ص: 2

ثم زرت الیمن قبل نحو عشرین سنة ، ورأیت بعض فنادقها وسوقها ومساجدها وعلماءها . وقد زرت مفتیها المرحوم العلامة زَبَارة ، وذکرنی بضخامته بمالک الأشتر ، وعمرو بن معدی کرب ، وسألت نفسی: إذا رکب الحصان هل تخط إبهاما رجلیه الأرض مثلهما ؟ ربما. وتحدثت معه عن الیمن ، فوجدته یتخوف من الوهابیة المسیطرین .

وحضرت بعض دروس المشایخ فی الجامع الکبیر ، وتحدثت مع المدرسین ، وأجبت دعوة أحدهم الی بیته .

وزرت آخرین من علماء صنعاء منهم السید مرتضی بن زید المحطوری فی مرکز بدر الثقافی ، الذی یجمع بین التدریس التقلیدی والأکادیمی.

ثم زرت مدینة مأرب عاصمة بلقیس وآثار قصرها ، فرأیتها عادیة ، والظاهر أن أحجار قصر بلقیس أخذت من قدیم وبنیت بها کنیسة القلیس .

وزرت سدها الصغیر الذی بناه الشیخ زاید حاکم الإمارات ، فی مکان السد الکبیر القدیم ، لأن أصل قبیلة نْهَیَّان من مأرب .

وکنت فی الیمن أتأمل المؤشرات التی تدل علی علاقتنا نحن العاملیین ، أی سکان جنوب لبنان ، المنسوبین الی عاملة بن سبأ ، بالیمانیین ، فوجدت ثلاثة أمور: أنهم یستعملون إلا بمعنی بلی ، مثلنا. وأن إمالتهم للکلمات مثلنا . وأنهم یتصفون بصفاء النفس الی حد البساطة ، مثلنا . فهذه مؤشرات علی أن أصلنا من الیمن ، علی أن أبناء عاملة منهم من ترک بلاد عاملة ، وجاء الیها آخرون من أصول أخری ، لکن الطابع العاملی بقی الحاکم فی بلادنا .

ثم زرت مدینة صعدة العاصمة الدینیة للیمن وقبر الهادی الإمام(رحمه الله)ورأیت فیها مقبل الوادعی ، فقد کنت جالساً فی مکتبة السید محمد قاسم الهاشمی فجاء . وهو طالب

ص: 4

ارتد عن الزیدیة الی الوهابیة ، وتلمذ علی الألبانی فصار أسوأ منه وأشد تکفیراً لمن خالفه وللشیعة خاصة ! ولم أفتح معه نقاشاً لأنه شرس والبلد محکوم للوهابیة ، فکانت بیننا عبارات تعارف عادیة .

قال لی السید محمد قاسم: نحن نداری الوهابیة لأن الحکومة لهم ، وهم یداروننا قلیلاً لأن الجمهور لنا . وأرانی فی طریقنا الی المنزل بیت مقبل الوادعی وهو یشبه القلعة. ثم أرانی فی الطریق الی صنعاء مدرسته فی دماج ، وقد أنفقت علیها السعودیة وجمعت لها ألوف الطلبة العوام من الأفارقة وبعض العرب ، ولیس فیهم من الیمن إلا القلیل، ولیس فیهم من یفهم حتی القلیل ، وهم یدرسونهم فتاوی ابن تیمیة شیخ الإسلام والمسلمین من عصره الی یوم الدین ، وکتب الإمام العبقری المجدد ابن عبد الوهاب ، ویعبؤونهم ضد من خالفهم ، خاصة الشیعة ، ویدربونهم علی الأسلحة !

وفی صعدة جاءنی المجاهد الشهید السید حسین الحوثی(رحمه الله)من خولان ، وأبلغنی سلام والده المرجع السید بدر الدین الحوثی(رحمه الله)وعذره بسبب وضعه الصحی وظرفه السیاسی ، فشکرته وحَمَّلته مزید تحیاتی وسلامی . وکنت أعرف السید بدر الدین من زیارته الی الحوزة العلمیة فی قم قبل سنین .

وفی جلسة مع ثلة من علماء صعدة فی ضحیان ، فارَ علینا أحدهم غفرالله له وقال: نحن مشاکلنا منکم أنتم الجعفریة ، لم تساعدونا علی النواصب والآن تأتون الی الیمن لتجعفروا أبناءنا ، وتزیدوا مشاکلنا ! ثم قال: أرید أن أکتب کتاباً عن الفروقات بین الزیدیة والجعفریة !

فقلت له: إذا کان قصدک العتب علی الجعفریة لأنهم الأخ الأکبر فأنا معک ، لأن

ص: 5

الجعفریة عندهم إمکانات واسعة ، ویجب علیهم أن یساندوکم فی مواجهة الغزو الوهابی . ونحن أیها الأخ المحترم لم نأت الی الیمن لندعو الی المذهب الجعفری ، بل أتینا لنبحث کیف نتعاون معکم لرد هذا الغزو !

ثم قلت له: بالأمس حدثنی السید مرتضی المحطوری أنه رأی شاباً فسأله: منذ مدة لم نرک ، أین کنت؟ قال: کنا فی الجهاد . قال له:أین الجهاد ، لقد انتهت قضیة البوسنة ، فقال: فی البحرین ، نعمل شرطة ونجاهد الروافض المساجین! قال له کیف تذهبون الی البحرین: قال بکتاب تزکیة من الشیخ مقبل ، فیعطوننا الجنسیة البحرانیة ، ویوظفونا !

قلت لهم: ماذنب هذا الشاب حتی نترکه للذین یجردونه من ولایة أهل البیت(علیهم السّلام) ، ویجعلونه ناصبیاً یعذب الشیعة ویقتلهم؟!

وأما قولک یاشیخنا أرید تألیف کتاب فی الفروقات بین المذهب الزیدی والجعفری ، فأنا أؤلف کتاباً فی المشترکات بینهما ، وفی وحدة أصولهما وجذورهما ومنبعهما ، وستری أن کتابی ینتشر أکثر من کتابک !

فانتبه الشیخ واعتذر هو والحاضرون ، وجری حدیثنا فی مساره الصحیح فی مواجهة نشاط الوهابیة فقالوا: منذ قتلت السعودیة المرحوم إبراهیم الحمدی ، فتحوا علی الیمن أبواب جهنم . وقال أحدهم: سبحان الله لا تجد إسماً جمیلاً فی الذین قتلوا الشهید إبراهیم الحمدی: فالملحق العسکری السعودی إسمه محمد الهذیان ، وکان هو المحرک والممول . والثانی رئیس الأرکان رجل

السعودیة فی الجیش الیمنی: أحمد الغشمی ، وبالفعل هو غشمی. والثالث:ابن الأحمر العینین أسود القلب ! وأضاف أحدهم:لا تنس ابن صالح العفاش!

ثم استفاض الحدیث فی القبضة الوهابیة علی الیمن ، وکیف یمتصون ثروات البلد ، والأخطر من ذلک أنهم أنشأوا ألف مرکز لنشر الوهابیة ، وأخذوا منا مساجدنا ، ومنعونا من تدریس مذهبنا ورفع أذاننا ، وسیطروا علی وزارة التربیة، فهم یدرسون

ص: 6

أطفالنا تجسیمهم وعداءهم لأهل البیت الطاهرین(علیهم السّلام) .

ثم تبادلنا الحدیث حول خطوات التعاون اللازمة والممکنة بیننا .

یَبُسُّون بَسیساً. قوم رقیقةٌ قلوبهم راسخٌ إیمانهم ، منهم المنصور یخرج فی سبعین ألفاً ، ینصرخلفی ».

فهم قادمون فی المرة الثانیة ، طلیعةً للمهدی الموعود(علیه السّلام)، یمهدون له حتی یظهر ، وینصرونه بعد ظهوره .

وفی هذه الدراسة ، قدمنا صورة موجزة لماضی الیمن ، من زمن بلقیس وسلیمان(علیه السّلام). وعرضنا دورها الممیز فی الإسلام والفتوحات الإسلامیة.

ثم استشرفنا البشارة النبویة بدورها الثانی فی إقامة دولة العدل الإلهی مع الإمام المهدی(علیه السّلام)، والذی بدأت بشائره الواعدة ، والحمد لله .

حرره:علی الکورانی العاملی

بقم المشرفة فی العشرین من ربیع الثانی 1436

ص: 8

قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْکَاذِبِینَ . إِذْهَبْ بِکِتَابِی هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَیْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا یَرْجِعُونَ . قَالَتْ یَا أَیُّهَا الْمَلا إِنِّی أُلْقِیَ إِلَیَّ کِتَابٌ کَرِیمٌ . إِنَّهُ مِنْ سُلَیْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ .أَلا تَعْلُوا عَلَیَّ وَأتُونِی مُسْلِمِینَ .قَالَتْ یَا أَیُّهَا الْمَلا أَفْتُونِی فِی أَمْرِی مَا کُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّی تَشْهَدُونِ .قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَةٍ وَأُولُو بَاسٍ شَدِیدٍ وَالأمر إِلَیْکَ فَانْظُرِی مَاذَا تَامُرِینَ .قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوکَ إِذَا دَخَلُوا قَرْیَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَکَذَلِکَ یَفْعَلُونَ . وَإِنِّی مُرْسِلَةٌ إِلَیْهِمْ بِهَدِیَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ یَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ .

فَلَمَّا جَاءَ سُلَیْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِیَ الله خَیْرٌ مِمَّا آتَاکُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِیَّتِکُمْ تَفْرَحُونَ .ارْجِعْ إِلَیْهِمْ فَلَنَاتِیَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ . قَالَ یَا أَیُّهَا الْمَلا أَیُّکُمْ یَاتِینِی بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ یَاتُونِی مُسْلِمِینَ . قَالَ عِفْرِیتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِکَ وَإِنِّی عَلَیْهِ لَقَوِیٌّ أَمِینٌ . قَالَ الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْکِتَابِ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّی لِیَبْلُوَنِی اشْکُرُ أَمْ أَکْفُرُ وَمَنْ شَکَرَ فَإِنَّمَا یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیٌّ کَرِیمٌ . قَالَ نَکِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِی أَمْ تَکُونُ مِنَ الَّذِینَ لا یَهْتَدُونَ .فَلَمَّا جَاءَتْ قِیلَ أَهَکَذَا عَرْشُکِ قَالَتْ کَأَنَّهُ هُوَوَأُوتِینَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَکُنَّا مُسْلِمِینَ . وَصَدَّهَا مَا کَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ الله إِنَّهَا کَانَتْ مِنْ قَوْمٍ کَافِرِینَ . قِیلَ لَهَا ادْخُلِی الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَکَشَفَتْ عَنْ سَاقَیْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِیرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمَانَ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ.«النمل:15- 44».

أما سبا ، أو سبأ ، فی: ملوک ، الأول: 10:1 و 4 و 10 و 13 و 2 أخبار 9:1 و 3 و 9 و12وأیوب 6:19، فهی شبأ فی الأصل العبرانی ، رغم أنها مترجمة سبا .

یروی السفر المقدس أن ملکة سبا قد زارت الملک سلیمان بعد أن سمعت عن حکمته «ملوک الأول 10» ویسمیها المسیح ملکة التیمن ، بمعنی ملکة الجنوب «متی 12: 42». وتقول التقالید العربیة إن إسمها بلقیس، وإنها ولدت إبناً من سلیمان ، ولکن لایوجد دلیل تاریخی صحیح یبرهن هذه التقالید ».

وفی تاریخ الیعقوبی «1/196» والمحبر لابن حبیب/367 ، أن الهدهاد زید مَلَکَ الیمن ، ثم مَلک بعده تُبَّعُ الأول بن نَیْکف وطال عمره وطغی وبغی ، فقتلته بلقیس بنت الهدهاد وملکت مکانه . وکانت من أعقل النساء ، وبقیت ملکة سبأ حتی توفیت بعد وفاة سلیمان(علیه السّلام)بقلیل ، فملک بعدها الحارث بن شرحبیل ذو جدن ، ثم ملک ذو رداع یهنعم ذو الملاحی ، فسار إلیه ملکیکرب فقتله . ثم ملک ملکیکرب ، وهو أبو مالک الذی قال فیه الأعشی:

وخان الزمان أبا مالک

وأی امرئ صالحٍ لم یُخَنْ

ثم ملک أسعد وهو تُبَّع الأصغر ، وهو تبان بن ملکیکرب بن قیس بن زید بن عمرو ، وهو ذو الأذعار ، بن أبرهة ذی المنار ، بن الرائش بن قیس بن صیفی بن سبأ ، وهو أبو کرب ، وهوالذی جاء بالیهود من أرض الحجاز إلی الیمن... ثم ملک زرعة ذو نواس ، ثم تهوَّدَ ولم یرض من الناس إلا بالیهودیة أو القتل، وتَسمی یوسف ، وهو صاحب الأخدود، وکان خَدَّ بنجران أخادید فأوقد فیها النار ودعا أهلها إلی الیهودیة ، وکانوا علی إرث دین من دین عیسی فلما أبوا علیه ألقاهم فی النار وحرق الإنجیل ، وقتل منهم زهاء عشرین ألفاً بالسیف ، سوی من أحرق بالنار ومن مَثَّل به منهم. وبسببه جاءت الحبشة إلی الیمن فغلبت علیها لما فعل بالنصاری، وإن ذا نوس لما واقع الحبشة ففضوا جیشه اعترض بفرسه البحر فغرق خوفاً من أن یؤسر».

ص: 11

وهو الذی نزل فیه قوله تعالی فی سورة البروج: قُتِلَ أَصْحَابُ الآخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَیْهَا قُعُودٌ .وَهُمْ عَلَی مَا یَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِینَ شُهُودٌ . وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ یُؤْمِنُوا بِالله الْعَزِیزِ الْحَمِیدِ .

2. فی أمالی الصدوق/241، عن أمیر المؤمنین(علیه السّلام):«قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):إن بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِیم آیةٌ من فاتحة الکتاب ، وهی سبع آیات . إن الله عز وجل قال لی یا محمد: وَلَقَدْ آتَیْنَاکَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِی وَالْقُرْآنَ الْعَظِیمَ . فأفرد الإمتنان علَّی بفاتحة الکتاب وجعلها بإزاء القرآن العظیم ، وإن فاتحة الکتاب أشرف ما فی کنوز العرش . وإن الله عز وجل خص محمداً وشرفه بها ولم یشرک معه فیها أحداً من أنبیائه ما خلا سلیمان فإنه أعطاه منها: بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِیم ».

3. فی تفسیر القمی «2/126» ملخصاً: «قعد علی کرسیه وحملته الریح فمرت به علی وادی النمل ، وهو وادٍ یُنبت الذهب والفضة ، وقد وکل الله به النمل ، وهو قول الصادق(علیه السّلام): إن لله وادیاً ینبت الذهب والفضة ، وقد حماه الله بأضعف خلقه وهو النمل ، لو رامته البخاتی من الإبل ما قدرت علیه ! فلما انتهی سلیمان إلی وادی النمل: قَالَتْ نَمْلَةٌ یَا أَیُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاکِنَکُمْ لا یَحْطِمَنَّکُمْ سُلَیْمَانُ وَجُنُودُهُ.الخ. وکان سلیمان إذا قعد علی کرسیه جاءت جمیع الطیر التی سخرها الله له فتظلل الکرسی والبساط ومن علیه من الشمس ، فغاب عنه الهدهد من بین الطیر ، فوقعت الشمس من موضعه فی حجر سلیمان فرفع رأسه: فَقَالَ مَا لِی لا أَرَی الْهُدْهُدَ أَمْ کَانَ مِنَ الْغَائِبِینَ.. فلم یمکث إلا قلیلاً إذ جاء الهدهد فقال له سلیمان: أین کنت؟ قال: فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُکَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَإٍ یَقِینٍ. أی بخبر صحیح.. قال سلیمان(علیه السّلام):سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ کُنْتَ مِنَ الْکَاذِبِینَ . ألقِ الکتاب علی قبتها ، فجاء الهدهد فألقی الکتاب فی حجرها فارتاعت من ذلک ، وجمعت جنودها وقالت لهم کما حکی الله: یَا أَیُّهَا الْمَلا إِنِّی أُلْقِیَ إِلَیَّ کِتَابٌ کَرِیمٌ. ثم قالت إن کان هذا نبیاً من عند الله کما یدعی فلا طاقة لنا به فإن الله لا یُغلب ، ولکن سأبعث إلیه بهدیة

ص: 12

فإن کان ملکاً یمیل إلی الدنیا قبلها وعلمنا أنه لا یقدر علینا ، فبعثت إلیه حقة فیها جوهرة عظیمة ، وقالت للرسول: قل له یثقب هذه الجوهرة ، بلا حدید ولا نار !

قال سلیمان لرسولها:فَمَاآتَانِیَ الله خَیْرٌ مِمَّا آتَاکُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِیَّتِکُمْ تَفْرَحُونَ. إرْجِعْ إِلَیْهِمْ فَلَنَاتِیَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاقِبَلَ لَهُمْ بِهَا.. فرجع إلیها الرسول فأخبرها بذلک وبقوة سلیمان(علیه السّلام)فعلمت أنه لا محیص لها ، فارتحلت نحو سلیمان ، فلما علم سلیمان بإقبالها نحوه قال للجن والشیاطین: أَیُّکُمْ یَاتِینِی بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ یَاتُونِی مُسْلِمِینَ.قَالَ عِفْرِیتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِکَ وَإِنِّی عَلَیْهِ لَقَوِیٌّ أَمِینٌ .. قال سلیمان: أرید أسرع من ذلک ، فقال آصف بن برخیا: أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ ! فدعا الله باسمه الأعظم..

وکان سلیمان قد أمرأن یتخذ لها بیتٌ من قواریر ووضعه علی الماء ، ثم قیل لها أدخلی الصرح ، فظنت أنه ماء فرفعت ثوبها وأبدت ساقیها فإذا علیها شعر کثیر ، فقیل لها: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِیرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّی ظَلَمْتُ نَفْسِی وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَیْمَانَ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِینَ . فتزوجها سلیمان ، وهی بلقیس بنت الشرح الحمیریة.. وقال الصادق(علیه السّلام):وأُعطیَ سلیمان بن داود(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مع علمه معرفة المنطق بکل لسان ومعرفة اللغات ، ومنطق الطیر والبهایم والسباع ، فکان إذا شهد الحروب تکلم بالفارسیة ، وإذا قعد لعماله وجنوده وأهل مملکته تکلم بالرومیة وإذا خلا بنسائه تکلم بالسریانیة والنبطیة ، وإذا قام فی محرابه لمناجاة ربه تکلم بالعربیة ، وإذا جلس للوفود والخصماء تکلم بالعبرانیة .

وفی روایة أبی الجارود عن أبی جعفر(علیه السّلام)فی قوله: فَهُمْ یُوزَعُون: قال: یحبس أولهم علی آخرهم . وقوله: لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِیداً: یقول لأنتفن ریشه. وقوله: ألَّا تَعْلُوا عَلَیَّ: یقول لاتَعَظَّمُوا علیَّ . وقوله: لَا قِبَلَ لهمْ بِهَا: یقول لا طاقة لهم بها. وقول سلیمان: لِیَبْلُوَنِی أشْکُرُ أَمْ أَکْفُرُ: لما آتانی من الملک أم أکفر إذا رأیت من هو أدونُ منی ، أفضل منی علماً ».

4. فی التهذیب «3/154» والکافی«8/246» عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: « إن الناس

ص: 13

أصابهم قحط شدید علی عهد سلیمان بن داود(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فشکوا ذلک إلیه وطلبوا إلیه أن یستسقی لهم، فقال لهم: إذا صلیت الغداة مضیت. فلما صلی الغداة مضی ومضوا ، فلما أن کان فی بعض الطریق ، إذا هو بنملة رافعة یدها إلی السماء واضعة قدمیها إلی الأرض ، وهی تقول: اللهم إنا خلقٌ من خلقک ولا غنی بنا عن رزقک ، فلا تهلکنا بذنوب بنی آدم ، قال فقال سلیمان: إرجعوا فقد سقیتم بغیرکم ! قال: فسقوا فی ذلک العام ما لم یسقوا مثله قط» .

5. فی کامل الزیارة/128، قال الإمام الصادق(علیه السّلام): « إن جبرئیل(علیه السّلام)أتی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، والحسین(علیه السّلام)یلعب بین یدیه ، فأخبره أن أمته ستقتله قال: فجزع رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال: ألا أریک التربة التی یقتل فیها ؟ قال: فخسف ما بین مجلس رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلی المکان الذی قتل فیه الحسین(علیه السّلام)حتی التقت القطعتان فأخذ منها ، ودحیت فی أسرع من طرفة عین ، فخرج وهو یقول: طوبی لک من تربة وطوبی لمن یقتل حولک ! قال: وکذلک صنع صاحب سلیمان ، تکلم بإسم الله الأعظم فخسف ما بین سریر سلیمان وبین العرش من سهولة الأرض وحزونتها حتی التقت القطعتان فاجترَّ العرش! قال سلیمان: یخیل إلیَّ أنه خرج من تحت سریری ! قال: ودحیت فی أسرع من طرفة العین ».

6. کان باستطاعة سلیمان(علیه السّلام)أن یجلب بنفسه عرش بلقیس ، لکنه أراد أن یری الناس مقام وصیه آصف بن برخیا ، الذی وصفه الله تعالی بأنه: عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْکِتَابِ . ونحن نعتقد أن عترة نبینا(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أفضل من عترة کافة الأنبیاء(علیهم السّلام) ، وأن علیاً(علیه السّلام)أفضل من آصف بن برخیا ، لأن الله تعالی وصفه بقوله: قُلْ کَفَی بِاللهِ شَهِیداً بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ . «الرعد:43» .

والذی عنده علم الکتاب علی(علیه السّلام)وقد اشتهر أنه أعلم الصحابة ، وشهد بذلک عمر بن الخطاب فقال: أقضانا علی . «البخاری:5/149».

ص: 14

وفی تفسیر العیاشی «2/220»:«قال عبد الله بن عطاء: قلت للباقر(علیه السّلام): هذا ابن عبد الله بن سلام یزعم أن أباه الذی یقول الله فیه: قُلْ کَفَی بِاللهِ شَهِیداً بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْکِتَابِ . قال(علیه السّلام): کَذِبَ..نزلت فی علی بعد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وفی الأئمة بعده ».

وقال الإمام محمد الباقر(علیه السّلام)«الکافی:1/230»: «إن إسم الله الأعظم علی ثلاثة وسبعین حرفاً ، وإنما کان عند آصف منها حرف واحد فتکلم به فخسف بالأرض ما بینه وبین سریر بلقیس حتی تناول السریر بیده ، ثم عادت الأرض کما کانت أسرع من طرفة عین ، ونحن عندنا من الإسم الأعظم اثنان وسبعون حرفاً ، وحرف واحد عند الله تعالی استأثر به فی علم الغیب عنده ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم» .

7. عرش بلقیس: کرسی الملک ، وقد ورد فی وصفه: « له أربع قوائم ، قائمة من یاقوت أحمر ، وقائمة من یاقوت أصفر ، وقائمة من زمرّد أخضر ، وقائمة من درّ أصفر . وصفائح السریر من ذهب . وکان ثمانین ذراعاً فی ثمانین ذراعاً ، وطوله فی الهواء ثمانون ». «نهایة الإرب:14/123».

وقد رویت مبالغات فی عرش بلقیس رضی الله عنها ، لکن قول الهدهد: ولَها عَرْشٌ عَظِیمٌ ، یدل علی أنه منبرٌ کبیر ممیز .

وروی أنه جئ به الی إصطخر فی الأهواز ، لأن سلیمان(علیه السّلام)کان یُشَتِّی هناک ، وقد یکون العرش بقی فی قصر سلیمان هناک ، ویوجد الی عصرنا فی الأهواز منطقة إسمها: مسجد سلیمان ، وقد روی حولها روایات ، لکن الأرجح أن یکون سلیمان(علیه السّلام)أرجع العرش الی بلقیس الی مملکتها فی الیمن .

وفی معجم البلدان «4/100» عن ابن الریحان قال:«شاهدت موضعاً ، بینه وبین ذمار یوم ، وقد بقی من آثاره ستة أعمدة رخام عظیمة فوقها أربعة منها أربعة ، ودون ذلک میاه کثیرة جاریة وحفائر، ذکر لی أهل تلک البلاد أنه لایقدر أحد علی خوض تلک المیاه إلی تلک الأعمدة ، وأنه ما خاضها أحد إلا عُدم. وأهل تلک البلاد متفقون علی أنه عرش

ص: 15

بلقیس ».

أقول:رأیت آثاراً فی مأرب فی آخر وادی سبأ ، قالوا إنها قصر بلقیس ، وهی صغیرة ، وما ورد فی صفة قصرها أعظم من ذلک ، وقد ذکرو أن أبرهة الحبشی نقل أحجار قصرها ، واستعملها فی بناء کنیسة القُلَّیس العظیمة ، بصنعاء .

ص: 16

نواس ، وهرب بفرسه وغرق فی البحر ، فحکم الیمن أبرهة وأذل أهلها .

رسمها وانقطع خبرها ».

وفی أخبار مکة للأزرقی «1/137»: «فبنی القُلَّیْس وَجَدَّ فی بنائه وکان مربعاً مستوی التربیع ، وجعل طوله فی السماء ستین ذراعاً ، وکَبْسُهُ من داخله عشرة أذرع فی السماء ، وکان یصعد علیه بدرج الرخام ، وحوله سور بینه وبین القلیس مائتا ذراع مطیفٌ به من کل جانب ، وجعل بین ذلک کله بحجارة تسمیها أهل الیمن الجروب ، منقوشة مطابقة ، لا یدخل بین أطباقها الإبرة مطبقة به ، وجعل طول ما بنی به من الجروب عشرین ذراعاً فی السماء .

ثم فَصَلَ ما بین حجارة الجروب بحجارة مثلثة تشبه الشُّرف مداخلةٌ بعضها ببعض ، حجراً أخضر ، وحجراً أحمر، وحجراً أبیض ، وحجراً أصفر ، وحجراً أسود ، وفیما بین کل سافین خشب ساسم مدور الرأس غلظ الخشبة حضن الرجل ، ناتئةٌ علی البناء . فکان مفصلاً بهذا البناء فی هذه الصفة ، ثم فُصِلَ بإفریز من رخام منقوش طوله فی السماء ذراعان ، وکان الرخام ناتئاً علی البناء ذراعاً .

ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بریق ، من حجارة نَقَم جبل صنعاء المشرف علیها ، ثم وضع فوقها حجارة صفر لها بریق ، ثم وضع فوقها حجارة بیضاً لها بریق ، فکان هذا ظاهر حایط القلیس .

وکان له باب من نحاس عشرة أذرع طولاً، فی أربعة أذرع عرضاً ، وکان المدخل منه إلی بیت فی جوفه طوله ثمانون ذراعاً فی أربعین ذراعاً ، معلق العمل بالساج المنقوش ومسامیرالذهب والفضة ، ثم یدخل من البیت إلی إیوان طوله أربعون ذراعاً عن یمینه وعن یساره ، وعقوده مضروبة بالفسیفساء ، مشجرة ، بین أضعافها کواکب الذهب ظاهرة ، ثم یدخل من الإیوان إلی قبة ثلاثون ذراعاً فی ثلاثین ذراعاً ، جدرهما بالفسیفساء ، وفیها صُلُبٌ منقوشة بالفسیفساء والذهب والفضة ، وفیها رخامة مما یلی مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع فی عشرة أذرع ، تُغشی عین من نظر إلیها من بطن القبة تؤدی

ص: 19

ضوء الشمس والقمر إلی داخل القبة ، وکان تحت الرخامة منبر من خشب اللبخ، وهو عندهم الأبنوس مفصل بالعاج الأبیض . ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهباً وفضة .

وکان فی القبة سلاسل فضة ، وکان فی القبة أو فی البیت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعاً ، یقال لها کعیب ، وخشبة من ساج نحوها فی الطول یقال لها امرأة کعیب ، کانوا یتبرکون بهما فی الجاهلیة ، وکان یقال لکعیب الأحوزی . والأحوزی بلسانهم: الحر ».

ثم ذکر الأزرقی أن القُلیس بقیت سالمة حتی ولیَ المنصور العباسی ، المعروف بحرصه وبخله حتی عرف بالدوانقی، والدانق جزء الدرهم ، فاستفتی وهب بن منبه الحاخام الیهودی (المسلم) فأفتاه ، فهدمها وأخذ ذهبها وفضتها !

وفی الکافی «4/216» عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال: « لما أقبل صاحب الحبشة بالفیل یرید هدم الکعبة مرُّوا بإبل لعبد المطلب فاستاقوها، فتوجه عبد المطلب إلی صاحبهم یسأله رد إبله علیه ، فاستأذن علیه فأذن له وقیل له: إن هذا عظیم قریش ، وهو رجل له عقل ومروة ، فأکرمه وأدناه ثم قال لترجمانه: سله ما حاجتک ؟ فقال له: إن أصحابک مروا بإبل لی فاستاقوها فأحببت أن تردها علیَّ ، قال: فتعجب من سؤاله إیاه رد الإبل وقال: هذا الذی زعمتم أنه عظیم قریش وذکرتم عقله ، یدع أن یسألنی أن أنصرف عن بیته الذی یعبده ! أما لو سألنی أن أنصرف عن هذه لانصرفت له عنه ! فأخبره الترجمان بمقالة الملک فقال له عبد المطلب: إن لذلک البیت رباً یمنعه ، وإنما سألتک رد إبلی لحاجتی إلیها ! فأمر بردها علیه ومضی عبد المطلب حتی لقی الفیل علی طرف الحرم فقال له: محمود ! فحرک رأسه فقال له: أتدری لما جئ بک ؟ فقال برأسه: لا ، فقال: جاؤوا بک لتهدم بیت ربک أفتفعل؟ فقال برأسه: لا. قال: فانصرف عنه عبد المطلب . وجاؤوا بالفیل لیدخل الحرم ، فلما انتهی إلی طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه فامتنع ، فأداروا به نواحی الحرم کلها ، کل ذلک یمتنع علیهم فلم یدخل ! وبعث الله علیهم الطیرکالخطاطیف فی مناقیرها حجر کالعدسة أو نحوها ، فکانت تحاذی برأس الرجل ثم ترسلها علی رأسه فتخرج من دبره ، حتی لم یبق منه أحد إلا رجل هرب ! فجعل یحدث الناس بما رأی إذ طلع علیه طائر منها فرفع رأسه فقال: هذا الطیر منها ! وجاء الطیر حتی حاذی برأسه ثم ألقاها علیه ، فخرجت من دبره فمات » !

ووصف المؤرخون إیمان عبد المطلب لما فرَّ أهل مکة منها: « قالوا لعبد المطلب: ما یمنعک أن تهرب مع الناس؟قال: أستحیی من الله أن أهرب عن بیته وحرمه، فوالله لا برحت من مکانی، ولا نأیت عن بیت ربی حتی یحکم الله بما یشاء..قال: فلما نظر عبد المطلب إلی الکعبة خالیة قال: اللهم أنت أنیس المستوحشین ولا وحشة معک ، فالبیت بیتک والحرم حرمک والدار دارک ، ونحن جیرانک تمنع عنه ما تشاء ».«البحار:15/66».

ص: 21

وقال الطبری «1/557»: « وأوفی عبد المطلب علی حراء ، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، ومطعم بن عدی وأبو مسعود الثقفی، فقال:

لاهُمَّ إن المرءَ یمنعُ

رحله فامنع حلالک

لا یغلبنَّ صلیبهم

ومحالهم عدواً محالک

ونزل عبد المطلب من حراء ، فأقبل علیه رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا له: أنت کنت أعلم » .

أقول:ذهابه الی حراء بعد هزیمة أصحاب الفیل ،لأنه بقی فی مکة ولم یخرج. وفی کنز الفوائد/81 ، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أن قائدی جیش الحبشة أرباط وأبرهة اختلفا فقتله أبرهة ، وأن عبد المطلب سمع هاتفاً یهتف ، فأنشأ یقول:

أیها الداعی لقد أسمعتنی

کلَّمَا قُلْتَ وما بی من صَمَمْ

إن للبیت لرباً مانعاً

من یُرده بأثامٍ یصطلم

رامهُ تُبَّعُ فی أجناده

حمیرٌ والحیُّ من آل إرم

هلکت بالبغی فیه جرهمٌ

بعد طَسْمٍ وجَدیسٍ وجُثَمْ

وکذاک الأمر فیمن کاده

لیس أمر الله بالأمر الأَمَم

نحن آلُ الله فیما قد خلا

لم یزل ذاک علی عهد ابْرَهَمْ

لم یزل لله فینا حجةٌ

یدفع الله بها عنها النقم

نعرف الله وفینا شیمة

صلة الرحم ونوفی بالذمم

ولنا فی کل دور کرة

نعرف الدین وطوراً فی العجم

فإذا ما بلغ الدور إلی

منتهی الوقت أتی طیْرُ القدم

ص: 22

فلما أصبح دعا ولده عبد الله فقال له: إذهب فداک أبی وأمی فَاعْلُ أبا قبیس وانظر ماذا تری یجئ من البحر؟ فنزل مسرعاً فقال: یا سید النادی رأیت سحاباً من قبل البحر مقبلاً ، یُسْفِلُ تارة ویرتفع أخری ! إن قلت غیماً قلته ، وإن قلت جهاماً خلته ، یرتفع تارة وینحدر أخری !

فنادی عبد المطلب:یا معشر قریش ، أدخلوا منازلکم فقد أتاکم الله بالنصر من عنده ، فأقبلت الطیر الأبابیل فی منقار کل طیر حجر وفی رجلیه حجران ، فکان الطائر الواحد یقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة !

کان یلقی الحجر فی قمة رأس الرجل فیخرج من دبره ! وقد قص الله تبارک وتعالی نبأهم فقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ کَیْفَ فَعَلَ رَبُّکَ بِأَصْحَابِ الفِیلِ.. الآیات » .

والسجیل الحجر الصلب ، والعصف ورق الزرع .

وفی البحار «62/233»: « وأصیب أبرهة حتی تساقط أنملةً أنملة ، حتی قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ! حتی انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت وزیره ، وطائرٌ یحلق فوقه حتی بلغ النجاشی ، فقص علیه القصة ، فلما انتهی وقع علیه الحجر فخرَّ میتاً بإذن الله بین یدیه » !

فدعا به کسری لما نزل وقال: من أنت وما میراثک؟ قال: أنا ابن الشیخ الیمانی ذی یزن الذی وعدته أن تنصره فمات ببابک وحضرتک ! فأمر له کسری بمال فخرج الغلام فجعل ینثر الدراهم فانتهبها الناس ، فأرسل إلیه کسری: ما الذی حملک علی ما صنعت؟ قال: إنی لم آتک للمال إنما جئتک للرجال ، ولتمنعنی من الذل ، فأعجب ذلک کسری ، فبعث إلیه أن أقم حتی أنظر فی أمرک. ثم إن کسری استشار وزراءه فی توجیه الجند معه ، فقال له الموبذان: إن لهذا الغلام حقاً بنزوعه وموت أبیه بباب الملک وحضرته ، وما تقدم من عدته إیاه ، وفی سجون الملک ، رجال ذو نجدة وبأس ، فلو أن الملک وجههم معه ، فإن أصابوا ظفراً کان له وإن هلکوا کان قد استراح وأراح أهل مملکته منهم ، ولم یکن ذلک ببعید من الصواب .

قال کسری:هذا الرأی، وأمر بمن کان فی السجون من هذا الضرب فأحصوا فبلغوا ثمان مائة نفر فقوَّد علیهم قائداً من أساورته یقال له وهرز ،کان کسری یعدله بألف أسوار ، وقواهم وجهزهم وأمر بحملهم فی ثمانی سفائن فی کل سفینة مائة رجل ، فرکبوا البحر فغرفت من الثمانی السفن سفینتان وسلمت ست ، فخرجوا بساحل حضر موت وسار إلیهم مسروق فی مائة ألف من الحبشة وحمیر والأعراب ، ولحق بابن ذی یزن بشر کثیر،ونزل وهرز علی سیف البحر وجعل البحر وراء ظهره ، فلما نظر مسروق إلی قلتهم طمع فیهم ».

ثم ذکر الطبری أنهم أجلوا الحرب لمدة ، فلما انتهت أمر وِهْرِز بالسفن التی کانوا فیها فأحرقت ، وقال لجنوده:إن کنتم تقاتلون معی وتصبرون أعلمونی ذلک ، فقالوا له: نقاتل معک حتی نموت عن آخرنا أو نظفر ، فعبأ أصحابه وأمرهم أن تکون قسیهم موترة وقال: إذا أمرتکم أن ترموا فارموهم رشقاً بالبنجکان ( الخماسی) ولم یکن أهل الیمن رأوا النشاب قبل ذلک ، وأقبل مسروق فی جمع لایری طرفاه علی فیل علی رأسه تاج ،بین عینیه یاقوتة حمراء مثل البیضة لایری أن دون الظفر شیئاً. وکان وهرز قد کل بصره فقال أرونی عظیمهم ، فقالوا هو صاحب الفیل ، ثم لم یلبث مسروق أن نزل فرکب

ص: 24

فرساً فقالوا قد رکب فرساً ، فقال إرفعوا لی حاجبی وقد کانا سقطا علی عینیه من الکبر فرفعوهما بعصابة ، ثم أخرج نشابة فوضعها فی کبد قوسه وقال: أشیروا لی إلی مسروق فأشاروا له إلیه حتی أثبته ، ثم قال لهم: إرموا فرموا ، ونزع فی قوسه حتی إذا ملأها سرَّح النشابة فأقبلت کأنها رشاء «حبل متصل» حتی صکت جبهة مسروق ، فسقط عن دابته .

وقتل فی ذلک الرشق منهم جماعة کثیر ، وانفض صفهم لما رأوا صاحبهم صریعاً ، فلم یکن دون الهزیمة شئ ، وغنم من عسکرهم مالا یحصی ولا یعد کثرة ، وجعل الأسوار یأخذ من الحبشة ومن حمیر والأعراب الخمسین والستین فیسوقهم مکتفین لایمتنعون منه ، فقال وهرز: أما حِمیر والأعراب فکفوا عنهم ، واقصدوا قصد السودان فلا تبقوا منهم أحداً ، فقتلت الحبشة یومئذ حتی لم یبق منهم کثیر أحد» .

وفی روایة أخری فی الطبری «1/560»: « ثم أوتر قوسه وکانت فیما زعموا لا یوترها غیره من شدتها ، ثم أمر بحاجبیه فعصبا ، ثم وضع فی قوسه نشابة فمغط فیها حتی إذا ملأها أرسلها فصک بها الیاقوتة التی بین عینیه فتغلغلت النشابة فی رأسه حتی خرجت من قفاه ، وتنکس عن دابته! واستدارت الحبشة ولاثت به ، وحملت علیهم الفُرس وانهزمت الحبشة فقتلوا ، وهرب شریدهم فی کل وجه ، فأقبل وهرز یرید صنعاء یدخلها حتی إذا أتی بابها قال لا تدخل رایتی منکسة أبداً ، إهدموا الباب فهدم باب صنعاء ثم دخلها ناصباً رایته یسار بها بین یدیه ، فلما ملک الیمن ونفی عنها الحبشة کتب إلی کسری: إنی قد ضبطت لک الیمن وأخرجت من کان بها من الحبشة ، وبعث إلیه بالأموال فکتب إلیه کسری یأمره أن یُمًلِّک سیف بن ذی یزن علی الیمن وأرضها ، وفرض کسری علی سیف بن ذی یزن جزیةً وخَرْجاً ، یؤدیه إلیه فی کل عام ».

ص: 25

منک ، فقال: عیینة وأنا أعلم بالرجال منک ! فغضب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حتی ظهر الدم فی وجهه فقال له: فأی الرجال أفضل؟ فقال عیینة بن حصن: رجال یکونون بنجد یضعون سیوفهم علی عواتقهم ، ورماحهم علی کواثب خیلهم ، ثم یضربون بها قدماً قدماً . فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): کذبت ، بل رجال أهل الیمن أفضل ، الإیمان یمانٍ والحکمة یمانیة ، ولولا الهجرة لکنت امرءً من أهل الیمن ، الجفا والقسوة فی الفدَّادین أصحاب الوبر ربیعة ومضر ، من حیث یطلع قرن الشمس . ومذحج أکثر قبیل یدخلون الجنة ، وحضرموت خیر من عامر بن صعصعة ».

4. وفی شرح النووی لمسلم «2/29»: «أشار النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بیده نحو الیمن فقال: ألا إن الإیمان هاهنا ، وإن القسوة وغلظ القلوب فی الفدادین عند أصول أذناب الإبل ، حیث یطلع قرنا الشیطان ، فی ربیعة ومضر.

وفی روایة: رأس الکفر نحو المشرق ، والفخر والخیلاء ، فی أهل الخیل والإبل الفدادین أهل الوبر ، والسکینة فی أهل الغنم .

وفی روایة: الإیمان یمان والکفر قبل المشرق ، والسکینة فی أهل الغنم ، والفخر والریاء فی الفدادین أهل الخیل والوبر .

وفی روایة: أتاکم أهل الیمن ، هم ألین قلوباً ، وأرق أفئدةً ، الإیمان یمانٍ والحکمة یمانیة ، ورأس الکفر قبل المشرق .

وفی روایة: الإیمانُ یمانٍ ، والفقه یمانٍ والحکمةُ یمانیة .

وفی روایة: هم أضعف قلوباً ، وأرق أفئدة . الفقه یمان ، والحکمة یمانیة .

وفی روایة: دعائم أمتی أهل الیمن .

وفی روایة: أتاکم أهل الیمن کقطع السحاب خیر أهل الأرض.

وفی روایة: قوم نقیة قلوبهم ، حسنة طاعتهم . الإیمان یمان والفقه یمان .

ص: 28

وفی روایة: هم ألین قلوباً وأرق أفئدة. الإیمان یمان، ورأس الکفر قبل المشرق.

وفی روایة: أشار بیده نحو الیمن فقال: إن الیُمْنَ ها هنا ، وإن القسوة وغلظ القلوب فی الفدادین ، عند أصول أذناب الإبل ، فی ربیعة ومضر .

وفی روایة: أجد نَفَس ربکم من قبل الیمن ، ألا إن الکفر والفسوق وقسوة القلب فی الفدادین أصحاب الشعر والوبر، یغشاهم الشیطان.

وفی روایة: من أحب أهل الیمن فقد أحبنی ، ومن أبغض أهل الیمن فقد أبغضنی . الإیمان یمان إلی لخم وجذام وعاملة ، ومأکول حمیر (محکومها) خیر من آکلها ، وحضرموت خیر من بنی الحار .

وفی روایة: زینُ الحاج أهل الیمن . الإیمان یمان ، ومضرعند أذناب الإبل .

وفی روایة: من أحب أهل الیمن فقد أحبنی، ومن أبغض أهل الیمن فقد أبغضنی .

وفی روایة: جاءکم أهل الیمن یَبُسُّون بَسیساً. قومٌ رقیقةٌ قلوبهم ، راسخٌ إیمانهم ، ومنهم المنصور یخرج فی سبعین ألفاً ، ینصر خلفی وخلف وصیی . حمائل سیوفهم المسک .

وفی روایة:خیر الرجال رجال أهل الیمن ، الإیمان یمان إلی لخم وجذام وعاملة ، ومأکول حمیر خیر من آکلها ، وحضرموت خیر من بنی الحارث وقبیلة خیر من قبیلة ، وقبیلة شر من قبیلة ، والله ما أبالی أن یهلک الحارثان کلاهما ، لعن الله الملوک الأربعة: جمداء ومخوساء ومشرحاء وأبضعة ، وأختهم العمردة ، ثم أمرنی ربی عز وجل أن ألعن قریشاً مرتین فلعنتهم ، ثم أمرنی ربی أن أصلی علیهم مرتین فصلیت علیهم .

6. فی کتاب البلدان لابن الفقیه الهمذانی/91: «لما جاء أهل الیمن قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): قد جاءکم أهل الیمن أرق قلوباً منکم ، وهم أول من جاءنا بالمصافحة . وقال: الإیمان یمان والحکمة یمانیة والإسلام یمان وقال: أهل الیمن زین الحاج. وقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إذا تعذّر علی أحدکم الملتمس فعلیه بهذا الوجه ، وأشار إلی الیمن ».

ص: 29

7. فی روایة الکافی «4/205» عن الإمام الباقر(علیه السّلام)قال: «إن الله عز وجل أمر إبراهیم(علیه السّلام) ببناء الکعبة وأن یرفع قواعدها ، ویُرِی الناس مناسکهم، فبنی إبراهیم وإسماعیل(صلّی الله علیه و آله وسلّم )البیت کل یوم سافاً حتی انتهی إلی موضع الحجر الأسود . قال: أبو جعفر(علیه السّلام):فنادی أبو قبیس إبراهیم(علیه السّلام): إن لک عندی ودیعة ، فأعطاه الحجر فوضعه موضعه . ثم إن إبراهیم(علیه السّلام) أذَّنَ فی الناس بالحج فقال: أیها الناس إنی إبراهیم خلیل الله ، إن الله

یأمرکم أن تحجوا هذا البیت ، فحجوه . فأجابه من یحج إلی یوم القیامة ، وکان أول من أجابه من أهل الیمن».

وفی عمدة القاری فی شرح البخاری «9/128»: «قیل أول من أجابه أهل الیمن فهم أکثر الناس حجاً ، وهذا قول الجمهور».

وفی عون المعبود «5/175»:«فسمعه من بین السماء والأرض..فأجابوه بالتلبیة فی أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وأول من أجابه أهل الیمن ، فلیس حاج یحج من یومئذ إلی أن تقوم الساعة ،إلا من کان أجاب إبراهیم یومئذ».

أصحاب الوبر ربیعة ومضر ، من حیث یطلع قرن الشمس . ومذحج أکثر قبیل یدخلون الجنة ، وحضرموت خیر من عامر بن صعصعة .

فالفدادون أهل صحراء ، وأصحاب إبل ، وأهل الشعر والوبر ، وأهل الخیل والوبر ، ولیسوا أهل زراعة .

لذلک یتعین أن تکون کلمة الفدادین فی کلامه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من فَدَدَ بمعنی صرَّخ ، ولیس من فَدَنَ بمعنی فدَّان الحراثة .

فالمعنی أن الجفاء وغلظ القلوب فی الفدَّادین أهل الصراخ والصیاح علی إبلهم وحیواناتهم وأنفسهم .

وهم الذین صرخوا علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من خارج بیته وقالوا: أخرج الینا یا محمد! فقال الله عنهم: إِنَّ الَّذِینَ یُنَادُونَکَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَکْثَرُهُمْ لا یَعْقِلُونَ .

فالفَدَّادون هم الذین یتکلمون بالصراخ: هاه ، هوه ، های.وهذه صفة النجدیین فی حیاتهم الیومیة الی یومنا .

قال فی الصحاح «2/518»: «الفدید: الصوت . وقد فدَّ الرجل یفدُّ فدیداً. ورجل فَدَّاد: شدید الصوت. وفی الحدیث: إن الجفاء والقسوة فی الفدادین بالتشدید، وهم الذین تعلوا أصواتهم فی حروثهم ومواشیهم ».

وقال فی مجمع البحرین«3/119»:«فی الحدیث:الجفاء والقسوة فی الفدادین. الفدادون یفسر بوجهین: أحدهما أن یکون جمعاً للفداد ، وهو شدید الصوت من الفدید ، وذلک من دأب أصحاب الإبل. وهذا إذا رویته بتشدید الدال من فَدَّ یَفِدُّ: إذا رفع صوته. والوجه الآخر أنه جمع الفدان مشدداً،وهی البقر التی یحرث علیها أهلها وذلک إذا رویته بالتخفیف».

وفی الطراز «6/134»: «فد فدیداً کحنَّ حنیناً:صاح وأجلب وعدا ».

ص: 31

قیامه به وتأکد اطلاعه منه ، ینسب ذلک الشئ إلیه ، إشعاراً بتمیزه به وکمال حاله فیه.

وهکذا کان حال أهل الیمن حینئذ فی الإیمان، وحال الوافدین منه فی حیاة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) وفی أعقاب موته ، کأویس القرنی وأبی مسلم الخولانی ، وشبههما ممن سلم قلبه وقوی إیمانه، فکانت نسبة الإیمان إلیهم لذلک إشعاراً بکمال إیمانهم ، من غیر أن یکون فی ذلک نفیٌ له عن غیرهم.فلا منافاة بینه وبین قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): الإیمان فی أهل الحجاز .

ثم المراد بذلک الموجودون منهم حینئذ لا کل أهل الیمن فی کل زمان فإن اللفظ لا یقتضیه! هذا هو الحق فی ذلک ».

أقول: حاول النووی أن یکون منصفاً ولم یستطع ، فقد خالف من تمحل وقال إن الیمن فی هذه الأحادیث بمعنی الحجاز أو الأنصار ، لأنه أحس أن ذلک تزویر لا یتحمله اللفظ ، فأقر أنها بمعناها المتبادر الظاهر ، لکنه حصرها بأهل ذلک الزمان ، ثم تمحل فصحح روایة: الإیمان فی أهل الحجاز . وهی فی بعض معانیها مقابل: الإیمان یمانٍ ، وتوجب نسبة التناقض الی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وحاشاه .

وقال علی(علیه السّلام)«نهج البلاغة:2/6»:«إن أفضل الناس عند الله من کان العمل بالحق أحب إلیه وإن نقصه وکَرَثه من الباطل وإن جر إلیه فائدة وزاده ».

وعن الإمام الصادق(علیه السّلام)«المحاسن:1/37»: «من سبح الله مائة مرة ، کان أفضل الناس ذلک الیوم ، إلا من قال مثل قوله».

لذلک لایصح أن یخاف أحد من هذا التفضیل کما خافت قریش . کما أنه تفضیل لعموم شعب الیمن ولیس لکل فرد فرد فیه ، ففی الیمن أفراد منافقون أعداء لله ورسوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من أهل النار .

کما أن التفضیل لا یختص بالجیل الذی کان فی عصر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کما ادعاه

بعض علماء السلطة ، بل یشمل کل أجیالهم الی یوم القیامة .

کما أن ذکر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عاملة من جملة الیمن ، یدل علی عموم المدح لفروع الیمانیین کالأنصار والعاملیین وغیرهم . وهو فخر للعاملیین نحسبه ذخراً .

الْحَقَّ مِنْ عِنْدِکَ فَأَمْطِرْ عَلَیْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ، هلَّا قالوا: فاهدنا له ».

وروی الطبرانی فی الأوسط «5/57»: «أتی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أعرابی فقال: یا رسول الله إلعن أهل الیمن ثلاثاً ، فسکت عنه ثم قال: أین هذا السائل الذی سألنی أن ألعن أهل الیمن؟ فقام إلیه الرجل ، فقال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إن الإیمان یمان والحکمة یمانیة ، وأجد نَفَس ربکم من قبل الیمن ، ألا إن الکفر والفسوق وقسوة القلب فی الفدَّادین ، أصحاب الشعر والوبر، یغشاهم الشیطان علی أعجاز الإبل ! فقام الرجل مغضباً ، فقال(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إرجع علیَّ أزیدک »!

وسیأتی فی حدیث الیمانی الذی ینصر المهدی(علیه السّلام)الذی رواه البخاری أن عبد الله بن عمرو أخبر الیمانیین بخبره عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فغضب معاویة وصعد المنبیر وکذب عبد الله ، وقال إنه لا یوجد ملک لغیر قریش الی أن تقوم القیامة !

ص: 35

بین شهر بن باذان ، وعامر بن شهر الهمدانی ، وأبی موسی

الأشعری ، وخالد بن سعید ، ویعلی بن أمیة ، وعمرو بن حزم ، وزیاد بن لبید والطاهر بن أبی هالة ، وعکاشة بن ثور المهاجر». «ابن هشام:1/45».

وسبب هذه التجزئة فی حکم الیمن أن زعماء القبائل بعد انهیار حکم الفرس استقلوا فی مناطقهم ، فلزم لکل منطقة حاکم قوی مقبول من أهلها . ثم تمکن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن یجمع الیمن علی خمسة أمراء ، کما قال العینی«8/235»: «خالد بن سعید علی صنعاء ، والمهاجر بن أبی أمیة علی کندة ، وزیاد بن لبید علی حضرموت ، ومعاذ علی الجندل ، وأبی موسی علی زبید وعدن والساحل ».

وجاء فی رسالة باذان الی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): «إن شاهنشاه کسری کتب إلی الملک باذان یأمره أن یبعث إلیه من یأتیه بک ، فإن أجبت کتبت معک ما ینفعک عنده وإن أبیت فإنه مهلکک ومهلک قومک ، ومخرب بلادک ».«الإصابة«1/464».

«بعث کسری رسولاً إلی باذان عامله فی أرض العرب: بلغنی أنه خرج رجل قبلک یزعم أنه نبی ، فلتقل له فلیکفف عن ذلک ، أو لأبعثن إلیه من یقتله ویقتل قومه . فبعث باذان إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بذلک فقال: لو کان شئ قلته من قبلی لکففت عنه ، ولکن الله بعثنی ».«الخرائج:1/133».

وقال الطبری«2/297»:«کتب کسری إلی باذان:أن ابعث إلی هذا الرجل الذی بالحجاز رجلین من عندک جَلِدین فلیأتیانی به. فبعث باذان قهرمانه وهو بابویه ، وکان کاتباً حاسباً بکتاب فارس ، وبعث معه رجلاً من الفرس یقال له خرخسرة ، وکتب معهما إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یأمره أن ینصرف معهما إلی کسری وقال لبابویه: إئت بلد هذا الرجل وکلمه وأتنی بخبره ، فخرجا حتی قدما الطائف فوجدا رجالاً من قریش بنخب من أرض الطائف فسألاهم عنه فقالوا هو بالمدینة ، واستبشروا بهما وفرحوا ، وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له کسری ملک الملوک ، کفیتم الرجل ! فخرجا حتی قدما علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فکلمه بابویه فقال: إن شاهنشاه ملک الملوک کسری ، قد کتب إلی الملک باذان یأمره أن یبعث إلیک من یأتیه بک ، وقد بعثنی إلیک لتنطلق معی ، فإن فعلت کتب فیک إلی ملک الملوک ینفعک ویکفه عنک ، وإن أبیت فهو من قد علمت ، فهو مهلکک ومهلک قومک ومخرب بلادک .

ودخلا علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقد حلقا لحاهما وأعفیا شواربهما ، فکره النظر إلیهما ثم أقبل علیهما فقال: ویلکما من أمرکما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا یعنیان کسری ، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): لکن ربی قد أمرنی بإعفاء لحیتی وقص شاربی . ثم قال لهما: إرجعا حتی تأتیانی غداً ، وأتی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الخبر من السماء أن الله قد سلط علی کسری ابنه شیرویه

ص: 38

فقتله فی شهر کذا وکذا ، لیلة کذا وکذا من اللیل، لیلة الثلاثاء لعشر لیال مضین من جمادی الأولی ، من سنة سبع لست ساعات مضت منها..

فقالا: هل تدری ما تقول ؟! إنا قد نقمنا علیک ما هو أیسر من هذا أفنکتب هذا عنک ونخبره الملک؟ قال: نعم أخبراه ذلک عنی وقولا له إن دینی وسلطانی سیبلغ ما بلغ ملک کسری ، وینتهی إلی منتهی الخف والحافر ، وقولا له: إنک إن أسلمت أعطیتک ما تحت یدیک وملکتک علی قومک من الأبناء . ثم أعطی خرخسره منطقة فیها ذهب وفضة ، کان أهداها له بعض الملوک .

فخرجا من عنده حتی قدما علی باذان فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بکلام ملک ، وإنی لأری الرجل نبیاً کما یقول ، ولننظرن ما قد قال ، فلئن کان هذا حقاً ما فیه کلام إنه لنبی مرسل ، وإن لم یکن فسنری فیه رأینا . فلم ینشب باذان أن قدم علیه کتاب شیرویه:أما بعد فإنی قد قتلت کسری ولم أقتله إلا غضباً لفارس ، لما کان استحل من قتل أشرافهم وتجمیرهم فی ثغورهم ، فإذا جاءک کتابی هذا فخذ لی الطاعة ممن قبلک ، وانظر الرجل الذی کان کسری کتب فیه إلیک ، فلا تُهِجْهُ حتی یأتیک أمری فیه . فلما انتهی کتاب شیرویه إلی باذان قال: إن هذا الرجل لرسول ، فأسلم وأسلمت الأبناء معه من فارس ، من کان منهم بالیمن ».

شرعاً موالی أهل البیت(علیهم السّلام) . والمرجح عندی أن قبیلة الزندانی من الفرس ، وهم الیوم متحالفون مع أرحب .

وبموت کسری طمع مشایخ القبائل وأخذوا یستقلون بمناطقهم ، فاحتاج النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الی أن ینصب علی کل منطقة حاکماً .

ویظهر أن نفوذ باذان اقتصر علی صنعاء وبعض مناطق الیمن فقط !

وقد ضعف الفرس بعد هلاک کسری حتی احتاجوا إلی التحالف مع القبائل: « فقالت الرسل من الفرس لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إلی من نحن یا رسول الله ؟ قال: أنتم منا وإلینا أهل البیت » . «ابن هشام:1/45» .

ووثب قیس بن عبد یغوث علی فروة بن مسیک وهو علی مراد ، فأجلاه ونزل منزله . فلم ینشب عبلهة بنجران أن سار إلی صنعاء فأخذها ، وکتب بذلک إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، من فعله ونزوله صنعاء .

وکان أول خبر وقع به عنه من قبل فروة بن مسیک ، ولحق بفروة من تمَّ علی الإسلام من مذحج فکانوا بالأحسیة ، ولم یکاتبه الأسود ولم یرسل إلیه لأنه لم یکن معه أحد یشاغبه ، وصفی له ملک الیمن...

عن هشام بن عروة عن أبیه قال: حاربهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )«المرتدین» بالرسل، قال فأرسل إلی نفر من الأبناء رسولاً وکتب إلیهم أن یحاولوه وأمرهم أن یستنجدوا رجالاً قد سماهم من بنی تمیم وقیس ، وأرسل إلی أولئک النفر أن ینجدوهم ففعلوا ذلک ، وانقطعت سبل المرتدة وطعنوا فی نقصان وأغلقهم واشتغلوا فی أنفسهم ، فأصیب الأسود فی حیاة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقبل وفاته بیوم أو بلیلة . ولظَّ «واصل» طلیحة ومسیلمة وأشباههم بالرسل ، ولم یشغله ما کان فیه من الوجع عن أمر الله عز وجل والذب عن دینه ، فبعث وبر بن یحنس إلی فیروز وجشیش الدیلمی وداذویه الإصطخری ، وبعث جریر بن عبد الله إلی ذی الکلاع وذی ظلیم ، وبعث الأقرع بن عبد الله الحمیری إلی ذی زود وذی مران ، وبعث فرات بن حیان العجلی إلی ثمامة بن أثال ، وبعث زیاد بن حنظلة التمیمی ثم العمری ، وإلی قیس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ، وبعث صلصل بن شرحبیل إلی سبرة العنبری ، ووکیع الدارمی ، وإلی عمرو بن المحجوب العامری ، وإلی عمرو بن الخفاجی من بنی عامر، وبعث ضرار بن الأزور الأسدی إلی عوف الزرقانی ، من بنی الصیداء ، وسنان الأسدی ثم الغنمی ، وقضاعی الدیلمی، وبعث نعیم بن مسعود الأشجعی إلی ابن ذی اللحیة ، وابن مشیمصة الجبیری ».

وقال الطبری «2/465»: «عن عبید بن صخر قال: فبینا نحن بالجَنَد قد أقمناهم علی ما ینبغی، وکتبنا بیننا وبینهم الکتب ، إذ جاءنا کتاب من الأسود: أیها المتوردون علینا

ص: 41

أمسکوا علینا ما أخذتم من أرضنا ، ووفروا ما جمعتم ، فنحن أولی به وأنتم علی ما أنتم علیه، فقلنا للرسول: من أین جئت؟ قال: من کهف خبان . ثم کان وجهه إلی نجران حتی أخذها فی عشر لمخرجه ، وطابقه عوام مذحج . فبینا نحن ننظر فی أمرنا ونجمع جمعنا ، إذ أتینا فقیل هذا الأسود بشعوب وقد خرج إلیه شهر بن باذام وذلک لعشرین لیلة من منجمه ، فبینا نحن ننتظر الخبر علی من یکون الدبرة إذ أتانا أنه قتل شهراً «باذان» وهزم الأبناء وغلب علی صنعاء ، لخمس وعشرین لیلة من منجمه ، وخرج معاذ هارباً حتی مر بأبی موسی وهو بمأرب فاقتحما حضرموت ، فأما معاذ فإنه نزل فی السکون ، وأما أبو موسی فإنه نزل فی السکاسک مما یلی المفور ، والمفازة بینهم وبین مأرب ، وانحاز سائر أمراء الیمن إلی الطاهر إلا عمراً وخالداً ، فإنهما رجعا إلی المدینة . والطاهر یومئذ فی وسط بلاد عک بحیال صنعاء ، وغلب الأسود علی ما بین صهید مفازة حضرموت إلی عمل الطائف إلی البحرین قِبَلَ عدن ، وطابقت علیه الیمن. وعکٌّ بتهامة معترضون علیه ، وجعل یستطیر استطارة الحریق . وکان معه سبع مائة فارس یوم لقی شهراً سوی الرکبان ، وکان قواده قیس بن عبد یغوث المرادی ومعاویة بن قیس الجنبی،ویزید بن محرم، ویزید بن حصین الحارثی، ویزید بن الأفکل الأزدی.

وثبت ملکه واستغلظ أمره ، ودانت له سواحل من السواحل: حازعثر والسرجة ، والحردة ، وغلافقة ، وعدن ، والجند ، ثم صنعاء إلی عمل الطائف إلی الأحسیة وعلیب . وعامله المسلمون بالتقیة ، وعامله أهل الردة بالکفر والرجوع عن الإسلام.

وکان خلیفته فی مذحج عمرو بن معدی کرب ، وأسند أمره إلی نفر ، فأما أمر جنده إلی قیس بن عبد یغوث وأسند أمر الأبناء إلی فیروز ودازویه ، فلما أثخن فی الأرض استخف بقیس وبفیروز وداذویه ، وتزوج امرأة شهر ، وهی ابنة عم فیروز . فبینا نحن کذلک بحضرموت ولا نأمن أن یسیر إلینا الأسود ، أو یبعث إلینا جیشاً أو یخرج بحضرموت خارج یدعی بمثل ما ادعی به الأسود ، فنحن علی ظهر ، تزوج معاذ إلی بنی بکرة حی

ص: 42

من السکون امرأة أخوالها بنو زنکبیل ، یقال لها رملة فحدبوا لصهره علینا ، وکان معاذ بها معجباً

فإنه کان لیقول فیما یدعو الله: اللهم ابعثنی یوم القیامة مع السکون ، ویقول أحیاناً: اللهم اغفر للسکون ، إذ جاءتنا کتب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یأمرنا فیها أن نبعث الرجال لمحاولته أو لمصاولته ، ونبلغ کل من رجا عنده شیئاً من ذلک عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فقام معاذ فی ذلک بالذی أمر به ، فعرفنا القوة ووثقنا بالنصر ».

وفی عمدة القاری «7 /283»:«حوشب بن طخنة وقیل طخمة الحمیری الألهانی یعرف بذی ظلیم ، أسلم علی عهد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعداده فی أهل الیمن وکان مطاعاً فی قومه.کتب إلیه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی قتل الأسود العنسی».

وقال الطبری «2/467»: «عن جشیش بن الدیلمی قال: قدم علینا وبر بن یحنس بکتاب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یأمرنا فیه بالقیام علی دیننا ، والنهوض فی الحرب والعمل فی الأسود ، إما غیلةً وإما مصادمةً ، وأن نُبلغ عنه من رأینا أن عنده نجدة ودیناً...وکتب النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلی أهل نجران إلی عربهم وساکنی الأرض من غیر العرب فثبتوا ... ثم روی الطبری أن ثلاثة اشترکوا فی قتل المتنبئ الکذاب العنسی، فیروز وداذویه وقیس. قال فیروز: فدخلت علی آزاد «المرزبانه» وهی امرأته فقلت: یا ابنة عم قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومک ، قتل زوجک وطأطأ فی قومک القتل ، وسفل بمن بقی منهم ، وفضح النساء ، فهل عندک من ممالأة علیه؟ فقالت: علی أی أمره؟ قلت: إخراجه قلت أو قتله ، قالت:أو قتله؟ نعم والله ، ما خلق الله شخصاً أبغض إلیَّ منه ، ما یقوم لله علی حق ، ولا ینتهی له عن حرمة ، فإذا عزمتم فأعلمونی أخبرکم بمأتی هذا الأمر ..

ثم ذکر کیف ساعدته ، فدخل خفیةً الی بیت الأسود وهو نائم ، وقتله .

وروی الطبری عن ابن عمرقال:أتی الخبر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من السماء اللیلة التی قتل فیها العنسی لیبشرنا ، فقال: قتل العنسی البارحة ،قتله رجل مبارک من أهل بیت مبارکین ، قیل: ومن؟ قال: فیروز ، فاز فیروز ».

ص: 43

وهذه شهادة مهمة لفیروز الفارسی(رحمه الله)وفرس الیمن .

ثم قال الطبری: «عن الضحاک بن فیروز قال: کان ما بین خروجه بکهف خّبَّان ، ومقتله ، نحواً من أربعة أشهر ، وقد کان قبل ذلک مستسراً بأمره ».

ص: 44

أبناء عبد کلال وزرعة بن سیف بن ذی یزن ، وعمیر ذو مران ، والنعمان قیل ذی رعین ، ومعافر ، وکتبوا بإسلامهم ، وأرسلوا الکتاب مع وافدهم مالک بن مرارة ، فأتی المدینة مع وفد همدان مالک بن نمط وغیره ، فلقوه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مَقْفَلَهُ من تبوک بالمدینة ، فأکرم رسولهم کما کان یکرم وفود العرب ورسلهم ».

وقال الأحمدی «2/683»: «قال الدکتور غوستاف لوبون فی کتابه تاریخ حضارة العرب: إن أهل الیمن سمعوا بظهورالنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فسارعوا إلی تصدیقه ، وأنه النبی الموعود».

وقال الیعقوبی «2/80»:«کتب إلی أهل الیمن: بسم الله الرحمن الرحیم: هذا کتاب من محمد رسول الله إلی أهل الیمن ، فإنی أحمد الله إلیکم الذی لا إله إلا هو . وقع بنا رسولکم مقدمنا من أرض الروم، فلقینا بالمدینة فبلَّغنا ما أرسلتم به ، وأخبرنا ما کان قبلکم ، ونبأنا بإسلامکم وأن الله قد هداکم .

إن أصلحتم وأطعتم الله وأطعتم رسوله وأقمتم الصلاة وآتیتم الزکاة وأعطیتم من الغنائم خمس الله وسهم النبی والصفی وما علی المؤمنین من الصدقة، عشر ما سقی البعل وسقت السماء ، وما سقی بالغرب نصف العشر وإن فی الإبل من الأربعین حقة قد استحقت الرحل وهی جذعة ، وفی الخمس والعشرین ابن مخاض ... فمن أعطی ذلک وأشهد علی إسلامه وظاهر المؤمنین علی الکافرین فإنه من المؤمنین ، له ذمة الله وذمة رسوله محمد رسول الله .

وإنه من أسلم من یهودی أو نصرانی فإنه من المؤمنین ، له مثل ما لهم وعلیه ما علیهم ، ومن کان علی یهودیته أو نصرانیته فإنه لا یغیر عنها ، وعلیه الجزیة فی کل حالم من ذکر أو أنثی حر أو عبد ، دینار وافٍ من قیمة المعافری أو عرضه . فمن أدی ذلک إلی رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنین ، وإن رسول الله مولی غنیکم وفقیرکم ، وإن الصدقة لاتحل لمحمد ولا أهله ، إنما هی زکاة تؤدونها إلی

ص: 46

فقراء المؤمنین فی سبیل الله .

وإن مالک بن مرارة قد أبلغ الخبر وحفظ الغیب فآمرکم به خیراً . إنی قد أرسلت إلیکم من صالحی أهلی «أی علیاً(علیه السّلام)» وأولی کتابهم وأولی علمهم، فآمرکم به خیراً ، فإنه منظور إلیه ، والسلام ».

وروی البیهقی «8 /73» وابن حبان «14/501»: «أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کتب إلی الیمن بکتاب فیه الفرائض والسنن والدیات ، وبعث به مع عمرو بن حزم:

من محمد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلی شرحبیل بن عبد کلال ، والحارث بن عبد کلال، ونعیم بن عبد کلال ، قیل ذی رعین ومعافر وهمدان: أما بعد ، فقد رجع رسولکم وأعطیتم الغنائم خمس الله ، وما کتب الله علی المؤمنین من العشر فی العقار،وما سقت السماء أو کان سیحاً أو بعلاً ففیه العشر إذ بلغ خمسة أوسق ، وما سقی بالرشاء والدالیة ففیه نصف العشر إذ بلغ خمسة أوسق ، وفی کل خمس من الإبل سائمة شاة ، إلی أن تبلغ أربعاً وعشرین ، فإذا زادت واحدة علی أربع وعشرین ففیها ابنة مخاض ، فإن لم توجد بنت مخاض فابن لبون ذکر إلی أن تبلغ خمساً وثلاثین ، فإذا زادت علی خمس وثلاثین ففیها ابنة لبون إلی أن تبلغ خمساً وأربعین، فإذا زادت علی خمس وأربعین ففیها حقة طروقة ، إلی أن تبلغ ستین ، فإن زادت علی ستین واحدة ففیها جذعة ، إلی أن تبلغ خمسة وسبعین ، فإن زادت علی خمس وسبعین واحدة ففیها ابنتا لبون ، إلی أن تبلغ تسعین ، فإن زادت علی تسعین واحدة ففیها حقتان طروقتا الجمل إلی أن تبلغ عشرین ومئة ، فما زاد ففی کل أربعین ابنة لبون ، وفی کل خمسین حقة طروقة الجمل .وفی کل ثلاثین باقورة بقر ، وفی کل أربعین شاة سائمة ، إلی أن تبلغ عشرین ومئة ، فإن زادت علی عشرین ومئة واحدة ففیها شاتان ، إلی أن تبلغ مئتان فإن زادت واحدة فثلاثة شیاه ، إلی أن تبلغ ثلاث مائة فما زاد ففی کل مائة شاة شاة . ولا تؤخذ فی الصدقة هرمة ولا عجفاء ولا ذات عوار ولا تیس الغنم ، ولا یجمع بین متفرق ولا یفرق بین مجتمع ، خیفة الصدقة . وما أخذ من الخلیطین فإنهما یتراجعان

ص: 47

بینهما بالسویة .

وفی کل خمس أواق من الورق خمسة دراهم ، فما زاد ففی کل أربعین درهم ، ولیس فیها دون خمس أواق شئ ، وفی کل أربعین دیناراً دینارٌ .

وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بیته ، وإنما هی الزکاة تزکی بها أنفسهم فی فقراء المؤمنین أو فی سبیل الله .

ولیس فی رقیق ولا مزرعة ولا عمالها شئ إذا کانت تؤدی صدقتها من العشر ولیس فی عبد المسلم ولا فرسه شئ .

وإن أکبر الکبائر عند الله یوم القیامة الإشراک بالله ، وقتل النفس المؤمنة بغیر الحق ، والفرار فی سبیل الله یوم الزحف ، وعقوق الوالدین ، ورمی المحصنة ، وتعلم السحر ، وأکل الربا ، وأکل مال الیتیم.

وإن العمرة الحج الأصغر، ولا یمس القرآن إلا طاهر، ولا طلاق قبل إملاک ، ولا عتق حتی یبتاع ، ولایصلین أحدکم فی ثوب واحد لیس علی منکبه منه شئ ، ولایحتبین فی ثوب واحد لیس بینه وبین السماء شئ ، ولا یصلین أحدکم فی ثوب واحد وشقه باد، ولایصلین أحدکم عاقصاً شعره.

وإن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بینة فهو قَوَدٌ إلا أن یرضی أولیاء المقتول. وإن فی النفس الدیة مائة من الإبل، وفی الأنف إذا أوعب جدعه الدیة وفی اللسان الدیة، وفی الشفتین الدیة، وفی البیضتین الدیة، وفی الذکر الدیة، وفی الصلب الدیة، وفی العینین الدیة، وفی الرجل الواحدة نصف الدیة، وفی المأمومة ثلث الدیة ، وفی الجائفة ثلث الدیة، وفی المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفی کل أصبع من الأصابع من الید والرجل عشر من الإبل، وفی السن خمس من الإبل، وفی الموضحة خمس . وإن الرجل یقتل بالمرأة . وعلی أهل الذهب ألف دینار » .

ص: 48

قال:« دعانی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فوجهنی إلی الیمن لأصلح بینهم ، فقلت له یا رسول الله إنهم قوم کثیر وأنا شاب حدث . فقال لی: یا علی (علیه السّلام) إذا صرت بأعلی عقبة فیق فناد بأعلی صوتک: یا شَجَر یا مَدَر یا ثری ، محمد رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقرؤکم السلام ! قال: فذهبت فلما صرت بأعلی عقبة فیق أشرفت علی الیمن ، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوی مشرعون أسنتهم ، متنکبون قسیهم شاهرون سلاحهم ، فنادیت بأعلی صوتی: یا شجر یا مدر یا ثری ، محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقرؤکم السلام ، قال: فلم یبق

شجرة ولا مدرة ولا ثری إلا ارتجت بصوت واحد: وعلی محمد رسول الله وعلیک السلام!فاضطربت قوایم القوم وارتعدت رکبهم ، ووقع السلاح من أیدیهم،وأقبلوا مسرعین فأصلحت بینهم وانصرفت».

وقال الصالحی فی سبل الهدی «6/235»: « روی البیهقی فی السنن والدلائل والمعرفة ، عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )خالد بن الولید إلی أهل الیمن یدعوهم إلی الإسلام . قال البراء: فکنت فیمن خرج مع خالد بن الولید ، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلی الإسلام فلم یجیبوا .

ثم إن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بعث علی بن أبی طالب مکان خالد وأمره أن یُقْفِلَ خالداً ، وقال: مُرْ أصحاب خالد من شاء منهم أن یُعَقِّب معک فلیعقب ومن شاء فلیقبل... إلی آخره ، وفیه: « فافتتح علیُّ حصناً فغنم أواقی ذوات عدد وأخذ علی منه جاریة ، قال: فکتب معی خالد إلی رسول الله یخبره. قال الترمذی:یعنی النمیمة ! قال: فلما قدمت علی رسول الله وقرأ الکتاب رأیته یتغیر لونه فقال: ما تری فی رجل یحب الله ورسوله ویحبه الله تعالی ورسوله؟ فقلت: أعوذ بالله من غضب الله تعالی وغضب رسوله ، إنما أنا رسول ! فسکت .

وفی روایة: فکتب خالد إلی رسول الله ، فقلت: إبعثنی فبعثنی ، فجعل یقرأ الکتاب وأقول صدق ، فإذا النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قد احمر وجهه ، فقال: من کنت ولیه فعلی ولیه ! ثم قال:یا بریدة أتبغض علیاً ؟ فقلت: نعم . قال: لا تبغضه ، فإن له من الخمس أکثر من ذلک .

وفی روایة: والذی نفسی بیده لنصیب علیٍّ فی الخمس أفضل من وصیفة ، وإن کنت

ص: 50

تحبه فازدد له حباً . وفی روایة:لا تقع فی علی فإنه منی وأنا منه ، وهو ولیکم بعدی ! قال بریدة: فما کان فی الناس أحدٌ أحب إلی من علی !

سریة علی بن أبی طالب إلی الیمن المرة الثانیة:

قال الواقدی «2/1079» وابن سعد واللفظ للأول: « بعث رسول الله علیاً إلی الیمن فی رمضان ، وأمره أن یعسکر بقناة ، فعسکر بها حتی تتامَّ أصحابه ، فعقد له رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لواء وأخذ عمامته فلفها مثنیة مربعة ، فجعلها فی رأس الرمح ثم دفعها إلیه ، وعممه بیده عمامة ثلاثة أکوار ، وجعل له ذراعاً بین یدیه وشبراً من ورائه ، وقال له: إمض ولا تلتفت . فقال علی: یا رسول الله ما أصنع؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتی یقاتلوک ، وادعهم إلی أن یقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فإن قالوا نعم فمرهم بالصلاة ، فإن أجابوا فمرهم بالزکاة ، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غیر ذلک . والله لأن یهدی الله بک رجلاً واحداً ، خیرٌ لک مما طلعت علیه الشمس أو غربت .

فخرج علی فی ثلاث مائة فارس ، فکانت خیلهم أول خیل دخلت تلک البلاد . فلما انتهی إلی أدنی الناحیة التی یرید من مذحج ، فرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم وسبایا ، نساء وأطفالاً ونعماً وشاءً وغیر ذلک ، فجعل علیٌّ علی الغنائم بریدة بن الحصیب الأسلمی، فجمع إلیه ما أصابوا قبل أن یلقی لهم جمعاً . ثم لقی جمعهم فدعاهم إلی الإسلام فأبوا ورموا أصحابه بالنبل والحجارة ، فلما رأی أنهم لا یریدون إلا القتال ، صف أصحابه ودفع اللواء إلی مسعود بن سنان السلمی فتقدم به ، فبرز رجل من مذحج یدعو إلی البراز ، فبرز إلیه الأسود بن خزاعی فقتله الأسود وأخذ سلبه . ثم حمل علیهم علیٌّ وأصحابه فقتل منهم عشرین رجلاً فتفرقوا وانهزموا وترکوا لواءهم قائماً ، وکفَّ علیٌّ عن طلبهم ، ثم دعاهم إلی الإسلام فأسرعوا وأجابوا ، وتقدم نفر من رؤسائهم فبایعوه علی الإسلام وقالوا: نحن علی من وراءنا من قومنا ، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله تعالی . وجمع علیٌّ ما أصاب من تلک الغنائم ، فجزأها خمسة أجزاء فکتب فی سهم

ص: 51

منها: لله ، ثم أقرع علیها فخرج أول السُّهمان سهم الخمس، وقسم علیٌّ علی أصحابه بقیة المغنم ، ولم ینفل أحداً من الناس شیئاً ، وکان من کان قبله یعطون خیلهم الخاص دون غیرهم من الخمس، ثم یخبرون رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بذلک فلا یرده علیهم ، فطلبوا ذلک من علی فأبی وقال: الخمس أحمله إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یری فیه رأیه .

وأقام فیهم یقرؤهم القرآن ویعلمهم الشرائع، وکتب إلی رسول الله کتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزنی یخبره الخبر ، فأتی رسول الله فأمر رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أن یوافیه الموسم ، فانصرف عبد الله بن عمرو بن عوف إلی علی بذلک ، فانصرف علی راجعاً فلما کان بالفتق «مکان» تعجَّل إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یخبره الخبر، وخلف علی أصحابه والخمس أبا رافع ، فوافی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بمکة قد قدمها للحج ، وکان فی الخمس ثیاب من ثیاب الیمن

أحمال معکومة ، ونِعَمٌ وشاء مما غنموا ، ونعمٌ من صدقة أموالهم ، فسأل أصحاب علی أبا رافع أن یکسوهم ثیاباً یحرمون فیها ، فکساهم منها ثوبین ثوبین . فلما کانوا بالسدرة داخلین خرج علی لیتلقاهم لیَقدم بهم ، فرأی علی أصحابه الثیاب فقال لأبی رافع:ما هذا؟ فقال:کلمونی ففرقت من شکایتهم وظننت أن هذا لیسهل علیک ، وقد کان من قبلک یفعل هذا بهم . فقال:قد رأیت امتناعی من ذلک ثم أعطیتهم ، وقد أمرتک أن تحتفظ بما خلفت فتعطیهم! فنزع علیٌّ الحُلَلَ منهم! فلما قدموا علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )شکوه فدعا علیاً فقال:ما لأصحابک یشکونک؟قال:ما أشکیتهم ، قسمت علیهم ما غنموا وحبست الخمس حتی یقدم علیک فتری فیه رأیک. فسکت رسول الله».

أقول: نصت روایاتهم علی أن علیاً(علیه السّلام)أعطی جنوده أربعة أخماس الغنیمة فطمعوا فی خمس النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )واستغلوا مسارعته إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وضغطوا علی أبی رافع وأخذوا من الخمس الذی للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بغیر حق ، فلما رجع نزعه منهم ! وقد ظلم الرواة علیاً(علیه السّلام)فصوروا أنه أخطأ ولم یخطئ !

وکانت هذه القصة فی السنة العاشرة ، لکن إرسال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لخالد کان کما فی فتح

ص: 52

الباری «8/52»: «بعد رجوعهم من الطائف وقسمة الغنائم بالجعرانة » .

وقد یکون الرواة خلطوا بین المرتین , ومهما یکن فالذی یبدو أن خالداً لم یطع أمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بالقُفُول أی الرجوع ! وبقی یتتبع عمل علی(علیه السّلام) ویتحین علیه شیئاً لیشکوه إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! وشکایته ضد علی(علیه السّلام)من الأحادیث الصحیحة فی مصادر الجمیع وطرقها عدیدة، وفیها قوله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): علی ولیکم من بعدی .

قال الصالحی فی سبل الهدی: «روی البیهقی بإسناد صحیح من حدیث ابن إسحاق عن البراء: أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بعث خالد.. إلی آخر ما تقدم .

ومن روایتها عن أبی رافع: «بعث رسول الله علیاً أمیراً علی الیمن ، وبعث خالد بن الولید علی الجبل فقال: إن اجتمعتما فعلیٌّ علی الناس ، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم یصیبوا مثله وأخذ علی جاریة من الخمس، فدعا خالد بن الولید بریدة فقال:إغتنمها فأخبر النبی ما صنع! فقدمت المدینة ودخلت المسجد ورسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی منزله وناس من أصحابه علی بابه ، فقالوا: ما الخبر یا بریدة؟ فقلت:خیراً فتح الله علی المسلمین ، فقالوا: ما أقدمک؟ قلت:جاریة أخذها علی من الخمس فجئت لأخبر النبی! فقالوا:فأخبر النبی فإنه یسقط من عین النبی! ورسول الله یسمع الکلام فخرج مغضباً فقال: ما بال أقوام ینتقصون علیاً ! من تَنَقَّصَ علیاً فقد تنقصنی، ومن فارق علیاً فقد فارقنی! إن علیاً منی وأنا منه خُلق من طینتی وخُلقت من طینة إبراهیم ، وأنا أفضل من إبراهیم:ذُرِّیَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّه سَمِیعٌ عَلِیمٌ. یا بریدة: أما علمت أن لعلی أکثر من الجاریة التی أخذ ، وأنه ولیکم بعدی؟! فقلت:یا رسول الله بالصحبة إلا بسطت یدک فبایعتنی علی الإسلام جدیداً ! قال: فما فارقته حتی بایعته علی الإسلام »! «أوسط الطبرانی: 6/163». وفی تاریخ دمشق«42/191»: « إن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال له: أنافقت بعدی یا بریدة؟!» .

وقد بحثنا شکایة خالد ومحاولتهم تحریفها فی العقائد الإسلامیة «4/91 ».

ص: 53

وتخرُّ الجبال هداً ، وترمی النار بمثل الجبال شرراً ، فلا یبقی ذو روح إلا انخلع قلبه وذکر ذنبه وشغل بنفسه ، إلا من شاء الله ! فأین أنت یا عمرو من هذا ؟

قال : ألا إنی أسمع أمراً عظیماً ، فآمن بالله ورسوله ، وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلی قومهم . ثم إن عمرو بن معدی کرب نظر إلی أبیّ بن عثعث الخثعمی ، فأخذ برقبته ثم جاء به إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال: أُعْدُنی علی هذا الفاجر الذی قتل والدی ، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): أهدر الإسلام ما کان فی الجاهلیة ، فانصرف عمرو مرتداً ، فأغار علی قوم من بنی الحارث بن کعب ، ومضی إلی قومه ! فاستدعی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی بن أبی طالب وأمره علی المهاجرین وأنفذه إلی بنی زبید ، وأرسل خالد بن الولید فی الأعراب ، وأمره أن یعمد لجعفی ، فإذا التقیا فأمیر الناس أمیر المؤمنین .

فسار أمیر المؤمنین(علیه السّلام)واستعمل علی مقدمته خالد بن سعید بن العاص واستعمل خالد علی مقدمته أبا موسی الأشعری ، فأما جعفی فإنها لما سمعت بالجیش افترقت فرقتین: فذهبت فرقة إلی الیمن ، وانضمت الفرقة الأخری إلی بنی زبید ، فبلغ ذلک أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فکتب إلی خالد بن الولید: أن قف حیث أدرکک رسولی ، فلم یقف ! فکتب إلی خالد بن سعید بن العاص: تعرض له حتی تحبسه ، فاعترض له خالد حتی حبسه ، وأدرکه أمیر المؤمنین فعنفه علی خلافه ! ثم سار حتی لقی بنی زبید بواد یقال له کثیر ، فلما رآه بنو زبید قالوا لعمرو: کیف أنت یا با ثور إذا لقیک هذا الغلام القرشی فأخذ منک الإتاوة ؟ قال: سیعلم إن لقینی! قال: وخرج عمرو فقال: من یبارز؟ فنهض إلیه أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وقام إلیه خالد بن سعید وقال له: دعنی یا أبا الحسن بأبی أنت وأمی أبارزه ، فقال له أمیر المؤمنین(علیه السّلام): إن کنت تری أن لی علیک طاعة فقف مکانک ، فوقف .

ثم برز إلیه أمیر المؤمنین(علیه السّلام)فصاح به صیحة فانهزم عمرو! وقتل أخاه وابن أخیه ، وأُخِذَت امرأته رکانة بنت سلامة ، وسبی منهم نسوان ، وانصرف أمیر المؤمنین(علیه السّلام)وخلف علی بنی زبید خالد بن سعید لیقبض صدقاتهم ، ویؤمِّن من عاد إلیه من هُرَّابهم مسلماً ،

ص: 55

فرجع عمرو بن معدیکرب ، واستأذن علی خالد بن سعید فأذن له ، فعاد إلی الإسلام فکلمه فی امرأته وولده فوهبهم له ! وقد کان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعید وجد جزوراً قد نُحرت فجمع قوائمها ثم ضربها بسیفه فقطعها جمیعاً ، وکان یسمی سیفه الصمصامة ، فلما وهب خالد بن سعید لعمرو امرأته وولده ، وهب له عمرو الصمصامة .

وکان أمیر المؤمنین(علیه السّلام) قد اصطفی من السبی جاریة ، فبعث خالد بن الولید بریدة الأسلمی إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وقال له: تقدم الجیش إلیه فأعلمه بما فعل علی من اصطفائه الجاریة من الخمس لنفسه ، وقَعْ فیه !

فسار بریدة حتی انتهی إلی باب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فلقیه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذی أقدمه ، فأخبره أنه إنما جاء لیقع فی علی ، وذکر له اصطفاءه الجاریة من الخمس لنفسه فقال له عمر: إمض لما جئت له فإنه سیغضب لابنته مما صنع علی! فدخل بریدة علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ومعه کتاب من خالد بما أرسل به بریدة ، فجعل یقرأه ووجه رسول الله یتغیر فقال بریدة: یا رسول الله إنک إن رخصت للناس فی مثل هذا ذهب فیؤهم !

فقال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ویحک یا بریدة أحدثت نفاقاً ؟ إن علی بن أبی طالب یحل له من الفئ ما یحل لی ، إن علی بن أبی طالب خیر الناس لک ولقومک ، وخیر من أخلف بعدی لکافة أمتی! یا بریدة إحذر أن تبغض علیاً فیبغضک الله !

قال بریدة: فتمنیت أن الأرض انشقت لی فسخت فیها ، وقلت: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله . یا رسول الله إستغفر لی ، فلن أبغضن علیاً أبداً

ولا أقول فیه إلا خیراً ، فاستغفر له النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )» .

أقول: نلاحظ أن خالد بن الولید کان مأموراً من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بطاعة علی(علیه السّلام) ، ولکنه لم یطعه ، فترکه علی(علیه السّلام)حتی إذا خشی الضرر من تصرفه أمر خالداً بن سعید أن یمنعه بالقوة من مواصلة مسیره ، فمنعه ! وهذا یثبت شجاعة خالد بن سعید وخوف خالد بن الولید منه ومن علی(علیه السّلام)لأنهما أشجع منه ، مضافاً الی أن مکانتهما فی قریش ومکة أعلی

ص: 56

من مکانته !

وقد یکون علی(علیه السّلام)منعه من التقدم إلی زبید خوفاً من انهزامه أمام عمرو بن معدی کرب ، فتکون هزیمة علی المسلمین ، خاصة وأنه أعد خطة لهزیمة ابن معدیکرب بدون أن یقتله ، فهو یرید أن یستبقیه !

ولا بد أن ابن الجیشین بُهتوا لفزع عمرو من صرخة علی(علیه السّلام)! ویبدو أن تلک الصرخة الحیدریة بأمر النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وفیها سرٌّ من أسراره ! لأنه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لما أنذر عمرواً من فزع الآخرة قال له عمرو:«یامحمد وما الفزع الأکبر فإنی لا أفزع» !

فأراه الله الفزع علی ید علی(علیه السّلام)، وأبقاه حیاً لأنه سینفع فی الفتوحات .

هذا ، ویضرب المثل بسیف عمرو المسمی: الصمصامة ، قال ابن عبد ربه فی العقد الفرید/153: «بعث عمر بن الخطاب إلی عمرو بن معد یکرب أن یبعث إلیه بسیفه المعروف بالصمصامة ، فبعث به إلیه ، فلما ضرب به وجده دون ما کان یبلغه عنه ، فکتب إلیه فی ذلک ، فرد علیه: إنما بعثت إلی أمیر المؤمنین بالسیف ، ولم أبعث بالساعد الذی یضرب به » !

وفی معاهد التنصیص «2/242»: «وعن الشعبی قال جاءت زیادةٌ من عند عمر یوم القادسیة ، فقال عمرو بن معدی کرب لطلیحة: أما تری أن هذه الزعانف تُزاد ولا نُزاد ، إنطلق بنا إلی هذا الرجل حتی نکلمه . فقال: هیهات والله لا ألقاه فی هذا أبداً ، فلقد لقینی فی بعض فجاج مکة فقال: یا طلیحة أقتلت عکاشة (عندما کان متنبئاً) ! فتوعدنی وعیداً ظننت أنه قاتلی ، ولا آمنه .

قال عمرو: ولکننی ألقاه ، قال: أنت وذاک ، فخرج إلی المدینة فقدم علی عمر وهو یغدی الناس وقد جَفَّنَ لعشرة عشرة ، فأقعده عمر مع عشرة ، فأکلوا ونهضوا ، ولم یقم عمرو ، فأقعد معه تکملة عشرة ، حتی أکل مع ثلاثین ، ثم قام فقال: یا أمیر المؤمنین إنه

ص: 57

کانت لی مآکل فی الجاهلیة منعنی منها الإسلام، وقد صررت فی بطنی صرتین ، وترکت بینهما هواء فَسُدَّهُ . فقال: علیک حجارة من حجارة الحرة فسده بها ! یا عمرو ، إنه بلغنی أنک تقول إن لی سیفاً یقال له الصمصامة ، وعندی سیف إسمه المصمم ، وإنی إن وضعته بین أذنیک لم أرفعه حتی یخالط أضراسک» !

أقول: هذه خشونةٌ وقسوةٌ من عمر فی معاملة بطل من أبطال الفتوحات الإسلامیة ، وأی قیمة لألف درهم أو خمسین ألفاً یعطاها عمرو ، وقد زاد من هو دونه. لکن عمر لایحب عمرواً لأنه لا یتملق له ، بل یحسده !

فیما حکم علیهم فقالوا:إن علیاً ظلمنا وأبطل دم صاحبنا ! فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إن علیاً لیس بظلام ولم یُخلق علی للظلم ، وإن الولایة من بعدی لعلی ، والحکم حکمه والقول قوله ، لا یرد حکمه وقوله وولایته إلا کافر، ولا یرضی بحکمه وقوله وولایته إلا مؤمن . فلما سمع الیمانیون قول رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی علی(علیه السّلام)قالوا: یا رسول الله ، رضینا بقول علی وحکمه . فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):هو توبتکم مما قلتم » .

منه ، فضرب علی صدره وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه . قال أمیر المؤمنین(علیه السّلام): فما شککت فی قضاء بین اثنین بعد ذلک المقام » .

وروی فی کنز العمال «13/113» عن الطبری، قال:« أتی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ناس من الیمن فقالوا: إبعث فینا من یفقهنا فی الدین ویعلمنا السنن ویحکم فینا بکتاب الله ، فقال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): إنطلق یا علی إلی أهل الیمن ففقهم فی الدین وعلمهم السنن ، واحکم فیهم بکتاب الله . فقلت: إن أهل الیمن قوم طُغَام یأتونی من القضاء بما لا علم لی به، فضرب النبی صدری ثم قال إذهب فان الله سیهدی قلبک ویثبت لسانک . فما شککت فی قضاء بین اثنین حتی الساعة ».

وقولهم إنه(علیه السّلام)وصف أهل الیمن بالطغام ، أی أوغاد الناس مکذوب علیه .

قال ابن فارس «3/413»: «کلمة ما أحسبها من أصل کلام العرب یقولون لأوغاد الناس: طغام ». بل هی تشبه کلام النجدیین والقرشیین فی ذم الیمنیین ، وقد وردت علی لسان عائشة فی مسند ابن راهویه «3/894» قالت:« لکن قومک أهل الیمن قوم طغام، یصلون الظهر ثم یصلون ما بین الظهر والعصر ویصلون العصر ثم یصلون ما بین الظهر والعصر فضربهم عمر وقد أحسن».

ویؤید قولنا أنه روی فی مصادر کثیرة جداً بدون هذا اللفظ السیئ: ففی سنن النسائی «5/117»: «عن علی رضی الله تعالی عنه قال بعثنی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلی الیمن وأنا شاب ، فقلت: یا رسول الله تبعثنی وأنا شاب إلی قوم ذوی أسنان لأقضی بینهم ، ولا علم لی بالقضاء؟ فوضع یده علی صدری ثم قال: إن الله سیهدی قلبک ویثبت لسانک . یا علی إذا جلس إلیک الخصمان فلا تقض بینهما حتی تسمع من الآخر کما سمعت من الأول ، فإنک إذا فعلت ذلک تبین لک القضاء . قال علی: فما شککت فی قضاء بین اثنین ».ونحوه: ومسند زید/295، وسنن أبی داود:2/160، وأحمد:1/156، و البیهقی:10/86 و140، وخصائص النسائی/69 و71 ، ومسند أبی یعلی:1/323 ، وأوسط الطبرانی:4/ 172.

ص: 60

تغیب عنهم أیاماً فی بیته ، حتی استعدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )غرماؤه ، فأرسل رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الی معاذ یدعوه فجاء ومعه غرماؤه فقالوا: یا رسول الله خُذْ لنا حقنا منه. فقال رسول الله: رحم الله من تصدق علیه ، فتصدق علیه ناس وأبی آخرون وقالوا: یا رسول الله خذ لنا بحقنا منه. قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):إصبر لهم یا معاذ ، قال فخلعه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )من ماله فدفعه إلی غرمائه ، فاقتسموه بینهم فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم ، قالوا: یا رسول الله بعه لنا ! قال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): خلوا علیه فلیس لکم علیه سبیل، فانصرف معاذ إلی بنی سلمة ، فقال له قائل: یا أبا عبد الرحمن لو سألت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقد أصبحت الیوم معدماً ، فقال: ما کنت لأسأله . قال: فمکث أیاماً ثم دعاه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فبعثه إلی الیمن وقال: لعل الله أن یجبرک ویؤدی عنک دینک. قال: فخرج معاذ إلی الیمن ، فلم یزل بها حتی توفی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فوافی السنة التی حج فیها عمر بن الخطاب مکة فاستعلمه أبو بکر علی الحج ، فالتقیا یوم الترویة بها فاعتنقا ، وعزی کل واحد منهما صاحبه برسول الله ، ثم أخلدا إلی الأرض یتحدثان فرأی عمر عند معاذ غلماناً فقال: ما هؤلاء؟ قال أصبتهم فی وجهی هذا. قال عمر: من أی وجه؟قال: أهدوا إلیَّ وأکرمت بهم. فقال عمر: أذکرهم لأبی بکر».

وفی مصنف عبد الرزاق «4/56»: «فجاء معاذ یوم عرفة ومعه وُصَفَاء قد عزلهم ، فلقیهم عمر فقال: ما هؤلاء ؟ فقال: هؤلاء لأبی بکر من الجزیة وهؤلاء أهدوا لی هدیة ، فقال عمر: أطعنی وسلمهم لأبی بکر..».

وفی عمدة القاری للعینی «8/235»: «بعث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )معاذاً وأبا موسی عند انصرافه من تبوک سنة تسع ، وزعم ابن الحذاء أن ذلک کان فی شهر ربیع الآخر سنة عشر ». ومعناه أنه النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أرسله قبل وفاته بأقل من سنة ، ولم یکن فی مهمته قضاء. ثم قال العینی: وبعثه أیضاً قاضیاً وجعل إلیه قبض الصدقات من العمال الذین بالیمن ، وکان رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قد قسم الیمن علی خمسة رجال: خالد بن سعید علی صنعاء ، والمهاجر

ص: 62

بن أبی أمیة علی کندة ، وزیاد بن لبید علی حضرموت ، ومعاذ علی الجَنَد ، وأبی موسی علی زبید وعدن والساحل ».

فالمؤکد أن معاذاً کان جابیاً ، فقد رووا: «أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )حین بعثه إلی الیمن قال: خذ من کل حالم دینار . أخرجه أصحاب السنن ». «فتح الباری:6/185».

وفی البخاری «8 /164»: « فخذ منهم ، وتوقَّ کرائم أموال الناس ».

وقال فی الصحیح من السیرة «26 /310»: «ولهم فی معاذ مبالغات تزید علی مبالغاتهم فی أبی موسی الأشعری . وقد زعموا هنا: أن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قد کتب لمعاذ بن جبل وهو فی الیمن: إنی عرفت بلاءک فی الدین ، والذی ذهب من مالک حتی رکبک الدین ، وقد طیبت لک الهدیة ، فإن أهدی لک شئ فاقبل . وقد زعموا: أن السبب فی هذا السماح هو: أن معاذاً کان رجلاً سمحاً ، فرکبه الدین فلزمه غرماؤه حتی تغیب عنهم أیاماً فی بیته ، فأرسله رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلی الیمن ، وقال له: لعل الله یجبرک ویؤدی عنک .

قال عمر: وکان أول من اتجر فی مال الله هو، فمکث حتی أصاب وحتی قُبض رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). فلما قدم قال عمر لأبی بکر: أرسل إلی هذا الرجل فدع له ما یعیِّشه وخذ سائره منه.. الی آخر ما ذکره ، فراجعه».

فذکروا أنه کان أمیراً علی الجند وهی بلد صغیر ، ولیس علی أحد المخالیف. وقد بالغوا فی مدحه کما تری فی الحاکم:3/ 271:« قال رسول الله: معاذ بن جبل أعلم الأولین والآخرین بعد النبیین والمرسلین ، وإن الله یباهی به الملائکة».«وقال الذهبی «سیره: 1/459» إنه موضوع وضعه عبید !

ومن الموضوعات قولهم إن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال له:«بم تقضی؟قال: بما فی کتاب الله قال: فإن لم تجد . قال: بما فی سنة رسول الله . قال: فإن لم تجد.قال: أجتهد رأیی فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): الحمد لله الَّذی وفق رسول رسول الله لما یحب رسول الله» . «الإستیعاب:3/1403».

ص: 63

ومن الموضوعات أنهم شبهوا ابن جبل بخلیل الله إبراهیم(علیه السّلام)وجعلوه أعلم الصحابة بالحلال والحرام ، وقال فیه عمر عجزت النساء أن یلدن مثل معاذ . وأنه کان شاباً جمیلاً لا یسأل الله شیئاً إلا أعطاه ! «الإصابة:6 /108» .

أقول: توفی معاذ سنة 17 وعمره 33 سنة ، ومعناه أن عمره کان عند هجرة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )14سنة . وعندما أفلس وأراد غرماؤه شراءه بدینهم نحو 21 سنة مثلاً ، وأرسله فی تلک السنة الی الیمن .

أما سبب مبالغة الرواة القرشیین فی مدحه ، بینما لا یمدحون من هو أکبر منه وأعلم ، کأبیّ بن کعب ! فهو أن معاذاً کان فی السقیفة مع الحزب القرشی ضد بنی هاشم وضد قومه الأنصار، وکانت له فعالیات عدیدة لمصلحة خلافة أبی بکر ، ولا یصح قولهم إنه کان فی الیمن . فقد کان أحد الذین هاجموا بیت علی وفاطمة(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهددوهم بإحراق البیت علیهم إن لم یخرجوا ویبایعوا أبا بکر !

وکان من المجموعة الذین أخرجوا أبا بکر الی المسجد ، بعد أن خطب ضده اثنا عشر من المهاجرین والأنصار فی المسجد ، فاعتزل فی بیته ، وقال: أقیلونی فلست بخیرکم وعلی فیکم ، فذهب عمر ومعاذ وجماعة فوبخوه وأخرجوه !

بل ورد عندنا أن معاذاً کان شریکاً مع القرشیین فی الصحیفة التی کتبوها فی حجة الوداع ، أنه إن قتل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أو مات ، لا نرد الأمر فی أهل بیته أبداً !

وأما أبو موسی فکان أمیراً علی عدن وزبید والساحل، وکان مجیؤه مع معاذ الی الیمن بعد فتحها . ولا یتسع المجال لنقد دوره وشخصیته .

هذا ، وقد ذکر الکتانی «1/43» أدواراً لعدد من الصحابة فی الیمن: منهم عمرو بن حزم الخزرجی النجاری ، وذکرأن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )استعمله علی نجران لیفقههم فی الدین ویعلمهم القرآن ویأخذ صدقاتهم وذلک سنة عشر، بعد أن بعث إلیهم أبا عبیدة ،

ص: 64

وخالد بن الولید فأسلموا ، وکتب له کتاباً فی الفرائض والسنن والصدقات والدیات . وهذا أمر عجیب لأن نجران لم تسلم !

ثم ذکر أشخاصاً بعثهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لیفقهوا أهل نجران، مع أنهم لم یسلموا !

ص: 65

قدم وفد تَجیب علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )سنة تسع وهم ثلاثة عشر رجلاً وساقوا معهم صدقات أموالهم التی فرض الله علیهم، فسُرَّ رسول الله بهم وقال: مرحباً بکم ، وأکرم منزلهم وحباهم ، وأمر بلالاً أن یحسن ضیافتهم وجوائزهم ، وأعطاهم أکثر مما کان یجیز به الوفد ، وقال: هل بقی منکم أحد؟ قالوا :غلام خلفناه علی رحالنا وهو أحدثنا سناً ، قال: أرسلوه إلینا ، فأقبل الغلام إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال إنی أمرؤ من بنی أبناء الرهط الذین أتوک آنفاً فقضیت حوائجهم فاقض حاجتی. قال: وما حاجتک؟ قال: تسأل الله أن یغفر لی ویرحمنی ویجعل غنای فی قلبی . فقال: اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه فی قلبه، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه ، فانطلقوا راجعین إلی أهلیهم ، ثم وافوا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی الموسم بمنی ستة عشر فسألهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن الغلام فقالوا: ما رأینا مثله أقنع منه بما رزقه الله . فقال رسول الله (صلّی الله علیه و آله وسلّم ):إنی لأرجو أن نموت جمیعاً..

قدم وفد خولان وهم عشرة نفر فی شعبان سنة عشر ، فقالوا: یا رسول الله نحن مؤمنون بالله ومصدقون برسوله ، ونحن علی من وراءنا من قومنا ، وقد ضربنا إلیک آباط الإبل ، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ما فعل عمُّ أنس ، صنمٌ لهم؟ قالوا: بِشَرٍّ وعَرّ ، أبدلنا الله به ما جئت به ، ولو قد رجعنا إلیه هدمناه . وسألوا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )عن أشیاء من أمر دینهم فجعل یخبرهم بها ، وأمر من یعلمهم القرآن والسنن ، وأنزلوا دار رملة بنت الحارث ، وأمر بضیافة فأجریت علیهم ، ثم جاؤوا بعد أیام یودعونه ، فأمر لهم بجوائز اثنتی عشرة أوقیة ونش ، ورجعوا إلی قومهم فلم یحلوا عقدة حتی هدموا عم أنس ، وحرموا ما حرم علیهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وأحلوا ما أحل لهم .

قدم منهم «صداء» علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )خمسة عشر رجلاً فأسلموا وبایعوا علی من وراءهم من قومهم ، ورجعوا إلی بلادهم ، ففشا فیهم الإسلام ، فوافی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مائة رجل منهم فی حجة الوداع .

قدم فروة بن مسیک المرادی وافداً علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مفارقاً لملوک کندة

ص: 67

ومتابعاً للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فنزل علی سعد بن عبادة ،وکان یتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه ، وأجازه رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )باثنتی عشرة أوقیة ، وحمله علی بعیر نجیب ، وأعطاه حلة من نسج عمان ، واستعمله علی مراد وزبید ومذحج ، وبعث معه خالد بن سعید بن العاص علی الصدقات .

قدم عمر بن معد یکرب الزبیدی فی عشرة نفر من زبید المدینة فقال: مَن سید أهل هذه البحرة من بنی عمرو بن عامر؟ فقیل له: سعد بن عبادة ، فأقبل یقود راحلته حتی أناخ ببابه ، فخرج إلیه سعد فرحب به..

قدم الأشعث بن قیس علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی بضعة عشر راکباً من کندة فدخلوا علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مسجده قد رجَّلوا جُممهم واکتحلوا ، وعلیهم جباب الحبرة قد کفوها بالحریر ، وعلیهم الدیباج ظاهر مخوط بالذهب..

قدم وفدنا «بنو صدف» علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهم بضعة عشر رجلاً علی قلائص لهم فی أزر وأردیة فصادفوا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فیما بین بیته وبین المنبر فجلسوا ولم یسلموا ، فقال: مسلمون أنتم؟ قالوا: نعم . قال: فهلا سلمتم؟ فقاموا قیاماً فقالوا: السلام علیک أیها النبی ورحمة الله ..

قدم أبو ثعلبة الخشنی علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهو یتجهز إلی خیبر ، فأسلم وخرج معه فشهد خیبر ، ثم قدم بعد ذلک سبعة نفر من خشین ، فنزلوا علی أبی ثعلبة فأسلموا وبایعوا ، ورجعوا إلی قومهم .

قدمت علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وافداً فی نفر من قومی «سعد هذیم» فنزلنا ناحیة من المدینة ، ثم خرجنا نؤم المسجد ، فنجدُ رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یصلی علی جنازة فی المسجد ، فانصرف رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فقال: من أنتم؟ قلنا من بنی سعد هذیم ، فأسلمنا وبایعنا ثم انصرفنا إلی رحالنا ، فأمر بنا فأنزلنا وضیفنا فأقمنا ثلاثاً ثم جئناه نودعه ، فقال: أمروا علیکم أحدکم ، وأمَّر بلالاً، فأجازنا بأواق من فضة ورجعنا إلی قومنا ، فرزقهم الله الإسلام.

ص: 68

قدم وفد قومی «بلی» فی شهر ربیع الأول سنة تسع فأنزلتهم فی منزلی ببنی جدیلة ، حتی انتهینا إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهو جالس مع أصحابه فی

بیته فی الغداة ، فقدم شیخ الوفد أبو الضباب فجلس بین یدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فتکلم وأسلم القوم ..

قدم وفد بهراء من الیمن وهم ثلاثة عشر رجلاً، فأقبلوا یقودون رواحلهم حتی انتهوا إلی باب المقداد بن عمرو ببنی جدیلة ، فخرج إلیهم المقداد فرحب بهم وأنزلهم فی منزل من الدار ، وأتوا النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فأسلموا وتعلموا الفرائض ..

وقدم وفد بنی عذرة فی صفر سنة تسع ، اثنا عشر رجلاً فیهم حمزة بن النعمان العذری ، وسلیم وسعد ابنا مالک ، ومالک بن أبی ریاح ، فنزلوا دار رملة بنت الحارث النجاریة ، ثم جاؤوا إلی النبی فسلموا بسلام أهل الجاهلیة وقالوا: نحن إخوة قصی لأمه ، ونحن الذین أزاحوا خزاعة وبنی بکر عن مکة ، ولنا قرابات وأرحام ، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): مرحباً بکم وأهلاً ، ما أعرفنی بکم ، ما منعکم من تحیة الإسلام ؟ قالوا قدمنا مرتادین لقومنا ، وأسلموا .

قدمنا وفد سلامان علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ونحن سبعة فقال: وعلیکم مَن أنتم؟ قلنا نحن من سلامان قدمنا لنبایعک علی الإسلام ، ونحن علی من وراءنا من قومنا . فالتفت إلی ثوبان غلامه فقال: أنزل هؤلاء الوفد حیث ینزل الوفد . وأسلمنا ، وأعطی کل رجل منا خمس أواق ..

وفد إلیه عبد العزی بن بدر بن زید بن معاویة الجهنی ، من بنی الربعة بن رشدان بن قیس بن جهینة ، ومعه أخوه لأمه أبو روعة ، وهو ابن عم له فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): من أنتم؟قالوا: بنو غَیَّان.قال: أنتم بنو رشدان..

قال عمرو بن مرة الجهنی: کان لنا صنم وکنا نعظمه وکنت سادنه ، فلما سمعت بالنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کسرته وخرجت حتی أقدم المدینة ، علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فأسلمت وشهدت شهادة الحق وآمنت ، بما جاء به من حلال وحرام..

ص: 69

قال عبد عمرو بن جبلة: بن وائل بن الجلاح الکلبی: شخصت أنا وعاصم من بنی رقاش من بنی عامر ف أتینا النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فعرض علینا الإسلام فأسلمنا.

کان أهل جرش بعثوا إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )رجلین یرتادان وینظران فأخبرهما رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بملتقاهم وظفر صرد بهم ، فقدم رجلان علی قومهما فقصا علیهم القصة ، فخرج وفدهم حتی قدموا علی رسول الله فأسلموا ، فقال: مرحباً بکم ، أحسن الناس وجوهاً وأصدقه لقاء وأطیبه کلاماً وأعظمه أمانة . أنتم منی وأنا منکم ، وجعل شعارهم مبروراً ، وحمی لهم حمی حول قریتهم ، علی أعلام معلومة .

قدم وفد همدان علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیهم مقطعات الحبرة ، مکففة بالدیباج ، وفیهم حمزة بن مالک من ذی مشعار ، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): نعم الحی همدان ، ما أسرعها إلی النصر ، وأصبرها علی الجهد ، ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام ، فأسلموا وکتب لهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کتاباً بمخلاف خارف ویام وشاکر وأهل الهضب وحقاف الرمل ، من همدان لمن أسلم.

قدم وفد غامد علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی شهر رمضان ، وهم عشرة فنزلوا ببقیع الغرقد ، ثم لبسوا من صالح ثیابهم ، ثم انطلقوا إلی رسول الله فسلموا علیه وأقروا بالإسلام وکتب لهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کتاباً فیه شرائع الإسلام ، وأتوا أبی بن کعب فعلمهم قرآناً ، وأجازهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کما یجیز الوفد .

بعث النخع رجلین منهم إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وافدین بإسلامهم: أرطاة بن شراحیل بن کعب من بنی حارثة بن سعد بن مالک بن النخع ، والجهیش ، واسمه الأرقم من بنی بکر بن عوف بن النخع ، فخرجا حتی قدما علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فعرض علیهما الإسلام فقبلاه ، فبایعاه علی قومهما فأعجب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )شأنهما وحسن هیئتهما فقال: هل وراءکما من قومکما مثلکما ؟ قالا:یا رسول الله قد خلفنا من قومنا سبعین رجلاً کلهم أفضل منا ، وکلهم یقطع الأمر وینفذ الأشیاء ما یشارکوننا فی الأمر إذا کان ، فدعا لهما

ص: 70

رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ولقومهما بخیر وقال: اللهم بارک فی النخع . وعقد لأرطاة لواء علی قومه ، فکان فی یدیه یوم الفتح .

وکان آخر من قدم من الوفد علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وفد النخع،وقدموا من الیمن للنصف من المحرم سنة إحدی عشرة ، وهم مائتا رجل ، فنزلوا دار رملة بنت الحارث ، ثم جاؤوا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مقرین بالإسلام .

وقدم الأشعرون علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وهم خمسون رجلاً ، فیهم أبو موسی الأشعری وإخوة لهم ، ومعهم رجلان من عک ، وقدموا فی سفن فی البحر وخرجوا بجدة ، فلما دنوا من المدینة جعلوا یقولون: غداً نلقی الأحبة محمداً وحزبه ، ثم قدموا فوجدوا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی سفره بخیبر ثم لقوا رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فبایعوا وأسلموا ، فقال رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): الأشعرون فی الناس کصُرَّةٍ فیها مِسْک .

وقدم وفد حضرموت مع وفد کندة علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وهم بنو ولیعة ملوک حضرموت: حمدة ، ومخوس ، ومشرح ، وأبضعة ، فأسلموا ، وقال مخوس: یا رسول الله أدع أن یذهب عنی هذه الرتة من لسانی ، فدعا له وأطعمه طُعمة من صدقة حضرموت .

حدثنی عمرو بن مهاجر الکندی قال: کانت امرأة من حضرموت ثم من تنعة ، یقال لها تهناةٌ بنت کلیب صنعت لرسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کسوة ، ثم دعت ابنها کلیب بن أسد بن کلیب فقالت: إنطلق بهذه الکسوة إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فأتاه بها وأسلم ، فدعا له فقال رجل من ولده یعرض بناس من قومه:

لقد مسح الرسول أبا أبینا

ولم یمسح وجوه بنی بحیر..

أسلم أهل عُمان فبعث إلیهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )العلاء بن الحضرمی لیعلمهم شرائع الإسلام ، ویصدق أموالهم ، فخرج وفدهم إلی رسول الله فیهم أسد بن یبرح الطاحی ، وسألوه أن یبعث معهم رجلاً یقیم أمرهم..

ص: 71

قدم جلیحة بن شجار بن صحار الغافقی علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی رجال من قومه فقالوا: یا رسول الله نحن الکواهل من قومنا ، وقد أسلمنا وصدقاتنا محبوسة بأفنیتنا ، فقال: لکم ما للمسلمین وعلیکم ما علیهم. فقال عوز بن سریر الغافقی: آمنا بالله ، واتبعنا الرسول .

وقدم وفد بارق علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فدعاهم إلی الإسلام فأسلموا وبایعوا وکتب لهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): هذا کتاب من محمد رسول الله لبارق: لا تُجَزُّ ثمارهم ، ولا تُرعی بلادهم فی مربع ولا مصیف إلا بمسألة من بارق . ومن مرَّ بهم من المسلمین فی عَرک أو جدب ، فله ضیافة ثلاثة أیام ، وإذا أینعت ثمارهم فلابن السبیل اللقاط یوسع بطنه ، من غیر أن یقتشم . شهد أبو عبیدة بن الجراح وحذیفة بن الیمان . وکتب أبی بن کعب. ویقتشم: ینتقی الجید ویرمی الردی .

قدم وفد مَهْرة علیهم مهری بن الأبیض ، فعرض علیهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

الإسلام فأسلموا ووصلهم ، وکتب لهم هذا کتاب من محمد رسول الله لمهری بن الأبیض علی من آمن به من مهرة: ألا یُؤکلوا ولا یُعرکوا وعلیهم إقامة شرائع الإسلام ، فمن بدل فقد حارب ، ومن آمن به فله ذمة الله وذمة رسوله . اللقطة مؤداة ، والسارحة منداة ، والتفث السیئة والرفث الفسوق ، وکتب محمد بن مسلمة الأنصاری .

لا یؤکلوا: لا یغار علیهم . یعرکوا : یؤکل نباتهم . السارحة منداة : الماشیة تشرب قلیلاً .

قدم علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )مالک بن مرارة الرهاوی ، رسول ملوک حمیر بکتابهم وإسلامهم ، وذلک فی شهر رمضان سنة تسع ، فأمر بلالاً أن ینزله ویکرمه ویضیفه ، وکتب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلی الحارث بن عبد کلال وإلی نعیم بن عبد کلال ، وإلی النعمان قیل ذی رعین ومعافر وهمدان:

ص: 72

فإنی أحمد الله الذی لا إله إلا هو . أما بعد ، فإنه قد وقع بنا رسولکم مَقْفَلَنا من أرض الروم ، فبلغ ما أرسلتم ، وخبَّر عما قبلکم وأنبأنا بإسلامکم وقتلکم المشرکین ، فإن الله تبارک وتعالی قد هداکم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله ، وأقمتم الصلاة ، وآتیتم الزکاة ، وأعطیتم من المغنم خمس الله وخمس نبیه وصفیه .

ص: 73

من النبوة ، فما یؤمنک أن یکون هذا الرجل ، ولیس لی فی النبوة رأی ، ولو کان أمر من أمور الدنیا أشرت علیک فیه ، وجهدت لک . فبعث الأسقف إلی کل واحد واحد من أهل نجران ، فتشاوروا، وکثر اللغط وطال الحوار والجدال ، فاجتمع رأیهم علی أن یبعثوا وفداً یأتی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) فیرجع بخبره . فوفدوا إلیه فی ستین راکباً ، وفیهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوی الرأی والحجی منهم ، وثلاثة یتولون أمرهم: العاقب واسمه عبد المسیح أمیر الوفد وصاحب مشورتهم الذی لایصدرون إلا عن رأیه ، والسید واسمه الأیْهم وهو ثمالهم وصاحب رحلهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأول وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم ، وهو الأسقف الأعظم ، قد شرفه ملک الروم ومولوه وبنوا له الکنائس وبسطوا له الکرامات ، لما بلغهم من علمه واجتهاده فی دینه .

فلما توجهوا إلی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )جلس أبو حارثة علی بغلة وإلی جنبه أخ له یقال له کرز إذ عثرت بغلته ، قال: تعس الأبعد ، یرید محمداً(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست ! فقال له: ولم یا أخ ؟

فقال: والله إنه النبی الذی کنا ننتظره ! فقال کرز: فما یمنعک وأنت تعلم هذا أن تتبعه؟ فقال:ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأکرمونا ، وقد أبوا إلا خلافه ، ولو فعلت نزعوا کل ما تری ! فأضمر علیه منه أخوه کرز حتی أسلم بعد ذلک ، وکان کرز یرتجز ویقول:

إلیک یغدو قلقاً وضینها

معترضاً فی بطنها جنینها

رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فسلموا علیه ، فلم یرد علیهم السلام ولم یکلمهم ، فانطلقوا یبتغون عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وکانا لهم معرفة بهم ، فوجدوهما فی مجلس من المهاجرین فقالوا: إن نبیکم کتب إلینا بکتاب فأقبلنا مجیبین له ، فأتیناه وسلمنا علیه فلم یرد سلامنا ولم یکلمنا ، فما الرأی؟ فقالا لعلی بن أبی طالب: ما تری یا أبا الحسن فی هؤلاء القوم ؟ قال:أری أن یضعوا حللهم هذه وخواتیمهم ثم یعودوا ، ففعلوا ذلک فسلموا علیه فرد علیهم سلامهم ، ثم قال: والذی بعثنی بالحق لقد أتونی المرة الأولی وإن إبلیس لمعهم . وکانوا قد أتوا بهدیة معهم وهی بُسط فیها تماثیل ومسوح ، فصار الناس ینظرون للتماثیل فقال(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):أما هذه البسط فلا حاجة لی فیها ، وأما هذه المسوح فإن تعطونیها آخذها ، فقالوا: نعم نعطیکها ، ولما رأی فقراء المسلمین ما علیه هؤلاء من الزینة والزی الحسن تشوقت نفوسهم ، فأنزل الله تعالی:قُلْ أَؤُنَبِّئُکُمْ بِخَیْرٍ مِنْ ذَلِکُمْ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ .. ثم أرادوا أن یصلوا بالمسجد بعد أن حان وقت صلاتهم وذلک بعد العصر ، فأراد الناس منعهم فقال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): دعوهم ، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم ، فلما قضوا صلاتهم ناظروه ، فعرض رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیهم الإسلام فامتنعوا ، فکثر الکلام وطال الحوار والجدال وجعل رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یتلو علیهم الآیات ، إلی أن نزل قوله تعالی: فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَی الْکَاذِبِینَ . فرضوا بالمباهلة » . «مکاتیب الرسول(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):2/489 ، و 494 ملخصاً».

وفی الإختصاص/112:« فلما قدموا المدینة قال من رآهم من أصحاب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): ما رأینا وفداً من وفود العرب کانوا أجمل منهم ، لهم شعور وعلیهم ثیاب الحبر ..فلما قضوا صلاتهم جلسوا إلیه وناظروه ، فقالوا: یا أبا القاسم حاجنا فی عیسی، قال:هو عبد الله ورسوله وکلمته ألقاها إلی مریم وروح منه ، فقال أحدهما: بل هو ولده وثانی اثنین ، وقال آخر: بل هو ثالث ثلاثة: أب وابن وروح القدس ، وقد

ص: 76

سمعناه فی قرآن نزل علیک یقول: فعلنا وجعلنا وخلقنا ، ولو کان واحداً لقال: خلقت وجعلت وفعلت ، فتغشی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) الوحی فنزل علیه صدر سورة آل عمران إلی قوله رأس الستین منها: فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ... إلی آخر الآیة . فقص علیهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )القصة ، وتلا علیهم القرآن ، فقال بعضهم لبعض: قد والله أتاکم بالفصل من خبر صاحبکم . فقال لهم رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):إن الله عز وجل قد أمرنی بمباهلتکم ، فقالوا: إذا کان غداً باهلناک .

فقال القوم بعضهم لبعض:حتی ننظر بما یباهلنا غداً بکثرة أتباعه من أوباش الناس، أم بأهله من أهل الصفوة ، فإنهم وشیج الأنبیاء وموضع نهلهم ! فلما کان من غد غدا النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بیمینه علی وبیساره الحسن والحسین ومن ورائهم فاطمة صلی الله علیهم ، علیهم النمار النجرانیة ، وعلی کتف رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) کساء قطوانی رقیق خشن لیس بکثیف ولا لین ، فأمر بشجرتین فکسح ما بینهما ونشر الکساء علیهما ، وأدخلهم تحت الکساء ، وأدخل منکبه الأیسر معهم تحت الکساء معتمداً علی قوسه النبع ، ورفع یده الیمنی إلی السماء للمباهلة واشرأب الناس ینظرون ، واصفرَّ لون السید والعاقب ، وکرَّا حتی کاد أن یطیش عقولهما ، فقال أحدهما لصاحبه: أنباهله ؟ قال: أوَما علمت أنه ما باهل قوم قط نبیاً فنشأ صغیرهم أو بقی کبیرهم؟! ولکن أره أنک غیر مکترث وأعطه من المال والسلاح ما أراد ، فإن الرجل محارب ، وقل له: أبهؤلاء تباهلنا لئلا یری أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بیته ، فلما رفع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یده إلی السماء للمباهلة ، قال أحدهما لصاحبه:وأی رهبانیة ؟! دارکِ الرجلَ فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلی أهل ولا مال ! فقالا: یا أبا القاسم أبهؤلاء تباهلنا ؟ قال:نعم ، هؤلاء أوجه من علی وجه الأرض بعدی إلی الله عز وجل وجهة ، وأقربهم إلیه وسیلة ! قال:فبصبصا ، یعنی ارتعدا وکرَّا وقالا له: یا أبا القاسم نعطیک ألف سیف ، وألف درع ، وألف حجفة ، وألف دینار کل عام ، علی أن الدرع والسیف والحجفة عندک إعارة ، حتی یأتی من وراءنا من قومنا فنعلمهم بالذی

ص: 77

رأینا وشاهدنا ، فیکون الأمر علی ملأ منهم ، فإما الإسلام وإما الجزیة وإما المقاطعة فی کل عام .

فقال النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ):قد قبلت ذلک منکما . أما والذی بعثنی بالکرامة لو باهلتمونی بمن تحت الکساء لأضرم الله عز وجل علیکم الوادی ناراً تأجج ، حتی یساقها إلی من وراءکم فی أسرع من طرفة العین » .

وفی الإرشاد «1/168»: «فقال الأسقف: یا أبا القاسم إنا لا نباهلک ولکنا نصالحک ، فصالحنا علی ما ننهض به. فصالحهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علی ألفی حلة من حلل الأواقی ، قیمة کل حلة أربعون درهماً جیاداً ، فما زاد أو نقص کان بحساب ذلک ، وکتب لهم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )کتاباً بما صالحهم علیه وکان الکتاب: بسم الله الرحمن الرحیم هذا کتاب من محمد النبی رسول الله لنجران وحاشیتها فی کل صفراء وبیضاء وثمرة ورقیق ، لا یؤخذ منهم شئ غیر ألفی حلة من حلل الأواقی ثمن کل حلة أربعون درهماً ، فما زاد أو نقص فبحساب ذلک ، یؤدون ألفاً منها فی صفر، وألفاً منها فی رجب ، وعلیهم أربعون دیناراً مثواة رسولی فما فوق ذلک ، وعلیهم فی کل حدث یکون بالیمن من کل ذی عدن ، عاریة مضمونة ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً مضمونة ، لهم بذلک جوار الله وذمة محمد بن عبد الله ، فمن أکل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتی منه بریئة ».

وفی مکاتیب الرسول «3/152»: « کتابه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )لأهل نجران: بسم الله الرحمن الرحیم: هذا ما کتب النبی رسول الله محمد لنجران ، إذ کان له علیهم حکمه فی کل ثمرة وصفراء وبیضاء وسوداء ورقیق ، فأفضل علیهم وترک ذلک: ألفی حلة حلل الأواقی ، فی کل رجب ألف حلة ، وفی کل صفر ألف حلة ، کل حلة أوقیة ، وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقی فبالحساب ، وما قصوا من درع أو خیل أو رکاب أو عرض أخذ منهم بالحساب . وعلی نجران مثواة رسلی شهراً فدونه ، ولا یحبس رسلی فوق شهر، وعلیهم عاریة ثلاثین درعاً ،وثلاثین فرساً وثلاثین بعیراً ، إذا کان کید بالیمن ذو مغدرة ،

ص: 78

وما هلک مما أعاروا رسلی من خیل أو رکاب فهم ضُمَّنٌ یردوه إلیهم ، ولنجران وحاشیتها جوار الله وذمة محمد النبی رسول الله ، علی أنفسهم وملتهم ، وأرضهم وأموالهم ، وبِیَعهم ، ورهبانیتهم ،وأساقفتهم ، وغائبهم وشاهدهم ، وکلما تحت أیدیهم من قلیل أو کثیر ، وعیرهم وبعثهم وأمثلتهم، لایُغَیَّر ما کانوا علیه ، ولا یغیر حق من حقوقهم وأمثلتهم » .

ص: 79

ومن عجیب بطولاته(رحمه الله)أنه طلب من معاویة أن یبرز إلیه فخاف: «دعا معاویة جندب بن ربیعة ، وکان خطب إلی معاویة ابنته فرده ، فقال له عمرو بن العاص: إن قتلت الأشتر زوجک معاویة ابنته رملة ! فبرز إلیه جندب فقال له الأشتر: من أنت وکم ضمن لک معاویة علی مبارزتی؟ قال: یزوجنی ابنته بقتلک ،فأنا الآن آتیه برأسک فضحک الأشتر ! وحمل علیه جندب برمحه فأخذه الأشتر تحت إبطه ، فجعل جندب یجتهد فی جذبه فلم یمکنه ، حتی ضرب الأشتر رمحه فقده نصفین! وهرب جندب فضربه الأشتر بسیفه فصرعه! ثم حمل الأشتر فضاربهم حتی أزال عمرو بن العاص عن موقفه وانکشف أهل الشام. وأفضی الأشتر إلی معاویة فخرج رجل من بنی جمع فضارب عن معاویة حتی أنقذه ، وکاد الأشتر یصل إلیه وحجز بینهم اللیل » . « المناقب للخوارزمی/232 » .

وبکی مالک یوماً عند علی(علیه السّلام)فقال له: ما یبکیک لا أبکی الله عینک؟ فقال: أبکی یا أمیر المؤمنین لأنی أری الناس یقتلون بین یدیک وأنا لا أرزق الشهادة !! فقال(علیه السّلام): أبشر بالخیر یا مالک . « الفتوح: 3 / 179 » .

لکن رغم کل هذه الفضائل والإنجازات ، فإن رواة الخلافة لا یحبون مالک الأشتر ، ولهذا حذفوا اسمه من وفد النخع علی النبی (صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وعدُّوه فی التابعین لا فی الصحابة . «أسد الغابة:1/61» .

وقد ألَّف بعض العلماء رسالة فی إثبات صحبته للنبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).« الذریعة:7 /37». ویدل علیه جوابه لبطل الروم: «فقال له ماهان: أنت صاحب خالد؟ قال:لا أنا مالک النخعی صاحب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )! «الواقدی:2/224 وابن الأعثم:1/ 208».

« وعده ابن شهرآشوب فی المناقب من وجوه الصحابة».«لسید الخوئی:15/167».

ودبَّر معاویة قتل مالک الأشتر علی أبواب القاهرة ، وزوَّر علی أهل الشام فقال لهم

ص: 81

« تاریخ دمشق:56/376»: « یا أهل الشام إنکم منصورون ومستجاب لکم الدعاء ، فادعوا الله علی عدوکم ! فرفع أهل الشام أیدیهم یدعون علیه، فلما کانت الجمعة الأخری خطب فقال: یا أهل الشام إن الله قد استجاب لکم وقتل عدوکم ! وإن لله جنوداً فی العسل ، فرفع أهل الشام أیدیهم حامدین الله علی کفایتهم إیاه » .

وقال ابن أبی الحدید «شرح النهج:15/99»: «روی المحدثون حدیثاً یدل علی فضیلة عظیمة للأشتر(رحمه الله)وهی شهادة قاطعة من النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بأنه مؤمن ، روی هذا الحدیث أبو عمر بن عبد البر فی کتاب الإستیعاب

فی حرف الجیم فی باب جندب ، قال أبو عمر: لما حضرت أبا ذر الوفاة وهو بالربذة بکت زوجته أم ذر فقال لها: ما یبکیک؟ فقالت: ما لی لا أبکی وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولیس عندی ثوب یسعک کفناً ولا بد لی من القیام بجهازک! فقال: أبشری ولا تبکی فإنی سمعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) یقول: لایموت بین امرأین مسلمین ولدان أو ثلاثة ، فیصبران ویحتسبان فیریان النار أبداً، وقد مات لنا ثلاثة من الولد . وسمعت أیضاً رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول لنفر أنا فیهم: لیموتن أحدکم بفلاة من الأرض یشهده عصابة من المؤمنین ، ولیس من أولئک النفر أحد إلا وقد مات فی قریة وجماعه فأنا لا أشک ذلک الرجل ، والله ما کذبت ولا کذبت ، فانظری الطریق . قالت أم ذر: فقلت أنی وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق! فقال: إذهبی فتبصری. قالت: فکنت أشتد إلی الکثیب فأصعد فأنظر، ثم أرجع إلیه فأمرضه ، فبینا أنا وهو علی هذه الحال إذ أنا برجال علی رکابهم کأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم ، فأسرعوا إلیَّ حتی وقفوا علیَّ وقالوا: یا أمة الله ما لک؟ فقلت: امرؤ من المسلمین یموت تکفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذر ، قالوا: صاحب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )؟ قلت: نعم ، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم ، وأسرعوا إلیه حتی دخلوا علیه فقال لهم: أبشروا فإنی سمعت رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول لنفر أنا فیهم: لیموتن رجل منکم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنین ، ولیس من

ص: 82

أولئک النفر إلا وقد هلک فی قریة وجماعة ، والله ما کذبت ولا کذبت ، ولو کان عندی ثوب یسعنی کفناً لی أو لامرأتی لم أکفن إلا فی ثوب لی أو لها ، وإنی أنشدکم الله ألا یکفننی رجل منکم کان أمیراً أو عریفاً أو بریداً أو نقیباً !

قالت: ولیس فی أولئک النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال ، إلا فتی من الأنصار قال له: أنا أکفنک یا عم فی ردائی هذا ، وفی ثوبین معی فی عیبتی من غزل أمی ، فقال أبو ذر: أنت تکفننی ، فمات فکفنه الأنصاری وغسله النفر الذین حضروه وقاموا علیه ودفنوه ، فی نفر کلهم یمان » . هذا ، وستأتی بقیة أخبار مالک الأشتر رضی الله عنه .

عشرة من المشرکین إخوة فقتلهم واحداً بعد واحد ، حتی کان العاشر فحمل علیه وهو یدعوه إلی الإسلام ، وهو یقول: اللهم اشهد علیه . فقال الرجل: اللهم لا تشهد علیَّ ، فکف عنه أبو عامر ظناً منه أنه أسلم فقتله العاشر، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فکان النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یسمیه شهید أبی عامر ».

وقال ابن حجر فی الإصابة «7/210»: « فرُمِیَ أبو عامر فی رکبته ، رماه رجل من بنی جشم بسهم ، فأشار فقال إن ذاک قاتلی . قال فقصدت له فلحقته ، فلما رآنی ولی فقلت: ألا تستحی ألا تثبت فالتقیت أنا وهو فقتلته ، ثم رجعت إلی أبی عامر فقلت قد قتل الله صاحبک ، قال فانزع هذا السهم فنزعته فنزی منه الماء ، فقال: یا بن أخی إنطلق إلی رسول الله فأقرئه منی السلام ، وقل له یقول لک إستغفر لی ».

أقول: أبو عامر صحابی جلیل توفق للشهادة بین یدی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وقد دعا له بهذا الدعاء العظیم: اللهم أعط عبیدک عبیداً أبا عامر ، واجعله فی الأکبرین یوم القیامة . بینما ذم النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وعلی(علیه السّلام)ابن أخیه أبا موسی !

هذا ، وتدل شهادة أبی عامر فی حنین فی السنة الثامنة أن الإسلام دخل الیمن قبلها ، وربما فی السنة السادسة ، أما مشارکة الأشتر فی فتح الیمن مع علی(علیه السّلام) فهی فی الثامنة أو العاشرة ، وقد یکون إسلام أبی عامر قبله ، رضی الله عنهما .

هذا ، ولا یصح قول ابن قتیبة إن أبا عامر هاجر إلی الحبشة ، لأنه أشعری لا یحتاج الی الهجرة ، فقبیلته فی الیمن تحمیه وهو من رؤسائها. فالمرجح أن یکون

وفد الی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی السفینة مع المهاجرین العائدین من الحبشة فی السنة السابعة للهجرة ، فتصور البعض أنهم منهم،کما وقع فی أبی موسی الأشعری.

هذا ، وتقدم مدح النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )للأشعریین بقوله:الأشعرون فی الناس کصرة فیها مسک. وورد وصف حجهم فی لامیة أبی طالب ، بقوله رضی الله عنه:

ص: 84

وَأَحْضَرْت عِنْدَ البَیْتِ رَهْطِی وَإِخْوَتِی

وَأَمْسَکْت مِنْ أَثْوَابِهِ بِالوَصَائِلِ

قِیَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِینَ رِتَاجَهُ

لَدَی حَیْثُ یَقْضِی حَلْفَهُ کُلّ نَافِلِ

وَحَیْثُ یُنِیخُ الأَشْعَرُونَ رِکَابَهُمْ

بِمُفْضَی السّیُولِ مِنْ إسَافَ وَنَائِلِ

مُوَسّمَةُ الأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتِهَا

مُخَیّسَةٌ بَیْنَ السّدِیسِ وَبَازِلِ

تَرَی الوَدْعَ فِیهَا وَالرّخَامَ وَزَبْنَةً

بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً کَالعَثَاکِلِ

أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ کُلّ طَاعِنٍ

عَلَیْنَا بِسُوءِ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ

وفی تاریخ الطبری «3/76»: « عن عبد الرحمن بن الأسود النخعی ، عن أبیه قال : شهدت القادسیة فلقد رأیت غلاماً منا من النخع یسوق ستین أو ثمانین رجلاً من أبناء الأحرار ، فقلت: لقد أذلَّ الله أبناء الأحرار » !

وفی المنتظم لابن الجوزی «4/174»: « لما اجتمع الناس بالقادسیة دعت خنساء بنت عمرو النخعیة بنیها الأربعة فقالت: یا بنیَّ ، إنکم أسلمتم طائعین وهاجرتم ، والله ما نبَتْ بکم الدار ولا أقحمتکم السنة ، ولا أرداکم الطمع . والله الَّذی لا إله إلا هو إنکم لبنو رجل واحد ، کما أنکم بنو امرأة واحدة ، ما خنتُ أباکم ولا فضحت خالکم ، ولا عَمَوْتُ نسبکم ، ولا أوطأت حریمکم ولا أبحت حماکم . فإذا کان غداً إن شاء الله فاغدوا لقتال عدوکم مستنصرین الله مستبصرین. فإذا رأیتم الحرب قد أبدت ساقها وقد ضربت رواقها، فتیمموا وطیسها وجالدوا خمیسها ، تظفروا بالمغنم والسلامة ، والفوز والکرامة ، فی دار الخلد والمقامة » .

وفی نفس الوقت الذی کان النخعیون یسجلون بطولات فی القادسیة کان نخبة منهم مع الأشتر فی الیرموک یکتبون النصر للمسلمین، فقد طارد الروم فی جبال ترکیا بعد المعرکة ، ومعه فرسان من قومه النخعیین! «الکلاعی: 3 /273».

وقال ابن الأعثم فی الفتوح «1/172»: « ثم دعا [هرقل] بوزیره الأعظم واسمه ماهان فتوَّجه بتاج ، ووصله بمائة ألف درهم ، وضم إلیه مائة ألف من خواص جیشه ، ومن الذین یعتمد علیهم ، ثم قال له: إعلم یا ماهان أنی اخترتک مقدماً علی جمیع أهل دین النصرانیة ، فاعمل بما أوصیک به فی حق أجنادک ، وعلیک بالعدل فیهم والإشفاق علیهم.. قال: فلما سمع ماهان وصیة هرقل خرج من بین یدیه ، واستعرض الجیش الذی قدمه هرقل علیه ، وعسکر بهم ظاهر مدینة أنطاکیة لتکامل عدتهم ، فکان عدة القوم مائة ألف من النصرانیة ».

وقال الواقدی فی «1/163»: «فلما سمع أبو عبیدة ذلک عظم علیه وکبر لدیه وقال: لاحول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم ، وبات قلقاً لم تغمض له عین خوفاً علی المسلمین.. قال عطیة بن عامر: فوالله ما شبهت عساکر الیرموک إلا کالجراد المنتشر إذْ سدَّ بکثرته الوادی! قال: ونظرت إلی المسلمین قد ظهر منهم القلق وهم لا یفترون عن قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلی العظیم ، وأبو عبیدة یقول: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَیْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَی الْقَوْمِ الْکَافِرِینَ » .

وحشد الروم مئة وعشرین ألف مقاتل ، وکان المسلمون أربعة وعشرین ألفاً. «تاریخ دمشق : 2/143». وقال الکلاعی الأندلسی «3/279»: « وقد استمدوا أبا بکر وأعلموه الشأن فی صفر من سنة ثلاث عشرة » .

قال الواقدی «1/68»: « فما لبثوا حتی أقبل مالک بن الأشتر النخعی.. وقد عزم علی الخروج مع الناس إلی الشام.. واجتمع بالمدینة نحو تسعة آلاف ، فلما تم أمرهم کتب أبو بکر کتاباً إلی خالد بن الولید... وقد تقدم إلیک أبطال الیمن وأبطال مکة، ویکفیک ابن معد یکرب الزبیدی ، ومالک بن الحارث »!

ثم توفی أبو بکر واستمرتحشید الروم فکتب أبو عبیدة إلی عمر یستنجده: قال الواقدی فی فتوح الشام «1/177»: « فاسترجع عمر وقال:لا حول ولا قوة إلا بالله العلی

ص: 87

العظیم ، ثم قرأ عمر: یُرِیدُونَ لِیُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ کَرِهَ الْکَافِرُونَ . ثم قال: ما تشیرون به علیَّ رحمکم الله تعالی؟ فقال له علی بن أبی طالب: أبشروا رحمکم الله تعالی ، فإن هذه الوقعة یکون فیها آیة من آیات الله تعالی، یختبر بها عباده المؤمنین لینظر أفعالهم وصبرهم، فمن صبر

واحتسب کان عند الله من الصابرین. واعلموا أن هذه الوقعة هی التی ذکرها لی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )التی یبقی ذکرها إلی الأبد! هذه الدائرة المهلکة . فقال العباس: علی مَن هی یا ابن أخی؟ فقال: یا عماه علی من کفر بالله واتخذ معه ولداً ، فثقوا بنصر الله عز وجل . ثم قال لعمر: یا أمیر المؤمنین ، أکتب إلی عاملک أبی عبیدة کتاباً وأعلمه فیه أن نصر الله خیر له من غوثنا ونجدتنا ».

وإخبار علی(علیه السّلام)بوعد النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ): بأنه سیکون فیها آیة لله تعالی، یقصد

بها مالک الأشتر رضی الله عنه ، حیث قتل ماهان القائد العام لجیوش هرقل ، وعشرة من قادتهم فی مطلع المعرکة ، فهز أرکانهم وألقی الرعب فی قلوبهم !

قال الکلاعی فی الإکتفاء «3/273» عن مالک: « کان من جُلَدَاء الرجال وأشدائهم ، وأهل القوة والنجدة منهم ، وإنه قتل یوم الیرموک قبل أن ینهزموا أحد عشر رجلاً من بطارقتهم ، وقتل منهم ثلاثة مبارزة » ! وقال ابن عساکر «56/379»: «وکان الأشتر الأحسن فی الیرموک ! قالوا لقد قتل ثلاثة عشر».

وقال الواقدی «1/224» یصف نصیحة البطارکة لبطلهم ماهان أن لا یبرز:

«أیها الملک لا تخرج إلی الحرب حتی نخرج نحن إلی القتال قبلک ، فحلف ماهان بالکنائس الأربع لایبرز أحد قبله.. وقُدِّم لماهان عُدَّتُه فأفرغت علیه . قال الواقدی: بلغنا أن عدته التی خرج بها إلی الحرب تقومت بستین ألف دینار ، لأن جمیعها کان مرصعاً بالجوهر...

وخرج ماهان إلی القتال وهو کأنه جبل ذهب یبرق ، وأقبل حتی وقف بین الصفین

ص: 88

ودعا إلی البراز وخوَّف باسمه ، فکان أول من عرفه خالد بن الولید فقال: هذا ماهان هذا صاحب القوم قد خرج..وماهان یرعِّبُ باسمه ، فخرج إلیه غلام من الأوس وقال: والله أنا مشتاق إلی الجنة ، وحمل ماهان وبیده عمود من ذهب کان تحت فخذه فضرب به الغلام فقتله وعجل الله بروحه إلی الجنة..قال: فجال ماهان علی مصرعه وقوی قلبه ودعا إلی البراز .. وکان أول من برز مالک النخعی الأشتر وساواه فی المیدان ، فابتدر مالک ماهان بالکلام وقال له: أیها العلج لا تغتر بمن قتلته ، وإنما اشتاق صاحبنا إلی لقاء ربه ، وما منا إلا من هو مشتاق إلی الجنة ، فإن أردت مجاورتنا فی جنات النعیم فانطق بکلمة الشهادة أو أداء الجزیة ،وإلا فأنت هالک لا محالة ! فقال له ماهان:أنت صاحب خالد بن الولید؟ قال: لا أنا مالک النخعی صاحب رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )..

ثم حمل علی مالک وکان من أهل الشجاعة فاجتهدا فی القتال ، فأخرج ماهان عموده وضرب به مالکاً علی البیضة التی علی رأسه فغاصت فی جبهة مالک فشترت عینه ، فمن ذلک الیوم سمی بالأشتر.. قال والدم فائرٌ من جبهته وعدو الله یظن أنه قتل مالکاً وهو ینظره متی یقع عن ظهر فرسه ! وإذا بمالک قد حمل وأخذته أصوات المسلمین یا مالک إستعن بالله یعنک علی قرینک ، قال مالک:فاستعنت بالله علیه وصلیت علی رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وضربته ضربة عظیمة..فلما أحس ماهان بالضربة ولی ودخل فی عسکره «فی الطبری:3/74 ، أنه قُتل بضربة مالک» صاح خالد بالمسلمین: یا أهل النصر والبأس إحملوا علی القوم ما داموا فی دهشتهم.. وحمل کل الأمراء بمن معهم ، وتبعهم المسلمون بالتهلیل والتکبیر ، فصبرت لهم الروم بعض الصبر حتی إذا غابت الشمس وأظلم الأفق ، انکشف الروم منهزمین بین أیدیهم ، وتبعهم المسلمون یأسرون ویقتلون کیف شاءوا ، فقتلوا منهم زهاء من مائة ألف وأسروا مثلها ، وغرق فی الناقوصة منهم مثلها وأمم لا تحصی ، وتفرق منهم فی الجبال والأودیة وخیول المسلمین من ورائهم یقتلون ویأسرون ، ویأتون من الجبال بالأساری. ولم یزل المسلمون یقتلون ویأسرون إلی أن راق

ص: 89

اللیل فقال أبو عبیدة: أترکوهم إلی الصباح ، فتراجعت المسلمون وقد امتلأت أیدیهم من الغنائم والسرادقات وآنیة الذهب والفضة ، والزلازل «السجَّاد» والنمارق والطنافس . ووکل أبو عبیدة رجالاً من المسلمین بجمع الغنائم وبات المسلمون فرحین بنصر الله حتی أصبحوا فإذا لیس للروم خبر » .

وکان هذا الیوم الأول ، وقد استمرت الحرب أربعة أیام .

ومما نلاحظه هنا ، أن رواة السلطة لایحبون الأشتر ولذا نسبوا بطولاته فی الیرموک إلی ضرار بن الأزور ، مع أنه قُتل قبل سنین فی معرکة الیمامة !

قال ابن سعد فی الطبقات «6/39»: « مکث ضرار بن الأزور بالیمامة مجروحاً قبل أن یرحل خالد بن الولید بیوم ، فمات ».

ونلاحظ ثانیاً ، أنه لم یبرز أحد لماهان وأمثاله من أبطال الروم کجرجیس والصقلار ، إلا مالک ورفاقه من شیعة علی(علیه السّلام)، فأین کان خالد بن الولید ، وأبو عبیدة بن الجراح ، وعمرو بن العاص ، ویزید بن أبی سفیان ، وشرحبیل بن حسنة ، وبقیة قادة الجیوش ، فقد خافوا جمیعاً وکاعوا ! فتقدم الیه مالک رضی الله عنه مالک الأشتر وقتله ، ثم برز اثنان من قادتهم فقتلهما ، ثم حمل

علی قادتهم أصحاب رایات الصلبان حملةً حیدریة فقتل ثمانیة أو عشرة ! وکان ذلک کافیاً لضعضعة جیشهم الذی یعتمد فیه الجندی علی قائده أکثر من اعتماده علی نفسه. فعندما رأوا قادتهم مجندلین انذعروا ، فاغتنم المسلمون الفرصة وحملوا علیهم ، فانهزمت الروم فی الیوم الأول من المعرکة !

ونلاحظ ثالثاً ، أن الرواة أهملوا أخبار زملاء الأشتر فی معرکة الیرموک ، کعمرو بن معدی کرب الزبیدی ، وهاشم المرقال الزهری ، وخالد بن سعید الأموی، وأخیه أبان بن سعید ، وحجر بن عدی ، وأمثالهم ، لأنهم شیعة علی! فلا تجد من أخبارهم إلا نتفاً قلیلة ، لکنها تدل علی أدوارهم العظیمة !

ص: 90

بَعَثْنَا عَلَیْکُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِی بَأْسٍ شَدِیدٍ

لا شک أن الأشتر وزملاؤه هم العباد الموعودون فی الآیة ، فقد سماهم علی(علیه السّلام)آیة من آیات الله ، فکان فتح سوریا وفلسطین والقدس علی أیدیهم .

ذلک أن أهم معرکة فی فتح فلسطین معرکة أجنادین ، کان بطلها الذی قطف النصر للمسلمین خالد بن سعید بن العاص ، وزمیله هاشم المرقال قائد المیسرة ، وهما من شیعة علی(علیه السّلام)، وصاحبه القائد العام شرحبیل بن حسنة قائد الجیش ، فطمس رواة السلطة أدوارهم ، أو نسبوها إلی ابن الولید !

وقد افتتح معرکة أجنادین حفیدان لعبد المطلب ، ثأراً لجعفر بن أبی طالب رضی الله عنهم ، وهما عبد الله بن الزبیر بن عبد المطلب ، وکان من الثابتین مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی حنین . وفی یوم أجنادین برز بطریق مُعَلَّم ودعا إلی المبارزة ، وکانوا یعطون للفارس الشجاع درجة بطریق ، فبرز إلیه عبد الله بن الزبیر بن عبد المطلب ، فاختلفا ضربات ثم قتله عبد الله بن الزبیر ، ولم یتعرَّض لسلبه مع أنهم کانوا یحرصون علی سلب هذا النوع من الفرسان ، لأنه یلبس قلنسوة مُذَهَّبة ، وحزاماً عریضاً مُذهباً یسمی مَنطقة .

لکن حفید عبد المطلب رضی الله عنه أعرض عنه لأنه رأی رومیاً آخر جاء یطلب المبارزة فبرز إلیه ، فتشاولا بالرمحین ، ثم صارا إلی السیفین ، وکان الرومی مُدَرَّعاً ، فحمل علیه عبد الله فضربه علی عاتقه ، وهو یقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب ! فشقت ضربته الدرع ، وأسرع السیف فی منکب الرومی فولی منهزماً ، ثم سقط . وقیل لعبد الله کفاک هذا فلا تقاتل!

فقال: لا أجدنی أصبر ، وحمل علی الروم وقتل عدداً من فرسانهم .

ووجده المسلمون بعد المعرکة فی وجهه ثلاثون ضربة سیف ، وحوله عشرة من الروم مجندلین ، ووجدوا سیفه بیده لاصقاً ، فعالجوه حتی نزعوه.

ص: 91

«الإستیعاب: 3 /904، والإصابة:4/78 ، وتاریخ دمشق: 8 /138».

والحفید الثانی لعبد المطلب:طُلَیب بن عمیر بن وهب من بنی عبد بن قصی: «أمّه أروی بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، شهد بدراً ، وکان من خیار الصحابة » . « الإستیعاب:2/772 » .

وبعد أجنادین تجمعت قوات الروم فی مرج الصُّفَّر بین دمشق والجولان ، ثم فی فِحْل بالأردن ، واعترف الرواة بأن أبا عبیدة وخالد بن الولید وشرحبیل وابن العاص أعطوا القیادة فیها إلی خالد بن سعید ، وهاشم المرقال ، فحققا النصر ! لکن السلطة نسبت بطولتهما الی ابن الولید وابن العاص مع أنهما لم یقاتلا أبداً ولا بضربة سیف ولا رمی حجر !

جنودهم بین البیوت یتعقبون المقاتلین من الروم وعملائهم الیهود .

ثُمَّ رَدَدْنَا لَکُمُ الْکَرَّةَ عَلَیْهِمْ: أی أعدنا للیهود الغلبة علی المسلمین ، وأعطیناکم أیها الیهود أموالاً وأولاداً ، وجعلناکم أکثر منهم أنصاراً فی العالم .

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِکُمْ: أی یستمر وضعکم علی هذه الحال زمناً ، فإن تبتم وعملتم خیراً فهو لکم ، وإن أسأتم وطغیتم وعلوتم فهو لکم أیضاً .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ : أی ستُسیؤون ، حتی یجئ وقت العقوبة الثانیة فنسلط علیکم نفس العباد ، فیسوؤوا وجوهکم ، ثم یدخلوا المسجد فاتحین ، کما دخلوه أول مرة ، ویسحقوا علوکم سحقاً .

وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا: أی لعل الله یرحمکم بعد العقوبة الثانیة ، وإن عدتم إلی إفسادکم عاقبناکم فی الدنیا ، ثم حصرناکم فی جهنم حصراً .

فتاریخ الیهود من بعد موسی(علیه السّلام)إلی آخر حیاتهم ، یتلخص بإفسادهم فی المرة الأولی وعقوبتهم بید المسلمین ، ثم غلبتهم علیهم وکثرة أنصارهم فی العالم ، ثم علوهم حتی یجئ وعد العقوبة الثانیة علی ید المسلمین أیضاً . فالمبعوثون فی العقوبة الثانیة نفسهم المبعوثون فی الأولی ، وقد أخطأ من جعلهم قومین !

وقد فسرتهم الأحادیث بأصحاب علی(علیه السّلام)، ثم أصحاب المهدی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ). «راجع المعجم الموضوعی لأحادیث الإمام المهدی(علیه السّلام)/640».

فالصحابی الجلیل مالک الأشتر رضی الله عنه ، هو الآیة الربانیة ، وهو ورفقاؤه الأبطال: العباد الموعودون أصحاب البأس الشدید ، الذین بعثهم الله علی الیهود فی المرة الأولی ، فهزموهم فی الیرموک بهزیمة الروم ، فانسحبوا من فلسطین وسوریا ، ودخل المسلمون مدنهم بما فیها القدس منتصرین ، یجوسون خلال دیار الروم والیهود ، بدون مقاومة .

وشیعة علی أیضاً هم الذین یبعثهم فی الثانیة فیسوؤوا وجوه الیهود ویغلبوهم.

ص: 93

هذا ، وکم من بطولاتٍ فی الیرموک وغیرها أخفاها رواة السلطة ، لأولی البأس الذین بعثهم الله علی الیهود ، کخالد بن سعید بن العاص وابنه ، وإخوته ، وهاشم المرقال ، وسلمان ، وأبی ذر ، والمقداد ، وحذیفة ، وأبی أمامة وعبادة بن الصامت ، وعشرات الأبطال الآخرین .

قادة الفرق ، فقد تم فتح القدس وکل سوریا ، بل ومصر أیضاً ، لأن هرقل قرر الإنسحاب منها جمیعاً ، وودعها !

إلا أنه ضربه ضربة شدیدة أوهنت الرومی وأثقلت عاتقه . ثم تحاجزا فلما رأی الأشتر أن سیفه لم یصنع شیئاً انصرف فمشی علی هیئته حتی أتی الصف وقد سال الدم علی لحیته ووجهه فقال: أخزی الله هذا سیفاً ، وجاءه أصحابه فقال علیَّ بشئ من حناء ، فأتوه به من ساعته ، فوضعه علی جرحه ثم عصبه بالخرق ، ثم حرک لحیته وضرب أضراسه بعضها ببعض ، ثم قال: ما أشد لحیتی ورأسی وأضراسی. وقال لابن عم له: أمسک سیفی هذا وأعطنی سیفک ، فقال: دع لی سیفی رحمک الله ، فإنی لا أدری لعلی أحتاج إلیه ، فقال: أعطنیه ولک أم النعمان یعنی ابنته . فأعطاه إیاه فذهب لیعود إلی الرومی فقال له قومه: ننشدک الله ألا تتعرض لهذا العلج فقال: والله لأخرجن إلیه فلیقتلنی أو لأقتلنه فترکوه فخرج إلیه ، فلما دنا منه شد علیه وهو شدید الحنق ، فاضطربا بسیفیهما فضربه الأشتر علی عاتقه فقطع ما علیه حتی خالط السیف رئته ، ووقعت ضربة الرومی علی عاتق الأشتر فقطعت الدرع ، ثم انتهت ولم تضره شیئاً ، ووقع الرومی میتاً وکبر المسلمون ، ثم حملوا علی صف رجالة الروم ، فجعلوا یتنقضون ویرمون المسلمین وهم من فوق ، فما زالوا کذلک حتی أمسوا وحال بینهم اللیل وباتوا لیلتهم یتحارسون . فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع فارتحل الأشتر منصرفاً».

وفی تاریخ الیعقوبی «2/141» قصد الأشتر الی:« جَمْعٍ للروم قطعوا الدرب ، فقتل منهم مقتلة عظیمة ، ثم انصرف وقد عافاه الله وأصحابه » .

وفی تاریخ حلب «1/156»: « وأول من قطع جبل اللکام وصار إلی المصیصة: مالک بن الحارث الأشتر النخعی ، من قبل أبی عبیدة بن الجراح » .

والمصیصة بعد إسکندرونة بمئة کیلو متر . وتبعد عن دمشق 500 کم .

وذکر البلاذری «1/194» أن مالک الأشتر کان قائداً فی فتح أنطاکیة .

وذکر فی «1/630» أن أبا ذر والأشتر قادا محاصرة مدینة ساحلیة..الخ .

ص: 96

وذکر فی «1/302» وما بعدها کیف خطط مالک لفتح حلب ، ثم فتح حصن عزاز ، واستخلف علیه سعید بن عمرو الغنوی ، ورجع إلی أبی عبیدة ، فکتب أبو عبیدة إلی عمر بالنصر » .

وقال الواقدی «1/462» فی فتح الموصل:«التقی الأشتر بیورنیک الأرمنی فلما عاین زیَّه علم أنه من ملوکهم ، فطعنه فی صدره فأخرج السنان من ظهره » .

وقال ابن الأعثم «1/258» فی فتح آمد ومیافارقین فی ترکیة: « ثم أرسل عیاض مالک الأشتر النخعی وأعطاه ألف فارس ، وأرسله إلی ناحیة آمد ومیافارقین ، وحین وصل مالک مع الجیش إلی آمد تبین له أن القلعة حصینة جداً فأخذ یفکر بالأمر وأن مقامه سیطول هناک ، ولما اقترب من آمد وعاین بنفسه قوة الحصن ، أمر الجیش بأن یکبروا معاً تکبیرة واحدة بأعلی صوت ! فخاف أهل آمد وتزلزلت أقدامهم وظنوا أن المسلمین یبلغون عشرة آلاف ، وأنهم لا قِبَلَ لهم بحربهم ، فأرسلوا شخصاً إلی الأشتر فأجابهم الأشتر إلی الصلح ، وتقرر أن یدفعوا خمسة آلاف دینار نقداً ، وعلی کل رجل أربعة دنانیر جزیة، ورضی حاکم البلد بهذا الصلح وفتحوا الأبواب ودخلها المسلمون صباح یوم الجمعة ، فطافوا فیها ساعة ثم خرجوا ، وأقاموا علی بوابة البلدة » .

ولا یتسع المجال للتفصیل ، فنکتفی بهذه النقاط المختصرة عن بطولاته !

وقد روت المصادر دوراً لمالک فی فتح مصر، فقال الواقدی «2/66»: «فقال یزید بن أبی سفیان: أنا والله رأیت مالکاً الأشتر النخعی ، وعرفته بطول قامته ورکبته علی فرسه. » .

وذکر فی «2/242» أنه کان فی قلب جیش الفتح المصری مقابل الروم .

وفی «2 /272» مشارکته فی فتح البهنسا ، وقال: « ونزل المسلمون بجانب الجبل عند الکثیب الأصفر قریباً من البیاض الذی علی المغارة نحو المدینة...فلما أصبحوا خرج

ص: 97

أعداء الله للقائهم فقال مالک الأشتر:یا قوم إن أعداء الله خرجوا للقائکم فاشغلوهم بالقتال وأرسلوا جماعة منکم یملکون الجسر واستعینوا بالله » .

لکن لا یصح ذلک، لأنه لم تکن حرب فی مصر، فقد أسلمت طوعاً وسلمت الحکم للمسلمین بعد انسحاب الروم . راجع کتابنا: مصر وأهل البیت(علیهم السّلام) .

نعم قد یکون مالک دخل الی مصر مع الجیش الإسلامی ، لکن لم یکن قتال .

ومعنی کلام طلیحة: أنه لو لم یکن دین ، فإن قومیتی تمنعنی أن أمکن العجم أصحاب الرطانة من رقاب العرب الأقحاح !

ووصف البلاذری بطولة عمرو بن معدی کرب ، فقال «2/316 » : «فالتحمت الحرب بینهم ، وذلک بعد الظهر ، وحمل عمرو بن معدی کرب الزبیدی فاعتنق عظیماً من الفرس فوضعه بین یدیه فی السرج وقال: أنا أبوثور ، إفعلوا کذا ! ثم حطم فیلاً من الفیلة وقال: إلزموا سیوفکم خراطیمها ، فإن مقتل الفیل خرطومه ».

« قال عمرو بن معدی کرب: إنی حامل علی الفیل ومن حوله ، لفیل بإزائهم ، فلا تدعونی أکثر من جزر جزور ، فإن تأخرتم عنی فقدتم أبا ثور فأنی لکم مثل أبی ثور، فإن أدرکتمونی وجدتمونی وفی یدی السیف! فحمل فما انثنی حتی ضرب فیهم وستره الغبار ، فقال أصحابه: ما تنتظرون ما أنتم بخلقاء أن تدرکوه وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم ! فحملوا حملة فأفرج المشرکون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه وإن سیفه لفی یده یضاربهم وقد طعن فرسه ! فلما رأی أصحابه وانفرج عنه أهل فارس ، أخذ برِجل فرس رجلٍ من أهل فارس فحرکه الفارسی فاضطرب الفرس، فالتفت الفارسی إلی عمرو فهمَّ به وأبصره المسلمون فغشوه ، فنزل عنه الفارسی وحاضر «رکض » إلی أصحابه ، فقال عمرو: أمکنونی من لجامه فأمکنوه منه فرکبه » . « تاریخ الطبری:3 /61 » .

أقول : حمل عمرو مثل هذه الحملة فی نهاوند وغاص فی أوساطهم ، ویظهرأن المسلمین تأخروا عن نجدته ، فأدرکوه وقد استشهد رضی الله عنه !

قال حازم البجلی کما فی الطبری « 3 / 78 » : « کنا ربع الناس ، فوجهوا إلینا ستة عشرفیلاً وإلی سائر الناس فیلین ، وجعلوا یلقون تحت أرجل خیولنا حسک الحدید ویرشقوننا بالنشاب فکأنه المطر علینا ، وقرنوا خیلهم بعضها إلی بعض لئلا یفروا . قال: وکان عمرو بن معدیکرب یمر بنا فیقول: یا معشر المهاجرین کونوا أسوداً ، فإنما الأسد من أغنی شأنه ، فإنما الفارسی تیس إذا ألقی نیزکه (رمحه). قال: وکان إسوار منهم لا یکاد تسقط

ص: 99

له نشابة فقلنا له:یا أبا ثور إتق ذلک الفارسی فإنه لا تقع له نشابة! فتوجه إلیه ورماه الفارسی بنشابة فأصاب قوسه ، وحمل علیه عمرو فاعتنقه فذبحه ، واستلبه سوارین من ذهب ، ومنطقة من ذهب ، ویلمقاً من دیباج » . والیلمق: القباء المحشو المبطن .

وقال البلاذری «2/324 »: « فلقوهم وحجر بن عدی الکندی علی المیمنة ، وعمرو بن معدی کرب علی الخیل ، وطلیحة بن خویلد علی الرجال ، وعلی الأعاجم یومئذ خرزاد أخو رستم . فاقتتلوا قتالاً شدیداً لم یقتتلوا مثله ، رمیاً بالنبل وطعناً بالرماح حتی تقصفت ، وتجالدوا بالسیوف حتی انثنت .

ثم إن المسلمین حملوا حملة واحدة قلعوا بها الأعاجم عن موقفهم وهزموهم فولوا هاربین ، ورکب المسلمون أکتافهم یقتلونهم قتلاً ذریعاً حتی الظلام ».

وروی أن بعض فرسان المسلمین کحجر بن عدی رضی الله عنه عبر بفرسه: «فتقدم حِجْر وقرأ: وَمَا کَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ کِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ یُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْیَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ یُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِی الشَّاکِرِینَ. وأقحم فرسه وهو یقول: باسم الله ، فعبر وعبر المسلمون علی أثره !

فلما رآهم العدو قالوا: دیوان دیوان « جمع دِیو: الغول» یعنی جِن جِن ! فهربوا فدخلنا عسکرهم . « تفسیر ابن کثیر:1/419».

وروی أن عامر بن مالک الأشعری أول من عبر بفرسه نهر دجلة إلی المدائن ، وقال فی ذلک مرتجزاً : « تاریخ قم / 268 ، وأسد الغابة : 4 / 282 »:

إمضوا علی البحر إن البحر مأمورْ

والأول القاطع منکم مأجورْ

قد خاب کسری وأبوه سابورْ

ما تصنعون والحدیث مأثورْ

وقال ابن الأعثم «1/210»: «فبینما المسلمون کذلک فی أشد ما یکون من الحرب وذلک فی وقت العصر إذا هم بکتیبة للفرس جامَّة «مرتاحة» حسناء قد خرجت إلیهم ،

ص: 100

فکأن الناس هالتهم تلک الکتیبة فاتقوها ، فقال عمرو بن معدی کرب: یا معشر المسلمین لعله قد هالتکم هذه الکتیبة؟ قالوا: نعم والله یا أبا ثور لقد هالتنا ! وذلک أنک تعلم أنا نقاتل هؤلاء القوم من وقت بزوغ الشمس إلی وقتنا هذا ، فقد تعبنا وکَلَّت أیدینا ودوابنا ، وکاعت رجالنا ، وقد والله خشینا أن نعجز عن هذه الکتیبة ، إلا أن یأتینا الله بغیاث من عنده ، أو نرزق علیهم قوة ونصراً .

قال فقال عمرو: یا هؤلاء ! إنکم إنما تقاتلون عن دینکم ، وتذبون عن حریمکم ، وتدفعون عن حوزة الإسلام ، فصفوا خیولکم بعضها إلی بعض وانزلوا عنها والزموا الأرض ، واعتصموا بحبل الله جمیعاً ولا تفرقوا ، فإنکم بحمد الله صُبراء فی اللقاء ، لیوثٌ عند الوغی ، وهذا یوم کبعض أیامکم التی سلفت ، ووالله إنی لأرجو أن یعز الله بکم دینه

ویکبت بکم عدوه ..قال: ثم نزل عمرو عن فرسه ونزل معه زهاء ألف رجل من قبائل الیمن ما فیهم إلا فارس مذکور قال:ثم تقدم عمرو حتی وقف أمام المسلمین شاهراً صمصامته وضعها علی عاتقه وهو یقول:

لقد علمت أقیال مذحج أننی

أنا الفارس الحامی إذا القوم أضجروا

صبرتُ لأهل القادسیة معلماً

ومثلی إذا لم تصبر الناس یصبر

وطاعنتهم بالرمح حتی تبددوا

وضاربتهم بالسیف حتی تکسروا

بذلک أوصانی أبی وأبو أبی

بذلک أوصاه فلست أقصر

حمدت إلهی إذ هدانی لدینه

فلله أسعی ما حییت وأشکر

قال: وحملت تلک الکتیبة الجامَّة علی عمرو بن معد ی کرب الزبیدی وأصحابه ، فلم یطمعوا منهم فی شئ . قال: وحمل جریر بن عبد الله من المیمنة ، وحجر بن عدی من المیسرة ، والمکشوح المرادی من الجناح ، وعمرو بن معد یکرب من القلب ، وصدقوهم الحملة فولوا مدبرین ، ووضع المسلمون فیهم السیف ، فقتل منهم من قتل وانهزم الباقون

ص: 101

حتی صاروا إلی خانقین . وأمسی المسلمون فلم یتبعوهم ، لکنهم أقاموا فی موضعهم حتی أصبحوا وأقبلوا حتی دخلوا جلولاء ، فجعلوا یجمعون الأموال والغنائم ، حتی جمعوا شیئاً کثیراً لم یظنوا أنه یکون هناک ».

قال ابن الأعثم فی الفتوح «2/303»: «رجعت إلیهم الفرس کأنهم السباع الضاریة فی جموع لم یروا مثلها قبل ذلک ، فصاح عمرو بن معد یکرب: یا معاشر العرب والموالی ، ویا أهل الإسلام والدین والقرآن ! إنه لا ینبغی لکم أن یکون هؤلاء الأعاجم أصبر منکم علی الحرب ، ولا أحرص منکم علی الموت ، فتناسوا الأولاد والأزواج ، ولا تجزعوا من القتل فإنه موت الکرام ومنایا الشهداء .

قال: ثم نزل عمرو عن فرسه ونزل معه أبطال بنی عمه ، قال: والأعاجم فی الآلة والأسلحة وبین أیدیهم ثلاثون فیلاً ، علی کل فیل منهم جماعة من أساورة الفرس، قال: ونظر عامة المسلمین إلی عمرو بن معد یکرب وأصحابه ، وقد ترجلوا فنزل الناس وترجلوا ، ثم تقدموا نحو الخیل والفیلة ، فلم یکن إلا ساعة من أول النهار حتی احمرت الأرض من دماء الفرس، وقتلت الفیلة بأجمعها ، فما أفلت منها واحد..

فلما کان من غد وذلک فی الیوم الرابع من حروبهم ، ثار القوم بعضهم إلی بعض ، وزحف أهل نهاوند فی جمیع عظیم حتی صافوا المسلمین ، قال: وصف المسلمون صفوفهم کما کانوا یصفونها من قبل ، ودنت الخیل من الخیل والرجال من الرجال فتناوشوا ساعة ، وتقدم مرزبان من مرازبتهم یقال له النوشجان بن بادان علی فیل له ، وقد شهره بالتجافیف المذهبة ، وصفرة الذهب تلمع علی سواد الفیل حتی وقف بین الجمعین ، قال: ونظر إلیه عمرو بن معدی کرب فتهیأ للحملة علیه ، ثم أقبل علی بنی عمه من زبید فقال: ألا تسمعون؟ فقالوا: قل یا أبا ثور نسمع قولک وننتهی إلی أمرک ، فقال: إنی حامل علی هذا الفیل وقاصد إلیه ، فإن قطعت خرطومه فقد هلک وذاک الذی أرید ، وإن أخطأته ورأیتم الفُرس قد حملوا علیَّ وتکاثروا فأعینونی .

ص: 102

فقالوا: نفعل أبا ثور! فاستخر الله عز وجل وتقدم . قال فتقدم عمرو نحو الفیل الذی علی ظهره النوشجان ، قال: وجعل النوشجان یرمیه بالنشاب من فوق الفیل حتی جرحه جراحات کثیرة ، ونظر إلیه من کان من بنی عمه فخرجوا إلیه لیعینوه ، وصاح النوشجان بالفُرس فحملوا علی عمرو وأصحابه ، فاقتتل القوم وحمل عمرو من بین أیدیهم فضرب خرطوم الفیل فقطعه ، وولی الفیل منهزماً ثم سقط میتاً، ووضع المسلمون السیف فی النوشجان وأصحابه ، فقتلوا منهم مقتلة عظیمة ، وقتل النوشجان فیمن قتل ، وانهزم الباقون بشر حالة تکون..

ونادی عمرو بن معدی کرب قال: یا معاشر المسلمین ما أشبه هذا الیوم إلا بیوم القادسیة ، فیا معشر بنی مذحج ، ویا فتیان بنی زبید ، ویا معشر النخع ، إعلموا أن الذکر غداً بالمدینة لمن صبر الیوم ، ألا فاحملوا ولا تفشلوا رحمکم الله . قال : فما بقی أحد من بنی مذحج ولا من النخع ولا من بنی زبید إلا وحمل ، ونظر إلیهم عمرو وقد حملوا فحمل معهم ، فاقتتلوا ساعة حتی أزالوا الفرس عن أماکنهم وقتلوا منهم بشراً کثیراً...

قال : ثم نزل عمرو عن فرسه وجعل یستوثق من حزامه وثفره ولببه ، ثم استوی علیه وضرب بیده إلی الصمصامة فجعل یهزها ، قال: ثم کبر عمر وحمل وحمل معه فرسان بنی مذحج علی جموع الأعاجم ، فلما خالطهم عمرو عثر به فرسه فسقط إلی الأرض ، وغار فرسه وأحاطت به الفرس من کل جانب ، فلم یزل یقاتل حتی انکسرت الصمصامة فی یده ، ثم ضرب بیده إلی السیف ذی النون فلم یزل یضرب به حتی انکسر فی یده ، فعند ذلک علم أنه مقتول ، قال: وجعل المسلمون یحملون علی الفرس فیقاتلون ولیست لهم بهم طاقة لکثرة جمعهم ، وحمل رجل من الفرس یقال له بهرزاد علی عمرو بن معد یکرب فضربه علی یافوخه ، فخرَّ عمرو صریعاً ، وتکاثرت علیه الفرس بالسیوف فقطعوه إرباً إرباً ، رحمة الله ورضوانه علیه » .

وفی الإستیعاب «3/1202»: « وأثبتته الجراحات یومئذ فحُمِل فمات بقریة من قری

ص: 103

نهاوند یقال لها روذة ، فقال بعض شعرائهم:

لقد غادر الرکبان یوم تحمّلوا

بروذة شخصاً لا جباناً ولا غمرا

فقل لزبید بل لمذحج کلَّها

رزئتم أبا ثور قریع الوغی عمرا »

ونسب ابن حجر هذین البیتین إلی دعبل الخزاعی . « الإصابة : 4 / 572 » .

وفی مروج الذهب «2/324»: « وقتل هنالک خلق کثیر:منهم النعمان بن مقرن ، وعمرو بن معدیکرب ، وغیرهما . وقبورهم إلی هذا الوقت بَیِّنَة معروفة ، علی نحو فرسخ من نهاوند ، فیما بینها وبین الدِّینَورِ » .

هو فی قصرالقادسیة مع الحرم والذریة » ! وخالد بن عرفطة مراسل عنده من بنی عذرة .

وقال البلاذری « 2 / 316 » : « کان مقیماً فی قصر العذیب ، فجعلت امرأته وهی سلمی بنت حفصة من بنی تیم الله بن ثعلبة ، امرأة المثنی بن حارثة ، تقول: وامثنیاه ، ولا مثنی للخیل ! فلطمها ، فقالت: یا سعد أغیرةً وجُبناً » !

وقد حفظ التاریخ شعر المسلمین فی جبن سعد بن أبی وقاص !

ففی الطبری «3 /81 » ومعجم البلدان « 4 / 291 »: « قاتل المسلمون یومئذ وسعد فی القصر ینظر إلیهم ، فنُسب إلی الجبن ، فقال رجل من المسلمین :

ألم ترَ أن الله أنزل نصره

وسعدٌ بباب القادسیة مُعصمُ

فأبنا وقد آمت نساء کثیرة

ونسوةُ سعدٍ لیس فیهنَّ أیِّمُ».

وقال بشر بن ربیعة فی ذلک الیوم:

ألمَّ خیالٌ من أمیمة موهناً

وقد جعلتْ أولی النجوم تغورُ

ونحن بصحراء العذیب ودوننا

حجازیةٌ ، إن المحل شطیر

فزارت غریباً نازحاً جلُّ ماله

جوادٌ ومفتوقُ الغِرار طریر

وحلَّت بباب القادسیة ناقتی

وسعدٌ بن وقاص علیَّ أمیر

تذکر هداک الله وقع سیوفنا

بباب قُدَیْسٍ والمُکرُّ ضریر

عشیة ودَّ القوم لو أن بعضهم

یُعار جناحی طائر فیطیر

إذا برزت منهم إلینا کتیبةٌ

أتونا بأخری کالجبال تمور

فضاربتهم حتی تفرق جمعهم

وطاعنتُ إنی بالطعان مهیر

وعمرو أبو ثور شهیدٌ وهاشمٌ

وقیس ونعمان الفتی وجریر » .

ص: 105

کما روی المؤرخون نفاق أبی سفیان وهروب ابن العاص فی الیرموک !

قال الواقدی «1/212»: « کان الیوم الثالث من الیرموک یوماً شدیداً انهزمت فیه فرسان المسلمین ثلاث مرات ! کل مرة تردهم النساء بالحجارة والعُمُد ویلوحون بالأطفال إلیهم فیرجعون إلی القتال! ولم یزل القتال قائماً إلی أن أقبل اللیل بسواده ورجعت الروم إلی مواضعها ، والقتل فیهم کثیر ، وفی المسلمین قلیل ، إلا أن الجراح فیهم فاشیة من النشاب ، فلما دخل اللیل بسواده ، رجعت کل فرقة إلی أماکنها ، وباتوا تحت السلاح » .

قال ابن عبد البر فی الإستیعاب «4/1679»: « وفی خبر ابن الزبیر أنه رآه یوم الیرموک قال: فکانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفیان: إیهٍ بنی الأصفر ، فإذا کشفهم المسلمون قال أبو سفیان:

وبنو الأصفر الملوکُ ملوکُ

الرومِ لم یبقَ منهمُ مذکورُ

فحدث به ابن الزبیر أباه لما فتح الله علی المسلمین ، فقال الزبیر: قاتله الله یأبی إلا نفاقاً ، أوَلسنا خیراً له من بنی الأصفر » !

وفی فتوح ابن الأعثم «1/203» أن زوجته هنداً کانت فی الیرموک: «ونظرت إلی أبی سفیان وهو منهزم فضربت وجه حصانه بعمودها ، وقالت: إلی أین یا ابن صخر؟ إرجع إلی القتال وابذل مهجتک حتی یمحص الله عنک ما سلف من تحریضک علی رسول الله »!

وهدف الراوی أن یمدح هنداً ، ولو بذم زوجها !

وفی نهایة ابن کثیر «7/18»:«وانهزم عمرو بن العاص فی أربعة «ولم یسمهم» حتی وصلوا إلی النساء ، ثم رجعوا حین زجرهم النساء ، وانکشف شرحبیل بن حسنة وأصحابه ، ثم تراجعوا حین وعظهم الأمیر، بقوله تعالی: إِنَّ اللهَ اشْتَرَی مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ..».

وقال فی تاریخ دمشق «2/143»: « شهد الیرموک ألف رجل من أصحاب

ص: 106

رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فیهم نحو من مائة من أهل بدر » .

ودامت المعرکة أربعة أیام ، کما روی الواقدی . «فتوح الشام : 1/211».

و فی الختام:

لا بد من التنبیه علی أن ما أوردناه لیس إلا نبذة من مشارکات الیمانیین فی الفتوحات ، وهو یدل علی أن المسلمین مدینون لهم فی أکثرها .

ص: 107

قال البلاذری عن ثورة عبد الرحمن بن الأشعث الکندی الیمانی:«فلما عظمت جموعة ولحق به کثیر من أهل العراق ورؤسائهم وقراؤهم ونساکهم عند قربه منها ، خلع عبد الملک وذلک بإصطخر فارس وخلعه الناس جمیعاً وسمی نفسه ناصر المؤمنین ، وذکر له أنه القحطانی الذی ینتظره الیمانیة ، وأنه یعید الملک فیها، فقیل له إن القحطانی علی ثلاثة أحرف! فقال: إسمی عبد ، وأما الرحمن فلیس من إسمی» ! «التنبیه والأشراف/272».

وقال البلخی فی البدء والتاریخ «2/184» عن عبد الله بن عمرقال:« لما خرج سمی بالقحطانی وکتب إلی العمال: من عبد الرحمن ناصر أمیر المؤمنین ، یقصد بذلک المهدی المنتظر(علیه السّلام). فقیل له: إن إسم القحطانی علی ثلاثة أحرف ، فقال: إسمی عبد ، ولیس الرحمن من إسمی » !

أقول: یدل ذلک علی أن حدیث الیمانی کان متسالماً علیه عند الناس ، وأن إسمه ثلاثة حروف ، وأنه ناصر الإمام المهدی(علیه السّلام).

ونلاحظ أن المصادر السنیة بعد هذه الحادثة روت توبة عبد الله بن عمرو العاص ، وروت فی الیمانی أحادیث متضاربة ، بعضها یقول یأتی مع المهدی وبعضها یقول بعده ، وأکثرها یذمه ولا یمدحه !

وهذا یدلک علی سیطرة القرشیین علی روایة الحدیث ، وأنهم منعوا روایة أی حدیث یبشر بظهور قائد یمانی ، لأنه یمس بقیادة قریش للعالم الی یوم الدین !

أقول: أراد أن یرضی معاویة والقرشیین فجعل المنصور الیمانی قرشیاً وأمه یمانیة ! وهو یناقض حدیثه الذی أغضب معاویة ، فلو کان قرشیاً لما غضب !

أطال ابن حجر وحرر صفحات کثیرة فی تحلیل حدیث ابن عمرو ، وتبریر إنکار معاویة له ! ومحاولات توجیه الأحادیث المکذوبة فی الیمانی !

قال فی فتح الباری «13/102»: « لم أقف علی لفظ حدیث عبد الله بن عمرو بن العاص فی ذلک ، وهل هو مرفوع أو موقوف.. فإن کان حدیث عبد الله بن عمرو مرفوعاً موافقاً لحدیث أبی هریرة فلا معنی لإنکاره أصلاً ! وإن کان لم یرفعه وکان فیه قدر زائد یشعر بأن خروج القحطانی یکون فی أوائل الإسلام ، فمعاویة معذور فی إنکار ذلک علیه »!

أما العینی فکان أکثر اختصاراً ، قال فی عمدة القاری «16/87»: « لم یرد إسمه عند الأکثرین لکن القرطبی جزم أنه جهجاه ، الذی وقع ذکره فی صحیح مسلم من طریق آخر عن أبی هریرة بلفظ:لا تذهب الأیام واللیالی حتی یملک رجل یقال له: الجهجاه.. وفی التوضیح: حدیث القحطان یدل علی أنه خلیفة ولکنه یحمل علی تغلبه .

وروی نعیم بن حماد فی الفتن عن أرطأة بن المنذر أحد التابعین من أهل الشام: أن القحطانی یخرج بعد المهدی ویسیر علی سیرة المهدی. وأخرج أیضاً من طریق عبد الرحمن بن قیس بن جابر الصدفی عن أبیه عن جده مرفوعاً: یکون بعد المهدی القحطانی ، والذی بعثنی بالحق ما هو دونه ..

قلت: إذا کان القحطانی فی زمن عیسی ، کیف یسوق الناس بعصاه وکیف یملک مع وجود عیسی علیه الصلاة والسلام ؟ علی أن فی روایة أرطأة ابن المنذر: أن القحطانی یعیش فی الملک عشرین سنة» !

وستعرف من مجموع النصوص أن المنصور الیمانی ممدوح علی لسان النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) ولیس مذموماً ، کما زعم الرواة القرشیون !

یملأ الأرض عدلاً ، ثم القحطانی بعده » !

وروی الطبرانی فی الکبیر«22/375»: «أن رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: سیکون من بعدی خلفاء ، ومن بعد الخلفاء أمراء ، ومن بعد الأمراء ملوک ، ومن بعد الملوک جبابرة ، ثم یخرج رجل من أهل بیتی یملأ الأرض عدلاً کما ملئت جوراً ، ثم یؤمر القحطانی فوالذی بعثنی بالحق ما هو دونه» .

ورواه بصیغ متقاربة وفی أکثرها: «والذی بعثنی بالحق ما هو دونه». ورووا فی هذ المعنی أحادیث ظاهرة الضعف والحشو ، وأنها من تصور الرواة !

وبعضها نقلتها مصادرنا فتصور البعض أنه من أحادیثنا ، مثل: روایة ابن طاووس فی الملاحم والفتن/77: «عن أرطأة قال: أمیر العصب لیس من ذی ولا ذه ، ولکنهم یسمعون صوتاً ما قاله إنس ولا جان:بایعوا فلاناً باسمه لیس من ذی ولا ذه ولکنه خلیفة یمانی. قال الولید: وفی علم کعب أنه یمانی قرشی ، وهو أمیر العصب ، والعصب: أهل الیمن ومن تبعهم من سائر الذین أخرجوا من بیت المقدس » .

وروی فی الملاحم والفتن أیضاً/168: «عن أرطأة قال: فیجتمعون وینظرون لمن یبایعون ، فبیناهم کذلک إذا سمعوا صوتاً ما قاله إنس ولا جان: بایعوا فلاناً باسمه ، لیس من ذوی ولا ذو ، ولکنه خلیفة یمانی » .

ومن الواضح أن الراوی أخذ النداء السماوی باسم المهدی(علیه السّلام)وجعله لغیره !

ومن أحادیثنا المتأثرة بهم ما رواه الطوسی فی الغیبة/463: « عن أبی زرعة ، عن أبی عبد الله بن رزین ، عن عمار بن یاسر أنه قال: إن دولة أهل بیت نبیکم فی آخر الزمان ، ولها إمارات ، فإذا رأیتم فالزموا الأرض وکفوا حتی تجئ إماراتها . فإذا استثارت علیکم الروم والترک ، وجهزت الجیوش ، ومات خلیفتکم الذی یجمع الأموال ، واستخلف بعده رجل صحیح ، فیخلع بعد سنین من بیعته ، ویأتی هلاک ملکهم من حیث بدأ ویتخالف الترک

ص: 112

والروم ، وتکثر الحروب فی الأرض ، وینادی مناد من سور دمشق: ویل لأهل الأرض من شر قد اقترب ، ویخسف بغربی مسجدها حتی یخر حائطها ، ویظهر ثلاثة نفر بالشام کلهم یطلب الملک ، رجل أبقع ، ورجل أصهب ، ورجل من أهل بیت أبی سفیان یخرج فی کلب ، ویحضر الناس بدمشق ، ویخرج أهل الغرب إلی مصر. فإذا دخلوا فتلک إمارة السفیانی ، ویخرج قبل ذلک من یدعو لآل محمد(علیهم السّلام) ، وتنزل الترک الحیرة ، وتنزل الروم فلسطین ، ویسبق عبد الله عبد الله ، حتی یلتقی جنودهما بقرقیسیاء علی النهر ویکون قتال عظیم ، ویسیر صاحب المغرب فیقتل الرجال ویسبی النساء ، ثم یرجع فی قیس حتی ینزل الجزیرة السفیانی ، فیسبق الیمانی ویحوز السفیانی ما جمعوا . ثم یسیر إلی الکوفة فیقتل أعوان آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )ویقتل رجلاً من مسمیهم .

ثم یخرج المهدی علی لوائه شعیب بن صالح ، وإذا رأی أهل الشام قد اجتمع أمرها علی ابن أبی سفیان فألحقوا بمکة ، فعند ذلک تقتل النفس الزکیة وأخوه بمکة ضیعة ، فینادی مناد من السماء: أیها الناس إن أمیرکم فلان ، وذلک هو المهدی الذی یملأ الأرض قسطا وعدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً » .

محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، ثم المهدی ، ثم المنصور ، ثم السلام ، ثم أمیر العصب ، فمن قدر علی الموت بعد ذلک فلیمت ».

وعن جابر، عن أبی جعفر، قال:« إذا ظهر السفیانی علی الأبقع ، والمنصور الیمانی ، خرج الترک والروم فظهر علیهم السفیانی ». «1/223».

«عن أبی جعفرقال: إذا ظهر الأبقع مع قوم ذوی أجسام، فتکون بینهم ملحمة عظیمة ، ثم یظهر الأخوص السفیانی الملعون فیقاتلهما جمیعاً ، فیظهر علیهما جمیعاً ، ثم یسیر إلیهم منصور الیمانی من صنعاء بجنوده ». «1/290».

« ثم یخرج المهدی ومنصور من الکوفة هاربین ، ویبعث السفیانی فی طلبهما ، فإذا بلغ المهدی ومنصور مکة نزل جیش السفیانی البیداء ، فیخسف بهم . ثم یخرج المهدی حتی یمر بالمدینة فیستنقذ من کان فیها من بنی هاشم»«1/308».

وروی ابن حماد «1/223»: «عن جابر ، عن أبی جعفر، قال: إذا ظهر السفیانی علی الأبقع ، والمنصور الیمانی ، خرج الترک والروم فظهر علیهم السفیانی ».

وروی ابن حماد «1/384»: « عن ذی مخبر ، عن النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )قال: کان هذا الأمر فی حمیر فنزعه الله تعالی منهم وصیره فی قریش ، وسیعود إلیهم»!

وروی ابن حماد «1/410»: «عن أرطاة ، قال: علی یدی ذلک الخلیفة الیمانی الذی تفتح القسطنطینیة ورومیة علی یدیه ، یخرج الدجال وفی زمانه ینزل عیسی بن مریم(علیه السّلام) علی یدیه تکون غزوة الهند ، وهو من بنی هاشم » .

ورووا أحادیث فی معناه کروایة ابن حماد «1/383» عن أرطاة ، قال: « علی یدی ذلک الخلیفة الیمانی وفی ولایته تفتح رومیة ».

ومن الواضح أن أکثر هذه الأحادیث من تخیلات الرواة ، لکن شاهدنا منها أن إسم المنصور الیمانی تردد فیها وکان معروفاً ، وهو یدل علی صحة حدیثه.

ص: 114

والیمانی یعنی ضرورة وجود قوة تهیئ الأرضیة لظهوره المقدس(علیه السّلام).

والنفس الزکیة ضرورة لإظهار طغیان الحکومة المعادیة له فی الحجاز .

وخسف البیداء ، علامة وقف فی مکانها النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، فهی تعنی الیقین بأن مهمة المهدی(علیه السّلام)جزء لا یتجزأ من رسالة جده(صلّی الله علیه و آله وسلّم ).

قلوبهم ، راسخٌ إیمانهم ، منهم المنصور یخرج فی سبعین ألفاً ینصر خلفی وخلف وصیی ، حمائل سیوفهم المسک !

أقول: قَبِلَ النعمانی روایة هذا الناصبی لأنه یشترط الوثاقة فی الراوی فقط بقطع النظر عن مذهبه ، ویظهرأنه وثق به لأنه روی ما یرد مذهبه !

وقال عدد من علماء الجرح والتعدیل إن المطلوب فی الراوی الوثاقة والإطمئنان بصدقه فقط ، ولذلک یأخذون من اللغوی والطبیب غیر المسلم.

الناس فیهم ، وفوضی فی البلاد العربیة « وظهر الشامی ، وأقبل الیمانی ، وتحرک الحسنی » ثم وصفت حرکة الإمام المهدی(علیه السّلام).

وبنو العباس فی هذه الروایات کنایة عن حکومة تکون قبل الإمام(علیه السّلام)، لأن أهل البیت أخبروا أن ملک بنی العباس سیزول علی ید المغول بنی قنطوراء . فالمقصود بهم هنا: الذین هم علی خطهم ، ولذا سمتهم روایات: بنی فلان:

«فقال أبو عبد الله(علیه السّلام): واختلاف بنی فلان من المحتوم ، وقتل النفس الزکیة من المحتوم ، وخروج القائم من المحتوم ». «غیبة الطوسی/435».

وقد اتفقت الروایة علی أن أول الفرج هلاک الفلانی واختلاف آل فلان ، کما فی غیبة النعمانی/234:«قال لی أبو عبد الله(علیه السّلام): أمسک بیدک: هلاک الفلانی وخروج السفیانی ، وقتل النفس ، وجیش الخسف ، والصوت . قلت: وما الصوت هو المنادی؟ قال : نعم ، وبه یعرف صاحب هذا الأمر ، ثم قال: الفرج کله هلاک الفلانی [من بنی العباس] ».

وکلمة من بنی العباس فی الروایة بین قوسین ، لأن الراوی احتمل أنها زیادة من راوٍ آخر وأصلها آل فلان . وإذا کانت من تعبیر المعصوم(علیه السّلام)فهی کنایة .

فاختلاف بنی فلان قبل السفیانی والیمانی ، وهو من المحتوم ، وقد عدت الروایات تسعة أشیاء من المحتومات .

ففی الکافی«8/310»:« محمد بن یحیی، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبی جمیلة ، عن محمد بن علی الحلبی قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام)یقول: اختلاف بنی العباس من المحتوم ، والنداء من المحتوم ، وخروج القائم من المحتوم ، قلت: وکیف النداء؟ قال: ینادی مناد من السماء أول النهار: ألا إن علیا وشیعته هم الفائزون. قال: وینادی مناد آخر النهار: ألا إن عثمان وشیعته هم الفائزون». ولعل المقصود بعثمان هنا: عثمان السفیانی حاکم سوریا یومها.

ص: 118

وفی النعمانی/264: «ثم قال «الإمام الباقر(علیه السّلام)»: إذا اختلف بنو فلان فیما بینهم فعند ذلک فانتظروا الفرج ، ولیس فرجکم إلا فی اختلاف بنی فلان ، فإذا اختلفوا فتوقعوا الصیحة فی شهر رمضان وخروج القائم ، إن الله یفعل ما یشاء ، ولن یخرج القائم ولا ترون ما تحبون حتی یختلف بنو فلان فیما بینهم ، فإذا کان کذلک طمع الناس فیهم ، واختلفت الکلمة وخرج السفیانی» .

والحدیث التالی یوضح المقصود من هلاک الفلانی واختلاف آله:

فی غیبة الطوسی/271، عن أبی بصیر قال:سمعت أبا عبد الله(علیه السّلام)یقول: من یضمن لی موت عبد الله أضمن له القائم ، ثم قال:إذا مات عبد الله لم یجتمع الناس بعده علی أحد ، ولم یتناه هذا الأمر دون صاحبکم إن شاء الله ، ویذهب ملک السنین، ویصیر ملک الشهور والأیام. فقلت یطول ذلک؟قال: کلا». فهو حاکم فی الحجاز یختلف ورثته بعده ، ویکون بینهم صراع علی الملک حتی یضعف ملکهم ویضمحل . ویکون بعدهم السفیانی .

أما تحرک الحسنی المذکور فی أکثر من روایة ، فهو غیر النفس الزکیة ، وهو حسنی یخرج مدعیاً أنه المهدی الموعود ، فیقتلونه فی مکة .

وأما النفس الزکیة فهو شاب حسنی یرسله الإمام المهدی(علیه السّلام)برسالة لیقرأها فی المسجد الحرام ، فیقتلونه ، فیبدأ غضب الله علیهم .

نرجو أن یکون هذا الیمانی؟ فقال: لا ، الیمانی یوالی علیاً(علیه السّلام)، وهذا یبرأ ».

وطالب الحق کما فی الأعلام «4/144» : عبد الله بن یحیی الکندی الحضرمی: إمام إباضی خلع طاعة مروان بن محمد وبویع له بالخلافة ، واستولی علی صنعاء ومکة بعد حروب . وبعث الیه مروان بجیش فالتقیا علی مقربة من صنعاء ، فقتل طالب الحق ، وأرسل رأسه إلی مروان بالشام .

ویدل الحدیث علی أن الیمانی یحکم الیمن، ولذا قال هشام: نرجو أن یکون هذا الیمانی ، وذلک بعد حکمه الیمن ، أو ثورته لیحکم الیمن . وفَهْمُ هشامٍ حجة علی أن الیمانی یحکم الیمن ، ویدل هذا علی دوره فی ظهور الإمام بحکم جوار الیمن للحجاز ، وأن الحجاز یومها یعمه فراغ سیاسی وفوضی .

من السماء فی شهر رمضان ، ومناد ینادی من السماء باسمه واسم أبیه(صلّی الله علیه و آله وسلّم )».

وفی کمال الدین/330 : «حدثنا محمد بن محمد بن عصام قال: حدثنا محمد بن یعقوب الکلینی قال: حدثنا القاسم بن العلاء قال: حدثنی إسماعیل بن علی القزوینی قال: حدثنی علی بن إسماعیل، عن عاصم بن حمید الحناط ، عن محمد بن مسلم الثقفی قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علی الباقر(صلّی الله علیه و آله وسلّم )یقول: القائم منا منصور بالرعب ، مؤید بالنصر، تطوی له الأرض ، وتظهر له الکنوز ، یبلغ سلطانه المشرق والمغرب ، ویظهر الله عز وجل به دینه علی الدین کله ولو کره المشرکون ، فلا یبقی فی الأرض خراب إلا قد عُمِّر ، و ینزل روح الله عیسی بن مریم(علیه السّلام)فیصلی خلفه .

قال قلت: یا ابن رسول الله متی یخرج قائمکم؟ قال: إذا تشبه الرجال بالنساء ، والنساء بالرجال ، واکتفی الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، ورکب ذوات الفروج السروج ، وقبلت شهادات الزور، وردت شهادات العدول ، واستخف الناس بالدماء ، وارتکب الزنا ، وأکل الربا ، واتقیَ الأشرار مخافة ألسنتهم ، وخروج السفیانی من الشام ، والیمانی من الیمن ، وخسف بالبیداء ، وقتل غلام من آل محمد(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بین الرکن والمقام إسمه محمد بن الحسن النفس الزکیة ، وجاءت صیحة من السماء بأن الحق فیه وفی شیعته ، فعند ذلک خروج قائمنا .

فإذا خرج أسند ظهره إلی الکعبة ، واجتمع إلیه ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً. وأول ما ینطق به هذه الآیة: بَقِیَّةُ اللَّهِ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ . ثم یقول: أنا بقیة الله فی أرضه ، وخلیفته وحجته علیکم ، فلا یسلم علیه مسلم إلا قال: السلام علیک یا بقیة الله فی أرضه ، فإذا اجتمع إلیه العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج ، فلا یبقی فی الأرض معبود دون الله عز وجل من صنم ووثن وغیره إلا وقعت فیه نار فاحترق . وذلک بعد غیبة طویلة ، لیعلم الله من یطیعه بالغیب ویؤمن به ».

أقول: قوله(علیه السّلام)فی الروایة المتقدمة وغیرها: وإن من علامات خروجه: خروج

ص: 121

السفیانی من الشام ، وخروج الیمانی من الیمن، دلیل علی أنه من أهل الیمن ، وأنه یخرج فی الیمن ویحکمها . وقد حاول بعضهم جعله من غیر الیمن ، وأغرب فجَعَل الیمانی من الیُمن ، وادعی بعضهم أنه هو الیمانی الموعود ، وهو غیر یمانی . وکلها محاولات مردودة ، لأنها مخالفة لظهور النص والمتبادر منه .

أما المروانی فتدل روایةٌ فی النعمانی/316 ، عن الإمام الباقر(علیه السّلام)علی أنه فی خط السفیانی ، وأنه قائد الجهة المقابلة للخط العباسی فی قرقیسیا ، ووقته قبیل السفیانی أو هو ممهد له ، قال(علیه السّلام): «إن لولد العباس والمروانی لوقعة بقرقیسیاء یشیب فیها الغلام الحَزَوَّر «الیافع» ویرفع الله عنهم النصر، ویوحی إلی طیر السماء وسباع الأرض: إشبعی من لحوم الجبارین ، ثم یخرج السفیانی » .

فالمروانی قائد فی قرقیسیا ، یکون قبیل الیمانی . والمروانیون فی العراق کثرة وفیهم شیعة وسنة . فقد یکون المروانی مع أمیر داعش ، أوخلیفته .

والسبب فی أن رایة الیمانی أهدی: أنه مبعوث مباشرة من الإمام المهدی(علیه السّلام) فهو وکیل خاص ونائب خاص ، تجب طاعته علی المؤمنین کافة ، کما یأتی .

کقصع الفخار وکرجل کانت فی یده فخارة وهو یمشی ، إذ سقطت من یده وهو ساه عنها فانکسرت ، فقال حین سقطت: هاه شبه الفزع ، فذهاب ملکهم هکذا أغفل ما کانوا عن ذهابه». ومثله الإرشاد/360 ، وغیبة الطوسی/271، وعنه الخرائج: 3 / 1163 .

ومعنی أن الثلاثة کنظام الخرز : أن أحداث خروجهم مرتبطة بحدث واحد ، أو محور واحد . وقد یکون معنی فی یوم واحد مجرد التزامن .

فالیمانی قائم مقام الإمام المهدی(علیه السّلام) ، وإلیه تنتهی المرجعیة العلیا ، وولایة الفقیه . وهو نائب خاص ، والنائب الخاص مقدم علی النائب العام .

وقد فصلت ذلک روایة النعمانی/262، قال(علیه السّلام): « ولیس فی الرایات رایة أهدی من رایة الیمانی ، هی رایة هدی لأنه یدعو إلی صاحبکم ، فإذا خرج الیمانی حرم بیع السلاح علی الناس وکل مسلم ، وإذا خرج الیمانی فانهض إلیه فإن رایته رایة هدی ، ولا یحل لمسلم أن یلتوی علیه ، فمن فعل ذلک فهو من أهل النار ، لأنه یدعو إلی الحق وإلی طریق مستقیم ».

ویؤیدها ما رواه النعمانی/316 ، بسند صحیح: « الیمانی والسفیانی کفرسی رهان ». أی أنه فی الهدی عِدْلُ السفیانی فی الضلال ، وروی ذلک فی الخراسانی أیضاً ، لکن الیمانی متقدم زمناً علیه .

فالجواب عنه أولاً: أن الروایة ضعیفة السند ، فلا یستدل بها .

وثانیاً: لو صحت فالمحتوم له معانٍ ، والمقصود هنا أنه محتومٌ منه تعالی ، ولیس محتوماً علیه کما زعم الیهود: وَقَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ الله مَغْلُولَةٌ .

وهذا معنی قول الإمام الصادق(علیه السّلام)عن جده عبد المطلب «الکافی:1/447»: «یبعث عبد المطلب أمة وحده ، علیه بهاء الملوک وسیماء الأنبیاء.وذلک أنه أول من قال بالبداء ، قال: وکان عبد المطلب أرسل رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )إلی رعاته فی إبل قد ندَّت له ، فجمعها فأبطأ علیه، فأخذ بحلقة باب الکعبة وجعل یقول: یا رب أتهلک آلک؟ إن تفعل فأمرٌ ما بدا لک ! فجاء رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم ) بالإبل وقد وجه عبد المطلب فی کل طریق وفی کل شعب فی طلبه ، وجعل یصیح: یا رب أتهلک آلک ، إن تفعل فأمر ما بدا لک . ولما رأی رسول الله أخذه فقبله وقال: یا بنی لا وجهتک بعد هذا فی شئ فإنی أخاف أن تغتال فتقتل» .

2. من یستنکر البداء لا ینتبه الی معناه ، فمعنی قولک: بدا لله أن یفعل کذا: قرر أن یفعله ، ولیس معناه ظهر له بعد خفائه . قال تعالی: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا کَأنوا یُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ. فالذی بدا لهم لیس خفیاً علیهم .

بل یستعمل فیما لاظهور فیه أبداً کقوله تعالی: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآیَاتِ لَیَسْجُنُنَّهُ . قال الإمام الصادق(علیه السّلام):«ما بدا لله فی شئ ، إلا کان فی علمه قبل أن یبدو له».«الکافی:1/148». وفی البخاری«4/146» «إن ثلاثة فی بنی إسرائیل أبرص وأعمی وأقرع ، بدا لله عز وجل أن یبتلیهم ، فبعث إلیهم ملکاً».

3. لأفعله تعالی أصول وقواعد وقوانین ، فلا یصح أن نُبَسِّطَها ونُصدر علیها أحکاماً بلا علم , لاحظ قول الإمام الکاظم(علیه السّلام):«لا یکون شئ فی السماوات ولا فی الأرض إلا بسبع: بقضاء وقدر وإرادة ومشیئة وکتاب وأجل وإذن ، فمن زعم غیر هذا فقد کذب علی الله ». «الکافی:1/150».

ص: 128

4. وَقَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَیْدِیهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ یُنْفِقُ کَیْفَ یَشَاءُ..أی زعموا أنه تعالی فرغ من الخلق والأمر ولا یستطیع تغییر شئ ! ووافقهم بعض المسلمین ، روی أحمد «2/52»: « قال عمر: یا رسول الله أرأیت ما نعمل فیه أفی أمر قد فرغ منه أو مبتدأ أو مبتدع ؟قال: فیما فرغ منه فاعمل یا ابن الخطاب فإن کلاً میسر لما خلق له». ونحوه البخاری:4/131.

وروینا نحن:« أنحن فی أمر فرغ أم فی أمر مستأنف؟ فقال(علیه السّلام): فی أمر فرغ وفی أمر مستأنف». « شرح الأسماء الحسنی : 2/84 ». وهذا معنی : بَلْ یَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ .

5. فی عیون أخبار الرضا(علیه السّلام)«2/160»:«قال سلیمان المروزی للرضا(علیه السّلام): ألا تخبرنی عن إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِی لَیْلَةِ الْقَدْرِ ، فی أی شئ أنزلت ؟قال(علیه السّلام): یا سلیمان لیله القدر یقدر الله عز وجل فیها ما یکون من السنة إلی السنة من حیاة أو موت أو خیر أو شر أو رزق ، فما قدره فی تلک اللیلة فهو من المحتوم. قال سلیمان: الآن قد فهمت جعلت فداک ، فزدنی . قال(علیه السّلام): یا سلیمان إن من الأمور أموراً موقوفة عند الله عز وجل ، یقدم منها ما یشاء ویؤخر مایشاء ویمحو مایشاء .

یا سلیمان إن علیاً(علیه السّلام)کان یقول: العلم علمان، فعلم علمه الله وملائکته ورسله ، فما علمه ملائکته ورسله فإنه یکون ولا یکذب نفسه، ولاملائکته ولا رسله(علیهم السّلام) . وعلم عنده مخزون لم یطلع علیه أحداً من خلقه، یقدم منه ما یشاء ویؤخر منه ما یشاء ، ویمحو ما یشاء ویثبت ما یشاء.قال سلیمان للمأمون: یا أمیر المؤمنین لا أنکر بعد یومی هذا البداء ولا أکذب به ، إن شاء الله » .

عمله العظیم . وهذه سیرة الأنبیاء والأوصیاء(علیهم السّلام) .

وقد أرسل الأنبیاء(علیهم السّلام) أشخاصاً لمهمات أقل من مهمة الیمانی وأعطوهم قدرات ومعجزات ، فقد أرسل عیسی(علیه السّلام)بعض الرسل وأعطاهم قدرة شفاء المرضی ، ثم أرسل شمعون الصفا(علیه السّلام)الی روما، وأعطاه القدرة علی شفاء المرضی وإحیاء الموتی. وأرسل الإمام الباقر(علیه السّلام)جابر بن یزید الجعفی رضی الله عنه الی الکوفة لینشر حدیث النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )، وأعطاه کرامات ومعجزات .

ومهمة الیمانی أعقد وأضخم من تلک المهمات ، فلا بد أن یعطیه الإمام(علیه السّلام)من العلم والمعجزات ما یکفی لیقتنع به الناس المنصفون ویطیعوه .

هذا ، مضافاً الی أن الإمام(علیه السّلام)سیکون بعد خروج السفیانی والیمانی ظاهراً جزئیاً ، ویشاهده العدید من الناس ، فیُرجعهم الی الیمانی .

ومع ذلک لابد أن نقدر أن أوساطاً من الشیعة فی إیران والعراق وغیرهما سترفض طاعة الیمانی ، لأنهم یرون أنفسهم أعلی منه مقاماً ، وأقدم حضارة ومدنیة ، لکن المعجزات وتأکیدات الإمام(علیه السّلام)ستکون عوناً له فی مهمته .

والظاهر أن المخاض الذی ذکرت الأحادیث أنه سیکون فی إیران قرب الظهور ، سببه الخلاف بینهم فی الدخول فی طاعة المهدی والیمانی .

فقد روی النعمانی/200 و271، تحرک آذربیجان سنة الظهور عن أبی بصیر: «قال الإمام الصادق(علیه السّلام): لا بد لنا من آذربیجان لا یقوم لها شئ ، وإذا کان ذلک فکونوا أحلاس بیوتکم والْبُدُوا ما لبدنا، فإذا تحرک متحرکنا فاسعوا إلیه ولو حبواً ، والله لکأنی أنظر إلیه بین الرکن والمقام یبایع الناس علی کتاب جدید علی العرب شدید ».

والنتیجة: أن الشیعة فی العالم سیُمتحنون بالیمانی ، لأنه قیادة جدیدة سیاسیة وعلمیة فیطیعه أکثرهم ، ومنهم من لا یطیعه ! والسبب أن من الأمور الصعبة علی العلماء

ص: 130

والحوزات أن یقبلوا ما یخالف ما درسوه واعتادوا علیه من مفاهیم وأحکام شرعیة ! ومن الصعب علی الإیرانیین أصحاب الحضارة والمدنیة العریقة ، أن یطیعوا الیمانی ، وهم یرون أنهم أقدم منه حضارة وثقافة !

والذی یهون الخطب أن مدة الإمتحان سبعة أشهر فقط ، ثم یظهر الإمام(علیه السّلام).

المسألة الرابعة: دور الیمانی فی دولة المهدی(علیه السّلام):

أول مهمات الیمانی أن یحکم الیمن ویدعو العالم الی اتباع الإمام المهدی(علیه السّلام) والتبشیر بأنه قادم عن قریب . وقد وردت إشارة الی حرکة عسکریة للیمانی، والظاهر أنها نحو مکة «الکافی:8/224» قال(علیه السّلام): «وظهر الشامی، وأقبل الیمانی، وتحرک الحسنی» وطبیعی أن یطلب الإمام(علیه السّلام)من الیمانی أن یدخل بجیشه ویحرر مکة ، لأن حکومة الحجاز رغم ضعفها تکون شرسة !

فعندما یخرج الحسنی مدعیاً أنه المهدی الموعود یثورون فی وجهه ویقتلونه ، ثم یرسل الإمام(علیه السّلام)قبل أسبوعین من ظهوره شاباً حسنیاً ، لیقرأ رسالة منه فی المسجد ، فیبتدرون الیه ویقتلونه بوحشیة .

لذلک کان طبیعیاً أن تدخل قوات الیمانی وتحرر مکة ، وأوسع من مکة أیضاً. والظاهر أن الإمام(علیه السّلام)لایواجه معرکة مهمة فی مکة ولا المدینة ولا فی الخلیج ، بسبب خوفهم جمیعاً من الجیش الیمانی ، فیأتون الیه خاضعین .

ولذلک ورد أن المهدی(علیه السّلام)ینشر رایة رسول الله(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی العراق عندما یرید التوجه الی الشام ، ولیس قبله .

وذکرت بعض الروایات دوراً عسکریاً للیمانی فی العراق، وهو بعید، لأن الإمام(علیه السّلام)لا یحتاج الیه هناک ، نعم یحتاج الیه فی معرکته الکبیرة مع السفیانی ومن ورائه الیهود . لکن لم أجد روایة معتبرة تذکرجیش الیمانی فیها .

ص: 131

ومهما یکن ، فإن الیمانی سیکون حاکم الیمن والحجاز والخلیج من قبل المهدی(علیه السّلام) ویتوجه المهدی الی العراق فیبقی فیه أشهراً قلیلة ، ثم یتوجه الی معرکته الموعودة فی دمشق ، وبانتصاره فیها یدخل القدس ویخطب فی الیهود بالعبریة ، ویستخرج لهم أسفاراً من التوراة من جبل بالشام ، وجبل بفلسطسن ، فیؤمن له منهم ثلاثون ألفاً .

ثم یتحرک الغرب ضده ، ویعلن الحرب علیه ، فینزل الله عیسی بن مریم(علیه السّلام) ویقنع الغرب بهدنة واتفاقیة سلام مع المهدی(علیه السّلام)..الخ.

ص: 132

عداء معاویة وبنی أمیة لأهل الیمن........................34

الفصل الرابع: بشارة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بفتح الیمن

بشارة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بفتح الیمن36

انهیارحکم الفُرس فی الیمن وبدایة الحکم الإسلامی.....36

رسالة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الی کسری...37

أسلم باذان الفارسی وصارحاکم الیمن ................. 39

الأسود العنسی یدعی النبوة ویقتل باذان ...............40

الفصل الخامس: فُتحت الیمن برسائل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )وجهاد علی(علیه السّلام)

رسائل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )الی أهل الیمن ووفودهم الیه................................................ 45

جهاد علی(علیه السّلام)فی فتح الیمن...................49

ادعی کعب الأحبار أنه لقی علیاً(علیه السّلام)فی الیمن............................................... 54

أهدی علی(علیه السّلام)إلی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )أفراساً من الیمن................. 54

وأرسل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیاً(علیه السّلام)لماارتد عمرو بن معدیکرب 54

وأرسل النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )علیاً(علیه السّلام)قاضیاً إلی الیمن........................ 58

وثیقة صلح کتبها علی(علیه السّلام)بین القبائل........................................................ 59

کذبوا علی علی(علیه السّلام)أنه ذم الیمنیین.............59

وبالغوا فی دورمعاذ وأبی عبیدة وأبی موسی فی الیمن 61

الفصل السادس:وفود أهل الیمن علی النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )

موجز عن وفودهم بروایة ابن سعد............................ 66

ص: 134

الفصل السابع: وفد نجران وقصة المباهلة

کانت ولایة نجران فاتیکان الجزیرة العربیة .............74

مخالفاً دین النصاری دینها.................................75

الفصل الثامن: أهل الیمن أبطال فتح القدس وسوریا وإیران

مالک الأشتر جاهد مع علی(علیه السّلام)فی فتح الیمن................................................ 80

أبو عامر الأشعری قائد مع النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )فی حنین .............................................. 83

النخعیون أبطال النصر فی القادسیة .................. 85

مالک الأشتر بطل النصر فی الیرموک .................... 86

تفسیر آیات العباد الموعودین................................ 92

إعلان هرقل الإنسحاب من سوریا وفلسطین...... 94

مطاردة الأشتر جیش الروم المنسحب .......... 95

دور البطل عمر بن معدی کرب فی الفتوحات.......... 98

الفعل لهؤلاء الأبطال والإسم لسعد بن أبی وقاص !.....104

الفصل التاسع: بشارة النبی(صلّی الله علیه و آله وسلّم )بدور الیمن فی مستقبل العالم

أحادیث الیمانی من مصادر السنیین ....................108

الحدیث الأول: حدیث الیمانی الذی محاه معاویة ! 108

الحدیث الثانی: توبة عبد الله بن عمرو العاص!.........109

الحدیث الثالث: توبة عبد الله بن عمرو ثانیةً !............110

الحدیث الرابع: تأیید کعب الأحبار لتوبة ابن عمرو !.....110

ص: 135

الحدیث الخامس: أبشرکم بطاغیة یمانی !.............110

الحدیث السادس: أن الیمانی بعد المهدی(علیه السّلام):..111

الحدیث السابع: أحادیث ورد فیها إسم المنصور الیمانی:113

أحادیث الیمانی من طریق أهل البیت(علیهم السّلام)

الحدیث الأول: الیمانی أحد المحتومات الخمس..............115

الحدیث الثانی: الیمانی من المحتومات الست.......116

الحدیث الثالث: المنصور الیمانی ........................116

الحدیث الرابع: الفرَج إذا اختلف آل فلان وأقبل الیمانی.....117

الحدیث الخامس: الیمانی یوالی علیاً(علیه السّلام) .119

الحدیث السادس: وخروج الیمانی من الیمن..............120

الحدیث السابع: السفیانی والیمانی والمروانی.......122

الحدیث الثامن: الیمانی والسفیانی کفرسی رهان ...123

الحدیث التاسع: أهدی الرایات رایة الیمانی .............123

الحدیث العاشر: الترابط بین السفیانی والیمانی والخراسانی 124

الحدیث الحادی عشر: قبل الیمانی کاسر عینه بصنعاء 125

الحدیث الثانی عشر: یخرج قبل السفیانی مصری ویمانی 126

مسائل حول الیمانی .........................................126

المسألة الأولی: مکانة الیمانی عند الإمام المهدی(علیه السّلام)..................................... 126

المسألة الثانیة: المحتوم محتومٌ من الله ولیس محتوماً علی الله 146

المسألة الثالثة: ماذا سیکون موقف المرجعیة وإیران من الیمانی؟ 127

المسألة الرابعة: دور الیمانی فی دولة المهدی(علیه السّلام)........................................ 129

ص: 136