الغلو و الفرق الباطنیه

اشارة

سرشناسه:عابدینی، محمد،

عنوان و نام پدیدآور:الغلو والفرق الباطنیه/ محمد سند.

مشخصات نشر:قم: باقیات، 1389.

مشخصات ظاهری:396ص.

شابک:80000

ریال: 978-600-5126-94-5

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

یادداشت:عربی.

موضوع:غلو

موضوع:شیعه -- فرقه ها

رده بندی کنگره:BP241/س9غ8 1389

رده بندی دیویی:297/538

شماره کتابشناسی ملی:2171259

ص :1

اشارة

ص :2

ص :3

ص :4

الغلو و الفرق الباطنیه

محمد سند

ص :5

ص :6

ص :7

ص :8

کلمة الأستاذ

بسم اللّه الرحمن الرحیم الحمد للّه رب العالمین وصلاته علی أشرف السفراء المرسلین وآله الهداة المهدیین.

وبعد، فإنّ رواة المعارف حیث حملوا نقل الجزء الأهم الخطیر من مساحة الدین - وهو الفقه الأکبر - فإنّ ذلک یستدعی أکثر حساسیة تجاههم لعظم الخطب، فإبداء التدقیق والتثبت أمر منطقی حینئذ إلّاأنّه بقدر الأهمیة البالغة لذلک فإنّ ذلک یستلزم أیضاً التثبت والتدقیق البالغ فی المیزان و القواعد لدراسة أحوالهم وتقییم انتماءاتهم الفکریة بعیداً عن الإفراط والتفریط وسلوک منهج تحقیقی علمی بعیداً عن التقلید، والتلقی للأمور بنحو تسالمی من دون تتبع وتنقیب باستقصاء وتحلیل لخلفیات کثیر من المقالات فإنّ ربّ مشهور لا أصل له لا سیما إذا کانت تداعیاتها آتیة من العامة.

ولا شطط فی القول أنّ کثیراً من الجرح والتعدیل مبنی علی المدرسة الکلامیة التی تلمذ فیها الرجالی و أن تقییمه لراوی المعارف مبنی علی مضمون الروایة التی یرویها الراوی، ولیس علی أسس حسیة وراء ذلک فهی أشبه بمحاکمات کلامیة منها بشهادات سلوکیة لسیرة الراوی.

وعلی ضوء ذلک فیکون التراث الروائی الذی یحمل فی طیاته نقل الوحی رهین آراء ثلة قلیلة من أهل الجرح والتعدیل، و هذا من الخطورة بمکان أن یرتسم الإطار العقائدی بنظرة وفکر فئة معینة بل السداد هو فتح باب الاجتهاد والتحقیق العلمی المبنی علی

ص:9

الموازین الاستدلالیة.

ومنه یظهر انفتاح أفق واسع للبحث المعرفی الاعتقادی من خلال دراسة مدارس رواة المعارف المختلفة و من تاریخ النحل والملل المتعددة وکیفیة تجرید ألوان الأفراد والأشخاص عن طبیعة المقالات والمعتقدات.

وإن تأثّر کل من علم الرجال وعلم النحل والملل وعلم الکلام بالآخر وتداعیات کل بالآخرین ملحوظ بقوة، فکان من اللازم فتح هذا المنهج فی البحث والتحقیق کی تتضح معالم حقیقیة لمسار علم المعارف وعلم الرجال.

وکانت هذه الجهود قد قام بتحریرها کل من الفاضلین الألمعیین جناب الشیخ مجتبی الاسکندری والشیخ حسن الکاشانی أشکر لهما هذه المثابرة والتدقیق والتتبع راجیاً لهما المزید من الرقی العلمی وتسنم المکانة العالیة فی الفضیلة.

محمد سند

25 صفر 1431 ه . ق

ص:10

کلمة المقرّر

إنّ هناک جدلیة ثنائیة قائمة علی مر العصور بین التیار المتشدد فی نقل الفضائل والمقامات للحجج الإلهیة والتیار الذی لا یستحسن مقالات الفریق الأول ویرفض کثیراً مما یعتنقه ذلک التیار، وقد سمی الفریق الأول عند الفریق الثانی بالغلاة؛ کما سمی الفریق الآخر عند الأول بالمقصرة.

وقد تخرج هذه الجدلیة بین حین وأخری عن شکلها المنطقی فتبدو کحرب قائم بین الفریقین یؤدی إلی الإدانة والتبری، فیذهب ضحیتها کثیراً من الأبریاء. والحال أنّ الأمر غیر واضح لدی کل من الفریقین والخطوط غیر بینة عندهما، فلا یوجد معیار ومیزان یزن بها الغالی عن المقصر، وإنما هی دعایات أکثر من أن تکون حقائق وواقعیات. فکل فریق ینسب من یخالفه فی القول إلی الغلو أو إلی التقصیر.

ومما یشتد فی غموضة الأمر هو استغلال جماعة السلطان والبلاط الحکومی علی مرّ التاریخ لهذه الجدلیة لصالح سیاساتها الشرسة، فینسب من یعارضها فی الرأی ویجهر بفضائل ومقامات موجودة فی غیرها مما یبرهن عدم کفاءتها للحکومة والخلافة إلی الغلو والتجاوز عن حدود العبودیة کذریعة للحکم بکفره وجواز قتله وإبادته عن صفحة الأرض. وبما یتملک الجهاز الحکومی من أبواق وأقلام مستأجرة ودعایات متفشیة کان ینشر هذه التهم بکثافة فی کافة أرجاء المعمورة، فیؤثر فی حدوث حالة انهزامیة لدی جمع من الخاصة فضلاً عن العامة.

ص:11

فلهذه الأسباب وغیرها بقیت حقیقة الأمر مختفیة لدی کثیر من روّاد الحقیقة، وقد تسرب هذا الغموض والخفاء إلی علم الرجال، فیری فی کثیر من ملفّات الرواة انّه قد سجّل علیهم کونهم من الغلاة أو الطیارة أو المخلّطة و غیرها من الأوصاف والتعبیرات، لا سیما أن بعض أرباب الجرح والتعدیل لم یتضح لدیهم حقیقة مقالات أولئک الرواة أو لم یکن أفقهم المعرفی والعلمی بدرجة وعی تلک المقالات والأقوال فتراهم یتسرعون إلی إلصاق هذه الأوصاف لکل من یخالفهم فی الرأی. هذا، مع ما فی کثافة الدعایات العامیة والحکومیة من التأثیر السلبی علی بعض أرباب الجرح والتعدیل.

فمن الضروری فی علم الرجال تنقیح الحال حول الفرق المطعون علیهم بالغلو وحقیقة مقالاتهم لترسم لدی الباحث صورة عن واقع الأمر الذی حاول جهاز السلطة أن یبقی مخفیاً طوال القرون.

وممّا یجدر الالتفات إلیه فی تنقیح حال أولئک الفرق والجماعات تمییز درجة انحرافهم - إن حصل لدیهم انحراف - فکما أنّ للإیمان والحق درجات ومراتب کذلک للکفر والباطل مراتب تختلف شدة وضعفاً. فمن عدم الحیادة فی البحث ضرب الجمیع بحجر واحد، بل ینبغی حسبان کل أحد فی ظروفه الخاصة به وتشخیص درجة انحرافه عن جادة الحق. کما وصانا الباری تبارک وتعالی فقال: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوّامِینَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلی أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوی » فمراعاة العدالة واجبة حتی مع العدو والمخالف.

ومما یزید فی أهمیة هذا البحث والتنقیح هو أن کثیراً من رواة المعارف والمقامات الذین حملوا الرکن الأعظم والفقه الأکبر من الدین الحنیف قد ترکوا وهجروا لما نسب إلیهم من هذه الأوصاف، والحال أنّهم من أکابر أجلاء الرواة بل قد یعد بعضهم من أخصاء حواری أهل البیت علیهم السلام . وبنسبة أهمیة الفقه الأکبر علی الفقه الأصغر تکون أهمیة کشف الحقیقة حول هذه الرواة علی أهمیة البحث فی رواة الفروع. نعم فیهم من هو قد انحرف عن جادة الصواب والصراط المستقیم إلّاأنّه لم یتضح حقیقة انحرافه وأنه هل یمس

ص:12

بحجیة مرویاته أو یسبب فساد عقیدته أم لا؟

ورغم ما بذل بعض من علمائنا الکرام جهودهم المشکورة فی هذا المضمار، إلّاأنّ هناک کثیراً من الحقائق حول هذه الفرق والجماعات لا زالت غیر واضحة ومختفیة تحت غطاء التقلید فی علم الرجال.

وفی هذا المقام قد تطرق شیخنا الأستاذ الفقیه آیة اللّه محمد السند - أدام اللّه أیام إفاداته - إلی بیان أمور عن حیاة الجماعات المطعونة علیهم بالغلو کانت مستورة طوال قرون متمادیة، فمنهم من هو من الأجلاء ورواة المعارف وقد نسب إلی الغلاة زوراً، ومنهم من حصل لدیه انحراف لکن لم یتضح حقیقة انحرافهم؛ فحرص الأستاذ علی أن یبیّن مرکز الانحراف الموجود عندهم وتداعیاته وسلبیاته. کما بحث أخیراً عن حیاة الجماعات المعارضة لتلک الفرق والتی کانت تصر علی الجنبة البشریة للحجج الإلهیة ونفی البعد الوحیانی عنهم :. وقد انجر البحث إلی بیان نتف ونکات مهمة فی العقیدة والمعرفة بل فی السیر والسلوک، وکذا ذکر أموراً هامّة فی کیفیّة التعامل مع الروایات الواردة فی المعرفة والعقیدة وأنه یجب قراءتها قراءة عقلیة معرفیة لا قراءة ظنیة تعبدیة، فصار الکتاب جامعاً بین مباحث علم الرجال ومباحث أصول معرفة العقیدة.

وقد وفقنا اللّه لمرافقة سماحة الأستاذ فی رصد هذه الشواهد والقصاصات وتقریر ما کان یفیضه علینا، فجاء الکتاب کحلقة ثالثة متوسطة بین علم الرجال وأصول استنباط العقائد.

وأخیراً نسأل اللّه تبارک وتعالی أن یحفظ أستاذنا الأجل ویوفقه فی نشر معارف أهل البیت :، و أن یتقبل منّا هذا القلیل و أن یجعله لنا ذخراً یوم لا ینفع مال ولا بنون.

الکاشانی - الاسکندری

ص:13

ص:14

المدخل

لیس الغرض من البحث والتنقیب فی من طعن علیهم بأنّهم غلاة أو بالباطنیة، محاولة لتوثیقهم أو لتشیید الاعتماد علیهم؛ بقدر ما أنّ هذه المحاولة تستهدف تحدید الطعن الحقیقی فیهم من الطعن الزائف وتبیین منشأ الانحراف.

فلیس الهدف نفی اللعن الصادر فی حقّهم ولا نفی الذمّ عنهم ولا نفی أصل الانحراف ولا نفی الغلوّ، بل الهدف والمطلوب الأصلی هو تحدید نوع الانحراف ونوع الغلوّ وأنّه لیس المعنی المعهود المتبادر من الغلوّ ولا ما ألصق بهم من الانحراف.

بعبارة أخری: إنّ الغلوّ الذی ارتکبوه لیس فی التزامهم و قولهم فی شأن أئمة أهل البیت علیهم السلام فوق ما هم علیه نظیر النصاری، بل هو نمط آخر من الغلوّ؛ فإنّ هناک أنواع عدیدة من التطرّف الإفراطی الذی قد یکون سیاسیاً أو أمنیاً أو إصلاحیّاً أو غیر ذلک فی المجالات المختلفة التی لا ترتبط بالمقالات الاعتقادیة والمعرفیة ومن الخطأ حصر الغلوّ والتطرّف فی ذلک.

کما أنّه لیس الهدف فی هذا البحث - عن من طعن علیهم بالغلوّ - تحسین سیرتهم وتعدیل طریقتهم من کلّ جهة بنحو التعمیم، وإنما القصد هو بیان ما فیهم من جهات متعددة بعضها مذمومة وبعضها ممدوحة. فالهدف هو تمییز الأوراق المختلطة فی المقام والتی ظلّت مشتبهة طوال القرون علی الصعید الرسمی الظاهر

ص:15

فی علم الرجال والحدیث ولا سیّما وأنّ الحدیث هو عن خصوص الرواة الذین یعدّون زعماء لتلک المقالات وحقیقتها و هذا مطابق لما ذکرناه فی الجزء الأوّل والثانی من أنّ التعدیل أو الجرح عند القدماء والأصحاب کان من جهات وحیثیات أربع ولکلّ جهة وحیثیة أقسام. فالعمومیة والتعمیم فی جرح المفردة الرجالیة وکذا التعدیل لم یکن من دیدن القدماء وهذه قاعدة مهمّة فی منهج البحث الرجالی التی أشرنا إلیها سابقاً.

کما أنّه یجب علی الباحث، الفصل بین روّاد من طعن علیهم بالغلوّ وبین امتداداتهم فی الأتباع وجماهیر القواعد لدیهم، فإّنه قد تفشّت فیهم تخالیط من الأقوال.

لا سیما وأنّ هذه الظاهرة بماحملت من أوصاف وتسمیات مزعومة فی بطون الکتب التاریخیة والرجالیة اتّخذت کسیف یقمع به سائر رواة المعارف من أحادیث أهل البیت علیهم السلام واتّخذ رمحاً یطعن به أتباع أهل البیت علیهم السلام .

فللوصول إلی الحقیقة ثمار کبیرة جدّاً تخلق نظرة متوازنة وثاقبة للتراث الموروث من أحادیث أهل البیت علیهم السلام سواء من جهة الأسانید والطرق، أو من جهة کیفیة تصحیح المضمون وعرضه علی محکمات الکتاب والسنة القطعیة المطهرة، فإنّ هذا البحث لیس رجالیاً محضاً کما قد یتخیل بقدر ما هو بحث معرفی وأدیانی مذهبی.

ثم إنّا بعد ذلک وقفنا علی کلام للأستاذ أسد حیدر یذکر غموضة البحث فی حرکة الغلاة والعوامل التی سبّبت التشویه والتعتیم فی دراستهم.

قال: «و علی أیّ حال فإنّ حرکة الغلاة هی من أخطر العوامل التی لعبت دوراً هاماً فی المجتمع الإسلامی وإن دراستها لا تزال حتی الیوم ناقصة بل غامضة، لوجود الکثیر من التشویه واللبس فالوقوف علیها ببیان ووضوح من المشقّة بمکان، إذ لم تدوّن آراء أولئک القوم بأقلام دعاتهم فلم تکن لهم مؤلفات تدون بها

ص:16

عقائدهم و ذلک لأنّ حرکتهم کانت قصیرة العمر سریعة الزوال لما قام به أهل البیت علیهم السلام فی تفریق صفوفهم وصدع شملهم عندما أعلنوا البراءة منهم ولعنوهم وحذروا المجتمع الإسلامی من نوایاهم الخبیثة فکانت عاقبتهم إلی الزوال وجمعهم إلی الشتات.

وإن کثیراً ممن کتب فی هذا الموضوع وتناوله بالبحث لم یقصد جلاء الغامض وإظهار الحقیقة وإنما قصد من ذلک هو التشویه والتضلیل ونشر ما یساعد أعداء الدین الإسلامی علی الوقیعة فی أهله، لأنّ أولئک الذین تناولوا حرکة الغلاة بالبحث لم یتحرّوا الدقة فی إیراد ما جاء فی کثیر من الروایات ولم یدرسوا الظروف التی ساعدت علی نشر تلک الأفکار الخاطئة والعقائد الفاسدة التی حاول نشرها فی المجتمع الإسلامی وإن أولئک الکتاب یجهلون العوامل التی أدّت إلی قیام تلک الحرکة أو أنّهم یتعصّبون فیحیدون عن الواقع ویتنکّرون للحقیقة وإن الجهل والتعصّب هما اللذان یجعلان کثیراً من الکتاب والمؤرخین یتجاهلون قیمة إظهار الحقیقة وبیان الواقع و أنهم یکتبون لا للتاریخ والحقیقة وإنما یکتبون للمغالطة والوقیعة ولم یدرکوا خطر أخطائهم وعظیم جنایتهم علی الإسلام فی فتح باب التدخل لأعداء الإسلام»(1).

کما أنّه قد تابعنا المطالعة فی حرکة المتهمین بالغلو بالدراسة عن الاتجاه المعاکس لهم من المقصّرة وعمدة المعالم المنهجیّة لدیهم فخرجنا بنتائج فاخرة نضعها بین یدی الباحث الکریم.

ص:17


1- (1) . الإمام الصادق والمذاهب الأربعة لأسد حیدر 2 / 386 - 387 .

ص:18

1 - آفاق الحجیة العلمیة للکتاب و السنة

اشارة

ص:19

ص:20

بین المنهج العقلی و الرجالی فی قراءة روایات الحکمة الإلهیة

قد ذکرنا فی الجزء الأوّل فوائد الخبر الضعیف بغضّ النظر عن اعتباره، کما ذکرنا الفوائد العلمیة لخبر الواحد الشامل للخبر الصحیح والموثّق والحسن والقویّ من المعتبر والضعیف بأقسامه بغضّ النظر عن اعتبار خبر الواحد فی العقائد، أی وإن لم یبن علی حجّیة الظنّ المعتبر فی البحوث والمسائل الاعتقادیة.

کما ذکرنا فی الجزء الثانی أنّ من المنهج الحشوی القشری هو الجمود علی الحجیة التعبدیة الظنیة وقالبیّة حرفیة اللفظ بنحو سطحی من دون أن یعالج ترابط المسائل العلمیة بعضها من بعض بشکل منظومی. فإنّ المنهج العلمی هو صرف الجهد فی تتبع القرائن والشواهد واستقصائها والتأمّل فی مضامین الروایات ثم صرف الجهد فی تحلیل ودراسة القرائن العقلیة للنصوص، کما أنّه لا یقتصر فی دراسة سند الحدیث علی التقلید فی التوثیق والتضعیف و لا فی تتبّع الروایات علی ما أورده صاحب الوسائل أو بعض الأعلام فی کتبهم الاستدلالیة، فعلی الباحث أن یعنی نفسه بالتأمل والتتبّع حول المزید من الروایات ذات الصلة بالمبحث ولو من باب التوفر علی توسعة الأفق فی الاحتمالات التصوریة لا التصدیقیة التعبدیة.

ونضیف هنا أنّ الفحص فی مضامین الروایات یوقف الباحث علی براهین

ص:21

وبیانات ودلائل عقلیة أو مرتبطة بضروریات قطعیة نقلیة، فهذا البحث یحکم العقل ویُلزم ویوجب القیام به، لأنّ الانفتاح علی الاحتمالات والمحتملات أمر لابدّ منه فی البحث العقلی. کیف؛ ودرجة الاحتمال والمحتمل فی مضامین الروایات المنسوبة إلیهم وکذلک الحال فی الدلالة الظنیة للآیات هی أکبر أهمیة وقوة من الفحص فی کتب الفلاسفة والحکماء والمتکلّمین والعرفاء. إذ أنّ قدرتهم العقلیة والمعرفیّة مهما تنامت وتکاملت ونبوغهم مهما تصاعد، فإنّ قدراتهم وقوّتهم الفکریة کالقطرة فی بحار المحیطات بالقیاس إلی علوم القرآن والعترة. ولیس هذه المقایسة مستندة إلی الحجیة التعبدیّة للکتاب والعترة أی من الناحیة النقلیة بل هی من جهة درجة الاحتمال العقلی ودرجة المحتمل. فإنّ من یشاهد حقائق الملکوت والعوالم ویطوف بهما ویزوّد بالعلم الإحاطی کیف یقایس بیانه الاستدلالی وبیّناته البرهانیة والعقلیة بمن لا یری تلک العوالم إلّامن وراء الحجب، وإن سنحت له مشاهدة ومکاشفة فنزر یسیر.

وهذه المفارقة لیست فی صدد تقریر الحجیة التعبدیة، بل لأجل الترکیز علی موارد الوقوف علی الاحتمالات والمحتملات اللازم الفحص عنها فی البحث العقلی المحض. فالمنهج العقلی والبحث العقلانی المعرفی فی آیات وروایات المعارف لا یتوخّی الاعتماد علی الحجیة الظنّیة المعتبرة التعبدیة التی هی مدار فی الحجیة النقلیة، بل إنما یعتمد علی تحصیل واستکشاف البراهین والتفطّن والوقوف علی البیانات الیقینیة التی ترشد إلیها آیات وروایات المعارف. و هذا هو المنهج والبحث العقلی فی قراءة المنابع النقلیة فی المعارف.

فالبحث فی أسانید الروایات واعتبار الکتب وأنحاء الدلالة وإن کان أمر لا یغفل عنه ولا ینکر فائدته بل وضرورته، ولکن إنّما یمارسه من یتوخّی تقریر الحجیة النقلیة. وأما من یتوخّی الحجیة العقلیة فالبحث الصدوری والدلالی إنّما دوره یکون موطئاً وممهدّاً لأصل التصوّر ومعطیات أصل الاحتمالات

ص:22

والمحتملات، لا الحجیة التصدیقیّة العقلیة ما دامت الحجیة النقلیة بدرجة الظن.

فلا معنی للممانعة عن البحث العقلی فی الأدلة النقلیة علی تقدیر عدم تمامیة الحجة النقلیة صدوراً أو دلالة؛ لأنّ غایة الأمر هو عدم تشکل وتکون الحجة النقلیة المعتبرة، و هذا لا یخدش فی وجود أرضیة وإمکانیة تشیید الحجة العقلیة البرهانیة والیقینیة. و هذا البحث والمنهج العقلی فی قراءة التراث النقلی فی المعارف لا یسوغ لمدرسة من المدارس الباحثة عن المعارف - أیّاً کان مشربها - الغفلة عنه.

إذ البحث العقلی لا ینحصر نفعه والاستفادة منه والقدرة علیه علی المدارس الفلسفیة، بل أنّ المدارس الکلامیة المتنوّعة لا تقصی ولا تبعد الدلیل العقلی أیضاً وإن اعتمدت علی الدلیل النقلی أیضاً. کما أنّ الحال فی المدارس المعرفیة الأخری کمدارس المفسّرین والمحدثین ومدارس العرفاء علی اختلاف مشاربهم أیضاً لا یلغون الدلیل العقلی والمنهج البحثی البرهانی عن أبحاثهم وتحقیقاتهم.

بل وکذلک المنهج الذوقی الوجدانی البرهانی، أی الذی لا یقتصر علی مجرّد الذوق والمشاهدة والمکاشفة بل یشفعها بالبرهان العقلی والوجدانی، وهو ما یعبّر عنه بالذوق الوجدانی لا الذوق السلیقی القریحی المزاجی، هو أیضاً لا یستند إلی تقریر الحجیّة النقلیة الظنّیة ولا یتوخّاها بل یعتمد علی الذوق الوجدانی البرهانی.

ومن ثمّ اللازم إقامة هذا النمط من البحث أیضاً فی قراءة التراث المعارفی وفق الموازین البرهانیّة، وإن افترض عدم توفّر الوجه النقلی علی شرائط الحجّیة التعبدیة. فمن الغفلة الخطیرة والتفریط العظیم حصر الاستفادة من تراث المعارف سواء ظهور الآیات أو الروایات علی خصوص شرائط الحجیة النقلیة التعبدیة الظنّیة، نظیر ما صدر من تألیفات فی الآونة الأخیرة حاصرة الاستفادة والاعتبار البحث فی روایات المعارف بخصوص الشرائط المعتبرة فی صحة صدور

ص:23

الروایة(1).

وفی هذا التوجّه الضیّق الحرج جملة من الهفوات:

الأولی: حصر منهج البحث فی التراث المعارفی النقلی بالمنهج النقلی، مع أنّه لا ینحصر به. فلو قصر شرائط حجیة المنهج النقلی فی جملة من الموارد فإنّ ذلک لا یمانع إمکانیة استثمار المنهج العقلی البحثی البحت والمنهج الذوقی الوجدانی البرهانی، إذ لا یتّکئ علی البحث التعبدی الظنی بل علی استکشاف المقدمات والدلائل والبینات البرهانیة فی مضامین الروایات ومحاولة تقصّیها واستخراجها.

الثانیة: أنّ المنهج النقلی لا یقتصر علی المنهج الظنی التعبّدی، فإنّ تحصیل التواتر والاستفاضة هو طریق یقینی ولیس ظنّیاً تعبّدیاً وحصولهما لا یتوقّف علی توفّر شرائط الحجیة فی الأخبار التی بتراکمها تورّث التواتر والاستفاضة. هذا مع الالتفات إلی أنّ التواتر علی أقسام عدیدة: اللفظی والمعنوی البین وغیر البین وهو علی درجات عدیدة، وکذلک الإجمالی وهو الآخر علی أنماط وأنواع عدیدة وکذلک الحال فی أقسام المستفیض والاستفاضة.

الثالثة: أنّ البحث فی شرائط الحجیة النقلیة الظنیة التعبدیة لیس بحثاً یتحصّل من التقلید فی علم الرجال والحدیث والدرایة، بل اللازم فیه أن یُبنی علی أسس اجتهادیة وقواعد استنباطیة ودلائل ومعطیات صحیحة وسدیدة. فلا معنی لأن یحکّم فیها فتوی رجالیة ورأی رجالی لأحد أرباب الجرح والتعدیل، وجعل تلک الفتوی میزاناً وصائیاً علی التراث الدینی. سواء کانت تلک الفتوی الرجالی من متأخری علماء الرجال أو المتقدمین والأقدمین. فإنّه کما عرفت فی مباحث

ص:24


1- (1) . نظیر کتاب «مشرعة بحار الأنوار» و «الصحیح من الکافی» ونظیر جملة ما فی التعالیق أو الهوامش علی ذیل الروایات الباحثة فی تقییم سند الروایة والحاصرة للاعتبار منهج البحث بخصوص الوجه النقلی الظنی.

الجزء السابق من هذا الکتاب أنّ آراء أرباب الجرح والتعدیل لا تعدو أن تکون فتاوی رجالیة وعمدة الوجه فی العمل بها من باب حجیة أهل الخبرة، وهو فی معنی التقلید؛ نعم، یمکن أن یستفاد من تلک الفتاوی فی البحث الاجتهادی فی علم الرجال کقرینة لابدّ أن یراعی فی حساب الاحتمالات علی منهج تراکم القرائن و الظنون فمنه یتّضح أنّ تقریر حال الروایات بحسب مشهور الرجالیین فضلاً عن آراء بعضهم لا یحسم مصیر اعتبار الروایة علی المنهج النقلی التعبّدی الظنّی.

الرابعة: أنّه یکفی فی الفائدة والاستفادة العلمیة من الروایة المحتملة الصدور وإن لم یتمّ فیها نصاب الحجیة الظنیة النقلیة - مع الغضّ عن کل ما تقدّم - أنّ مضمونها یسبّب حدوث التصوّر والاحتمال، وأصل التصوّر والاحتمال فی أفق البحث المعرفی بالغ الأهمیة وهو جلی واضح لمن خاض عباب بحوث المعارف علی اختلاف المدارس والمناهج فی البحث المعرفی.

ألا تری أنّ فی البحث الاعتقادی والمعرفی یستعرض أقوال الحکماء والفلاسفة والعرفاء والمتکلّمین وآرائهم فی الکتب المختلفة بغضّ النظر عن صحّة انتساب تلک الکتب والأقوال إلی أصحابها، بل یتمرکز البحث والدراسة حول مضمون تلک الأقوال والمقالات بغضّ النظر عن قائلیها. فکیف الحال مع أقوال محتملة النسبة إلی ولاة الملکوت وخزّان مفاتح الغیب الإلهی، وهم ممّن أطلعهم اللّه علی خفایا بواطن الأمور. ومع هذا الاختلاف فی درجة أهمیة الاحتمال والمحتمل یحکم العقل بنحو اللزوم بضرورة الفحص والتنقیب والتقصّی والاستقصاء فی مضامین الأبواب الروائیة وإطالة التعمّق والغور فی بیاناتها ودلائل مضامینها.

ویجب ألّا یقتصر منهج البحث علی خصوص المنهج الظنی النقلی لا سیّما بعد اعتبار جملة الکتب الواصلة من الرواة عنهم بنحو الإجمال، ولا یخفی

ص:25

التفکیک بین اعتبار الکتب إجمالاً وبین اعتبار أحد الروایات.

الخامسة: أنّه لا یخفی أنّ اعتبار الروایة علی المنهج الظنّی النقلی لا ینحصر بتوثیق رواة الطریق، بل إنّ هناک منهج الوثوق بالصدور وهو یعتمد علی قرائن المضمون وتطابقها مع محکمات الکتاب والسنّة ومحکمات العقل. مضافاً إلی التعاضد مع روایات أخری وإن کانت ضعیفة السند، إلّاأنّ من تراکمها وإن لم یحصل التواتر والاستفاضة إلّاأنّه قد یحصل الوثوق بالصدور. فضلاً عن کون الروایة فی الکتب المعتبرة - وإن کان اعتبار الکتاب لا یستلزم اعتبار الروایة - أو اعتماد الأصحاب علیها أو غیر ذلک من القرائن المقرّرة فی أبحاث الأصول والفقه والرجال.

السادسة: أنّ الخبر الضعیف لو غضضنا النظر عن کلّ ما سبق فإنّه یتعلّق به حکم إلزامی وهو حرمة ردّ الخبر ما دام محتمل الصدور، وقد بیّنا أنّ حرمة الرد صناعیّاً فی الحقیقة تفسّر بجملة من الأمور:

لزوم الفحص ما دام الاحتمال قائماً عن مضمون الروایة واعتباره بالعرض علی المحکمات من الکتاب والسنة والعقل.

عدم جواز الحکم بالنفی مع عدم الدلیل علی النفی بل اللازم تقریر قیام الاحتمال والعمل بمقتضاه من الفحص والتنقیب.

التسلیم الإجمالی أو المعلّق علی فرض الصدور الواقعی.

قیام الدرجة النازلة من العلم وهو أصل التصوّر الموجب للاحتمال المنجّز للفحص، وهو یرجع مآلاً إلی نقطة «ألف» وإن کان بینهما فرق فی الإطار والصیاغة لا یخفی بعد تبیّن أنّ التصوّر منطوٍ فیه جملة من التصدیقات الخفیّة مع أوساط براهینها.

السابعة: إنّ هناک جملة من الأبواب العقائدیة والمعرفیّة لم یتطرّق إلیها فی العلوم العقلیة الفلسفیّة والذوقیّة العرفانیّة إلی یومنا هذا مع کثرتها وخطورتها

ص:26

وتوفّرها علی کنوز القواعد والأسس. نظیر المعراج النبوی والرجعة ومفاصل أصعدة ومنازل المحشر وعالم الذرّ والمیثاق وسدرة المنتهی والتمایز بین المقامات الغیبیّة وحقیقة الإمامة وافتراقهما عن النبوّة وافتراقهما عن الرسالة، وغیرها من الأبواب التی یجدها المتتبع فی درایة وفقه الأخبار وتفاصیل کثیرة لعناوین أبواب وفصول معرفیّة لم تأت فی ذهن الحکماء والعرفاء ولو بدرجة الاحتمال الإجمالی فضلاً عن البحث والتنقیب وبناء عرضیة معطیات وقواعد البحث فیها.

ولا ریب أنّ ذلک لا یعرف إلّامن الوحی والنقل، وهو الوسیلة لإدراک ما نزل من الوحی علی اختلاف درجات احتماله وطرق إیصاله ووصوله. فهذا العلم بدرجة التصوّر والاحتمال ثروة معرفیّة ضخمة، کیف یتسنّی للعقل التغاضی والإعراض عنها. هذا فضلاً عما یتوفر إلیه من معطیات برهانیة لا یلتفت إلیه بالعقل البشری.

ص:27

المعصوم مذکّر ومعلم الحکمة ومثیر دفائن العقول

اشارة

(المعلّم والحکیم الإلهی)

قال اللّه تعالی: «لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ » .

وقال مولانا أمیر المؤمنین علیه السلام :

فبعث فیهم رسله وواتر إلیهم أنبیاءه لیستأدوهم میثاق فطرته ویذکّروهم منسیّ نعمته ویحتجّوا علیهم بالتبلیغ ویثیروا لهم دفائن العقول ویروهم آیات المقدرة من سقف مرفوع ومهاد تحتهم موضوع ومعایش تحییهم وآجال تفنیهم وأوصاب تهرمهم وأحداث تتابع علیهم(1).

فإنّ مقام التعلیم والتذکیر وإثارة دفائن العقول التی هی عبارة عن التنبیه والإلفات إلی الدلائل والبینات یغایر مقام الولایة والطاعة أی الحجیة التعبدیة، بل هو مقام بیان الحجیة العلمیة. وإنّ عمدة کلمات الأنبیاء والأوصیاء علیهم السلام التی هی فی المعارف والحکمة هی من الحجیة العلمیة بمعنی إبلاغ العلوم والحقائق المتضمّنة للدلیل والبرهان، ومن ثمّ عبّر عن إبلاغهم هذا بالتذکیر لأنّهم یذکّرون العقول بفطریاتها الأولیة التی تهدیها إلی حقائق الأمور والحکمة.

ص:28


1- (1) . نهج البلاغة، الخطبة الأولی.

فإذا کان هذا هو الشأن الأکبر للأنبیاء علیهم السلام والرسل علیهم السلام والأوصیاء علیهم السلام فکیف یُعرض عن کلماتهم. ومن ذلک یتبیّن أنّ أحد وجوه حجیة القرآن - بل هی من عظام حججه - البیّنات والبراهین المطویة فی بیناته لا من جهة قطعیة صدوره وسنده. وهکذا الحال فی روایات وأحادیث المعارف والحکم والآداب، فإنّ حجّیتها لا تنحصر من جهة اعتبار صدورها بل لما تتضمّنه من بیانات حکمیة وبراهین ودلالات.

فالعزوف عنها عزوف عن العلم الإلهی العظیم ومتارکة للنهر الکبیر وعکوف علی الجداول الراکدة الکدرة بأخطاء البشر، فلابدّ من التمییز بین الحجّیة التعبّدیة بما لهم من ولایة الطاعة والانقیاد والمتابعة وبین مقامهم کحجّیة علمیة معرفیّة.

وقد روی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال لرجل:

تمصّون الثماد وتدعون النهر الأعظم؟! فقال له الرجل: ما تعنی بهذا یابن رسول اللّه؟ فقال:

علم النبی صلی الله علیه و آله و سلم علم النبیین بأسره وأوحی اللّه إلی محمد صلی الله علیه و آله و سلم فجعله محمد عند علی علیه السلام . فقال الرجل:

فعلی علیه السلام أفضل أو بعض الأنبیاء؟ فنظر أبو عبد اللّه علیه السلام إلی بعض أصحابه فقال:

إنّ اللّه یفتح مسامع من یشاء أقول له إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم جعل ذلک کلّه عند علی علیه السلام فیقول علی أعلم أو بعض الأنبیاء!(1).

وقد وصف القرآن الکریم والکتب السماویة بالذکر فی عشرات بل مئات الآیات کما وصف النبی صلی الله علیه و آله و سلم بأنه ذکر أیضاً فقال عز من قائل: «قَدْ أَنْزَلَ اللّهُ إِلَیْکُمْ ذِکْراً رَسُولاً یَتْلُوا عَلَیْکُمْ آیاتِ اللّهِ مُبَیِّناتٍ »2 والذکر والتذکّر للأولیات والفطریات فی العقل والفطرة الإنسانیة هی إثارة ودلالة علی الحجة العقلیة فی الکتاب وخطابات الشرع.

وقد وصف القرآن أیضاً بالبرهان فی قوله تعالی: «یا أَیُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَکُمْ

ص:29


1- (1) . بصائر الدرجات: 248 .

بُرْهانٌ مِنْ رَبِّکُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکُمْ نُوراً مُبِیناً»1 فإنّ الخطاب هنا متوجّه إلی عموم الناس لا خصوص من آمن.

کما وصف القرآن بأنّه نور مبین وقد وصفت الآیات الذکر الحکیم بالنور فی عشرات الموارد. و النور هو الکاشف لنفسه والکاشف عن غیره من الواقعیّات والحقائق.

کما وصفت آیات اللّه لدی أنبیائه بالبیّنة والبیّنات ووصف أیضاً بالحقّ المبین والتبیان، وهو قریب من معنی النور والمنیر کما وصف بأنّه بصائر وحکمة بالغة، فقال: «قَدْ جاءَکُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِیَ فَعَلَیْها»2.

والبصائر جمع بصیرة، ویقال لقوّة القلب المدرکة بصیرة وبصر، ویقال لرؤیة القلب وللمعرفة والتحقّق منها(1). والبصیرة الاستبصار والیقین(2)، والبصر نفاذ فی القلب، والبصر العلم، وبصرت للشیء علمته، والتبصر التأمّل والتعرّف. وقیل إنه بمعنی الفطنة والعلم وأنه الحجة الواضحة لا لبس فیها. وقیل: إنّ البصیرة قد تکون حسّیة وقد تکون عقلیة وقد تکون کشفیّة.

ووصف أیضاً بأنه لا ریب فیه، وأنه شفاء لما فی الصدور، وأنه الهدی والهدایة ویهدی به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام.

والهدی کما فی صحاح الجوهری الرشاد والدلالة، أو الدلالة علی الخیر فی الدنیا والآخرة، کما فی قوله تعالی: «ذلِکَ الْکِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدیً لِلْمُتَّقِینَ »5 والریبة الظنّ والشک والتهمة. وکما فی قوله تعالی: «أُنْزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ هُدیً لِلنّاسِ

ص:30


1- (3) . مفردات الراغب.
2- (4) . رسائل السید المرتضی 4 / 112 .

وَ بَیِّناتٍ مِنَ الْهُدی وَ الْفُرْقانِ »1 . والهدی فی مقابل العمی کما فی قوله تعالی:

«فَاسْتَحَبُّوا الْعَمی عَلَی الْهُدی »2.

وکذا فی مقابل الضلالة: «إِنّا أَوْ إِیّاکُمْ لَعَلی هُدیً أَوْ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ » .

وورد فی دعائه علیه السلام فی الصحیفة السجادیة عند ختم القرآن: «وجعلته نوراً نهتدی من ظلم الجهالة باتّباعه ... نور هدی لا یُطفأ عن الشاهدین برهانه».

وفی کتاب العین: «الهدی نقیض الضلالة والدلیل یسمّی هادیاً».

وفی الصحاح: «هدیته الطریق أی عرّفته».

وفی الفروق اللغویة: «الهدی: الدلالة فإذا کان مستقیماً فهو الدلالة إلی الصواب والإیمان هدی لأنّه دلالة إلی الجنّة: والفرق بین الإرشاد والهدایة أنّ الإرشاد إلی الشیء هو التطریق إلیه والتبیین له والهدایة هی التمکّن من الوصول إلیه».

وقال تعالی: «وَ الَّذِینَ إِذا ذُکِّرُوا بِآیاتِ رَبِّهِمْ لَمْ یَخِرُّوا عَلَیْها صُمًّا وَ عُمْیاناً»3.

وقد أکّد القرآن فی دعوته کراراً علی التعقّل وأنّه یخاطب أولی الألباب والذین یعقلون.

وکذلک أکّد علی التعقل فی مقابل الصمم والعمی العقلیین کما فی قول الصادق علیه السلام فی قوله تعالی: «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِیَ فَعَلَیْها»

وهذه الآیة جامعة لأبصار العیون وأبصار الظنون قال اللّه تعالی: «فإنها لا تعمی الأبصار ولکن تعمی القلوب التی فی الصدور»(1).

کما وصف ما أتی به الأنبیاء علیهم السلام فی الآیات العدیدة بأنّه من الحکمة کما فی

ص:31


1- (4) . مستدرک الوسائل / أبواب جهاد النفس / ب 2 / ح 4 .

شأن داود:

«فآتاه اللّه الملک والحکمة وعلّمه ممّا یشاء»(1).

وکما فی شأن عیسی حیث قال تعالی: «قالَ قَدْ جِئْتُکُمْ بِالْحِکْمَةِ وَ لِأُبَیِّنَ لَکُمْ بَعْضَ الَّذِی تَخْتَلِفُونَ فِیهِ » وفی شأن النبی صلی الله علیه و آله و سلم : «اُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ ...»2 وأیضاً قوله تعالی: «وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ » وتذکیر بنی إسرائیل:

«وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَیْکُمْ مِنَ الْکِتابِ وَ الْحِکْمَةِ » .

وقال تعالی فی شأن لقمان - وقد عقد القرآن سورة کاملة فی شأنه - : «وَ لَقَدْ آتَیْنا لُقْمانَ الْحِکْمَةَ » .

وقد قال تعالی: «فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَیِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما کانُوا بِهِ یَسْتَهْزِؤُنَ »3.

ومقتضی ارتباط الآیة للتی قبلها: «أَ فَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ کانُوا أَکْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِی الْأَرْضِ فَما أَغْنی عَنْهُمْ ما کانُوا یَکْسِبُونَ » وإن کان یناسب کون العلم الذی فرحوا به وکذّبوا الرسل هو علم تدبیر المعاش، إلّا أنه بقرینة إرادة جمیع الأمم التی من قبل، لا ینحصر العلم فی علم المعاش وإن أطلق علیه أیضاً کما فی قوله تعالی: «یَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ »4 فإنّ الیهود مثلاً کذّبوا بعیسی فرحین بما عندهم من العلم بالشرایع السابقة، کما أنّ الصابئة لم تؤمن بجملة من الرسل من بنی إسرائیل فرحاً بما عندهم من علم الدین السابق، کما أنّ تکذیب قریش والیهود للنبی صلی الله علیه و آله و سلم أیضاً هو فرحاً بما عندهم من علم بالملّة الإبراهیمیة.

والحاصل: أنّ فی الآیة تعمیم لکلّ الأقوام التی سبقت من لدن آدم حتی النبی

ص:32


1- (1) . البقرة: 251 .

الخاتم صلی الله علیه و آله و سلم . ومن ثمّ صحّ ما حکاه الطبرسی والرازی من بعض الوجوه المرادة من العلم الذی فرحوا به أنه یرید علم الفلاسفة والدهریین من بنی یونان و کانوا إذا سمعوا بوحی اللّه صغّروا علم الأنبیاء إلی علمهم. وعن سقراط أنه سمع بموسی علیه السلام وقیل له أو هاجرت إلیه؟ فقال: نحن قوم مهذّبون فلا حاجة إلی من یهذّبنا(1)، انتهی.

وعن الجزائری: إنّ عیسی لما دعا أفلاطون إلی التصدیق بما جاء به أجاب بأنّ عیسی رسول إلی ضعفة العقول وأما أنا وأمثالی فلسنا نحتاج فی المعرفة إلی إرسال الأنبیاء(2).

والحاصل: أنّ تکذیب الرسل من قِبَل الأمم کما فی الیهود لعیسی علیه السلام والصابئة لأنبیاء بنی إسرائیل وأهل الکتاب لسید الأنبیاء صلی الله علیه و آله و سلم لم یکن لإنکارهم أصل التوحید والغیب وإنّما کان إنکارهم للشرائع التی أتی بها الأنبیاء والحکم والآداب والمعارف فرحاً بما عندهم من آراء وعلوم.

الدعوة إلی التعقل فی وصیة الإمام الکاظم علیه السلام

وقد أکّد القرآن الکریم وأهل البیت علیهم السلام فی دعوتهما وخطابهما علی التعقّل والتصدیق بالمعرفة. و هذا مما یقتضی أنّ فی بیان القرآن والعترة إفصاح عن الدلیل والبرهان وعن الحکمة، وأنّ الغایة من هدایتهما إیصال المخاطب إلی التصدیق عن الدلیل والیقین تفصیلی لا التصدیق عن دلیل إجمالی، و ذلک عبر إثارة وتحفیز عقل المخاطب وتنبیهه إلی وجوه الأدلة والبراهین والحکمة فی الأشیاء.

ففی وصیة موسی بن جعفر علیه السلام لهشام قال:

یا هشام إنّ اللّه تبارک وتعالی بشّر أهل العقل والفهم فی کتابه فقال: «فبشر عبادی الَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ

ص:33


1- (1) . جوامع الجامع: 3 / 254، وبحار الأنوار: 60 /
2- (2) . الحدائق الناضرة 1 / 126 - 128 عن الأنوار النعمانیة، ومصباح الفقیه: 7 / 275 .

أُولئِکَ الَّذِینَ هَداهُمُ اللّهُ وَ أُولئِکَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ »1

و هذا مما یؤکّد أنّ خطاب القرآن وبیانه یعتمد علی البیان العقلی ودلالات الحکمة ولذلک یشیر علیه السلام فی بقیة وصیته بقوله:

یا هشام إنّ اللّه تبارک وتعالی أکمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبیین بالبیان ودلّهم علی ربوبیّته بالأدلة فقال: «وَ إِلهُکُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِیمُ إِنَّ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْکِ الَّتِی تَجْرِی فِی الْبَحْرِ بِما یَنْفَعُ النّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِیها مِنْ کُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِیفِ الرِّیاحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَیْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ » ... یا هشام إنّ العقل مع العلم فقال له: «وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ »

یا هشام ثم ذمّ الذین لا یعقلون فقال: «وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَیْنا عَلَیْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ کانَ آباؤُهُمْ لا یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَ لا یَهْتَدُونَ » وقال: «وَ مَثَلُ الَّذِینَ کَفَرُوا کَمَثَلِ الَّذِی یَنْعِقُ بِما لا یَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُکْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لا یَعْقِلُونَ » وقال: «وَ مِنْهُمْ مَنْ یَسْتَمِعُونَ إِلَیْکَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ کانُوا لا یَعْقِلُونَ » وقال: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَکْثَرَهُمْ یَسْمَعُونَ أَوْ یَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ کَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً» وقال: «لا یُقاتِلُونَکُمْ جَمِیعاً إِلاّ فِی قُریً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَیْنَهُمْ شَدِیدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِیعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّی ذلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَعْقِلُونَ » وقال: «وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَکُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْکِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ »

وفی هذه الآیات کما أشار علیه السلام تأکید علی ذمّ عدم التعقل وأنه یوجب الصم والعمی و هذا مما یؤکد أنّ حجج الوحی حججاً عقلیة ویدرکها العقل إذا فعّل ونشّط واستعمل ولم تحجبه الموانع.

وأنّ الحجة العقلیة والمعرفیة والعلمیة وإدراکها من القرآن الکریم أعلی مرتبة من إدراک الحجج بنمط تعبدی ظنّی.

ص:34

وکیف یحثّ الوحی علی التعقل والعلم ویذمّ عدم التعقّل ثم لا تکون بیاناته عقلیة علمیة معرفیة حکمیة؟!

وقال علیه السلام :

یا هشام ثم ذکر أولی الألباب بأحسن الذکر وحلّاهم بأحسن الحلیة فقال:

«یُؤْتِی الْحِکْمَةَ مَنْ یَشاءُ وَ مَنْ یُؤْتَ الْحِکْمَةَ فَقَدْ أُوتِیَ خَیْراً کَثِیراً وَ ما یَذَّکَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ » وقال: «وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما یَذَّکَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ » ... وقال: «کِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَیْکَ مُبارَکٌ لِیَدَّبَّرُوا آیاتِهِ وَ لِیَتَذَکَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ » وقال: «وَ لَقَدْ آتَیْنا مُوسَی الْهُدی وَ أَوْرَثْنا بَنِی إِسْرائِیلَ الْکِتابَ هُدیً وَ ذِکْری لِأُولِی الْأَلْبابِ » وقال: «وَ ذَکِّرْ فَإِنَّ الذِّکْری تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِینَ » یا هشام إنّ اللّه تعالی یقول فی کتابه:

«إِنَّ فِی ذلِکَ لَذِکْری لِمَنْ کانَ لَهُ قَلْبٌ » یعنی العقل وقال: «وَ لَقَدْ آتَیْنا لُقْمانَ الْحِکْمَةَ » قال:

الفهم والعقل.

والتأکید علی تذکّر أولی الألباب قد جاء فی عشرات الآیات مما یعطی دلالة علی أنّ حجج الوحی وبیاناته تعتمد علی تذکیر العقول والفطرة بالحجج العقلیة والفطریة وأنّ من أهمّ أدوار الرسول و القرآن الکریم التذکیر، والتذکیر لیس حجّة تعبّدیة بل هو إقامة الحجة العقلیة العلمیة والتنبیه علیها وإثارتها لدی العقل. وإلی هذا یشیر قوله علیه السلام :

یا هشام ما بعث اللّه أنبیاءه ورسله إلی عباده إلّالیعقلوا عن اللّه فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة وأعلمهم بأمر اللّه أحسنهم عقلاً وأکملهم عقلاً أرفعهم درجة فی الدنیا والآخرة.

وفی هذا التصریح منه علیه السلام بیان بلیغ علی أنّ الغایة الکبری والحجة العلیا للرسل فی بیاناتهم فی الحجة العقلیة المعرفیة لا الإدراک التعبدی الظنّی المبهم.

فکیف یفتر الأنبیاء والرسل والأئمة علیهم السلام فی بیاناتهم عن هذه الوظیفة الأهمّ کبری مسؤولیاتهم الملقاة علی عاتقهم.

وقال علیه السلام أیضاً:

إنّ لکلّ شیء دلیلاً ودلیل العقل التفکّر ودلیل التفکّر الصمت.

ص:35

ویشیر علیه السلام إلی أنّ التفکر الذی دعا إلیه القرآن الکریم فی عشرات الآیات وکذلک التدبّر فی جملة من الآیات هو الأساس فی خطاب وبیانات القرآن الکریم، أی أنّ بیاناته تعتمد علی التعقّل والتفکّر ومن ثم التسلیم والانقیاد عن فکر وتعقّل لا عن طاعة مبهمة.

إنّ بین التصدیق العلمی والتصدیق التعبدی بوناً شاسعاً، حیث إنّ التصدیق المتعلّق بالقضایا والذی یقال عنه بالحکم فی القضیة ویسمّی بالإذعان أیضاً، إنما یوجد ولیداً عن الدلیل والبیان الموصل للقضیة کنتیجة، فکلما ازدادت المقدمات الموصلة للنتیجة بیاناً ووضوحاً وبرهاناً ازداد الإحکام والإذعان والتسلیم فیزداد الانقیاد والإخبات والمتابعة وهی الطاعة.

ومن ثم ذکروا فی بحوث صناعة البرهان فی المنطق أنّ الیقین الحاصل من البرهان یقین مرکّب عن صدق الشیء ونفی نقیضه النابع من الضرورة الذاتیة وهو أثبت قراراً للیقین من الیقین البسیط، أی أنّ کلما ازداد الدلیل بیاناً للعلاقة بین الحکم (المحمول) والموضوع تولّد منه یقین بثبوت الشیء ونفی نقیضه.

فکلما کان الیقین بالقضیة بهذا الوصف کان ذلک أدوم فی صدقها وأکثر قراراً لمطابقتها للواقع. ومن ذلک یظهر أنّ التصدیق والتسلیم والإذعان عن دلیل أشدّ إحکاماً من التصدیق والتسلیم والإذعان عن دلیل إجمالی.

فمن ثمّ یکون التصدیق والطاعة عن بصیرة وبیان وحکمة واهتداء للحقیقة ونور وإبصار للواقعیة أشدّ یقیناً وإحکاماً من التصدیق التعبّدی عن إجمال وإبهام.

ولأجل ذلک تفاوت درجات ومقامات المؤمنین لاختلاف درجات یقینهم وشدّة تصدیقهم النابعة عن اختلاف درجات علمهم ومعرفتهم وبصائرهم. فمنهم من کان یرجو لقاء ربّه ومنهم من کانوا یظنون أنهم ملاقوا ربهم ومنهم من کانوا «بِالْآخِرَةِ هُمْ یُوقِنُونَ » .

فیتبیّن أنّ الحجیة العلمیة التی تدرک عن علم وبصیرة وهدایة وحکمة وتذکّر

ص:36

وتدبّر وتفکّر وتعقّل وتبیّن، أشدّ یقیناً وتسلیماً وانقیاداً وطاعة من الحجّیة التعبدیة التی لا ثبات لها فی الاستحکام والإحکام فی التصدیق والتسلیم والطاعة بمثل الحجیة العلمیة. ومن ثم قال علیه السلام فی الوصیة:

یا هشام کان أمیر المؤمنین علیه السلام یقول: ما عبد اللّه بشیء أفضل من العقل(1).

ص:37


1- (1) . الکافی 1 / 12 - 20 .

معانی الحجّیة العلمیّة

المعلّم الإلهی قوّة عقل خارجیة (زیادة فی العقل من الخارج)

إنّ هناک إطلاقات وتسمیات للحجّیة فتارة تطلق علی المدرَک والمعلوم الموصل إلی معلوم آخر، وأخری تطلق علی القوّة المدرِکة وهی العقل. والوصول إلی إدراک النتیجة بنحو یقینی وإن کان للمعلومات والمقدّمات دور هام، إلّاأنّ للقوة المدرِکة وحرکة الفکر مثلاً دور آخر أیضاً هامّ، ولا یمکن التفریط بأحد الدورین.

وبعبارة أخری فی حصول نصاب الحجیة لابدّ من توفّر عدة أرکان:

الأول: القوة المدرِکة.

الثانی: الدلیل الکاشف وقد یطلق علیه النور.

الثالث: المدرَک من الواقع والحقیقة والأشیاء.

الرابع: قد یطلق لعملیة نفس الإدراک والفهم کفعل للقوة المدرکة، فمع وجود النور والعین الباصرة کالعقل والمبصَر إذالم یقع فعل الإدراک لا یتم نصاب الحجّة. فالفهم والفطنة من الأفعال التی لابدّ منها فی اکتمال ذلک النصاب.

والحجّة تطلق علی کلّ واحد من هذه الأربعة.

والدارج إطلاق الحجیة علی الثانی فقط و هذا من الغفلات الحاصلة فی البحوث المنطقیة والفلسفیة من بعد ابن سینا.

ص:38

بینما أطلق کثیراً فی الآیات والروایات علی کل واحد من هذه الأرکان. وفی الحقیقة أنّ لکلّ واحد من هذه الأرکان دور بلیغ فی حصول الإدراک من المدرِک للمدرَک ویعبّر عنه بالحجّیة.

ونلاحظ هذه التسمیة فی قول الإمام الکاظم علیه السلام :

یا هشام إنّ للّه علی الناس حجتین: حجّة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبیاء والأئمة علیهم السلام ، وأما الباطنة فالعقول(1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام :

حجة اللّه علی العباد النبی وحجة اللّه فیما بین العباد وبین اللّه العقل(2).

وإطلاق الحجة هنا علی القوة العاقلة لا علی المدرَک ولا علی الدلائل الدالة علی النتیجة. وقد صُرّح بذلک فی قول الإمام الهادی علیه السلام عندما سأله ابن السکیت عن حجج الأنبیاء فقال ابن السکیت: تاللّه ما رأیت مثلک قطّ فما الحجة علی الخلق الیوم؟ فقال علیه السلام :

العقل یعرف به الصادق علی اللّه فیصدّقه والکاذب علی اللّه فیکذّبه(3).

وقد صُرّح فیه بإطلاق الحجة علی القوّة المدرکة.

ومن هنا یتّضح أنّ الأنبیاء والأوصیاء بمثابة قوی مدرکة للغیب فتکون کالقوی الخارجة للإنسان یستعین بها فی الإدراک.

وفی حدیث جنود العقل عن الصادق علیه السلام أنّ من جنود العقل التصدیق والعلم والفهم والفطنة والمعرفة والحکمة، حیث قد مُیّز بین القوّة المدرِکة المدبّرة وعملیة الإدراک والفهم والمدرَک وهی الحکمة.

الخامس: الطریق الموصل للإدراک یعبّر عنه بنهج المعرفة أو القواعد المنطقیة

ص:39


1- (1) . الکافی 1 / 16 .
2- (2) . الکافی 1 / 25 .
3- (3) . الکافی 1 / 25 .

التی علی ضوئها یسدّد الإنسان فی تفکیره وهو من إطلاق الحجّیة علی المنطق حیث یحدّد طریقه حرکة الفکر فی التصوّر وطریقة التصدیق أیضاً.

وإطلاق الحجیة علی القواعد المنطقیة مناسبته أنّ تلک القواعد هی التی تولّد وتعطی وتکسب صفة الحجیة للاستدلال والاستنتاج، ومن ثم کان طریقاً موصولاً إلی الإدراک الذی هو نحو من الوصول للمطلوب.

ولا یخفی أنّ هناک مدارس منطقیة عدیدة، وللقرآن وسنّة المعصومین مدرسة منطقیة متمیزة عن تلک المدارس. فإنّ جملة من المدارس المنطقیة قد ترکز علی الجانب العلمی علی أنماط معینة من مستقی العلم کالمنطق الأرسطی والمنطق الریاضی والرقمی والإحصائی الاستقرائی.

بینما بعض المدارس المنطقیة الأخری ترکّز علی الجانب العملی والنفسی کالمنطق النفسانی والمنطق الاجتماعی والمنطق الأخلاقی وغیرها من المدارس المنطقیة حیث إنّها تعتنی بجانب مما یؤثر فی إدراک واستنتاج الإنسان وتهمل جوانب عدیدة أخری مع أنها فی ما اهتمّت فیه لم تستوف کلّ ذلک الجانب.

بینما منظومة المنطق فی الکتاب والسنّة للنبی صلی الله علیه و آله و سلم والعترة علیهم السلام قد أوصت بتعالیم شاملة لجمیع جوانب الإنسان وبُیّن بأنّ مخالفة کل توصیة منها یوجب عدم اهتداء الإنسان إلی الحقیقة ویظلّ ویحیل عنها وأنّ تلک الوصایا لیست تسدّد وتعصم الإنسان فی إبصار الحقیقة فقط، بل تزید قوة تعقّل الإنسان وإدراکه وقوّة إبصاره للحقائق.

فهذه التوصیات لابدّ منها لزیادة العلم فهی دخیلة لزیادة المعرفة وتنامیها لا فی سدادها فحسب و هذا من امتیازات المدرسة المنطقیة القرآنیة. وهذه المنظومة من التوصیات و القواعد یطلق علیها الحجیة أیضاً لدخالتها فی تکوین وإصابة الإدراک الصحیح وفی الوصول للحقیقة سواء علی صعید الحکمة النظریة أو الحکمة العملیة.

ص:40

کما فی قوله تعالی: «ذلِکَ الْکِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدیً لِلْمُتَّقِینَ اَلَّذِینَ یُؤْمِنُونَ بِالْغَیْبِ » فتبین هذه الآیة أنّ المنظومة المنطقیة التی لابد من مراعاتها کی تحصل الهدایة هی منظومة التقوی ومراعاة الشریعة فی کلّ أبوابها وتجنّب الریب والشک بالاعتماد علی الفحص والتنقیب.

وقوله تعالی: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ یَجْعَلْ لَکُمْ فُرْقاناً» وقوله تعالی: «وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ یُعَلِّمُکُمُ اللّهُ » وقوله تعالی: «وَ یَزِیدُ اللّهُ الَّذِینَ اهْتَدَوْا هُدیً »1 فتبیّن الآیة أنّ التسلیم للحقیقة یزید الإنسان علماً بما وراء ذلک من الحقائق.

وقوله تعالی: «ثُمَّ کانَ عاقِبَةَ الَّذِینَ أَساؤُا السُّوای أَنْ کَذَّبُوا بِآیاتِ اللّهِ »2 فتبیّن أنّ ارتکاب الرذائل والمعاصی یؤدّی إلی احتجاب الحقائق عن الإنسان.

وقوله تعالی: «وَ مَنْ یَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِیَ إِلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ »3 إلی غیر ذلک من الآیات الکثیرة التی تبیّن احتجاج الفاسقین لفسقهم والظالمین لظلمهم والمسرفین والکاذبین لذلک، کما فی قوله تعالی: «لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ » ، «لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْکافِرِینَ » و «لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفاسِقِینَ » .

مقام الهدایة

بل إنّ للقرآن والسنة مقاماً یفوق الحجیة العلمیة وهو مقام حصر العلم النافع الهادی بالوحی الإلهی من الکتاب والسنة، وأنّ الهدایة و النور منحصرة بهما وافتراق الهدایة عن مطلق العلم:

1 - لأنّ لکلّ علم غایة و تلک الغایة حدّه ومنتهاه فوراءها غایات وحدود.

2 - فإذا لم توجّه غایة العلم تجاه وفی طریق الغایات الأکمل فإنّ العلم

ص:41

وغایته قد یوظّف إلی غایات ردیّة وسبل لا تصبّ فی الکمال بل تصبّ فی النقیصة والشرور.

3 - و هذا بخلاف الهدایة فإنّه توظیف لجملة العلوم إلی ما وراء غایتها فی سبیل الکمال والخیر والسعادة. ومن هنا یتبیّن برهانیاً أنّ العلم بما له من الغایة والحدود لا یهیمن علی المسار العام للمعرفة والکمال، وإنّما حدود کلّ علم هو المقدار الذی یحیط ذلک العلم فلا یشرف علی ما وراءه وبالتالی فلا یحدّد العلم خارج دائرته ومحدودته المسار الذی یقع فیه.

و بعبارة أخری: التوظیف والاستثمار فربّما یستخدم للشرور بدل الخیرات والکمالات، وللرذائل وانتکاس الطبیعة البشریة بدل اعتلائها سلالم التکامل، ومن ثم استحدث فی نُظُم العلوم الحدیثة ومناهج المعرفة نظماً لبیان کیفیة التوظیف للعلوم تجاه غایات بعیدة لیست فی متناول ذلک العلم.

4 - ومن ثمّ کلّ علم بمفرده لا یمکنه التحکّم فی کیفیة استثمار غایته فلابدّ هناک من علم جامع آخر هو الذی یفید نظماً فی السبل والمسارات والطرق التی ینتفع بها من العلوم بحیث تکون هادفة موظّفة ومستخدمة فی طریق الحکمة لا الجهالة والسفه، و هذا هو الدور الذی تقوم به الهدایة.

5 - وحیث إنّ الإحاطة بتمام مصیر التکامل للإنسانیة والآفاق الممکنة لها أمر لا یحیط به بتفاصیله العقل الفطری المحدود البشری ولا العقل التجریبی ولا العقول الأخری، بل لا یحیط بهذا النظم والنظام فی المسیر والمسار ومخطّط الأهداف بنحو إحاطی إلّاربّ العالمین، فمن ثمّ قال أمیر المؤمنین علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم عن جبرئیل:

ومن التمس الهدی فی غیره (القرآن) أضلّه اللّه(1).

وقال الإمام العسکری علیه السلام :

من طلب الهدی فی غیره أضلّه اللّه(2).

ص:42


1- (1) . بحار الأنوار 89 / 24 .
2- (2) . بحار الأنوار 89 / 31 .

وفی تفسیر العیاشی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم :

من ابتغی العلم فی غیره أضلّه اللّه(1).

ورواه محمد بن سلیمان الکوفی فی کتابه مناقب أمیر المؤمنین علیه السلام :

من ابتغی الهدی فی غیره أضلّه اللّه(2).

ورواه قاضی نعمان فی شرح الأخبار(3).

وفی الأمالی للصدوق عن ابن عباس عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم :

من ابتغی علمه عند غیر علی علیه السلام فقد هلک ... ومن طلب الهدی فی غیرهم فقد کذّبنی(4).

وفی الزیارة الجامعة المرویة فی التهذیب والفقیه:

والمتأخّر عنکم زاهق.

وفی تحف العقول فی وصیة أمیر المؤمنین لکمیل بن زیاد:

یا کمیل إن لم تحب أخاک فلست أخاه، إنّ المؤمن من قال هو لنا فمن تخلّف عنه قصر عنا ومن قصر عنا لم یلحق بنا ومن لم یکن معنا ففی الدرک الأسفل من النار(5).

ص:43


1- (1) . بحار الأنوار 89 / 27 .
2- (2) . مناقب أمیر المؤمنین علیه السلام / 30 و 31 .
3- (3) . شرح الأخبار 2 / 310 .
4- (4) . الأمالی / 122 .
5- (5) . تحف العقول / 173 .

الإطار الوحیانی فوق الإطار البیانی العقلانی المحدود

فالبیان الوحیانی محیط بالحقیقة دون البیان العقلی المحدود بالرأی والوهم.

فإنّ البیان الوحیانی فوق البیان العقلی المحدود المسمی فی لسان الروایات وکلمات الفلاسفة أیضاً بالوهم أی العقل المحدود. بل البیان الوحیانی فوق البیان العقلی المطلق لأنّ الثانی دون الإحاطة بالحقیقة الأزلیة الأبدیة السرمدیة فلا عبور من ذلک المقام إلّاعبر الوحی وبعد ذلک یمرّ بالعقل.

ومن ثمّ وصف صلی الله علیه و آله و سلم «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ یُوحی إِلَیَّ»1 وهو أعظم کمال من التعقل کما فی «اَلرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَیانَ » .

بیان ذلک: قد قرّر فی البحوث المتعددة من العلوم المنطقیة أنّ الحد الحقیقی لکنه الأشیاء لا یعلمه إلّاالخالق للأشیاء، وما الحدود التی تذکر فی العلوم المختلفة إلّارسوم ولیست بحدود، أی تعاریف تذکر فیها خواص وعوارض لا ما هو من ذاتیاتها. فمن ثم لا یکون التعریف مطرداً ولا منعکساً وبالتالی تکون الرؤیة للأمور والأشیاء من بعد بعید، و هذا بخلاف التعریف الذی یأتی فی الإطار والکلام الإلهی الوحیانی فإنه سواء کان من سنخ المعنی أو اللفظ یکون متطابقاً

ص:44

طباقاً مع حدود ذوات الأمور والأشیاء «أَ لا یَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِیفُ الْخَبِیرُ» وهذا الشأن مطرد سواء فی ذوات الأمور أم مناسباتها مع بعضها البعض أم آجالها ومدتها وعدتها أم تداعیات أشعة وآثار وجودها. ومن ثم القیاس بین البیان الوحیانی والبیان البشری کالقیاس بین عظمة الخالق وصغر المخلوق؛ هذا أوّلاً.

وثانیاً أنّ مراتب المخلوقین ودرجات الخلقة هی فی نفسها متخالفة فی الإدراک لتخالف القوی الإدراکیة فی نفسها فیما بینها إما بحسب درجات وجودها أو بحسب الأشخاص وقابلیاتهم، ومن ثم یتبین انضباط إطار المعانی والإطار اللفظی الذی یعتمد فی لسان الوحی فی التعبیر عن الحقائق عن الإطار الذی یعتمد فی کلمات الحکمة البشریة من العلوم الفلسفیة والکلامیة والعرفانیة.

وثالثاً أنّ السیر فی عساعس کل عوالم الوجود لیس من نصیب القدرات البشریة لدی أصحاب علوم المعارف بینما هی من نصیب رجال الغیب والملکوت من الأنبیاء والرسل والأوصیاء وکم فرق بین من یرمی الغیب رجماً من بعید وبین من جال خلال دیار تلک النشآت.

ورابعاً أن الوحی یمتاز بالتطابق للحقیقة ویوسع منظومته علی وفق مطابقات متتالیة للحقائق فی الترامی والترابط، بینما النتاج البشری تختل حلقاته بالإخفاق ولو فی حلقة واحدة مما یتسبب الاختلال فی کافة الحلقات المتعاقبة علیه.

ص:45

ص:46

2 - قاعدة فی معرفة صفات أهل البیت : و کون الصفات الإلهیة فوفها (82-47)

اشارة

ص:47

ص:48

مفردات القاعدة و بیانها

إنّ من القواعد الهامّة فی المعرفة، تمییز صفات المخلوق عن الخالق وتمییز الصفات الخلقیة عن الصفات الإلهیة. و هذا البحث وإن بدا فی الوهلة الأولی سهل المنال إلّاأنّه فی الحقیقة قد عثر فیه الکثیر بل هو بحث یستعصی علی الأعمّ الأغلب و ذلک لأمور:

1 - العجز عن إدراک جملة من الأفعال العظیمة، فیتعاظمون صفاتها ویحسبون أنّ هذه الصفات صفات إلهیة، مع أنّها صفات وأفعال تسند إلی المکرمین فی الخلقة الإلهیة فمن ثمّ یحصل الإرباک والاضطراب فی إسنادها.

2 - لا سیما وأنّها تسند أیضاً إلی الباری تعالی باعتبار أنّ اللّه تعالّ مفیض کلّ شیء والقائم علی کل ذلک، وأنّ هذه الأفعال والصفات لشرافتها وخلوصها عن شوائب الناس صالحة لأن تسند إلی الحضرة الإلهیّة ولکن هذا الإسناد من باب إسناد الأفعال وصفات الفعل لا صفات الذات.

وبعبارة أخری: أنّ المعروف لدیهم أنّ الصفات تنقسم إلی صفات ذاتیة وصفات فعلیة أی ناشئة ومشتقة من الأفعال، والأفعال عند الفلاسفة طرّاً صادرة من الحضرة الإلهیة عبر الصادر الأوّل لکن ما منه الوجود فهو اللّه تعالی لا شریک له بخلاف ما به الوجود فهی وسائط الفیض.

وحینئذ یقع الالتباس فإنّها صفات الفعل والأفعال فی حین إسنادها إلی

ص:49

الباری تعالی یسند إلی المکرّمین فی الخلقة، لکن اسنادها إلی اللّه من باب إسناد الصفات الفعلیة إلیه تعالی.

3 - قد یکون الصفات بالنسبة إلی تلک الوسائط صفات ذاتیة لهم، فی الوقت الذی تکون الصفة بعینها صفة فعلیة للباری تعالی. و هذا هو الفرق الفارق والفیصل الفاصل بین الصفات الخلقیة والصفات الإلهیة وکیفیّة إسناد الأفعال.

4 - علی ضوء ذلک فإنّ الکثیر عندما لا یحقّق ولا یتحقّق لدیه فی البحث التفصیلی فی الصفات والأفعال أنّ هذه من الصفات الفعلیة فیرتکز لدیه أنّ هذه الصفات من الصفات الخاصّة الإلهیة فی الإسناد علی وتیرة الصفات الذاتیّة، فیحکم بأنّ من یسندها إلی ذوات المکرّمین فی الخلقة قد قال بالألوهیة لتلک الذوات ولم یتفطّن أنّ هذه الصفات فعلیة للذات الإلهیة أی منشأها الفعل لا من الصفات الذاتیة.

5 - ربما تکون هذه القاعدة واضحة من حیث الإطار العامّ لدی البعض الآخر إلّا أنّه لدی التطبیق والتفصیل فی الموارد لا یأنس بهذه القاعدة والضابطة فی کثیر من الصفات والأفعال.

6 - ولیمثل ذلک مثالاً من العلوم التجریبیة الحدیثة فإنّه خیر شاهد برهانی علی معنی القاعدة العقلیة. فإنّ ما شهدته التطورات الحدیثة والرقیة التقنیة الصناعیة من صناعات مذهلة فی القرن الأخیر، کالطائرة والصحن الطائر لا سیما تلک التی تفوق سرعتها الصوت أو الأقمار الصناعیة التی تصبح فی جوّ الهواء المحیط بالأرض وتتحکّم فی إقامة الاتصالات الملیونیة بین نقاط الأرض وتربط أقصی نقطة من الأرض بأبعد نقطة أخری فی ظرف ثوانٍ، وکذلک جهاز الکومبیوتر لا سیّما الأنواع والأقسام الضخمة منه الحاوی للملایین من المعلومات والعلوم والذی یقوم بعملیة حسابیة تشتمل علی الآلاف المؤلّفة من المراحل الحسابیة وکل ذلک یوضع فی صحیفة صغیرة، وکذلک ما فی مجهر النانومتر وهو

ص:50

الذی یکبّر الأحجام الصغیرة بقدرة من حجم الألف علی الملیون أی الألف علی الألف علی ألف من جهة الصغر، وکذلک الطاقة الذرّیة للانشطار الذرّیة والطاقة الهائلة المنتجة منه فضلاً عن الاندماج الذرّی، وأشعة اللیزر وأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجیة والتطور البیولوجی التقنی، وکذلک ما یشهده صعید الهندسة الوراثیة بالاستنساخ، وکذلک الثورة العلمیة المیکروبیة والإلکترونیة وغیرها من القفزات الهائلة التی شهدتها البشریة فی هذه العصور الأخیرة حتی أنه لو سمع الجیل البشری قبل قرن بهذه الأمور لعدّوها من الإسطورات والخرافات.

فإذا کان هذا شأن العلوم التجریبیة الحسیة المکشوفة للبشر بالتجربة والجهد البشری فکیف بالعلوم والمعارف الغامضة الإلهیة التی لا تدرک بالحواس ولا تضبطه الأوهام ولا یتحمله إلّاملک مقرب أو نبی مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإیمان، بل لا تقاس هذه المعارف الإلهیة بالتطوّرات العلمیة البشریة. ومن الطبیعی أنّه لو سمع أحد ممّن لم یتعمّق فی المعارف بنضج عالی نزر یسیر من بحار تلک المعارف والعلوم التی هی لا تنال بالجهد البشری بل هی فوق طاقة جبرائیل ومیکائیل والمقرّبین من الملائکة بل فوق طاقة أولی العزم من الرسل ؛ یتسرّع إلی الإنکار والجحود والرفض بل لا یقف عن رمی صاحبها بالتخلیط والغلو والارتفاع.

7 - الوسطیة بین الذاتیة والموضوعیة.

کثیراً ما یقیس الباحث فی علم الکلام أو فی الفلسفة والعرفان أو علم التفسیر والحدیث فضلاً عن العلوم الأخری، میزان الإمکان والامتناع علی ما یتصوّره من نفسه من قابلیّة واستعداد وإحاطة بالعلوم؛ بدل أن یکون المیزان موضوعیاً أی بحسب الواقع، فیُجعل المیزان ذاتیّاً أی ینعکس سعة قابلیّة ذاته أو ما یراه من قابلیة النخب علی تحدید الإمکان الواقعی ومن ثمّ یحدّد الامتناع بذلک أیضاً ویکون الحکم بالإمکان والامتناع یدور مدار المقیاس الذاتی لا الموضوعی.

ص:51

ومن أمثلة المقیاس والمیزان الذاتی هو الحکم علی طبق ما توصّل إلیه السیر العلمی فی العلوم التجربیة مثلاً وأنّ ما لم یقف علیه العلم البشری یوضع فی بوتقة الأساطیر والخرافات والإغراق والتخلیط والمنکر من القول والمستبشع من المقال، وأنّه لیس من أهل الوسطیة فی الفکر بل من أهل التطرّف عن الاعتدال والخفّة البعیدة عن العقلانیة.

وقد تری الراوی یوصف فی تراجم الرجالیین بأنّه من الطیّارة وحدیثه منکر ولا یخلو من التخلیط وصاحب ارتفاع شدید فی مذهب الطیّارة وکلّ حدیثه زور ونحو ذلک من الأوصاف.

وعندما نشیر إلی هذا التأثیر الذاتی فی نمط التفکیر والحکم لا نقرّر لذلک ما تذهب إلیه مدرسة التشکیک والمذهب السفسطی والنسبیة المشککة، بل ما نقرّره هو تثبیت لضرورة الاحتکام إلی الموازین البدیهیة فی أصل حکم العقل والفطرة وتخطئة الاحتکام إلی الإدراکات النظریة الموشّحة بلباس البدیهة والحکم المنطقی والإدراک الوسطی.

وقد تقدم أنّ ما توصّلت إلیه جملة من العلوم الحدیثة والتطورات التی شهدتها والقفزات فی العقود الأخیرة ما کان البشر یحکمون بإمکانها فی القرون السابقة بل فی العقود السابقة من هذا القرن ولو قال بها قائل لرمی بالهذیان والجنون.

ومن ثمّ نشاهد أنّ القرآن الکریم یبیّن أنّ موقف الأمم المعاندة لأنبیائها ورسلها هو الحکم علی معاجز أنبیائها ورسلها بأنّها سحر أی من التصرّف فی الخیال أو کهانة أو شعبذة والجنون أی لم یحکموا بإمکان هذه الأمور، بسبب خروجها عن قدرة البشر.

ویشیر إلی هذه الظاهرة القرآن الکریم کما نبّه علی ذلک أهل البیت علیهم السلام فی روایاتهم «بَلْ کَذَّبُوا بِما لَمْ یُحِیطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا یَأْتِهِمْ تَأْوِیلُهُ کَذلِکَ کَذَّبَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ

ص:52

فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الظّالِمِینَ »1.

عن أبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ اللّه تبارک وتعالی حصّن عباده بآیتین من کتابه: أن لا یقولوا حتی یعلموا ولا یردّوا ما لم یعلموا إنّ اللّه تبارک وتعالی یقول: «أَ لَمْ یُؤْخَذْ عَلَیْهِمْ مِیثاقُ الْکِتابِ أَنْ لا یَقُولُوا عَلَی اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ » و قال: «بَلْ کَذَّبُوا بِما لَمْ یُحِیطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا یَأْتِهِمْ تَأْوِیلُهُ »2.

وفی هذا الحدیث إشارة إلی قاعدتین منهجیتین فی المعرفة بیّنتهما آیات القرآن الکریم:

الأولی: عدم البناء علی قول ومقالة لم یتثبّت من الدلیل علیها، فما أکثر من یجزم بشیء أو بأمور لم یتبیّن صحّتها من سقمها، وهو إسراع وإفراط فی الإثبات.

والقاعدة الثانیة: هی الإفراط فی الإنکار بالمسارعة إلی نفی شیء بل نفی إمکانه فضلاً عن وقوعه، من دون التثبّت فی ذلک ومن دون الرکون إلی أدلّة نافیة للوقوع فضلاً عن نفیها للإمکان، أو أنّه لم یتثبّت من أدلّة فی مقام الإثبات فینفی الثبوت والإمکان، فیلتبس علیه الحال بین أدلّة الإثبات وإحراز الشیء وبین أدلّة إمکان وجود الشیء وثبوته.

فهاتان القاعدتان إحداهما للوقایة والحذر من الإفراط والإسراع فی الإثبات والثانیة للوقایة والحذر من الإسراع والإفراط فی الإنکار والنفی. ولا یخفی أنّ المراد من السرعة المحذورة هی الخوض فی الإثبات أو الإنکار بحسب المعلومات المحدودة لدی الباحث وقدراته الذاتیة المتواضعة.

فمجموع القاعدتین یشیر إلی المنهجیة الوسطیة وهی التوقّف عن الإثبات والنفی ولزوم الاستمرار فی البحث والسعی والفحص.

وفی الصحیح: عن أبی جعفر علیه السلام قال: سمعته یقول:

أما و اللّه إنّ أحبّ أصحابی

ص:53

إلیّ أورعهم وأفقههم وأکتمهم لحدیثنا، وإنّ أسوأهم عندی حالاً وأمقتهم إلیّ الذی إذاسمع الحدیث ینسب إلینا ویروی عنّا فلم یعقله ولم یقبله قلبه اشمأزّ منه وجحده وکفر بمن دان به وهو لا یدری لعلّ الحدیث من عندنا خرج وإلینا أسند فیکون بذلک خارج من ولایتنا(1).

بیان القاعدة:

إنّ النبی وأهل البیت علیهم السلام بما اشتملت خلقتهم علی مراتب عدیدة فلهم صفات لا یحتملها ملک مقرّب ولا نبی مرسل ولا ولی صفی امتحن اللّه قلبه للإیمان، إذ جانب الخلقة الإنسانیة لا یقتصر علی البدن فقط ولا القوی النفسانیة بل یشتمل علی المرتبة العقلیة من قوّة العقل والقلب والسرّ والخفی والأخفی کما جاءت هذه المراتب فی آیات القرآن الکریم، فضلاً عن من ارتقی إلی ما فوق الإنسانیة من الدرجة الوحیانیة والعلم اللدنّی والمقامات الغیبیة کما یشیر إلیه قوله تعالی:

«قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُکُمْ یُوحی إِلَیَّ»2 .

ونظیر قوله تعالی فی الخضر: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَیْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً»3 .

ونظیر قوله تعالی فی ذی القرنین: «إِنّا مَکَّنّا لَهُ فِی الْأَرْضِ وَ آتَیْناهُ مِنْ کُلِّ شَیْ ءٍ سَبَباً»4 .

ونظیر قوله تعالی فی طالوت: «إِنَّ اللّهَ اصْطَفاهُ عَلَیْکُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِی الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ »5 .

ص:54


1- (1) . بحار الأنوار 2 / 186 .

ونظیر قوله تعالی: «فَقَدْ آتَیْنا آلَ إِبْراهِیمَ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ آتَیْناهُمْ مُلْکاً عَظِیماً»1 .

وقوله تعالی فی أهل البیت: «لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ »2 .

وقوله تعالی فی شأنهم أیضاً: «بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ ...» .

وغیرها من الشؤون التی ذکرتها الآیات.

فهذه الآیات تثبت لأصفیاء اللّه الحجج حقائق یمتازون بها فوق البشریة، کحقیقة الوحیانیة والبسطة فی العلم والتمکین من الأسباب والارتباط بملکوت الکتاب المکنون والعلم اللدنی، وغیرها من الحقائق التی رکّبها اللّه تعالی فی ذواتهم وتفوّقوا فیها علی البشر بل علی الملائکة المقرّبین. ومن ثمّ أسجد تعالی وأخضع وأطوع جمیع ملائکته لخلیفته فی الأرض فجعل جمیع ملائکته المقرّبین - فضلاً عن غیرهم - یأتمرون بأمره وینتهون بنهیه، بل فضّل اللّه هؤلاء الصفوة من البشر علی روح القدس والأرواح من عالم الأمر فجعلها فی خدمتهم کما فی قوله تعالی: «وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا».

ومن ثمّ کانت لهم أفعال وصفات لا تتصوّرها العقول المحدودة والقاصرة، بل تتوهّم أن تلک الأفعال والصفات هی من الشؤون الإلهیة المحضة، ومن ثم تستنکر إثبات تلک الصفات والأفعال لهم وتحسبه أنّه من التألیه والقول بالربوبیة لهم والحال أنّ ذلک لا یعدو کون تلک الصفات صفات المخلوقین وأفعالهم ولکنّهم تعاظموها وظنّوا أنّها صفات الخالق.

وقد أکّدت طوائف مستفیضة بل متواترة من الروایات علی هذا الخطأ وأنّه ینشأ منه ثلاثة أخطاء:

ص:55

الأول: تصغیر عظمة اللّه عزوجل حیث حسبوا أنّ هذه الصفات هی من صفات الذات الإلهی، وأنّ شأن هذه الأفعال هی صدورها ابتداءً ومباشرة من الذات الإلهیة، مع أنّ شأن الذات الإلهیة أجلّ وأعزّ وأعلی وأعظم من هذه الصفات ومن صدور هذه الأفعال عنه ابتداءً بالمباشرة. حیث إنّ من ضعة هذه الأفعال التباشر معه، فهی صفات وأفعال المخلوقین، إلّاأنّ المخلوق ضعیف وإذا تعاظم عنده الفعل العظیم من المخلوق العظیم حسب أنّ هذا شأن صفة الخالق وفعله.

وقد أشیر إلی هذا الخطأ فی الروایات سواء عند تیّار الغلاة وعند المنکرین والمستنکرین علیهم والمناوئین لهم، حیث قد وقع کلا الطرفین فی هذا الخطأ، غایة الأمر أنّ الغلاة ارتکبوا خطأ ثانیاً کما سیأتی بیانه ومناوئیهم ارتکبوا خطأ ثالثاً کما سیأتی بیانه.

و هذا الخطأ الذی اشترکوا فیه حسبان أنّ هذه الصفات والأفعال هی صفات الذات الإلهیة.

الخطأ الثانی: الذی ارتکبه الغلاة بعد ما أسندوا هذه الصفات والأفعال إلی المخلوقات العظیمة وقد أصابوا فی ذلک من هذه الجهة، إلّاأنّهم وقعوا فی خطأ ثان حیث توهّموا أنّ استحقاق هذه المخلوقات العظیمة لهذه الصفات والأفعال یوجب استحقاق تلک المخلوقات العظیمة لحقیقة واسم الإلوهیة والربوبیة، وهذا هو الخطأ الثانی الذی وقع فیه الغلاة وهو ناجم ومنشعب عن الخطأ الأول.

الخطأ الثالث: الذی وقع فیه المقصّرة المنکرین علی الغلاة والمستنکرین لهم هو نفی هذه الصفات والأفعال العظیمة عن المخلوقات العظیمة لتعاظم هذه الصفات والأفعال عندهم وقصورهم عن درک هذه المخلوقات العظیمة.

فکلّ من الغلاة والمقصّرة اشترکوا فی الخطأ الأوّل إلّاأنه تمیّز الغلاة بالخطأ الثانی والمقصّرة بالخطأ الثالث.

ص:56

وتشیر بعض الروایات إلی خطأ الغلاة الأوّل والثانی:

الروایة الأولی: فقد روی الکشی مسنداً عن علی بن حسّان عن بعض أصحابنا رفعه إلی أبی عبد اللّه علیه السلام قال: وذکر عنده جعفر بن واقد ونفر من أصحاب أبی الخطّاب فقیل: إنه صار إلی بیروذ وقال فیهم: «وَ هُوَ الَّذِی فِی السَّماءِ إِلهٌ وَ فِی الْأَرْضِ إِلهٌ » قال: هو الإمام فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

لا و اللّه لا یأوینی وإیّاه سقف بیت أبداً، هم شرّ من الیهود والنصاری والمجوس والذین أشرکوا، و اللّه ما صغّر عظمة اللّه تصغیرهم شیء قطّ، إنّ عزیراً جال فی صدره ما قالت عنه الیهود فمحی اللّه اسمه من النبوّة و اللّه لو أنّ عیسی أقرّ بما قالت النصاری لأورثه اللّه صمماً إلی یوم القیامة، و اللّه لو أقررت بما یقول فیّ أهل الکوفة لأخذتنی الأرض، وما أنا إلّاعبد مملوک لا أقدر علی شیء ضرّ ولا نفع(1).

فهؤلاء الغلاة حیث سمعوا أنّ اللّه تعالی أطوع جمیع ملائکته لخلیفته فی الأرض سواء ملائکة السماوات و الأرض وملائکة الدنیا والآخرة فی قوله تعالی:

«وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدَ الْمَلائِکَةُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ » فتعاظم لدیهم هذا الشأن فوصفوا خلیفة اللّه وهو الإمام بأنّه فی السماء إله وفی الأرض إله.

فتعاظمهم لهذه الصفة ألجأهم لتوصیف خلیفة اللّه المطاع فی ملکوت السماوات و الأرض بأنّه إله فی السماء وإله فی الأرض، وهم بذلک قد صغّروا شأن الإله لأنّ شأن اللّه أعظم من ذلک وإنما هذا شأن المخلوق، فتشیر هذه الروایة إلی الخطأ الأوّل والثانی الذی وقع فیه الغلاة.

الروایة الثانیة: روی الصدوق أنّ الإمام علیه السلام کان یقول فی دعائه:

اللهم إنی أبرأ إلیک من الحول والقوّة فلا حول ولا قوّة إلّابک اللهم إنی أبرأ إلیک من الذین ادعوا لنا ما لیس بحق... اللهم لا تلیق الربوبیة إلّابک ولا تصلح الإلهیة إلّالک، فالعن النصاری الذین

ص:57


1- (1) . رجال الکشی رقم / 538 .

صغّروا عظمتک والعن المضاهین لقولهم من بریتک. اللهم إنا عبیدک وأبناء عبیدک لا نملک لأنفسنا ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حیاة ولا نشوراً. اللهم من زعم أننا أرباب فنحن إلیک منه براء ومن زعم أنّ إلینا الخلق وعلینا الرزق فنحن إلیک منه براء کبراءة عیسی علیه السلام من النصاری. اللهم إنا لم ندعهم إلی ما یزعمون فلا تؤاخذنا بما یقولون واغفر لنا ما یزعمون «رب لا تذر علی الأرض من الکافرین دیّاراً إنک إن تذرهم یضلّوا عبادک ولا یلدوا إلّا فاجراً کفّاراً»(1).

وفی هذا الحدیث یبیّن علیه السلام أنّ غلوّ النصاری کان قد أوقعهم فی الخطأ الأول والثانی، حیث إنّ تعاظمهم للأفعال التی رأوها من النبی عیسی أوقعهم فی الخطأ الثانی. فمن ثمّ الغلاة لیس خطأهم فی نسبة هذه الأفعال والصفات الغریبة العظیمة إلی حجج اللّه کما ظنّ ذلک المقصّرة بل خطأهم ناشئ من تقصیر الغلاة فی معرفة اللّه حیث لم یتفطّنوا إلی أنّ الصفات والشؤون الإلهیة أعظم من ذلک.

الروایة الثالثة: روی الشیخ فی أمالیه قولهم علیهم السلام :

احذروا علی شبابکم لا یفسدونهم فإنّ الغلاة شرّ خلق اللّه یصغّرون عظمة اللّه ویدّعون الربوبیة لعباد اللّه(2).

والملفت المهمّ فی هذه الروایات تأکیدها علی أنّ خطأ الغلاة لیس فی نسبة هذه الصفات والأفعال إلی حجج اللّه، وإنّما هو تصغیر عظمة اللّه. والغلاة إنما ارتکبوا ووقعوا فی تصغیر عظمة اللّه حینما حسبوا أنّ هذه الصفات هی صفات إلهیّة، لا حینما أسندوها إلی المکرّمین من خلق اللّه، فمرکز الانحراف عند الغلاة هو فی تصغیر عظمة اللّه بجعل هذه الصفات صفات إلهیّة لا أنّ أساس انحرافهم فی إسناد هذه الصفات للمقرّبین من المخلوقین.

فبون شاسع بین ما تشیر إلیه هذه الروایات من منشأ وحقیقة انحراف الغلاة وبین ما یظنّ المقصّرة أنه السبب فی انحراف الغلاة، فکلا الفریقین وقع فی الخطأ

ص:58


1- (1) . الاعتقادات فی دین الإمامیة، الصدوق / 100 .
2- (2) . أمالی الطوسی / 650، ح 1349 .

الأوّل من تعاظم هذه الصفات لدیه إلّاأنّ الغلاة وقعوا فی الخطأ الثانی من تسمیة المقرّبین بالألوهیة، والمقصّرة وقعوا فی الخطأ الثالث من نفی هذه الصفات عن المقرّبین حذراً من أن یقعوا فی الخطأ الثانی، وهم بذلک قد قصّروا فی معرفة أولیاء اللّه کما أنّهم قد قصّروا فی معرفة اللّه تعالی فهم قد ارتکبوا تقصیرین، بخلاف الغلاة فإنهم قد ارتکبوا تقصیراً واحداً وإن أفرطوا لا فی إسناد الصفات بل فی إسناد الألوهیة لمن یستحق هذه الصفات وإفراطهم ناجم من تقصیرهم فی معرفة اللّه جلّ جلاله.

ومن ثمّ حکی عن المیرزا المجدد الکبیر الشیرازی عندما سئل عن الفرقة التی تألّه علیاً علیه السلام قوله للسائلین: «إنّ هذه الفرقة إنما عرفوا علیّاً وجهلوا اللّه عزوجل فعرّفوا لهم اللّه تعالی» ومراده قدس سره - علی ما حکی - التعریض بالسائلین أنکم جهلتم مقام اللّه ومقام ولیّه أیضاً.

الروایة الرابعة: روی الصدوق أیضاً عن الرضا علیه السلام :

من قال بالتشبیه والجبر فهو کافر مشرک ونحن منه براء فی الدنیا والآخرة، یابن خالد إنما وضع الأخبار عنا فی التشبیه والجبر الغلاة الذین صغّروا عظمة اللّه تعالی فمن أحبهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبّنا، ومن والاهم فقد عادانا ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن جفاهم فقد برّنا ومن برّهم فقد جفانا، ومن أکرمهم فقد أهاننا ومن أهانهم فقد أکرمنا، ومن قبلهم فقد ردّنا ومن ردّهم فقد قبلنا، ومن أحسن إلیهم فقد أساء إلینا ومن أساء إلیهم فقد أحسن إلینا، ومن صدّقهم فقد کذّبنا ومن کذّبهم فقد صدّقنا، ومن أعطاهم فقد حرمنا ومن حرمهم فقد أعطانا. یابن خالد من کان من شیعتنا فلا یتّخذون منهم ولیاً ولا نصیراً(1).

وفی هذه الروایة دلالة علی أنّ موضع ومرکز الانحراف عند الغلاة هو

ص:59


1- (1) . بحار الأنوار 25 / 266 .

تصغیرهم عظمة اللّه تعالی، لا إسنادهم ذلک النمط من الصفات والأفعال إلی المقرّبین.

نعم هم غلوا وأفرطوا ورفعوا حدّ أهل البیت وأولیاء اللّه فوق حدّهم من العبودیة إلی الربوبیة والألوهیة، والذی هو الخطأ الثانی.

والتفکیک بین الخطأ من الصواب فی مباحث المعرفة أمر یستعصی علی النقّاد الحذّاق ویخفی علی الأوحدی من أهل التحقیق فضلاً عن غیرهم من أهل العلم فکیف بعامّة الناس، فإمّا یفرط بقبول ما عند الغلاة بغثّه وسمینه ویظنّ ذلک صواباً أو یرفضه ویستنکره کما یفعل ذلک المقصّرة ویجحده بغثّه وسمینه ویظنّ أنه قد وقی نفسه من الغلو ولا یدری أنّه قد فرّ من منزلق إلی منزلق آخر.

الروایة الخامسة: روی الصدوق فی المعتبر عن الحلبی قال: قلت للرضا علیه السلام :

یابن رسول اللّه ما شیء یحکیه عنکم الناس؟ قال: وما هو؟ قلت: یقولون إنّکم تدّعون أنّ الناس لکم عبید، فقال:

اللهم فاطر السماوات و الأرض عالم الغیب والشهادة أنت شاهد بأنّی لم أقل ذلک قطّ ولا سمعت أحداً من آبائی علیهم السلام قال قطّ، وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمة وإنّ هذه منها، ثم أقبل علیّ فقال: یا عبد السلام إذا کان الناس کلّهم عبیدنا علی ما حکوا عنّا فممن نبیعهم؟ فقلت: یابن رسول اللّه صدقت.

ثم قال:

یا عبد السلام أمنکر أنت لما أوجب اللّه عزوجل لنا من الولایة کما ینکره غیرک؟ قلت: معاذ اللّه بل أنا مقرّ بولایتکم(1).

فتری أنّه علیه السلام فی حین یخطّیء التأویل الفاسد لما صدر عنهم علیهم السلام من قولهم:

«إنّ الناس لنا عبید طاعة لا عبید ربوبیة» کما فی قوله تعالی: «أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ » إلّاأنّه علیه السلام ینبّه الراوی فی ذیل الحدیث إلی أنّ ما صدر عنهم علیهم السلام من الروایة والمقال له أصل صحیح یجب علی الراوی ألّا ینکره ولا

ص:60


1- (1) . بحار الأنوار 25 / 268 .

یدعونّه ذلک التأویل الفاسد إلی إنکار ما هو صحیح کما هو منهج المقصّرة، ومن ثم قال له علیه السلام :

«أمنکر أنت لما أوجب اللّه عزوجل لنا من الولایة کما ینکره غیرک؟».

و هذا هو المنهج المعتدل الوسطی بین إفراط الغلاة وتفریط المقصّرة القائم علی تفکیک الخطأ من الصواب وکیل کلّ شیء بحسبه ومن ثمّ ورد عنهم علیهم السلام :

«خذوا ما رووا وذروا ما رأوا».

وممّا یؤکّد أنّ خطأ الغلاة لیس فی أصل إسناد الأفعال والصفات وإنّما فی تعاظمها بنحو یوقعهم فی الخطأ الثانی وهو نسبة الربوبیة والألوهیة إلی المقرّبین من أولیاء اللّه أی رفع حدّهم من العبودیة إلی الألوهیة والربوبیة، ما ورد مستفیضاً عنهم صلوات اللّه علیهم من التأکید علی مقام عبودیتهم.

الروایة السادسة: فی المحاسن عن ابن محبوب عن عمرو بن أبی المقدام عن مالک بن أعین الجهنی قال: أقبل إلیّ أبو عبد اللّه علیه السلام فقال:

یا مالک أنتم واللّه شیعتنا حقّاً، یا مالک تراک قد أفرطت فی القول فی فضلنا، إنه لیس یقدر أحد علی صفة اللّه وکنه قدرته وعظمته فکما لا یقدر أحد علی کنه صفة اللّه وکنه قدرته وعظمته «وللّه المثل الأعلی» فکذلک لا یقدر أحد علی صفة رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وفضلنا وما أعطانا اللّه وما أوجب من حقوقنا، وکما لا یقدر أحد أن یصف فضلنا وما أعطانا اللّه وما أوجب اللّه من حقوقنا فکذلک لا یقدر أحد أن یصف حقّ المؤمن ویقوم به ممّا أوجب اللّه علی أخیه المؤمن.

و اللّه یا مالک إنّ المؤمنین لیلتقیان فیصافح کل واحد منهما صاحبه فما یزال اللّه تبارک وتعالی ناظراً إلیهما بالمحبّة والمغفرة وإنّ الذنوب لتحاتّ عن وجوههما وجوارحهما حتّی یفترقا، فمن یقدر علی صفة اللّه وصفة من هو هکذا عند اللّه؟(1)(2).

وتشیر هذه الروایة إلی خطأ المقصّرة الأوّل والثالث حیث إنّهم تعاظموا بعض الصفات فبنوا علی أنّها صفات إلهیة مع أنّ شأن الصفات الإلهیة أعظم من

ص:61


1- (1) . راجع الإمامة الإلهیة ذیل: «لا تقولوا فینا رباً و قولوا ما شئتم و لن تبلغوا».
2- (2) . المحاسن / 143 / ح 41.

ذلک، فوقعوا من ثم فی الخطأ الثالث من نفی هذه الصفات والأفعال عن المکرّمین من خلقة اللّه وحسبوا أنّ إسناد هذه الصفات لهم إفراط فی القول کما یشیر قوله علیه السلام :

«یا مالک تراک قد أفرطت فی القول فی فضلنا...».

ولا یخفی أنّ مالک مع أنه کان علی صلة بالمغیرة بن سعید ومن ثمّ قبضت علیه السلطات الأمویة بعد قتل المغیرة إلّا أنّه نجا منهم کما ذکر ذلک الطبری وسیأتی ذکره.

ولذلک قال السید الخوئی: «فإن قوله: اللّه أکبر من أن یوصف لا یدل علی اختصاص الأکبریة من ذلک به تعالی ونفیها عن غیره فلعلّ هناک موجوداً کالنبی الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم أو ملک مقرّب هو أیضاً أکبر من أن یوصف کما أن قوله: اللّه أکبر من کلّ شیء لا یدل علی أنّه تعالی غیر محدود بحدّ وغیر قابل للوصف بل غایته أن کلّ موجود فی الخارج فاللّه سبحانه أکبر منه، وأما أنّه تعالی أکبر من أن یوصف وأجل من أن یحدد فلا دلالة للکلام علیه. هذا بخلاف قولنا: «اللّه أکبر» مرسلاً عن کل قید فإنّه یدل علی الأکبریّة المطلقة الشاملة لجمیع تلک المعانی، بل وغیرها کما لا یخفی فیکون المعنی أشمل والمفهوم أوسع وأکمل فلا یجوز تغییره بالتقییدین الموجبین للتضییق»(1).

ویستشفّ من کلامه رضوان اللّه علیه أنّ صفاتهم علیهم السلام أکبر من أن یصفه الواصفون کما ورد بذلک روایات مستفیضة سنشیر إلی بعضها، إلّاأنه رغم ذلک فصفات اللّه فوق ذلک، ولیس عجز الآخرین عن توصیفهم علیهم السلام هی الضابطة للصفة الإلهیة کما قد توهّم ذلک الکثیر بل هذه الضابطة منطبقة علی صفاتهم أیضاً، بل ضابطة الصفة الإلهیة هو الاستقلال وملکیة الأسماء الحسنی بالذات، أی الربوبیة فی مقابل الافتقار وهی العبودیة.

ص:62


1- (1) . التنقیح فی شرح العروة الوثقی: 14 / 107 و 108 .

الروایة السابعة: قال الإمام أبو محمّد العسکری علیه السلام :

قال الرضا علیه السلام : إنّ هؤلاء الضلال الکفرة ما أتوا إلّاعن جهلهم بمقادیر أنفسهم حتی اشتدّ إعجابهم بها وکثر تعظیمهم لما یکون منها، فاستبدّوا بآرائهم الفاسدة واقتصروا علی عقولهم المسلوک بها غیر السبیل الواجب حتی استصغروا قدر اللّه واحتقروا أمره وتهاونوا بعظیم شأنه. إذ لم یعلموا أنّه القادر بنفسه الغنی بذاته الذی لیست قدرته مستعارة ولا غناه مستفاداً والذی من شاء أفقره ومن شاء أغناه ومن شاء أعجزه بعد القدرة وأفقره بعد الغنی. فنظروا إلی عبد قد اختصّه اللّه بقدرته لیبیّن بها فضله عنده وآثره بکرامته لیوجب بها حجّته علی خلقه ولیجعل ما آتاه من ذلک ثواباً علی طاعته وباعثاً علی اتّباع أمره ومؤمناً عباده المکلّفین من غلط من نصبه علیهم حجّة ولهم قدوة فکانوا کطلّاب ملک من ملوک الدینا ینتجعون فضله ویؤملون نائله ویرجون التفیّؤ بظلّه والانتعاش بمعروفه والانقلاب إلی أهلیهم بجزیل عطائه الذی یغنیهم عن کلب الدنیا وینقذهم من التعرّض لدنیّ المکاسب وخسیس المطالب، فبینا هم یسألون عن طریق الملک لیترصّدوه وقد وجّهوا الرغبة نحوه وتعلّقت قلوبهم برؤیته إذ قیل: إنّه سیطلع علیکم فی جیوشه ومواکبه وخیله ورجله، فإذا رأیتموه فأعطوه من التعظیم حقّه ومن الإقرار بالمملکة واجبه وإیّاکم أن تسمّوا باسمه غیره أو تعظّموا سواه کتعظیمه فتکونوا قد بخستم الملک حقّه وأزریتم علیه واستحققتم بذلک منه عظیم عقوبته.

فقالوا: نحن کذلک فاعلون جهدنا وطاقتنا فما لبثوا أن طلع علینا بعض عبید الملک فی خیل قد ضمّها إلیه سیّده ورجل قد جعلهم فی جملته وأموال قد حباه بها، فنظر هؤلاء وهم للملک طالبون فاستکثروا ما رأوا بهذا العبد من نعم سیّده ورفعوه عن أن یکون هو المنعم علیه بما وجدوا معه. فأقبلوا إلیه یحیّونه تحیّة الملک ویسمّونه باسمه ویجحدون أن یکون فوقه ملک أو له مالک.

فأقبل علیهم العبد المنعم علیه وسائر جنوده بالزجر والنهی عن ذلک والبراءة ممّا یسمّونه به ویخبرونهم بأنّ الملک هو الذی أنعم بها علیه واختصّه به وأنّ قولکم بما تقولون یوجب علیکم سخط الملک وعذابه ویفیتکم کلما أمّلتموه من جهته وأقبل هؤلاء القوم

ص:63

یکذّبونهم ویردّون علیهم قولهم.

فما زال کذلک حتی غضب علیهم الملک لمّا وجد هؤلاء قد سمّوا به عبده وأزروا علیه فی مملکته وبخسوه حقّ تعظیمه فحشرهم أجمعین إلی حبسه ووکّل بهم من یسومهم سوء العذاب.

فکذلک هؤلاء وجدوا أمیر المؤمنین علیه السلام عبداً أکرمه اللّه لیبین فضله ویقیم حجّته فصغر عندهم خالقهم أن یکون جعل علیاً له عبداً، وأکبروا علیاً أن یکون اللّه عزوجل له ربّاً فسمّوه بغیر اسمه فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملّته وشیعته.

وقالوا لهم: یا هؤلاء إنّ علیاً وولده عباد مکرمون مخلوقون مدبّرون لا یقدرون إلّا علی ما أقدرهم اللّه علیه ربّ العالمین ولا یملکون إلّاما ملّکهم اللّه لا یملکون موتاً ولا حیاة ولا نشوراً ولا قبضاً ولا بسطاً ولا حرکة ولا سکوناً إلّاما أقدرهم اللّه علیه وطوّقهم وأنّ ربهم وخالقهم یجلّ عن صفات المحدثین ویتعالی عن نعوت المحدودین وإن من اتخذهم أو واحداً منهم أرباباً من دون اللّه فهو من الکافرین وقد ضلّ سواء السبیل، فأبی القوم إلّا جماحاً وامتدوا فی طغیانهم یعمهون فبطلت أمانیهم وخابت مطالبهم وبقوا فی العذاب الألیم(1).

وفی هذه الروایة تنصیص علی أنّ هذه الصفات والأفعال کرامة منه تعالی لحجّته علی خلقه تمییزاً له علی بقیّة خلقه فاستکثروا ما رأوا بهذا العبد من نعم اللّه تعالی، وأنّ خطأهم الأوّل هذا دفعهم إلی الخطأ الثانی من حسبان هذه الصفات والأفعال هو للإله والخالق ومن ثم قال علیه السلام :

«فاستکثروا ما رأوا بهذا العبد من نعم سیّده» وهو یشیر إلی الخطأ الأول.

وقوله علیه السلام :

«فصغر عنده خالقهم أن یکون جعل علیاً له عبداً» یشیر إلی خطأ الغلاة الأول أیضاً من استعظام هذه الصفات واستکثارها من جانب، ومن جانب

ص:64


1- (1) . تفسیر الإمام العسکری / 55 / ح 28 .

آخر تصغیرهم الخالق عن أن یکون فوق هذه الصفات والأفعال وفوق صاحب هذه الصفات والأفعال.

ومن ثمّ فإنّ أزمة الغلاة هی استعظام هذه الصفات وتصغیر قدر اللّه، أی أنّ الغلاة رغم إفراطهم فی التعمّق فی المعرفة والتوسّع فی آفاقها، إلّاأنّهم ضاق أفقهم وهبطت معرفتهم وقصرت عن إدراک فوقیّة الباری تعالی علی کل ذلک، فإنّ هذه الصفات مهما تعاظمت فإنّها شؤون دون أعلائیة الباری جل جلاله ولذا قال تعالی: «سُبْحانَهُ وَ تَعالی عَمّا یَصِفُونَ »1 ، وقال: «سُبْحانَ رَبِّکَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا یَصِفُونَ »2 إلی غیر ذلک من الآیات التی تنزّه الباری تعالی عن تلک الصفات رغم تعاظم تلک الصفات والشؤون فی أعین البشر سواء الغلاة أو المقصّرة، فإنّ کلا الفریقین وقع فی شراک هذا الانزلاق وهو الخطأ الأول الرئیسی، ولم یتفطّنوا أنّ البشر لا یقدر علی صفة اللّه وشؤونه إلّابما وصف اللّه تعالی به نفسه، وأما تلک الصفات والشؤون التی استکثروها وتعاظموها فهی دون الباری تعالی وهو عزّ شأنه فوقها وحینئذ قام کلّ من الفریقین تارة بتصغیر قدر اللّه عزوجل عن أن یکون فوق ذلک، أی یکون فوق صاحب هذه الصفات وهو علیّ علیه السلام وأکبروا علیاً عن أن یکون فوقه ربّ مالک له ولشؤونه فوسموه بالربوبیة والألوهیة وهؤلاء هم الغلاة.

و آخرون أیضاً قاموا بتصغیر مقام قدر اللّه عزوجل حیث تعاظموا هذه الصفات فجعلوها صفات الخالق ونفوها عن کونها صفات ولیّ اللّه مع أنّ صفات اللّه عزوجل فوق ذلک کما أن نفیهم کونها صفات ولیّ اللّه تقصیر آخر وتصغیر لولیّ اللّه عن مقامه.

فالمقصّرة قصّروا فی مقامین وقاموا بتصغیرین فصغّروا شأن اللّه عزوجل

ص:65

کما صغّروا شأن ولیّه بینما الغلاة قصّروا فی مقام واحد فصغّروا قدر اللّه تعالی.

ویشیر قوله علیه السلام :

«فنظروا إلی عبد قد اختصّه اللّه بقدرته لیبیّن بها فضله عنده وآثره بکرامته لیوجب بها حجّته علی خلقه ولیجعل ما آتاه من ذلک ثواباً علی طاعته وباعثاً علی اتباع أمره ومؤمّناً عباده المکلّفین من غلط من نصبه علیهم حجّة ولهم قدوة».

فبیّن علیه السلام أنّ إعطاء اللّه هذه الصفات والقدرة علی هذه الأفعال لولیّه فی الأرض حکمته وغایته هو قطع الطریق علی الجاحدین الذین قصرت معرفتهم بولی اللّه وحجّته لیبیّن بها مکانته عند اللّه ووجاهته.

وقوله علیه السلام :

«إنّ علیاً وولده عباد مکرمون مخلوقون مدبّرون لا یقدرون إلّاعلی ما أقدرهم اللّه علیه ربّ العالمین، ولا یملکون إلّاما ملّکهم اللّه لا یملکون موتاً ولا حیاة ولا نشوراً ولا قبضاً ولا بسطاً ولا حرکة ولا سکوناً إلّاما أقدرهم اللّه علیه وطوّقهم، وإنّ ربّهم وخالقهم یجلّ عن صفات المحدثین ویتعالی عن حدود المحدودین، وإنّ من اتخذهم أو واحداً منهم أرباباً من دون اللّه فهو من الکافرین وقد ضلّ سواء السبیل».

صریح فی إسناد هذه الصفات والأفعال لعلیّ وولده المطهّرین بإقدار من اللّه تعالی، وإملاک منه عزوجل، فهو علیه السلام ینفی ثبوت هذه الصفات والأفعال منهم باستقلال من أنفسهم عن العطیّة الإلهیة.

و هذا الحدیث حاکم ومفسّر علی جملة من الأحادیث المستفیضة النافیة لثبوت هذه الصفات لهم من دون استثناء بأنّ المراد منها لیس نفی الصفات والأفعال بقول مطلق من الإحیاء والإماتة والنشر والقبض والبسط بل نفی استقلالهم بهذه الأفعال والصفات لا نفیها بإقدار من اللّه تعالی وإملاک منه. فما بنی علیه جماعة من الأعلام من نفیها مطلقاً فی غیر محلّه اغتراراً بظاهر جملة من الروایات المستفیضة التی لم تتضمّن استثناءً.

بل إنّ ذیل کلامه علیه السلام یشیر إلی بیان عقلی برهانی علی ثبوتها لهم بإقدار من اللّه، حیث بیّن علیه السلام أنّ هذه الصفات والأفعال من الإماتة والإحیاء والنشر والقبض

ص:66

والبسط والحرکة والسکون هی فی الأصل صفات المحدثین المخلوقین، لأنّ الإماتة والإحیاء والنشر والقبض والبسط عندما کان فعلاً متعلقاً بالمادة والجسم فالفاعل له لابدّ أن یکون له تعلّق بالجسم والجسمانی فلابدّ أن یکون له وضع خاص فی المادة محاذی للجسم المنفعل المتعلّقة به الروح المحیاة أو المماتة أو الروح والجسم المنشر. کما أنّ القبض والبسط والحرکة والسکون فی الجسم وما یتعلّق بالجسم من نفس ونفوس هو الآخر أیضاً أفعال مادّیة یتعالی عزّ اسمه عن الاتّصاف بما تتضمّن من حدوده ونقائصه.

ویؤکّد علیه السلام مرّة أخری علی أنّ خطأ هؤلاء الغلاة لیس فی توصیف علی وأولاده بهذه الصفات وإنّما تسمیتهم أهل البیت علیهم السلام أرباباً وآلهة أی مستقلّین فی التمتّع بهذه الصفات والأفعال، فانحراف الغلاة إنما یکون فی التسمیة لا فی إسناد الصفات والأفعال.

الروایة الثامنة: ما رواه الحضینی عن المفضل بن عمر قال: «یا مولای ألیس قد روینا عنکم أنکم قلتم الغالی نرده والتالی نلحقه بنا قال:

یا مفضل ظننت أنّ التالی هم المقصّرة قال: کذا ظننت یا سیّدی قال:

کلّا، التالی هم من خیار شیعتنا القائلین بفضلنا المستمسکین بحبل اللّه وحبلنا الذین یزدادون بفضلنا علماً، وإذا ورد علی أحدهم خبر قَبِله وعَمِل به ولم یشکّ فیه، فإن لم یطقه رده إلینا ولم یرد علینا فذلک هو التالی ... ویحک یا مفضل إنّ الغالی فی محبتنا نرده إلینا ویثبت ویستجیب ولا یرجع، والمقصّرة تدعوه إلی الإلحاق بنا والإقرار لما فضلنا اللّه به فلا یثبت ولا یستجیب ولا یلحق بنا، لأنّهم لما رأونا نفعل أفعال النبیین قبلنا مما ذکرهم اللّه فی کتابه وقص قصصهم وما فرض إلیهم من قدرته وسلطانه حتی خلقوا وأحیوا ورزقوا وأبرأوا الأکمه والأبرص ونبأوا الناس بما یأکلون ویشربون ویدخرون فی بیوتهم ویعلمون ما کان وما یکون إلی یوم القیامة بإذن اللّه وسلموا إلی النبیین أفعالهم وما وصفهم اللّه وأقروا لهم بذلک، وجحدوا بغیاً علینا وحسداً لنا علی ما جعله اللّه لنا وفینا وما أعطاه اللّه لسائر النبیین والمرسلین و الصالحین وازدادنا من فضله ما

ص:67

لم یعطهم إیاه وقالوا ما أعطی النبیون هذه القدرة التی أظهرها إنما صدقناها و أنزل بها لأن اللّه أنزلها بکتابه.

ولو علموا ویحهم أنّ اللّه ما أعطاه من فضله شیئاً إلّاأنزله بسائر کتبه وصفنا به، ولکن أعداؤنا لا یعلموه وإذا سمعوا فضلنا أنکروه وصدوا عنه واستکبروا(1).

الروایة التاسعة: روی الصفار فی البصائر صحیحة علی بن جعفر عن أبی الحسن علیه السلام أنه سمعه یقول:

لو أذن لنا لأخبرنا بفضلنا قال: قلت له: العلم منه؟ قال:

فقال لی:

العلم أیسر من ذلک»(2).

وروی أیضاً بسند صحیح أعلائی عن محمد بن مسلم قال: «دخلت علیه بعد ما قتل أبو الخطاب قال: فذکرت له ما کان یروی من أحادیثه [ویرتکب] تلک العظام قبل أن یحدث ما أحدث، فقال:

بحسبک و اللّه یا محمد أن تقول فینا یعلمون الحلال والحرام وعلم القرآن وفصلها بین الناس فلما أردت أن أقوم أخذ بثوبی فقال: یا محمد وأی شیء الحلال والحرام فی جنب العلم؟ إنما الحلال والحرام شیء یسیر من القرآن»(3).

وبمضمون هاتین الروایتین روایات عدیدة فی تلک الأبواب ویستفاد منها أنّ علم الفقه وأحکام الفروع شیء یسیر فی جنب علم القرآن، مع أنّ علم القرآن کلّه شیء یسیر فی جنب فضائلهم، مع أن علم القرآن لا یعزب عنه مثقال ذرّة فی السماوات و الأرض وفیه خزائن الغیب وما من غائبة فی السماء و الأرض إلّافیه، إلّا أنه مع ذلک هو شیء یسیر فی جنب مقاماتهم العلویّة.

وقال المجلسی فی ذیل قوله تعالی: «إِنَّکَ لَنْ تَسْتَطِیعَ مَعِیَ صَبْراً وَ کَیْفَ تَصْبِرُ عَلی ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» . قال: وفی هذه القصّة تنبیه لمن عقل وتفکّر للتسلیم فی کلّ ما روی من أقوال أهل البیت علیهم السلام وأفعالهم مما لا یوافق عقول عامّة الخلق وتأباه

ص:68


1- (1) . الهدایة الکبری / 421 - 422 .
2- (2) . بحار الأنوار 25 / 372 .
3- (3) . بصائر الدرجات 1 / 287 ح 730 .

أفهامهم وعدم المبادرة إلی ردّها وإنکارها وقد مرّ فی باب التسلیم وفضل المسلمین ما فیه کفایة لمن له قلب أو ألقی السمع وهو شهید(1).

الروایة العاشرة: قال الرضا علیه السلام لجاثلیق:

ما أنکرت أنّ عیسی کان یحیی الموتی بإذن اللّه عزوجل.

قال الجاثلیق: أنکرت ذلک من قبل، إنّ من أحیی الموتی وأبرأ الأکمه والأبرص فهو ربّ مستحق لأن یعبد.

قال الرضا علیه السلام :

فإن الیسع قد صنع مثل ما صنع عیسی علیه السلام مشی علی الماء وأحیی الموتی وأبرأ الأکمه والأبرص فلم تتخذه أمّته ربّاً ولم یعبده أحد من دون اللّه عزوجل؟ ولقد صنع حزقیل النبی مثل ما صنع عیسی بن مریم فأحیی خمسة وثلاثین ألف رجل من بعد موتهم بستین سنة(2).

وقال أمیر المؤمنین علیه السلام :

لا تتجاوزوا بنا العبودیة ثمّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا وإیاکم والغلوّ کغلوّ النصاری فإنی بریء من الغالین(3).

وقال علیه السلام :

إیاکم والغلو فینا قولوا إنا عبید مربوبون وقولوا فی فضلنا ما شئتم(4).

وفی هذه الأحادیث تأکید علی أنّ الصفات والأفعال التی یتعاظمها الکثیر هی صفات للمحدثین یتعالی اللّه عنها وأنّ الاتّصاف بهذه الصفات والأفعال لا یوجب استحقاق الربوبیة والألوهیة والغناء الذاتی وإن تعاظمتها واستکثرتها الأذهان القاصرة.

کما أنّ تقیید الغلو بغلوّ النصاری هو تنویع وتقسیم لأنماط الغلو وأنّ نمط غلوّ النصاری ونوعه لیس فی إسناد الصفات والأفعال العظیمة، بل فی تسمیة ذلک

ص:69


1- (1) . بحار الأنوار 25 / 362 .
2- (2) . الاحتجاج 2 / 407 .
3- (3) . المصدر نفسه / 453 .
4- (4) . بحار الأنوار 10 / 92 .

بالربوبیة والألوهیة.

ص:70

الأدلّة علی عظمة صفاتهم علیهم السلام ممّا أوجب مروق الغلاة وجحود المقصّرة

یجدر الإشارة ههنا إلی نبذة من الأدلة علی تعاظم صفاتهم علیهم السلام عن قدرة إدراک البشر، فیوجب مروق الغلاة و جحود المقصرّة فتنکبّ الفریقان الجادة الوسطی.

الأول: قوله تعالی: «اُنْظُرْ کَیْفَ ضَرَبُوا لَکَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا یَسْتَطِیعُونَ سَبِیلاً»1.

وسیاق الآیة وإن کان فی النظر الأولی هو ما ذکره المفسّرون أن انظر أمر للنبی صلی الله علیه و آله و سلم کیف ضرب هؤلاء المشرکین له مثل فجاروا بذلک عن طریق الحق. إلّا أنّ النظرة الممعنة للآیة تقضی بأنّ المشرکین راموا أن یصلوا إلی حقیقة النبی صلی الله علیه و آله و سلم وقد ضربوا للنبی صلی الله علیه و آله و سلم عدّة من الاحتمالات لمعرفة ماهیّة نبوّته.

فتارة وصفوه بالسحر وهو ما یرتبط بعالم الخیال وقوی الجنّ وتنزّل الشیاطین علیه وأخری أنّ کلامه من الشعر وفنّ الأدب وهو أیضاً مما یرتبط بعالم الخیال وسیطرة مخائل الجنّ والشیاطین، وثالثة أنّه درس عند رجل رومی نصرانی أو مولی أعجمی لحویط بن العزّی مع أنّ لسان القرآن لسان عربی مبین

ص:71

یعجز الفصحاء عن المجیء بمثله. ورابعة أنّه یستقی علمه من أساطیر الأولین أی الأکاذیب المستورة فی کتبهم وأنّه قد اکتتبها فما یذکره من القرآن بکرة وأصیلاً من إملاءات تلک الکتب. وخامسة أنّ هذا کذب مخترع من عند نفس النبی ونسبه إلی اللّه أو أنّه أعانه علیه قوم آخرون، أو أنّ الرسول من اللّه الآتی بالوحی من غیب الغیوب لابد أن لا یأکل الطعام ولا یمشی فی الأسواق ولا تکون له حاجیات بشریة، أو أنه لابد أن یکون معه ملک من الملائکة ینذر معه ویصدّقه ویؤازره، و أن الرسول لابدّ أن یکون باذخ الثراء والقدرة فی المال وغیر ذلک من تصاریف الاحتمالات التی ذکروها.

مع أنّ هذه التصاریف لیست کلّها فی صدد تبیانهم للأمور المغایرة للنبوّة بل إنّ جملة ممّا ذکروه هو لبیان حقیقة النبوّة والوحی الغیبی من لدن الملکوت الإلهی، إلّاأنّ فی کل من سورة الفرقان وسورة الإسراء ینفی الباری قدرتهم علی معرفة واقتناص حقیقة النبوّة فلا استطاعة لهم علی سبیل معرفة حقیقة النبوّة، و هذا ممّا یفید عجز البشر وانتفاء السبیل المقدور للبشر عن الإحاطة بحقیقة النبوّة.

ولا یتوهّم أنّ ذلک یستلزم التکلیف بما لا یطاق فإنّه إذا امتنعت معرفة النبوّة فلا تکلیف بالإیمان بها، و ذلک لأنّ المراد بالامتناع المزبور لیس الامتناع مطلقاً بحیث لا یتسنّی المعرفة بوجه بل المراد الامتناع المحیط بکنهها. ومن أنواع المعرفة المزبورة معرفتها بالمثل والنظیر مع أنّ المشرکین أخطأوا فی المثال فضلاً عن المثل. وهاتان الآیتان الشریفتان تشیران إلی الدلیل العقلی الدالّ علی ذلک.

الثانی: قد أشار إلی ذلک البرهان العقلی الإمام الباقر علیه السلام فی ما رواه المفضل بن عمر عنه علیه السلام من

أنّ اللّه تبارک وتعالی لا یوصف ورسوله لا یوصف فمن احتمل حدیثهم فقد حدّهم ومن حدّهم فقد وصفهم ومن وصفهم بکمالهم فقد أحاط بهم وهو أعلم منهم ... وهو قول اللّه عزوجل: «اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِیثِ»

فأحسن الحدیث حدیثنا لا

ص:72

یحتمل أحد من الخلائق أمره بکماله حتی یحدّه لأنّ من حدّ شیئاً فهو أکبر منه(1).

و هذا البیان إشارة إلی استدلال عقلی من أنّ إدراک الشیء بالکنه لا یتمّ إلّا بالإحاطة، والإحاطة تستلزم أکبریّة المحیط من المحاط فکلّ شیء کان أکبر من آخر فلا یمکن للثانی أن یدرک الأوّل بکنهه وإلّا لکان الثانی أکبر من الأول وهذا خلف الفرض. وبنفس هذا الاستدلال استدل علی استحالة إحاطة المعلول بکنه العلّة وإنما یحیط المعلول من العلة بقدر قابلیّته وسعته إذ المعلول رقیقة مخفّفة وجلوة متنزّلة من العلّة.

الثالث: وممّا یشیر إلی ذلک قول الرضا علیه السلام :

«الإمام کالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم وهی فی الأفق بحیث لا تنالها الأیدی والأبصار ... ولا له مثل ولا نظیر ... فمن ذا الذی یبلغ معرفة الإمام ... هیهات هیهات ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسئت العیون وتصاغرت العظماء وتحیّرت الحکماء وتقاصرت الحلماء وحسرت الخطباء وجهلت الألبّاء وکلّت الشعراء وعجزت الأدباء وعییت البلغاء عن وصف شأن من شؤونه أو فضیلة من فضائله وأقرّت بالعجز والتقصیر، وکیف یوصف بکلّه أو ینعت بکنهه أو یفهم شیء من أمره أو یوجد من یقوم مقامه ویغنی غناه. لا کیف وأنّی وهو بحیث النجم من ید المتناولین ووصف الواصفین ... أین العقول عن هذا»(2).

ومفاد بیانه علیه السلام یشیر إلی البیان العقلی المتقدّم فلاحظ. وإلّا لکان المأموم إماماً لو أدرک إمامه بکنهه.

الرابع: وأشیر إلی ذلک أیضاً فی الزیارة الجامعة الکبیرة التی رواها الشیخ والصدوق بسند معتبر فی الفقیه والتهذیب قوله علیه السلام :

«فبلغ اللّه بکم أشرف محلّ المکرّمین وأرفع درجات المرسلین حیث لا یلحقه لاحق ولا یفوقه فائق ولا یسبقه سابق ولا یطمع فی إدراکه طامع ... موالی لا أحصی ثناءکم ولا أبلغ من المدح کنهکم ومن الوصف

ص:73


1- (1) . بحار الأنوار 2 / 194 عن البصائر.
2- (2) . الکافی ج 1 باب نادر جامع فی فضل الإمام وصفاته ح 1 .

قدرکم وأنتم نور الأخیار وهداة الأبرار وحجج الجبار ... بأبی أنتم وأمی ونفسی کیف أصف حسن ثنائکم وأحصی جمیل بلائکم وبکم أخرجنا اللّه من الذلّ وفرّج عنا غمرات الکروب وأنقذنا من شفا جرف الهلکات ومن النار»(1).

أی کیف یصفهم وهم واسطة الفیض لغیرهم وفیض الهدایة والکمال وفیض النور وغیرها من الفیوضات إنما یجریها اللّه تعالی عبرهم وعلی یدهم فغیرهم الذی جرت علیه ید النعمة التکوینیة لهم هو دونهم فکیف یدرکهم بالکنه وهم أکبر منه.

الخامس: قوله صلی الله علیه و آله و سلم فیما روته الخاصّة والعامّة:

«یا علی لو لا أن یقول طائفة من أمّتی ما قالت النصاری فی عیسی ابن مریم لقلت فیک مقالاً لا تمرّ بملأ من المسلمین إلّاأخذوا التراب من تحت رجلیک وفضل طهرک یستسقون (یستشفون) علماً»(2).

وفی هذا الحدیث دلالة واضحة علی أنّ هناک من صفات العباد المکرمین ما یتعاظمها البشر ویحسبون أنّها من صفات الخاصّة باللّه تعالی.

السادس: روی المجلسی عن کتاب الروضة والفضائل عن عمار بن یاسر رضی الله عنه قال: کنت عند أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام فی بعض غزواته فمررنا بواد مملوء نملاً فقلت: یا أمیر المؤمنین تری یکون أحد من خلق اللّه تعالی یعلم عدد هذا النمل؟ قال:

نعم یا عمار أنا أعرف رجلاً یعلم عدده وکم فیه ذکر وکم فیه أنثی؟ فقلت:

من ذلک الرجل یا مولای؟ فقال:

یا عمار ما قرأت فی سورة یس: «وَ کُلَّ شَیْ ءٍ أَحْصَیْناهُ فِی إِمامٍ مُبِینٍ » ؟ فقلت: بلی یا مولای، فقال: أنا ذلک الإمام المبین(3).

ورواه الطریحی فی المجمع وفیه: «فقال بعضهم سبحان من یعلم عدد هذا النمل فقال علیه السلام :

لا تقل کذا قل سبحان من خلق هذا النمل فقال: کأنک تعلمه یا أمیر

ص:74


1- (1) . الفقیه 3 / 609 / ح 3216، والتهذیب 6 / 95 / ح 1 .
2- (2) . إحقاق الحق 15 / 320 و 562، وج 22 / 356 و 358 .
3- (3) . بحار الأنوار 40 / 176 .

المؤمنین علیه السلام ؟ قال:

نعم لأعلمه وأعلم الذکر منه من الأنثی»(1).

وتقریب الدلالة کما مرّ أنّ إحصاء عدد النمل خارج عن قدرة البشر من دون آلیات وأدوات فضلاً عن تمییز الذکر من الأنثی، فلا محالة تعزی القدرة إلی الغیب والمرتکز بنحو مبهم فی الأذهان أنّ العلم بالمغیبات من الشؤون الخاصّة الإلهیّة، و هذا الإبهام بإجماله خاطیء فإنّ کل شیء وإن استند إلیه تعالی إلّاأنّه لا یعنی عینیّته مع الذات الإلهیّة، فإنّ الصفات الذاتیة هی التی یکون من شأنها العینیّة مع الذات الإلهی. فالإسناد أعم من إسناد الصفات الذاتیة له تعالی أو إسناد الصفات ناشئة من إسناد الأفعال له تعالی.

والقاعدة کما مرّ أنّ صفات الأفعال هی کالأفعال مخلوقة ومن شؤون الخلقة، وشؤون المخلوق قائمة حلولاً بالمخلوق وإن کان قیامها فی أصل الصدور مستند إلی الباری تعالی وهذه القاعدة بسبب غموضها ودقّة معناها ولطافة مفادها یصعب التنبّة والالتفات إلی مراعاتها فی الموارد والشؤون العدیدة الکثیرة.

وحیث إنّ بعض الأفعال من أعاظم شؤون الفعل الصادرة من الحضرة الإلهیّة فیصعب علی الفطنة إدراک کون الصفة الناشئة من ذلک الفعل من صفات المخلوق، و تلک الصفة وإن أسندت إلی الباری تعالی إلّاأنّه إسناد شؤون الفعل إلیه تعالی لا کإسناد الصفات الذاتیّة إلیه، بخلاف إسناد تلک الصفة إلی المخلوق فإنّها إسناد إمّا کصفة ذاتیّة لذلک ا لمخلوق أو إسناد فعل له بنحو یکون الفعل قائماً به وهو یغایر إسناد الفعل إلی الحضرة الإلهیة الذی هو استناد صدور ونشوء وجود منه تعالی بالذات.

السابع: ومن ثمّ نلاحظ أنّ واحداً من الصفات یسند إلیه تعالی تارة وإلی النبی صلی الله علیه و آله و سلم أخری، کما فی قوله تعالی: «وَ ما رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَ لکِنَّ اللّهَ رَمی » وکذلک

ص:75


1- (1) . مجمع البحرین 1 / 528 .

فی قوله تعالی فی غزوة الأحزاب: «وَ کَفَی اللّهُ الْمُؤْمِنِینَ الْقِتالَ » أی بعلی عندما قتل عمرو بن عبدود العامری فدخل الوهن والرعب فی قلوب الأحزاب، فصدور إیجاد الفعل فی الأصل یکون منه تعالی، وإن کان للمخلوق إسناد توسیط ووساطة ممرّ الفیض وهو الذی یشیر إلیه التقیید بالباء فی الإسناد من دون انقطاع النسبة عن العبد.

الثامن: ومن هذا القبیل ما رواه البرقی عن ابن سنان عن العلاء عن خالد الصیقل عن أبی جعفر علیه السلام قال:

إنّ اللّه فوّض الأمر إلی ملک من ملائکته فخلق سبع سماوات وسبع أرضین فلما رأی أنّ الأشیاء قد انقادت له قال: من مثلی فأرسل اللّه علیه نویرة من النار. قلت: وما النویرة؟ قال: نار مثل الأنملة فاستقبلها بجمیع ما خلق فتخیّل[فتبخل، فتخللت] لذلک حتی وصلت إلی نفسه لما أن دخله العجب(1).

فهذا الملک رغم عظم ما قام به من فعل إلّاأنه لم یعن ذلک استغنائه بذاته ولا إطلاق قدرته عن الحدود الحاصرة له بلا تناه تنحصر قدرته عندها.

التاسع: ومما یعزّز إسناد جملة من الصفات العظیمة التی یتعاظمها العقل البشری عن کونها صفات المخلوقین قوله تعالی: «وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ یَعْلَمُ ما بَیْنَ أَیْدِیهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا یَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضی وَ هُمْ مِنْ خَشْیَتِهِ مُشْفِقُونَ وَ مَنْ یَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّی إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِکَ نَجْزِیهِ جَهَنَّمَ کَذلِکَ نَجْزِی الظّالِمِینَ »2.

فنلاحظ أنّ صدور بعض الأفعال الباهرة القاهرة للعقول من أحد الأنبیاء أو بعض المخلوقات کالملائکة، أوهم جماعة من البشر إلی القول بأنّ ذلک المخلوق هو من جنس اللّه وأنّه تولّد من الذات الإلهی - العیاذ باللّه - لتعاظمهم صفات وأفعال ذلک ا لمخلوق عن أن یکون مخلوقاً. ونلاحظ رغم ذلک لم ینف اللّه

ص:76


1- (1) . بحار الأنوار 68 / 229، وسائل الشیعة 1 / 102 .

عزوجل صدور تلک الأفعال وثبوت تلک الصفات عن ذلک المخلوق وإنّما نفی إیجابها الألوهیّة وأنّهم رغم ما لهم من أفعال وصفات تتعاظم فی عقول البشر إلّا أنهم لا یخرجون بذلک عن العبودیّة.

أما تقریره تعالی لثبوت تلک الصفات والأفعال فلقوله تعالی: «مُکْرَمُونَ » أی إنّ الباری تعالی حباهم وحبوهم بالکرامات التکوینیّة فلم ینف تلک الصفات والأفعال وعظمتها عن أولئک المخلوقین فی حین أثبت لهم العبودیّة أیضاً فقال «عِبادٌ مُکْرَمُونَ » وأکّد بعد ذلک أنّ عظمة تلک الصفات والأفعال لا تستوجب الألوهیة حیث قال: «وَ مَنْ یَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّی إِلهٌ ...» .

العاشر: ما ورد فی المستفیض من لزوم الإیمان بباطن الأئمة علیهم السلام کلزوم الإیمان بظاهرهم ولزوم الإیمان بسرهم کلزوم الإیمان بعلانیتهم. فقد ورد فی الزیارات المأثورة المستفیضة قولهم علیهم السلام :

«إنی بسرکم مؤمن و لقولکم مسلم »(1)، وقولهم:

«مؤمن بسرکم و علانیتکم »، فی الزیارة الجامعة(2) وفی زیارة أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام (3).

وفی روایة عیسی بن المستفاد عن موسی بن جعفر عن أبیه علیهما السلام قال:

ولما کانت اللیلة التی أصیب حمزة فی یومها دعا به رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم فقال: یا حمزة یا عمّ رسول اللّه یوشک أن تغیب غیبة بعیدة فما تقول لو وردت علی اللّه تبارک وتعالی وسألک عن شرایع الإسلام وشروط الإیمان، فبکی حمزة وقال: بأبی أنت وأمی أرشدنی وفهّمنی فقال: یا حمزة تشهد أن لا إله إلّااللّه مخلصاً وأنّی رسول اللّه تعالی ... وأنّ علیاً أمیر المؤمنین... الأئمة من ذریته الحسن والحسین، وفی ذریته ... فاطمة سیدة نساء العالمین ... وأنّ محمّداً وآله خیر

ص:77


1- (1) . مصباح المتهجد / 821 .
2- (2) . من لا یحضره الفقیه 2 / 608، والتهذیب 6 / 99 .
3- (3) . الکافی 4 / 579، کامل الزیارات / 504 و 523، عیون أخبار الرضا 1 / 304، التهذیب 6 / 103 .

البریّة تؤمن یا حمزة بسرّهم وعلانیتهم وظاهرهم وباطنهم تحیی علی ذلک وتموت(1).

وروی فی الکافی عن أبی عبد اللّه وأبی جعفر علیهما السلام قال:

تقول إذا أصبحت:

أصبحت باللّه مؤمناً علی دین محمد وسنته ودین علی وسنته ودین الأوصیاء وسنتهم آمنت بسرّهم وعلانیتهم وشاهدهم وغائبهم ...(2).

وفی التهذیب أیضاً:

آمنت بسرّهم وعلانیتهم(3).

وغیرها من الموارد العدیدة التی یجدها المتتبّع المتضمّنة للتأکید الشدید علی أنّ من شروط الإیمان هو الإیمان بسرّهم علی حذو لزوم الإیمان بعلانیتهم، وکذا لزوم الإیمان بباطنهم علی درجة لزوم الإیمان بظاهرهم. فلا یکفی الإیمان بأنّ محمداً رسول اللّه بل من الإیمان أیضاً بباطن ذلک وسرّه وما یتضمّنه ذلک من الأعماق والأغوار الّتی لا تدرکها عقول البشر؛ وکذلک الحال فی أنّ علیاً أمیر المؤمنین وإمامة الأئمة الاثنی عشر وکون فاطمة سیّدة النساء، فإنّ لحقیقة ذلک باطناً وعمقاً لابد من الإیمان به إجمالاً؛ بل باطنه وسرّه علی درجات کحبل ممدود من عند اللّه إلی ما هو ظاهر بین أیدی الناس.

ومن ثم ورد توصیفهم صلوات اللّه علیهم بحبل اللّه المتین أی ذو درجات ومقامات تتصاعد إلی قرب العندیّة للحضرة الإلهیّة.

ففی مصحّح جابر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

إنّ أمرنا سر فی سر وسر مستسر وسر لا یفید [

لا نعید]

إلّاسر وسر علی سر وسر مقنّع بسرّ(4).

وروی ابن محبوب عن مرازم قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

إنّ أمرنا هو الحق وحق

ص:78


1- (1) . بحار الأنوار 22 / 278 عن کتاب اللهوف للسید ابن طاووس نقلاً من کتاب الوصیّة لعیسی بن المستفاد.
2- (2) . الکافی 2 / 523 .
3- (3) . التهذیب 3 / 14 .
4- (4) . بصائر الدرجات / 48 ومختصر البصائر / 126 .

الحق وهو الظاهر وباطن الظاهر وباطن الباطن وهو السر وسر السر وسر المستسر وسر مقنع بسرّ(1).

ص:79


1- (1) . مختصر البصائر / 127، وبصائر الدرجات / 49 .

إثارات حول الغلوّ

النقطة الأولی:

کیف یوفّق بین حیویّة الاختیار ومسؤولیة التکلیف والتی تقوم علی العمل وإمکان التغییر، وبین حتمیّة القضاء والقدر وما فی اللوح المحفوظ إذا اطلع علیه المعصوم علیه السلام سواء علی الصعید الفردی أو علی صعید المسؤولیة السیاسی والاجتماعی والإصلاح.

والجواب أن حتمیتهما علی وفق صدور الأفعال عن اختیار وقدرة وعلم لا إلجاء وإرغام؛ هذا مضافاً إلی عموم البداء الأعظم وهیمنته علی لوح القضاء والقدر.

النقطة الثانیة:

أنّ القول باطّلاعهم علی التدبیر الغیبی والقضاء والقدر یعنی اشتراط هذه الأوصاف فی الحاکم وبالتالی تجمید وسدّ الطریق أمام إقامة الحکومة والحکم الإسلامی لتصویر أنّ الحکومة الإلهیّة العادلة ممتنعة علی غیر المعصوم علیه السلام .

والجواب أنّ الدولة الإلهیة ممتنعة إدارتها علی غیر خلیفة اللّه فی الأرض لکن ذلک لا یستلزم القیام بأدوار مقطعیة فی بقاع من المسؤولیة مناصرة لمنهاج الهدی ومؤازرة للأئمة المعصومین علیهم السلام .

ص:80

النقطة الثالثة:

أنّ الغلاة یرهنون ویعلّقون التسلیم والطاعة للمعصومین علیهم السلام باتّصاف المعصومین علیهم السلام وواجدیتهم للصفات العلیا الملکوتیة، و هذا استکبار علی أمر اللّه وولایته بطاعة المعصومین علیهم السلام نظیر إباء أقوام الأنبیاء الذین جحدوا نبوّاتهم وعلّقوا الطاعة والتسلیم علی کون الأنبیاء ملائکة أو علی وجود صفات غیبیّة لابدّ أن یطّلع أولئک الأقوام علی وجودها فیهم کما حصل من استکبار إبلیس علی آدم وقد بیّنها الإمام علیه السلام فی الخطبة القاصعة.

وبعبارة أخری هناک جدلیة: هل المعرفة التفصیلیة توجب تسلیماً وإیماناً أکبر، أم أنّ التسلیم الحاصل من المعرفة الإجمالیة والإقرار بالعجز هو أعظم إیماناً وکمالاً أو الجمع بینهما «قولوا فینا ما شئتم و لن تبلغوا»، والضابطة أن التسلیم الإجمالی المبنی علی المعرفة الإجمالیة لابد أن تستمر علی الدوام إقراراً بالعجز عن الإحاطة بالکنه ولکن ازدیاد العلم التفصیلی یؤکد متانة المعرفة الإجمالیة.

النقطة الرابعة :

انّ هناک إثارة حول أنّ الغلو والترکیز علی الجانب الغیبی للمعصومین یسلب کونهم قدوة.

وفیه أنّ کونهم علیهم السلام ذوی جنبتین بشریة عادیة وغیبیة ملکوتیة یجعل منهم نموذجاً ونبراساً فی کیفیة ترقی الجانب البشری إلی درجات ومقامات علیا وما هو المسیر إلی ذلک فیظل الجانب العلوی منهم جذاباً والجانب الدانی منهم یفتح الأمل بإمکان الترقی والتکامل.

کما أنّ قوله تعالی: «وَ لا یَمْلِکُ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ »1 دال علی أنه لاتنال المقامات العالیة إلّابالتسلیم بالحق عن معرفة و علم.

ص:81

ص:82

3 - مدارس الرواة و تنوّعهم فی فقه المعارف (106-83)

اشارة

ص:83

ص:84

تنوّع المدرسة القمّیة

مشیخة القمیین ورؤساء محدثیهم فریقان

فقد اشتهر أنّ القمیین من أصحابنا کانوا متشدّدین فی رفض روایات المعارف الغامضة ذات الطابع الدقیق فی الأسرار کأحمد بن محمد بن عیسی الأشعری القمی ومحمد بن الحسن بن الولید؛ وقد قال الشیخ المفید فی شرح اعتقادات الصدوق:

«فأمّا نصّ أبی جعفر رحمه الله بالغلو علی من نسب مشایخ القمیین وعلمائهم إلی التقصیر فلیس نسبة هؤلاء القوم إلی التقصیر علامة علی غلوّ الناس إذ فی جملة المشار إلیهم بالشیخوخة والعلم من کان مقصّراً وإنّما یجب الحکم بالغلو علی من نسب إلی التقصیر سواء کانوا من أهل قم أم غیرها من البلاد وسائر الناس.

وقد سمعنا حکایة ظاهرة عن أبی جعفر محمد بن الحسن بن الولید رحمه الله لم نجد لها دافعاً فی التقصیر وهی ما حکی عنه أنّه قال: أوّل درجة فی الغلوّ نفی السهو عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم والإمام علیه السلام ، فإن صحّت هذه الحکایة عنه فهو مقصّر مع أنّه من علماء القمیین ومشیختهم.

وقد وجدنا جماعة وردوا إلینا من قم یقصّرون تقصیراً ظاهراً فی الدین وینزلون الأئمة علیهم السلام عن مراتبهم ویزعمون أنّهم کانوا لا یعرفون کثیراً من الأحکام الدینیة حتّی ینکت فی قلوبهم ورأیت من یقول إنّهم کانوا یلجأون فی حکم

ص:85

الشریعة إلی الرأی والظنون ویدّعون مع ذلک أنّهم من العلماء و هذا هو التقصیر الذی لا شبهة فیه»(1).

إلّا أنّ الذی نجده بالتتبّع أنّ هناک فریق آخر من کبار القمیین وأعاظمهم قد حرصوا علی جمع روایات المعارف الغامضة ذات الأسرار الدقیقة، نظیر سعد بن عبد اللّه الأشعری فی کتاب بصائر الدرجات والذی اختصره حسن بن یحیی الحلّی فی مختصر بصائر الدرجات، وکذلک محمد بن الحسن بن الفروخ الصفّار فی کتاب بصائر الدرجات، وأحمد بن إسحاق القمی حیث روی کتاب الحسن بن العباس بن الحریش فی شأن «إِنّا أَنْزَلْناهُ ...» ومحمّد بن عبد اللّه الجعفری.

وکذلک علی بن محمد بن علی الخزاز القمی صاحب کتاب کفایة الأثر فی النص علی الأئمة الاثنی عشر، وکذلک جعفر بن محمد بن قولویه صاحب کتاب کامل الزیارات والذی ضمّنه لطائف عالیة من المعارف والبصائر، وعلی بن إبراهیم بن هاشم صاحب التفسیر وکذا محمد بن أحمد بن یحیی الأشعری القمی صاحب کتاب النوادر وأحمد بن محمد بن خالد البرقی صاحب کتاب المحاسن، وغیرهم؛ فإنّهم قد رووا فی الفضائل من أسرار المعارف وغوامضها الدقیقة وکذا رووا کتباً لکثیر من الرواة ممن یتمحّض فی هذا المجال.

ولولا روایة هذا التیار القمی من الرواة لها لضاعت عن الوصول إلینا، وملاحظة هذه الظاهرة فی المدرسة القمیة ضرورة فی إعطاء صورة واضحة عن معالم مذهب أهل البیت علیهم السلام فی زمن الأئمة علیهم السلام وعصر الرواة المعاصرین لهم، وتبین وتوضیح لما هو مرتکز من ثوابت المذهب والمنهاج لهم علیهم السلام ، وأنّ التیار الآخر القمی وتیار المدرسة الکلامیة أو التیار الفقهی للرواة المتمحض فی فقه الفروع لا یستحوذ علی التمثیل المطلق لسیرة أتباع وأصحاب أهل البیت علیهم السلام کما

ص:86


1- (1) . تصحیح الاعتقاد / 135 - 136 .

أن موقف هؤلاء لا یشکل تسالماً قاطباً شمولیاً لعلماء المذهب، وأنه لابد من دراسة أطیاف مدارس الرواة وتیاراتهم المتنوّعة کی تتضح الأبعاد المختلفة للشخصیة العلمیة لأئمة أهل البیت علیهم السلام و أنهم ذووا زوایا عدیدة من العلوم وأنواع المعرفة. وکم دراسة دونت من باحثین شطّ بهم البحث للعکوف علی مدرسة معینة من الرواة وتصویر أنهم یمثلون تمام معالم أهل البیت علیهم السلام آنذاک. وعلی هذا یتم التقییم لکثیر من المبانی التی بنی علیها النجاشی والکشی فی التضعیف والجرح.

ص:87

نضج المعارف بنحو العمق العالی عند ثلّة من

الرواة من أصحاب الأئمّة فی القرون الثلاثة الأولی

قد عُرف عند غیر واحد من الأکابر أنّ المعارف فی مقامات النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته علیهم السلام فی هذه القرون قد تبلورت واتّضحت بنحوٍ تفصیلی، وقد تبدّهت کثیر من الحقائق مما کانت خفیّة علی الرواة وأصحاب الأئمة علیهم السلام وطبقات الشیعة فی الصدر الأول. وقد توهّم من هذه المقولة جملة من الخصوم أو ممّن هم من المقصّرة فی معارف أهل البیت علیهم السلام أنّ مثل هذه الحقائق الاعتقادیة فی شأن أهل البیت علیهم السلام ولیدة هذه القرون المتأخّرة، وأنّ معالم نظام هذه المعارف لم یکن بهذا الشکل فی الأزمان الأولی.

ولکنّ هذه المقالة إن صحّت علی تقدیر فهی خاطئة من تقدیر آخر، أی أنّها تصحّ بلحاظ أکثر الرواة والجملة الوافرة من أتباع أهل البیت علیهم السلام ولا تصحّ عند ثلّة الرواة الأخری ممّن عرفوا بروایات المعارف وقد طعن علیهم الفریق الأول بالغلوّ والارتفاع والطیّارة، بل ربما وصفهم بفساد المذهب ورموهم بضعف الحدیث وأنّهم یأتون بالمناکیر أو المخلّطون إلی غیر ذلک من التعابیر التی یشاهدها المتتبّع مشحونة فی کتب الرجال والحدیث من الفریق الأول من الرواة أو الرجالیین تجاه الفریق الثانی، مع أنّ الذی یرویه الفریق الثانی هو من أسرار المعارف. فوجود هذه القائمة الکبیرة جداً من تعداد الرواة المطعون علیهم بالغلوّ والارتفاع والطیارة

ص:88

وعبر طبقات متقادمة فی الرواة من أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام أو الحسنین علیهما السلام فضلاً عن عهد زین العابدین والباقر والصادق علیهم السلام فضلاً عن الأئمة اللاحقین علیهم السلام ، شاهد علی انتشار البحث المعرفی حول دقائق الأسرار ولطائف البصائر منذ ذلک الزمن.

فوجود ظاهرة الغلاة والغلوّ ولو کالطعن الصادر من المخالفین ومن وسط الرواة ذوی الطابع الکلامی الفقهی - منذ تلک الأزمنة - شاهد علی أن مستوی البحث المعرفی العقائدی لم یکن سطحیاً کما یتصوّر، و أن العمق حادث فی القرن الثالث أو الرابع والخامس.

کما أنّ وجود ثلة من الحواری لأمیر المؤمنین علیه السلام ممن أعطوا علم المنایا والبلایا وغیرها من علوم غرائب القدرة کمیثم التمار ورشید الهجری وأمثالهم کجابر بن یزید الجعفی والمفضل بن عمر الجعفی ومحمد بن سنان وکثیر من غیرهم فی تلک الطبقات هو الشاهد الثالث علی علوّ مستوی البحث المعرفی والعقائدی فی زمن أئمة أهل البیت علیهم السلام .

والشاهد الرابع: أنا قد ذکرنا فی طابع المدرسة القمیة أنّ هناک تیار کبیر أصیل، من أصحاب الجواد علیه السلام والعسکریین قد کانوا یدمنون روایة المعارف العالیة ودقائقها ورعایة نقل کتبها.

والشاهد الخامس: ما یلاحظ ممّا رواه الفریقان من ظواهر تعامل المسلمین والمؤمنین مع النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته علیهم السلام مما تعکس عمق فی المعرفة فی الجملة بمقاماتهم الملکوتیّة؛ نظیر ازدحام الناس علی التبرک بفضل وضوء رسول اللّه، حتی الشافعی حکم بطهارة بول ودم النبی صلی الله علیه و آله و سلم کما حکاه العلامة فی التذکرة، لأنّ بعض المسلمین ممّن عاصروا رسول اللّه أقدموا علی شربهما(1) فقد روی الحاکم

ص:89


1- (1) . تذکرة الفقهاء 1 / 49 و 57، وراجع: فتح العزیز 1 / 178 - 179، والوجیز 1 / 7 .

النیسابوری فی مستدرکه أن أم أیمن شربته(1) و أن أبا ظبیة الحجام شرب دم النبی(2).

ولیتنبّه القاریء أنا لسنا فی صدد بیان حکم هذه الأشیاء؛ وإنما فی صدد بیان مدی الإرهاصات التی کان یشاهدها من یتعایش مع النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته علیهم السلام بحیث کانت تدفعهم إلی مثل هذه الأفعال.

وکذا ما رواه ابن شهرآشوب والکشی وغیرهما من أن جماعة عندما شاهدوا بعض الآیات التی جرت علی ید علیّ علیه السلام قالوا بتألیهه(3).

وقد حکی عن بعض أصحاب الحسین حینما رؤی منه استماتة فی الفداء وعدم الاکتراث بأهوال فی واقعة کربلاء قیل له أجننت؟(4).

وکذا ما روی من انفراج المسلمین عند الکعبة سماطین فی أوج ازدحام الحج للإمام علی بن الحسین علیه السلام ولم یفرجوا لهشام بن عبد الملک رغم مجیئه مع جلاوزته وأزلامه فظل ینتظر، فسألوه عن هذا الرجل الذی أفرج له الناس فانبری الفرزدق بقصیدته العسماء المعروفة والتی تضمّنت مثل قوله:

هذا ابن فاطمة الغراء نسبته فی جنّة الخلد یجری باسمه قلم

من معشر حبهم دین وبغضهم کفر وقربهم منجی ومعتصم

مقدم بعد ذکر اللّه ذکرهم فی کل بدء ومختوم به الکلم

من یعرف اللّه یعرف أولیة ذا فالدین من بیت هذا ناله الأمم(5)

ص:90


1- (1) . مستدرک الحاکم 4 / 63 .
2- (2) . تلخیص التحبیر 1 / 179 .
3- (3) . الکشی / رقم 138 و 556، مناقب آل أبی طالب 1 / 227 .
4- (4) . بحار الأنوار 45 / 358 .
5- (5) . الاختصاص / 191، مناقب ابن شهرآشوب 3 / 307 .

إلی غیر ذلک من عشرات بل مئات الموارد التی یقف علیها المتتبّع من أحوال وسیرة الناس معهم، ممّا تعکس وجود ارهاصات غیبیّة وآیات إعجازیّة تنمّ وتعکس عن مقامات غیبیّة للنبی وأهل بیته علیهم السلام استشفّها الناس وعاینوها ولمسوها، وإن أدّت بعض ا لحالات إلی الغلو والانحراف، إلّاأنّ ذلک لم یکن من فراغ بل لما شاهدوه من أشعة الملکوت المنیرة من النبی وأهل بیته علیهم السلام ، کما هو الحال فی غلوّ النصاری فی عیسی، فإنّ الغلو وإن کان انحرافاً إلّاأن منشأه ما شاهدوه من ولادة النبی عیسی من غیر أب وإحیائه الموتی وشفائه للأعمی والأکمه والأبرص ومن کونه مبارکاً أینما کان.

و هذا یفنّد ما یدّعی ویقال إنّ هذه المعارف العمیقة فی مقامات أهل البیت علیهم السلام إنما تبلورت فی القرون اللاحقة المتأخّرة من الغیبة الکبری ولم تکن فی مذهب أهل البیت فی زمن المعصومین علیهم السلام . فإنّ المتتبّع کما ذکرنا لو توسّع فی البحث والاستقصاء لشاهد العجائب والغرائب مما یفوق ما علیه الآن من المعرفة والنظرة تجاه مقامات أهل البیت علیهم السلام . فلاحظ ما کتبه المزّی - وهو من علماء أهل السنة وکان صدیقاً حمیماً لابن تیمیّة ومعاصراً للذهبی - فی تهذیب الکمال فی ترجمة الإمام جعفر بن محمد علیهما السلام من إرهاصات ومعجزات وکمالات تفوق البشر بأسانید متّصلة عنده. وکذا ما رواه ابن عساکر فی ترجمة أمیر المؤمنین علیه السلام والحسنین وبقیة الأئمة بأسانید متّصلة وکذا غیرهم من أرباب التراجم من علماء أهل السنة.

ص:91

وجود التنافر بین تیارات الرواة فی المعارف

1 - روی الکلینی عن علی بن إبراهیم عن السری بن الربیع قال: لم یکن ابن أبی عمیر یعدل بهشام بن الحکم شیئاً وکان لا یغبّ إتیانه ثم انقطع عنه وخالفه وکان سبب ذلک أن أبا مالک الحضرمی کان أحد رجال هشام ووقع بینه وبین ابن أبی عمیر ملاحاة فی شیء من الإمامة. قال ابن أبی عمیر: الدنیا کلّها للإمام علیه السلام علی جهة الملک وأنه أولی بها من الذین هی فی أیدیهم، وقال أبو مالک: لیس کذلک، أملاک الناس لهم إلّاما حکم اللّه به للإمام من الفیء والخمس والمغنم فذلک له. و ذلک أیضاً قد بین اللّه للإمام أین یضعه وکیف یصنع به فتراضیا بهشام بن الحکم وصار إلیه، فحکم هشام لأبی مالک علی ابن أبی عمیر، فغضب ابن أبی عمیر وهجر هشاماً بعد ذلک(1).

و هذا المشهد یشیر إلی اختلاف المشرب الکلامی عند الرواة المتمثّل فی هشام بن الحکم والمشرب الحدیثی الذوقی الإشاری المتمثّل فی ابن أبی عمیر.

وفی هذه المشادّة یتبیّن غموض لطائف المعانی علی أصحاب المنهج الکلامی والمنهج الفقهی بخلاف ذوی المنهج الإشاری الحدیثی فإنّهم یصطادون اللطائف والدقائق ویقتدرون علی التوفیق الفقهی لأدقّ وأصعب المسائل.

ص:92


1- (1) . الکافی 1 / 410، باب أن الأرض کلها للإمام.

فإنّ ملکیّة الإمام للأرض هنا لیس علی حذو الملکیّة الشخصیّة وأحکامها وآثارها، بل المراد ما هو أعظم وأشد ملکیّة وهو ملک التدبیر والتصرّف المعبّر عنه بالولایة، ولا ریب أنّ الأرض کلّها تحت ولایة وتدبیر وقیادة الإمام، إذ هو خلیفة اللّه فی الأرض ومن ثم کان النبی صلی الله علیه و آله و سلم أولی بالمؤمنین من أنفسهم وکذلک خلفاؤه وأوصیاؤه من بعده فلا تقاطع الملکیّة الشخصیة.

2 - وروی الکشی بسنده عن جعفر بن محمد بن حکیم الخثعمی قال:

اجتمع هشام بن سالم وهشام بن الحکم وجمیل بن درّاج وعبد الرحمن بن الحجّاج ومحمد بن حمران وسعید بن غزوان ونحو من خمسة عشر رجلاً من أصحابنا، فسألوا هشام بن الحکم أن یناظر هشام بن سالم فیما اختلفوا فیه من التوحید وصفة اللّه عزوجل وغیر ذلک لینظروا أیّهما أقوی حجة فرضی هشام بن سالم أن یتکلّم عنه [عند] محمد بن أبی عمیر ورضی هشام بن الحکم أن یتکلّم عنه [عند] محمد بن هشام، فتکالما وساق ما جری بینهما وقال قال عبد الرحمن بن الحجّاج لهشام بن الحکم: کفرت و اللّه باللّه العظیم وألحدت فیه، ویحک ما قدرت أن تشبه بکلام ربّک إلّاالعود یضرب به! قال جعفر بن محمد بن حکیم فکتب إلی أبی الحسن موسی علیه السلام یحکی له مخاطبتهم وکلامهم ویسأله أن یعلّمه القول الذی ینبغی تدین اللّه به من صفة الجبّار؟ فأجابه فی عرض کتابه:

«فهمت رحمک اللّه، رحمک اللّه إنّ اللّه أجل وأعلی وأعظم من أن یبلغ کنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه وکفّوا عما سوی ذلک»(1).

و هذا المجلس ونحوه من الندوات العلمیّة تعکس مدی تنوّع وتعدّد مشارب المعرفة لدی ا لرواة بل تنوّع المدارس الکلامیة فی نفسها فضلاً عن الفروق بینهما ورواة اللطائف والإشارات فی العقائد والمعرفة.

ص:93


1- (1) . الکشی / رقم 500 .

والجدیر بالذکر أنّ هشام بن سالم والذی تلمّذ علیه ابن أبی عمیر أیضاً کان ذا مشرب یعتمد التحلیل والتذوّق لغوامض المعانی یغایر مسلک هشام بن الحکم الذی کان ذا عارضة کلامیّة قویّة وذا باع جدلی متمرّس.

3 - محمد بن الحسن البرانی وعثمان قالا حدثنا محمد بن یزداد عن محمد بن الحسین عن الحجّال عن أبی مالک الحضرمی عن أبی العباس بقباق، قال:

تدارء ابن أبی یعفور ومعلّی بن خنیس فقال ابن أبی یعفور: الأوصیاء علماء أبرار أتقیاء وقال ابن خنیس: الأوصیاء أنبیاء. قال: فدخل علی أبی عبد اللّه علیه السلام قال: فلمّا استقرّ مجلسهما، قال: فبدأهما أبو عبد اللّه علیه السلام ، فقال:

یا عبد اللّه ابرأ ممّن قال أنّا أنبیاء(1).

والحدیث یبیّن صعوبة فهم المسائل المعرفیة وغموضها حتی علی الفضلاء من الرواة ممن لهم اهتمام فی روایة المعارف.

ص:94


1- (1) . الکشی / 321 / ح 456 .

رواة المعارف ورواة الفروع

اشارة

1 - روی الصفار فی البصائر بسند صحیح أعلائی قطعی الصدور عن محمد بن مسلم قال: دخلت علیه بعدما قتل أبو الخطاب قال: فذکرت له ما کان یروی من أحادیثه (ویرتکب) تلک العظام قبل أن یحدث ما أحدث، فقال:

بحسبک و اللّه یا محمد أن تقول فینا یعلمون الحرام والحلال وعلم القرآن وفصل ما بین الناس.

فلما أردت أن أقوم أخذ بثوبی فقال:

یا محمد وأیّ شیء الحلال والحرام فی جنب العلم؟ إنّما الحلال والحرام فی شیء یسیر من القرآن(1).

و هذا الحدیث یبیّن مدی أهمّیة أبواب العقائد علی أبواب فروع الفقه، وأنّ کلّاً من العلمین وإن کان من أجزاء الدین الحنیفی العظیم کما جاء فی التوصیة النبویة:

«العلم ثلاثة: آیة محکمة وسنة قائمة وفریضة عادلة، وما سواهن فضل» إلّا أنّه صلی الله علیه و آله و سلم ابتدأ أوّلاً بتصدیر العقائد وهی الآیة المحکمة، ثم السنّة القائمة وهی علوم الأخلاق وتهذیب النفس والآداب، ثم الفریضة العادلة وهی فقه الفروع وإن فسّرت بمسائل الإرث، إلّاأنّ أهمیة المعارف والعقائد أهمیة لا یقاس بها فقه الفروع.

وقد استنبط غیر واحد من المحققین من هذا الحدیث النبوی أنّ الاستقامة

ص:95


1- (1) . بصائر الدرجات 1 / 387 ح 730 .

فی المعرفة الدینیة لا تستتمّ إلّابهذه العلوم الثلاثة، فلو اقتصر علی أحدها دون الآخرین لسبّب إخفاقاً، وهو استظهار متین، إلّاأنّ ذلک لا یعنی عدم المفاضلة بین هذه العلوم وشدّة درجة علوم المعارف، کما أنّ المفاضلة لا یعنی الاقتصار علی ما هو أفضل وترک المفضول بعد ضرورة کلّ منها ووجوبه، فلا إفراط ولا تفریط، إلّا أنّ الکلام فی صدد بیان أهمیة علوم العقائد والمعارف وأنّ رواة المعارف ذوی درجة عالیة من المکانة والمقام وإن کان ذلک لا یستلزم الحطّ من رواة الفقه والآداب والسنن. وأنه کما وردت مدایح عظیمة فی مثل زرارة ومحمد بن مسلم وبرید وأبی بصیر فقد وردت مدایح عظیمة فی مثل جابر بن یزید وسلمان وأبی ذر والمقداد والمفضّل ومحمد بن سنان.

والحاصل: أنّه لابدّ من إقعاد قواعد رصینة متینة فی مبانی الرجال مستندة إلی أصول المعارف غیر مقتصرة علی ما عند أرباب الجرح والتعدیل من الاقتصار علی قواعد فقهیة فی الفروع فقط أو قواعد کلامیة جدلیة، و هذا ما یبیّن بإلحاح ضرورة مواصلة الدراسات فی تراث المعارف من أبواب وزوایا عدیدة ومن أهمّ تلک الأبواب دراسة أبواب رواة المعارف ومدارسهم ومشاربهم.

ومع ذلک تری النجاشی یقول فی مقام الطعن علی جابر بن یزید الجعفی:

«و کان فی نفسه مختلطاً ... وقلّما یورد عنه شیء فی الحلال والحرام».

قال المیرزا النوری تعلیقاً علی کلام النجاشی: «قد کان جملة من المسائل المتعلّقة بالمعارف عند جماعة من أعاظم هذا العصر من المناکیر التی یضلّلون معتقدها وینسبونه إلی الاختلاط، کوجود عالم الذرّ والأظلّة عند الشیخ المفید، وطی الأرض عند علم الهدی، ووجود الجنّة والنار الآن عند أخیه الرضی، وأمثال ذلک ممّا یتعلّق بمقاماتهم علیهم السلام وغیره، مع تواتر الأخبار وصیرورتها کالضروریات فی هذه الأعصار. وظاهر أنّ من یری الذی یروی خلاف ما اعتقده ینسبه إلی الاختلاط بل الزندقة ومن سبر روایات جابر فی هذه الموارد وغیرها یعرف أنّ

ص:96

نسبة الاختلاط إلیه اعتراف له ببلوغه المقامات العالیة والذروة السامیة من المعارف».

وقال فی معرض ردّه أیضاً بعد ما بیّن کثرة روایات جابر فی الحلال والحرام:

«ومع الغضّ نقول لیس هذا وهناً فیه، فإنّ القائمین بجمع الأحکام فی عصره کان أکثر من أن یحصی، فلعلّه رأی أن جمع غیرها مما یتعلّق بالدین کالمعارف والفضائل والمعاجز والأخلاف والساعة الصغری والکبری أهمّ ونشرها ألزم، فکلّها من معالم الدین وشعب شریعة خاتم النبیین کما أنّ قلّة ما ورد من زرارة وأضرابه فی هذه المقامات لا تورث وهناً فیهم ولکلّ وجهة هو مولّها»(1).

2 - وممّا یشیر إلی تنوّع اختصاص الرواة وتخصّص بعضهم بأحکام الفروع بخلاف بعض آخر، ما ورد من الروایات فی مدح زرارة وأبی بصیر ومحمد بن مسلم وبرید من تخصیص باعهم العلمی بالحلال والحرام ففی صحیح سلیمان بن خالد الأقطع قال: سمعت أبا عبد اللّه یقول:

ما أحد أحیی ذکرنا وأحادیث أبی إلّا زرارة وأبو بصیر لیث المرادی ومحمد بن مسلم وبرید بن معاویة العجلی، ولولا هؤلاء ما استنبط أحد هذا. هؤلاء حفاظ الدین وأمناء أبی علی حلال اللّه وحرامه، وهم السابقون إلینا فی الدنیا والسابقون إلینا فی الآخرة(2).

وهذه الروایة دالّة بوضوح علی أنّ التخلیط فی المعارف والزیغ فیها لا یعالج إلّا بالاستقامة علی وفق مقتضی ظاهر الشریعة، وهو الذی یؤمنه فقه الفروع. ومن ثمّ کان أصحاب أبی الخطاب أشدّ عداوة مع هؤلاء الأربعة من الرواة الآخرین من أصحاب المعارف.

3 - ویعکس هذه الظاهرة أیضاً ما فی مصحّحة مفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یوماً ودخل علیه الفیض بن المختار فذکر له آیة من کتاب اللّه

ص:97


1- (1) . خاتمة المستدرک 4 / 218 - 219 .
2- (2) . الکشی / ح 219 .

عزوجل تأوّلها أبو عبد اللّه علیه السلام فقال له الفیض: جعلنی اللّه فداک، ما هذا الاختلاف الذی بین شیعتکم قال:

وأیّ الاختلاف یا فیض؟ فقال له الفیض: إنّی لأجلس فی حلقهم بالکوفة فأکاد أن أشکّ فی اختلافهم فی حدیثهم حتّی أرجع إلی المفضل بن عمر فیوقفونی من ذلک علی ما تستریح إلیه نفسی ویطمئن إلیه قلبی فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

أجل هو کما ذکرت یا فیض إنّ الناس أولعوا بالکذب علینا - إلی أن قال علیه السلام : - فإذا أردت بحدیثنا فعلیک بهذا الجالس وأومأ إلی رجل من أصحابه فسألت أصحابه عنه فقالوا: زرارة بن أعین(1).

فإنّ هذا الحدیث أیضاً یشیر بوضوح إلی أنّ الراوی لما أشکل علیه اختلاف الحدیث حتی أدّی به ذلک إلی الشک - مما یدلّ علی توسط بصیرته ومعرفته - لم یرجعه الإمام إلی المفضل بن عمر وإنّما أرجعه إلی زرارة حیث إنّه بالتمسک بواضح الأحکام وظاهر الشریعة من الحلال والحرام یؤمن من التحیّر والوقوع فی الزیغ والانحراف.

4 - و مما یعکس أیضاً اختلاف رواة الفروع عن رواة المعارف ما رواه علی بن أسباط قال: أخبرنی عبید اللّه بن راشد، عن عبیدة بن زرارة قال: دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام وعنده البقباق - یعنی أبا العباس - فقلت له: رجل أحبّ بنی أمیّة أهو معهم؟ فقال لی: نعم، قال: قلت: فرجل أحبّکم أهو معکم؟ قال: فقال لی:

نعم، قال: قلت: وإن زنی وإن سرق؟ فالتفت إلی البقباق فوجد منه غفلة، فقال برأسه:

نعم(2).

ویلاحظ أنّ الفضل بن عبد الملک أبا العباس البقباق رغم جلالته ووثاقته - وقد عدّه الشیخ المفید من الفقهاء الأعلام والمأخوذ منهم الحلال والحرام - إلّاأنّه لم یتمرّس فی المعارف ولم یجمع بین الفقاهة وعلوّ المعارف العقائدیّة کعبید بن

ص:98


1- (1) . الکشی / ح 216 .
2- (2) . الأصول الستة عشر - کتاب نوادر علی بن أسباط / 344 / ح 574 .

زرارة الذی کان له حظّ من ذلک، فمن ثم کان الإمام یتحاشی اطلاعه علی لطائف المسائل المعرفیّة.

ولا یتوهّم من هذا الحدیث أنّ المؤمن إذا ارتکب المعاصی لا یبتلی بما یمحّصه ویطهّره من الذنوب من الابتلاءات والعقوبات. وقد أوضح ذلک فی مکاتبة الصادق للمفضل بن عمر التی ستأتی فی هذا الجزء ببسط وتفصیل فلاحظ.

رواة المعارف أقوی فی بحوثها من رواة الفروع

من الأمور التی یتمیز بها رواة المعارف الذین یختصّون بروایة لطائف المعارف والإشارات فیها عن أهل البیت علیهم السلام أنّ تمرّسهم وغورهم فی أعماق المسائل العقائدیة أکفأ بکثیر من رواة الفروع ومن متکلّمی الرواة، حیث إنّ نجوم متکلّمی الرواة هم أنفسهم نجوم رواة الفقه من الحلال والحرام.

ومن الشواهد علی ذلک ما یلاحظ من الحواریّات والنقاشات الدائرة بین تیّار البتریة(1) وکلّ من رواة المعارف ورواة الفروع، حیث یری أنّ رواة المعارف بسبب تضلّعهم وتبحّرهم فی هذا المجال لا یقوی البتریة علی مجابهتهم ومواجهتهم بل یضعفون وینتکسون أمامهم، ومن ثم یستفزّ البتریة مقالات وروایات أصحاب المعارف کما سنتعرّض إلی جملة من النماذج.

وعلی عکس ذلک یلاحظ فی النقاش الدائر بین تیّار البتریة ورواة الفقه والکلام فإنّه قد یلاحظ من رواة الفقه التوقّف والانقطاع أمام إثارات البتریة وعدم القدرة علی الجواب حتی یلجئهم الحال إلی استعلام الجواب التفصیلی وتقدیم السؤال علی الأئمة علیهم السلام .

ص:99


1- (1) . سیأتی فی هذا الجزء نبذة من أحوال البتریة تلک الجماعة المخلّطة الذین خلطوا ولایة أهل البیت علیهم السلام مع ولایة الخلفاء الغاصبین، ولا یتحمّلون کثیراً من مقامات أهل البیت علیهم السلام .

فمن نماذج النمط الأوّل ما یظهر من موقف جابر الجعفی الذی هو من کبار رواة المعارف والمختصین بلطائف الأسرار - وقد مضت ترجمته فی الجزء السابق - ومغیرة بن سعید وأبا الخطّاب مع روّاد البتریة، کأمثال سفیان الثوری وابن عیینة وکثیر النوا.

نظیر ما رواه الکشی عن الحمیدی قال: سمعت ابن أکثم الخراسانی قال لسفیان: أرأیت یا أبا محمد الذین عابوا علی جابر الجعفی قوله: حدثنی وصیّ الأوصیاء؟ فقال سفیان: هذا أهونه(1).

فإنّه ظاهر بیّن من مفاد هذه الروایة أنّ مقالات جابر وروایاته تصعب علی روّاد البتریة سماعها أو الحدیث عنها وأنّها کانت تستفزّهم.

وکذا ما رواه ابن عدی فی الکامل بسنده عن شهاب قال: سمعت ابن عیینة یقول: ترکت جابر الجعفی وما سمعت منه، قال: «دعا رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم علیاً یعلّمه ما یعلمه ثم دعا علی الحسن فعلّمه ما یعلم ثم دعا الحسن الحسین فعلّمه ما یعلم حتی بلغ جعفر بن محمد» قال: فترکته لذلک ولم أسمع منه.

وروی أیضاً عن الحمیدی یقول: سمعت سفیان الثوری یقول: سمعت جابر الجعفی یقول: انتقل العلم الذی کان فی النبی صلی الله علیه و آله و سلم إلی علی ثم انتقل من علی إلی الحسین بن علی ثم لم یزل حتی بلغ جعفر بن محمد قال: وقد رأیت جعفر بن محمد(2).

ومن هاتین الروایتین یظهر أنّ مقالة رواة أسرار المعارف کانت هی الشغل الشاغل المثیرة لدی البتریة وأنّ روّاد الحاملین لرایة أهل البیت علیهم السلام فی الرواة هم ذلک الفریق الذین یختصّون بروایة لطائف المعارف وغورها.

وکذا ما رواه القطب الراوندی عن جابر قال: کنّا عند الباقر علیه السلام نحواً من

ص:100


1- (1) . رجال الکشی رقم 316، والکافی 1 / 396 .
2- (2) . الکامل فی ضعفاء الرجال 2 / 115، وقد رواه الذهبی فی میزان الاعتدال.

خمسین رجلاً إذ دخل علیه کثیر النوّاء فسلّم وجلس ثم قال: إنّ المغیرة بن عمران عندنا بالکوفة یزعم أنّ معک ملکاً یعرّفک الکافر من المؤمن وشیعتک من أعدائک.

قال:

ما حرفتک؟ قال: أبیع الحنطة، قال:

کذبت، قال: وربما أبیع الشعیر قال:

لیس کما قلت، بل تبیع النوی، قال: من أخبرک بهذا؟ قال:

الملک الذی یعرّفنی شیعتی من عدوّی، لست تموت إلّاتائهاً.

قال جابر الجعفی: فلما انصرفنا إلی الکوفة ذهبت فی جماعة نسأل عن کثیر فدللنا علی عجوز فقالت: مات تائهاً منذ ثلاثة أیام(1).

وفی هذا الحدیث دلالة علی عدم تحمّل کثیر النواء الذی کان من البتریّة مقالة وروایة المغیرة فمن ثمّ کانت مقالته تهیج روّاد البتریة ککثیر النواء.

کما یظهر من هذه الروایة أنّ نمط المعارف التی کان یرویها هی من تحف ونفائس بحوث ومسائل المعارف.

وکذا ما رواه ابن أبی الحدید عن کثیر النوا قال: قلت لأبی جعفر محمد بن علیّ علیه السلام : جعلنی اللّه فداک أرأیت أبا بکر وعمر هل ظلماکم من حقّکم شیئاً - أو قال: ذهبا من حقّکم شیء - فقال:

لا والذی أنزل القرآن علی عبده لیکون للعالمین نذیراً ما ظُلمنا من حقّنا مثقال حبّة من خردل قلت: جعلت فداک أفأتولاهما؟ قال:

نعم ویحک تولّهما فی الدنیا والآخرة وما أصابک ففی عنقی ثم قال:

فعل اللّه بالمغیرة وبنان فإنّهما کذبا علینا أهل البیت(2).

وکذا ما رواه فی الخرائج والجرائح عن داود بن کثیر الرقی قال: کنت عند الصادق علیه السلام أنا وأبو الخطاب والمفضّل وأبو عبد اللّه البلخی إذ دخل علینا کثیر النوا فقال: إنّ أبا الخطاب هذا یشتم أبا بکر وعمر ویظهر البراءة منهما.

ص:101


1- (1) . الخرائج والجرائح 1 / 276 .
2- (2) . شرح نهج البلاغة 16 / 220 .

فالتفت الصادق علیه السلام إلی أبی الخطاب وقال: یا محمد ما تقول؟ قال: کذب و اللّه ما سمع منّی قطّ شتمهما، فقال الصادق:

قد حلف ولا یحلف کاذباً. فقال: صدق لم أسمع أنا منه ولکن حدّثنی الثقة به عنه، قال الصادق علیه السلام :

وإن الثقة لا یبلّغ ذلک.

فلمّا خرج کثیر قال الصادق علیه السلام :

أما و اللّه لئن کان أبو الخطاب ذکر ما قال کثیر لقد علم من أمرهما ما لم یعلمه کثیر و اللّه لقد جلسا مجلس أمیر المؤمنین علیه السلام غصباً فلا غفر اللّه لهما ولا عفا عنهما ...(1).

ویظهر من هاتین الروایتین أنّ البتریة کانوا یتحسّسون بشدّة من التبرّی عن الشیخین الذی کان یجاهر به جملة من رواة المعارف، وینثارون بتلجلج فی کیفیة مواجهتم.

ومن نماذج النمط الثانی ما رواه الکشی عن زرارة قال: لقیت سالم بن أبی حفصة فقال لی: ویحک یا زرارة إنّ أبا جعفر قال لی:

أخبرنی عن النخل عندکم بالعراق ینبت قائماً أو معترضاً؟ قال: فأخبرته أنه ینبت قائماً، قال: فأخبرنی عن ثمرکم حلو هو؟ وسألنی عن حمل النخل کیف یحمل؟ فأخبرته.

وسألنی عن السفن تسیر فی الماء أو فی البر؟ قال: فوصفت له أنّها تسیر فی البحر ویمدونها الرجال بصدورهم، فأتم بإمام لا یعرف هذا. قال: فدخلت الطواف و أنا مغتم لما سمعت منه فلقیت أبا جعفر علیه السلام فأخبرته بما قال لی، فلما حاذینا الحجر الأسود قال:

أله عن ذکره و اللّه لا یؤل إلی خیر أبداً.

قال المیرداماد: ولعمر الحبیب أنّ سالم بن أبی حفصة فی البلادة وکلال الفطانة لعریض القفا، لم یحم حول سر کلام أبی جعفر علیه السلام ومعناه ولم یهتد لسمت سبیله ومغزاه.

«فالنخل عندکم بالعراق» تعبیر عن أهل العراق لما بین الإنسان والنخل من

ص:102


1- (1) . الخرائج والجرائح 1 / 297 .

کمال المناسبة وشدّة المشابهة ومن هناک فی الحدیث اکرموا عمّتکم النخلة.

«ونباته قائماً أو معترضاً» کنایة عن نشوء المرء مستقیماً فی الدین أو معوجاً فی الاعتقاد.

وثمرکم عبارة عن أبنائکم وأولادکم، کما قد ورد فی تفسیر قوله عزّ من قائل:

«وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ » .

و «حلو» هو سؤال عن حلاوة المذهب والسلامة عن مرارة فاکهة السیرة وبشاعة طعم العقیدة.

و «السفن» المراد الأئمة الحجج صلوات اللّه علیهم لقوله صلی الله علیه و آله و سلم : مثل أهل بیتی کمثل سفینة نوح.

والسؤال عن

«سیرها فی الماء أو فی البر» معناه أنّهم علیهم السلام عندکم أهل العراق مطاعون فی الحکم أو معطلون عن الاتباع والإطاعة.

کان زرارة رحمه اللّه تعالی أیضاً طفیف القسط من توقد الفطنة والتفطّن لدخلة الأسرار وإلّا فما وجه الاغتمام لذلک(1).

أقول: وفی هذه الروایة إشارة إلی أنّ رواة الفقه یختلف تمرّسهم عن رواة المعارف ولم تکن لهم المهارة التی امتاز بها رواة المعارف.

وقد تحدث بین رواة الفقه والبتریّة وهم التلفیقیون بین ولایة أهل البیت علیهم السلام وولایة أصحاب السقیفة والذین ینکرون المقامات الغیبیة للأئمة علیهم السلام نزاعات ومشادّات حول تلک المقامات لا سیّما وأنّ فریق رواة المعارف ینشرونها فینثاروا فی الساحة الفکریة بینهم لغط وتجاذب فی التفسیر العلمی لتلک المقامات المرویة ولم یکن فارس هذا المیدان إلّارواة المعارف.

ومن نماذج هذا النمط أیضاً ما رواه الکشی عن أبی عبیدة الحذّاء قال: قلت

ص:103


1- (1) . رجال الکشی بتعلیقة میرداماد 2 / 502 - 503 .

لأبی جعفر علیه السلام : إنّ سالم بن أبی حفصة یقول لی: ما بلغک أنه من مات ولیس له إمام کانت میتته میتة جاهلیة؟ فأقول: بلی فیقول: من إمامک؟ فأقول: أئمتی آل محمد علیه وعلیهم السلام، فیقول: ما أسمعک عرفت إماماً! قال أبو جعفر علیه السلام :

ویح سالم وما یدری سالم ما منزلة الإمام منزلة الإمام یا زیاد أعظم ممّا یذهب إلیه سالم والناس أجمعون(1).

وتبیّن هذه الروایة أنّ أبا عبیدة مع کونه من فقهاء الرواة إلّاأنّه مع ذلک لم یدل لسالم بن أبی حفصة بجواب متقن بل أخذ علیه السلام یوقفه ویبیّن له أهمّ قواعد معرفة الإمام ولکن بنحو إجمالی وببیان ابتدائی أوّلی.

وکذا ما ذکره الکشی من أنّ عمر بن ریاح البتری کان أولاً یقول بإمامة أبی جعفر علیه السلام ثم إنه فارق هذا القول وخالف أصحابه مع عدّة یسیرة بایعوه علی ضلالته، فإنه زعم أنه سأل أبا جعفر علیه السلام عن مسألة فأجابه فیها بجواب، ثم عاد إلیه فی عام آخر وزعم أنّه سأله عن تلک المسألة بعینها فأجابه فیها بخلاف الجواب الأوّل، فقال لأبی جعفر علیه السلام : هذا خلاف ما أجبتنی فی هذه المسألة عامک الماضی فذکر أنّه قال له: إنّ جوابنا خرج علی وجه التقیة فشکّ فی أمره وإمامته، فلقی رجلاً من أصحاب أبی جعفر علیه السلام یقال له: محمد بن قیس فقال: إنّی سألت أبا جعفر علیه السلام عن مسألة فأجابنی فیها بجواب ثم سألت عنها فی عام آخر فأجابنی فیها بخلاف الجواب الأول فقلت له: لم فعلت ذلک؟ قال: فعلته للتقیّة، وقد علم اللّه أنّی ما سألته إلّاو أنا صحیح العزم علی التدیّن بما یفتینی فیه وقبوله والعمل به ولا وجه لاتّقائه إیّای وهذه حاله.

فقال له محمد بن قیس: فلعلّه حضرک من اتّقاه، فقال: ما حضر مجلسه فی واحدة من الحالین غیری، لا ولکن کان جوابه جمیعاً علی وجه التخیّب ولم

ص:104


1- (1) . رجال الکشی رقم 428 .

یحفظ ما أجاب به فی العام الماضی فیجیب بمثله فرجع عن إمامته(1).

وفی هذه الروایة أیضاً یظهر بوضوح عدم خوض محمد بن قیس - مع کونه من فقهاء الرواة - فی عمق الاستدلال علی الإمامة وبراهین حججها ونظام التأویل فی کلماتهم علیهم السلام وأحوالهم.

ص:105


1- (1) . رجال الکشی رقم 430 .

ص:106

4 - اذاعة اسرار المعارف (146-107)

اشارة

ص:107

ص:108

خطورة إفشاء أسرار المعارف

اشارة

روی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

ما قتلنا من أذاع حدیثنا قتل خطأ ولکن قتلنا قتل عمد(1).

وروی الحلی فی مختصر البصائر عن المعلّی بن خنیس، قال لی أبو عبداللّه علیه السلام :

«یا معلی اکتم أمرنا ولا تذعه ... إنّ اللّه یحبّ أن یعبد فی السرّ کما یحب أن یعبد فی العلانیة، یا معلی المذیع أمرنا کالجاحد له»(2).

روی الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد عن محمد بن سنان عن عبد الأعلی قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

إنّه لیس من احتمال أمرنا التصدیق له والقبول فقط، من احتمال أمرنا ستره وصیانته من غیر أهله فأقرئهم السلام وقل لهم:

رحم اللّه عبداً اجترّ مودّة الناس إلی نفسه، حدّثوهم بما یعرفون واستروا عنهم ما ینکرون ثم قال: و اللّه ما الناصب لنا حرباً بأشد علینا مؤونة من الناطق علینا بما نکره، فإذا عرفتم من عبد إذاعة فامشوا إلیه وردوه عنها فإن قبل منکم وإلّا فتحملوا علیه بمن یثقل علیه ویسمع منه، فإنّ الرجل منکم یطلب الحاجة فیلطف فیها حتی تقضی له، فالطفوا فی حاجتی کما تلطفون فی حوائجکم، فإن هو قبل منکم وإلّا فادفنوا کلامه تحت أقدامکم ولا تقولوا: إنّه

ص:109


1- (1) . وسائل / ج 16 / 250 / أبواب الأمر والنهی / ب 34.
2- (2) . مختصر البصائر / 285 / ح 288 .

یقول ویقول، فإن ذلک یحمل علیّ وعلیکم. أما و اللّه لو کنتم تقولون ما أقول لأقررت أنکم أصحابی، هذا أبو حنیفة له أصحاب و هذا الحسن البصری له أصحاب، و أنا امرؤ من قریش قد ولدنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وعلمت کتاب اللّه وفیه تبیان کل شیء بدؤ الخلق وأمر السماء وأمر الأرض وأمر الأولین وأمر الآخرین وأمر ما کان وأمر ما یکون کأنی أنظر إلی ذلک نصب عینی(1).

أقول: یظهر من هذا الحدیث أنه علیه السلام یقرّر الانتماء له بالصحبة بشرط مراعاة حفظ العلوم والمعارف التی لا یطیقها عامّة الناس، فضلاً عن جمهور أهل السنة وسلطان بنی أمیة وبنی العباس، لأنّ فیها تبیاناً لفضائلهم ومقاماتهم التی نصبهم اللّه لها وبالتالی ففیها إدانة وتبیان لعدم شرعیة بنی أمیة وبنی عباس، وتخطئة لمنهاج خصوم أهل البیت. فیقرّر علیه السلام أنّ الانتماء إلیه بالصحبة هو بحفظ هذه التعالیم الأمنیة حول علوم ومعارف أهل البیت علیهم السلام وأنه من یقوم بالإخلال بهذا البرنامج الأمنی ویفرّط فی حفظه فلا محالة یستحقّ القطیعة والهجران والبراءة منه. وهذا یفسّر تبرّیهم علیهم السلام من رواة أسرار المعارف الذین فرّطوا فی کتمانها وإذاعتها وسبّبوا نشوء فرق منحرفة بسبب عدم وعی جملة من عموم الناس لحقائق معانی تلک المعارف بوجهتها الصحیحة المستقیمة، فانطبعت لدیهم أفهام خاطئة منحرفة عن حقیقتها.

وروی الکلینی بسنده عن أبی خالد الکابلی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنه قال:

إنّ اللّه عزوجل جعل الدین دولتین دولة آدم وهی دولة اللّه ودولة إبلیس، فإذا أراد اللّه أن یعبد علانیة کانت دولة آدم وإذا أراد أن یعبد سرّاً کانت دولة إبلیس والمذیع لما أراد اللّه ستره مارق من الدین(2).

قد جعل علیه السلام ترک التحفّظ وترک الکتمان للمعارف الحقّة الغامضة بمثابة

ص:110


1- (1) . الکافی 2 / 223 .
2- (2) . الکافی 2 / 372 .

المروق من الدین، فإذاعة تلک المعارف الثقیلة الصعبة التی ینجم من نشرها انطباع خاطیء منحرف لدی الخواص فضلاً عن العوام یسبّب المروق من الدین، فهو بمثابة المروق.

عن جابر قال: دخلت علی أبی جعفر علیه السلام و أنا شابّ فقال:

من أنت؟ قلت: من أهل الکوفة، قال:

ممّن؟ قلت: من جعفیّ، قال:

ما أقدمک إلی هاهنا؟ قلت: طلب العلم، قال:

ممّن؟ قلت: منک، قال:

فإذا سألک أحد من أین أنت فقل من أهل المدینة قال: قلت:

أسألک قبل کلّ شیء عن هذا، أیحلّ لی أن أکذب؟ قال:

لیس هذا بکذب، من کان فی مدینة فهو من أهلها حتی یخرج قال: ودفع إلیّ کتاباً وقال لی:

إن أنت حدّثت به حتی تهلک بنو أمیة فعلیک لعنتی ولعنة آبائی وإذا أنت کتمت منه شیئاً بعد هلاک بنی أمیة فعلیک لعنتی ولعنة آبائی، ثم دفع إلیّ کتاباً آخر، ثم قال:

وهاک هذا فإن حدّثت بشیء منه أبداً فعلیک لعنتی ولعنة آبائی(1).

وهناک روایات أخری ذکرناها فی ترجمة جابر بهذا المضمون وفیها ذکر عدد الأحادیث التی أمر بکتمانها وأنها تصل إلی سبعین ألف حدیث(2).

وهذه الأحادیث صریحة فی استحقاق لعنة الإمام علیه السلام ولعنة آبائه لمن یفرّط فی کتمان غوامض المعارف، وأنّ اللعنة منهم علیهم السلام لمثل هؤلاء المفرّطین إنّما هو بسبب نشر وکشف المعارف التی لا یطیق فهمها علی الوجه الصحیح الخواص فضلاً عن العوامّ، ممّا یسبّب نشوء انحرافات وفرق ضالّة بسبب الفهم الخاطیء لتلک المعارف الثقیلة الغامضة الصعبة المستصعبة، وعدم وعی وجوه معانیها الصحیحة الصائبة الحقّة البعیدة عن انحراف التألیه أو زعم النبوّة ونحو ذلک.

وروی الصفار فی البصائر عن زرارة قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن قول اللّه تبارک وتعالی: «قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ » قال:

ترید أن تروی

ص:111


1- (1) . الکشی 265 / ح 339 .
2- (2) . الاختصاص / 66، والکافی 8 / 157 / ح 149، والکشی / ح 329 و 342 و 343 .

علیّ؟ هو الذی فی نفسک(1).

وروی أیضاً عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام فی قول اللّه تعالی: «اِعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ » قال:

أما أنت لسامع ذلک منّی لتأتی العراق فتقول:

سمعت محمد بن علی علیه السلام یقول کذا وکذا، ولکنّه الذی فی نفسک(2).

والظاهر من الخبرین أنّ زرارة رضوان اللّه تعالی علیه حیث کان دأبه الصدع بالحقّ بقوة کان الباقر علیه السلام یتحفّظ من التصریح له بمقتطفات من خفایا المعارف التی کان یصعب تقبّل الوسط العام لهضمها.

وروی الحلی فی مختصر البصائر عن حفص الأبیض قال: دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام أیام قتل المعلّی بن خنیس وصلب فقال:

یا حفص إنّی نهیت المعلّی عن أمر فأذاعه فقوبل بماتری قلت له: إنّ لنا حدیثاً من حفظه حفظ اللّه علیه دینه ودنیاه ومن أذاعه علینا سلبه اللّه دینه.

یا معلی لا تکونوا أسری فی أیدی الناس بحدیثنا إن شاؤوا منّوا وإن شاؤوا قتلوکم، یا معلی إنّ من کتم الصعب من حدیثنا جعله اللّه نوراً بین عینیه ورزقه العزّ فی الناس، یا معلی من أذاع الصعب من حدیثنا لم یمت حتی یعضّه السلاح أو یموت بحبل.

إنی رأیته یوماً حزیناً فقلت: مالک أذکرت أهلک وعیالک؟ فقال: نعم، فمسحت وجهه فقلت: أنّی تراک؟ فقال: أرانی فی بیتی مع زوجتی وعیالی فترکته فی تلک الحال ملیّاً ثم مسحت وجهه فقلت: أنّی تراک؟ فقال: أرانی معک فی المدینة فقلت له: احفظ ما رأیت ولا تذعه فقال لأهل المدینة: إنّ الأرض تطوی لی فأصابه ما قد رأیت(3).

وفی الروایة إشارة إلی أنّ أسرار المعارف وغوامضها هی جملة من مقاماتهم علیهم السلام التی أعطاها اللّه إیاهم مما لا یتحمّله عموم العامّة ویحسبون أنّه

ص:112


1- (1) . بحار الأنوار 24 / 347 / 49 .
2- (2) . بحار الأنوار 24 / 347 / 50 .
3- (3) . مختصر البصائر / 279 / ح 279 .

خرق للناموس الإلهی وغلوّ فی أئمة أهل البیت علیهم السلام عن مقام البشریّة، أو أنّ ذلک قول باستقلالهم فی القدرة الغیبیّة من دون مشیّة اللّه عزوجل. و هذا ما یؤکّد أنّ طعن العامّة علی جملة من الرواة بادعاء الألوهیّة والنبوّة منشأه مثل هذه الأمور الّتی لا یستوعبها تصوّراتهم الاعتقادیة ومبانیهم فی المسائل الکلامیّة.

هذا مضافاً إلی حمیّتهم وعصبیّتهم وردّة الفعل التی لدیهم تجاه تبرّی أولئک الرواة من أبی بکر وعمر، بل إنّ فی نشر المعارف العالیة دلالة علی بطلان وزیغ من تقلّد الخلافة بغیر نصّ إلهی.

وروی سعد بن عبد اللّه الأشعری بسند مصحّح عن أبی أسامة زید الشحّام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: قال

أمر الناس بخصلتین فضیّعوهما فصاروا منها علی غیر شیء:

الصبر والکتمان(1).

وهاتان الخصلتان - کما سیأتی - هما اللتان أخفق فیها عبد اللّه بن سبأ والمغیرة وأبو الخطاب وأمثالهما، فقاموا وانطلقوا بثورات سیاسیة بنحو عفوی اندفاعی غیر مدروس کما بثّوا أسرار وغوامض المعرفة مما أوقعهم فی الانزلاق فی شطط وشذوذ وسبّب انحراف اتباعهم اللاحقة فیما بعد.

الجدلیة بین حرمة الإذاعة وحرمة الکتمان

نشر معارفهم علیهم السلام - والتی هی المعارف الدینیة - وقعت بین جدلیّة ثنائیة تتجاذبها بین قاعدة حرمة إذاعة أسرارهم، وبین قاعدة «اُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » التی هی بلسان

لأن یهدی اللّه بک رجلاً خیر لک ممّا طلعت علیه الشمس.

ربما یتداعی إلی ذهن البعض ما استفاض عنهم علیهم السلام من حرمة إذاعة أسرارهم، أنّها توصیة من قبلهم علیهم السلام لإخفاء وکتمان المعارف الحقّة بکلّ ما أوتینا

ص:113


1- (1) . مختصر البصائر / 280 / 280 .

من القدرة، وربما یتمادی بالبعض فهم معنی هذه القاعدة إلی لزوم تناسی هذه المعارف وجعلها فی بوتقة النسیان. ومن ثمّ یسجّلون المؤاخذة علی أنّ تعاطی المعارف العمیقة والغامضة هو مخالفة لهذه التوصیة منهم علیهم السلام ، فضلاً عن محاولة نشرها وبثّها والقیام بانتشارها، فإنّ هذا أضرّ علیهم من جیش یزید وابن سعد.

مع أنّ المشاهد لدی أهل البیت علیهم السلام أنّهم لم یفتأوا یبثّون المعارف والعلوم جیلاً بعد جیل، حتی تبدّهت کثیر من الحقائق التی کانت نظریة فی الجیل الأوّل من المسلمین بل ربما کانت مستنکرة وأمثلة ذلک کثیرة.

منها: إبطال التجسیم والتشبیه، فقد کان فی الرعیل الأول فی زمن النبی صلی الله علیه و آله و سلم کثیر ممّن یتوهم التجسیم والتشبیه إلّاأنّهم علیهم السلام استطاعوا أن یبدّهوا بطلان التجسیم.

وکذلک الحال فی إبطال الجبر والتفویض، فإنّ شبهة الجبر کانت عالقة فی أذهان المسلمین فی أجیال الأولی إلّاأنّهم علیهم السلام فیما بذلوه من الجهود فی تعلیم الأمّة استطاعوا أن یبدّهوا بطلان الجبر والتفویض.

إلی غیر ذلک من الحقائق التی بنوا معرفتها فی عقلیّة المسلمین.

هذا مضافاً إلی التوصیات العدیدة فی الآیات والروایات بدعوی ونشر معارف الحقّ کالآیة التی مرّت، وکقوله تعالی: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَ لِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ » وجملة من آیات حرمة الکتمان «إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَیِّناتِ وَ الْهُدی مِنْ بَعْدِ ما بَیَّنّاهُ لِلنّاسِ فِی الْکِتابِ أُولئِکَ یَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ یَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ » .

وغیرها من الروایات والآیات الحاضّة علی النشر.

مضافاً إلی ما استفیض

لا تمنعوا ا لحکمة أهلها فتظلموهم ولا تعطوها غیر مستحقّها فتظلموها.

ومن المعلوم أنّ العلم یموت بموت أهله ویندرس وینطمس، وهذه العلوم

ص:114

الإلهیة لم تنزل من السماء لترفع بل لیتکامل الإنسان بها، لیخرج الناس من الظلمات إلی النور، فالتوفیق بین هاتین القاعدتین وبیان عدم تنافیهما فیما بینهما یبتنی علی بیان أصول:

الأصل الأول: أنّ المراد هو الطریق الوسط، وهو اعتماد التدریج فی التعلیم والهدایة کما هی سنّة اللّه ورسوله، واعتماد محاسبة درجة قابلیة الأفراد والأوساط التی یوجّه إلیها الخطاب التعلیمی، کما ورد عنه صلی الله علیه و آله و سلم :

إنّا معاشر الأنبیاء نکلّم الناس علی قدر عقولهم(1).

ومعنی هذا الحدیث الشریف لیس أن لا یکلّم الناس ولا یعلّمهم بل أن یکلّموا الناس بقدر قابلیتهم فتتّسع شیئاً فشیئاً.

الأصل الثانی: لابدّ من مراعاة لغة التعلیم ولغة الخطاب، فإنّها مؤثّرة غایة التأثیر فی حصول قابلیة الطرف الآخر فإنّ حقیقة ما ومعنی ما إذا ألقی فی قالب لغة معیّنة فإنّه سیُقبل ویدرک حقیقته ویُهظم، بخلاف ما إذا ألقی بقالب آخر، فإنه یستوحش منه وینکر وینفر منه. و هذا أصل آخر فی الموازنة بین هدایة الناس ودعوتهم إلی الرشاد وبین تجنّب إلقائهم فیما لا یطیقون مما یسبب إثارتهم وحصول التشنّج لدیهم وجحدهم وإنکارهم ما لا یفقهون.

و هذا أصل عظیم جدّاً فإنّ الکثیر من المعارف الحقّة إذا اعتمد فی بیانها وتبیانها ما یحاذیها من لغات العلوم المعاصرة فإنّ ذلک یوجب وضوح فهمها وبلاغة البیان لتوضیحها، فاعتماد الترجمة العلمیة لهذه المعارف أمر بالغ الأهمیة، فإنّ الملاحظ أنّ هناک جملة من الثوابت الدینیة علی صعید الأحکام الفرعیة الشرعیة والقوانین العملیة فضلاً عن العقائد قد وقع فیها التشکیک والاضطراب نتیجة عدم فهم الجیل المعاصر لحقیقتها وفی الحقیقة أنه لا یفهم لغتها التقلیدیة،

ص:115


1- (1) . المحاسن 1 / 195 .

ولو بیّنت له بلغة معاصرة لاستوضحها.

قال الصادق علیه السلام فی وصف المؤمنین الکاملین:

ألسنتهم مسجونة وصدورهم وعاء لسرّ اللّه، إن وجدوا له أهلاً نبذوه إلیه نبذاً وإن لم یجدوا له أهلاً ألقوا علی ألسنتهم أقفالاً غیّبوا مفاتیحها و جعلوا علی أفواههم أوکیة صلب صلاب أصلب من الجبال لا ینحت منهم شیء(1).

فتبین هذه الروایة أنّ المیزان هو الأهلیة والقابلیة ومن الواضح أنّها تدریجیة ونسبیّة ومتفاوتة بین الأفراد والأشخاص والبیئات ولا یعنی تفاوتها فی الدرجات انعدامها من رأس وعدم وجودها.

وفی صحیح حمران بن أعین قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أسألک أصلحک اللّه؟ قال:

نعم، قال: کنت علی حال و أنا الیوم علی حال أخری، کنت أدخل الأرض فأدعوا الرجل والاثنین والمرأة فینقذ اللّه من یشاء و أنا الیوم لا أدعو أحداً فقال:

وما علیک أن تخلّی بین الناس وبین ربّهم؟ فمن أراد اللّه أن یخرجه من ظلمة إلیه نور أخرجه ولا علیک إن آنست من أحد خیراً أن تنبذ إلیه الشیء نبذاً، قلت: فأخبرنی عن قول اللّه:

« وَ مَنْ أَحْیاها فَکَأَنَّما أَحْیَا النّاسَ جَمِیعاً» قال:

من حرق أو غرق أو غدر ثم سکت، فقال:

تأویلها الأعظم أن دعاها فاستجابت له(2).

فیظهر من الحدیث أنّ نشر وإلقاء معارف أهل البیت ودعوة الناس إلیهم من أعظم مصادیق الآیة الشریفة، لکن شریطة الأهلیّة والقابلیّة، فإن أنس من أحد خیراً وعلم منه أنّه لیس بصدد العناد واللجاج فینبذ إلیه نبذاً من علوم أهل البیت علیهم السلام أی یعطیه المعارف تدریجاً فیخرجه اللّه من الظلمات إلی النور شیئاً فشیئاً، فإذا علم من حال أحد خیراً لا یلقی إلیه من العلوم إلّاشیئاً یسیراً بقدر فهمه واستعداده حتی یکمل شیئاً فشیئاً.

ص:116


1- (1) . الأصول الستة عشر: 7 .
2- (2) . محاسن البرقی 1 / 232 .

السفلة أهل النصب والحیلة والدجلة و دورهم فی إذاعة أسرار المعارف

اشارة

إنّ هناک شریحة یصفها أئمة أهل البیت علیهم السلام بالسفلة وهم أتباع الأهواء والشهوات والنزعات الدینیّة الدنیویّة السافلة الذین حلیت الدنیا فی أعینهم، وراقهم زبرجها ولیس لهم همّ إلّاالوصول إلی أغراضهم السافلة الّتی من أهمّها وأعظمها عندهم الرئاسة المعنویة والملکوتیة علی الناس. فإنّ من الناس من کان همّه الدینار والدرهم، ومنهم من یهمّه السمعة والشهرة، ومنهم من یهمّه الشهوات الدینیّة والمنکرة، ومن الناس من یفدی جمیع ذلک للوصول إلی مقام الرئاسة فإنّ المعشار من حلاوتها لا یساوی عندهم جمیع الشهوات والأهواء واللذّات السافلة الدنیویة. فهو یحلّ ما حرّم اللّه ویحرّم ما أحلّ اللّه ویترک لذّة الأموال والنعم المباحة المحلّلة طلباً للرئاسة.

ولیعلم أنّ الرئاسة الملکوتیة أشدّ وأقوی وأعظم وأدوم من الرئاسة الملکیة وذلک:

أوّلاً: أنّ الرئاسة الملکیة وإن تحدث بسرعة إلّاأنّه تزول کذلک، فیُری أنّ حاکماً من الحکّام وسلطاناً من السلاطین ما إن انقضت مدّة حکمه وسلطانه انقضت عزّته وسمعته، والذین یقبلون الیه ویتملّقونه یدبرون عنه ویذمّونه؛ فهذه الرئاسة سریعة الزوال؛ بینما الرئاسة الملکوتیة والحکومة علی قلوب الناس لا

ص:117

تنقضی بسهولة ولا یمکن عزل ذلک الرئیس عبر مکتوبة أو ما شاکل ذلک، بل هو یظلّ یترأس ویحکم علی قلوب العباد ولو وقع فی السجن تحت أشدّ العقوبات.

وثانیاً: أنّ الرئاسة الملکوتیة حکمها أنفذ وأوقع فی القلوب، فإنّک تری أنّ بعض الناس یبذلون أنفسهم وأعراضهم فضلاً عن أموالهم وأولادهم وسمعتهم وأسرتهم فی سبیل من یحکم علی قلوبهم ولا یرون فی ذلک غضاضة، بل یبذلونها علی الرحب والسعة معترفین بالتقصیر عن أداء واجبهم تجاه ذلک الحاکم الملکوتی، بینما الناس تراهم یحاولون الفرار بکلّ ما لدیهم من القدرات عن العمل بالأحکام الصادرة من السلاطین الملکیة لا سیما إذا تمسّهم تلک الأحکام بسوء.

وثالثاً: إنّ من یقبل حکومة الحاکم الملکی علی نفسه ویطبّق أحکامه فی سلوکیّاته ویأتمر بأوامره وینتهی عن زواجره لا یفعل ذلک إلّاللخوف عن أذاه أو للطمع إلی دنیاه، فأنت تری أنّه لو رفعت العقوبة علی مخالفة القوانین الحکومیة وکذا لو رفعت العطایا الدنیویة الدینیّة لن یتحمّل أحد مشقّة العمل بأحکامه علی عاتقه ولیرفض ذلک تماماً.

فأتباع الحاکم الدنیوی إنّما یتبعونه لینالوا من دنیاه أو لیصونوا من عقابه، بینما أتباع الحاکم الملکوتی یتبعونه لأجله حتّی لو لم ینالوا من دنیاه شیئاً، بل لو تعرض دنیاهم إلی الخطر وأنفسهم إلی الضرر فلا یرضون بأن یهملوا مراداته حتّی لو لم ینطقها بلسان.

فلأجل هذه الأمور وغیرها کانت الرئاسة الملکوتیة منذ أن أهبط اللّه آدم علیه السلام إلی الأرض مطمح نظر طلاّب الدنیا وأهل الأهواء والشهوات، ولأجل هذا ادّعی بعضهم النبوّة بغیر حقّ أو الوصایة والخلافة والولایة فهؤلاء الجماعة یحاولون بکلّ ما لدیهم من الاستطاعة والقدرة أن یصلوا إلی ذلک المقام من الحکومة علی قلوب العباد وقد یترک بعضهم لذّات الدنیا بأجمعها ویعیش طوال عمره فی حالة

ص:118

حرجة وضیّقة للوصول إلی ذلک المقام یوماً مّا، نظیر بعض رؤساء الصوفیة والدراویش.

فقد روی الطبرسی فی الاحتجاج عن أبی الحسن علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه قال: قال علی بن الحسین علیه السلام :

إذا رأیتم الرجل قد حسن سمته وتماوت فی منطقه وتخاضع فی حرکاته فرویداً لا یغرّنکم ما أکثر من یعجزه تناول الدنیا ورکوب الحرام منها لضعف نیته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدین فخّاً له فهو لا یزال یحیل الناس بظاهره فإن تمکّن من الحرام اقتحمه.

وإذا رأیتموه (وجدتموه - خ) یعفّ عن المال الحرام فرویداً لا یغرّنکم فإنّ شهوات الخلق مختلفة فما أکثر من ینبو عن المال الحرام وإن کثر ویحمل نفسه علی شوهاء قبیحة، فیأتی منها (بها - خ) محرّماً.

فإذا وجدتموه یعفّ عن ذلک فرویداً لا یغرّنکم حتّی تنظروا ما عقده عقله فما أکثر من ترک ذلک أجمع ثمّ لا یرجع إلی عقل متین فیکون ما یفسده بجهله أکثر مما یصلحه بعقله.

فإذا وجدتم عقله متیناً فرویداً لا یغرّنکم حتّی تنظروا أمع هواه یکون علی عقله؟ أو یکون مع عقله علی هواه؟ وکیف محبّته للریاسات الباطلة وزهده فیها؟ فإن فی الناس من خسر الدنیا والآخرة بترک الدنیا للدنیا ویری أنّ لذّة الریاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحلّلة فیترک ذلک أجمع طلباً للریاسة حتی «إِذا قِیلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ» فهو یخبط خبط عشواء یقوده أول باطله إلی أبعد غایات الخسارة ویمدّ ربّه بعد طلبه لمال یقدر علیه فی حیاته (طغیانه - خ) فهو یحلّ ما حرّم اللّه ویحرّم ما أحلّ اللّه. لا یبالی ما فات من دینه إذا سلمت له رئاسته التی قد شقی (یتقی - خ) من أجلها «فأولئک الذین غضب الله علیهم و لعنهم و أعد لهم عذابا مهینا»(1).

فهذه الجماعة من الناس الذین لیس لهم همّ إلّاالوصول إلی تلک الرئاسات

ص:119


1- (1) . بحار الأنوار 2 / 84، والاحتجاج 2 / 159 مطبعة أسوة.

الباطلة یستخدمون أیّ وسیلة یمکنهم الاستفادة منها فی سبیل أغراضهم الدینیة وقد اصطلح أئمة أهل البیت علیهم السلام عنهم بالسفلة.

فقد ورد فی الأخبار أنّ السفلة هم الذین یقلّ فیهم النجابة والکرامة ویغلب فیهم الدناءة ولا یرجون ثواب اللّه ولا یخافون من عقابه.

روی الکشی عن إبراهیم بن علی الکوفی قال: حدّثنا إبراهیم بن إسحاق الموصلی عن یونس بن عبد الرحمن عن العلاء بن رزین عن المفضّل بن عمر قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

إیاک والسفلة إنّما شیعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه(1).

وروی الکلینی عن محمد بن یحیی، عن أحمد بن محمد بن عیسی، عن محمد بن إسماعیل، عن منصور بن برزج، عن مفضّل قال:

إیاک والسفلة، فإنّما شیعة علی من عفّ بطنه وفرجه واشتدّ جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه فإذا رأیت أولئک فأولئک شیعة جعفر(2).

قال العلامة المجلسی: والحاصل أنّ السفلة أراذل الناس وأدانیه وقد ورد النهی عن مخالطتهم ومعاملتهم وفسر بالحدیث بمن لا یبالی ما قال ولا ما قیل له وهاهنا قوبل بالشیعة الموصوفین بالصفات المذکورة وحذّر عن مخالطتهم ورغّب فی مصاحبة هؤلاء. انتهی(3).

أقول: فمن لم یعفّ بطنه ولا فرجه وقلّت ریاضته وکثرت لذّاته وعمل للریا فهو من السفلة. والسفلة إنّما تقابل الشیعة.

وروی الصدوق بسنده عن أبی عبد اللّه علیه السلام : أنّه سئل عن السفلة فقال:

من

ص:120


1- (1) . الکشی 372 / ح 552 .
2- (2) . الکافی 2 / 233 .
3- (3) . بحار الأنوار 65 / 188 .

یشرب الخمر ویضرب بالطنبور ذنبان أحدهما أشد من الآخر(1).

وفی حدیث الأربعمائة عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال:

احذروا السفلة فإنّ السفلة من لا یخاف اللّه عزوجل، فیهم قتلة الأنبیاء وفیهم أعداؤنا(2).

وقال الصدوق فی الفقیه: جاءت الأخبار فی معنی السفلة علی وجوه فمنها أنّ السفلة هو الذی لا یبالی ما قال وما قیل له، ومنها أن السفلة من یضرب بالطنبور، ومنها أنّ السفلة من لم یسرّه الإحسان ولا تسوؤه الإساءة، والسفلة من ادّعی الإمامة ولیس لها بأهل وهذه کلّها أوصاف السفلة من اجتمع فیه بعضها أو جمیعها وجب اجتناب مخالطته(3).

وفی تحف العقول أنّه سئل عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام عن السفلة فقال:

من کان له شیء یلهیه عن اللّه(4).

وروی ابن إدریس فی مستطرفات السرائر نقلاً عن جامع البزنطی قال: سئل أبو الحسن علیه السلام عن السفلة فقال:

الذی یأکل فی الأسواق(5).

ونقل الشیخ فی الأمالی عن الفضیل بن عیاض سئل ابن المبارک فمن السفلة قال: الذی یأکل بدینه(6).

وقد یعبر عنهم فی ا لروایات بالغوغاء - کما أشار إلیه العلّامة المجلسی فی البحار(7) - وقال فی القاموس: سفلة الناس بالکسر کفرحة أسافلهم وغوغاهم - فقد روی الشیخ بسنده عن علی بن محمد الرضا علیه السلام بسرّ من رأی یقول:

الغوغاء

ص:121


1- (1) . الخصال / 62 .
2- (2) . الخصال / 635 .
3- (3) . الفقیه 3 / 165 .
4- (4) . تحف العقول / 442 .
5- (5) . وسائل الشیعة 24 / 395 .
6- (6) . الأمالی / 397 .
7- (7) . بحار الأنوار 50 / 175 .

قتلة الأنبیاء والعامّة اسم مشتق من العمی ما رضی اللّه لهم أن شبههم بالأنعام حتّی قال «بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِیلاً»1.

وهذه الصفات والخصوصیات کلّها نابعة عن الدناءة والرذالة والخلود إلی الدنیا السافلة وعدم الخوف من اللّه وقلّة التقوی، فصاحبه لا یبالی ما یفعل إذا سلمت له دنیاه ومتی ما رأی رواج الدین یجعله بضاعة یشتری بها دنیاه وقد ألهاه حبّ الریاسات الباطلة عن اللّه.

وقال العلّامة النمازی فی بیان ذم السفلة ولزوم الاحتراز عنهم بأنّه یمکن تأویل الأسفلین وأسفل السافلین فی الآیتین بأعداء آل محمد علیهم السلام . انتهی(1).

وعلی هذا الاحتمال یمکن أن یقال بأنّ وجه تسمیتهم بالسفلة لأجل کونهم فی الدرک الأسفل فی النار وبما أنّ هذه المرتبة من النار إنّما هی محلّ المنافقین کما قال تعالی: «إِنَّ الْمُنافِقِینَ فِی الدَّرْکِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ»3 فیمکن أن یقال إنّ السفلة أظهروا الإیمان وموالاة أهل البیت علیهم السلام وأبطنوا الکفر ومعاداتهم طلباً للدنیا وأنّهما من أقسام النفاق الآتیة ذکرها.

السفلة وأسرار المعارف

ومن أهمّ ما یمکنهم استخدامه للوصول إلی مطامعهم هی المعارف الغامضة والأسرار الشاهقة من علوم أهل البیت علیهم السلام فإنّه بتوسّطها یترأسّون علی قلوب العباد لما فی هذه المعارف من طلاوة وطراوة وعمق وعلوّ، فبنقل هذه المعارف العمیقة وتذییعها یجعلون أنفسهم فی موقع المتعمّق الراسخ فی الأسرار والمعارف ویخدعون الناس فیها، ولأجل ذلک حذر أئمة أهل البیت علیهم السلام عن

ص:122


1- (2) . مستدرک سفینة البحار 5 / 65 .

إعطاء المعارف لهم وتحدیثهم بأحادیث فیها نکت وظرائف الأسرار، و ذلک لأنّ وقوع هذه المعارف فی أیدیهم معناه امتلاکهم للثروة الفاخرة الّتی یتمکّنون بها من الوصول إلی أغراضهم الدینیة السافلة.

ولأجل هذا حذّر أئمة أهل البیت علیهم السلام بشدّة وقوّة عن إعطائهم بغوامض المعارف وأسرارها فإنّهم یجعلونها بضاعة ووسیلة للوصول إلی أغراضهم الدینیة السافلة.

فمن ذلک ما روی الکشی عن جبریل بن أحمد، حدّثنی محمد بن عیسی، عن عبد اللّه بن جبلّة الکنانی عن ذریح المحاربی، قال: سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن جابر الجعفی وما روی؟ فلم یجبنی وأظنّه قال: سألته بجمع فلم یجبنی فسألته الثالثة؟ فقال لی:

یا ذریح! دع ذکر جابر فإنّ السفلة إذا سمعوا بأحادیثه شنعوا أو قال أذاعوا(1).

وروی عن آدم بن محمد البلخی قال: حدّثنا علی بن الحسن هارون الدقّان قال: حدّثنا علی بن أحمد قال: حدّثنی علی بن سلیمان قال: حدّثنی الحسن بن علی بن فضّال عن علی بن حسان عن المفضّل بن عمر الجعفی قال: سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن تفسیر جابر؟ فقال:

لا تحدّث به السفلة فیذیعوه، أما تقرأ فی کتاب اللّه عزوجل: «فَإِذا نُقِرَ فِی النّاقُورِ»

إنّ منّا إماماً مستتراً فإذا أراد اللّه إظهار أمره نکت فی قلبه فظهر فقام بأمر اللّه(2).

وروی عن محمد بن سنان عن عبد اللّه بن جبلّة الکنانی عن ذریح المحاربی قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام بالمدینة: ما تقول فی أحادیث جابر؟ قال:

تلقّانی بمکة، قال: فلقیته بمکة فقال:

تلقّانی بالمدینة، قال: فلقیته بمنی فقال لی:

ما تصنع بأحادیث جابر؟ أُله عن أحادیث جابر فإنّها إذا وقعت إلی السفلة أذاعوها.

ص:123


1- (1) . الکشی 266 / ح 340 .
2- (2) . الکشی 265 / ح 338 .

قال عبد اللّه بن جبلّة: فأحسب ذریحاً سفلة(1).

وعن محمد بن العباس عن الحسین بن أحمد عن محمد بن عیسی عن یونس عن جمیل قال: قلت لأبی الحسن علیه السلام : أحدّثهم بتفسیر جابر؟ قال:

لا تحدّث به السفلة فیوبّخوه(2).

فیستفاد من هذه الأحادیث شدّة حرص الأئمّة علیهم السلام علی عدم وصول هذه المعارف إلی السفلة فإنّ جابر بن یزید الجعفی هو من بحور معارف أهل البیت علیهم السلام وأسود هذا المیدان، وقد حمّله الإمام الباقر علیه السلام وقراً من العلم ولقد قال: رویت خمسین ألف حدیث ما سمعه أحد منّی(3).

وقال حدثنی أبو جعفر علیه السلام سبعین ألف حدیث لم أحدّث بها أحداً قطّ، ولا أحدّث بها أحداً أبداً. قال جابر: قلت لأبی جعفر علیه السلام : جعلت فداک إنّک قد حمّلتنی وقراً عظیماً بها حدثتنی من سرّکم الذی لا أحدّث به أحداً. فربما جاش فی صدری حتّی یأخذنی منه شبه الجنون. قال علیه السلام :

یا جابر فإذا کان ذلک فاخرج إلی الجبان فاحفر حفیرة ودل رأسک فیها ثم قل: حدّثنی محمد بن علی بکذا وکذا(4).

وقد مرّ ترجمته فی الجزء السابق وبیّنا هناک أنّه أوحدیّ فی رواة المعارف الذین لم یزلزلهم عواصف الدهر وثبتوا علی الصراط المستقیم.

ولأجل هذا نهی الإمام علیه السلام عن تحدیث السفلة بأحادیث جابر وتفسیره.

دور السفلة فی انحراف بعض رواة المعارف

یظهر من بعض الأخبار أنّ من جملة أسباب انحراف من انحرف من رواة المعارف نظیر أبی الخطّاب، مخالطتهم ومعاشرتهم مع السفلة، وهذه المعاشرة

ص:124


1- (1) . الکشی 439 / ح 699 .
2- (2) . بحار الأنوار 8 / 50 .
3- (3) . الکشی / ح 342 .
4- (4) . الکشی / ح 343 .

والمصاحبة أثّرت فی بزوغ بعض الانحرافات لدیهم نظیر إذاعة الأسرار الذی هو بدوره سبّب مشاکل ومخاطر عظیمة مهولة.

فقد روی الکشی عن حمدویه قال: حدّثنا یعقوب بن یزید عن العباس القصبانی ابن عامر الکوفی عن المفضّل قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

اتّق السفلة واحذر السفلة، فإنّی نهیت أبا الخطاب فلم یقبل منّی(1).

فإنّ تحذیر الإمام الصادق علیه السلام المفضّل عمّا وقع فیه أبو الخطاب - حیث حذّره الإمام علیه السلام عن مصاحبة السفلة - مما یدلّ علی أنّ من وصل إلی مقامات علمیة قد یجرهم السفلة لابتداعهم المذاهب المنحرفة. و هذا ما یشاهد فی انحرافات الصوفیّة من دخول أصحاب الشهوات والأراذل فیهم کی یصل إلی أغراضهم الدنیة السافلة خسائس الغرائض بتقمّص سلوکیات ومقالات المعرفة.

وقال الکشی: محمد بن مسعود قال: حدثنی علی بن محمد قال: حدّثنی محمد بن أحمد عن محمد بن عیسی عن الحسن بن میّاح عن عیسی قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

إیاک ومخالطة السفلة فإنّ السفلة لا یؤل إلی خیر(2).

وروی الکشی عن محمد بن مسعود قال: حدثنی علی بن محمد القمی قال حدثنی محمد بن أحمد بن یحیی عن محمد بن الحسین عن موسی بن سلام عن حبیب الخثعمی عن ابن أبی یعفور قال: کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فاستأذن علیه رجل حسن الهیئة، فقال:

اتّق السفلة فما تقارّت فی الأرض حتّی خرجت، فسألت عنه فوجدته غالیاً(3).

وروی الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسین عن محمد بن سنان عن عمّار بن موسی قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

یا عمّار إن کنت

ص:125


1- (1) . الکشی 363 / ح 520 .
2- (2) . الکشی 366 / ح 536 .
3- (3) . الکشی 373 / ح 553 .

تحبّ أن تستتبّ لک النعمة وتکمل لک المروءة وتصلح لک المعیشة، فلا تشارک العبید والسفلة فی أمرک فإنک إن ائتمنتهم خانوک وإن حدّثوک کذبوک وإن نکبت خذلوک وإن وعدوک أخلفوک(1).

أقول: فمن لم تتوفّر فیه أصول الأدب والنجابة والکرامة ولم یکن کریم الطبع رجل سفل لا سیما کانت رذالته باطنة غیر ظاهرة، ومن أجل هذا ینبغی التجنب عنهم وعن مخالطتهم ومعاشرتهم ومصاحبتهم، فإنّ مصاحبتهم یؤدّی إلی الوقوع فی الانحرافات الخطیرة.

ص:126


1- (1) . الکافی 2 / 640 .

إذاعة أسرار المعارف تسبّب الانطباع الخاطیء منها لدی الجمهور

اشارة

إنّ کثیراً من رواة المعارف وأسرار المقامات قد رووا فی صفات النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته معانی لم یعقلها الکثیر من الرواة الآخرین ممّن هم ذوی مشارب ومسالک أخری واتّجاه خاص معیّن، کالاتّجاه الفقهی أو الکلامی أو فی السنن والآداب أو اتّجاه التنسک والمندوبات أو التفسیر والقراءات، فوضعوها علی غیر حدودها وحرّفوها عن وجهتها فأنکروها وطعنوا علی الرواة لها، واتّهموهم بما طبع لدیهم من الخطأ فی تفسیرها وتأویلها. لا سیّما وأنّ جملة من هذه الروایات قد وصلت إلی مسامع رواة العامة ممّن لیس له أیّة معرفة بحقائق أصول مذهب أهل البیت علیهم السلام فشدّد الطعن علی مضامین تلک الروایات والرواة وقذف رواتها بالغلوّ والإفراط والقول بتألیه أهل البیت علیهم السلام أو القول بنبوّاتهم، وکلّ ذلک بسبب عدم المعرفة بحقائق أصول معارف أهل البیت علیهم السلام .

ولنذکر لذلک نماذجاً مع أنّ الحری بنا فی المقام استقصاء تلک الموارد لکن لا یسقط المیسور بالمعسور:

النموذج الأول: الفرق بین النبی والمحدّث

إنّ الارتباط بالغیب عند العامة مطلقاً لا یفسّر إلّابالنبوّة وأنه وحی نبوی، مع

ص:127

أنه من أصول القرآن الکریم ومذهب أهل البیت علیهم السلام أنّ هناک قنوات مختلفة غیر قناة النبوّة للارتباط بالغیب لدی الأوصیاء والمصطفین من الحجج، کما ضرب القرآن أمثالاً لذلک کطالوت ومریم وذی القرنین والخضر وصاحب سلیمان آصف بن برخیا وعزیر وأمّ موسی ولقمان وغیرهم من الحجج والأصفیاء والأولیاء. ومن تلک القنوات العلم اللدنی وعلم الکتاب والبسط فی العلم والتمکین من الأسباب والحکمة والتوسّم وغیرها ممّا استعرضه القرآن الکریم وممّا هو مستفیض ومتواتر فی أحادیث النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته علیهم السلام .

بینما یری ذلک العامة سواء محدّثیهم أو متکلّمیهم أو مفسریهم أو فقهائهم - عدا من کان له مشرب صوفی - أنّ ذلک قول بالنبوّة، فتراهم یطعنون علی رواة تلک المعانی والصفات فی الأئمة علیهم السلام بأنّهم قائلون بالنبوّة. وما أن یتفشی وینتشر ذلک الطعن حتی یتلقّاه جملة من رواة الأئمة علیهم السلام ممّن هم ذوی مشرب ومسلک مختلف مع أسرار المعارف، فیثیر لدیهم الحفیظة والتحسّس تجاه رواة المعارف فیتفشی ویترسّخ الطعن.

لا سیما ویساعد هذا الأمر أنّ إذاعة وانتشار تلک الروایات یصل إلی ضعاف العقول فیتأولونه علی غیر حدّه ویقیمون تلک الصفات فی غیر مقامها، فیستفحل الخطب.

ولا سیما وأنّ هناک شریحة أخری یصفها أئمة أهل البیت علیهم السلام بالسفلة وقد مرّ أنّهم الذین تملکهم الشهوات وحبّ السمعة، ویقلّ فیهم صفة النجابة وکرامة الطبع، وتقوی فیهم الرذیلة فیتوصلون إلی أغراضهم الدنیة السافلة بتقمّص سلوکیات ومقالات المعرفة، ویوغلون فی تحریف المعانی والابتداع فی تفسیرها ویتّخذون من ذلک مدعاة لاستغفال بسطاء العقول ومصیدة لهم کی یقیموا لأنفسهم الرئاسات الباطلة، وجمع الأموال والمردة، والنیل من الأعراض ونوامیس الناس، فیشتدّ الأمر صعوبة ویکثر العضال وتنوب الطامات. ولأجل ذلک حرّم

ص:128

الأئمة علیهم السلام إذاعة ونشر وإفشاء تلک المعارف إلّاللخواصّ ممّن له قدرة فی التحمل ووعی المعانی بالاتزان وطهارة فی الأخلاق بعیداً عن ذوی النزعات النفسیة وأصحاب المیول والأهواء.

وقد أکّد أئمة أهل البیت علیهم السلام علی بیان الفرق بین النبی والرسول والمحدث و أنهم محدّثون.

فمنها ما رواه الکلینی بسنده عن عبید بن زرارة قال: أرسل أبو جعفر علیه السلام إلی زرارة

أن یعلم الحکم بن عتیبة أن أوصیاء محمد علیه وعلیهم السلام محدّثون(1).

أقول: یظهر من الحدیث أنّ الحکم بن عتیبة - الذی کان من البتریة - یزعم أنّ الارتباط الغیبی لدی الأئمة علیهم السلام معناه وصولهم إلی درجة النبوّة فأعلمه الإمام بأنهم محدّثون لا أنبیاء.

وقد ورد

أنّ أبا الخطاب هلک لأنّه لم یدر ما تأویل المحدّث والنبی(2).

وروی الکلینی بسند صحیح عن حمران بن أعین قال: قال أبو جعفر علیه السلام :

إنّ علیاً علیه السلام کان محدّثاً. فخرجت إلی أصحابی فقلت جئتکم بعجیبة فقالوا: ما هی؟ فقلت: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول: کان علی علیه السلام محدّثاً، فقالوا: ما صنعت شیئاً ألا سألته من کان یحدّثه فرجعت إلیه فقلت: إنّی حدّثت أصحابی بما حدّثتنی فقالوا:

ما صنعت شیئاً ألا سألته من کان یحدّثه؟ فقال لی:

یحدّثه ملک. قلت: تقول: إنّه نبی؟ قال: فحرّک یده هکذا:

أو کصاحب سلیمان أو کصاحب موسی أو کذی القرنین أو ما بلغکم أنّه قال: وفیکم مثله(3).

أقول: یظهر من الحدیث أنّ المرتکز عند حمران وأصحابه هو أنّ الارتباط الغیبی إنّما یفسّر بالنبوّة وقد نبّهه الإمام علیه السلام علی بطلان هذه المزعمة واستشهد

ص:129


1- (1) . الکافی 1 / 270 باب أن الأئمة علیهم السلام محدثون مفهّمون / ح 1 .
2- (2) . نفس المصدر / ح 2 .
3- (3) . الکافی 1 / 271 / ح 5 .

بآیات من القرآن حیث إنّه یصرّح فیها بأنّ آصف بن برخیا والخضر وذی القرنین کانوا علی ارتباط مستمر مع الساحة الربوبیة وعالم الغیب والملکوت مع أنّهم لیسوا بأنبیاء. ونظیرها ما ورد فی شأن مریم وأمّ موسی فلقد خاطبهما الملائکة وتحدّثوا مع جبرئیل، بل یظهر من بعض الآیات أنّ اللّه تبارک وتعالی کلّم مریم من دون واسطة جبرئیل.

النموذج الثانی: حقیقة الإلهام

فإنّ من یقوم بالإلهام عند العامة لیس إلّااللّه تعالی أی أنّ هذا الفعل یسند إلیه تعالی لا لغیره، فالملهِم هو الباری تعالی والذی یُلهَم لا یکون إلّانبیّاً، مع أنّ القرآن الکریم یسند فعل الإلهام إلی الملائکة أیضاً کما فی قوله تعالی: «أَوْ یُرْسِلَ رَسُولاً فَیُوحِیَ بِإِذْنِهِ ما یَشاءُ » فأسند الإیحاء هاهنا إلی الرسول بإذن اللّه تعالی، فالموحی هو الرسول والموحی إلیه هو البشر الذی یخصّه اللّه بالکلام من المصطفین الأطهار، فالملهِم - بالکسر - هو غیره تعالی ولکن بإذنه، والملهَم من یصطفیه اللّه.

و هذا الإلهام لیس من الضرورة أن یکون من الوحی النبوی بل عن أقسام الارتباط بالغیب الأخری کما فی شأن مریم وأمّ موسی وغیرهها من الأمثلة المضروبة فی القرآن.

لکنّ العامة حیث خصّوا الفاعل للإلهام به تعالی والملهَم - بالفتح - هو النبی ارتکز عندهم أنّ صفة فاعل الإلهام من الصفات الألوهیّة وصفت من یلقی إلیه الإلهام هو من صفات النبوّة، فإذا سمعوا بمقالات أو بمضامین روایات أنّ الأئمة علیهم السلام یلهمون نوابّهم الخاصّین ومن یتّخذوه باباً لهم کما ورد فی شأن سلمان وجملة ممن کانوا أبواباً للأئمة علیهم السلام وکما فی النوّاب الأربعة، حسبوا بأنّ هذه الصفة هی الصفة الألوهیة للأئمّة علیهم السلام وأنّ أبوابهم أنبیاء.

فأخذ العامّة فی طعن أصحاب تلک المقالات واتهامهم بأنهم یدّعون الألوهیة فی الأئمة علیهم السلام وأنّ هؤلاء الأبواب یدّعون النبوّة والرسالة وأنّ الأئمة علیهم السلام

ص:130

بعثوهم، وعندما یتفشی طعنهم یتلقفه بقیّة رواة الإمامیة ممّن لیس لهم مشرب ومسلک روایات المعارف ویشتدّ الطعن حینئذٍ ویترسّخ. ویزداد الأمر خطباً إذا سری ذلک إلی السفلة وضعاف العقول فإنّهم یتّخذون هذا التحریف دعوةً ومنهاجاً، ومن ثمّ کانت الإذاعة لهذا النمط من المعارف مدعاة للتحریف ولبروز ونشوء الفرق الضالّة ولتشنیع العامّة بهتاناً بما لا یفقهون.

ومن أمثلة هذه الروایات:

ما رواه الکشی بسنده عن الصادق علیه السلام أنه قال فی الحدیث الذی روی فیه أنّ سلمان کان محدّثاً قال:

إنه کان محدّثاً عن إمامه لا عن ربّه، لأنّه لا یحدّث عن اللّه عزوجل إلّا الحجّة(1).

مع أنه فی الروایات فسّر التحدیث بالإلهام والنقرة فی الأذن.

وما ورد فی زیارة النواب الأربعة:

أشهد أنّ اللّه اختصّک بنوره حتی عاینت الشخص فأدیت عنه وأدّیت إلیه(2).

فإنّ المعاینة المذکورة هنا لیس من سنخ المعاینة الظاهریة التی تحصل للبرّ والفاجر بل هی سنخ آخر من العیان الذی لا یحصل إلّالمن اختصّه اللّه بنوره، وهو بعد هذه المعاینة یؤدّی عن الإمام علیه السلام فالقناة التی تربط الباب والسفیر إلی الإمام قناة غیبی إلهامی.

ومن ذلک یُعلم أنّ انحراف جملة من رواة أسرار المعارف هو فی إذاعتهم تلک المعارف التی لا یحتملها الآخرون وتنطبع لدیهم معانیها علی غیر وجهها، فیضعونها علی غیر حدودها ویحرّفونها ولا یعقلونها، فیدبّ الانحراف ویفشی وکل ذلک بسبب الإذاعة للمعانی الصعاب المعضلات التی لا یتحمّل وعی معانیها وحقائقها الآخرون، فیکون إذاعة أولئک الرواة هو السبب فی نشوء هذا الانحراف

ص:131


1- (1) . الکشی / ح 34 .
2- (2) . التهذیب 6 / 118 .

وهو موجب لصدور اللعن من الأئمة علیهم السلام لهم علی ما فعلوه.

ص:132

السبب الأعظم لجرح الرواة والطعن علیهم عدم تحمّل الأسرار فی أحادیث أهل البیت علیهم السلام

اشارة

إنّ هناک المستفیض من الروایات المتضمّنة لکون علم أهل البیت علیهم السلام ذو طبقات بل هذه الروایات متواترة مع اختلاف ألسنتها وصنوفها، وهی دالّة علی وجود علم صعب مستصعب لا یتحمّله نبی مرسل ولا ملک مقرّب ولا مؤمن ممتحن، فکیف یتحمّلة أرباب الجرح فی علم الرجال کالفضل بن شاذان وأتباعه من مدرسته والنجاشی وابن الغضائری أو التیّار المتشدّد من القمّیین الذین کان دیدنهم الحدّة فی تضعیف الرواة ومضامین الأحادیث فی المعارف. وإن لم یکن ذلک التیّار متفرّداً بالساحة العلمیة فی مدرسة قم الروائیة فقد کانت التیّارات علی الطرف المعاکس له کما بیّناه سابقاً.

ووجود مثل هذه العلوم والمعارف فی روایات أهل البیت علیهم السلام الذی هو علی طبقات ودرجات - کما یظهر بوضوح لمن تصفّح هذه الروایات - لا یمکن إنکاره فلا غرو فی أن یتعرّض الرواة الراوین لأبواب وفصول من طبقات هذا العلم إلی أشدّ المواجهة والتکذیب والتفسیق بل إلی القتل کما أشار إلیه هذه المرویات نظیر ما ورد فی معلّی بن خنیس

أنه أذاع السرّ فابتلی بالحدید(1).

ص:133


1- (1) . بحار الأنوار 2 / 71 ح 34 .

وممّا یشهد علی أنّ بعض التضعیفات والجروح الواردة فی حق بعض الرواة کان بسبب عدم وعی وتحمّل ما یرویه ذلک الراوی من أسرار المعارف، طوائف من الروایات بألسنة مختلفة:

الطائفة الأولی :

ما دلّ علی أنّ بعض الأصحاب کانوا ینکرون بعض الأسرار من المعارف ولا یقفون عن رمی راویها والوقیعة فیه.

فمنها: ما رواه العبیدی عن أخیه جعفر قال: کنّا عند أبی الحسن الرضا علیه السلام وعنده یونس بن عبد الرحمن إذ استأذن علیه قوم من أهل البصرة فأومأ أبو الحسن علیه السلام إلی یونس:

ادخل البیت فإذا بیت مسبّل علیه ستر

وإیاک أن تتحرک حتی تؤذن لک، فدخل البصریون وأکثروا من الوقیعة والقول فی یونس وأبو الحسن علیه السلام مطرق حتّی لما أکثروا وقاموا فودّعوا وخرجوا فأذن لیونس بالخروج فخرج باکیاً فقال: جعلنی اللّه فداک إنّی أحامی عن هذه المقالة وهذه حالی عند أصحابی. فقال له أبو الحسن علیه السلام :

یا یونس وما علیک ممّا یقولون إذا کان إمامک عنک راضیاً. یا یونس حدّث الناس بما یعرفون واترکهم ممّا لا یعرفون کأنک ترید أن تکذب علی اللّه فی عرشه. یا یونس وما علیک أن لو کان فی یدک الیمنی درّة ثم قال الناس بعرة أو بعرة فقال الناس درّة هل ینفعک ذلک شیئاً؟ فقلت: لا. فقال: هکذا أنت یا یونس إن کنت علی الصلوات وکان إمامک عنک راضیاً، لم یضرک ما قال الناس(1).

ویظهر من هذا الحدیث أنّ مقال یونس کان حقّاً صحیحاً وقد رضی عنه الإمام علیه السلام وکان یونس یحمی ویذود عنها بکلّ قوة، بینما کان ذلک المقال والمعتقد عند بعض أصحاب یونس ممّا یوجب القدح والوقیعة فی یونس.

ومنها: ما رواه الکشی عن حمدویه عن الیقطینی عن یونس قال: قال العبد

ص:134


1- (1) . رجال الکشی / رقم 924 .

الصالح علیه السلام :

یا یونس ارفق بهم فإنّ کلامک یدقّ علیهم، قال: قلت: إنّهم یقولون لی:

زندیق. قال لی:

ما یضرّک أن تکون فی یدیک لؤلؤة فیقول لک الناس: هی حصاة، وما کان ینفعک إذا کان فی یدک حصاة فیقول الناس هی لؤلؤة(1).

ومنها: ما رواه الحلی فی مختصر البصائر عن معاویة بن عمار الدهنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: قال لی:

یا معاویة أتریدون أن تکذّبوا اللّه عزوجل فوق عرشه لا تحدّثوا الناس إلّابما یحتملون فإنّ اللّه تبارک وتعالی لم یزل یعبد سرّاً(2).

ومنها: ما رواه الشیخ فی الأمالی عن المفید عن أبی علی محمد بن همام الأسکافی عن الحمیری عن ابن عیسی عن الحسین بن سعید عن ابن حدید عن ابن عمیرة عن مدرک بن الهزهاز قال: قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمد علیه السلام :

یا مدرک إنّ أمرنا لیس بقبوله فقط ولکن بصیانته وکتمانه عن غیر أهله، اقرأ أصحابنا السلام ورحمة اللّه وبرکاته وقل لهم: رحم اللّه امرأ اجترّ مودّة الناس إلینا فحدّثهم بما یعرفون وترک ما ینکرون(3).

ومنها: ما رواه العیاشی فی تفسیره عن مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: سئل عن الأمور العظام التی تکون ممّا لم تکن فقال:

لم یأن أوان کشفها بعد و ذلک قوله: «بَلْ کَذَّبُوا بِما لَمْ یُحِیطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا یَأْتِهِمْ تَأْوِیلُهُ ».

ونظیره ما رواه العیاشی أیضاً عن حمران عن أبی جعفر علیه السلام (4).

ومنها: ما رواه الکشی بسنده عن داود بن کثیر قال: قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام :

إذا حدّثت عنّا بالحدیث فاشتهرت به فأنکره(5).

ص:135


1- (1) . بحار الأنوار 2 / ح 6 .
2- (2) . مختصر البصائر / 282 / 284 .
3- (3) . بحار الأنوار 2 / 68 / ح 15 .
4- (4) . بحار الأنوار 2 / 70 / ح 25 و 26 .
5- (5) . بحار الأنوار 2 / 75 / ح 51 .

ومنها: ما رواه الکشی بسنده عن جابر قال: دخلت علی أبی جعفر علیه السلام ...

ودفع إلیّ کتاباً وقال لی:

إن أنت حدّثت به حتی تهلک بنو أمیّة فعلیک لعنتی ولعنة آبائی وإذا أنت کتمت منه شیئاً بعد هلاک بنی أمیّة فعلیک لعنتی ولعنة آبائی، ثم دفع إلی کتاباً آخر ثم قال: وهاک هذا فإن حدثت بشیء منه أبداً فعلیک لعنتی ولعنة آبائی(1).

والحدیث دالّ علی أنّه لیس لجابر أن یحدّث ما أودع فی الکتاب الثانی أحداً أبداً حتی لکبار الرواة وأجلّاء الطائفة کزرارة ومحمد بن مسلم وغیرهما.

ومن هنا لما اشتکی إلی الإمام من ثقل ذلک فی صدره أمره الإمام بأن یحفر حفیرة ویدل رأسه فیها ثم یقول للأرض تلک الأسرار(2) ولا یقولها لهؤلاء الأجلاء من رواة الطائفة.

ومنها: ما رواه النعمانی فی الغیبة بسنده عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال لحذیفة بن الیمان:

یا حذیفة لا تحدّث الناس بما لا یعلمون فیطغوا ویکفروا. إنّ من العلم صعباً شدیداً محملة لو حملته الجبال عجزت عن حمله إنّ علمنا أهل البیت یستنکر ویبطل وتقتل رواته ویساء إلی من یتلوه بغیاً وحسداً لما فضّل اللّه به عترة الوصی وصیّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم (3).

قال الفیض فی الأصول الأصیلة:

وعن الصادق علیه السلام :

خالطوا الناس بما یعرفون ودعوهم مما ینکرون ولا تحملوا علی أنفسکم وعلینا أنّ أمرنا صعب مستصعب لا یحتمله إلّاملک مقرب أو نبی مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للإیمان.

فقال فی توضیح الحدیث: و ذلک لأنّ أسرار العلوم علی ما علیها لا یطابق ما یفهمه الجمهور من ظواهر الشرع فلابدّ أن یکون الإنسان أحد رجلین إمّا محقّقاً صاحب کشف ویقین أو مقّلداً صاحب تصدیق وتسلیم وأما الثالث فهالک وهو

ص:136


1- (1) . رجال الکشی / رقم 339 .
2- (2) . رجال الکشی / رقم 363 .
3- (3) . بحار الأنوار 2 / 78 / ح 65 .

الذی یمزج الحق بالباطل ویحمل الکتاب والسنة علی رأیه ویخلطهما بعقله الناقص کما ورد فی الأخبار الکثیرة(1).

والحاصل من هذه الطائفة من الروایات أنّ جملة من معارف أهل البیت علیهم السلام فوق طاقة وتحمّل البعض، ولأجل ذلک أمروا علیهم السلام بکتمانها عن غیر أهلها، وبإنکارها إذا اشتهر بها و ذلک لأنّ هذه الأحادیث والمعارف صعب لا یتحمّله غیر المتمحّض فیها فیحملهم ذلک علی التکذیب والوقیعة فی الحدیث وراویه.

ومنه یظهر أنّ کثیراً من الجرح والوقیعة والتضعیف للرواة کان ناشئاً من هذا المنشأ کما قال تعالی:

«بل کذبوا بما لم یحیطوا بعلمه ولمّا یأتهم تأویله»، فلا یستغرب الباحث من کثرة طعن الرجالیین کابن الغضائری والنجاشی والکشی وغیرهم فی رواة المعارف الراوین لمسائل وفصول عدیدة لم یحصل لأولئک الرجالیین الخوض فیها أو القدرة علی البحث فیها، فلا محالة یکون موقفهم منها موقف مستنکر طاعن متحامل علیها بشدّة.

هذا فضلاً عن التأثر بطعون العامّة فی أولئک الرواة وإرسالهم لتلک الطعون إرسال المسلّمات إلی درجة یهاب الباحث الرجالی من الخدشة فیها أو التروّی فی صحّتها.

الطائفة الثانیة:

ما ورد فی أنّ أبا ذرّ ومقداد لا یتحملان علم سلمان وکذا العکس.

منها: ما رواه الکشی عن طاهر بن عیسی الوراق رفعه إلی محمد بن سفیان عن محمد بن سلیمان الدیلمی عن علی بن أبی حمزة عن أبی بصیر قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم : یا سلمان لو عرض علمک علی مقدار لکفر، یا

ص:137


1- (1) . الأصول الأصیلة / 169 .

مقداد لو عرض علمک علی سلمان لکفر(1).

ونقله المفید بسند آخر: ابن قولویه عن سعد بن عبد اللّه عن محمد بن الحسین عن محمد بن أسلم الجبلی عن علی بن أبی حمزة مع تفاوت فی آخره

یا مقداد لو عرض صبرک علی سلمان لکفر(2).

ومنها: ما رواه الکشی: قال أمیر المؤمنین علیه السلام :

یا أبا ذر إنّ سلمان لو حدّثک بما یعلم لقلت رحم اللّه قاتل سلمان، یا أبا ذر إنّ سلمان باب اللّه فی الأرض من عرفه کان مؤمناً ومن أنکره کان کافراً وإنّ سلمان منّا أهل البیت علیه السلام (3).

ومنها: ما رواه أیضاً عن مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبیه علیه السلام قال: ذکرت التقیة یوماً عند علی علیه السلام فقال:

إن علم أبو ذر ما فی قلب سلمان لقتله، وقد آخی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم بینهما فما ظنّک بسائر الخلق(4).

وروی الصفّار قال: حدثنا عمران بن موسی ومحمد بن علی وغیره عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة مثله(5).

ومنها: ما رواه الکشی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

خطب سلمان فقال: ... إلی أن قال:

ولو أخبرتکم بکلّ ما أعلم لقالت طائفة مجنون، و قالت طائفة أخری: اللهم اغفر لقاتل سلمان(6).

وروی فی الاحتجاج عن الصادق علیه السلام عن أبیه عن آبائه قال:

خطب الناس سلمان الفارسی رحمه الله بعد أن دفن النبی صلی الله علیه و آله و سلم بثلاثة أیام فقال: ألا أیها الناس اسمعوا عنّی

ص:138


1- (1) . الکشی 72 / ح 23 .
2- (2) . الاختصاص: 11.
3- (3) . الکشی: 77 / ح 33 .
4- (4) . الکشی: 79 / ح 40 .
5- (5) . بصائر الدرجات: 1 / 71 ح 20 باب فی أئمة آل محمد صلی الله علیه و آله ، وأنّ حدیثهم صعب مستصعب.
6- (6) . الکشی: 83 / ح 47 .

حدیثی ثم اعقلوه عنّی ألا وإنی أوتیت علماً کثیراً فلو حدثتکم بکل ما أعلم من فضائل أمیر المؤمنین لقال طائفة منکم هو مجنون وقال طائفة أخری اللهم اغفر لقاتل سلمان.

قال العلّامة المجلسی رحمه الله : قوله علیه السلام : فی قلب سلمان - فی ما رواه مسعدة بن صدقة - أی من مراتب معرفة اللّه ومعرفة النبی والأئمة صلوات اللّه علیهم فلو کان أظهر سلمان له شیئاً من ذلک لکان لا یحتمله ویحمله علی الکذب وینسبه إلی الارتداد أو العلوم الغریبة والآثار العجیة التی لو أظهرها له لحملها علی السحر فقتله، أو کان یفشیه ویظهره الناس فیصیر سبباً لقتل سلمان علی الوجهین. وقیل الضمیر المرفوع راجع إلی العلم والمنصوب إلی أبی ذر أی لقتل وأهلک ذلک العلم أبا ذر أی کان لا یحتمله عقله فیکفر بذلک أو لما یطیق ستره وصیانته فیظهره للناس فیقتلوه(1).

وقال الخاقانی: من مارس الأخبار وتصفح الآثار لا یشک فی أنه قد کان لکل واحد من الأئمة علیهم السلام خواص من شیعته یطلعونهم علی عجائب أمورهم وغرائب أخبارهم ولم یطلعوا سواهم علیها لعدم اتساع صدورهم لتحمل مثل تلک الأمور النادرة، فإذا حدث أولئک الخواص بتلک الأحادیث التی لم یشارکوا فی روایتها بادر طوائف من الشیعة إلی تکذیبهم والرد علیهم ونسبتهم إلی الغلو وارتفاع القول کما وقع فی شأن سلمان وأبی ذر من قوله صلی الله علیه و آله و سلم :

لو علم أبو ذر ما فی قلب سلمان لقتله(2).

والجامع فی هذه الأحادیث عن سلمان أنّ ما یعلمه سلمان لو اطّلع أبو ذرّ علی مقالته لحسبها أنها من الکفر أی أنّ تلک المقالة والأمور التی یعتقدها سلمان هی کفر بحسب الأفق العلمی والقناعات المعرفیة عند أبی ذرّ، وعلی هذا التقدیر فلو صدر القول بالتکفیر عن أبی ذرّ فی حقّ سلمان لما کان له حقیقة لعدم إخلال

ص:139


1- (1) . بحار الأنوار 22 / 343 .
2- (2) . رجال الخاقانی: 160 .

سلمان بحقیقة التوحید وبقیّة أصول المعارف، وإنّما یحسب أبو ذرّ أنّ تلک المقالات التی یتبنّاها سلمان هی تطرّف وإفراط فی القول وإسناد الشؤون الإلهیّة لغیر اللّه.

فإذا کان هذا موقف أبی ذر وهو ممّن بلغ الدرجة التاسعة من الإیمان تجاه معارف سلمان الذی بلغ الدرجة العاشرة فکیف بسائر الخلق ممّن هو فی الدرجات الدانیة من الإیمان کما بیّن ذلک فی موثقة مسعدة بن صدقة، بل کیف یتوقع نظرة غیر المؤمن من سائر المسلمین تجاه تلک المعارف.

ومن ثمّ نخرج بنتیجة أنّ إسناد الکفر تجاه رواة المعارف والأسرار لابدّ من التثبّت فیها والتروّی والوقوف علی حقیقة مقال من أسند إلیه الغلوّ أو التکفیر.

ومن ثمّ مارس سلمان التقیة فی تلک المعارف مع أبی ذرّ ولو أقدم علی إذاعتها وإفشائها لرمی سلمان بالکفر کما رمی غیره.

وبعبارة أخری: أنّ هناک معنی للغلو غیر ما اشتهر من معناه - کما سیأتی فی مبحث معانی الغلو - وهو التعویل علی مقالة حقّ، فیها من المعرفة العظیمة بحیث یتعاظم العارف بها إلی ما یؤدّی إلی التفریط بالأعمال والحدود والأحکام الظاهرة ویبلغ من عظم المعرفة فی تلک المقالة استنکارها من الخواصّ فضلاً عن عموم العامّة و ذلک لعدم وعیهم حقایقها وتأویلها، و هذا یؤکّد أنّ جملة من المقالات الحقّة لها مثل هذه التداعیات وردّ الفعل المنطبع علی الآخرین بهذا النحو.

وبعبارة ثالثة: إنّ جملة من المعارف الحقّة لصعوبة فهمها ودرکها علی نخبة العقول فضلاً عن عموم الأذهان یستعصی فهمها بنحو موزون سدید لا یقع تأویلها وتفسیرها علی معنی منحرف خاطیء، یحظر إفشائها ونشرها علی السطح العامّ لأنّها تُحدث معنی خاطئاً انحرافیاً لدی الکثیر، فیکون الغلوّ فی هذا النمط هو الإفراط فی الإذاعة والنشر أو تسبیب وقوع والتغریر بجرّ جماعة من السذّج إلی الالتزام بمقالات یفرط فیها القول. وممّا یؤکّد وجود هذا المعنی من الغلو عدة

ص:140

طوائف من الروایات الأخری وسیأتی ذکرها.

الطائفة الثالثة :

ما ورد فی أمیر المؤمنین وأهل البیت علیهم السلام من مقامات لم یظهرها رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم لعدم تحمّل الناس.

قال علی علیه السلام :

قال لی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم یوم فتحت خیبر: لو لا أن یقول طوائف من أمّتی فیک ما قالت النصاری فی عیسی بن مریم لقلت فیک مقالة لا تمرّ بملأ من الناس إلّا أخذوا من تراب رجلیک ومن فضل طهورک یستشفون به(1).

و هذا الحدیث ممّا رواه الفریقان، ویظهر هذا الحدیث أنّ هناک جملة من النعوت والصفات والمقامات لعلی علیه السلام لم یظهرها النبی صلی الله علیه و آله و سلم مع أنّها معرفة حقّة لا تتنافی مع عبودیة علی علیه السلام للّه ومخلوقیته، إلّاأنّ طوائف من هذه الأمة حیث لا تعقل تلک الصفات ولا تعیها علی حقائقها تدفع بها تلک الأحادیث النبویة - لو افشیت - إلی تخیّل وتوهّم الألوهیة فی علی علیه السلام کما قالت النصاری بالألوهیة فی عیسی بن مریم علیه السلام . ولا یخفی أن مناسبة صدور هذا الحدیث من النبی صلی الله علیه و آله و سلم هو یوم فتح خیبر الذی قلع فیه أمیر المؤمنین علیه السلام باب خیبر بمفرده ورمی به من أعلی الحصن إلی أسفل الوادی والذی ورد فی بعض الروایات

و اللّه ما قلعت باب خیبر ورمیت بها خلف ظهری أربعین ذراعاً بقوة جسدیّة ولا حرکة غذائیة لکنّی أیّدت بقوة ملکوتیة ونفس بنور ربها مضیئة(2).

وکان فتح أمیر المؤمنین علیه السلام لخیبر عندما عجز المسلمون حیث انتدب رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم أبا بکر فی أحد الحملات ثم عمر ثم عمرو بن العاص وکلّ منهم

ص:141


1- (1) . إحقاق الحق 22 / 256 عن توضیح الدلائل للشافعی الشیرازی، وإحقاق الحق 22 / 358 عن الوسیلة للخضر الموصلی، وإحقاق الحق 15 / 219 عن مناقب ابن المغازلی الشافعی.
2- (2) . الأمالی للشیخ الصدوق / 604. روضة الواعظین / 127، ونظیره نهج البلاغة / کلمات قصار 626 .

رجع یجبّن الناس ویجبّنونه.

فهو علیه السلام رغم کمائن الوادی التی لا یمکن اجتیازها، ثم أطواق بیوت الیهود حول الجبل والحصن التی هی بمثابة الدرع الثانی للقلعة، ثم الصعود إلی باب القلعة فوق الجبل مع تسلّط الیهود من فوق القلعة والجبل علی من یرومهم من الأسفل، فکلّ هذا الفتح کان إعجازاً فوق قدرة البشر حیث ورد الوسام النبویّ:

لأعطینّ الرایة غداً رجلاً یحبّ اللّه ورسوله ویحبّه اللّه ورسوله کرّار غیر فرّار ثم لا یرجع حتی یفتح اللّه علی یدیه(1).

فمناسبة صدور الحدیث أنّ فی مقالة رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم التی لم یظهرها صفات غیبیّة وملکوتیة لعلی علیه السلام لا تحتملها الأذهان وتندفع فی تفسیرها وتأویلها إلی التألیه توهّماً منهم أنّ تلک الصفات هی الصفات الألوهیة، مع أنّها صفات المخلوق فالعقدة والانحراف والبطلان لیس فی أصل تلک الصفات ومنشأ تلک المقولات بل هی فی تأویلها الخاطیء وتفسیرها المنحرف.

وقد مرّ أنّ عمّاراً لمّا مر مع أمیر المؤمنین بواد النمل کان یستعظم أن یعلم عددها مخلوق فنبّهه علیه السلام أنه یعلمه وهو الإمام المبین الذی أحصاه اللّه فیه کلّ شیء(2).

ومن ذلک ما نسب إلی الأمام زین العابدین من قوله:

إنی لأکتم من علمی جواهرهکی لا یری الحقّ ذو جهل فیفتتنا

وقد تقدّم فی هذا أبو حسنإلی الحسین وأوصی قبله الحسنا

فربّ جوهر علم لو أبوح بهلقیل لی أنت ممن یعبد الوثنا

ولاستحل رجال المسلمین دمییرون أقبح ما یأتونه حسنا(3)

ص:142


1- (1) . الاحتجاج 1 / 406 .
2- (2) . راجع بحار الأنوار 40 / 176 .
3- (3) . الغدیر 7 / 52 نقلاً من تفسیر الآلوسی 6 / 150 .

و البیت الأول دال بوضوح أنّ من نفائس المسائل العلمیة ما لو أظهر لعامّة الأذهان والعقول لسبّب افتتانها أی ینطبع معنی خاطئها بدل ذلک المعنی الصحیح ولما قدرت تلک العقول علی تصوّره بما هو علیه. ویشیر البیت الثالث أن جواهر تلک العلوم هی مرتبطة بمقامات النبی وأهل البیت علیهم السلام وأنّه لو أظهرت للعقول القاصرة لظنّت أنّ ذلک تألیه لهم ویشیر البیت الرابع أنّ کثیراً من طعون التکفیر لأصحاب المقالات المرمیّین بالغلو فیهم هی بسبب عدم تحمّل نسبة هذه الصفات لهم علیهم السلام مع أنّها لیست إلّامن باب عباد مکرمون بکرامات اللّه وتمکینه لهم.

الطائفة الرابعة:

ما ورد فی أنّ حدیثهم صعب مستصعب.

کما روی الصدوق فی حدیث الأربعمائة قال: قال أمیر المؤمنین علیه السلام :

خالطوا الناس بما یعرفون ودعوهم ممّا ینکرون ولا تحملوهم علی أنفسکم وعلینا إنّ أمرنا صعب مستصعب لا یحتمله إلّاملک مقرّب أو نبی مرسل أو عبد قد امتحن اللّه قلبه للإیمان(1).

وروی الصفّار عن ابن أبی الخطاب عن محمد بن سنان عن عمار بن مروان عن المنخل عن جابر قال: قال أبو جعفر علیه السلام قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم :

إنّ حدیث آل محمد صعب مستصعب لا یؤمن به إلّاملک مقرّب أو نبی مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للإیمان فما ورد علیکم من حدیث آل محمد صلوات اللّه علیهم فلانت له قلوبکم وعرفتموه فاقبلوه وما اشمئزت قلوبکم وأنکرتموه فردّوه إلی اللّه وإلی الرسول وإلی العالم من آل محمد علیهم السلام وإنما الهالک أن یحدّث بشیء منه لا یحتمله فیقول: و اللّه ما کان هذا شیء والإنکار هو الکفر(2).

وروی أیضاً عن ابن عیسی عن محمد بن سنان عن أبی الجارود عن أبی

ص:143


1- (1) . بحار الأنوار 2 / 183 .
2- (2) . بحار الأنوار 2 / 189 .

جعفر علیه السلام قال: سمعته یقول:

إنّ حدیث آل محمد صعب مستصعب ثقیل مقنّع أجرد ذکوان لا یحتمله إلّاملک مقرّب أو نبی مرسل أو عبد امتحن اللّه للإیمان أو مدینة حصینة فإذا قام قائمنا نطق وصدّقه القرآن(1).

وروی عن سلمة عن محمد بن المثنی عن إبراهیم بن هشام عن إسماعیل بن عبد العزیز قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

حدیثنا صعب مستصعب، قال: قلت:

فسّر لی جعلت فداک، قال:

ذکوان ذکی أبداً. قلت: أجرد؟ قال:

طریّ أبداً، قلت: مقنّع قال:

مستور.

قال العلّامة المجلسی: الذکاء التوقد والالتهاب أن ینوّر الخلق دائماً والأجرد الذی لا شعر علی بدنه و مثل هذا یکون طریاً حسناً فاستعیر للطراوة والحسن(2).

وروی عن محمد بن عبد الجبار عن الحسن بن الحسین اللؤلؤی عن محمد بن الهیثم عن أبیه عن أبی حمزة الثمالی قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول:

إنّ أمرنا صعب مستصعب لا یحتمله إلّاثلاثة: ملک مقرب أو نبی مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للإیمان، ثم قال:

یا أبا حمزة ألست تعلم أنّ فی الملائکة مقربین وغیر مقربین وفی النبیین مرسلین وغیر مرسلین وفی المؤمنین ممتحنین وغیر ممتحنین قلت: بلی، قال:

ألا تری إلی صفوة أمرنا أنّ اللّه اختار له من الملائکة مقربین ومن النبیین مرسلین ومن المؤمنین ممتحنین(3).

وغیر ذلک من الأخبار الکثیرة.

وفی هذه الأخبار إشارة واضحة إلی أنّ جملة من معارف أهل البیت علیهم السلام لا یحتملها عموم المسلمین من المذاهب الأخری ومن ثمّ یندفعون إلی إنکارها أشدّ الإنکار بل یسبّب ذلک تحاملهم علی أهل البیت علیهم السلام وعلی أتباعهم بالنکیر أی

ص:144


1- (1) . بحار الأنوار 2 / 191 .
2- (2) . بحار الأنوار 2 / 191 .
3- (3) . بحار الأنوار 2 / 196 .

التکفیر والتضلیل، فأمر أهل البیت علیهم السلام وشأنهم علیهم السلام ووجودهم وأرواحهم الأمریّة صعب، فإنّه قد وصف فی بعض الروایات الصعب هو الذی لا یرکب والمستصعب هو الذی یفرّ من أوّل مشاهدة له(1).

وقال العلامة المجلسی: الصعب هو الجمل الذی یأبی عن الرکوب والحمل وظاهر أنّ المراد به هنا الامتناع عن الإدراک والفهم.

بل قد ورد فی بعض الأخبار أنّ حدیثهم وأمرهم لا یحتمله ملک مقرّب ولا نبی مرسل ولا عبد مؤمن قال الراوی: فمن یحتمله فقال الإمام علیه السلام :

نحن نحتمله(2).

فهناک جملة من المعارف الغامضة التی اختص بها أهل البیت علیهم السلام ولا یعیه ولا یحتمله غیرهم مهما بلغ.

فمن ذلک ما رواه الحلی فی مختصر البصائر بسنده عن ابن أبی عمیر عن الباقر علیه السلام ، قال:

لقد سأل موسی علیه السلام العالم مسألة لم یکن عنده جواب ولو کنت شاهدهما لأخبرت کل واحد منهما بجوابه ولسألتهما مسألة لم یکن عندهما فیها جواب(3).

ویبیّن هذا الحدیث والذی یطابق قاعدة أنّ القرآن مهیمن علی کتب الأنبیاء السابقین وأنّ علم القرآن کله قد ورثه أهل البیت علیهم السلام من النبی صلی الله علیه و آله و سلم ، فإنّ النبی موسی علیه السلام ثقل علیه الصبر علی علم الخضر فکیف یکون حال النبی موسی مع علم أهل البیت الذی هو فوق علم الخضر، بل إنّ الخضر حاله مع علم أهل البیت کما هو حال موسی معه فإذا کان الخضر والنبی موسی یصعب علیهم تحمل علم أهل البیت علیهم السلام فکیف الحال بمن دونهما؟

وجملة أخری من معارفهم إنّما یحتمله من الملائکة المقربین منهم، ومن الأنبیاء المرسلین منهم، ومن المؤمنین الممتحنین منهم، فهذه الطائفة من

ص:145


1- (1) . بحار الأنوار 2 / 194 .
2- (2) . بحار الأنوار 2 / 193 / ح 36 و 39 .
3- (3) . مختصر البصائر / 302 / ح 317 .

المعارف لو وصلت إلی الملائکة غیر المقربین أو الأنبیاء غیر المرسلین أو المؤمنین غیر الممتحنین لاشمأزوا منه وینکروه ولا یقروا به، وإذا کان هذا حال بعض الملائکة والأنبیاء فما ظنّک بغیرهم من الذین لم یخوضوا فی المعارف بنحو العمق العالی کأمثال النجاشی وابن الغضائری.

ص:146

5 - معانی الکذب و أنواع الغلو(182-147)

اشارة

ص:147

ص:148

معانی الکذب فی اللغة

إنّ الکثیر یتوهّم أنّ للکذب معنی واحداً وهو الکذب فی الإخبار، فإذا اتّصف راو معین بالکذب فمعناه أنه یجعل الخبر من عند نفسه وینسبه للإمام علیه السلام لا سیما إذا قیل إنّه کذّاب. و هذا غفلة عن حقیقة الحال فإنّ للکذب معان وأقسام عدیدة، وقد استعملت الکلمة فی الروایات وأطلقت علی الغلاة. وفی کثیر من تلک المعانی لیس الکذب بمعنی الإخبار بخلاف الواقع من حیث مضمون الخبر، وإن کان مخالفاً للواقع أو للموازین المقرّرة من جهات أخری، کما هو الحال فی نقیض الکذب وهو الصدق.

فإنّ للکذب فی اللغة معانی کثیرة:

1 - ففی لسان العرب أنه استعمل فی مخالفة الوعد أو العهد.

2 - وفیه أیضاً أنه استعمل أیضاً فی الرد فقیل فی قوله تعالی: «لَیْسَ لِوَقْعَتِها کاذِبَةٌ » أی لیس یردّها شیء کما عن الزجاج، أو لیس لها مردود ولا ردّ کما عن الفرّاء.

3 - وأیضاً استعمل فی الوهم کما قیل فی قوله تعالی: «ما کَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأی » أی ما أوهمه الفؤاد أنّه رأی ولم یری بل صدقه الفؤاد رؤیته.

4 - واستعمل أیضاً فی التمنّی بغیر الحق کما یقال: کذبته نفسه أی منّته بغیر الحق، وفی مجمع البحرین: والکواذب النفوس الأمّارة الخادعة للإنسان بالآمال

ص:149

الکاذبة، أی الأمر بغیر الحق والخداع به ومنه قول لبید:

أکذب النفس إذا حدّثتهاغیر أن لا تکذبنّها فی التقی

أی منّ نفسک العیش الطویل لتأمل الآمال البعیدة فتجدّ فی الطلب لأنّک إذا صدّقتها فقلت لعلک تموتین الیوم أو غداً قصر أملها وضعف طلبها.

5 - وفی المجمع أیضاً، والکذب هو الانصراف عن الحق وکذلک الإفک.

6 - وفیه أیضاً: وکذب قد یکون بمعنی وجب ومنه الحدیث «ثلاثة أسفار کذبت علیک» ومنه «کذب علیکم الحج».

أقول: هذا إذا لم یکن اشتباه من النساخ فی روایة الحدیث وإن اللفظ بصورة «کتبت علیکم» أو «کتب علیکم».

7 - وفی اللسان أیضاً: کذّب عنه أی أحجم وحمل علیه، فما کذّب أی ما انثنی فیکون بمعنی الإحجام والانثناء، وقریب منه ما قیل إنه بمعنی الفتور کما فی تاج العروس.

8 - واستعمل أیضاً بمعنی الخطأ من دون تعمد الخلاف.

9 - ویستعمل أیضاً بمعنی الإغراء تقول للرجل إذا أمرته بشیء وأغریته:

کذب علیک کذا أی علیک به، فهو بمعنی حرّض وحرّش وأمکن منه.

10 - ومنه أیضاً کذّب بالأمر أی أنکره.

ومن ثم یتبیّن أن إسناد الکذب فی الاستعمال الروائی لبعض الرواة لیس من الضروری أن یکون بمعنی الإخبار بخلاف الواقع فإذا ورد کذب علیّ فلان وأذاع سرّی یحتمل فیها جملة هذه المعانی العشرة الأخری.

ولا نرید من تعدّد هذه المعانی تعدّدها بلحاظ أصل المعنی، بأن یکون للکذب عشرة معان بنحو المشترک اللفظی، بل المراد أنّ المعانی المستعمل فیها الکذب ولو بلحاظ المناسبات الموجودة بینه وبین المعانی الأخری هو بتعداد عشرة معانی أخر کثیرة الاستعمال، فالاستعمال المتقدّم یحتمل فیه أن یکون

ص:150

بمعنی: کذب علیّ أی خالف عهدی، أو بمعنی ردّ علیّ ما قد أمرته به، أو بمعنی وهم فی بعض ما قال،أو بمعنی تمنّی علیّ الأمانی الباطلة أی أراد منه ما لیس بحق.

ص:151

أقسام الکذب التی ارتکبها الغلاة

اشارة

ظهر ممّا ذکرنا فی موارد استعمال الکذب فی اللغة أنّه لیس کلّ کذب بمعنی الإخبار بخلاف الواقع، بل قد یکون الخبر مطابقاً للواقع ومع ذلک یکون المخبر کاذباً فی إخباره. ولا یستغرب ذلک.

فقد ورد هذا الاستعمال فی القرآن المجید حیث وصف من أخبر بما لا ینبغی الإخبار به - لعدم توفّر شرائط الإخبار وظروفه المناسبة - کاذباً، و ذلک لما یسبّب هذا الإخبار الوقوع فی المهالک الموهلة. فقد اشتهر أنّه لا یسوغ الإخبار بکلّ صدق أی أنّ بعض الإخبارات الصادقة من حیث مطابقتها للواقع لیس المصلحة فی إبرازها بل فیه مفسدة فهو کذب من جهة أخری.

فمن ذلک قوله تعالی فی الإفک: «لَوْ لا جاؤُ عَلَیْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ یَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِکَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ الْکاذِبُونَ »1.

فإنّه علّل فی الآیة کونهم من الکاذبین عند اللّه عدم إتیانهم بالشهداء لا کون کلامهم خلاف الواقع. فإنّ من یشهد بأمر رآه بأمّ عینه کیف یکون کاذباً لأجل عدم إتیانه بالشهداء غیره، فالمعنی أنّه ما لم یتوفّر لدیه أربعة شهداء فالإخبار بما رآه مخالف لموازین الستر والعفاف؛ فهو کاذب أی أنّه أخبر بما لا ینبغی الإخبار به

ص:152

وإن کان الإخبار مطابقاً للواقع.

ومن لطائف الآیة أنّه تعالی یعتبرهم کاذبین عند اللّه ولیس عند الناس، أی بالمقایسة والموازنة مع أحقّ الحقائق والواقعیات. و هذا دلیل وبرهان علی أنّ الکذب بهذا المعنی لیس معنی مجازیاً غیر الحقیقی، بل إنّ کذبهم هذا لأجل أداء الشهادة فی حین عدم توفّر بقیة الشهود کذب فی مقیاس اللّه الذی هو أحقّ الحقائق ولیس فوقه حقیقة.

ونظیر ذلک ما ورد فی آیة قذف المحصنات حیث قال تعالی: «وَ الَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ یَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ... أُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ .»1

فإنّه تعالی علّل کونه من الفاسقین لعدم إتیانهم بأربعة شهداء لا إخبارهم بما یخالف الواقع فلو کان الرامی رأی بعینه وسمع بأذنیه فلو أخبر بذلک من دون زیادة ونقصان فهو فاسق ویجب جلده ولا تقبل شهادته أبداً، لأنّه لیس له أن یخبر بذلک ما لم یتوفر لدیه أربعة شهداء.

ونستخلص من الآیتین أنّ المخبر إذا لم یکن مرخَّصاً فی الإخبار فإخباره یکون کذباً وهو کاذب عند اللّه، حتّی لو کان ما أخبر به عین متن الواقع.

وعلی ضوء ذلک یمکن أن یقال إنّ من أخبر بحدیث سمعه من الإمام علیه السلام یکون کاذباً فیما إذا کان هذا الإخبار مخالفاً للموازین المقرّرة عندهم علیهم السلام ، ولذلک ورد فی من أذاع أسرار أهل البیت علیهم السلام أنّه کذب علیهم لأجل أنّ فی هذا الإخبار مفسدة من حیث عدم تحمّل السامعین ممّا یسبّب الوقوع فی المخاطر الاعتقادیة لدی السامع، أو یسبّب تحریض الطغاة علی إمحاء معالم أهل البیت علیهم السلام فیکون المذیع بذلک هو المسبّب لهذه المخاطر فهو کمن قاتلهم عمداً لا سهواً.

ص:153

ولایة الأخبار وصلاحیة الناطق الرسمی

اشارة

ونظیر ذلک قوله تعالی: «آللّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّهِ تَفْتَرُونَ »1.

فإنّه قد وقع التقابل بین الإذن والافتراء، وهذه الآیة من الملاحم التی وقع المفسرون فی حیص وبیص فإنّ الذی یقابل الافتراء هو الصدق، والذی یقابل الإذن هو التصرّف فی ما لا یملک الإنسان فیکون تقحّماً فی ملک الغیر فکیف تتمّ هذه المقابلة. وعلی أی تقدیر یظهر من الآیة أنّ الإخبار عن اللّه أو عن دین اللّه یشترط فیه الإذن والترخیص لأنّ هذا الإخبار مهما تنزّلت درجته فإنّه یأخذ طابعاً ولائیاً یحتاج إلی صلاحیة معطاة و ذلک بسبب کونه إخباراً عن اللّه أو عن دینه وهو من الشؤون الراجعة إلی تعالی، فإفشائه وکشفه أو إیصاله إلی الغیر یحتاج إلی ترخیص وتولیة من قِبله تعالی.

ودرجات هذا الإخبار قد تکون فی المرتبة العالیة کما فی إبلاغ رسالة الرسول والنبی وکما فی الإبلاغ عن الرسول الأمور التی لم یتصدّی صلی الله علیه و آله و سلم لإبلاغ الناس مباشرةً وهو إبلاغ الإمام عن الرسول الذی یشیر إلیه قول اللّه فی الحدیث القدسی الذی أتی به جبرئیل فی تبلیغ سورة البراءة:

ولا یؤدی عنک إلّاأنت أو رجل منک.

وکما فی الترخیص للفقهاء بشرط أن یکون نفرهم وتحصیلهم للعلوم من الرسول أو المعصوم لیتفهموا الدین عنهم ومن ثمّ یسوغ لهم الإنذار والإفتاء.

ومن ثمّ یعرّف الناطق الرسمی باسم الدولة أو باسم الحکومة أو باسم المجلس النیابی أو باسم أیّ هیأة علیا أو سلطة أنّه لا یزاول عملیة إخبار محضة، بل یتقلّد نحو ولایة وصلاحیة مقام. ویتبیّن بذلک أنّ الإعلام والإظهار لأمور بطبیعتها مکتومة وبطبیعتها فی طیّ حراسة الخفاء یحتاج إلی صلاحیة وإذن، ومن

ص:154

دونه یکون هذا المظهر والمذیع کاذباً لأنّه یتقلّد ویمارس صلاحیات لم یرخّص له بها وبالتالی فإنّه یتقمّص مقام الناطق الرسمی باسم من یخبر عنه و هذا کذب وافتراء، فیؤول إلی ادّعاء مقام الخاصّ من مقامات ذات الصلاحیة.

ومن ثمّ یکون تقحّماً ویستحقّ اللعن بذلک، ولیعلم أنّ التکذیب بهذاالمعنی وفی هذا الباب یعنی تقحّم الصلاحیّات والمناصب لا سیما أنّ هذا المنصب لیس هو مقام الروایة أو الفقاهة بل هو یعلوهما.

وأمّا الروایات فقد ورد فیها عن أئمة أهل البیت علیهم السلام نسبة الکذب إلی بعض الرواة لا سیما المتهمین بالغلوّ ولیس منها الکذب المصطلح بمعنی الإخبار بخلاف الواقع بل لهما معان أخر نذکرها تباعاً:

الأول: إذاعة الأسرار وإفشائها

هناک کذب اصطلاحی عندهم علیهم السلام وهو بمعنی إذاعة السرّ، وعقوبته ذوق حرّ الحدید کما بیّن فی ترجمة المعلّی وغیره من الرواة أنّه أذیق حرّ الحدید لإذاعة السرّ وإن لم یوصف بالکذب.

فقد روی الکشی عن أبی علی أحمد بن علی السلولیّ المعروف بشقران، قال: حدّثنا الحسین بن عبد اللّه القمّی عن محمد بن أورمة عن یعقوب بن یزید عن سیف بن عمیرة عن المفضّل بن عمر الجعفی قال: دخلت علی أبی عبداللّه علیه السلام یوم صلب فیه المعلّی، فقلت له: یابن رسول اللّه ألاتری هذا الخطب الجلیل الذی نزل بالشیعة فی هذا الیوم، قال:

وما هو؟ قلت: معلّی بن خنیس، قال:

رحم اللّه معلّی قد کنت أتوقّع ذلک لأنّه أذاع سرّنا ولیس الناصب لنا حرباً بأعظم مؤنة علینا من المذیع علینا سرّنا، فمن أذاع سرّنا إلی غیر أهله لم یفارق الدنیا حتی یعضّه السلاح أو یموت بخبل.

وروی الکشی: حدّثنی محمد بن قولویه قال: حدّثنی سعد بن عبد اللّه قال:

حدّثنی أحمد بن محمد بن عیسی عن أبی یحیی زکریّا بن یحیی الواسطی؛

ص:155

وحدّثنا محمد بن عیسی بن عبید عن أخیه جعفر بن عیسی وأبی یحیی الواسطی قال أبو الحسن الرضا علیه السلام :

کان المغیرة بن سعید یکذب علی أبی جعفر علیه السلام فأذاقه اللّه حرّ الحدید(1).

وروی أیضاً عن سعد قال: حدثنا محمد بن الحسن والحسن بن موسی، قال:

حدّثنا صفوان بن یحیی عن ابن مسکان عمّن حدّثه من أصحابنا عن أبی عبداللّه علیه السلام قال: سمعته یقول:

لعن اللّه المغیرة بن سعید أنه کان یکذب علی أبی فأذاقه اللّه حرّ الحدید، لعن اللّه من قال فینا ما لا نقوله فی أنفسنا ولعن اللّه من أزالنا عن العبودیة للّه الذی خلقنا وإلیه مآلنا ومعادنا وبیده نواصینا(2).

أقول: ومما یشهد علی أنّ الکذب هنا بمعنی إفشاء الأسرار ما ورد فی حدیث من المقابلة بین المغیرة وجابر، حیث إنّ جابر بن یزید الجعفی - کما مر ترجمته فی الجزء السابق - ممّن خاض فی لباب معارف أهل البیت علیهم السلام وبلغ منها ذروته ومع ذلک لم ینزلق فی مزلقة کشف الأسرار وحافظ علی کتمان ما أمر بکتمانه.

وقد اشتکی للإمام من ذلک فأمره علیه السلام بحفر حفرة فی الأرض والحدیث فیها لیخفف عنه؛ فإنّه یدلّ علی کون مورد الشطط فی المغیرة وأبی الخطّاب هو کشف الأسرار المنهی عنه.

قال الکشی: حمدویه وإبراهیم، قال: حدّثنا محمد بن عیسی عن علی بن ا لحکم عن زیاد بن أبی الحلال، قال: اختلف أصحابنا فی أحادیث جابر الجعفی، فقلت لهم: أسأل أبا عبد اللّه علیه السلام فما دخلت ابتدأنی، فقال:

رحم اللّه جابر الجعفی کان یصدق علینا، لعن اللّه المغیرة بن سعید کان یکذب علینا(3).

وروی الکشی عن سعد قال: حدثنی أحمد بن محمد بن عیسی عن أبی

ص:156


1- (1) . الکشی 297 / ح 399 .
2- (2) . الکشی 297 / ح 400 .
3- (3) . الکشی 265 / ح 336 .

یحیی سهل بن زیاد الواسطی ومحمد بن عیسی بن عبید عن أخیه جعفر وأبی یحیی الواسطی قال: قال أبو الحسن الرضا علیه السلام :

کان بیان یکذب علی علی بن الحسین علیه السلام فأذاقه اللّه حرّ الحدید، وکان المغیرة بن سعید یکذب علی أبی جعفر علیه السلام فأذاقه اللّه حرّ الحدید، وکان محمد بن بشیر یکذب علی أبی الحسن موسی علیه السلام فأذاقه اللّه حرّ الحدید، وکان أبو الخطاب یکذب علی أبی عبد اللّه علیه السلام فأذاقه اللّه حرّ الحدید، والذی یکذب علیّ محمد بن فرات.

قال أبو یحیی: وکان محمد بن فرات من الکتّاب فقتله إبراهیم بن شکلة(1).

وروی الکشی عن حمدویه وإبراهیم ابنی نصیر، قالا: حدّثنا الحسین بن موسی عن إبراهیم بن عبد الحمید عن عیسی بن أبی منصور، قال: سمعت أبا عبداللّه علیه السلام یقول، وذکر أبا الخطاب فقال:

اللهمّ العن أبا الخطاب فإنّه خوّفنی قائماً وقاعداً وعلی فراشی اللهم أذقه حرّ الحدید(2).

وروی عن الصادق علیه السلام فی وصیته لمؤمن الطاق:

... یابن النعمان إنّ العالم لا یقدر أن یخبرک بکل ما یعلم لأنّه سرّ اللّه الذی أسره إلی جبرئیل علیه السلام وأسره جبرئیل علیه السلام إلی محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأسره محمد إلی علی علیه السلام وأسره علی علیه السلام إلی الحسن علیه السلام وأسره الحسن علیه السلام إلی الحسین علیه السلام وأسره الحسین علیه السلام إلی علی علیه السلام وأسره علی علیه السلام إلی محمد علیه السلام وأسره محمد علیه السلام إلی من أسرّه، فلا تعجلوا فو اللّه لقد قرب هذا الأمر ثلاث مرات فأذعتموه فأخره اللّه واللّه ما لکم سرّ إلّاوعدوکم أعلم به منکم. یابن النعمان ابق علی نفسک فقد عصیتنی لا تذع سری فإن المغیرة بن سعید کذب علی أبی وأذاع سرّه فأذاقه اللّه حرّ الحدید وإنّ أبا الخطاب کذب علیّ وأذاع سرّی فأذاقه اللّه حرّ الحدید ومن کتم أمرنا زیّنه اللّه به فی الدنیا والآخرة وأعطاه حظّه ووقاه حرّ الحدید(3).

ص:157


1- (1) . الکشی 369 / ح 544 .
2- (2) . الکشی 358 / ح 509 .
3- (3) . بحار الأنوار 75 / 290 .

وفی هذا المقطع من الوصیة لمؤمن الطاق صرّح الإمام علیه السلام بأنّ المراد من الکذب هنا إذاعة الأسرار، و ذلک لأنّ محطّ الکلام إنّما هو فی الأسرار التی أسرّها اللّه إلی أهل البیت علیهم السلام والتحذیر عن إفشائه وإذاعته ولیس الکلام فی تعمّد الکذب علیهم، ثم بعد ذلک نهی علیه السلام مؤمن الطاق عن الإذاعة، ثم رتّب علی هذا النهی کبیان الدلیل والحکمة فی النهی عن الإذاعة بأنّ المغیرة کذب علی أبی جعفر علیه السلام وأذاع سرّه فأذاقه اللّه حرّ الحدید، والظاهر أنّ العطف هنا للتفسیر أی تفسیر الکذب بإذاعة السرّ وکذا قوله فی أبی الخطّاب أنّه کذب علیّ وأذاع سرّی فأذاقه اللّه حرّ الحدید. فإنّ ابن النعمان ما کان لیکذب علی الإمام علیه السلام وینسب إلیه ما لم یسمعه منه ولیست الوصیة فی تحذیره عن هذا.

ثمّ إنّه علیه السلام بعد ذلک رغّبه فی الکتمان وأنّه إذا کتم أمرهم وقاه اللّه حرّ الحدید، وبقرینة المقابلة یعلم أنّ إذاقة حرّ الحدید إنّما هو عقوبة الإذاعة والوقایة من ذلک أجر الکتمان فکلام الإمام علیه السلام صدراً وذیلاً إنّما هو فی النهی عن الإذاعة والتحریض علی الکتمان فالکذب الذی ذکره علیه السلام إنّما هو بمعنی إذاعة الأسرار لا الکذب بمعنی الإخبار المخالف للواقع.

والکذب هنا یحتمل عدّة معان ولعل کلها مرادة والجامع بینها أنّ أصل ما اتّخذ منهم الکلام وما هو المنشأ له لیس بکذب علیهم بل هو قول مسموع، فنسبة الکذب إلی أولئک الذین أذاعوا أسرار أهل البیت علیهم السلام یمکن أن یکون لبعض هذه الوجوه:

1 - أنّ المذیع والکاشف للأسرار والمعارف الغامضة عندما یحکیها عن المعصوم علیه السلام من دون إذن منه فإنّه یرتکب کذباً علی المعصوم علیه السلام من جهة أنّ الإخبار یتضمّن الإنشاء وهو التزام المخبر وتعهّده بصدق الخبر لدی المخاطب، والمعصوم علیه السلام لم یتعهّد بحکایة ذلک المفاد إلی الجمیع فیکون إخبار الراوی عنه کذباً من هذا الوجه.

ص:158

فإنّ التعریف الدارج للإخبار بالقول الحاکی والکاشف عن الواقع - فإذا کان مطابقاً للواقع صار صدقاً وإلّا فیکون کذباً - لیس وافیاً بحقیقة الإخبار وبما ینطوی فیه من أمور. فإنّ الحکایة هی بنفسها إنشاء ولیست مجرّد إراءة، فإنّ المتکلّم إذا لم یتعهّد بالحکایة والقیام بالإراءة والکشف فإنّه لا یتحقق منه الإخبار ولا یعتدّ السامع بنفس الألفاظ ومجرّد الکلمات، ولا یصدق علی مجرّد إلقاء صوت الألفاظ والتکلّم بها أنه إخبار، ومن ثمّ کان معنی الإخبار من المعانی والمدلولات التصدیقیة ولا التصوریة المحضة.

والتصدیق عمل سواء لوحظ من جانب السامع أو من جانب المتکلّم إلّاأنه من جانب السامع هو الإذعان ومن جانب المتکلّم هو الإنشاء والتعهّد. وبذلک یظهر أنّ التحام حقیقة الإنشاء بالإخبار هو فی منتهی العمق کما أنّ الحال فی العکس کذلک فإنّ الإنشاء والجملة الإنشائیة فی الحقیقة تتضمّن جملة من الإخبارات والحکایات ولیست متمحّضة فی الإنشاء الصرف. وعلی ضوء ذلک یتّضح أنّ الجملة الواحدة الخبریة أو الإنشائیة تفکّک إلی عدّة مدالیل خبریة وإنشائیة کثیرة وعدیدة مدمجة ومنطویة ومتعالقة بالمضمون المطابقی ومن ثمّ یصحّ الصدق والکذب ویتعدّد ویتکثّر بلحاظها فقد یکون المتکلّم صادقاً فی بعضها وکاذباً فی بعض آخر.

2 - أنّ الراوی عندما تلقّی وتحمّل الروایة عن المعصوم علیه السلام ، أخذ منه المعصوم علیه السلام التعهد أن لا یفشیه، فعندما ینکث هذا العهد فقد کذب بما التزم به؛ فهو کاذب الوعد فی مقابل صادق الوعد.

3 - أنّ المعصیة ومطلق المعاصی کذب فی العمل بخلاف الطاعة والتقوی فإنها الصدق، ومن ذلک قیل للصدّیق صدّیق، والوجه فی هذا الکذب والصدق أنّ کل من یقرّ بالشهادتین والشهادة الثالثة فإنّه أقرّ علی نفسه بالطاعة فإذا عصی فقد کذّب بما التزم به إجمالاً، فالراوی حینما یذیع السر فقد ارتکب ذنباً فیصحّ وصفه

ص:159

بالکذب لمخالفته وتکذیبه لما التزم به إجمالاً من إطاعة اللّه والرسول وأولی الأمر.

4 - أنّ المعنی الخاطیء الذی ینطبع عند إفهام العامة أو المخالفین من الروایة التی یرویها راوی أسرار المعارف کذب؛ فإنّ الراوی بإفشائه وإذاعته للأسرار لمن لا یتحمّلها سبّب فی انطباع المعنی الخاطیء لدی السامع. فهذا المعنی الخاطیء الذی تسبّب الراوی فی انطباعها لدی الإفهام بإفشائه لتلک الروایات کاذب.

5 - أنّ ما یقوله القائل أو یقرّ به إن کان مطابقاً للحقّ فیکون صدقاً وإن کان مخالفاً للحق فیکون کذباً ومن ثمّ وصف أئمة أهل البیت علیهم السلام بأنهم موازین الصدق أی أنّ صدق الصادقین إنّما یوزن ویعیّر بهم علیهم السلام ، فالصدق هو الحقّ والکذب هو الباطل.

فحینما یعصی أولئک الرواة فی إفشاء الحقائق العلمیة الغامضة وتؤدّی إذاعتهم إلی الإخلال بصراط الهدایة والرشاد إلی إیجاد الضلال والغوایة فیکون فعلهم ذلک باطلاً وکذباً، فالصدق ما کان علی نهج الحقّ والکذب ما کان علی نهج الغوایة والباطل.

الثانی: وضع حدود لأشیاء سُمعت حقیقة

فإنّ الراوی إذا سمع حدیثاً من الإمام علیه السلام ثم یضع لها حدوداً من عند نفسه یکون کاذباً فی جعل هذه الحدود. فهو یخبر بمعان سمعها حقیقة من الإمام إلّاأنه یوضع حدوداً لتلک المعانی والأشیاء بالقیاس والرأی، وبحدود ما یفهمه عقل السامع، فلا یضعها علی حدود ما أمر بها - بسبب عدم تعقّله حدّ ما سمع وعدم فهمه له - فیکون وضعه حدوداً لتلک الأمور والأشیاء کذباً وافتراء کما جاء فی مکاتبة مفضل بن عمر المعروفة مع الإمام الصادق علیه السلام عند قوله علیه السلام :

إنّ هذا القول کان من قوم سمعوا ما لم یعقلوه عن أهله ... فوضعوا حدود تلک الأشیاء مقایسة برأیهم ومنتهی عقولهم ولم یضعوها علی حدود ما أمروا کذباً وافتراء علی اللّه

ص:160

ورسوله(1).

ومن نماذج هذا القسم الخطأ فی التأویل قصوراً أو تقصیراً.

الثالث: تطبیق المعنی علی غیر مصداقه

روی محمد بن الحسن الطوسی بإسناده عن سعد بن عبد اللّه عن محمد بن الحسین، عن جعفر بن بشیر، عن حمّاد، عن عاصم قال: حدّثنی مولی لسلمان عن عبیدة السلمانی قال: سمعت علیاً علیه السلام یقول:

یا أیّها الناس اتّقوا اللّه ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم قد قال قولاً آل منه إلی غیره وقد قال قولاً من وضعه غیر موضعه کذب علیه فقام عبیدة وعلقمة والأسود وأناس معهم فقالوا: یا أمیر المؤمنین فما نصنع بما قد خبرنا به فی المصحف؟ فقال:

یسأل عن ذلک علماء آل محمد علیهم السلام (2).

و هذا معنی آخر من التکذیب من تطبیق المعنی علی غیر مصداقه وهو نحو من التأویل الخاطیء والباطل وفی هذا المعنی لا یکون أصل المعنی العام باطلاً أو مکذوباً بل التطبیق والاستنتاج باطل.

الرابع: إسناد الاستنتاجات والاحتجاجات التفصیلیة إلیهم علیهم السلام مع کونها منطلقة من قواعدهم الکلیة الإجمالیة

فقد روی الکشی عن محمد بن مسعود عن علی بن محمد القمی، عن أحمد بن محمد بن عیسی عن علی بن الحکم عن فضیل بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام - فی حدیث - إنّه ذکر مؤمن الطاق فقال:

بلغنی أنّه جدل وأنه یتکلّم، قلت: أجل، قال:

أما لو شاء طریف من مخاصمیه أن یخصمه فعل؟ قلت: کیف؟ قال: یقول:

أخبرنی عن کلامک هذا من کلام إمامک؟ فإن قال: نعم، کذب علینا، وإن قال: لا، قال له: کیف تتکلّم

ص:161


1- (1) . بحار الأنوار 24 / 288 عن بصائر الدرجات.
2- (2) . وسائل الشیعة / أبواب صفات القاضی / ب 4 / ح 19 .

بکلام لا یتکلّم به إمامک(1).

وظاهر الحدیث أنّ کلام مؤمن الطاق هو منطلق من قواعد وأصول منهم علیهم السلام ، غایة الأمر ترامی الاستنتاج إنما هو بفعل مؤمن الطاق فالتکذیب إنما یکون إذا أوحی من طریقة کلامه إسناده إلیهم علیهم السلام .

الخامس: الکذب المخبری

أنّ کل إخبار یتضمّن حکایتین فأکثر:

1 - المفاد المطابقی لمضمون القول.

2 - حکایته عن علمه بثبوت المضمون المطابقی.

ومن ثمّ فقد یکون الخبر صادقاً إلّاأنّ المخبر کاذباً فیقال حینئذٍ تحقّق الصدق الخبری مع وقوع الکذب المخبری أو الصدق فی الخبر کفعل ولکنّ الکذب فاعلی، و ذلک لکذب المخبر فی ادّعاء العلم فإنّه قد یکون ظانّاً لیس بجازم أو شاک مرتاب أو محتمل.

السادس: الصدق والکذب بلحاظ أبعاض الکلام وأجزائه أو انحلاله فی الأفراد

فإنّ الکلام قد یکون مشتملاً علی الجمل المتعدّدة فضلاً عن الفقرات المتکثّرة، وحیث یطلق الکلام علی مجموع ذلک کما یطلق علی أبعاضه فیصحّ حینئذٍ وصفه بالصدق تارة وبالکذب بلحاظ تعدّد الجمل والفقرات، کما أنّ الجملة الواحدة ذات المعنی العامّ الکلّی یتعدّد ویتکثّر انطباقها علی المصادیق والأفراد فیتولّد وینحلّ منها أحکام علی کلّ فرد وفی کلّ مورد وبلحاظ هذا التکثّر فیصحّ تعدّد الصدق والکذب.

ص:162


1- (1) . المصدر نفسه / ب 7 / ح 28 .

حقیقة الغلو وأنواعه فی الروایات

اشارة

إنّه قد عُرّف الغلو بتعاریف عدیدة فتارةً بتألیه الأنبیاء والرسل أو الأوصیاء، وأخری بالقول بنبوّة الأوصیاء والأئمّة، وثالثة بالقول بوجود صفات ومقامات للمعصومین هی فوق درجتهم وحدّهم الوجودی وهی أشبه بالصفات الإلهیة، ورابعة بالقول فیهم وبنعتهم بما لیس فیهم.

ولکن هناک تعاریف أخری نجدها فی جملة من الروایات، والجامع بینها هو الإیمان بحقیقة الباطن مع الإفراط والتطرف فی جانب آخر. وبعبارة أخری الجامع بینها أنّ ما یثبته الغلاة فی هذه الأقسام من صفات لولی اللّه لیس هو غلواً وإفراطاً من القول وإن تعاظمت تلک الصفات فی نظر تلک الغلاة أو نظر الطاعنین علیهم بل موضع الغلو والإفراط هو أمر آخر مسبّب عن الانبهار من عظمة تلک الصفات.

فقد روی المفضل أنه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام : یا مولای ألیس قد روینا عنکم أنکم قلتم الغالی نردّه إلینا والتالی نلحقه بنا.

قال:

یا مفضل ... وأما الغالی فلیس قد اتخذنا أرباباً من دون اللّه وإنما اقتدی بقولنا اجعلونا عبیداً مربوبین مرزوقین فقولوا بفضلنا ما شئتم فلن تدرکوه.

قال المفضل: یا مولای إنّ الغالی من ذکر أنکم أرباباً عند الشیعة من دون اللّه.

قال:

ویحک یا مفضل ما قال أحد فینا إلّاعبد اللّه بن سبأ وأصحابه العشرة الذین حرقهم أمیر المؤمنین بالکوفة وموضع إحراقهم یعرف بصحراء أخدود وکذا عذّبهم أمیر

ص:163

المؤمنین بعذاب الدنیا وهو النار عاجلاً وهی لهم آجلاً، ویحک یا مفضل إنّ الغالی فی محبّتنا نردّه إلینا ویثبت ویستجیب ولا یرجع والمقصّرة تدعوه إلی الإلحاق بنا والإقرار بما فضّلنا اللّه به فلا یثبت ولا یستجیب ولا یلحق بنا(1).

وهذه الروایة صریحة فی أنّ الأصل فی معانی الغلو الذی ارتکبه الغلاة لیس هو ادعاء الربوبیّة کما ادّعی ذلک جمهور العامة وتفشّی ذلک عند الخاصّة حتی عند المفضّل رغم أنه من کبار رواة المعارف، وإنما الشطط فی جهات أخری والتطرّف إنما یکون فی جهات سنذکرها تباعاً.

وتشیر الروایة إلی أنّ الغلاة لدیهم شطط وانحراف خالفوا فیه تعالیم أهل البیت علیهم السلام ولیس شططهم فی أصل المعرفة، کما أنّه یظهر من هذا الحدیث أنّ المغیرة بن سعید وأبا الخطاب وبنان وأمثالهم لم یدّعوا الربوبیة فی أهل البیت أو الألوهیّة وإنما ارتکبوا شططاً آخراً ممّا سنبیّنه مما استدعی انطباع معنی التألیه والربوبیة لدی تیّار الخطابیة والمغیریّة فأوجب ضلالهم.

وروی فی الکافی بإسناده إلی سلیم بن قیس عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال:

یا بنی الکفر علی أربع دعائم الفسق والغلو والشک والشبهة ... والغلو علی أربع شعب علی التعمّق بالرأی والتنازع فیه والزیغ والشقاق فمن تعمّق لم ینسب إلی الحق ولم یزدد إلّاغرقاً فی الغمرات ولم تحتبس عنه فتنة إلّاغشیته أخری وانخرق ذنبه فهو یهوی فی أمر مریج.(2)

ویشیر الحدیث إلی أنّ شطط الغلو هو فی الانغمار فی معمعة التفاصیل والحیرة فی تکثّرها وکثرتها ممّا یضیّع علی النظر الترکیز علی أمّهات الحقائق والمسائل التی هی المحکمات فیتشبّث بالمتشابهات الحادثة له من الغور فی التفاصیل، فیعمی عن الأمهات التی هی المحکمات المهیمنة علی الحدود والأبواب فیزیغ عنه جادّة الطریق الأصلی ویکثر علیه الشقاق مع الآخرین.

ص:164


1- (1) . الهدایة الکبری / 431 - 432 .
2- (2) .

وقد استعمل الغلو فی الروایات فی معان عدیدة، ولیس ذلک من قبیل المشترک اللفظی بل هی فی الحقیقة أنماط وأنواع التطرّف والتجاوز عن الحد الذی ارتکبه الغلاة وهی أمور:

ص:165

الأول: الإیمان بالباطن والکفر بالظاهر

أی الکفر بظاهر الشریعة مع الإیمان بحقیقة الباطن، فهؤلاء الغلاة قد فرّطوا فی عدم التزامهم بأحکام وفروع الدین، و ذلک مسبّب عن تعاظم باطن الدین عندهم فلا یقیمون للظاهر وزناً وقیمة.

ومنه یعرّف التقصیر بأنه الإیمان بالظاهر والتقیّد بمراعاته مع التفریط والکفر بالباطن.

وقد أشیر إلی ذلک فی روایات عدیدة، کصحیحة هیثم التمیمی قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

یا هیثم التمیمی إنّ قوماً آمنوا بالظاهر و کفروا بالباطن فلم ینفعهم شیء، وجاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن و کفروا بالظاهر فلم ینفعهم ذلک شیئاً ولا إیمان بظاهر إلّابباطن ولا بباطن إلّابظاهر(1).

و هذا التعریف - کما سنشیر - تعریف للغلوّ الذی یغایر التعریفات المعهودة السابقة فی الأذهان، حیث یشیر إلی أنّ ما تقول به جملة من فرق الغلاة لیس فی نفسه باطل بل هو فی نفسه أمر حقّ، وإنما التطرّف عند هؤلاء الغلاة ناشیء من

ص:166


1- (1) . بحار الأنوار 24 / 302 ح 11، عن بصائر الدرجات ج 2 الجزء 10 / ب 21 ح 5 ص 518 .

عدم التقیّد والالتزام بالشریعة الظاهرة بسننها وفرائضها، کما أنّ المقصّرة هم من اقتصر فی حقائق هذا الدین.

ففی موثّق الحسن بن علی بن فضّال عن حفص المؤذّن - ولم یطعن علیه بشیء واستظهر أنّه مؤذن علی بن یقطین - قال: کتب أبو عبد اللّه علیه السلام : إلی أبی الخطاب:

بلغنی أنّک تزعم أنّ الخمر رجل وأنّ الزنا رجل وأنّ الصلاة رجل وأنّ الصوم رجل ولیس کما تقول، نحن أصل الخیر وفروعه طاعة اللّه وعدوّنا أصل الشرّ وفروعه معصیة اللّه، ثم کتب کیف یطاع من لا یعرف وکیف یعرف من لا یطاع(1).

ورواه الکشی عن حمدویه عن محمد بن عیسی عن یونس بن عبد الرحمن عن بشیر الدهان.

وهذه الروایة معتبرة سنداً علی الأقوی وموثوق صدورها، وبشیر وإن لم یوثّق إلّاأنه لم یطعن علیه بشیء، وهناک من القرائن ما یعتبر بها حاله، وقد عرفت أنّ للروایة طریقاً آخراً.

ومفاد هذه الروایة یطابق مفاد صحیحة التمیمی من أنّ المعرفة ولو کانت فی أعلی درجاتها لا یمکن أن تنفک عن الطاعة والعمل، کما أنّ الطاعة لا یمکن أن تنفک عن المعرفة، والمعرفة محلّها القلب والروح وهی الباطن الخفیّ ومتعلّقة بغیب مستور والعمل ظاهر جلیّ.

ص:167


1- (1) . نفس الباب / ح 2 .

الثانی: الخطأ فی التأویل

وهو أیضاً یتضمن الإیمان بحقیقة الباطن المکنون مع الخطأ فی التأویل.

فهؤلاء آمنوا بباطن الدین لکنّهم أخطأوا فی تأویله وتطبیقه.

وممّا یشیر إلی هذا المعنی من الغلوّ أیضاً ما فی مکاتبة الصادق علیه السلام للمفضّل المرویة فی بصائر الدرجات للصفّار وبصائر الدرجات لسعد بن عبد اللّه الأشعری، کما أخرجها عنه صاحب الوسائل وأخرجها فی مختصر البصائر أیضاً حسن بن سلیمان.

وقد سأل فیها المفضّل بن عمر عن عدّة من مقالات أبی الخطاب والخطّابیة فی المعرفة، و أنهم قالوا بکفایة العقیدة عن العمل، وأنّ للأمور ظهراً وبطناً وأنّ أصل الدین معرفة الرجال ومن عرف ذلک الرجل فقد اکتفی بعلمه به من غیر عمل، وهذه المقالة استفظعها المفضل بن عمر حین بلغته، وأنه کتب یسأل عن تفسیر ذلک، فأجابه علیه السلام بقوله:

و أنا أبیّنه حتی لا تکون من ذلک فی عمی ولا فی شبهة وقد کتبت إلیک فی کتابی هذا تفسیر ما سألت عنه فاحفظه کلّه کما قال اللّه فی کتابه: «وَ تَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ »

وأصفه لک بحلاله وأنفی عنک حرامه إن شاء اللّه، کما وصفت ومعرّفکه حتی تعرفه إن شاء اللّه، فلا تنکره إن شاء اللّه ولا قوّة إلّاباللّه والقوّة للّه جمیعاً أخبرک أنه من کان یدین بهذه الصفة التی کتبت تسألنی عنها فهو عندی مشرک باللّه تبارک وتعالی بیّن الشرک لا شکّ فیه، وأخبرک

ص:168

أنّ هذا القول کان من قوم سمعوا ما لم یعقلوه عن أهله ولم یعطوا فهم ذلک ولم یعرفوا حدّ ما سمعوا، فوضعوا حدود تلک الأشیاء مقایسة برأیهم ومنتهی عقولهم، ولم یضعوها علی حدود ما أمروا کذباً وافتراءً علی اللّه ورسوله وجرأة علی المعاصی، فکفی بهذا لهم جهلاً. ولو أنّهم وضعوها علی حدودها التی حدّت لهم وقبلوها لم یکن به بأس، ولکنّهم حرّفوها وتعدّوا الحق وکذّبوا وتهاونوا بأمر اللّه وطاعته. ولکنی أخبرک أنّ اللّه حدّها بحدودها لئلّا یتعدّی حدودها أحد، و لو کان الأمر کما ذکروا لعذّر الناس بجهلهم ما لم یعرفوا حدّ ما حدّ لهم، ولکان المقصّر والمتعدّی حدود اللّه معذوراً ولکن جعلها حدوداً محدودة لا یتعدّاها إلّا مشرک کافر، ثم قال: «تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ »1.

وفی کلامه علیه السلام عدّة من الشواهد علی هذا المعنی من الغلو وسابقه الذی ابتلی به بعض تلک الفرق:

أولاً: عبّر علیه السلام عنهم بأنهم تعدّوا الحق والحدود فی مقابل المقصّرین، وأنّه کما أنّ هؤلاء غیر معذورین فإنّ المقصّر عن معرفة تلک المعارف أیضاً غیر معذور.

ثانیاً: أنّ مقالة هؤلاء أصلها أحادیث سمعوها منهم علیهم السلام إلّاأنهم لم یعقلوا معانیها.

ثالثاً: أنّ مقالاتهم لأنّها فی الأصل هی معان حرّفت عن الأحادیث المسموعة، فلها أصل وتفسیر صحیح. ومن ثم عبر فی صدر کلامه علیه السلام بأنّ ما یذکره تفسیر ما هو الأصل الصحیح لهذه المعانی المحرّفة من مقالاتهم، وأنّ ما هو الأصل التی اتّخذت منه معانی مقالاتهم له وصف حلال یفترق عن الوصف الحرام الذی تعدّوه إلیه ولذا قال علیه السلام :

وأصفه لک بحلاله وأنفی عنک حرامه. فهم قد أخطأوا فی تأویل ما هو الحق الثابت الصادر عنهم علیهم السلام ، و هذا غلوّهم وإفراطهم.

ص:169

رابعاً: أنّه لابد من التمییز بین ما هو الأصل الذی اتخذت منه تلک المعانی المنحرفة وبین تلک المعانی التی حصل بها التعدی، فالأصل لابد من التعرّف علیه وعدم إنکاره کما فی قوله علیه السلام :

ومعرّفکه حتی تعرفه إن شاء اللّه فلا تنکره ومن ثم قال علیه السلام أیضاً:

ولو أنّهم وضعوها علی حدودها التی حدّت لهم وقبلوها لم یکن به بأس.

وفیها قوله علیه السلام أیضاً:

کذلک جری بأنّ معرفة الرجال دین اللّه، والمعرفة علی وجهین: معرفة ثابتة علی بصیرة یعرف بها دین اللّه ویوصل بها إلی معرفة اللّه، فهذه المعرفة الباطنة الثابتة بعینها الموجبة حقّها المستوجب أهلها علیها الشکر للّه التی منّ علیهم بها منّ من اللّه یمنّ به علی من یشاء، مع المعرفة الظاهرة ومعرفة فی الظاهر، فأهل المعرفة فی الظاهر الذین علموا أمرنا بالحق علی غیر علم لا تلحق بأهل المعرفة فی الباطن علی بصیرتهم، ولا یصلون بتلک المعرفة المقصّرة إلی حق معرفة اللّه کما قال فی کتابه: «وَ لا یَمْلِکُ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ »

فمن شهد شهادة الحق لا یعقد علیه قلبه ولا یبصر ما یتکلم به، لا یثاب علیه مثل ثواب من عقد علیه قلبه علی بصیرة فیه؛ کذلک من تکلّم بجور لا یعقد علیه قلبه لا یعاقب علیه عقوبة من عقد علیه قلبه وثبت علی بصیرة.

فقد عرفت کیف کان حال رجال أهل المعرفة فی الظاهر والإقرار بالحقّ علی غیر علم فی قدیم الدهر وحدیثه، إلی أن انتهی الأمر إلی نبیّ اللّه وبعده إلی من صاروا إلی من انتهت إلیه معرفتهم، وإنما عرفوا بمعرفة أعمالهم ودینهم الذی دان اللّه به المحسن بإحسانه والمسیء بإساءته، وقد یقال: إنه من دخل فی هذا الأمر بغیر یقین ولا بصیرة خرج منه کما دخل فیه رزقنا اللّه وإیاک معرفة ثابتة علی بصیرة(1).

وهاهنا یشیر علیه السلام بوضوح أنّ الآیة الکریمة تؤکّد علی لزوم معرفة الحق والشهادة به معرفة مستندة إلی العلم بالبصیرة النافذة إلی أعماق الحقیقة دون

ص:170


1- (1) . بحار الأنوار 24 / 290 .

معرفة المقصّرة المقتصرة علی السطح الظاهر.

وفی قوله علیه السلام أیضاً:

وأنّه من عرف أطاع ومن أطاع حرّم الحرام ظاهره وباطنه، ولا یکون تحریم الباطن واستحلال الظاهر، وإنّما حرّم الظاهر بالباطن والباطن بالظاهر معاً جمیعاً، ولا یکون الأصل والفروع وباطن الحرام حرام وظاهره حلال، ولا یحرّم الباطن ویستحلّ الظاهر. وکذلک لا یستقیم أن یعرف صلاة الباطن ولا یعرف صلاة الظاهر، ولا الزکاة ولا الصوم ولا الحجّ ولا العمرة ولا المسجد الحرام ولا جمیع حرمات اللّه وشعائره، و أن یترک معرفة الباطن، لأنّ باطنه ظهره ولا یستقیم ان ترک واحدة منها إذا کان الباطن حراماً خبیثاً فالظاهر منه إنّما یشبه الباطن، فمن زعم أنّ ذلک إنّما هی المعرفة وأنّه إذا عرف اکتفی بغیر طاعة فقد کذب وأشرک ذاک لم یعرف ولم یطع وإنّما قیل: «اعرف واعمل ما شئت من الخیر» فإنه لا یقبل ذلک منک بغیر معرفة فإذا عرفت فاعمل لنفسک ما شئت من الطاعة قلّ أو کثر فإنّه مقبول منک(1).

وفی هذه الفقرات یشاهد ترکیز واضح منه علیه السلام علی لزوم التقیّد فی العمل بأحکام الفروع مما هو ظاهر التشریع، کلزوم التقیّد بنافذ البصیرة فی المعرفة وأنّه لا تنفک الطاعة فی الفروع عن المعرفة فی الأصول، ولا یکتفی بالمعرفة عن الطاعة، کما لا یکتفی بالطاعة عن المعرفة. و هذا کلّه تأکید علی أنّ نمط الانحراف السائل فی هذه الفرق هو فی التفکیک بین الجانبین والجهتین لا فی أصل ما یتعمّقون فیه من مقالات معرفیّة، بل إنّ تلک المقالات لها أصل سمعوه وحدیث رووه إلّاأنّهم لم یعقلوا حدود معناه ولم یقفوا علی مفهومه وأخطأوا فی تأویله.

ص:171


1- (1) . بحار الأنوار 24 / 292 .

الثالث: ترک التقیة بإظهار التبرّی جهاراً

وهو الإفراط فی إظهار وإفشاء البراءة من الشیخین وإظهار القول بکفرهما، رغم خطورة الجوّ الأمنی من قبل السلطات الأمویّة والعباسیة، إذ إفشاء وانتشار هذه المقالة یعنی إثارة السؤال حول مصدر مشروعیّة الحکم والحاکم، و هذا مما یفجّر الوضع السیاسی من رأس کیوم السقیفة ویثیر السؤال حول مبدأ الحاکمیة ومنطلقها.

ثمّ إنّ المخالفین یدینون من یذهب إلی القول بکفرهما و یقولون إنّ ذلک بسبب الإفراط فی موالاة علی علیه السلام وتقدیسه، وهو علی حدّ القول بألوهیّته وإلّا لما استلزم تولّی علی علیه السلام التکفیر لهما. و هذا المعنی صرّح به کثیر من أهل التراجم عند العامّة وعلیه شواهد تاریخیة عدیدة هی التی دعت إلی الطعن بتهمة الغلو علی أصحاب مثل هذه المقالة.

وقد اتّخذ العامّة والبتریّة أسلوب الطعن بالغلوّ علی کلّ من لاحظوه یتشدّد فی البراءة من الشیخین وأعداء أهل البیت علیهم السلام ، أو یروی مثالبهم فطعنوا علیه بذلک بغیة إسقاط ما یرویه من المثالب فی مناوئیهم وشیّدوا هذا المعنی للغلوّ.

وقد یسری مثل هذا المعنی عند بعض أرباب الجرح والتعدیل من الإمامیة إمّا غفلة عن واقع الحال أو بسبب اختلاطهم بجملة من مشائخ العامّة فتشبّعوا بمثل هذا المذاق وقد أشرنا إلی ذلک فی الجزء السابق.

ص:172

وممّا یشهد علی ذلک:

1 - ما رواه ابن عدی فی الکامل فی ضعفاء الرجال عن عبد الأعلی بن أبی المسوار قال: سمعت المغیرة بن سعید الکذّاب یقول: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ » علی بن أبی طالب «وَ الْإِحْسانِ » فاطمة «وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی » الحسن والحسین «وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ» کان أبو بکر من أفحش الناس والمنکر عمر بن الخطاب.

کذب علیه لعنة اللّه(1).

2 - و قال العقیلی: وکان (المغیرة) من ألحن الناس فخرج یقول: کیف الطریق إلی بنو حرام(2).

و مراده من بنی حرام «بنو أمیّة».

3 - روی العقیلی عن الأعمش قال: أوّل من سمعت ینتقص أبا بکر وعمر المغیرة بن سعید المصلوب.

وفی روایة أخری عن الأعمش أنّه قال: أوّل من سمعت یسبّ أبا بکر وعمر المغیرة بن سعید(3).

4 - وروی العقیلی عن إبراهیم بن الحسن قال: دخل علی المغیرة بن سعید و أنا شاب وکنت أشبه برسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم فذکر من قرابتی وشبهی وأمله فی. قال: ثم ذکر أبا بکر وعمر فلعنهما وبریء منهما. قال: قلت: یا عدو اللّه أعندی قال: فخنقته خنقاً قال: فقلت له: أرأیت قولک للمغیرة «فخنقته خنقاً» أخنقته بالکلام أم بغیره قال: بل خنقته حتی أدلع لسانه(4).

5 - روی العقیلی عن نضر بن عبد اللّه قال: کنت جالساً عند الشعبی وإلی

ص:173


1- (1) . الکامل 6 / 352 - الضعفاء للعقیلی 4 / 178 - میزان الاعتدال 4 / 160 .
2- (2) . الضعفاء للعقیلی 4 / 179 - میزان الاعتدال 4 / 161 .
3- (3) . الضعفاء للعقیلی 4 / 180 .
4- (4) . الضعفاء للعقیلی 4 / 180 - سیر أعلام النبلاء 4 / 486 .

جنبه المغیرة بن سعید. قال الشعبی: افترق الناس علی أربع فرق محب لعلیّ مبغض لعثمان ومحب لعثمان مبغض لعلی ومحبّ لهما جمیعاً ومبغض لهما جمیعاً قال: قلت: یا أبا عمرو ومن أیهم أنت فضرب علی فخذ المغیرة بن سعید فقال: أما إنّی مخالف لهذا قال: قلت: قد علمت(1).

أقول: و هذا النصّ یعطی أنّ المغیرة بن سعید کان مشتهراً ببغضه للخلفاء والغاصبین آنذاک وکان یسبّهم جهاراً وسیأتی بعض الشواهد الأخری أنّ تیّار البتریّة کانوا یجتنبون عنهم ویتبرّئون منهم لشدة إظهارهم البراءة من الغاصبین للخلافة الإلهیة علیهم لعنة اللّه ولعنة الملائکة والناس أجمعین.

ص:174


1- (1) . الضعفاء للعقیلی 4 / 181 - تاریخ مدینة دمشق 25 / 371 .

الرابع: الغلو فی التسمیة لا فی إسناد الصفات والأفعال

فإنّ ظاهر مستفیض الروایات أنّ جلّ الغلاة ارتکبوا هذا النمط من الغلو، وهم لم یخطأوا فی إسناد الصفات والأفعال إلی أولیاء اللّه المقرّبین وحججه المعصومین، وإنما أخطأوا فی تسمة صاحب هذه الصفات والأفعال باسم الربوبیة والألوهیة، فلیس إفراطهم فی إسناد الصفات ولم یتجاوزوا الحدّ فی ذلک وإنّما تجاوزوا الحدّ فی التسمیة.

والمقصّرة حیث رأوا هذا الانزلاق من الغلاة ولم یتفطّنوا ولم یعلموا موضع الخطأ عندهم، وتعاظم لدیهم تلک الصفات أیضاً قاموا بإنکار ثبوت تلک الصفات لأولیاء اللّه المقرّبین.

فالإفراط فی تعاظم الصفات واستکثارها وإکبارها، وکذا الأفعال المتضمّنة للقدرة والقوّة والکمال، عن أن تکون صفة لمخلوق أی أکبر أن تکون تلک الصفات صفة لمخلوق، هو المنشأ لوقوع کلا الفریقین فی الخطأ فالغلاة جعلوا صاحبها إلهاً وربّاً لا مخلوقاً ومربوباً وعبداً، فهم بما قاموا به من إکبار قدر هذه الصفات وإعظام درجتها وحدّها أعظموا هذه الصفة عن أن یکون صاحبها مخلوقاً، أی عن أن یکون فوقه خالقاً وربّاً. وهم بذلک وإن لم یقوموا بالکذب والافتراء فی نفس الصفة أو فی نسبتها إلی المقرّبین من أولیاء اللّه والحجج المصطفین إلّاأنّهم صغّروا الخالق، أی أحالوا ومنعوا - بسبب قصور إدراکهم

ص:175

وهبوط حدّ معرفتهم واستبدادهم برأیهم وعدم اخباتهم إلی هدایة الوحی - أن یکون الخالق فوق هذه الصفات وفوق هذه المکانة، ومن ثمّ أکبروا هذا العبد المخلوق المقرّب الذی حباه اللّه بهذه الصفات عن أن یکون فوقه خالق وربّ وعن أن یکون مربوباً.

فالزیغ والانحراف والغلو الذی ارتکبوه لیس فی حقیقة هذه الصفات ولا فی نسبتها لولی اللّه المصطفی، بل فی تصغیر مقام اللّه تعالی بسبب انبهارهم بعظمة هذه الصفات فلم یفطنوا أنّ صفات اللّه فوق تلک الصفات، وإکبارهم لولی اللّه عن أن یکون عبداً مربوباً وقد تقدّم بیان ذلک فی الفصل الثانی من هذا الجزء.

وقد تکرّر التأکید فی الروایات علی وقوع هذا القسم والمعنی من الغلوّ حیث أکّدوا علی أنّ الغلاة صغّروا قدر اللّه وأکبروا وأعظموا مقام ولی اللّه. و هذا النوع من الغلوّ هو الذی وقع فیه النصاری فإنّهم لما رأوا صدور إحیاء الموتی من النبی عیسی وشفاء المریض و خلق الطیر أعظموا تلک الصفات وانبهروا بها فقالوا: إنّ تلک الصفات لا یمکن أن تکون لمخلوق ولا یمکن أن یکون فوق صاحبها خالق وربّ، فصغّروا مقام اللّه إذ لم یثبتوا للّه مقاماً وصفاتاً فوق تلک الصفات، کما أنهم أکبروا المخلوق حیث نعتوه بالألوهیة. فهذه الصفات والأفعال رغم أنّها ثابتة لعیسی وقد أکّد علیها القرآن الکریم فهی کانت حقیقیة ومنسوبة إلی ولی اللّه، إلّا أنهم أفرطوا فی قدر تلک الصفات، فظنّوا أنها صفات إلهیّة مع أنّها حیث لم تکن للمخلوق بذاته بل بإقدار من اللّه کانت تلک الصفات بالغیر وصفات خلقیة، فتعاظمهم لتلک الصفات أی انبهارهم لعظمتها جعلهم لا یثبتون للّه صفاتاً فوقها فصغّروا قدر اللّه.

و هذا المحذور لم یقع فیه الغلاة فقط، بل وقع فیه من طعن علیهم أیضاً، حیث إنّ جماعة الطاعنة سواء من العامة - وهم الأکثر - أو من غیرهم، حسب أنّ موضع الغلو والإفراط هو القول بثبوت تلک الصفات لولی اللّه فأنکر ثبوتها. فهم

ص:176

أیضاً تعاظموا تلک الصفات أی انبهروا بعظمتها وعدّوها من الصفات الإلهیة ولم یثبتوا للّه صفاتاً فوقها. فهم بالتالی أیضاً وقعوا فی تصغیر قدر اللّه، وزعموا أنّ صاحب تلک الصفات لابدّ أن یکون إلهاً، فلم یبتعدوا عن محذور ما وقع فیه الغلاة بل قد یکونوا زادوا علیهم، حیث تعاظموا تلک الصفات، أن أنکروا ثبوت تلک الصفات لولی اللّه.

فیصحّ أن یقال: إنّ الفریقین - المطعون علیهم والطاعن - جهل مقام وقدر الباری تعالی وأنّه فوق ذلک، إلّاأنّ الفریق الأول وهو المطعون علیه أجاد معرفة ولی اللّه من جانب ثبوت تلک الصفات وإن جهله من جانب آخر بأنه مخلوق وعبد مربوب.

والفریق الثانی وهو الطاعن جهل معرفة ولی اللّه بتلک الصفات من جانب وإن عرفه من جانب آخر من کونه عبد مخلوق مربوب. وتقدّم ذکر الروایات الدالة علی هذا النمط من الغلوّ، والمهم فی هذا المعنی أنّ ثبوت تلک الصفات لولی اللّه لیس غلوّاً ولا إفراطاً فی القول وإنّما تعاظم تلک الصفات وعدم التفطّن لوجود صفات أعلی منها إلهیة هو موضوع الخطأ والزیغ.

ص:177

الخامس: التطرّف السیاسی والاندفاع الثوری

إنّ ظاهرة الحدّة فی إرادة التغییر السیاسی ومقارعة نظام بنی أمیة وبنی العباس کانت من الملامح البیّنة لدی الفرق الشیعیة المطعون علیهم بالغلو. وکان منشأ هذا التطرّف السیاسی لدیهم هو ما التزموا به من مقالات فی أوصاف أئمة أهل البیت علیهم السلام وشؤونهم، فقد تبدّهت لدی هذه الفرق کثیراً من مقامات أهل البیت علیهم السلام وتمیّزهم عن بقیة الأمّة وکفائتهم فی تدبیر الأمور. ومن أجل ذلک کان استحقاق الأئمّة للحکم السیاسی والحاکمیة العامّة من الواضحات، و هذا سبب ملحّ لدی تلک الفرق فی القیام بنهضة سیاسیة مناوئة لنبی أمیة وبنی العباس.

وکان النظام الأموی والعباسی یجد فی مقالات تلک الفرق حول مقامات أئمة أهل البیت رسالة سیاسیة واضحة معبّأة لجمهور الناس ضدّ النظام، لا أنّها ذو طابع عقیدی بحت.

فکانت روایات هذه الفرق تنطوی علی تخطئة منهج السقیفة فی کیفیة انتخاب الحاکم السیاسی، وعلی تأکید ودعم لحصریّة صلاحیة قیادة الأمة والإمامة السیاسیة بأهل البیت علیهم السلام وبالإمام الذی یتمتّع بمقامات غیبیّة لا تتوفّر فی الرجل المنتخب من الأمّة.

ولک أن تلاحظ أنّ المواجهة العسکریة السریعة من النظام الأموی والعباسی ضد هذه الفرق والجماعات تبیّن درجة التحسّس والتخوّف لدی الأنظمة الحاکمة

ص:178

من ناحیة أمنیة وعسکریة وسیاسیة. لا سیّما وأنّ المؤرخین قد ذکروا لرؤساء هذه الجماعات - کالمغیرة بن سعید وبیان وأبی الخطّاب ونحوهم - خروجاً علی النظام الأموی والعباسی، والخروج مصطلح فی الثورة السیاسیة، والملفت أنّ المغیرة بن سعید وبیان وجماعة من تیّار المغیرة وروّادهم قد قاموا بالخروج علی النظام الأموی فی سنة 119 أی قبل خروج زید بن علی فی سنة 121 کما سیأتی کلام المؤرّخین فی ذلک.

لا سیّما وأنّ شعار الخروج والثورة السیاسیة التی قام بها المغیرة بن سعید وحلفاء تیّاره هو تحکیم إمامة الصادقین علیهما السلام بالاسم، و هذا الشعار کما سیأتی أخصّ وألصق بأهل البیت من شعار زید بن علی.

وکان خروج ونهوض المغیرة بن سعید بمثابة فتح الباب وشرع الطریق أمام خروج وثورة زید بن علی.

والحاصل: أنّ الباحث فی هذه الفرق الشیعیة المطعون علیها بالغلو العقائدی یقف علی شواهد عدیدة علی أنّ تلک الظواهر لم تکن مسائل عقائدیة جدلیّة بحتة، بل کانت ذات تداعیات سیاسیة شدیدة جدّاً مما یستوقف المتتبّع عن حقیقة الطعون العقائدیة التی روّجها النظام الأموی والعباسی ضدّ مقالات هؤلاء، وأنّ طعن السلطات الحاکمة علیهم بتألیه الأئمة أو القول بنبوّة الأئمة کانت دعایة قامت بها السلطات بکلّ قوّة للحیلولة دون انتشار وتوسّع هذه التیّارات وصیرورتها جبهة محدّدة لبقاء حیاة النظام.

وکان ذلک أحد أسباب تخطئة أئمة أهل البیت علیهم السلام لهذه الفرق والجماعة، حیث کانت تجنّد هذه المعارف للتبعئة السیاسیة والشحن الجماهیری باندفاع وتهوّر، فکان التموّج الذی یحدثوه بنحو مربک فوضوی یفتح الطریق أمام ذوی الأطماع السیاسیة بالاندساس فی صفوفهم ورکوب هذا التیار للوصول إلی مکاسب ومناصب سیاسیة، وقد عبّر واصطلح فی الروایات - کما مرّ - عنهم

ص:179

بالسفلة أی الذی یجیّر الحقائق الدینیة لمکاسب سیاسیّة مصلحیة دنیئة لنفسه.

ونذکر جملة من الشواهد علی تطرّفهم السیاسی فی الفصل السادس.

ص:180

السادس: الاستئکال بمحبّتهم وإظهارها لأجل الوصول إلی الأطماع الدنیویّة

فقد روی المفضّل عن الصادق علیه السلام :

وأمّا المرتفعة هم الذین یرتفعون بمحبّتنا وولایتنا أهل البیت وأظهروه بغیر حقیقة ولیس هم منّا ولا نحن منهم ولا أئمّتهم أولئک یعذبون بعذاب الأمم الطاغیة حتی لا یبقی نوع من العذاب إلّاوقد عذّبوا به(1).

والظاهر من هذه الروایة أنّ هؤلاء حرصوا علی إظهار محبّة وولایة أهل البیت بإصرار وترائی شدید طمعاً فی الوجاهة بین المؤمنین والوصول إلی مواقع رئاسیّة فی جماعات أهل الإیمان فمناسبة تسمیتهم بالمرتفعة أنّهم تصاعدوا فی تقمّص الولاء ریاءً وتلبیساً.

ص:181


1- (1) . الهدایة الکبری / 431 .

السابع: إسناد الأفعال الخطیرة فی الخلقة إلی المقرّبین من دون تقییدها بإذن اللّه

نظیر إحیاء الموتی وإماتة الأحیاء وإبراء ذوی العاهات والعلم بالمغیّبات ونحو ذلک؛ فهذه الأمور لیس فی القول بصدورها عنهم علیهم السلام - کما صدرت عن أنبیاء اللّه - أیّ محذور، إنما المحذور فی عدم تقیید ذلک بأنّه بإذن اللّه کما قیّد ذلک فی قوله تعالی: «أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَکْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْیِ الْمَوْتی بِإِذْنِ اللّهِ »1 والتسامح فی إسناد هذه الصفات والأفعال إلیهم من دون التقیید یوجب إیهام الآخرین بألوهیّتهم علیهم السلام .

ومن ثم قد وردت روایات کثیرة فی النهی عن إسناد هذه الأفعال لهم علیهم السلام والمقصود أنّ إسناده ولو مع التقیید بإذن اللّه یغری عامة الناس إلی إسنادها بنحو مطلق من دون تقیید مما یتضمّن شبهة الاستقلال والإیهام بالربوبیّة ومن ثمّ عبّر عنه بالغلو.

ص:182

6 - دارسة تطبیقیة فی سلوک المطعون علیهم بالغلو(338-183)

اشارة

ص:183

ص:184

قواعد فی دراسة أحوال الفرق

اشارة

إنّ هناک قواعد مهمّة یجب التدقیق فیها و دراستها للمعرفة علی أحوال الفرق المختلفة:

القاعدة الأولی: المفارقة بین روّاد الفرق وطبقات الأتباع

إنّ من الضروری - فی تقییم عقائد الفرق ودراستها - التدقیق والتفکیک بین حقیقة مقال الروّاد والزعماء لتلک الفرق عن مقالات تلک الفرق التی نشأت لاحقاً فی الأجیال المتعاقبة عنهم، ولیس من السدید توحید ما یذهب إلیه المتأخّرون من أتباع تلک الفرق مع صورة المفاهیم المعتقدة لدی زعیم تلک الفرقة. فإنّ الانحراف وإن بدأ قلیلاً إلّاأنه یزداد سعة کلما أوغل فیه حتی یکون فی الحلقات المتعاقبة لاحقاً فلاحقاً کبیراً جداً ثم یتفاقم أکثر فأکثر، فیحسب الباحثون فی علم الملل و النحل والفرق والأدیان أنّ زعیم ومبدأ تلک ا لفرقة والجماعة تحمل فی طیّاتها کل انحرافات الأجیال المتأخّرة منه. و هذا ما یبهم حقیقة الحال فی مبدأ الفرق وروّادها.

بل یصعب علی الحاذق الدقیق الفطن التمییز بین حقبة وأخری فی الفرقة الواحدة، فخذ مثالاً علی ذلک: أنّ البابیة التی أصبحت بهائیّة کفرقة منتشرة مارقة من الإسلام کان فی بدء أمرها تدّعی النیابة الخاصّة، بل ربّما یکون قد انبثقت من

ص:185

رائد سابق لا یدّعی النیابة الخاصّة ولکن یدّعی ویتوهّم التشرّف أو الإلهامات الروحیّة أو التسدید والتوفیق بعنایة خاصّة وامتیاز فائق ونحو ذلک من الجهالات والغفلات الناشئة من السذاجة أو العجب أو الغرور أو التأویلات الخاطئة للمعارف غیر المستندة إلی موازین وقواعد صحیحة وسدیدة وثابتة.

و هذا ما یجب أن یدقق فیه الباحثون فی الفرق وتیاراتها وحلقاتها المتعاقبة لئلّا یختلط الحابل بالنابل والغث بالسمین فیضیع من تراث الحدیث فی المعارف الکمّ الجمّ تحت طائلة الخلط فی الجرح والتضعیف بلا تمییز دقیق.

ثم إنّه لا یتوهّم من هذه القاعدة التشطیب علی قاعدة أخری فی الملل و النحل وهی أنّ مذهب رؤساء الجماعات إنّما یعرف من خاصّته والمؤتمّین به، و ذلک لأنّ هذه القاعدة یراد بها الدوائر التی تحیط بشخصیّة المرکز واتباعه الذین عاصروه وقرب عهدهم منه بینما کلامنا فی المقام هو بلحاظ الدوائر البعیدة.

کما أنه لا یتوهّم من هذه القاعدة أنّ مفادها کون الأصل فی مقالات الطبقات المتأخّرة من الأتباع هو المغایرة مع الروّاد فلیس الأصل الغالب یبنی فیه علی التغایر، بل إنّ حقیقة المقصود من هذه القاعدة أنّ کلاًّ من الحکم بالتغایر أو التوحید لابدّ و أن یبنی علی شواهد ومستندات نزیهة عن التحریف تثبت الاتّحاد أو تثبت التغایر، وأنّ تقصّی مقالات زعیم أیّ فرقة یجب أن یتوصّل إلیها بالقصاصات والمستندات علی حدة خاصّة بذلک الزعیم لا من خلال ما یقوله عنه مناوئوه وخصومه. و هذا التفکیک والتدقیق لم نشاهده لدی أرباب التراجم وأصحاب کتب الملل والنحل.

القاعدة الثانیة: تفکیک الأصول الصحیحة لغوامض المعارف عمّا لفّق بها من تأویلات خاطئة

إنّ من الأمور البالغة الأهمّیة فی دراسة تراث أهل البیت علیهم السلام وما ینسب إلی الغلاة من الرواة من مقالات والتی علی ضوئها یتمّ تقییم مضامین الروایات، هو المداقّة

ص:186

فی معرفة مبدأ نشوء المقالات والأصل الذی کانت علیه وما طرأ علی ذلک الأساس من تغییرات وتفکیک ذلک الأساس عمّا قد یضمّ إلیه ویخلط به من انطباعات خاطئة حدثت إمّا لدی متأخری الأتباع أو حدثت لدی الخصوم والمناوئین.

فإنّ الدمج والخلط بین ذلک یضیّع ویقضی علی ذلک الأصل والأساس الذی ربما کان معنی صحیحاً سدیداً وإن کان غامضاً یصعب رفع إبهامه علی عامّة الأذهان.

وعملیة التفکیک والتدقیق تتطلّب تضلّعاً ونظراً ثاقباً یقتدر علی تجرید بعضها عن البعض بقدرة تحلیلیة عقلیّة وحدس ذوقی قوی یصل بإدراک سریع وقّاد إلی المقدّمات الاستدلالیّة، بجانب باع کبیر فی التتبّع والاستقصاء ومراس وإدمان فی البحث فی الأبواب، کی یتسنّی له بذلک معرفة أصل المقالة المرویّة عنهم علیهم السلام عن الهیئات الأخری للمقالة المغیّرة لها عن وجهتها وحدّها الأصلی.

وسیأتی فی مکاتبته علیه السلام للمفضل بن عمر مثال لذلک من مقال نسب إلی الخطّابیة من أن الدین هو معرفة الرجال وأنه إذا عرفت فاعمل ما شئت وأن الصلاة والزکاة والصوم وأبواب الدین وکل الطاعات أصلها معرفة أئمة الهدی وکذلک کلّ أبواب الحرام والفواحش أصلها أئمة الکفر وکیف أن هذه المقالات حرّفت عما کانت علیه من أصل صحیح وکم تری علیها من تغییر. وغیرها من موارد عدیدة کثیرة جداً.

ومن ذلک ما قاله السید المرتضی فی الشافی: «فأما ما حکاه عن بعضهم من أنه لولا الإمام لما قامت السماوات و الأرض ولا صحّ من العبد فعل فلیس نعرفه قولاً لأحد من الإمامیّة ولا تأخّر اللهم إلّاأن یرید ما تقدّم حکایته من قول الغلاة، فإن أراد ذلک فقد قال: إن الکلام مع أولئک لیس بکلام فی الإمامة وأحال به علی ما مضی فی کتابه من أنّ الإله لا یکون جسماً، علی أنّ من قال بذلک من الغلاة - إن

ص:187

کان قاله - فلم یوجبه من حیث کان إماماً وإنّما أوجبه من حیث کان إلهاً وصاحب الکتاب إنّما شرع فی حکایة تعلیل من أوجب الإمامة وذکر أقوال المختلفین فیها وفی وجوبها وما احتیج له إلی الإمام»(1).

وهذه المقولة حرّفت عمّا هی علیه فی الأصل وأصلها ما هو مروی عند الفریقین کما رواه فی الکافی

ولو بقیت الأرض بغیر إمام لساخت،

ولو أنّ الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها کما یموج البحر باهله(2).

وروی الحاکم فی مستدرکه علی الصحیحین قول اللّه تعالی لآدم وللنبی عیسی:

لولا محمد لما خلقتک ولا خلقت أرضاً ولا سماءً ولا جنّة ولا نوراً.

وهذه الروایات تبیّن أنّ غایة الخلقة هو المخلوق الأکمل، نظیر قوله تعالی:

«ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ » وبعد فرض انتفاء الغایة لا یکون للمعنی بقاء.

فحرّف هذا المعنی وأوّل علی غیر وجهه الصحیح.

القاعدة الثالثة: عدم اعتماد مصادر السنّة فی حقیقة مقالات فرق الشیعة

إنّ من الأخطاء المنهجیّة لدی جملة من الباحثین وأرباب الجرح والتعدیل من أصحابنا وبعض من کتب فی الملل و النحل والتراجم أو تاریخ الفرق أنّهم یستندون فی تعریف وشرح فرق الشیعة وطوائف الرواة عن أهل البیت، إلی ما قاله العامّة فی کتب التاریخ والرجال والملل و النحل لدیهم، وکذا الحال فی المطعون علیهم بالغلوّ والمرمیّین بالتکفیر. وفی هذه المراجعة إلیهم عدّة ملاحظات:

الأولی: أنّ العامة لا یحتمل فیهم الحیاد والإنصاف فی بیان الحقائق فی هذا المقام فکیف یعوّل علیهم؟

ص:188


1- (1) . الشافی 1 / 42 .
2- (2) . الکافی 1 / باب أن الأرض لا تخلو من حجّة / ح 10 و 12 .

الثانیة: أنّ آراء العامّة حول مقالات الشیعة ناشئة عن عدم الفهم لحقیقة معارف الشیعة فی جملة من مسائل وأبواب المعارف. فمثلاً مقالة الشیعة ولا سیّما الإمامیة فی أنّ أئمة أهل البیت علیهم السلام لهم علم لدنّی وحبل ونافذة ینفتحون بها علی الملکوت و السماء - کما هو الحال فی طالوت وذی القرنین والخضر ومریم، مع أنّ هذه القناة لیست بنبوّة ولکنّها ارتباط لدنّی - تنطبع عند العامة أنّه قول بالنبوّة والوحی النبوی ویطعنون بذلک علیهم. مع أنّ السور القرآنیة غیر واضحة لدیهم فی نماذج الحجج التی استعرضها القرآن الکریم وأنواع المناصب الإلهیة التی بیّنها وأنّها لا تنحصر فی النبوّة والرسالة، بل تشمل الإمامة والاصطفاء والحجّیة وغیرها من المقامات.

مثال آخر: وراثة روح القدس التی اوحاه اللّه إلی نبیّه کما فی قوله تعالی:

«وَ کَذلِکَ أَوْحَیْنا إِلَیْکَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما کُنْتَ تَدْرِی مَا الْکِتابُ وَ لاَ الْإِیمانُ »1.

مع أنّ هذا الروح الأمری والذی هو روح القدس هو الذی أیّد اللّه به عیسی ویصرّح القرآن الکریم بتوریثه وانتقاله إلی من یشاء من عباده کما فی قوله تعالی:

«یُلْقِی الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ »2 وکذا أشیر إلیه فی ذیل آیة الشوری السابقة: «وَ لکِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِی بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا».

و هذا الروح الذی هو من عالم الأمر والذی هو الکتاب قد ورّثه اللّه الذین اصطفاهم من هذه الأمة وهم أهل البیت علیهم السلام کما قال تعالی: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا»3.

و هذا الانتقال حیث إنّه لیس انتقال ذات شخص من أنبیاء اللّه إلی نبی آخر ولم ینتقل ذات النبی إلی نبی آخر، وإنّما هی قوّة من القوی الغیبیة الملکوتیة زوّد

ص:189

بها وأیّد بها نبی، یرثها نبیّ من بعده أو وصیّ نبیّ من الأوصیاء والأئمة.

و هذا یغایر مقالة التناسخیّة، إلّاأنّ عدم فطنة العامّة بهذه المباحث الدقیقة القرآنیة أوقعتهم فی الأوهام أنّ هذه المقالة مؤدّاها تناسخ أرواح الأنبیاء والأوصیاء، لا سیما وأنّ جملة من أتباع بعض الفرق ممّن لا یتقن حقیقة هذه المقالة القرآنیة شبّهت له بتناسخ الأرواح وانتقال النفوس من بدن إلی بدن، وهذا ممّا یزید فی تشویش حقیقة الصورة ویختبط معترک الکلام لدی العامّة.

ففی البدء والتاریخ: «أما السبائیة فإنّهم یقال لهم الطیّارة ... ومن الطیّارة قوم یزعمون أنّ روح القدس کانت فی النبی کما کانت فی عیسی ثم انتقلت إلی علی ثم إلی الحسین ثم کذلک فی الأئمة وعامّة هؤلاء یقولون بالتناسخ والرجعة ومنهم من یزعم أنّ الأئمة من نور اللّه تعالی وأبعاض من أبعاضه و هذا مذهب الحلاجیّة»(1).

ولا یخفی أنّه لیس غرضنا الاهتمام بأشخاص الرواة بقدر ما هو الاهتمام فی حقیقة المعارف ومضامین الروایات وواقع المقالات.

ومن نماذج تأثّر عدّة من الأصحاب بما یروج عند العامّة من الطعون علی فرق الشیعة ما سیأتی من کلام النوبختی حول الخطّابیة وحول إیمان أبی طالب علیه السلام ، وما ذکره علی بن إبراهیم القمی فی تفسیره فی عدید من موارد أسباب النزول من دون أن یسنده إلی روایة أهل البیت علیهم السلام تأثّراً بما عند العامّة حتی فی قصّة ما لفّقوه من سبب نزول الآیة فی عدم إیمان أبی طالب علیه السلام .

وکذلک ما ذکره الکشی فی عدید من الموارد فیما ذکره عن فرق الشیعة أو فی تراجم مفردات الشخصیّة للرواة.

ص:190


1- (1) . البدء والتاریخ 5 / 130 .

القاعدة الرابعة: الصراع السیاسی والرمی بالغلوّ

إنّ ظاهرة رموز وروّاد الغلو والطیّارة تسترعی توقّف الباحث ملیّاً عندها، ولا یمکن لمن أراد الوصول إلی الحقیقة السماع والإنصات إلی الطرف الطاعن من دون تقصّی أحوال المطعون الذی هو طرف آخر فی الخصومة والنزاع.

والبحث وإن لم یکن غایته الانتصاف لمن طُعن علیهم بالغلوّ ووصف الطیّارة بقدر ما هو عزم علی الوصول للحقیقة، کی لا تتکرّر مثل هذه الظاهرة ولا تعمّم علی الأبریاء من سائر الرواة، ولیتمّ التعرّف علی خلفیّات والأسباب الخفیّة التی تقف وراء مثل هذه الظاهرة.

فإنّه لا یمکن استبعاد منهج القراءة السیاسیة للحدث وإن لم یصحّ الاقتصار علی هذا المنهج بل لابدّ من إعمال المناهج المختلفة الحدیثی والکلامی والتاریخی المحض والرجالی والفقهی وغیرها کلّ فی مجاله وبحسب زاویته، کی تتّضح الصورة کاملة ولا تقتصر الشواهد علی جوانب دون أخری ولا یتمّ استبعاد العوامل المتعدّدة الموثرة.

فمن جملة العوامل التی لا یمکن إغفالها فی بحث ظاهرة الغلاة ورمیهم بالغلوّ هو الصراع السیاسی الذی کان بین الفرق الشیعیة وبین السلطات الأمویّة والعباسیة، إذ لا ریب أنّ بثّ الثقافة الداعیة إلی تسلیط الضوء علی أهل البیت علیهم السلام کقیادات منقطعة النظیر، عدیمة الشبیه متمیّزة النعوت، یمتنع مشارکتها فی المقامات، وذکر ما لهم من الصفات المرتبطة ممّا تعکس ارتباطهم بالملکوت، کلّ ذلک یقطع السبیل علی غیرهم فی منافستهم علی الشرعیّة ویفقد الشرعیّة عن الأمویین والعباسیین فی تسلّطهم علی مقام الخلافة والحکم فی بلاد المسلمین.

ومن الواضح أنّ هذا یمثّل ثورة سیاسیة علی بنی أمیة وبنی العباس ویربک الأرضیّة فی عموم قاعدة المسلمین علی بنیانهم، فلا محالة أنّ التیار الذی یقوم بعبأ نشر معارف مقامات أهل البیت علیهم السلام یعتبر فی الحقیقة نشاطاً سیاسیاً معارضاً

ص:191

للسلطات ولا محالة ینجرّ بعد ذلک إلی تحرّک السلطة الأمویة والعباسیة ضدّ هذا التیار ولمواجهة هذه الثقافة التی تخلق أزمة الشرعیة عنهم. ولا محالة مواجهة هذا الفکر لابدّ أن یکون بأدوات فکریة قبل أن یکون بأدوات سیاسیة وأمنیّة وإن کانت السلطات الأمویة والعباسیة قد استخدمت کل الأدوات، ولکن فی البدء استعملت فی المواجهة أدوات من النمط ا لأوّل وهو الطعن بالغلوّ والانحراف والتکفیر والتفسیق نظیر الحکم بالردّة علی الکثیر من مانعی الزکاة للخلیفة الأوّل والمصرّین علی لزوم تولیة مقام الخلافة لعلی بن أبی طالب علیه السلام .

فإنّ عصا التکفیر والرمی بالبدع والغلوّ لم یکن أمراً مستبعداً من المستولین علی الخلافة الإسلامیّة فی مواجهة القواعد العدیدة من جماهیر المسلمین الداعیة إلی مناصرة أهل البیت علیهم السلام ، لا سیّما ذلک التیّار الفکری الذی یدعو إلی تبیان البراهین والدلائل والبیّنات علی حصر الشرعیة فی الإمامة والخلافة لأهل البیت علیهم السلام و ذلک عبر بیان نعوتهم وتفسیر مقاماتهم بحسب نصوص القرآن ومتواتر السنّة النبویّة وتأویلها بعمق یبیّن الحکمة والعلّة فی کون الإمامة والخلافة ضرورةً بالنصّ الإلهی والجعل الربّانی وأنّها کمقام النبوّة والرسالة من جهة أنّها منصب إلهی وإن اختلفت عنها فی السنخ والنوع، و هذا ممّا یصعّد القدرة الفکریة علی مواجهة بنی أمیة وبنی العباس بصورة أکفأ وأقوی من البنیة الفکریة من أصحاب التیّار الکلامی الجدلی البحت.

فإنّ أصحاب التیار الکلامی وإن کانت لهم إسهامات مهمّة فی مواجهة السلطة الأمویة والعباسیة والدفاع عن منهاج أهل البیت علیهم السلام ، إلّاأنّ هذه المواجهة لم تخل من إرباک بسبب تجنید السلطة الأمویة والعباسیة تیّاراً کلامیّاً مضادّاً قام بتخویة المعانی وتسییب حدود المعانی وتمطیط الموازین الفکریة وإیجاد الکثیر من اللغط الجدلی الذی یعتّم علی کثیر من الأذهان رؤیة الحقیقة، و هذا بخلاف التیّار لرواة المعارف والمقامات الغیبیّة لأهل البیت علیهم السلام والذی یقوم بانتزاع هذه

ص:192

المعارف من حقائق المعانی القرآنیة أو درایة النصوص النبویّة، فإنّ هذا الطرح المعرفی یصعب مواجهته ولا یمکن ادّعائه فی شأن غیر أهل البیت علیهم السلام من مناوئیهم وخصومهم وبنی أمیّة وبنی العباس.

فإنّ هذا النمط من البیان والخطاب والدلائل لحقّ أهل البیت علیهم السلام یسعّر قوّة المواجهة ویعرّی عن حقیقة الطرف الآخر وظلمه واستبداده واستئثاره بدرجة تضیّع علیه الفرصة فی القدرة علی المواجهة، و هذا مما کان یتطلّب تحرّکاً سریعاً من السلطات الأمویّة والعباسیة لمحاصرة تولّد تلک التیّارات والإجهاز علیها فی مهد بیئاتها.

ومن ثمّ لم یکتفوا بالتکفیر والطعن علیهم بالغلوّ بل بادروا بعد تشهیرهم بهذا الطعن إلی المواجهة الأمنیّة والعسکریة، کما حصل مع المغیرة بن سعید وزملائه ومع أبی الخطّاب وجماعته وغیرهم من هذه الجماعات. بل استطاع مدّ السلطة أن یشیّع الساحة ضدّ هؤلاء فکریّاً بتوسّط هذا الطعن بأنه تألیه والقول بالربوبیة لأهل البیت علیهم السلام . و هذا النمط من أسلوب المواجهة لم یکن جدیداً بل قد رُفع شعاره من قبل المستولین علی الخلافة والحکم منذ أوّل یوم وفاة النبی صلی الله علیه و آله و سلم حیث رفع شعار «من کان یعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات ومن کان یعبد اللّه فإنّ اللّه حیّ لا یموت»(1) فیتضمّن هذا الشعار أنّ هذا الولاء لسید الأنبیاء صلی الله علیه و آله و سلم إفراط وعبودیة وغلوّ فی شخصیّته صلی الله علیه و آله و سلم وتألیه له. وکذا قالها الثانی مخاطباً سلمان:

«ألیس قد أزالها اللّه عن أهل البیت الذین اتّخذتموهم أرباباً من دون اللّه»(2).

والملاحظ أنّ جملة الأبحاث الرجالیة التی خاضت فی تحلیل هذه الظاهرة لم تستوف العامل السیاسی ودوره، مع أنّ حدثاً بمثل هذه الضخامة فی عمق البیئة

ص:193


1- (1) . شرح نهج البلاغة ابن أبی الحدید 1: 177 و 2 / 40 و 13 / 35، وبحار الأنوار 30 / 590 .
2- (2) . بحار الأنوار 28 / 278 .

الاجتماعیة والسیاسیة وتداعیاتها فإنه یتفاعل بقوة مع الخطط السیاسیة وتنازع القدرة، لا سیّما وأنّ مثل المغیرة وأبی الخطّاب وأمثالهما لم یکونوا أصحاب دعوة فکریة فقط بل کانوا یحملوا توجّهاً إلی مشروع سیاسی کبیر، حتی أنّ المصادر التاریخیّة لم تستطع إخفاء ذلک کما سیأتی التعرّض إلی جملة من القصاصات الشاهدة علی ذلک، بل أنّ عبد اللّه بن سبأ لم تستطع المصادر التاریخیة إخفاء طابع تحرّکه السیاسی المناهض للخط الحاکم السیاسی و هذا یفتح الباب لقراءة خلفیّة الطعون التی رُمی بها هؤلاء من الغلوّ والمروق العقائدی.

کما یسترعی الباحث للبحث فی الفارق والمائز بین جملة من ثورات العلویین ضدّ بنی أمیة وبنی العباس والتی أیضاً کانت ثورات سیاسیة مناهضة لسلطة الحکم السیاسی، إلّاأنّه رغم ذلک لم یطعن علیها بمثل هذه الطعون مما یکشف عن أنّ الشعار العقائدی الذی رفعه مثل هؤلاء کمنطلق للتحرک السیاسی یختلف عن طابع ثورات العلویین، فإنّ هؤلاء کانوا یرکّزون علی إمامة ووصایة الأئمة الاثنی عشر من أهل البیت علیهم السلام دون من سواهم، وینطلقون فی تبیان نظام الشرعیة السیاسیة من منطلقات معرفیّة حول مقامات أهل البیت علیهم السلام ، ممّا یسدّ الباب علی بقیّة وجوه بنی هاشم من العلویین والفاطمیین ومن الحسنیین والحسینیین فضلاً عن الأمویین والعباسیین، وینطلقون فی الحقّ الحصری للأئمة الاثنی عشر علیهم السلام فی القیادة السیاسیة للأمة والقیادة الدینیة من أسس معرفیّة عقدیّة وهی علوّ مقامات أهل البیت علیهم السلام من المواهب اللدنیة الإلهیّة. و هذا بمثابة ترویج ثقافی وعقائدی یهیّیء الأرضیة لتبریر وتفسیر الدعوی السیاسیة والعسکریة لأهل البیت علیهم السلام .

إلّا أنّ هؤلاء أخفقوا فی دراسة الظروف وتقییمها کما أنّهم أخفقوا فی اعتماد البرامج السدیدة الصائبة والخطط المرحلیة. فکان ما اعتمدوا من تدبیر وتخطیط وأسالیب مضرّ غایة الإضرار بمسیرة أهل البیت علیهم السلام ، بل وسبّب تداعیات سلبیة

ص:194

شدیدة من إرباک الوضع الأمنی، وفتح الباب للسلطات الحاکمة للقیام بالمزید من الضغط والحصار علی مسارهم علیهم السلام ، فضلاً عن استقلال جماعات أخری انتهازیة تتحیّن الفرصة فی ظلّ الالتباسات فی المفاهیم الدینیة لکی تقوم بتحشید الاتباع، وتسویغ دعایات رئاساتها الباطلة، ولو کلّف ذلک المتاجرة والتلاعب بکلّ مقدسات الدین وتحریف الحقائق. إذ أنّ أیّ تحرّک اجتماعی سواء کان طابعه عقائدیاً أو سیاسیاً أو علمیاً محضاً فإنه یتفاعل مع الشرائح الاجتماعیة علی اختلاف ألوانها ومآربها.

هذا مضافاً إلی إخفاق هؤلاء فی فهم وتنظیر جملة من المعارف الغامضة وتغییرها بالصورة السدیدة، وکذلک ضبط جملة من الأحکام الشرعیة کی لا یحصل منها انطباع خاطیء، ولا یستغلّ أصحاب الأغراض والمیول والأهواء استثمارها فی مآربهم الخسیسة.

ففی ظلّ جملة هذه الإخفاقات والتمرّد علی وصایا أئمة أهل البیت علیهم السلام وتأکیداتهم فی المنهج والمنهاج، وفی ظلّ معترک التجاذبات والتصارع السیاسی والاجتماعی تموّج مثل هذه الظاهرة الغامضة التی لا یمکن تفسیرها وتحلیلها والوقوف علی حقائق الأحداث إلّابتفکیک القصاصات والشواهد والعوامل والأسباب ودوافع الأطراف بمنهج متثبّث وتروّی وتدبر ملیء بالنظر الثاقب.

و هذا المنهج من المواجهة هو الذی نشاهده من الأنظمة السیاسیة التی تتّخذ من السلفیّة ذراعاً لمحاربة أتباع أهل البیت علیهم السلام ، فإنّهم یقومون برفع سیف التکفیر کذریعة لجحد واستئصال جملة من أرکان الدین کالتوسّل وبناء المشاهد المشرفة ومعالم الآثار التاریخیة للنبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته علیهم السلام فی مکّة المکرّمة والمدینة المنوّرة وسائر أرجاء المعمورة. فإذا کان هذا التیّار الحاکم علی رقاب المسلمین - منذ الصدر الأوّل إلی أن تطالت القرون وإلی یومنا هذا - لا یتحمّل وجوده فی السلطة وتقمّصه لمشروعیة الحکم ظاهر بعض مقامات وصلاحیّات أهل

ص:195

البیت علیهم السلام فکیف بتلک الصلاحیات الأعلی النابعة من صفات ونعوت وفضائل لا یکاد مثل هؤلاء العتاة من الحکّام أن یتصوّروا جانباً مخفّفاً منها فضلاً عن أن یحتملوا إمکانها.

القاعدة الخامسة: إیهام حال جملة من الرواة لانتحال الطیارة والغالیة لهم

إنّ جملة من الفرق المنحرفة قد سعت لتقویة دعوتها وشوکتها وتجلیة وجهها إلی إلصاق جملة من الرواة الکبار والشخصیات اللامعة إلیها، و ذلک بجعل جملة من الأسانید تنتهی إلی أولئک الرواة ونسبة متون من الروایات الموضوعة کقول ومقالة یتبنّوها أو کمتن روایة ینسبونها إلی المعصوم علی لسان أولئک الرواة.

کما تقوم الطیارة الغالیة بوضع روایات کثیرة علی لسان أولئک الرواة فی کتبها، وکما تقوم الواقفة بإسناد روایات الوقف إلی جملة من الرواة الذین هم لیسوا منهم.

و هذا مما یسبّب تولّد التهمة والشبهة لدی عدّة من الرجالیین حول أولئک الرواة، بل فتح باب الطعن من أولئک الرجالیین علی أولئک الرواة. وقد وقع ذلک للکشی والنجاشی وابن الغضائری فی جملة من الموارد، بل ما یزید علی الشبهة والتهمة افتراء العامة علی أولئک الرواة جملة من المفتریات وقد یطابق مفتریات الطیارة والغالیة وغیرهم فتستحکم الشبهة والتهمة حینئذٍ.

فمثلاً قال المحقق التستری فی قاموسه فی المفضل بن عمر: «والظاهر أنّ منشأ طعن ابن الغضائری فیه حمل الغلاة فی حدیثه حملاً عظیماً کما اعترف به نفسه وکما عرفت من الکشی من قوله: «وذکرت الطیارة الغالیة فی بعض کتبها عن المفضل... الخ» وزاد الشبهة فیه والتهمة له افتراء العامة علیه، شأنهم مع أجلّة

ص:196

الشیعة کما عرفت من قول الکشی «قال یحیی بن عبد الحمید ... الخ»(1) بل الواقفة أیضاً افتروا علیه أنه روی الوقف فنقل الغیبة عن کتاب علیّ بن أحمد الموسوی فی نصرة الواقفة: أنه ذکر إسناداً عن المفضّل عن الصادق علیه السلام قال: إنّ بنی العباس سیعبثون بابنی هذا ولن یصلوا إلیه»(2).

وقال المامقانی فی تنقیح المقال فی ترجمة مفضّل فی ردّ قول الکشی واعتماده فی الطعن علی المفضل علی الکتب الطیّارة الغالیة قال: «إنّه بعد اعتراف الکشی بأنّ الناسب إلی المفضل هذه الکلمات التی لا تصدر إلّامن أهل الهذیان الشاربین للبنج أو الخمر أو المجانین، هم الطیارة الغالین فما معنی جعله قادحاً فی المفضّل، بعدما أشرنا إلیه آنفاً من جریان عادة أهل المذاهب الفاسدة علی الاهتمام بإدخال اسم جلیل فی جماعتهم لیقوی به مذهبهم الفاسد، کنسبة المتصوّفة التصوّف إلی أمیر المؤمنین علیه السلام ... فکما أنّ ذلک منهم لا ینقص أمیر المؤمنین علیه السلام فکذا هذه النسبة من الغلاة لا تنتقص المفضل الذی هو بمقتضی الأخبار المزبورة معدن الفضل».

وقال: «لما جرت علیه العادة من اهتمام أهل المذاهب الفاسدة إلی نسبة مذهبهم الفاسد إلی جلیل من أهل الحق لتقویة مذهبهم والتعمیة علی الجهّال ...

فعلی فرض عدّ الغلاة المفضل منهم لا یکون حجّة علی غلوّ المفضّل فإنّ الإنسان یملک لسان نفسه ولا یملک لسان غیره»(3).

ومما یشهد علی ذلک أیضاً أنّ النجاشی قد ضعّف داود بن کثیر الرقّی وعرّض بأنه من الغلاة بمجرد روایة الغلاة عنه، مع أنّ الکشی قال فی شأنه إنه لم

ص:197


1- (1) . نقل کلام قاضی العامة شریک بن عامر فی المطاعن علی المفضل بن عمر مع أنّ جملة من تلک المطاعن هی فضائل ومعارف یحسبها العامة مطاعن.
2- (2) . قاموس الرجال 10 / 214 .
3- (3) . تنقیح المقال 3 / 240 - 241 .

یسمع أحداً من مشایخ العصابة یطعن فیه ولا عثرت من الروایة علی شیء غیر ما أثبتّه فی هذا الباب، قاله ردّاً علی الغلاة حیث زعموا أنّ داود من أرکانهم(1).

القاعدة السادسة: فرق الصوفیة من الفرق الشیعیّة

إنّ من الأمور الهامّة التی تستدعی وقفة ملیّة عندها هو تحدید انتماء فرق الصوفیة وهی بالعشرات لا سیّما وأنها تشکّل المساحة الضاربة فی العالم الإسلامی سواء العربی أو غیره.

ولتنقیح ذلک نبین جملة من الأمور:

الأول: أنّ الصوفیة والتصوّف منهج عقائدی ولیس بمنهج فقهی، ومن ثم وقع الخطأ الشائع عند أصحاب التراجم وأرباب الجرح والتعدیل فی کتب الملل و النحل حیث عدّوا فرق الصوفیة من فرق أهل السنة باعتبار انتمائهم فی الفروع لأحد المذاهب الأربعة، بینما غفلوا عن انتمائهم العقائدی إلی أئمة أهل البیت علیهم السلام فإنّ جلّ الفرق الصوفیة ینسبون أنفسهم إلی أئمة أهل البیت علیهم السلام (2)مع أنّ المدار فی علم الملل و النحل والفرق وعلم الدرایة والرجال والتاریخ هو الانتساب العقائدی لا الفقهی.

الثانی: أنهم یعتقدون بأنّ الأئمة الاثنی عشر أئمة الملکوت و أنهم وسطاء الفیوضات الربانیة و أنهم شهداء للّه علی خلقه یوم الحساب وهداة الخلق إلی اللّه، وأنّ الخلفاء الثلاثة إنّما هم أئمة الظاهر أئمة سیاسة دنیویة دون الولایة الأخرویّة والغیبیّة.

وهذه الدرجة من التبرّی من أئمة الظاهر - حیث لا یثبتون لهم الولایة الغیبیّة

ص:198


1- (1) . رجال النجاشی ص 471، والکشی ذیل ح 766 .
2- (2) . عدا فرقة النقشبندیة حیث تنسب نفسها إلی أبی بکر مع أنها تعتقد بإمامة أهل البیت علیهم السلام فی الملکوت.

والأخرویّة - لا نجدها فی فرق الزیدیة مع أنها معدودة من فرق الشیعة.

الثالث: أنه من الجهة السابقة یتبین أنّ فرق الصوفیة أخصّ بالإمامیّة من الزیدیة، وکذا هم أخصّ بها من الإسماعیلیة والواقفیة والناووسیة وغیرهم من الفرق الشیعیة التی لا تدین بولایة الأئمة الاثنی عشر، بینما هؤلاء یدینون بولایة الأئمة الاثنی عشر بأسمائهم ونسبهم وبولادة الإمام المهدی عجل اللّه تعالی فرجه الشریف وبأنه سیظهر، فهم أخصّ بالإمامیة من بقیّة الفرق من هذه الجهة. ومن ثم فهم عقائدیاً لا صلة بینهم وبین الأشاعرة ولا السلفیة ولا أهل سنة الخلافة وجماعة السلطان ولا المعتزلة ولا الکرّامیة والماتریدیة والجهمیة وغیرهم من فرق أهل السنة، بل حیث قدّم علیاً وولده فی إمامة الملکوت والعلوم اللدنّیة وأقرّوا بقطبیة الاثنی عشر فهم من فرق الشیعة عقائدیاً.

الرابع: أن تبنّیهم فی الفروع لأحد المذاهب الأربعة السنّیة لا یقطع نسبتهم العقائدیة إلی فرق الشیعة لأنّ النسبة فی الفرق قائمة فی الأساس علی الانتماء العقائدی لا الانتماء الفقهی، وإلّا فإنّ فرق الزیدیة فی فقه الفروع أقرب إلی المذاهب الأربعة منها إلی الإمامیة ومع ذلک لم یخرجهم عن تعداد فرق الشیعة.

الخامس: أنهم قائلون بمقامات عظیمة لأئمة أهل البیت علیهم السلام وبلطائف فی معرفة مناقبهم وإشارات لا یصل إلی دقائقها جملة کثیرة من فرق الشیعة.

السادس: أنّ الفرق الصوفیة هی النسبة الضاربة من أتباع المذاهب الأربعة ولیس ذلک فی قرننا الحاضر فقط بل منذ القرون الأولی لتأریخ المسلمین.

السابع: أنّ منشأ تولّد وبزوغ الفرق الصوفیة هو امتداد لأتباع الفرق الباطنیة الشیعیة وما یسمّی بفرق الغلاة، فإنّ أدبیّاتهم جلّها مستوحاة مما کان متداولاً عند تلک الفرق، ویظهر ذلک جلیاً بیّناً لمن تتبّع وبحث بشکل مقارن لمنظومة الأبحاث والاصطلاحات عند هذه الفرق، فیظهر لدیه أنّ جذورها ومبدءها کان عند تلک الفرق الشیعیة.

ص:199

الثامن: قد یفسّر التلفیق الذی تبنّته الفرق الصوفیة من الانتماء العقائدی فی المعارف إلی أئمة أهل البیت علیهم السلام من جانب، ومن جانب آخر تبنّی أحد المذاهب الأربعة فی الفروع والالتزام بالإمامة السیاسیة أنّ ذلک نحواً من التقیة المفرطة فی الطبقات الأولی من فرق الصوفیة فی مقام العمل ومقام الولاء السیاسی، حیث أدّی بهم هذا الإفراط فی التقیة إلی التمادی فی الطبقات اللاحقة بحیث التزموا بالجانب الثانی کمبدأ فی العمل ومبدأ فی الولاء السیاسی، إلی أن وصل الحال بما یری من التلفیق الذی هم علیه فی القرون المتأخّرة. وعلی أیّ تقدیر فالأصل فی النسبة وانتماء الفرق هی الجهة العقائدیة المقدّمة فی النسبة علی المتبنّیات فی الفروع العملیّة.

التاسع: إنّ من الشواهد علی عدم انتساب فرق الصوفیة لأهل السنّة أنک تری الأشاعرة والسلفیة وغیرهم من فرق السنة یکفّرون الصوفیة فی معتقداتهم، أو یطعنون علیها بالبدعة والغیّ والضلال ونحو ذلک، ولربّما راج التعبیر لدیهم أنّ التصوّف قنطرة التشیّع. ونحن إذ ندرجهم فی فرق الشیعة و أنهم أخصّ بالإمامیة من جملة من الفرق لا نرید بذلک إدراجهم فی الإمامیة الاثنی عشریة، ولا ننکر وجود الفوارق الکثیرة والمؤاخذات التی سجّلها علماء الإمامیة علیهم فی جملة من أبحاثهم وکتبهم والمسائل و القواعد التی حکموا بالانحراف علیهم فیها، بل نحن فی صدد بیان أنّ قواعد علم الملل و النحل والفرق الإسلامیة وبحوث علم الرجال والدرایة ومباحث التاریخ تعیّن اندراجهم فی الفرق الشیعیة وأنّ لهم جهات مشترکة مع الإمامیة، وأنّ محتد تولدّهم ومهد ترعرعهم فی التاریخ الإسلامی هو امتداد لجذور الفرق الشیعیة. وحسب الناظر المقارنة بین المقالات المأثورة فی الأبحاث المعرفیّة لجملة من فرق الشیعة مع مقالات الصوفیة.

العاشر: وعلی ما تقدّم من النقاط یتبیّن النظر فیما یدّعی من أنّ أکثریّة العالم الإسلامی عبر القرون الأربعة عشر أکثریّته من أهل السنة، بل الأکثریة هی من فرق

ص:200

الشیعة ولو أردنا تحیید فرق الصوفیة عن کل من الشیعة والسنّة فالأشعریة والسلفیة والمعتزلة والکرّامیة ونحوهم لا یشکّلون أکثریّة العالم الإسلامی، بل إنّ هذا التحیید لفرق الصوفیّة کوسط بین الطرفین لا یخفی أنه یوجب أکثریة مذاهب التشیّع کعقیدة وإن أوجب أکثریّة التسنّن کمذاهب فقهیّة.

القاعدة السابعة: تنقیح التراث الإسلامی عن النصب والغلو

إنّ هناک الدعوات والنداءات الکثیرة المطالبة بتنقیح التراث الواصل مما نقل وروی عن الغلاة أو أخذ من مصادرهم و ذلک لعدم الأمن منهم علی الصدق فی النقل والأمانة فی الروایة. والغریب أنّ هذه الدعوات تقتصر علی التحسّس والحذر من الغلاة فقط وتهمل دور النواصب والمقصّرة فی التأثیر علی التراث، فلا نجد أرباب الجرح والتعدیل عند أهل السنّة یتحسّسون من الأخذ عن النواصب بل نجدهم یوثّقونهم.

قال ابن حجر فی تهذیب التهذیب فی ترجمة إبراهیم بن یعقوب بن إسحاق السعدی الجوزجانی قال: قال الخلّال: «إبراهیم جلیل جدّاً کان أحمد بن حنبل یکاتبه ویکرمه إکراماً شدیداً. وقال ابن حبان فی الثقات کان حروری المذهب(1)ولم یکن بداعیة وکان صلباً فی السنّة حافظاً للحدیث إلّاأنه من صلابته ربما کان یتعدّی طوره. وقال ابن عدی: کان شدید المیل إلی مذهب أهل دمشق فی المیل علی علیّ».

وقال السلمی عن الدارقطنی بعد أن ذکر توثیقه: «لکن فیه انحراف عن علی اجتمع علی بابه أصحاب الحدیث فأخرجت جاریة له فرّوجة لتذبحها فلم تجد من یذبحها فقال: سبحان اللّه فرّوجة لا یوجد من یذبحها وعلی یذبح فی ضحوة نیفاً وعشرین ألف مسلم».

ص:201


1- (1) . الحروری: خارجی.

قال ابن حجر: «قلت وکتابه فی الضعفاء یوضح مقالته ورأیت فی نسخة من کتاب ابن حبان حریزی المذهب - وهو بفتح الحاء المهملة وکسر الراء وبعد الراء زای نسبة إلی حریز بن عثمان المعروف بالنصب(1) - ».

وقال الذهبی فی ترجمته: «أحد أئمة الجرح والتعدیل ... کان مقیماً بدمشق یحدّث علی المنبر وکان أحمد یکاتبه فیتقوّی بکتابه ویقرأه علی المنبر»(2).

فهذا تصریح منهم باعتماد أرباب الجرح والتعدیل والمحدثین فیهم علی النصاب من الرواة: بل اعتمدوا النصب سنّة یتدیّنون بها ویجد المتتبع فی کتب الرجال عندهم الکثیر جدّاً من هذه النماذج والکتب الحدیث لدیهم مملوءة بروایاتهم وقد کتب وجمع الکثیر من المحققین من الإمامیة قوائم بتعداد ذلک، فلاحظ ما کتبه الأمینی فی الغدیر والمظفر فی دلائل الصدق والإفصاح والشیخ محمد حسین کاشف الغطاء فی رسالة مستقلّة فی ذلک وما ذکرناه من نماذج فی کتابنا عدالة الصحابة وفی الجزء الثانی من الرجال.

والحاصل: أنّ تراثهم فی الحدیث والسیرة والتاریخ وروایات أسباب النزول وغیرها من کتب التراث مشحونة بالنقل عن الرواة الموصوفین بالنصب والعداء لأهل البیت علیهم السلام .

ص:202


1- (1) . تهذیب التهذیب 1 / 159 رقم 332 .
2- (2) . میزان الاعتدال: 1 / 75 و 76 .

تحقیق مرکز انحراف المطعون علیهم بالغلو

اشارة

لابدّ من الالتفات إلی أنّ جماعة ممّن تعاطی المعارف روایة ودرایة کعبد اللّه بن سبأ ومغیرة بن سعید وبنان وأبی الخطاب لا ریب فی انحرافهم عن تعالیم أهل البیت علیهم السلام ووصایاهم، إلّاأنّ الکلام کلّ الکلام هو فی تحدید وتشخیص هوّیة ذلک الانحراف الذی ارتکبوا ومرکز الانحراف، فهل هو - کما ینسب إلیهم فی کتب العامة - ادّعاء الألوهیّة والربوبیّة، أو قولهم بألوهیة الأئمة من أهل البیت علیهم السلام ، أو قولهم بالتناسخ؟

لکن الملاحظ أنّ انحرافهم إنّما کان فی أمور أخر، منها: إذاعة السر وإشاعة المعارف الثقیلة والمعانی الغامضة التی یسبّب نشرها وإذاعتها وشیوعها عند عامة أهل العلم فضلاً عن عموم الناس، انطباع معانی خاطئة وتصوّرات باطلة وینسبق لدیهم تأویلات زائغة باسترسال المبادرة فی المعانی من غیر فهم حقیقة تأویلها أو وجوه معانیها الصحیحة، فسبّب ذلک الانطباع الخاطیء فی أذهان عموم الناس انحرافاً آخر من القول بالألوهیة أو النبوّة.

لا سیما وأنّ هناک کانت جماعات ثانیة خاصّة توصف فی الروایات بالسفلة، وهم الانتهازیون الذین یستأکلون بالعلم متاع الدنیا ویطمعون فی الرئاسة وتحشید الأتباع، و ذلک عبر الدجل والحیلة وتقمّص الادعاءات الباطلة من دون أن یتحرّجوا فی إضلال الناس. فکان انتشار مثل هذه المعارف التی ظاهرها

ص:203

متشابه مادّة ومنبعاً یوظّفونه لمآربهم ومصیدة لمکایدهم، یلبسون بتعمیة تلک المعانی علی الناس کی یصطادونهم فی حبائلهم. فنشأت بسبب هؤلاء (السفلة) فرق منحرفة تزعم الألوهیة والنبوّة، وکان الذی مهّد ذلک هو إذاعة ونشر المجموعة الأولی فهو الذی فتح الطریق أمام المجموعة الثانیة.

ومن ثمّ حذّر الأئمة علیهم السلام عن الانحراف الأوّل وهو إذاعة أسرار المعارف، ولعنوا من یرتکب هذا الانحراف لأنّه الذی یسبّب وقوع الانحراف الثانی وإن لم یکن أصحاب الانحراف هم ممّن یقول بالانحراف الثانی.

کما فی روایة ذریح المحاربی قال: سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن جابر الجعفی وما روی؟ فلم یجبنی وأظنّه قال: سألته بجمع فلم یجبنی، فسألته الثالثة فقال لی:

یا ذریح دع ذکر جابر فإنّ السفلة إذا سمعوا بأحادیثه شنعوا أو قال

أذاعوا(1).

وفی روایة المفضّل بن عمر قال: سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن تفسیر جابر؟ فقال:

لا تحدّث به السفلة فیذیعوه(2).

وأیضاً فی روایة یونس عن جمیل قال: قلت لأبی الحسن علیه السلام أحدّثهم بتفسیر جابر؟ قال: لا تحدّث به السفلة فیوبّخوه(3).

فالطعن علیهم بالغلوّ فی الألوهیة والقول بالنبوّة یرجع إلی عدّة أسباب، کما سیظهر من استقراء جملة من الموارد والحالات وتجمیع عدّة من القصاصات والشواهد الآتیة استعراضها مفصّلاً ونلخّص تلک الأسباب بما یلی:

الأول: أنّ جملة من المعانی للمعارف التی قاموا بإذاعتها وکشفها کانت من الأمر المستصعب الذی یثقل وعیه علی قلوب الخاصّة فضلاً عن العامة، لا سیّما فی تلک الأزمان التی لم ترتق بعد ذهنیّة المعرفة عند عموم المؤمنین إلی المستوی

ص:204


1- (1) . الکشی / ح 340 .
2- (2) . الکشی / ح 338 .
3- (3) . البحار 8 / 50 .

العمیق العالی. فإنّ جملة من المعارف الحقّة لم تکن فی صدر الإسلام بتلک الدرجة من الوضوح والبداهة، ولکن بفضل جهود أئمة أهل البیت علیهم السلام بعد عصر النبی صلی الله علیه و آله و سلم استطاعوا أن یوضّحوها لعقول عموم الأمة ویصل بتلک العقائد إلی درجة البداهة. و ذلک نظیر تنزّه الباری تعالی عن الجسمیة والشبه والمثل، ونفی الجبر والتفویض، وکون الجنة والنار مخلوقتین، وتبیان صفة العدل فی الباری تعالی، وکون القرآن ذا منازل ومواقع غیبیّة، وعصمة الأنبیاء والمرسلین وتنزیههم عن الزلل والقبایح، وتبیین کمال الشریعة الإسلامیة ودین اللّه، وأنّ للّه تعالی فی کل واقعة حکماً وإن جهله العباد ولکن یعلمه المستحفظین للکتاب من الربانیین الأوصیاء، وأنّ الأرض لا تخلو من حجة للّه تعالی بعد النبی وهو الإمام الذی تأتیه أخبار السماء وإن لم یکن ذلک وحیاً نبوّیاً ولکنه علم لدنّی من اللّه تعالی ووراثة لعلوم النبی وللکتاب العزیز.

إلّا أنّ جملة من المباحث والمسائل المرتبطة بمعرفة الإمامة أو شؤون نبوة النبی صلی الله علیه و آله و سلم لم تکن قد تجلّت بوضوح فی تلک الآونة والفترة وإن کانت موادّ وحی کتاب اللّه العزیز والسنة المطهّرة حاویة لکل ذلک ولأعماق غزیرة من بحور لا تنفد.

فأبواب المعارف فی ذهنیة عامة أجیال المؤمنین - لا أجیال نخب المؤمنین - فضلاً عن المسلمین قد مرّت بمراحل فی الوعی والفهم والإدراک والتدرّج فی عمق وسعة المعرفة، فجملة من المعارف فی الإمامة ومقاماتها التی تعدّ فی أفق البحث العلمی فی هذه الأعصار من الواضحات وأنّها مطابق للموازین والقواعد ومحکمات الکتاب والسنّة، ولا یتوهّم فیها غلو أو إفراط من القول - لأنّها لا تخرج للمخلوق الذی اصطفاه نبیاً أو إماماً عن العبودیة والافتقار إلی الباری تعالی، وإنّما هی مقامات عظیمة، إلّاأنّ عظمتها ولو بلغت العرش العظیم فهی مخلوقة قائمة به تعالی ومن فیضه وإنعامه لا تخرج عن حیطته وقدرته وإرادته ومشیّته - لکنّها کان

ص:205

یتوهّم منها فی تلک الأزمنة عندما یکشف عنها النقاب أنّها من الصفات الألوهیة أو أنّها من صفات النبوّة الخاصّة و ذلک لقصور المستوی العلمی السائد آنذاک.

فمن ثم القول بوجود الأسرار والدقائق فی المعارف وغوامض المسائل العقائدیة لا توجب قدحاً ولا جرحاً، کما قال المحقق الشیخ محمد علی الأراکی:

«أما الدراویش فإن کانوا یقولون: إنه علاوة علی هذه العلوم الشرعیة المتکفّلة للواجبات والمستحبّات المسطورة فی الدفاتر المنقولة عن الأئمة یکون هنا علوم أخر مأثورة عنهم علیهم السلام فی الأخلاق علی سبیل الأسرار والانتقال من صدر إلی صدر ومع ذلک یعتقدون بصحّة ما بأیدینا من الأخبار ویعملون بواجباتها ومستحبّاتها وغیر ذلک وأنّ الجاهل لابدّ و أن یقلّد عن العالم فلا یکون وجه لکفرهم ونجاستهم ... وبالجملة فحال هذه الطائفة حینئذٍ مثل ما لو ادّعی أحدٌ وجدانه بعضاً من الأصول الأربعمائة المفقودة إلی هذا الزمان ورأی فیه ذکراً لم یکن یعرفه أحد إلی الیوم فدعوی هذه الطائفة أیضاً راجعة إلی أنّا وجدنا من الأئمة شیئاً ما وجدتموه و هذا لا یوجب الکفر وإن کان دعواهم کاذبة»(1).

وکلامه قدس سره إنما هو حول فرق الصوفیة التی انحدرت انحرافاً أکثر من الفرق الباطنیة، والتی هی منحدرة ومنحرفة أکثر من الرواة المطعون علیهم بالغلو الذین اعتراهم الزیغ فی إفشاء غوامض ودقائق المعرفة لعامة الناس الذین ینطبع لدیهم الحقائق الدقیقة بشکل مقلوب وبنحو معکوس عن واقعیتها فیؤدی للانحراف بدل الهدایة ویتسع الزیغ بدل الاستقامة، فإذا کان الحکم الفقهی حول الدراویش الصوفیة ذلک فکیف الحال بالرواة المطعون علیهم بالغلو الذین شطّ بهم الإفشاء لدقائق المسائل.

ومما یقرّب هذه الحقیقة أنّک تشاهد فی العصر الراهن رغم ما وصلت إلیه

ص:206


1- (1) . کتاب الطهارة، الشیخ محمد علی الأراکی 1 / 548 .

الأبحاث العلمیة من عمق وسعة وبسط وتبیین، سواء فی المباحث العقلیة أو الکلامیة أو بحوث التفسیر والحدیث، إلّاأنّ جملة من علماء أهل سنة جماعة الخلافة لا یستوضحون العلم اللدنّی فی الشخص الذی یختاره اللّه إماماً لعباده، کما لا یستوضحون تحدیث ملائکة لمریم ولا یستوضحون بسط اللّه العلم لطالوت وبعثة اللّه له ملکاً إماماً لا بعثة نبوّة، ولا إیتاء اللّه الحکمة للقمان، ولا تمکین اللّه عزوجل الأسباب لذی القرنین، ولا وراثة علم الکتاب لآصف بن برخیا مما یعطیه القدرة التکوینیة علی جلب عرش بلقیس فی لحظة من الیمن إلی فلسطین.

فهذه المواقع وغیرها من مناصب الإمامة لا تکاد تجد لها ترجمة فی عقائد المذاهب الإسلامیة عدا مدرسة ومنهاج أهل البیت علیهم السلام .

ومن ثم تری أنّ النظرة عند علماء المذاهب العامّة إلی مثل هذا الارتباط اللدنّی الغیبی، أنّ مثل هذه المقامات هی نمط من النبوّة وأنّ القول بثبوتها لأئمة أهل البیت هو غلوّ فی توصیفهم بالنبوّة، رغم أنّ القرآن أکّد أنّ هذه المقامات ثابتة لثلّة من مصطفین غیر أنبیاء بل أئمة وحجج. فکیف تتوقّع مستوی النظرة عند علماء العامة فی القرن الأول والثانی إلی مثل هذه المعارف والأمور، ومن ثمّ فإنّ الطعن من قبل العامة علی جملة من الرواة المتقدّمین بالغلو والقول بالألوهیة أو النبوّة فی أئمة أهل البیت هو ناشیء من هذه المفارقة والتباین فی أسس المعرفة وقصورهم عن إدراک مثل هذه المباحث فبدأ الطعن منهم إلی أن تفشّی فی وسط الخاصّة.

ومن ذلک أیضاً ما رواه سلیم بن قیس من قول عمر لسلمان وأمثاله: إنکم اتخذتم أهل هذا البیت أرباباً من دون اللّه. وکذلک ما روی من قول هشام بن عبد الملک لبطانته فی المسجد الحرام عندما سئل عن احتفاء الناس بالباقر علیه السلام قال: إنّه نبی أهل الکوفة.

ص:207

وفی هذین المقالین دلالة علی عدم تحمّل خصوم أهل البیت علیهم السلام فضائلهم ومقاماتهم وتعاظمها لدیهم أن تسند إلی أهل البیت وأنها من قبیل أفعال والصفات الربوبیّة.

الثانی: أنه قد ساعد علی رواج هذا الطعن تداعی الانطباع الخاطیء لدی جملة من أهل الفضل من الخاصّة فضلاً عن العوام کما مرّ بیانه.

الثالث: أنّ السفلة وهو اصطلاح خاصّ فی روایات أهل البیت ویراد به المستأکلین بالعلم والانتهازیین ذوی النصب والحیل قد اغتنموا الفرصة ووجود الإیهام والتشابه فی التأویل لیحتالوا فی حشد الأتباع ونیل الأطماع بترویج المعنی والتأویل الباطل لهذه المعارف.

مضافاً إلی أنّهم أنفسهم لم یقفوا علی حقائق تأویل تلک المعارف، وقد مرّ بسط الکلام فیهم فی الفصل الرابع.

الرابع: أنّ نشر هذه المعارف کان یثیر حفیظة سلطات الوقت من خلفاء بنی أمیة أو بنی العباس، بل کان یثیر عموم العامة من أتباع الخلافة. و ذلک لأنّ القول بمثل هذه المقامات لأئمة أهل البیت یدلّ بالالتزام ویبرهن بالبیان علی إدانة الطرف الآخر وإثبات غصبه للخلافة لأنّها تبیّن أجدریّة أهل البیت واستحقاقهم لإمامة المسلمین وقیادتهم، فما کان من الطرف الآخر إلّااتخاذ أسلوب الطعن فی مواجهة مثل هذه المعارضة الثقافیة والمعارضة السیاسیة المبطنة، ومن ثم کان یهمّهم أن یشدّدوا فی الطعن ویشیعوه بکثافة کتحصین وقائی عن تأثیراته السلبیة علیهم.

فالدواعی السیاسیة لترویج هذا الطعن مشهودة بوضوح وسنذکر جملة من نمط هذه الطعون بعینها قد أبداها الحکّام آنذاک علی عموم أتباع أهل البیت علیهم السلام .

ومن أمثلة ذلک ما ذکره ابن مسکویه فی تجارب الأمم:

«أمّا المغیرة بن سعید فکان یتشیّع ثمّ نسبت إلیه أمور شنیعة فیها تزیید

ص:208

وإسراف»(1).

الخامس: أنّ الرموز المهمّة من هذه المجموعة من الرواة کما سیأتی کانت تتبنّی الثورة السیاسیة وتصعید المعارضة المسلّحة فی مواجهة النظام الأموی والعباسی رغم أنّ الظروف لم تکن مؤهّلة ولا مؤاتیة، لکنّهم کانت لدیهم اندفاع وتسرّع شدید فی هذا المجال. و هذا ممّا یقلق النظام الأموی والعباسی ویدفعهما إلی الطعن والتسقیط لهذه الرموز کی لا ینفتح علی النظام الباب الذی لا یمکن سدّه بعد ذلک.

وکان هذا الفعل منهم یفتح الباب أیضاً علی أئمة أهل البیت بإثارة سلطات بنی أمیة وبنی عباس ضدّهم ویوجب الإرباک البالغ فی الوضع الأمنی، فکان موقفهم علیهم السلام فی حرج شدید من ذلک وکان لابد علیهم من تبرئة ساحتهم عن مواقف هؤلاء ونسبتهم إلیهم.

لا سیما أنه کما سیأتی أنّ المغیرة بن سعید قد أعلن الثورة المسلّحة والتصعید السیاسی ضدّ نظام بنی أمّیة فی الکوفة قبل ثورة زید بن علی رضی الله عنه بسنتین أی فی سنة 119 ه کما ذکر ذلک الطبری وثورة زید بن علی رضی الله عنه کانت فی سنة 121 ه .

تلخیص وتعقیب

ظهر ممّا ذکرنا أنّ انحراف من طعن علیهم بالغلوّ لا سیما روّاد بعض هذه التیّارات والفرق وما سبّب انحراف أتباعهم ممّا أدّی إلی الوقوع فی بعض المخاطر المهولة لیس کما یزعم فی معتقدهم بأنّهم کانوا یرفعون الأئمة علیهم السلام فوق شأنهم أو أنّهم کانوا یدّسون فی الأحادیث بما لم یتفوه به الإمام علیه السلام وغیر ذلک ممّا قد یسجّل فی ملفّهم من مؤاخذات قاسیة، وقد یستظهر ذلک من بعض

ص:209


1- (1) . تجارب الأمم 3 / 103 .

الأحادیث، لکنها ناشئة عن قلّة التدبّر والفحص فی الروایات والشواهد التاریخیة.

فقد روی الصدوق عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قوله عزّوجلّ: «هَلْ أُنَبِّئُکُمْ عَلی مَنْ تَنَزَّلُ الشَّیاطِینُ تَنَزَّلُ عَلی کُلِّ أَفّاکٍ أَثِیمٍ » قال: هم سبعة المغیرة وبیان وصائد وحمزة بن عمارة البربریّ والحارث الشامی وعبد اللّه بن الحارث وأبو الخطّاب(1).

قال العلامة المجلسی رحمه الله : المغیرة وهو ابن سعید من الغلاة المشهورین وقد وردت أخبار کثیرة فی لعنه وسیأتی بعضها. وبیان فی بعض النسخ بالباء الموحّدة ثم المثنّاة وفی بعضها ثمّ النون وهو الذی ذکره الکشی بالنون وروی بإسناده عن زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال: سمعته یقول: لعن اللّه بنان البیان، وإنّ بناناً لعنه اللّه کان یکذب علی أبی أشهد کان أبی علیّ بن الحسین علیهم السلام عبداً صالحاً.

أقول: قال مؤلّف کتاب میزان الاعتدال من علماء المخالفین: بیان الزندیق قال ابن نمیر: قتله خالد بن عبد اللّه القسری وأحرقه بالنار. قلت: هذا بیان بن سمعان النهدیّ من بنی تمیم ظهر بالعراق بعد المائة وقال بإلهیة علی علیه السلام وأنّه جزءاً إلهیاً متّحد بناسوته، ثم من بعده فی ابنه محمد بن الحنفیّة ثم فی أبی هاشم ولد محمد بن الحنفیة ثم من بعده فی بیان هذا وکتب بیان کتاباً إلی أبی جعفر الباقر علیه السلام یدعوه إلی نفسه وأنّه نبی. انتهی کلامه (میزان الاعتدال).

والصائد هو النهدی الذی لعنه الصادق علیه السلام مراراً وحمزة من الکذّابین الملعونین وسیأتی لعنه. وکذا الحارث وابنه وأبو الخطّاب محمد بن أبی زینب ملعونون علی لسان الأئمة علیهم السلام وسیأتی بعض أحوالهم»(2) انتهی کلام العلاّمة المجلسی رفع مقامه.

أقول: وسیأتی توضیح أن انحراف هؤلاء لیس فی ادعاء الألوهیة لعلی أو

ص:210


1- (1) . بحار الأنوار 25 / 270 .
2- (2) . بحار الأنوار 23 / 270 و 271 .

النبوة فی الأئمة أو لأنفسهم کما طعن علیهم بذلک بل هو انحراف آخر سنبسط الکلام فیه.

ومن جملة هؤلاء الذین طعن علیهم بالغلو وادّعاء النبوّة وغیرها هم:

مسیلمة الکذاب، وعبد اللّه بن سبأ، والحارث الشامی والمختار وبیان وحمزة بن عمارة البربری والمغیرة بن سعید وبزیع والسرّی وأبو الخطاب ومعمر وبشّار الشعیری وصائد النهدی وأبو منصور العجلی ومحمد بن فرات وعلی بن حسکة.

ونحن وإن لم نکن فی صدد تبرئة هذه الجماعات، إلّاأنّ المهم هو الالتفات إلی مرکز الانحراف وأنّه لیس فی الجعل أو الإفراط عن الحدّ أو بطلان المعتقد وغیرها ممّا تمسّ حجّیة مرویاتهم بسوء، بل الانحراف إنما حدث فی أمور أخری، وهذه وإن أحدثت مزلقات ومهلکات عظیمة هائلة جداً لا سیّما فی الأجیال اللاحقة من تلک الفرق والجماعات، إلّاأنّ ذلک لیس ممّا یسلب وصف الحجّیة عن مرویّاتهم فیما یوافق أصول المذهب رغم إیجابیّات عدیدة فی روّاد هذه الفرق والتیّارات ممّا أثّر فی حیویّة المذهب وسیره إلی القدّام. فإنّ بجهود بعض هذه الجماعات تبدّهت بعض معالم أهل البیت علیهم السلام ولولاه لاندرست ووقعت فی بوتقة النسیان بجهود أتباع السلطة الأمویّة والعبّاسیّة؛ مع أنّ هناک شریحة أخری وهی ما نعبّر عنه برواة المعارف الذین خاضوا فی لباب معارف أهل البیت علیهم السلام وسلموا من الانحرافات التی وقع التیار الأوّل فیه وهؤلاء وإن لم یسلموا من طعن وجرح بعض المدارس الفکریة الذین لا یتحمّلون تلک الأسرار والمعارف إلّاأنّه رغم ذلک سلموا من مزلقات الفریق الأول.

وقد مرّ فی الفصول السابقة أن من جملة سلبیات هذه الفرق والجماعات:

1 - أنّهم کانوا یذیعون ویفشون بعض المعارف الغامضة التی لا یتحمّلها الأوساط الشیعیة العامّة فضلاً عن الأوساط العامّة. وقد سبّب هذه الإذاعة انحراف عدد کبیر من الذین لا یعون ولا یحیطون علمها کما استغلّ هذه المعارف المذیعة

ص:211

السفلة (أهل النصب والحیلة والدجلة) فجعلوها قنطرة للوصول إلی أغراضهم الدینیة السافلة.

2 - أنّهم کانوا من المتطرّفین فی الاندفاع السیاسی وقد یعبّر عنهم بالمستعجلین، و هذا الإفراط والتطرّف السیاسی جعل أرباب السلطة یتسرّع ویجتهد فی محو وإبادة المذهب.

3 - قد یشاهد فی سلوکهم بعض الشذوذات الفقهیة المسبّبة عن تهاونهم بظاهر الشریعة اغتراراً بأهمیّة الباطن.

4 - ترکهم التقیّة التی أمروا بحفظها.

وغیرها من المؤاخذات التی سجّلنا علیهم وأنّ أصحاب رواة المعارف قد سلموا من الوقوع فی هذه المهالک.

وقد مرّ أنّ للکذب والغلو معانٍ واصطلاحات فی روایات أهل البیت علیهم السلام لیس بمعنی فساد المعتقد أو القول بخلاف الواقع، کما مرّ أنّ من أعظم أسباب جرح هؤلاء الرواة هو فی إذاعة هؤلاء بعض الأسرار ممّا لا یتحملها الآخرون، فإنّ الرواة والأصحاب بل المؤمنین علی درجات ومستویات مختلفة فسلمان وأبو ذر رغم کونهما من الثلة العالیة والمتقدمین فی الإیمان إلّاأنّ هناک معارف وأسرار یعیها سلمان ولا یعیها أبو ذر. وقد مرّ التأکید علی لزوم التفرقة والتفکیک بین روّاد الجماعات المطعونة علیهم بالغلوّ وبین أتباعهم لا سیما فی الأجیال اللاحقة فإنّ جملة من الانحرافات قد حدث عند الأتباع بسبب عدم التحمّل وعدم الوعی لما ذکره روّاد هذه الفرق.

وقد عقدنا هذا الفصل لکی نرصد ونعقّب سلوکیات هذه الفرق والجماعات ممّا یدعم ویبرهن ما مرّ فی الفصول السابقة.

ص:212

إثارات جدیدة فی سلوک المطعون علیهم بالغلو

اشارة

فإنّه یظهر اثارات جدیدة و نقاط دقیقة فی دراسة ما ذکر و روی فی سلوک المتّهمین بالغلوّ، فقد ذکرها تباعاً:

1 - مکاتبة الإمام الصادق علیه السلام للمفضل بن عمر فی تبرئة الخطابیة وتبیین أحوالهم

اشارة

وهذه المکاتبة تشهد علی أنّ انحراف رواة المعارف هو فی إذاعتهم أسرار المعارف، مما لا یتحملها ولا یعی حقائقها الآخرون ویحرّفونها عن حقائقها، مع أنّ تلک المعانی لیست کما یتأوّلها الآخرون بإیهام غلوّ وتألیه؛ کما أنّ فیها بیاناً لجملة من الأمور التی لم یفهم حقیقتها الآخرون ممّا سبّب تتابع الافتراءات علیهم، ویظهر منها أنّهم کانوا ذوی باع فی أصول المذهب والفقه مما أوقفهم علی بعض التخریجات الفقهیّة التی لا یهتدی إلیها آخرون.

وقد رواه سعد بن عبد اللّه الأشعری کما فی المختصر للحسن بن سلیمان الحلّی عن القاسم بن ربیع الورّاق ومحمد بن الحسین بن أبی الخطاب عن محمد بن سنان عن صباح المدائنی عن المفضّل بن عمر أنّه کتب إلی أبی عبد اللّه علیه السلام (1).

ورواه الصفّار فی بصائر الدرجات عن علی بن إبراهیم بن هاشم عن القاسم

ص:213


1- (1) . مختصر بصائر الدرجات، باب فی نوادر مختلفة / ح 4 (مسلسل 247) .

بن ربیع الورّاق. ورواه فی البحار عن بصائر الدرجات(1).

وأخرجه صاحب الوسائل عن کتاب بصائر لسعد بن عبد اللّه(2) وقال بعد ذلک ورواه الصفار فی بصائر الدرجات الکبیر عن القاسم بن الربیع.

ونصّ المکاتبة:

أنّه کتب المفضّل إلی أبی عبد اللّه علیه السلام یسأله عن قوم یعرفهم الإمام علیه السلام وکان یعجب المفضّل نحوهم وشأنهم، وأنّ المفضّل أبلغ عنهم أموراً تروی عنهم کرهها المفضّل لهم. مع أنّ المفضّل لم یر بهم إلّاهدیاً حسناً وورعاً وتخشّعاً.

والظاهر أنّ مراد المفضّل من هؤلاء القوم هو ابن أبی زینب المقلاص وخاصّته لا جمیع من انتسب إلی الخطّابیة.

فبدأ علیه السلام بجواب المفضّل عن أسئلته ویفسّر له ما التبس علیه من أمر هذه الجماعة ومقالاتهم، مع أنّ مقالاتهم فی بدو النظر ینطبع منها فی الأذهان غیر حدودها الحقیقیة، أی ینطبع منها الغلو والافراط من التألیه ونحوه واستحلال المحرّمات والتهتک للدین مع أنّ حقائقها هی علی غیر هذا الوجه.

الطعون الواردة علیهم مما أثار إعجاب المفضل

فقال علیه السلام :

کتبت تذکر أنّ قوماً أنا أعرفهم کان أعجبک نحوهم وشأنهم وأنّک أبلغت عنهم أموراً تروی عنهم کرهتها لهم، ولم تر بهم إلّاطریقاً هدیاً حسناً وورعاً وتخشّعاً، وبلغک أنهم یزعمون أنّ الدین إنّما هو معرفة الرجال ثمّ بعد ذلک إذا عرفتهم فاعمل ما شئت، وذکرت أنّک قد عرفت أنّ أصل الدین معرفة الرجال فوفّقک اللّه، وذکرت أنّهم یزعمون أنّ الصلاة والزکاة وصوم شهر رمضان والحج والعمرة والمسجد الحرام و البیت الحرام

ص:214


1- (1) . بحار الأنوار 24 / 286 .
2- (2) . سعد بن عبد اللّه عن القاسم بن الربیع ومحمد بن الحسین بن أبی الخطاب ومحمد بن سنان عن صباح المدائنی عن المفضّل. (وسائل / أبواب المتعة / ب 23 / ح 5) .

والمشعر الحرام والشهر الحرام هم رجال (هو رجل)(1)، وأنّ الطهر والاغتسال من الجنابة

هو رجل، وکلّ فریضة افترض اللّه علی عباده هو رجل، وأنّهم ذکروا ذلک بزعمهم أنّ من عرف ذلک الرجل فقد اکتفی بعلمه به من غیر عمل وقد صلّی وآتی الزکاة وصام وحجّ واعتمر واغتسل من الجنابة وتطهّر وعظّم حرمات اللّه والشهر الحرام والمسجد الحرام، وأنّهم ذکروا أنّ من عرف هذا بعینه وبحدّه وثبت فی قلبه جاز له أن یتهاون، فلیس له أن یجتهد فی العمل. وزعموا أنّهم إذا عرفوا ذلک الرجل فقد قبلت منهم هذه الحدود لوقتها وإن لم یعملوا بها.

وأنه بلغک أنهم یزعمون الفواحش التی نهی اللّه عنها الخمر والمیسر والربا والدم والمیتة ولحم الخنزیر هو رجل (هم رجال)، وذکروا أنّ ما حرّم اللّه من نکاح الأمهات والبنات والعمّات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وما حرّم علی المؤمنین من النساء ممّا حرّم اللّه إنّما عنی بذلک نکاح نساء النبی صلی الله علیه و آله و سلم وما سوی ذلک مباح کلّه، وذکرت أنّه بلغک أنهم یترادفون علی المرأة الواحدة، ویشهدون بعضهم لبعض بالزور، ویزعمون أنّ لهذا ظهراً وبطناً یعرفونه فالظاهر ما یتناهون عنه یأخذون به مدافعة عنهم والباطن هو الذی یطلبون وبه أمروا بزعمهم. وکتبت تذکر الذی عظم ذلک علیک، وکتبت تسألنی عن قولهم فی ذلک أهو حلالاً أو حرام، وکتبت تسألنی عن تفسیر ذلک و أنا أبیّنه حتی لا تکون من ذلک فی عمی ولا فی شبهة.

تمییز الإمام بین الحق من کلامهم والباطل وبیان أساس الانحراف

ثم أضاف علیه السلام :

وقد کتبت إلیک فی کتابی هذا تفسیر ما سألت عنه فاحفظه کلّه کما قال اللّه فی کتابه: « وَ تَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ »

وأصفه لک بحلاله وأنفی عنک حرامه، کما وصفت ومعرّفک حتی تعرفه إن شاء اللّه فلا تنکره إن شاء اللّه ولا قوة إلّاباللّه والقوة للّه جمیعاً.

أخبرک أنّه من کان یدین بهذه الصفة التی کتبت تسألنی عنها فهو عندی مشرک باللّه

ص:215


1- (1) . فی المختصر.

بیّن الشرک لا شکّ فیه، وأخبرک أنّ هذا القول کان من قوم سمعوه ما لم یعقلوه عن أهله ولم یعطوا فهم ذلک ولم یعرفوا حدّ ما سمعوا فوضعوا حدود تلک الأشیاء مقایسة برأیهم ومنتهی عقولهم، ولم یضعوها علی حدود ما أمروا کذباً وافتراءً علی اللّه ورسوله وجرأةً علی المعاصی، و کفی بهذا لهم جهلاً. ولو أنّهم وضعوها علی حدودها التی حُدّت لهم وقبلوها لم یکن به بأس، ولکنّهم حرّفوها وتعدّوا [

تعدّوا الحقّ](1)

وکذبوا وتهاونوا بأمر اللّه وطاعته،

ولکنی أخبرک أنّ اللّه حدّها بحدودها لئلّا یتعدّی حدوده أحد. و لو کان الأمر کما ذکروا لعذر الناس بجهلهم ما لم یعرفوا حدّ ما حدّ لهم، ولکان المقصّر والمتعدی حدود اللّه معذوراً ولکن جعلها حدوداً محدودة لا یتعدّاها إلّامشرک کافر ثم قال: «تِلْکَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ یَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ ».

أقول: فبیّن علیه السلام أنّ القول فی أصله حقّ وأنّهم قد سمعوه من مصدر الحقّ فقوله علیه السلام :

أصفه لک بحلاله أی معناه الصحیح والتی لا تنافی صفات المخلوق وشؤونه ولا حدود التشریع کما أنّ قوله:

أنفی عنک حرامه أی تبیانه علیه السلام للمعنی الخاطیء لهذه الصفات والشؤون، کما أنّ قوله علیه السلام :

ومعرّفک فلا تنکره أی أنّ أصول ما یرویه هؤلاء هی حقائق مرویة عنهم علیهم السلام من أسرار المعارف ولکن أنکرها جمهور الناس لعدم وعیهم وعمق بصیرتهم بحقائق تأویل هذه المعانی؛ إلّاأنّ الانحراف ناشیء من سببین أو علی نمطین:

الأول: الفهم الخاطئ وعدم المعرفة بحقیقة المراد من قِبَل العوام.

الثانی: الانطباع الخاطئ لدی عامّة المخالفین من ممارسات وسلوک جملة ممّن أخذ وعمل بهذه الأقوال.

وهذان النمطان هما اللذان مرّت الإشارة إلی وقوعهما بسبب إذاعة ونشر وإعلان رواة أسرار المعارف لهذه المرویّات، فإنّ معانیها الثقیلة أو قواعد تشریعها

ص:216


1- (1) . فی المختصر.

ممّا تنفر منها العقول والأفهام لغموضها وإبهامها علیها، هذا بلحاظ أمور المعارف الاعتقادیة، أو تنفر الطباع المجبولة علی الأعراف المعتادة لغرابة تلک التشریعات وغموض تخریج وجهها الشرعی لدیها فتستوحش منها وتستنکرها.

ثمّ بیّن علیه السلام نماذج عدیدة لهذین النمطین، وأنّ الإذاعة لمثل هذه المعارف والأمور وکشف تلک الأسرار العلمیة وإفشائها ینجرّ إلی نشوء هذه الانحرافات، ومن ثمّ یستحقّ المذیع والکاشف لها اللعن والبراءة وتکذیبه فیما تسبّب من إیصال معنی خاطیء منحرف فی أذهان العوام وعامّة المخالفین، حیث ینجم من ذلک شیوع وانتشار تیّار ینتهج التحریف والتعدّی عن الحدود الإلهیّة بتخیّل أنّها حقائق الدین الخفیّة.

وقد عدّد المفضّل جملة من الأمور الملتبسة التی رآها فی تیّار بعض الجماعات التی تنتمی إلی بعض رواة أسرار المعارف وهی جملة أمور:

زعمهم أنّ الدین إنّما هو معرفة الرجال وأنه إذا عرفتهم فاعمل ما شئت.

أنهم یزعمون أنّ الصلاة والزکاة وصوم شهر رمضان والحج والعمرة والمسجد الحرام و البیت الحرام والمشعر الحرام هم رجال، وأنّ الطهر والاغتسال عن الجنابة هو رجل وکذا کل فریضة افترض اللّه علی عباده هو رجل، وأنّ من عرفهم فقد اکتفی بعلمه من غیر عمل أی إذا عرفه بعینه وحدّه وثبت له فی قلبه جاز له أن یتهاون.

وزعموا أنّ الفواحش التی نهی اللّه عنها هم رجال.

وزعموا ما حرّم اللّه من نکاح الأمّهات والبنات والعمّات وغیرها من أصناف النساء إنّما عنی بذلک نکاح نساء النبی صلی الله علیه و آله و سلم وما سوی ذلک مباح کلّه.

أنّهم یترادفون المرأة الواحدة.

ویشهد بعضهم لبعض بالزور.

یزعمون أنّ لهذا ظهراً وبطناً یعرفونه، فالظاهر یتناهون عنه لیدفعوا عن

ص:217

أنفسهم طعن الآخرین والباطن هو الذی یطالبون ویأمرون به.

ثم أنه أردف المفضّل أنّ هؤلاء رغم ما بلغه عنهم من هذه الأمور فإنه لم یر بهم إلّاطریقاً هدیاً حسناً وورعاً وتخشّعاً، و هذا الذی زاد فی استغرابه وتعجّبه فی شأنهم. ورغم کلّ هذا الاستعجاب والاستنکار وتعاظمه علیه طلب من الإمام علیه السلام تفسیر ذلک له، وهو علیه السلام لم یرفض وجود تفسیر لذلک، رغم أنهم خلطوا معانی محرّفة مع ما سمعوه من حقائق غامضة.

ثمّ أخذ علیه السلام فی توضیح واحد واحد من هذه الأمور.

نسبة القول بکفایة العقیدة عن العمل إلیهم وتفسیر الإمام علیه السلام لها

أما المحور الأول والثانی: فقال علیه السلام :

فأخبرک بحقائقها إنّ اللّه تبارک وتعالی اختار الإسلام لنفسه دیناً ورضی من خلقه ...

وقد بسط الإمام علیه السلام الکلام فی هذین المحورین مما یقرب من خمس صفحات.

ونلخّص ما قاله علیه السلام فی تفسیر هذه الأمور حیث إنّه علیه السلام بسط البیان فی ذلک لئلّا یقع الالتباس فی دقائق هذه المعانی وغوامض هذه المعارف وملخّصه:

أنّ اللّه تبارک وتعالی اختار الإسلام لنفسه دیناً ورضیه من خلقه، فلم یقبل من أحد إلّابه، وبه بعث أنبیاءه ورسله ونبیّه محمد علیه السلام . فأصل الدین [فأفضل الدین] معرفة الرسل وولایتهم وطاعتهم، وهی أصل الحلال الذی أحلّه اللّه وفروع الحلال ما أحلّوه والمحرّم ما حرّموه. فأمروا شیعتهم وأهل ولایتهم بإقامة الصلاة وإیتاء الزکاة وصوم شهر رمضان وحجّ البیت والعمرة وتعظیم حرمات اللّه والمشاعر و البیت الحرام والمسجد الحرام والشهر الحرام والطهور ومکارم الأخلاق ومحاسنها وجمیع البر.

وعدوّهم أصل الحرام المحرّم والشرّ وأصل کلّ شرّ، ومن عدوّهم تفرّع فروع الشرّ والحرام کلّه، حیث استحلّوا کلّ حرام من تکذیب الأنبیاء وجحود

ص:218

الأوصیاء ورکوب الفواحش الزنا والسرقة وشرب الخمر والمسکر وأکل مال الیتیم والربا والخدعة والخیانة ورکوب الحرام کلّها وانتهاک المعاصی. فشیوع کلّ هذه المحرّمات کأعراف وسنن سیئة فی الأمم والقرون سببها وأصلها رجال بثّوها وجذّروها فی عادات الناس، فهم أصل کلّ حرام وولایتهم کعبادة وثن، فإنّهم مجمع الرذائل ومنهم انتشرت فی الناس، کالعدوی التی تصیب الأصحّاء ممّا هو أصل المرض فهم منبع ومجسّمة کلّ الرذائل والمحرّمات.

وفی الطرف المقابل الأنبیاء والرسل والأوصیاء هم منبع الفضائل ومجسّمة الفضل، ومن روائحهم الطیّبة انتشر عبیق الطیب فی باقی الناس، فهم أصل الدین والیقین والإیمان، وهو الإمام المنصوب من اللّه للهدی، فمن عرفه عرف اللّه ودینه ومن أنکره أنکر اللّه ودینه ومن جهله جهل اللّه ودینه، ولا یعرف اللّه ودینه وحدوده وشرایعه بغیره. فمن ثمّ کانت معرفة الرجال دین اللّه. فکلّ عبادة وعمل صالح یعرف بالنبی صلی الله علیه و آله و سلم ولولا معرفته والإیمان به والتسلیم له ما عرف ذلک کلّه ولم یعرف شیئاً من هذا، وهو الذی دعا إلی کلّ ذلک ودلّ علیه، وعرّف البشر وأمرهم به فأوجب اللّه للنبی علی العباد الطاعة فلا یسعهم جهل من هو فیما بینهم وبین اللّه، وهو الذی أتاهم بالدین. فکیف یکون الدین غیره؟ وکیف لا یکون الدین معرفة ذلک النبی صلی الله علیه و آله و سلم ؟ وإنّما ینکر الدین بإنکار ذلک النبی صلی الله علیه و آله و سلم والتکذیب به، فعُرف اللّه تبارک وتعالی بأنبیائه ورسله وأوصیائهم وأطیع بطاعتهم وهم السبیل إلیه والوجه الذی منه یُؤتی إلیه تعالی کما قال تعالی: «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ وَ مَنْ تَوَلّی فَما أَرْسَلْناکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظاً» .

فالفرائض کلّها فریضة واحدة وهی طاعة هذا الرجل ومعرفته، فلا تغنی شهادة أن لا إله إلّااللّه بترک شهادة أنّ محمداً رسول اللّه، ولا یقبل اللّه من العباد العمل بالفرائض علی حدودها إلّامع معرفة من جاءهم به من عنده ودعاهم إلیه.

ولم یبعث اللّه نبیاً قط یدعو إلی معرفة لیس معها طاعة فی أمر ونهی، أمر

ص:219

بالبر والعدل والمکارم ومحاسن الأخلاق والأعمال، ونهی عن الفحشاء ما ظهر منها وما بطن.

وبیان هذا المقطع الأخیر من کلامه أنّه إنما یقبل اللّه تعالی بقیّة الطاعات من الصلاة والصوم والزکاة والحج والبر إذا کان طاعة للّه تعالی، ولا تکون طاعة للّه إلّا بامتثال أوامره المتعلّقة بذلک الفعل، بأن یکون إتیان الفعل خضوعاً وانقیاداً لتلک الأوامر المتعلّقة بذلک الفعل. وأوامره إنّما وصلت إلینا عبر رسوله صلی الله علیه و آله و سلم ، فلا یمکن إطاعتها إلّابإطاعة رسوله. کما أنّ بنود طاعته تعالی قد فصّلها فی کتابه بأطیعوا اللّه وأطیعوا الرسول وأولی الأمر منکم أی ضمن ثلاث فصول فلا تتمّ طاعته تعالی إلّابطاعة رسوله وطاعة أولی الأمر من أوصیائه من أهل بیته، مع ما تقدّم من أنّ أوامر اللّه التی هی عبارة عن الفرائض فی قبال سنن النبی ومنهاج أوصیائه تلک الفرائض لم تصل إلینا إلّاعبر نبیّه صلی الله علیه و آله و سلم .

فلا تتحقّق طاعة اللّه إلّابطاعة رسوله، لأنّه المؤدّی عن اللّه فرائضه وأوامره.

فکلّ أبواب العبادات والبرّ والإحسان هی فی المرتبة الأولی طاعة للّه ولرسوله، وفی المرتبة الثانیة هی إتیان للصلاة والصوم والحج والزکاة وبقیة الفرائض والبرّ.

فهذه الأعمال من حیث الصورة لها هذه الأسماء، ومن حیث اللبّ فهی طاعة للّه ورسوله ولأولی الأمر من أوصیائه، فهناک صلاة ظاهرة وهناک لبّ للصلاة وهی الطاعة، کما ذکر ذلک الفقهاء أنّ روح العبادة النیّة والنیّة لیست إلّاقصد إتیان الصلاة والزکاة والصوم والحجّ امتثالاً وطاعة لأمر اللّه وأمر رسوله وأمر أولی الأمر، لأنّ تلک الأعمال عبارة عن مجموعة من الفرائض وسنن النبی صلی الله علیه و آله و سلم وسنن أوصیائه علیهم السلام فلا یمکن تحقّق عبادیّة تلک العبادات إلّابقصد امتثال وطاعة أمر اللّه وأمر رسوله صلی الله علیه و آله و سلم وأمر أوصیائه علیهم السلام . کما لا یمکن طاعة اللّه ورسوله وأولی الأمر من أوصیائه إلّابإتیان الصلاة الظاهرة والصوم والحج والعمرة والزکاة، والاجتناب عن جمیع حرمات اللّه، فمن زعم أنّه إذا عرف اللّه ورسوله وأولی الأمر من قبله

ص:220

اکتفی بغیر طاعة فقد کذب وأشرک ولم یعرف ولم یطع.

وإنّما قیل: اعرف واعمل ما شئت من الخیر فإنّه لا یقبل عمل بغیر معرفة، فإذا عرفت فاعمل لنفسک ما شئت من العمل قلّ أو کثر فإنّه مقبول. فمن صلّی وزکّی وحجّ واعتمر وفعل ذلک کلّه بغیر معرفة من افترض اللّه علیه طاعته، لم یصلّ ولم یصم ولم یزکّ ولم یحجّ ولم یعتمر ولم یغتسل من الجنابة ولم یتطهّر ولم یحرم للّه حراماً ولم یحلّل للّه حلالاً وإن رکع أو سجد و أخرج ماله، و ذلک لأنّه لم یأت بما هو العماد لذوات تلک العبادات وهو الطاعة للّه ولرسوله ولأولی الأمر من أولیائه.

ونظیره ما روی الصدوق فی معانی الأخبار بسنده عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

قیل له: إنّ أبا الخطاب یذکر عنک أنّک قلت له: إذا عرفت الحقّ فاعمل ما شئت.

فقال:

لعن اللّه أبا الخطّاب و اللّه ما قلت له هکذا ولکنّی قلت له: إذا عرفت الحقّ فاعمل ما شئت من الخیر یقبل منک(1).

و هذا النصّ یشهد علی ما ذکرناه من أنّ المکاتبة إنّما هی بصدد تبیین مواقف وآراء الخطّابیة.

ویستفاد من تفسیره علیه السلام :

أولاً: أنّ سبب المعنی الانحرافی المتفشّی عند أوساط الفرق الباطنیة کالخطابیة والمغیریة هو سوء فهمهم وخطأ تفسیرهم واشتباه تأویلهم لغوامض المعارف وأسرارها.

ثانیاً: إنّ المتتبّع والمتقصّی لجملة الروایات الواردة فی هذه القاعدة المعرفیّة، من أنّهم علیهم السلام حقائق الطاعات وأعدائهم حقائق المعاصی والفواحش، یلاحظ أنّ أصل بدء انتشار هذه القاعدة قد کان من أبی الخطّاب حیث إنّه قد قام

ص:221


1- (1) . معانی الأخبار / 181، ومستدرک الوسائل 1 / 148 .

بروایة ذلک عن الصادق علیه السلام ولم تکن هذه الروایة قد برزت إلی أحد من الرواة، وإنّ أبا الخطاب وإن أساء فهمها وأخطأ فی تأویلها إلّاأنه هو الذی تصدّر روایتها عنه علیه السلام ومن ثم قام بقیة الرواة بالمساءلة والاستفسار عن ذلک - وقد جمع المجلسی فی البحار(1) فی هذا الباب سبعة عشر روایة - و هذا مؤشّر مهمّ علی أنّ ما یرویه جملة من رؤساء الفرق الباطنیة ممّن کانت لهم فترة استقامة لها أصول صحیحة سدیدة ومعرفیّة غامضة، یخفی فهمها ویدقّ معناها علی کثیر من أهل العلوم والروایة من الرواة فضلاً عن عامّة الناس. و هذا ما یسبّب الإرباک وتولّد التیارات المنحرفة بسبب ذلک وأنّه لأجل ذلک کانت الإذاعة والإفشاء والنشر فی العلن لها سبباً للانحراف وللکذب علی أئمة أهل البیت علیهم السلام من قِبل من یقوم بالإفشاء والإذاعة.

ثالثاً: أنّ جملة من رواة أسرار المعارف وغوامض المعانی عندما وقفوا علی بواطن المعانی وخفایا التأویل، لم یدرکوا ولم یتفطّنوا لکیفیة الجمع بینها وبین حدود المعانی الظاهرة، و هذا کان منشأ الانحراف وإلی هذا یشیر الإمام الصادق علیه السلام فی جملة من الروایات کما فی روایة بصائر الدرجات فی صحیح هشام عن الهیثم التمیمی قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

یا هیثم التمیمی إنّ قوماً آمنوا بالظاهر و کفروا بالباطن فلم ینفعهم شیء، وجاء قوم من بعدهم فآمنوا بالباطن وکفروا بالظاهر فلم ینفعهم ذلک شیئاً، ولا إیمان بظاهر إلّابباطن ولا بباطن إلّابظاهر.

وروی الکشی عن حمدویه، قال: حدّثنی محمد بن عیسی عن یونس بن عبد الرحمن عن بشیر الدهّان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: کتب أبو عبد اللّه علیه السلام إلی أبی الخطّاب:

بلغنی أنّک تزعم أنّ الزنا رجل وأنّ الخمر رجل وأنّ الصلاة رجل والصیام رجل والفواحش رجل ولیس هو کما تقول، أنا أصل الحق وفروع الحقّ طاعة اللّه وعدوّنا

ص:222


1- (1) . البحار 24 / 286 - 304 .

أصل الشر وفروعهم الفواحش وکیف یطاع من لا یعرف وکیف یعرف من لا یطاع؟(1).

أقول: فإنّ هذا یدعم أنّهم تلقّوا جملة من المعارف لکنّهم حرّفوها عن حقائقها ومن ثمّ وصف فی بعض الروایات أنّ أبا الخطاب أحمق کان لا یحفظ ویزید من عنده.

فقد روی الکشی عن محمد بن مسعود قال: حدّثنی جبریل بن أحمد قال:

حدّثنی محمد بن عیسی بن عبید قال: حدّثنی یونس بن عبد الرحمن عن رجل قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

کان أبو الخطاب أحمق فکنت أحدّثه فکان لا یحفظ وکان یزید من عنده(2). ولعله إشارة إلی الخطأ فی التأویل أی أنه لقلّة وعیه کان یؤوّلها تأویلاً فاسداً.

کما أنه یلحظ من ذلک أنّ هذا الانحراف سری من الفرق الباطنیة الشیعیة إلی فرق الصوفیة، بل إنّ التتبّع فی جملة ما لدی فرق الصوفیة المختلفة من قواعد تأویلیة یلاحظ أنّها فی الأصل متلقّاة من الفرق الباطنیة وأنّ التصوّف ترعرع وتولّد من الفرق الباطنیة.

نسبة القول بحلیة نکاح ذوات الأرحام وتفسیر الإمام علیه السلام وبیان دور العامة فیها

فقال:

وأما ما ذکرته أنّهم یستحلّون نکاح ذوات الأرحام التی حرّم اللّه فی کتابه فإنّهم زعموا أنّهم إنّما حرّم علینا بذلک نکاح نساء النبی فإنّ أحقّ ما بدأ به من تعظیم حقّ اللّه وکرامة رسوله وتعظیم شأنه وما حرّم اللّه علی تابعیه ونکاح نسائه من بعد قوله: «وَ ما کانَ لَکُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَ لا أَنْ تَنْکِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِکُمْ کانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِیماً»

وقال تبارک وتعالی: «اَلنَّبِیُّ أَوْلی بِالْمُؤْمِنِینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ »

وهو أب لهم، ثم قال: «وَ لا تَنْکِحُوا ما نَکَحَ آباؤُکُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ کانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ

ص:223


1- (1) . الکشی 359 / ح 512 .
2- (2) . الکشی 362 / ح 522 .

سَبِیلاً»

فمن حرّم نساء النبی صلی الله علیه و آله و سلم لتحریم اللّه ذلک فقد حرّم ما حرّم اللّه فی کتابه من الأمّهات والبنات والأخوات والعمّات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وما حرّم اللّه من الرضاع، لأنّ تحریم ذلک کتحریم نساء النبی صلی الله علیه و آله و سلم فمن استحلّ ما حرّم اللّه عزوجل من نکاح ما حرّم اللّه فقد أشرک باللّه إذا اتخذ ذلک دیناً.

أقول: ظاهر هذا التفسیر وفحواه أنّ ما نُسب إلیهم من استحلال نکاح ذوات الأرحام وحصره فی نساء النبی صلی الله علیه و آله و سلم ، أنه علیه السلام لا یثبت هذه النسبة علی الخطابیة وأنّ مقصودهم حیث لم ینسجم مع العامّة طعنوا علیهم بهذه النسبة. إذ أنّ زعمهم هو أنّ ما ذکر من أمومة نساء النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی الآیة إنما هو بلحاظ تحریم النکاح لا بلحاظ التعظیم وإعطاء مکانة خاصة فی الدین. فأصل مقالتهم إنما تشیر إلی ذلک، أی إلی أنّ ذکر الأمومة لنساء النبی صلی الله علیه و آله و سلم إنما هو بلحاظ تحریم نساء الآباء، وأنّ تحریم نکاح نساء ذوات الأرحام الأصل فیه من حیث تعظیم الرتبة هو النبی صلی الله علیه و آله و سلم . والظاهر من العامة أنّهم بعد ما سمعوا ذلک منهم أخذوا بالطعن علیهم بالفریة، و هذا یعزّز ما تقدّم سابقاً من أنّ جملة من الأمور المطعون بها علی هذه الفرق هی من مفتریات العامة علیهم قذفاً أو لسوء فهمهم للمقصود من مقالاتهم کما هو دیدن الصراعات السیاسیة والمذهبیة فی الأعصار.

نسبة السفاح إلیهم نتیجة عدم الوقوف علی أحکام المتعة

أما ما قاله علیه السلام حول المحور الرابع:

فقال:

أما ما ذکرت أنّ الشیعة یترادفون المرأة الواحدة فأعوذ باللّه أن یکون ذلک من دین اللّه ورسوله، إنما دینه أن یحلّ ما أحلّ اللّه ویحرّم ما حرّم اللّه، وإنما أحلّ اللّه المتعة من النساء فی کتابه، والمتعة فی الحج أحلّهما ثم لم یحرمهما فإذا أراد الرجل أن یتمتع من المرأة فعلی کتاب اللّه وسننه نکاح غیر سفاح تراضیاً علی ما أحبّا من الأجر والأجل کما قال اللّه تعالی:

«فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِیضَةً وَ لا جُناحَ عَلَیْکُمْ فِیما تَراضَیْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِیضَةِ » .

ص:224

ثمّ بیّن علیه السلام عدة المتعة أنها نصف عدّة الدائم وأنّ المرأة بعد انقضاء العدّة إن شاءت تمتّعت من آخر وهلّم جرّاً ما شاءت من الرجال ما بقیت علی الحدود الشرعیة، کما هو الحال فی الدائم فیما لو طلّقت وخرجت من العدّة. وهو بذلک یبیّن علیه السلام أنّ هذا الطعن صادر من العامة لأخذهم بتحریم الخلیفة الثانی وترکهم العمل بکتاب اللّه وسنّة نبیّه، ویشنّعون علی الحلال بمثل هذه الأراجیف، ومن ثمّ قرن علیه السلام ذکر متعة النساء بمتعة الحجّ وأنها ممّا قد نبذه العامّة. وکأنّ غرضه علیه السلام من ذلک بیان عدم الاستیحاش من الإقامة علی کتاب اللّه وسنّة نبیّه وإن هجرها الآخرون وطعنوا بالمتمسک بها. وهذه الفقرة تبیّن مدی البصیرة الفقهیة النافذة فی بعض ممارسات هذه الفرق، و أنهم إنما تفرّدوا بها لوقوفهم علی بعض فرائد وفنون التخریجات الفقهیة وأنّ الناظر من بعید یشنّع علیهم لعدم فطنته بأصول هذه السنن التی باتت مهجوراً وهو نظیر المحور اللاحق.

نسبة القول بجواز شهادة الزور إلیهم وبیان الإمام علیه السلام لشدة تظلّعهم الفقهی

وقال علیه السلام فی المحور الخامس:

وأما ما ذکرت أنهم یستحلّون الشهادات بعضهم لبعض علی غیرهم، فإنّ ذلک لیس هو إلّاقول اللّه فإن ذلک لا یجوز ولا یحلّ ولیس هو علی ما تأوّلوا لقول اللّه عزّوجل: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا شَهادَةُ بَیْنِکُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ حِینَ الْوَصِیَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْکُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَیْرِکُمْ ...»

وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم یقضی بشهادة رجل واحد مع یمین المدّعی، ولا یبطل حقّ مسلم ولا یرد شهادة مؤمن فإذا أخذ یمین المدعی وشهادة الرجل قضی له بحقّه، ولیس یعمل (الیوم) بهذا وقد ترک. فإذا کان للرجل المسلم قبل آخر حق یجحده ولم یکن له شاهد غیر واحد، فإنه إذا رفعه إلی ولاة الجور أبطلوا حقّه ولم یقضوا فیه بقضاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم (وقد کان فی الحقّ أن لا یبطل حق رجل مسلم) فیستخرج اللّه علی یدیه حقّ رجل مسلم ویأجره اللّه ویحیی عدلاً کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم یعمل به.

أقول: ویظهر من صدر کلامه علیه السلام أنّ ما استشنعه العامة من القضاء بشاهد

ص:225

مؤمن ویمین قد ورد فی الآیة الکریمة ما هو أعظم منه وهو القضاء بشاهدین غیر مؤمنین أو کافرین، مع أنّ شهادة المؤمن الواحد أثبت من شهادة غیر مؤمنین أو کافرین، وأنّ هذا ممّا قضی به رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وهجر. وأنّ ما یقوم به هؤلاء من استنقاذ حق المؤمن إنما هو بعد توفّر شاهد له وهی مدرک ومستند شرعی یثبت الحق، لکنّ أهل الخلاف هجروا هذه السنّة النبویّة فاستشنعوا ذلک ورموا هذه الفرقة بأنهم یشهدون بعضهم لبعض بالزور.

قال فی البدء والتاریخ: «و أما الخطابیة فهم أصحاب ابن الخطاب یرون الشهادة بالزور علی من خالفهم بالدماء والأموال ومن هاهنا لم یجز الفقهاء شهادة الخطابیة»(1).

ومن هاتین الظاهرتین الفقهیّتین یُعلم أنّ جملة من الأحکام الشرعیة الفقهیة إنما بدأ رواجها والتعرّف علیها ومعرفتها لدی الأوساط انطلاقاً من عمل هؤلاء، و هذا ممّا یشیر إلی أنّ جملة من أسرار الفقه والأحکام الشرعیة الفرعیّة المهجورة بسبب تغییر أهل الخلاف إنما بدأ روایتها عن الأئمة علیهم السلام فی أوساط أتباعهم زعماء هذه الفرق الباطنیة.

عدم فهم مقامات النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته علیهم السلام سبب نسبة التألیه إلیهم

ثمّ إنّه علیه السلام تعرّض إلی محور آخر: فیما ینسب إلیهم من زعمهم أنّ اللّه ربّ العالمین هو النبی قال علیه السلام :

وأما ما ذکرت فی آخر کتابک أنهم یزعمون أنّ اللّه ربّ العالمین هو النبی، وأنک شبّهت قولهم بقول الذین قالوا فی عیسی ما قالوا، فقد عرفت أنّ السنن والأمثال کائنة (قائمة) لم یکن شیء فیما مضی إلّاسیکون مثله حتی لو کانت (هناک) شاة برشاء کان هاهنا مثله.

واعلم سیظلّ قوماً علی ضلالة من کان قبلهم کتبت تسألنی عن مثل ذلک ما هو وما أرادوا

ص:226


1- (1) . البدء والتاریخ: 5 / 131 .

به. أخبرک أنّ اللّه تبارک وتعالی هو خلق الخلق لا شریک له، له الخلق والأمر والدنیا والآخرة، وهو ربّ کل شیء وخالقه، خلق الخلق وأحبّ أن یعرفوه بأنبیائه واحتجّ علیهم بهم، فالنبی علیه السلام هو الدلیل علی اللّه عبد مخلوق مربوب اصطفاه لنفسه برسالته وأکرمه بها، فجعله خلیفته فی خلقه ولسانه فیهم وأمینه علیهم وخازنه فی السماوات والأرضین، قوله قول اللّه لا یقول علی اللّه إلّاالحق، من أطاعه أطاع اللّه ومن عصاه عصی اللّه، وهو مولی من کان اللّه ربه وولیه. من أبی أن یقرّ له بالطاعة فقد أبی أن یقرّ لربه بالطاعة وبالعبودیة، ومن أقرّ بطاعته أطاع اللّه وهداه. فالنبی مولی الخلق أجمعین عرفوا ذلک أو أنکروه، وهو الوالد المبرور فمن أحبّه وأطاعه فهو الولد البارّ ومجانب للکبائر. وقد بیّنت (وقد کتبت لک) ما سألتنی عنه وقد علمت أنّ قوماً سمعوا صفتنا هذه فلم یعقلوها بل حرّفوها ووضعوها علی غیر حدودها علی نحو ما قد بلغک، وقد بریء اللّه ورسوله من قوم یستحلّون بنا أعمالهم الخبیثة، وقد رمانا الناس بها و اللّه یحکم بیننا وبینهم فإنّه یقول «إِنَّ الَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ * یَوْمَ تَشْهَدُ عَلَیْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَیْدِیهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما کانُوا یَعْمَلُونَ * یَوْمَئِذٍ یُوَفِّیهِمُ اللّهُ »

أعمالهم السیئة و یعلمون أنّ اللّه هو الحق المبین.

وأما ما کتبت به ونحوه وتخوّفت أن یکون صفتهم من صفته فقد أکرمه اللّه عن ذلک تعالی ربّنا عمّا یقولون علوّاً کبیراً. صفتی هذه صفة صاحبنا التی وصفنا له وعنه أخذناه فجزاه اللّه عنا أفضل الجزاء، فإنّ جزاءه علی اللّه فتفهم کتابی هذا والقوّة للّه.

أقول: ویظهر من کلامه علیه السلام عدّة نقاط:

الأولی: إنما نسب إلیهم من أنّهم یزعمون أنّ اللّه ربّ العالمین هو النبی، فلیس صحیحاً، فهم لم یألّهوا سید الأنبیاء صلی الله علیه و آله و سلم کما یطعن علیهم بذلک، بل إنما قالوا: إنّ له صلی الله علیه و آله و سلم ولایة الطاعة علی جمیع من خلق اللّه من الجن والإنس وجمیع الملائکة والأرواح وجمیع ما فی ملکوت اللّه، فهو مولی الخلق جمیعاً وهو خلیفة اللّه لیس فی أرضه وسماواته فحسب بل علی جمیع العوالم والخلائق.

ص:227

فالنبی صلی الله علیه و آله و سلم أعظم مخلوق خلقه اللّه تعالی وجعله واسطة بینه وبین خلقه، فهو کما ائتمن علی الرسالة مؤتمن علی جمیع خلقه. وهذه الصفة له لا تخرجه عن کونه مخلوقاً ومربوباً للّه تعالی وإنما کرامة من اللّه تعالی حباه اللّه تعالی ولابدّ من الالتفات إلی قوله علیه السلام :

کتبت تسألنی عن مثل ذلک ما هو وما أرادوا به أخبرک أنّ ... .

فجعل تفسیره علیه السلام الذی هو یستقیم علی أصول التوحید هو مرادهم لا ما طعن علیه بهم ونسبوه لهم.

الثانیة: یظهر من کلامه علیه السلام إنما رمی به هذه الفرق من الغلو والقول بتألیه النبی والأئمة علیهم السلام لا أساس له، وإنما هذا طعن طعن به أهل الخلاف أو من لا باع له فی المعارف.

الثالثة: أنّ منشأ طعن أهل الخلاف ومن لا اضطلاع له بغوامض المعانی هو ما قاله علیه السلام :

وقد علمت أنّ قوماً سمعوا صفتنا هذه فلم یعقلوها بل حرّفوها ووضعوها علی غیر حدودها علی نحو ما قد بلغک أی علی نحو ما بلغ المفضّل.

الرابعة: أنّ هناک جملة من المقامات والصفات ثابتة للنبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته علیهم السلام وهی لا تخرج عن شؤون المخلوق إلی حدود الألوهیّة والخالقیّة، إلّاأن من لا بضاعة له فی أبواب المعارف وأسرار الخلقة یتوهّم أنّ هذه الشؤون هی من صفات الألوهیة ومقامات الربوبیة، وأنّ من اتّصف بها لا یکون بحال من الأحوال إلّا إلهاً وربّاً، وجحد أن شؤون الإله والربّ هی فوق ذلک. ومن ثم قال علیه السلام عن هذه الظاهرة بالتقصیر عن عظم معرفة اللّه وأنّها السبب فی التخبّط بین الحدود والصفات الإلهیة وبین الحدود وصفات المخلوق.

غفلة بعض الخواص عن المکاتبة

وهذه المکاتبة توضّح زیف الکثیر من طعون العامة والدجل فی علاجهم وتواریخهم وأنّ الحقیقة لا یمکن أخذها من أفواههم وأقلامهم فإنّهم أبواق

ص:228

السلطات والبلاط الحکومی الذی یمارس تشویه صورة مخالفیه ومعارضیه بکلّ وسیلة ولا یتورّع عن أیّ کذب وافتراء فی ذلک، وکان یخلق جوّاً ورأیاً عاماً یکرّسه فی الأذهان والصدور والکتب والأشعار حتی آل الأمر إلی تأثّر جملة من أعلام الإمامیّة قدیماً وحدیثاً بهذه الطعون.

فنجد مثل المحقق النوبختی الذی هو من أجلّاء الأصحاب فی علم الکلام فی الغیبة الصغری وهو من الجلالة والدقّة العلمیّة بمکان إلّاأنّه قد تأثّر فی عدّة من المواضع من کتابه الذی کتبه عن فرق الشیعة بما شاع عند العامة من الطعن علی تلک الفرق، ومن تلک الموارد ما کتبه عن الخطابیّة من الموارد التی تسائل المفضّل بن عمر عمّا شاع طعنه علی الخطابیة وقد أوضح علیه السلام فی المکاتبة أنّ الخطّابیة وإن کانت لدیهم شذوذ وشطط إلّاأنّ الطعون التی روّجها العامّة غیر صحیحة.

فقد قال النوبختی «إنّ فرقة من أصحاب أبی الخطاب قالت: إنّ أبا عبد اللّه جعفر بن محمد هو اللّه جل وعز وتعالی اللّه عن ذلک علوّاً کبیراً، وإنّ أبا الخطاب نبی مرسل أرسله جعفر وأمر بطاعته وأحلّوا المحارم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وترکوا الزکاة والصلاة والصیام والحج وأباحوا الشهوات بعضهم لبعض، وقالوا من سأله أخوه لیشهد له علی مخالفیه فلیصدقه ویشهد له فإن ذلک فرض علیه واجب، و جعلوا الفرائض رجالاً سموهم والفواحش والمعاصی رجالاً وتأوّلوا علی ما استحلّوا قول اللّه عزوجل: «یُرِیدُ اللّهُ أَنْ یُخَفِّفَ عَنْکُمْ » وقالوا:

خفّف عنا بأبی الخطّاب ووضع عنا الأغلال والآصار یعنون الصلاة والزکاة والصیام والحج فمن عرف الرسول النبی الإمام فلیصنع ما أحب»(1).

وجملة هذه الطعون قد بیّن الإمام علیه السلام فی ا لمکاتبة عدم صحّتها وإنّ مرادهم

ص:229


1- (1) . فرق الشیعة / 42 و 43 .

لیس کما فهمه العامّة من أفعالهم.

وقال أیضاً إنّ فرقة منهم: «أحلّ الزنا والسرقة وشرب الخمر والمیتة والدم ولحم الخنزیر ونکاح الأمهات والبنات والأخوات ونکاح الرجال ووضع عن أصحابه غسل الجنابة وقال کیف أغتسل من نطفة خلقت منها وزعم أن لکل شیء أحل اللّه فی القرآن وحرمه فإنما هو أسماء رجال»(1).

ومن ذلک أیضاً ما ذکره الکشی:

عن محمد بن مسعود قال: سألت أبا الحسن علی بن الحسن عن اسم أبی خدیجة، قال: سالم بن مکرم. فقلت له: ثقة؟ فقال: صالح وکان من أهل الکوفة وکان جمّالاً وذکر أنّه حمل أبا عبد اللّه علیه السلام من مکّة إلی المدینة. قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبی هاشم عن أبی خدیجة قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا تکتن بأبی خدیجة.

قلت: فیم أکتنی؟ فقال: بأبی سلمة.

وکان سالم من أصحاب أبی الخطّاب وکان فی المسجد یوم بعث عیسی بن موسی ابن علی بن عبد اللّه بن العباس وکان عامل المنصور علی الکوفة إلی أبی الخطّاب لما بلغه أنّهم قد أظهروا الإباحات ودعوا الناس إلی نبوّة أبی الخطّاب وأنّهم یجتمعون فی المسجد ولزموا الأساطین یورّون الناس أنّهم قد لزموها للعبادة وبعث إلیهم رجلاً فقتلهم جمیعاً، لم یفلت منهم إلّارجل واحد أصابته جراحات فقط بین القتلی یعدّ فیهم، فلمّا جنّه اللیل خرج من بینهم فتخلّص وهو أبو سلمة سالم بن مکرم الجمّال الملقّب بأبی خدیجة. فذکر بعد ذلک أنّه تاب وکان ممّن یروی الحدیث(2).

فإنّ تواجد سالم بن مکرم فیهم قرینة علی بعد نسبة ادعائهم للألوهیة فی الأئمة والنبوة فی أبی الخطاب، بل اعتراف العامّة بأنّهم ملازمون للمسجد هو

ص:230


1- (1) . فرق الشیعة / 44 .
2- (2) . رجال الکشی / 418 / ح 661 .

الآخر شاهد علی تقیّدهم إجمالاً بظاهر الشریعة، کما أنّه متدافع مع ما یقولونه من أنّهم أظهروا الإباحات فکیف یظهرون تارة ویورّون ویخفون أخری.

أما الطعن علیهم بادّعائهم النبوّة فسیأتی الحدیث عنها مفصّلاً وأنه لم یکن ادعاء للنبوّة بل هو ادعاء للنیابة الخاصّة.

و هذا النصّ التاریخی الذی نقله الکشی هو الآخر یدلّ علی مدی تأثّر بعض الأصحاب من طعون العامّة المنتشرة فی الساحة بکثرة کاثرة.

ص:231

2 - مکانة أبی الخطاب والمغیرة بن سعید وعبد اللّه بن سبأ أیام استقامتهم

فإنّ هناک روایات تدلّ علی أنّ لکلّ من هؤلاء کانت فترة استقامة وکانت لهم فی تلک الفترة مکانة سامیة

1 - روی الکشی عن حمدویه، قال حدّثنی محمد بن عیسی، عن یونس بن عبد الرحمن عن ابن مسکان، عن عیسی شلقان، قال: قلت لأبی الحسن علیه السلام وهو یومئذ غلام قبل أوان بلوغه: جعلت فداک ما هذا الذی یسمع من أبیک أنّه أمرنا بولایة أبی الخطّاب ثم أمرنا بالبراءة منه؟

قال: فقال أبو الحسن علیه السلام من تلقاء نفسه:

إنّ اللّه خلق الأنبیاء علی النبوّة فلا یکونون إلّاأنبیاء، و خلق المؤمنین علی الإیمان فلا یکونون إلّامؤمنین، واستودع قوماً إیماناً فإن شاء أتمّه لهم وإن شاء سلبهم إیّاه، وإنّ أبا الخطاب کان ممّن أعاره اللّه الإیمان، فلمّا کذب علی أبی سلبه اللّه الإیمان.

قال: فعرضت هذا الکلام علی أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: فقال:

لو سألتنا عن ذلک ما کان لیکون عندنا غیر ما قال(1).

أقول: قد ذکر فی صحیحة عیسی شلقان أنّ الإمام الصادق علیه السلام أمر بولایة أبی الخطاب حال استقامته ثمّ أمر بالبراءة منه بعد ما أحدث، والتولّی بالخصوص إشارة إلی موقعیة الوکالة والنیابة الخاصة وسیأتی فی الفصل السابع بعض الإشارات إلی خطورة مقام النیابة الخاصّة.

2 - روی الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن حفص

ص:232


1- (1) . الکشی / 363 / ح 523 .

بن البختری وغیره عن عیسی شلقان قال: کنت قاعداً فمرّ أبو الحسن موسی علیه السلام ومعه بهمة. قال: قلت یا غلام ماتری ما یصنع أبوک یأمرنا بالشیء ثم ینهانا عنه.

أمرنا أن نتولّی أبا الخطّاب ثم أمرنا أن نلعنه ونتبرّأ منه. فقال أبو الحسن علیه السلام وهو غلام:

إنّ اللّه خلق خلقاً للإیمان لا زوال له و خلق خلقاً للکفر لا زوال له و خلق خلقاً بین ذلک أعاره الإیمان یسمّون المعارین إذا شاء سلبهم وکان أبو الخطّاب ممّن أعیر الإیمان. قال:

فدخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فأخبرته ما قلت لأبی الحسن علیه السلام وما قال لی، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

إنّه نبعة نبوّة(1).

ویستشف من هذا الخبر الصحیح أنّ أبا الخطاب کانت له نیابة خاصة ولیست مجرد وکالة عن الإمام علیه السلام ورغم ذلک فإنه لا یوجب ولا یستلزم ضرورة استقامته إلی الممات کما هو الحال فی إعطاء الباری سبحانه الآیات اللدنیة لبلعم بن باعورا.

3 - روی الکشی عن محمد بن مسعود قال: حدّثنی علی بن ا لحسن عن معمّر بن خلّاد قال: قال أبو الحسن علیه السلام :

إنّ أبا الخطاب أفسد أهل الکوفة فصاروا لا یصلّون المغرب حتّی یغیب الشفق ولم یکن ذلک إنّما ذاک للمسافر وصاحب العلّة.

وقال إنّ رجلاً سأل أبا الحسن علیه السلام فقال: کیف قال أبو عبد اللّه علیه السلام فی أبی الخطّاب ما قال ثم جاءت البراءة منه؟ فقال له:

أکان لأبی عبد اللّه علیه السلام أن یستعمل ولیس له أن یعزل(2).

و هذا الموثق أیضاً دال علی مدی ما کان یتمتع به أبو الخطاب من صلاحیات لدی الإمام علیه السلام وفی نفوذه لدی الشیعة کمرجعیة فقهیة أیضاً.

4 - روی الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد بن محمد بن عیسی عن علی بن الحکم عن علی بن عقبة قال: کان أبو الخطاب قبل أن یفسد

ص:233


1- (1) . الکافی 2 / 418 / باب المعارین / ح 3 .
2- (2) . رجال الکشی / 362 / ح 518 .

وهو یحمل المسائل لأصحابنا ویجیء بجواباتها(1).

و هذا الصحیح هو الآخر یعکس منزلة أبی الخطاب بین الإمام وعموم فضلاء أصحابه.

5 - روی الکشی فی الموثق عن عبد اللّه بن بکیر الرجانی قال: ذکرت أبا الخطاب ومقتله عند أبی عبد اللّه علیه السلام قال: فوقفت عند ذلک فبکیت، قال:

أتأسی علیهم؟ فقلت: لا وقد سمعتک تذکر أنّ علیاً علیه السلام قتل أصحاب النهر (النهروان) فأصبح أصحاب علی علیه السلام یبکون علیهم. فقال علی علیه السلام : أتأسون علیهم؟ فقالوا: لا إنّا ذکرنا الألفة التی کنّا علیها والبلیّة التی أوقعتهم فلذلک رققنا علیهم. قال:

لا بأس به(2).

وفی هذه الروایة دلالة علی مدی الموقعیّة التی کانت یتمتع بها أبو الخطاب فی أوساط أتباع أهل البیت علیهم السلام .

6 - روی الکلینی عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن محمد بن علی بن محمد بن الفضیل عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا الخطّاب یحدّث عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

ثلاثة لا یجهل حقّهم إلّامنافق معروف بالنفاق؛ ذو الشیبة فی الإسلام وحامل القرآن والإمام العادل(3).

فإنّها تشیر إلی موقعیّة أبی الخطاب لدی فضلاء الرواة وأنّهم کانوا یتلقون روایاته أیام استقامته ویخرجونها فی الأصول الروائیة.

7 - وکذا ما رواه الکلینی عن حنان عن أبی الخطّاب عن عبد صالح علیه السلام قال:

ص:234


1- (1) . الکافی 5 / 15 / باب فضل التجارة والمواظبة علیها / ح 13، وتهذیب الأحکام 7 / 4 / باب فضل التجارة وآدابها / ح 9 .
2- (2) . الکشی / ح 517، ووسائل الشیعة / أبواب الدفن / باب 89 باب جواز البکاء علی الألیف الضال.
3- (3) . الکافی 2 / 658 / باب وجوب إجلال ذی الشیبة المسلم / ح 4 .

إنّ الناس أصابهم قحط شدید علی عهد سلیمان بن داود علیه السلام فشکوا ذلک إلیه وطلبوا إلیه أن یستسقی لهم. قال فقال لهم إذا صلّیتُ الغداة مضیتُ. فلمّا صلّی الغداة مضی ومَضوا فلمّا أن کان فی بعض الطریق إذا هو بنملة رافعة یدها إلی السماء واضعة قدمیها إلی الأرض وهی تقول: اللهمّ إنّأ خلق من خلقک ولا غنی بنا عن رزقک فلا تهلکنا بذنوب بنی آدم. قال: فقال سلیمان علیه السلام : ارجعوا فقد سُقیتم بغیرکم قال: فسقوا فی ذلک العام ما لم یسقوا مثله قطّ (1).

8 - روی الکلینی عن علی عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن ابن أذینة عن زرارة قال: حدّثنی أبو الخطاب فی أحسن ما یکون حالاً قال ...(2).

9 - قال الکشی: وحکی نصر بن صباح عن ابن أبی عمیر بإسناده أنّ الشیعة حین أحدث أبو الخطّاب ما أحدث خرجوا إلی أبی عبد اللّه علیه السلام فقالوا: أقم لنا رجلاً نفزع إلیه فی أمر دیننا وما نحتاج إلیه من الأحکام.

قال:

لا تحتاجون إلی ذلک، متی ما احتاج عندکم عرج إلیّ وسمع منّی وینصرف.

فقالوا: لابدّ. فقال:

قد أقمت علیکم المفضّل اسمعوا منه واقبلوا عنه فإنّه لا یقول علی اللّه وعلیّ إلّاالحقّ.

فلم یأت علیه کثیر شیء حتی شنّعوا علیه وعلی أصحابه وقالوا أصحابه لا یصلّون ویشربون النبیذ وهم أصحاب الحمام و یقطعون الطریق والمفضّل یقرّبهم ویدنیهم(3).

أقول: و هذا یدلّ علی أنّ الموقع الذی نصب فیه المفضّل کان یشغله أبو الخطّاب قبل أن یحدث ما أحدث وهو المقام الذی فزعوا إلیه فی أمر دینهم وما یحتاج إلیه من الأحکام.

10 - روی الکشی بسند معتبر إلی سلمان الکنانی قال: قال لی أبو جعفر علیه السلام :

ص:235


1- (1) . الکافی 8 / 246 / ح 344 .
2- (2) . بحار الأنوار 23 / 368 / 39 .
3- (3) . الکشی / 393 / ح 592 .

هل تدری ما مثل المغیرة قال: قلت: لا قال:

مثله مثل بلعم. قلت: ومن بلعم؟ قال: الذی قال اللّه عزوجل: (الَّذِی آتَیْناهُ آیاتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطانُ فَکانَ مِنَ الْغاوِینَ »1.

فإنّ تمثیله علیه السلام المغیرة ببلعم - حیث أوتی بعض حروف الاسم الأعظم الذی عبّر عنه فی سورة الأعراف بأنّه أعطی وأوتی آیات لدنیة - یفید أنّه قد أعطی شیئاً من بعض الکرامات المعنویّة والآثار النورانیّة إلّاأنّه سلب ذلک منه عند إذاعته للأسرار مما سبب فی انحراف جماعة لانطباع معانی خاطئة باطلة لدیهم عن تلک الغوامض من المعارف، وعند تصعیده فی المواجهة السیاسیة مع الخلافة الأمویة مما أربک الظروف المحیطة بأتباع أهل البیت علیهم السلام .

11 - فی تفسیر القمی عن أحمد بن إدریس عن محمد بن أحمد عن الحسین بن سعید عن محمد بن الحصین عن خالد بن یزید عن عبد الأعلی عن أبی الخطّاب عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قوله تعالی: «فَأَمّا مَنْ أَعْطی وَ اتَّقی وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنی » قال: بالولایة «فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْیُسْری وَ أَمّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنی وَ کَذَّبَ بِالْحُسْنی » قال: بالولایة «فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْعُسْری »2.

وفی البصائر عن أحمد بن محمد عن الأهوازی عن محمد بن کثیر عن خالد بن یزید عن عبد الأعلی عمّن رواه عنه علیه السلام مثله(1).

والظاهر أنّ روایة عبد الأعلی عن أبی الخطاب فی أیام استقامته وأنّه کان یدمن تلقّی الروایات فی المعارف عنهم علیهم السلام کما یظهر الحدیث قدرة تحمّله للطائف المعانی فی ولایتهم.

12 - روی الحلی فی مختصر البصائر عن محمد بن مسلم قال: سمعت حمران بن أعین وأبا الخطاب یحدّثان جمیعاً - قبل أن یحدث أبو الخطاب ما

ص:236


1- (3) . بحار الأنوار 24 / 44 / ح 8 .

أحدث - أنهما سمعا أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

أول من تنشقّ الأرض عنه ویرجع إلی الدنیا الحسن بن علی علیهما السلام وأنّ الرجعة لیست بعامة بل هی خاصّة لا یرجع إلّامن محض الإیمان محضاً أو محض الکفر محضاً(1).

13 - روی الثقفی فی الغارات فی ذکر الأحداث بعد مقتل محمد بن أبی بکر عن عبد الرحمن بن جندب عن أبیه جندب قال: دخل عمرو بن الحمق وحجر بن عدی وحبّة العرنی والحارث الأعور وعبد اللّه بن سبأ علی أمیر المؤمنین علیه السلام بعدما افتتحت مصر وهو مغموم حزین فقال له بیّن لنا ما قولک فی أبی بکر وعمر فقال لهم علی علیه السلام :

و هل فرغتم لهذا وهذه مصر قد افتتحت وشیعتی بها قد قتلت ...(2).

یظهر من هذا الحدیث أنّ عبد اللّه بن سبأ کان أیام استقامته من حواری أمیر المؤمنین علیه السلام وأخصّ خاصّته لدیه وأنّه کان بدرجة من التمسّک بولایة الأمیر علیه السلام والتبرّی من أعدائه.

ویمکن تلخیص دورهم الإیجابی فی فترة استقامتهم فی نقاط تستفاد مما مرّ فی المکاتبة وغیرها و مما سیأتی فی ذکر شواهد أحوالهم المختلفة:

الأولی: أنّهم قاموا بنشر البیانات البرهانیّة من القرآن والسنة النبویة وسنن الأنبیاء علیهم السلام علی النصّ الإلهی علی إمامة أهل البیت علیهم السلام ووصایتهم لرسول اللّه وأنه منصب غیبی، و ذلک فی فترة وحقبة زمنیّة وصلت تظلیل الإعلامی لسلطة الخلفاء وبنی امیة وبنی العباس أوجها فی التعتیم علی ما أنزله اللّه فی القرآن وبیّنه النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی الأحادیث فی شأن أهل البیت علیهم السلام حتی أصبح مجهولاً لدی الخواصّ فضلاً عن العموم.

الثانیة: أنّهم قاموا بنشر جملة من ثوابت التشریع التی سعی خصوم أهل البیت علیهم السلام لمحوها عن أذهان المسلمین نظیر القضاء بالشاهد والیمین فی الأموال

ص:237


1- (1) . مختصر البصائر / 106 / ح 77 .
2- (2) . الغارات 1 / 302 .

وزواج المتعة وجملة من أحکامها وأنّ ولایة الفیء والخمس للإمام وأنّ أعدائهم یتقلّبون فی الحرام من الأموال وسائر المعاملات وأنّ قضاء الحاکم الجائر حکم الطاغوت، وغیرها من ثوابت مذهب أهل البیت علیهم السلام التی کانت آنذاک خفیّة علی کبار فقهاء الرواة عند بدء نشرها.

الثالثة: أنّهم شقّوا طریقاً للبحث والفحص عن دقائق المعرفة واستنطاقها من القرآن وأحادیث النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بیته علیهم السلام فی مقابل التقصیر والغفلة عن هذه المعرفة، فولّد ذلک جوّاً فاحصاً باحثاً متسائلاً عن هذه المسائل والبحوث.

ص:238

3 - إیماء الروایات بشذوذ أبی الخطاب والمغیرة دون دعوی التألیه والنبوّة

روی الحلی فی مختصر البصائر عن أحمد بن محمد بن عیسی عن عبد الرحمن بن حماد الکوفی عن حنان بن سدیر عن أبی خالد ذی الشامة النحّاس قال: فدخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فقلت له: إن عمی وابن عمی أصیبا مع أبی الخطاب فما قولک فیهما؟ فقال:

أما من قتل معه مسلّم لنا دونه فرحمه اللّه وأما من قتل معه مسلّم له دوننا فقد عطب(1).

وفی هذه الروایة دلالة علی أنّ الخطّابیة إلی حین قتل أبی الخطاب لم یکونوا یدّعون الألوهیة والتألیه فی الأئمة علیهم السلام وإلّا لما کان للتفصیل مجال کما أنّهم لم یکونوا یدّعون النبوّة فی أبی الخطاب.

نعم الروایة دالّة علی أنّ من سلّم وانقاد تماماً لأبی الخطاب فی شططه وشذوذه فقد عطب وأما من کان معه بتخیّل نیابته عن الإمام وکان عزمه علی التسلیم للأئمة علیهم السلام فی الأصل، فهو مغرّر به یرجی له شفاعة الأئمة علیهم السلام .

ومما یستشعر منه سابقة استقامة لکلّ من المغیرة وأبی الخطاب وأن شططهما وشذوذهما لم یکن فی دعوی الألوهیة فی الأئمة والنبوة فی حق أنفسهم ما رواه الکشی عن محمد بن الصباح عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

لا یدخل المغیرة وأبی الخطاب الجنّة إلّابعد رکضات فی النار(2).

و هذا الحدیث وإن استفید منه انحرافهما واستحقاقهما بذلک العقاب إلّاأنّ

ص:239


1- (1) . مختصر البصائر / 264 / ح 258 .
2- (2) . رجال الکشی / رقم 408 .

فیه إشارة أیضاً إلی عدم وصول ذلک الانحراف إلی ادّعاء التألیه فی أئمة أهل البیت علیهم السلام أو ادعاء النبوّة فی حقّ أنفسهم، بل غایته الشطط فی تأویل غوامض المعارف التی تلقّوها ممّا سبّب انحرافات عقائدیة لدی أتباعهم فی جملة من التفاصیل.

روی الصفار فی البصائر عن محمد بن الحسین عن صفوان عن أبی الصباح قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : بلغنا أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم قال لعلی علیه السلام :

أنت أخی وصاحبی وصفیّی وخالصی من أهل بیتی وخلیفتی فی أمّتی وسأنبّئک فیما یکون فیها من بعدی یا علی أحب کل ما أحبّه لنفسی واکره لک ما أکرهه لها. فقال لی أبو عبد اللّه علیه السلام :

هذا مکتوب عندی فی کتاب علی ولکن دفعته أمس حین کان هذا الخوف وهو حین صلب المغیرة(1).

ویظهر من هذ الحدیث أنّ جوّ الرعب والخوف الذی أقامه بنو أمیّة فی مواجهتهم للمغیرة وقتله وصلبه هو موضوع یرتبط بعقیدة النصّ الإلهی فی علی وکونه وصیاً للنبی صلی الله علیه و آله و سلم واصطفی بالعصمة، وأنّ هذه المفاهیم هی التی قتل لأجل الجهار بها المغیرة فلم تکن دعواه التألیه فی الأئمة علیهم السلام وأنّ تلک المفاهیم فی عهد بنی أمیّة وهی بدایة عهد إمامة الصادق علیه السلام لم تکن واضحة لعدّة من فقهاء ورواة أصحاب الأئمة علیهم السلام بینما کان المغیرة فی ذلک الأفق من المعرفة، رغم ما کان له من شذوذ وتطرّف سیاسی وسوء فی تدبیر ترویج المعارف.

ص:240


1- (1) . البصائر ص 1 / 323 / 632 .

4 - موقف الطائفة من أبی الخطاب ونظرائه

قال الشیخ الطوسی فی العدّة:

«و أما العدالة المراعاة فی ترجیح أحد الخبرین علی الآخر فهو أن یکون الراوی معتقداً للحقّ مستبصراً ثقة فی دینه متحرجاً عن الکذب غیر متهم فیما یرویه - إلی أن قال: - ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غیاث وغیاث بن کلوب ونوح بن درّاج والسکونی وغیرهم من العامّة عن أئمتنا علیهم السلام ولم ینکروه ولم یکن عندهم خلافه.

وإذا کان الراوی من فرق الشیعة مثل الفطحیّة والواقفیّة والناووسیة وغیرهم نظر فیما یروونه فإن کان هناک قرینة تعضده أو خبر آخر من جهة الموثوقین بهم وجب العمل به وإن کان هناک خبر یخالفه من طرق الموثوقین وجب اطراح ما اختصّوا بروایته والعمل بما رواه الثقة، وإن کان ما رووه لیس هناک ما یخالفه ولا یعرف من الطائفة العمل بخلافه وجب أیضاً العمل به إذا کان متحرجاً فی روایته موثوقاً به فی أمانته وإن کان مخطئاً فی أصل الاعتقاد ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحیّة مثل عبد اللّه بن بکیر وغیره وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران وعلی بن أبی حمزة وعثمان بن عیسی ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضّال وبنو سماعة والطاطریون وغیرهم فیما لم یکن عندهم فیه خلافه.

وأما ما یرویه الغلاة والمتّهمون والمضعفون وغیر هؤلاء فما یختص الغلاة بروایته فإن کانوا ممّن عرف لهم حال الاستقامة وحال الغلوّ عمل بما رووه فی حال الاستقامة وترک ما رووه فی حال خطائهم، ولأجل ذلک عملت الطائفة بما رواه أبو الخطاب فی حال استقامته وترکوا ما رواه فی حال تخلیطه وکذا القول فی

ص:241

أحمد بن هلال العبرتائی وابن أبی عزاقر...»(1).

و هذا الإجماع المنقول من الشیخ حول روایات ابن أبی الخطاب أیام استقامته شاهد واضح علی صحّة مضامین الروایات ذات المضامین العالیة والدقائق الثاقبة فی المعرفة والمسائل العقدیة التی رواها أبی الخطاب وأمثاله وأن جهة الانحراف کانت فی زوایا أخری کما أوضحنا ذلک.

ص:242


1- (1) . بحار الأنوار 2 / 253 - 254 .

5 - تقدّم معرفة أبی الخطّاب درجة وسبقاً علی أرکان وأوتاد فقهاء الرواة

روی فی البحار عن القمی فی تفسیره عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن ابن أذینة عن برید عن أبی جعفر علیه السلام قال:

إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم أفضل الراسخین فی العلم فقد علم جمیع ما أنزل اللّه علیه من التنزیل والتأویل وما کان اللّه لینزل علیه شیئاً لم یعلّمه التأویل وأوصیاؤه من بعده یعلمونه کلّه. قال: قلت جعلت فداک إنّ أبا الخطاب کان یقول فیکم قولاً عظیماً قال:

وما کان یقول قلت: قال إنّکم تعلمون علم الحلال والحرام والقرآن [فقال:

علم الحلال والحرام والقرآن]

یسیر فی جنب العلم الذی یحدث باللیل والنهار(1).

ویظهر من هذا الصحیح الأعلائی أنّ جملة من أمّهات المعارف حول مقام الإمامة قد قام أبو الخطاب بنشرها فی أیام استقامته بین فضلاء کبار الرواة، حتی أن برید بن معاویة العجلی وهو من أوتاد الرواة فی الفقه لم یکن فی التحمل للمعارف الثقیلة بدرجة أبی الخطاب مع أن حقیقة المعرفة أعظم من ذلک کما نبّه الإمام علیه السلام .

ورواه فی الاختصاص عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام کلام قد سمعته من أبی الخطّاب فقال:

اعرضه علیّ فقلت: یقول إنّکم تعلمون الحلال والحرام وفصل ما بین الناس. فسکت، فلمّا أردت القیام أخذ بیدی فقال:

یا محمد علم الحلال والحرام یسیر فی جنب العلم الذی یحدث فی اللیل والنهار(2).

ص:243


1- (1) . بحار الأنوار 23 / 192 / ح 15 .
2- (2) . بحار الأنوار 23 / 192 / بیان فی ذیل ح 15 .

و هذا الحدیث أیضاً یبین الموقعیة والدرجة العلمیة التی کان أبو الخطاب یتمتع بها بالقیاس إلی مثل محمد بن مسلم، ثم بیّن علیه السلام أن المعارف أعظم بحراً من فقه الفروع الذی هو بمنزلة قطرات إلی ذلک البحر المتلاطم.

وروی فی البصائر عن أحمد بن محمد عن علی بن الحکم عن هشام بن سالم عن محمد بن مسلم قال: دخلت علیه بعدما قتل أبو الخطّاب قال: فذکرت له ما کان یروی من أحادیثه تلک العظام قبل أن یُحدث ما أحدث فقال:

بحسبک واللّه یا محمد أن تقول فینا یعلمون الحلال والحرام وعلم القرآن وفصل ما بین الناس، فلمّا أردت أن أقوم أخذ بثوبی فقال:

یا محمّد وأیّ شیء الحلال والحرام فی جنب العلم؟ إنّما الحلال والحرام فی شیء یسیر من القرآن(1).

و هذا الصحیح الأعلائی یؤکّد ما مرّ بیانه وأنّ فقه الفروع قطرات یسیرة فی علم القرآن کبحر مترامٍ من المعارف والأسرار، وهو الذی یثیر حفیظة کبار الرواة تجاه رواة المعارف ویشدّد من استغرابهم او إنکارهم لما یروونه. فإنّ حدیث أهل البیت فی بحر المعرفة صعب مستصعب لا یحتمل، یثیر الکثیر من الاضطراب والنکیر والبلبلة لدی عموم أذهان کبار أهل العلم من الرواة فضلاً عن عامّة المؤمنین، وهو الّذی استوجب المحاربة والمواجهة الشدیدة واللغط الکبیر تجاه رواة المعارف فی العدید من الحقب الزمنیة حتی عصر النجاشی.

وروی الصدوق فی معانی الأخبار عن أبیه عن محمد بن یحیی عن أبی سعید الآدمی عن الحسن بن علی بن أبی حمزة (عن أبیه) عن أبی بصیر قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ أبا الخطّاب کان یقول: إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم تعرض علیه أعمال أمّته کلّ خمیس فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

لیس هکذا ولکن رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم تعرض علیه أعمال أمته کل صباح أبرارها وفجارها فاحذروا وهو قول اللّه عزوجل: «وَ قُلِ اعْمَلُوا

ص:244


1- (1) . البصائر 1 / 387 / ح 730، بحار الأنوار 23 / 195 / ح 22 .

فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ » وسکت، قال أبو بصیر: إنّما عنی الأئمة علیهم السلام (1).

ورواه فی بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد عن الأهوازی عن القاسم بن محمد عن البطائنی عن أبی بصیر(2).

و هذا الحدیث أیضاً یشیر مضافاً إلی الأحادیث السابقة إلی موقعیة أبی الخطاب بالإضافة إلی کل من برید ومحمد بن مسلم وأبی بصیر، و أنهم کانوا یتلقّون منه أمهات مسائل المعارف عن الإمام علیه السلام کما حکی الشیخ الطوسی فی العدة أن الطائفة کانت تعمل بما یرویه أبو الخطّاب أیام استقامته. و هذا لیس روایة فحسب بل هو مقام تعلیم وتتلمذ کما لا یخفی.

ص:245


1- (1) . الوسائل 16 / 109 / أبواب جهاد النفس / ب 101 / ح 9 .
2- (2) . بحار الأنوار 17 / 150 .

6 - معنی کذب المغیرة وأبی الخطاب ودسّهما الحدیث فی الکتب

روی الکشی قال: حدثنی محمد بن قولویه والحسین بن الحسن بن بندار القمّی قالا: حدثنا سعد بن عبد اللّه قال حدثنی محمد بن عیسی بن عبید عن یونس بن عبد الرحمن أنّ بعض أصحابنا سأله و أنا حاضر فقال له: یا أبا محمد ما أشدّک فی الحدیث وأکثر إنکارک لما یرویه أصحابنا فما الذی یحملک علی ردّ الأحادیث؟ فقال: حدثنی هشام بن الحکم أنّه سمع أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

لا تقولوا علینا حدیثاً إلّاما وافق القرآن والسنّة أو تجدون معه شاهداً من أحادیثنا المتقدمة، فإنّ المغیرة بن سعید لعنه اللّه دسّ فی کتب أصحاب أبی أحادیث لم یحدّث بها أبی، فاتّقوا اللّه ولا تقبلوا علینا ما خالف قول ربّنا تعالی وسنّة نبینا صلی الله علیه و آله و سلم فإنّا إذا حدّثنا قلنا قال اللّه عزّوجل وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم .

قال یونس: وافیت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبی جعفر علیه السلام ووجدت أصحاب أبی عبد اللّه علیه السلام متوافرین فسمعت منهم و أخذت کتبهم، فعرضتها من بعد علی أبی الحسن الرضا علیه السلام فأنکر منها أحادیث کثیرة أن یکون من أحادیث أبی عبد اللّه علیه السلام وقال لی:

إنّ أبا الخطاب کذب علی أبی عبد اللّه علیه السلام لعن اللّه أبا الخطاب وکذلک أصحاب أبی الخطاب یدسّون هذه الأحادیث إلی یومنا هذا فی کتب أصحاب أبی عبد اللّه علیه السلام فلا تقبلوا علینا خلاف القرآن، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة إنّا عن اللّه وعن رسوله نحدّث ولا نقول قال فلان وفلان فیتناقض کلامنا إنّ کلام آخرنا مثل کلام أوّلنا وکلام أوّلنا مصادق لکلام آخرنا، فإذا أتاکم من یحدّثکم بخلاف ذلک فردّوه علیه وقولوا أنت أعلم وما جئت به. فإنّ مع کلّ قول منّا حقیقة وعلیه

ص:246

نوراً، فما لا حقیقة معه ولا نور علیه فذلک من قول الشیطان(1).

وقال أیضاً: حدثنی محمد بن مسعود قال حدثنا ابن المغیرة، قال حدثنا الفضل بن شاذان عن ابن أبی عمیر عن حمّاد عن حریز عن زرارة قال: - یعنی أبا عبد اللّه -

إنّ أهل الکوفة قد نزل فیهم کذّاب. أما المغیرة فإنّه یکذب علی أبی - یعنی أبا جعفر علیه السلام - قال: حدّثه أنّ نساء آل محمد إذا حضن قضین الصلاة وکذب و اللّه علیه لعنة اللّه ما کان من ذلک شیء ولا حدّثه وأمّا أبو الخطاب فکذب علیّ وقال: إنّی أمرته أن لا یصلّی هو وأصحابه المغرب حتّی یروا کوکب کذا یقال له القندانی و اللّه إنّ ذلک لکوکب ما أعرفه(2).

وروی الکشی أیضاً عن هشام بن الحکم أنه سمع أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

کان المغیرة بن سعید یتعمّد الکذب علی أبی ویأخذ کتب أصحابه وکان أصحابه المستترون بأصحاب أبی یأخذون الکتب من أصحاب أبی فیدفعونها إلی المغیرة، فکان یدسّ فیها الکفر والزندقة ویسندها إلی أبی ثمّ یدفعها إلی أصحابه فیأمرهم أن یثبتوها [

یبثّوها]

فی الشیعة، فکلّما کان فی کتب أصحاب أبی من الغلو فذاک ما دسّه المغیرة بن سعید فی کتبهم(3).

وروی عن أبی یحیی الواسطی قال أبو الحسن الرضا علیه السلام :

کان المغیرة بن سعید یکذب علی أبی جعفر علیه السلام فأذاقه اللّه حرّ الحدید(4).

هذا، ویحتمل تفسیر الکذب الوارد فی هذه الأخبار ودسّ الحدیث بجملة من المحتملات:

الأول: ما مرّ کراراً من معنی إفشاء الحدیث المتضمّن لغوامض المعارف

ص:247


1- (1) . الکشی / 298 / ح 401 .
2- (2) . الکشی / 300 / ح 407 .
3- (3) . رجال الکشی / رقم 402 .
4- (4) . رجال الکشی / رقم 399 .

وإذاعته حیث إنّ إخبار الآخرین بالحدیث وإسناده إلی الإمام یتضمّن أنّه علیه السلام یلتزم حکایة ذلک المضمون للسامعین ویتعهّد لهم بالإخبار بذلک المضمون وهذا کذب علی الإمام علیه السلام لأنه لم یلتزم الحکایة لعامّة الناس.

أو أنّ المراد بالکذب الحاصل بالإذاعة والنشر تسبیب الإفشاء لعامة من لا یتحمّل تصوّر المعنی الصحیح لمضمون الخبر، فینطبع فی ذهنه المعنی المقلوب الخاطیء فیکون الإفشاء سبباً لحصول تلک المعانی الفاسدة فی أذهان عامّة الناس وهی معان کاذبة فیکون الإفشاء کذباً علیهم.

أو أنّ الإفشاء یتلقّاه السفلة وهم طلّاب الرئاسات والزعامات وطلّاب السمعة والجاه من ذوی النفوس الخسیسة التی لا یعنیها طلب الحقیقة والهدایة وإنّما تحرص علی الترأس کمقام فی المقامات المعنویة وجمع الأتباع والمریدین.

فالکذب هی إذاعة هذه الأحادیث، ودسّها هو القیام بنشرها فی الأصول الحدیثیّة وکتب الأصحاب.

وممّا یؤیّد إرادة هذا المعنی ما رواه الکشی فی الصحیح عن زیاد بن أبی الحلال قال: اختلف أصحابنا فی أحادیث جابر الجعفی فقلت لهم: أسأل أبا عبداللّه علیه السلام فما دخلت ابتدأنی فقال:

رحم اللّه جابر الجعفی کان یصدق علینا لعن اللّه المغیرة بن سعید کان یکذب علینا(1).

حیث إنّ المقابلة بین جابر والمغیرة فی الوجه المشترک بینهما من حیث تصدّی کلّ منهما لروایة المعارف، إلّاأنّ أحد الفروق بینهما أنّ جابر کان کتوماً لما استودع من أحادیث لم یؤذن بنشرها وإنما کان ینشر ما أذن له بذلک، بخلاف المغیرة حیث قام بنشرها وإذاعتها.

ص:248


1- (1) . رجال الکشی / رقم 336 .

فقد روی الکشی عن جابر بن یزید الجعفی قال: حدّثنی أبو جعفر علیه السلام بسبعین ألف حدیث لم أحدّث بها أحداً قط ولا أحدّث بها أحداً أبداً. قال جابر:

فقلت لأبی جعفر:

جعلت فداک إنّک قد حمّلتنی وقراً عظیماً بما حدّثتنی به من سرّکم الذی لا أحدّث به أحداً فربّما جاش فی صدری حتی یأخذنی منه شبه الجنون قال: یا جابر، فإذا کان ذلک فاخرج إلی الجبان فاحفر حفیرة ودل رأسک فیها ثم قل حدّثنی محمد بن علی بکذا وکذا(1).

وروی أیضاً عن جابر أنّه قال: دخلت علی أبی جعفر علیه السلام و أنا شاب ... ودفع إلیّ کتاباً وقال لی:

إن أنت حدّثت به حتی تهلک بنو أمیّة فعلیک لعنتی ولعنة آبائی وإذا أنت کتمت منه شیئاً بعد هلاک بنی أمیّة فعلیک لعنتی ولعنة آبائی. ثم دفع إلیّ کتاباً آخر ثم قال:

وهاک هذا فإن حدّثت بشیء منه أبداً فعلیک لعنتی ولعنة آبائی(2).

ومعنی الحدیث أنّه من غوامض المعرفة ما لا یصلح نشره أبداً لعامّة الناس فلو قام جابر بمعصیة الإمام ونشره بین الناس لصدر اللعن من الإمام علیه السلام فی حقّه والبراءة منه لما یوجب ذلک من انطباع معانٍ مقلوبة معکوسة عن حقیقة المعنی الأصلی الغامض مما یوجب إضلال الناس وحدوث الفرق الضالّة.

و هذا معنی المحتمل للکفر والزندقة التی یسندها المغیرة إلی الباقر علیه السلام کما فی الحدیث المتقدّم. وهو المحتمل أیضاً فی معنی قوله علیه السلام :

فکلّما کان فی کتب أصحاب أبی من الغلو فذاک ما دسّه المغیرة بن سعید فی کتبهم.

لا سیما وقد مرّ فی روایة الحضینی فی کتاب الهدایة عن المفضّل بن عمر عن الصادق علیه السلام أنّه ما قال أحد فیهم بأنهم أرباب من دون اللّه بل جعلوهم عبیداً مربوبین مرزوقین وقالوا فی فضلهم ما شاؤوا ولم یدرکوه(3).

ص:249


1- (1) . رجال الکشی / ح 343 .
2- (2) . رجال الکشی / ح 339 .
3- (3) . الهدایة الکبری / 432 .

فالغلو فی تلک الأحادیث التی ینشرها المغیرة بمعنی الشطط فی نشر أمور من المعرفة تنطبع بنحو خاطئ فاسد لدی عامّة الناس بطراز وثوب من المعانی المقلوبة التی فیها الکفر والزندقة.

وقد مرّت شواهد عدیدة علی أنّ المغیرة وأبا الخطاب أذاعا سرّهم فأذاقهم اللّه حرّ الحدید نظیر ما ورد فی شأن المعلی بن خنیس أنه أذاع سرّهم فأذاقه اللّه حرّ الحدید(1). بل قد ورد عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی شأن المعلی قوله:

رحم اللّه المعلّی

قد کنت أتوقّع ذلک لأنّه أذاع سرّنا ولیس الناصب لنا حرباً بأعظم مؤونة علینا من المذیع علینا سرّنا فمن أذاع سرّنا إلی غیر أهله لم یفارق الدنیا حتی یعضّه السلاح أو یموت بخبل(2).

و هذا الحدیث یدلّ علی أنّ المذیع علیهم سرّهم یؤذیهم ویدخل الضرر علیهم والإضرار فی شیعتهم نظیر الناصب لهم حرباً وأنّ إذاقة حرّ الحدید هی من الحوب الذی یصیب من یذیع سرّهم وهو معنی الکذب.

وقد ورد فی معنی کذب المغیرة وأبی الخطاب علیهم أنّهم یصیبهم حرّ الحدید فیکون الدعاء علیهم بإذاقة حرّ الحدید إشارة إلی أنّ معنی الکذب علیهم الإذاعة لسرّهم وقد مرّ لذلک شواهد عدیدة فلاحظ.

المحتمل الثانی: الخطأ فی التأویل، فیسند التأویل الخاطیء إلیهم علیهم السلام مع أنّ أصل المضمون هو شیء قد سمعه ورواه وتعلّمه من الإمام علیه السلام ، إلّاأنّه فهمه بنحو خاطئ مقلوب فآل المعنی فی ذهنه إلی إطار معکوس. ولربّما شاع وکثر هذا النمط من الکذب لدی الکثیر نظیر المغیرة بن سعید وأبو الخطاب وبنان [بیان] وبزیع وأمثالهم.

وسیأتی شواهد کثیرة فی أبی الخطاب دالّة علی خطائه فی فهم أسس وأصول قواعد کثیرة فی المعارف وسیأتی بعض نماذجها فی المغیرة أیضاً.

ص:250


1- (1) . الکشی / ح 709 .
2- (2) . الکشی / ح 712 .

وقد مرّ فی مکاتبة الصادق علیه السلام للمفضّل من طعنه علیه السلام علی الخطابیة بهذا النمط من الکذب حیث قال:

إنّ هذا القول کان من قوم سمعوا ما لم یعقلوه عن أهله ...

فوضعوا حدود تلک الأشیاء مقایسة برأیهم ومنتهی عقولهم ولم یضعوها علی حدود ما أمروا کذباً وافتراءاً علی اللّه ورسوله(1).

ثم إنّ الخطأ فی التأویل قد ینشأ من التقصیر و ذلک بسبب خوض المغیرة وأبی الخطاب وأمثالهم فی تعاطی العلوم والفنون الغریبة، کما یشیر إلیه ما رواه الکشی عن عبد الرحمن بن کثیر قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام یوماً لأصحابه:

لعن اللّه المغیرة بن سعید ولعن یهودیّة یختلف إلیها یتعلّم منها السحر والشعبذة والمخاریق(2).

الحدیث.

حیث إنّ التعاطی مع هذه الأمور یسبّب انطباع معانٍ قاصرة وفاسدة وباطلة عما یتلقّونه من معارف حقیقیة، و ذلک لقصور إدراک قوة الخیال عن المعانی العقلیة والمعانی المجرّدة فیصعب التجرید فی الإسناد والتدقیق فی الحقائق.

المحتمل الثالث: هو کذبهم فی الأحکام الفقهیّة وقد وقع ذلک أیضاً منهم کثیراً، وفی البدء کان ذلک منهم بسبب قصور الفهم أو اعوجاج السلیقة إلّاأنّهم بعد انفکاکهم عن تیار اتباع أهل البیت علیهم السلام بعد ظهور انحرافهم واشتداد المواجهة السیاسیّة بینهم وبین السلطة الأمویّة والعبّاسیة ازداد شذوذهم الفقهی.

ومرّ قبل قلیل ما رواه الکشی عن زرارة فی أنّ المغیرة کان یقول إن نساء آل محمد إذا حضن قضین الصلاة وإن أبا الخطاب کان یقول إنّ الإمام أمره أن یؤخّر المغرب حتی یروا کوکب القندانی.

ص:251


1- (1) . بحار الأنوار 24 / 288 .
2- (2) . رجال الکشی / ح 403 .

7 - ظهور جملة من الغرائب علی أیدیهم

قال الأعمش: «کان المغیرة یخرج إلی المقبرة فیتکلم فیری مثل الجراء علی القبور»(1).

وعن الطبری: «ذکر أبو نعیم عن النضر بن محمد بن عبد الرحمن بن أبی لیلی قال: قدم علینا رجل من أهل البصرة یطلب العلم فکان عندنا فأمرت جاریتی یوماً أن تشتری لی سمکاً بدرهمین، ثم انطلقت أنا والبصری إلی المغیرة بن سعید فقال لی: یا محمد أتحب أن أخبرک لم افترق صاحباک؟ قلت: لا قال: أفتحب أن أخبرک لم سماک أهلک محمداً؟ قلت: لا، قال: أما إنک قد بعثت خادمک یشتری لک سمکاً بدرهمین قال: فنهضنا عنه. قال أبو نعیم وکان المغیرة قد نظر فی السحر»(2).

فی الطبری فی ذکر خبر مقتل المغیرة بن سعید ونفر معه: «أما المغیرة بن سعید فإنّه کان - فیما ذکر - ساحراً. حدثنا ابن حمید قال حدثنا جریر عن الأعمش قال: سمعت المغیرة بن سعید یقول: لو أردت أن أحیی عاداً أو ثموداً وقروناً بین ذلک کثیراً لأحییتهم».

ویحتمل أن تکون هذه الأمور کرامات صدرت منهم أیّام استقامتهم إلّاأنّ العامّة تقلب تلک الأمور عن وجهها وکأنّها أفعال شعبذیّة وترائیات تخیّلیة فی العین من قبیل الأمور السحریة کما طعنوا بذلک علی جابر بن یزید الجعفی، وإن

ص:252


1- (1) . تجارب الأمم 3 / 103، تاریخ الطبری 7 / 128 .
2- (2) . تاریخ الطبری 7 / 129 .

کان جابر لا یقاس به هؤلاء حتی فی ایام استقامتهم. وأما القول الأخیر فلعلّه مفتری من العامة علیه.

ص:253

8 - حقیقة ما نسب إلی ابن سبأ من دعوی الربوبیة فی علی علیه السلام

اشارة

1 - روی الکشی فی صحیحة أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

لعن اللّه عبد اللّه بن سبأ أنه ادّعی الربوبیة فی أمیر المؤمنین علیه السلام کان و اللّه أمیر المؤمنین علیه السلام عبداً للّه طائعاً الویل لمن کذب علینا وإن قوماً یقولون فینا ما لا نقوله فی أنفسنا(1).

2 - وروی أیضاً عن محمد بن قولویه القمّی قال: حدّثنی سعد بن عبد اللّه بن أبی خلف القمی قال حدثنی محمد بن عثمان العبدی(2) عن یونس بن عبد الرحمن عن عبد اللّه بن سنان قال: حدثنی أبی عن أبی جعفر علیه السلام :

إنّ عبد اللّه بن سبأ کان یدّعی النبوة ویزعم أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام هو اللّه تعالی عن ذلک فبلغ ذلک أمیر المؤمنین علیه السلام فدعاه وسأله فأقرّ بذلک وقال: نعم أنت هو وقد کان ألقی فی روعی أنّک أنت اللّه وأنّی نبیّ. فقال له أمیر المؤمنین علیه السلام : ویلک قد سخر منک الشیطان فارجع عن هذا ثکلتک أمک وتب. فأبی فحبسه واستتابه ثلاثة أیام فلم یتب فأحرقه بالنار وقال: إنّ الشیطان استهواه فکان یأتیه ویلقی فی روعه ذلک(3).

أقول: الظاهر إنّ نسبة ادعاء التألیه فی علی لعبداللّه بن سبأ ناشئة من أسباب ملتبسة عدیدة:

ص:254


1- (1) . الکشی / رقم 172 .
2- (2) . والصحیح محمد بن عیسی العبدی والظاهر وقوع التصحیف فی الکشی.
3- (3) . الکشی / رقم 170 .
السبب الأول: الجهل بالمقامات الغیبیة

فلعلّ ما فی هذین الصحیحتین وکذا سائر ما ورد عنهم علیهم السلام من نسبة ادّعاء ابن سبأ الربوبیّة فی أمیر المؤمنین علیه السلام والنبوّة فی حقّ نفسه هو ادعاء النیابة الخاصّة والبابیّة أی مقام الباب لنفسه لا التألیه حقیقة، وإنّما عبروا بذلک مجاراة للعامة فی تسمیة ذلک تألیهاً. إذ مقام النیابة الخاصّة ینطوی علی ادّعاء أنّه مُلهَم ومحدَّث - بالفتح - من قبل أمیر المؤمنین علیه السلام فالمحدِّث والملهِم - بالکسر - هو أمیر المؤمنین علیه السلام .

وقد ورد نظیر ذلک فی تعریف مقام سلمان کما رواه الکشی عن الصادق علیه السلام أنّه فی الحدیث الذی روی أن سلمان کان محدّثاً قال:

إنّه کان محدّثاً عن إمامه لا یجوز به لأنّه لا یحدّث عن اللّه عزوجل إلّاالحجّة(1). وقد ورد أیضاً فی وصف سلمان أنّه باب علم الوصی(2).

و هذا المقام ادّعاه عبد اللّه بن سبأ کذباً علی أمیر المؤمنین علیه السلام إلّاأنّ حقیقة هذا المقام لیست هو دعوی النبوّة من قبل عبد اللّه بن سبأ ولا ادّعاء الألوهیّة فی علی علیه السلام ، لأنّ هذا الإلهام فی النیابة الخاصّة لیس من سنخ النبوّة ولا من سنخ العلم اللدنی فی الإمامة بل هو من درجات الإلهام النازلة عن ذلک. وعلی أیّ تقدیر فادّعاء هذا المقام لیس فی الحقیقة ادّعاء للنبوّة، ولکن حیث إنّ مثل هذا المقام ومعناه لم یکن بیّناً واضحاً فی الصدر الأول لا سیما لدی جمهور العامّة الذین لا یعرفون من المقامات الغیبیّة إلّاالنبوّة وأیّ مقام آخر یحسبون أنّه کذلک، فمن ثمّ أطلقوا علی ادعاء عبد اللّه بن سبأ أنه ادّعاء النبوّة وأنّ کون علیّ ملهماً هو ادّعاء ألوهیة علیّ علیه السلام فجری وشاع هذا الطعن علی عبداللّه بن سبأ.

وهذه الأحادیث صدرت منهم علیهم السلام مجاراة لما عند العامّة، وإن کانت دعوی

ص:255


1- (1) . رجال الکشی / رقم 34 .
2- (2) . رجال الکشی / رقم 33 .

عبداللّه بن سبأ فی الأصل کاذبة أیضاً، وسیأتی توضیح التقیة مجاراة فی نهایة المطاف. ونحن لا ننکر صدور الذم والتبرّی منهم علیهم السلام تجاه عبد اللّه بن سبأ بسبب انحرافه وشططه، إلّاأنّ الکلام هو فی تعیین جهة انحرافه فی الحقیقة لا بسبب ما اشتهر عند جمهور العامة.

قال فی البدء والتاریخ: «أما السبائیة فإنّهم یقال لهم الطیارة ... ومن الطیارة قوم یزعمون أن روح القدس کانت فی النبی کما کانت فی عیسی ثم انتقلت إلی علی ثم إلی الحسین ثم کذلک فی الأئمة، وعامة هؤلاء یقولون بالتناسخ والرجعة ومنهم من یزعم أنّ الأئمة أنوار من نور اللّه تعالی وأبعاض من أبعاضه وهذا مذهب الحلاجیة»(1).

و هذا النصّ التاریخی یبیّن بوضوح أکبر ویشهد علی ما ادّعیناه من أن جملة طعون العامّة وحکمهم بالکفر والزندقة علی هذه الجماعات ناشئ من تقاصر العامّة عن فهم أولیّات معارف القرآن وعقائد أهل البیت علیهم السلام ، ککون الإمامة علماً لدنیاً وارتباطاً غیبیّاً وهو یغایر النبوّة، وأنّ مریم تتنزّل علیها الملائکة وجبرائیل وإن لم تکن نبیة ولکنها حجة مصطفاة صدّیقة، فضلاً عن أسرار وغوامض معارف أهل البیت علیهم السلام فروح القدس الذی یصرّح القرآن بأنّه أیّد اللّه به نبیّه عیسی(2)ونزّله اللّه علی سیّد أنبیائه(3) یتوهّمون منه أنه انتقال روح فی أشخاص متعدّدین فهو نمط من التناسخ عندهم.

کما أنّ مفهوم عقیدة الرجعة یظنون منها أنّها تعنی عدم الموت والبقاء حیّاً إلی وقت الرجعة، کما أنّ القول بإسناد بعض الأفعال لأئمة أهل البیت علیهم السلام التی أسندها القرآن إلی بعض الأنبیاء یتوهّمون منها أنّها تألیه لأئمة أهل البیت علیهم السلام .

ص:256


1- (1) . البدء والتاریخ 5 / 130 .
2- (2) . البقرة / 253 .
3- (3) . النمل / 102 .

فالأزمة ههنا تکمن فی الفهم مضافاً إلی شدّة غضبهم علی أمثال عبد اللّه بن سبأ ومغیرة بن سعید وغیرهما ممن یتشدّد فی الولاء لأهل البیت علیهم السلام والتبرّی من الشیخین، فإنّ ذلک یزید من الدواعی لدی علماء أهل السنة ورواتهم باختلاق الطعون والتکفیر لهؤلاء بأدنی ذریعة، کیف وهم لا یتصوّرون حقیقة هذه المعارف ویتعاظمونها أن تکون ثابتة لأئمة أهل البیت علیهم السلام . فهذا الحال یشکّل الفرصة المناسبة لهم لإصدار الطعن والافتراءات والتکفیر والزندقة وترویجه ضدّ هؤلاء، لا سیما أنّ مثل عبد اللّه بن سبأ ومغیرة بن سعید کانوا مفرطین فی إشعال الجدل والمواجهة مع العامّة ففی مقابل ذلک یشتدّ تشنیع العامّة لدیهم إلی درجة عبّأوا الرأی العام ضدّهم، حتی وصل الأمر إلی تصدیق عامّة الشیعة بتلک الطعون حول هؤلاء وکذا تصدیق فقهاء رواة الإمامیة لتلک الطعون علی أمثال عبد اللّه بن سبأ والمغیرة بن سعید وأبی الخطاب.

بل وصل الأمر إلی تصدیق مثل المفضل بن عمر الجعفی وهو من أصحاب المعارف وکان له انفتاح مع أبی الخطاب أیام استقامته.

وممّا کرّس هذه الطعون وقوع الانحراف لدی أتباع مثل عبد اللّه بن سبأ والمغیرة وأبی الخطاب وکل ذلک کان بسبب تطرّف عبد اللّه بن سبأ والمغیرة فی نشر تلک المعارف وإذاعتها والحدّة فی جانب الموقف السیاسی.

السبب الثانی: التداعیات الحکومیة لإفشاء غوامض المعارف وإظهار البراءة جهاراً

ویحتمل أن یکون معنی الکذب الذی ارتکبه عبد اللّه بن سبأ لیس فی ادعاء النیابة فحسب بل هو فی إظهار جملة من الأسرار أو الحقائق التی لا یتحمّلها جمهور العامة نظیر الإجهار بعقیدة وجود النصّ الإلهی علی إمامة أمیرالمؤمنین علیه السلام ووصایته أمام الملأ العام من جمهور التابعین حیث قد أخفی عن الکثیر منهم ما کان جلیّاً فی الصدر الأوّل من الصحابة، و ذلک بفعل سیاسات الخلفاء بعد النبی حیث منعوا من تدوین الحدیث النبوی وأحرقوا مدوّنات

ص:257

الصحابة من الحدیث النبوی.

وکذلک إجهاره بالبراءة من أبی بکر وعمر أو اللعن و هذا لم یتحمّله الجوّ العام آنذاک. کیف؟ وقد ذکر فی بعض الروایات أنّ أمیر المؤمنین علیاً علیه السلام أراد أن یمنع فی المسجد صلاة التراویح فتعالت صیحات: واعمراه واعمراه(1)، وقال علیه السلام :

قد عملت الولاة قبلی أعمالاً خالفوا فیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم متعمّدین لخلافه ناقضین لعهده مغیرین لسنته لو حملت الناس علی ترکها وحوّلتها إلی مواضعها وإلی ما کانت فی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم لتفرق عنی جندی حتی أبقی وحدی أو قلیل من شیعتی الذین عرفوا فضلی وفرض إمامتی من کتاب اللّه عزوجل وسنّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم ...(2).

و هذا ممّا یدلّ علی استحکام التقیّة وشدّة قبضة الرأی المخالف بحیث کان إظهار الحقائق بتسرّع وحدّة یوجب الإرباک الشدید وردّة الفعل المعاکسة بقوّة، وزیادة التعصّب والعناد واللجاج بدل استقرار جوّ التحاور والبحث العلمی عن الحقیقة.

ومما یدعم استفادة ذلک من الروایات ما نقله النوبختی فی فرق الشیعة:

«السبائیة أصحاب عبد اللّه بن سبأ وکان ممن أظهر الطعن علی أبی بکر وعمر وعثمان والصحابة وتبرّأ منهم وقال: إنّ علیاً علیه السلام أمره بذلک، فأخذه علی فسأله عن قوله هذا فأقرّ به فأمر بقتله فصاح الناس إلیه یا أمیر المؤمنین أتقتل رجلاً یدعو إلی حبّکم أهل البیت وإلی ولایتک والبراءة من أعدائک فصیّره إلی المدائن.

وحکی جماعة من أهل العلم من أصحاب علی علیه السلام أنّ عبد اللّه بن سبأ کان یهودیاً فأسلم ووالی علیّاً علیه السلام وکان یقول وهو علی یهودیته فی یوشع بن نون بعد موسی علیه السلام بهذه المقالة فقال فی إسلامه بعد وفاة النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی علی بمثل ذلک، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علی علیه السلام وأظهر البراءة من أعدائه وکاشف

ص:258


1- (1) . وسائل الشیعة / أبواب نافلة شهر رمضان / باب 10 / ح 2 .
2- (2) . الکافی 8 / 59 / ح 21 .

مخالفیه، فمن هناک قال من خالف الشیعة أنّ أصل الرفض مأخوذ من الیهودیّة»(1).

وقد نقل الکشی عبارة النوبختی مع تغییر فی بعض العبارات.

ویستفاد من کلام النوبختی أنّ منشأ الطعن علی عبد اللّه بن سبأ هو الجهار بالطعن علی أبی بکر وعمر وعثمان والبراءة منهم، وقد مرّ أنّ الأجواء لم تکن تتحمّل مثل هذا الموقف و هذا ممّا یجدّد ردّة الفعل بقوّة. کما أنّ هذا النص الذی نقله النوبختی یبیّن أنّ الکذب الذی قام به عبد اللّه بن سبأ علی علیّ هو فی ادّعائه المأموریّة الخاصّة من قبل علی والکذب الآخر علی علیّ علیه السلام أنّه أمره بالإجهار بالبراءة من الخلفاء الثلاثة، و هذا یدفع ما نسب إلی ابن سبأ الألوهیة فی علی، کیف وهو یجاهر بوصایة علی لرسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم فأین الألوهیّة من ذلک؟ کما أنّه لیس فی ذلک ادعاء من ابن سبأ للنبوّة فی حقّ نفسه وإنّما ادعائه بأنّ علیاً أمره بأمر خاصّ وأنّه مأمور یشیر إلی ادّعائه النیابة الخاصّة المتضمّنة لدعوی الإلهام من الإمام. و هذا شاهد لحمل الصحیحتین المتقدّمتین وأمثالها من الروایات العدیدة علی مجاراة العامة فی طعنهم علی عبد اللّه بن سبأ تقیة وإن کان الطعن الحقیقی منهم علیهم السلام علی عبد اللّه بن سبأ یغایر ما طعن عامة الجمهور علی عبد اللّه بن سبأ.

وممّا یدعم عدم ادعاء عبد اللّه بن سبأ الألوهیّة فی علی وعدم ادّعائه النبوّة فی نفسه، وأنّ منشأ الطعن علیه هو مجاهرته بالبراءة والطعن علی الشیخین فیکون تارکاً للتقیّة فی تلک الحقبة الشدیدة ولا دین لمن لا تقیة له هو ما رواه الطبری فی تاریخه قال:

«کان عبد اللّه بن سبأ یهودیّاً من أهل صنعاء أمّه سوداء فأسلم زمان عثمان ثم تنقّل فی بلدان المسلمین یحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز، ثم البصرة ثم الکوفة ثم

ص:259


1- (1) . فرق الشیعة / 22 .

الشام فلم یقدر علی ما یرید عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتی أتی مصر وقال لهم فیما یقول لعجب ممّن یزعم أنّ عیسی یرجع ویکذّب بأنّ محمّداً یرجع وقد قال اللّه عزوجل: «إِنَّ الَّذِی فَرَضَ عَلَیْکَ الْقُرْآنَ لَرادُّکَ إِلی مَعادٍ» فمحمد أحقّ بالرجوع من عیسی فقبل ذلک عنه ووضع لهم الرجعة فتکلّموا فیها.

ثم قال لهم بعد ذلک إنّه کان ألف نبی ولکل نبی وصی وکان علی وصی محمد خاتم الأنبیاء وعلی خاتم الأوصیاء ومن أظلم ممن لم یجز وصیّة رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم ووثب علی وصی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وتناول أمر الأمّة إنّ عثمان أخذها بغیر الحقّ و هذا وصی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم »(1).

و هذا النصّ من الطبری هو الآخر اعتراف بأنّ منشأ الطعن عند العامّة علی عبد اللّه بن سبأ هو جهاره وإفشائه بوصیة الرسول لعلی بعده فی الإمامة وهو الأمر الذی أخفته سلطة الخلافة وکثیر من الصحابة علی جیل التابعین.

فکشف الملفّات السابقة مما یثیر حفیظة الجمهور ضدّه، کما أنّ طعنه علی الخلفاء الثلاثة هو الآخر شدّد من طعن العامّة علی عبد اللّه بن سبأ. وأین دعوی الوصایة من الألوهیّة فی علی؟ و أین البراءة من الخلفاء من ادّعاء النبوّة؟ إذ البراءة منهما علّله ابن سبأ بنبذهما وصیّة رسول اللّه لعلی. وقد اعترف الطبری بأنّ ابن سبأ لم یؤثّر علی أهل الشام، أی أنّه استطاع أن یؤثّر فی البلدان الأخری کالبصرة والکوفة وحجاز ومصر ولا یعقل أن یکون تأثیره فی تلک البلدان فی ادعاء الألوهیة لعلی والنبوّة لنفسه، إذ الأمر الذی لا یقبله أهل الشام ویقبله سائر الأمصار لیس إلّاموالاة علی والبراءة من أعدائه، فإنّ أهل الشام عرفوا بعداوتهم لعلی وأهل البیت بسبب إضلال معاویة وبنی أمیّة لهم وتحریفهم عن مودّة أهل البیت علیهم السلام .

ومما یدعم ذلک أیضاً ما رواه ابن عساکر فی تاریخه قال:

ص:260


1- (1) . تاریخ الطبری 4 / 340 .

کان أصله من الیمن وکان یهودیّاً فأظهر الإسلام وطاف بلاد المسلمین لیلفتهم عن طاعة الأئمة ویدخل بینهم الشرّ ودخل دمشق لذلک فی زمن عثمان ...

وحدّثنا عمرو بن مرزوق قال: حدّثنا شعبة عن سلمة بن کمیل عن زید بن وهب قال: قال علی بن أبی طالب علیه السلام : مالی ولهذا الحمیت الأسود یعنی عبد اللّه بن سبأ کان یقع فی أبی بکر وعمر ثم روی فی ذلک روایات عدیدة فیها تبرّی عبد اللّه بن سبأ من أبی بکر وعمر وأنّه کان یجاهر بنسبة ذلک إلی أمیر المؤمنین علیه السلام وأنّ علیاً علیه السلام أنکر علیه ذلک فصیّره إلی المدائن وقال لا تساکنّی فی بلدة أبداً. ثم قال ابن عساکر: وله أتباع یقال لهم السبائیّة یعتقدون إلهیّة علی بن أبی طالب وقد أحرقهم علی علیه السلام بالنار فی خلافته(1).

و هذا النصّ هو الآخر اعتراف بأنّ عبد اللّه بن سبأ لم تکن دعواه الألوهیة فی علی ولا النبوّة فی نفسه وإنّما جاهر بالولایة لعلی والتبرّی من أعدائه بدون أن یراعی موازین التقیّة مما أربک تدبیر الأمر علی أمیر المؤمنین علیه السلام .

السبب الثالث: انحراف أتباع عبد اللّه بن سبأ

فإنّ نصّ ابن عساکر کالصریح فی أنّ أتباع ابن سبأ ادّعوا الإلهیّة فی علی و هذا نظیر الانحراف الذی فشا فی أتباع المغیرة من المغیریة وأتباع أبی الخطاب من الخطابیة بسبب إذاعة المغیرة وابن أبی الخطاب لأسرار المعارف فی مقامات أهل البیت علیهم السلام وکرامات اللّه لهم مما لا یستوعبه ولا یتحمّله عامّة الناس فینعکس لهم المعنی بنحو مقلوب ومعکوس بعید عن الحقیقة والواقع فیتوهّموا فی ذلک الألوهیّة فی الأئمة علیهم السلام فتکون عملیة إذاعة وإفشاء ونشر تلک المعارف إضلال للعامّة بدل أن تکون هدایة لهم.

ولأجل ذلک تکون إذاعة تلک الأسرار کذب علی الأئمة لأن معانیها تنطبع

ص:261


1- (1) . تاریخ دمشق 4 / 22 - 25 .

بصورة مکذوبة فی أذهان العامة و هذا هو المنشأ الثانی لنسبة ادّعاء الألوهیّة فی علی والأئمّة لعبد اللّه بن سبأ والمغیرة وأبی الخطاب وأمثالهم.

شواهد أخری للتقیة فی الروایات الصادرة فی عبد اللّه بن سبأ

و شاهد آخر علی لحن التقیة فی الروایات الصادرة عنهم علیهم السلام أنّه قد ورد عنهم فی روایات عدیدة إحراق علی علیه السلام لعبد اللّه بن سبأ، مع أنّ الذی ورد فی نصّ النوبختی فی فرق الشیعة وجملة من مصادر العامّة أنّه علیه السلام همّ بإحراقه ولکن جماعة تشفّعوا فیه فأطلقه ونفاه إلی المدائن وقد ذکر ابن أبی الحدید أن ابن عباس تشفّع فی عبد اللّه بن سبأ(1).

وقد رویت روایات عدیدة عنهم علیهم السلام من أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام أحرق جماعة ادّعوا فیه الربوبیّة کجماعة من الزطّ بعد حرب الجمل إلّاأنّه قتلهم بدخان تلک النار(2). وقد مرّ فی مصادر السنّة روایة أنّ علیاً علیه السلام أحرق جماعة من أتباع عبد اللّه بن سبأ.

إلّاأنّه قد روی الشیخ الجلیل حسین بن عبد الوهاب المعاصر للمفید رحمه الله فی کتاب عیون المعجزات نقلاً من کتاب الأنوار تألیف أبی علی الحسن بن همّام حدّث العباس بن الفضل قال حدّثنا موسی بن عطیة الأنصاری قال حدثنا حسّان بن أحمد الأزرق عن أبی الأحوص عن أبیه عن عمّار الساباطی قال: قدم أمیر المؤمنین علیه السلام فی المدائن، ثم ذکر فیها معجزة تکلّم أمیر المؤمنین علیه السلام مع الجمجمة ونطقها جواباً له فانصرف القوم الذین کانوا معه من أهل ساباط إلی أهالیهم وأخبروهم بما کان وبما سمعوا من الجمجمة، فاضطربوا واختلفوا فی معنی أمیر المؤمنین علیه السلام وحضروه وقال بعضهم فیه مثل ما قال النصاری فی

ص:262


1- (1) . شرح نهج البلاغة 5 / 6 .
2- (2) . رجال الکشی / رقم 175 .

المسیح و مثل ما قال عبد اللّه بن سبأ وأصحابه. فقال له أصحابه: فإن ترکتهم علی هذا کفر الناس.

فلما سمع ذلک منهم قال:

ما تحبّون أن أصنع بهم؟ قال: تحرقهم بالنار کما أحرقت عبد اللّه بن سبأ وأصحابه. فأحضرهم وقال:

ما حملکم علی ما قلتم؟ قالوا:

سمعنا کلام الجمجمة النخرة ومخاطبتها إیاک ولا یجوز ذلک إلّاللّه تعالی فمن ذلک قلنا ما قلنا. فقال علیه السلام :

ارجعوا إلی کلامکم وتوبوا إلی اللّه، فقالوا: ما کنا نرجع عن قولنا فاصنع بنا ما أنت صانع. فأمر أن تضرم لهم النار فحرقهم فلما احترقوا قال:

اسحقوهم واذروهم فی الریح فسحقوهم وذروهم فی الریح فلما کان یوم الثالث من إحراقهم دخل إلیه أهل ساباط وقالوا: اللّه اللّه فی دین محمد صلی الله علیه و آله و سلم إنّ الذین أحرقتهم بالنار قد رجعوا إلی منازلهم أحسن ما کانوا. فقال علیه السلام :

ألیس قد أحرقتموهم بالنار وسحقتموهم وذریتموهم فی الریح؟ قالوا: بلی، قال أحرقتهم و اللّه أحیاهم.

فانصرف أهل ساباط متحیّرین(1).

ورواه أیضاً ابن جریر الطبری فی نوادر المعجزات(2) وحکاه السید هاشم البحرانی عن السید المرتضی هذه الروایة(3).

وروی هذه الروایة شاذان بن جبرئیل فی کتابه الفضائل وذکر أنّهم قالوا: «لولا أنه الرب وإلّا کیف یحیی الموتی» نعم لم یذکر شاذان فی ذیل الروایة من عود هؤلاء أحیاء.

وعلی تقدیر صحّة مضمون الذیل یتبیّن أنّه لم یکن دعواهم تألیه أمیر المؤمنین وإنما کانت منهم إساءة أدب فی کیفیة نسبة الفعل وإسناد الصفة من لزوم تقییدها وإنما بإذن اللّه.

ص:263


1- (1) . عیون المعجزات / 11، عنه مستدرک الوسائل 18 / 168، کتاب الحدود/باب 5/ ح 1.
2- (2) . نوادر المعجزات / 21 .
3- (3) . مدینة المعاجز 1 / 224 .

ولربما کان غلوّهم فی التسمیة؛ وممّا یشهد لهذا الحمل فی الروایات ما رواه الحضینی فی الهدایة الکبری عن الصادق علیه السلام :

وأما الغالی فلیس قد اتخذنا أرباباً من دون اللّه وإنّما اقتدی بقولنا اجعلونا عبیداً مربوبین مرزوقین فقولوا فی فضلنا ما شئتم فلن تدرکوا. قال المفضل: یا مولای إنّ الغالی من ذکر أنکم أرباباً عند الشیعة من دون اللّه قال:

ویحک یا مفضل ما قال أحد فینا إلّاعبد اللّه بن سبأ وأصحابه العشرة الذین حرقهم أمیر المؤمنین علیه السلام فی النار بالکوفة وموضع إحراقهم یعرف بصحراء الاخدود وکذا عذبهم أمیر المؤمنین بعذاب اللّه وهو النار عاجلاً وهی لهم آجلاً. ویحک یا مفضل إنّ الغالی فی محبّتنا نرده إلینا ویثبت ویستجیب والمقصّرة تدعوه إلی الإلحاق بنا والإقرار بما فضّلنا اللّه به فلا یثبت ولا یستجیب ولا یلحق بنا(1).

و هذا الحدیث وإن تضمّن مجاراته علیه السلام لما توهّمه المفضّل بن عمر من أن معنی الغلو ادّعاء الربوبیة فیهم وهو الشائع عند العامة إلّاأنّ تخصیصه علیه السلام ذلک لعبد اللّه بن سبأ ونفیه عن بقیّة الغلاة هو الآخر فیه إشارة إلی تخطئة هذا التوهّم وهذه النسبة للغلاة وإنّ منشأ هذا التوهّم والطعن علی الغلاة بذلک هو إسنادهم هذه الأفعال العظیمة والصفات الکبیرة إلیهم علیهم السلام ممّا یوهم لدی الطرف المقابل ادّعاء الربوبیة لتعاظم هذه الصفات والأفعال عند عامة الناس.

السبب الرابع: القول بالرجعة

ثمّ إنّه یظهر من نصّ النوبختی والطبری المتقدّمین وکذلک نصوص العامّة أنّ أحد مناشئ الطعن بالغلو علی عبد اللّه بن سبأ هو جهاره الشدید بعقیدة الرجعة، وعقیدة الرجعة فی نفسها تمثّل إدانة صارخة لمشروع السقیفة والخلفاء الثلاثة وأحقّیة أهل البیت علیهم السلام وأنّ الحق الذی غصب منهم یرجع إلیهم و هذا ما لا یتحمّله جمهور العامّة.

ص:264


1- (1) . الهدایة الکبری / 432 .

وقد تشدّد عبد اللّه بن سبأ فی نشر روایات الرجعة إلی درجة حاول أرباب الجرح والتعدیل والتراجم من أهل السنة أن ینسبوا هذه العقیدة القرآنیة إلی عبد اللّه بن سبأ وأنّه هو الذی أسّسها.

فقد ذکر ابن عساکر فی تاریخ مدینة دمشق لمّا بویع علی خطب الناس فقام إلیه عبد اللّه بن سبأ فقال: أنت دابّة الأرض قال: فقال

اتّق اللّه فقال: أنت الملک فقال له:

اتق اللّه فقال له: أنت خلقت الخلق وبسطت الرزق. فأمر بقتله، فاجتمعت الرافضة وقالت: دعه وأنفه إلی ساباط المدائن(1).

ولا یخفی ما فی هذا النقل من التدافع فإن توصیف عبد اللّه بن سبأ بأنّ أمیر المؤمنین علیه السلام هو دابّة الأرض لا ینسجم مع دعوی التألیه فی علی علیه السلام . وقد ورد فی طرق أهل البیت بل حتی فی طرق العامة أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام کان یخبر أصحابه وخواصّه أنّه المراد من دابّة الأرض فی قوله تعالی: «وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَیْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُکَلِّمُهُمْ أَنَّ النّاسَ کانُوا بِآیاتِنا لا یُوقِنُونَ »2.

وهی من مقامات الإمامة ومن أکبر معالم الرجعة؛ وقد روی الفریقان فی شأن الدابّة أنّ معها عصا موسی وخاتم سلیمان وأنّها تجلی وجه المؤمن بنور الإیمان وتختم بالخاتم علی خرطوم المنافق بالنفاق، ممّا یشیر إلی دور دابّة الأرض فی تکامل تخلیق طور الإنسان کمالاً أو انطباعاً. وأنّ الأرض تفتح برکاتها بمجیء الدابة فینبسط الرزق للعباد. و هذا المعنی رواه الفریقان ولیس فیه نحو من تألیه علی؛ إلّاأنّ هذه المعانی لما کانت یثقل وعیه عند العامة بشکلها الصحیح تنطبع لدیهم أنّها من أفعال الألوهیّة. نعم، ظاهر روایة ابن عساکر هو ردّ أمیر المؤمنین لعبد اللّه بن سبأ من إضلال الناس بإفشاء ما لا یحتملوه مما یعکس لدیهم معانی باطلة بغیر ما للمعنی من حقیقة. و هذا هو الشذوذ والشطط الذی وقع فیه عبد اللّه

ص:265


1- (1) . تاریخ مدینة دمشق 29 / 10 .

بن سبأ والمغیرة وأبو الخطاب وأمثالهم مما ولّد لدی أتباعهم وأتباع أتباعهم انحراف التألیه فی الأئمة علیهم السلام .

وممّا یشهد علی إصرار عبد اللّه بن سبأ لنشر هذه الغوامض من المعارف التی منها الرجعة فی جیل التابعین الأوّل واشتهاره بهذا الأمر ما ذکره ابن حبّان فی کتاب المجروحین فی ترجمة جابر بن یزید الجعفی أنّه کان سبئیّاً من أصحاب عبد اللّه بن سبأ وکان یقول إنّ علیاً علیه السلام یرجع إلی الدنیا(1).

فتری أنّ جابر بن یزید الجعفی رغم استقامته وجلالته حتی عند کبار العامّة حیث یطرون علیه بالتعظیم والثناء إلّاأنّ ابن حبّان طعن علیه بأنّه تابع لابن سبأ فی عقیدة الرجعة.

والملفت للنظر أنّ ابن حبّان یعرّف السبائیّة بعقیدة الرجوع والرجعة لا بتألیه علی علیه السلام . ویاتری هل یری ابن حبّان وأمثاله من روّاد الجرح والتعدیل عند الجمهور رجوع عیسی بن مریم إلی الأرض هو تألیه لعیسی بن مریم، مع أنّ هذه العقیدة نصّ القرآن الکریم.

وأیضاً ذکر فی ترجمة الکلبی قال: «و کان الکلبی سبئیاً من أصحاب عبد اللّه بن سبأ من أولئک الذین یقولون إنّ علیاً لم یمت وأنّه راجع إلی الدنیا قبل قیام الساعة فیملؤها عدلاً کما ملئت جوراً»(2).

ونظیر ذلک ما ذکره النوبختی حیث قال: «وفرقة منهم قالت إنّ علیاً لم یقتل ولم یمت ولا یقتل ولا یموت حتی یسوق العرب بعصاه ویملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت ظلماً وجوراً ... وهذه الفرقة تسمّی السبئیة أصحاب عبد اللّه بن سبأ»(3).

ص:266


1- (1) . کتاب المجروحین 1 / 208 .
2- (2) . کتاب المجروحین 2 / 253 .
3- (3) . فرق الشیعة / 22 .

و هذا التفسیر الخاطئ للرجعة بعدم الموت إمّا ناشئ من شطط عبد اللّه بن سبأ فی التأویل وإصابة المعنی الحقیقی للرجعة أو من خطأ ارتکبه أتباعه حیث شطّ بهم المقال أو أنّه ناشیء من العامّة فی معنی الرجعة وظنّهم أنّ لازم القول بالرجوع هو عدم الموت.

والظاهر أنّ جمهور أهل السنة یتداعی لدیهم وهماً أنّ لازم القول بالرجعة هو التألیه بظنّ أن الرجعة تستلزم عدم الموت والذی لا یموت هو الحی الذی لا یموت وهو الباری تعالی. و هذا الوهم الفاسد فی معنی الرجعة نظیر ما توهّمه النصاری فی معنی رجوع عیسی بن مریم وعدم موته أنّ لازمه تألیه النبی عیسی.

السبب الخامس: القول بالعلم اللدنی لعلی

حکی فی میزان الاعتدال عن الجوزجانی قوله فی عبد اللّه بن سبأ أنّه «زعم أنّ القران جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علی فنهاه علی بعد ما همّ به»(1). وقال قبل ذلک عنه أنّه من غلاة الزنادقة ضال مضلّ.

فیظهر من کلامه أنّ علماء العامّة نسبوا التألیه إلی عبد اللّه بن سبأ لجملة من الأسباب التی تقدّمت والتی مرّ أنّها لا صلة لها بالتألیه وإنّما عدم إدراکهم لحقیقتها توهّموا أنّها قول بالتألیه.

کذلک الحال فی هذا الموضع فظنّوا أنّ القول بالعلم اللدنی لتأویل القرآن والکتاب وباطنه هو تألیه لعلی علیه السلام وزندقة و هذا ما ینبغی للباحث أن یکون علی یقظة منه والتثبّت من طعونهم، فإنّها مبنیّة علی رؤی کلامیّة ذات بناء سطحی لا تعی ببصیرة ثاقبة دقائق الأمور. و هذا ما نبّهنا علیه مراراً فی الجزء الثانی من بحوث مبانی علم الرجال.

ص:267


1- (1) . میزان الاعتدال 2 / 426 .

9 - معنی التقیة مجاراة

وهی نحو من التقیّة یلجأ إلیها أئمة أهل البیت علیهم السلام نتیجة الجور الضاغط عند العامة والجمهور، لا سیما فی ما تسالموا علیه إلی درجة تفشّی هذا التسالم إلی قاعدة ومشهور المؤمنین من الخاصّة. کما فی موارد کثیرة من نسبتهم أقوالاً للرسول صلی الله علیه و آله و سلم افتراء علیه وکذا أفعال فی سیرته أو فی أسباب نزول الآیات أو حوادث من سیرته صلی الله علیه و آله و سلم وکذا الحال فی أمیر المؤمنین علیه السلام وبقیّة الأئمة المتقدّمین علیهم السلام بل فی أشخاص آخرین کذلک، و ذلک بما تمتلکه سلطة الخلافة من أسباب الإعلام والدعایة وجماعات من أصحاب الأقلام وفنون الأدب من الشعر والقصص، فیتّبعون الرأی العام ویصوّرون الأمور والأحداث کما یروق لهم.

وقد ذکر غیر واحد من الکتّاب والباحثین ومنهم ابن أبی الحدید عمّا تفعله السلطات من قلب الحقائق أو طمسها والتعتیم علیها أو تزییف وقائع لا أصل لها ولا وجود. وأمام هذا التسالم المزیّف الذی لا أصل له فی الواقع والحقیقة یضطرّ أهل البیت علیهم السلام لنسبة تلک الأقوال أو الأفعال إلی الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أو إلی الآخرین مجاراة لهم فی الأحادیث الصادرة عنهم علیهم السلام اضطراراً لإیصال معانی أخری أرادوا علیهم السلام إیصال فهمها للسامع أو السائل.

نظیر ما هو ذائع وشائع لدینا فی هذا الیوم من محاربة ومقاومة صلاح الدین الأیوبی للصلیبیّین، مع أنّ المستندات التاریخیّة التی کشف عنها غیر واحد من الباحثین تشیر إلی أنّ المحارب الحقیقی للصلیبیین کانوا الفاطمیین، ومجیء صلاح الدین وتقویضه لدولة الفاطمیین إنما ساهم فی تضعیف المقاومة

ص:268

والمحاربة للصلیبیین. بل کانت تربطه بالصلیبیین مفاوضات وتوافقات سرّیة وراء ستار. فلا یجرء کاتب أن یکشف الحقیقة وإلّا لشنّع علیه، فقد یضطرّ قائل أو متحدّث وکاتب أن یسلّم بهذا الادّعاء فی صلاح الدین و ذلک توصّلاً إلی تکدیس وتأکید روحیّة المقاومة والدفاع أمام الأعداء.

وقد مرّ فی أبی الخطاب أنّ جملة من المعارف التی کان یرویها عنهم علیهم السلام إلی کبار رواة الشیعة کانت صحیحة مستقیمة، إلّاأنّه لما کانت أذهان جملة من کبار الرواة لا تستوعب حقیقة تلک المعارف وکان مرتکزاً لدیهم أنّ هذا تألیهاً وانحرافاً کانوا علیهم السلام یتبرّؤون من تلک المعانی والمضامین ویستنکرونها.

ومرادهم علیهم السلام إنما هو استنکار ونفی المعنی الخاطئ الذی یتداعی فی ذهن الرواة من تلک الأحادیث الغامضة المضمون. وکان تفنید المعنی الخاطیء لدیهم علیهم السلام أهمّ من تبرئة الأشخاص من الطعون التی تنسب إلی أولئک الأشخاص.

وقد روی الکشی بسند صحیح عن عمر بن زید عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

زرارة وبرید بن معاویة ومحمد بن مسلم والأحول أحبّ الناس إلی أحیاء وأمواتاً ولکنّهم یجیئونی فیقولون فلا أجد بداً من أن أقول(1).

وهذه الصحیحة وإن کانت فی الأرکان الأربعة ولا یقاس بهم بقیّة الرواة الأجلاء فضلاً عن عبد اللّه بن سبأ والمغیرة وأبو الخطاب ممّن قد شذّوا عن وصایا أهل البیت علیهم السلام وتوازن منهاجهم، إلّاأنه إجمالاً مبیّن أن الأئمة علیهم السلام کانوا یبتلون بجو ضاغط من السلطة وجمهورها یضطرّهم إلی مجاراتهم فی الطعن علی أخصّ أصحابهم فکیف بمن هو دونهم، ولکن ذلک لا یعنی تقریر الأئمة علیهم السلام لذلک الطعن. ولربما کان لهم علیهم السلام مؤاخذة وطعن آخر یختلف نوعاً عن طعن العامة علی نجوم الرواة لروایات أهل البیت علیهم السلام وفضلائهم الذی هو فی

ص:269


1- (1) . رجال الکشی / ح 325 .

الغالب تکفیرهم والحکم علیهم بالبدعة.

فتخطئة عبد اللّه بن سبأ والمغیرة وأبو الخطاب وذمّهم ونقدهم أو الطعن علیهم لا یعنی تصحیحاً وتقریراً جدّیاً طعن العامة بتکفیرهم بل هو مجاراة صوریة للعامة. بل قد تتوسّع هذه المجاراة إلی مجاراة الأئمة علیهم السلام للمتعصبین فی الطعن حتی فی أتباعهم، کما یلاحظ فی ما روی عن الرضا علیه السلام فی قصّة یونس بن عبد الرحمن وتشدّد بعض القمّیین فی الطعن علیه. وکذلک من بقیة الأئمة فی أشخاص آخرین یلاحظه المتتبع. فاللازم عدم الاغترار بمجرّد تقریرهم علیهم السلام لطعون مشتهرة علی بعض الرواة. وهناک جملة من کبار وأجلاء الرواة الفقهاء والمتکلّمین من أصحاب الأئمة علیهم السلام ممن صدر فی حقهم اللعن تقیة کزرارة وصفوان ومحمد بن سنان.

ص:270

10 - البراءة واللعن التقدیریان

أنّ الأئمة علیهم السلام قد یبرؤون من شخص ویلعنونه علی نحو تقدیری تعلیقی لا تحقیقی بالفعل، فیظنّ السامع أنّه من السنخ الثانی مع إرادتهم الأوّل، أی أنّ البراءة منهم علیهم السلام والطرد علی تقدیر صحّة نسبة المقالة الفاسدة لذلک الشخص وإرادته ذلک المعنی المنحرف فإنّه یستحقّ اللعن والطرد عن الانتساب إلیهم؛ لا أنّهم علیهم السلام یقرّرون السائل فیما ینسبه إلی ذلک الشخص الذی لعن فی الظاهر وتبرّأ منه کما یتوهّم السائل.

والحکمة فی اتّخاذ هذا الأسلوب هو أهمّیة إبطال المقالة الفاسدة المنطبعة فی ذهن السائل علی أهمّیة تبرئة ساحة الشخص المنسوب إلیه تلک المقالة؛ هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنهم علیهم السلام لو تصدّوا لتبرئة ساحة ذلک الشخص لربّما زاد ذلک فی تعشعش وتغلغل فساد المقالة المنطبعة لدی السائل عن ذلک الشخص، فیتجذّر الزیغ أکثر ویتعمّق هذا الانحراف، و هذا أصل وباب مهم فی معرفة مواقف الأئمة علیهم السلام تجاه مضامین المعارف التی تنسب إلیهم بین موقف النفی والإثبات.

ونظیر هذا الإنکار قوله تعالی: «وَ إِذْ قالَ اللّهُ یا عِیسَی ابْنَ مَرْیَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِی وَ أُمِّی إِلهَیْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَکَ ما یَکُونُ لِی أَنْ أَقُولَ ما لَیْسَ لِی بِحَقٍّ »1.

فإنّ الباری تعالی فی المحشر بدل أن یتصدّی إلی تبرئة النبی عیسی عمّا

ص:271

نسب إلیه من مقالة فاسدة تصدّی إلی إدانة المقالة الفاسدة أوّلاً بغضّ النظر عن النفی والإثبات فی نسبتها إلی النبی عیسی، و ذلک لأهمّیة تخطئة الانحراف وإدانته. مع أنّ أصل الحقیقة فی تلک المسألة هی فی جعل اللّه النبی عیسی کلمة اللّه وآیة للباری تعالی کما بیّن ذلک فی آیات أخری، إلّاأنّ التصدّی إلی بیان المعرفة الغامضة فی معنی کلمة اللّه وآیته قد یزید الإیهام فی المعنی الآخر الفاسد بدل أن یوضح الحقیقة لصعوبة فهم عامّة من فی المحشر للطافة المعنی الحقیقی المستقیم.

ونظیر ذلک نجده فی قول موسی: «قالَ یا هارُونُ ما مَنَعَکَ إِذْ رَأَیْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَیْتَ أَمْرِی قالَ یَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْیَتِی وَ لا بِرَأْسِی إِنِّی خَشِیتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَیْنَ بَنِی إِسْرائِیلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِی»1.

فإنّ تصدّی موسی لإدانة عبادة العجل أهمّ لدیه من تبرئة ساحة أخیه هارون من مداهنة المنحرفین من بنی إسرائیل ممّن عبدوا العجل. و هذا لا یعنی أنّ النبی موسی فی صدد تقریر نسبة المداهنة للمنحرفین إلی أخیه هارون، إذ لو تصدّی إلی تبرئة أخیه لکان تضییعاً فی بیان انحراف بنی إسرائیل.

ص:272

11 - الصراط المستقیم بین إفراط من طعن علیهم بالغلو وبین تفریط الاتجاه المعاکس لهم (بین نبذ هدنة التعایش ونبذ التبری الباطل)

قال اللّه تعالی حاکیاً عن موسی حیث رجع عن میقات ربه فرأی أنّ الناس قد عبدوا العجل «قالَ یا هارُونُ ما مَنَعَکَ إِذْ رَأَیْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَیْتَ أَمْرِی قالَ یَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْیَتِی وَ لا بِرَأْسِی إِنِّی خَشِیتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَیْنَ بَنِی إِسْرائِیلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِی»1.

و هذا المشهد القرآنی ینطبق علی موقف أهل البیت علیهم السلام تجاه کل من انحراف المسلمین عن اتباع وإمامة أهل البیت أو زیغ المقالة التی تنسب إلی من رموا بالغلو.

فنری النبی هارون فی حین أنّه أنکر علی بنی إسرائیل عبادتهم للعجل واتباعهم للسامری لم یصعّد هذا الإنکار إلی المجابهة المسلّحة ممّا یؤدّی إلی تفرّق أمّة بنی إسرائیل، بینما نلاحظ هذا الخطأ فی تصعید الإنکار عند المغیرة بن سعید وأبی الخطاب وأمثالهم ممن کان لدیهم غلوّ سیاسی وتطرّف فی الموقف الفقهی تجاه المخالفین لأهل البیت علیهم السلام . فإنّ الإنکار للباطل لا یعنی التفریط بوحدة الأمّة فی ظلّ الهدنة فیما بین فرقها، کما أنّ النبی هارون عصم من أن یقع فی انحراف آخر وهو الذوبان والسکوت عن عبدة العجل من بنی إسرائیل تحت ذریعة الحفاظ علی الوحدة فی أمّة بنی إسرائیل بدرجة یؤدّی إلی التفریط فی

ص:273

إنکار المنکر والتفریط فی هدایة العباد إلی الحق وإرشادهم إلی الصراط المستقیم، کما وقع فی هذا الخطأ أصحاب شعار الوحدة والتقریب فی الأمّة الإسلامیة کالبتریّة حیث إنّهم أسقطوا التبرّی والبراءة من المنحرفین من صحابة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وما جری بعد وفاته من منهج السقیفة تحت ذریعة الحفاظ علی الوحدة الإسلامیّة والتقریب بین طوائفها - کما سیأتی الحدیث عنهم مفصّلاً - مع أنّ الحفاظ علی الوحدة والتقریب بین أبناء الأمّة لا یستدعی إسقاط فریضة إنکار المنکر ولا إسقاط فریضة هدایة العباد إلی الصراط المستقیم وإرشاد الناس إلی الحق وإلی سبیل النجاة فی الآخرة ولا إلی إسقاط حرمة إضلال العباد إلی طریق الهاویة.

بل الصحیح ما قام به النبی هارون من الحفاظ علی کل من الفریضتین بشکل متوازن ومتعادل بدون إفراط ولا تفریط. فمن ثمّ أنکر علی بنی إسرائیل انحرافهم فی عبادة العجل، لکنّه لم یصعّد هذا الإنکار والإدانة إلی درجة الاشتباک المسلّح وهدر دماء الطرف الآخر. و ذلک لأجل عدم التفریط بفریضة الوحدة التعایشیّة السلمیّة بین أمّة بنی إسرائیل فقام بکلّ من الفریضتین بشکل متوازن لیس فیه إفراط ولا تفریط، و هذا بخلاف تطرّف المغیریّة والخطّابیّة فی الإنکار علی المخالفین لمنهاج أهل البیت علیهم السلام إلی درجة المواجهة المسلّحة وهدر الدماء الذی قام به المغیرة بن سعید وأبو الخطّاب، وبخلاف التفریط الذی قام به البتریّة من الاعتقاد بالولاء والتولّی لأهل البیت مع إسقاط التبرّی والبراءة من أعدائهم حتی بدرجة اللسان والقلب والفکر والتفکّر تحت ذریعة الحفاظ علی الوحدة.

کما أن موقف النبی موسی کان بإدانة أصل الانحراف الکبیر وهو عبادة العجل بغضّ النظر عن الأطراف فی ذلک الحدث وصحّة نسبة الانحراف إلیهم نفیاً وإثباتاً.

وهذه الملحمة للنبی موسی وهارون وبنی إسرائیل ممن عبد العجل أشبه للملحمة موقف الأئمة علیهم السلام من أطراف الواقع الساحة الإسلامیة المختلفة.

ص:274

مؤاخذات علی الخطابیة والمغیریّة و سائر الفرق المطعون علیهم بالغلو

المؤاخذة الأولی: إذاعة الأسرار وانحراف الناس

اشارة

فإنّ تیّار أبی الخطّاب وأتباعه قد مهّدوا الأرضیّة لانحراف الناس بسبب إذاعتهم وإفشائهم جملة من المعارف التی لا یتحمّلها أوساط الناس مما یتداعی لدیهم الانحراف فی فهمها.

فقد روی الکلینی عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن مالک بن عطیّة عن بعض أصحاب أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

«خرج إلینا أبو عبد اللّه علیه السلام وهو مغضَب فقال:

إنّی خرجت آنفاً فی حاجة فتعرّض لی بعض سودان المدینة فهتف بی لبّیک یا جعفر بن محمد لبّیک. فرجعتُ عودی علی بدئی إلی منزلی خائفاً ذعراً ممّا قال حتّی سجدتُ فی مسجدی لربّی وعفّرت له وجهی وذلّلت له نفسی وبرئت إلیه ممّا هتف بی ولو أنّ عیسی بن مریم عدا ما قال اللّه فیه إذاً لصمّ صمّاً لا یسمع بعده أبداً وعَمی عمیً لا یُبصر بعده أبداً وخرس خَرْساً لا یتکلّم بعده أبداً ثم قال لعن اللّه أبا الخطاب وقتله بالحدید(1).

ص:275


1- (1) . الکافی 8 / 225 / ح 286 .

وفی أصل زید النرسی قال:

لمّا لبّی أبو الخطاب بالکوفة وادّعی فی أبی عبد اللّه علیه السلام ما ادّعاه دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام مع عبید بن زرارة فقلت له: جعلت فداک لقد ادّعی أبو الخطّاب وأصحابه فیک أمراً عظیماً إنّه لبّی بلبّیک جعفر لبّیک معراج، وزعم أصحابه أنّ أبا الخطّاب أسری به إلیک فلمّا هبط إلی الأرض من ذلک دُعی إلیک ولذلک لبّی بک.

قال: فرأیت أبا عبد اللّه علیه السلام قد أرسل دمعته من حمالیق عینیه وهو یقول:

یا ربّ برئت إلیک ممّا ادّعی فیّ الأجدع عبد بنی أسد خشع لک شعری وبشری عبدک ابن عبدک خاضع ذلیل. ثم أطرق ساعة فی الأرض کأنّه یناجی شیئاً ثمّ رفع رأسه وهو یقول:

أجل أجل عبد خاضع خاشع ذلیل لربّه صاغر راغم من ربّه خائف وَجِل لی و اللّه ربّ أعبده لا أشرک به شیئاً. ما له - خزاه اللّه وأرعبه ولا أمن روعته یوم القیامة - ما کانت تلبیة الأنبیاء هکذا ولا تلبیة الرسل، إنّما لبّت بلبّیک اللهم لبّیک لبّیک لا شریک لک ثمّ قمنا من عنده، فقال:

یا زید إنّما قلت لک هذا لاستقر فی قبری یا زید استر ذلک عن الأعداء(1).

وهذان الحدیثان یبینان شطط أبی الخطاب فی بعض سلوکیاته وبعض تأوّلاته ممّا یوجب زیغ عامّة الناس ویوهم لدیهم الألوهیّة فی أئمّة أهل البیت علیهم السلام ، وإن لم تکن التلبیة فی نفسها منحصرة فی رسوم العبودیّة والتألیه، إذ قد ورد فی بعض شعارات المسلمین فی غزوهم علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم لبیک داعی اللّه کما ورد ذلک فی بعض الزیارات لسید الشهداء علیه السلام کما هو الحال فی السجود مع وقوعه من الملائکة لآدم بأمر من اللّه وسجود یعقوب وبنیه لیوسف.

إلّا أنّ الأوساط المسلمة آنذاک لم یکن یتعقّلها علی وجه صحیح مما أدّی إلی توهّم الألوهیة والربوبیّة فی الأئمّة علیهم السلام ، وکان السبب لذلک إذاعة أسرار المعارف من قبل هذه الجماعة.

ص:276


1- (1) . الأصول الستة عشر / أصل زید النرسی / 192 / ح 161، مستدرک الوسائل 9 / 197 .
وصیّة الإمام الصادق علیه السلام لمؤمن الطاق ینهی عن إذاعة الأسرار

وهذه الوصیّة تدلّ علی بعض معانی الغلو التی مرّ ذکرها، لا سیما المعنی الثانی والثالث وأنّ المغیرة وأبا الخطاب قد وقعا فی هذین اللونین من الغلو، وفیه أیضاً بیان لبعض دواعی الغلوّ والنهی عن إفشاء أسرار المعارف وإن کذبهما إنما کان فی إذاعتهما للأسرار.

وقد رواه الحرانی فی التحف، وصیة الإمام الصادق علیه السلام لأبی جعفر محمد بن النعمان الأحول المعروف بمؤمن الطاق:

قال أبو جعفر: قال لی الصادق علیه السلام :

إنّ اللّه جلّ وعزّ عیّر أقواماً فی القرآن بالإذاعة فقلت له: جعلت فداک أین قال؟ قال: قوله: «وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ »

ثم قال: المذیع علینا سرّنا کالشاهر بسیفه علینا رحم اللّه عبداً سمع بمکنون علمنا فدفنه تحت قدمیه. و اللّه إنّی لأعلم بشرارکم من البیطار بالدواب، شرارکم الذین لا یقرؤون القرآن إلّاهجراً، ولا یأتون الصلاة إلّادبراً، ولا یحفظون ألسنتهم.

إعلم أنّ الحسن بن علی علیهما السلام لمّا طعن واختلف الناس علیه سلّم الأمر لمعاویة فسلّمت علیه الشیعة: «علیک السلام یا مذلّ المؤمنین» فقال علیه السلام : «ما أنا بمذلّ المؤمنین ولکنی معزّ المؤمنین، إنّی لما رأیتکم لیس بکم علیهم قوة سلّمت الأمر لأبقی أنا وأنتم بین أظهرهم، کما عاب العالم السفینة لتبقی لأصحابها وکذلک نفسی وأنتم لنبقی بینهم».

یابن النعمان إنّی لأحدّث الرجل منکم بحدیث فیتحدّث به عنی فاستحلّ بذلک لعنته والبراءة منه فإنّ أبی کان یقول: «وأیّ شیء أقرّ للعین من التقیّة، إنّ التقیة جنّة المؤمن ولولا التقیة ما عبد اللّه».

وقال اللّه عزوجلّ: «لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللّهِ فِی شَیْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ).

یابن النعمان إیاک والمراء فإنّه یحبط عملک، وإیاک والجدال فإنّه یوبقک، وإیاک وکثرة الخصومات فإنها تبعّدک من اللّه. ثم قال: إنّ من کان قبلکم کانوا یتعلّمون الصمت وأنتم

ص:277

تتعلّمون الکلام وکان أحدهم إذا أراد التعبّد یتعلّم الصمت قبل ذلک بعشر سنین فإن کان یحسنه ویصبر علیه تعبّد وإلّا قال: ما أنا لما أروم بأهل. إنما ینجو من أطال الصمت عن الفحشاء وصبر فی دولة الباطل علی الأذی أولئک النجباء الأصفیاء الأولیاء حقّاً وهم المؤمنون.

إنّ أبغضکم إلیّ المتراسّون(1) المشّاؤون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم، لیسوا منّی ولا أنا

منهم، إنّما أولیائی الذین سلّموا لأمرنا واتّبعوا آثارنا واقتدوا بنا فی کل أمورنا، ثم قال: واللّه لو قدّم أحدکم ملء الأرض ذهباً علی اللّه ثم حسد مؤمناً لکان ذلک الذهب مما یکوی به فی النار.

یابن النعمان إنّ المذیع لیس کقاتلنا بسیفه بل هو أعظم وزراً، بل هو أعظم وزراً، بل هو أعظم وزراً. یابن النعمان إنّه من روی علینا حدیثاً(2) فهو ممّن قتلنا عمداً ولم یقتلنا خطأ.

یابن النعمان إذا کانت دولة الظلم فامش واستقبل من تتّقیه بالتحیّة، فإنّ المتعرّض للدولة قاتل نفسه وموبقها إنّ اللّه یقول: «وَ لا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ »

.

یابن النعمان إنّا أهل بیت لا یزال الشیطان یدخل فینا من لیس منّا ولا من أهل دیننا، فإذا رفعه ونظر إلیه الناس أمره الشیطان فیکذّب علینا وکلّما ذهب واحد جاء آخر.

یابن النعمان من سئل عن علم فقال: لا أدری فقد ناصف العلم والمؤمن یحقد ما دام فی مجلسه، فإذا قام ذهب عنه الحقد.

یابن النعمان إنّ العالم لا یقدر أن یخبرک بکلّ ما یعلم، لأنّه سرّ اللّه الذی أسرّه إلی جبرئیل علیه السلام وأسرّه جبرئیل علیه السلام إلی محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأسرّه محمد صلی الله علیه و آله و سلم إلی علیّ علیه السلام وأسرّه علی علیه السلام إلی الحسن علیه السلام وأسرّه الحسن علیه السلام إلی الحسین علیه السلام وأسرّه الحسین علیه السلام إلی علیّ علیه السلام وأسرّه علی علیه السلام إلی محمّد علیه السلام وأسرّه محمد علیه السلام إلی من أسرّه، فلا تعجلوا فو اللّه لقد قرب هذا الأمر ثلاث مرّات فأذعتموه، فأخّره اللّه، و اللّه ما لکم سرّ إلّاوعدوّکم أعلم به منکم.

ص:278


1- (1) . فی بعض النسخ: المترئّسون.
2- (2) . فی بعض النسخ: روی علینا حدیثنا.

یابن النعمان إبق علی نفسک فقد عصیتنی، لا تذع سرّی، فإنّ المغیرة بن سعید کذب علی أبی وأذاع سرّه فأذاقه اللّه حرّ الحدید. وإنّ أبا الخطّاب کذب علیّ وأذاع سرّی فأذاقه اللّه حرّ الحدید. ومن کتم أمرنا زیّنه اللّه به فی الدنیا والآخرة وأعطاه حظّه ووقاه حرّ الحدید وضیق المحابس.

إنّ بنی إسرائیل قحطوا حتی هلکت المواشی والنسل فدعا اللّه موسی بن عمران علیه السلام فقال: یا موسی إنهم أظهروا الزنا والربا وعمروا الکنائس وأضاعوا الزکاة، فقال: إلهی تحنّن برحمتک علیهم فإنّهم لا یعقلون، فأوحی اللّه إلیه: إنی مرسل قطر السماء ومختبرهم بعد أربعین یوماً فأذاعوا ذلک وأفشوه، فحبس عنهم القطر أربعین سنة وأنتم قد قرب أمرکم فأذعتموه فی مجالسکم.

یا أبا جعفر ما لکم وللناس کفّوا عن الناس ولا تدعوا أحداً إلی هذا الأمر فو اللّه لو أنّ أهل السماوات [

والأرض]

اجتمعوا علی أن یضلّوا عبداً یرید اللّه هداه ما استطاعوا أن یضلّوه. کفّوا عن الناس ولایقل أحدکم: أخی وعمی وجاری، فإنّ اللّه جلّ وعزّ إذا أراد بعبد خیراً طیّب روحه فلا یسمع معروفاً إلّاعرفه ولا منکراً إلّاأنکره، ثم قذف اللّه فی قلبه کلمة یجمع بها أمره.

یابن النعمان إن أردت أن یصفو لک ودّ أخیک فلا تمازحنّه ولا تمارینّه ولا تباهینّه ولا تشارنّه ولا تطلع صدیقک من سرّک إلّاعلی ما لو اطّلع علیه عدوّک لم یضرّک فإنّ الصدیق قد یکون عدوّک یوماً.

یابن النعمان لا یکون العبد مؤمناً حتی یکون فیه ثلاث سنن: سنة من اللّه وسنة من رسوله وسنّة من الإمام. فأما السنّة من اللّه جلّ وعزّ فهو أن یکون کتوماً للأسرار یقول اللّه جلّ ذکره: «عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً»

، وأما الّتی من رسول اللّه علیه السلام فهو أن یداری الناس ویعاملهم بأخلاق الحنیفیة، وأما التی من الإمام فالصبر فی البأساء والضرّاء حتی یأتیه اللّه بالفرج. یابن النعمان لیست البلاغة بحدّة اللسان ولا بکثرة الهذیان ولکنّها إصابة المعنی وقصد الحجّة.

ص:279

یابن النعمان من قعد إلی سابّ أولیاء اللّه فقد عصی اللّه، ومن کظم غیظاً فینا لا یقدر علی إمضائه کان معنا فی السنام الأعلی ومن استفتح نهاره بإذاعة سرّنا سلّط اللّه علیه حرّ الحدید وضیق المحابس.

یابن النعمان لا تطلب العلم لثلاث: لترائی به ولا لتباهی [

به]

ولا لتماری، ولا تدعه لثلاث: رغبة فی الجهل، وزهادة فی العلم، واستحیاء من الناس والعلم [

ال]

مصون کالسراج المطبق علیه.

یابن النعمان إنّ اللّه جلّ وعز إذا أراد بعبد خیراً نکت فی قلبه نکتة بیضاء فجال القلب بطلب الحق، ثم هو إلی أمرکم أسرع من الطیر إلی وکره.

یابن النعمان إنّ حبّنا أهل البیت ینزّله اللّه من السماء من خزائن تحت العرش کخزائن الذهب والفضّة ولا ینزّله إلّابقدر، ولا یعطیه إلّاخیر الخلق وإنّ له غمامة کغمامة القطر فإذا أراد اللّه أن یخصّ به من أحبّ من خلقه أذن لتلک الغمامة فتهطّلت کما تهطّل السحاب فتصیب الجنین فی بطن أمّه(1).

وفی هذه الوصیة لمؤمن الطاق - المعروف بقوّة مجادلته مع أهل الخلاف حتی أنّهم عجزوا عن منازلته و کانوا یلقّبونه بشیطان الطاق - یبیّن أنّهم علیهم السلام یتشدّدون فی تحریم الإذاعة والإفشاء وکشف أسرار المعارف ومکنون علمهم، وأنّ هناک جملة من النقاط تشهد فی هذه الوصیة لما قدّمناه من معنی الغلوّ والکذب وإنّ شطط المغیرة وأبی الخطاب هو إذاعتهما للأسرار:

الأولی: قوله علیه السلام :

یابن النعمان إنّی لأحدث الرجل منکم بحدیث فیتحدّث به عنّی فاستحلّ بذلک لعنته والبراءة منه.

و هذا یبیّن أنّ من صدر فی حقّه اللعن منهم أو أمروا شیعتهم بالبراءة منه لا یستلزم أن یکون ما حدّث عنهم مخالفاً للواقع، وأنّ لعنه بسبب مخالفته للتقیة

ص:280


1- (1) . بحار الأنوار 78 / 286 - 292 عن التحف.

وإضراره بهم کالشاهر بسیفه علیهم کما أشیر إلی ذلک فی صدر الوصیة، وأنّ الأمر بالبراءة منه لأجل التقیة ولئلّا یضرّ بهم وبشیعتهم، ولأجل أن لا یفشوا وتنتشر الحدیث الذی أفشاه وأذاعه.

الثانیة: قوله علیه السلام :

یابن النعمان إیاک والمراء ... وإیاک والجدال ... وإیاک وکثرة الخصومات یشیر إلی أنّ جملة ممن یفرط فی إذاعة مکتوم علمهم إنما وقع لأجل حبّ الغلبة وقد استثاره جوّ الخصام، کما أنّ قوله علیه السلام :

إنّ أبغضکم إلیّ المتراسون (المترئسون) یبیّن أنّ الداعی لإفشاء الحدیث هو حبّ الظهور وحبّ الرئاسة نظیر قوله علیه السلام :

یابن النعمان إنّا أهل بیت لا یزال الشیطان یدخل فینا من لیس منّا ولا من أهل دیننا فإذا رفعه ونظر إلیه الناس أمره الشیطان فیکذّب علینا وکلّما ذهب واحد جاء آخر.

الثالثة: قوله علیه السلام :

یابن النعمان إنّ العالم لا یقدر أن یخبرک بکلّ ما یعلم لأنّه سر اللّهإلی قوله علیه السلام :

و اللّه ما لکم سرّ إلّاوعدوّکم أعلم به منکم.

یدلّ علی أنّ هناک شطر کبیر من الحقیقة لا یمکن إفشائه وإذاعته لأنّ الناس لا یتحمّلون وعیه وفهمه، من دون أن یکون ذلک العلم المکنون بالحقیقة فیه شیء من الزیغ أو الباطل لکنّ الناس حیث لا قابلیة لهم فی إدراکه علی الوجه الصحیح یتأوّلونه علی الوجه الباطل.

الرابعة: قوله علیه السلام :

یابن النعمان ابق علی نفسک فقد عصیتنی لا تذع سرّی، فإنّ المغیرة بن سعید کذب علی أبی وأذاع سرّه فأذاقه اللّه حرّ الحدید، وإنّ أبا الخطّاب کذب علیّ وأذاع سرّی فأذاقه اللّه حرّ الحدید، ومن کتم أمرنا زیّنه اللّه به فی الدنیا والآخرة وأعطاه حظّه ووقاه حرّ الحدید وضیق المحابس.

صریح فی أنّ الکذب هو فی إفشاء ما ینبغی کتمانه، وأنّ استعمال الکذب فی هذا المعنی نظیر ما فی قوله تعالی: «آللّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّهِ تَفْتَرُونَ » حیث تبیّن أنّ ما لم یؤذن بإعلانه والتصریح به یکون فریة، لأنّه تقمّص صلاحیة خاصّة فی النطق الرسمی وهو لیس بأهل لها، وإنّما تقمّصها وادّعاها فیکون کاذباً بذلک. کما

ص:281

أنّه صریح فی أنّ رؤوس الغلاة غلوّهم هو إفراطهم فی الإفشاء والإعلان لما ینبغی کتمانه وإن تأوّله المخالفون بالباطل وبادعاء الألوهیة والنبوة.

ونظیر ذلک ورد فی المعلی بن خنیس أنّه قتل وذاق حرّ الحدید لأنّه أذاع سرّهم مع صلاح حاله.

وتحذیره علیه السلام مؤمن الطاق عن أن یکون مثل المغیرة وأبی الخطّاب إنّما هو فیما یزجره علیه السلام مراراً عن إذاعة السرّ وإعلان وإفشاء مکتوم علمهم.

الخامسة: قوله علیه السلام :

إنّ بنی إسرائیل قحطوا حتی هلکت المواشی والنسل فدعا اللّه موسی بن عمران علیه السلام فقال: یا موسی ... وأنتم قد قرب أمرکم فأذعتموه فی مجالسکم.

وهذه الفقرة من کلامه علیه السلام تؤکّد الجهة الأصلیة التی صیغت لها الوصیة وهی ما تسبّبه الإذاعة والإفشاء وکشف الأسرار من مخاطر وآثار سلبیة تؤدّی إلی النقمة الإلهیة والمعاجلة بالحوبة، کما تشیر إلیه الآیة الکریمة التی أشار علیه السلام إلیها فی صدر کلامه: «وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ » حیث تدل علی أنّ هناک من الأمور إذاعتها مما یمسّ بالأمن عموماً ویسبّب وقوع ما یحذر منه.

ومثّل علیه السلام لذلک بما وقع فی بنی إسرائیل عندما أصابهم القحط بسبب المعاصی فدعا نبی اللّه موسی بن عمران ربّه لیعفو عنهم ذلک فواعده اللّه تعالی بالإجابة بعد أربعین یوماً، فقام بنو إسرائیل بإذاعة هذا الوعد الإلهی وهو مما یسبّب الإغراء بأهل المعاصی ویمدّهم فی غیّهم، لأن من یأمن العقوبة یسیء الأدب، فإذاعة هذا الوعد الإلهی سبب مثل هذه التداعیات السلبیة فسبّب ذلک أن حبس اللّه عنهم القطر أربعین سنة و هذا من تداعیات الإذاعة والإفشاء للأسرار الإلهیة التی یسوس اللّه عزوجل بها عباده.

ثمّ ذکر علیه السلام أنّ قیام دولتهم علیهم السلام وهو مما یعبّر عنه بالظهور أو دولة الرجعة قد قدّر اللّه عزوجل قرب وقوع قیامها وفی بعض الروایات عدّة مرات إلّاأنّ الشیعة أفشت وأذاعت ذلک مما سبّب إفشال ذلک التوقیت.

ص:282

ویؤکّد ذلک فی قوله علیه السلام :

ما لکم وللناس کفّوا عن الناس ولا تدعوا أحداً إلی هذا الأمر وقوله علیه السلام :

ولا تطلع صدیقک من سرّک إلّاعلی ما لو اطلع علیها عدوّک لم یضرّکوقوله علیه السلام :

لا یکون العبد مؤمناً حتی یکون فیه ثلاث سنن: سنة من اللّه وسنة من رسوله وسنة من الإمام فأما السنة من اللّه جلّ وعز فهو أن یکون کتوماً للأسرار یقول اللّه جل ذکره: «عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً» .

السادسة: بیانه علیه السلام لدواعی الغلو بالمعنی الثانی والثالث وهو ما مرّ من قوله علیه السلام :

کفّوا عن الناس ولا تدعوا أحداً إلی هذا الأمر فو اللّه لو أنّ أهل السماوات و الأرض اجتمعوا علی أن یضلّوا عبداً یرید اللّه هداه ما استطاعوا أن یضلّوه ... و هذا بیان لأحد أسباب الإذاعة والإفشاء وهو الحرص علی هدایة الناس ودعوتهم إلی الحق، فأراد علیه السلام أن یبیّن أنّ الشدّة فی الحرص علی أداء هذه المسؤولیة یؤدّی إلی الإفراط بوظائف ومسؤولیات أخری والتی منها التقیّة والحذر من کید الأعداء واطّلاعهم علی جملة من الأمور یوطّد لهم الکید والإضرار بمدرسة أهل البیت علیهم السلام وأتباعهم.

و مثل ذلک قوله علیه السلام فی السنن التی ینبغی أن تکون فی المؤمن:

وأما التی من رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم فهو أن یداری الناس ویعاملهم بالأخلاق الحنیفیة وأما التی من الإمام فالصبر فی البأساء والضراء حتی یأتیه اللّه بالفرج وقوله علیه السلام :

یابن النعمان لیست البلاغة بحدّة اللسان ولا بکثرة الهذیان ولکنّها إصابة المعنی وقصد الحجّة وفی کلامه علیه السلام هذا تأکید علی لزوم مراعاة المداراة مع أهل الخلاف والتعامل معهم بالأخلاق ولزوم اعتماد رباطة الجأش واعتماد الحکمة فی التدبیر وعدم الاستشاطة بإغاظة وإثارة من قبل الطرف الآخر.

وقوله علیه السلام أیضاً:

من کظم غیظاً فینا لا یقدر علی إمضائه کان معنا فی السنام الأعلی ومن استفتح نهاره بإذاعة سرّنا سلّط اللّه علیه حرّ الحدید وضیق المحابس.

وکذا ما فی ذیل وصیته علیه السلام من قوله:

إنّ اللّه جلّ وعزّ إذا أراد بعبد خیراً نکت فی

ص:283

قلبه نکتة بیضاء فجال القلب بطلب الحق ثم هو إلی أمرکم أسرع من الطیر إلی وکره یابن النعمان إنّ حبنا أهل البیت ینزّله اللّه من السماء ... ولا یعطیه إلّاخیر الخلق.

وهذه التوصیات المتعددة کلّها لتهدئة أسباب الإفراط والغلو فی کیفیة الدعوة إلی الحق وهدایة الناس وإفشاء المکنون من علومهم وحقائق معارفهم.

نماذج من سلبیات الإذاعة

ولنذکر هنا بعض النماذج من سلبیات الإذاعة التی قام بها أولئک الفرق ممّا أثّر فی انحراف الناس وزیغهم عن الصراط المستقیم:

اتهام العامّة المختار وجملة بأنّهم یدّعون النبوة بسبب إذاعتهم للأسرار وادعائهم النیابة الخاصّة والإلهام فیهاقال فی البدء والتاریخ: «وادعی النبوة من أهل الکوفة جماعة منهم المختار بن عبید کتب إلی الأحنف بن قیس: بلغنی أنکم تکذبوننی ولئن کذبتمونی فقد کذبت الأنبیاء قبلی ولست خیراً من کثیر منهم. قیل لابن عمر: إن المختار یزعم أن الوحی یأتیه فقال: صدق وحی الشیطان.

وکان منهم أبو منصور الخناق وکان یتولی سبعة أنبیاء من بنی قریش وسبعة من بنی عجل.

وکان منهم المغیرة بن سعید وسأله رجل عن أمیر المؤمنین علی فقال: لا تحتمله قال: بل أحتمله قال: فذکر آدم ومن دونه من الأنبیاء فلم یذکر أحداً منهم إلّا فضل علیاً رضی اللّه عنه حتی انتهی إلی النبی صلی الله علیه و آله و سلم فقال: فقلت: کذبت، قال: قد أخبرتک أنک لا تحتمل(1).

قد أشرنا فی غیر موضع أن حجم الطعون التی ذکرها العامّة علی المختار والمغیرة وأمثالهما کانت بسبب عدّة عوامل أبرزها قصور العامّة عن فهم معارف

ص:284


1- (1) . البدء والتاریخ 5 / 126 .

أهل البیت، وثانیها تطرّف هؤلاء فی إذاعة الأسرار والجهار بالبراءة من الشیخین وثالثها ادعاء الکاذب لهؤلاء بالنیابة الخاصّة وهی عبارة عن ارتباط الهامی مع المعصوم مضافاً إلی تفشّی بعض الانحرافات لدی أتباع هؤلاء مما کرّس طعن العامّة علیهم.

ومما یشیر إلی ذلک ما رواه الکشی عن ابن سنان قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

إنا أهل بیت صادقون لا نخلو من کذّاب یکذب علینا فیسقط صدقنا بکذبه علینا عند الناس کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم أصدق البریّة لهجة وکان مسیلمة یکذب علیه وکان أمیرالمؤمنین علیه السلام أصدق من برأ اللّه من بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وکان الذی یکذب علیه ویعمل فی تکذیب صدقه بما یفتری علیه من الکذب عبد اللّه بن سبأ لعنه اللّه وکان أبو عبد اللّه الحسین بن

علی علیه السلام قد ابتلی بالمختار - ثم ذکر أبو عبد اللّه الحارث الشامی وبیان فقال: کانا یکذبان علی علی بن الحسین علیه السلام ثم ذکر المغیرة بن سعید وبزیعاً والسری وأبا الخطّاب ومعمّراً وبشّاراً الأشعری وحمزة البربری وصائد النهدی فقال: لعنهم اللّه إنا لا نخلو من کذّاب أو عاجز الرأی کفانا اللّه مؤونة کلّ کذّاب وأذاقهم حرّ الحدید(1).

والجامع بین هؤلاء هو إذاعتهم لأسرار أهل البیت وکذبهم فی ادعاء النیابة الخاصة وخطأهم فی التأویل بقصورهم عن درک کنه المعارف کما أشار إلیه الإمام علیه السلام بقوله:

عاجز الرأی. وقد مرّ أنّ ذوق حرّ الحدید عقوبة تکوینیّة لإفشاء أسرار المعارف.

کما یظهر من هذا الحدیث وجملة من الروایات أن مسیلمة الکذّاب لم یکن یدّعی النبوّة کما اشتهر فی مصادر السنّة وإنما کان یدّعی مقاماً آخر کالنیابة الخاصّة ونحوها؛ ومن ثم عبّر عنه فی تلک الروایات بأنه یکذب علی النبی و لو کان یدّعی النبوّة لکان مکذّباً للنبی مما یدلّ علی أنه کان یسند أقوالاً إلی سید الأنبیاء ویدّعی

ص:285


1- (1) . رجال الکشی / رقم 549 .

نحو ارتباط معه صلی الله علیه و آله و سلم ، بل السنة أیضاً قد رووا أنه کان قد التقی مع النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی فترة استقامته وکان قد مدحه رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم .

التفاف السفلة حول أبی الخطاب

فقد روی الکشی عن حمدویه قال: حدّثنا یعقوب بن یزید عن العباس القصبانی ابن عامر الکوفی عن المفضّل، قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول:

اتّق السفلة واحذر السفلة، فإنّی نهیت أبا الخطاب فلم یقبل منّی(1).

وقال الصدوق: السفلة: من ادّعی الإمامة ولیس بأهل(2) وفی بعض الروایات:

متهتک جریء لیس ذا أخلاق جمیلة. أی ذا أخلاق رذیلة.

وبعبارة أخری: إن طلاب الرئاسة الدنیویة عن طریق الزعامة المعنویة أکثرهم یلتصقون بأصحاب المقامات العلمیة المعرفیة المعنویة کی یتسلقوا من خلالهم إلی الوجاهة بین الناس ثم یتفشی نشر جهالاتهم وأهوائهم بلباس مفاهیم ومعانی معرفیة فیجرّ من التفوا حوله إلی المتاهات والورطات الانزلاقیة.

وقد مرّ أن إذاعة أسرار المعارف هی التی تولّد للسفلة ثروتهم الأغلی فی سبیل طموحاتهم وتسلّطهم علی قلوب الناس ورقابهم.

وقوع التحریف فی المقالات المنسوبة لأبی الخطّاب لقصور الفهم عنها

فقد روی الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن عمر بن أذینة عن زرارة قال: حدّثنی أبو الخطّاب فی أحسن ما یکون حالاً قال: سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ: «وَ إِذا ذُکِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ » فقال:

وإذا ذکر اللّه وحده بطاعة مَن أمَر اللّه بطاعته من آل محمّد اشمأزّت قلوب

ص:286


1- (1) . الکشی / 363 / ح 520 .
2- (2) . من لا یحضره الفقیه 3 / 165.

الذین لا یؤمنون بالآخرة وإذا ذکر الّذین لم یأمر اللّه بطاعتهم إذا هم یستبشرون(1).

وطریق هذا الحدیث من الصحیح الأعلائی، وهو یبیّن دقّة التأویل الذی فهمه وفطنه أبو الخطّاب من الإمام علیه السلام واستقامته بحسب الموازین إلّاأنّ حبیب الأحول بن المعلل الخثعمی - رغم جلالته ووثاقته وکونه صاحب أصل یرویه عنه ابن أبی عمیر - قد صعب علیه فهم ذلک التأویل کما یشیر إلیه ما رواه الصفار.

فقد روی الصفار عن أحمد بن محمد عن العباس بن معروف عن الحجال عن حبیب الخثعمی قال: ذکرت لأبی عبد اللّه علیه السلام ما یقول أبو الخطّاب فقال:

اذکر لی بعض ما یقول. قلت فی قول اللّه عزّوجلّ: «وَ إِذا ذُکِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ » إلی آخر الآیة یقول: «إِذا ذُکِرَ اللّهُ وَحْدَهُ » أمیر المؤمنین علیه السلام ، «وَ إِذا ذُکِرَ الَّذِینَ مِنْ دُونِهِ » فلان وفلان فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

من قال هذا فهو مشرک - ثلاثاً - أنا إلی اللّه منه بریء - ثلاثاً - بل عنی اللّه بذلک نفسه.

وأخبرته بالآیة التی فی حم «ذلِکُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِیَ اللّهُ وَحْدَهُ کَفَرْتُمْ » ثم قال:

قلت: یعنی بذلک أمیر المؤمنین علیه السلام . قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

من قال هذا فهو مشرک - ثلاثاً - أنا إلی اللّه منه بریء - ثلاثاً - بل عنی بذلک نفسه بل عنی بذلک نفسه(2).

ویستفاد من هذه الأحادیث جملة من النقاط:

الأولی: أنّ زرارة بن أعین مع جلالته وعظم فقاهته کان یأخذ المعارف من أبی الخطّاب أیام استقامته ما کان یرویه عن أئمة أهل البیت علیهم السلام . و هذا یشیر إلی تقدّم أبی الخطّاب فی درجة المعرفة والحظوة أیام استقامته عند أبی عبد اللّه علیه السلام .

مع أنّ زرارة لم یرو عن أبی بصیر ولا أبان بن تغلب ولا برید ولا عمار بن موسی الساباطی ولا أمثالهم من کبار أصحاب الباقر والصادق علیهما السلام .

الثانیة: أنّ هذه الصحیحة الأعلائی تثبت ما ذکره الشیخ الطوسی فی العدة

ص:287


1- (1) . الکافی 8 / 304 / ح 471، بحار الأنوار 23 / 368 / ح 39 .
2- (2) . بحار الأنوار 24 / 302 / ح 10 .

من أن الطائفة عملت بروایات أبی الخطاب أیام استقامته، رغم أن ما رواه أیام استقامته مما یصعب هضمه ویشتد إنکاره من قبل کثیر من أجلّاء وفضلاء فقهاء الرواة کما نلاحظ من یحیی الخثعمی نموذجاً.

الثالثة: أن الکثیر مما نسب إلی أبی الخطاب وأقواله فی الروایة عنهم علیهم السلام من الشطط والزیغ فی الاعتقاد، إنما هو ناتج عن انطباع خاطیء وعدم الدقّة فیما یرویه وغموض مرویاته، مع أنها مستقیمة علی الموازین الأولیّة والثوابت الاعتقادیّة لو تأمل فیها بعمق وأعملت الیقظة فی إسناد الألفاظ ولطافة الترکیب بقواعد النسبة فی الظهور والتجلّی. فإنّ توحید اللّه فی مقام الطاعة یتجلّی فی طاعة أمیر المؤمنین علیه السلام إذ الإمامة توحید للّه فی مقام الولایة لأنّهم لا یشاؤون إلّاما یشاء اللّه رب العالمین، کما أنّ النبوّة مظهر توحید اللّه فی التشریع.

الرابعة: أنّ أئمة أهل البیت علیهم السلام کانوا یتّقون من إظهار صعاب المعارف أمام من لا یتحمّلها من الرواة وإن کان ذا فضیلة وجلالة قدر. ومن ذلک ینفتح باباً للتدبّر فی جملة من الموارد التی أنکروا علیهم السلام فیها بعض الأقوال أمام من لا یتحمّل.

ووجه هذا الإنکار أنّه بالدقّة لیس إنکاراً حقیقیاً لذلک القول وما ینسب من الروایة إلیهم من قبل رواة المعارف، بل هو إنکار لما انطبع بصورة خاطئة ومعکوسة لدی الراوی السائل من الروایات الغامضة فی المعارف، کألوهیة الأئمة ونبوّتهم وما شابه ذلک. فإن ما انطبع فی ذهن السائل لم یقله الأئمة علیهم السلام ولم یقصدوه من الکلام الصادر عنهم.

و هذا ما أکّدنا علیه من أنّ جهة انحراف جملة من الرواة الذین طعن علیهم بالغلو لیس هو قولهم وروایتهم للمقالات الفاسدة فی الاعتقاد، بل منشأ انحرافهم هو إذاعتهم وإفشائهم لمعارف ثقیلة لمن لا یُتحمّل إدراکها وتصوّرها بصورة صحیحة سلیمة بعیدة عن الانحراف والزیغ، فتنطبع فی أذهان آخرین بشکل منحرف فتزیغ بهم إلی الضلال. ومن ثمّ کان الترکیز فی ذمّهم من الأئمة علیهم السلام علی

ص:288

الإذاعة والإفشاء، وإنّ هذا نمط من الکذب علی الأئمة علیهم السلام لأنّ إذاعة تلک المطالب العلمیّة یسبّب فی وصولها إلی أذهان الآخرین بصورة مقلوبة معکوسة فی حین أنّها منسوبة لأئمّة أهل البیت علیهم السلام فتکون کذباً علیهم. فالإذاعة تسبب الکذب علیهم. وقد مرّ بیان أنه أحد أقسام الکذب.

الخامسة: ثمّ إن البراءة واللعن منهم علیهم السلام تقدیراً لإدانة ذلک قد یصدر الانطباع الخاطئ لدی السامع وأنّ إبطال المقالة الفاسدة المزعومة نسبتها إلی ذلک الشخص أهم من تبرئته عنها. وقد مرّ نماذج قرآنیة لهذا الأسلوب من الإدانة والإنکار.

ص:289

المؤاخذة الثانیة: ترکهم التقیة وإفراطهم فی الجهار بالبراءة من الخلفاء

ففی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید یروی عن کثیر النوال(1) قال: قلت لأبی جعفر محمد بن علی علیه السلام : جعلنی اللّه فداک أرأیت أبا بکر وعمر هل ظلماکم من حقّکم شیئاً - أو قال: ذهبا من حقّکم بشیء - ؟ فقال:

لا والذی أنزل القرآن علی عبده لیکون للعالمین نذیراً ما ظُلمنا من حقنا مثقال حبّة من خردل قلت: جعلت فداک أفأتولّاهما؟ قال:

نعم ویحک تولّهما فی الدنیا والآخرة وما أصابک ففی عنقی ثم قال:

فعل اللّه بالمغیرة وبنان فإنّهما کذبا علینا أهل البیت(2).

أقول: فإنّ الإمام علیه السلام - فی هذه الروایة - ورّی فی کلامه بحیث لا یفهمه السائل فنفی عنهم علیهم السلام الظلم بصیغة المجهول، والمراد أنّ أبا بکر وعمر وغیرهما لا یستطیعون أن ینفوهم عن مقامهم الملکوتی وإمامتهم الإلهیة مثقال حبّة من خردل، فکما أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم نذیر للعالمین فکل من العترة إمام وولیّ وخلیفة علی العالمین ولا یضرّهم بذلک کید المشرکین والمنافقین.

ثم أجاب الإمام علیه السلام ثانیاً بقوله:

تولّهما والمراد منه التولّی والإدبار عنهما فی الدنیا والآخرة.

ثم عقّب علیه السلام کلامه بما یوهم اللعن علی المغیرة وبنان و هذا یدل علی أنّ انطباع أوساط العامة بل الزیدیة - حیث إنّ السائل بتری - حول موقف أئمة أهل البیت علیهم السلام أنهم کانوا یتبرؤون من غاصبی الخلافة، و ذلک بسبب إفشاء المغیرة

ص:290


1- (1) . هکذا فی شرح ابن أبی الحدید لکن الصحیح النوّاء.
2- (2) . شرح نهج البلاغة 16 / 220 .

وبنان البراءة من الخلفاء جهاراً. فإنهما أشاعا فی تلک الأوساط مخالفة العترة الطاهرة لخلافة السقیفة ومن أجل هذا عقّب علیه السلام کلامه بذمّهما من دون أن یسبق ذکر لهما فی کلام السائل حیث کان ذلک معروفاً ومرتکزاً لدیهم من أنّ المغیرة وبنان هما اللذان نشرا علی أهل البیت تبریهم من الخلفاء ومخالفتهم لهم.

ومن هنا یعلم أنّ تکذیب الإمام علیه السلام إیاهما هنا وفی سائر الموارد لیس بمعناه الذی قد ینسبق إلی الذهن من أنهما نسبا إلی الإمام ما لم یقله، بل یحمل علی المعانی الأخر للکذب الذی أوضحناه والتی منها إذاعة الأسرار بملاحظة أنّ هذه الإذاعة فعل باطل وغیر صائب؛ أو بمعنی أنّهم علیهم السلام لم یلتزموا بنشر هذه المعارف، وهم بإذاعتهم عنهم للأسرار ینسبون لهم التزاماً بالتزام الأئمة علیهم السلام بنشرها وتأییدهم لذلک فیکذّبون علی الأئمة علیهم السلام فی هذا المدلول الالتزامی.

بل یمکن حملها علی وجوه أخر کالتقیّة وغیرها، کما فعلوا ذلک فی أمثال زرارة صوناً لهم عن الأعداء، و ذلک بملاحظة أنّ تبیین موقف الأئمة علیهم السلام تجاه غاصبی الخلافة أمر هام لابدّ منه لدی شیعتهم ولابد من معرفتهم هذه الحقائق وتوعیتهم بأنّ أهل البیت مخالفون لمسار الخلافة.

وکان لمثل المغیرة وبنان نصیباً کبیراً فی القیام بهذا الدور المهم.

ثم إنّ کثیر النوّال المذکور فی شرح نهج البلاغة هو کثیر النوّاء وهو زیدی بتری کوفی عامی کما ذکره الشیخ فی رجاله(1)، والرجل کان ینهج منهج البتریة، وهی ظاهرة ومنهجیة تکررت فی التاریخ وتتکرر، وهی تعتمد علی التلفیق والمزیج من المشارب المختلفة، وکان منحرفاً عن أهل البیت علیهم السلام ، وکان یتحامل علیهم علیهم السلام ویصادمهم، کما روی الکشی عن أبی بکر الحضرمی قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

اللهم إنّی إلیک من کثیر النوا أبرأ فی الدنیا والآخرة.

ص:291


1- (1) . وقد روی فی المستطرفات لابن إدریس عن أبان أنه سأل عنه فی الکوفة فوجد أنه ولد لغیة.

وروی محمد بن یحیی قال: قلت لکثیر النوا: ما أشدّ استخفافک بأبی جعفر علیه السلام ؟ قال: لأنّی سمعت منه شیئاً لا أحبه أبداً سمعته یقول:

إنّ الأرض السبع تفتح لمحمد وعترته.

وروی أیضاً عن أبی بصیر قال: کنت جالساً عند أبی عبد اللّه علیه السلام إذ جاءت أم خالد التی کان قطعها یوسف تستأذن علیه قال: فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

أیسرک أن تشهد کلامها؟ قال: فقلت: نعم، جعلت فداک فقال:

أما الآن فادن قال: فأجلسنی علی عقبة الطنفسة ثم دخلت فتکلّمت فإذا هی امرأة بلیغة فسألته عن فلان وفلان فقال لها: تولیهما فقالت: فأقول لربّی إذا لقیته إنک أمرتنی بولایتهما؟ قال:

نعمقالت: فإن الذی معک علی الطنفسة یأمرنی بالبراءة منهما وکثیر النوا یأمرنی بولایتهما فأیّهما أحب إلیک قال:

هذا و اللّه وأصحابه أحب إلیّ من کثیر النوا وأصحابه إن هذا یخاصم فیقول: «مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الْکافِرُونَ » ، «وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ » ، «وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الْفاسِقُونَ » . فلما خرجت قال:

إنما خشیت أن تذهب فتخبر کثیر النوا فتشهرنی بالکوفة اللهم إنی إلیک من کثیر النوا بریء فی الدنیا والآخرة(1).

وروی فی الخرائج والجرائح عن داود بن کثیر الرقی قال: کنت عند الصادق علیه السلام أنا وأبو الخطاب والمفضّل وأبو عبد اللّه البلخی إذ دخل علینا کثیر النوّا فقال: إنّ أبا الخطاب هذا یشتم أبا بکر وعمر ویظهر البراءة منهما، فالتفت الصادق علیه السلام إلی أبی الخطّاب وقال:

یا محمد ما تقول؟ قال: کذب و اللّه ما سمع منّی قطّ شتمهما.

فقال الصادق علیه السلام :

قد حلف ولا یحلف کاذباً فقال: صدق لم أسمع أنا منه ولکن حدّثنی الثقة به عنه.

ص:292


1- (1) . الخرائج والجرائح 1 / 297.

قال الصادق علیه السلام :

وإنّ الثقة لا یبلّغ ذلک.

فلمّا خرج کثیر قال الصادق علیه السلام :

أما و اللّه لئن کان أبو الخطاب ذکر ما قال کثیر لقد علم من أمرهما ما لم یعلمه کثیر و اللّه لقد جلسا مجلس أمیر المؤمنین علیه السلام غصباً فلا غفر اللّه لهما ولا عفا عنهما ...(1).

وفی البحار عن کنز جامع الفوائد وتأویل الآیات الظاهرة عن أبی الخطّاب عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنه قال:

و اللّه ما کنّی اللّه فی کتابه حتی قال: «یا وَیْلَتی لَیْتَنِی لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِیلاً»

وإنّما هی فی مصحف علی علیه السلام یا ویلتی لم أتّخذ الثانی خلیلاً وسیظهر یوماً(2).

والروایة تبین استقرار دیدن أبی الخطّاب فی أیام استقامته علی التبرّی وتربیة النخبة علی ذلک.

وفی میزان الاعتدال عن أبی معاویة، عن الأعمش، قال: أوّل من سمعته یتنقّص أبا بکر وعمر المغیرة المصلوب(3).

وروی عن شبابة حدّثنا عبد الأعلی بن أبی المساور سمعت المغیرة بن سعید الکذّاب یقول: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ » علی «وَ الْإِحْسانِ » فاطمة «وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی » الحسن والحسین «وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ» قال: فلان أفحش الناس والمنکر فلان(4).

وفی الکامل عن عبد الأعلی بن أبی المساور قال: سمعت المغیرة بن سعید الکذاب یقول: «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ » علی بن أبی طالب «وَ الْإِحْسانِ » فاطمة، «وَ إِیتاءِ ذِی الْقُرْبی » الحسن والحسین، «وَ یَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ» کان أبو بکر من

ص:293


1- (1) . الخرائج والجرائح 1 / 297 .
2- (2) . بحار الأنوار 24 / 18 / ح 31 .
3- (3) . میزان الاعتدال 4 / 161 .
4- (4) . میزان الاعتدال 4 / 160 .

أفحش الناس، والمنکر عمر بن الخطاب کذب علیه لعنة اللّه(1).

کان یقول: کیف الطریق إلی بنو حرام(2).

وقال البلاذری: «حدثنی الحسین بن علی بن الأسود عن یحیی بن آدم عن عبد اللّه بن إدریس عن جار له قال: سمعت مغیرة بن سعید یقول: مات عثمان بن عفان وهو یعبد سبعة آلهة، فأخبر خالد بن عبد اللّه بذلک فأرسل إلیه فأخذه فاعترضته فقلت: فی أیّ شیء أخذت؟ قال: لا أدری إلّاأن یکون حمیمات لإبنی»(3).

وهذه الروایات تبیّن بوضوح أنّ طعن العامّة علی بنان والمغیرة بن سعید وأبی الخطّاب هو لإفراط مجاهرتهم بتخطئة الشیخین ونقدهما، وأنّ تبرّی الإمام الباقر علیه السلام والإمام الصادق علیه السلام من بنان والمغیرة وأبی الخطاب کان من أسبابه معالجة الموقف الحرج والإرباک الأمنی الذی أحدثه تیّار الثلاثة للأئمة أمام السلطة وعلماء العامّة، وأنّ نهج هؤلاء الثلاثة المتسرّع فی إظهار النقد والتخطئة بمنهج السقیفة هو علی حذو التأکید علی عقیدة النصّ الإلهی.

والإجهار بذلک وبمقام الخلافة والإمامة الإلهیّة لأهل البیت علیهم السلام من دون مراعاة التأهیل والأرضیة والتدریج والإعداد یشابه الاندفاع والتسرّع الذی کان عند عبد اللّه بن سبأ ممّا فتح علیهم کیل الطعون والافتراءات، لا سیّما وأنّ ما یستدل به ویبثّ هؤلاء من بیانات فی المعارف تنطبع فی ذهنیّة أوساط العامّة بنحو إیهامی ملتبس إذ لم یعهدوا تفسیر هذه المعانی علی الوجه الصحیح.

وعلی أیّ تقدیر فهذا التیار کان فی تجاذب شدید مع تیّار البتریة التلفیقی المزیجی.

ص:294


1- (1) . الکامل فی ضعفاء الرجال 6 / 353 .
2- (2) . الکامل فی ضعفاء الرجال 6 / 353 .
3- (3) . أنساب الأشراف 9 / 76 .

المؤاخذة الثالثة: الخطأ فی التأویل دون الجعل

اشارة

وهو العمدة فی زلل جملة من فرق الشیعة وامتیازهم علی أهل الخلاف فإنّ الملحوظ فی موقف أئمة أهل البیت علیهم السلام تجاه جملة من الجماعات والفرق الشیعیة التی تزلّ وتنزلق فی بعض المسائل الاعتقادیة:

أولاً: أنهم علیهم السلام لا یحکمون علیهم بحکم أهل الخلاف وفرق العامة بل یفرّقون فی الحکم علیهم ویمیّزوهم عنهم.

وبعبارة أخری: إنهم علیهم السلام یعتدّون بالمساحة المشترکة مع تلک الفرق فیما تقرّ به من ثوابت وقواعد مدرسة أهل البیت علیهم السلام وإجمال ولایتهم، فلا یساوون فی کیفیة التعامل ودرجة العلاقة والارتباط بین فرق الشیعة وفرق العامّة، بل إنّ الملحوظ منهم علیهم السلام التمییز بین فرق الشیعة فی درجات قربها وبعدها من الاستقامة، وکذلک الحال فیما بین الفرق العامّة، فتری أنّ تعاملهم مع البتریّة - رغم أنهم یعدّونهم من فرق العامّة ولا یدرجونهم فی فرق الشیعة - یمتاز فی الدرجة عن تعاملهم علیهم السلام عن بقیّة فرق العامة.

والحاصل أنّ مجرّد تخطئة بعض الفرق فی شیعتهم علیهم السلام فضلاً عن بعض التیّارات من أتباعهم، لا یعنی تخطئة کل ما لدی تلک الفرقة أو ذلک التیّار وإسقاط اعتبار کل ما لدیهم، بل منهاجهم قائم علی التمییز بین الصحیح والخطأ فی ما لدی تلک الفرقة أو التیّار، وسیأتی لهذه الضابطة شواهد عدیدة.

ثانیاً: أن تخطئتهم علیهم السلام وتکذیبهم لجملة من تلک الفرق والتیّارات لیس بالحکم علیهم بالوضع والجعل والاختلاق، بل التخطئة والتکذیب هو بلحاظ الخطأ فی التأویل وقصور وسوء الفهم وقلّة العلم والجهالة و هذا معنی من معانی

ص:295

الکذب والغلو کما بیّناه سابقاً.

بینما یتوهّم کثیر من أرباب الجرح والتعدیل أو أصحاب کتب الملل والنحل أنّ تکذیبهم بمعنی نسبة الجعل والوضع إلی تلک الجماعة والفرقة والتیّار، وسیأتی شواهد عدیدة علی کون التکذیب والتخطئة هو فی التأویل والفهم لا فی روایات تلک الجماعات والفرق والتیارات الشیعیة ونقلهم. ولا یخفی الفرق الکبیر بین النمطین من التکذیب فإنّ النمط الأول لا یسقط حجّیة الروایة بخلاف النمط الثانی.

والشواهد علی ما تقدّم:

ما ورد فی الواقفیة

ففی قرب الإسناد فی مکاتبة أحمد بن محمد بن أبی نصر البزنطی قال:

کتبت إلی الرضا علیه السلام : إنّی رجل من أهل الکوفة و أنا وأهل بیتی ندین اللّه عزوجل بطاعتکم وقد أحببت لقاءک لأسألک عن دینی وأشیاء جاء بها قوم عنک بحجج یحتجّون بها علیّ فیک، وهم الذین یزعمون أنّ أباک صلی اللّه علیه حیّ فی الدنیا لم یمت یقیناً ... فکتب الإمام علیه السلام :

... وقال أبو جعفر علیه السلام : «من سرّه أن لا یکون بینه وبین اللّه حجاب حتی ینظر إلی اللّه وینظر اللّه إلیه، فلیتولّ آل محمد ویبرأ من عدوّهم ویأتمّ بالإمام منهم، فإنه إذا کان کذلک نظر اللّه إلیه ونظر إلی اللّه»، ولولا ما قال أبو جعفر علیه السلام حین یقول: «لا تعجلوا علی شیعتنا، إن تزل قدم تثبت أخری» وقال: «من لک بأخیک کلّه»، لکان منّی من القول فی ابن أبی حمزة وابن السراج وأصحاب ابن أبی حمزة.

أما ابن السرّاج فإنما دعاه إلی مخالفتنا والخروج عن أمرنا، أنه عدا علی مال لأبی الحسن صلوات اللّه علیه عظیم فاقتطعه فی حیاة أبی الحسن وکابرنی علیه وأبی أن یدفعه، والناس کلّهم مسلمون مجتمعون علی تسلیمهم الأشیاء کلّها إلیّ، فلما حدث ما حدث من هلاک أبی الحسن صلوات اللّه علیه اغتنم فراق علی بن أبی حمزة وأصحابه إیّای وتعلّل، ولعمری ما به من علّة إلّااقتطاعه المال وذهابه به.

ص:296

وأما ابن أبی حمزة فإنه رجل تأوّل تأویلاً لم یحسنه ولم یؤت علمه فألقاه إلی الناس فلجّ فیه، وکره إکذاب نفسه فی إبطال قوله بأحادیث تأوّلها ولم یحسن تأویلها ولم یؤت علمها، ورأی أنه إذا لم یصدق آبائی بذلک لم یدر لعل ما خبر عنه مثل السفیانی وغیره أنه کائن لا یکون منه شیء، وقال لهم لیس یسقط قول آبائه بشیء. ولعمری ما یسقط قول آبائی شیء ولکن قصر علمه عن غایات ذلک وحقائقه، فصار فتنة له وشبّه علیه وفرّ من أمر فوقع فیه. وقال أبو جعفر علیه السلام : «من زعم أنه قد فرغ من الأمر فقد کذب لأنّ للّه عزّوجل المشیئة فی خلقه یحدث ما یشاء ویفعل ما یرید».

وقال: «ذُرِّیَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ »

فآخرها من أوّلها وأوّلها من آخرها فإذا أخبر عنها بشیء منها بعینه أنه کائن، فکان فی غیره منه فقد وقع الخبر علی ما أخبر. ألیس فی أیدیهم أنّ أبا عبد اللّه علیه السلام قال: «إذا قیل فی المرء شیء لم یکن فیه ثم کان فی ولده من بعده فقد کان فیه»(1).

ویستفاد من هذا الحدیث أمور:

الأمر الأول: أنّه علیه السلام رغم ما ورد عنهم أن من أنکر أحدهم کان کمن أنکر جمیعهم فی الخروج من الإیمان - وهذه القاعدة متواترة عنهم علیهم السلام مبرهنة بأحادیث أخری متواترة

کمن مات ولم یعرف إمام زمانه مات میتة جاهلیة وغیرها من قواعد معرفة الإمامة فی القرآن والسنّة القطعیة - ورغم اللعن الصادر فی رؤساء الواقفیة والواقفة وفی ابن أبی حمزة البطائنی، إلّاأنه علیه السلام یدرجهم فی عموم فرق الشیعة ویخالف فی حکمهم عن فرق المخالفین، ولذا استشهد علیه السلام بقول أبی جعفر:

لا تعجلوا علی شیعتنا... وأنه لولا ذلک لحکم علیه السلام فیهم بأشدّ من ذلک.

الأمر الثانی: أنّ منشأ انحراف ابن أبی حمزة البطائنی جهالته فی تأویل أحادیث سمعها عن الأئمة السابقین ولم یدر حقیقتها ومآل معانیها، فافتتن

ص:297


1- (1) . قرب الإسناد / 531 ح 1260 .

بمدالیها واشتبه علیه واقع الأمر، ولعلّه علیه السلام یشیر إلی ما ورد عنهم علیهم السلام أنّه قد قدّر موسی بن جعفر علیهما السلام أن یکون مهدی هذه الأمة کما قد قدّر فی الحسین علیه السلام مثل ذلک، إلّاأنه بدا للّه تعالی فی ذلک لتخاذل الشیعة، ثم قدّر أن یکون جعفر بن محمد الصادق کما فی روایة أخری، لکنّه بدا للّه أیضاً ثم قدّر فی موسی بن جعفر ولکنه بدا للّه أیضاً ذلک، لأنّ هذه التقادیر لم یکن تقادیر حتم بل تقادیر ممّا للّه فیها المشیئة. وهذه التقادیر لا تنافی النصّ علی الاثنی عشر لأنّ المراد من المهدیّ فی هذه الأحادیث هو من تبدأ علی یدیه دولة الأئمة التی لیس بعدها دولة ممّا أطلق علیها بدولة الرجعة.

ولا ینافی هذه التقادیر أن تقدیر الحتم عند اللّه عزوجل فی الإمام الثانی عشر عجل اللّه تعالی فرجه الشریف أنّه الذی یملأ اللّه علی یدیه الأرض قسطاً وعدلاً ویکون هو أول من یقیم دولة الرجعة لهم علیهم السلام .

فمراتب القضاء والقدر ومراتب الحتم والإبرام واختلاف المشیّة هی من القواعد المعرفیّة الغامضة فی معارف الدین، کما أنّ ارتباط المعارف بسلسة ومنظومة من القواعد والسنن الإلهیة التکوینیة أمر بالغ السعة والانتشار لا یهتدی إلیه إلّابتعلیم منهم علیهم السلام کی ینجو الباحث من المتشابه والزلل والزیغ فی استنتاج ما تؤول إلیه غایات الدلائل.

ثمّ بیّن علیه السلام أنّ هناک أسباب أخری دعت ابن أبی حمزة وتدعو أمثاله للانحراف، منها اللجاج والعناد، ومنها العزّة بالإثم أی اختیار النار ولا العار، أیّ یری أنّ عزّته تحفظ بالتمادی فی الإثم وأنها أفضل من الافتضاح فی العاجل مع التوبة، ومنها توهّم التنافی بین کلمات وأحادیث الأئمة علیهم السلام وتقدیم بعضها والتکذیب بالبعض الآخر لتوهّم التنافی بینها والجهل بصیغة التولیف بینها.

الأمر الثالث: أنّ بعض من ینحرف من تیّارات الشیعة إنما هو بسبب الأطماع الدنیویة.

ص:298

تشویش بعض المعارف فی فهم أبی الخطّاب وهلاکه فی عدم الفرق بین النبی و المحدّث

روی الکلینی عن محمد عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن جمیل بن صالح عن زیاد بن سوقة عن الحکم بن عتیبة قال:

دخلت علی علی بن الحسین علیه السلام یوماً فقال:

یا حکم هل تدری الآیة التی کان علی بن أبی طالب علیه السلام یعرف قاتله بها ویعرف بها الأمور العظام التی کان یحدّث بها الناس.

قال الحکم: فقلت فی نفسی قد وقعتُ علی علمٍ من علم علی بن الحسین أعلمُ بذلک تلک الأمور العظام. قال: فقلت: لا و اللّه لا أعلم. قال: ثم قلت الآیة تخبرنی بها یابن رسول اللّه؟ قال:

هو و اللّه قول اللّه عزّ ذکره: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِیٍّ

و لا محدث» و کان علی بن أبی طالب علیه السلام محدّثاً. فقال له رجل یقال له عبد اللّه بن زید کان أخا علی لأمّه: سبحان اللّه محدّثاً کأنّه ینکر ذلک. فأقبل علینا أبو جعفر علیه السلام فقال:

أما و اللّه إنّ ابن أمّک بعد قد کان یعرف ذلک. قال: فلمّا قال ذلک سکت الرجل، فقال:

هی التی هلک فیها أبو الخطّاب فلم یدر ما تأویل المحدّث والنبیّ (1).

والروایة تشیر أیضاً إلی أنّ سبب انحراف أبی الخطّاب والخطّابیّة هو سوء الفهم والخطأ فی التأویل وعدم معرفة حقائق کلامهم علیهم السلام ، وهذه الروایة وما تأتی من روایات أخری تعزّز ما مر من أنّ أحد أسباب الغلو ومعانیه هو الخطأ فی التأویل.

وفی بصائر الدرجات عن علیّ بن حسّان عن موسی بن بکر عن حمران عن أبی جعفر علیه السلام قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم :

من أهل بیتی اثنا عشر محدّثاً فقال له عبد اللّه بن زید کان أخا علیّ لأمّه: سبحان اللّه کان محدّثاً؟ کالمنکر لذلک فأقبل علیه أبو جعفر علیه السلام فقال:

أما و اللّه إنّ ابن أمّک بعد قد کان یعرف ذلک قال: فلمّا قال ذلک سکت

ص:299


1- (1) . الکافی 1 / 270 / باب أنّ الأئمة علیهم السلام محدّثون مفهّمون / ح 2 .

الرجل فقال أبو جعفر علیه السلام :

هی الّتی هلک فیها أبو الخطّاب لم یدر تأویل المحدّث والنبی(1).

أقول: و هذا یدلّ علی أنّهم حرّفوا جملة من أسرار المعارف عن حقیقتها لقصور فی قابلیتهم أو تحریف العامّة لجملة ممّا أذاعوا هؤلاء الأسرار لعدم میز العامّة بین النبی والمحدّث، وبین الإلهام من الباری تعالی والإلهام من غیره تعالی، وإنّ کل ملهَم فی زعم العامّة نبیّ وکلّ ملهِم هو اللّه تعالی.

وروی الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد عن الحسین بن سعید عن حمّاد بن عیسی عن الحسین بن مختار عن الحارث بن المغیرة عن حمران بن أعین قال: قال أبو جعفر علیه السلام :

إنّ علیاً علیه السلام کان محدّثاً فخرجت إلی أصحابی فقلت: جئتکم بعجیبة فقالوا: وما هی؟ فقلت: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول:

کان علی علیه السلام محدّثاً فقالوا: ما صنعت شیئاً ألا سألته من کان یحدّثه فرجعت إلیه فقلت: إنّی حدّثت أصحابی بما حدّثتنی فقالوا: ما صنعت شیئاً ألا سألته من کان یحدّثه؟ فقال لی:

یحدّثه ملک، قلت: تقول: إنّه نبیّ؟ قال: فحرّک یده - هکذا -

أو کصاحب سلیمان أو کصاحب موسی أو کذی القرنین أو ما بلغکم أنّه قال: وفیکم مثله(2).

وفی هذه النماذج عبرة خطیرة جدّاً سواء للمقصّرة أو للباحثین عن غوامض المعرفة ودقائق الأسرار. أما المقصّرة فلا یتّخذون من انحراف ثلّة من رواة المعارف وطلّاب أسرار الحقائق ذریعة للإنکار والجحود والطعن والجرح لکافّة رواة المعارف، بل وجود التیارات المنحرفة خیر شاهد ومنبّه علی وجود حقائق معرفیّة ودقائق عقائدیة لم یستطع أولئک المنحرفون أن یتحمّلوها فشطط بهم الإقدام. وأما العبرة للباحثین عن غوامض المعرفة فلا یغرّنهم الوقوف علی بعض درجات المعرفة ویحسبوا أنّهم قد استقاموا علی الجادّة، بل لابدّ أن یحذروا الزلل

ص:300


1- (1) . بحار الأنوار 26 / 67 / 7 .
2- (2) . أصول الکافی 1 / 271 / ح 5 .

فی التأویل ولا یظنّ إنّما وصلوا إلیه هو نهایة المطاف لأنّ هناک من حقائق ما هو أغور عمقاً. و «قُلْ لَوْ کانَ الْبَحْرُ مِداداً لِکَلِماتِ رَبِّی لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِماتُ رَبِّی ) ،(وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِی عِلْماً).

انحراف أبی الخطّاب فی فهم العلم اللدنی فی الإمامة ومغایرته عن النبوة

أنّ أبا الخطّاب کان قبل انحرافه ذا مکانة فی أوساط الشیعة ومأموناً فی آرائه وإن انحرافه کان فی فهم العلم اللدنی.

ففی بصائر الدرجات عن محمد بن الحسین عن صفوان بن یحیی عن أبی خالد القمّاط عن حمران بن أعین قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أنبیاء أنتم؟ قال:

لا،قلت: فقد حدّثنی من لا أتّهم أنّک قلت: إنّکم أنبیاء؟ قال:

من هو أبو الخطّاب؟ قال:

قلت: نعم، قال:

کنت إذاً أهجر؟ قال: قلت: فبما تحکمون؟ قال:

نحکم بحکم آل داود(1).

وقد نُقل أیضاً فی الخرائج للراوندی.

وقد أوضحنا فی کتاب الإمامة الإلهیّة الفارق بین العلم اللدنی والنبوّة من أنّ ذلک لیس شریعة، بل هو عبارة عن معرفة لدنیّة بحقائق الشریعة وبطونها وتأویل الکتاب کلّه وعلم تطبیقها فی نظام البشریّة فی الحیاة الأرضیة وغیرها من فصول العلم الإلهی فلاحظ (2).

تحذیر الإمام من الإذاعة والتظنّی

فقد روی الکشی مسنداً عن قاسم الصیرفی قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول: قوم یزعمون أنّی لهم إمام و اللّه ما أنا لهم بإمام، ما لهم لعنهم اللّه، کلّما سترت ستراً هتکوه، هتک اللّه ستورهم. أقول کذا، یقولون إنّما یعنی کذا، إنّما أنا إمام من

ص:301


1- (1) . بحار الأنوار 52 / 330 / 23 .
2- (2) . الإمامة الإلهیة: الفصل الثالث إلی الفصل الثامن.

أطاعنی(1).

و هذا الحدیث یشیر إلی ضابطة خطیرة وتوصیة عظیمة لابد أن یراعیها الباحثون فی بیانات الکتاب والسنة والمتأمّلون لإشارات الوحی ولطائف الآیات والروایات، وهی ما مرّ بسطه فی أوائل مباحث هذا الکتاب من أنّ دقائق المعرفة لا یستقیم إظهارها لعموم المؤمنین فضلاً عن المخالفین، و ذلک لعدم قدرتهم علی تصورها بشکل صحیح وبنحو قویم مستقیم یحفظ فیه التوحید الخالص وعبودیة المخلوقات بل ینعکس المعنی مقلوباً لدیهم بإطار منکوس رأساً علی عقب، فیجرّ إلی نقض الغرض من الهدایة إلی الضلالة، نظیر ما لو جرّع طفلاً ما لا یتحمّله من الطعام فإنّه بدل أن یساهم فی نموّه ورشده سیقضی علیه ویؤدی إلی مضاعفات تأتی علیه بالهلاک، ومن ثم کانت إذاعة تلک الدقائق والغوامض إضلال لعامة الأذهان وإشاعة للغوایة.

والتوصیة الثانیة فی الحدیث أنّ التأویل والاستنتاج لنتائج أعمق لابد أن یراعی فیها الدلائل الموزونة لا هلوسة التخرصات المظنونة کما یجب التمسک بالمحکمات وعدم الانزلاق وراء کل متشابه مبهم طمعاً فی الوقوف علی الحقائق الخفیة بوسیلة التشبث بالأمور الواهیة.

ص:302


1- (1) . رجال الکشی / رقم 539 .

المؤاخذة الرابعة: ملامح سلوکهم الفقهی بین الإفراط والتفریط ، والمفارقة بین روّادهم وبین الأتباع

اشارة

فإنّ الملاحظ فی المغیرة بن سعید وأبی الخطاب وبقیّة روّاد المطعون علیهم بالغلو وکذلک تیّارهم الموسوم بالمغیریّة والخطابیة أنّهم لم یکونوا فی بدو أمرهم متفسّخین عن الالتزام الفقهی کما یصوّره کتب رجال العامة وجملة من کلمات أصحاب الجرح والتعدیل لدینا، بل کان طابعهم ضمن تیّار بقیة الأصحاب، مع اشتمالهم علی جملة من الشذوذات التی هی بین إفراط وتفریط.

نعم بعد قتل المغیرة وأبی الخطّاب وروّاد ذلک التیار، تفشّی الانحراف فی ذلک التیار بدرجة مفرطة شیئاً فشیئاً إلی أن وصلت النوبة إلی روّاد آخرین فی زمان الجواد والعسکریین علیهما السلام ، بحیث أخذت الهوّة والفجوة بین هذا التیار وتیّار بقیة رواة الأصحاب عمقاً وبعداً کبیراً.

فاشتبه الأمر علی کثیر من الباحثین بتسریة وسحب أوصاف ذلک التیّار فی فتراته اللاحقة وامتداداته إلی فترة بدایات ذلک التیّار ولا سیّما نجوم رواته وروّاده.

بل إنّ الکثیر من الباحثین حیث رأی طابع هذا التیار فی القرن الثالث والرابع، وکیفیة نشوء فرق الصوفیة منه وتمادیهم فی تلک الأمور بنحو مریج، قام بالحکم علی روّاد ذلک التیّار بما شاهده فی الفترات اللاحقة.

نعم لا یستراب أنّ بدایة هذا التیار کان قد انطوی علی شذوذات فی المنهج الفقهی و القواعد الشرعیة، وقد سبّبت التمادی فیها فیما بعد ذلک إلی الانحراف والبون عن المسار الصحیح.

ص:303

وقد أشار علیه السلام فی مکاتبته للمفضّل بن عمر إلی أساس بزوغ هذا الخطأ المنهجی والشذوذ الذی سبّب التمادی فیه فیما بعد، فجوة عظیمة وکبیرة. فإن الانحراف عن الطریق المستقیم یبدأ یسیراً ثم لا یزیده کثرة السیر إلّابُعداً عن الطریق الصحیح کما ورد فی الصحیح عن أبی عبد اللّه علیه السلام یقول:

العامل علی غیر بصیرة کالسائر علی غیر الطریق لا یزیده سرعة السیر إلّابُعداً(1).

وقد مرّ بیان ذلک فی الفقرات السابقة من المکاتبة وفیها أمور أخر نبّه علیها الإمام علیه السلام .

فهذا التطرّف فی باطن الحقائق والأمور علی حساب التفریط فی الظاهر - أی بنحو یؤدّی إلی التهاون بحدود ظاهر الشریعة - أدّی إلی جملة من الشذوذات فی السلوک الفقهی. و هذا نمط من التطرّف والخروج عن حدّ الاعتدال والتوازن الذی هو من أنماط الغلو، لا أنّ ذات المقالة فی المعارف التی تبنّوها هی فی أصلها خروج عن الحدّ، ومن ثمّ أکدت الوصیة النبویة من قوله صلی الله علیه و آله و سلم :

إنما العلم ثلاثة: آیة محکمة أو فریضة عادلة أو سنّة قائمة(2) حیث بیّن صلی الله علیه و آله و سلم عدم حصر العلم فی أحد الثلاثة بل التوازن والتعادل لا یحصل إلّابالتضلّع فی الثلاث.

وفی الکافی بسند صحیح عن أبی عبد اللّه علیه السلام یقول:

لا یقبل اللّه عملاً إلّابمعرفة ولا معرفة إلّابعمل، فمن عرف دلّته معرفته علی العمل ومن لم یعمل فلا معرفة له، ألا أنّ الإیمان بعضه من بعض(3).

وهذه ظاهرة تتکرّر فی التیار الذی یقف علی أسرار المعارف، وهی وإن لم تکن ظاهرة متفشیّة فی جمیع رموز هذا التیّار ونماذجه، إلّاأنّها ظاهرة متفشیّة فی الکثیر منه، فتراهم بسبب الوقوف علی الکثیر من المعارف الشامخة وذات الغور

ص:304


1- (1) . الکافی 1 / 43 .
2- (2) . الکافی 1 / 32 .
3- (3) . الکافی 1 / 44 .

العمیق یؤدّی بهم ذلک إلی الاغترار والتفریط فی علوم الأحکام وعلم الحلال والحرام.

و هذا ما یجعل قاعدة الأتباع لهم فریسة جملة من السلوک الشاذّ والانحرافات العملیّة عن الجادّة.

ولنستعرض جملة من الشواهد والملامح عن ذلک:

مؤاخذاتهم علیهم السلام علی تیّار المغیریّة والخطابیّة بعدم تضلّعهم فی الفقه

1 - روی الکشی بإسناده عن ابن أبی نصر عن علی بن عقبة عن أبیه قال:

دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام قال: فسلّمت وجلست فقال لی:

کان فی مجلسک هذا أبو الخطّاب ومعه سبعون رجلاً کلّهم إلیه یتألّم(1) منهم شیء رحمتهم، فقلت لهم: ألا أخبرکم

بفضائل المسلم؟ فلا أحسب أصغرهم إلّاقال: بلی جعلت فداک، قلت: من فضائل المسل أن یقال: فلان قاریء لکتاب اللّه عزوجل، وفلان ذو حظّ من ورع، وفلان یجتهد فی عبادته، لربّه فهذه فضائل المسلم، ما لکم وللریاسات! إنما المسلمون رأس واحد، إیّاکم والرجال فإنّ الرجال للرجال مهلکة فإنّی سمعت أبی یقول: إنّ شیطاناً یقال له المذهب یأتی فی کلّ صورة إلّاأنّه لا یأتی فی صورة نبیّ ولا وصیّ نبی، ولا أحسبه إلّاوقد تراءی لصاحبکم فاحذروه! فبلغنی أنّهم قتلوا معه فأبعدهم اللّه وأسحقهم إنّه لا یهلک علی اللّه إلّاهالک(2).

ویظهر من هذا الحدیث تأکیده علیه السلام بشدّة علی هذا التیّار بلزوم التقیّد بموازین والمصادر الظاهرة للشریعة، کالدلالة الظاهرة لألفاظ الآیات ولزوم التقیّد فی السیرة العملیة بحدود ظاهر الشریعة، ولزوم بناء عمل المسلم علی طابع وأبواب العبادة فی الشریعة والاجتهاد فیها. و هذا مما یشیر إلی عکوف هذا التیّار علی المعارف وتسویل ذلک لهم بالتفریط فی الشریعة والعمل فی الدین فیبیّن علیه السلام

ص:305


1- (1) . قال فی البحار وفی بعض النسخ: ینالهم.
2- (2) . رجال الکشی ح 516 .

أنّ التوازن والمعرفة إنما یکون مع العمل لا بدونه کما لا یفید عمل بلا معرفة.

2 - روی الحلی فی مختصر البصائر عن محمد بن عیسی بن عبید عن الحسین بن سعید عن جعفر بن بشیر البجلی عن حمّاد بن عثمان عن أبی أسامة زید الشحام قال: کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام وعنده رجل من المغیریّة فسأله عن شیء من السنن فقال:

ما من شیء یحتاج إلیه ابن آدم إلّاوخرجت فیه السنّة من اللّه تعالی ومن رسوله صلی الله علیه و آله و سلم ولولا ذلک ما احتجّ اللّه عزوجل علینا بما احتجّ. فقال المغیری: وبما احتجّ؟ فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

بقوله: «اَلْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَ رَضِیتُ لَکُمُ الْإِسْلامَ دِیناً» - حتی تمّم الآیة -

فلو لم یکمل سننه وفرائضه ما احتجّ به(1).

وفی الروایة دلالة علی عدم تضلّع المغیریّة فی الفقه وعدم تواصلهم مع الإمام لتعلّم الأحکام.

3 - ومن المؤاخذات علی تیّار أبی الخطّاب فی الفقه ما نقل عنه فی وقت صلاة المغرب وأنّهم کانوا یؤخّرونه حتی تشتبک النجوم:

ففی من لا یحضره الفقیه: قال الصادق علیه السلام :

ملعون ملعون من أخّر المغرب طلباً لفضلها، وقیل له إنّ أهل العراق یؤخّرون المغرب حتّی تشتبک النجوم فقال: هذا من عمل عدوّ اللّه أبی الخطّاب(2).

وفی التهذیب: روی أحمد بن محمد بن عیسی عن سعید بن جناح عن بعض أصحابنا عن الرضا علیه السلام قال:

إنّ أبا الخطاب قد کان أفسد عامّة أهل الکوفة وکانوا لا یصلّون المغرب حتی یغیب الشفق وإنّما ذلک للمسافر والخائف ولصاحب الحاجة(3).

ورواه الکشی عن العیاشی عن علی بن الحسن عن معمر بن خلّاد عن أبی

ص:306


1- (1) . مختصر البصائر / 208 / ح 197 .
2- (2) . من لا یحضره الفقیه 1 / 220 / ح 661 .
3- (3) . تهذیب الأحکام 2 / 33 / باب أوقات الصلاة وعلامة کلّ وقت منها / ح 50 .

الحسن(1).

وفی التهذیب: روی محمد بن علی بن محبوب عن محمّد بن أبی الصُهبان عن عبد الرحمن بن حماد عن إبراهیم بن عبد الحمید عن أبی أسامة زید الشحام قال: قال رجل لأبی عبد اللّه علیه السلام : أوخّر المغرب حتی تستبین النجوم قال: فقال:

خطّابیّة؟ إنّ جبرئیل علیه السلام نزل علی محمد صلی الله علیه و آله و سلم حین سقط القرص(2).

وفی التهذیب: روی محمد بن علی بن محبوب عن العباس بن معروف عن عبد اللّه بن المغیرة عن ذریح قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّ أناساً من أصحاب أبی الخطّاب یمسّون بالمغرب حتی تشتبک النجوم، قال:

أبرأ إلی اللّه ممّن فعل ذلک متعمّداً(3).

وفی التهذیب: روی الحسن بن محمد عن عبد اللّه بن جبلة عن ذریح(4).

وفی التهذیب: عن الحسن بن محمد بن سماعة عن جعفر بن سماعة عن إبراهیم بن عبد الحمید عن الصبّاح بن سیابة وأبی أسامة قال: سألوا الشیخ عن المغرب فقال بعضهم: جعلنی اللّه فداک ننتظر حتّی یطلع کوکب فقال:

خطّابیة؟ إنّ جبرئیل علیه السلام نزل بها علی محمّد صلی الله علیه و آله و سلم حین سقط القرص(5).

وفی التهذیب: عن الحسن بن محمد بن سماعة عن حسین بن حمّاد بن عُدیس عن إسحاق بن عمار عن القاسم بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

ذکر أبو الخطّاب فلعنه ثم قال: إنّه لم یکن یحفظ شیئاً، حدّثته أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم غابت له الشمس فی مکان کذا وکذا وصلّی المغرب بالشجرة وبینهما ستّة أمیال فأخبرته بذلک فی السفر

ص:307


1- (1) . الکشی ح 518 .
2- (2) . تهذیب الأحکام 2 / 32 / نفس الباب / ح 49 .
3- (3) . تهذیب الأحکام 2 / 33 / نفس الباب / ح 53 .
4- (4) . تهذیب الأحکام 2 / 253 / باب المواقیت / ح 41 .
5- (5) . تهذیب الأحکام 2 / 258 / باب المواقیت / ح 64 .

فوضعه فی الحضر(1).

وفی التهذیب: محمد بن علی بن محبوب عن أحمد بن الحسن عن علی بن یعقوب عن مروان بن مسلم عن عمّار الساباطی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

إنّما أمرت أبا الخطّاب أن یصلّی المغرب حین زالت الحمرة فجعل هو الحمرة التی من قِبل المغرب وکان یصلّی حین یغیب الشفق(2).

وفی التهذیب: أحمد بن محمد عن الحسین بن سعید عن فضالة عن أبان عن زرارة قال: سألت أبا جعفر علیه السلام عن وقت إفطار الصائم قال:

حین یبدو ثلاثة أنجم وقال لرجل: ظنّ أنّ الشمس قد غابت فأفطر ثمّ أبصر الشمس بعد ذلک قال: لیس علیه قضاء.

قال محمّد بن الحسن: ما تضمّنه هذا الخبر من ظهور ثلاثة أنجم لا یعتبر به والمراعی ما قدّمناه من سقوط القرص وعلامته زوال الحمرة من ناحیة المشرق و هذا کان یعتبره أصحاب أبی الخطّاب لعنهم اللّه(3).

وفی الوسائل: عن جعفر بن علی بن الحسن بن علی بن عبد اللّه بن المغیرة عن أبیه عن جدّه عبد اللّه بن المغیرة عن عبد اللّه بن بکیر عن عبید اللّه بن زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: سمعته یقول:

صحبنی رجل کان یمسی بالمغرب ویغلّس بالفجر وکنت أنا أصلی المغرب إذا غربت الشمس وأصلّی الفجر إذا استبان لی الفجر، فقال لی الرجل: ما یمنعک أن تصنع مثل ما أصنع فإنّ الشمس تطلع علی قوم قبلنا وتغرب عنّا وهی طالعة علی مرقد آخرین بعد قال: فقلت: إنّما علینا أن نصلّی إذا وجبت الشمس عنا وإذا طلع الفجر عندنا لیس علینا إلّاذلک وعلی أولئک أن یُصلّوا إذا غربت عنهم.

قال صاحب الوسائل: لعلّ الرجل کان من أصحاب أبی الخطّاب وکان یصلّی

ص:308


1- (1) . نفس المصدر / ح 65 .
2- (2) . تهذیب الأحکام 2 / 259 / نفس الباب / ح 70 .
3- (3) . تهذیب الأحکام 4 / 318 / باب الزیادات / ح 36 .

المغرب عند ذهاب الحمرة المغربیّة وکان الصادق علیه السلام یصلّیها عند ذهاب الحمرة المشرقیة ومعلوم أنّ الشمس فی ذلک الوقت تکون طالعة علی قوم آخرین إلّاأنّه لا یعتبر أکثر من ذلک القدر(1).

وفی الکشی: حدّثنی محمد بن مسعود قال: حدّثنا ابن المغیرة قال: حدّثنا الفضل بن شاذان عن ابن أبی عمیر عن حمّاد عن حریز عن زرارة قال: قال - یعنی أبا عبد اللّه علیه السلام - ...

وأما أبو الخطّاب فکذب علیّ وقال: إنی أمرته أن لا یصلّی هو وأصحابه المغرب حتّی یروا کوکب کذا یقال له: القندانی (القیدانی) و اللّه إنّ ذلک لکوکب ما أعرفه(2).

وفی دعائم الإسلام: وسمع أبو الخطّاب أبا عبد اللّه علیه السلام وهو یقول:

إذا سقطت الحمرة من هاهنا وأومأ بیده إلی المشرق فذلک وقت المغرب. فقال أبو الخطاب لأصحابه لمّا أحدث ما أحدثه وقت صلاة المغرب ذهاب الحمرة من أفق المغرب فلا تصلّوها حتّی تشتبک النجوم وروی ذلک لهم عن أبی عبد اللّه علیه السلام فبلغه ذلک فلعن أبا الخطاب وقال:

من ترک صلاة المغرب عامداً إلی اشتباک النجوم فأنا منه بریء(3).

وفی هذه النصوص علی کثرتها بیّنوا علیهم السلام شذوذ أبی الخطّاب فی الفقه ویستفاد منها جملة من النقاط:

الأولی: أنّ هذا الشذوذ کان منشؤه الخطأ فی التأویل حیث بیّن علیه السلام فی روایة قاسم بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه هو الذی حدّثه بذلک الوقت لصلاة المغرب من فعل رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم ، ولکنّه لم یلتفت إلی أنّ ذلک کان فی السفر فأخطأ وظنّ أنّه حکم عامّ فی السفر والحضر، وکذا ما فی روایة عمار الساباطی عن أبی عبداللّه علیه السلام حیث جعل منشأ هذا الانحراف منه الخلط بین الحمرة المغربیة

ص:309


1- (1) . وسائل 4 / 179 / أبواب المواقیت / ب 16 / ح 22 .
2- (2) . رجال الکشی 301 / ح 407 .
3- (3) . مستدرک الوسائل 3 / 134 .

والحمرة المشرقیّة وعلیه یمکن حمل روایة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام الذی قال فیه الشیخ إنّه من مذهب أبی الخطّاب.

الثانیة: یظهر من هذه الروایات عدم اهتمام أبی الخطّاب فی الاستماع والتأمّل فی روایات الفروع وکان یجتریء ویفتی بتسرّع و ذلک لما بیّنا من أنّهم ما کانوا یقیمون لعلم الفروع والأحکام وزناً لشدّة انبهارهم بعلوم المعارف.

الثالثة: أنّ نسبة الکذب إلی أبی الخطّاب فی بعض هذه الأخبار لیس بمعنی أنّه تعمّد الکذب علی أهل البیت علیهم السلام ، و ذلک لما ذکرناه فی النقطة الأولی من أنّ الإمام علیه السلام یبیّن أنّ هذا الرأی حصل لدیه نتیجة عدم وعیه ودقّته، فهو اشتباه وإن کان مقصّراً وغیر معذور لتفریطه، إلّاأنّه لیس تکذیباً للإمام وافتراء علیه. وقد مرّ أنّ للکذب معانٍ مختلفة فی الآیات والروایات یخالف ما قد یتبادر إلی ذهن غیر المتمرّس وغیر المتتبّع.

هذا کلّه مع أنّه یمکن أن یقال: إنّ نسبة الکذب إلیه فی الروایات تعلیقی، أی حیث فشا وانتشر لدی أتباعه هذه الظاهرة وصار کمعلم وشعار لهذا التیّار فلأجل المقابلة معهم وردعهم عن ذلک قالوا: إنّه لو کان أبو الخطاب قال کذا فهو قد کذب نظیر اللعن الوارد من الأئمة علیهم السلام فی حقّ بعض الرواة التی مرّ ذکرها.

4 - ومن جملة الشذوذات مانقل عنه فی الحض، فقد روی الکشی بسنده عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

إنّ أهل الکوفة قد نزل فیهم کذّاب أمّا المغیرة فإنه یکذب علی أبی - یعنی أبا جعفر علیه السلام - قال: حدّثه أنّ نساء آل محمد إذا حضن قضین الصلاة، وکذب واللّه علیه لعنة اللّه ما کان من ذلک شیء ولا حدّثه(1).

ولعلّ منشأ هذا الشذوذ الفقهی لدی المغیرة ما ورد من أنّ نساء آل محمد مطهّرات عن الحیض والطمث، وما دری أنّ المراد من هذه النساء لیس کلّ من

ص:310


1- (1) . رجال الکشی / 301 / ح 407 .

انتسب إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم بل خصوص نساء أهل البیت علیهم السلام . فهو حینما رأی أنّ نساء منسوبات إلی رسول اللّه یحضن فحمل هذه الروایات علی أنّه یجب علیهن قضاء الصلوات فی زمن الحیض أی أنّه ظنّ أنّ المراد من نفی الحیض نفی الحکم بلسان نفی موضوعه.

5 - قال الشیخ الطوسی قدس سره : فأمّا الأخبار التی وردت فی النهی عن صوم شعبان وأنّه ما صامه أحد من الأئمة علیهم السلام فالمراد بها أنه لم یصمه أحد من الأئمة علیهم السلام ، علی أنّ صومه یجری مجری شهر رمضان فی الفرض والوجوب لأنّ قوماً قالوا: إنّ صومه فریضة وکان أبو الخطّاب لعنه اللّه وأصحابه یذهبون إلیه ویقولون: إنّ من أفطر یوماً منه لزمه من الکفّارة ما یلزم مَن أفطر یوماً من شهر رمضان، فورد عنهم علیهم السلام الإنکار لذلک وأنّه لم یصمه أحد منهم علی هذا الوجه(1).

و هذا - علی فرض صحّة النسبة حیث إنّ الشیخ ینسبه إلی قول جماعة مجهولة - أیضاً یدلّ علی عدم تظلّعهم فی الفقه حیث حملهم الروایات فی فضل صوم رجب وشعبان والحثّ البالغ فی الروایات علی القول بوجوب صیامهما، نظیر بعض المنتسبین إلی جماعة الأخباریین حیث یغترّون بظاهر بعض الروایات فیوجبون ما هو من المستحب المؤکّد فی الشریعة نظیر غسل الجمعة.

متارکة الفقه یسبّب الشذوذ فی العقائد

6 - وفی معتبرة جمیل بن درّاج: دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فاستقبلنی رجل خارج من عند أبی عبد اللّه علیه السلام من أهل الکوفة من أصحابنا فلما دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

لقیت الرجل الخارج من عندی؟ فقلت: بلی هو رجل من

ص:311


1- (1) . تهذیب الأحکام 4 / 309 / باب صیام شعبان، نظیر ذلک فی الاستبصار 2 / 138 / باب صوم شعبان.

أصحابنا من أهل الکوفة، فقال:

لا قدس اللّه روحه ولا قدّس مثله، إنّه ذکر أقواماً کان أبی علیه السلام ائتمنهم علی حلال اللّه وحرامه و کانوا عیبة علمه فکذلک الیوم هم عندی، هم مستودع سرّی أصحاب أبی علیه السلام حقّاً إذا أراد اللّه لأهل الأرض سوءاً صرف بهم عنهم السوء، هم نجوم شیعتی أحیاء ومواتاً یحیون ذکر أبی علیه السلام ، بهم یکشف اللّه کلّ بدعة، ینفون عن هذا الدین انتحال المبطلین وتأوّل الغالین، ثم بکی فقلت: من هم؟ فقال:

من علیهم صلوات اللّه ورحمته أحیاءً وأمواتاً: برید العجلی وزرارة وأبو بصیر ومحمد بن مسلم أما أنّه یا جمیل سیبیّن لک أمر هذا الرجل إلی قریب، قال جمیل: فو اللّه ما کان إلّاقلیلاً حتی رأیت ذلک الرجل ینسب إلی أصحاب أبی الخطّاب.

قلت: اللّه یعلم حیث یجعل رسالته قال جمیل: کنّا نعرف أصحاب أبی الخطاب ببغض هؤلاء (ره)(1).

أقول: یظهر من هذا الحدیث بوضوح الدیدن العامّ لدی أصحاب أبی الخطّاب ومجانبتهم لرواة الفروع، و هذا إنّما نشأ من التفریط فی ظاهر الدین والاستهانة به فأصحاب هذا الاتّجاه حینما یرون أنّ جماعة من الرواة خاضوا فی علم الفروع والأحکام دون المعارف والعقائد - کما یزعمون - یرمونهم بالقشریة والسطحیّة ویبغضونهم لأجل ذلک. وعلی کلٍّ فهذه مؤاخذة تؤخذ علی تیّار أبی الخطّاب.

ویبیّن هذا الحدیث أیضاً مدی خطورة الابتعاد عن الفقه فی حدوث الانحراف لدی طلّاب المعرفة، وأنّ المعرفة والفقه جناحان لا یقوم أحدهما إلّا بالآخر، و هذا ما یستفاد من الحدیث النبوی: إنّما العلم ثلاثة: آیة محکمة أو فریضة عادلة أو سنّة قائمة(2) فالآیة یصدق بها وهو إشارة إلی العلوم الاعتقادیة المعرفیة والسنة القائمة هی علوم تهذیب النفس والآداب، والفریضة العادلة إشارة إلی

ص:312


1- (1) . الکشی / ح 220 .
2- (2) . الکافی: 1 / 32 .

فرائض أعمال البدن أو أسهم الإرث وهو فقه الفروع، فقرنه صلی الله علیه و آله و سلم بین الأمور الثلاثة إشارة ضرورة الاقتران والمعیة فیما بین الأمور الثلاثة کی تتحقق الاستقامة، ویحصل التحصین فی الثغور أمام هجوم الضلال والزیغ.

و هذا ما أشار إلیه الصادق علیه السلام فی مکاتبته للمفضل بن عمر من أن انحراف الخطابیة من جهة ترکهم للظاهر أی الفقه وأخذهم بمجرد الباطن وهی المعرفة وکذلک انحراف من یأخذ بالظاهر ویترک الباطن وهو المعرفة.

شذوذهم الفقهی لیس بدرجة البینونة مع الوسط العام للأصحاب

1 - ففی کتاب عاصم بن حمید الحنّاط روی عن محمد بن مسلم قال:

دخلت علی أبی جعفر علیه السلام ... ثم أقبل علیّ بوجهه وقد کان أصحاب المغیرة یکتبون إلیّ أن أسأله عن الجرّیث والمارماهیک والزمّیر وما لیس له قشر من السمک: حرام هو أم لا؟(1)ویظهر من هذه ا لروایة:

أولاً: ما أشرنا إلیه من أنّ أصحاب المغیرة فضلاً عنه وکذلک أبو الخطاب لم تکن بینهم وبین بقیّة الشیعة وفقهاء الرواة قطیعة، و أنهم کانوا یعیشون فی الوسط الشیعی، کما تشیر إلیه روایة عبد اللّه بن بکیر الرجانی من قوله للصادق علیه السلام : إنّا ذکرنا الألفة التی کنّا علیها والبلیة التی أوقعتهم أی أصحاب أبی الخطّاب بعد قتلهم(2).

وثانیاً: أنه لم یکن تیّار المغیریّة آنذاک یتبنّی مقالات صریحة فی الکفر کما طعن علیهم أهل السنة وإلّا لتبرئوا منهم الأصحاب.

ثالثاً: أنّ تیار المغیریّة کان ذا طابع وسلوک فقهی أیضاً، و کانوا یستفتونه علیه السلام .

ص:313


1- (1) . الأصول الستة عشر - کتاب عاصم بن حمید / 155 .
2- (2) . رجال الکشی رقم 517 .

ویشیر إلی تقیّدهم بالسلوک الفقهی جملة من الروایات التی مرّ ذکرها من أنّ أبا الخطّاب أفسد أهل الکوفة فی تأخیر المغرب عن الشفق الغربی(1). ومثله ما روی من قول المغیرة بقضاء الصلاة للحائض کما تقدّم.

2 - روی الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن عمر بن أذینة عن زرارة عن أبی الخطّاب قال: سألته یعنی أبا عبد اللّه عن رجل یدخل الأجمة فیجد فیها بیضاً مختلفاً لا یدری بیض ما هو أبیض ما یکره من الطیر أو یستحب فقال:

إنّ فیه علماً لا یخفی انظر إلی کلّ بیضة تعرف رأسها من أسفلها فکل وما یستوی فی ذلک فدعه(2).

و هذا الخبر أیضاً یدلّ علی الطابع الفقهی لدی أبی الخطّاب وأنّه لیس کما یُرمی به الغلاة من أنّهم لا یبالون بالفروع والأحکام، هذا أوّلاً.

وثانیاً: إنّ روایة زرارة عنه هذا الخبر یدلّ علی عدم حصول القطیعة والبینونة بینه وبین الأصحاب وأنّه کان یُعتنی به فی نقله للروایات الفقهیة، و هذا وإن حمله بعض علی حال استقامته إلّاأنّه یکشف عن الطابع العامّ لدیه.

3 - روی الکلینی عن محمد بن یحیی عن أحمد بن محمد عن الحسن بن علی عن داود الرقی قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک إنّ رجلاً من أصحاب أبی الخطّاب نهی عن أکل البُخت وعن أکل لحوم الحمام المُسروَلة، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

لا بأس برکوب البخت وشرب ألبانهن وأکل لحوم الحمام المسرول(3).

ورواه فی الفقیه عن الوشاء عن داود الرقی(4).

ص:314


1- (1) . رجال الکشی ح 518 .
2- (2) . الکافی 6 / 249 / باب ما یُعرف به البیض / ح 3 .
3- (3) . الکافی 6 / 312 / باب لحوم الجزور والبخت / ح 2 .
4- (4) . من لا یحضره الفقیه 3 / 337 / ح 4199 .

ورواه فی التهذیب عن أحمد بن محمد بن عیسی عن الحسن بن علی(1).

وفیه أیضاً دلالة علی عدم القطیعة بینه وبین الأصحاب حیث لا ینبذ آراءهم وفتاواهم بل یسأل عن الإمام علیه السلام عن صحة ذلک وعدمه، کما أنّه یدلّ علی الطابع الفقهی العامّ لدیهم. وغیر خفی أنّ داود الرقی إنّما نسب هذا الفتوی إلی رجل من أصحاب أبی الخطاب فقد یکون هذه من الشذوذات الفقهیة الحاصلة لدی أتباعه وأصحابه بعده.

تشدّد أبی الخطّاب بالتجاوز عن حدود العبادة

ففی التهذیب: ما رواه الحسین بن سعید عن صفوان عن ابن بکیر عن زرارة قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : ما جرت به السنّة فی الصلاة؟ فقال:

ثمان رکعات الزوال ورکعتان بعد الظهر ورکعتان قبل العصر ورکعتان بعد المغرب وثلاث عشرة رکعة من آخر اللیل ومنها الوتر ورکعتا الفجر، قلت: فهذا جمیع ما جرت به السنة؟ قال:

نعم.

فقال أبو الخطاب: أفرأیت إن قوی فزاد؟ قال: فجلس وکان متّکئاً، فقال:

إن قویتَ فصلّها کما کانت تصلّی وکما لیست فی ساعة من النهار فلیست فی ساعة من اللیل إنّ اللّه عزوجل یقول: «وَ مِنْ آناءِ اللَّیْلِ فَسَبِّحْ »2.

وفی کتاب درست بن أبی منصور عن ابن مسکان عن زرارة قال: دخلت أنا وأبو الخطّاب - قبل أن یُبتلی ویفسد - علی أبی عبد اللّه علیه السلام فسأله عن صلاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم فأخبره فقال: أزید إن قویت (علیه)، قال: فتغیّر وجه أبی عبد اللّه علیه السلام ، قال: ثمّ قال:

إنّی لأمقت العبد یأتینی فیسألنی عن صنیع رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم فأخبره فیقول:

أزید إن قویت، کأنّه یری أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم قد قصّر، ثم قال:

إن کنت صادقاً فصلّها فی

ص:315


1- (1) . تهذیب الأحکام 9 / 49 / باب الصید والذکاة / ح 202 .

ساعات بغیر أوقات رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم (1).

أقول: إنّ هذا الإفراط من جانب والتفریط من جانب آخر یحصل نتیجة عدم التظلّع فی الفقه والفروع فإنّ الجاهل إمّا مفرط أو مفرّط.

ص:316


1- (1) . الأصول الستة عشر / کتاب درست بن أبی منصور / ص 289 / ح 423، مستدرک الوسائل 1 / 145 .

المؤاخذة الخامسة: التطرّف السیاسی والاندفاع الثوری

اشارة

من هذه الموارد:

1 - تطرّف المغیرة فی الاندفاع السیاسی وفی النشر والإفشاء لغوامض مقاماتهم.

روی الصفار فی البصائر بسند صحیح أعلائی عن أبی الصباح قال: قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : بلغنا أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم قال لعلی علیه السلام :

أنت أخی وصاحبی وصفیّی ووصیی وخالصی من أهل بیتی وخلیفتی فی أمّتی وسأنبّئک فیما یکون فیها من بعدی، یا علی إنّی أحبّ لک ما أحبّه لنفسی وأکره لک ما أکرهه لها.

فقال لی أبو عبد اللّه علیه السلام :

هذا مکتوب عندی فی کتاب علیّ ولکنی دفعته أمس حین کان هذا الخوف وهو حین صلب المغیرة(1).

وفی هذه الروایة إیماء إلی أنّ مقالة المغیرة بن سعید حول الأئمة علیهم السلام لا تتضمّن ارتفاع فی القول ولا إفراط فی نسبة الأوصاف، ولکن کان یستعظمها فقاء الرواة کأبی الصباح الکنانی، وإنّ تطرّف المغیرة بن سعید إنما کان علی الصعید السیاسی وعلی صعید النشر والإفشاء للمقامات الغیبیّة لمنصب الإمامة الإلهیة، والتی کان ینطبع بنحو خاطیء مفادها لدی الآخرین.

وبعبارة أخری: إنّ قتل وصلب المغیرة ذو صلة وطیدة بتخوّفه علیه السلام من نشر فضائلهم ومقاماتهم الخاصّة التی لا یتحمّلها عامّة الناس و هذا مؤشّر علی طابع ومسار مقالة المغیرة بن سعید.

وفی هذه الصحیحة شهادة علی هذا المعنی من الغلو فی هذه الفرق کما یدلّ

ص:317


1- (1) . بصائر الدرجات 1 / 323 ح 635 .

علی حرصهم علی النشر والإفشاء لغوامض مقامات أهل البیت علیهم السلام وأنّهم إنما نشروها فی سبیل طموحاتهم السیاسیّة.

2 - تطرفهم السیاسی ومحاولة جعل المعارف العالیة قنطرة للوصول إلیها

قال البلاذری: أتی المغیرة جعفر بن محمد بن علی بن الحسین فقال له: أقر بعلم الغیب حتی أجبی لک العراق، فقال: أعوذ باللّه ثم أتی محمد بن علی بن الحسین فقال له مثل ذلک فزجره وشتمه(1).

وفی هذا النقل - مع نسبة التحفّظ فی نقل البلاذری حول هذه الجماعات والفرق - إلّاأنه یدل بوضوح علی أنّ المغیرة بن سعید لم تکن مقالته مقتصرة علی الطابع العقائدی البحت، بل کانت ذات دعوی سیاسیة ساخنة مما یعطی موشّراً أن تعاطی السلطات معه ومع تیّاره لم یکن تعامل من البعد العقائدی البحت، بل کانت مواجهة سیاسیة محتدمة.

3 - مقتل المغیرة بن سعید فی تاریخ الطبری

ظاهر الطبری فی حوادث سنة 119 ه أنّ المغیرة بن سعید وبیان قد خرجا خروجاً کثورة سیاسیة فی تلک السنة، علماً بأن خروج زید کان فی سنة 121، و هذا یؤشر إلی تقدّم تلک التیّار فی القیام بالثورة السیاسیة والکفاح المسلّح أمام الظالمین.

وقد نقل أنّ الدولة الأمویة قامت بالقبض علی مالک بن أعین أیضاً ولم یفنّد الشعار السیاسی الذی خرج به المغیرة وبیان وجمع من رهطه.

وإلیک نصّه:

ذکر الخبر عن مقتل المغیرة بن سعید ونفر معه:

ص:318


1- (1) . أنساب الأشراف: 9 / 76 .

وفی هذه السنة (سنة 119) خرج المغیرة بن سعید وبیان فی نفر؛ أخذهم خالد فقتلهم ... قال أبو نعیم: وکان المغیرة قد نظر فی السحر، فأخذه خالد القسری فقتله وصلبه ... قال أبو زید: لما قتل خالد المغیرة وبیان أرسل إلی مالک بن أعین الجهنی فسأله فصدّقه عن نفسه فأطلقه ...

قال أحمد بن زهیر عن علی بن محمد، قال: خرج المغیرة بن سعید فی سبعة نفر و کانوا یدعون الوصفاء وکان خروجهم بظهر الکوفة ...»(1).

وفی هذا النقل من الطبری دلالة علی جملة من الأمور:

الأول: الخروج السیاسی للمغیرة وبیان وأتباعهما.

الثانی: طعن السلطة الأمویة له کذریعة لمحاربتهم، ومواجهتهم بالسحر والغلو کتمهید ومبرّر للقضاء علیهم.

الثالث: وجود العلاقة الوطیدة بین المغیرة وبیان مع مالک بن أعین الجهنی.

4 - علاقات مشترکة بین الزیدیّة والمغیریّة

قال النوبختی: «أما المغیریة أصحاب المغیرة بن سعید فإنهم نزلوا معهم - أی الزیدیة - إلی القول بإمامة محمد بن عبد اللّه بن الحسن وتولّوه وأثبتوا إمامته فلما قتل صاروا لا إمام لهم ولا وصیّ ولا یثبتون لأحد إمامة بعده»(2).

أقول: أنّ نقل النوبختی له یدلّ علی وجود نقاط مشترکة بین الزیدیة والمغیریّة وهی التطرّف السیاسی والاندفاع الثوری الساخن فی کیفیة مقاومة النظام الأموی.

5 - أخصیة الشعار السیاسی لخروج المغیرة من شعار خروج زید

ولا یخفی أنّ هناک مفارقة بین الشعار لخروج المغیرة وبیان وأبی الخطاب

ص:319


1- (1) . تاریخ الطبری 5 / 456 .
2- (2) . فرق الشیعة: 71 و 72 .

السیاسی مع الشعار السیاسی الذی خرج به زید والمفارقة کبیرة جدّاً، فإنّ الشعار المرمیّین بالغلو «لبیک»، أی الطاعة والانقیاد للإمام علیه السلام نظیر شعار المسلمین فی بعض غزوات النبی صلی الله علیه و آله و سلم «لبیک داعی اللّه».

فقد روی الکشی عن حمدویه: قال: حدثنا یعقوب عن ابن أبی عمیر عن عبد الصمد بن بشیر عن مصادف قال:

لما لبّی القوم الذین لبّوا بالکوفة دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فأخبرته بذلک فخرّ ساجداً وألزق جؤجؤه بالأرض وبکی وأقبل یلوذ بإصبعه ویقول: بل عبد اللّه قنّ داخر مراراً کثیرة...(1).

بینما کان شعار ثورة زید الدعوة إلی الرضا من آل محمّد، ومقصوده - کما أوضحت الروایات - وإن کان الإمام الصادق علیه السلام باعتبار أنّه الشخص المرضی فی الصفات المتمیّز بالمناقب والکمالات من أهل البیت علیهم السلام ، إلّاأنّه لم یکن بیّناً عند عامة الناس، فخروجهم کان قبل خروج زید وشعارهم کان أخصّ بأهل البیت علیهم السلام من شعار زید.

وتبرّئه علیه السلام من هذا الشعار إما بلحاظ ما نشرته السلطات الأمویة من دعایة کون ذلک الشعار تألیهاً لأئمة أهل البیت علیهم السلام ، فکان الموقف منه علیه السلام یستدعی التبرّء من هذه الدعایة المضادّة وإحباط تأثیرها سواء فی صفوف أتباع أهل البیت من الشیعة أو عند العامّة، فإنّ هذه السیاسة الهدّامة من الأمویّین کانت تغرّر بأتباع أهل البیت وتبعدهم عن الحقیقة الشامخة إلی الانحراف الخاطیء الذی کان یطمع الأمویون رؤیته فی أتباع أهل البیت علیهم السلام .

نظیر ما تصنعه الآن القوی الغربیة والاستعماریة من خلط التیارات التی تدّعی المهدویة أو النیابة الخاصّة کفرق البابیّة تشویهاً ومحاربة للعقیدة الحقّة الشامخة بالإمام المهدی لدی المسلمین.

ص:320


1- (1) . الکشی 365 / ح 531 .

أو أنّ سجوده علیه السلام کان إعلاناً لمقاطعته السیاسیة لهذه الحرکة السیاسیة لقطع الطریق أمام اتهام السلطات له بالارتباط بهذه الفرق.

شعار المغیرة إظهار التشیع لآل علی وشدّة تعصّبه لأهل البیت علیهم السلام

قال البلاذری: «و کان المغیرة بن سعید هذا ظهر أیام خالد وکان یظهر التشیع لآل علی.

وقال أیضاً: کان الشعبی یقول للمغیرة بن سعید مولی بجیلة: ما فعل الإمام فیقول: لا تهزأ به فیقول: لست أهزأ به إنما أهزأ بک(1).

ویلاحظ من هذا النص ظاهرة شدّة تصلّب المغیرة فی ولاء أهل البیت علیهم السلام فی فترة استقامته، بل کان هذا شعاره عند قیامه بالثورة علی الأمویین التی قتل فیها.

کما یبیّن النصّ الآخر قوّة ترویج المغیرة لمفهوم الإمامة والنصّ الإلهی.

ومن ملامح ذلک أیضاً ما ذکره فی البدء والتاریخ عن المغیرة بن سعید أنّه سأله رجل عن أمیر المؤمنین علیه السلام فقال: لا تحتمله قال: بل أحتمله قال: فذکر آدم فمن دونه من الأنبیاء فلم یذکر أحداً منهم إلّافضّل علیاً. حتی انتهی إلی النبی صلی الله علیه و آله و سلم فقال: فقلت: کذبت قال: قد أخبرتک أنک لا تحتمل(2).

والذیل من تفضیل علی علی النبی واضح أنّه فریة علی المغیرة تشنیعاً من العامّة علی من یتصلّب فی ولاء أهل البیت علیهم السلام .

6 - طمع أبی الخطاب فی الرئاسة وردعه علیه السلام له

عن الکشی: محمد بن مسعود عن علی بن محمد بن یزید عن أحمد بن محمد بن عیسی عن ابن أبی نصر عن علی بن عقبة عن أبیه قال: دخلت علی أبی عبد اللّه فسلّمت وجلست فقال لی:

وکان فی مجلسک هذا أبو الخطاب ومعه سبعون

ص:321


1- (1) . أنساب الأشراف 5 / 75 .
2- (2) . البدء والتاریخ 5 / 131 .

رجلاً کلهم ینالهم منهم شیء فرحمتهم فقلت لهم: ألا أخبرکم بفضائل المسلم فلا أحسب أصغرهم إلّاقال: بلی جعلت فداک، قلت: من فضائل المسلم أن یقال له فلان قاریء لکتاب اللّه عزوجل وفلان ذو حظ من ورع وفلان یجتهد فی عبادته لربه، فهذه فضائل المسلم وما لکم وللرئاسات إنما المسلمون رأس واحد إیاکم والرجال فإنّ الرجال للرجال مهلکة فإنی سمعت أبی علیه السلام یقول: إنّ شیطاناً یقال له المذهب یأتی فی کل صورة إلّاأنه لا یأتی فی صورة نبی ولا وصی نبی ولا أحسبه إلّاوقد تراءی لصاحبکم فاحذروه فبلغنی أنهم قتلوا معه فأبعدهم اللّه وأسحقهم إنّه لا یهلک علی اللّه إلّاهالک(1).

ویظهر من هذا الحدیث:

أولاً: أنّ أبا الخطاب کان ذو حرکة اجتماعیة وسیاسیة وأنه کان صاحب تیّار ونفوذ ویسعی للنهوض السیاسی أمام السلطة.

وثانیاً: یظهر من هذا الحدیث أنّ صلته بالإمام علیه السلام فضلاً عن الوسط الشیعی بقی مستمراً طیلة حیاته حتی قتل، وتدلّ علی ذلک جملة من الروایات الأخری، وأنّه لم تقطع قطیعة بینه وبین کبار الرواة. و هذا مما یؤشّر علی أنّ المؤاخذات المأخوذة علیه لم تکن من المقالات التی یحکم علیها بالکفر الصریح وإلّا لقاطعه علیه السلام وشدّد علی أصحابه بمقاطعته.

کما أنّ ما صدر منه علیه السلام فی أیام حیاة أبی الخطاب کان بلسان التحذیر من شذوذات أبی الخطاب إما فی التأویل أو فی التطرّف السیاسی أو غیرها من المعانی التی مرّت الإشارة إلیهما.

ثالثاً: إنّ ردعه علیه السلام لأبی الخطّاب وتحذیر الشیعة کان جهاراً وأنّ من مناشیء انحرافه هی تضلیل الشیطان له عبر سلسلة من المکاشفات الشیطانیة، وأنّ هذا الخطر والانزلاق مما یمتحن ویفتتن به ذوی المتضلّع فی المعارف ویکونون فی

ص:322


1- (1) . الکشی رقم 516، بحار الأنوار 25 / 325 / 4 .

عرضة الانحراف بسببه.

رابعاً: أنه یظهر من هذه الروایة معنی آخر للغلو وهو معنی الأول الذی مر ذکره من عدم تقیّد أصحاب أبی الخطاب بظاهر الشریعة وتکالیفها لخطأهم فی تأوّل ما ورد من أنه إذا علمت فاعمل ما شئت.

7 - إغراء أسرار المعارف إلی التطرّف السیاسی

فإنّ الاطلاع علی غوامض الحقائق وتعاظم الحقّ عند أهل الحق وأتباعه مما یدعو رواة أسرار المعارف إلی الحدّة والعجلة فی تقییم الموقف والمسؤولیّة تجاه الإصلاح السیاسی، فإنّ طابع الثوریّة بدرجات عالیة من الشدّة انزلاق وقع فیه جملة من رواة أسرار المعارف والسر فی ذلک ما مرّ من أنّ الوقوف علی مقامات أهل البیت علیهم السلام ومنازلهم الغیبیّة یبدّه کفائتهم فی تدبیر الأمور، فإنّهم ولاة الملکوت فکیف یُقصون عن ولایة الملک؟ و هذا مما یدعی إلی التسرّع والعجلة فی إقصاء الظالمین. ومن ثمّ یلاحظ فی الروایات التوصیة الأکیدة المتکرّرة من الأئمة علیهم السلام لمن یتلقّی منهم ذلک النمط من الروایات أن لا یتسرّعوا فی التطرّف السیاسی.

فقد روی الکشی بسنده عن المفضل بن عمر الجعفی قال: سألت أبا عبداللّه علیه السلام عن تفسیر جابر فقال:

لا تحدّث به السفلة فیذیعوه أما تقرأ فی کتاب اللّه عزوجل: «فَإِذا نُقِرَ فِی النّاقُورِ»

إنّ منّا إماماً مستتراً فإذا أراد اللّه إظهار أمره نکت فی قلبه فظهر فقام بأمر اللّه(1).

وذیل الحدیث وإن کان ذا دلالات متعددة إلّاأنّ فیه إشارة إلی لزوم التروّی وعدم الاستعجال فی إظهار وإقامة الحق علی الصعید السیاسی، فإنّ سنة اللّه جرت علی أن یکون بالتدریج إلی أن یبلغ الغایة ساعة ظهور الإمام المهدی عجل

ص:323


1- (1) . الکشی / رقم 338 .

اللّه تعالی فرجه ومن ثمّ حذّروا علیهم السلام من عدم مراعاة ذلک بأنّه موجب للاستئصال لکون الاستعداد لم یبلغ حینه أجله، و ذلک فی تعبیرهم أذاقه اللّه حرّ الحدید.

8 - نبذ الهدنة مع أهل الخلاف

ومن معالم الغلو السیاسی أنّهم کانوا ینبذون الهدنة بین أهل الإیمان والمخالفین، وهذه الظاهرة من معالمهم متولّدة من تطرّفهم السیاسی فلا یقرّون هدنة مع المعترفین بالإسلام الظاهری اللسانی، فلا یتصوّرون أنّ للتسلیم والتعایش درجات.

فقد روی الکلینی بسند معتبر عن أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال: سمعته یقول: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لکِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا»

فمن زعم أنّهم آمنوا فقد کذب ومن زعم أنّهم لم یسلموا فقد کذب(1).

وورد عنهم علیهم السلام :

فلا یقولنّ صاحب الاثنین لصاحب الواحد لست علی شیء فلا تسقط من هو دونک فیسقطک من هو فوقک(2).

والسبب فی ذلک عدم الاکتراث بالتسلیم اللسانی وآثاره الدنیویة مع أنّ الإقرار اللسانی وإن کان لسانیاً إلّاأنّ له آثاراً فی دار الدنیا، کما أنّ انتحال أهل الکتاب للانتماء إلی النبی موسی وعیسی رغم صوریّة هذا الانتساب جعلهم من أهل الذمّة دون سایر الکفّار.

ویشیر إلی ذلک ما رواه الکلینی فی شأن أبی الخطاب عن علی بن إبراهیم عن أبیه عن ابن أبی عمیر عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن هاشم صاحب البرید قال:

کنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطّاب مجتعین، فقال لنا أبو الخطّاب: ما

ص:324


1- (1) . الکافی 2 / 25 .
2- (2) . الکافی 2 .

تقولون فیمن لم یعرف هذا الأمر، فقلتُ: من لم یعرف هذا الأمر فهو کافر. فقال أبو الخطّاب: لیس بکافر حتی تقوم علیه الحجّة، فإذا قامت علیه الحجّة فلم یعرف فهو کافر. فقال له محمد بن مسلم: سبحان اللّه ما له إذا لم یعرف ولم یجحد یکفر لیس بکافر إذا لم یجحد.

قال: فلمّا حججت دخلت علی أبی عبد اللّه فأخبرته بذلک، فقال:

إنّک قد حضرت وغابا ولکن موعدکم اللیلة الجمرة الوسطی بمنی. فلما کانت اللیلة اجتمعنا عنده وأبو الخطّاب ومحمد بن مسلم فتناول وسادة فوضعها فی صدره ثم قال لنا:

ما تقولون فی خدمکم ونسائکم وأهلیک ألیس یشهدون أن لا إله إلّااللّه؟ قلت: بلی.

قال:

ألیس یشهدون أنّ محمداً رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم ؟ قلت: بلی.

قال:

ألیس یصلون ویصومون ویحجّون؟ قلت: بلی.

قال:

فیعرفون ما أنتم علیه؟ قلت: لا، قال:

فما هم عندکم؟ قلت: من لم یعرف هذا الأمر فهو کافر.

قال:

سبحان اللّه أما رأیتَ أهل الطریق وأهل المیاه؟ قلت: بلی.

قال:

ألیس یُصلّون ویصومون ویحجّون. ألیس یشهدون أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه؟ قلت: بلی.

قال:

فیعرفون ما أنتم علیه؟ قلت: لا، قال:

فما هم عندکم من لم یعرف هذا الأمر فهو کافر.

قال:

سبحان اللّه أما رأیت الکعبة والطُوّاف وأهل الیمن وتعلّقهم بأستار الکعبة. قلت:

بلی.

قال:

ألیس یشهدون أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم ویُصلّون ویصومون ویحجّون؟ قلت: بلی.

قال:

فیعرفون ما أنتم علیه؟ قلت: لا. قال:

فما تقولون فیهم؟ قلت: من لم یعرف فهو کافر.

ص:325

قال:

سبحان اللّه هذا قول الخوارج، ثم قال:

إن شئتم أخبرتکم. فقلت: أنا لا. فقال:

أما إنّه شرّ علیکم أن تقولوا بشیء ما لم تسمعوه منّا. قال: فظننت أنّه یدیرنا علی قول محمد بن مسلم(1).

ص:326


1- (1) . الکافی 2 / 401 / باب الضلال / ح 1 .

المؤاخذة السادسة: السذاجة فی المعنویات الروحیّة

من المؤاخذات علی المغیرة وأبی الخطاب وأمثالهما هو السذاجة والسطحیّة وسرعة الاسترسال فی المکاشفات الروحیّة والمشاهدات النفسانیّة، وعدم الکیاسة فی الریاضات الروحیّة ومنازل السیر النفسانی.

و هذا ما تشیر إلیه جملة من الروایات.

فقد روی الکشی بسنده عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال: قال:

تراءی و اللّه إبلیس لأبی الخطاب علی سور المدینة أو المسجد فکأنّی أنظر إلیه وهو یقول له: إیهاً نظفر الآن نظفر الآن(1).

وروی أیضاً بسند صحیح عن زرارة قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

أخبرنی عن حمزة أیزعم أنّ أبی آتیه. قلت: نعم قال:

کذب و اللّه ما یأتیه إلّاالمتکوّن، أنّ إبلیس سلّط شیطاناً یقال له المتکوّن یأتی الناس فی أی صورة شاء إن شاء فی صورة صغیرة وإن شاء فی صورة کبیرة لا و اللّه ما یستطیع أن یجیء فی صورة أبی(2).

والمراد هو حمزة بن عمارة البربری.

وروی بسند صحیح عن هشام بن الحکم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

إنّ بیاناً والسرّی وبزیعاً لعنهم اللّه تراءی لهم الشیطان فی أحسن ما یکون صورة آدمی من قرنه إلی سرّته الحدیث(3).

ص:327


1- (1) . رجال الکشی / ح 545 .
2- (2) . رجال الکشی / ح 537 .
3- (3) . رجال الکشی / ح 547 .

وروی أیضاً بسنده عن عبد الرحمن بن کثیر قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام یوماً لأصحابه:

لعنه اللّه المغیرة بن سعید ولعن یهودیّة کان یختلف إلیها یتعلّم منها السحر والشعبذة والمخاریق الحدیث(1).

و مثل هذه الغفلات تکون بمثابة الضربات القاتلة لأنّه یتلبّس علیهم الشیاطین فیغوونهم عن الطریق السوی، ویساعد علی ذلک أنّ لهم جهات من الضعف فی العلم بالأحکام الفقهیّة.

و هذا یجعلهم یسارعون فی تصدیق جملة من الخواطر التی یلقیها الشیطان فی روعهم أو یربک تأویل المعارف التی تعلّموها من أهل البیت إلی معانٍ مقلوبة ومفاهیم معکوسة.

ص:328


1- (1) . رجال الکشی / ح 403 .

المؤاخذة السابعة: الاغترار بالنفس عند الحصول علی بعض المعارف فیؤدّی بهم إلی جحود مقام الإمامة

اشارة

ومن المؤاخذات علی منهجیّة الفرق المطعون علیها بالغلو اغترارهم بالیسیر ممّا عرفوا عن تحصیل ما وراءه.

فقد روی درست بن أبی منصور عن زکّار بن یحیی الواسطی قال: کنت عند الفضیل بن یسار أنا وحریز قال: فقال له حریز: یا أبا علی! إنّ زکاراً یحبّ أن یسمع الحدیث منک فی العلم، قال: فأقبل علیّ فضیلٌ، فقال: مالک وللخصومة؟ قال:

قلت: لم أرد بهذا الخصومة، قال: فقال: کنت أنا وحمران قال: فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

یا حمران کیف ترکت المتشیعین خلفک؟ قال: ترکت المغیرة وبیان البیان، یقول أحدهما: العلم خالق و یقول الآخر: ا لعلم مخلوق. قال: فقال لحمران:

فأیّ شیء قلت أنت یا حمران؟ قال: فقال حمران: لم أقل شیئاً قال: فقال أبو عبد اللّه علیه السلام :

أفلا قلت: لیس بخالق ولا مخلوق؟ قال: ففزع لذلک حمران، قال: فقال: فأیّ شیء هو؟ قال: فقال:

هو من کماله کیدک منک(1).

ویشیر هذا الحدیث الشریف إلی أمرین من أسباب الانحراف لدی طلّاب المعارف الغامضة ودقائق الحقائق:

أوّلاً: ابتلاؤهم بالغرور والاغترار بما حصلوا علیه من سطح بعض الغوامض والحقائق فیأخذ بهم الوهم بأنّ ذلک تمام الحقیقة فینجرّ بهم ثانیاً إلی أمر آخر أخطر، وهو ظنّهم بأنّهم لا یضعفون ولا یعیون أمام حلّ أی معضلة وأنّهم قادرون

ص:329


1- (1) . الأصول الستّة عشر - کتاب درست بن أبی منصور / 290 / ح 427 .

علی فکّ کلّ عقدة مشکلة فیستغنون بأنفسهم وآرائهم ومحدود علمهم عن الرجوع إلی المعصوم والوحی فیما بقی ممّا هو أطول من طریق المعرفة، فکم یقعوا المتمرّسون فی مباحث ومناهج المعرفة من صیرورتهم فی المآل إلی انتهاج منهج «حسبنا أنفسنا وعقولنا عن الوحی» أو «حسبنا کتاب اللّه عن العترة» وإن کانوا فی بدایة الطریق یسلّمون بالتمسّک بالثقلین إلّاأنّهم مآلاً تنفصم عری اتباعهم للثقلین وملازمتهم لهما فی کل صغیرة وکبیرة قبل الانتهاء والوصول إلی حوض الکوثر.

السقیفة فی عالم المعنی

ومن انحرافات الخطابیة والإسماعیلیة - التی من امتداداتهم والتی نشأت من اغترارهم واستبدادهم بعقولهم وآرائهم - هو ترکهم ومتارکتهم لظواهر القرآن ولتراث النبی صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة الستّة علیهم السلام تحت ذریعة التأویل، مع أنّهم یزعمون الإقرار بإمامة الستّة إلّاأنّهم یتمسکون بغیرهم من بعدهم بنحو یعطونهم صلاحیات نسخ ظاهر شریعة الرسول ومنهاج الأئمة الستّة علیهم السلام ، فمرقوا عنهما ولم یتقیدوا علی تراث النبی صلی الله علیه و آله و سلم وأهل البیت علیهم السلام . وکلّ ذلک بسبب القول بإمامة غیر المعصومین علیهم السلام حیث یناقض الکلام البشری کلام الوحی، بینما لا یوجد أی تناقض بین کلام الأئمة الستّة علیهم السلام وکلام الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ، ولا بینها وبین کلام اللّه فی القرآن بل ومع کلام الأئمة الستة علیهم السلام اللاحقین من الاثنی عشر.

و هذا فی الحقیقة طرد ورفض لأهل البیت علیهم السلام فی أخذ المعارف والوصول إلی عالم المعنی، بحذاء طرد ورفض الأئمة عن الساحة السیاسیة.

ص:330

المؤاخذة الثامنة: تولیدهم للفرق المنحرفة

اشارة

فإنّ انزلاقهم فی عدم التحفّظ علی الأسرار وما قاموا به من الثورات السیاسیّة وغیرها أثّرت فی تولید بعض الفرق المنحرفة عن مسیر الإمامة الإلهیّة فی مرور الأزمان ولنذکر بعض الأمثلة منها:

الأولی: فإنّ من تداعیات الخطابیّة - الناشئة من المؤاخذة السابقة - أنّهم شکّلوا الأرضیّة لتأسیس مذهب الإسماعیلیة، وهذه الآفة تعتبر من أکبر سموم الخطابیّة حیث شطّ لهم التأویل إلی متارکة الأئمّة المعصومین علیهم السلام وسبّب استبدادهم بآرائهم وعقولهم الاغترار بأنفسهم عن الرجوع إلی الأئمة علیهم السلام . وهذا نمط من شعار حسبنا کتاب اللّه فی المسلک المعرفی وقد ابتلی به الصوفیة والفرق الباطنیة وجملة من العرفاء، وقد عبر عنه البعض بالسقیفة فی عالم المعنی والملکوت علی قرار السقیفة السیاسیة فی عالم الملک.

قال النوبختی فی فرق الشیعة: «فأما الإسماعیلیة فهم الخطّابیّة أصحاب أبی الخطاب محمد بن أبی زینب الأسدی الأجدع، وقد دخلت منهم فرقة فی فرقة محمد بن إسماعیل وأقرّوا بموت إسماعیل بن جعفر فی حیاة أبیه وهم الذین خرجوا فی حیاة أبی عبد اللّه جعفر بن محمد علیه السلام فحاربوا عیسی بن موسی بن محمد بن عبد اللّه العباسی وکان عاملاً علی الکوفة فبلغه عنهم أنّهم أظهروا الإباحات ودعوا إلی نبوة أبی الخطاب».

ثم ذکر قصة محاربتهم وقتل أبی الخطاب وصلبه وإحراق جسده ثم قال: «ثم خرج من قال بمقالته من أهل الکوفة وغیرهم إلی محمد بن إسماعیل بن جعفر

ص:331

بعد قتل أبی الخطاب فقالوا بإمامته وأقاموا علیها»(1).

وقد روی الکشی عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول للمفضل بن عمر الجعفی:

یا کافر یا مشرک مالک ولابنی یعنی إسماعیل بن جعفر وکان منقطعاً إلیه یقول فیه مع الخطابیّة ثم رجع بعد(2).

الثانیة: أنّ نشأة القرامطة التی هی فرقة منشعبة من المبارکیّة إنما نشأت من الخطابیّة.

قال النوبختی: «وصنوف الغالیة افترقوا بعده (أی بعد قتل أبی الخطاب) علی مقالات کثیرة ... فقالت فرقة منهم إنّ روح جعفر بن محمد جعلت فی أبی الخطاب ثم تحوّلت بعد غیبة أبی الخطاب فی محمد بن إسماعیل بن جعفر ثم ساقوا الإمامة فی ولد محمد بن إسماعیل وتشعبت منهم فرقة من المبارکیّة ممن قال بهذه المقالة تسمّی القرامطة»(3).

امتدادات الخطابیّة والمغیریّة وجهود الأئمة علیهم السلام فی إقلاعهم عن الجسم الشیعی

ومما یشیر إلی تمادی قاعدة أبی الخطاب وتیّاره فی الانحراف مما أدّی إلی نشوء الفرق:

1 - ما رواه الشیخ الطوسی فی الغیبة عن جماعة عن جعفر بن محمد بن قولویه وأبی غالب الزراریّ وغیرهما عن محمد بن یعقوب الکلینی عن إسحاق فی التوقیع ورد علیه من صاحب الأمر عجل اللّه تعالی فرجه الشریف علی ید محمّد بن عثمان:

وأمّا أبو الخطّاب محمّد بن أبی زینب الأجدع ملعون وأصحابه ملعونون فلا تجالس

ص:332


1- (1) . فرق الشیعة للنوبختی / 69 - 71 .
2- (2) . الکشی / رقم 581 .
3- (3) . فرق الشیعة للنوبختی / 71 و 72 .

أهل مقالتهم فإنّی منهم بریء وآبائی علیهم السلام منهم براء.

ورواه الصدوق فی کمال الدین عن محمّد بن محمّد بن عصام الکلینی عن محمّد بن یعقوب مثله»(1).

وطریق هذا التوقیع من الصحیح الأعلائی علی الأصح فی إسحاق بن یعقوب الکلینی، والتوقیع یبیّن انحراف ابن أبی الخطاب وأصحابه بعد تمادیهم فی فساد المقال، و أن امتدادهم بقی إلی عصر الغیبة الصغری والخطیر أن من امتدادهم نشأت الفرقة الإسماعیلیة والمبارکیة والقرامطة، و هذا النتاج یعتبر من أخطر سموم الخطابیة.

2 - روی الکشی بسنده عن مرازم قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

تعرف مشبّر وشبّر بتوهم الاسم قال:

الشعیری، فقلت: بشّار؟ قال:

بشار، قلت: نعم جار لی قال:

إنّ الیهود قالوا ووحّدوا اللّه و أن النصاری قالوا ووحّدوااللّه، وأنّ بشّاراً قال عظیماً إذا قدمت الکوفة فأته وقل له: یقول لک جعفر: یا کافر یا فاسق یا مشرک أنا بریء منک.

قال مرازم: فلمّا قدمت الکوفة فوضعت متاعی وجئت إلیه فدعوت الجاریة فقلت: قولی لأبی إسماعیل هذا مرازم فخرج إلیّ فقلت له: یقول لک جعفر بن محمد:

یا کافر یا فاسق یا مشرک أنا بریء منک فقال لی: وقد ذکرنی سیّدی قال: قلت:

نعم ذکرک بهذا الذی قلت لک فقال: جزاک اللّه خیراً وفعل بک وأقبل یدعو لی.

3 - وروی أیضاً بسنده عن إسحاق بن عمار قال: قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام لبشّار الشعیری:

أخرج عنّی لعنک اللّه لا و اللّه لا یظلّنی وإیاک سقف بیت أبداً. فلما خرج قال:

ویله ألا قال بما قالت الیهود ألا قال بما قالت النصاری ألا قال بما قالت المجوس أو بما قالت الصابیة، و اللّه ما صغّر اللّه تصغیر هذا الفاجر أحد إنّه شیطان بن شیاطین خرج من البحر لیغوی أصحابی وشیعتی فاحذروه، ولیبلّغ الشاهد الغائب أنی عبد بن عبد قن بن أمة

ص:333


1- (1) . مستدرک الوسائل 12 / 316 .

ضمّتنی الأصلاب والأرحام وأنی لمیّت وأنّی لمبعوث ثم موقوف ثم مسؤول و اللّه لأسألنّ عمّا قال فیّ هذا الکذّاب وادّعاه علیّ، یا ویله ما له أرعبه اللّه فلقد آمن علی فراشه وأفزعنی وأقلقنی عن رقادی. وتدرون لم أقول ذلک؟ أقول ذلک لکی أستقرّ فی قبری(1).

4 - وروی أیضاً بسنده عن علی بن مهزیار قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول - وقد ذکر عنده أبو الخطاب - :

لعن اللّه أبا الخطاب ولعن أصحابه ولعن الشاکّین فی لعنه ولعن من قد وقف فی ذلک وشکّ فیه. ثم قال:

هذا أبو الغمر وجعفر بن واقد وهاشم بن أبی هاشم استأکلوا بنا الناس وصاروا دعاة یدعون الناس إلی ما دعی إلیه أبو الخطاب، لعنه اللّه ولعنهم معه ولعن من قبل ذلک منهم، یا علی لا تتحرّجن من لعنهم لعنهم اللّه فإنّ اللّه قد لعنهم. ثم قال: قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم :

من تأثّم أن یلعن من لعنه اللّه فعلیه لعنة اللّه(2).

و هذا الحدیث عن الجواد علیه السلام یبیّن بقاء الخطّابیة إلی زمانه علیه السلام و أن تشبثهم بالتأویل علی غیر الموازین کان یموّه الطریق علی کبار أهل العلم من الرواة، کما یدلّ الحدیث علی أنّ الأئمّة علیهم السلام قد کابدوا وعانوا الکثیر لإقلاع الخطابیّة بعد انحرافهم عن الجسم الشیعی وجاهدوا لإنجازه الجهد الکبیر.

5 - ونظیره أیضاً ما رواه الکشی بسنده عن أبی جعفر الثانی علیه السلام قال:

ما فعل أبو السمهری لعنه اللّه یکذب علینا ویزعم أنه وابن أبی الزرقاء دعاة إلینا أشهدکم، أنّی أتبرأ إلی اللّه عزوجل منهما إنّهما فتّانان ملعونان یا إسحاق أرحنی منهما یرح اللّه عزوجل بعیشک الجنة الحدیث(3).

6 - ذکر صاحب تاریخ جرجان فی کتابه بسنده عن عیسی الجرجانی قال:

قلت لجعفر بن محمد: إن شئت أخبرتک بما سمعت القوم یقولون قال: فهات قال: فقلت: فإن طائفة منهم عبدوک اتخذوک إلهاً من دون اللّه وطائفة أخری

ص:334


1- (1) . رجال الکشی / رقم 746 .
2- (2) . رجال الکشی / رقم 1012 .
3- (3) . رجال الکشی / رقم 1013 .

والوالک بالنبوة قال: فبکی حتی ابتلّت لحیته ثم قال:

إن أمکننی اللّه من هؤلاء فلم أسفک دماءهم سفک اللّه دم ولدی علی یدی(1).

والمهم فی هذه الأحادیث أن نعرف أنّ معنی الغلوّ لیس هو إثبات المقامات والصفات التی تتعاظم عند کثیرین إسنادها إلی الأئمة علیهم السلام ، وإنّما الغلوّ هو دعوی مقام واسم الربوبیّة والألوهیّة فی الأئمة صلوات اللّه علیهم وکذا الغناء الذاتی والاستقلال فی الوجود والإرادة والمشیّة عن اللّه تعالی. ومن ثمّ صعب طریق الوسط علی کثیرین فإمّا یفرّط فی مقاماتهم علیهم السلام بنحو التقصیر خوفاً من الوقوع فی الغلو، وإمّا یفرط فیثبت الربوبیّة.

ومن المهم الالتفات إلی أنّ الغلاة رغم غلوّهم فی الإفراط بالقول إلّاأنهم أیضاً جهلوا مقامات أهل البیت علیهم السلام ، ومن ثم قال الأئمة علیهم السلام لهم فی روایات عدیدة: إننا دون ما تقولون أی لسنا بأرباب بل عبید مرزوقون مربوبون، ولکنّا فوق ما تظنّون أی أنّ حقائق مقاماتهم لم یدرکوها هؤلاء الغلاة وإنما أفرطوا بلسانهم من دون علم ومعرفة لهم بکنه مقامات أهل البیت التی هی کرامات من اللّه عزوجل لهم، إذ هم عباد مکرّمون مقرّبون عند اللّه عزوجل.

ومن ثمّ ورد عنهم علیهم السلام : إنّ شرّ الغلاة کشرّ النواصب ولیس المراد من ذلک أنّه یکتفی فی معرفة أهل البیت بالمحبّة فقط، بل المراد أنّ الغلاة یقطعون الطریق أمام معرفة أهل البیت وینفرون الناس عن سلوک طریق معرفتهم والرقی فی درجاتهم مع حفظ الموازین من عبودیتهم للّه ومربوبیّتهم «لا یَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ ) ،(لا یَمْلِکُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا).

فالتأثیر السلبی للغلاة یماثل ما یصنعه النواصب من الصدّ عن سبیل معرفتهم حیث إنّهم السبیل إلی اللّه.

ص:335


1- (1) . إحقاق الحق 12 / 236، عن تاریخ جرجان / 253 .

مضافاً إلی تحذیر ونهی أهل البیت عن جهات أخری من انحرافات الغلاة، والملاحظ من أئمة أهل البیت علیهم السلام أنه تشدّد نکیرهم علی الطبقات المتأخّرة من الخطّابیة والمغیریة وذیولهم و ذلک لاستفحال الانحراف وتمادی کثرة غیّه.

الدور الثالث للغلاة وشدّة الانحراف فیهم

قد مرّ أن الشذوذ والشطط بحسب طبیعته یستفحل کلّما تمادی الزمان وهذا ما نجده فی الطبقات اللاحقة لأتباع من رمی بالغلو، فالمعانی الخاطئة التی کانت تنطبع عند الآخرین أصبحت هی المتبنیات الرسمیّة لدی رموز الطبقات اللاحقة منهم.

فقد روی الکشی بسنده عن سهل بن زیاد الآدمی قال: کتب بعض أصحابنا إلی أبی الحسن العسکری علیه السلام : جعلت فداک یا سیدی إنّ علی بن حسکة یدّعی أنّه من أولیائک وأنّک أنت الأول القدیم وأنّه بابک ونبیّک أمرته أن یدعو إلی ذلک، ویزعم أن الصلاة والزکاة والحج والصوم کلّ ذلک معرفتک ومعرفة من کان فی مثل حال ابن حسکة فیما یدّعی من البابیّة والنبوّة [النیابة]، فهو مؤمن کامل سقط عنه الاستعباد بالصلاة والصوم والحج، وذکر جمیع شرایع الدین إنّ معنی ذلک کلّه ما ثبت لک ومال الناس إلیه کثیراً. فإن رأیت أن تمنّ علی موالیک بجواب فی ذلک تنجیهم من الهلکة. قال: فکتب علیه السلام :

کذب ابن حسکة علیه لعنة اللّه وبحسبک أنی لا أعرفه فی موالیّ، ما له لعنه اللّه فو اللّه ما بعث اللّه محمداً والأنبیاء قبله إلّابالحنیفیة والصلاة والزکاة والصیام والحج والولایة، وما دعا محمد صلی الله علیه و آله و سلم إلّاإلی اللّه وحده لا شریک له، وکذلک نحن الأوصیاء من ولده عبید اللّه لا نشرک به شیئاً إن أطعناه رحمنا وإن عصیناه عذّبنا ما لنا علی اللّه من حجّة بل الحجّة للّه عزوجل علینا وعلی جمیع خلقه، أبرأ إلی اللّه من یقول ذلک وأنتفی إلی اللّه من هذا القول، فاهجروهم لعنهم اللّه وألجأوهم إلی ضیق الطریق

ص:336

فإن وجدت من أحد منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخر(1).

ونحوها من الروایات الأخری(2).

قال الطبرسی فی الاحتجاج: وقد روی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام من ذمّ الغلاة والمفوّضة وتکفیرهم وتضلیلهم والبراءة منهم وممّن والاهم ... وکذلک روی عن آبائه وأبنائه علیهم السلام فی حقّهم والأمر بلعنهم والبراءة منهم وإشاعة حالهم والکشف عن سوء اعتقادهم کی لا یغترّ بمقالتهم ضعفاء الشیعة ولا یعتقد من خالف هذه الطائفة أنّ الشیعة الإمامیّة بأسرهم علی ذلک نعوذ باللّه منه وممّن اعتقده وذهب إلیه(3).

ص:337


1- (1) . رجال الکشی / رقم 997 .
2- (2) . رجال الکشی / ح 994 - 1006 .
3- (3) . الاحتجاج 2 / 450 .

ص:338

7 - النواب و الأبواب ، حقیقة حالهم بین الافراط و التفریط (358-339)

اشارة

ص:339

ص:340

معرفة النواب والأبواب معتقد إیمانی و خطورة مقام النیابة الخاصّة

إنّ موقف الطائفة - کما یظهر من الشیخ فی کتاب الغیبة والصدوق فی إکمال الدین والنوبختی فی فرق الشیعة وسعد بن عبد اللّه فی کتاب الفرق أیضاً - هو أنّ المکذّب بالنائب الخاص لا سیّما النوّاب الأربعة یحکم علیه بالضلال وینقص أو یسلب منه الإیمان، وأنه لا تکمل المعرفة والإیمان إلّابمعرفة جملة من أولیاء الأئمة علیهم السلام الذین یتلونهم ولهذا شواهد عدیدة:

منها: فقد روی الکشی عن جبرئیل بن أحمد قال: حدثنی أبو سعید الآدمی سهل بن زیاد عن منخّل عن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال: - إلی أن قال - فقال أمیر المؤمنین علیه السلام :

یا أبا ذر إنّ سلمان لو حدّثک بما یعلم لقلت رحم اللّه قاتل سلمان، یا أبا ذرّ إنّ سلمان باب اللّه فی الأرض من عرفه کان مؤمناً ومن أنکره کان کافراً وإنّ سلمان منّا أهل البیت(1).

ومنها: وعن الإمام الحسن بن علی العسکری علیه السلام فی تفسیره عن آبائه عن النبی صلی الله علیه و آله و سلم - فی حدیث - إلی أن قال: ثم قال:

أتدرون من المتمسک به، الذی یتمسکه ینال هذا الشرف العظیم؟ هو الذی یأخذ القرآن وتأویله عنّا أهل البیت وعن وسایطنا

ص:341


1- (1) . الکشی / ح 33 / ح 77 .

السفراء عنّا إلی شیعتنا لا عن آراء المجادلین(1).

وبالنظر لخطورة هذا الموقع السامی فقد کانت الطائفة علماؤها ووجهاؤها یقومون بامتحان من نصّ علی نیابتهم الخاصّة من قبل الأئمة علیهم السلام وعلی کونهم باباً لهم کما ذکر ذلک الشیخ ا لطوسی فی کتاب الغیبة، و ذلک لأنّ منهاج أهل البیت علیهم السلام قائم علی الدلیل والبرهان والبیّنات بدءً من معرفة اللّه تعالی ومروراً بضرورة المعجزة علی نبوّة الأنبیاء وإمامة الأئمة علیهم السلام ، مضافاً إلی النصّ الإلهی من کل نبی سابق علی اللاحق ومن سید الأنبیاء صلی الله علیه و آله و سلام علی سید الأوصیاء علیه السلام وولده علیهم السلام ومن الإمام السابق علیه السلام علی اللاحق علیه السلام .

وممّا یبیّن أیضاً خطورة مقام النیابة الخاصة ومقام الباب للمعصوم علیه السلام ملاحظة الموقف الفقهی لدی علماء الإمامیة تجاه المدّعین الکذابین لهذا المقام، وهو موقف اللعن والبراءة والطرد لهم علی الطائفة، تبعاً لما صدر من الأئمة علیهم السلام من المواقف الصارمة کما صدر من التوقیعات من الناحیة المقدسة حول أولئک.

وقد عقد الشیخ فی الغیبة باباً لذکر المذمومین الذین ادّعوا البابیة والسفارة کذباً وافتراءاً.

وهناک موقف فقهی ثالث یتّصل بخطورة مقام النیابة الخاصة أیضاً هی لعن وبراءة الطائفة ممن ینکر النیابة الخاصة والسفارة للنوّاب الأربعة فی الغیبة الصغری.

ففی أحمد بن هلال الکرخی مثلاً قال الشیخ فی الغیبة قال أبو علی بن همام کان أحمد بن هلال من أصحاب أبی محمّد علیه السلام فاجتمعت الشیعة علی وکالة أبی جعفر محمد بن عثمان رحمه الله بنصّ الحسن علیه السلام ولما مضی الحسن علیه السلام قالت الشیعة الجماعة له: ألا تقبل أمر أبی جعفر محمد بن عثمان وترجع إلیه وقد نصّ علیه

ص:342


1- (1) . وسائل الشیعة / أبواب صفات القاضی / ب 5 / ح 8 .

الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم: لم أسمعه ینصّ علیه بالوکالة ولیس أنکر أباه یعنی عثمان بن سعید فلمّا أن أقطع أنّ أبا جعفر وکیل صاحب الزمان فلا أجسر علیه فقالوا: قد سمعه غیرک فقال: أنتم وما سمعتم، ووقف علی أبی جعفر فلعنوه وتبرأوا منه، ثم ظهر التوقیع علی ید أبی القاسم ابن روح رحمه الله بلعنه والبراءة منه فی جملة من لُعن.

ومما یبیّن أیضاً حساسیة هذا الموقع ما روی الشیخ فی التهذیب فی زیارة قبور النواب الأربعة:

جئتک مخلصاً بتوحید اللّه وموالاة أولیائه والبراءة من أعدائهم ومن الذین خالفوک یا حجّة المولی وبک إلیهم توجّهی وبهم إلی اللّه توسّلی(1) ففیه تولی لأولیائه وتبرّی من أعدائه، وأنه بالنائب الخاص یتوجّه إلی الأئمة فهو بابهم علیهم السلام کما أنّ الأئمة باب اللّه.

ومنها: ما روی الشیخ فی زیارة الشیخ أبی القاسم العمری:

أشهد أنک باب المولی أدیت عنه وأدیت إلیه، ما خالفته ولا خالفت علیه فقمت خالصاً وانصرفت سابقاً جئت عارفاً بالحق الذی أنت علیه وأنک ما خنت فی التأدیة والسفارة(2).

ویظهر منها أنّ السفارة لیست هی الروایة بل هی التأدیة عن طریق الإلهام الروحی.

فهذه الحجیة تختلف عن حجیة العدالة فی الروایة وتختلف عن حجیة الفقاهة والاجتهاد، لأن الأخیرة هی حاصل استنتاج فکری عبر فهم المعانی من الآثار اللفظیة ومن ثم أطلق علیه باب، إذ عنوان الباب اصطلاح دارج فی الروایات للتلقّی عبر العلم الحضوری لا الکسبی الحصولی مثل قوله تعالی: «إِنَّ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ» وقول رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم :

أنا مدینة العلم وعلیّ بابها.

ص:343


1- (1) . التهذیب 6 / 118 .
2- (2) . التهذیب 6 / 118 باب زیارة الأبواب.

ومن ثم بنی فقهاء الإمامیة علی کون هذه الحجیة تختلف عن حجیة الفقاهة والراوی فتبرأوا من کل من أنکر نیابة النوّاب الأربعة وحکموا بضلاله وبمقاطعة الطائفة لهم.

ومنها: ما ورد فی الزیارة:

والسلام علیک من باب ما أوسعه ومن سفیر ما آمنک وثقة ما أمکنک، أشهد أنّ اللّه اختصک بنوره حتی عاینت الشخص فأدیت عنه وأدیت إلیه، والتعبیر بأن اختصک اللّه بنوره دالّ علی مقام معنوی واصطفاه بدرجة والاختصاص بعین الاصطفاء بدرجة نازلة.

وهکذا التعبیر بالأداء المتفرّع علی العیان لشخص الصاحب عجّل اللّه فرجه المتفرّع علی المقام النوری للنائب الخاص، دالّ علی أنّ التلقّی من الناحیة لیس بالسماع الحسّی الکسبی، و هذا یعطی أنّ مقام ومنصب النیابة الخاصة وساطة معنویة بین المعصوم أو الناحیة المقدسة عجّل اللّه فرجه وبین الناس وتمثیل رسمی. ومن ثم یشاهد المدّعین الکذابین لهذا المقام أنهم تمخرقوا وتبهرجوا بادعاء مقامات غیبیة باطلة وشؤون ملکوتیة زائفة.

ومنها: ما ورد فی زیارة سلمان:

السلام علیک یا أبا عبد اللّه سلمان ... یا من لم یتمیّز من أهل البیت الإیمان ... یا من قال له سید الخلق من الإنس والجان: أنت منّا أهل البیت لا یدانیک إنسان ... أتیتک یا أبا عبد اللّه زائراً قاضیاً فیک حق الإمام فاسأل اللّه ... أن یحینی حیاتک و أن یمیتنی مماتک ویحشرنی محشرک وعلی إنکار ما أنکرت ومنابذة من نابذت والرد علی من خالفت(1).

فإن التعبیر بکونه من أهل البیت وکذا التولّی له بالمتابعة وعلی نهجه والبراءة ممن عاداه یفید تولّ خاص له.

ومنها: ما روی الکشی عن أبی جعفر علیه السلام :

کان و اللّه علی محدّثاً وکان سلمان محدثاً

ص:344


1- (1) . التهذیب 6 / 118 .

قلت: اشرح لی! قال:

یبعث اللّه إلیه ملکاً ینقر فی أذنه بقول کیت وکیت(1).

وروی الکشی فی ترجمة سلمان من قول الإمام جعفر الصادق علیه السلام فی الحدیث الذی روی أنّ سلمان کان محدّثاً، قال:

إنه کان محدّثاً عن إمامه لا عن ربّه لأنّه لا یحدّث عن اللّه عزوجل إلّاالحجّة(2).

و هذا الحدیث یدلّ علی أنّ الباب للمعصوم یلهم من قبل المعصوم، وهذا الذی وقع الغلاة والطیارة فی خطأ فی تأویله وتفسیره، کما وقع من العامة کذلک من الخطأ فی تفسیره فتوهّموا أنّ الملهِم - بالکسر - لابدّ أن یکون إلهاً والملهَم - بالفتح - لابدّ أن یکون نبیاً، و هذا من قصور باعهم فی المعارف القرآنیة فإنّ الوحی والإلهام الإلهی علی أقسام وأنماط کما یشیر إلیه قوله تعالی: «ما کانَ لِبَشَرٍ أَنْ یُکَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْیاً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ یُرْسِلَ رَسُولاً فَیُوحِیَ بِإِذْنِهِ ما یَشاءُ إِنَّهُ عَلِیٌّ حَکِیمٌ »3.

فإنّ الملک أیضاً یُلهِم ویوحی بإذن اللّه، فالملهِم یکون الملک والملهَم یکون الإنسان. وکما فی تحدیث جبرئیل و الملائکة لمریم.

نعم مقام الباب والنائب الخاص لیس کمقام من یصطفیه اللّه من الحجج.

ومنها: ما روی الکشی عن أبی جعفر علیه السلام یقول: کان سلمان من المتوسّمین(3).

ومنها: قول النبی صلی الله علیه و آله و سلم :

ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء بذی لهجة أصدق من

ص:345


1- (1) . رجال الکشی / رقم 36 .
2- (2) . رجال الکشی / رقم 34 .
3- (4) . رجال الکشی / رقم 25 .

أبی ذر.

و هذا المفاد یفترق عن مفاد الإخبار عن الوثاقة والشهادة بها، کما أنه یختلف عن حجیة إخبار الفقیه، و ذلک لأنه شهادة من المعصوم ببقاء هذه الصفة طیلة حیاته، و هذا بخلاف العدالة فی الراوی فإنها قد تسلب عنه فی فترات لاحقة کما أنّ حجّیة الفقاهة تستند إلی فهم الأدلّة والاستنتاج منها بینما الصدق الذی نعت به أبوذر الغفاری لا یستند إلی الفهم والاستنتاج بل إلی الإخبار المحض.

ومنها: قول النبی صلی الله علیه و آله و سلم لعمار:

یا عمار تقتلک الفئة الباغیة وقد احتج به الفریقان علی بغی معاویة، فإنّ مقتضی إخباره هذا هو أنّ عمار لا یجاهد إلّافی صفّ الحق ضد الباطل فیکون معلماً لاستعلام الحق والباطل.

ومنها: قول النبی صلی الله علیه و آله و سلم :

أنّ أم أیمن من أهل الجنّة فاحتجّ به علیّ علیه السلام علی صدق شهادتها فی فدک وهی شهادة فی حقوق سیاسیة وعقائدیة دینیة ولم تکن نزاع فردی.

ومنها: قول اللّه عزوجل فی مؤمن آل فرعون: «وَ قالَ الَّذِی آمَنَ یا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِکُمْ سَبِیلَ الرَّشادِ»1 . بضمیمة ما ورد:

أنّ الصدیقین ثلاثة حبیب النجار مؤمن آل یاسین الذی یقول: «اتبعوا المرسلین اتَّبِعُوا مَنْ لا یَسْئَلُکُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ »

، وحزقیل مؤمن آل فرعون وعلی بن أبی طالب وهو أفضلهم(1) وقد رواه الفریقان باختلاف یسیر فی التعبیر.

ومنها: ما ورد فی البحار فی باب تاریخ أعمام النبی صلی الله علیه و آله و سلم من تلقینه صلی الله علیه و آله و سلم لحمزة سید الشهداء التوحید والنبوة والإمامة وأنّ الزهراء سیدة النساء وأنّ حمزة سید الشهداء وجعفر الطیار فی الجنان وأنّ ذلک مما یسأل عنه، فکما یسأل عن النبی والإمام کذلک یسأل عن کون حمزة سید الشهداء وجعفر طیار فی الجنان.

ومنها: ما ورد فی صحیحة سعد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال: سألته عن

ص:346


1- (2) . أمالی الصدوق / 563، والعمدة لابن بطریق / 221، وبحار الأنوار 38 / 212، وشرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 9 / 172، وکنز العمال 11 / 601 / ح 32898 .

زیارة فاطمة بنت موسی علیها السلام قال:

من زارها فله الجنّة(1).

وما ورد فی البحار عن الإمام الرضا علیه السلام :

من زارها عارفاً بحقها فله الجنّة(2).

والتعبیر ب

«عارفاً بحقها» یدلّ علی أنّ لمعرفتها ومعرفة حقّها دخل فی إیجاب الجنّة، والملفت للنظر أنّ الموجب للجنة هو المعرفة لا العمل.

ومنها: ما ورد فی البحار فی معرفتهم بالنورانیة؛ والحدیث طویل مفصّل بیّن فیه الإمام علیه السلام لجابر الجعفی مقام الإمامة وحدّ التقصیر فی معرفة الإمام علیه السلام وغیر ذلک. فقال جابر: الحمد للّه الذی منّ علیّ بمعرفتکم وألهمنی فضلکم ووفّقنی لطاعتکم موالاة موالیکم ومعاداة أعدائکم. قال علیه السلام :

یا جابر أو تدری ما المعرفة؟ المعرفة إثبات التوحید أولاً ثم معرفة المعانی ثانیاً ثم معرفة الأبواب ثالثاً ثم معرفة الأنام رابعاً ثم معرفة الأرکان خامساً ثم معرفة النقباء سادساً ثم معرفة النجباء سابعاً وهو قوله تعالی: «لَوْ کانَ الْبَحْرُ مِداداً لِکَلِماتِ رَبِّی لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ کَلِماتُ رَبِّی وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً»

... أمّا إثبات التوحید معرفة اللّه القدیم ... وأما المعانی فنحن معانیه ومظاهره فیکم ... یا جابر من عرف اللّه تعالی بهذه الصفة فقد أثبت التوحید ...(3).

ص:347


1- (1) . بحار الأنوار 102 / 265 .
2- (2) . بحار الأنوار 102 / 265 .
3- (3) . بحار الأنوار 26 / 13 .

النیابة الخاصّة والمخاطر التی مرّت بها فی عهد المعصومین إلی نهایة الغیبة الصغری

قد أکّد الأئمة علیهم السلام وشدّدوا علی إخفاء من ینوّبونه نیابة خاصّة علی نمط سفارة السفراء الأربعة، الذین یدعون بباب الإمام، حذراً من استغلال السفلة هذا المقام وهذه المعرفة الخاصّة، فیقومون بالمتاجرة زیغاً بادّعاء هذا المقام وتقمّصاً لهذه المدّعیات. وفی براءة الأئمة علیهم السلام من هؤلاء ولعنهم وطردهم دلالة واضحة علی مستند فتوی الطائفة فی الغیبة الصغری وفی بدایات الغیبة الکبری، من التبرّی من کلّ من یدعّی النیابة الخاصّة والسفارة والحکم بمروقه عن الإیمان ولعنه وطرده من الطائفة(1).

فهذه المواقف من أئمة أهل البیت علیهم السلام المستفیضة عنهم تجاه من یدّعی البابیة دالّة بوضوح علی خطورة هذه المقامات فی الشریعة، وأنّه من التکذیب المفتری علی اللّه ورسوله والأئمة الذی لا یدانیه تکذیب بدرجة یکون سالباً للإیمان ومروقاً من الولایة والهدی.

کما أنّ ما اشتهر عن هؤلاء المدّعین من ادّعائهم النبوّة عطفاً علی ادّعائهم

ص:348


1- (1) . الاحتجاج 2 / 552 و 553 فی ذکر المذمومین الذین ادّعوا البابیّة والسفارة کذباً وافتراءاً وقد خرج التوقیع بلعنهم.

النیابة خیر دلیل علی أنّ حقیقة مدّعاهم هی السفارة النیابة الخاصّة لا سفارة النبوّة، ولکنّ هذه النیابة الخاصة المسمّاة بالسفارة عن الإمام - کما فی النوّاب الأربعة فی الغیبة الصغری - لمّا کانت بمنزلة من الخطورة فی الملّة والدین، کان ادّعائها بغیر حق بمنزلة ادّعاء النبوّة، أی ادّعاء ارتباط بمصدر غیبی لدنّی.

کما أنّ ذلک یشف وینمّ عن مسألة هامة جدّاً وهی أنّ النبی صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة المعصومین کان لدیهم أبواب ونواب خاصین کسفراء فی أزمانهم(1)، إلّاأنّ ذلک المقام والمسؤولیة المعهودة إلیهم لم تکن بمستوی السفراء الأربعة فی الإعلان والبروز، بل کانت فی طیّ الکتمان والخفاء وکانت فی الظاهر بعنوان الوکالة المعتادة، إلی أن وصلت النوبة إلی عهد العسکریین علیهما السلام فصار مستوی المعرفة والعلم لدی أتباع أهل البیت علیهم السلام والفقهاء بدرجة مؤهّلة وقابلة لفهم ذلک ووعایته والأمن من الاغترار بالمدّعین الکذّابین السفلة، کما هو الحال فی العمریین الأب والإبن حیث کانا وکیلی العسکریین علیهما السلام ولهما نیابة خاصة وسفارة شبه معلنة منهما علیهما السلام ، فکانت فترة الغیبة الصغری مرحلة بلغت فیها عقول المؤمنین ومعرفتهم وعلمهم وإیمانهم بهذا المقام درجة یؤمن فیها من الانجرار والانزلاق فی حبائل ومصیدة المدّعین الکذّابین.

بل قد بلغت الشیعة مستوی من المعرفة والإیمان إلی درجة التمییز بین أبواب الأبواب الصادقین الذین ذکرهم الشیخ الطوسی فی الغیبة عند ذکره للسفراء المحمودین عن الکذّابین المدّعین إلی أن وصلت النوبة إلی انقطاع النیابة الخاصّة بنهایة الغیبة الصغری.

ص:349


1- (1) . لاحظ الفصل الثامن من کتاب الإمامة الإلهیة الجزء الثالث، وکتاب دعوی السفارة فی الغیبة الکبری.

تقادم ادعاء البابیة والنیابة الخاصة

والظاهر أنّ ادعاء البابیة بدأ من عهد الرسول علی لسان مسیلمة ثمّ ابن سبأ ثم المختار.

روی الکشی عن سعد بن عبد اللّه قال حدّثنی محمد بن خالد الطیالسی عن عبد الرحمن بن أبی نجران عن ابن سنان قال: قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

إنّا أهل بیت صادقون لا نخلو من کذّاب یکذب علینا فیسقط صدقنا بکذبه علینا عند الناس، کان رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم أصدق البریّة لهجة وکان مسیلمة یکذب علیه وکان أمیر المؤمنین علیه السلام أصدق من برأ اللّه من بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وکان الذی یکذب علیه ویعمل فی تکذیب صدقه بما یفتری علیه من الکذب عبد اللّه بن سبأ لعنه اللّه وکان أبو عبد اللّه الحسین بن علی علیه السلام قد ابتلی بالمختار.

ثم ذکر أبو عبد اللّه الحارث الشامی وبیان فقال:

کانا یکذبان علی علی بن الحسین علیه السلام . ثم ذکر المغیرة بن سعید وبزیعاً والسرّی وأبا الخطاب ومعمّراً وبشاراً الأشعری وحمزة البربری وصاید النهدی. فقال:

لعنهم اللّه إنّا لا نخلو من کذّاب أو عاجز الرأی کفانا اللّه مؤنة کلّ کذّاب وأذاقهم اللّه حرّ الحدید(1).

والروایة صحیحة السند والظاهر أن الراوی عبد اللّه بن سنان، وقد مرّ أنّ کذب هؤلاء کان علی شاکلة واحدة - عدا مسیلمة - وهو إذاعة أسرار المعارف حیث إنّ نشرهم وإذاعتهم لها یوجب انطباع معنی معکوس ومقلوب لدی عامة الناس مما یوهم التألیه للأئمة علیهم السلام وأنّ ذلک مقصود من هذه المقامات، وهو معنی خاطئ فاسد یتوهّمه عامة من یسمع تلک الروایات والمضامین فیتسبّبون لنسبة تلک المعانی الباطلة إلی الأئمة علیهم السلام فیکون ذلک کذباً علیهم؛ مضافاً إلی ادّعائهم النیابة الخاصّة عنهم علیهم السلام ممّا یتضمّن دعوی الإلهام منهم وهؤلاء سبّبوا بذلک

ص:350


1- (1) . الکشی / 371 / ح 549 .

نشوء فرق من الغلاة التی تؤلّه الأئمة علیهم السلام وقد أحاط بهم جماعات من طلّاب الرئاسة والمال.

وأما مسیلمة فالصورة عنه وإن لم تکن واضحة فی المصادر إلّاأنّه قد مرّ فی بعض القصاصات من مصادر العامّة یظهر منه ذلک أیضاً. ومرّ أیضاً أنّ قوله علیه السلام کان یکذب علی النبی صلی الله علیه و آله و سلم یظهر منه أنه کان یسند أقوالاً إلی النبی ویدّعی نحو ارتباط معه و لو کان یدّعی النبوّة لکان مکذّباً للنبی صلی الله علیه و آله و سلم .

فإنّ روایات أهل سنة الجماعة علی نمطین:

بعضها أنّه صلی الله علیه و آله و سلم ذمّه فی أوّل لقاء معه، والأخری أنّه صلی الله علیه و آله و سلم مدحه ثم أخذ مسیلمة یدّعی علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم أنّه أشرکه فی الأمر. کما أنّهم ذکروا أنّ الناس اختلفوا وافتتنوا فی کلامه فصدر من النبی صلی الله علیه و آله و سلم فی تکذیبه.

ثم إنّ ما فی روایاتنا من أنّه کان یکذب علی النبی صلی الله علیه و آله و سلم لیس فیها أنّه مدّعٍ للنبوّة بل الظاهر منها أنّه کان یدّعی أنّه ملهم من قبل النبی صلی الله علیه و آله و سلم ، فصوّره العامّة أنه دعوی النبوّة لنفسه کما صوّروا أیضاً فی الطعن علی ابن سبأ أنّه یدّعی النبوّة لنفسه والألوهیّة لعلی علیه السلام لما مرّ من خلطهم بین المقامین ؛ مقام الباب والنائب الخاص ومقام النبوّة، ولم یمیّزوا بین أنماط الوحی والإلهام. والمدّعی لهذا المقام وإن کان کاذباً فی دعواه، ولکن أصل معنی ذلک المقام یغایر دعوی النبوّة.

وقال الکشی: قال سعد وحدثنی ابن العبیدی قال: حدّثنی أخی جعفر بن عیسی وعلی بن إسماعیل المیثمی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام أنّه قال:

آذانی محمد بن الفرات آذاه اللّه وأذاقه اللّه حرّ الحدید، آذانی لعنه اللّه أذی ما آذی أبو الخطّاب لعنه اللّه جعفر بن محمد علیه السلام بمثله وما کذب علینا خطّابی مثل ما کذب محمد بن الفرات و اللّه ما من أحد یکذب علینا إلّاویذیقه اللّه حرّ الحدید.

قال محمد بن عیسی فأخبرانی وغیرهما ما لبث محمد بن فرات إلّاقلیلاً حتی قتله إبراهیم بن شکلة أخبث قتلة، وکان محمد بن فرات یدّعی أنّه باب وأنّه

ص:351

نبی وکان القاسم الیقطینی وعلی بن حسکة القمی کذلک یدّعیان لعنهما اللّه(1).

أقول: إبراهیم بن شکلة هو إبراهیم بن مهدی بن منصور أخو هارون وأمّه شکلة، ومحمد بن فرات جعفی خطابی بغدادی کوفی.

وعن الکشی أیضاً قال: حدّثنی الحسین بن الحسن بن بندار القمی قال:

حدّثنا سهل بن زیاد الآدمی قال: کتب بعض أصحابنا إلی أبی الحسن العسکری علیه السلام : جعلت فداک یا سیّدی إنّ علی بن حسکة یدّعی أنّه من أولیائک، وأنّک أنت الأوّل القدیم، وأنّه بابک ونبیّک أمرته أن یدعو إلی ذلک، ویزعم أنّ الصلاة والزکاة والحجّ والصوم کلّ ذلک معرفتک ومعرفة من کان فی مثل حال ابن حسکة فیما یدّعی من البابیّة والنبوّة فهو مؤمن کامل سقط عنه الاستعباد بالصلاة والصوم والحجّ، وذکر جمیع شرائع الدین أنّ معنی ذلک کلّه ما ثبت لک ومال الناس إلیه کثیراً، فإن رأیت أن تمنّ علی موالیک بجواب فی ذلک تنجیهم من الهلکة؟

قال: فکتب علیه السلام :

کذب ابن حسکة علیه لعنة اللّه، وبحسبک أنّی لا أعرفه فی موالیّ ما له لعنه اللّه. فو اللّه ما بعث اللّه محمداً والأنبیاء قبله إلّابالحنیفیة والصلاة والزکاة والصیام والحجّ والولایة. وما دعی محمد صلی الله علیه و آله و سلم إلّاإلی اللّه وحده لا شریک له وکذلک نحن الأوصیاء من ولده عبید اللّه لا نشرک به شیئاً، إن أطعناه رحمنا وإن عصیناه عذّبنا ما لنا علی اللّه من حجّة، بل الحجّة للّه عزّوجلّ علینا وعلی جمیع خلقه. أبرأ إلی اللّه ممّن یقول ذلک وأنتفی إلی اللّه من هذا القول. فاهجروهم لعنهم اللّه وألجأوهم إلی ضیق الطریق. فإن وجدت من أحد منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخر(2).

ویظهر من هذه الأحادیث أنّ تمادی الخطابیة فی ادعاء المقامات المعنویة والمعارف أولد أعداداً من المدعین للبابیة والنیابة الخاصة ثم الجحود لظواهر

ص:352


1- (1) . الکشی / 598 / ح 1048 .
2- (2) . الکشی / 567 / ح 997 .

الشریعة والأحکام.

والغرض من الخوض فی هذا الفصل هو الإشارة إلی جملة من النقاط التالیة:

الأولی: أنّ جملة من الرواة الذین طعن علیهم بالغلو قد کانوا فی أیام استقامتهم من رواة المعارف ذوی الحصیلة العلمیّة، إلّاأنّ النزعات النفسانیّة دعت عدة منهم إلی ادّعاء النیابة الخاصّة ومقام الباب للمعصوم علیه السلام فلابدّ من التفکیک بین ما یروونه من المعارف وبین دعواهم الکاذبة بالبابیّة والنیابة الخاصّة.

الثانیة: أنّ عدّة من الرواة الذین طعن علیهم بالغلو ممن کانت له فترة استقامة، کانت له أیام استقامته حظوة خاصّة عند أئمة أهل البیت علیهم السلام نظیر حظوة بلعم بن باعورا عند اللّه، فلربما کانت لهم أهلیّة النیابة الخاصّة، إلّاأنّ الخلود إلی أرض النفس والشهوات کما أسقط بلعم بن باعورا من مقام القرب عند اللّه إلی مثل الکلب کذلک أولئک عندما زاغوا وانحرفوا. ولکن ذلک لا یخدش فیما رووه أیام استقامتهم کما لا یخدش بمن تتلمذ علی یدهم أیام استقامتهم وکان من حضّار مجالسهم والمتلقّین لروایاتهم. وقد مرّ أن محمد بن مسلم وزرارة وحمران بن أعین وغیرهم من أوتاد وأرکان الرواة وفقهائهم قد رووا عن هؤلاء أیام استقامتهم.

الثالثة: یظهر من بعض إشارات الروایات أنّ عدّة من رواة المعارف والأسرار ممن استقام علی جادّة الوسطی ولم یربکه زیغ الآخرین لم یکن مجرد وکیل للإمام علیه السلام بل کان باباً ونائباً خاصّاً مستتراً.

الرابعة: أنّ مفهوم النیابة ومقام الباب للمعصوم حیث أخذت التفشّی والانتشار شیئاً فشیئاً فسبب ذلک أن قام بتقمّصه والتدلیس بتلبّسه جملة کثیرة من الکذابین والدجّالین، و هذا ممّا أربک المفاهیم ومعانی المعارف لدی الکثیرین وانطبعت صورة مربکة لدی المخالفین من المذاهب الأخری، فأخذوا بالطعن علی کافّة رواة المعارف بتلک المفاهیم الخاطئة. واشتدّ سعیر الطعن بتجاوب تیار

ص:353

رواة الفقهاء والمتکلّمین بتأیید هذا الطعن علی رواة المعارف، وربما کان المبرر لهم فی تشدید هذا الطعن تخوّفهم من عدم استقامة رواة المعارف إلی نهایة المطاف لا سیما و أنهم شاهدوا أنّ عدّة ممن کانوا علی استقامة قد زلّت بهم الأقدام إلی إحداث فرق باطنیّة لا تستمسک بفقه وثوابت الشریعة، ولا تعض علی تعلّم الفقه وأحکام الشریعة بحثّ ولا طلب.

الخامسة: أنّ جملة من رواة التیّار الفقهی والکلامی من الخاصّة فضلاً عن جمهور علماء العامة قد طعنوا علی من رموهم بالغلو بأنّهم ادّعوا النبوّة لأنفسهم والألوهیة فی الإمام وأنّ الإمام یوحی إلیهم. والظاهر أنّ الطاعنین قد اخلتط لدیهم الحال بین ادّعاء النیابة الخاصّة والنبوّة، حیث لم یتّضح لدیهم حقیقة الفرق بین الإلهام فی النیابة الخاصّة من الإمام للنائب الخاص فی نطاق محدود من المسائل التدبیریّة والتنفیذیة وکشف الأحوال فی الموضوعات، وبین الإلهام فی الوحی النبوی من اللّه للأنبیاء فی إبلاغ الشرایع والأحکام الناسخة.

ص:354

أسماء النوّاب

ذکر الثقة العین کثیر الحدیث الأقدم ابن أبی الثلج البغدادی(1) المتوفّی سنة 325 هجریة فی کتابه تاریخ الأئمة علیهم السلام - الذی ترجم له النجاشی وذکر له سنداً إلی الکتاب کما ترجم له الشیخ فی الفهرست والرجال، وطریق الشیخ إلی کتبه صحیح، بل طریق النجاشی إلیه صحیح علی الأصح لجلالة أبی المفضّل الشیبانی - باباً تحت عنوان أبواب النبی صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة علیهم السلام وقال فیه:

أما النبی صلی الله علیه و آله و سلم بابه أمیر المؤمنین علیه السلام .

علی بن أبی طالب علیه السلام بابه سلمان الفارسی کان الباب سفینة ذو الیدین صاحب النبی صلی الله علیه و آله و سلم .

الحسن بن علی علیه السلام بابه سفینة وقیس بن عبد الرحمن.

الحسین بن علی علیه السلام بابه رشید الهجری.

علی بن الحسین علیه السلام أبو خالد الکابلی ویحیی بن أم طویل قتله الحجاج بواسط.

ص:355


1- (1) . قال النجاشی عنه: ثقة عین کثیر الحدیث (1037) وقال الشیخ عنه فی الرجال فی مَن لم یرو عنهم: بغدادی خاصی یکنی أبا بکر سمع منه التلعکبری ... (فهرست / 664 والرجال فی من لم یرو عنهم / 64 و 119).

محمد بن علی علیه السلام بابه جابر بن یزید الجعفی.

جعفر بن محمد علیه السلام بابه المفضل بن عمر.

موسی بن جعفر علیه السلام بابه محمد بن الفضل.

علی بن موسی علیه السلام بابه محمّد بن الفرات.

محمد بن علی علیه السلام بابه عمر بن الفرات.

علی بن محمد علیه السلام بابه عثمان بن سعید العمری.

الحسن بن علی علیه السلام بابه عثمان بن سعید.

القائم الحجّة المنتظر علیه السلام بابه عثمان بن سعید، فلما حضرته الوفاة أوصی إلی ابنه أبی جعفر محمد بن عثمان بعهد عهده إلیه أبو محمد الحسن بن علی روی عنه ثقات الشیعة أنه قال:

هذا وکیلی وابنه وکیل ابنی، یعنی أبا جعفر محمد بن عثمان العمری. ولما حضرته الوفاة أوصی إلی أبی القاسم الحسین بن روح النمیری ثم أمر أبو القاسم بن روح أن یعقد لأبی الحسن السمری ثم بطی الباب و اللّه أعلم. انتهی کلامه.

أقول: إنّ البعض ممن عدّهم من الأبواب کمحمد بن الفرات قد عدّ من الغلاة الطیّارة لا من الأبواب فلیلحظ!

وعن ابن طاووس فی ربیع الشیعة: أنّ محمد بن علی بن مهزیار من السفراء والأبواب المعروفین الذین لا تختلف الإمامیّة القائلون بإمامة الحسن بن علی علیهما السلام (1).

وکذا عدّ محمد بن علی بن بلال من السفراء الموجودین فی الغیبة الصغری(2).

بل قد کان لجملة من هؤلاء النوّاب والسفراء سفراء آخرین یتوسّطون بین

ص:356


1- (1) . معجم رجال الحدیث 17 / 30 .
2- (2) . معجم رجال الحدیث 11 / 309 .

النواب الخاصّ وعموم الشیعة، وقد عدّ الشیخ رحمه الله فی الغیبة جملة منهم وهم: أبو الحسین محمد بن جعفر الأسدی وأحمد بن إسحاق وإبراهیم بن محمد الهمدانی وأحمد بن حمزة(1).

وقد أوردنا فی الفصل الثامن من کتاب الإمامة الإلهیّة أسماء جملة منهم ممّا جاءت به الروایات، ولیس ذلک بنحو الاستقصاء التام.

ص:357


1- (1) . الغیبة للشیخ / 415 - 417 .

ص:358

8 - البتریة الاتجاه المعاکس لرواة المعارف (396-359)

اشارة

ص:359

ص:360

ظاهرة النفاق فی الإسلام وظاهرة النفاق فی الإیمان متحاذیتان

فإنّ ظاهرة النفاق فی الإسلام ابتدأت فی صدر الإسلام واعتمدت علی التحلّی بحلیة نسک ونوامیس أعمال الإسلام البدنیّة الظاهرة، إلّاأنّها تتنکّر فی قلبها ومعارفها لحقیقة التسلیم وواقعیته بفرائض اللّه وأوامره وحاکمیّته فضلاً عن سنن وأوامر وحاکمیة النبی صلی الله علیه و آله و سلم .

ولیس من الضروری أن یلتفت من یعیش فی حالة النفاق إلی الازدواجیة التی یعیشها، والتناقض بین الزی الدینی الذی تلبّس به فی سلوکه الظاهر وبین تمرّده القلبی والمعرفی الذی یتبنّاه ویسلکه فی قناعاته ورؤاه الفکریة، فهو یمزج بین الحالتین الباطنة والظاهرة المتدافعتین من دون أن یقرّ بالتناقض والتدافع فیما بینهما. ومن ثمّ یکون نتیجة سلوکه حتی فی الظاهر ممزوجاً بأفعال عدائیة مخرّبة لکیان الدین ومساره ومنهاجه رغم تقمّص هذا الشخص لزی نسک وطقوس الإسلام علی صعید سلوکه الفردی أو فی العبادة الفردیة أو فی بعض الأفعال ذات صبغة الملة الحنیفیة.

وقد وقع الترکیز وإلقاء الضوء کثیراً علی النفاق فی الإسلام منذ بدایته وجرت کثیر من الدراسات والمتابعات تبعاً لما أشارت إلیه الآیات والروایات وتتابعت هذه البحوث طیلة أربعة عشر قرناً، إلّاأنّ ظاهرة النفاق فی الإیمان لم

ص:361

یسلّط الضوء علیها رغم أنّها متقادمة فی التاریخ منذ بدایة وجود الإیمان کمنهاج وطریقة فی ملّة الإسلام.

فإنّ منهاج الإیمان أخذ زیّاً وطقوساً ونوامیس خاصّة منضمّة إلی زیّ ونوامیس وطقوس الإسلام، فأصبح للإیمان شکلاً فی الظاهر ولباساً وقمیصاً کما هو الحال للإسلام فی الظاهر، وکما أنّ للإسلام سبباً للاعتناق فی الظاهر وهو الإقرار بالشهادتین، فإنّ للإیمان سبباً فی الظاهر وهو الإقرار بالشهادات الثلاث، وکما أنّ المنافق فی الإسلام علی أنواع وأقسام ودرجات؛ فقد ینتسب ویوالی بزعمه اللّه تعالی ورسوله ویعادی علیاً والعترة أو قد یوالی بزعمه اللّه تعالی ویعادی رسول اللّه، فکذلک الحال فی النفاق فی الإیمان فإنّه علی درجات وأقسام عدیدة جدّاً؛ فقد یوالی علیاً ویعادی الحسنین أو یوالی أصحاب الکساء ویعادی زین العابدین علیه السلام والباقر علیه السلام والصادق علیه السلام کما حصل ذلک لجملة من أصحاب علی علیه السلام ، أو یوالی العترة إلی الصادق علیه السلام ویعادی الکاظم علیه السلام والرضا علیه السلام أو الجواد علیه السلام کما حصل للإسماعیلیة والناووسیة والواقفیة والکرخیة وغیرها من فرق الشیعة، أو قد تکون الموالاة للأئمة بزعم الشخص فی الظاهر ولکنّه یتمرّد علی الانقیاد لهم ولا یسلّم تلک الحجّیة والولایة لهم بحسب المقامات والأوامر الصادرة عنهم.

وقد أشیر إلی ظاهرة أشکال ونماذج مختلفة من النفاق فی الإیمان فی الروایات:

1 - الذی یوالی أهل البیت ولکنّه یضعف عن البراءة من أعدائه.

ففی صحیح إسماعیل الجعفی قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام : رجل یحب أمیر المؤمنین علیه السلام ولا یتبرأ من عدوّه وهو یقول: هو أحبّ إلیّ ممن خالفه، فقال:

هذا

ص:362

مخلط وهو عدو، فلا تصل خلفه ولا کرامة إلّاأن تتقیه(1).

وفی مستطرفات السرائر أنه قیل للصادق علیه السلام أن فلاناً یوالیکم إلّاأنّه یضعف عن البراءة من عدوکم قال:

هیهات کذب من ادعی محبتنا ولم یتبرّأ من عدوّنا(2)وللتولی والتبری مراتب: منها معرفی عقائدی ومنها عملی فی الولاء السیاسی أو السلوک الفردی. ومن هنا أفتی الشیخ فی المبسوط والقاضی فی المهذب والعلامة فی التذکرة أنه لا یجوز إمامة من یتظاهر بولایة أمیر المؤمنین علیه السلام ولم یتبرّأ من أعدائه(3).

2 - المنتحل أی الذی یتقمص الولاء لأهل البیت علیهم السلام ولکنه عار عن حقیقته کأن یکون ولاؤه السیاسی لغیرهم.

ففی روایة زیاد بن أبی سلمة قال: دخلت علی أبی الحسن موسی علیه السلام فقال لی:

یا زیاد إنک لتعمل عمل السلطان قال: قلت: أجل، قال لی:

ولم، قلت: أنا رجل لی مروة وعلیّ عیال ولیس وراء ظهری شیء فقال لی:

یا زیاد لئن أسقط من جالق وأتقطع قطعة قطعة أحبّ إلیّ من أن أتولی لأحد منهم عملاً أو أطأ بساط أحدهم إلّالماذا؟قلت: لا أدری جعلت فداک فقال:

إلّالتفریج کربة عن مؤمن أو فک أسره أو قضاء دینه، یا زیاد إن أهون ما یصنع اللّه لمن تولی لهم عملاً أن یضرب علیه سرادق من نار إلی أن یفرغ اللّه من حساب الخلائق، یا زیاد فإن تولّیت شیئاً من أعمالهم فأحسن إلی إخوانک فواحدة بواحدة، و اللّه من وراء ذلک، یا زیاد أیّما رجل منکم تولی لأحد منهم عملاً ثم ساوی بینکم وبینهم فقولوا له: أنت منتحل کذاب، یا زیاد إذا ذکرت مقدرتک علی الناس فاذکر مقدرة اللّه علیک غداً ونفاد ما أتیت إلیهم عنهم وبقاء ما أتیت إلیهم علیک(4).

ص:363


1- (1) . الوسائل / أبواب صلاة الجماعة ب 10 / 3 .
2- (2) . مستطرفات السرائر: 460، بحار الأنوار 27 / 57 .
3- (3) . المبسوط 1 / 155، المهذب 1 / 80، تذکرة الفقهاء 4 / 380 .
4- (4) . الکافی 5 / 109 .

فالذی یساوی بین أتباع أهل البیت علیهم السلام وبین المخالفین فی تعامله من موقع منصبه فی حکومة الجور هو مؤشر علی کونه حرکته فی الحیاة السیاسیة علی خلاف الولاء السیاسی لأهل البیت علیهم السلام .

3 - روی الکشی عن أبی الحسن علیه السلام قال أبو عبد اللّه علیه السلام :

ما أنزل ا للّه سبحانه وتعالی آیة فی المنافقین إلّاوهی فیمن ینتحل التشیّع(1).

وفی هذا الحدیث دلالة علی أنّ آلیات النفاق لتقمّص الإیمان تتعدّد وتتنوّع بسعة أشکال ونماذج وآلیات النفاق فی الإسلام، وأنّه کما أنّ للإسلام ظاهر صوری وواقع حقیقی فکذلک للإیمان ظاهر صوری وواقع حقیقی، و أن الظاهر وإن کان لابد منه وبه یتمیّز المؤمن عن غیره کضرورة ظاهر الإسلام یتمیّز المسلم عن الکافر إلّاأنّه لابدّ من الواقع أیضاً وبدونه یکون نفاقاً.

وهذه قاعدة فی تعدد أنماط النفاق فی الإیمان وعدم انحصار النفاق فی الإسلام، وإن ما جری من أدوار وأنماط وحالات ومشاهد فی صدر الإسلام من النفاق فی الإسلام بعینه یتکرّر لمن یتقمّص ویتلبّس بالإیمان.

4 - ظاهرة العباسیّة وهی التی قام بها بنو العباس من رفع شعار «الرضا من آل محمد» أی رفع شعار منهاج أهل البیت علیهم السلام واسترداد حقوقهم وإزالة الظالمین لهم کی یستقطب القاعدة الشیعیة والإسلامیّة لیتمکّن من الوصول إلی سدّة الحکم ومرکز القدرة، وما أن تستطب خیوط القدرة لدیهم فیکشف حینئذ قناع عن کذب ادّعائهم وحقیقة نوایاهم فتبدأ مسیرة العداء مع أهل البیت علیهم السلام ومع معالم منهاجهم. وجری الاصطلاح والاستعمال فی الروایات عن هذا النموذج من نفاق بوصف واسم العبّاسیّین لکن کوصف لا اسم علم لهم کما هو الحال فی البتریّة والزیدیّة کعنوانین وصفیّین یمثّلان منهجاً مبایناً لنهج أهل البیت علیهم السلام لا کظاهرة

ص:364


1- (1) . بحار الأنوار 65 / 166 .

تاریخیّة وقعت فی حقبة معیّنة فقط.

5 - قد جری فی بعض کتب أهل سنّة الخلافة تقسیم الناصبی ونصب العداء لأهل البیت إلی ثمانیة أقسام وفی بعضها الآخر إلی خمسة عشر قسماً وبعض تلک الأقسام جلیّة واضحة وبعضها خفیّة مستورة.

ومن الأوّل ما هو معروف ومذکور من الجهر بالعداوة أو النیل والوقیعة فی أهل البیت، أو إبطان البغض والعداوة فی القلب أو تقدیم غیرهم علیهم وغیرها من الأنماط.

ومن النمط الثانی التشکیک فی فضائلهم أو تفضیل غیرهم علیهم أو تسویتهم مع الآخرین أو نسبة فضائلهم إلی غیرهم أو الطعن فی خواصّ اتباعهم وغیرها من الأنحاء.

ولا یخفی أن النمط الأوّل ینطبق علی النفاق فی الإسلام بخلاف النمط الثانی، فإنّه ینطبق علی النفاق فی الإیمان. وقد أشیر إلیه فی الروایات فی تعداد أنماط النصب لناصب العداوة من قولهم علیهم السلام

إنک لا تجد أحداً یقول إنّی عدو لآل محمد ولکن الناصب من نصب لکم العداوة وهو یعلم أنکم تحبوننا وتتولوننا وقد عدّ فی الروایات أن البتریة من النواصب أیضاً کما سیأتی من روایة زرارة(1).

6 - ومن درجات النفاق فی الإیمان استنقاصهم فی العلم ویظهر هذا الاستنقاص ویتجلّی فی طلب العلوم الهادیة إلی السعادة الأخرویّة من غیرهم.

ویشیر إلی ذلک قولهم:

شرّقا وغرّبا فلن تجدا علماً صحیحاً إلّاشیئاً یخرج من عندنا أهل البیت(2).

وقولهم:

من أصغی إلی ناطق فقد عبده(3).

ص:365


1- (1) . الکافی 2 / 402 .
2- (2) . بصائر الدرجات / 30، بحار الأنوار 2 / 92 .
3- (3) . الکافی 6 / 434 .

وقول أبی جعفر علیه السلام :

یمصّون الثمد ویترکون النهر العظیم. قیل: وما النهر العظیم؟ قال:

رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم والعلم الذی آتاه اللّه إنّ اللّه جمع لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم سنن النبیین من آدم هلم جرا إلی محمد صلی الله علیه و آله و سلم قیل له: وما تلک السنن؟ قال:

علم النبیین بأسره، إن اللّه جمع لمحمّد صلی الله علیه و آله و سلم علم النبیین بأسره وإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم صیر ذلک کلّه عند أمیرالمؤمنین علیه السلام (1).

قال المجلسی رحمه الله : الثمد ویحرک ککتاب: الماء القلیل لا مادّة له أو ما یبقی فی الجلد أو ما یظهر فی الشتاء ویذهب فی الصیف ذکره الفیروزآبادی.

و قولهم علیهم السلام :

کذب من زعم أنه من شیعتنا وهو متمسّک بعروة غیرنا أو

کذب من زعم أنه یعرفنا وهو متمسّک بعروة غیرنا(2) وقولهم:

کلّ شیء لم یخرج من هذا البیت فهو

باطل(3).

7 - ومن أنماط النفاق من یجحد ما أعطاهم اللّه تعالی من کرامة المقامات والمناصب والشؤون الغیبیّة ویرد علیهم فی أقوالهم ولا یری لهم سعة فی الحجّیة والصلاحیّة والولایة فی الدین، وهو یزعم أنّه شیعة لهم وأنّه یقرّ بأنّ اللّه جعلهم أئمّة للخلائق.

ففی خطبة النبی صلی الله علیه و آله و سلم بعد رجوعه من تبوک:

معاشر المهاجرین والأنصار ما بال أصحابی إذا ذکر لهم إبراهیم وآل إبراهیم تهللت وجوههم وانتشرت قلوبهم، وإذا ذکر لهم محمد وآل محمد تغیّرت وجوههم وضاقت صدورهم إن اللّه لم یعط إبراهیم شیئاً وآل إبراهیم إلّا أعطی محمداً وآل محمد مثله ونحن فی الحقیقة آل إبراهیم(4).

وفی حدیث الإمامة عن الإمام الرضا علیه السلام المروی فی الکافی والعیون:

فمن ذا

ص:366


1- (1) . بحار الأنوار 26 / 166 .
2- (2) . معانی الأخبار / 399، وبحار الأنوار 2 / 83 .
3- (3) . الاختصاص/ 31 .
4- (4) . مدینة المعاجز 2 / 278، ونظیره بحار الأنوار 27 / 171 .

الذی یبلغ معرفة الإمام أو یمکنه اختیاره؟ هیهات هیهات؛ ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العیون، وتصاغرت العظماء، وتحیرت الحکماء، وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألباء، وکلت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعییت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضیلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصیر. وکیف یوصف بکله أو ینعت بکنهه أو یفهم شیء من أمره أو یوجد من یقوم مقامه ویغنی غناه، لا، کیف وأنی؟ وهو بحیث النجم من ید المتناولین ووصف الواصفین فأین الاختیار من هذا؟ وأین العقول عن هذا؟ وأین یوجد مثل هذا؟!(1).

8 - وقد صرح فی الروایات بکون ظاهر البتریة من ألوان ونماذج النفاق والازدواجیة فی الإیمان کما یأتی فی روایة الطبری فی دلائل الإمامة(2) وفی إرشاد الشیخ المفید(3).

ص:367


1- (1) . الکافی 1 / 201.
2- (2) . دلائل الإمامة للطبری / 241 ط ق، وص 455 ط ح .
3- (3) . الإرشاد 2 / 384 .

ظاهرة البتریة المخلطة التلفیقیة المناوئة لظاهرة المشتهرین بالغلوّ

وبعدما عرفت لمحة مختصرة عن ظاهرة النفاق فی الإیمان وتعددها نجد ظاهرة من النفاق یمثل فی البتریة وهم من ینهج شعار التولی لآل محمد صلی الله علیه و آله و سلم من دون التبری من أعدائهم، والبتریة ظاهرة تلفیقیة مزجیة مخلّطة، وهم الذین یخلطون ویرومون إلی الوفاق بین ولایة أهل البیت علیهم السلام مع ولایة الشیخین، فأسماهم زید بن علی بالبتریة لأنهم بتروا ولایة أهل البیت، وهؤلاء نشأوا فی قبال تیار رواة المعارف وتیار المغیریّة والخطابیّة وأمثالهم.

والبتریة هم أصحاب کثیر النواء والحسن بن صالح بن حیّ وسالم بن أبی حفصة والحکم بن عتیبة وسلمة بن کهیل وأبو المقدام ثابت الحدّاد، وهم الذین دعوا إلی ولایة علی علیه السلام ثم خلطوها بولایة أبی بکر وعمر ویثبتون لهما إمامتهما وینتقصون عثمان وطلحة والزبیر، ویرون الخروج مع بطون ولد علی بن أبی طالب یذهبون فی ذلک إلی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر ویثبتون لکلّ من خرج من ولد علی علیه السلام عند خروجه الإمامة.

ص:368

معالم منهج البتریة

المعلم الأول: إنّ المنهج التلفیقی التوفیقی المزجی الذی اختاروه أولد لدیهم رؤیة سطحیة معینة حول شرائط الإمامة الدینیة والسیاسیة ومواصفات الخلیفة، فی قبال تیار المغیرة وأبی الخطاب الذی کان یجاهر بالتشدد والنکیر علی تیار البتریة فی هذه الرؤیة وعلی ضرورة النص الإلهی فی الإمام.

المعلم الثانی: روی الکشی عن علی بن محمد قال: حدثنی محمد بن أحمد عن العباس بن معروف عن أبی القاسم الکوفی عن الحسین بن محمد بن عمران عن زرعة عن سماعة عن أبی بصیر قال: ذکر أبو عبد اللّه علیه السلام کثیر النواء وسالم بن أبی حفصة وأبا الجارود فقال:

کذّابون مکذّبون کفّار علیهم لعنة اللّه، قال: قلت:

جعلت فداک کذّابون قد عرفتهم فما معنی مکذّبون؟ قال:

کذّابون یأتوننا فیخبرونا أنهم یصدّقونا ولیسوا کذلک ویسمعون حدیثنا فیکذّبون به.

و هذا الحدیث یبیّن المعلَم الثانی للمنهج التلفیقی من أنهم انتقائیین فی اتباع منهج أهل البیت، فینتقون منه ما یتناسب مع المنهج التوفیقی التلفیقی الذی یسلکونه، و هذا یستدعی منهم رفض جملة من قواعد مذهب أهل البیت علیهم السلام وهو مثابة الردّ علی العترة.

فی فرق الشیعة للنوبختی قال: إنّ البتریة عند العامّة أفضل أصناف الزیدیة و ذلک أنّهم یفضّلون علیاً ویثبتون إمامة أبی بکر(1).

ولا یخفی أن من یری صلاح خلافة أبی بکر ویزعم القول والتسلیم بفضائل ومناقب علی علیه السلام هو فی الحقیقة ینهج منهج البتریة.

ومن الأمور التی تلحظ بوضوح فی الزیدیة عموماً وفی البتریة خصوصاً قولهم بالقیاس فی الدین والاجتهاد بالرأی وزعمهم بروایة نصوص فی ذلک عن

ص:369


1- (1) . فرق الشیعة ص 57 .

أهل البیت(1).

وصریح هذا أنّ أسلوب البتریة وشعاراتهم هی دعوی التشیع والإیمان بأهل البیت علیهم السلام والاتباع لهم وتأکیدهم بإصرار أنهم من شیعتهم علیهم السلام ، ولکنّهم لیسوا علی هذه الحقیقة بعد ولائهم لمنهاج السقیفة وأصحابها التی هی علی طرف نقیض مع الإمامة الإلهیة ومنهاجهم. ومن ثم حبط انتمائهم لأهل البیت علیهم السلام وآلو إلی غیر مسارهم علیهم السلام ، ولکنّهم بهذه الشعارات یخادعون ویغرّون الکثیر من البسطاء المحبّین لأهل البیت علیهم السلام ویحرفونهم إلی غیر الصراط السویّ.

المعلم الثالث: روی الکشی عن سعد بن جناح الکشی قال: حدثنی علی بن محمد بن یزید القمی عن أحمد بن محمد بن عیسی عن الحسین بن سعید عن فضالة بن أیوب عن الحسین بن عثمان الرواسی عن سدیر قال: دخلت علی أبی جعفر علیه السلام ومعی سلمة بن کهیل وأبو المقدام ثابت الحدّاد وسالم بن أبی حفصة وکثیر النواء وجماعة معهم، وعند أبی جعفر علیه السلام أخوه زید بن علی، فقالوا لأبی جعفر علیه السلام : نتولی علیاً وحسناً وحسیناً ونتبرّأ من أعدائهم قال:

نعم، قالوا: نتولّی أبا بکر وعمر ونتبرّأ من أعدائهم قال: فالتفت إلیهم زید بن علی قال لهم: أتتبرّأون من فاطمة، بترتم أمرنا بترکم اللّه فیومئذ سمّوا البتریة(2).

و هذا الحدیث یبیّن المعلَم الثالث للمنهج التوفیقی التلفیقی وهو أنّ أسلوب هذا التیّار یسبّب بتر منهاج أهل البیت علیهم السلام ، و هذا العنوان الذی أطلقه زید فی محضر الباقر علیه السلام من المطمئن أنه استقاه من معدن علم أخیه الباقر علیه السلام ، لا سیما وأنّ حدیث هذه الجماعة وسؤالهم کان موجّهاً لأبی جعفر الباقر علیه السلام فمبادرة زید أخاه بالجواب مع طلبهم السؤال منه علیه السلام یعدّ اکتفاء منه وتقریراً لما قاله زید فصار هذا العنوان شعاراً لهذا المنهج وتسمیة شرعیة له وهو یفسر علی معان:

ص:370


1- (1) . شرح نهج البلاغة 1 / 290 .
2- (2) . الکشی 311 / رقم 429 .

الأول: البتر بمعنی القطع أی تقویض منهاج أهل البیت علیهم السلام (بترتم أمرنا) لأنّ البتریة تعتمد علی عدم لزوم النصّ الإلهی علی الإمام وعلی التلفیق بین منهاج أهل البیت علیهم السلام ومدرسة السقیفة العامة فی المبانی والقواعد. و هذا ممّا یفقد قواعد منهاج أهل البیت لحقیقتها وواقعیتها الأصیلة المتمیّزة عن منهاج البشر.

الثانی: انقطاعهم عن ولایة أهل البیت علیهم السلام وهدیهم ومنهاجهم حیث التزموا بالتلفیق والالتقاط الانتقائی.

الثالث: لکون هذه الفرقة تنسب إلی کثیر النواء وکان أبتر الید أی مقطوع الید، فلو صحّ هذا - کما ذکره جماعة(1) - فیکون کنایة ورمز عن المنهج الذی اختطّه کثیر النواء و هذا التفسیر.

ولا یخفی خطورة المعنی الأول حیث إنّهم بهذا المنهج المزجی التلفیقی الالتقاطی الانتقائی یمحون بذلک هویّة مذهب أهل البیت علیهم السلام ومنهاجهم، ویموّهون حقیقة ذلک الطابع وبزوال هذا الحدّ الفاصل والخطّ المائز یؤول الأمر إلی انقطاع ذلک المنهاج وعدم بقائه.

فإنّ ممّا یستوجب التسلیم بضرورة الإمامة الإلهیة والنصّ الإلهی التخطئة والإبطال والتبرّی من دعوی الإمامة البشریة، فإنّ دعوی أنها قدیرة علی الإصلاح والهدایة، تتضمّن الاستغناء عن الحبل الممدود من السماء وعن وصایة السماء علی الأرض. فالتبرّی من هذه الدعاوی ورموزها المتمثّل فی منهج السقیفة وشعاراته ومتبنیاته یستلزم المعرفة والإقرار والتسلیم بالحاجة إلی هدایة السماء طوال المسیر البشری.

وفی الملل والنحل: الصالحیة والبتریة: الصالحیة أصحاب الحسن بن صالح بن حیّ، والبتریة أصحاب کثیر النوا الأبتر، وهما متفقان فی المذهب و قولهم فی

ص:371


1- (1) . السرائر لابن إدریس 3 / 561 .

الإمامة کقول السلیمانیة إلّاأنّهم توقّفوا فی أمر عثمان: أهو مؤمن أم کافر؟ قالوا: إذا سمعنا الأخبار الواردة فی حقّه وکونه من العشرة المبشرین بالجنة، قلنا: یجب أن نحکم بصحّة إسلامه وإیمانه وکونه من أهل الجنة، وإذا رأینا الأحداث التی أحدثها من استهتاره بتربیة بنی أمیة وبنی مروان واستبداده بأمور لم توافق سیرة الصحابة، قلنا: یجب أن نحکم بکفره، فتحیّرنا فی أمره وتوقّفنا فی حاله ووکّلناه إلی أحکم الحاکمین.

وأما علی علیه السلام فهو أفضل الناس بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وأولاهم بالإمامة، لکنّه سلّم الأمر لهم راضیاً وفوّض الأمر إلیهم طائعاً وترک حقّقه راغباً، فنحن راضون بما رضی مسلّمون لما سلّم لا یحلّ لنا غیر ذلک، ولو لم یرض علی بذلک لکان أبو بکر هالکاً. وهم الذین جوّزوا إمامة المفضول وتأخیر الفاضل والأفضل إذا کان الفاضل راضیاً بذلک(1).

یزعمون أنّ علیاً أفضل الناس بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وأولاهم للإمامة، وأنّ بیعة أبی بکر وعمر لیست بخطأ لأنّ علیاً علیه السلام ترک ذلک لهم. وینکرون رجعة الأموات إلی الدنیا ولا یرون الإمامة لعلی علیه السلام إلّاحین بویع(2).

المعلم الرابع: روی الکشی عن حمدویه وإبراهیم، قال: حدّثنا أیوب بن نوح عن صفوان قال: حدثنی فضیل الأعور عن أبی عبیدة الحذّاء قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام : إنّ سالم بن أبی حفصة یقول لی: ما بلغک أنه من مات ولیس له إمام کانت میتته میتة جاهلیة؟ فأقول: بلی، فیقول: من إمامک؟ فأقول: أئمتی آل محمد علیه وعلیهم السلام، فیقول: و اللّه ما أسمعک عرفت إماماً قال أبو جعفر علیه السلام :

ویح سالم وما یدری سالم ما منزلة الإمام! منزلة الإمام یا زیاد أعظم وأفضل ممّا یذهب إلیه سالم والناس أجمعون.

ص:372


1- (1) . الملل و النحل للشهرستانی 1 / 161 .
2- (2) . الملل و النحل 7 / 454 .

ویظهر من الحدیث معلم آخر من معالم البتریة وهو أنهم یفنّدون وینکرون أی مقام غیبی لأئمة أهل البیت علیهم السلام فی حین یدّعون المرجعیة العلمیة لأهل البیت علیهم السلام کفقهاء ورواة، فیکذبّون ویجحدون أیّ حدیث یشیر إلی علم لدنّی لهم علیهم السلام أو موهبة سَنِیة إلهیة ویقاومون انتشارها، بل ویکفّرون بالطعن بالغلوّ من یعتقد بها ویتبنّاها.

فعن أبی حمزة الثمالی قال: کنت أنا والمغیرة بن سعید جالسین فی المسجد فأتانا الحکم بن عیینة فقال: لقد سمعت من أبی جعفر علیه السلام حدیثاً ما سمعه أحد قطّ، فسألناه فأبی أن یخبرنا به. فدخلنا علیه فقلنا: إنّ الحکم بن عیینة أخبرنا أنّه سمع منک ما لم یسمعه منک أحد قطّ، فأبی أن یخبرنا به، فقال:

نعم وجدنا علم علی علیه السلام فی آیة من کتاب اللّه: «وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ » ولا نبیّ ولا محدّث فقلنا: لیست هکذا هی، فقال: فی کتاب علی: و ما أرسلنا من قبلک من رسول ولا نبیّ و لا محدّث إلّاإذا تمنّی ألقی الشیطان فی أمنیّته، فقلت: وأیّ شیء المحدّث؟ فقال: ینکت فی أذنه فیسمع طنیناً کطنین الطست أو یقرع علی قلبه فیسمع وقعاً کوقع السلسلة علی الطست فقلت: إنه نبیّ؟ قال: لا، مثل الخضر و مثل ذی القرنین(1).

وفی هذا الحدیث یبیّن علیه السلام لروّاد البتریّة أنّ سبب انحرافهم عن أهل البیت علیهم السلام جهلهم بحقائق القرآن واعتمادهم علی منابع أهل السنّة فی المعرفة .

و قال جابر: کنّا عند الباقر علیه السلام نحواً من خمسین رجلاً إذ دخل علیه کثیر النواء ... فسلّم وجلس ثم قال: إنّ المغیرة بن عمران عندنا بالکوفة یزعم أنّ معک ملکاً یعرفک الکافر من المؤمن وشیعتک من أعدائک قال: ما حرفتک؟ قال: أبیع الحنطة قال: کذبت، قال: وربّما أبیع الشعیر، قال:

لیس کما قلت، بل تبیع النوی قال:

ص:373


1- (1) . بصائر الدرجات 2 / 117 ح 1161 .

من أخبرک بهذا؟ قال:

الملک الذی یعرّفنی شیعتی من عدوّی لست تموت إلّاتائهاً قال جابر الجعفی: فلما انصرفنا إلی الکوفة ذهبت فی جماعة نسأل عن کثیر فدللنا علی عجوز فقالت: مات تائهاً منذ ثلاثة أیام(1).

فی البحار عن الخرائج: روی عن سدیر أنّ کثیر النواء دخل علی أبی جعفر علیه السلام وقال: زعم المغیرة بن سعید أنّ معک ملکاً یعرّفک الکافر من المؤمن - فی کلام طویل قد مضی - فلما خرج قال علیه السلام :

ما هو إلّاخبیث الولادة ...(2).

وروی الکلینی بسنده عن عبید بن زرارة قال: أرسل أبو جعفر علیه السلام إلی زرارة أن یعلم الحکم بن عتیبة أن أوصیاء محمد علیه وعلیهم السلام محدّثون(3).

المعلم الخامس: إنّهم یرفعون شعار دعاة الإصلاح ومن ثمّ یخطّئون الفساد المعلن کمنهج عثمان وطلحة والزبیر، کما ذکر ذلک الکشی قال: ویبغضون عثمان وطلحة والزبیر، وقال: یذهبون فی ذلک إلی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر.

فی فرق الشیعة للنوبختی فی ترجمة الحسن بن صالح بن الحی عدّه من رؤساء البتریة وهم ضعفاء الزیدیة، انتهی(4).

والظاهر أنّه یرید بذلک أنّ أسلوبهم فی الثورة والنهضة لم یکن حادّاً ساخناً کبقیة الزیدیة مسلّحاً.

وحکی الکشی عن سالم أنه کان مختفیاً من بنی أمیة بالکوفة فلمّا بویع لأبی العباس، خرج من الکوفة محرماً فلم یزل یلبّی «لبیک قاصم بنی أمیة لبیک» حتی

ص:374


1- (1) . الخرائج والجرائح / 276 .
2- (2) . بحار الأنوار 46 / 253، الخرائج والجرائح 2 / 710 .
3- (3) . الکافی 1 / 370 .
4- (4) . ص 57 .

أناخ بالبیت(1).

وعن السمعانی أنّه قال: أضللنا هذه الطائفة إذا شکوا فی إیمان عثمان(2).

وقد دخلت البتریة فی صفقات مع الأنظمة الوقتیّة ضدّ الحرکات المعارضة من تیارات الثوّار، فکانوا عناصر اختراق فی صفوف الثوّار والنهضات الإصلاحیة لإفشالها.

فقد ذکر أبو الفرج الاصبهانی فی مقاتل الطالبیین أنّ إدریس بن عبد اللّه بن الحسن أفلت من وقعة فخّ وکان الرشید یتابع خبره، فلما بلغه أنّه توجّه إلی إفریقیا توجّس خوفاً شدیداً، فشکا ذلک إلی یحیی بن خالد البرمکی فقال: أنا أکفیک أمره. ودعا سلیمان بن الجریر الجزری وکان من متکلمی الزیدیة البتریة من أولی الریاسة فیهم فأرغبه ووعّده عن الخلیفة بکلّ ما أحبّ علی أن یحتال لإدریس حتی یقتله، ودفع إلیه غالیة مسمومة - أی قارورة - فیها عطر وطیب مسموم، فاحتال سلیمان حتی وصل إلی إدریس وأظهر له أنّه قد هرب من السلطان لما یعلم من مذهبه فأنس بإدریس واجتباه وکان ذا لسان معارضة، وکان یجلس فی مجلس البربر فیحتجّ للزیدیة ویدعو إلی أهل البیت علیهم السلام .

فحسن موقع ذلک من إدریس إلی أن وجد فرصة فقال لإدریس: جعلت فداک هذه قارورة غالیة حملتها إلیک من العراق لیس فی هذا البلد من هذا الطیب شیء فقبلها وتطیّب بها وشمّها، وانصرف سلیمان وفرّ هارباً من إدریس، وسقط إدریس من شدّة السمّ فلم یعلم من حوالیه ما قصّته حتی قضی عشیّاً وتبیّن بذلک حال أمر سلیمان(3).

المعلم السادس: أنّ البتریة کمنهج توفیقی تلفیقی کان یشتمل علی جملة من

ص:375


1- (1) . الکشی 310 / رقم 428 .
2- (2) . الأنساب للسمعانی 1 / 80.
3- (3) . مقاتل الطالبیین / 489 .

الرموز العلمیة إما بانتماء شیعی أو سنّی، إلّاأنّهم وجدوا فی هذا المنهج التوفیقی وسطیة حسب زعمهم.

ففی الکشی قال: وقیس بن الربیع بتری کانت له محبّة.

وعدّد من البتریة: فأما مسعدة بن صدقة فبتری، وثابت أبو المقدام بتری، وکثیر النواء بتری، وعمرو بن جمیع بتری، وعمرو بن القیس الماصر بتری، ومقاتل بن سلیمان البجلی وقیل البلخی بتری، وأبو نصر بن یونس بن الحارث بتری وکذا عمر بن ریاح (عمرو بن رباح)(1).

وقد تقدم قول الکشی أنّ البتریة هم أصحاب کثیر النواء والحسن بن صالح بن الحی وسالم بن أبی حفصة وحکم بن عتیبة وسلمة بن کهیل وأبو المقدام ثابت الحداد.

المعلم السابع: الخلود إلی الدعة والقعود عن تحمّل المسؤولیة، فإنّ هذه الظاهرة النفسانیة الفکریة توجب عدم تحمّل ضریبة وثقل البراءة والتبرّی والتخطئة لمنهج الجمهور وروّاده من أصحاب السقیفة، ویؤدّی تلقائیّاً إلی حالة من التقهقر النفسی والفکری والانهزام ومحاولة تلوّن الضعیف فی القدرة السیاسیة بلون صاحب القدرة السیاسیة والنفوذ کی تستتب له طمأنینة العیش والسمعة واکتساب اعتراف الآخرین بشخصیّته ولو علی حساب ثوابت القیم والمبادی؛ و ذلک بتسویل أنّ هذه الثوابت قابلة للنقاش والتغییر لفتح الباب أمام التخلّی عنها ومسؤولیة تبعاتها. فانطلاقاً من هذه المزعمة کانوا یتخلّون عن منهج التبرّی والنقد والإنکار للمنکر وتخطئة الباطل ویکتفون فی تعذیر ذمّتهم بالتمسک بولایة أهل البیت علیهم السلام ومحبّتهم ومودّتهم إرضاءاً لمحاسبة الضمیر واکتفاءاً بعدم التنکّر لمقامات أهل البیت علیهم السلام فی القرآن والسنّة.

ص:376


1- (1) . رجال الکشی: 733 .

وهناک داعٍ آخر تورّط فیه البتریة بل عموم الزیدیّة وهی أنّ الحکّام علی الدوام کانوا یواجهون ثورات العلویین بمکیدة وحیلة، وهی إحراجهم حول موقفهم من الشیخین کی یربک الوضع علیهم فی ساحة المسلمین، لأنهم إما یتبرؤّون علانیة منهما فذلک یوجب اصطفاف جماهیر أهل السنة مع السلطة، وإمّا لا یتبرأ منهما فیضعف موقعیّة الثوار العلویین فی جماهیر أتباع أهل البیت علیهم السلام .

ومن هذا القبیل ما قد احتاله الوالی یوسف بن عمر فی مواجهة زید بن علی من قبل هشام بن عبد الملک حیث أنفذ فی صفوف أنصار زید بالکوفة عندما خرج فدخلوا علی زید وقالوا: ما تقول فی أبی بکر وعمر؟ فقال زید - کما یذکر ذلک ابن عساکر - : رحم اللّه أبا بکر وعمر صاحبی رسول اللّه ثم قال: أین کنتم قبل الیوم؟(1).

وسؤال زید إشارة منه إلی استنکار علیهم وأنّهم مندسین فی صفوفهم من قبل السلطان.

والداعی الثالث أنّ روّاد البتریة کانوا حریصین علی إنهاض جمیع الأمّة ضدّ فساد الأنظمة وعلی زعامة تلک النهضة، ولم یکن یتسنّی لهم ذلک إلّابالمزج بین ولایة أهل البیت علیهم السلام وولایة الشیخین فیتسنّی لهم بذلک الحظوة عند الفریقین.

فأخذوا بترویج مثل هذا المنهاج والمذهب. إلّاأنّهم لم یوفقوا فی تشیید مثل هذا المنهاج طیلة القرون بل بادوا وانقرضوا.

نعم، یتجدّد کلّ حین من أصحاب هذا الفکر جماعة جدیدة إلی یومنا هذا تحمل نفس الملامح وتتّصف بها وبنفس النزعات والغایات وتعود الکرّة لهم بالفشل، و ذلک لما مرّ من التناقض بین منهاج أهل البیت علیهم السلام کمنهاج ربّانی إلهی ومنهاج السقیفة کمنهاج بشری وضعی مادّی.

ص:377


1- (1) . تهذیب تاریخ دمشق 6 / 25 .

المعلم الثامن: کانت لهم حساسیّة وضدّیة متشدّدة مع رواة الفضائل والمقامات لأهل البیت علیهم السلام . و کانوا یضعفون فی حجاجهم حول الإمامة مع رواة أسرار المعارف، بینما یتنمّرون فی احتجاجهم حول الإمامة مع فقهاء الرواة.

وبعبارة أخری: الملاحظ من روایات ووقایع عدیدة انثیار البتریة واضطرابهم من روایات رواة المعارف وتفسیراتهم، بینما نشاهد عکس ذلک مع فقهاء الرواة حیث یشاهد انثیارهم ووقوعهم فی التساؤل والتوقّف من کلمات البتریة. وقد مرّ بعض الشواهد علی ذلک فی فصل طبقات الرواة وتنوعهم فی فقه المعارف.

المعلم التاسع: مسارهم الفقهی علی الخلط بین مبانی فقه الشیعة والسنّة.

فقد أخرج أبو الفرج الاصبهانی فی ترجمة یحیی بن عبد اللّه بن الحسن قال:

صحبه جماعة من أهل الکوفة فیهم ابن الحسن بن صالح بن حی کان یذهب مذهب الزیدیة البتریة فی تفضیل أبی بکر وعمر وعثمان فی ستّ سنین من إمارته، وإلی القول بکفره فی باقی عمره یشرب النبیذ ویمسح علی الخفّین، وکان یخالف یحیی فی أمره ویفسد أصحابه، قال یحیی بن عبد اللّه: فأذن المؤذن یوماً وتشاغلت بطهوری وأقیمت الصلاة فلم ینتظرنی وصلّی بأصحابی، فخرجت فلمّا رأیته یصلّی قمت أصلّی ناحیة ولم أصلّ معه لعلمی أنه یمسح علی الخفّین فلما صلّی قال لأصحابه: علام نقتل أنفسنا مع رجل لا یری الصلاة معنا ونحن عنده فی حال من لا یرضی مذهبه(1).

وروی فی قرب الإسناد عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبیه قال: قال جابر بن عبد اللّه الأنصاری: إن دباغة الصدف والشعر غسله بالماء وأیّ شیء یکون أطهر من الماء(2).

ص:378


1- (1) . مقاتل الطالبیین / 468 .
2- (2) . الوسائل / أبواب لباس المصلی / ب 56 / 4 .

ویظهر من هذه الروایة التی یرویها مسعدة - وهو بتری - حیث إن الإمام علیه السلام یخبره بالحکم روایة عن أبیه عن جابر الأنصاری، أن نظرة مسعدة له علیه السلام ولأبیه علیه السلام کراویین، مضافاً إلی مضمون الروایة حیث کان یزعم مطهریة الدباغة لجلد المیتة.

وقال الشهرستانی فی الملل: وأکثرهم (البتریة) فی زماننا مقلدون لا یرجعون إلی رأی واجتهاد، أما فی الأصول فیرون رأی المعتزلة حذو القذة بالقذة ویعظّمون أئمة الاعتزال أکثر من تعظیمهم أئمة أهل البیت علیهم السلام وأما فی الفروع فهم علی مذهب أبی حنیفة إلّافی مسائل قلیلة الشافعی والشیعة(1).

ولا یخفی أن الشهرستانی قد توفی سنة 548 ه . ق أی فی القرن السادس.

المعلم العاشر: أنهم یرون إمامة الشیخین وإنّما ینکرون ویذمّون علی عثمان وبنی أمیة وبنی العباس کما فی قول أبی الفرج فی مقاتل الطالبیین.

المعلم الحادی عشر: أنّهم فی حین قولهم بإمامة أبی بکر وعمر وصحّتها، إلّا أنهم یسجّلون جملة من النقود والاعتراضات علی الأخطاء التی ارتکباها فنری مثل مسعدة بن صدقة البتری یروی الروایة(2) عن الصادق علیه السلام من خطبة علی علیه السلام التی یعدّد فیها فرق الضلال وتیه الأمة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وعدم حفظهم سنته صلی الله علیه و آله و سلم ، وکذلک نری أبا المقدام یروی عن الباقر علیه السلام انحراف الأمّة بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم (3)لا سیما وقد مرّ أنهم لا یرون شرعیة خلافة الشیخین بذاتها وإنما لأجل تسلیم أمیر المؤمنین علی علیه السلام بها - حسب زعمهم - .

المعلم الثانی عشر: ومن خواصّ البتریة أنّهم یبتغون حسن السمعة عند العامّة ویحاولون بکلّ إمکانیاتهم أن یکونوا مرضیین عند الطرفین.

ص:379


1- (1) . الملل و النحل للشهرستانی / 162 .
2- (2) . روضة الکافی / 63 / ح 2 .
3- (3) . روضة الکافی / 270 / ح 398 .

المعلم الثالث عشر: أنّهم لا یقتصرون فی مرجعیة المصادر الدینیة علی أهل البیت علیهم السلام ، بل یخلطون بینهم وبین غیرهم. ومن ثمّ أنکر أئمّة أهل البیت علیهم السلام علی هذا المشرب الذی عند البتریة.

فقد روی عذافر الصیرفی قال: کنت مع الحکم بن عتیبة عند أبی جعفر علیه السلام فجعل یسأله وکان أبو جعفر علیه السلام له مکرماً، فاختلف فی شیء فقال أبو جعفر علیه السلام :

یا بنی، فأخرج کتاباً مدرجاً عظیماً ففتحه و جعل ینظر حتی أخرج المسألة وقال أبو جعفر علیه السلام :

هذا خطّ علیّ وإملاء رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم وأقبل علی الحکم وقال:

یا أبا محمّد اذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حیث شئتم یمیناً وشمالاً فو اللّه لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم کان ینزل علیهم جبرئیل(1).

وعن الکشی بإسناده عن أبی مریم الأنصاری قال: قال لی أبو جعفر علیه السلام :

قل لسلمة بن کهیل والحکم بن عتیبة شرّقا أو غرّبا لن تجدا علماً صحیحاً إلّاشیئاً خرج من عندنا أهل البیت(2).

ویلاحظ أنّ هذه الظاهرة قد تکررت فی هذا الزمان، فکما یجعل أهل البیت علیهم السلام مصدراً ومنبعاً لأخذ الأحکام والمعارف منهم علیهم السلام ینضمّ إلیهم أیضاً مرجعیة الصحابة کمصدر دینی یعوّل علیه وحجة فی تفسیر القرآن وأخذ الأحکام. أو یطلب العلوم المادیة إلی السعادة الأخرویّة من غیرهم من الحکماء البشری ویعکف علی کلماتهم التی هی بمنزلة الثماد بدل العکوف علی النهر الأعظم(3) وهی علوم أهل البیت علیهم السلام ، وقد مرّ أنّ هذا المنهج نمط من النفاق فی الإیمان حیث یظهر الولاء لأهل البیت علیهم السلام ولکنه ینتقصهم علمیاً کما یشیر إلی ذلک أخذهم واتباعهم لأقوال وآراء غیرهم.

ص:380


1- (1) . النجاشی فی ترجمة محمد بن عذافر 966 .
2- (2) . الکشی 281 / ح 369 .
3- (3) . وقد مرّ الروایة عن الإمام الباقر علیه السلام : «یمصّون الثماد ویدعون النهر الأعظم ...».

المعلم الرابع عشر: تلفیقهم وخلطهم بین ولایة أهل البیت علیهم السلام وولایة أصحاب السقیفة(1).

روی کثیر النوا عن أبی جعفر علیه السلام قال: سألته عن أبی بکر وعمر فقال:

هما أوّل من انتزی علی حقّنا وحملا الناس علی أعناقنا وأکتافنا وأدخلا الذل بیوتنا.

وعنه، عنه قال:

و اللّه لو وجد علیهما أعواناً جاهدهما یعنی أبا بکر وعمر(2).

وعن أبی الجارود قال: کنت أنا وکثیر النوا عند أبی جعفر علیه السلام فقال کثیر: یا أبا جعفر رحمک اللّه، هذا أبو الجارود یبرأ من أبی بکر وعمر فقلت لأبی جعفر علیه السلام :

کذب و اللّه الذی لا إله إلّاهو ما سمع ذلک منّی قطّ، وعنده عبد اللّه بن علی أخو أبی جعفر علیه السلام فقال:

هلمّ إلیّ، أقبل إلیّ یا کثیر، کانا و اللّه أول من ظلمنا حقنا وأضغنا بآبائنا وحملا الناس علی رقابنا فلا غفر اللّه لهما، ولا غفر لک معهما یا کثیر(3).

وکثیر النوا من رؤساء البتریة.

وعن سالم بن أبی حفصة قال: دخلت علی أبی جعفر علیه السلام فقلت: أئمتنا وسادتنا نوالی من والیتم، ونعادی من عادیتم ونبرأ من عدوکم، فقال:

بخ بخ یا شیخ، إن کان لقولک حقیقة، قلت: جعلت فداک إن له حقیقة قال:

ما تقول فی أبی بکر وعمر؟قال: إماما عدل رحمهما اللّه، قال:

یا شیخ، و اللّه لقد أشرکت فی هذا الأمر من لم یجعل اللّه له فیه نصیباً(4).

وسالم بن أبی حفصة أیضاً من رؤساء البتریة، أی أنهم یقولون بأن أبا بکر

ص:381


1- (1) . بحار الأنوار 30 / 308، أخرجهما عن تقریب المعارف لأبی الصلاح الحلبی / 167 .
2- (2) . بحار الأنوار 30 / 308، أخرجهما عن تقریب المعارف لأبی الصلاح الحلبی / 167 .
3- (3) . بحار الأنوار 30 / 382 - 383 أخرجه عن کتاب تقریب المعارف لأبی الصلاح الحلبی / 167 .
4- (4) . بحار الأنورا 30 / 382 - 383 أخرجه عن کتاب تقریب المعارف لأبی الصلاح الحلبی / 167 .

وعمر لهما نصیب فی إقامة الإسلام ونشره وانتشاره فی ربوع الأرض وهذه مقالة تتجدد عند ثلة تزعم الانتساب والولاء لأهل البیت علیهم السلام .

المعلم الخامس عشر: إنکار وجود الباطن للشریعة أو التأویل فی الآیات والروایات أو وجود جانب غیبی فی الکتاب العزیز ومقامات الدین، وإنکار کلّ ما له صلة بالإمامة الإلهیة فی موقعها الغیبی، لأنه لا یتّفق ذلک مع منهاجهم فی التلفیق والتصفیة بین مقام أهل البیت علیهم السلام وأصحاب السقیفة، ومن ثمّ وصفهم النوبختی فی فرق الشیعة بأصحاب الحدیث(1) ومراده ذوی المسلک الحشوی من دون إمعان فی فقه الحدیث ووعایة مضمونه ودرایة غوره وأسراره.

فقد روی الکشی بسنده عن أبی بصیر قال: قیل لأبی عبد اللّه علیه السلام و أنا عنده:

أنّ سالم بن أبی حفصة یروی أنّک تکلّم علی سبعین وجهاً، لک من کلّها المخرج؟ قال: فقال:

ما یرید سالم منّی أیرید أن أجیء بالملائکة فو اللّه ما جاء بها النبیون ولقد قال إبراهیم: «إِنِّی سَقِیمٌ »

و اللّه ما کان سقیماً وما کذب، ولقد قال إبراهیم: «بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا»

وما فعله وما کذب ولقد قال یوسف: «إِنَّکُمْ لَسارِقُونَ »

و اللّه ما کانوا سارقین وما کذب(2).

وروی الکشی بسنده عن أبی عبیدة الحذاء قال: أخبرت أبا جعفر علیه السلام بما قال سالم بن أبی حفصة فی الإمام؟ قال:

ویل سالم یا ویل سالم ما یدری سالم ما منزلة الإمام.

وروی الکشی عن أبی عبیدة الحذّاء قال: قلت لأبی جعفر علیه السلام : إنّ سالم بن أبی حفصة یقول لی: ما بلغک أنه من مات ولیس له إمام کانت میتته میتة جاهلیة؟ فأقول: بلی، فیقول: من إمامک؟ فأقول: أئمتی آل محمد علیه وعلیهم السلام، فیقول: و اللّه ما أسمعک عرفت إماماً، قال أبو جعفر علیه السلام :

ویح سالم وما یدری سالم ما

ص:382


1- (1) . فرق الشیعة، النوبختی
2- (2) . الکشی / ح 425 .

منزلة الإمام، منزلة الإمام یا زیاد أعظم وأفضل ممّا یذهب إلیه سالم والناس أجمعون(1).

أقول: وفی هذه الروایة دلالة علی مرام البتریة من تسطیح مقام ومنزلة الإمام، وأنّهم یستنکرون المقام الغیبی له ویقصرون أهمّیة مقام الإمامة فی العمل الاجتماعی الظاهر المعلَن علی السطح وقیامه بالنهضة السیاسیة المکشوفة. هذا، مع أنّ للإمام والإمامة أدواراً عدیدة عظیمة أخری فی الدین الحنیف، فقد أثبت تعالی للکتاب تأویلاً حیث قال: «وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ » و أثبت للکتاب مقاماً مکنوناً غیبیاً لا یمسه ولا یناله إلّاالمطهرون وهم أهل آیة التطهیر «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ).

المعلم السادس عشر: نظرتهم القاصرة حول روایات أهل البیت علیهم السلام والعلوم الصادرة عنهم، حیث إنّهم یرون التعارض فیها دلیل عدم الحقیقة وعدم الواقعیة الثابتة، وأنّ التأویل تفریط فی دلالات الشریعة. والذی حدا بهم إلی ذلک إنکارهم للتقیة کبرنامج أمنی وجهلهم بنظم ومنظومات العمل السرّی الهادیء البعید المدی بنحو التدرج، بل کانوا یصرّون علی السرعة والعمل علانیة بشکل سافر واضح، وتغییب جانب الغور العمیق فی الشریعة المسمی بالباطن، علی عکس مشرب رواة أسرار المعارف.

ویذکر الکشی قصّة غیر واحد منهم فی هذا المجال کعمر بن ریاح(2) وأبی الجارود وإن تمیّز الأخیر بالفرقة الجارودیة.

المعلم السابع عشر: أنهم یرتکبون التزویر والکذب علی أهل البیت علیهم السلام و ذلک لکی یصیغوا التسویة والتوفیق مع ولایة أصحاب السقیفة والتی هی فی الحقیقة تمادی فی ظلامة أهل البیت علیهم السلام وخذلان لحقّهم وإطفاء لأنوار الإیمان.

فقد روی الکشی عن یعقوب الأحمر وجماعة من أصحاب الصادق علیه السلام

ص:383


1- (1) . الکشی / رقم 428 .
2- (2) . الکشی / رقم 430 .

قالوا: کنّا جلوساً عند أبی عبد اللّه علیه السلام فدخل زرارة بن أعین فقال له: إنّ الحکم بن عتیبة روی عن أبیک أنّه قال له: صلّ المغرب دون المزدلفة، فقال له أبو عبداللّه علیه السلام بأیمان ثلاثة:

ما قال أبی هذا قطّ کذب الحکم بن عتیبة علی أبی(1).

وقد مرّت روایة أنهم کذّابون مکذّبون.

ص:384


1- (1) . رجال الکشی / رقم 85 .

تکرّر ظاهرة البتریّة فی طول الأزمان

إنّ ظاهرة البتریة - التی هی ظاهرة تلفیقیة توفیقیة مخلطة التقاطاً وانتقاءاً - ظاهرة تتکرّر فی الأزمنة المختلفة، وهی ذات معالم ومناهج معینة من الخلط بین مدرسة أهل البیت علیهم السلام والمدارس الأخری، ومن الحیلولة دون التبری والبراءة من تلک المدارس المناوئة لأهل البیت علیهم السلام . وهی ظاهرة تتکرر کظاهرة المقصّرة والمارقة. وقد تتجلی فی العصر الحاضر تحت بعض أطروحات الوحدة الإسلامیة والتقریب بین المذاهب. فیعلم من ذلک أنّ هناک تیّارین: تیّار مخلّطة فی داخل الصف الشیعی یجهدون فی حرف أتباع أهل البیت علیهم السلام إلی تولّی الشیخین ومزجه بتولی أهل البیت علیهم السلام ، بخلاف تیار آخر مصادم لهذا التیّار یشدّد علی الفصل والتمییز بین مدرسة أهل البیت علیهم السلام والمدارس الأخری بحصر التبعیّة والمرجعیة الشرعیة الإلهیة بأهل البیت علیهم السلام - وهو ما یُعرف بالتولی - وسلبها ونفی الصلاحیة عن بقیّة المدارس الأخری، وتخطئة المسارات المباینة عن العترة - وهو ما یُعرف بالتبرّی - وقد طعن علی هذا التیّار الثانی بالتشدّد والحدّة والغلوّ فی أهل البیت علیهم السلام .

و هذا التجاذب بین الظاهرتین جدلیة تتکرر فی الأزمنة المختلفة وهی قائمة فی الزمان الحاضر أیضاً، وربما یبرّر التیار الأول بمنهجه المزیجی والتلفیقی بجملة من الذرایع، کما أنه قد تسجّل علی التیار الثانی جملة من المؤاخذات

ص:385

بسبب صراحته الصارخة وعدم مداراته وعدم اعتماده أسلوب الرفق واللین فی تبیین الحقائق، ومفاجئة الوسط العامّ بخطاب لم تتهیّأ له الذهنیة العامّة فی الوسط الخاصّ فضلاً عن الوسط العام، و هذا ممّا یؤجّج النکیر وسیل التهمة والطعون علیهم.

ولا یخفی أنّ تیّار البتریة التلفیقی والمزیجی التوفیقی هو تیّار نابع فی الأصل من الأوساط الشیعیة ولیس محسوباً فی ابتدائه علی فرق السنّة، إلّاأنّ هذا التیّار نتیجة النهج التلفیقی الذی لدیه علی تقارب وطید مع جملة من متبنیات الفرق الأخری.

ویمکن إعزاء الأسباب لتولد ظاهرة البتریة فی کل قرن إلی عدة من الأمور:

الأول: الجهل بحقیقة منهاج أهل البیت علی ما هو علیه من عمق وغور والاکتفاء بالنظرة السطحیة، وقد یکون ذلک الجهل بسبب قصور علمی وقلة باع فی الآلیات العلمیة التی یمکن بتوسطها إدراک حقائق معالم منهاج الأئمة علیهم السلام .

الثانی: الضعف النفسی وروح الانهزامیة أمام تسلط وسیطرة جمهور المذاهب الإسلامیة الأخری، و هذا العامل یؤثر بشکل خفی فی اللاشعور الباطن لدی ضعفة النفوس یحدو بهم إلی عدم الموضوعیة فی التفکیر والاستنتاج فیزعمون أن الحق یساوی الغلبة الفعلیة الراهنة، وهو نمط من الوهن والنکول والمداهنة رغبة فی الوداعة ورغید العیش.

الثالث: التأثر أمام السیل الإعلامی السلطوی المتکرّس عبر التاریخ فی بطون الکتب وأعماق الأذهان فی الأجیال المزیف للحقائق، من دون تدبر وتأمل واستقصاء لخیوط الحقیقة، کموضوع فتوحات البلدان والظلامات والاضطهاد الذی جری علی أهل البیت علیهم السلام والمنعطفات الهامة فی سیرة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وتاریخ الصدر الأول للإسلام.

ویظهر من جملة من النصوص أن ظاهرة البتریة الانحرافیة تستمر حتی

ص:386

عصر ظهور الإمام المهدی (عج) فی الوسط الشیعی کحالة نفاقیة فی الإیمان.

فقد روی الطبری فی دلائل الإمامة فی باب وجوب معرفة القائم بإسناده عن الحمیری عن محمد بن حمران المداینی عن علی بن أسباط عن الحسن بن بشیر عن أبی الجارود عن أبی جعفر قال: سألته متی یقوم قائمکم؟ قال:

یا أبا الجارود لا تدرکون - إلی أن قال: -

ویسیر إلی الکوفة فیخرج منها ستة عشر ألفاً من البتریة شاکین فی السلاح، قرّاء القرآن، فقهاء فی الدین، قد قرحوا جباههم وسمروا ساماتهم وعمهم النفاق وکلهم یقولون: یابن فاطمة ارجع لا حاجة لنا فیک، فیضع السیف فیهم علی ظهر النجف عشیة الاثنین من العصر إلی العشاء، فیقتلهم أسرع من جزر جزور فلا یفوت منهم رجل ولا یصاب من أصحابه أحد دماؤهم قربان إلی اللّه(1).

ورواه المفید فی الإرشاد بهذا اللفظ: قال: روی أبو الجارود عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث طویل(2)

أنه إذا قام القائم علیه السلام سار إلی الکوفة فیخرج منها بضعة

عشر ألف نفس یدعون البتریة علیهم السلاح فیقولون له: ارجع من حیث جئت فلا حاجة لنا فی بنی فاطمة فیضع فیهم السیف حتی یأتی علی آخرهم ویدخل الکوفة فیقتل بها کل منافق مرتاب(3).

و هذا الخبر ممّا یشیر إلی تکرّر هذه الظاهرة واستمرارها فی الوسط الشیعی إلی عام الظهور، وأنّ أصحاب هذا التیّار البتری التوفیقی التلفیقی یعتمدون المسحة العلمیة ویتذرّعون بالمبررات الفقهیة لهذا المنهج. ونداءهم وخطابهم القائم (عج) ببنی فاطمة إشارة إلی نهج فاطمة علیها السلام فی الإنکار علی مسار السقیفة والبراءة من الانحراف، فکأنّ المیز المایز لهم هو رفض التبرّی من أعداء فاطمة سلام اللّه علیها، کما أنّهم فی بدو أمرهم حیث أنکروا البراءة من الشیخین وأظهروا

ص:387


1- (1) . الطبعة الحیدریة ص 241 / الطبعة الحدیثة ص 455 مؤسسة البعثة.
2- (2) . ویظهر من کلام المفید أنّه اختصر الحدیث.
3- (3) . الإرشاد 2 / 384 وصراط مستقیم بیاض؟؟؟؟ وبحار الأنوار 5 / 338 .

البراءة من أعدائهما، التفت إلیهم زید بن علی فی محضر أخیه الباقر علیه السلام وقال لهم:

أتتبرّأون من فاطمة! بترتم أمرنا بترکم اللّه، فیومئذ سمّوا البتریة(1) فلأجل المعاداة مع أعداء الشیخین یؤول حالهم إلی معاداة فاطمة علیها السلام ، ولذلک یخاطبون الحجّة (عج) «ارجع یابن فاطمة لا حاجة لنا فیک».

ص:388


1- (1) . الکشی: رقم 429 .

البتریة والوحدة الإسلامیة

روی الکشی عن سعد بن صباح الکشی قال: حدثنا علی بن محمد قال:

حدثنا أحمد بن محمد بن عیسی عن محمد بن إسماعیل بن بزیع عن محمد بن فضیل عن أبی عمرو سعد الحلاب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال:

لو أنّ البتریة صفّ واحد ما بین المشرق إلی المغرب ما أعزّ اللّه بهم دیناً (دنیاً)(1).

ووجه ترکیز هذه الروایة وتأکیده علیه السلام علی نفی أن یعزّ اللّه عزوجل بالبتریة الدین من جهة ترکیزها علی الصفّ الواحد، وترکیزها ثالثاً علی کون هذا الصفّ الواحد هو ما بین المشرق والمغرب، هو الإشارة بهذه المحاور الثلاث إلی شعار البتریة وزعمهم ودعواهم الصلح بین طوائف الأمّة بالمنهج التلفیقی والتوفیقی الذی یقرّب بین الفِرق ویردم الهوّة التی بینهم، ویصبحوا متحدین فی وحدة إسلامیة تقوی بها الأمة أمام أعدائها، وأنّ هذا التوفیق والتقریب للوحدة هو سبیل الوحدة للأمّة ونبذ اختلافاتها وتأتلف بها جمیع الأمة ما بین شرقها إلی غربها فی صفّ واحد.

و هذا ما یشیر إلیه علیه السلام بقوله:

لو أنّ البتریة صفّ واحد ... أی لو أنّ البتریة استطاعوا أن یوحّدوا فرق الأمّة فی منهاج واحد کلّ فرق الأمّة ما بین المشرق

ص:389


1- (1) . الکشی 307 / رقم 422 .

والمغرب، لما ترتب علی ذلک قوّة الأمّة ومن ثمّ عزّتها وغلبتها علی أعدائها کما یزعم البتریة، فلیس طریق عزّة الأمّة وقدرتها وائتلافها بما یزعمونه من هذا المنهاج التلفیقی التوفیقی المتناقض، تقریباً بین فرق الأمّة. إذ المنهج المتناقض لا یلتئم به الوحدة فی المسیر ولا خطوات المنهاج ولا وحدة الطریق، بل هو فی الحقیقة ینطوی علی صمیم الفرقة والافتراق لجمعه بین المتناقضات.

ومن ثمّ أکّد فی روایتهم علیهم السلام :

أنّ إمامتهم أماناً من الفرقة وطاعتهم نظاماً للملّةتنتظم بها الأمّة فی وحدة واقعیة حقیقیة، فلاحظ الخطبة الغرّاء لأمیر المؤمنین علیه السلام المسماة بالقاصعة، ولاحظ مستهلّ خطبة الزهراء علیها السلام .

وهذه الروایة قد تناقلتها مصادر حدیثیة متعدّدة لترکیزها علی أهمّ شعار یرفعه البتریة بمنهاجه الإصلاحی المزعوم وبیان وجه الفساد والأکذوبة فیه.

ص:390

ترجمة رؤساء البتریة

ومما یشهد لانخراط المنهج البتری الوحدوی التقریبی فی مذاهب العامة توثیق رجال العامة لرؤساء البتریة وعقیدتهم.

وقد مرّ کلام الکشی فی رؤساء البتریة ومرّ کلام النوبختی فی فرق الشیعة.

وکلام الشهرستانی فی الملل و النحل وقد عدّ من البتریة أصحاب کثیر النوا وأنه متفق فی المذهب مع الحسن بن صالح بن حیّ .

ومرّ أنّ منهم عمرو بن أبی المقدام العجلی وسلمة بن کهیل.

قال فی تهذیب التهذیب فی ترجمة کثیر النوا: ... ذکره ابن حبّان فی الثقات، قلت: وقال العجلی لا بأس به وروی عن محمد بن بشر العبدی أنّه قال: لم یمت کثیر النواء حتی رجع عن التشیع.

وقال ابن سعد فی الطبقات(1) فی ترجمة أبی عمرو بن أبی المقدام العجلی قال: هو ثابت بن هرمز ویکنی أبا المقدام العجلی وهو أبو عمرو بن أبی المقدام وأنه یروی عن ابن المسیب وهو ثقة احتجّ به النسائی.

وفی تهذیب التهذیب: ذکر أنّه روی عن عدی بن دینار وسعید بن المسیب وأبی وائل وسعید بن جبیر وغیرهم وعن الثوری وشعبة وابنه عمرو بن أبی

ص:391


1- (1) . الطبقات الکبری لابن سعد 6 / 328 .

المقدام وشریک وإسرائیل وغیرهم، وروی عنه الحکم بن عتیبة والأعمش ومنصور وهما من أقرانه.

قال أحمد وابن معین: ثقة، وقال أبو داود: ثقة، وقال العضدی: یتکلمون فیه، وقال مسلم بن حجاج فی شیوخ الثوری ثابت بن هرمز ویقال هریمز، ونقل عن الآخرین توثیقه أیضاً، وقال زادان بن صالح: کان شیخاً عالیاً صاحب سنّة وقال عقبة: لا أعلم له علّة وثابت ثقة، ولا أعلم أحداً ضعّفه إلّاالدارقطنی.

وأما سلمة بن کهیل وثّقه أکثر العامة(1) وجعلوه من الحفّاظ الأربعة.

وقد عدّ الشیخ الطوسی فی الرجال(2) محمد بن زید ومنصور بن المعتمر ومقاتل بن سلیمان من البتریة، ومقاتل بن سلیمان هو مقاتل بن سلیمان بن بشیر الأزدی الخراسانی أبو حسن البلخی المفسّر نزیل مرو.

وقال العلامة فی الخلاصة(3) مقاتل بن سلیمان من أصحاب الباقر علیه السلام بتری قاله الشیخ الطوسی رحمه الله والکشی وقال البرقی إنه عامی.

ومن البتریة سفیان الثوری والحکم بن عیینة وسفیان بن عیینة، سالم بن أبی حفصة کثیر النواء، عمر بن ریاح، مسعدة بن صدقة(4).

وقال الشیخ فی الرجال فی مسعدة بن صدقة: إنّه عامی(5) وکذا قیس بن الربیع إنه بتری.

قال الکشی: «والبتریة هم أصحاب کثیر النواء والحسن بن صالح بن حیّ وسالم بن أبی حفصة والحکم بن عیینة وسلمة بن کهیل وأبو المقدام ثابت

ص:392


1- (1) . التاریخ الکبیر للبخاری 4 / 74 .
2- (2) . رجال الطوسی / رقم 1616 - 1618 .
3- (3) . الخلاصة / 410 .
4- (4) . الکشی / رقم 248 .
5- (5) . رجال الطوسی / 1609 .

الحدّاد». وقال أیضاً: أما مسعدة بن صدقة بتری، وعباد بن صهیب عامی، وثابت أبی المقدام بتری، وکثیر النوا بتری، وعمرو بن جمیع بتری، وحفص بن قیاس عامی، وعمرو بن قیس الماصر عامی، ومقابل بن سلیمان البجلی وقیل البلخی بتری، وأبو نصر بن یوسف بن الحارث بتری»(1) ونقل عن البعض أن قیس بن الربیع بتری کانت له محبة(2). ولکن نقل عن نصر أن عباد بن صهیب بتری(3)وذکر الشیخ فی رجاله(4) أن طلحة بن زید بتری، وذکر أیضاً أن عمرو بن جمیع وعمرو بن قیس الماصر وعمرو بن خالد الواسطی أنهم بتریون(5) وکذلک غیاث بن إبراهیم(6).

وفی توصیف الأصحاب تارة لهم بالعامیة وأخری بالبتریة دلالة علی ما یأتی من موقف علماء الإمامیة تجاه النهج البتری.

ص:393


1- (1) . الکشی / رقم 733 .
2- (2) . الکشی / رقم 733 .
3- (3) . الکشی / رقم 736 .
4- (4) . رجال الطوسی / رقم 1464 .
5- (5) . رجال الطوسی / 532 / 53400 .
6- (6) . رجال الطوسی / 1542 .

حکم علماء الإمامیّة علی معتقد منهج البتری التوفیقی التلفیقی

أفتی الشیخ المفید والشیخ الطوسی وابن برّاج وابن حمزة وابن إدریس والعلّامة الحلّی علی خروج البتریة من طوائف الشیعة(1).

و هذا یدلّ علی أنّ هذا التیّار بقی إلی زمن القرن الخامس بل السابع من عهد فقهائنا.

وعلی أنّ ما التزموه من المعتقَد یُخرجهم عن القول بإمامة علی علیه السلام .

قال المحقق الکرکی فی جامع المقاصد: «وإنّما استثنی الأصحاب البتریة من الزیدیة لأنّهم یخالفون قول أکثر الباقین فی أنّ الإمامة لعلی علیه السلام بالنص بل قالوا إنها شوری وجوزوا تقدیم المفضول(2) وقریب منهم السلیمانة».

یقولون: وإن أخطأت الأمة فی البیعة لهما مع وجود علی ولکنّه خطأ لم ینته إلی درجة الفسق.

وفی مقباس الهدایة: البتریة جماعة من الزیدیة قالوا بخلافة الشیخین قبل

ص:394


1- (1) . المقنعة / 655، النهایة / 598، المهذّب لابن برّاج 2 / 90، الوسیلة لابن حمزة / 371، السرائر 3 / 162، تحریر الأحکام 3 / 301، مختلف الشیعة 6 / 311 .
2- (2) . جامع المقاصد 9 / 43 .

علی علیه السلام فیمکن اعتبارهم من العامّة(1).

وأرباب الجرح والتعدیل عندنا جعلوا البتریة من العامّة کابن داود والشیخ وسیأتی أقوال علماء الإمامیة.

نعم، لم نر من النجاشی تصریحاً ولا تلویحاً بالحکم علی البتریة بأنهم من العامة، مع أنّ مقتضی عدم تصریحه أنهم من الإمامیة، وهذه من الملاحظات الهامة علی مسلک النجاشی.

روی الکشی فی معتبرة علی بن رئاب قال: دخل زرارة علی أبی عبد اللّه فقال:

یا زرارة متأهّل أنت؟ قال: لا، قال:

وما یمنعک من ذلک؟ قال: لأنّی لا أعلم تطیب مناکحة هؤلاء أم لا، قال:

فکیف تصبر وأنت شابّ؟ قال: أشتری الإماء، قال:

ومن أین طاب لکم نکاح الإماء؟ قال: ولأنّ الأمة إن رابنی من أمرها شیء بعتها، قال:

لم أسألک عن هذا ولکن سألتک من أین طاب لک فرجها؟ قال له: فتأمرنی أن أتزوّج؟ قال له:

ذلک إلیک، فقال له زرارة: هذا الکلام ینصرف علی ضربین إمّا أن لا تبالی أن أعصی اللّه إذ لم تأمرنی بذلک والوجه الآخر أن تکون مطلقاً لی قال: فقال:

علیک بالبلهاء قال:

فقلت:

مثل التی تکون علی رأی الحکم بن عتیبة وسالم بن أبی حفصة؟ قال: لا، التی لا تعرف ما أنتم علیه ولا تنصب ... الحدیث(2).

وفی الکافی: فقال علیه السلام لی:

إن کنت فاعلاً فعلیک بالبلهاء من النساء قلت: وما البلهاء؟ قال:

ذوات الخدور العفائف، فقلت: من هی، علی دین سالم بن أبی حفصة؟ قال: لا، فقلت: من هی، علی دین ربیعة الرأی؟ فقال:

لا، ولکن العواتق اللواتی لا ینصبن کفراً ولا یعرفن ما تعرفون ... الحدیث(3).

وفی الحدیث إشارة إلی وجود النصب الخفی لدی التیار البتری الذی کان

ص:395


1- (1) . مقباس الهدایة: 2 / 349 .
2- (2) . رجال الکشی / رقم 223.
3- (3) . الکافی 2 / 402 .

الحکم بن عتیبة وسالم بن أبی حفصة من روّادها، والحکم بخروجهم عن الإیمان.

ص:396

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.