ فَعَلُوهُ فِی الزُّبُرِ*وَ کُلُّ صَغِیرٍ وَ کَبِیرٍ مُسْتَطَرٌ (1) .

وقوله تعالی : عالِمِ الْغَیْبِ لا یَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِی السَّماواتِ وَ لا فِی الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِکَ وَ لا أَکْبَرُ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ (2) .

الثانی : أنّ هذا الکتاب المبین ذو النشأة الغیبیّة یُحیط المطهّرون به علماً ، کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ* فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ* لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِیلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ* أَ فَبِهذَا الْحَدِیثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (3) .

فبیّنت الآیة أن اَلْمُطَهَّرُونَ لا یغیب عنهم شیء ممّا فی الکتاب ، والمطهّرون هم أهل البیت علیهم السلام کما فی قوله تعالی : إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً (4) ، وأهل البیت هم أصحاب الکساء الذین منهم فاطمة علیها السلام .

ولا یخفی الفرق بین ( المطهّرین ) و ( المتطهّرین ) من عموم الأمّة .

فیتبیّن من ذلک کلّه أنّها من الشاهدین علی الأعمال ، وقد مرّ أن ثبوت هذا المقام المنسوب للنبیّ صلی الله علیه و آله مقدّم شأناً وخطورة بنصّ القرآن علی مقام البشارة والنذارة فی النبوّة ، وهو من شؤون الإمامة علی الخلق حیث یُشرف صاحب مقام الشهادة علی سیر النفوس وتکاملها إلی الدرجات العالیة .

ویتفرّع علی مقام الشهادة مقام الشفاعة والحاکمیة فی یوم الدین ، فکما تفرّع علی مقام الشهادة للنبیّ صلی الله علیه و آله ثبوت المقام المحمود له وهو من أعظم المقامات ، إذ هو من ملک الآخرة ، والذی هو أعظم شأناً وخطباً من الملک الزائل القلیل فی

ص:314


1- (1) القمر : 52 .
2- (2) سبأ : 3 .
3- (3) الواقعة : 77 - 81 .
4- (4) الأحزاب : 33 .

الدنیا ، وهو مقام الشفاعة أیضاً ، فإنّ من یکون حاکماً عن اللّه تعالی فی یوم الدین ، ومتصرّفاً بأمر اللّه ، فإنّ الشفاعة هی أحد شُعب صلاحیّاته .

إذن : فالشفاعة الکبری عبارة اخری عن الحاکمیة العظیمة فی ذلک الیوم ، فعنوان الشفاعة من خواصّ الشؤون الذاتیة للحاکمیة .

فقد روی أنّ صداق فاطمة علیها السلام جُعل شفاعتها لأمة أبیها .

قال النسفی : « سألت فاطمة رضی الله عنها النبیّ صلی الله علیه و آله أن یکون صداقها شفاعةً لاُمّته یوم القیامة ، فإذا صارت علی الصراط طلبت صداقها »(1) .

وفی « تفسیر فرات الکوفی » بسنده عن أبی عبد اللّه جعفر بن محمّد علیه السلام فی حدیث :

« أنّها علیها السلام إذا صارت إلی باب الجنّة تلتفت فیقول اللّه : یا بنت حبیبی ،

ما التفاتک وقد أمرت بک إلی جنّتی ؟

فتقول : یا ربّ ، أحببت أن یُعرف قدری فی مثل هذا الیوم .

فیقول اللّه : یا بنت حبیبی ارجعی فانظری من کان فی قلبه حبّ لک أو لأحد من ذرّیتک خذی بیده فادخلیه الجنّة » .

قال أبو جعفر علیه السلام :

« و اللّه ، یا جابر ، إنّها ذلک الیوم لتلتقط شیعتها ومحبّیها کما یلتقط الطیر الحبّ الجیّد من الحبّ الردیء ، فإذا صار شیعتها معها عند باب الجنّة یُلقی اللّه فی قلوبهم أن یلتفتوا ، فإذا التفتوا فیقول اللّه عزّ وجلّ : یا أحبّائی ، ما التفاتکم وقد شفّعت فیکم فاطمة بنت حبیبی علیه السلام ؟

فیقولون : یا ربّ ، أحببنا أن یُعرف قدرنا فی مثل هذا الیوم .

فیقول اللّه : یا أحبّائی ، ارجعوا وانظروا مَن أحبّکم لحبّ فاطمة . انظروا مَن کساکم

ص:315


1- (1) أخبار الدول وآثار الاُول : 88 علی ما فی إحقاق الحقّ . تجهیز الجیش : 102 علی ما فی الإحقاق نقلاً عن معارج النبوّة السبعیات لأبی نصر : 87 علی ما فی الإحقاق .

لحبّ فاطمة علیها السلام . انظروا مَن سقاکم شربة فی حبّ فاطمة . انظروا مَن ردّ عنکم غیبة فی حبّ فاطمة ، خذوا بیده وأدخلوه الجنّة »(1) .

ونظیر دلالة مرتبة الشفاعة علی مرتبة الولایة فی الآخرة والذی هو باطن الولایة فی الدنیا ما ورد من فطمها لمحبّیها عن النار .

قال النبیّ صلی الله علیه و آله :

« ابنتی فاطمة حوراء آدمیّة لم تحض ولم تطمث ، وإنّما سمّاها فاطمة لأنّ اللّه فطمها ومحبّیها عن النّار »(2) .

ص:316


1- (1) تفسیر فرات الکوفی : 298 ، الحدیث 403 .
2- (2) وقد روی هذا الحدیث محبّ الدین الطبری فی ذخائر العقبی : 26 ، وأخرجه الخطیب البغدادی فی تاریخ بغداد : 12 : 328 . کنز العمّال : 12 : 109 ، الحدیث 34226 . فیض القدیر : 4 : 555 . ینابیع المودّة : 2 : 121 .

المقالة الاُولی : موقعیّة فاطمة علیها السلام فی سلسلة الأنبیاء والأوصیاء والحجج الإلهیّة

اشارة

إنّ الحدیث حول موقعیة فاطمة علیها السلام ضمن سلسلة الحجج الإلهیّة هو عبارة اخری عن الدور الإلهی الذی أُنیط بسیّدة النّساء علیها السلام فی ضمن هذه السلسلة الشریفة .

فهل کان دورها مجرّد دور فیزیولوجی ووساطة طبیعیة ، أی کواسطة للنبوّة وللنبیّ صلی الله علیه و آله أو کالأمومة للأئمة الأطهار علیهم السلام ، مثل دور آمنة بنت وهب رضی الله عنها مثلاً کوالدة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، أو أیّ امّ من امّهات الأنبیاء والأوصیاء ، کما قد یتصوّر البعض ؟

إنّ الذی یلحظ الآیات التی تتحدّث عنها وعن منزلتها ، والأحادیث المتواترة المرویة فی اصول علماء الإمامیّة أو أصحاب السنّة والجماعة ، والتی تشیر إلی منزلتها ومقامها وتقدیس النبیّ صلی الله علیه و آله لها ، وتفضیلها علی مریم علیها السلام بقوله صلی الله علیه و آله :

« أنت مریم الکبری » ، وجعلها ضمن النساء الأربع الکاملات ، وکلّ ذلک یوحی بوجود عنایة ومنزلة تفوق کثیراً تصوّر هذا البعض .

إذن : ما هو هذا الموقع المهمّ لها ضمن هذه السلسلة الشریفة ؟

وفی مقام الجواب نقول : إنّ الحدیث تارة یدور حول موقعها ضمن سلسلة الأوصیاء علیهم السلام واُخری یدور حول موقعها ضمن سلسلة الأنبیاء .

ص:317

فاطمة ضمن سلسلة الأوصیاء علیهم السلام :

مقدّمة : وقبل الخوض فی الأدلّة لا بدّ من تقدیم مقدّمة وهی : ما هو أصل دور الأوصیاء علیهم السلام فی دائرة الحجج الإلهیّة ؟

الأوصیاء هم حجج إلهیّة :

اشارة

ممّا لا شکّ فیه أنّ الهدف من الخلقة هو العبادة ، حیث کانت العبادة هی الغایة من الخلقة ، و هذا صریح القرآن یشهد بذلک حیث یقول تعالی : وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ (1) .

ولکن حیث إنّ عبادة اللّه تعالی لا تتمّ إلّابعد معرفته ، وحیث إنّ الخلق عاجز عن معرفته تعالی إلّابما عرّف به نفسه عن طریق رسله وأوصیائهم ، فکانوا هم الأدلّاء علی اللّه تعالی ، والمسلک إلی رضوانه ، فالرسول أو النبیّ أو الوصیّ هو الدلیل إلی معرفته سبحانه وتعالی لأصل عبادته وکیفیتها ، حیث لا یطاع اللّه تعالی إلّا من حیث أمر .

وعلیه فتکون منزلة الرسول أو النبیّ أو الوصیّ هی منزلة الحجّة الإلهیّة علی الخلق .

فالحجّة إذن : هو الدلیل إلی اللّه تعالی یُحذّر العباد وینذرهم ویهدیهم ویبشّرهم .

وهو المنصوص علیه من قبله تعالی بالخصوص .

و هذا الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام یوضّح موضع الحجّة الإلهیّة ویشرح دوره فی الخلق .

روی الکلینی عن علی بن إبراهیم ، عن أبیه ، عن العبّاس بن عمر الفقیمیّ ،

ص:318


1- (1) الذاریات : 56 .

عن هشام بن الحکم ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال للزندیق الذی سأله : من أین أثبت الأنبیاء والرسل ؟

قال علیه السلام :

إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالیاً عنّا وعن جمیع ما خلق ،

وکان ذلک الصانع حکیماً متعالیاً لم یجُز أن یشاهده خلقه ولا یلامسوه فیباشرهم ویباشروه ویحاجّهم ویحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء فی خلقه یعبّرون عنه إلی خلقه وعباده والناهون عن الحکیم العلیم فی خلقه والمعبّرون عنه جلّ وعزّ وهم الأنبیاء علیهم السلام وصفوته من خلقه ، حکماء مؤدَّبین بالحکمة ، مبعوثین بها ، غیر مشارکین للناس علی مشارکتهم لهم فی الخلق والترکیب فی شیء من أحوالهم ، مؤیّدین من عند الحکیم العلیم بالحکمة ، ثمّ ثبت ذلک فی کلّ دهر وزمان ممّا أتت به الرسل والأنبیاء من الدلائل والبراهین ، لکیلا تخلو أرض اللّه من حجّة یکون معه علم یدلّ علی صدق مقالته وجواز عدالته »(1) .

وفی مقام تفصیل الجواب نقول : إنّه یواجهنا صنفان أو أکثر من النصوص التی تتحدّث عن منزلتها ومقامها علیها السلام :

الصنف الأوّل : النصوص التی تتحدّث عن نوع من الوساطة العلمیّة لها بین اللّه تعالی وبین الأنبیاء والأوصیاء .

الصنف الثانی : النصوص التی تتحدّث عن اشتقاق أنوار هذه السلسلة بل أنوار الخلق جمیعاً من نورها .

وعلیه فلا بدّ أن نتحدّث عن عدّة نقاط مهمة :

النقطة الاُولی : الروایات التی تتحدّث عن هذه الوساطة ، وما هی حقیقة هذه الوساطة العلمیّة وما الحاجة إلیها ؟

ص:319


1- (1) الکافی : 1 : 168 ، من باب الاضطرار إلی الحجة ، الحدیث 1 .

النقطة الثانیة : الروایات التی تتحدّث عن اشتقاق الأنوار منها ، وما هی حقیقة عالم الأنوار ، وأین موقعه ضمن عالمنا الدنیویّ هذا .

أمّا النقطة الاُولی : یدور الحدیث حول الوساطة العلمیّة بینها وبین الأئمّة الأطهار علیهم السلام فهو یسوقنا بطبیعة الحال إلی الحدیث عن علم الإمام المعصوم علیه السلام ، وهو : ما هو مصدر هذا العلم هل هو القرآن الکریم والسنّة النبویّة ، فحسب أم شیء آخر ؟

الحقیقة أنّ هناک منابع ومصادر اخری لعلومهم بالإضافة إلی القرآن والسنّة النبویّة الشریفة أشار إلیها الأئمّة علیهم السلام أنفسهم ، ومن هذه المنابع ما یلی :

1 - مصحف فاطمة :

حیث إنّ المتتبّع لأحادیث أهل البیت علیهم السلام یجد فی حدیثهم تصریحاً أنّ هناک أکثر من مصدر لعلومهم ، وأنّ جملة غفیرة من الأحکام التی بیّنوها والمعارف التی نشروها مصدرها هو مصحف فاطمة علیها السلام ، و هذا یعطی دورها فی بیان المعارف والأحکام .

کما تشیر إلیه صحیحة أبی بصیر ، قال : « دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فقلت له :

جُعلت فداک ، إنّی أسألک عن مسألة ، ههنا أحد یسمع کلامی ؟

قال : فرفع أبو عبد اللّه علیه السلام ستراً بینه وبین بیت آخر فاطلع فیه ثمّ قال :

یا أبا محمّد ، سل عمّا بدا لک .

قال : قلت : جعلت فداک ، إنّ شیعتک یتحدّثون أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله علّم علیّاً علیه السلام باباً یُفتح له منه ألف باب ؟

قال : فقال :

یا أبا محمّد ، علّم رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیّاً علیه السلام ألف باب یُفتح من کلّ باب ألف باب .

قال : قلت : هذا و اللّه العلمُ .

ص:320

قال : فنکت ساعة فی الأرض ثمّ قال :

إنّه لعلمٌ وما هو بذاک .

قال : ثمّ قال :

یا أبا محمّد ، وإنّ عندنا الجامعة وما یدریهم ما الجامعة ؟

قال : قلت : جعلت فداک ، وما الجامعة ؟

قال :

صحیفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وإملائه من فلق فیه وخطّ علیّ بیمینه ، فیها کلّ حلال وحرام ، وکلّ شیء یحتاج الناس إلیه حتّی الأرض فی الخدش ، وضرب بیده إلیّ وقال :

تأذن لی یا أبا محمّد ؟

قال : قلت : جعلت فداک ، إنّما أنا لک فاصنع ما شئت .

قال : فغمزنی بیده وقال :

حتّی أرش هذا کأنّه مغضبٌ .

قال : قلت : هذا و اللّه العلم .

قال :

إنّه لعلمٌ ، ولیس بذاک .

ثمّ سکت ساعة ، ثمّ قال :

وإنّ عندنا الجفر وما یدریهم ما الجفر ؟

قال : قلت : وما الجفر ؟

قال :

وعاءٌ من أُدم فیه علم النبیّین والوصیّین وعلم العلماء الذین مضوا من بنی إسرائیل .

قال : قلت : إنّ هذا هو العلم .

قال :

إنّه لعلمٌ ، ولیس بذاک .

ثمّ سکت ساعة ثمّ قال :

وإنّ عندنا لمصحف فاطمة علیها السلام وما یدریهم ما مصحف فاطمة علیها السلام ؟

قال : قلت : وما مصحف فاطمة علیها السلام ؟

قال :

مصحف فیه مثل قرآنکم هذا ثلاث مرّات ، و اللّه ما فیه من قرآنکم حرف واحد .

ص:321

قال : قلتُ : هذا و اللّه العلمٌ .

قال :

إنّه لعلمٌ ، وما هو بذاک .

ثمّ سکت ساعة ثمّ قال :

إنّ عندنا علم ما کان وعلم ما هو کائن إلی أن تقوم الساعة .

قال : قلت : جعلت فداک ، هذا و اللّه هو العلمُ .

قال :

إنّه لعلمٌ ، ولیس بذاک .

قال : قلت : جعلت فداک ، فأیّ شیء العلم ؟

قال :

ما یحدث باللیل و النهار ، الأمر بعد الأمر ، والشیءُ بعد الشیء إلی یوم القیامة »(1) .

ومقتضی هذه الصحیفة فإنّ مصحف فاطمة یفوق علماً للألف باب التی علّمها رسول اللّه صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام ، والتی یفتح من کلّ باب ألف باب ، ویفوق فی العلم أیضاً الجامعة ، وهی الصحیفة التی طولها سبعون ذراعاً بإملاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله وخطّ علیّ علیه السلام ، حیث فیها کلّ حلال وحرام ، وکلّ شیء یحتاج الناس إلیه حتّی الأرش فی الخدش ، ویفوق علم الجفر الذی هو وعاء من أُدُم الذی فیه علم النبیّین والوصیین وعلم العلماء الذین مضوا من بنی إسرائیل .

وإن کان المصحف حسب الصحیحة دون الروح الأمریّ الذی یتنزّل علیهم لیلة القدر وفی کلّ یوم وفی کلّ ساعة ، و ذلک کلّه لأجل الترتیب الذی فی قوله علیه السلام فی کلّ مرتبة « لیس بذاک » ، أی لیس بتلک العظمة بالقیاس إلی ما سیذکره تالیاً ، ممّا یدلّ علی التفاضل فی المقیس إلیه ترتیباً ، لأنّه لم یکن فی صدد نفی الحصر کی یُستظهر بأن الترتیب للاستیعاب لا للتفاضل .

ص:322


1- (1) الکافی : 1 : 186 ، باب ذکر الصحیفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة علیها السلام ، الحدیث 1.
2 - فاطمة علیها السلام أمّ أبیها :

وممّا یشیر إلی حجّیة فاطمة علیها السلام وولایتها ، الکُنیة التی أطلقها الرسول صلی الله علیه و آله ، من أنّ فاطمة أمّ أبیها (1) ، حیث إنّ هذه الکنیة یمکن أن تُفسّر بأن حقیقتها حقیقة لیلة القدر ، کما مرّ الإشارة إلیه ، وما مرّ من أنّ علی معرفتها دارت القرون الاُولی ، فإن الاُمّ والاُمومة یُستعمل بمعنی الأصل ، فأمّ الشیء أصله .

وقد ذکر بعض الأعلام من المحقّقین أنّ المراد من کونها لیلة القدر هو أنّها النفس الکلّیة ، و هذا المعنی وإن لم ینسجم مع الروح الأمریّ الذی هو من عالم الملکوت وعالم الأمر ، والذی هو عماد المصدر الذی یتنزّل منه التقدیر لیلة القدر من القضاء ،

ص:323


1- (1) الکافی : 1 : 272 ، باب فیه ذکر الأرواح التی فی الأئمّة علیهم السلام ، الحدیث 3 .

إلّا أنه علی أیّ تقدیر مقتضاه ارتباط النفس الجزئیة والنفوس الجزئیة فی الأنبیاء بتلک النفس الکلیة ، واستمدادها الفیض من اللّه تبارک وتعالی عَبْرَها .

فمن ثَمّ یکون للنفس الکلیة أمومة للنفس الجزئیة .

هذا فضلاً عمّا لو فُسّرت بروح القدس الذی هو من عالم الأمر ، والذی هو الکتاب الذی علی معرفته دارت معارف الأنبیاء ، وانبعثت معارفهم ، فإنّ أمومة الکتاب حینئذٍ أوضح وأظهر أیضاً .

و هذا لا یتنافی مع کون سیّد الأنبیاء صلی الله علیه و آله له مقام الاُبوّة بلحاظ مقامه النوریّ حیث اشتقّ منه نور فاطمة علیها السلام .

نظیر ما ورد التعبیر من أنّ جبرئیل علّم النبیّ صلی الله علیه و آله ، أو أشار علیه ، أو أبلغه ، ونحو ذلک ما ورد فی ألفاظ الآیات والروایات من بیان ذلک ، مع أنّ مقام سیّد الأنبیاء أفضل وأعظم من مقام جبرئیل ، فإنّ المقام النوریّ لرسول اللّه صلی الله علیه و آله أعلی شأناً من مقام جبرئیل ، بل کما ورد فی الروایات أنّ جبرئیل منهم أهل البیت علیهم السلام ، ولکن ذلک لا یمنع استفاضة النفس الجزئیة لسیّد الأنبیاء من مقام جبرئیل .

وبعبارة اخری : أنّ الذات النبویّة ذاتُ مراتب ودرجات تبدأ من البدن الشریف ثمّ القوی النفسانیّة للنفس الجزئیّة ، ثمّ طبقات الروح من المراتب النازلة ، فتأخذ فی التصاعد إلی النفوس الکلّیة والأرواح المرسلة ، ثمّ عالم الأنوار ، وأحکام کلّ مرتبة تختلف عن المرتبة الاُخری .

وهذه القاعدة المعرفیة یُفکّ بها غوامض کثیرة من المسائل فی باب المعارف ، ویُحلّ بها عُقد مستعصیة فی کثیر من أحوالهم وشؤونهم .

ویشیر إلی ذلک ما رواه الکلینی فی الصحیح عن جابر الجعفی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث :

« . . . فالسابقون هم رسل اللّه علیهم السلام وخاصّة اللّه من خلقه جعل فیهم خمسة أرواح أیّدهم بروح القدس؛ فبه عرفوا الأشیاء و أیدهم بروح الإیمان؛ فبه خافوا

ص:324

اللّه عزّ وجلّ ، وأیّدهم بروح القوّة؛ فبه قدروا علی طاعة اللّه ، وأیّدهم بروح الشهوة؛ فبه اشتهوا طاعة اللّه عزّ وجلّ ، وکرهوا معصیته ، و جعل فیهم روح المدرج الذی به یذهب الناس ویجیئون . . . »(1) .

وفی روایة اخری لجابر عن أبی جعفر علیه السلام :

« إنّ فی الأنبیاء والأوصیاء خمسة أرواح : روح القدس ، وروح الإیمان ، وروح الحیاة ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ،

فبروح القدس - یا جابر - عرفوا ما تحت العرش إلی ما تحت الثری .

ثمّ قال :

یا جابر ، إنّ هذه الأربعة أرواح یصیبها الحدثان إلّاروح القدس فإنّها لا تلهو ولا تلعب »(2) .

وفی روایة اخری للمفضّل بن عمر ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام :

« . . . لا ینام ،

ولا یغفل ، ولا یلهو ، ولا یزهو ، والأربعة أرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو ، وروح القدس کان یری به »(3) .

وهذه الروایات وغیرها تدلّل علی اختلاف شؤونهم وأحوالهم بحسب طبقات أرواحهم ، وأنّ أحکامها وصفاتها تختلف من روح إلی اخری .

مضافاً إلی ما ورد مستفیضاً من سلسلة صدور أنوارهم ، ثمّ أرواحهم ، ثمّ نفوسهم ، ثمّ أبدانهم .

3 - فاطمة وازدیاد العلم للأنبیاء والأوصیاء :

ففی صحیحة زرارة قال : « سمعت أباجعفر علیه السلام یقول:

لولا أنّا نزداد لأنفدنا . . .»(4)الحدیث ، ومثله عدة صحاح .

ص:325


1- (1) قد روی ذلک فی جملة من مصادر الفریقین نذکرها لا علی سبیل الحصر :1 - الطبرانی فی المعجم الکبیر : 22 : 397 ، فی فصل ذکر سنی فاطمة علیها السلام .2 - ابن عبد البرّ فی الاستیعاب : 4 : 1899 .3 - الإصابة لابن حجر : 8 : 262 .4 - تاریخ مدینة دمشق لابن عساکر : 3 : 158 .5 - اسد الغابة لابن الأثیر : 5 : 520 .6 - أنساب الطالبیّین للمجدی : 128 .7 - درر السمط فی خبر السبط لابن الأبّار ( المتوفّی 658ه . ق ) : 77 .8 - التعدیل والجرح للباجی ( المتوفّی 474ه . ق ) : 1 : 1498 و 1499 .9 - تهذیب الکمال للمزّی : 35 : 247 .10 - سیر أعلام النبلاء : 2 : 119 .11 - الکاشف للذهبی : 514 .12 - مقاتل الطالبیّین لأبی الفرج فی ترجمة الإمام الحسن علیه السلام : 29 .13 - مناقب آل أبی طالب : 1 : 140 .14 - تاج الموالید للطبرسی : 20 .15 - الدعاء للطبرانی : 1 : 30 .
2- (2) الکافی : 1 : 272 ، باب فیه ذکر الأرواح التی فی الأئمّة علیهم السلام ، الحدیث 1 .
3- (3) الکافی : 1 : 272 ، باب فیه ذکر الأرواح التی فی الأئمّة علیهم السلام ، الحدیث 2 .
4- (4) الکافی : 1 : 255 ، باب لولا أنّ الأئمّة یزدادون لنفد ما عندهم ، الحدیث 3 .

وروی الکلینی أیضاً بإسناده عن أبی جعفر علیه السلام قال : « قال اللّه عزّ وجلّ فی لیلة القدر : فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ (1) ، یقول : ینزل فیها کلّ أمر حکیم ، والمحکم لیس بشیئین ، إنّما هو شیء واحد . . . إنّه لینزل فی لیلة القدر إلی ولیّ الأمر تفسیر الاُمور سنة سنة ، یُؤمر فیها فی أمر نفسه بکذا وکذا ، وفی أمر النّاس بکذا وکذا ، وإنّه لیحدث لولیّ الأمر سوی ذلک کلّ یوم علم اللّه عزّ وجلّ الخاصّ ، والمکنون العجیب المخزون ، مثل ما ینزل فی تلک اللیلة من الأمر ، ثمّ قرأ : وَ لَوْ أَنَّ ما فِی الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ یَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ کَلِماتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ (2) »(3) .

ولا یخفی أنّ الروح النازلة فی لیلة القدر مصدر لعلوم الأئمّة علیهم السلام قد اشیر إلیه فی ذیل صحیحة أبی بصیر ، وأنّه أعظم مصادر علومهم علیهم السلام ، کما تشیر صحیحة زرارة ، والروایة الأخیرة أنّه مصدر ازدیاد علوم أهل البیت علیهم السلام کلّ یوم وکلّ اسبوع ، وأنّ هذا المصدر هو الروح الأمریّ النازل فی لیلة القدر ، وفی کلّ لیلة و یوم ، وفی کلّ لیلة جمعة ، وقد أشارت بعض الآیات وجملة من الروایات إلی أنّ حقیقة ذلک الروح الأمریّ هو روح فاطمة علیها السلام ، فعلی ضوء ذلک یتبیّن أنّ وساطة فاطمة العلمیّة للأئمّة علیهم السلام لا ینحصر فی مصحفها کمصدر لعلومهم ، بل کذلک وساطة الروح الأمر فی لیلة القدر ، وفی کلّ لیلة و یوم ، وفی کلّ لیلة جمعة هو أیضاً روح فاطمة علیها السلام ، وهذه وساطة علمیة أعظم لمصدر علم الأئمّة علیهم السلام .

بل الملاحظ من روایات الفریقین أنّ هذه الوساطة لیس لأئمّة أهل البیت علیهم السلام فحسب ، بل هی لجمیع الأنبیاء من لدن آدم ، إذ لیلة القدر قناة غیبیّة کانت مع

ص:326


1- (1) الدخان : 4 .
2- (2) لقمان : 27 .
3- (3) الکافی : 1 : 248 ، باب فی شأن (إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ) ، الحدیث 3 .

الأنبیاء ، وهی مع أئمّة أهل البیت علیهم السلام بعد خاتم الأنبیاء ، وعلی ضوء ذلک فلفاطمة علیها السلام الحجّیة من بعد رتبة أبیها علی جمیع الأنبیاء ، ولها الولایة وحق الطاعة علیهم ، إذ کانت واسطة لفیض العلم علیهم .

ویشیر إلی معیّة الروح الأمری لجمیع الأنبیاء قوله تعالی : یُنَزِّلُ الْمَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاتَّقُونِ (1) ، وقوله تعالی : یُلْقِی الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِیُنْذِرَ یَوْمَ التَّلاقِ (2) ، فالآیتان تبیّنان أنّ إنزال الروح الأمریّ سُنّة دائمة للّه تعالی مع العباد الذین تعلّقت بهم مشیئة الاصطفاء الإلهیّ .

ویشیر إلی ذلک الروایات الواردة من الفریقین .

فقد روی الکلینی بسند معتبر عن أبی جعفر علیه السلام قوله :

« لقد خلق اللّه عزّ وجلّ ذکره لیلة القدر أوّل ما خلق الدنیا ، ولقد خلق فیها أوّل نبیّ یکون ، وأوّل وصیّ یکون ،

ولقد قضی أن یکون فی کلّ سنة لیلة یُهبط فیها تفسیر الاُمور إلی مثلها من السنة المقبلة ، من جَحَد ذلک فقد ردّ علی اللّه عزّ وجلّ علمه ، لأنّه لا یقوم الأنبیاء والرسل والمحدّثون إلّاأن تکون علیهم حجّة بما یأتیهم فی تلک اللیلة مع الحجّة التی یأتیهم بها جبرئیل . . .

وأیم اللّه لقد نزل الروح و الملائکة بالأمر فی لیلة القدر علی آدم .

وأیم اللّه ما مات آدم إلّاوله وصیّ ، وکلّ من بعد آدم من الأنبیاء قد أتاه الأمر فیها ،

ووضع لوصیّه من بعده .

وأیم اللّه إن کان النبیّ لیؤمر فیما یأتیه من الأمر فی تلک اللیلة من آدم

ص:327


1- (1) النحل : 3 .
2- (2) غافر : 15 .

إلی محمّد صلی الله علیه و آله أن أوصِ إلی فلان »(1) .

وروی الکلینی أیضاً فی موثقة فضیل بن یسار قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام فی حدیث :

« و إنّ العلم الذی نزل مع آدم لم یُرفع ، وما مات عالم فذهب علمه ، والعلم یُتوارث »(2) .

وروی نظیر هذا المعنی عدّة روایات فی نفس هذا الباب .

وقد روی النسائی عن أبی ذرّ حیث قال فی حدیث فضل لیلة القدر : « . . . قال :

یا رسول اللّه ، أتکون مع الأنبیاء ، فإذا ماتوا رُفعت ؟

قال :

بل هی باقیة »(3) .

وروی عبد الرزّاق الصنعانی فی « المصنّف » بسنده عن ابن عبّاس قال : « لیلة فی کلّ رمضان یأتی » .

قال : وحدّثنی یزید بن عبد اللّه بن الهاد أنّ رسول اللّه سُئل عن لیلة القدر فقیل له :

کانت مع النبیّین ثمّ رُفعت حین قُبضوا ؟ أو هی فی کلّ سنة ؟

قال :

بل هی فی کلّ سنة ، بل هی فی کلّ سنة(4) .

وروی عن ابن جریر ، قال : « حُدّثت أنّ شیخاً من أهل المدینة سأل أبا ذرّ بمنی فقال : رفعت لیلة القدر أم هی فی کلّ رمضان ؟

فقال أبو ذر : سألت رسول اللّه صلی الله علیه و آله فقلت : یا رسول اللّه ، رفعت لیلة القدر ؟

قال :

بل هی فی کلّ رمضان »(5) .

ص:328


1- (1) الکافی : 1 : 250 ، باب فی شأن إنّا أنزلناه فی لیلة القدر وتفسیرها ، الحدیث 7 .
2- (2) الکافی : 1 : 222 ، باب أنّ الأئمّة ورثة العلم یرث بعضهم بعضاً ، الحدیث 4 .
3- (3) فتح الباری : 4 : 227 ، کتاب تحرّی لیلة القدر .
4- (4) المصنّف لابن أبی شیبة : 4 : 225 ، الحدیث 7708 .
5- (5) المصنّف : 4 : 225 .

وروی ابن أبی شیبة الکوفیّ فی « المصنّف » فی باب لیلة القدر ، بسنده إلی ابن أبی مرثد ، عن أبیه ، قال : « کنت مع أبی ذرّ عند الجمرة الوسطی فسألته عن لیلة القدر ، فقال : کان أسأل الناس عنها رسول اللّه صلی الله علیه و سلم ، قلت : یا رسول اللّه ، لیلة القدر کانت تکون علی عهد الأنبیاء فإذا ذهبوا رفعت ؟

قال : لا ،

ولکن تکون إلی یوم القیامة »(1) .

فهذه الروایات من الفریقین تدلّ علی أنّ لیلة القدر کانت مع جمیع الأنبیاء ، وأنّها مصدر لعلومهم ، إذ یتنزّل فیها تقدیر کلّ شیء إلی العامّ القابل ، کما هو نصّ الآیات والروایات .

هذا من جانب ، ومن جانب آخر قد ورد فی الروایات أنّ هذا الروح الأمریّ الذی یتنزّل فی لیلة القدر هو أحد المراتب لروح فاطمة علیها السلام ، ومن ذلک یُستنتج کما قد صرّح به فی الروایات وساطة فاطمة علیها السلام لسائر الأنبیاء .

فقد روی الشیخ الطوسی بسنده(2) إلی أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال :

« إنّ اللّه تعالی أمهر فاطمة علیها السلام ربع الدنیا ، فربعها لها ، وأمهرها الجنّة والنّار ، تدخل أعداءها النّار ،

ص:329


1- (1) المصنّف لابن أبی شیبة : 2 : 394 ، الباب 341 ، الحدیث 5 .
2- (2) قد روی الشیخ الطوسی بسنده عن ابن أبی الحسین محمّد بن الحسین الکوفیّ - الجلیل عندأصحابنا فی الکوفة - قال : حدّثنا صفوان بن یحیی - وهو من أجمعت الطائفة علی جلالته - ، عن الحسین بن أبی غُندر ، وهو صاحب أصل یرویه عنه صفوان بن یحیی ، والطریق الذی ذکره الشیخ فی الفهرست إلی کتابه هو بعینه طریق هذه الروایة ، وللنجاشی طریق إلی ذلک الکتاب أیضاً ، عن صفوان عنه ، و هذا الطریق للنجاشی عن طریق أستاذه الشیخ المفید ، وهو أستاذ الشیخ الطوسی ، فیکون هذا الطریق للشیخ أیضاً ، عن استاذه ابن قولویه - عن إسحاق بن عمّار وأبی بصیر - فالروایة فی الاصطلاح هی روایتان وإنّما هو طریق یشترک إلی کلّ من إسحاق بن عمّار وإلی أبی بصیر ، وبعبارة اخری : إنّه طریقان للروایة .

وتُدخل أولیاءها الجنّة ، وهی الصدّیقة الکبری ، وعلی معرفتها دارت القرون الاُولی »(1) .

وروی فرات الکوفی فی تفسیره - وهو من أعلام الغیبة الصغری - قال : حدّثنا محمّد بن القاسم بن عُبید معنعناً عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « إِنّا أَنْزَلْناهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ اللیلة فاطمة ، والقدر اللّه ، فمن عرف فاطمة حقّ معرفتها فقد أدرک لیلة القدر ، وإنّما سُمّیت فاطمة لأنّ الخلق فطموا عن معرفتها .

وقوله : وَ ما أَدْراکَ ما لَیْلَةُ الْقَدْرِ*لَیْلَةُ الْقَدْرِ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ یعنی خیر من ألف مؤمن ، وهی امّ المؤمنین ، تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها والملائکة المؤمنون الذین یملکون علم آل محمّد صلی الله علیه و آله ، والروح القدس هی فاطمة علیها السلام بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ کُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِیَ حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ یعنی حتی یخرج القائم علیه السلام »(2) .

وروی شرف الدین الاسترابادی النجفی فی « تأویل الآیات الظاهرة » وهو متقدّم علی الشیخ المجلسی صاحب البحار ، وهو معاصر للمقدّس الأردبیلی ، قال فی ذیل سورة القدر : وروی أیضاً عن محمّد بن جمهور عن موسی بن بکر عن زرارة عن حمران قال : « سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عما یُعرف فی لیلة القدر ، هل هو ما یقدر اللّه فیها ؟

قال :

لا توصف قدرة اللّه إلّاأنّه قال : فِیها یُفْرَقُ کُلُّ أَمْرٍ حَکِیمٍ فکیف یکون حکیماً إلّاما فرق ؟ ولا توصف قدرة اللّه سبحانه لأنّه یُحدث ما یشاء .

وأمّا قوله : لَیْلَةُ الْقَدْرِ خَیْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ یعنی فاطمة علیها السلام .

وقوله : تَنَزَّلُ الْمَلائِکَةُ وَ الرُّوحُ فِیها و الملائکة فی هذا الموضع المؤمنون ،

ص:330


1- (1) الأمالی للطوسی : المجلس 36 ، الحدیث 6 ، ورواه ابن شهرآشوب فی المناقب : 3 : 128 ، فی عنوان تزویج فاطمة علیها السلام ، ولکنّه لم ینقل الذیل .
2- (2) تفسیر فرات الکوفی : 581 ، الحدیث 747 .

الذین یملکون علم آل محمّد ، والروح روح القدس وهو فی فاطمة . مِنْ کُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ یقول : من کلّ أمر مسلّمة حَتّی مَطْلَعِ الْفَجْرِ یعنی حتّی یقوم القائم علیه السلام »(1) .

فإذا تقرّر أنّ روح القدس أحد مراتب روحها فیظهر بوضوح وساطتها فیما یتنزّل لیلة القدر علی الأنبیاء ، آدم ومن بعده من الأنبیاء ، ومنه یظهر وساطتها فی فیض العلم الإلهیّ لهم .

ولعلّ هذا أحد معانی ما ورد عنهم علیهم السلام من تسمیته صلی الله علیه و آله لها بأنّها امّ أبیها ، ولا یتوهّم أنّ القول بذلک یقتضی أفضلیّتها أو ولایتها علی سیّد النبیّین ، وذلک لأنّ فی سیّد الأنبیاء لا تتأتّی هذه المفاضلة ولا الهیمنة فی الولایة إذ قد تقرّر فی الأدلّة أنّ نوره صلی الله علیه و آله اشتقّ منه نور علیّ ومن ثمّ اشتقّ منهما نور فاطمة ، والنور أعلی مرتبة وجودیّة من الروح الأمریّ ، وإنّما الروح الأمریّ وساطة فیض علمیّة فی العوالم النازلة علی الروح الجزئیّة ، کما هو الحال فی وساطة جبرئیل فی الوحی للروح الجزئیة لسیّد الأنبیاء ، فإنّه لا یستلزم أفضلیّة جبرئیل علی سیّد الأنبیاء ، بل الروح الأمریّ بالنسبة إلی خصوص سیّد الأنبیاء ما هو إلّاقطرة فی بحر محیط ذاتی ، ویشیر إلی ذلک قوله تعالی : وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ وَ لکِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِی بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (2) ، حیث قد اشیر فی سور عدیدة کما بیّن الإمام زین العابدین علیه السلام فی الصحیفة السجّادیّة إلی أسماء ومقامات النبیّ صلی الله علیه و آله ممّا هی أعلی مرتبة ومقاماً من الکتاب ، کما فی مثل یس * وَ الْقُرْآنِ الْحَکِیمِ و حم وَ الْکِتابِ الْمُبِینِ و طس وغیرها من مقطّعات الحروف التی قُرن الکتاب بها بعدها ، والسبق فی الذکر إشارة

ص:331


1- (1) تأویل الآیات الظاهرة فی فضائل العترة الطاهرة : 2 : 818 ، الحدیث 3 .
2- (2) الشوری : 52 .

إلی تقدّم فی شأن المقام .

هذا وقد تقرّر فی بیانات آیات وروایات عدیدة أنّ الروح الأمریّ وروح القدس هو حقیقة القرآن(1) ، کما قد أشارت سورة الواقعة إلی أنّ الکتاب المکنون یمسّه المطهّرون ، وهم أهل آیة التطهیر ، والمسّ یشیر إلی الإدراک والوصول ، ویقرّر مرتبة من الاتّحاد والعینیّة ، کما یشیر حدیث الثقلین إلی معیّة الکتاب والعترة ، وعدم افتراقهما ، وهما حبل اللّه الممدود ، أی ولیس حبلین ، ممّا یشیر إلی مرتبة فی الاتّحاد والوحدة فی المراتب العالیة .

کما یستفاد ذلک من قوله تعالی : یُلْقِی الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (2) ، بتقریب أنّ الإلقاء نحو من التأیید والتسدید والمعیّة ، وعنوان العترة وأهل البیت متضمّن لفاطمة علیها السلام ، ومن ثمّ أشرنا إلی أنّ أمره صلی الله علیه و آله إلی الحدیث المتواتر بالتمسّک بالثقلین الدالّ علی أنّه نوع ونمط حجّیة العترة کحجّیة الکتاب سنخاً من لزوم التمسّک بهما شامل لها علیها السلام ، إذ هی أساس فی العترة ، کما یشیر إلیه الحدیث القدسیّ حیث ابتدأ بها

« هی فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها »(3) .

وممّا ینّبه إلی أنّ هذا المقام لها علیها السلام أیضاً ، أنّ الکتاب المبین هو الإمام المبین ، کما تقرّر ذلک فی أبحاث اخری ، ویشیر إلیه قوله تعالی : وَ کُلَّ شَیْ ءٍ أَحْصَیْناهُ فِی إِمامٍ مُبِینٍ (4) ، مع قوله تعالی : لا یَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِی السَّماواتِ وَ لا فِی الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِکَ وَ لا أَکْبَرُ إِلاّ فِی کِتابٍ مُبِینٍ (5)

) ، فإذا کان ذلک مقام

ص:332


1- (1) لاحظ کتاب الإمامة الإلهیّة - الفصل السابع .
2- (2) غافر : 15 .
3- (3) بحار الأنوار : 9 : 112 ، الباب 1 و 9 : 218 ، الباب 1 ، الحدیث 97 و 16 : 363 ، الباب 11 ، الحدیث 65 .
4- (4) یس : 12 .
5- (5) یونس : 61 .

الإمام علیه السلام هو الکتاب المبین والمفروض کما قد مرّ وساطتها علیها السلام العلمیّة لأئمّة أهل البیت علیهم السلام فی مصحفها ، فکیف لا تکون واسطة لهم فی الروح الأمریّ ، وکما مرّ فی سیّد الأنبیاء لا یتوهّم أفضلیة فاطمة علیها السلام علی سیّد الأوصیاء .

إذا عرفت ذلک نقول : إنّ هذه المعارف والعلوم لیس لوجودها الکتبی کلّ الدور ، أعنی الحروف المکوّنة له ، ولا اللفظی أی الألفاظ المؤلّفة له ، ولا الذهنیّ أی صورته فی الذهن ، بل لوجودها الحقیقی ، ووجودها کذلک .

وبعبارة ثالثة : لیس لنفس الکتاب المکوّن من الصفحات والخطوط الدور الکبیر فی هذا النوع من المعارف والعلوم ، بل بلحاظ إیصال الحقائق النوریة لهذه المعارف إلی أرواحهم الطاهرة علیهم السلام .

و هذا النوع من المعارف لیس أمراً غریباً ، حیث إنّ نفس حقائق القرآن الکریم من هذا النوع ، فلاحظ أنت ماذا تعبّر الآیات الإلهیّة عن حقیقة القرآن الکریم ، فلاحظ قوله تعالی : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ (1) ، واُخری تعبّر عنه بالنور و ذلک فی قوله تعالی : و اَلنُّورَ الَّذِی أُنْزِلَ مَعَهُ (2) ، واُخری بالروح :

وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ وَ لکِنْ جَعَلْناهُ نُوراً (3) .

إذن هناک حقیقة لهذه العلوم والمعارف خلف هذا المخطوط ، نعم هذا المخطوط للقرآن الکریم یحکی تلک الحقائق بنوع من الحکایة .

وعلیه ، فلا یتبادر إلی الذهن أنّه بناءاً علی هذا فأین هو القرآن المقدّس عندنا ، وماذا نقرأ نحن ؟

ص:333


1- (1) الواقعة : 77 .
2- (2) الأعراف : 157 .
3- (3) الشوری : 52 .

فنقول : إنّ هذا القرآن المخطوط بین أیدینا هو یحکی تلک الحقیقة العُلْویّة الغیبیّة الحقیقیّة للقرآن الکریم ، ولیس منفصلاً عنها ، والمطلوب منّا هو قراءة هذا المخطوط والعمل به ، والاتّعاظ بآیاته ، والامتثال لأمره والانتهاء بنهیه ، ولکن الأمر الذی نرید إلفات النظر إلیه هو أنّه لیس هذا هو تمام حقیقة القرآن ، فلیتفت إلی ذلک .

کما هو الحال فی اسم الذات المقدّسة ( اللّه ) فهو یحکی بنوع عن الذات الإلهیّة المقدّسة ، ولکن لیس هو الذات المقدّسة بنفسها ، بل حقیقتها أمر آخر غیر هذا الإسم ، نعم هذا الإسم هو حاکی عنها ، وله قداسته وأثره ، ولذا لا یجوز مسّه بدون الطهارة ، وله حرمته فلا یجوز هتکها ، مع أنّه لیس هو الذات المقدسة .

ثمّ إنّ هناک عدّة إشکالات :

الإشکال الأوّل : وحاصله : إذا کان الأئمّة علیهم السلام یعلمون الکتاب ، وقد قال تعالی :

...وَ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ تِبْیاناً لِکُلِّ شَیْ ءٍ وَ هُدیً وَ رَحْمَةً وَ بُشْری لِلْمُسْلِمِینَ (1) .

وقال أیضاً : ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْ ءٍ (2) . فأیّ موقع وأهمّیة لمنابع هذه العلوم والمعارف والتی منها مصحف فاطمة علیها السلام ، بعد أن تکفّل القرآن الکریم بیان کلّ شیء تحتاجه البشریّة ؟

الجواب : إنّه من المسلّم أنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ، والظاهر قد یطّلع علیه العالِم العارف ولکن باطنه لیس کذلک .

وبعبارة اخری : إنّ هذه المنابع العلمیّة - والتی من ضمنها مصحف فاطمة علیها السلام - هی واسطة من باطن القرآن إلی أرواحهم الشریفة .

حیث إنّ الذی هو تبیان لکلّ شیء لیس هو ظاهر القرآن بل باطنه ، حیث یعبّر

ص:334


1- (1) النحل : 89 .
2- (2) الأنعام : 38 .

القرآن عن نفسه کِتابٍ مَکْنُونٍ*لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (1) وفی موضع آخر :

بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِیدٌ*فِی لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (2) وفی موضع ثالث فی مسألة المتشابه والمحکم فی القرآن هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْکَ الْکِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ . . . وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ فهو صریح بأنّه لا یعلم تأویله إلّاالراسخون ، أی إلّافئة خاصّة . ولا شکّ أنّ تأویله جزء من معارفه .

إذن : فمحلّ هذه العلوم - ومنها مصحف فاطمة علیها السلام - هو أنّها الواسطة بین الحقائق القرآنیّة الغیبیّة وبین النفوس الشریفة للأئمة علیهم السلام ، و هذا متطابق مع مقام لیلة القدر لها .

الإشکال الثانی : لا شکّ أنّ علیّاً علیه السلام کان إماماً لسیّدة النّساء علیها السلام ، وعلیه فکیف نتصوّر أنّها واسطة للإمام علیّ علیه السلام فی العلم ، ولو قُدّر لفاطمة علیها السلام أن تعیش إلی زمن إمامة ولدیها الإمامین الحسن والحسین علیهما السلام فنفس الکلام یأتی من توجیه وساطتها العلمیّة لإمام زمانها .

الجواب : أنّه مضافاً إلی أنّ نفس وفاتها قبل علیّ علیه السلام فیه من الأسرار والحکم ، الدالّة علی أنّها لا تکون مأمومة إلّاللنبیّ صلی الله علیه و آله وعلیّ علیه السلام ، حیث إنّها لم تکن مجرّد الإنسان المأموم تجاه إمامه کسائر المأمومین ، بل کان لها الدور الولائیّ زمن أبیها وبعلها ، کما سیأتی بیان ذلک فی بحث الفیء ، والخمس ، وفدک ، حیث کان لها دور فاعل فی إمامة النبیّ صلی الله علیه و آله وحکومته فی عهده ، فضلاً عن عهد علیّ علیه السلام .

وبعبارة اخری : أنّ لها شراکة تابعة فی حکومة النبیّ صلی الله علیه و آله وولایته ، کما أنّ لها شراکة کفئیّة من جوانب لعلیّ علیه السلام ، أی من بعض الجوانب .

ص:335


1- (1) الواقعة : 78 - 79 .
2- (2) البروج : 21 - 22 .

الإشکال الثالث : ألیست فاطمة علیها السلام تطیع وتُسلّم لأمر ربّها بإمامة الأئمّة من أولادها علیهم السلام وإن لم تحضر زمن إمامتهم ، فکیف تکون واسطة علمیّة لهم ؟

الجواب : أنّ تسلیمها بإمامة ولدها لا یعنی فوقیّة وأفضلیّة مقامهم علی مقامها ، کما هو الحال فی تسلیم النبیّ صلی الله علیه و آله بنبوّة الأنبیاء قبله ، فالإیمان والتسلیم بنبوّتهم لا یعنی علوّ مقام الأنبیاء علیهم السلام علی مقامه صلی الله علیه و آله ، والذی قد ثبت فی محلّه إجماع المسلمین علی علوّ منزلته ومقامه علی جمیع الأنبیاء ، بل علی الخلق أجمع .

واعلم أنّه لا ینحصر الأمر لدی الأئمّة علیهم السلام بظاهر تنزیل الکتاب ، وظاهر السنّة اللفظیّة ، بل هناک مصادر جمّة اخری لعلومهم ، مثل کتاب علیّ علیه السلام ، والجفر ، والجامعة ، والمصحف علیها السلام ، وروایات ازدیاد العلم ، وغیرها من المصادر الاُخری .

وبعد هذه المقدّمة التی عرفنا فیها أنّ الأوصیاء هم حجج إلهیّة علی الخلق ، والأدلّاء إلی الحقّ سبحانه وتعالی ، فنقول : فإذا کان أوصیاء النبیّ صلی الله علیه و آله وهم أهل البیت علیهم السلام حجج علی الخلق ، فإنّ امّهم فاطمة علیها السلام هی حجّة اللّه علیهم ، و هذا یُفسّر قول الإمام العسکریّ فیما نُسب إلیه علیه السلام :

« نحن حجّة اللّه علی الخلق وفاطمة علیها السلام حجّة اللّه علینا »(1) .

والحجّة هنا الظاهر أنّها بمعنی الوساطة العلمیّة بین اللّه تعالی وبین أهل البیت علیهم السلام ، حیث کون مصحفها المعروف بمصحف فاطمة علیها السلام أحد مصادر علومهم التی یعتمدون علیها .

وکذلک وساطتها فی لیلة القدر لجمیع الأنبیاء ، وأهل البیت علیهم السلام ، و هذا مصدر ثان وهو أعظم مصادر علوم أهل البیت علیهم السلام و هذا ما أشار إلیه الإمام جعفر الصادق علیه السلام فی صحیحة أبی بصیر ، فلا تنحصر وساطتها العلمیّة بالمصحف ، بل هناک وساطة أعظم ، وقد مرّت الإشارة إلی ذلک فی فصل وجوه ولایتها علی الخلق .

ص:336


1- (1) تفسیر أطیب البیان : 13 : 235 .

المقالة الثانیة : الزهراء علیها السلام وصیانة الإسلام عن التحریف

دور الأوصیاء علیهم السلام فی حفظ الشریعة عن التحریف :

اشارة

إنّ المسار الطبیعیّ للرسالات هو أنّها کانت تتعرّض دوماً لمجموعة من الانحرافات ، سواء فی صیاغة الرسالة الإلهیّة نفسها أو فی تفسیرها .

ومنهج الإسلام علی الضدّ من ذلک ، و ذلک للأسباب التالیة :

1 - الضمان الإلهی بسلامة القرآن من التحریف .

2 - وجود الحجج الإلهیّة والأوصیاء لضمان صیانة الشریعة من التعرّض للتحریف الفکریّ ، والتفسیر طبقاً للأهواء والأغراض السیاسیّة والشخصیّة .

و هذا الدور نلمسه واضحاً فی حیاة سیّدة النّساء علیها السلام ، حیث قامت بالتصدّی للتبدیل والانحراف الذی قام به رجال السقیفة بعد النبیّ صلی الله علیه و آله .

وهناک حقیقة لا یمکن لأیّ منصف أن یتجاوزها أو یتغافلها ، وهی المکانة المرموقة والاحترام الکبیر الذی تنطوی علیه قلوب المسلمین للزهراء علیها السلام ، فهی بضعة الرسول صلی الله علیه و آله ، وهی سیّدة النّساء ، قد سمعوا الأحادیث فی مدحها وفضلها ، وهذه الحقیقة تلحظها حتّی فی فترة متأخّرة ، حیث تجد أنّ الصحاح الستّة وغیرها من کتب الحدیث تجعل فصلاً خاصّاً تحت عنوان فضائل الزهراء علیها السلام ، ممّا یؤکّد هذا الأمر الذی نشیر إلیه .

ونحن نری أنّ هذا الموضوع قد صار بین الإفراط والتفریط ، فبین من اعتقد

ص:337

بوجود حُبّ واحترام من قبل صحابة النبیّ صلی الله علیه و آله للصدّیقة الطاهرة علیها السلام ، بحیث رتّب علی هذا الاحترام أثراً ، وهو استبعاد أن یصدر الأذی والإساءة من الصحابة تجاه الزهراء علیها السلام کما نقله التاریخ .

وبین من یعتقد أنّ الصحابة کانوا یکنّون العداء والبغض للزهراء علیها السلام کما هو واضح بخاصّة من یبغض بعلها أمیر المؤمنین علیه السلام .

ولکن الذی نرجّحه أنّ الدلائل والقرائن المتعدّدة تؤکّد أنّ للزهراء علیها السلام موقعیّة ونفوذ خاصّ لدی عامّة المسلمین ، ویشیر إلی ذلک عدّة مؤشّرات ، کما سنستعرضها .

رغم ذلک لم یمنع هذا من إقدام جماعة منهم علی المواجهة معها علیها السلام کی لا تقف سدّاً أمام مشروعهم المتواطأ علیه ، إذ التقدیر والاحترام والمودّة شیء ، والمصالح الشخصیّة والقبلیّة وتحکّم العادات الجاهلیّة شیء آخر .

فمثلاً ما ینقله ابن قتیبة من « أنّ أبا بکر تفقّد قوماً تخلّفوا عن بیعته عند علیّ ( کرّم اللّه وجهه ) فبعث إلیهم عمر فجاء فناداهم وهم فی دار علیّ فأبوا أن یخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذی نفس عمر بیده ، لتخرجن أو لأحرقنّها علی من فیها .

فقیل له : یا أبا حفص ، إنّ فیها فاطمة .

فقال : وإن »(1) .

وفی روایة ذکرها بسنده عن عبد اللّه بن حمزة أنّه أقبل بقبس من نار وهو یقول :

إن أبَوا أن یخرجوا فیبایعوا أحرقت علیهم البیت ، فقیل له : إنّ فی البیت فاطمة أفتحرقها ؟ ! »(2) .

ص:338


1- (1) الإمامة والسیاسة لابن قتیبة : 1 : 19 ، تحقیق الزینی .
2- (2) الشافی فی الإمامة لابن حمزة : 4 : 173 .

فتری أنّ السائل کان مع عمر وکأنّه کان یظنّ أنه جاء مهدّداً فقط ، لکن لمّا رأی أنّه جادّ فی الأمر استغرب من إمکان إقدام عمر علی اقتحام الدار وإحراقه وفی الدار فاطمة علیها السلام .

و هذا هو الدور البرزخیّ الذی تهیّأ لها بین حیاة أبیها وبعلها ، وهو دور متمّم لمسار النبوّة العقائدی ، قامت به بما لها من تلک الموقعیّة والمکانة فی الدین وعند المسلمین .

إذن فلها فی ذهن وعقول المسلمین مکانة یشار إلیها بالبنان ، ولا یمکن للمسلمین أن یتجاوزوها .

وبعد هذه المقدّمة نقول : إنّ الصدّیقة الطاهرة علیها السلام حاولت أن تستثمر هذا الموقع الاعتقادی فی ذهن المسلمین غایة الاستثمار لتصحیح مسار الإسلام ، ولتقوم بدورها ، ولعلّه یمکن أن یقال : إنّ أوّل من قام بهذا الدور سیّدة النّساء علیها السلام ، وحتّی قبل تحرّک الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام و ذلک للظروف الموضوعیة التی کانت تسمح لها أن تقوم بهذا الدور قبله علیه السلام .

وممّا یشیر إلی ذلک الدور وموقعیّة النفوذ لها ، المصادمات السیاسیّة التی قامت بها عند نشوء سلطة السقیفة ، ولسلب الشرعیّة عن مشروع السقیفة :

وسیأتی فی البحوث اللاحقة کیف شرّعت لمنهج وسنّة الإصلاح ، وما هو دورها فی العقیدة والبُنیة الاُولی فی الإسلام ، وکیفیّة استنهاضها الجهادی للأنصار جهاراً أمام جماعة سُلطة السقیفة ، وبیان مدی هیمنتها ونفوذها علی مقالید أمور الأمّة آنذاک .

إلّا أنّنا نذکر فی المقام جملة من النقاط الاُخری التی تنضمّ إلی ذلک لتعطی صورة واضحة عن منظومة الدور الذی قامت به ، کتتمیم لمسار وحرکة النبیّ صلی الله علیه و آله ، وإعداد خطّة لتحرّک ومسار الإمامة فیما بعد .

ص:339

ودورها هذا هو نظیر الدور الذی قامت به مریم علیها السلام حیث هیّأت عقول الناس وقلوبَهم لعقیدة جدیدة وهی مجیء رسالة وبعثة ولدها النبیّ عیسی علیه السلام ، فکما کانت مریم علیها السلام فاتحة عقیدة ودور إلهیّ جدید فکذلک کانت فاطمة علیها السلام ، فهی تؤصّل بناء أسس وبُنیة الإمامة فی طبیعة النشأة الاُولی للإسلام وترعرعه ، والبناء الأوّل للأمة الإسلامیّة ومسار المسلمین . فإنّ الزهراء علیها السلام بما لها من موقعیّة کبضعة للنبیّ صلی الله علیه و آله ، وما لها من حجّیة فی الدین عند الاُمّة حاولت أن تستثمر هذا الموقع الإلهی الاعتقادی عند الناس ، وتمارس دورها التصحیحی ، وهی أوّل مَن قام بهذا الدور قبل قیام الرجال ونهضتهم .

وإلیک نُبذة من المواقف والمصادمات السیاسیّة التی قامت بها علیها السلام :

1 - خطبتها علیها السلام الکبری فی المسجد

وهذه الخطبة خطبتها - کما یروی فی مقدّمتها - بعد أن بلغها أن أبا بکر قد طرد عاملها علی فدک ، وسیأتی کلام ابن أبی الحدید أنّ الأنصار أخذت تهتف باسم علیّ علیه السلام بعد خطبتها علیها السلام فی المسجد ، حتّی ارتجّ المکان واضطرب الأمر علی أبی بکر ، وخاف من ذلک .

والملاحظ فی الخطبة هذه أنّها کلّها أدلت بأدلّة من الآیات وأحادیث أبیها صلی الله علیه و آله لم یکن أبو بکر یجرؤ علی الاعتراض علیها .

وقد فصّلت فی خطبتها أرکان المعارف کجوامع علم ترجع إلیها الأمّة فی معارف الدین وفروعه .

2 - خطبتها علیها السلام الصغری مع نساء المهاجرین والأنصار

وقد کشفت فیها القناع عن تخاذل المهاجرین والأنصار عن الوفاء لعلیّ علیه السلام بالبیعة ، وعدم وفائهم لطاعة اللّه ورسوله فیما أمرهم بشأن علیّ علیه السلام ، وأنّ ذلک

ص:340

لنفرتهم من العدل ، وجهلهم بنعیم البرکات التی یعیشون فی کنفها لو وفوا لعلی علیه السلام بالبیعة .

3 - رثاؤها وبکاؤها علیها السلام

فهی حالة تندید واستنکار لما یجری من حولها ، سواء کان داخل البیت أم خارجه ، والملاحظ أنّ الأبیات المنسوبة إلیها فی رثاء أبیها صلی الله علیه و آله لم تکن تتناول موضوع فقده صلی الله علیه و آله فقط ، بل کانت تشکو فقده ، وسوء صنیع أصحابه معها ، و هذا ما تلحظه فی کلّ رثائها .

وإلیک بعض النماذج :

فمن رثائها :

قُلْ لِلْمُغَیَّبِ تَحْتَ أَطْباقِ الثَّری إِنْ کُنْتَ تَسْمَعُ صَرْخَتِی وَنِدائیا

صُبَّتْ عَلَیَّ مَصائِبٌ لَوْ أَنَّهاصُبَّتْ عَلَی الأَیّامِ صِرْنَ لَیالِیا

قَدْ کُنْتُ ذاتَ حِمیً بِظِلِّ مُحَمَّدٍلَا أَخْتَشِی ضَیْماً وَکانَ حِمیً لِیا

فَالیَوْمَ أَخشَعُ للذَّلیلِ وَأَتَّقِیضَیْمِی وَأَدْفَعُ ظالِمی بِرِدائِیا(1)

4 - صدّها علیها السلام للباب

ونری من الضروریّ التوقّف عند هذه النقطة ، حیث قد یثار حولها أنّ من المستبعد خروجها إلی الباب مع وجود الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام داخل الدار ، والأمر المتعارف أن یخرج الرجل إلی الباب عندما تطرق ، لا أن تخرج حرمه .

ولکنّ الظاهر أنّ الخروج کان بعد ندائهم للإمام علیه السلام بالخروج ، وتهدیدهم بحرق البیت .

ص:341


1- (1) مناقب آل أبی طالب : 1 : 208 .

فخروجها لم یکن لفتح الباب ، ولکن لردّهم وصدّهم عن ما قصدوا ، ومن الواضح الجلیّ أنّ بیت فاطمة کان یتمتّع بحرمة قد شیّدها القرآن الکریم لأهل البیت علیهم السلام ، وتعظیم وحثّ بالغ علی مودّتهم ، مضافاً إلی تعظیم النبیّ صلی الله علیه و آله لحرمة بیت فاطمة وعلیّ علیهما السلام ، حیث لم یکن یدخل هو نفسه صلی الله علیه و آله إلّابعد الاستئذان وطرق الباب(1) ، و یقول :

« إنّ اللّه قد أمره بذلک » .

وقد روی الفریقان أنّه صلی الله علیه و آله کان طیلة ستّة أشهر یأتی إلی دار فاطمة علیها السلام یطرق الباب عند صلاة کلّ غداة و یقول :

« السلام علیکم أهل البیت . . . »(2) .

مضافاً إلی ما فی القرآن من تنزیل علیّ علیه السلام بمنزلة نفس النبیّ صلی الله علیه و آله ، وفی الحدیث النبویّ : « إنّ فاطمة روحه التی بین جنبیه »(3) . و

« الحسنان علیهما السلام ریحنتای من الدنیا »(4) ، فلم یرع عمر تلک الحرمة ، کما لم یرع أبو بکر ذلک حینما أمر بالکشف عن بیت فاطمة علیها السلام (5) ، وهی فی موقفها ذلک نظیر انتداب اللّه عزّ وجلّ مریم بنت

ص:342


1- (1) بحار الأنوار : 43 : 82 .
2- (2) کما روی ذلک : الطیالسی فی مسنده : 274 . الحسکانی فی شواهد التنزیل : 2 : 20 . الخطیب فی المتّفق والمفترق : 3 : 2013 . الطبرانی فی المعجم الکبیر : 22 : 402 . مسند أحمد : 3 : 285 . تاریخ الطبری : 2 : 620 . تاریخ مدینة دمشق : 30 : 420 . میزان الاعتدال للذهبی : 3 : 109 ، الحدیث 5763 ، وغیرها کثیر .
3- (3) نور الأبصار للشبلنجی : 52 . فرائد السمطین : 2 : 35 ، الباب السابع ، الحدیث 371 ،وغیرها .
4- (4) صحیح البخاری : 4 : 217 ، کتاب بدء الخلق ، باب مناقب الحسن والحسین . مسند أحمد :2 : 85 ، 93 ، 114 . مسند الطیالسی : 8 : 160 . مستدرک الحاکم : 3 : 165 . فتح الباری : 8 : 100 . ذخائر العقبی : 130 .
5- (5) تاریخ الطبری : 4 : 52 ، فی حوادث السنة الثالثة عشرة . الأموال لأبی عبیدة : 194 . الإمامة و السیاسة : 18 . میزان الاعتدال : 3 : 109 . تاریخ الإسلام للذهبی : 3 : 117 و 118 . تاریخ دمشق : 30 : 422 ، وغیرهم .

عمران للقیام بمهمّة لم ینتدب اللّه تعالی لها زکریّا علیه السلام ، وهی کشف القناع عن دَجل علماء الیهود من بنی إسرائیل ، حیث کانوا یدّعون الصدارة الدینیّة ویستأکلون بالدین ویطمعون فی الرئاسة الدنیویّة فلم یکن باستطاعة زکریّا علیه السلام أن یکشف هذا الزیف بقدر ما کان لمریم علیها السلام ذلک ، إذ أنّ حرمتها أوضح فی ذهن عامّة الناس ، والتعدّی علیها أجلی وضوحاً لکشف زیف المعتدی کما یشیر إلی ذلک قوله تعالی :

فَإِمّا تَرَیِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِی إِنِّی نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُکَلِّمَ الْیَوْمَ إِنْسِیًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا یا مَرْیَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَیْئاً فَرِیًّا * یا أُخْتَ هارُونَ ما کانَ أَبُوکِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما کانَتْ أُمُّکِ بَغِیًّا * فَأَشارَتْ إِلَیْهِ قالُوا کَیْفَ نُکَلِّمُ مَنْ کانَ فِی الْمَهْدِ صَبِیًّا (1) .

وبهذا المشهد الذی یصوّره القرآن الکریم جعل اللّه تعالی مریم تخاطِر بنفسها وعِرضها لأنّه أبْیَن شیء لدی عموم أذهان الناس لإسقاط القناع عن علماء بنی إسرائیل ، المتکالبین علی الدنیا والرئاسة ، ولصعوبة المهمّة التی انتدبت لها مریم علیها السلام أشار تعالی إلی قولها : قالَتْ یا لَیْتَنِی مِتُّ قَبْلَ هذا وَ کُنْتُ نَسْیاً مَنْسِیًّا (2) .

ومن ثَمّ ندم أبو بکر بعد ذلک علی کشف بیت فاطمة علیها السلام ، حین فشل تدبیره وتخطیطه فی طمس حقّ علیّ علیه السلام المحفوف بالنصر الإلهی فی إمامته ، کما لم یفلح علماء الیهود فی طمس نبوّة النبیّ عیسی علیه السلام ، ونصر اللّه الذین اتبعوا النبیّ عیسی علیه السلام علی أعدائهم ، کما قال تعالی : وَ جاعِلُ الَّذِینَ اتَّبَعُوکَ فَوْقَ الَّذِینَ کَفَرُوا إِلی یَوْمِ الْقِیامَةِ ثُمَّ إِلَیَّ مَرْجِعُکُمْ فَأَحْکُمُ بَیْنَکُمْ فِیما کُنْتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ (3) .

ص:343


1- (1) مریم : 26 - 29 .
2- (2) مریم : 24 .
3- (3) آل عمران : 55 .

فلولا هذا الموقف الذی قامت به فاطمة علیها السلام لما لها من حرمة عظیمة فی القرآن عند اللّه وعند رسوله لما استطاعت أن تهزّ الضمیر عند المسلمین عبر الأجیال ، فما أن یقف الباحث عند هذا المشهد المثیر للعواطف والأحزان إلّاویهتزّ وجدانه وضمیره ، ویبصر الحقّ ویعرف أهله ، ویرزق الهدایة .

وهناک نصّ تاریخیّ رواه أهل السنّة فی مصادرهم حیث روی ابن أبی شیبة فی « المصنّف » قال : حدّثنا محمّد بن بشیر ، حدّثنا عبید اللّه بن عمر ، حدّثنا زید بن أسلم عن أبیه أسلم ، « أنّه حین بویع لأبی بکر بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله کان علیّ علیه السلام والزبیر یدخلان علی فاطمة بنت رسول اللّه فیشاورونها ویرتجعون فی أمرهم ، ولمّا بلغ ذلک عمر بن الخطّاب خرج حتّی دخل علی فاطمة علیها السلام ، فقال لها :

وأیم اللّه ما ذاک بمانعی إن اجتمع هؤلاء النفر عندک أن أمرتهم أن یُحرق علیهم البیت »(1) .

و هذا النصّ یبیّن مدی موقعیة فاطمة علیها السلام کمحور یتخوّف منه أصحاب السقیفة ، إلی درجة فقدوا فیها توازنهم فی التعامل مع أعظم حرمة فی الإسلام ، ممّا سبّب انجلاء واقع مشروع السقیفة أمام أیّ متأمّلٍ مُنصِف .

وکذلک نقل المؤرّخون أنّه ما بایع علیّ إلّابعد ستّة أشهر ، وما اجتُریء علیه إلّا بعد موت فاطمة(2) .

وکذا رووا أن « لم یبایعه - أبا بکر - أحد من بنی هاشم حتّی ماتت فاطمة »(3) .

ص:344


1- (1) المصنّف لابن أبی شیبة : 7 : 432 ، الحدیث 37045 . مسند فاطمة الزهراء علیها السلام للسیوطی : 20 و 21 ، الحدیث 31 . کنز العمّال للهندی : 5 : 561 ، الحدیث 14138 .
2- (2) صحیح البخاری ، باب غزوة خیبر : 3 : 37 . صحیح مسلم : 5 : 54 ، باب قول النبیّ « لا نورّث » .
3- (3) مروج الذهب : 1 : 414 .
5 - خروجها علیها السلام خلف الإمام علیّ علیه السلام فی أزقّة المدینة

یعطی طابعاً عن مدی قوّة موقفها علیها السلام وشجاعتها من بین جمیع المسلمین فی مواجهة أوّل مشروع انقلابی أُسّس بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فی مرحلة البناء لصرح الدین ، فرغم ما هدّدوا به فاطمة علیها السلام ، وتجاسروا علی حرمتها ، وجری علیها ما جری إلّاأنّها لم تکن لتخاف أو تنهزم أمام شدّة وشراسة الطرف الآخر وقمعه ، کما حفلت بذلک وصوّرته مصادر الفریقین .

6 - امتناعها علیها السلام عن البیعة لأبی بکر

وممّا لا شکّ فیه لزوم البیعة علی کلّ مسلم للإمام الحقّ ، حیث اتّفق المحدّثون علی روایة : من مات ولم یعرف . . . » .

فما رواه المحدّثون من الإمامیّة هو نصّ

« مَن مات ولم یعرف إمام زمانه مات میتة جاهلیّة »(1) .

وما رواه العامّة منهم هو :

« مَن مات ولم یکن فی عنقه بیعة لإمام مات میتة جاهلیّة »(2) .

وقد روی التفتازانی فی کتابه شرح المقاصد(3) الروایة کما روتها الإمامیّة .

وعلی أیّ حال فالمؤدّی لکلا النقلین متقارب ، وهو لزوم البیعة فی ذمّة کلّ مسلم وأنّ الذی یموت ولا بیعة فی عنقه فمیتته جاهلیة .

ص:345


1- (1) کمال الدین وتمام النعمة : 409 ، الحدیث 9 . کفایة الأثر : 296 . وسائل الشیعة : 16 : 246 ، الحدیث 21475 .
2- (2) صحیح مسلم : 8 : 17 . مسند الطیالسی : 259 ، ط . حیدر آباد . ینابیع المودّة للقندوزی : 117 .
3- (3) شرح المقاصد للتفتازانی : 5 : 239 وما بعدها .

والسؤال الذی یطرح نفسه هو : هل ماتت الزهراء علیها السلام وفی رقبتها بیعة لأحد ؟

وهنا نطرح عدّة احتمالات :

الأوّل : أنّها کانت جاهلة بهذا الحکم و هذا اللزوم .

وجوابه : کیف یتصوّر ذلک فی مثل سیّدة النّساء ، وهی بضعة النبیّ صلی الله علیه و آله ومن أهل البیت ، الذی شهد لهم القرآن بالطهارة وأذهب عنهم الرجس ، فلا یُحتمل فی حقّها الجهل بمثل هذا الأمر المهمّ والخطیر .

الثانی : أنّها کانت عالمة ولکن خالفته .

وجوابه : أنّ ذلک ینافی آیة التطهیر الثابتة فی حقّها ، والتی نزّهتها عن الذنب والمعصیة .

الثالث : أنّها ماتت وقد بایعت الإمام الحقّ وهو علیّ بن أبی طالب علیه السلام .

وعلیه : فلم تبایع أبا بکر أبداً وقد ماتت علی ذلک .

ونتیجة لهذه المصادمات المتعدّدة نجد أنّ الخلیفة وصاحبه قاما بمحاولة لعلاج الموقف ، وخطوة أعربت عن مدی تأثیر کلّ هذه المصادمات فی نفوس الاُمّة .

والخطوة هی قیامهما بزیارتها وطلب الصفح منها واسترضائها .

ولکنّها أبدت موقفاً فوّت الفرصة علیهما ، وأوقعهما فی مزید من الورطة ، حیث أخذت منهما الاعتراف والإقرار فی ذلک المجلس بمدی ما لها من حرمة فی الدین وعند اللّه تعالی ، وأنّها میزان للحقّ یمیّزه عن الباطل .

ولاحظ النصّ الذی ینقله التاریخ عن ذلک المجلس :

یقول ابن قتیبة فی الإمامة والسیاسة :

« أرأیتکما إن حدّثتکما حدیثاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله تعرفانه وتفعلان به ؟

قالا : نعم .

ص:346

قالت : نشدتکما اللّه ، ألم تسمعا رسول اللّه یقول : رضا فاطمة من رضای ، وسخط فاطمة من سخطی ، فمن أحبّ فاطمة ابنتی فقد أحبّنی ، ومَن أرضی فاطمة فقد أرضانی ، ومَن أسخط فاطمة فقد أسخطنی ؟

قالا : نعم ، سمعنا من رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

قالت : فإنی اشهد اللّه وملائکته أنّکما أسخطتمانی وما أرضیتمانی ، ولئن لقیت النبیّ صلی الله علیه و آله لأشکونکما إلیه »(1) .

وروی المجلسی فی « البحار » : « أنّهما استئذنا علی فاطمة فلم تأذن لهما فأتیا علیّاً فکلّماه فأدخلهما علیها ، فلما قعدا عندها حوّلت وجهها إلی الحائط ، فسلّما علیها فلم تردّ علیهما السلام »(2) .

7 - وصیّتها علیها السلام أن تدفن لیلاً و أن یُکتم أمرها

فقد روی الشیخ المفید بسنده عن علیّ بن الحسین ، عن أبیه الحسین ، قال :

« لمّا مرضت فاطمة بنت النبیّ أوصت إلی علیّ صلوات اللّه علیه أن یکتم أمرها ،

ویخفی خبرها ، ولا یؤذن أحداً بمرضها ، ففعل ذلک ، وکان یمرّضها بنفسه وتعینه علی ذلک أسماء بنت عمیس رحمها اللّه ، علی استسرار بذلک کما وصّت »(3) .

وروی الشیخ الصدوق فی حدیث عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قوله :

« فتقدم علیّ فاطمة محزونة ، مکروبة ، مغمومة ، مغصوبة ، مقتولة »(4) .

ص:347


1- (1) الإمامة والسیاسة ، المعروف ب « تاریخ الخلفاء » : 31 ، ط . قدیمة ، و : 20 ط . تحقیق الزینی .
2- (2) بحار الأنوار للمجلسی : 28 : 357 .
3- (3) کتاب ترتیب الأمالی : 5 : 67 .
4- (4) أمالی الصدوق : المجلس 24 ، الحدیث 2 . ترتیب الأمالی : 5 : 55 .

فشهادتها ودفنها لیلاً محطّة مفعمة بالظلم والأسی ، وصارخة بالاعتراف علی المتغلّبین علی أمر الخلافة .

قال ابن طاووس فی « الإقبال » حول دفنها لیلاً : « أنّها دُفنت لیلاً مُظهرة للغضب علی من ظلمها ، وآذاها وآذی أباها صلوات اللّه علیه وعلی روحها الطاهرة »(1) .

ومراده أنّه قد انقطعت فی هذا الموقف التعذیرات الرافعة عن الإدانة لأصحاب السقیفة .

وسجّلت بنحو بیّن لکلّ الأجیال الإدانة لحرکة السقیفة ومسار الابتعاد عن أهل البیت علیهم السلام ، تبیاناً منها لبطلان الأُسس والبُنی التی أرسو مسارهم علیها ، کدعوی الشوری ، وخوف الفتنة ، ودعوی العلم بالکتاب والسنّة ، کما فی قولها :

« أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِی وَابْنِ عَمِّی ؟ » ، فرفعت اللوابس والحیرة الساترة علی رؤیة وبصیرة الاُمّة التی أخذتها الفتنة الفکریّة والسیاسیّة المحتدمة ، حیث عمّت وغطّت الأجواء ، فی أوّل مرحلة تعیشها الاُمّة بعد غیبة نبیّها صلی الله علیه و آله ، فسنّت بذلک سنّة التولّی والتبرّی العقیدیّ والسیاسیّ فی الاُمّة الإسلامیّة .

فدورها بیان بقاء مسار النبوّة والرسالة تعییناً فی منهاج الإمامة ، وأنّ هذا المقام مقام غیبیّ ذو شؤون ، قد امتدّ فی الإمامة ، وأنّ الوراثة لمقامات النبیّ صلی الله علیه و آله ومنصبه وخلافته تکون باستحقاقات حاصلة بالسوابق فی تحمّل أعباء تشیید الدین ، وإلی ذلک یشیر قولها علیها السلام فی خطبتها :

« قَذَفَ أَخاهُ فِی لَهَواتِها » .

وفیما أوصت به أیضاً أن لا یصلّی علیها أحد من هذه الأمّة ، حیث قالت :

ص:348


1- (1) إقبال الأعمال : 161 ، باب السابع من جمادی الآخرة ، ط . مکتب الإعلام الإسلامی / 1416 .

« لا تصلّی علیّ أمّة نقضت عهد اللّه وعهد أبی رسول اللّه . . . فهذه أمّة تصلّی علیّ وقد

تبرّأ اللّه ورسوله منها »(1) .

8 - وصیّتها علیها السلام فی التشییع والدفن :

وهذه المصادمة الأخیرة والتی هی سند حی دائم ما دامت الدنیا قائمة لتوضّح المسیرة ، کانت ترید أن تجعل حتّی من إخفاء قبرها سنداً ودلیلاً علی هذا الانحراف الجدید الذی طرأ فی الاُمّة ، بل سیبقی لخفائه علی مرّ العصور شاهداً آخر علی مظلومیّتها ، والملاحظ أنّه حتّی الأئمّة علیهم السلام من ولدها لم یقوموا بالإفصاح عن موضع قبرها لئلّا ینتقض الغرض المهمّ وراء إخفائه .

ومن قوّة هذا الموقف ودلالته لم تستطع المصادر العدیدة علی إخفائه وطمسه حتّی من « صحیح البخاری » ، ممّا یدلّ علی أنها رحلت علیها السلام من هذا العالم وهی مقاطعة لهذا المشروع ، وغاضبة علی رجال السقیفة .

تشریعها علیها السلام لسنّة ومنهج الإصلاح

إنّ الملاحظ أنّ فاطمة الزهراء علیها السلام أوّل من اختطّ شریعة الإصلاح وتغییر الانحراف فی الاُمّة ، وأسّست لذلک نظاماً یعالج التجاذب القائم بین مهمّة الحفاظ علی وحدة الاُمّة وتماسکها ، وبین مهمّة مقاومة الانحراف وتغییر الفساد ، حیث إنّه علی طول التاریخ عانت البشریّة من مدرستین إفراطیّتین آخذة بأحد الشعارین تفریط وإفراط ، فبین دعاة الحفاظ علی الاُمّة الإسلامیّة وجماعة المسلمین ، فیتمادی به الأمر إلی أن یتدیّن بدین السلاطین والخلفاء ، کما هو مذهب أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان ، ولا یجعل نهایة لهذا الولاء إلّاالکفر البواح - الصریح - وبین دعاة

ص:349


1- (1) الهدایة الکبری للحصینی : 178 .

إلی شعار التغییر ومجابهة الانحراف ، إلی درجة یشطّ به الحال إلی هدر کلّ الحرمات ، وسفک الدماء وهتک الأعراض ونهب الأموال ، کما هو الحال لدی الخوارج ، ومن نهج منهجهم حتّی عصرنا الراهن ، من الحرکات المتطرّفة .

وهذه الأزمة لیست خاصّة بالمسلمین ، بل تعیشها البشریّة فی أعرافها وحضاراتها المختلفة ، حیث إنّ هناک بین من ینادی بحفظ السلّم البشریّ والإبقاء علی النظم المدنیة والنظام العامّ للتعایش البشریّ السلمیّ ، کما هو شعار الغرب والمؤسسات الدولیّة التی تولّدت من دول الحلف المنتصرة فی الحرب العالمیّة الاُولی والثانیة ، وبین من ینادی بضرورة الصدام لظاهرة الاستعباد البشریّ ، والإقطاع الظالم ، وسیاسات التمییز العنصریّ والعِرقیّ والقومیّ ، إلی حدّ التمرّد علی کلّ الأعراف ، والانفلات عن کلّ الموازین المقرّرة .

وقد ولّد کلا الاتّجاهین مذاهب فکریة متعدّدة ، کالإرجاء ، والقدریّة والجبریّة ، والمفوّضة ، وغیرها من المذاهب والمدارس التی قامت علی بُنی وأساس هذا الثنائی المتطرّف .

بینما سنّت الصدّیقة الطاهرة علیها السلام حالة ثالثة متوازنة یُرعی فیها کلا الجنبتین ، وأنّ سیرة الإصلاح والتغییر لا یفرّط فیها بذریعة الحفاظ علی النُّظُم العامّة ، والحفاظ علی الوحدة ، کما أنّ مجمل الحُرمات والحدود الإلهیّة ، وبیضة الإسلام لا یفرّط فیها تحت ذریعة الإصلاح والتغییر ومقاومة الفساد ، بل اعتمدت الزهراء علیها السلام الموازنة بین البُعدین ، وحفظ الأغراض التشریعیة لکلا الطرفین ، مع أنّها علیها السلام وصل بها الأمر إلی استنهاض الأنصار للمقاومة العسکریّة أمام الحزب القرشی ، وبقیّة القبائل المتحالفة مع قریش ، والتی ازدحمت بالدخول فی المدینة المنوّرة بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله لإنجاز مهمّة الانقلاب المسلّح ، بطابع الضغط والإرهاب علی بنی هاشم ، وکذلک علی الأنصار الذین انقسموا علی أنفسهم ، حیث قالت علیها السلام مخاطبة لهم :

ص:350

« یا مَعْشَرَ الْبَقیَّةِ ، وَأَعْضادَ الْمِلَّةِ ، وَحَضَنَةَ الْإِسْلامِ ، ما هذِهِ الْفَتَرَة عَنْ نُصْرَتی ، وَالْوَنِیَّةُ عَنْ مَعُونَتی ، وَالْغَمْزَةُ فی حَقِّی ، أَما کانَ رَسولُ اللّهِ صلی الله علیه و آله یَقولُ : الْمَرْءُ یُحْفَظُ فی وُلْدِهِ . سُرعانَ ما أَحْدَثْتُمْ ، وَعَجْلانَ ما أَتَیْتُمْ ، أَلَئِنْ ماتَ رَسول اللّه صلی الله علیه و آله أَمَتُمْ دینَهُ ، . . .

أَیْهاً بَنِی قَیْلَةَ ، أَ اهْتَضَمُ تُراثَ أَبی وَأَنْتُمْ بِمَرْأَیً وَمَسْمَعٍ ، تَبْلَغُکُمُ الدَّعْوَةُ ، وَیَشْمَلُکُمُ الصَّوْتُ ، وَفِیکُمُ الْعُدَّةُ وَالْعَدَدُ ، وَلَکُمُ الدّارُ وَالْجُنن ، وَأَنْتُمْ نُخْبَةُ اللّهِ الَّتی انْتَخَبَ ، وَخِیْرَتَهُ الَّتی اخْتارَ ، بادَیْتُمُ الْعَرَبَ ، وَبادَهْتُمُ الاُمورَ ، وَکافَحْتُمُ الْبُهُمْ حَتّی دارَتْ بِکُمْ رَحی الْإِسْلامِ ، وَدَرَّ حَلَبُهُ ، وَخَبَتْ نِیران الْحَرْبِ ، وَسَکَنَتْ فَوْرَةُ الشِّرْکِ ، وَهَدأَتْ دَعْوةُ الْهَرَجِ ، وَاسْتَوْثَقَ نِظامُ الدِّینِ ، أَفَتَأخََّرْتُمْ بَعْدَ الْإِقْدامِ ، وَنَکَصْتُمْ بَعْدَ الشِّدَّةِ ، وَجَبُنْتُمْ بَعْدَ الشَّجاعَةِ ، عَنْ قَوْمٍ نَکَثُوا أَیْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنوا فی دِینِکُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ (1) »(2) .

وهذه المقطوعة من الخطبة کما هو ظاهرها أنّها تستنهض الأنصار وتعبّئهم علی القیام بمقاومة هذا الانحراف من خیانة قریش وانقلابها علی عهود اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله .

وقد ذکر ابن أبی الحدید نقلاً عن کتاب أبی بکر أحمد بن عبد العزیز الجوهری فی « السقیفة وفدک » وما وقع من الاختلاف والاضطراب عقب وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله « أنّ أبا بکر لمّا سمع خطبتها شقّ علیه مقالتها ، فصعد المنبر ، وقال - فیما قاله للأنصار - : قد بلغنی یا معشر الأنصار مقالة سفهائکم . . . ألا إنّی لست باسطاً یداً ولا لساناً علی من لم یستحقّ ذلک منّا » .

وقال ابن أبی الحدید عن النقیب أبی یحیی البصریّ أنّه قال : « إنّ الأنصار لما

ص:351


1- (1) التوبة : 12 .
2- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 212 .

هتفوا بذکر علیّ وخاف أبو بکر من اضطراب الأمر قال ذلک » - أی ما تقدّم من کلامه وتهدیده لهم -(1) .

أقول : إنّ تهدید أبی بکر للأنصار وهو فی بلد الأنصار وهی المدینة المنوّرة مؤشّر واضح علی جملة من النقاط :

1 - اعتضاد وتحالف أبی بکر مع قریش والقبائل الاُخری ، ممّا هیّأ له قوّة ضاربة ، یصول ویجول ویهدّد بها .

2 - أنّه خشی من تحرّک الأنصار واستجابتهم لاستنهاضها علیها السلام .

3 - أنّ جرأته علی الأنصار تکشف عن انقسامهم علی أنفسهم ، ممّا فتح الباب لغلبة قریش والقبائل علی الأنصار .

لکنّ کلّ هذه التعبئة والاستنفار والاستنصار الذی قامت به الزهراء علیها السلام ، لم یکن یحمل فی طیّاته دعوة إلی التفریط بما شیّده وبناه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ولا هدم للمجتمع المدنیّ الذی أقامه صلی الله علیه و آله ، فلم تستنهض القبائل والأحلاف الجاهلیّة ، کما اقترحه أبو سفیان علی أمیر المؤمنین علیه السلام ، ولم تناد بشعار حمیّة الجاهلیّة الاُولی ، کما رفعه غیرها .

بل استنهضت أنصار الإسلام الأوائل ، وحملة رایته ، السابقین عهداً بالدین والذّابین عنه ، ورفعت شعار الوفاء بعهد اللّه تعالی ووصیّة رسوله صلی الله علیه و آله ، ومواجهة من أحدث وبدّل فی الدین .

فلم یکن فی دعوتها علیها السلام ما یسمّی خلطاً للأوراق ، ولا خبطاً فی الموازین ، بل نظّمت المعارضة بنحو حافظ للحدود وداع إلی إرجاع ما قد غُیّر منها وحُرّف .

ومن ثَمّ بدأت خطبتها بتوحید اللّه وبیان عظمته ونعمه ، وبیان معالم الدین

ص:352


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 214 و 215 .

وفلسفتها ، ثمّ بیّنت عظم حقّ النبیّ صلی الله علیه و آله علی هذه الاُمّة ، حیث انتشلها من الضلال المبین إلی الهدایة والکیان العظیم من الحضارة الإسلامیة ، ثمّ أشارت إلی انقلابهم علی الأعقاب بعد النبیّ صلی الله علیه و آله ، وخیانتهم للدین ، ومخالفتهم أوامر اللّه ورسوله ، کما أنّها شدّدت علی تحکیم کتاب اللّه تعالی ووصیّة رسوله صلی الله علیه و آله .

ص:353

ص:354

المقالة الثالثة : دور الزهراء علیها السلام فی العقیدة والبُنیة الاُولی للإسلام

اشارة

ممّا یُبیّن ویوضّح موقعیّة فاطمة علیها السلام فی الدین ، وحجّیتها فی التشریع الذی مرّ علی صعید تنظیر الأدلّة ، المسار التطبیقی والتنفیذی الذی قامت به من دور .

فهل هذا الدور کان بیانها وتعیینها وبقاء مسار النبوّة والرسالة فی منهاج الإمامة ، وأنّ هذا المقام الغیبیّ ذو الشؤون ممتدّ فی الإمامة ؟

أو هو لرفعها اللوابس والحیرة الساترة علی رؤیة وبصیرة الاُمّة ، بسبب الفتنة الفکریّة والسیاسیّة المحتدمة ، التی غطّت وعمّت الأجواء فی أوّل مرحلة تعیشها الاُمّة بعد غیبة نبیّها صلی الله علیه و آله ؟

أو ما قصدته وکشفت عنه فی خطبتها ، بعد بیانها لأرکان المعارف کجوامع علم ترجع إلیها الاُمّة فی معارف الدین وفروعه ؟

أو هو لسَنّها لسنّة التولّی والتبرّی السیاسیّ والعقیدیّ فی الدین والاُمّة ؟

أو هو لتسجیلها موقفاً واضحاً لکلّ الأجیال لإدانة حرکة السقیفة ، ومسارها الانحرافیّ البعید عن خطّ أهل البیت علیهم السلام ومنهجهم ، وبالتالی تبیّن بطلان الأُسس وبُنی هذه المدرسة الاُخری ، کالشوری فی الإمامة الإلهیّة ، وخوف الفتنة ، ودعوی العلم بالکتاب والسُّنّة ، کما فی قولها علیها السلام :

« أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِی وَابْنِ عَمِّی ؟ » ، وهو نفس بیان علیّ علیه السلام یوم صفّین : « القرآن الناطق والصامت » .

وللإجابة عن هذه التساؤلات تظهر من حجم الحساسیّة والتحسّس المشاهد

ص:355

من الطرف الآخر تجاه خصومة الزهراء علیها السلام وخصامها مع جماعة السقیفة ، فإنّ الملحوظ أنّ جماعة الخلافة والسلطان یبدون توتّراً شدیداً وانفعالاً کبیراً تجاه أیّ تساؤل أو تفتیش وتنقیب حول مجری الأحداث التی قامت بها وتعرّضت لها الزهراء علیها السلام بعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله .

و هذا القلق الزائد البالغ ذُروته کاشف عن مدی خطورة مواقفها علیها السلام ، وموقعیّتها فی رسم المنهاج للأمة وإضاءة طریق الحقّ فی نظام دلائل الدین ، ومدی تأثیر خطاها ومسارها فی بناء مسار الدین للاُمّة إلی یوم القیامة ، وأنّ رعیل الصحابة مهما کثر عدده وعدّته لا ینهض أمام حجیّة موقفها ، ولا یثبت أمام ما تخطّه للدین والاُمّة من هدیٍ ومنهاجٍ وسُنّة .

ونظیر هذا التحسّس والإرباک الشدید الموجود عند علماء أهل سُنّة الجماعة والخلافة تجده حول تفاصیل مقاطعتها لجماعة السقیفة ، المعبِّر عن إدانتها لما قاموا به من غصب الخلافة ومصادرة مناصب النبیّ صلی الله علیه و آله ، والذی تمثّل فی عدّة أشکال وأسالیب : من وصیّتها بإخفاء مرضها ، وتجهیزها ، والصلاة علیها ، ودفنها ، وإخفاء قبرها ، کعلامة أبدیّة مستمرّة تصرخ بالاُمّة لتوقظها من غفوتها ، لتصحو بعد ذلک وتعود إلی وعیها ورشدها حول حقیقة الحدث وما دار من وقائع .

فقد نقل ابن أبی الحدید فی « شرح النهج » عن جماعة وعدّة من علماء أهل سنّة الخلافة إنکار وقوع الخصام والصدام بین فاطمة علیها السلام وأبی بکر(1) .

وقد تعرّض السیّد المرتضی أیضاً فی کتابه الشافی فی ردّه لما تعرّض له القاضی عبد الجبّار فی کتابه « المغنی » عن جماعة منهم من أنّها لم تسخط علی أبی بکر ، ولم تهجره ، ولم تکن واجِدَة علیه(2) .

ص:356


1- (1) شرح نهج البلاغة : 16 : 252 .
2- (2) الشافی فی الإمامة للسیّد المرتضی : 4 : 110 .

ومن المؤشّرات البیّنة علی صدارة موقعیّة الزهراء علیها السلام فی نظام الدین والملّة أنّ القوم من جماعة السقیفة ، أوّل بادرة قاموا بها یدشّنون بها قواعد ملکهم هو قیامهم بغصب فدک ، والحوائط السبعة ، ممّا کان تحت ید فاطمة علیها السلام ، وهو مقام ورثته ، بل أنیطت مسؤولیة إدارتها إلیها فی حیاة النبیّ صلی الله علیه و آله .

کما سارعوا أیضاً إلی الهجوم علی بیتها وهتک حرمتها ، انقضاضاً منهم علی مرکز سلطان الولایة والنبوّة ، نظیر ما یشاهد فی الدول العصریّة من حدوث الانقلابات ، فقد تبادر السلطة الجدیدة للانقضاض علی مراکز السلطة السابقة کالقصر الجمهوری أو الملکی ، ومواقع القرار والرئاسة فی البلاد .

و هذا یبرز أنّ فاطمة علیها السلام بما لها من وجود فی الساحة الدینیّة والسیاسیّة فی مطلع الإسلام هی أکبر عَقَبة کانت تواجه تیّار السقیفة ، ممّا حدا بهم أن یروا أنفسهم مندفعین إلی الوثوب علی هذه العقبة الکؤودة أمام مخطّطاتهم .

وإلی ذلک یشیر أمیر المؤمنین علیه السلام فی قوله مخاطباً النبیّ صلی الله علیه و آله بعد دفن فاطمة :

« وَسَتُنَبِّئُکَ ابْنَتُکَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِکَ عَلَی هَضْمِهَا ، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ ؛ فَکَمْ مِنْ غَلِیلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِها لَمْ تَجِدْ إِلی بَثِّهِ سَبِیلاً . وَسَتَقولُ : وَیْحَکُمُ اللّهُ وَهُوَ خَیْرُ الْحاکِمِینَ »(1) .

ففاطمة علیها السلام بوصیّتها بإخفاء قبرها أرادت أن لا یصل إلیها من قد قاطعها من جیل الاُمّة ، ولا یکون وصالاً لها معها مِمّن قد جفاها ، فتظلّ القطیعة والجفوة رمزاً لإدانة منهج السقیفة وأتباعهم ، ومباینتهم لمسار النبوّة وبضعته المطهّرة .

ویمکن تبیان دورها علیها السلام تفصیلاً فی محطّات :

ص:357


1- (1) أمالی الطوسی : 110 ، الحدیث 166 . أمالی المفید : 282 ، الحدیث 7 . بحار الأنوار : 43 : 211 .

المحطّة الاُولی : استنهاضها الأنصار للجهاد :

قولها علیها السلام :

« أَیْهاً بَنِی قَیْلَةَ ، أاُهْضَمُ تُراثَ أَبِی وَأَنْتُمْ بِمَرْأی مِنِّی وَمَسْمَعٍ ، وَمُنْتَدیً وَمَجْمَعٍ ، تَلْبَسُکُمُ الدَّعْوَةُ ، وَتَشْمَلُکُمُ الْخُبْرَةُ ، وَأَنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ . . . » .

من الاُمور التی لم یسلّط الضوء علیها فیما کُتب حول سیرة الزهراء علیها السلام أنّها دعت إلی الجهاد والمدافعة العسکریة للسلطة التی استولت علی الاُمور فی الأیّام الاُولی بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، مع أنّ هذه الدعوة المعلنة للمواجهة العسکریّة لم یدعُ إلیها فی العلن أمیر المؤمنین علیه السلام ، وإن دعا إلیها فی السرّ ، بنحو الدعوة المشترکة منه ومن الزهراء علیها السلام لفئة من المهاجرین والأنصار .

فقولها علیها السلام فی الخطبة صریح فی هذا الاستنهاض والدعوة ، للمواجهة مع سلطة الانقلاب وبشکل علنیّ أمام الخلیفة الأوّل ، و هذا من الجرأة والشجاعة بمکان ، ومن هیمنتها وموقعیّتها علی الدین والاُمّة إذ لم تأبه بجنود السلطة والأحزاب القبلیّة التی تساندها ، لا سیّما وأنّه من الجهار بالدعوة المسلّحة أمام السلطة وجهاً لوجه .

فهی علیها السلام فضلاً عن رفضها البیعة والإقرار والمهادنة للسلطة ، ها هی تدعو وتسنّ للاُمّة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله مشروعیة الکفاح المسلّح ضد السلطة الجائرة الغاصبة لمقام الشرعیة ، کما فی قولها علیها السلام فی خطبتها أمام أبی بکر استنهاضاً للأنصار :

فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ فهی بذلک قد سنّت هذه السّنّة العظیمة قبل قیام سیّد الشهداء علیه السلام بإقامة هذه السُنّة . فضلاً عن کون موقفها هذا مبیّناً لبطلان وانحراف المسار المخالف لأهل البیت علیهم السلام ، وهدر کیانه بالجهاد ضدّه بالمنابذة ، و هذا نصّ قولها علیها السلام :

« أَیْهاً بَنِی قَیْلَةَ ، أاُهْضَمُ تُراثَ أَبِی وَأَنْتُمْ بِمَرْأی مِنِّی وَمَسْمَعٍ ، وَمُنْتَدیً وَمَجْمَعٍ ،

تَلْبَسُکُمُ الدَّعْوَةُ ، وَتَشْمَلُکُمُ الْخُبْرَةُ ، وَأَنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ ، وَالْأَدَاةِ وَالْقُوَّةِ ، وَعِنْدَکُمُ

ص:358

السِّلَاحُ وَالْجُنَّةُ ، تُوَافِیکُمُ الدَّعْوَةُ فَلَا تُجِیبُونَ ، وَتَأْتِیکُمُ الصَّرْخَةُ فَلَا تُغِیثُونَ » .

فهذه العبائر منها علیها السلام ما أشبهها بکلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله حینما یستنهض الأنصار للجهاد ولغزوة من الغزوات ، وقد أشارت إلی السلاح بلفظه والقوّة والأداة الحربیّة ، وإلی العدد الذی تؤلّف منه الکتائب فی المنازلة الحربیة ، وأنّه قد أنشأت هی علیها السلام وأهل البیت علیهم السلام وأعلنت الدعوة لهم بالجهاد فلم یجیبوا ، واستصرختهم بالنصرة العسکریّة والقوّة المسلّحة فلم یغیثوا أهل البیت علیهم السلام ، عندما استضعفتهم جماعة السقیفة ، وغالبوهم بقوّة السلاح ومساندة القبائل الموالیة لهم ، نظیر بنی أسلم(1)والطلقاء من قریش وغیرها من القبائل التی تعصّبت فی حرب الأحزاب ضدّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

ثمّ تُتابع علیها السلام قولها :

« وَأَنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْکِفَاحِ ، مَعْرُوفُونَ بِالْخَیْرِ وَالصَّلَاحِ ،

وَالنُّخْبَةُ الَّتِی انْتُخِبَتْ ، وَالْخِیَرَةُ الَّتِی اخْتِیرَتْ لَنا أَهْلَ الْبَیْتِ . قَاتَلْتُمُ الْعَرَبَ ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْکَدَّ وَالتَّعَبَ ، وَنَاطَحْتُمُ الْاُمَمَ ، وَکَافَحْتُمُ الْبُهَمَ ، فَلَا نَبْرَحُ أَوْ تَبْرَحُونَ ، نَأْمُرُکُمْ فَتَأْتَمِرُونَ ، حَتّی إِذَا دَارَتْ بِنَا رَحَی الْإِسْلَامِ ، وَدَرَّ حَلَبُ الْأَیَّامِ ، وَخَضَعَتْ ثُغرَةُ الشِّرْکِ ، وَسَکَنَتْ فَوْرَةُ الْإِفْکِ ، وَخَمَدَتْ نِیرَانُ الْکُفْرِ ، وَهَدَأَتْ دَعْوَةُ الْهَرَجِ ،

وَاسْتَوْسَقَ نِظَامُ الدِّینِ » .

فهی علیها السلام تصرّح بدعوتها لاستنفارهم بالکفاح ، بمقتضی العهد الذی تعاقدت الأنصار به مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی بیعة العقبة ، وتذکّرهم بمدی وفائهم بذلک العهد فی زمنه صلی الله علیه و آله ، ومدی عناء شدّة الحروب التی واجهوها تجاه جمیع العرب ، وکل ذلک وفاءاً لعهدهم الذی قطعوه علی أنفسهم بمساندة ونصرة أهل البیت علیهم السلام ، وأنّ ذلک أثمر فی تشیید الإسلام وإماتة الکفر .

ص:359


1- (1) أنظر : شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 213 ، عن کتاب « السقیفة وفدک »للجوهری .

ولذا فهی تتعجّب بعد ذلک من نکوصهم عن هذا العهد فی قولها :

« فَأَنّی جِرْتُمْ بَعْدَ الْبَیَانِ ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الاِْعْلَانِ ، وَنَکَصْتُمْ بَعْدَ الاِْقْدَامِ ، وَأَشْرَکْتُمْ بِعْدَ الْاِیْمَانِ ؟ » .

ثمّ تحرّضهم علیها السلام مرّة اخری ضد جماعة السقیفة والحزب القرشی بالاقتباس من تحریض القرآن فی سابق العهد للأنصار علی قتال قریش وأهل مکّة ، وأنّ آیات الجهاد والقتال تشمل القتال لقریش ، التی استولت علی الخلافة ، وغصبت أهل بیت النبیّ صلی الله علیه و آله حقّهم .

فتقول علیها السلام : « أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَکَثُوا أَیْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُکُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ » .

وقولها فی خطبتها التی یرویها الجوهری فی کتاب « السقیفة وفدک » :

« وَجَبنتم بَعْدَ الشَّجاعَةِ عَنْ قَوْمٍ نَکَثُوا أَیْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهمْ ، وَطَعَنوا فی دینکم ! فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ (1) » .

ثمّ تفصح جهاراً بأنّ الأنصار قد اختاروا الذلّ لأنفسهم بترکهم مقاومة قریش ، وبعد أن قد أبعدوا من هو أحقّ بالخلافة منهم ، وأنّهم قد تخلّوا عمّا عرفوه من الأیمان والهدی و النور ، فتقول علیها السلام :

« أَلَا وَقَدْ أَری أَنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إِلَی الْخَفْضِ ، وَأَبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ ،

وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ ، وَنَجَوْتُمْ مِنَ الضِّیْقِ بِالسِّعَةِ ، فَمَجَجْتُمْ ما وَعِیتُمْ ، وَدَسَعْتُمُ الَّذِی تَسَوَّغْتُمْ ، فإن تَکْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ .

أَلَا وَقَدْ قُلْتُ مَا قُلْتُ هذا عَلی مَعْرِفَةٍ مِنِّی بِالْخَذْلَةِ الَّتِی خَامَرَتْکُمْ ، وَالْغَدْرَةِ الَّتِی اسْتَشْعَرَتْهَا قُلُوبُکُمْ » ، فهی تبیّن أنّها إنّما استنهضتهم إتماماً للحجّة ، وقطعاً للعذر علیهم .

ص:360


1- (1) التوبة : 12 .

المحطّة الثانیة : هیمنتها علی مقالید امور الاُمّة :

قولها علیها السلام :

« اعْلَمُوا أَنِّی فاطِمَةُ ، وَأَبِی مُحَمَّدٌ » .

وقولها علیها السلام :

« أَفَلَا تَعْلَمُونَ ؟ بَلی قَدْ تَجَلّی لَکُمْ کَالشَّمْسِ الضّاحِیَةِ أَنّی ابْنَتُهُ » .

ربّما یقرأ القاریء العدید من النصوص القرآنیّة التی تبیّن ولایة الزهراء علیها السلام وحجّیتها فی الدین ، والنظام السیاسی فی الإسلام ، کما أوضحناه فی آیة الفیء ، وآیة المباهلة ، وآیة الإرث ، وغیرها من الآیات ، وکذلک الحال فی الأحادیث النبویّة الراسمة لموقعیّتها فی نظام الدین ، بأخطر ممّا یرسمه القرآن لمریم علیها السلام من موقعیّة .

إلّا أنّ الباحث والمتتبّع یجد مشاهد مبنیّة فی عرف وارتکاز الجیل الأوّل من المسلمین ، تعکس صورة تلک الموقعیة والمنصب والدور الذی رسمه القرآن والنبیّ صلی الله علیه و آله لها علیها السلام ، وأنّها کانت تتشاطر مع أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام فی شغل وملء موقعیّة النبیّ صلی الله علیه و آله علی مقالید الدین والاُمّة .

ومن البصمات الحاکیة عن ذلک فی الأحداث التی تلت وفاة الرسول صلی الله علیه و آله عدّة مشاهد :

المشهد الأوّل : تولّیها النفیر بالجهاد العسکریّ والمواجهة المسلّحة ودعوتها الأنصار إلی ذلک ، کما سبق بیانه فی المحطّة السابقة ، و هذا التولّی للدعوة إلی الجهاد مارسته علیها السلام بما أنّها ذات صلة وثیقة بالنبیّ صلی الله علیه و آله فهی تمثّله وتقوم مقامه ، وقد أکّدت علی هذه الحیثیّة فی خطبتها عدّة مرّات .

المشهد الثانی : تصدّیها جهاراً لتغییر الخلافة التی أقیمت علی أساس غیر مشروع ، لأجل إرجاع الخلافة إلی موقعها الشرعیّ الصحیح ، وهی تمارس هذا التصدّی کصاحب صلاحیّة یعنیه هذا الأمر ، ویمثّل النبیّ صلی الله علیه و آله فی هذه الرعایة ، و هذا ما أعلنته ونطقت به جهاراً فی مستهلّ خطبتها ، بعد أن بیّنت أساس الدین وموقعیّة الرسول صلی الله علیه و آله وأهل بیته من بعده ، وأنّ صَرح هذا الدین ونظامه قد بناه

ص:361

الرسول صلی الله علیه و آله وأهل بیته ، ثمّ عطفت علی ما أحدثته قریش فی الدین وبدّلته من تغییر الخلافة عن موقعها المرسوم فی الدین ، و ذلک فی صریح قولها :

« فَلَمّا اخْتارَ اللّهُ لِنَبِیِّهِ صلی الله علیه و آله دارَ أَنْبِیائِهِ وَمأْوی أَصْفِیائِهِ ، ظَهَرَتْ فِیکُمْ حَسَیکَةُ النِّفاقِ ،

وَسَمَلَ جِلْبابُ الدِّینِ ، وَنَطَقَ کاظِمُ الْغاوِینَ ، وَنَبَغَ خامِلُ الْأَقَلِّینَ ، وَهَدَرَ فَنِیقُ الْمُبْطِلِینَ ، فَخَطَرَ فِی عَرَصاتِکُمْ ، وَأَطْلَعَ الشَّیْطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ ، هاتِفاً بِکُمْ ، فَأَلْفاکُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِیبِینَ ، وَلِلْغِرَّةِ فِیهِ مُلَاحِظِینَ . . . ،

فَوَسَمْتُمْ غَیْرَ إِبِلِکُمْ ، وَأَوْرَدْتُمْ غَیْرَ شِرْبِکُمْ .

هذا ، وَالْعَهْدُ قَرِیبٌ ، وَالْکَلْمُ رَحِیبٌ ، وَالْجُرْحُ لَمّا یَنْدَمِلْ ، وَالرَّسُولُ لَمّا یُقْبَرْ ،

اِبْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ ، أَلا فِی الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةٌ بِالْکافِرِینَ»، فهی بذلک تبیّن وتصرّح بالمشکلة الحقیقیّة التی هی بصدد مواجهتها ومحاصرتها ، وهی بیان زیغ ما ابتدروه من إحداث فی الدین والخلافة ، واغتصبوه من الحکم .

ولما أتمّت علیهم الحجّة والنذیر ، قامت بنفیر الأنصار ، ودعوتهم إلی الکفاح والجهاد ضدّ هذا الکیان القائم .

المشهد الثالث : یشیر إلی أنّ ما تمارسه کان یمثّل مقام رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی الاُمّة قولها فی الخطبة فی مواضع مثل :

« أَفَلَا تَعْلَمُونَ ؟ بَلی قَدْ تَجَلّی لَکُمْ کَالشَّمْسِ الضّاحِیَةِ أَنّی ابْنَتُهُ » .

وقولها فی موضع آخر :

« اعْلَمُوا أَنِّی فاطِمَةُ ، وَأَبِی مُحَمَّدٌ . . .

فَإِنْ تَعْزُوهُ تَجِدُوهُ أَبِی دُونَ نِسائِکُمْ ، وَأَخَا ابْنِ عَمِّی دُونَ رِجالِکُمْ ، وَلَنِعْمَ الْمَعْزِیُّ إِلَیْهِ » ، کما أنّها تُبدی وتعلن مشارکة المسؤولیّة التی قام بها النبیّ صلی الله علیه و آله ، والعناء والکدّ والجهد فی تبیین الرسالة ، وإقامة الدین ، کذلک تعلن مشارکة أخیه ابن عمّه وأهل بیته فی قولها علیها السلام :

« قَذَفَ أَخاهُ فِی لَهَواتِها ، . . .

مَکْدُوداً فِی ذاتِ اللّهِ ، مُجْتَهِداً فِی أَمْرِ اللّهِ ، قَرِیباً مِنْ رَسُولِ اللّهِ ، سَیِّداً فِی أَوْلِیاءِ اللّهِ ، . . .

وَأَنْتُمْ فِی رَفاهِیَّةٍ مِنَ الْعَیْشِ ، وادِعُونَ فاکِهُونَ آمِنُونَ ،

ص:362

تَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوائِرَ » .

المشهد الرابع : عجز السلطة عن المواجهة الساخنة فی قبال تصعیدها للموقف ، حیث إنّها علیها السلام أعلنت الجهاد وقامت باستنفار الأنصار إلی الکفاح جهاراً فی المسجد النبویّ أمام أبی بکر ، الذی یمثّل رأس السلطة الجدیدة والخلافة المحدَثة ، من دون أن تحسب له حساباً أو تتوجّس منه خیفة من عمل مضادّ تقوم به السلطة الحدیثة التأسیس ، و هذا ینمّ عن سیطرتها علی الموقف ، سواء علی الأنصار ، أو علی السلطة القائمة ، إذ لم یتمکّن أبو بکر من إبداء أیّ ردة فعل قاطعة فی القول ، فضلاً عن أیّ إجراء عملیّ ، مع أنّ الوضع کان ینذر بهیاج الأنصار ، ووشیک استجابتهم لهذه الدعوة .

کما یشیر إلی ذلک أنّها علیها السلام لمّا أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبکاء ، فارتجّ المجلس فی مسجد النبیّ صلی الله علیه و آله ، واشتعلت فورتهم ، واحتدّ نشیج القوم ، حتّی أمهلتهم هُنیئة ، فافتتحت خطبتها بحمد اللّه والثناء علیه ، والصلاة علی رسوله ، فعاد القوم فی بکائهم ، فلمّا أمسکوا عادت فی کلامها .

وفی الخطبة التی یرویها ابن أبی الحدید عن کتاب « السقیفة وفدک » للجوهری بطرقه أنّها « أمهلت طویلاً حتّی سکنوا من فورتهم » ورغم ذلک لم یتمکّن أبو بکر إلّا من الإنصات ومحاولة استعطاف فاطمة علیها السلام کی تهدّیء الموقف ، فقال : « یا ابنة رسول اللّه ، لقد کان أبوک بالمؤمنین عطوفاً کریماً ، رؤوفاً رحیماً ، وعلی الکافرین عذاباً ألیماً ، وعقاباً عظیماً ، إن عزوناه وجدناه أباک دون النساء ، وأخا إلفک دون الأخلّاء ، آثره علی کلّ حمیم ، وساعده فی کلّ أمر جسیم » .

فهذه الکلمات کلّها استعطافاً منه لفاطمة علیها السلام کی لا ینفجر علیه الموقف ، ویفلت زمام الأمر من یده ، وقد فطن إلی أنّ المواجهة الساخنة لفاطمة علیها السلام من المؤکّد أنّها ستفجّر الموقف ، وتستوجب نهوض الأنصار فی صفّ فاطمة علیها السلام .

وکلّ هذا یعکس مدی موقعیة فاطمة علیها السلام فی الدین ، والمقام الذی تمثّله

ص:363

فی نفوس المسلمین والأنصار وبعض المهاجرین خاصّة .

بل تری أبا بکر یعترف حتّی بموقعیّة علیّ علیه السلام ، وأخصّیته بالنبیّ صلی الله علیه و آله ، ولا یکتفی بذلک ، بل یتابع قوله : « لا یحبّکم إلّاسعید ، ولا یبغضکم إلّاشقیّ بعید ، فأنتم عترة رسول اللّه صلی الله علیه و آله الطیّبون ، والخیرة المنتجبون ، علی الخیر أدّلتنا ، وإلی الجنّة مسالکنا ، وأنت یا خیرة النساء وابنة خیرة الأنبیاء صادقة فی قولک ، سابقة فی وفور عقلک ، غیر مردودة عن حقّک ، ولا مصدودة عن صدقک . . . وهذه حالی ومالی هی لک وبین یدیک ، لا تزوی عنک ولا ندّخر دونک ، وإنّک سیّدة امّة أبیک ، والشجرة الطیّبة لبنیک ، لا ندفع مالک من فضلک ، ولا یوضع فی فرعک وأصلک ، حکمک نافذ فیما ملکتْ یدای »(1) .

المشهد الخامس : إدانتها الصریحة وحکمها جهاراً بغصب الخلافة والتواطؤ علی الغدر ، وهذه محاسبة جریئة وصریحة لکلّ المهاجرین والأنصار ، ومَن هم أهل الحلّ والعقد آنذاک ، کما یشیر إلی ذلک جملة ممّا تقدّم فی عتابها للأنصار ، وقولها علیها السلام فی جواب أبی بکر :

« أَفَتَجْمَعونَ إِلَی الْغَدْرِ إِعْتِلالاً عَلَیْهِ بِالزُّورِ ، وَهذا بَعْدَ وَفاتِهِ شَبیهٌ بِما بُغِیَ لَهُ مِنَ الْغَوائِلِ فی حَیاتِهِ . . . کَلّا بَلْ سَوَّلَتْ لَکُمْ أَنْفُسُکُمْ أَمْراً ، فَصَبْرٌ جَمِیلٌ » .

وقولها علیها السلام :

« مَعاشِرَ النّاس الْمُسْرِعَةِ إِلی قیلِ الْباطِلِ ، الْمُغْضِیَةِ عَلَی الْفِعْلِ الْقَبیحِ الْخاسِرِ ، أَفَلَا تَتَدَبَّرونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلی قُلُوبٍ أَقْفالُها ؟ کَلّا بَلْ رانَ عَلی قُلُوبِکُمْ ما أَسَأْتُمْ مِنْ أَعْمالِکُمْ ، فَأَخَذَ بِسَمْعِکُمْ وَأَبْصارِکُمْ ، وَلَبِئْسَ ما تَأَوَّلْتُمْ ، وَساءَ ما بِهِ أَشَرْتُمْ ، وَشَرَّ ما مِنْهُ اعْتَضْتُمْ » .

وقولها علیها السلام للأنصار :

« أَلَا وَقَدْ أَری أَنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إِلَی الْخَفْضِ ، وَأَبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ

ص:364


1- (1) الاحتجاج : 1 : 144 .

أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ » .

وقولها علیها السلام :

« فَوَسَمْتُمْ غَیْرَ إِبِلِکُمْ ، وَأَوْرَدْتُمْ غَیْرَ شِرْبِکُمْ» .

وقد تقدّم فی المحطّة السابقة حکمها فی خطبتها أمام أهل السقیفة بوجوب قتالهم وجهادهم ، لأنّهم نکثوا أیمانهم من بعد عهدهم ، وطعنوا فی الدین ، فصار أهل السقیفة روّاداً وأئمّة لمسیرة الکفر ، أی الضلال الذی هو فی مقابل الإیمان لا فی مقابل الإسلام ، فقالت علیها السلام للأنصار :

« وجبنتم بَعْدَ الشَّجاعَةِ عَنْ قَوْمٍ نَکَثوا أَیْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهم ، وَطَعَنوا فی دینکم فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ » ، ثم تلت الآیة التی بعدها ، و أنهم انقلبوا علی أعقابهم وقرأت قوله تعالی : اِنْقَلَبْتُمْ عَلی أَعْقابِکُمْ... .

المشهد السادس : إفحامها لأبی بکر فی الحجاج أمام مرأی ومسمع من المهاجرین والأنصار ، حیث قطعت علیه الحُجج الواحدة تلو الاُخری بعد مداولة الجدال ، حتّی انقطعت علیه المعاذیر فما بقی له أن یتشبث إلّابآخر قوله : « هؤلاء المسلمون بینی وبینک قلّدونی ما تقلّدت ، وباتّفاق منهم أخذت ما أخذت ، غیر مکابر ، ولا مستبدّ ، ولا مستأثر ، وهم بذلک شهود » .

فلم یتمکّن من التشبّث بآیة أو حدیث أو دلیل سوی التواطؤ مع الملأ الحاضر ، والاستناد إلی التواطؤ لیس إلّا، وأنّ الکلّ مسؤول عن ذلک ولیس هو وحده ، فمن ثمَّ التفتت فاطمة علیها السلام إلی الناس فی آخر هذا المجلس و قالت :

« مَعاشِرَ النّاس الْمُسْرِعَةِ إِلی قیلِ الْباطِلِ ، الْمُغْضِیَةِ عَلَی الْفِعْلِ الْقَبیحِ الْخاسِرِ . . .» .

ولو نظر الباحث الحصیف إلی هذه المشاهد بإمعان وتأمّل واستشعر ذلک بفطنته ووجدانه کیف قامت فاطمة بمحاکمة أبی بکر ومحاسبة المهاجرین والأنصار ، وإدانتهم بحجج قویّة حازمة لأبصر بوضوح تامّ ما تحتلّه فاطمة علیها السلام من موقعیة فی الدین ، ومقام فی الولایة وإمساک مقالید الاُمّة ، وهیمنة علی قلوب

ص:365

وعقول المهاجرین والأنصار .

وبعکس ذلک تماماً ما حاولت أن تقوم به عائشة فی قبال أمیر المؤمنین علیه السلام أیّام خلافته بعد أن نقضت بیعته ، فإنّها لم تجرؤ أن تعلن خلافها معه جهاراً فی المدینة المنوّرة ، بل تسلّلت إلی مکّة ، تحت ذریعة الحجّ أو العمرة ، ثمّ لم تجرؤ علی إعلان الخلاف علی أمیر المؤمنین علیه السلام إلّابالاحتماء والالتجاء إلی بعض القبائل ، نظیر بنی ضُبّة ، فتمادی بها الأمر إلی الخروج من قرار بیتها فی المدینة ، وترک ما افترض اللّه تعالی علیها فی قوله : وَ قَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ ، کی تتمکّن من المعارضة ، وقد استنکرت بقیّة نساء النبیّ صلی الله علیه و آله علیها فعلها ، کما أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام واجهها بالقتال الشدید حتّی انهزم جیشها ، ومَنّ علیها بالأمان والعفو الذی عُرف به علیه السلام عن العصاة والمردة ، وأرجعها إلی المدینة .

ومن هذه المفارقات - مع أنّنا لسنا بصدد قیاس سیّدة نساء العالمین علیها السلام بغیرها من نساء الاُمّة - یعرف مدی موقعیّة الزهراء علیها السلام وهیمنتها علی مقالید الاُمور .

المشهد السابع : اعترافات أبی بکر أمام ملأ المسلمین بموقعیّتها فی الدین وولایتها ، فرغم أن الجوّ القائم کان ملتهباً فی المواجهة ، والوضع مرشّح للانفجار ، و ذلک بهدف تبرئة نفسه من التمرّد علی موقعیة فاطمة علیها السلام مثل قوله : « صدق اللّه ورسوله وصدقت ابنته » فأردف موقع فاطمة علیها السلام بعد موقعیة اللّه ورسوله فی الصدق والحجّیة ، وقوله : « أنت معدن الحکمة ، وموطن الهدی والرحمة ورکن الدین وعین الحجّة ، لا أبعد صوابک ، ولا أنکر خطابک » وقوله : « أنت سیّدة امّة أبیک ، لا یدفع ما لک من فضلک ، ولا یوضع فی فرعک وأصلک ، حکمک نافذ » .

المشهد الثامن : اضطراب الأمر وهیاج الناس بعد دعوتها للجهاد ضدّ أصحاب السقیفة ، حیث قد نُقل فی عدّة مصادر الحال الذی صار إلیه الناس بعد خطبتها ، فقد روی الطبری فی « دلائل الإمامة » : « ثمّ ولّت ، فتبعها رافع بن رفاعة الزرقیّ فقال

ص:366

لها : یا سیّدة النّساء ، لو کان أبو الحسن تکلّم فی هذا الأمر وذکر للناس قبل أن یجری هذا العقد ما عدلنا به أحداً .

فقالت له بِرِدْنِها :

إلیک عنّی ، فما جعل اللّه لأحد بعد غدیر خمّ من حجّة ولا عذر .

قال : فلم یُرَ باک وباکیة کان أکثر من ذلک الیوم ، ارتجّت المدینة وهاج الناس وارتفعت الأصوات .

فلمّا بلغ ذلک أبا بکر قال لعمر : تَرِبت یداک ما کان علیک لو ترکتنی ، فربّما رفأت الخرق ، ورتقت الفتق . ألم یکن ذلک بنا أحقّ ؟

فقال الرجل : قد کان فی ذلک تضعیف سلطانک ، وتوهین کافّتک ، وما أشفقت إلّا علیک .

قال : ویلک فکیف بابنة محمّد وقد علم الناس ما تدعو إلیه ، وما نحن من الغدر علیه .

فقال : هل هی إلّاغمرة انجلت ، وساعة انقضت ، وکأنّ ما قد کان لم یکن . . .»(1).

وروی الجوهری فی کتابه « السقیفة وفدک » : أنّ فاطمة علیها السلام ألقت خطبتها ورجعت إلی بیتها ، فلمّا سمع أبو بکر خطبتها شقّ علیه مقالتها ، فصعد المنبر وقال :

أیّها النّاس ، ما هذه الرعَة إلی کلّ قالة . . . » .

ثمّ عرّض بأمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب علیه السلام بسُباب ، وکلام بذیء جدّاً ، ثمّ التفت إلی الأنصار وقال : « قد بلغنی یا معشر الأنصار مقالة سفهائکم وأحقّ من لزم عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنتم ، فقد جاءکم فآویتم ونصرتم ، ألا إنّی لست باسطاً یداً ولا لساناً علی من لم یستحقّ ذلک منّی »(2) .

ص:367


1- (1) دلائل الإمامة للطبری : 122 .
2- (2) السقیفة وفدک : 102 ، ط . مکتبة نینوی - طهران ، ورواه ابن أبی الحدید عنه أیضاً 21416 - 215 .

قال ابن أبی الحدید بعد ما أورد ذلک : « قرأت هذا الکلام علی النقیب أبی یحیی جعفر بن یحیی بن أبی زید وقلت له : بمن یُعرّض ؟

فقال : بل یُصرّح .

قلت : لو صرّح لم أسألک .

فضحک وقال : بعلیّ بن أبی طالب علیه السلام .

قلت : هذا الکلام کلّه لعلیّ یقوله ! !

قال : نعم إنّه المُلْک یا بنیّ .

قلت : فما مقالة الأنصار ؟

قال : هتفوا بذکر علی فخاف من اضطراب الأمر علیهم فنهاهم .

والرعة : الاستماع والإصغاء . والقالة : القول(1) .

و هذا یدلّ علی هیاج الأنصار واضطرابهم بعد دعوة فاطمة علیها السلام لهم بالجهاد ، وتأنیبهم علی خذلان أهل البیت علیهم السلام ، وأنّ الأمر کاد ینفلت منه و ینقلب علیه لولا أنّ الأنصار قد ضعف موقفهم نتیجة الانقسام فیما بینهم من جهة ، ودعم شبکة الأحزاب القبلیّة لمخطّط السقیفة فی مصادرة الخلافة من أهل البیت علیهم السلام .

ومن ثَمّ هدّد أبو بکر الأنصار وعرّض باستخدام السوط فیهم ، و ذلک بعد انکسار شوکتهم بنشوب الاختلاف بینهم .

المشهد التاسع : عدم مبایعة علیّ علیه السلام وعموم بنی هاشم أبی بکر حتّی توفّیت فاطمة علیها السلام وقد مرّ الحدیث عن هذا المشهد فیما مضی .

ص:368


1- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 16 : 214 و 215 .

المحطّة الثالثة: تفرّدها فی المواجهة المعلنة لمشروع السقیفة ،وتکبّدها بذلک أکبر التضحیات

قولها علیها السلام :

« یابْنَ أَبی طالِبٍ ، اشْتَمَلْتَ شِمْلَةَ الْجَنینِ ، وَقَعَدْتَ حُجْرَةَ الظَّنینِ . . .

حَتّی حَبَسَتْنی قیلَةُ نَصْرَها ، وَالْمُهاجِرَةُ وَصْلَها ، وَغَضَّتِ الْجَماعَةُ دُونی طَرْفَها ، فَلَا دافِعَ وَلَا مانِعَ . . .ماتَ العُمُد ، وَوَهَنَ الْعَضُدُ ، شَکْوایَ إِلی أَبی ، وَعَدْوایَ إِلی رَبّی » .

إنّ الملاحظ من مواقف الزهراء علیها السلام بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی النکیر علی اجتماع السقیفة ، وما نتج منه أنّه موقف رافض بشکل صریح ، ویستخدم النکیر المکشوف علی مسار السقیفة وبلا هوادة وبکلّ قوّة ، حتّی أنّ الأمر آل إلی المشادّة والتجاذب بنحو کان مهیّجاً لجماعة السقیفة ومربکاً لهم ، کما هو ملحوظ فی إقدامها علی الخطبة فی مسجد النبیّ صلی الله علیه و آله والذی کان یعتبر الساحة الاُولی لتدبیر الحکومة والخلافة ، وموقع الصفوف الاُولی لإدارة الدولة الإسلامیة ، وما ألقته من کلمات وتعبئة مثیرة للأنصار ولعموم المسلمین .

حتّی أنّ ابن أبی الحدید ینقل حالة الوضع بعد خطبتها أنّ الأنصار صاروا فی حالة نفسیة معبّأة للتحرّک فی وجه الخلیفة الأوّل ، حتّی خشی هو من انفلات الوضع ، فأخذ یطعن فی شخصیة أمیر المؤمنین علیه السلام أمام ملأ الأنصار بسفاف بعید عن الحشمة تماماً ، وکلّ ذلک لأجل أن یُخمد فتیل التعبئة ضدّه ، کما أنّ مَشاهد مواجهتها لمداهمات جماعة السقیفة لبیت علیّ علیه السلام الذی کان یمثّل مرکز التدبیر السیاسی فی نظام المسلمین ، وعاصمة الدولة الإسلامیة فهذه المواجهة منها بقوّة وجرأة وبنحو مباشر ومعلَن سبّب لها تحمّل کثیر من التضحیات ، انفردت هی بها علیها السلام ، إلی درجة لم یکن أمیر المؤمنین علیه السلام تسمح له الظروف القیام بها ، بسبب اشتباک الأحوال من تعقیدات واختلاط فی الأوراق یصعب بل یمتنع

ص:369

علی عامّة المسلمین التفکیر فی الموازنة واتّخاذ الموقف المناسب ، والتمییز بین الحقّ منها والزائف الزائغ ، بحیث لو قام علیه السلام بهدم الزیغ لما زاد الاُمور إلّاتعقیداً ، و هذا ما أوجب غُربتها وانفرادها فی تحمّل المسؤولیّة ، بحیث کان یقع الثقل الأکبر فی الصدمة والصدام علیها .

و هذا ما عبّر عنه النبیّ صلی الله علیه و آله لعلیّ علیه السلام :

« عمّا قریب سینهدّ رکناک یا علیّ »(1) .

أی أنّ الزهراء علیها السلام کانت رکناً وملجأً لرایة أمیر المؤمنین علیه السلام ومنهاجه ، و هذا ما یفسّر قولها علیها السلام لأمیر المؤمنین علیه السلام عندما رجعت :

« یابْنَ أَبی طالِبٍ ،

اشْتَمَلْتَ شِمْلَةَ الْجَنینِ ، وَقَعَدْتَ حُجْرَةَ الظَّنینِ . . . » .

و هذا التعبیر لا یراد منه ما یوهمه ظاهره ، من توجیه العتب لسیّد الأوصیاء ، بل المراد منه نظیر المراد ما فی قوله تعالی للنبیّ عیسی علیه السلام : أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ (2) ، ونظیر المراد من قول النبیّ موسی علیه السلام لهارون : ما مَنَعَکَ إِذْ رَأَیْتَهُمْ ضَلُّوا*أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَیْتَ أَمْرِی (3) .

فإنّه لیس المراد فی الآیتین توجیه العتاب إلی المخاطب ، بل بیان فضاعة الحدث ، وبشاعة القائمین علیه ، وشدّة المسؤولیّة تجاهه ، بحیث تصل الحالة إلی المساءلة .

والمعنی المراد هنا زیادة علی ذلک من قولها علیها السلام هو بیان مدی الغربة التی عانت مرارتها من خذلان الکلّ لها ، وعدم وجود أیّ ناصر ، کما یشیر إلی ذلک ما رواه الشیخ الطوسی فی الصحیح عن أبان بن تغلب ، عن عکرمة ، عن عبد اللّه بن عبّاس ،

ص:370


1- (1) أمالی الصدوق : 198 ، الحدیث 210 . معانی الأخبار : 403 ، الحدیث 69 . روضة الواعظین : 152 . ذخائر العقبی : 56 .
2- (2) المائدة : 116 .
3- (3) طه : 93 .

قال : « لما حضرت رسول اللّه صلی الله علیه و آله الوفاة . . . فقال صلی الله علیه و آله :

« . . . کأنّی بفاطمة ابنتی وقد ظلمت بعدی وهی تنادی : یا أبتاه ، فلا یعینها أحد من أمتی »(1) .

بل هذا الکلام فی حقیقته هو دفاع عن أمیر المؤمنین علیه السلام ، قالته أمام من احتشد فی بیتها من بنی هاشم وأنصار علیّ وفاطمة علیها السلام ، لیتبیّن لهم الموقف ، وأنّ عدم انبراء علیّ علیه السلام للدفاع عن فاطمة هو الخشیة من تعقید الاُمور فی بصیرة المسلمین والأجیال اللاحقة ، فیزداد التباس الحقّ بالباطل ، وتختلط الأوراق ، ویظنّون بعلیّ علیه السلام انجراره نحو الدنیا کما هو حال أصحاب السقیفة همّهم الحرص علی الرئاسة والدنیا ، فیدبّ الشکّ لدیهم فی أهل الدین ، وأنّه انتهاز للقضّ علی الرئاسة ، فتتزلزل بذلک العقیدة بالإسلام .

فهذا هو الذی قیّد علیّاً علیه السلام ومنعه عن القیام بالمهمّة العظیمة من مساندة فاطمة علیها السلام فی موقفها ، فهذا الحوار منها مع علیّ علیه السلام هو من باب « إیّاک أعنی واسمعی یا جارة » واسمعی یا جارة حقیقة موقف أمیر المؤمنین علیه السلام ، وأنّه لیس هناک اختلاف بین موقف فاطمة وموقفه علیهما السلام ، بل هما علی وفاق ومسار واحد ، امتداد لمسار النبیّ صلی الله علیه و آله .

المحطّة الرابعة : فلسفة شدّة جزعها علی أبیها :

قولها علیها السلام :

« أَتَقُولُونَ : مَاتَ مُحَمَّدٌ ؟ فَخَطْبٌ جَلِیلٌ اسْتَوْسَعَ وَهیّه . . . » .

إنّ الملاحظ من حزن فاطمة علیها السلام علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وبکائها وندبتها وعزائها علیه کان بنحو من الشدّة لا یطیقه الآخرون ، حیث إنّه صار الناس فی دهشة وحیرة لما یرونه ویسمعونه من شدّة ذلک ، حتّی أنّ المعروف من کتب السیر أنّه « اجتمع شیوخ أهل المدینة وأقبلوا إلی أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام فقالوا له : یا أبا الحسن ،

ص:371


1- (1) أمالی الطوسی : 188 ، الحدیث 316 . بحار الأنوار : 43 : 156 .

إنّ فاطمة تبکی اللیل و النهار ، فلا أحد منّا یتهنّأ بالنوم فی اللیل علی فرشنا ، ولا بالنهار لنا قرار علی أشغالنا وطلب معائشنا ، وإنّا نخبرک أن تسألها إمّا أن تبکی لیلاً أو نهاراً .

فقال علیّ علیه السلام :

حُبّاً وکرامة .

فأقبل أمیر المؤمنین علیه السلام حتّی دخل علی فاطمة علیها السلام ، وهی لا تفیق من البکاء ولا ینفع فیها العزاء ، فلمّا رأته سکنت هنیئة له ، فقال لها :

یا بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، إنّ شیوخ المدینة یسألونی أن أسألک إمّا أن تبکی أباک لیلاً وإمّا نهاراً .

فقالت :

یا أبا الحسن ، ما أقلّ مکثی بینهم ، وما أقرب مغیبی من بین أظهرهم ،

فو اللّه لا أسکت لیلاً ولا نهاراً أو ألحق بأبی رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

فقال لها علیّ علیه السلام :

إفعلی یا بنت رسول اللّه ما بدا لک »(1) .

ولا یخفی ما فی موقف علیّ علیه السلام من تقریر لعصمة فاطمة علیها السلام وحجّیة فعلها .

وقد ورد أیضاً فی روایة الإمام جعفر الصادق علیه السلام :

« البکّاؤون خمسة : آدم ،

ویعقوب ، ویوسف ، وفاطمة بنت محمّد صلی الله علیه و آله ،

وعلیّ بن الحسین . . . وأمّا فاطمة فبکت علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله حتّی تأذّی بها أهل المدینة ، فقالوا لها : قد آذیتینا بکثرة بکاؤک ، وکانت تخرج إلی المقابر ، مقابر الشهداء فتبکی حتّی تقضی حاجتها ثمّ تنصرف »(2) .

وهذه الظاهرة ملحوظة فی الزهراء علیها السلام بنحو التمیّز ، کما تصف روایات التاریخ أنّ أهل المدینة قد ضجّوا من بکائها ، بدرجة أصبح ذلک مضرب مثل فی التاریخ ، فیقال : کیوم توفّی فیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ومع تلک الشدّة فإنّه لم یصلوا إلی تلک الشدّة التی کانت علیها ، حزن سیّدة النّساء علیها السلام ، بل هم أنفسهم رغم

ص:372


1- (1) بحار الأنوار : 43 : 177 .
2- (2) وسائل الشیعة : 3 : 281 ، الحدیث 3655 .

جزعهم لم یتحمّلوا شدّة جزعها ، فإنّ جزعها جزع معصوم لتنوء به جبال الأرض ، وهی رغم اعتراضهم بقیت علی هذه الحالة إلی أن توفّیت علیها السلام ، و هذا السلوک منها علیها السلام یسترعی الانتباه والوقوف عنده ، بعدما شهد لها القرآن بالطهارة من الزلل والخطأ ، فما هو الأمر وراء هذا السلوک ، وما هی غایاته وأسبابه ؟ وما الذی یؤسّسه من منهاج للأمة ؟

فإنّه یقال : إنّ شخصیة الرسول صلی الله علیه و آله بما اتّصفت به من مقام لا یمکن أن تشهده البشریّة من بعده ، کما لم تشهده من قبله ، فمن ثَمّ عظم مصاب فقده ، کما ورد فی روایات أهل البیت علیهم السلام بیان هذه الحقیقة ، أنّ الخلائق لم یُصابوا بمثل مصاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله (1) . أی بمثل الخسارة التی مُنیت بها الاُمّة بفقد رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

فاستشعار عظم مصابه یرشد ویُعرّف عظم مقامه صلی الله علیه و آله ، أی أنّه یکوّن معرفة صحیحة وسدیدة بموقعیة الرسول والرسالة ، والنبیّ والنبوّة ، کما أنّ العکس ، أی قلّة البقاء والجزع یفضی ویُنبیء عن انحطاط المعرفة بمقام النبیّ صلی الله علیه و آله .

وهذه الأهمّیة بعظم مقامه صلی الله علیه و آله ومعرفته ترسم بنیاناً وصرحاً فی قوام الدین ، کما نلحظها فیما ذکره القرآن الکریم فی تعظیم شخصیة النبیّ صلی الله علیه و آله فی نعته بعظائم المدیح ، کوصفه برحمة للعالمین وببعض الأسماء الإلهیّة ، کالرؤوف الرحیم ، واقتران طاعته بطاعة اللّه تعالی ، فی کلّ أوامر الطاعة فی القرآن ، واقتران ولایته بولایة اللّه تعالی ، وذکره بذکر اللّه تعالی ، کما فی قوله تعالی : وَ رَفَعْنا لَکَ ذِکْرَکَ (2) ، وباشتراط التوسّل به فی قبول التوبة بضمیمة اشتراط شفاعته أیضاً ، وبخفض الصوت عنده ، وأنّ سوء الأدب معه صلی الله علیه و آله یحبط الأعمال ، وغیرها من شؤون التعظیم له صلی الله علیه و آله ، فإنّ من الغایات لذلک هو شدّ الناس إلی اتباعه ، بالتعلّق به ،

ص:373


1- (1) وسائل الشیعة : 3 ، الباب 79 من أبواب الدفن .
2- (2) الشرح : 4 .

وبتوسط توثیق وتوکید المحبّة له ، فإنّه کلما اشتدّ التعلق والمحبة اشتدّ الاتباع والتسلیم والانقیاد له ، وعلی العکس إذا قلّ التعلّق وضعفت المحبة فإنّه یستعصی الاتباع ، ویمتنع الانقیاد الکامل والتسلیم له صلی الله علیه و آله .

فإنّ المحبّة هی الصراط الأطوع للطاعة والاتباع .

ونلاحظ هذا الترکیز علی التعلّق برسول اللّه صلی الله علیه و آله جلیاً فی تعالیم الدین ووصایاه ، ففی قول علیّ علیه السلام بعد وفاة الزهراء علیها السلام :

« قَلَّ یَا رَسُولَ اللّهِ عَنْ صَفِیَّتِکَ صَبْرِی ، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِی ، إِلَّا أَنَّ لی فِی التَّأَسِّیِ بِسُنَّتِکَ فی فُرْقَتِکَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ . . .

وَفِیکَ أَحْسَنُ الْعَزاءِ »(1) .

فیبیّن علیه السلام بأنّ عظم المصاب بفقده یسلّی ما دونه من المصاب ، بل إنّ هذا التعلق لعلیّ علیه السلام برسول اللّه صلی الله علیه و آله ظلّ بتلک الشدّة إلی آخر حیاته علیه السلام ، حتّی أنّه قیل له : لو غیّرت شیبک یا أمیر المؤمنین - أی أن یصبغه بالخضاب - فقال علیه السلام :

« الخضاب زینة ونحن قوم فی مصیبة » ، یرید برسول اللّه صلی الله علیه و آله (2) .

ومن هنا ورد عنه صلی الله علیه و آله :

« من أصیب بمصیبة فلیذکر مصیبته فیّ فإنّها أعظم المصائب » .

وکذلک ما ورد عن أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام :

« إذا أصبت بمصیبة فاذکر مصابک برسول اللّه صلی الله علیه و آله ،

فإنّ الخلق لم یصابوا بمثله قطّ »(3) .

ومن ثمّ یُفهم فلسفة هذه الشدّة فی جزعها وبکائها ، فإنّ ما فعلته علیها السلام تربیة للجیل

ص:374


1- (1) بحار الأنوار : 43 : 211 ، نقلاً عن أمالی الشیخ المفید .
2- (2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 20 : 230 ، کلمة 481 . وسائل الشیعة : 2 باب استحباب الخضاب بالسواد ، الحدیث 3 .
3- (3) وسائل الشیعة : 3 : 267 ، باب استحباب تذکّر المصاب مصیبة النبیّ صلی الله علیه و آله ، واستصغار مصیبة نفسه بالنسبة إلیها .

الأوّل من الاُمّة وللأجیال اللاحقة علی تأکید التعلّق برسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ولم یقم بهذه السنّة غیرها ، وما سنّته هو ما أکّد علیه القرآن الکریم ، فإنّ فلاح هذه الاُمّة وصلاحها وسدادها بتوثیق محبّتها لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فإنّ المحبّ لمن أحبّ مطیع ، وکلّما فترت وضعفت محبّة هذه الاُمّة بنبیّها کلّما ابتعدت عن التأسّی برسولها .

و هذا الذی نهجته علیها السلام کان فی قبال شعار آخر رُفع یوم السقیفة ینادی بمقولة :

« من کان یعبّد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات »(1) ، فإنّ مقصود رافعی هذا الشعار هو الإنکار علی شدّة تعلّق الناس برسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وأنّ هذا الولاء من الناس یصفه أصحاب هذا الشعار بأنّها عبادة للنبیّ صلی الله علیه و آله ، وإلّا فلم یحدّثنا التاریخ أنّ أحداً من المسلمین کان قد صلّی أو صام لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، أو قال باُلوهیّته صلی الله علیه و آله ، ومرادهم من جعل موت النبیّ صلی الله علیه و آله غایة لعبادته هو أنّهم یجعلون وفاته صلی الله علیه و آله نهایة لهذا الولاء ، وهذه الدرجة من التعلّق والذوبان والطاعة ، وأنّه من یوم رحیله فلاحقاً سیتمّ مواجهة ذلک .

و هذا الشعار وإن أعلنوه بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلّاأنّهم لطالما مارسوه فی حیاته صلی الله علیه و آله ، وأرادوا فی مواطن عدیدة إفشاءه بین المسلمین ، فإنّ قائلهم وهو المنادی فی محضر من النبیّ صلی الله علیه و آله فی أعصب الأوقات التی یمرّ بها سیّد الرسل : « إنّ الرجل لیهجر » و هذا الشعار الذی رفع فی البدایة ، قد اختطّ منهجاً توالت فصوله ومراحله لاحقاً فی مجالات عدیدة ، منها منع روایة حدیث رسول اللّه صلی الله علیه و آله وتدوینه ، حیث قال قائلهم : فلا تحدّثوا عن رسول اللّه شیئاً فمن سألکم فقولوا : بیننا وبینکم کتاب اللّه فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه(2) .

ص:375


1- (1) صحیح البخاری : 2 : 70 و 4 : 194 .
2- (2) تذکرة الحفاظ : 1 : 23 .

وقال قائلهم الآخر : من کان عنده منها شیء فلیمحه(1) .

حتّی وصل الأمر بالخلیفة الثانی إلی منع بعض الصحابة من السفر خارج المدینة لئلّا یحدّثوا عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله (2) .

بل قد مرّ أنّهم منعوا تدوین حدیثه صلی الله علیه و آله فی عهده صلی الله علیه و آله فقد روی عبد اللّه بن عمر أنّه قال : « کنت أکتب کلّ شیء أسمعه من رسول اللّه صلی الله علیه و آله أرید حفظه ، فنهتنی قریش وقالوا : تکتب کلّ شیء سمعته من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ورسول اللّه بشر یتکلّم فی الغضب والرضا ؟ فأمسکت عن الکتابة ، وذکرت ذلک لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فأومأ بإصبعه إلی فیه وقال : اکتب فوالذی نفسی بیده ما خرج منه إلّاالحقّ »(3) .

هذا فضلاً عن کتابة سیرته صلی الله علیه و آله وتفاصیل الحوادث فی عهد صدر الإسلام .

وقد فضحت الصدّیقة فاطمة علیها السلام هذا المنهج و هذا الخطّ بما قامت به من إحیاء سُنّة إبقاء الولاء الشدید لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وتأکیده فی قلوب المسلمین وزرع الحبّ الباعث علی التسلیم والاتّباع له ، والتأکید علی عدم نسیان ذکره والحفاظ علی حرمته ، فی قبال ذلک بدا واضحاً انزعاج قریش ممّا أظهرته من شدّة التعلّق علیه برسول اللّه صلی الله علیه و آله والجزع .

وقد أشارت علیها السلام فی خطبتها إلی ذلک بقولها :

« أَمَا کَانَ رَسُولُ اللّهِ أَبِی یَقُولُ : « الْمَرْءُ یُحْفَظُ فِی وُلْدِهِ » ، سُرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُمْ ، وَعَجْلَانَ ذَا إِهَالَةً ، وَلَکُمْ طَاقَةٌ بِمَا احَاوِلُ ،

وَقُوَّةٌ عَلی مَا أَطْلُبُ وَاُزَاوِلُ ؟

أَتَقُولُونَ : مَاتَ مُحَمَّدٌ ؟ فَخَطْبٌ جَلِیلٌ اسْتَوْسَعَ وَهْنُه ، وَاسْتَنْهَرَ فَتْقُهُ ، وَانْفَتَقَ رَتْقُهُ ،

ص:376


1- (1) کنز العمّال : 10 : 292 ، الحدیث 29476 . تقیید العلم : 53 .
2- (2) تذکرة الحفاظ : 1 : 7 . المستدرک علی الصحیحین للحاکم : 1 : 110 . المصنّف لابن أبی شیبة : 5 : 294 ، الحدیث 26229 .
3- (3) تقیید العلم : 74 . سنن الدارمی : 1 : 125 . سنن أبی داود : 3 : 318 ، الحدیث 3646 .

وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ لِغَیْبَتِهِ ، وَکُسِفَتِ النُّجُومُ لِمُصِیبَتِهِ ، وَأَکْدَتِ الْآمالُ ، وَخَشَعَتِ الْجِبالُ ، وَاُضِیعَ الْحَرِیمُ ، وَاُزِیلَتِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ مَمَاتِهِ . فَتِلْکَ وَاللّهِ ! النَّازِلَةُ الْکُبْری ،

وَالْمُصِیبَةُ الْعُظْمی ، لَامِثْلُهَا نَازِلَةٌ ، وَلَا بَائِقَةٌ عَاجِلَةٌ ، أعْلَنَ بِهَا کِتَابُ اللّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِی أَفْنِیَتِکُمْ فِی مُمْسَاکُمْ وَمُصْبَحِکُم ، هِتَافاً وَصُراخاً ، وَتِلَاوَةً وَأَ لْحَاناً ، وَلَقَبْلَهُ مَا حَلَّ بِأَنْبِیَاءِ اللّهِ وَرُسُلِهِ ، حُکْمٌ فَصْلٌ ، وَقَضَاءٌ حَتْمٌ (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلی أَعْقابِکُمْ وَ مَنْ یَنْقَلِبْ عَلی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللّهَ شَیْئاً وَ سَیَجْزِی اللّهُ الشّاکِرِینَ ) .

وبقولها :

« وَتَسْتَجِیبُونَ لِهِتافِ الشَّیْطانِ الْغَوِیِّ ، وَإِطْفاءِ أَنْوارِ الدِّینِ الْجَلِیِّ ،

وَإِهْمادِ سُنَنِ النَّبِیِّ الصَّفِیِّ »(1) .

فهی تشیر بما قامت به من تربیة الاُمّة علی السیر علی نهج الانشداد إلی شخصیّة النبیّ صلی الله علیه و آله والذوبان فی محبته ، إلی کون هذا هو الطریق لطاعته ، والتسلیم لحکمه ونبوّته ، والتصدیق برسالته صلی الله علیه و آله ، فی قبال ما نهجته قریش من إماتة ذکر النبیّ صلی الله علیه و آله و رفع شعار « مات رسول اللّه صلی الله علیه و آله » لإماتة سنّته ونهجه وهدیه ، کما فی قولها :

« أَتَقُولُونَ : مَاتَ مُحَمَّدٌ ؟ . . .

الآن مات رسول اللّه ، أمتم دینه » وقولها :

« وَإِهْمادِ سُنَنِ النَّبِیِّ الصَّفِیِّ » ، فهی تبدی الاستنکار علی الشعار الذی رفعوه وهو « مات محمّد » .

کما أوضحت علیها السلام إلی ما أشار إلیه القرآن الکریم لهذا الإحداث فی الدین ، والتبدیل الذی بیّتته قریش لحین وفاة الرسول صلی الله علیه و آله ، حیث عبّر القرآن الکریم عن ذلک بالانقلاب علی الأعقاب ، أی الرجوع إلی ما کانوا علیه من قبل ، ولا یخفی أنّ الآیة إذا نزلت لا تختصّ بمورد النزول ، وهو ما حدث فی واقعة أحد ، بل معانی الآیات عامّة ذات مفاهیم خالدة ، تشیر إلی تکرّر السُّنن وانطباق الآیات علیها .

ص:377


1- (1) تقیید العلم : 74 . سنن الدارمی : 1 : 125 . سنن أبی داود : 3 : 318 ، الحدیث 3646 .

ص:378

المقالة الرابعة : فاطمة علیها السلام أحصنت فرجها فحرّم اللّه ذرّیتها علی النّار

اشارة

روی الفریقان علیهم السلام مستفیضاً حدیث

« فاطمة قد أحصنت فرجها فحرّم اللّه ذرّیتها علی النار »(1) وفی بعض الروایات أنّها « جُعلت مستودعاً للحسن والحسین ورحماً لهما ولنسل الإمامة » ، فهو نظیر ما ورد فی مریم علیها السلام من قوله تعالی : وَ مَرْیَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِی أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِیهِ مِنْ رُوحِنا (2) ، حیث إنّ ظاهر الآیة أنّ سبب إعطاء عیسی لمریم هو إحصان فرجها ، وبضمیمة ما ورد مستفیضاً أنّ فاطمة علیها السلام أحصنت فرجها ؛ تتأتّی نفس العلّة فیها علیها السلام فحرّم اللّه ذرّیتها علی النّار أی أنّ ذرّیّتها عصموا من الضلال والردی(3) .

فلیس المراد فیه صِرف مجرّد العفّة عن الفاحشة الکبیرة ، فإنّ هذا أمر تتحلّی به کثیر من المؤمنات ، ومع ذلک لم یصلن إلی مقام ( مستودع العصمة والطهارة ) ، فلا بدّ أن یکون المعنی أکبر من ذلک .

ص:379


1- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام : 1 : 257 ، الحدیث 1 و : 259 ، الحدیث 4 . الخرائج والجرائح :1 : 280 . مناقب ابن شهرآشوب : 3 : 107 ، مناقب فاطمة علیها السلام . الحاکم فی المستدرک : 3 : 152 . شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید : 18 : 253 . نظم درر السمطین للزرندی الحنفی : 180 . الجامع الصغیر للسیوطی : 1 : 352 ، الحدیث 2309 . تاریخ بغداد : 3 : 266 . میزان الاعتدال للذهبی : 3 ، الحدیث 6183 . لسان المیزان لابن حجر : 4 : 322 ، الرقم 910 .
2- (2) التحریم : 12 .
3- (3) انظر بحار الأنوار : 43 : 50 .

وقد استعمل عنوان ( الفرْج ) کنایة عن مطلق الشهوة الجنسیة ، وعلی ذلک یکون المراد من الإحصان هو العفاف بدلاً عن استعمال الشهوة الجنسیة فی تمام أعضاء البدن ، سواء العین أو الید أو الاُذن ، أو غیرها من الحواسّ ، فضلاً عن الفرج کما ورد ، فعن الصادقین علیهما السلام قالا :

« ما من أحد إلّاویصیب حظّاً من الزنا ، فزنا العین النظر ، وزنا الفم القُبلة ، وزنا الیدین اللمس »(1) ، وإلیه یشیر قوله تعالی : یَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْیُنِ وَ ما تُخْفِی الصُّدُورُ (2) .

فعن أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام :

« النظرة بعد النظرة تزرع فی القلب الشهوة ، و کفی بها لصاحبها فتنة »(3) .

وعن النبیّ صلی الله علیه و آله :

« العین تزنی والقلب یزنی ، فزنا العین النظر ، وزنا القلب التمنّی ،

والفرْج یصدِّق ما هنالک أو یکذِّبه »(4) .

وعن النبیّ صلی الله علیه و آله :

« لکلّ ابن آدم حظّه من الزنا ، فزنا العین النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والاُذنان زناهما الاستماع ، والیدان تزنیان فزناهما البطش ، والرجلان تزنیان فزناهما المشی ، والفم یزنی فزناه القبل »(5) .

بل الظاهر أنّ معنی إحصان الفرج بمقتضی ما ورد من الآیات الواردة فی عفّة الحجاب وهو أن تحصّن المرأة نفسها ولا تظهر زینتها للأجنبیّ ، فیلتذّ بالنظر إلیها ؛ تقع فی معرض : ولو برمق العین ، أو تلذّذ السماع ، کما یشیر إلیه قوله تعالی :

فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَیَطْمَعَ الَّذِی فِی قَلْبِهِ مَرَضٌ (6) بل قد یصل الحجاب

ص:380


1- (1) وسائل الشیعة : 20 : 191 ، الحدیث 25396 .
2- (2) غافر : 19 .
3- (3) وسائل الشیعة : 20 : 192 ، الحدیث 253400 .
4- (4) مسند أحمد : 2 : 329 .
5- (5) کنز العمّال : 5 : 324 ، الحدیث 13048 .
6- (6) الأحزاب : 32 .

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

برای ادامه مشاهده محتوای کتاب لطفا عبارت امنیتی زیر را وارد نمایید.

ص:

رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وولیّ أبی بکر ، فرأیتمانی کاذباً ، آثماً ، غادراً ، خائناً ، و اللّه یعلم أنّی لصادق ، بارّ ، راشد ، تابع للحقّ ، فولّیتُما ، ثمّ جئتنی أنت و هذا ، وأنتما جمیع ، وأمرکما واحد ، فقلتما : ادفعها إلینا » .

وکما أسلفنا أنّ البخاری قد روی ذلک أیضاً ، لکنّه قد حذف بعض المقاطع منه .

وهذه المحاججة التی رواها مسلم والبخاری تدلّ علی احتجاج علیّ علیه السلام علی أبی بکر وعمر فی شأن الخلافة وأنّه ولیّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله من بعده ، وهو الوارث لمقامه فی الخلافة ، حتّی أنّ أبا بکر وعمر سلّما بأنّ من یکون ولیّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله هو الذی یقوم مقامه کخلیفة ویلی میراثه ، إلّاأنهما زعما أنّهما ولیّا رسول اللّه صلی الله علیه و آله دون علیّ .

هکذا تدلّ علی أنّ المحاججة والمواجهة فی أمر الخلافة قد حصلت فی کلّ من فترة خلافة أبی بکر وعمر ، وأنّ علیّاً کان یکذّب أبا بکر وعمر فی دعواهما ولایة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ویحکم علیهما بالغدر و الإثم والخیانة ، و هذا یناقض ما رواه البخاری ومسلم من أنّ علیّاً بایع أبا بکر بعد وفاة فاطمة علیها السلام ، ولم یحدث بینه وبین أبی بکر نزاع بعد ذلک .

کما أنّ هذه المحاججة تدلّ بصراحة علی أنّ الخصومة فی الفیء إنّما هی مخاصمة علی ولایة الأمر والخلافة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، لأنّ ولایة الفیء هی ولایة کلّ أموال الدولة ، والثروات العامّة ، وهی بعینها ولایة الأمر .

وذکر البخاری فی صحیحه فی کتاب الفرائض الباب الثالث ، باب قول النبیّ :

« لا نورّث ، ما ترکناه صدقة » ، عن عائشة : « أنّ فاطمة والعبّاس علیهما السلام أتیا أبا بکر یلتمسان میراثهما من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وهما حینئذٍ یطلبان أرضیهما من فدک ، وسهمهما من خیبر ، فقال لهما أبو بکر : سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول : لا نورّث ما ترکناه صدقة ، إنّما یأکل آل محمّد من هذا المال .

ص:394

قال أبو بکر : و اللّه لا أدع أمراً رأیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یصنعه فیه إلّاصنعته .

قال : فهجرته فاطمة فلم تکلّمه حتّی ماتت »(1) .

وذکر البخاری أیضاً فی کتاب المغازی الباب 38 باب غزوة خیبر ، عن عائشة :

« أنّ فاطمة علیها السلام بنت النبیّ صلی الله علیه و آله أرسلت إلی أبی بکر تسأله میراثها من رسول اللّه ممّا أفاء اللّه علیه بالمدینة وفدک ، وما بقی من خمس خیبر ، فقال أبو بکر : إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال : لا نورّث ما ترکناه صدقة ، إنّما یأکل آل محمّد صلی الله علیه و آله فی هذا المال ، وإنّی و اللّه لا أغیّر شیئاً من صدقة رسول اللّه صلی الله علیه و آله عن حالها التی کانت علیها فی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ولأعملنّ فیها بما عمل فیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فأبی أبو بکر أن یدفع إلی فاطمة منها شیئاً . فوجدت فاطمة علی أبی بکر فی ذلک ، فهجرته فلم تکلّمه حتّی توفّیت ، وعاشت بعد النبیّ صلی الله علیه و آله ستّة أشهر ، فلمّا توفّیت دفنها زوجها علیّ لیلاً ، ولم یؤذن بها أبا بکر ، وصلّی علیها .

أقول : وفی هذه الروایات التی رواها البخاری من کلام أبی بکر تناقض واضح ، حیث إنّه من جهة یُقرّ أنّها ملک لرسول اللّه صلی الله علیه و آله خاصّة دون المسلمین ، ومن ثَمّ أقرّ بأنّها ممّا ترک رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وادّعی أنّها صدقة بعد رسول اللّه ، ومن جهة اخری یدّعی أنّها صدقة فی عهد رسول اللّه ولا یغیّرها عن حالها التی کانت فی عهده .

فکیف تکون تارة هی ممّا ترک وأنّ حکم ما ترک بعده صلی الله علیه و آله صدقة ، واُخری یدّعی أنّها صدقة فی عهده وحیاته صلی الله علیه و آله ، فإنّها إن کانت صدقة فی حیاته فلماذا یتشبّث بما یدّعیه من الروایة بأنّ ما یترکه رسول اللّه صلی الله علیه و آله یکون حکمه بعد ترک رسول اللّه صلی الله علیه و آله لذلک المال بالوفاة ، یکون صدقة ، فتارة هو یدّعی بسیرة النبیّ صلی الله علیه و آله فی عهده واُخری یدّعی بتسبیل ترکة رسول اللّه صلی الله علیه و آله . هذا مع أنّ فدکاً کانت تحت ید فاطمة فی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

ص:395


1- (1) صحیح البخاری 2 : 995 .

فدک إرث أم نِحلة أم فیء ؟

ومن التساؤلات الجادّة فی احتجاجها علیها السلام علی أبی بکر فی فدک أنّ مطالبتها علیها السلام هل کانت مقتصرة علی خصوص أرض فدک أم کانت مطالبة عامّة بعموم الفیء والخمس اللذین أُسندت ولایتهما فی آیة الخمس وآیة الفیء إلی ذی القربی بعد ولایة اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله ، وعلی أیّ تقدیر فکیف ینسجم ذلک ویتوافق مع جعل مستند المطالبة تارة الإرث واُخری النِّحلة ، وثالثة الفیء ، والملاحِظ لنصوص المحاججة لها علیها السلام یجد أنّها علی ثلاثة أنماط :

النمط الأوّل : ما کان بعنوان الإرث مثل ما روی مستفیضاً عن الفریقین من قولها لأبی بکر :

« یَابْنَ أَبِی قُحَافَةَ ، أَفِی کِتَابِ اللّهِ أَنْ تَرِثَ أَبَاکَ وَلَا أَرِثَ أَبِی ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَیْئاً فَرِیّاً »(1) .

وأیضاً قولها علیها السلام فی خطبتها :

« وَأَنْتُمْ الْآنَ تَزْعُمُونَ أَ لاَّ إِرْثَ لَنا ، أَ فَحُکْمَ الْجاهِلِیَّةِ یَبْغُونَ ، وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُکْماً لِقَوْمٍ یُوقِنُونَ . . .

أَیُّهَا الْمُسْلِمُونَ ، أَ أُغْلَبُ عَلی إِرْثیه ؟ یَابْنَ أَبِی قُحَافَةَ ، أَفِی کِتَابِ اللّهِ أَنْ تَرِثَ أَبَاکَ وَلَا أَرِثَ أَبِی ؟ »(2) .

وأیضاً ما رواه البخاری فی « صحیحه » عن عائشة : «أنّ فاطمة علیها السلام بنت النبیّ صلی الله علیه و آله أرسلت إلی أبی بکر تسأله میراثها من رسول اللّه ، ممّا أفاء اللّه علیه بالمدینة وفدک ، وما بقی من خمس خیبر »(3) .

وذکر البخاری أیضاً فی « صحیحه » فی کتاب الفرائض الباب الثالث ، باب

ص:396


1- (1) شرح ابن أبی الحدید : 16 ، نقلاً عن کتاب أحمد بن عبد العزیز الجوهری .
2- (2) دلائل الإمامة للطبری : 30 . التذکرة الحمدونیّة لابن حمدون : 6 : 255 ، الحدیث 628 . تاریخ الیعقوبی : 2 : 127 .
3- (3) صحیح البخاری : 4 : 210 ، کتاب بدء الخلق ، باب مناقب المهاجرین ، و 5 : 82 ، کتاب المغازی - باب غزوة خیبر .

قول النبیّ : « لا نورّث ما ترکناه صدقة » ، عن عائشة أیضاً : « أنّ فاطمة والعبّاس علیهما السلام أتیا أبا بکر یلتمسان میراثهما من رسول اللّه صلی الله علیه و آله وهما حینئذٍ یطلبان أرضیهما من فدک . . . . » .

النمط الثانی : ما کان بعنوان النحلة : کما فی قولها لعلیّ علیه السلام مستنجدة به شاکیة غصب أبی بکر حیث تقول :

« هذا ابن أبی قحافة یبتزّنی نِحلة أبی وبُلغة ابنیّ »(1) .

وروی أحمد بن عبد العزیز الجوهری ، عن هشام بن محمّد ، عن أبیه ، قال :

« قالت فاطمة علیها السلام لأبی بکر :

إنّ امّ أیمن تشهد لی أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله أعطانی فدکاً . . . »(2) .

وروی أبان عن سلیم بن قیس الهلالیّ ، قال : « کنت عند عبد اللّه بن عبّاس فی بیته ومعه جماعة من شیعة علیّ علیه السلام فکان فیما حدّثنا أن قال : . . . ثمّ إنّ فاطمة بلغها أنّ أبا بکر قبض فدکاً ، فخرجت فی نساء بنی هاشم ، حتّی دخلت علی أبی بکر ، فقالت : یا أبا بکر تأخذ منّی أرضاً جعلها لی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وتصدَّق بها علیّ . . . »(3) .

وروی فی « جواهر البحار » قال : « وذکرنا فی الأصل من روی أنّ فاطمة علیها السلام قالت فی فدک :

إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله أنحلنیها وما أنفق فیها »(4) .

النمط الثالث : ما کان بعنوان الفیء :

ما رواه السیّد حیدر الآملی فی کشکوله عن المفضّل بن عمر قال : « قال مولای الصادق علیه السلام :

لمّا ولی أبو بکر قال له عمر : إنّ الناس عبید هذه الدنیا ، لا یریدون

ص:397


1- (1) الاحتجاج للطبرسی : 1 : 131 .
2- (2) السقیفة وفدک للجوهری : 101 .
3- (3) کتاب سلیم بن قیس الهلالی : 2 : 862 ، الحدیث48 .
4- (4) جواهر البحار فی فضائل النبیّ المختار صلی الله علیه و آله للعلّامة النبهانی : 4 : 86 .

غیرها ، فامنع عن علیّ الخمس والفیء وفدکاً ، فإنّ شیعته إذا علموا ذلک ترکوا علیّاً وأقبلوا إلیک رغبة فی الدنیا . . . إلی قوله :

قال علیّ علیه السلام لفاطمة علیها السلام :

صیری إلی أبی بکر وذکّریه فدکاً ، فصارت فاطمة علیها السلام إلیه وذکرت له فدکاً مع الخمس والفیء .

فقال : هاتی بیّنة یا بنت رسول اللّه .

فقالت :

أمّا فدک فإنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل علی نبیّه قرآناً بأن یأتینی وولدی حقّی ، فکنتُ أنا وولدی أقرب الخلائق إلی رسول اللّه فنحلنی وولدی فدکاً فلما تلا علیه جبرئیل علیه السلام : و المسکین و ابن السبیل قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله : ما حقّ المسکین و ابن السبیل ؟

فأنزل اللّه تعالی : ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ کَیْ لا یَکُونَ دُولَةً بَیْنَ الْأَغْنِیاءِ مِنْکُمْ . . . (1)

فما للّه فهو لرسوله ، وما لرسول اللّه فهو لذی القربی ، قال اللّه تعالی : قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی .

فنظر أبو بکر بن أبی قحافة إلی عمر بن الخطّاب وقال : ما تقول ؟

فقال عمر : ومن الیتامی ، و المساکین ، وأبناء السبیل ؟

فقالت فاطمة :

الیتامی الذین یأتمون باللّه ، و المساکین الذین أسکنوا معهم فی الدنیا والآخرة ، و ابن السبیل الذی یسلک مسلکهم .

قال عمر : فإذا الخمس والفیء کلّه لکم ولموالیکم وأشیاعکم ؟

فقالت فاطمة علیها السلام : أمّا فدک فأوجبها اللّه لی ولولدی دون موالینا وشیعتنا ، وأمّا الخمس فقسّمه اللّه لنا ولموالینا وأشیاعنا کما یقرأ فی کتاب اللّه .

قال عمر : فما لسائر المهاجرین والأنصار والتابعین بإحسان ؟

ص:398


1- (1) الحشر : 7 .

قالت فاطمة : إن کانوا موالینا ومن أشیاعنا فلهم الصدقات التی قسّمها اللّه وأوجبها فی کتابه ، فقال اللّه عزّ وجلّ : إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ وَ الْعامِلِینَ عَلَیْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِی الرِّقابِ .

قال عمر : فدک لک خاصّة ، والفیء لکم ولأولیائکم ؟ ما أحسب أصحاب محمّد یرضون بهذا ! !

قالت فاطمة :

فإن اللّه عزّ وجلّ رضی بذلک ، ورسوله رضی به ، وقسّم علی الموالاة والمتابعة ، لا علی المعاداة والمخالفة ، ومن عادانا فقد عادی اللّه ، ومن خالفنا فقد خالف اللّه ، ومن خالف اللّه فقد استوجب من اللّه العذاب الألیم ، والعقاب الشدید فی الدنیا والآخرة .

فقال عمر : هاتی بیّنة یا بنت محمّد علی ما تدّعین ؟ !

فقالت فاطمة علیها السلام : قد صدّقتم جابر بن عبد اللّه وجریر بن عبد اللّه ولم تسألوهما البیّنة ! وبیّنتی فی کتاب اللّه .

فقال عمر : إنّ جابراً وجریراً ذکرا أمراً هیّناً ، وأنت تدّعین أمراً عظیماً ، یقع به الردّة من المهاجرین والأنصار .

فقالت علیها السلام : إنّ المهاجرین برسول اللّه وأهل بیت رسول اللّه هاجروا إلی دینه ،

والأنصار بالإیمان باللّه ورسوله وبذی القربی أحسنوا ، فلا هجرة إلّاإلینا ، ولا نصرة إلّا لنا ، ولا اتّباع بإحسان إلّابنا ، ومن ارتدّ عنّا فإلی الجاهلیّة »(1) .

وهذه الروایة تشتمل علی اصول وأسس وقواعد المعارف الإسلامیة .

وروی إسحاق بن راهویه بسنده عن ام هانی بنت أبی طالب : « أنّ فاطمة علیها السلام

ص:399


1- (1) بحار الأنوار : 29 : 194 . مستدرک الوسائل : 7 : 290 ، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس ، الحدیث 10 .

أتت أبا بکر تسأله سهم ذوی القربی .

فقال لها أبو بکر : سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله یقول : سهم ذوی القربی لهم فی حیاتی ولیس لهم بعد موتی »(1) .

وفی مقام الإجابة عن هذا التساؤل یقال : إنّ محاججتها واعتراضها علی أبی بکر لم یقتصر علی فدک فقط ، بل شمل جمیع الأموال التی کانت تحت ید رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

وفی الحقیقة هذا الاحتجاج والنزاع وقع علی ولایة الرسول صلی الله علیه و آله علی الأموال ، أی فی تقحّم وتقمّص أبی بکر لهذا المنصب .

وإن أمعنّا النظر فی خطبتها علیها السلام سوف نلاحظ بالتالی تصریحها بالاعتراض علی غصب الخلافة من علیّ علیه السلام وأهل البیت علیهم السلام ، لأنّ ولایة علیّ علیه السلام علی الأموال عبارة اخری عن حقانیّته فی دعوی الخلافة ، وقد تقدّم جملة من الشواهد علی ذلک ، وسیأتی أیضاً .

وقد صرّحت جملة من مصادر الفریقین علی أنّها علیها السلام طالبت بفدک ، والعوالی ، والفیء ، والخمس ، وخیبر ، وغیرها من الأموال التی کانت تحت ید رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، وإلیک جملة من المصادر زیادة علی ما مرّ :

منها : ما رواه البخاری فی « صحیحه » فی کتاب فرض الخمس(2) بسنده عن عائشة ، قالت : « وکانت فاطمة تسأل أبا بکر نصیبها ممّا ترک رسول اللّه من خیبر وفدک وصدقته بالمدینة »(3) .

ومنها : ما رواه مسلم فی صحیحه بسنده عن عائشة : « أنّ فاطمة بنت رسول

ص:400


1- (1) مختصر إتحاف السادة المهرة بزوائد المسانید العشرة : 6 : 504 ، الحدیث5145 ، والظاهر أنّه رواه عن مسند إسحاق بن راهویه .
2- (2) وهو باب فرض الخمس الحدیث الثالث فی الباب .
3- (3) وروی قریب هذا المعنی عن تاریخ الإسلام لسراج الدین عثمان : 225 ، مخطوط .

اللّه صلی الله علیه و آله أرسلت إلی أبی بکر تسأله میراثها من رسول اللّه صلی الله علیه و آله ، ممّا أفاء اللّه علیه بالمدینة ، وفدک ، وما بقی من خمس خیبر . . . »(1) .

ومنها : ما رواه السیوطی عن عمر بن الخطّاب ، قال : « لمّا کان الیوم الذی توفّی فیه رسول اللّه صلی الله علیه و آله بویع لأبی بکر فی ذلک الیوم ، فلمّا کان من الغد جاءت فاطمة علیها السلام إلی أبی بکر معها علیّ علیه السلام ، فقالت :

میراثی من رسول اللّه صلی الله علیه و آله أبی ؟

فقال أبو بکر : من الرّثّة أو من العُقَد ؟

قالت : فدک ، وخیبر ، وصدقاته بالمدینة ، أرثها کما یرثک بناتک إذا متّ . . . » الحدیث(2) .

وقد عقد ابن سعد فی « طبقاته » باباً تحت عنوان « ذکر میراث رسول اللّه صلی الله علیه و سلم وما ترک »(3) .

ومنها : ما رواه ابن سعد فی « الطبقات » بسنده عن امّ هانئ : « أنّ فاطمة قالت لأبی بکر :

مَن یرثک إذا متّ ؟

قال : ولدی وأهلی .

قالت :

فما لک ورثت النبیّ دوننا ؟

فقال : یا بنت رسول اللّه ، إنّی و اللّه ما ورثت أباک أرضاً ولا ذهباً ولا فضّة ولا غلاماً ولا مالاً .

قالت :

فسهم اللّه الذی جعله لنا وصافِیَتُنا التی بیدک ؟

فقال : إنّی سمعت رسول اللّه یقول : إنّما هی طعمة أطعمنیها اللّه ، فإذا متّ کان

ص:401


1- (1) صحیح مسلم : 5 : 153 ، کتاب الجهاد ، باب 16 ( قول النبیّ صلی الله علیه و آله : لا نورث ما ترکناه صدقة ) .
2- (2) مسند فاطمة للسیوطی : 33 ، الحدیث52 . الطبقات الکبری : 2 : 315 .
3- (3) الطبقات الکبری : 2 : 314 .

بین المسلمین »(1) .

قاعدة منهجیّة فی العقائد :

ولا بدّ من تقدیم مقدّمة ، حاصلها :

أنّ عناوین العقود والعهود من البیع ، والإجارة ، والقرض ، والهبة ، والوکالة ، والوصیّة ، والنذر ، والیمین ، وقاعدة الشروط - المؤمنون عند شروطهم - وغیرها ، وکذا الإیقاعات والأحکام نظیر الإرث ، والحدود ، والقصاص . . . الخ ، تارة یکون موردها الأموال والحقوق الشخصیّة الفردیة ، وهو المنسبق المعهود منها .

واُخری یکون موردها حقوق الجماعة من الناس وأهل المدینة ، والعشیرة ، والقبیلة .

وثالثة یکون موردها الشأن العامّ السیاسی ، والاُمور العامّة للاُمّة ، والتعامل بین الاُمّة والولاة ، أو بین الاُمم فیما بینهم ، وکل هذه الأنماط والأنواع من الموارد تنطبق علیه العقود والإیقاعات ، والأحکام .

فالبیع مثلاً یصیر بصورة البیعة ، والوکالة تصیر بصورة النیابة والولایة ، والوصیّة الفردیّة تصبح وصیّة سیاسیّة ودینیّة مرتبطة بعهد الولایة والخلافة ، ومن ثمّ قد ورد أنّ

« مَن مات ولیس فی عنقه بیعة لإمام مات میتة جاهلیّة »(2) ، وکذلک ورد أنّ

« من مات ولم یوص مات میتة جاهلیّة »(3) .

فأخذت البیعة والوصیّة طابعاً عقائدیّاً ، مع أنّهما صورة عقدان فقهیان ، وذلک

ص:402


1- (1) المصدر المتقدّم .
2- (2) بحار الأنوار : 23 : 94 . الکافی : 1 : 376 ، باب من مات ولیس له إمام من أئمّة الهدی مثله .
3- (3) المناقب لابن شهرآشوب : 1 : 217 .

لأنّ البیعة المتضمّنة لمعنی البیع إذا طُبِّق علی صعید الالتزام والتعهّد والولاء تجاه صاحب منصب الولایة الإلهیّة ، فلا یخرج عن الطابع الفردی فحسب ، ولا الأُسری والسیاسی فحسب ، بل یندرج فی الثوابت العقائدیة ، لثبات متعلّقه ، وسعته بما یتجاوز البیئة السیاسیّة الخاصّة ، والشأن الفردی والاُسری ، وکذلک الحال فی الوصیّة ، فإنّ الوصیّة إذا انطبقت علی مورد ذو صلة بالعقائد ، والثابت الذی یتجاوز الأزمنة إلی شمولیّة کلّ الزمان والأمکنة ، کالذی ورد فی استحباب الوصیّة بالشهادات الحقّة ، وکما فی قوله تعالی : وَ وَصّی بِها إِبْراهِیمُ بَنِیهِ وَ یَعْقُوبُ یا بَنِیَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفی لَکُمُ الدِّینَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (1) .

وبعبارة اخری : إنّ إقرار الإنسان بالعقائد الحقّة والتزامه ، لا بدّ أن یتجاوز مدّة عمره فی الحیاة الدنیا إلی إبراز الالتزام بها إلی ما بعد الحیاة ، وکلّ تصرّف فی شؤون المرء یتعلّق بما بعد حیاته الدنیویة تنطبق علیه ماهیة الوصیّة .

کما أنّ للوصیّة تطبیقاً آخراً ، وهو تصرّف النبیّ صلی الله علیه و آله لفترة ما بعد رحیله فی شؤونه الراجعة إلی المناصب الإلهیّة التی تقلّدها یُعدّ وصیّة أیضاً ، کما فی نصبه علیّاً علیه السلام إماماً للاُمّة وخلیفة من بعده .

وکذلک الدّین ، فإنّ دیون الحاکم فی الدولة الإلهیّة کسیّد الأنبیاء صلی الله علیه و آله لیست دیوناً فردیّة ، ولا أسریّة ، ولا سیاسیّة لدولة مؤقّتة بشریّة ، بل هی دیون نتیجة تعاقدات بین النبیّ صلی الله علیه و آله کرسول الإله تبارک وتعالی ومُرسَل من قبله تعالی ، مع الفئات البشریّة ، فهذه الدیون تأخذ طابعاً فی التعامل مع الحضرة الإلهیّة ، وبالتالی تکون عقائدیة ، کما مرّ فی القسم الأوّل فی حدیث الدار ، الوارد فی شأنه قوله تعالی : وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ (2) ، حیث بُعث النبیّ صلی الله علیه و آله فی صدر

ص:403


1- (1) البقرة : 132 .
2- (2) الشعراء : 214 .

البعثة ببعثة خاصّة إلی بنی هاشم ، تتضمّن واجبات وحقوق خاصّة ، مرتبطة بنظام قیادة الدین إلی یوم القیامة ، وکان من تلک الواجبات والوظائف لمن یتقلّد الوصایة عن النبیّ صلی الله علیه و آله أن یقضی دیون النبیّ صلی الله علیه و آله ، ومواعیده ، وهی لیست دیوناً شخصیّة فردیّة ، ولا مواعید اعتیادیّة فی معیشة الحیاة ، بل هی التزامات الرسالة الناتجة من عقود نبویّة مع أنظمة الفئات الاجتماعیّة البشریّة .

وبکلمة جامعة : فإنّ العقود فی الأبواب الفقهیّة ، بل وبقیّة الأبواب والأطر الفقهیّة کما یتمّ ترسیمها علی صعید فردی فیکون نتاج فقهی فردیّ ، أو علی صعید الأحوال الشخصیّة الاُسریّة فیکون فقهاً وقوانین للاُسرة ، أو علی صعید النظام الاجتماعی فیکون فقهاً سیاسیّاً أو اقتصادیّاً أو عقائدیّاً ، کذلک إذا تعلّقت بالعهد مع اللّه تبارک وتعالی وولایته وحاکمیّته فإنّها تکون فقهاً عقائدیّاً .

ومن ثَمّ فإنّ الاُصول الاعتقادیّة والمعارف العقدیة کما یمکن بیانها وتقریر إثباتها بلغة عقلیّة فلسفیّة أو کلامیّة ، أو بلغة ذوقیّة برهانیّة عرفانیّة ، أو بلغة الأرقام والعلوم التجریبیّة ، ولو بلحاظ بعض معطیات مقدّمات الاستدلال ، أو بلغات اخری . کذلک یمکن بیانها بلغة القانون والفقه بالتقریب المتقدّم .

کما أنّ الحال فی الإرث قد یکون إرثاً فی الأموال الشخصیّة ، وقد یکون فی الولایات والمناصب ، ما هو دارج فی عرف الجماعات البشریّة ، المتشکّلة علی هیئة قبائل وملوک ، کعرف قانونیّ دارج لدیهم ، وکما هو مقرّر فی قانون الوراثة فی بیوت الأنبیاء والأصفیاء ، کوراثة سلیمان لداود ، ویحیی لزکریّا ، وقد بسطنا القول فی ذلک فی القسم الأوّل ، فی آیات الوراثة .

وقد تنطبق هذه العقود والعهود والإیقاعات والأحکام علی العهود التی بین الخلق والباری سبحانه وتعالی ، وتتّخذ حینئذٍ طابعاً عقائدیّاً ، کما أنّ النمط السیاسیّ أیضاً قد یکون متعلّقاً للمعتقد الدینیّ ، کالتسلیم بالولایة السیاسیّة لحاکمیّة

ص:404

رسول اللّه صلی الله علیه و آله .

وإذا تقرّرت هذه المقدّمة نقول : فإنّه یُضمّ إلی ما تقدّمت الإشارة إلیه فی القسم الأوّل ، من أنّ قاعدة الوراثة فی آیة : وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ (1)غیر مختصّة بوراثة ملکیّة الأموال الشخصیّة والحقوق الخاصّة ، بل هی شاملة لشؤون الشخصیّة الحقوقیّة والاعتباریّة القانونیّة للمورِّث ، أی الملکیّة والولایة فی الشؤون العامّة ، والحقوق ذات الطابع العامّ .

فالوراثة تشمل النمطین من الحقوق ، والنمطین من ملکیّة الاُمور ، کما هو الحال فی قوله تعالی : وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ (2) ، إنّها شاملة لمواریث النبوّة وللمال الخاصّ ، وکذا فی قوله تعالی : یَرِثُنِی وَ یَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ (3) فی وراثة یحیی لزکریّا ، غایة الأمر أنّ جریان قاعدة الوراثة فی الشخصیّة الحقوقیّة والاعتباریّة یشترط فیها شرائط ، وعدم موانع ، أکثر بکثیر من الشرائط المقرّرة فی المال الخاصّ ، والحقّ الشخصیّ .

وقد اشیر فی الآیات القرآنیّة والأحادیث المستفیضة إلی جملة من تلک الشرائط ، وقد استوفینا ثمّة جملة من تلک الشروط ، فکما أنّ فی وراثة المال الخاصّ والحقّ الشخصیّ لا یرث کلّ قریب ، بل الأقرب یمنع الأبعد ، ولا بدّ أن یکون کلّ من المورِّث والوارث من أهل ملّة واحدة ، و أن لا یکون الوارث قاتلاً للمورِّث ، وغیرها من الشروط .

فکذلک الحال فی الوارث للأمور الاعتباریّة ولخصائص الشؤون الحقوقیّة ، لا سیّما فی الوارث الاصطفائی للمصطفَین ، نظیر ما أشارت إلیه الآیة الکریمة

ص:405


1- (1) الأنفال : 75 .
2- (2) النمل : 16 .
3- (3) مریم : 6 .

فی وراثة الإمامة : ...لا یَنالُ عَهْدِی الظّالِمِینَ (1) ، أی من یقترف المعصیة ، ولو لمرّة واحدة ، وکون الوارث سابقاً بالخیرات کما فی قوله تعالی :

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَیْراتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذلِکَ هُوَ الْفَضْلُ الْکَبِیرُ (2) .

فکذلک الحال فی وراثة فاطمة علیها السلام لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، فإنّها لا تقتصر علی وراثة المال الخاصّ والحقّ الشخصیّ ، بل هی ترث الشخصیّة الحقوقیّة لرسول اللّه صلی الله علیه و آله ، بما لها من خصائص وحقوق وولایات فی الشأن العامّ .

لا سیّما وأنّ ذلک لیس فقط بمقتضی عموم قاعدة الوراثة ، بل کذلک بدلالة خصوص الآیتین الواردتین فی وراثة أولاد الأنبیاء الاصطفائیّة ، وخصوص دلالة قوله تعالی : اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ (3) .

وحیث طُبّقت قاعدة الوراثة علی خصوص وراثة ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله علی المؤمنین ، والتی هی أوْلی من ولایتهم علی أنفسهم ، وقد تقدّم شرح هذه الآیة فی القسم الأوّل مبسوطاً .

بل وخصوص دلالة آیة الفیء وَ ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَیْهِ مِنْ خَیْلٍ وَ لا رِکابٍ وَ لکِنَّ اللّهَ یُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلی مَنْ یَشاءُ وَ اللّهُ عَلی کُلِّ شَیْ ءٍ قَدِیرٌ * ما أَفاءَ اللّهُ عَلی رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُری فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ (4) .

ص:406


1- (1) البقرة : 124 .
2- (2) فاطر : 32 .
3- (3) الأحزاب : 6 .
4- (4) الحشر : 7 .

حیث دلّت أنّ قرابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وأقربهم فاطمة علیها السلام یتولّون مقام النبیّ صلی الله علیه و آله فی الولایة علی الفیء . والفیء یمثّل الثروات العامّة فی الأرض ، وهذه الآیة کما تبیّن ولایة فاطمة علیها السلام وولدها علی الفیء ، کذلک تبیّن تولّیها وذویها لولایة الفیء ، هو بجهة قرابتهم من النبیّ صلی الله علیه و آله وراثة .

فالمستفاد من الآیة أمران :

الأوّل : إثبات أصل ولایة الفیء لذوی القربی بعد إثباتها للّه تعالی ولرسوله صلی الله علیه و آله ، و ذلک بتوسّط اللام الدالّة علی الاختصاص والملک .

الثانی : أنّ هذه الولایة الثابتة لهم هی ثابتة ضمن قانون الوراثة .

تطابق الإرث والفیء :

یتبیّن ممّا تقدّم أنّ ولایة فاطمة علیها السلام وذی القربی من ذویها علی الفیء هو بمقتضی ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله علی الفیء ، وانتقالها منه صلی الله علیه و آله إلیهم لکونهم قرابته .

و هذا هو معنی قانون الوراثة الاصطفائیّة ، الشاملة للفیء وغیره .

ویتبیّن بذلک أنّ مطالبتها بالفیء تارة وبالإرث تارة اخری مرجعه إلی أمر واحد وهو الولایة علی الأموال .

انطباق النِّحلة مع ولایة الفیء :

النِّحلة فی اللغة : هی العطیّة من غیر مثامنة ، ففی قوله تعالی : وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً (1)قیل : إنّها عطیّة من غیر مطالبة منهنّ ، ولا مخاصمة ، لأنّ ما یؤخذ بالمحاکمة لا یقال له نحلة .

وقیل فی معنی النِّحلة فی الآیة : فریضة مسمّاة من اللّه تبارک وتعالی ، فهو یقرب

ص:407


1- (1) النساء : 4 .

ممّا قیل أنّ النِّحلة بمعنی الدَّین ، کما یقال : فلان ینتحل کذا ، أی یدین به ، فإیتاء النساء الصدقات نحلة ، أی عملاً بما افترض فی الدین .

وقیل : معناه عطیّة من اللّه تعالی ، و ذلک لأنّ اللّه تعالی أوجب للنساء المهر بإزاء الاستمتاع مع أنّ الاستمتاع مشترک بین الزوجین ، فکان عطیّة من اللّه تعالی للنساء .

مهر فاطمة علیها السلام هو ولایتها نِحلة :

وعلی جمیع هذه المعانی للنِّحلة ، فقد ورد فی الروایات أنّ ما أُعطی من الولایة لفاطمة علیها السلام هو مهر لها .

ففی صحیحة یعقوب بن شعیب ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال :

« لما زوّج رسول اللّه صلی الله علیه و آله علیّاً وفاطمة علیهما السلام دخل علیها وهی تبکی ، فقال لها : ما یبکیک ؟

فو اللّه لو کان فی أهلی خیر منه لما زوّجتکه ، وما أنا زوّجته ولکنّ اللّه زوّجه ، وأصدق عنه الخمس ما دامت السماوات و الأرض »(1).

وفی روایة الحسن بن علیّ بن سلیمان ، عمّن حدّثه ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال :

« إنّ فاطمة قالت لرسول اللّه صلی الله علیه و آله : زوّجتنی بالمهر الخسیس ؟

فقال لها رسول اللّه صلی الله علیه و آله : ما أنا زوّجتکی ، ولکنّ اللّه زوّجک من السماء جعل مهرک خمس الدنیا ، ما دامت السماوات و الأرض »(2).

وروی ابن عبّاس : « أنّ النبیّ صلی الله علیه و آله قال :

یا علیّ ، إنّ اللّه عزّ وجلّ زوّجک فاطمة و جعل صداقها الأرض ، فمن مشی علیها مبغضاً لک ، مشی حراماً »(3).

ص:408


1- (1) الکافی : 5 : 378 ، الحدیث 6 و 7 . وسائل الشیعة : 21 : 241 ، الباب 1 من أبواب المهور ، الحدیث 26993 .
2- (2) الکافی : 5 : 378 ، باب ما تزوّج علیه أمیر المؤمنین فاطمة علیها السلام .
3- (3) ینابیع المودّة للقندوزی : 236 ، عن ابن مسعود . المناقب للخوارزمی : 229 - 264 . أرجح المطالب : 253 . تنزیه الشریعة المرفوعة للکنانی 1 : 411 . تحفة المحبّین بمناقب الخلفاء الراشدین : 177 ( مخطوط ) .

وروی محمّد بن جریر الطبری بسنده عن جابر ، عن محمّد بن علیّ علیه السلام ، فی حدیث تزویج فاطمة علیها السلام :

« إنّ اللّه جعل نحلتها من علیّ علیه السلام خمس الدنیا ، وثلثی الجنّة ، و جعل نحلتها فی الأرض أربعة أنهار : الفرات والنیل ونهر دجلة ونهر بلخ »الخبر(1).

وروی أیضاً فی حدیث قدسی بسنده عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله : « أنّ مهر فاطمة بنت محمّد نصف الدنیا »(2).

وروی قریب منه فی « فقه الرضا علیه السلام »(3).

وفی جملة من الروایات أنّ اللّه تعالی نحلها شجرة طوبی فی الجنّة .

فیظهر من هذه الروایات امتداد ولایة فاطمة علیها السلام للدنیا والآخرة وهو مقام الحجّیة اللدنّیة فی الدین .

وفی « أمالی الشیخ » روی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال :

« إنّ اللّه تعالی أمهر فاطمة ربع الدنیا ، فربعها لها ، وأمهرها الجنّة والنّار ، تُدخل أعداءها النار ، وتُدخل أولیاءها الجنة ، وهی الصدّیقة الکبری ، وعلی معرفتها دارت القرون الاُولی »(4).

وقال الدمشقی : « وقد ورد فی الخبر أنّها لمّا سمعت بأنّه صلی الله علیه و آله زوّجها وجعل الدراهم مهراً لها فقالت :

یا رسول اللّه ، إنّ بنات الناس یتزوّجن بالدراهم فما الفرق بینی وبینهنّ ؟ أسألک أن تردّها وتدعو اللّه تعالی أن یجعل مهری الشفاعة فی عصاة امّتک .

ص:409


1- (1) دلائل الإمامة لمحمّد بن جریر الطبری : 18 . ورواه الحضینی فی الهدایة الکبری : 113 .
2- (2) المصدر المتقدّم .
3- (3) فقه الإمام الرضا علیه السلام : 40 .
4- (4) أمالی الشیخ الطوسی : 2 : 280 ، الحدیث 6 .

فنزل جبرئیل علیه السلام ومعه بطاقة من حریر مکتوب فیها : جعل اللّه مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبین من امّة أبیها »(1).

وغیرها من المصادر الکثیرة التی یقف علیها المتتبّع فی مصادر الفریقین ، وهی کثیرة غفیرة ، وهذه الروایات المستفیضة مفاداً ومعنی فی تملیکها شؤون الأرض ، أو شؤون الآخرة هی عبارة اخری عن الولایة فی الدنیا والولایة فی الآخرة .

وهی تطابق ما فی مفاد آیة الفیء وآیة الخمس ، إلّاأنّ سبب الولایة هاهنا هو تزویجها من علیّ علیه السلام ، فهو سبب آخر مقتضٍ لولایتها ، وهو نِحلة من اللّه تعالی بضمیمة صداقها ومهرها .

ومن ثَمّ یتبیّن أنّ ولایتها علی الأموال أیضاً هو نحلة من اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله .

وبذلک یتّضح أنّ مطالبتها بولایتها علی الأموال هو مطالبة بما هو نِحلتها من اللّه تعالی ورسوله صلی الله علیه و آله .

فظهر أنّ تعدّد وجوه المطالبة بالإرث مرّة ، وبالنِّحلة اخری ، وبالفیء ثالثة ، هی أسباب متعدّدة لمسبَّب واحد ، وهی ولایتها علی الأموال .

ثمّ أنّ الملاحظ فی مهر فاطمة علیها السلام ونحلة صداقها ، لیس علی حذو مهر وصداق ونحلة عامّة النساء ، بل الملاحظ أنّ مهرها وتولی الإمام علیّ علیه السلام شؤونها علیها السلام ، ولا سیّما أنّها ذات مقام اصطفاء وطهارة لدنیّة إلهیّة ولها مقامات الحجّیة ، فناسب شؤونها وموقعیتها فی الدین دنیاً وآخرة ، أن یکون تملیکها لعلیّ علیه السلام مقابل أن تملک هی وتُبسط ولایتها علی شؤون ومقامات إلهیّة ، هی فی الأصل من ولایة اللّه تبارک وتعالی ، حیث إنّ المتولّی لتزویج علیّ علیه السلام منها - کما جاءت بذلک الأحادیث المستفیضة - هو اللّه تبارک وتعالی ، فکأنّ اللّه تعالی هو الولیّ المتکفّل فی المهر

ص:410


1- (1) أخبار الدول وآثار الأوّل : 88 ، وکتاب تجهیز الجیش : 102 .

بحسب موقعیتها فی المراتب الدینیّة .

ومن الواضح أنّ المناسب فی مثل ذلک کون المهر والعوض هو الولایة فی الشؤون العامّة فی الدنیا والآخرة .

و هذا المعنی لمهرها علیها السلام فی عقد تزویجها الذی هو سبب لحاظ عقد الزواج والمهر فی افق أوسع من النطاق الفردیّ أو الاُسریّ ، أی فی افق عامّ یتّصل ویرتبط باُفق الموقعیّة والمکانة الدینیّة ، الشاملة لعوالم الدنیا والآخرة ، وهو مفاد ما تقدّم من القاعدة المنهجیّة العقائدیّة .

وحاصلها : أنّ العقود إذا لوحظت فی تطبیقها بمستوی دائرة البیئة العامّة فإنّها تخرج عن الطابع الفردی إلی الطابع السیاسی ، کما أنّها إذا تجاوزت حُقبة الجیل المعاصر لصدور النصّ إلی حقبة الأجیال اللاحقة فإنّها تأخذ طابعاً حضاریّاً ودینیّاً ، و هذا هو الذی مرّ فی وراثة الأقربین للنبیّ صلی الله علیه و آله من قرباه ، حیث إنّ مقاماته واختصاصاته لم تکن علی صعید فردیّ أو اسریّ خاصّ ، بل هی صلاحیّات ذات طابع عامّ ، لا یقتصر علی وسع الدائرة السیاسیّة فحسب ، بل یتّسع إلی عموم آفاق الدائرة الدینیّة ، فیتبدّل طابع الوراثة من طابع فردیّ اسریّ إلی طابع اصطفاء واجتباء إلهی .

وهذه ظاهرة ملحوظة فی عناوین الأفعال والمعاملات والعقود المرتبطة بمن اصطفاهم اللّه تبارک وتعالی حججاً علی خلقه .

والسرّ فی ذلک یعود إلی أنّ هذه الشخصیات یتجاوز بُعدها الجانب الفردی لموقعیتها فی الدائرة العامّة السیاسیّة والدینیّة ، لما لها من موقعیّة الحجج الإلهیّة .

و هذا أمر ملحوظ بنحو الاطّراد فی أفراد الحجج المصطَفَین ، وعلیه فلا ینبغی قراءة تلک العناوین والأفعال والعقود قراءة فردیّة وأسریة ، بل لا بدّ من قراءتها ضمن قالب ولون سیاسیّ ودینیّ عامّ ، لأنّ شخصیّاتهم لیست قالباً فردیّاً بقدر ما هی قالب

ص:411

دینیّ عامّ .

ومن ثَمّ ورد فی روایات مهر فاطمة علیها السلام أنّ مهرها فی الأرض خمسمائة درهم ، ومهرها فی السماء ولایتها فی الدنیا والآخرة .

وعلیه فالتعبیر « فی السماء » للدلالة علی الموقعیّة الاُخری والبیئة الواسعة العامّة .

ونظیر ذلک ما فی قوله تعالی فی شأن هارون و موسی علیهما السلام ، فإنّ الأخوّة بینهما والتآخی لا تقتصر علی المعنی الدارج المعروف بین الأفراد ، والبُعد الفردیّ للمشارکة فی النسب والأصل ، بل فی الحجج یتجاوز هذا المجال المحدود إلی بُعد المشارکة فی النسب الروحیّ والمشارکة فی موقعیة الاصطفاء والحجّیة ، قال تعالی فی شأن اخوّة موسی وهارون علیهما السلام : وَ اجْعَلْ لِی وَزِیراً مِنْ أَهْلِی * هارُونَ أَخِی * اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِی * وَ أَشْرِکْهُ فِی أَمْرِی (1).

کما هو الحال فی وراثة الأقربین الأطهرین المخلصین من رهط النبیّ صلی الله علیه و آله ، فإنّها لیست وراثة نسب کسائر ما تعارف علیه الناس من الوراثة فی الأموال الفردیّة فحسب ، بل وراثة مقامات وصلاحیّات وموقعیّات فی الدین ، کما یشیر له قوله تعالی : اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ وَ الْمُهاجِرِینَ (2) فإنّ الآیة کما مرّ الحدیث عن مفادها مبسوطاً فی القسم الأوّل فی سیاق تثبیتها ولایة النبیّ صلی الله علیه و آله علی المؤمنین ، النافذة علیهم بأنفسهم ، بیّنت أنّ اولی الأرحام الشامل لأرحامه أوْلی بهذا المقام ، وراثة النبیّ صلی الله علیه و آله ، أوْلی من المؤمنین والمهاجرین ، کما هو المقرّر فی کتاب اللّه تعالی .

ص:412


1- (1) طه : 29 - 32 .
2- (2) الأحزاب : 6 .

ففی الآیة إیماء وتلویح واضح فی أنّ شؤون النبیّ صلی الله علیه و آله ومن یرتبط به تتّخذ هذه الشؤون وتملک الرابطة طابعاً شمولیّاً بحسب موقعیّة ومقامات وصلاحیّات النبیّ صلی الله علیه و آله .

وبهذا نختم الحدیث عن الوراثة الاصطفائیّة لسیّدة نساء العالمین فاطمة الزهراء علیها السلام .

هذا وقد تمّ تحبیر هذه الأوراق - بحمد اللّه وفضله - فی الخامس عشر من شهر شعبان من سنة ألف وأربعمائة وثلاثین للهجرة النبویّة .

و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمین ،

والصلاة والسلام علی محمّد وآله الطیّبین الطاهرین

ص:413

ص:414

مصادر الکتاب

قرآن الکریم

نهج البلاغة

1 - الإتقان فی علوم القرآن : ----- جلال الدین السیوطی ، دار الفکر - لبنان

2 - الاحتجاج : ----- الشیخ الطبرسی ، دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف

3 - إحقاق الحقّ : ----- نور اللّه التُّستری ، مکتبة السیّد المرعشی - قم المقدّسة

4 - أحکام القرآن : ----- ابن العربی ، دار الفکر - بیروت

5 - أخبار الدول وآثار الاُول : ----- أبی العبّاس القرمانی

6 - أرجح المطالب : ----- الآمرتسری ، لاهور - باکستان

7 - الإرشاد : ----- الشیخ المفید ، آل البیت علیهم السلام - قم المقدّسة

8 - الاستیعاب : ----- ابن عبدالبرّ النمری ، دار الجیل - بیروت

9 - اسد الغابة : ----- ابن الأثیر ، انتشارات إسماعیلیان - طهران

10 - الإصابة فی تمییز الصحابة : ----- ابن حجر العسقلانی ، دار الکتب العلمیّة - بیروت

11 - إعلام الوری بأعلام الهدی : ----- الطبرسی ، آل البیت علیهم السلام - قم المقدّسة

12 - إقبال الأعمال : ----- السیّد ابن طاووس ، مکتب الإعلام الإسلامی - قم المقدّسة

13 - الأمالی : ----- الشیخ الصدوق ، مؤسّسة البعثة - قم المقدّسة

14 - الأمالی : ----- الشیخ الطوسی ، مؤسّسة البعثة - قم المقدّسة

15 - أمالی المفید : ----- الشیخ المفید ، جامعة المدرّسین - قم المقدّسة

16 - الإمامة والسیاسة : ----- ابن قتیبة الدینوری ، الشریف الرضی - قم المقدّسة

ص:415

17 - الأموال : ----- أبو عبید القاسم بن سلام ، دار الفکر - بیروت

18 - أنساب الأشراف : ----- أحمد بن یحیی البلاذری

19 - أنساب الطالبیّین : ----- المجدی ، مطبعة سیّد الشهداء علیه السلام - قم المقدّسة

20 - بحار الأنوار : ----- العلّامة المجلسی ، المکتبة الإسلامیّة - طهران

21 - البدایة والنهایة : ----- ابن کثیر الدمشقی ، دار إحیاء التراث العربی - بیروت

22 - بلاغات النساء : ----- ابن طیفور ، مکتبة بصیرتی - قم المقدّسة

23 - تاج الموالید : ----- الطبرسی ، مکتبة السیّد المرعشی - قم المقدّسة

24 - تاریخ الإسلام : ----- الذهبی ، دار الکتاب العربی - بیروت

25 - تاریخ الإسلام : ----- سراج الدین عثمان

26 - تاریخ بغداد : ----- الخطیب البغدادی ، دار الکتب العلمیّة - بیروت

27 - تاریخ الطبری : ----- محمّد بن جریر الطبری ، مؤسّسة الأعلمی - بیروت

28 - تاریخ مدینة دمشق : ----- ابن عساکر ، دار الفکر ، بیروت - لبنان

29 - تاریخ المدینة المنوّرة : ----- ابن شبّة النمیری ، دار الفکر - بیروت

30 - تأویل الآیات الظاهرة : ----- الاسترابادی ، مدرسة الإمام المهدی - قم المقدّسة

31 - تأویل مختلف الحدیث : ----- ابن قتیبة ، دار الکتب العلمیّة ، بیروت - لبنان

32 - تجهیز الجیش ( مخطوط ) : ----- أمان اللّه الدهلوی

33 - تحف العقول : ----- الحسن بن شعبة الحرّانی

34 - تحفة المحبّین بمناقب الخلفاء الراشدین ( مخطوط ) : ----- محمّد بن رستم

35 - تذکرة الحفّاظ : ----- الذهبی ، دار إحیاء التراث العربی - بیروت

36 - التذکرة الحمدونیّة : ----- محمّد بن الحسن بن حمدون ، دار صادر - بیروت

37 - تذکرة الخواص : ----- سبط ابن الجوزی ، مکتبة نینوی الحدیثة - طهران

38 - التعدیل والتجریح : ----- سلیمان بن خلف الباجی ، وزارة الأوقاف - مراکش.

39 - تفسیر ابن أبی حاتم : ----- ابن أبی حاتم الرازی ، المکتبة العصریّة - بیروت

ص:416

40 - تفسیر ابن کثیر : ----- إسماعیل بن کثیر الدمشقی ، دار المعرفة - بیروت

41 - تفسیر أطیب البیان : ----- علیّ الإبراهیمی ، دار الأنصار - قم المقدّسة

42 - تفسیر البرهان : ----- السیّد هاشم البحرانی ، مؤسّسة الأعلمی - بیروت

43 - تفسیر البغوی : ----- الحسین بن مسعود الفرّاء البغوی ، دار المعرفة - بیروت

44 - تفسیر التبیان : ----- الشیخ الطوسی ، مکتب الإعلام الإسلامی - قم المقدّسة

45 - تفسیر الثعالبی : ----- عبدالرحمن بن محمّد الثعالبی ، مؤسّسة التاریخ العربی - بیروت

46 - تفسیر الثعلبی : ----- أحمد بن محمّد الثعلبی ، دار إحیاء التراث العربی - بیروت

47 - تفسیر الخازن : ----- علیّ بن محمّد البغدادی الخازن ، دار الفکر - بیروت

48 - تفسیر الصافی : ----- الفیض الکاشانی ، مکتبة الصدر - طهران

49 - تفسیر العیّاشی : ----- محمّد بن مسعود العیّاشی ، المکتبة العلمیّة الإسلامیّة - طهران

50 - تفسیر فرات : ----- فرات بن إبراهیم الکوفی ، مؤسّسة الطبع والنشر - طهران

51 - تفسیر القرطبی : ----- محمّد بن أحمد الأنصاری ، دار الکتاب العربی - بیروت

52 - تفسیر القمّی : ----- علیّ بن إبراهیم القمّی ، دار الکتاب - قم المقدّسة

53 - التفسیر الکبیر : ----- الفخر الرازی ، المطبعة العلمیّة - بیروت

54 - تفسیر المراغی : ----- أحمد مصطفی المراغی ، دار الفکر - بیروت

55 - التفسیر المنسوب للإمام العسکری علیه السلام :مدرسة الإمام المهدی- قم المقدّسة

56 - تفسیر روح المعانی : ----- للآلوسی ، دار إحیاء التراث العربی - بیروت

57 - تقریب المعارف : ----- أبو الصلاح الحلبی ، الناشر : فارس تبریزیان

58 - تقیید العلم : ----- الخطیب البغدادی ، دار إحیاء السنّة - بیروت

59 - تلخیص الشافی : ----- للشیخ الطوسی ، انتشارات المحبّین

60 - تنزیه الشریعة ( مخطوط ) : ----- علیّ بن محمّد بن عراق المصری

61 - تهذیب الأحکام : ----- الشیخ الطوسی ، دار الکتب الإسلامیّة - طهران

62 - تهذیب التهذیب : ----- ابن حجر العسقلانی ، دار الفکر - بیروت

ص:417

63 - جامع البیان : ----- ابن جریر الطبری ، دار الفکر - بیروت

64 - الجامع الصغیر : ----- جلال الدین السیوطی ، دار الفکر - بیروت

65 - جواهر البحار : ----- النبهانی ، البابی الحلبی - مصر

66 - حاشیة الدسوقی علی الشرح الکبیر : ----- محمّد بن عرفة الدسوقی ، دار الفکر - بیروت

67 - الحاوی : ----- جلال الدین السیوطی

68 - الحدائق الناضرة : ----- الشیخ یوسف البحرانی

69 - حلیة الأبرار : ----- السیّد هاشم البحرانی ، مدرسة الإمام المهدی - قم المقدّسة

70 - الخرائج والجرائح : ----- القطب الراوندی ، مدرسة الإمام المهدی - قم المقدّسة

71 - خصائص أمیر المؤمنین علیه السلام : ----- النسائی ، مکتبة نینوی الحدیثة - طهران

72 - الخصال : ----- الشیخ الصدوق ، مؤسّسة النشر الإسلامی - قم المقدّسة

73 - الخلاف : ----- الشیخ الطوسی ، مؤسّسة النشر الإسلامی - قم المقدّسة

74 - الدرّ المنثور : ----- جلال الدین السیوطی ، دار المعرفة - بیروت

75 - درر السمط فی خبر السبط : ----- محمّد بن عبداللّه القضاعی ، دارالعرب الإسلامی - بیروت

76 - دلائل الإمامة : ----- محمّد بن جریر الطبری ، المطبعة الحیدریّة - النجف الأشرف

77 - دلائل النبوّة : ----- البیهقی ، دار الکتاب العربی - بیروت

78 - دلائل النبوّة : ----- أبو نعیم الأصفهانی ، دار إحیاء التراث العربی - بیروت

79 - ذخائر العقبی : ----- محبّ الدین الطبری

80 - رسالة فی حدیث « نحن معاشر الأنبیاء » : ----- للشیخ المفید ، دار المفید ، بیروت

81 - روضة الواعظین : ----- الفتّال النیسابوری ، الشریف الرضی - قم المقدّسة

82 - زاد المسیر : ----- ابن الجوزی ، دار الفکر - بیروت

83 - زبدة البیان : ----- المقدّس الأردبیلی ، المکتبة المرتضویة

84 - سرّ السلسلة العلویّة : ----- أبو نصر البخاری ، المطبعة الحیدریة - النجف الأشرف

85 - السقیفة وفدک : ----- الجوهری ، شرکة الکتبی - بیروت

ص:418

86 - سنن ابن ماجة : ----- محمّد بن یزید القزوینی ، دار الفکر - بیروت .

87 - سنن أبی داود : ----- سلیمان بن الأشعث السجستانی ، دار إحیاء السنّة المحمّدیة

88 - سنن الترمذی : ----- عیسی بن سورة الترمذی ، دار الفکر - بیروت

89 - سنن الدارمی : ----- عبداللّه بن بهرام الدارمی ، مطبعة الاعتدال - دمشق

90 - السنن الکبری : ----- البیهقی ، دار الفکر - بیروت

91 - السنن الکبری : ----- أحمد بن شعیب النسائی ، دار الکتب العلمیّة - بیروت

92 - سنن النسائی : ----- أحمد بن شعیب النسائی ، دار الفکر - بیروت

93 - سیر أعلام النبلاء : ----- الذهبی ، مؤسّسة الرسالة - بیروت

94 - السیرة الحلبیّة : ----- علیّ بن برهان الدین الحلبی ، دار المعرفة - بیروت

95 - السیرة النبویّة : ----- ابن هشام الحمیری ، مکتبة محمّد علی صبیح - مصر

96 - الشافی فی الإمامة : ----- ابن حمزة

97 - الشافی فی الإمامة : ----- السیّد المرتضی ، مؤسّسة إسماعیلیان - قم المقدّسة

98 - شرح الأخبار : ----- النعمان بن محمّد المغربی ، مؤسّسة النشر الإسلامی - قم المقدّسة

99 - شرح الترمذی : ----- ابن العربی

100 - شرح صحیح مسلم : ----- النووی ، دار الکتاب العربی - بیروت

101 - شرح المقاصد : ----- التفتازانی ، دار المعارف النعمانیة - باکستان

102 - شرح المواقف : ----- القاضی الجرجانی ، مطبعة السعادة - مصر

103 - شرح نهج البلاغة : ----- ابن أبی الحدید المعتزلی ، دار إحیاء الکتب العربیّة - بیروت

104 - شواهد التنزیل : ----- الحاکم الحسکانی ، مؤسّسة الطبع والنشر - طهران

105 - الصحاح : ----- إسماعیل بن حمّاد الجوهری ، دار العلم للملایین - بیروت

106 - صحیح ابن حبّان : ----- علاء الدین علیّ بن بلبان ، مؤسّسة الرسالة - بیروت

107 - صحیح البخاری : ----- محمّد بن إسماعیل البخاری ، دار الفکر - بیروت

108 - صحیح مسلم : ----- مسلم بن الحجّاج النیسابوری ، دار الفکر - بیروت

ص:419

109 - الصوارم المهرقة : ----- نور اللّه التستری ، مطبعة النهضة - طهران

110 - الصواعق المحرقة : ----- ابن حجر العسقلانی ، مکتبة القاهرة - مصر

111 - الطبقات الکبری : ----- ابن سعد ، دار صادر - بیروت

112 - عبقات الأنوار : ----- السیّد حامد حسین اللکهنوی

113 - علل الشرائع : ----- الشیخ الصدوق ، المکتبة الحیدریّة - النجف الأشرف

114 - عوالم العلوم : ----- عبداللّه البحرانی

115 - عون المعبود : ----- العظیم آبادی

116 - عیون أخبار الرضا علیه السلام : ----- الشیخ الصدوق ، مؤسّسة الأعلمی - بیروت

117 - الغارات : ----- إبراهیم بن محمّد الثقفی ، تحقیق : السیّد جلال الدین المحدث

118 - الغدیر : ----- الشیخ عبدالحسین الأمینی ، دار الکتاب العربی - بیروت

119 - الغیبة : ----- الشیخ الطوسی ، مؤسّسة المعارف الإسلامیة - قم المقدّسة

120 - فتح الباری : ----- ابن حجر العسقلانی ، دار الفکر - بیروت

121 - فتوح البلدان : ----- أحمد بن یحیی البلاذری ، مکتبة النهضة المصریّة - القاهرة

122 - فرائد السمطین : ----- الجوینی ، مؤسّسة المحمودی - بیروت

123 - فردوس الأخبار : ----- الدیلمی ، دار الکتب العلمیّة - بیروت

124 - الفصول المهمّة : ----- ابن الصبّاغ المالکی ، دار الحدیث للطباعة والنشر

125 - الفضائل : ----- شاذان بن جبرئیل القمّی ، مؤسّسة ولی العصر - قم المقدّسة

126 - الفقه الإمام الرضا علیه السلام : ----- مؤسسة آل البیت علیهم السلام - قم المقدّسة

127 - فوائد الاُصول : ----- محمّد علی الکاظمی ، دفتر تبلیغات - قم المقدّسة .

128 - فیض القدیر : ----- العلّامة المناوی ، مکتبة مصر - القاهرة

129 - الکاشف : ----- الذهبی ، دار الفکر - بیروت

130 - الکافی : ----- محمّد بن یعقوب الکلینی ، دار الکتب الإسلامیّة - طهران

131 - الکامل فی التاریخ : ----- ابن الأثیر ، دار صادر - بیروت

ص:420

132 - کتاب الدعاء : ----- الطبرانی ، دار الکتب العلمیّة - بیروت

133 - کتاب سُلیم بن قیس : ----- سُلیم بن قیس الهلالی ، تحقیق : محمّد باقر أنصاری

134 - کشف الخفاء : ----- إسماعیل بن محمّد العجلونی ، دار الکتب العلمیّة ، بیروت

135 - کشف الغرر : -----

136 - کشف الیقین : ----- العلّامة الحلّی ، تحقیق : حسین الدرگاهی

137 - کفایة الأثر : ----- الخزاز القمّی ، انتشارات بیدار - قم المقدّسة

138 - کمال الدین وتمام النعمة : ----- الشیخ الصدوق ، مؤسسة النشر الإسلامی - قم المقدّسة

139 - کنز العمال : ----- المتّقی الهندی ، مؤسّسة الرسالة - بیروت

140 - کنز الفوائد : ----- أبو الفتح الکراجکی ، مکتبة المصطفوی - قم المقدّسة

141 - کنوز الدقائق : ----- العلّامة زین الدین المناوی ، مطبعة بولاق - مصر

142 - لباب النقول : ----- جلال الدین السیوطی ، دار إحیاء العلوم - بیروت

143 - لسان العرب : ----- ابن منظور المصری ، نشر أدب الحوزة - قم المقدّسة

144 - لسان المیزان : ----- ابن حجر العسقلانی ، دار الفکر - بیروت

145 - اللمعة البیضاء : ----- محمّد علیّ التبریزی الأنصاری ، نشر الهادی - قم المقدّسة

146 - المتّفق والمفترق : ----- الخطیب البغدادی ، دار الکتب العلمیّة - بیروت

147 - مجمع البیان : ----- أمین الإسلام الطبرسی ، دار صعب - بیروت

148 - مجمع الزوائد : ----- الهیثمی ، دار الکتب العلمیّة - بیروت

149 - محاضرات الأوائل : ----- علاء الدین الحنفی السکتواری

150 - المحتضر : ----- الحسن بن سلیمان الحلّی ، المکتبة الحیدریّة - النجف الأشرف

151 - مختصر اتحاف السادة المهرة بزوائد المسانید العشرة : ----- أحمد بن أبی بکر البوصیری ، مکتبة الرشد - الریاض

152 - مختصر البصائر : ----- الحسن بن سلیمان الحلّی ، مؤسّسة النشر الإسلامی - قم المقدّسة

153 - مختصر تاریخ دمشق : ----- ابن منظور الأفریقی ، مؤسّسة النشر الإسلامی - قم المقدّسة

ص:421

154 - مروج الذهب : ----- المسعودی ، انتشارات الشریف الرضی - قم المقدّسة

155 - المزار الکبیر : ----- ابن المشهدی ، مؤسّسة النشر الإسلامی - قم المقدّسة

156 - المسائل الصاغانیّة : ----- الشیخ المفید ، دار المفید - بیروت

157 - المستدرک علی الصحیحین : ----- الحاکم النیسابوری ، حیدر آباد - الدکن

158 - مستدرک وسائل الشیعة : ----- المیرزا النوری ، مؤسّسة آل البیت : - قم المقدّسة

159 - مسند أحمد : ----- أحمد بن حنبل ، دار صادر - بیروت

160 - مسند زید بن علیّ : ----- الشهید زید بن علیّ علیه السلام ، دار مکتبة الحیاة - بیروت

161 - مسند الطیالسی : ----- أبی داود سلیمان بن داود الطیالسی ، دار المعرفة - بیروت

162 - مسند علیّ بن أبی طالب : ----- السیوطی ، دار المعرفة - الکویت

163 - مسند فاطمة : ----- جلال الدین السیوطی

164 - مشارق أنوار الیقین : ----- الشیخ رجب البرسی ، مؤسسة الأعلمی - بیروت

165 - المصاحف : ----- ابن أبی داود السجستانی

166 - مصباح الزائر : ----- للسیّد ابن طاووس ، مؤسّسة آل البیت : - قم المقدّسة

167 - مصباح المتهجّد : ----- الشیخ الطوسی ، مؤسسة فقه الشیعة - بیروت

168 - المصنّف : ----- ابن أبی شیبة الکوفی ، دار الفکر - بیروت

169 - المطالب العالیة : ----- ابن حجر العسقلانی

170 - معارج النبوّة : ----- أبو نصر البخاری الکلاباذی

171 - معانی الأخبار : ----- الشیخ الصدوق ، مؤسّسة النشر الإسلامی - قم المقدّسة

172 - معانی القرآن : ----- النحّاس ، جامعة امّ القری - السعودیّة

173 - المعجم الأوسط : ----- الطبرانی ، دار الحرمین

174 - المعجم الصغیر : ----- الطبرانی ، دار الفکر - بیروت

175 - المعجم الکبیر : ----- الطبرانی ، دار الکتب العلمیّة - بیروت

176 - المغازی : ----- محمّد بن عمر الواقدی ، افسیت دار المعرفة - بیروت

ص:422

177 - المغنی : ----- ابن قدامة ، دار الکتاب العربی - بیروت

178 - مفردات غریب القرآن : ----- الراغب الأصفهانی ، نشر الکتاب - قم المقدّسة

179 - مقاتل الطالبیّین : ----- أبو الفرج الأصفهانی ، المکتبة الحیدریّة .

180 - مقتل الحسین علیه السلام : ----- الخطیب الخوارزمی

181 - المقنعة : ----- الشیخ المفید ، مؤسسة النشر الإسلامی - قم المقدّسة

182 - ملحقات إحقاق الحقّ : ----- آیة اللّه السیّد المرعشی النجفی

183 - من لا یحضره الفقیه : ----- الشیخ الصدوق ، دار الکتب الإسلامیّة - طهران

184 - المناقب : ----- الخوارزمی ، مؤسسة النشر الإسلامی ، قم المقدّسة

185 - مناقب آل أبی طالب : ----- ابن شهرآشوب ، انتشارات ذوی القربی - قم المقدّسة

186 - مناقب أمیر المؤمنین علیه السلام : ----- الکوفی ، مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیّة - قم المقدّسة

187 - مناقب علیّ بن أبی طالب علیه السلام : ----- ابن المغازلی ، مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیّة

188 - المواقف : ----- الإیجی ، دار الجیل - بیروت .

189 - موسوعة الإمامة فی نصوص أهل السنّة : ----- السیّد المرعشی النجفی

190 - میزان الاعتدال : ----- الذهبی ، دار المعرفة - بیروت

191 - المیزان فی تفسیر القرآن : ----- العلّامة الطباطبائی

192 - نزهة المجالس : ----- الصفوری الشافعی ، القاهرة - مصر

193 - نظم درر السمطین : ----- الزرندی الحنفی ، دار إحیاء التراث العربی - بیروت

194 - النوادر : ----- فضل اللّه الراوندی ، مؤسّسة دار الحدیث - قم المقدّسة

195 - نور الأبصار : ----- مؤمن بن حسن الشبلنجی ، منشورات الشریف الرضی - قم المقدّسة

196 - الهدایة الکبری : ----- الخصیبی ، مؤسّسة البلاغ - بیروت

197 - وسائل الشیعة : ----- الحرّ العاملی ، مؤسّسة آل البیت : - قم المقدّسة

198 - وفاء الوفا : ----- السمهودی ، تحقیق : محمّد محیی الدین عبدالحمید

199 - ینابیع المودّة : ----- القندوزی الحنفی ، دار الاُسوة - طهران

ص:423

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.