اهداف التربیه الاسلامیه

اشارة

عنوان قراردادی:اهداف تربیت از دیدگاه اسلام .عربی

عنوان و نام پدیدآور:اهداف التربیه الاسلامیه/ مرکز ابحاث الحوزه والجامعه؛ تعریب السید حسن علی الهاشمی.

مشخصات نشر:قم : مرکز المصطفی(ص) العالمی للترجمه والنشر، 1436ق.= 1393[صحیح: 1394].

مشخصات ظاهری:319 ص.؛ 5/14 × 21 س م.

فروست:جامعه المصطفی(ص)العالمیه؛ 940.

شابک:150000 ریال: 978-964-195-269-5

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

یادداشت:کتابنامه: ص.[317] - 319؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع:اسلام و آموزش و پرورش

موضوع:اسلام و آموزش و پرورش -- هدف ها و نقش ها

شناسه افزوده:هاشمی، حسن علی، مترجم

شناسه افزوده:جامعة المصطفی(ص) العالمیة. مرکز ابحاث الحوزة و الجامعة

رده بندی کنگره:BP230/18/الف9043 1394

رده بندی دیویی:297/4837

شماره کتابشناسی ملی:3674642

ص :1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص :2

اهداف التربیه الاسلامیه

مرکز ابحاث الحوزه والجامعه

تعریب السید حسن علی الهاشمی

ص :3

ص :4

کلمة الناشر

اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی أَنْزَلَ عَلی عَبْدِهِ الْکِتابَ وَ لَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً .(1)

والصلاة والسلام علی سیدنا محمد خاتم النبیین وعلی آله الطیبین الطاهرین المعصومین.

لقد شهدت دائرة العلوم الإسلامیة علی اختلاف موضوعاتها وأغراضها عبر تاریخها الطویل، اتّساعاً واضحاً ونموّاً مطّرداً، صاحبَهَا ازدهارٌ مشابهٌ فی العلوم الإنسانیة، وفی الفکر، والثقافة والتعلیم، والفن والأدب.

وقد ازدادت هذه العلوم نشاطاً وحیویّةً وعمقاً وشمولاً بعد انتصار الثورة الإسلامیة بقیادة الإمام الخمینی (قدس سره) وتصاعدت حرکة أسلمة العلوم، وترکیز القیم الدینیة والروحیة والإنسانیة، بعد تزاید الحاجة الماسّة إلی إیجاد الحلول للمشاکل والاستفهامات الدائرة فی شتّی الموضوعات الاجتماعیة والسیاسیة والعقائدیة، فی ظلّ المتغیّرات الحاصلة فی مجمل دوائر الفکر والمجتمع، وانتشار شبهات العولمة والفکر الإلحادی، وحتی التکفیری المتطرّف، بخاصّةٍ بعد ثورة الاتصالات الکبری التی هیّأت للعالم فرصة فریدة للاطلاع الواسع بما یحیط به.

ص:5


1- (1)) الکهف: 1.

من هنا دعت الحاجة إلی وضع مناهج للبحث والتحقیق، واستخلاص النتائج الصحیحة فی کلّ علمٍ من علوم الشریعة: فی التوحید، والفقه، والأصول، والفلسفة، والکلام، والحدیث، والرجال، والتاریخ، والأخلاق والنفس، والاجتماع، وغیرها؛ لتوقّف سعادة الإنسان علیها فی الدنیا والآخرة؛ ولتحقیق الغرض العبادی الذی خُلق الإنسان من أجله وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ .(1)

فقامت فی الحوزة العلمیة حرکة علمیة کبری بتوجیه من قائد الجمهوریة الإسلامیة الإمام الخامنئی (دام ظلّه) وجهود الفقهاء والعلماء والمفکّرین، والعمل الجاد وبذل غایة الوسع، من أجْل بناء صرح علمی دینی رصین، وصیاغة مناهج جدیدة تُعنی بعلوم الشریعة، وعموم حقول المعرفة الإسلامیة والإنسانیة.

وأخذت جامعة المصطفی (صلی الله علیه و آله) العالمیة علی عاتقها المساهمة الفعّالة فی صیاغة کثیر من المناهج الدراسیة، التی تنسجم مع تصاعد الحرکة العلمیة والثقافیة الحدیثة.

فأسست (مرکز المصطفی العالمی للترجمة والنشر) لینهض بنشر هذه الآثار العلمیة وتقدیمها لطلاب العلم وروّاد المعرفة.

نأمل أن تأخذ هذه الآثار مکانها فی المکتبة الإسلامیة، وتلقی جمیل الأثر، وحسن الردّ من رجال العلم والفضیلة؛ بأن یرسلوا إلیها بما یستدرکون علیها من نقص، أو خطأٍ یفوّت جهد المحقّق الحصیف، والمؤلّف الحریص.

والکتاب الذی بین یدی القارئ الکریم، تقدّم مرکز أبحاث الحوزة والجامعة، و قام بترجمته إلی العربیة الأستاذ السید حسن علی الهاشمی جاء متّسقاً مع أهداف الجامعة، ومفردة من مفردات مناهجها الدراسیة المترامیة الأطراف.

ص:6


1- (1)) الذاریات: 56.

یتقدّم (مرکز المصطفی (صلی الله علیه و آله) العالمی للترجمة والنشر) بوافر الشکر لمترجمه الکریم علی ما بذله من جهد وعنایة، ولکلّ من ساهم بجهوده لإعداد هذا الکتاب، وتقدیمه للقرّاء الکرام.

نسأل الله تعالی التوفیق والسداد وهو من وراء القصد.

مرکز المصطفی (صلی الله علیه و آله) العالمی

للترجمة والنشر

ص:7

ص:8

الفهرس

المقدّمة 13

القسم الأول: مفهوم الهدف والتبویب وماهیّة الهدف الغائی فی المنظور الإسلامی

الفصل الأول: مفهوم الهدف وملاک تحدیده 19

مفهوم الهدف والمفردات المرادفة له 19

مفهوم الهدف فی التربیة والتعلیم 21

الأهداف المناسبة للاختیار 24

هدفیة العالم من منظور القرآن والعقل 26

هدف حیاة الإنسان من منظور القرآن 27

أسس تحدید أهداف التربیة والتعلیم 28

1. الأسس العلمیة 29

2. الأسس الفلسفیة 30

3. الأسس الدینیة 40

الفصل الثانی: تبویب أهداف التربیة والتعلیم 41

مفهوم تبویب الأهداف التربویة من الزاویة الدینیة والعلمیة 41

العلاقة بین تبویب الأهداف التربویة من الزاویة الدینیة والزاویة العلمیة 44

تبویب الأهداف التربویة من زاویة العلوم التربویة 46

1. المساحة المعرفیة 47

2. المساحة العاطفیة 49

ص:9

3. المساحة النفسیة - الحرکیة 51

تبویب الأهداف التربویة من زاویة الإسلام 53

الفصل الثالث: الهدف الغائی وخصائصه 57

مفهوم الهدف الغائی من الزاویة الدینیة وخصائصه 57

الهدف الغائی من وجهة نظر الإسلام 62

بحث خاص 66

القسم الثانی: الأهداف العامّة (الوسیطة)

بحث خاص 72

الفصل الأول: الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلّق بارتباط الإنسان بخالقه 75

معرفة الله 75

الإیمان 77

الآثار التربویة للإیمان 79

التقوی 83

1. التقوی هدف وسیط 85

2. اختلاف التقوی عن الإیمان 86

3. التقوی وسیلة للوصول إلی المراحل العلیا 88

4. الآثار التربویة للتقوی 90

العبادة 96

1. العبادة هدف وسیط 98

2. ارتباط العبادة بالهدف النهائی 98

3. الآثار التربویة للعبادة 99

الشکر 105

1. مفهوم وماهیة أداء حقِّ الله 106

2. بحث خاص 108

3. الأسس الحاکمة علی الشکر فی القرآن الکریم 109

4. الشکر واختلافه عن سائر الأهداف الوسیطة الأخری 110

5. الآثار التربویة المترتبة علی الشکر 113

الفصل الثانی: الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلّق بارتباط الإنسان بنفسه 117

الأبعاد المختصّة بالإنسان 119

ص:10

أ) الأهداف المعرفیة 119

1. تنمیة قوة العقل 120

2. بحث خاصّ 130

3. تحصیل العلوم والمعارف 147

4. السموّ الفکری 168

5. معرفة النفس 172

معرفة النفس مقدمة إلی معرفة الله: 175

ب) الأهداف الإنتمائیة 184

1. تنمیة المطالبة بالحقیقة 186

2. تنمیة النزعة إلی البحث عن الله 188

3. تنمیة النزعة إلی اکتساب الفضیلة 192

4. تنمیة النزعة والمیل إلی الخلود 198

5. تنمیة النزعة إلی اکتساب الکمال 202

6. تنمیة النزعة إلی الحیاة الاجتماعیة 206

7. تنمیة النزعة والمیل إلی الدفاع 215

8. تنمیة النزعة إلی الجمال 220

9. هدایة وتوجیه النزعة إلی التملّک 223

ج) تعزیز الإرادة: 232

الأبعاد المشترکة بین الإنسان والحیوان 240

1. هدایة وتعدیل المیول المشترکة 240

2. بحث خاصّ 242

أ) هدایة وتعدیل إشباع الجوع والعطش 248

ب) هدایة وتوجیه النزعة إلی النوم 254

ج) توجیه وهدایة الرغبة الجنسیة: 255

3. أهداف الإسلام التربویة فی خصوص جسم الإنسان 260

الفصل الثالث: أهداف الإسلام التربویة فی خصوص علاقة الإنسان بالآخرین 263

أهداف الإسلام التربویة فیما یتعلق بالعلاقات الاجتماعیة: 265

1. الأهداف التربویة فیما یتعلق بالنبیّ والأئمة وخلفائهم 265

2. الأهداف التربویة فیما یتعلق بالمعلِّم أو المتعلِّم 266

مسؤولیات المعلِّم تجاه المتعلِّمین 266

3. الأهداف التربویة فیما یتعلّق بالارتباط بالوالدین: 270

أ) إحترام الوالدین 273

ص:11

ب) الاعتراف بحقّ الوالدین 275

4. الأهداف التربویة فیما یرتبط بالعلاقة الزوجیة 277

أ) تلبیة الاحتیاجات الروحیة: 278

ب) تلبیة الاحتیاجات المادیة: 280

5. الأهداف التربویة فیما یرتبط بالعلاقة مع الولد 281

أ) تجنب الإفراط والتفریط فی تربیة الأولاد 282

ب) مسؤولیة الوالدین تجاه الأولاد 284

6. الأهداف التربویة بشأن علاقة المؤمنین ببعضهم 289

7. الأهداف التربویة فیما یتعلق بعلاقة المؤمن بعامة الناس 293

الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلق بالعلاقات الاقتصادیة 297

1. أهداف الإسلام التربویة فیما یتعلق بالإنتاج 299

2. الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلق بالتوزیع 302

3. الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلق بالاستهلاک 303

أهداف الإسلام التربویة فیما یرتبط بالعلاقات السیاسیة 304

1. السعی إلی تحصیل القدرة السیاسیة 305

2. ممارسة السلطة من أجل تحقیق الأهداف الإسلامیة المتعالیة 306

أهداف الإسلام التربویة فیما یتعلق بالعلاقات الثقافیة 310

الفصل الرابع: أهداف الإسلام التربویة فیما یرتبط بعلاقة الإنسان بالطبیعة 313

معرفة الطبیعة 314

توظیف الطبیعة بشکل صحیح 316

ص:12

المقدّمة

اسم ترک إنّ الکتاب الذی بین أیدیکم هو الجزء الثانی من سلسلة مدخل إلی التعلیم والتربیة الإسلامیة، ویتضمن الطرح العام ل - (أهداف التربیة الإسلامیة) والأبحاث المرتبطة بها. وقد تمّ إعداد هذا المشروع علی أساس الدراسات الشاملة التی قامت بها هیئة العلوم التربویة فی لجنة التنسیق بین الحوزة العلمیة والجامعة. وقد اشتمل الجزء الأول من هذا الکتاب علی تعریف التربیة والتعلیم، والمسار التاریخی لها، وموضوعها. وفی هذا الجزء سنتناول بحث الأهداف التربویة.

ومن الضروری - قبل کل شیء - أن نشرح باختصار بعض المسائل الموجودة فی هذا الکتاب:

1. لم یکن المنظور فی هذا الکتاب هو تنظیم وتبویب الأهداف طبقاً للمفهوم الخاص المتّبع فی العلوم التربویة، بل إننا نظرنا إلی هذه الأهداف من زاویة الرؤیة الإسلامیة.

2. لقد رأینا أن نطرح العدید من الآراء، وبعد البحوث المطولة والدقیقة تمّ إعداد الطرح الفعلی لهذا الکتاب. وفی هذا الطرح تمّ تقسیم الأهداف إلی

ص:13

مجموعتین، هما: الأهداف الغائیة، والأهداف العامة. وقد کان بحث الأهداف العامة ضمن أربع مقولات، وهی:

علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بالآخرین، وعلاقة الإنسان بالطبیعة. فی هذا التبویب وقد اتبعنا فی هذا التبویب منهج السید الشهید محمدباقر الصدر فی کتابه الفتاوی الواضحة، وکذالک منهج الأستاذ الشیخ محمد تقی مصباح الیزدی فی بحوثه الأخلاقیة. وبطبیعة الحال کان هناک فی جمیع المناهج المقدمة - بما فی ذلک منهج هذا الکتاب - بعض التداخلات، بید أننا وجدنا هذا المنهج فی نهایة المطاف أفضل من غیره من حیث الجامعیة والشمولیة والوضوح والمتانة والبساطة.

3. تمّ تقسیم جمیع أبحاث هذا االکتاب إلی قسمین عامین: ففی القسم الأول بحثنا مفهوم الهدف، وتبویبه، والملاکات فی تحدید الأهداف، ونوع تبویبها من خلال دراسة تحلیلیة، وفی الختام تم بحث الأهداف الغائیة من وجهة نظر الإسلام. وفی القسم الثانی قُمنا - علی أماست الاعتماد علی المبانی - والمصادر الدینیة - بتقسیمات فرعیة بغیة استنباط الأهداف واستخراجها منها.

4. إن میزة التحقیق الذی أنجزته الهیئة الآنفة الذکر والتی تمّ تلخیصها فی هذا الکتاب، تکمن فی الأمور الآتیة:

أولاً: إنّ تنظیم أهداف التربیة الإسلامیة بهذه الجامعیة والشمولیة یعد الخطوة الأولی فی هذا المجال.

ثانیاً: لقد کان الاستناد - فی جمیع الأبحاث - إلی المصادر الإسلامیة الموثوقة والمعتبرة، بالإضافة إلی الآیات القرآنیة والروایات.

ثالثاً: لقد تمّ إنجاز هذا التحقیق بشکل جماعی وبمشارکة أساتذة الحوزة العلمیة والجامعة.

ص:14

5. لقد أحجمنا - فی هذا الکتاب - عن الخوض فی البحوث المقارنة بالأفکار والمدارس الأخری، مکتفین بالآیات القرآنیة والروایات باعتبارها هی المصدر الرئیس.

6. من الممکن أن یکون هذا الکتاب مصدراً للطلاب فی مرحلة البکلوریوس والماجستیر والدکتوراه، بخاصةٍ فی حقل الفلسفة، وتاریخ التربیة والتعلیم والتربیة الإسلامیة، کما یمکن لغیر هؤلاء - بطبیعة الحال - من الباحثین فی حقل التربیة والتعلیم الإسلامی أن یستفیدوا من هذا الکتاب أیضاً.

وفی الختام نری من الواجب علینا أن نتقدّم بالشکر الجزیل والتقدیر الکبیر لسماحة الدکتور علی محمد کاردان علی مراجعته بحوث هذا الکتاب، وحضوره فی اجتماعات الهیئة العلمیة، وما تفضّل به من مقترحات نافعة، وکذلک نتقدم بجزیل شکرنا إلی الأخ الفاضل سماحة السید شهاب الدین مشایخی الذی قام بتقویم النص من خلال إعادة قراءته وکتابته وتنقیح محتواه، وکذلک نتقدم بالشکر الجزیل لکل الإخوة المسؤولین الکرام فی مکتب التعاون والتنسیق ومنظمة (سمت). ونتمنی من الإخوة الباحثین والمحققین أن لا یبخلوا علینا بتوجیهاتهم ونصائحهم القیّمة.

هیئة العلوم التربویة

ص:15

ص:16

القسم الأول: مفهوم الهدف والتبویب وماهیّة الهدف الغائی فی المنظور الإسلامی

اشارة

ص:17

ص:18

الفصل الأول: مفهوم الهدف وملاک تحدیده

مفهوم الهدف والمفردات المرادفة له

یتضح من خلال التدبّر فی المعانی اللغویة لکلمات من قبیل: الهدف والقصد، والغایة، أنّها تشتمل بأجمعها علی مفهوم (إتمام العمل وإنجازه). مع فارق أنّ الغایة النهائیة تارة تتعلّق بأمر خارجی من قبیل الهدف فی الرمایة أو المقصد الذی یرید المسافر بلوغه، وهو الذی یسمی ب - (الهدف) و (الغایة)، وتارة یکون أمراً ذهنیا أو وجدانیاً من قبیل: الشعور باللذة والمتعة عند شمّ الریاحین، وهو الذی یسمی: بالقصد والغرض والدافع والشوق(1).

أ) معنی الهدف لغة: مرمی السهم، وکلّ شیء مرتفع ومُشرع.

ب) معنی الغرض لغة: الشوق والدافع والإرادة، ومرمی السهم.

ج) معنی القصد لغة: الاعتدال، وإرادة القیام بفعل، والتعمد والعمد، والطریق الصحیح والمستقیم.

د) معنی الغایة لغة: إتمام العمل وإنجازه، والهدف والغرض، والمقصود، والرایة.

ص:19


1- (1)) وبطبیعة الحال فإنّ الهدف والغایة کلمتان تستعملان أیضاً للدلالة علی معنی الدافع والقصد أیضاً، کما یستعمل القصد والغرض فی معنی الهدف الخارجی أیضاً.

إنّ المعانی المشترکة بین مفردة ال -: ( intention) ، و ( purpose) ، و ( goal) ، و ( objective) ، و ( aim) ، عبارة عن الهدف والمقصود والنقطة والنهائیة التی یبلغها السهم، أو الشیء الذی یروم الإنسان أن یبلغه من وراء سعیه ومجهوده. وربّما أمکن القول إنّ لفظ (الهدف) قد استعمل أول الأمر لمرمی السهم، ثمّ - بالالتفات إلی أنّ (مرمی السهم) یکون ملازماً لوضعه فی مکان مرتفع ومشرع - شاع استعماله فی هذا المعنی بشکل عام. ومن ناحیة اخری حیث یُؤخذ المرمی بنظر الاعتبار والاهتمام أولاً، ثمّ یصار إلی رمی السهم وإصابته لذلک الهدف، فقد استعمل هذا المصطلح فی مفهوم (النهایة)، و (إتمام العمل)، و (الغرض)، و (الدافع من وراء الفعل). کما أن مفردة الغرض والغایة تشتمل علی هذه المعانی أیضاً، وعلیه فهناک من الناحیة اللغویة نوع من الترادف بین هذه المفردات.

هذا وقد ذکر بعض المحققین أربعة معانی لمفردة (الهدف)(1).

1. السلوک الوظیفی: عندما یقال: (إنّ الغایة من مهاز الکلیة، هی تصفیة الدم) لا تکون هناک إشارة صریحة إلی عنصر هادف، ولذلک یمکن استبدال کلمة الغایة بکلمة وظیفة. إنّ المفاهیم الوظیفیة تلفت انتباه الفرد إلی سهم عضو أو تیار ضمن نشاط أو مجموعة کاملة.

2. سلوک التنظیم التلقائی: تصوروا منظومة للسیطرة یتمّ فیها ترمیم کل نوع من الجنوح عن شرائط الجودة من خلال آلیة ترمیمیة تعمل بشکل تلقائی. من قبیل: أنظمة تعدیل مقیاس حرارة الجسم بواسطة قیاس دفق الدم - وهو من أنظمة التعدیل الحیوی فی جسم الإنسان - أو نظام التوجیه الصاروخی الذی یبحث عن الهدف بتوجیه من جهاز الرادار أو الأشعة ما دون الحمراء. ففی هذه المنظومات یکون السلوک الغائی سلوکاً تتم السیطرة علیه بواسطة التآکل السلبی الناشئ من الاختلال فی النظام.

ص:20


1- (1)) العلم والدین، باربر، إیان: 371.

3. السلوک الموجّه نحو الهدف: یمکن تعریف هذا السلوک بأنّه (الخضوع للهدف فی ظروف مختلفة). إنّ هذا النوع من السلوک لیس میکانیکیاً لا یقبل المرونة، بل هناک مرونة عالیة فی اختیار أنواع الأعمال من أجل الوصول إلی الهدف، من قبیل سلوک الهرة عند محاولة إمساکها بالفأرة حیث ترکز انتباهها علی هدف خاص، وتحدد الطرق الممکنة للوصول إلی غایتها ومبتغاها.

4. السلوک الهادف: تستعمل مفردة الهادف فی موضع یکون فیه شوق وقصد وعقیدة تجاه هدفٍ ما. من قبیل سلوک الفرد تحت تأثیر الأهداف الواعیة.. جدیر ذکره أنّ الناس - بما یتناسب وأهدافهم المستقبلیة والحماسة التی یبدونها من أجل تحقیقها - یعملون بالشکل الذی یرونه هو الأفضل من أجل الوصول إلی أهدافهم.

المفهوم الفلسفی للغایة. تستعمل الغایة فی الفلسفة فی معنیین(1):

أ) النتیجة والغایة حیثُ یقوم الفاعل المدرک بالفعل من أجل الوصول إلیها، وتصوّر تلک النقطة الأخیرة التی تسوق الفرد نحو الهدف. ومن الزاویة الفلسفیة تکون للغایة بهذا المعنی ثلاث خصائص، وهی: التصور السابق فی الذهن، والتصدیق بفائدته، واقترانه بنوع من الشوق والرغبة.

ب) الغایة بمعنی النتیجة والنهایة التی تحصل بعد تحقق الحرکة.

مفهوم الهدف فی التربیة والتعلیم

إنّ الهدف فی التربیة والتعلیم یعنی الواقع النهائی والمناسب الذی تمّ اعتباره نافعاً بشکل واعٍ، ویتم القیام بأنشطة تربویة مناسبة من أجل تحقیقه

ص:21


1- (1)) لمزید من الاطلاع انظر: الأسفار الأربعة، الشیرازی: 251/1؛ صدر الدین، شرح المنظومة، السبزواری: 124؛ الشفاء، ابن سینا: 448؛ آموزش فلسفه، مصباح الیزدی: 99/2.

والقیام به. وعلی هذا الأساس فإن الأهداف التربویة تحتوی علی ثلاث آلیات، وهی: قیادة الأنشطة التربویة، وخلق الحافز والدافع لدی الفرد، وتقدیم المعیار الناجع فی تقییم الأنشطة التربویة. وأنّ الخصوصیة المشترکة فی جمیع الأهداف التربویة (الأهداف الغائیة، والأهداف العامة، والأهداف الخاصة والسلوکیة)، هی أنّ هذه الأهداف نتیجة نشاط واحد أو العدید من الأنشطة التربویة.(1)

خصائص الهدف. بالالتفات إلی ما تقدّم من مفهوم الهدف، فإنّ أهم خصائصه عبارة عن:

1. الاختیار: حیث یتمّ القیام بالأفعال الاختیاریة عن وعی وإرادة، یکون هناک نوع من التکّهن والانتخاب فی جمیعها، بمعنی أنّ ماهیة الهدف تستلزم جزأی الوعی والإرادة. إذن، لا یکون للهدف من معنی إلّا فی دائرة الأفعال الاختیاریة التی تتم بوعی وإرادة، وأمّا خارج هذه الدائرة حیث لا تکون الأفعال عن وعی ولا تکون مسبوقة بالإرادة فإنها لیست ذات معنی.

2. الدافع: حیث إنّ الحصول علی الأهداف یضمن الحاجة النفسیة وغیرها من حاجات الفرد، فإنّه یسیر باتجاه الهدف عن شوق ورغبة. وعلیه فإن من بین أهم خصائص الهدف إیجاد الدافع لدی الفرد.

3. تحدید المسار: لا شکّ فی أنّه لا یمکن بلوغ الهدف من خلال سلوک أی طریق أو منهج، بل من الضروری لبلوغ الأهداف من رسم مخطط ونظام مدروس. وعلی هذا الأساس لا بد - للوصول إلی الهدف - من وجود آلیّة من قبیل: الإدارة والأنظمة وتحدید المسار.

العمل التربوی، والنشاط الاختیاری: هل یعتبر کلّ نشاط یحتوی علی

ص:22


1- (1)) لمزید من الاطلاع انظر: مبانی وأصول آموزش وبرورش، شکوهی: 115؛ اصول آموزش وبرورش، هشیار: 12؛ فلسفة التربیة والتعلیم، سمث: 74.

تأثیر تربوی، عملاً تربویاً؟ وما هو الرکن الرئیس فی النشاط التربوی؟ للإجابة عن هذین السؤالین یجب أولاً تعریف (النشاط التربوی) وبیان المراد منه. إن المراد من التربیة والنشاط التربوی فی إطار نظام التربیة والتعلیم مسار تشکّل الأنظمة رکنه الرئیس بغیة الوصول إلی هدف تربوی. وطبقاً لهذا التعریف یمکن لنا أن نعتبر النشاط التربوی عملاً هادفاً، والقول: إنّ عناصر الوعی والإرادة دخیلة فیه. إن بالإمکان التکهن بتأثیر النشاط التربوی، وکما یمکن تحدیده وبیانه علی أساس خصائص الهدف (من الاختیار والدافع والمسار). لو أنّ نشاطاً ترک أثراً تربویاً دون أن یکون له تخطیط أو قصد سابق، لا یمکن عدّه نشاطاً تربویاً. وتوضیح ذلک إنّ بعض الأنشطة والأفکار التی یمارسها الناس من قبیل (الآداب والتقالید، والصحافة، ومشاهدة الأنشطة التلفزیونیة وغیرها) والعوامل الطبیعیة من قبیل (هطول الأمطار والثلوج، وحدوث الزلازل والطوفان، وما إلی ذلک) قد تترک تأثیراً تربویاً، فی حین أنّه لم یتم التخطیط لها، ولم تکن هادفة، ولم یتم اعتبارها نشاطاً تربویاً. وعلیه فإن المهم فی البین هو ما کان له هدف تربوی. فإنّ النشاط الخالی من القصد التربوی حتی إذا کان مشتملاً علی تأثیر تربوی، لا یکون (نشاطاً تربویاً).

ضرورة تحدید الهدف: هل یمکن القیام بأمر دون الأخذ بنظر الاعتبار هدفاً محدداً؟ یجب القول فی معرض الإجابة عن هذا السؤال: من وجهة النظر الفلسفیة والنفسیة إذا لم یکن لدی الإنسان حافز للقیام بعمل، فإنّه لن یقوم باتخاذ أیّ خطوة فی هذا الاتجاه. بحسب المصطلح الفلسفی تسمی نتیجة العمل (غایة)، کما یسمی الدافع والحافز المسبوق بالوعی والإدراک لنتیجة ذلک ب - (العلة الغائیة). وأنّ دور العلة الغائیة فی التحلیل الفلسفی یکمن فی خلق نوع من الشوق والرغبة الذاتیة للقیام بفعل أو ترکه. ففی علم النفس نجد أحد الأبحاث الهامة یتلّخص فی بحث الحافز والدافع. یری علماء النفس

ص:23

أنّ أنواع السلوک التی تصدر عن الإنسان، ومن بینها: التعلّم؛ والإدراک والاستذکار، والتفکیر، والإبداع، والحماسة، تحصل بتأثیر من الحافز والدافع، وقد ذهبوا إلی الاعتقاد بأنّ الدافع یعمل علی توجیه سلوک الإنسان، ویؤدّی به إلی الانتباه إلی الهدف من النشاط المنشود ومواصلة نشاطه. وطبقاً للتحلیلات الفلسفیة ودراسات علم النفس، فإن تحدید الهدف وتعیینه الدقیق تترتب علیه نتائج وآثار هامة علی صعید التربیة والتعلیم، ومن بینها النتائج الآتیة:

1. معرفة الأسالیب وإعداد الأدوات والوسائل المناسبة لرفع الموانع.

2. التنسیق بین أنشطة مختلف العاملین فی الحقول التربویة من قبیل: المعلمین والمدرسین، والمخططین، وواضعی المناهج الدراسیة، ومدراء التربیة والتعلیم.

3. خلق الحافز والدافع إلی مزید من الحرکة بغیة الوصول إلی القصد والغایة.

4. الحصول علی معیار لقیاس مدی نجاح النشاط التربوی وسعی النظام التعلیمی، ولرفع النواقص وإعادة النظر فیها أحیاناً.

الأهداف المناسبة للاختیار

إنّ أهمیة الأهداف فی استثمار الأنشطة التربویة تحتّم علینا أن نستفید من معاییر محددة من أجل الاختیار المناسب. وإنّ أهم هذه المعاییر لفی:

1. أن تکون الأهداف التربویة متناسبة و (الکمال النهائی) للإنسان الذی هو من أهم الأهداف فی حیاته، بمعنی أنّ کلّ هدف یجب - فی النهایة - أن یؤثر فی تحقق الکمال النهائی للإنسان، وأن لا یکون مخالفاً له أبداً. من هنا یجدر أن تقوم علاقة وثیقة ومحکمة بین الأهداف التربویة الجزئیة والهدف النهائی والأخیر.

2. أنّ الهدف التربوی إنّما یکون جدیراً بالانتخاب إذا کان - فی حدود الإمکان وبشکل معقول - مؤثّراً فی ضمان الحاجات المتنوّعة (الداخلیة والخارجیة، والفردیة والاجتماعیة) للفرد، أو لا یکون له - فی الحدّ الأدنی -

ص:24

تأثیر سلبی علی شؤون الحیاة إثر الاهتمام بشؤون الحیاة الأخری.

3. أنّ من بین معاییر تقییم الأهداف التربویة، هو إمکان الوصول إلیها وحیویتها. أنّ الالتفات إلی الحاجات الراهنة والمستقبلیة للفرد والمجتمع ومقتضیات الزمان والمکان والأخذ بنظر الاعتبار الخلفیات الخارجیة وتحدید الموانع والمشاکل یمکنه أن یکون مؤثّراً فی تحدید إمکانیة الوصول إلی الأهداف وحیویتها.

إنّ ما تم طرحه فی معیار اختیار الأهداف، علی الرغم من عدم قابلیة إحرازه من خلال العقل البشری بشکل کامل، إلّا أنّ توظیف مصدر الوحی والدین یمکنه أن یلقی ضوءاً أمام العقل لیغدو بإمکانه النظر إلی الإنسان ببصیرة ورؤیة أوسع وأعمق، وعلی ضوء هذا المصدر یتمّ توظیف المعطیات العقلیة فی دراسة المسائل الجزئیة وتطبیقها علی الأهداف الإنسانیة السامیة.

تطبیق أهداف التربیة والتعلیم علی هدف الحیاة:

ما هی العلاقة بین أهداف الحیاة وبین أهداف التربیة والتعلیم؟ إنّ هدف الحیاة هو إقامة التناغم والانسجام بین سلوک الإنسان وبین بنیته الوجودیة. وإنّ هذه البنیة تشتمل علی عناصر فطریة. وإن عدم مراعاة الأطر الفطریة للإنسان بمنزلة الانحراف عن المسار الفطری لحیاته. إن الإنسان من خلال اتخاذ التدابیر الضروریة فی نظام التربیة والتعلیم، وبالالتفات إلی المتغیرات الزمانیة والمکانیة وغیر ذلک من مقتضیات الحیاة الیومیة، یسعی إلی المسیر علی هذا النهج الفطری، ویعمد إلی تنظیم برامجه التربویة لتکون منسجمة مع ذلک النهج. وعلیه یمکن القول: هناک نوع من العلاقة الوثیقة بین هدف الحیاة وبین أهداف التربیة والتعلیم فی النظام التعلیمی. بمعنی أنّ الهدف الغائی فی التربیة والتعلیم هو ذات هدف الحیاة، وإن الانحراف عنها یؤدی بالفرد إلی عدم بلوغ

مقتضیاته الفطریة، وأن لا یحصل علی نصیبه من التربیة والتعلیم الصحیح.

ص:25

هدفیة العالم من منظور القرآن والعقل

اتفقت کلمة جمیع المتکلمین والفلاسفة المتألهین علی وجود غایة وهدف لعالم الوجود. حیث آمنوا بالأصل القائل إنّ للوجود هدفاً وغایة محددة، ورأوا أن النظم الحاکمة فی الطبیعة دلیل علی وجود ناظم قادر وعالم(1). إن هدفیة الوجود تعنی أن للوجود وظیفة محددة ومساراً قد تمّ تعیینه مسبقاً، وقد رسمه الله لجمیع أجزائه، أی أن الوجود فی ذاته یحتوی علی غایة، وقد خلق بحیث یقوم بوظائفه المحددة له، وأن یسیر باتجاه الغایة التی رسمت له.(2)

وهناک فی القرآن الکریم آیات متعددة تصرح بمختلف التعابیر علی وجود هدف من وراء هذا الوجود، من قبیل:

1. منح الکمال الوجودی لکل شیء وهدایته نحو الکمال، قال تعالی: رَبُّنَا الَّذِی أَعْطی کُلَّ شَیْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدی .(3)

2. هدایة الکائنات إلی المصیر الذی رسم لها، والغایة التی قدرت لها،

قال تعالی: اَلَّذِی خَلَقَ فَسَوّی * وَ الَّذِی قَدَّرَ فَهَدی .(4)

ص:26


1- (1)) إن من بین الأدلة المحکمة القائمة علی وجود النظم فی الوجود، استنباط القوانین من الروابط القائمة بین أجزاء الوجود، والقدرة علی التنبّؤ بالحوادث والوقائع علی أساس هذه القوانین.
2- (2)) إن المفهوم الصحیح لهدفیة الحیاة هو أن جمیع الفواعل الطبیعیة إنّما هی فواعل مسخّرة، وإن فوق فاعلیتها فاعلیة المبادئ العالیة، وفوقها بأجمعها فاعلیة الله تعالی، وبذلک یکون لکل الحوادث هدف وعلة غائیة، ولکن لا فی داخل الطبیعة، بل فی ذات الفواعل ما فوق الطبیعیة، وإن ما یتحقق فی عالم الطبیعة هی غایات الحرکات ولیس العلل الغائیة (آموزش فلسفه: 114/2).ولمزید من الاطلاع انظر: کلیات الفلسفة؛ بابکین، ریتشارد هنری، وآروم استرول، الأسفار الأربعة: 277/2.
3- (3)) طه: 50.
4- (4)) الأعلی: 2-3.

3. نفی العبثیة فی الخلق، والتأکید علی أن عملیة الخلق قامت علی الحق(1) ، قال تعالی: وَ هُوَ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ .(2)

4. والأهم من ذلک وصف (الصنع الإلهی) ب - (الحکمة)، وهذه الصفة تقتضی أن یکون الوجود هادفاً، قال تعالی: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَی * اَلَّذِی خَلَقَ فَسَوّی * وَ الَّذِی قَدَّرَ فَهَدی3 .

هدف حیاة الإنسان من منظور القرآن

إن توظیف لغة الوحی فی معرفة الهدف الکامن وراء حیاة الإنسان، یضع أمامنا افقاً أوسع مما نتصوّر؛ لأنّ معرفة خصائص الإنسان کما یجب، لا تدخل إلّا فی قدرة الخالق تعالی. إنّ القرآن عندما یتحدّث عن الهدف من خلق الإنسان ومسار حرکته، یعتبره کائناً روحانیاً، ویعمد إلی رسم مسیرته فی الحیاة علی أساس من هذه الحقیقة. وإنّ تقسیم حیاة الإنسان إلی مرحلة الحیاة الدنیا، ومرحلة الحیاة الآخرة یحکی عن هذه الرؤیة، و أنّ علی الإنسان أن ینتقل إلی مساحة أوسع من مساحة الحیاة الدنیا، کی لا تکون معجزة الخلق أمراً عبثیاً. قال تعالی فی محکم کتابه الکریم: أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً وَ أَنَّکُمْ إِلَیْنا لا تُرْجَعُونَ4 . إذاً، فالأحری أن یرکز الإنسان انتباهه فی هذه الحیاة الدنیا علی الجانب الأبدی من الحیاة، ألا وهو الحیاة الأخرویة، ومن هنا نجد الله تعالی یقول: وَ لَلْآخِرَةُ خَیْرٌ لَکَ مِنَ الْأُولی .(3) ویمکن أن یأتی إثراء القوی الفکریة والحصول علی التربیة والتعلیم الصحیحین، وکذلک توظیف

ص:27


1- (1)) ص: 27؛ الدخان: 38؛ الأنعام: 73؛ الجاثیة: 22؛ الأحقاف: 4.
2- (2)) الأنعام: 73.
3- (5)) الضحی: 4.

النعم الموجودة فی هذه الحیاة الدنیویة فی إطار الالتفات إلی الحیاة الأبدیة وتنظیمها علی هذا الأساس.

من وجهة نظر القرآن فإنّ الإنسان السعید هو ذلک الذی یسعی إلی الاقتراب من الله ویعبده حق عبادته، قال تعالی: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ1 . وبطبیعة الحال فإن عبادة الله لا تعنی نفی الاستفادة من نعم الدنیا، وإنما تعنی أن علی جمیع المظاهر والقوی الفکریة والطاقات الکامنة فی وجود الإنسان أن تنظر إلی هدف واحد وهو الله سبحانه وتعالی، وفی ذلک یقول الله تعالی: إِنِّی وَجَّهْتُ وَجْهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِیفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِکِینَ2 . وقال الله سبحانه وتعالی أیضاً: قُلْ إِنَّ صَلاتِی وَ نُسُکِی وَ مَحْیایَ وَ مَماتِی لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ3 . وطبقاً للمصطلح القرآنی فإنّ الإنسان الکامل، هو ذلک الذی یحصل علی القرب الإلهی، ومن هنا فإن الهدف من الحیاة من وجهة نظر القرآن هو العبودیة، وبالتالی القرب من الله(1).

أسس تحدید أهداف التربیة والتعلیم

اشارة

إنّ من المسائل الهامة فی البرامج التربویة تعیین الأهداف فی الحقل التربوی. وإن الالتفات إلی حاجة الإنسان - الذی هو موضوع التربیة - یشکل علی الدوام مصدراً هاماً، بل مصدراً وحیداً لاختیار الأهداف التربویة. وإن المصادر المؤثرة فی معرفة هذه الاحتیاجات علی ثلاث طوائف، وهی: العلم والفلسفة، والدین. وأنّ کل واحد من هذه المصادر الثلاثة یمکنه أن یکون

ص:28


1- (4)) لمزید من الاطلاع راجع: مرتضی، هدف زندکی، المطهری؛ معارف قرآن، مصباح یزدی؛ فلسفة وهدف زندکی، الجعفری.

أساساً لاختیار الأهداف التربویة ورفع الاحتیاجات الإنسانیة. وبالطبع فإن التعرف علی الطاقات الإنسانیة وجمیع شؤون الإنسان الوجودیة تستلزم توظیف هذه المصادر الثلاثة بأجمعها، وأن التمسّک بواحد منها لا یکفی لتلبیة جمیع الاحتیاجات الإنسانیة. ومن هنا فإن استحکام الأسس التربویة إنّما یحصل من خلال الالتفات إلی جمیع النواحی الوجودیة لدی الإنسان، والاستفادة مِمّا جاء فی المصادر الثلاثة بما یتناسب ورفع حاجاته وبیان الأهداف التربویة.

1. الأسس العلمیة

کلما رسا الحدیث حول الرجوع إلی الأسس العلمیة فی تحدید الأهداف التربویة، طرح هذا التساؤل نفسه حیث یقال: ما هی احتیاجات الإنسان، وأیّ منها یتکفّل العلم برفعه؟ إنّ العلم - بالنظر إلی رؤیته الخاصة فی کشف العلاقات الدقیقة بین جزئیات الأمور، - إنّما یستطیع الخوض فی مرتبة من مراتب الاحتیاجات الإنسانیة التی تقع فی مستوی جزئی وأدنی من احتیاجاته الأساسیة؛ لأنّ العلم - بلحاظ ماهیته - قد تمّ حصره ضمن نطاق وحدود التجربة المادیة، وإنّ مسائل من قبیل: الوجود، والقیَم، والإنسان والمعرفة، خارجة عن دائرته. فی حین أننا بحاجة إلی هذه المحاور فی تحدید الأهداف التربویة الغائیة من خلال التمسک بالفلسفة والدین. کما لا بد من الالتفات إلی أنّ ضمان وتلبیة الاحتیاجات الأولیة من طریق المعطیات العلمیة، وشرائط الارتقاء إلی المراتب العلیا، ورفع الاحتیاجات الأهم یأتی من خلال الاستعانة بالفلسفة والدین. ومن دون الاستفادة من المعطیات العلمیة لا یمکن توفیر الأرضیة اللازمة للوصول إلی الأهداف الناظرة إلی الاحتیاجات الفلسفیة والدینیة.

ص:29

إنّ العلوم التی تقع مورداً للاستفادة المباشرة فی العثور علی الأهداف التربویة، هی العلوم التی تبحث فی حاجة الإنسان الجسدیة والنفسیة، وتسعی إلی بیان الآلیة الوجودیة للإنسان من خلال الالتفات إلی هاتین الناحیتین. من هنا فإن مختلف فروع علم النفس (ومن بینها علم النفس العام، والتنمیة، والتعلیم، والإدراک، والإثارة، والشخصیة، وعلم النفس الاجتماعی) وکذلک سائر العلوم الاجتماعیة من قبیل: علم الاجتماع (الشامل لمعرفة الآفات الاجتماعیة، وعلم الاجتماع التربوی والتعلیمی وما إلی ذلک) یمکنها التأثیر بشکل مباشر فی تحدید الأهداف التربویة.

2. الأسس الفلسفیة

رغم ما للفلسفة من التعاریف المختلفة، وعلی الرغم من الفهم المختلف بشأنها، إلّا أنّها علی کلّ حال تحتوی علی خصیصة محددة، وهی أنّها تعمل علی تحلیل المسائل التی یتعذر إثباتها من طریق العلم والأدوات المخبریة والأسالیب التجریبیة. إنّ المنهج الفلسفی أسلوب عقلی، وإن الفلاسفة یسعون علی الدوام - من خلال الدراسات الانتقادیة الدقیقة - إلی تقییم عقائد البشر حول الکون بأسره وما عَیوب من أسرار بما فیه الإنسان نفسه، ومساعدة الإنسان من خلال تقدیم إطار محدد لهذه الأمور، لیکوّن إدراکاً صحیحاً عن العالم والإنسان، ولکی یسعی إلی تنظیم أفعاله وسلوکه.

لقد لعب الفلاسفة أهم الأدوار فی تأسیس المذاهب والمدارس التربویة. فقد سعوا - من خلال تقدیم نظام محدد مستوحی من طریقة تفکیرهم حول العالم والإنسان والمعرفة وغیرها، - إلی بیان الأفکار والآراء التربویة. وفی الحقیقة فإن جمیع الذین أسهموا بنحو من الأنحاء فی تحدید المذاهب والأهداف التربویة، إما أنّ یکونوا أنفسهم من الفلاسفة، أو أن یکونوا أتباعاً

ص:30

للفلسفة السائدة علی ثقافة عصرهم، وأنّهم کانوا بنحو من الأنحاء متأثرین بنوع من الآراء الفلسفیة فیما یتعلّق بالأفکار والأهداف التربویة. لقد ترک الفلاسفة بتدوین - الأهداف الفلسفیة وبسط الآراء التربویة - تأثیراً فی مسار التربیة، بحیث أننا الیوم نجد أنفسنا ملزمین بتبنّی بعض الأسس الفلسفیة من أجل اختیار الأهداف التربویة.

فما لم یتضح رأینا الفلسفی بشأن مفاهیم من قبیل: الکون والطبیعة والإنسان والمعرفة والقیَم وأمثال ذلک، لن یکون بإمکاننا أن نقیم مذهباً تربویاً، والبحث عن أهداف خاصة للتربیة. لأن معیار تحدید الهدف فی مستوی عام رهن بنوع رؤیتنا إلی هذه الأمور، وما لم نعمل علی إیضاح هذه المسائل فإننا نبقی فی ضیاع وتخبّط. إنّ دور الأفکار الفلسفیة الملحوظ فی تکوین الأهداف التربویة، من السعة بحیث نجد حتی أولئک الذین یبحثون عن الفلسفة ضمن أسالیب وأُطر التحلیل اللغوی، ولا یرون لها أی دور فی بسط وتقدیم الحلول، یعملون علی توظیف سلسلة من الفرضیات العامة المسبقة فی دائرة أفکارهم التربویة.

إنّ المسائل التی یجب علی المتخصّص فی حقل التربیة والتعلیم أن یدرکها بشکل دقیق کیما یمکنه الخوض فی تحدید الأهداف، عبارة عن: مسائل معرفة الکون والعوالم ذات الصلة بالإنسان (الإنسان والمعرفة والقیَم). وعلیه یمکن تلخیص الأسس الفلسفیة لتحدید الأهداف التربویة ضمن الأُطر الأربعة الآتیة:

أ) علم المعرفة: إنّ من بین الأبحاث المهمّة التی تتمّ دراستها طبقاً للمنهج الفلسفی، هو بحث علم المعرفة. فعلماء المعرفة وأغلب الفلاسفة - عند تناولهم هذا البحث - یعمدون إلی دراسة مسائله من خلال تقییمها ورصد مقدار صدقها ومدی مطابقتها للواقع. وإن من بین الأمور التی تخضع للدرس بشکل دقیق ضمن هذا الإطار هو السؤال القائل: هل هناک واقع وراء ذهن

ص:31

الإنسان؟ وهل یمکن معرفة الواقع کما هو موجود خارج الذهن؟ وهل یمکن للأفراد أن ینقلوا تجاربهم الشخصیة إلی الاخرین؟ إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات یفتح الطریق أمام حل أکثر المسائل التربویة؛ لأن التربیة والتعلیم إنما یؤتیان ثمارهما ویُعطیان نتائجهما عندما یتمّ وضعهما علی أرض صلبة وقرار مکین بعد حل مسائل علم المعرفة.

وقبل کلّ شیءٍ لا بدّ من الإجابة عن السؤال القائل: ما هو أساس المعرفة البشریة؟ وعلی ماذا تقوم هذه المعرفة؟ وهل یمکن ادّعاء امتلاک (الاعتقاد الصادق)؟ وبعد حلّ هذه المسائل یمکن لنا مباشرة التعلیم؛ لأنّ أهم رکن فی التربیة والتعلیم، هو إدراک ونقل المفاهیم الناشئة عن الواقعیات الخارجیة. فمن باب المثال: إن الاختلاف فی الرؤیة المعرفیة بین المذهب (المثالی)(1) والمذهب (الواقعی)(2) ، ینعکس علی نوع التدریس والتعلیم. فالمثالیون یرون مکانة خاصّة وقیمة کبیرة للعقل والذهن. وقد ذهب کل من إفلاطون وسقراط إلی الاعتقاد بأن المعرفة الحقیقیة لا تحصل إلّا من خلال العقل؛ لأنّ العقل قابلیة ذهنیة حیث یمکن من خلاله الوصول إلی کنه الأشکال المعنویة الکامنة وراء الوجود المادی للأشیاء. قال (هیجل) - بوصفه من المنتسبین إلی المذهب المثالی - إنّ المعرفة إنما تکون معتبرة إلی حدّ ما إذا کانت تشکل نظاماً، وحیث إنّ الواقعیة الغائیة تشتمل علی ناحیة عقلیة منتظمة، فإن معرفتنا القائمة علی الواقعیة ستکون معرفة حقیقیة بالحدّ الذی تستطیع معه أن تکون منتظمة. وأما (کانت) وأغلب المثالیین الجدد فیذهبون إلی الاعتقاد بأنّ أساس المعرفة هو تنظیم المعلومات التی یتمّ جمعها عبر الحواس. ومن جمیع هذه الآراء یمکن لنا أن نستنبط أنّ للتلمیذ فی هذه الرؤیة محوریة فی أمر

ص:32


1- (1)) . idealism.
2- (2)) . realism.

التعلیم والتدریس؛ لأنّ بیان سلسلة من المعلومات - دون القیام بأی نشاط ذهنی بشأنها - لا یمکنه أن یضمن رأی المثالی فی حقل النشاط الذهنی والعقلی. من هنا فإنهم یعتبرون أن أفضل أنواع المعرفة هی تلک التی تنبثق عن التلمیذ دون تلک التی یتم إقحامها فی ذهنه. وبعکس ذلک فی الرؤیة المعرفیة عند المذهب الواقعی، حیث لا یکون التأکید علی العقل والذهن وتأصیلهما، ولا یعدّ العالم الخارجی عالماً غیر واقعی یحتاج إلی ترمیم وخلق فی الذهن. من هنا فإنّ الواقعیین یرون أهمیة کبیرة للمعلومات الحاصلة من خلال الحواس. فمن وجهة نظرهم أنّ القضیة إنّما تکون صادقة إذا تطابقت مع خصائص العالم التی تدل علی صحة توصیفها، وأنّ المعرفة الصائبة هی المعرفة التی تنطبق علی العالم کما هو. ومن وجهة نظر الواقعی أنّ أهم وظائف التعلیم تکمن فی إظهار مجموعة مختارة من المعرفة التی تم تجمیعها من قبل البشر، لتعرض علی المتعلم. وعلیه فإن الابتکار فی التربیة والتعلیم یقع علی عاتق المعلم أو الناقل للثقافة. والمعلم هو الذی یجب أن یأخذ القرار فی قاعة الدرس بشأن محتوی الدرس، ولیس الطالب. ومن ناحیة أخری فإن الفلسفة المعرفیة العملیة تقوم علی أساس المعرفة الحاصلة من العمل، وأنّ العملیون یرون أنّ الحقیقة هی المعرفة العملیة التی هی بدورها حصیلة التعاطی بین الإنسان ومحیط حیاته، وبالتالی فإنّهم یعتقدون بأنّ علی کلّ من المعلم والطالب - بدلاً من اتباع الصیغة التقلیدیة للمحتوی الدرسی - أن یرکزوا اهتمامهما علی المعلومات التی ثبتت فائدتها وجدواها فی حل المسائل الخاصة التی نتعاطی معها فی حیاتنا. وإن هؤلاء یعتقدون بأن الطالب ومطالبه واحتیاجاته هی محور النشاط التعلیمی؛ لأن التعلیم بوصفه معرفة حاصلة من التقابل بین الذهن والعالم الخارجی، لیس أمراً مفتعلاً، وإنما هو جزء من الحیاة.

ص:33

ب) معرفة الوجود(1): کما تقدم أن ذکرن، فإن مصدر الکثیر من الآراء والغایات التربویة، یعود إلی الأفکار الفلسفیة ومعرفة الوجود. إن موضوع معرفة الوجود هو (ماهیة الواقعیة) أو بعبارة أخری (إظهار الواقع). فالفلاسفة ینظرون إلی الوجود کله بنظرة جامعة وعامة، ویسعون إلی تقدیم نظام فلسفی قائم علی الآراء المعرفیة بشأن الوجود. ویختلف الفلاسفة فی نوع رؤیتهم إلی العالم. فمنهم من ینظر إلیه برؤیة معنویة، معتبراً أن جمیع المظاهر الموجودة فی العالم المادی تعبر عن حقیقة غیر مادیة وأکثر تأصیلاً (من قبیل: هیجل وإفلاطون بوصفهما من الفلاسفة المثالیین). فمن وجهة نظر هؤلاء الفلاسفة تصبّ جمیع جهود الإنسان حول مسألة التربیة فی الوصول إلی الأهداف المعنویة، وبلوغ الحقیقة التی تعدّ أمراً معنویاً - نظریة المُثُل عند إفلاطون، والروح المطلقة أو الخالدة عند هیجل - تشکلان محور جمیع الأنشطة التربویة. بینما یذهب بعض الفلاسفة الآخرین إلی اعتبار الحقیقة النهائیة أمراً مادیاً، ویقولون: إنّ الأشیاء الموجودة من حولنا تحضی باستقلالیة وجودیة، فهی لیست ظلالاً عن الحقائق المعنویة. ویتزعم أرسطو القائلین بهذا النوع من الآراء، حیث کان یسعی - فی إطار الواقعیة العقلیة - إلی تقدیم تفسیر مختلف عن التفسیر الذی ذکره إفلاطون بشأن الوجود.

وإلی جانب هذه الواقعیة العقلیة، هناک واقعیتان أخریان، وهما (الواقعیة الدینیة)، و (الواقعیة الطبیعیة) أو العلمیة أیضاً. وبناءً علی الواقعیة الدینیة فإن عالم المادة والروح رغم استقلالهما وعدم ارتباطهما ببعضهما، إلّا أنّهما ینبثقان عن مبدأ واحد، وهو (الله)، وأنّ الروح هی الوجه الأفضل والأسمی فی الوجود. وأما الواقعیة الطبیعیة التی تحتوی علی ماهیة تشکیکیة وتجریبیة، فهی تقول: حیث إنّ

ص:34


1- (1)) لمزید من الاطلاع، انظر: فلسفه آموزش وبرورش، شعاری نجاد، علی أکبر؛ فلسفه آموزش وبرورش، فیلر، جورج اف؛ فلسفة تعلیم وتربیت، شریعتمداری.

العالم من حولنا حقیقی، فإنّ من واجب العلم أن یدرس خصائصه دون الفلسفة، وإذا أرادت الفلسفة أن تدرسه وجب علیها أن تتخذ ماهیة علمیة. وأن الذین یتبنون هذا النوع من الاراء الفکریة، إما هم من المنکرین للأمور المعنویة، أو من الذین یذهبون إلی القول إنها غیر قابلة للإثبات.

تختلف الأهداف التربویة فی کُلٍّ... من الواقعیة العقلیة، والواقعیة الطبیعیة، والواقعیة الدینیة. فالذین یؤمنون بالواقعیة العقلیة أو الواقعیة الطبیعیة لا یعتقدون بغایة خالدة وأبدیة فی تصویر الحیاة الإنسانیة کما هو الحال بالنسبة إلی الواقعیة الدینیة. فإنهم لا یرون الطبیعة من صنع الله، وإنما یرومون مجرّد الکشف عن القوانین السائدة فی عالم الوجود بغیة الحصول علی حیاة أفضل، ویقیّمون الأهداف التربویة علی هذا الأساس. وإن ضرورة التعقل، والوصول إلی النتائج المنطقیة فی التفکیر وإدراک الروابط القائمة بین الظواهر المادیة تعتبر من أهم الجوانب التربویة فی الواقعیة العقلیة. وفی هذه الفلسفة یعتبر التعلیم کاشفاً عن الروابط المهیمنة علی عالم الوجود، ولیست نوعاً من الاستذکار والإنتاج الفکری. ومن جهة أخری فإنّ بعض الفلاسفة من أمثال (ولیم جیمز) و (جون دیوی) کان لهما منهج عملی؛ إذ یذهبون إلی الاعتقاد: بأنّ عالم الوجود لا هو مرتبط بتصور الإنسان، ولا هو مستقل عنه. بل إنّ الواقعیة عبارة عن التعاطی بین الإنسان والطبیعة، أو مجموع ما نحصل علیه من خلال التجربة. إنّ الذی تنظر إلیه هذه الفلسفة بوصفه من الأهداف التربویة لیس هو مجرد الوصول إلی الحقیقة الخارجیة، وممارسة الأمور المعنویة والروحیة، بل هو الحصول علی التجربة وجعلها محوراً فی المراحل التربویة. وطبقاً لهذا المذهب یعتبر کلّ أمر لا یخضع للتجربة فاقداً للحقیقة.

بالالتفات إلی الاختلاف المحتدم بین الآراء الفلسفیة، یمکن لنا الوقوف علی اختلاف الرأی بشأن تحدید الأهداف التربویة. فکلّ واحد من الفلاسفة

ص:35

یذهب - بالنظر إلی ما یتناسب ونوع رؤیته وفهمه للوجود - إلی تبنّی بعض الأهداف الخاصّة، وأنّ منشأ هذا الاختلاف فی الآراء والأهداف التربویة لیس سوی الاختلاف فی المبانی والأسس التی تقوم علیها معرفة الوجود.(1)

ج) المعرفة الإنسانیة: إن النمط الفکری الذی یحمله الفیلسوف عن ماهیة الإنسان هو الذی یحدد مساره فی تدوین الأهداف التربویة. من هنا فإن الفلاسفة - بالنظر إلی محوریة الإنسان - یختلفون فیما بینهم فی أمور من قبیل: ماهیة الإنسان والتعریف الذی یقدمونه له، والطاقات والعوالم الإنسانیة (من العقل، والعواطف والطبیعة الإنسانیة)، واستقلال الإنسان أو تبعیته للمجتمع.

لا شک فی أنّ إبداء الرأی حول کلّ واحد من هذه الموضوعات یمکنه أن یعکس آراء الفلاسفة بشأن الأهداف والآراء التربویة. من باب المثال: یذهب المثالیون (التوهمیون) إلی الاعتقاد بأن الإنسان فی ماهیته کائن مجرّد، ویتمتع بقوة الفکر والقدرة والحریة والإرادة، ویشعر فی نفسه بالقابلیة علی البقاء بعد الموت، وتشکل ماهیته الذهن أو الروح. کما أنهم یقولون: إنّ القیَم الروحیة للإنسان تترک تأثیراً قطعیاً علی أمور العالم، وإنّ کلّ شیء هو روحی أو عقلی أو معنوی قبل أن یکون مادیاً. کما یعتقدون بأن سلوک الإنسان فی ذاته هادف، وأنّه لیس تابعاً للمحرکات الخارجیة، وعلیه فلا بد من البحث عن الدوافع الرئیسة للسلوک فی داخل الإنسان. ومن ناحیة أخری فإن الواقعیة تقف فی الطرف المقابل للمثالیة، فهی تری حقیقة للأشیاء الواقعة خارج دائرة ذهنیة الإنسان، وتؤمن بوجودها المستقل. یری الواقعیون أنّ العالم

ص:36


1- (1)) إن التربیة والتعلیم یبحثان فی... الآراء التربویة من خلال هذه الرؤیة، حیث یسعیان إلی دراسة أسسها من الزاویة الفلسفیة. وإن فلسفات من قبیل: التوهمیة، والواقعیة، والطبیعیة، وأصالة العقل، وأصالة التجربة، والبراغماتیة، والوجودیة، والشیوعیة، والفلسفة التحلیلیة، والنزعة الإنسانیة العلمیة تشکل جمیعُها أساساً لعرض الآراء وتحدید الأهداف التربویة.

الخارجی حقیقة، ویذهبون إلی الاعتقاد بأنّ الإنسان یمکنه أن یدرک هذا العالم؛ لأن من أهم خصائص العقل أو الذهن البشری قدرته علی استیعاب وهضم الأفکار المتنوعة وإقامة الارتباط بینها. إننا إذا أجرینا مقارنة بین هاتین الرؤیتین بشأن الإنسان، سندرک أن هدف التربیة فی المذهب الواقعی یکمن فی تنمیة وتکامل الذهن والذات، وإن الذی یکون هو المحور فی التعلیم هو الأنشطة العقلیة، والأحکام الأخلاقیة، ومعرفة الجمال، والحریة، والمسؤولیة الفردیة والسیطرة الشخصیة. وإن هذا المذهب یهتم بالبحث عن الأهداف التربویة فی العلوم الإنسانیة أکثر من اهتمامه بالعلوم الطبیعیة؛ وذلک لأن النشاط العقلی، وماهیة وعی الإنسان أو ذهنیته، وکل ما یسمی ثقافة أو فناً أو أخلاقاً أو دیناً هو أقرب الأشیاء إلی الحقیقة. وفی هذه الفلسفة یتم التأکید علی عظمة الروح الإنسانیة بشکل خاص. وأنّ الهدف والغایة من التربیة فی هذا المذهب تکمن فی إصلاح الإنسان دون حشو ذهنه بالمعلومات. ومن هنا یکون تفضیل الإنسان الصالح علی الإنسان العالم.

ومن ناحیة أخری فإنّ المثالی یعتقد بالطبیعة الخارجة عن الذهن، ولذلک فإنّه یری أنّ دراسة الروابط القائمة فی الطبیعة واکتشاف قوانینها، من أهم الأهداف التربویة، ویذهب - فی تحدید هذه الأهداف - إلی الاهتمام بأمرین، وهما:

1. التعویل علی البحث العلمی والتفکیر المنطقی فیما یتعلّق بالتجربة العملیة.

2. إقرار المواد والمناهج الدراسیة المرتبطة بالعلوم الطبیعیة بدلاً من العلوم الإنسانیة والأدبیة المحضة. إن الاختلاف فی الرؤیة بین هذین المذهبین - فیما یتعلّق بالمعرفة الإنسانیة - یؤثّر حتی فی طریقة التدریس والارتباط التعلیمی أیضاً؛ إذ بناءً علی المذهب المثالی یکون الطالب هو المحور فی عملیة التعلیم، وکما تقدّم أن ذکرنا أنّ أفضل معرفة هی المعرفة التی یتوصل إلیها الطالب، لا تلک التی یتم إقحامها فی ذهنه إقحاماً. وأما فی

ص:37

الرؤیة الواقعیة فإن المعلم یکون هو المسؤول، وهو الذی یتعیّن علیه حث الطالب وتحفیزه إلی النشاط والعمل، ویعطیه الفرصة ویخلق له أجواء البحث والنقد وحب الاستطلاع.

د) معرفة القیم: إنّ الأسس الأخلاقیة ومنظومة القیَم المتّبعة فی کل فلسفة، تترک تأثیراً مباشراً فی الآراء والأهداف التربویة. وإنّ موضوعات من قبیل: ثبات أو تغیّر القیَم، وخلودها أو مرحلیتها، وکذلک خارجیتها أو ذهنیتها، إنما تستوحی من الرؤیة المعرفیة لدی الفلاسفة بشأن الوجود؛ لأنّ فهم کل مفکر للقیم سیکون مرتبطاً بفلسفته العامة. وأنّ لهذا الفهم تأثیراً مباشراً فی الآراء التربویة، وأن لاختلاف الآراء المعرفیة لدی الفلاسفة تأثیراً لا ینکر فی تحدید الأهداف التربویة. فمن باب المثال: أنّ القیَم فی المذهب المثالی ذات ماهیة مطلقة وخالدة وغیر قابلة للتغییر، حیث تتجلّی إما فی وجود الله أو فی الروح المطلقة. إن القیَم والأخلاقیات لیس لها صورة مطلقة من وجهة نظر القائل بالمذهب المثالی. إنّ الصلاح والحقیقة والجمال تنتقل من خلال الحفاظ علی جوهرها الثابت من جیل إلی جیل، ومن مجتمع إلی مجتمع آخر، کما أنّها مفاهیم تعکس جانباً من الماهیة الحقیقیة للعالم.

تنعکس الرؤیة المثالیة علی المسار التربوی وتعلیم الطالب وتعریفه بالقیم الثابتة. إنّ هذا التعلیم یتضمّن إیجاد التنسیق الوجودی بالکلّ المعنوی والروحی الأکبر المرتبط به. ومن ناحیة أخری فإن القیَم فی المذهب العملی نسبیة، وأنّ الأسس الأخلاقیة تتغیر تبعاً لتغیّر الثقافات والمجتمعات. إنّ هذه الرؤیة تحکی عن أنه لا یجب اعتبار أی قانون أو أصل ملزماً أو عاماً لکلّ الناس فی العالم دون الأخذ بنظر الاعتبار الأوضاع والأحوال التی یقع فیها النشاط. وفی هذا النظام - خلافاً للمذهب الواقعی - لا ینبغی تعلیم الطفل القوانین العامة وغیر القابلة للتغییر، بل علیه أن یتعلّم کیفیة اتخاذ أفضل

ص:38

القرارات بالالتفات إلی إفضائها إلی أفضل النتائج. إن علی المدرسة أن تعمد إلی تعمیم التجارب التی تؤهل الفرد لحیاة أفضل. إنّ التربیة والتعلیم مساران یؤدیان بالشخص إلی السیطرة علی أعماله، وأن یتعرف علی نتائج أعماله وأعمال الآخرین. وبذلک تتسع بصیرته وتغدو أکثر عمقاً، وتمکنه من التنبّؤ بنتائج وتبعات أعماله.

وفیما یلی نشیر إلی بعض المسائل الأخلاقیة وارتباطها بأهداف التربیة والتعلیم:

أ) ما هو معیار وجذور القیَم؟ إن الفیلسوف لا یعدد القیَم وما یعارضها، وإنّما یبین ملاکاتها وموازینها؛ فهو یقول مثلاً: (إن أساس القیم یکمن فی الاعتدال، ویجب توجیه جمیع الخطط وأهداف التربیة والتعلیم نحو هذا السمت). ومن ناحیة أخری فإن (مذهب اللذة) یری أساس القیم فی الانغماس فی المتعة الحسیة، والاحتراز عن العناء والألم. وعلیه فهو ینتقی من الأهداف ما یضمن الحصول علی اللذة والابتعاد عن المعاناة والألم. وهکذا إذا کان المفکر یری جذور القیَم فی العودة إلی الحیاة البسیطة، فإنه سیختار أهدافاً تؤدی إلی نتائج فی هذا الإطار. کما أن ملاکات أخری من قبیل: حب الإنسان لنفسه، والاستئثار بالسلطة وما إلی ذلک تؤثر فی اختیار الأهداف التربویة بشکل کامل. وعلی هذا الأساس فإن المعیار فی انتقاء أهداف التربیة والتعلیم، هی القیم والمسائل الأخلاقیة.

ب) هل القیَم ثابتة ولا تتغیر بتغیر الظروف الاجتماعیة والثقافیة والاقتصادیة والسیاسیة أم أنها نسبیة؟

ج) هل للقیَم سلسلة مراتب أم لا؟ وأیّ القیَم تحضی بأهمیة أکبر، هل هی القیم المعنویة أم المادیة؟ أم القیم السیاسیة أم الاقتصادیة أم الثقافیة؟ واضح أنّ لهذا النوع من المسائل تأثیراً مباشراً فی اختیار الأهداف التربویة، وأولویة بعضها علی بعض، وتفریع بعضها علی بعض.

ص:39

3. الأسس الدینیة

تعود وظیفة الدین فی تحدید أهداف التربیة والتعلیم إلی دوره فی حیاة الإنسان. لا شکّ فی أنّ الإنسان والمجتمع الذی یحدد مسار حیاته من خلال الانتماء إلی دین أو مذهب خاصّ، لا یستطیع الاستغناء عن الأوامر والواجبات والمحرمات الدینیة فی انتخاب الأهداف التربویة. إنّ الثقافة الدینیة التی تحکم الإنسان تمد جذورها الی جمیع شؤون حیاته. وإنّ التربیة الدینیة تلازم الطریق والنهج إلذی یؤدی فی نهایة المطاف إلی الهدف والغایة من الحیاة، وأنّ کلّ دین أو مذهب یرسم هذا الهدف بشکل مغایر للدین أو المذهب الآخر. فمن باب المثال: أنّ الدین الإسلامی ینظر إلی مسائل الحیاة برؤیة توحیدیة. إذ یقوم اعتقاد المسلم علی أنّ کمال الإنسان رهن بالتزاماته تجاه نفسه ومجتمعه وخالقه. وهو یعتقد بأن لحیاة الإنسان بعداً أبدیاً وخالداً یشکل أساس حیاته، وإن سعادته تکمن فی التزامه بالأبعاد الروحیة من وجوده.

إن الدین یعمل علی توجیه الرؤیة الفلسفیة لدی الفرد فی التربیة والتعلیم، وبتبعها الأهداف التربویة. وأنّ الذی ینظر إلی عالم الوجود بنظرة إلهیة، لا یستطیع أن یسلک فی حیاته سلوکاً مشابهاً لسلوک الملحد. فإن سلوک الموحّد مقتبس من التعالیم الإلهیة وفی سیاق یؤدی إلی هدوئه وطمأنینته المعنویة. خلافاً للفرد الملحد الذی یحصر الحیاة فی دائرة الرفاه والهدوء القائم علی الإمکانات المادیة، وهی إمکانات لا تستطیع مواکبته وإیصال النفع له لأکثر من عمره المحدود فی الحدّ الأقصی.

ص:40

الفصل الثانی: تبویب أهداف التربیة والتعلیم

اشارة

سنبحث فی هذا الفصل المفهوم العام لتبویب الأهداف التربویة، وتطبیقها علی الأهداف التربویة فی الإسلام. ولتحقیق هذه الغایة لا بدّ أولاً من إیضاح ما هو المراد من تبویب الأهداف التربویة؟ وما هی الناحیة التی یرمی إلیها تبویب الأهداف التربویة فی الإسلام من نواحی حیاة الإنسان؟ وما هو دور وفائدة هذه التبویبات فی کلّ واحد من المجالات التحقیقیة؟ وهل هناک تعارض وتنافر بین تبویب الأهداف التربویة ذات المنشا الدینی الناظر إلی جمیع نواحی الحیاة وبین تبویب الأهداف التربویة فی العلوم التربویة الناظرة إلی نواحی خاصة من وجود الإنسان، أم هناک تآلف وتعاضد؟ سنعمد فی هذا الفصل إلی بیان ماهیة أنواع التبویب وحقول توظیفها فی مجال العلم والدین وارتباطها ببعضها.

مفهوم تبویب الأهداف التربویة من الزاویة الدینیة والعلمیة

إنّ المراد من تبویب الأهداف فی العلوم التربویة غالباً هو التبویب التعلیمی الخاص. وعلی الرغم من أنّ الأهداف التنمویة لا تنحصر بالأهداف التعلیمیة (الأهداف السلوکیة)، وإنّما تشمل الأهداف العامة أیضاً، بید أنه عندما یأتی الحدیث بشأن تبویب الأهداف فی هذا العلم، یکون المراد هو

ص:41

الأهداف الجزئیة التی یتم الحصول علیها بعد نهایة کل مقطع ومرحلة تعلیمیة خاصة(1). بمعنی أن الطالب - بعد اجتیاز کل مرحلة دراسیة محدّدة، - یحصل علی الأهداف المتوقعة فی تلک المرحلة. وفی هذا المفهوم یکون التبویب ناظراً إلی هدف خاص یتعلق بمرحلة وفترة محددة. فمن باب المثال: أنّ (تعلیم القراءة) یمکنه أن یکون هدفاً تربویاً للصف الأول فی المدرسة الابتدائیة، أو القدرة علی حل المعادلات الجذریة هدفاً لنهایة المرحلة الابتدائیة من الدراسة.

إن تبویب الأهداف التربویة من هذه الزاویة یحتوی فی الغالب علی جهة تعلیمیة، ویتبع أسساً بنائیة خاصة. وإن جمیع التبویبات الناظرة لغایات تعلیمیة یتم بیانها علی أساس الأهداف التعلیمیة. وفی الحقیقة فإن الأهداف التعلیمیة تعمل علی بیان مراد المعلم من الأهداف التعلیمیة وأسلوب فهمه لهذه الأهداف، وبیان کیفیة تبویب الأهداف التعلیمیة من وجهة نظر ذلک المعلم. ومن الممکن تحدید هذه الأهداف من خلال الالتفات إلی الموارد الآتیة:

1. نشاط المعلم: یقوم بعض المعلمین ببیان أهدافهم التعلیمیة بالالتفات إلی أسلوبهم التعلیمی أو الأنشطة التی یقومون بها من أجل تعریف الطالب بتلک الأهداف، من قبیل استعراض طریقة عمل جهاز مخبری.(2)

2. نشاط الطالب: یعمد بعض المعلمین إلی تحدید أهدافهم التعلیمیة بالالتفات إلی مختلف الأنشطة التی یمارسها الطلاب، من قبیل کتابة صفحة کاملة بالخط الرقعی، أو القیام بحل معادلات حسابیة فی جدول الضرب والتقسیم مثلاً.

ص:42


1- (1)) وبالطبع فإن تبویب الأهداف التربویة - کما سنشیر إلی ذلک لاحقاً - قد تکون له فروع عدیدة. وهذا الأمر یتوقف علی المجال الذی یتم فیه طرح الأهداف التربویة. وأن الحقول الثلاثة التی ترسم للأهداف عبارة عن: الحقل المعرفی، والحقل العاطفی، والحقل الروحی - الحرکی.
2- (2)) روانشناسی برورشی، سیف، علی أکبر: 74-75.

3. عنوان الدرس: فی بعض الموارد تکون عناوین الدروس أساساً لتحدید الأهداف التعلیمیة، من قبیل: أسباب الحرب العالمیة الأولی، أو قانون انکسار الضوء وما إلی ذلک. إن الإشکال الأساسی فی هذه الأسالیب الثلاثة یکمن فی أنّ الهدف الذی یتمّ تحدیده یؤکد - فی الغالب - علی نشاط المعلم أو الطالب، دون النتائج المترتبة علی التعلیم، وما یحصل علیه الطالب. بعبارة أخری: عندما یجری استعراض عمل وسیلة مخبریة، أو عندما ینتهی تدریس ما تمّ تحدیده ضمن عنوان درسی محدد، تکون الغایة من التعلیم قد تحققت، سواء فی ذلک تعلم الطالب شیئاً أو لم یتعلم إطلاقاً.

4. مقدار استیعاب الطالب: إن الأسلوب الأفضل والأکثر تجذراً من أجل بیان الأهداف التعلیمیة، یکمن فی تحدید النتائج التی نتوقع لها أن تترتب علی التعلیم، وعلیه فإنّ خیر طریقة لتدوین الأهداف التعلیمیة هی أن نأخذ بنظر الاعتبار مقدار وحجم ما یتعلمه الطلاب. وکلما تمّ بیان الأهداف علی هذا الأساس، فإنها سوف تدل مباشرة علی أنواع السلوک التی نتوقع من الطالب أن یظهرها ویقوم بها إثر الانتهاء من العملیة التعلیمیة. ولهذه الغایة یجب بیان الأهداف التعلیمیة بالالتفات إلی السلوک والأداء الذی یمکن له أن یشاهد أو یقدّر. وقد أطلق علی هذا النوع من الأهداف التعلیمیة ب - (الهدف السلوکی)(1). إنّ الأهداف التعلیمیة السلوکیة هی تلک الأهداف التی تبیّن غایة المعلم من التعلیم بالالتفات إلی الأداء أو السلوک الذی یمکن لنا رؤیته من خلال النشاط الذی یقوم به الطالب. إنّ هذه الأهداف تساعد المعلم علی تحدید غایته من تعلیم الموضوع الدراسی بشکل دقیق، وأن یشرح للمتعلّم ما یتوقّع منه أن یقوم به فی نهایة الدرس بوضوح. فمن باب المثال: یتوقع من الطالب فی نهایة الدرس أن یذکر الأسباب الرئیسة التی أدّت إلی سقوط الخلافة الأمویة

ص:43


1- (1)) . behavioral objective.

واضمحلالها، أو أن یبین تجارب رحلته الصیفیة فی تقریر تحریری.

حتی الآن أدرکنا مفهوم تبویب الأهداف التربویة فی العلوم التربویة، فکما ذکرنا إن هذه الأهداف یتمّ مجرّد طرحها فی مجال خاص یرتبط بمرحلة خاصة من حیاة الإنسان (المرحلة التعلیمیة). فی حین أن الإنسان فی تبادل مستمر للمعلومات مع محیطه الخارجی، ویستمر هذا التعاطی المعرفی حتی یتخطی الأروقة التعلیمیة والدراسیة. فإن تعلم الإسلام وتأثیره لا یمکن أن یحدد ضمن فترة زمنیة أو مرحلة خاصة، فهو فی صراع مستمر فی کلّ الوصور من أجل تحقیق أهدافه. إنّ سعة حیاة الإنسان وارتباطه مع الآخرین فی الوسط الاجتماعی، وکذلک فی طریقة ارتباطه بمعبوده سبحانه، تدل علی جهده وسعیه من أجل الوصول إلی أهدافه التی سبق أن رسمها وحددها لنفسه. وأنّ ما قام به الأنبیاء والمصلحون والفلاسفة والمعلمون طوال تاریخ الإنسان بشأن مسائل من قبیل: الهدف من الخلق، والغایة من الحیاة، ومراحل هدایة الإنسان، ودرجات الکمال والسعادة، ومراحل التنمیة الأخلاقیة والسیر والسلوک الإنسانی، ومسؤولیة الإنسان فی الحصول علی الأهداف الغائیة، وکذلک الأهداف الروحیة والجسدیة والفردیة والاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة، یثبت لنا أنّ الأهداف التربویة لا یمکن حصرها ضمن تبویب واحد، أنّ الأهداف والبرامج التربویة للأدیان لا تنظر إلی ناحیة خاصة من وجود الإنسان، أو دورة خاصة من حیاته، بل إنّها تنظر إلی جمیع مراحل الحیاة الإنسانیة.

العلاقة بین تبویب الأهداف التربویة من الزاویة الدینیة والزاویة العلمیة

إن ارتباط أهداف البرامج التربویة الدینیة بالأهداف التربویة التعلیمیة، بمنزلة الارتباط بین الغایة والوسیلة. إن توظیف التقدّم العلمی فی مجال العلوم الإنسانیة، ومن بینها التعلیم المدرسی فی العصر الراهن، یمکنه تطبیق البرامج التربویة الدینیة

ص:44

بشکل أفضل. یمکن للأسالیب العلمیة والمدرسیة - للحصول علی الأهداف المعرفیة والعاطفیة والنفسیة الحرکیة - أن یکون لها تأثیر کبیر علی التنمیة والتقدم الأخلاقی والدینی للطلاب. وفی الحقیقة فإنّ تبویب الأهداف فی العلوم التربویة یقدم منهجاً وأسلوباً للحصول علی الأهداف المعرفیة والعاطفیة والنفسیة - الحرکیة. فی هذا النوع من التبویب، یتم تکوین إطار علمی یساعد علی إدخال مضمون یشتمل علی ثقل أخلاقی فی العملیة التعلیمیة. من هنا فإن تبویب الأهداف التربویة الناظرة إلی جمیع شؤون الحیاة، والتی یکون مصدرها التعالیم الدینیة، لا تتعارض مع تبویب الأهداف التربویة فی العلوم التربویة أبداً، بل یمکن - للارتباط الوثیق بینهما - أن یضمن لنا الوصول إلی الأهداف التربویة. وبعبارة أخری: إن ما یتمّ طرحه فی بحث تبویب الأهداف فی العلوم التربویة، لیس هو إظهار المضمون التربوی، بل هو اقتراح الأسالیب والأطر من أجل الحصول علی مختلف المضامین التربویة. إن العلوم التربویة تقدّم أطراً عامة من أجل الحصول علی کل نوع من أنواع الأهداف المعرفیة والعاطفیة والنفسیة - الحرکیة. إن المطروح فی هذا الفرع هو کیفیة الوصول إلی الأهداف المدرسیة، ولیس تحدید المضمون والمحتوی ونوع الهدف، فی حین أن رسم الأهداف والبرامج التربویة الدینیة - التی تحدد مسار الحیاة - یکون البحث فیها حول مضمون وتحدید مواد ووسائل الحرکة. لقد کان الأنبیاء (علیه السلام) والمصلحون یؤکدون علی مضمون أهداف الحیاة، دون الأسالیب والأطر، رغم أن الأسالیب العامة کانت تشکل جانباً من مضامین برامجهم. وأما فی العلوم التربویة، فإن الأسالیب الجزئیة - للوصول إلی الأهداف السلوکیة - تکون منظورة ومنشودة أیضاً(1).

ص:45


1- (1)) إننا لا نروم تبویب موارد من قبیل: أسالیب تعلیم المعلمین، وسبل الارتباط بالطلاب أو مختلف أنواع المواد التعلیمیة. کما أننا لا نسعی إلی تبویب موضوع أو مضمون درس خاص، وإنما الذی نسعی إلی تبویبه هو السلوک الصحیح للطالب، بمعنی الأعمال والأفکار أو المشاعر والأحاسیس الحاصلة من خلال المشارکة فی نوع من المناهج الدراسیة (تبویب الأهداف التربویة، بلوم، بنیامین اس: 25).(... إن التبویب مورد البحث، یجب أن یکون طرحاً توصیفیاً کاملاً، بحیث یمکن تعریف کل نوع من أنواع الأهداف التربویة بشکل محاید نسبیاً. وعلی هذا القیاس نظام دیوی العشری فی تبویب المکتبات، حیث یتم فیه توصیف جمیع طبقات الکتب. إن هذا التبویب لا یتحدث عن قیمة أو کیفیة طبقة من الکتب بالقیاس إلی الطبقات الأخری، ولا یتم تحدید عدد أو نوع الکتب التی ینبغی اشتمال المکتبة علیها. وهذا یعنی أن بالإمکان تعریف جمیع أنواع المتغیرات السلوکیة التی یتم التأکید علیها فی أیّ مؤسسة أو حقل تربوی أو فلسفة تربویة فی هذا التبویب. وبعبارة أخری: إن کل هدف یعمل علی وصف سلوک معیّن سیکون له حیّز فی هذا التبویب). (المصدر: 27).

جدیر ذکره، أنّ تبویب الأهداف التربویة فی العلوم التربویة یشتمل علی مجرّد الأهداف السلوکیة، وقد لا یمکن إدراج جمیع الأهداف الدینیة فی إطار سلوک قابل للملاحظة أو القیاس. وعلی هذا الأساس فإنه علی الرغم من جدوائیة توظیف الأسالیب العلمیة من أجل تحقیق الکثیر من الأهداف التربویة الدینیة، إلا أنّ بعض الأهداف الدینیة التربویة ذات صبغة داخلیة ومعنویة خاصة، وإنها رغم تأثیرها التام علی الفرد، لا تتجلّی علی المستوی الخارجی والظاهری إلّا علی نحو باهت للغایة. وعلیه فبالالتفات إلی هذا الأمر لا یمکن لنا أن نتوقّع حصول جمیع الأهداف التربویة الدینیة من خلال توظیف الأسالیب العلمیة المأخوذة من تبویب الأهداف التربویة. وفی البحوث القادمة سوف ندرس سلسلة المراتب الموجّهة، بغیة الحصول علی الأهداف الدینیة التربویة بشکل تفصیلی.

تبویب الأهداف التربویة من زاویة العلوم التربویة

اشارة

بعض الباحثین من قسَّم التربیة والتعلیم وعلم النفس التربوی والأهداف التربویة، إلی طبقات مختلفة. ومن بین التبویبات التی تحظی بشمولیة وأهمیة

ص:46

خاصّة، تبویب جماعة من المحققین تحت إشراف (بلوم)، والهیکلة الرئیسیة تشتمل علی ثلاث مساحات هامة: وهی المساحة المعرفیة، والمساحة العاطفیة، والمساحة النفسیة (الحرکیة).

أما المساحة المعرفیة فتشتمل علی الأهداف المرتبطة بالاستذکار، أو إعادة التعرّف بالفکر وتنمیة القابلیات والمهارات الذهنیة. وأنّ هذه المساحة تمثل أهم مجالات الأنشطة لأکثر المختبرین فی الوقت الراهن. وأنّ أکثر الأعمال المرتبطة بالتخطیط والبرامج الدراسیة تقع فی هذه المساحة، ویمکن العثور علی أوضح التعاریف المتعلقة بالأهداف المعرفیة - علی شکل توصیف سلوک الطلاب - فی هذه المساحة.

وأمّا المساحة العاطفیة فتشتمل علی الأهداف التی تحکی عن المتغیرات فی العلاقات والرؤی والقیَم وتنمیة الاحترام والانسجام.

وأمّا المساحة الثالثة فإنّها ترتبط بالمهارات النفسیة - الحرکیة(1). جدیر ذکره أنّ الطبقات المتعلّقة بکلّ مساحة قد تمّ تنظیمها ضمن سلسلة تراتبیة تبدأ من أبسط النتائج السلوکیة وتنتهی بأکثرها تعقیداً.

1. المساحة المعرفیة

إنّ هذه المساحة تشتمل - بشکل أکبر - علی الأهداف التی ترمی إلی العلم والفهم والمهارات الفکریة. وبعبارة أخری: أنّ الأهداف المعرفیة ترتبط بما یجب علی الطالب أن یعلمه ویستوعبه. وأن طبقات هذه المساحة عبارة عن:

العلم (المعلومات): إنّ استحضار المطالب التی سبق للطالب أن تعلّمها

ص:47


1- (1)) أخذ البحث المرتبط بالمساحة المعرفیة، والمساحة العاطفیة من کتاب: الأهداف السلوکیة، لمؤلفه: نرمان ای. غرونلند، ترجمة: أمان الله صفوی، من الصفحة 32 إلی 38، والبحث المرتبط بالمساحة النفسیة - الحرکیة من کتاب: المهارات التربویة والتعلیمیة، لمؤلفه: حسن شعبانی، من الصفحة 184 إلی 186.

یسمی بالعلم أو المعلومات. یمکن لهذا التعریف أن یشمل استذکار مطالب واسعة ابتداءً من المسائل الجزئیة وصولاً إلی النظریات الکاملة، ولکن المراد فی البین هو استذکار المعلومات المناسبة. وتعتبر هذه الطبقة من أدنی سطوح نتائج التعلم فی المساحة المعرفیة.

الإدراک: عرّف الإدراک بأنه: (القدرة علی فهم المطالب). ویمکن اعتبار هذه القدرة تحویلاً للمطالب من صورة إلی صورة أخری من قبیل: (تحویل الکلمات إلی أعداد)، أو تفسیر المطالب من قبیل: (توضیحها وتلخیصها) أو التکهّن بأحداث المستقبل (التنبّؤ بالعواقب والنتائج). وإن نتائج التعلم فی هذه الطبقة تتخطّی الاستذکار البسیط للمطالب بخطوة، وهی تحکی عن أدنی مستویات الإدراک.

التطبیق: یشیر التطبیق إلی القدرة علی توظیف المعلومات فی الموقعیات الجدیدة والواقعیة. وأنّ هذا المستوی یشمل تطبیق القواعد والمفاهیم والأسس والقوانین والنظریات. وفی هذا المستوی یکون الفهم أعمق منه فی الطبقة السابقة.

التجزئة والتحلیل: تشیر عملیة التجزئة والتحلیل إلی القدرة علی تقسیم المطلب إلی الأجزاء المکونة له، والتی توفر الأرضیة لإمکان معرفته الترکیبیة. ویمکن لهذا المستوی أن یشتمل علی تحدید الأجزاء، وتجزئة وتحلیل الروابط بین الأجزاء، ومعرفة الأصول الجذریة. وفی هذه الطبقة تکون نتائج التعلّم علی مستوی أعلی بالقیاس إلی الطبقات السابقة؛ لأنّها تستلزم فهم المحتوی والبنیة الترکیبیة للمطالب.

الترکیب: یحکی الترکیب عن القدرة علی المزج بین الأجزاء بشکل یؤدی إلی بناء کلٍّ جدید.. وأنّ هذه العملیة قد تشمل إعداد رسالة فریدة من نوعها، أو تقدیم مشروع عملی (مشروع تحقیق) أو تنظیم نظریة. وفی هذه

ص:48

الطبقة تکون نتائج التعلم مرتبطة بالسلوکیات الخلّاقة، ویکون التأکید الرئیس علی تدوین المشاریع والترکیبات الجدیدة.

التقییم: یحکی التقییم عن القدرة علی الأحکام بشأن قیمة المطالب (الإعلان، والبیان، والقصة، والشعر، والتقریر التحقیقی) لغایة محددة. إن هذا النوع من الأحکام یجب أن یقوم علی أساس الملاکات القطعیة والمحددة. إنّ هذه الملاکات قد تکون داخلیة وقد تکون خارجیة. إن نتائج التعلم المرتبطة بهذا القسم تقع علی رأس سلسلة مراتب المساحة الذهنیة؛ لأنّ هذه النتائج تشتمل علی جمیع الطبقات الأخری أیضاً.

2. المساحة العاطفیة

تشتمل هذه المساحة علی تلک المجموعة من الأهداف المرتبطة بالإحساس والعاطفة، من قبیل: العلائق والرؤی والتکریم وما إلی ذلک. إن حجم السلوک فی المساحة العاطفیة واسع وکبیر، بید أنّه فی الوقت نفسه غیر محدد. بحیث إن تقییم الأنشطة السلوکیة - بسبب عدم بروز المیول والمشاعر الباطنیة کافة علی الأفعال الظاهرة - یبدو فی غایة التعقید. وعلی الرغم من ذلک یمکن أن نحقق تقدماً فی هذه المساحة من خلال مواصلة الجهود والاهتمام المستمر. وإن الطبقات الخمس فی هذه المساحة عبارة عن الأمور الآتیة:

أ) التلقّی: یشیر التلقّی إلی دقّة الطالب فی الظواهر أو الإجابة عن المحرکات الخاصّة من قبیل: (النشاط المدرسی فی الفصل، والمناهج الدراسیة، والموسیقی، وما إلی ذلک). ومن الناحیة التدریسیة یرتبط باستقطاب وحفظ وتوجیه الطالب. وأن التعلّم فی هذا القسم یتغیّر ابتداءً من الوعی البسیط للطالب بشأن ظاهرة من الظواهر وحتی الاهتمام المدروس والمتأنی. فی هذه المساحة العاطفیة یعدّ التلقی من أدنی سطوح التعلم.

ص:49

ب) ردّة الفعل: تشیر ردّة الفعل إلی المشارکة والنشاط الفعّال للطالب. وفی هذا المستوی لا یهتم الطالب بظاهرة خاصّة فقط، بل یبدی ردّة فعل وتفاعل تجاهها بنحو من الأنحاء. ومن الممکن فی هذا القسم أن تکون نتائج التعلّم عبارة عن قبول القیام بالتکالیف، والرغبة بالتفاعل وردود الأفعال من قبیل: (القیام بالواجبات والوظائف الدراسیة الإضافیة)، أو (الرغبة فی التعبیر عن ردّة الفعل) أو (الشعور باللذة والرغبة الشخصیة فی المطالعة). إنّ المستویات العلیا فی هذه الطبقة عبارة عن تلک المجموعة من الأهداف التی یتمّ تبویبها عادة تحت عنوان (العلائق)(1) ، بمعنی الأهداف التی یکون منشأها الرغبة فی العمل، والشعور بالمتعة عند القیام بها.

ج) التقییم: وهو عبارة عن القیمة التی یولیها الطالب لشیء أو ظاهرة أو سلوک خاص. وتتغیر هذه الطبقة ابتداء من القبول البسیط لقیمةٍ من قبیل: الرغبة فی تطوّر المجموعة، وصولاً إلی سطوحها المعقدة. بمعنی القبول بالالتزام، من قبیل: القبول بالمسؤولیة من أجل تقدم المجموعة. إن التقییم یقوم علی استبطان مجموعة محددة من القیم، ویتمّ تحدید علامة استبطان القیَم من خلال سلوک الطالب وأدائه. وإن نتائج التعلم فی هذا المستوی تشتمل علی السلوکیات التی یکون الاتصال والثبات فیها مشهوداً وملحوظاً. وإن هذه المجموعة من الأهداف التی یتمّ تصنیفها بالکامل تحت عنوان: (الرؤی والتکریم)، تندرج فی هذه الطبقة.

د) التدوین (التنظیم): إنّ التدوین عبارة عن إدغام القیَم المختلفة ورفع حالة التعارض بینها، وبناء منظومة قیَم ثابتة ومنسجمة. لذلک یکون التأکید هنا علی المقارنة والربط بین القیَم. وإنّ التعلّم فی هذه الطبقة قد یکون مجرد امتلاک تصوّر عن کلّ قیمة أخلاقیة من قبیل: (معرفة المسؤولیة الفردیة

ص:50


1- (1)) . interests.

لتحسین الروابط والوشائج الإنسانیة)، أو أن یرتبط بمنظومة القیَم من قبیل: (إعداد مشروع توظیف یعالج المشکلة الاجتماعیة والاقتصادیة فی المجتمع). وأنّ تلک المجموعة من الأهداف التعلیمیة التی تؤدی إلی الغایة من الحیاة تندرج ضمن هذه الطبقة.

ه) استبطان القیَم: یمتلک الفرد فی هذا المستوی من المساحة العاطفیة نظاماً أخلاقیاً خاصّاً یعمل علی بلورة شخصیته وتنظیم سلوکه. وأن نتائج التعلیم فی هذا المستوی تشتمل علی نشاطات واسعة، وأن کلّ واحد من هذه الأنشطة یعبّر عن شخصیة الطالب. کما أنّ الأهداف المناسبة فی هذه الطبقة عبارة عن تلک المجموعة من الأهداف المرتبطة بالنماذج العامة لسلوک الطالب فی إقرار التفاهم والوئام.

3. المساحة النفسیة - الحرکیة

ترتبط هذه المساحة بالمهارات الحرکیة وتتعاطی مع الحرکات الإرادیة والهادفة للإنسان، والتی یستلزم القیام بها توظیف العضلات والأعصاب والمُستقبِلات الخاصّة بجهاز المرکز العصبی. وأنّ مراحل هذه المساحة عبارة عن:

أ) المشاهدة والتقلید: فی هذه المرحلة یقوم الطالب بمشاهدة أداء المعلم المشغول بالعمل فی الموضوع مورد البحث. إنّه مضطر إلی متابعة تفاصیل الحرکات وتسلسلها وتعاقبها والعلاقة بینها، حتی بلوغ النتائج النهائیة بدقّة. ویتفق أحیاناً أنّ تحل مطالعة قانون العمل محل هذه المرحلة من المشاهدة، ولکن فی الغالب تقترن مطالعة قانون العمل بتطبیق المهارات فی وقت واحد.

ب) تطبیق الموضوع دون مساعدة: فی هذه المرحلة یکون مستوی التعلم أعلی من المرحلة السابقة شیئاً ما، ونبتعد فیه عن أسلوب التقلید السطحی، ونصل إلی مرحلة التطبیق الواعی. وفی هذه المرحلة یجب أن

ص:51

ینخفض اعتماد الطالب علی المعلم إلی أدنی مستویاته، بحیث لا یعود بحاجة إلی مساعدة مباشرة منه. ولکن یجب أن یستمر إشراف المعلم علی أداء الطالب عند تطبیق المهارات.

الدقة فی العمل: فی هذه المرحلة یجب علی الطالب أن ینجز النشاط والعمل بدقة وسرعة. وإنّه فی هذه المرحلة یکون قد بلغ مرحلة من الکفاءة فی أداء أعماله بمهارة، وتنظیمها بحسب الحاجة. فمثلاً، نجده ینظم إیقاع حرکاته بین السرعة والبطء، ویقلل من مستوی أخطائه، أو یعمل علی تغییر مسار حرکاته.

تنسیق الحرکات: بمعنی إقامة التنسیق بین سلسلة من الأعمال والنشاطات، مع مراعاة النظم والکفاءة. وفی هذه المرحلة یکون الطالب قد تمکن من القیام بالتنسیق بین عدة حرکات فی وقت واحد.

الأداء الطبیعی: تعتبر هذه المرحلة أعلی مراحل التعلم فی المساحة النفسیة - الحرکیة، حیث یقوم الطالب بأداء مهامه بشکل تلقائی وعفوی وعلی نحو دقیق ومتوازن. وبعبارة أخری: إنه فی هذه المرحلة یستغنی عن إمعان النظر وبذل الطاقة من أجل التنسیق بین الأنشطة وتنظیم تعاقبها، وتصدر عنه الأعمال بشکل طبیعی وعلی نحو ذاتی وتلقائی.

ومن المهم التذکیر بهذه النقطة الهامة وهی أنّ الأنشطة التعلیمیة لا یمکن بیانها فی مساحة واحدة فقط. بل لربما تکون هناک ضرورة لأن تقع الأنشطة التعلیمیة فی مساحتین، بل وحتی ثلاث مساحات لتعطی نتائج سلوکیة، بمعنی أن تکون مسبوقة بالمعرفة والتعلم الذهنی، وفی الوقت الذی تعتبر حرکة فیزیقیة، فإنّها تقع تحت التأثیر العاطفی أیضاً. وعلی هذا الأساس فإن الأهداف التعلیمیة فی دائرة الحرکة تشمل - نوعاً ما - بعض العناصر التابعة للدوائر المعرفیة. بید أن إبداء المهارة الحرکیة جزء من الخصوصیة البارزة

ص:52

للمساحة الحرکیة. وإن وجود الوجه المشترک لا یقتصر بهذه المساحة والمساحتین الأخریین فقط، بل هناک فی نتائج التعلیم فی المساحة المعرفیة عناصر من المساحة العاطفیة، وبالعکس أیضاً. إن تقسیم الأهداف التعلیمیة إلی هذه المساحات الثلاث یعتبر أسلوباً نافعاً، ولکن یجب الالتفات إلی أن هذا التقسیم إنما هو اعتباری إلی حدٍّ ما، ولا یعنی أن کل واحد من هذه الطبقات مستقل عن الطبقات الأخری.

تبویب الأهداف التربویة من زاویة الإسلام

ما هو المراد من تبویب الأهداف التربویة فی الإسلام؟ هل هناک معیار خاص فی الإسلام بشأن تبویب الأهداف المطروحة، کما هو الحال فی العلوم التربویة أیضاً؟ وما هی الأصول الحاکمة علی تبویب الأهداف التربویة فی الرؤیة الإسلامیة؟

کما یتضح من مفهوم التبویب فإنّ هذا المصطلح یستعمل فی مورد تکون فیه:

1. سلسلة المراتب مختلفة. وبعبارة أخری: أن تکون هناک مراحل یکون بینها تقدُّم وتأخُّر، بحیث إنها تشکل سلسلة من الحلقات المترابطة والتی لایمکن بلوغ طبقة فی هذه السلسة إلّا بعد اجتیاز الطبقة السابقة، ولا یمکن الحصول علی المراتب العلیا إلّا بعد الخوض فی المراتب الدنیا. وبشکل عام یمکن بیان تصویر طریقة الارتباط وترتب الأهداف ببعضها علی عدة أنحاء، وهی:

أ) الترتب الخارجی: بمعنی أنّ الهدف الأدنی یشکّل بالنسبة إلی الهدف الأعلی جهة علیة وتقدّمیة، بمعنی سواء کان هناک دافع ونیة فی البین أم لا، فإن الذی یقع فی الخارج هو تقدم الهدف الأدنی علی الهدف الأعلی. فمن باب المثال: إن إیجاد التغییر والإصلاح فی المجتمع یتوقف علی إیجاد التغییر

ص:53

والإصلاح فی أفراد المجتمع. إن هذا الترتب هو من نوع الترتب العلّی الذی یتمتع بماهیة واقعیة وخارجیة.

ب) الترتب القصدی: فی الکثیر من الأحیان لا یکون بین الأهداف ترتیب خارجی، بل الارتباط بینها یکون من طریق: القصد، والنیة، والدافع، فمن باب المثال: یمکن أن یکون هناک ارتباط بواسطة النیة والقصد بین هدفین هما: (الاکتفاء الذاتی فی الاقتصاد) و (التقرب من الله).

والمسألة الأخری التی یتم التطرق إلیها فیما یتعلّق بطریقة الارتباط بین الأهداف، هو أننا إذا قلنا: إنّ الأهداف تترتب علی بعضها، وإنّها بالتالی تشتمل علی هدف نهائی، فلیس المراد أنّ لعنصر الزمن دخل فی جمیع هذه الترتبات، بل إن الغائیة هنا تعنی أن الهدف النهائی هو النقطة المطلوبة والمنشودة من الناحیة المنطقیة.

إنّ القرب الإلهی لیس هدفاً بعید المنال، ومنفصلاً عن السلوک الیومی، بل هو هدف له مراتب واسعة، وعلی الرغم من أنّ مراتبه الأولیة یمکن الحصول علیها من خلال القیام بأی عمل نقوم به بنیة التقرّب من الله، إلّا أنّ الوصول إلی المراتب الأعلی یتوقّف علی القیام بأعمال أسمی وأکثر تأثیراً. خلاصة القول: یُمکن للمسلم أن یقوم علی الدوام بالتقرب إلی الله من خلال الأعمال الصالحة.

2. إنّ کل طبقة فی هذه السلسلة تکون بسیطة بالقیاس إلی الطبقة الأعلی، وهذا یعنی أننا کلّما تقدمنا إلی الأمام ستکون الطبقات العلیا أکثر تعقیداً.

3. إنّ تبویب الأهداف فی الدین لیس تبویباً علمیاً. بمعنی أن التبویب العلمی یعتمد الشکل والصورة، وبعبارة أخری: إن الذی یتمّ بحثه فی التبویب العلمی هو إطار العمل وأسلوبه کما هو الحال بالنسبة إلی تبویب «بلوم ومساعدیه»، ومن هنا فإنّه لا یشتمل علی بعد أخلاقی، فهو لا ینظر إلی مفاهیم

ص:54

من قبیل: الحسن والقبیح أو الثواب والعقاب. وأما فی تبویب الأهداف التربویة من الزاویة الإسلامیة، فحیث یتمّ تبویب المحتوی التربوی، فإنّه یشتمل علی ثقل أخلاقی. بمعنی أنّ الأهداف التی یتمّ تحدیدها فی النظام الدینی هی أهداف ذات توجّه أخلاقی وإیجابی، وتبیِّن الواجبات والمحظورات الدینیة.

إنّ المعیار والملاک فی تبویب الأهداف التربویة فی الإسلام ینظر إلی ذات الإنسان. وعندما ننظر إلی الإنسان من زاویة الإسلام، فإننا نکوّن فرضیات مسبقة تحدد لنا نوع رؤیتنا للإنسان. من قبیل: إن الإنسان والکون من مخلوقات الله، وإن الإنسان خلیفة الله فی أرضه، وإنّه یتمتّع بالهدایة الذاتیة والتکوینیة (الفطرة). وعلی هذا الأساس إذا أردنا تبویب الأهداف الموجودة فی النصوص الدینیة، وجب علینا أن نأخذ ملاک هذا التبویب من الدین أیضاً. فلا یمکن أن نختار ملاکاً ومعیاراً من خارج الرؤیة الدینیة، والعمل من خلاله علی تبویب الأهداف الدینیة بغیة الوصول إلی تحقیق أهدافه ومطالبه. وفی الحقیقة لا ینبغی لنا أن نفرض إرادتنا علی الدین، أو أن نتمسک بالنصوص الدینیة (الآیات والروایات) من أجل إضفاء الشرعیة علی إرادتنا. وبعبارة أخری: إن نفس الملاک المستنبط من النص الدینی، یجب أن یکون هو المحور فی عملیة التبویب. ومن هنا تجب الاستعانة بالدین والتمسک به حتی فی هذا الأمر. وإن الرؤیة التی یمکنها من طریق الوحی أن تکون ملاکاً ومعیاراً للحرکة التربویة فی حیاة الإنسان، لیس هناک من شک فی ثباتها ودیمومتها، وهی ترصد الإنسان من جمیع أبعاده وجوانبه الوجودیة، ولا تقتصر فی تقییمه علی جهة خاصة أو علی مقطع محدد. إن الدین عندما ینظر إلی الإنسان لا ینظر إلیه بوصفه (مواطناً) أو فرداً من أفراد المجتمع، وما إلی ذلک من العناوین الناظرة إلی بعد واحد أو جهة واحدة من الجهات

ص:55

الوجودیة، وإنما ینظر إلیه بوصفه (إنساناً) ویروم بلورة وبناء شخصیته الحقیقیة علی أساسٍ من هذه الرؤیة. إن الإسلام یعتبر الإنسان خلیفة الله فی الأرض، ویسعی إلی تقدیم منظومة تربویة تشتمل علی جمیع أبعاده الوجودیة (من العقل، والروح، والجسم، والأبعاد الفردیة، والاجتماعیة، والإلهیة وما إلی ذلک) والعمل علی تربیته تربیة إنسانیة صالحة.

إنّ المعیار أوالملاک الذی یقدمه الإسلام فی إطار رؤیته إلی الإنسان یحکی عن اهتمامه ببنیته الوجودیة. وهی بنیة یلعب فیها عنصر الفطرة دوراً أساسیاً ومحوریاً. ولکی نتمکّن من الحصول علی تبویب واقعی فی إطار النظام الإسلامی، یجب علینا ملاحظة رؤیة الإسلام بشأن البنیة والترکیبة الوجودیة للإنسان، والعمل علی تبویب الأهداف التربویة من خلال الالتفات إلی هذه الأسس المعرفیة من قبیل: (الفطرة). ومن خلال الالتفات إلی هذا المعیار یمکن تبویب الأهداف التربویة فی النظام الإسلامی وتقسیمها إلی ثلاث طبقات عامة، وهی: الأهداف الغائیة (النهائیة)، والأهداف الوسیطة، والأهداف الجزئیة. وکل واحدة من هذه الطبقات تحتوی علی عدّة طبقات أخری، سیأتی شرحها بالتفصیل إن شاء الله تعالی.

ص:56

الفصل الثالث: الهدف الغائی وخصائصه

مفهوم الهدف الغائی من الزاویة الدینیة وخصائصه

إن الهدف الغائی من التربیة فی کل مذهب تربوی هو البلوغ بالإنسان إلی الکمال، ویجب أن تکون جمیع أنشطته بتأثیر من هذا الهدف. وإن الأهداف الغائیة من وجهة نظر الإسلام - والتی أعطته ماهیة خاصة فی الإطار العام - عبارة عن:

1. الانسجام مع الفطرة: کما تقدم أَن ذکرنا إن أصل التناغم والتنسیق بین الأهداف التربویة والبنیة الوجودیة للإنسان یجب أن تراعی فی جمیع الموارد. إن الهدف الغائی فی المنظار الدینی یتناسب والبنیة الوجودیة وماهیة الإنسان التی یطلق علیها فی النصوص الدینیة عنوان (الفطرة). إن التناسق بین الهدف الغائی وفطرة الإنسان یعتبر من أهم خصائصه. وأن أقل اضطراب فی للتوازن والتنسیق بین الهدف والفطرة سیؤدی إلی الانحراف عن مراحل النمو والتطور الإنسانی، وبالتالی فإنّ ذلک سیفضی إلی عجزه وعدم تمکّنه من الحصول علی بلوغ الکمال النهائی.

2. الشمولیة: إنّ المراد من شمولیة الهدف الغائی فی الإسلام هو شموله

ص:57

لکافة القیَم الإنسانیة. فمن باب المثال: إن الدفاع عن الوطن یعدّ من أهم القیم الاجتماعیة فی الإسلام، وإنّ هذا الأمر هو فی حدّ ذاته هدف، ولکنه لیس هدفاً غائیاً أو نهائیاً. وعلی هذا الأساس یجب إدراج جمیع القیَم الدینیة - التی تحدد مسار الحیاة - ضمن الهدف الغائی والنهائی الذی یشتمل علی جمیع القیم الأخلاقیة.

3. التحفیز: إن وجود الحافز والرغبة نحو القیام بأی نشاط، رهن بالوصول إلی النتیجة. وبعبارة أخری: إن الوصول إلی کل هدف من الأهداف المحددة فی کل نشاط أو برنامج، یضمن استمرار ذلک النشاط أو ذلک البرنامج. وأن القیام بالأنشطة دون أن تحقق أی نتیجة، سیؤدی بالتدریج إلی اضمحلال وزوال الدافع والحافز والشوق إلی مواصلة النشاط. إن التساؤل القائل: ما هی ثمرة تحدید الهدف النهائی؟ وکیف یمکن لما هو بعید المنال أن یکون مشجعاً وحافزاً ومحرکاً؟ وإن کان تساؤلاً فی محله ویحتوی علی أهم الأسس المهیمنة علی نظام المکافأة (بمعنی الحافز)، ولکن یجب الالتفات إلی هذه النقطة أیضاً وهی أن تحدید الهدف الغائی لا یعنی کونه مستحیل التحقق أو أنه بعید المنال، وکما تقدّم أن قلنا: إنّ المراد من ترتیب الأهداف - وخاصّة الهدف النهائی - علی سائر الأهداف الأخری، لیس هو الترتیب الزمنی. وفی البحوث القادمة سیتضح لنا أن الهدف الغائی من وجهة نظر الإسلام یستلزم ترتباً منطقیاً، ویبدأ من المراحل البسیطة ویمضی قدماً من خلال توجیه مطلق نحو المراحل الأکثر تعقیداً. إن الفرد من خلال قیامه بکل نشاط دینی یحصل علی الهدف الغائی، إلّا أن بلوغ هذا الهدف الغائی من الضروری أن یتناسب علی الدوام مع نوع النشاط والعمل. فلیس الأمر بأن التقرّب من الله الذی هو الهدف الغائی یتحقق بعد القیام والانتهاء من الأعمال الکثیرة، بل إن کل عمل ونشاط دینی یؤدی إلی تقرّب بحجم ومقدار ذلک

ص:58

العمل. وعلیه یمکن أن نصل إلی هذه النتیجة وهی: أن الوصول إلی الهدف الغائی حتی بعد القیام بکل نشاط جزئی، یغدو ممکناً ومیسوراً.

عدم المحدودیة: إنّ الخصوصیة الرابعة للهدف الغائی (النهائی) فی الرؤیة الدینیة تکمن فی عدم محدودیته. والسؤال المطروح هنا هو: ما هو المراد من عدم محدودیة الهدف؟ هل یمکن أن نتحرّک باتجاه غایة لیس لنهایتها أمد محدد؟ وإذا کان کذلک، کیف نعدّ تلک الغایة هدفاً نهائیاً؟ إن المحور فی الإجابة عن هذه الأسئلة هو لزوم تطبیق الهدف الغائی علی فطرة الإنسان، والالتفات إلی ماهیته الأبدیة. وعلی هذا الأساس یجب أن یکون الهدف الغائی هدفاً أبدیاً غیر محدود، لیتناسب مع الإنسان ویمکن تطبیقه علیه. وبعبارة أخری: إن الإنسان کائن یُنشد الکمال، وحیث إنّه کائن إلهی، فإن محاولة الوصول إلی الکمال لا یمکن أن تقف عند حدٍّ. وعلیه بما أنّ اللاتناهی فی الهدف الغائی ینسجم مع حلم الإنسان بالکمال وحقیقة وجوده علی الأرض، فإن هذا الهدف یکون منتخباً له. وإذا کان الهدف الغائی محدوداً، فإن الإنسان بعد بلوغه سیصاب بالخواء والیأس والقنوط، بل قد یمکن لتصوّر محدودیة الهدف الغائی أن یثبط من عزیمة الإنسان. بالالتفات إلی أن بلوغ کل مرتبة من مراتب الهدف الغائی رهن بتجاوز المرحلة السابقة والقیام بعمل متناسب وطبیعة تلک المرحلة، ویمکن القول: إن عدم محدودیة الهدف الغائی عنصر هام فی اکتساب المراتب العلیا والدرجات الأسمی.

اتحاد الهدف النهائی مع هدف الحیاة (الخلق): إنّ ما یعتبر هدفاً نهائیاً فی النظام التربوی للإسلام لیس أمراً منفصلاً عن الهدف من خلق الإنسان وحیاته. إن الإنسان یتمتع بکرامة وقیمة عالیة من وجهة نظر الإسلام، وإن الهدف من بعث الأنبیاء وإرسال الرسل هو تنمیة طاقاته الذاتیة. من هنا فإن کل توجیه من قبل الله لخلق الإنسان یعتبر نوعاً من بیان الهدف من حیاته. وفی الحقیقة فإن

ص:59

هذا الهدف یبین فی قالبه وصیغته النهائیة (الهدف الغائی) المتمثل بالشخصیة السامیة للإنسان الصالح.

اتحاد الهدف الغائی: إنّ من بین خصائص الهدف النهائی، اتحاده. بمعنی أننا إذا اعتبرنا الهدف النهائی جامعاً لکل القیَم، وحاویاً للمراتب المختلفة.(1) إذن، لا یمکن إلّا أن یکون هذا الهدف حقیقة وماهیة واحدة. ومن الناحیة المنطقیة هناک تناقض بین تعدد الهدف النهائی وبین اعتباره نهائیاً. وإن هذا الهدف إنما یکون محوراً لجمیع أنشطة وحرکات الإنسان إذا کان متصفاً بالوحدة، وأن یکون - علی الرغم من بساطته - مستوعباً لجمیع القیَم والکمالات الإنسانیة، ومشتملاً علی ازدهاره ونموّه وتسامیه فی جمیع مراحل حیاته.

بلوغ القرب الإلهی: إنّ الشعور والإحساس بنتائج وثمار کلّ نشاط یعتبر عاملاً محرکاً فی مواصلته والشروع فی النشاط التالی، بید أننا فیما یتعلّق ب - (القرب الإلهی) - الذی هو الهدف النهائی فی الإسلام - نتساءل: کیف یکون الشعور بالنتیجة والثمرة؟ بعبارة اخری: أنّ الفرد فی نهایة الکثیر من السلوکیات والأعمال التی یمارسها یحصل علی الأهداف التی توخاها من القیام بتلک الأعمال، من قبیل: الشعور بالصحة والعلاج بعد تناول الدواء، أواستیعاب الدرس بعد قراءته وما إلی ذلک؛ فکیف یکون الشعور بالقرب من الله وتأثیره فی الحیاة؟ وما هی الوسیلة وبأی عنصر من العناصر ندرک القرب الإلهی وتأثیره علی حیاتنا؟ إذا کان هذا الهدف - طبقاً للخصوصیة الثالثة التی ذکرناها له - یمکن الوصول إلیه بعد القیام ببعض الأعمال الجزئیة للغایة، کیف یمکن الشعور بنتائجه فی حیاة الإنسان؟

ص:60


1- (1)) إن المراد من المراتب هنا هی سلسلة المراتب الطولیة، وکثرة المراتب فی سلسلة المراتب الطولیة لا یؤدی إلی تعدد الأهداف؛ إذ إن کل واحد من أجزاء السلسلة الطولیة یقع تحت المرتبة الأعلی منه. أما الذی یوجب التعدد والکثرة وعدم الاتحاد فهو الارتباط العرضی.

إن هذه الأسئلة ناظرة إلی کیفیة وطریقة تأثیر الهدف النهائی علی مسار الجهود والأنشطة الیومیة للحیاة، دون أصل التأثیر. وأن مضمون هذه الأسئلة لا یتعلّق بإمکان تأثیر الهدف النهائی والوصول إلیه، بل بکیفیة الشعور به وفهمه واستیعابه. بمعنی أنه کیف یمکن لنا الإحساس بالقرب الإلهی؟ وذلک لأن الأصل الهام فی إیجاد الشوق والحرکة، هو إدراک النتیجة، ولیس مجرد تحقق وجودها.

نبدأ الإجابة عن هذه الأسئلة، ببیان هذه النقطة وهی: أنّ الهدف والنتیجة فی الدین تتناسب والبنیة الوجودیة للإنسان. وهی بنیة وترکیبة لاتنظر إلی الوضع الحالی (الآنی) وحسب بل تنظر إلی المستقبل والأبدیة، وبإدخال هذین العنصرین فی مسار الحیاة، یتم احتواء النتائج المنشودة والحاصلة من بلوغ الهدف النهائی. وبعبارة اخری: کما تقدّم أن ذکرنا فإنّ الإنسان یستطیع الوصول إلی الهدف النهائی - ألا وهو القرب من الله - من خلال القیام بکلّ عمل مهما کان ضئیلاً وجزئیاً، شریطة أن یقوم ذلک العمل علی أساس من ذلک الهدف النهائی. ولو نظرنا بهذه الرؤیة ستکون النتیجة المنطقیة المترتبة علی الأعمال الواقعة فی إطار القرب من الله، مختلفة عن تلک المترتبة علی الأعمال الفاقدة لهذه الخصوصیة، وسوف تترک آثاراً مختلفة علی روح الإنسان وحیاته.

إنّ الأعمال التی تتحقق من خلال الالتفات إلی الهدف النهائی المتمثّل بالقرب من الله تحمل للفرد نتائج إیجابیة قیّمة توفر له الأرضیة للتقدّم والتطوّر والارتقاء - علی المستوی النفسی والروحی - نحو المراتب والمراحل العلیا.

وعلاوة علی انعکاس التأثیر الإیجابی لهذه الأعمال علی روح الإنسان ونفسه، فإنّ تحققها الخارجی یکون مقترناً بالمصالح الفردیة والاجتماعیة؛ لأنّ هذه الأعمال إنّما یکتب لها التحقق الخارجی فی الإطار المحدد من قبل

ص:61

الدین وبإشراف کامل من الأمر الإلهی. وعلی هذا الأساس فإنّ صلاح وطهر وتطبیق العمل علی وقائع حیاة الإنسان، وتأثیره الإیجابی علی روح الفرد ونفسه، رهن بحجم ومقدار اهتمامه بالقیام بالعمل من أجل الله (تعالی) وفی سبیله. إنّ هذا التوجه لیس مجرّد عنایة شکلیة أو صوریة، بل إنّ آثارها تلفت انتباهنا إلی بذل الجهود وتکثیفها من أجل تحسین العمل وإبراز الواقع والعمل الدؤب علی الإصلاح. إنّ التأثیر الآنی والمرحلی لهذا التوجه علاوة علی الشعور بالرضا الداخلی والروحی، تترتب علیه أبعاد حقیقیة وخارجیة بالکامل، ویمکن تطبیقها علی واقع الحیاة. وبالإضافة إلی هذا الأمر الناظر إلی البعد الوجودی من الإنسان (أی حاجته إلی الحصول علی إجابة فوریة وسریعة بشأن بلوغ النتیجة المنشودة بعد العمل)، فإن هذا الهدف فی المسار الأبدی لحیاة الإنسان الروحیة یکون مؤثراً أیضاً؛ لأن تأثیر الأعمال الجزئیة للإنسان - طوال حیاته - علی روحه ونفسه، یؤثر فی بناء سلوکه وشخصیته.

فی الحقیقة فإنّ شخصیة الإنسان تتبلور من خلال الربط والتلفیق بین آثار الأعمال فی نفسه وروحه علی مرّ الزمن، وهی ذلک البعد من وجود الإنسان الذی یمثل - من الزاویة الدینیة - أصله وترکیبته. إن الإنسان یواصل حیاته الأبدیة من خلال شخصیته هذه التی تبلورت فی الحیاة الدنیا. إنّ تأثیر الأعمال الصالحة والطالحة علی منظومة الإنسان الشخصیة دائمی، من هنا فإنّ الفرد إذا احتفظ بسلامة شخصیته، وسار فی حیاته علی أساس من الفطرة الإلهیة الطاهرة، فإنّه سیری النتائج الإیجابیة المتمثلة بالأجر الإلهی فی الحیاة الآخرة.

الهدف الغائی من وجهة نظر الإسلام

یمکن الاستنتاج من البحوث السابقة أنّ الهدف الغائی - الذی هو حقیقة مطلقة ومستوعبة لجمیع القیَم - من وجهة نظر الإسلام هو الله سبحانه وتعالی.

ص:62

فهو المطلق والکامل هو المحور لجمیع أفعال الإنسان. والمراد من محوریة الله وکونه هدفاً هو حضوره فی صلب الحیاة. وفی الأساس لیس دور الهدف النهائی فی مسیرة الحیاة سوی استمرار حضور الله والشعور بهذا الحضور. إنّ هذا الهدف هو حقیقة تعود إلیها جمیع الفضائل والکمالات. إنّ القرب من الله، والعلم بالله، والإیمان بالله، وما إلی ذلک، ناظر إلی حقیقة واحدة، ألا وهی الله.

ومن هنا یجب أن یکون (الله) نفسه - الذی هو حقیقة أزلیة - هو المحور، ولیس الأمور التی تربطنا به بنحو من الأنحاء. وقد عبّر القرآن الکریم عن هذا الارتباط بعبارات ومفاهیم مختلفة، من قبیل: القرب من الله، والوصول إلی الله، والعبودیة، والطهر، والحیاة الطیبة، والإیمان بالله. إنّ جمیع هذه المفاهیم تشیر إلی بیان کیفیة ارتباط الفرد بالله، وفی الوقت الذی تشتمل علی هدف خاص، فإنها تلعب دور الوسیط أیضاً، والذی یکون هو المحور والأصل هو الله والحقیقة الواحدة التی تقع معیاراً لجمیع هذه المظاهر وغیرها. کما أن الفلاح والسعادة والفوز العظیم هی من المفاهیم التی تشرح کیفیة الارتباط بالله، وتجعل من الهدف النهائی أکثر وضوحاً(1).

إنّ عطاء الله اللامتناهی من الجنة وجنة عدن والفردوس والرضوان، إنّما هی مظاهر عن نتیجة ارتباط الإنسان بخالقه، وحتی القرب من الله لیس هو الهدف النهائی، وإنّما هو مجرد نموذج عن الارتباط الأکمل بین الإنسان والإله. وعلیه لو استنبط مفهوم الهدف من هذه النماذج والأهداف، وتم إطلاقه علیها، فإنه یصبّ فی مطلوبیة تلک الحقیقة الواحدة، ألا وهی الله سبحانه وتعالی. إن التوجّه إلی الله یعتبر فی الإسلام محوراً لجمیع العقائد والأسالیب التربویة وکافة القوانین والبرامج التوجیهیة فی الإسلام، وقد تم بناء صرح حیاة الفرد المسلم علی أساسٍ من هذه القاعدة. إنّ جمیع المناهج

ص:63


1- (1)) انظر: المجادلة: 22؛ هود: 108؛ النور: 52.

التربویة فی الإسلام تحکی فی حقیقتها عن الارتباط الوثیق بین الإنسان وخالقه، وإن جمیع الفروع والأقسام التربویة تنشأ من هذا الارتباط وکیفیته، وإن مآل جمیع الأمور فی الختام إلی الله سبحانه وتعالی.

وفیما یلی نشیر إلی بعض المفاهیم القرآنیة التی تحکی عن الارتباط القائم بین الإنسان وبارئه:

1. العبودیة: تعتبر العبودیة، والحصول علی الحیاة الطیبة، والقرب الإلهی فی القرآن الکریم من مصادیق السعادة. وقد جاء الأنبیاء (علیه السلام) لیوصلوا الإنسان إلی هذه السعادة. بید أنّ السعادة لیست رهناً بکسب العلم أو الحصول علی اللذة أو المزید من القوّة والسلطة وما إلی ذلک(1). وإنما تحصل سعادة الإنسان من خلال الارتباط مع الله، وقد عبّر القرآن الکریم عن هذه السعادة بالعبادة، وذلک إذ یقول الله تعالی: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ2 .

إن العبادة هی الغایة من خلق الإنسان. وإن الإنسان السعید من وجهة نظر القرآن هو الذی یصل إلی هذا الهدف. وقد اعتبر النبی إبراهیم (علیه السلام) أسوة السعداء، ولسان حاله یقول: إِنِّی وَجَّهْتُ وَجْهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِیفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِکِینَ3 ؛ قُلْ إِنَّ صَلاتِی وَ نُسُکِی وَ مَحْیایَ وَ مَماتِی لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ .(2) وفی المقابل فإنّ الذین یتمرّدون علی عبادة الله، ویقیمون أساس حیاتهم علی غیر جهة الله، لیس لهم من مصیر غیر الرزوح فی الشقاء، قال الله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِینَ .(3)

ص:64


1- (1)) انظر: مطهری، مرتضی، هدف زندگی (هدف الحیاة): 12.
2- (4)) الأنعام: 162.
3- (5)) غافر: 60.

2. القرب: إن المفهوم الآخر الذی یبیّن کیفیة الارتباط بالله هو مفهوم القرب. والمراد من القرب لیس هو القرب الزمانی أو المکانی، بل هو القرب الارتباط الروحی والمعنوی. وهو ارتباط یمدّ جذوره فی أعماق وجود الإنسان وشخصیته، ویقرّبه من الله حقیقة.

3. الحیاة الطیّبة: لقد استعمل هذا المفهوم أیضاً لبیان کیفیة الارتباط بالله، قال تعالی: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَکَرٍ أَوْ أُنْثی وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْیِیَنَّهُ حَیاةً طَیِّبَةً1 .

والمراد من الطهارة - بالإضافة إلی الطهارة الجسمانیة - هی طهارة النفس والروح الشاملة. وإن طهارة الروح - التی یطلق علیها فی عرف الإسلام اسم الطهارة الکبری - إنما تتبلور فی أصل التوحید، وتشمل جمیع التعالیم العقائدیة، وأصول الأخلاق العملیة، والأعمال الشرعیة(1). إنّ القرآن الکریم یری أنّ الإنسان المطهّر هو الذی أدرک حقیقة الهدایة القرآنیة، وذلک إذ یقول تعالی: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ کَرِیمٌ * فِی کِتابٍ مَکْنُونٍ * لا یَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ3 . إن القرب الإلهی هو المقام الأرفع الذی ناله أهل البیت (علیه السلام) بوصفهم المصادیق الکاملة حیث یصلح التأسی بهم واتخاذهم من قبل الناس قدوة لهم، قال تعالی: إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً4 . والمراد من الطهارة فی هذا المورد، الطهارة الکبری أیضاً، وهی تساوق الاعتقاد بالحق. وعلیه یکون المراد من تطهیر أهل البیت هو تجهیزهم بإدراک الحق فی الاعتقاد والعمل.(2)

ص:65


1- (2)) راجع: المیزان فی تفسیر القرآن، العلامة الطباطبائی: 180/2، تفسیر الآیة: 222 من سورة البقرة.
2- (5)) المیزان فی تفسیر القرآن: ج 16، تفسیر الآیة 33 من سورة الأحزاب.

وهناک فی القرآن الکریم تعابیر اخری لبیان نتیجة الوصول إلی الهدف أیضاً(1) ، بید أنّ هذه الموارد إنّما هی مجرد مظاهر لنیل الهدف النهائی الذی یمکن تحصیله من خلال المحافظة علی مراتب کمال الإنسان فی مختلف المراحل.

بحث خاص

لو آمنا بأنّ الله حقیقة واحدة وأنه المحور والهدف النهائی، وأنه یجب أن تنتهی جمیع حرکات الإنسان - من وجهة نظر الإسلام - إلیه، یرد هذا السؤال القائل: کیف یتسنّی لنا أن ندرک حقیقةً هی خارج وجود الإنسان، والوصول إلی اکتشافها بوصفها هدفاً تربویاً؟ وبعبارة أخری: إن الذی یؤثر فینا لا یمکن أن یکون أمراً خارجیاً، وإذا أراد الأمر الخارجی أن یؤثّر فینا، فلا شک فی أن تأثیره سیکون من خلالنا. من هنا فإن التأثیر التربوی للهدف یقتضی أن یکون له أثر نفسانی فی أرواحنا وکیاننا. ولذلک فمن الأفضل اعتبار ذلک الأمر الذی یؤثر فی أرواحنا بوصفه هو الهدف النهائی. فمثلاً: إنّ القرب من الله مفهوم ینتزع من کیفیة ارتباطنا بالحقیقة الخارجیة (الله)، وإن هذا الارتباط الوثیق هو الذی یؤثر فی ضمیرنا. ولکن کیف یمکن لنفس وجود الله أن یکون هدفاً؟ وذلک لأن وجوده غیر وجودنا، وأن الوصول إلیه لیس من قبیل الوصول إلی الهدف والمقصد المکانی. ففیما یتعلّق بالوصول إلی الهدف المکانی یمکن لنا أن نقطع مسافة محددة، لنصل إلی ذلک المکان المنشود، ولکن کیف

ص:66


1- (1)) وهی مفاهیم من قبیل: الجنة، وجنة عدن، والنعیم، والفردوس، والرضوان الإلهی فی آیات من قبیل: الآیة 57 و 122 من سورة النساء، والآیة 8 من سورة البینة، والآیة 9 من سورة یونس، والآیة 107 من سورة الکهف، والآیة 15 من سورة آل عمران، والآیة 27-30 من سورة الفجر.

یمکن تحقیق ذلک بالنسبة إلی الوصول إلی الله بوصفه حقیقة خارجیة؟ کیف یمکن اعتباره هدفاً ومقصداً، یمکن بلوغه فی نهایة الطریق وانتهاء الحرکة؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التذکیر بهذه النقطة الهامّة وهی: الوصول إلی هدف وغایة خارج وجود الإنسان، لا یعنی الاتحاد مع ذلک الهدف، وإنّما یعنی قیام نوع من الارتباط المنطقی والمعقول مع الهدف، والسعی إلی الوصول إلیه. إن هذا النوع من الارتباط یختلف باختلاف الموارد؛ فمثلاً: عندما أقول: إن غایتی وهدفی هو الوصول إلی المدینة الکذائیة، فهذا لا یعنی أنی أرید أن أتحد مع تلک المدینة، وإنما یعنی الحلول فیها، أو مثلاً: عندما أقول: إن الهدف من الجهود التی بذلتها فی الجامعة هو الحصول علی شهادة جامعیة، یکون المراد هو الحصول علی تلک الشهادة. وهکذا عندما أقول: (هدفی هو الله)، لا یکون المراد هو الاتحاد مع الله، بل الارتباط به فی إطار التقرّب منه، ومحبّته وعبادته. ومن هذه الناحیة لا إشکال فی أن نعتبر الله هدفاً نهائیاً، ولکن یجب بیان الأثر التربوی للوصول إلیه فی قالب القرب الإلهی وغیر ذلک من المقولات التی تفهم من طریقة ارتباطنا بذلک الوجود المتعالی. وعلیه فإننا إذا کنا نأخذ القرب الإلهی بوصفه هدفاً نهائیاً، فإن ذلک یعود إلی أن الأثر التربوی لهذا التعبیر أکثر قابلیة للفهم والاستیعاب، وإلّا فإنّ القرب الإلهی یعکس ذات ارتباطنا بالله. کما یجدر التذکیر بهذه النقطة الهامّة وهی: أنه یمکن القول: إن هناک مفهومین للقرب، أحدهما عام والآخر خاص. والمراد هنا هو المفهوم العام من القرب. بمعنی القرب الشامل لکافة نشاطاتنا (فیما إذا کانت ذات توجّه إلهی)، وإلّا فإن القرب بمعناه الخاص الذی تمّ التعبیر عنه فی آیات القرآن الکریم تحت عنوان المقربین، فهو یختص بفئة

خاصة من أصحاب التقوی، ولا یشمل من هم دونهم فی المراتب التی لا ترقی إلی مراتبهم.

ص:67

ص:68

القسم الثانی: الأهداف العامّة (الوسیطة)

اشارة

ص:69

ص:70

إنّ المراد من الأهداف الوسیطة هی سلسلة من الغایات العامة، التی یجب تحدیدها بشکل أوضح، من أجل تبدیلها إلی سلوکیات جزئیة. إن هذه الأهداف - بالقیاس إلی الهدف النهائی - ذات سعة أدنی، وهی تمثل الحد المتوسط بین الهدف النهائی والأهداف السلوکیة والجزئیة. إنّ الأهداف الوسیطة تعمل علی إیضاح مسار حرکة الإنسان إلی حدٍّ ما، وهی تشکل مجموعة یتبلور هیکل الهدف النهائی من خلال ارتباطها ببعضها. ومن ناحیة أخری، فإن کل هدف عام إنما هو ثمرة سلوکیات محددة صدرت عن الإنسان عبر الزمن طبقاً لبرنامج محدد. ولکن ما هی الفلسفة من وجود الأهداف الوسیطة؟ ألا یمکن للهدف النهائی أن یلبی حاجاتنا؟ وهل نعجز عن الوصول إلی الهدف النهائی من خلال تحقیق الأهداف الجزئیة دون اللجوء إلی الأهداف الوسیطة؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، من الضروری الالتفات إلی أهمیة تحدید الأهداف الوسیطة، ولهذه الغایة سنبحث فوائد هذه الأهداف علی النحو الآتی:

1. تبویب مراحل الهدف النهائی: إنّ الأهداف الوسیطة صورة مبوبة ومرحلیة للوصول إلی الهدف النهائی، وهی فی المجموع تشکّل الهدف النهائی. إن السبب الکامن وراء تقسیم الهدف النهائی إلی أهداف وسیطة هو

ص:71

إیضاحها وإزاحة الغموض عنها، لیتمکن المرء من التعرّف بوضوح إلی مسؤولیته ومهمته فی کل مرحلة من المراحل.

2. تبویب الأهداف علی أساس مراحل الحیاة: إن لحیاة الإنسان مراحل واقعیة وغیر اعتباریة. وإن مهمة الهدف النهائی تنحصر فی تحدید الاتجاه والمسار، وأما تحدید کیفیة سلوک واجتیاز هذا المسار فلا تقع علی عاتق الهدف النهائی. وإنما تقع أعباء هذه المهمة علی کاهل الأهداف الوسیطة. ومن ناحیة أخری، هناک فی طریق الحرکة، الکثیر من المشاکل والعقبات والموانع التی یتوقّف رفعها وتجاوزها علی کیفیة اجتیاز الطریق، ولا یکفی مجرد معرفة المسیر. وعلیه فإن مهمة الهدف النهائی تنحصر فی تحدید المسار، وأما مهمة الأهداف الوسیطة فهی بیان کیفیة الطریق والمراحل التی تؤدی إلی الأهداف النهائیة علی المستوی العملی. فمثلاً: إن الهدف النهائی للتربیة الإسلامیة هو القرب من الله، وهذا هدف وسیط یحدد کیف یمکن للمرء أن یصبح من المقربین.

3. الإسراع فی الحصول علی المکافأة: إن من بین أسس علم النفس التحفیزی هو الحصول علی المکافأة عند إنجاز العمل. إن مراعاة هذه النقطة تحظی بأهمیة بالغة من أجل تحفیز الإنسان واسترضائه للحصول علی النتائج المطلوبة. إن الأداء التحفیزی للأهداف الوسیطة یرمی إلی الحصول علی النتائج المطلوبة والملموسة فی سیاق الوصول إلی الهدف النهائی، وفی الحقیقة، فإن اجتیاز کل مرحلة یشکّل بارقة أمل للتحرّک باتجاه المرحلة التالیة، وخطوة ضروریة للوصول إلیها.

بحث خاص

إنّ ما قیل من أن الأهداف الوسیطة هی ذات الهدف النهائی الذی تمّ

ص:72

تقسیمه إلی مراحل مختلفة، لا یعنی بالضرورة أن الزمان یلعب دوراً فی ماهیة هذه المراحل، فإن الارتباط بین المراحل الوسیطة والهدف النهائی هو ارتباط منطقی قبل أن یکون ارتباطاً زمنیاً، بمعنی أنّ إنجاز کل مرحلة لا یکون إلّا بعد اجتیاز المراحل السابقة لها. إن الارتباط بین الأهداف الوسیطة إما طولیّ أو عرضیّ. وفی الارتباط العرضیّ لا یکون هناک تقدم زمانیّ بین بعض الأهداف وبعضها الآخر، وکذلک لیس هناک بینها تقدم بحسب الرتبة. وأما فیما یتعلق بالارتباط الطولیّ فهناک تقدّم زمنیّ وتقدم بحسب الرتبة بین الأهداف. وبالطبع فإن نفس الارتباط الطولیّ لا یستوجب ضرورة منطقیة، وقد حدث کثیراً أن طوی بعض الأشخاص مسیرة المئة میل فی لیلة واحدة.

بالالتفات إلی هذه المقدمة یمکن اختصار الأهداف التربویة الوسیطة من وجهة نظر الإسلام ضمن أربع مجموعات عامة، وهی کالآتی:

أ) الأهداف التربویة التی یکون الله سبحانه وتعالی هو محور الاهتمام فیها.(1)

ب) الأهداف التربویة التی یکون الفرد نفسه هو محور الاهتمام فیها.

ج) الأهداف التربویة التی یکون الآخرون هم محور الاهتمام فیها.

ص:73


1- (1)) المراد من هذه الأهداف التربویة، لیس هو المفهوم العام للارتباط؛ وذلک لأنّ کل نوع من أنواع نشاط الإنسان إذا أخذ فی سیاق الارتباط بالله یکون مشتملاً علی أثر تربوی، بما فی ذلک الأهداف التربویة التی یکون الملحوظ فیها هو الذات والآخرون والطبیعة. بید أنّ المنظور فیما یتعلق بالأهداف التربویة بشأن الله إلی جانب سائر الأهداف الوسیطة الأخری هو مفهومه الخاص، بمعنی أنه کما یکون الارتباط بالله حاکماً علی هذا الهدف، فکذلک محتوی الهدف بشأن الخالق أیضاً، من قبیل: معرفته والتوکل علیه وشکره وما إلی ذلک. لا شک فی أن هذا النوع من الأهداف یختلف عن الأهداف الأخری التی یدور محتواها وماهیتها حول غیر الله، رغم أن الارتباط بالله - بالمعنی العام - یکون حاکماً علی هذا النوع من النشاط التربوی أیضاً.

د) الأهداف التربویة التی تکون الطبیعیة هی محور الاهتمام فیها.

إنّ الإنسان معرّض علی الدوام لنوع من التعامل والارتباط، فهو داخل دائرة لا تسمح له بأن یتجنب التأثیر والتأثر وإقامة العلاقات فیها. وإن العناصر التی یمکنها التأثیر فی کیان الإنسان عبارة عن: الله والآخرین والطبیعة. وإن الإنسان علی الدوام فی تعاطٍ وارتباط مع عنصر واحد أو أکثر من هذه العناصر. وبطبیعة الحال فإن الارتباط مع عنصر أو أکثر لا یشکل مانعاً من الارتباط بالعناصر الأخری. فمن باب المثال: إن الارتباط مع الذات أو الطبیعة أو الآخرین یمکن أن یکون من بعض النواحی ارتباطاً مع الله أیضاً.

إن حصر الأهداف الوسیطة فی هذه الأقسام الأربعة حصر عقلیّ. وذلک لأننا مع قلیل من التسامح لا یمکننا أن نتصوّر دائرة ارتباطیة أخری خارج هذه الدوائر الأربع. إنّ الأهداف الوسیطة تمدّ جذورها فی هذه الأقسام الأربعة، ولا یمکن للطالب أن یکون له من هدف خارج هذه الأقسام الأربعة.

إنّ کل واحد من الأهداف الوسیطة الکلیة یتحوّل إلی أهداف وسیطة أخری تحکی عن أنواع أکثر جزئیة من الارتباط تحت ذلک العنوان الکلی. وإن هذه الأهداف الأکثر جزئیة تتمتع أیضاً بالکلیة والشمولیة، ولذلک هناک نوع من الارتباط الطولیّ بین هذه الأهداف الجزئیة وبین الأهداف الوسیطة الکلیة.

ص:74

الفصل الأول: الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلّق بارتباط الإنسان بخالقه

اشارة

إنّ هذه الأهداف تحکی عن نوع من الارتباط النظریّ والعملیّ بین الإنسان وخالقه. إن ارتباط الإنسان بالله یبدأ من معرفته به، ویتسع من خلال الانتماءات العملیة فی إطار التوکّل والشکر. ویمکن تلخیص المحاور العامة للأهداف التربویة فی الارتباط مع الله بمعرفته، والإیمان به، وبالتقوی الإلهیة، والعبودیة، والشعور بالتکلیف، والشکر.

معرفة الله

إنّ هذا الهدف یمثل مفتاح الوصول إلی الهدف النهائی. فإن لمعرفة الله دوراً هاماً فی القرب منه. بل لا یمکن التقرّب من الله دون معرفته. وإن التخلّق بأخلاق الله، والحصول علی الإیمان والتقوی، والتوکّل علیه وما إلی ذلک، کله رهن بمعرفته. إنّ المعرفة السطحیة تقتضی تمسّکاً وارتباطاً ضعیفاً. وبعکس ذلک کلّما کانت المعرفة أوسع وأکثر عمقاً، کان الارتباط أکثر قوّة واستحکاماً. وقد جاء فی الروایات، الکثیر من الأمور المتعلّقة بمعرفة الله، الأمر الذی یدلّ علی أهمیة هذه المسألة. یقول الإمام علی (علیه السلام): (أوّلُ الدینِ

ص:75

مَعرِفَتُه)(1). کما جاء فی الکافی: (أوّلُ الدِیانَةِ بهِ، مَعرِفَتُه)(2). إن هذه الکلمة تحکی عن محوریة معرفة الله، وإنه لا وجود للتدین لولاها. وإن المعرفة فی هذا المقام إما حصولیة أو حضوریة.

المعرفة الحصولیة: إن هذه المعرفة عقلیة وتجریبیة (حسیة)، وعلی الرغم من احتمال وجود الخطأ، إلا أنه بإمکان المرء صیانة نفسه عن الوقوع فی الخطأ إذا راعی بعض الشروط.(3) إن العلم بصفات الله ودوره فی الحیاة بشکل عام وحیاة الإنسان بشکل خاص، وحلّ المشاکل النظریة والاعتقادیة التی تعرض فی حیاة الإنسان، تعمل بأجمعها علی تمهید الأرضیة التی تمکّن الإنسان من القیام بوظائفه ومسؤولیاته الدینیة عن طیب نفس. ومن هنا فإن معرفة الله لا تنحصر بمعرفة الذات وصفات الأفعال الإلهیة، وفی ضوء هذه المعرفة الرئیسة ترد المعارف العقائدیة الأخری أیضاً. إن التعالیم العقائدیة تشتمل علی طول الزمن - وبما یتناسب والثقافة السائدة والحاجة الفکریة - علی سلسلة من الأسئلة التی تتوقّف الإجابة عنها علی المعرفة التوحیدیة. ومن هنا فحتی المسائل التی یتمّ طرحها حالیاً فی البحوث الکلامیة والعقائدیة المعاصرة یمکن اعتبارها داخلة ضمن سلسلة البحوث المتفرعة عن أصل المعرفة الإلهیة، والعمل علی حلها فی ضوء هذه المعرفة التوحیدیة. ولیس هناک من شک فی أن حلّ المشاکل العقائدیة، والاستجابة للمطالب الفکریة، والاحتراز من کل شک أو شبهة، یترک أثراً ملحوظاً علی مسیرة الحرکة

ص:76


1- (1)) نهج البلاغة: الخطبة الأولی.
2- (2)) أصول الکافی: 140/1.
3- (3)) المراد من ذلک رعایة الجوانب العملیة المقترحة من قبل الدین. فالإنسان الذی یلتزم الزهد والتقوی والإیمان بالله ویجعل هذه الأمور محوراً، فإنه لا یتعرّض إلی الانحراف من خلال الإنجرار وراء الإلحاد والتشکیک مما ینشأ فی الغالب عن الأهواء بعلم أو غفلة.

التربویة للإنسان، وإن الخوض فی التعالیم العقائدیة وحل معضلاتها یحضی بأهمیة بالغة.

المعرفة الحضوریة: إن هذا النوع من معرفة الله راسخ فی فطرة الإنسان، فإن هذه المعرفة ممتزجة بجمیع أبعاده العاطفیة والنفسیة. إن المعرفة الحضوریة بالله هی التی تصوغ شخصیة الإنسان، وتحدد نظامه السلوکی والعملی. وأنّ هذا النوع من المعرفة هو علم لا یتطرّق إلیه السهو أو الخطأ، وهی المرحلة الوحیدة التی توصل الإنسان إلی الهدف النهائی مباشرة. وأنّ جمیع الأهداف الوسیطة تقوم علی خدمة هذا الهدف السامی، لکی نعرض عن غیر الله من خلال معرفته وإدراکه الحضوری.

الإیمان

إنّ الإیمان مفهوم یحکی عن الاعتقاد الداخلی، وهو بمعنی التصدیق لغة(1). وقد استعمل فی الشرع - بالإضافة إلی معناه اللغوی - بمعنی الإیمان القلبی والالتزام فی مقام العمل أیضاً. وعلیه یکون للإیمان رکنان أساسیان، وهما: الالتزام القلبی، والظهور العملی. روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (من عمل بما أمر الله (عز وجل) به فهو مؤمن)(2) ، وعن الباقر (علیه السلام): (الإیمان إقرار وعمل)(3). فلو أن عملاً صدر عن امرئ دون أن یعتقده قلبه فإنه لا یحکی عن إیمانه، وکذلک لو لم یکتب الظهور للالتزام القلبی، ولم یتجلّ علی المستوی العملی، کان دلیلاً علی نقصان الإیمان وضعفه. إنّ جمیع مراتب الإیمان تشترک فی أمر واحد، ألا وهو مدخل الإیمان المتمثل بالعمل بالمقتضی المشترک بین مختلف مراتب الإیمان.

ص:77


1- (1)) لسان العرب: 224/1.
2- (2)) أصول الکافی: 32/2.
3- (3)) تحف العقول عن آل الرسول، الحرانی: 217.

وعلی الرغم من توقف الإیمان علی العلم والوعی (الحصولی) بید أنّه ما من شک فی أنّ هذین المسارین یختلفان عن بعضهما. فالعلم یسعی إلی مجرّد الکشف عن الحقائق، أما الإیمان فهو أمر اعتقادی وأخلاقی، یخلق الحافز لدی الإنسان من أجل القیام بالعمل الصالح. فالعلم لا یمکن أن تکون له جهة أخلاقیة خاصة، ومن هنا فإنه لا یعمل علی بناء شخصیة الإنسان وتهذیب سلوکه بالضرورة، ولیست لدیه أی ضمانة تنفیذیة.

إنّ الهدف - من وجهة نظر الإسلام - هو الحصول علی الإیمان ولیس العلم البحت، لأن العلم من لوازم الإیمان الکامل، فی حین أنّ الإیمان والالتزام العملی لیسا من اللوازم المنطقیة للعلم، قال تعالی: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِینَ1 .

وقد عبر القرآن الکریم عن الإیمان بالله والنبی الأکرم (صلی الله علیه و آله) بوصفه من أهداف البعثة النبویة، وذلک إذ یقول تعالی: وَ ما لَکُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الرَّسُولُ یَدْعُوکُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّکُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِیثاقَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ2 . ویقول أیضاً: لکِنِ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِکَ3 .

إنّ الذی یدل - فی هذه الآیات وغیرها - علی التوسط من دون الإیمان، هو تعلق الإیمان بالهدف النهائی الذی هو الله، وما ذکره النبی للتقرّب منه. وفی الحقیقة أنّ الإیمان وسیلة، وأنّ متعلّقه هو الهدف. وأنّ کلّ شیء یتعلّق به الإیمان یکون هو الأصل والأساس، وفیما یتعلّق بالإیمان بالله یکون الله هو الأصل والغایة النهائیة.

إنّ الإیمان هدف وسیط، ویقوم من خلال مراتبه التکاملیة علی هدایة

ص:78

الإنسان نحو هدفه النهائی. وفی الروایات عندما یکون الحدیث عن الإیمان، فإن المراد غالباً هو الإیمان بالله، والتأکید علی محوریته. وفی ذلک روی عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

أفضل الإیمان أن تعلم أنّ الله معک حیث ما کنت)،

وعنه أیضاً: (أفضل الأعمال أن تحبّ لله، وتبغض لله)(1).

الآثار التربویة للإیمان

إنّ المراد من الآثار التربویة للإیمان هو دور الإیمان فی الوصول إلی الهدف النهائی المتمثل بالله سبحانه وتعالی. وإن الوظیفة الملقاة علی عاتق هذا الهدف الوسیط تکمن فی إیجاد الأرضیة المناسبة لتنمیة الصفات الإیجابیة الفردیة والاجتماعیة لدی الطالب. وإن من بین أهم الآثار المترتبة علی الإیمان هی:

الطمأنینة وانشراح الصدر: یواجه الإنسان طوال حیاته أموراً تضعه أمام موقف فی غایة الخطورة، وإذا واصلها ستقضی علیه لا محالة. لقد کان تاریخ البشریة فی کل مرحلة من المراحل مفعماً بالمشاکل الروحیة والنفسیة للناس الذین عاشوا فی تلک المراحل الخاصة. ففی مرحلة من مراحل التاریخ کانت الکوارث الطبیعیة والحروب المدمّرة تعرّض حیاته للخطر، والیوم یشعر بالوحدة والیأس وانعدام الأمل بسبب هیمنة الحضارة الغربیة. فهل هناک من حلول لمواجهة الوضع المأساوی الراهن؟ وهل کتب علی الإنسان أن یعیش فی قلق دائم؟ ینظر الإسلام إلی الإنسان بوصفه کائناً قویاً جداً، ولذلک فإنه یستطیع التغلّب علی جمیع المشاکل، وإن الإیمان من العوامل التی تزوّده بهذه القوّة. وبعبارة أخری: إن الإیمان بالإضافة إلی أنه یجعل الإنسان عضواً

ص:79


1- (1)) میزان الحکمة، ری شهری: 317/1.

فاعلاً فی المجتمع، فإنه یحصّنه من خطورة المشاکل الروحیة والنفسیة، ویحلّ له مشاکله الاجتماعیة والفردیة.

إن الإنسان المعاصر وبسبب افتقاره إلی الإیمان الدینی، أخذ یلجأ - من أجل التغلب علی مشاکله الروحیة والنفسیة - إلی بناء وتوسیع الآراء الفلسفیة والنفسیة. وعلی الرغم من أن هذه الخطوات تبعث الأمل لدی الإنسان وتعطیه جرعة من التفاؤل النسبی، إلا أنها لا تستطیع الهیمنة علی شخصیته، أو أن تسیطر علی سلوکه. فالإنسان بحاجة إلی عنصر یکون علی الدوام فی متناول یده، وأن یکون جزءاً من شخصیته. ولیس هذا العنصر إلا الإیمان الدینی. إن الهدوء النفسی والطمأنینة القلبیة - من وجهة النظر الدینیة - لیست مسألة یمکن للإنسان أن یوجدها ویخطط لها، وإن الإنسان لا یمکنه الحصول علی الطمأنینة إلّا من خلال التمسک والتشبّث بقدرة أسمی منه. إن انخفاض نسبة الامتعاض، ومقاومة الصعاب والآلام والمصائب والإخفاق والفقدان ومرارة الهزائم، بحاجة إلی قوّة تمکّن الإنسان من مواجهة هذا النوع من المشاکل. وهذه القوة لا یمکن للإنسان أن یحصل علیها إلا فی ضوء الإیمان الدینی، قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ السَّکِینَةَ فِی قُلُوبِ الْمُؤْمِنِینَ لِیَزْدادُوا إِیماناً مَعَ إِیمانِهِمْ1 .

إنّ النشاط والانبساط والتفاؤل والأمل واللذة المعنویة وکل ما هو ضروری للحصول علی الطمأنینة الروحیة، لا یمکن للمرء أن یحرزه إلّا من خلال الإیمان الدینی. وأنّ ما یؤدی إلی الحیاة الضیقة والکبت من وجهة نظر القرآن الکریم هو عدم الإیمان بالله، والغفلة عن هذا الإیمان ونسیانه، قال تعالی: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِکْرِی فَإِنَّ لَهُ مَعِیشَةً ضَنْکاً وَ نَحْشُرُهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ أَعْمی2 .

ص:80

وعلیه فإنّ الحیاة فی ظلّ الإیمان الدینی، تعتبر طوق نجاة یخلّص الإنسان من جمیع المآزق، ویمنحه الهدوء والطمأنینة.

تجنّب المعصیة: إن من بین الآثار الإیجابیة الأخری المترتبة علی الإیمان، تجنّب الأعمال القبیحة. إن المؤمن لا یلوّث حیاته الطاهرة بشوائب الحیاة وأدرانها. وهو ما دام متحلیاً بزینة الإیمان فهو فی مأمن من الانحراف، ولکنه ما أن یتلوث بالمعصیة حتی ینحرف عن هذا المسار وینحدر فی وادی السقوط، وعندها یفقد حصنه المنیع المتمثّل بالإیمان. وأساساً فإن میزة الإیمان الدینی هو أنه یصون الفرد المؤمن ویحفظه من اقتراف الذنوب. وعلیه فإن العاصی لا یمکن أن یکون مؤمناً. وهناک روایات تشیر إلی هذا الأمر بشکل مباشر، حیث تقول: إنّ الشخص الذی یرتکب المعصیة، لا یکون مؤمناً عند ارتکابها. فقد سُئل الإمام علی (علیه السلام) عن الکبائر التی تُخرِج من الإیمان؟ فقال:

«نعم، وما دون الکبائر، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا یزنی الزانی وهو مؤمن، ولا یسرق السارق وهو مؤمن».(1)

وهناک من الروایات ما اعتبرت الإیمان مشروطاً بأداء الطاعات وتجنب المعصیات، وأشارت إلی أن الفرد عندما یرتکب المعصیة فإنّ روح الإیمان ستفارقه. وسئل الإمام محمد الباقر (علیه السلام) عن قول رسول الله (صلی الله علیه و آله):

«إذا زنی الرجل فارقه روح الإیمان؛ قال: (هو قوله عزّ وجل: وَ أَیَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ2 ، ذلک الذی یفارقه».(2)

وفی الحقیقة فإن أحد أرکان الإیمان هو العمل بالمعتقدات القلبیة. فالإنسان إذا لم یعمل بما یعلم، لا یکون فی الحقیقة مدرکاً لماهیة ما علم،

ص:81


1- (1)) بحار الأنوار: 63/69.
2- (3)) بحار الأنوار: 190/69.

ولا یکون مؤمناً بما علم. وإن روح وجوهر الإیمان بالله هو الاحتراز من المعاصی؛ وذلک لأن المرء إذا أراد الوصول إلی الهدف النهائی وجب علیه اجتیاز مراحل تجعله مستعداً للقرب من الله، وإن الإیمان هو أحد الأهداف الوسیطة التی تقوم بهذه المهمة.

دور الإیمان فی الحیاة الاجتماعیة: إنّ سلامة المجتمع رهن بسلامة جمیع أفراده. فلو أن جمیع أفراد المجتمع کانوا یتمتعون بالإیمان الإلهی، فإنهم سوف یحضون بمجتمع طاهر وبعید عن جمیع أنواع التشتت والانحراف. إنّ المجتمعات الإنسانیة التی تتمتع بخصائص الإیمان الدینی - من الهدوء والسکینة والبعد عن المعاصی - سوف یتمکّن أفرادها لا محالة من إقامة المجتمع السلیم الذی یحترم أبناؤه القوانین والحقوق ویحافظون علی حدودهم ولا یعتدون علی حدود الآخرین، ویعتبرون العدالة أمراً مقدّساً، ویثقون ویعتمدون علی بعضهم. وإن الضمانة التطبیقیة والتنفیذیة فی هذا المجتمع لیس هو الخوف من القوی العسکریة والعناصر التأدیبیة، بل هی الکیفیات الروحیة والإیمان الذی یتحلی به أفراد ذلک المجتمع، خلافاً للأفراد فی الکثیر من المجتمعات الأخری التی تکون فیها الضمانة الإجرائیة والتنفیذیة - لإطاعة القوانین ورعایة النظم والآداب الاجتماعیة - ذات مناشئ بعیدة عن الإیمان والعواطف القلبیة، حیث تقتصر علی التوقعات المتبادلة والخوف من العناصر التأدیبیة الوضعیة. إن الناس فی مثل هذه المجتمعات محرومون من إقامة العلاقات العاطفیة والأخلاقیة، وهم یرزحون تحت وطأة سلطة الحکومة أو النظام الاجتماعی السائد، وما أن تغیب هذه العناصر المذکورة حتی یکشفون النقاب عن شخصیاتهم الحقیقیة، ویرتکبون جمیع أنواع الجرائم والموبقات من أجل تحقیق أهوائهم ورغباتهم، معرضین بذلک سلمهم والسلم الاجتماعی للخطر.

ص:82

إن هدایة المجتمع تکون فی ظل الهدایة الفردیة، وإن الإیمان الدینی هو وحده الذی یستطیع تنظیم العلاقات بین الأفراد من خلال المحافظة علی بعض النواحی والأبعاد المحددة، من أجل البلوغ بهذه العلاقات إلی أعلی مراتبها. إن المنطق الاجتماعی للإسلام یری سلامة المجتمع متفرعة عن السلوک الإیمانی لدی الأفراد، معتبراً هؤلاء الأفراد بمنزلة الجسد الواحد، بحیث لو أصاب الألم عضواً من أعضائه شعر الجسد بأکمله بذلک الألم، روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال:

«المؤمنون فی تبارهم وتراحمهم وتعاطفهم کمثل الجسد، إذا اشتکی [منه عضو] تداعی له سائره بالسّهر والحمّی».(1)

وروی عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

المؤمنون تتکافأ دماؤهم، وهم ید علی من سواهم، ویسعی بذمّتهم أدناهم(2).

التقوی

اشارة

إنّ التقوی کلمة شائعة فی النصوص الدینیة (الکتاب، والسُنّة). وهی مأخوذة من (وقی) التی تعنی: الحفظ والصون والوقایة. فالتقوی تعنی: المحافظة علی النفس، فالمتقون هم: الذین یحفظون أنفسهم. وأنّ استعمال کلمة التقوی بمعنی الخوف، والکفّ، والاحتراز لا یعکس المعنی الحقیقی للتقوی، فإنّ هذه الأمور إنّما هی من لوازم حفظ النفس وصیانتها من شیء ما، فالخوف من ذلک الشیء من الأمور المترتبة علیه. فمثلاً: إذا قیل: (اتقوا النار) کان المعنی قوا أنفسکم من عذاب النار والعذاب الإلهی، وبالمعنی المجازی أی خَفُوا من النار، وعندما یقال: (اتقوا الله) کان معنی ذلک ادخلوا فی دائرة الحفظ الإلهی، وإذا استعمل مجازاً فی

ص:83


1- (1)) المصدر: 274/74.
2- (2)) کنز الکراجکی: 92/1.

الخوف من الله، لم یکن المعنی التخافوا من الله، بل المراد لتخافوا من العقوبة المترتبة علی الخروج عن الحدود الإلهیة. وبهذا المعنی فإنّ علی المؤمن أن یخشی علی الدوام من مغبّة طغیان نفسه الأمّارة وأهوائه المتمرّدة، کی لا یفقد السیطرة علی زمام عقله، وأن یثق علی الدوام بعون الله له.

وعلی هذا الأساس یکون معنی التقوی هو الصیانة، والصیانة علی نوعین، وهما:

1. الصیانة السلبیة: بمعنی أن یبادر المرء إلی الابتعاد عن المقدّمات التی من شأنها أن تؤدی به إلی الوقوع فی المعاصی. وفی الحقیقة فإنّ تجنب الدخول فی دائرة المنکرات، یحفظ الإنسان ویقیه من السقوط فی مستنقع الرذیلة. وقد أشارت بعض الروایات إلی هذا المعنی من التقوی، إذ روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال: (التقوی اجتناب)(1).

2. الصیانة الروحیة: بمعنی أن الإنسان حتی إذا وجد نفسه فی مناخ الرذیلة، إلّا أنّه - حیث یتمتع بروح طاهرة ومحصنة تجاه ارتکاب المعاصی - یستطیع صیانة نفسه عما یدنّسها. وفی هذه الحالة یکون المرء علی درجة أکبر من التقوی بالقیاس إلی الحالة السابقة. وإن حصر حقیقة التقوی بتجنب الدخول فی الأماکن الموبوءة بالمنکر لیس صحیحاً؛ وذلک لأن هذا التفسیر یؤدی بالتدریج إلی شیوع ثقافة العزلة والابتعاد عن المجتمع. ومن هنا فإنه وإن کان من الواجب فی بعض الأحیان سلوک الحالة الأولی لتجنب الوقوع فی المنکر، إلا أنه من الأفضل للإنسان أن یعزز فی نفسه الحالة الثانیة بأن یوجد فی نفسه العصمة من اقتراف الذنوب، لکی یتمکن من اجتناب المعاصی حتی إذا دخل فی مناخها، مارس دوره ومسؤولیته الاجتماعیة بشکل طبیعی.

وقد تمت الإشارة فی الآیات الکریمة والروایات الشریفة إلی هذا النوع

ص:84


1- (1)) غرر الحکم ودرر الکلم، الآمدی.

من التقوی. من ذلک قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّیْطانِ تَذَکَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ1 . وروی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال: (من ملک شهوته کان تقیاً)(1) ، وروی عنه أیضاً أنه قال: (عند حضور الشهوات یتبیّن ورع الأتقیاء)(2). وهناک فی الروایات أیضاً تعبیرات، من قبیل: «إنّ التقوی حصن حصین وإنها خیر ساتر» الأمر الذی یحکی عن أن التقوی تحفظ الإنسان عند هجوم المعاصی والذنوب علیه، ومن ذلک قول الإمام علی (علیه السلام): (أمنع حصون الدین، التقوی)، وقوله: (ثوب التقی أشرف الملابس)(3).

وبالطبع فإن توظیف کلتا الحالتین من الناحیة التربویة یکون هو الأنجع والأولی.

1. التقوی هدف وسیط

بمعنی أن التقوی مرحلة من الازدهار الدینی والإلهی، وأنّ الوصول إلیها وتحقیقها یعتبر أمراً ضروریاً ومطلوباً فی الکثیر من الموضوعات الدینیة. وقد تمّ تعریف التقوی بوصفها هدفاً وغایة للسلوک والنشاط الدینی فی الکثیر من الآیات والروایات، ومن ذلک اعتبار التقوی غایة لبیان الآیات الربانیة، من قبیل: قوله تعالی: کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ آیاتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ5 . واعتبار عبادة الله مقدّمة للحصول علی التقوی، من قبیل: قوله تعالی: یا أَیُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّکُمُ الَّذِی خَلَقَکُمْ وَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ6 . واعتبار تشریع

ص:85


1- (2)) غرر الحکم ودرر الکلم، الآمدی.
2- (3)) المصدر.
3- (4)) المصدر.

الأحکام مقدّمة للحصول علی التقوی، من قبیل: قوله تعالی: وَ لَکُمْ فِی الْقِصاصِ حَیاةٌ یا أُولِی الْأَلْبابِ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ1 ، وقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیامُ کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ2 ، وما روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال:

التقوی غایة لا یهلک من اتبعها، ولا یندم من عمل بها؛ لأن بالتقوی فاز الفائزون، وبالمعصیة خسر الخاسرون.(1)

وعنه (علیه السلام) قال:

وأوصاکم بالتقوی، وجعلها منتهی رضاه.(2)

2. اختلاف التقوی عن الإیمان

إن التقوی من الأهداف الوسیطة وهی علی مستویً مختلف عن الإیمان. وعلی الرغم من أنّ التقارب بین هذین المفهومین أمرٌ لا یمکن إنکاره؛ فالتقوی هی المنشأ والمصدر بالنسبة إلی الإیمان الحی والفاعل، حتی تمّ اعتبار الإیمان فی بعض الآیات ظرفاً للتقوی، وکأنّ مرحلة من الإیمان تکون ممتزجة بمرحلة من التقوی، کما فی قول الله تعالی حکایة عن النبی عیسی بن مریم (علیه السلام): قالَ اتَّقُوا اللّهَ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ5 ، وقول الله تعالی: وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ6 ، وقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ7 .

بید أننا فی مقام الانتزاع یمکننا أن نعتبر التقوی مرحلة أعلی من الإیمان فی

ص:86


1- (3)) کنز العمال: الخطبة: 44216.
2- (4)) نهج البلاغة: الخطبة رقم 57.

سلسلة مراحل القرب من الله. فإن مجرّد الإیمان لا یکون کافیاً فی حصول الرحمة ونزول البرکات الإلهیة. بل إن الذی یجعل المجتمع مستعداً للحصول علی النعم والبرکات الإلهیة هو الوصول إلی المراحل الأعلی والأسمی المتمثلة بالتقوی الإلهیة. وفی ذلک قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُری آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَیْهِمْ بَرَکاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ1 . وهناک آیات ذُکرت فیها التقوی بعد الإیمان للصعود إلی المراحل الأعلی من أجل الحصول علی النعم والبرکات الإلهیة، من قبیل: قوله تعالی: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْکِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَکَفَّرْنا عَنْهُمْ سَیِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنّاتِ النَّعِیمِ2 ، وقوله تعالی: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَیْرٌ لَوْ کانُوا یَعْلَمُونَ3 . وعلیه فإن التقوی حالة روحیة تهیمن علی نوایا وأفعال وسلوکیات الإنسان، وتستوعب شخصیته بشکل عام.

وعلی الرغم من أن التقوی ذات مراتب ومراحل متنوّعة، إلّا أن الخصوصیة المشترکة بین جمیع مراحل التقوی هی أن زمام شخصیة الإنسان وسلوکه تحت سیطرة الملکات والصفات التی تحفظه علی الدوام من الزلل وتصونه من الوقوع فی الخطأ. وقد أشار القرآن فی الکثیر من مواطنه إلی شرف المتقین وکرامتهم وقیَمهم الوجودیة، دون أن یذکر ولو مرّة واحدة

ص:87

إمکان فقدانهم للتقوی الإلهیة، والسقوط فی مستنقع المعاصی، کما هو الحال بالنسبة إلی سائر المؤمنین.(1) بل اعتبروا علی الدوام بأنّهم من ذوی الدرجات الإنسانیة العلیا، وکانوا لذلک أهلاً للثناء والتبجیل. قال تعالی: ذلِکَ أَمْرُ اللّهِ أَنْزَلَهُ إِلَیْکُمْ وَ مَنْ یَتَّقِ اللّهَ یُکَفِّرْ عَنْهُ سَیِّئاتِهِ وَ یُعْظِمْ لَهُ أَجْراً2 ، وقال أیضاً: إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ3 ، وقال أیضاً: وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوی4 ، وقال أیضاً: وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ5 .

کما ذهبت الروایات - تبعاً للقرآن الکریم - إلی اعتبارالتقوی بوصفها أفضل الثیاب، وحصن المؤمن، والحبل المتین، ومفتاح الصلاح والفلاح، وبناء الدین، وعماد التدیّن. وإن الخصائص التی ذکرت للکیفیة الروحیة للإنسان فی النصوص الدینیة تحکی عن قیمتها وأهمیتها البالغة والکبیرة. وعلیه فإننا إذا أردنا الوصول إلی أعلی مراتب ومدارج القرب من الله، تعین علینا بعد الإیمان بالله، وما جاء به النبی، أن نراقب أنفسنا علی الدوام عند امتثال جمیع الأوامر الإلهیة، والإعراض عن جمیع المعاصی وحتی الشبهات، فی إطار خاص، ألا وهو الإطار المتمثل بالتقوی الإلهیة.

3. التقوی وسیلة للوصول إلی المراحل العلیا

فی سلسلة المراحل التصاعدیة إلی الله سبحانه وتعالی، تعتبر التقوی من

ص:88


1- (1)) جدیر بالذکر أن استحکام شخصیة الإنسان مأخوذة من قوة التقوی، بید أن هذا لا یعنی ان التقوی عصیة علی الزلل، فإن التقوی وإن کانت ضمانة جیدة من الوقوع فی شّرک الکثیر من الذنوب، ولکننا نجد فی التعالیم الدینیة تأکیداً علی الحذر من بعض الذنوب ذات التأثیر القوی حتی علی المتقین، من هنا یجب الحذر منها، بمعنی التقوی من النوع الأول.

المراتب العلیا، ولکنها مع ذلک تعد مقدمة وواسطة بالنسبة إلی المراحل الأخری. فهناک الکثیر من الآیات فی القرآن الکریم تعرّف التقوی بوصفها وسیلة للوصول إلی المراحل والمراتب الأخری. ومن بینها:

1. الوصول إلی مرتبة الشکر، من قبیل: قول الله تعالی: فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ1 .

2. والتعرّض إلی الرحمة الإلهیة من قبیل: قول الله تعالی: وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ2 .

3. والحصول علی برکات السماء والأرض من قبیل: قوله تعالی: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُری آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَیْهِمْ بَرَکاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ3 .

4. والحصول علی الأجر العظیم من قبیل: قوله تعالی: ذلِکَ أَمْرُ اللّهِ أَنْزَلَهُ إِلَیْکُمْ وَ مَنْ یَتَّقِ اللّهَ یُکَفِّرْ عَنْهُ سَیِّئاتِهِ وَ یُعْظِمْ لَهُ أَجْراً4 .

5. وصحبة الله من قبیل: قوله تعالی: وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِینَ5 .

6. والإحاطة بالعلوم والمسائل بوضوح من قبیل: قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ یَجْعَلْ لَکُمْ فُرْقاناً وَ یُکَفِّرْ عَنْکُمْ سَیِّئاتِکُمْ وَ یَغْفِرْ لَکُمْ6 .

7. وتحقیق النجاح فی مختلف المواقف من قبیل: قوله تعالی: وَ مَنْ یَتَّقِ اللّهَ یَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ یَرْزُقْهُ مِنْ حَیْثُ لا یَحْتَسِبُ7 .

وعلی الرغم من أن الکثیر من هذه الموارد تعد من الآثار المترتبة علی

ص:89

التقوی، بید أنه یمکن اعتبارها بأجمعها من أهداف الحصول علی التقوی أیضاً. ومن ناحیة أخری، فإن التأکید الکثیر فی الآیات والروایات علی التقوی (الإلهیة) یحکی عن أن التقوی لیست هی الغایة النهائیة، بل إنها علی غرار الإیمان ذات متعلق، وأن ذلک المتعلق هو الأصل ومنتهی الغایة. ففی تعبیرات من قبیل: (اتقوا الله)، و (تقوی الله) الواردة فی الکثیر من الآیات والروایات، نجد (الله) هو الأصل والمحور، بمعنی أن تقوی الله هی التی تقع موضع الاهتمام، ولیس أی تقوی أخری یضعها الإنسان بدیلاً عن تقوی الله عز وجل.

4. الآثار التربویة للتقوی

إن للتقوی تأثیراً کبیراً علی حیاة الإنسان سواء من الناحیة المادیة أو الناحیة المعنویة، فبالإضافة إلی الثمرات التی تقدم ذکرها فی بحث الإیمان، هناک فوائد وآثار أخری أیضاً. وبعبارة أخری: من وجهة نظر القرآن الکریم هناک نتائج تترتب علی التقوی، لا یمکن لغیر المتقی أن یحصل علیها. وإن تلک النتائج عبارة عن:

1. الوضوح فی الرؤیة: إن من بین الآثار التربویة الهامة المترتبة علی التقوی هی وضوح الرؤیة. والمراد من الوضوح فی الرؤیة، هو نوع من الإحاطة بمسار حرکة الحیاة فی ضوء النور الإلهی. فالإنسان المؤمن هو الذی لا تقهره حوادث الحیاة ووقائعها، ویعمد فی مسرح الحیاة إلی انتقاء الخیارات الصائبة والصحیحة فی دائرة نشاطه الدؤوب. إن التقوی هی صفة یستطیع الإنسان المؤمن من خلالها أن یتلمس الصراط المستقیم ویمیّزه من السبل الأخری التی تؤدی إلی الانحراف، ویتمکن فی ضوء الوضوح فی الرؤیة الناتجة عن التقوی من الوصول إلی الغایة النهائیة وهی القرب من الله عز وجل. إنّ حیاة الإنسان مفعمة بالخیارات. وهو فی کل لحظة - سواء علی المستوی الفکری والنظری أو

ص:90

علی المستوی الفعلی والعملی - یعمد إلی اختیار موقف من المواقف. من هنا فإن اختیار الموقف سواء علی المستوی الاعتقادی أم علی المستوی العملی أمر لا مناص منه، ولا شکّ فی ضرورة أن یکون هناک معیار ومیزان یصوّب عملیة الاختیار. فإنّ الکثیر من الناس - وبسبب عدم إحاطتهم بعاقبة الأمور - یکونون عرضة للانحراف، وحیث إنّهم یمیلون إلی الخیارات الخاطئة، فإنهم یبتلون بنتائج غیر ممدوحة العواقب. وإن هذا النوع من التجارب المریرة یدخل الناس فی اضطراب مریج بشأن اختیار الطریق الصحیح من الطریق الخاطئ. ولا یمکن اختیار الطریق الصحیح إلّا من قبل أولئک الذین یدرکون عاقبة الأمور، ویتمکنون من اختیار الطریق الصحیح مستعینین بوضوح الرؤیة قبل المبادرة إلی خوض التجربة. إن هذا الوضوح فی الرؤیة - طبقاً لمنطق القرآن - لا یکون إلّا من نصیب الذین تحلّوا بصفة التقوی، وعملوا علی توظیفها فی حیاتهم. قال تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ یَجْعَلْ لَکُمْ فُرْقاناً وَ یُکَفِّرْ عَنْکُمْ سَیِّئاتِکُمْ وَ یَغْفِرْ لَکُمْ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ1 . إن التقوی فی الرؤیة الإسلامیة تمنح المرء قوة الفرقان، بمعنی القدرة علی التمییز والتفریق بین الحق والباطل. ویتجلی هذا التفریق بین الحق والباطل فی مختلف المجالات. إن ثمار شجرة التقوی تطلع من خلال التمییز بین الحق والباطل الذی یتجلّی علی هیئة الإیمان والکفر، والهدایة والضلال. إن التقوی تجعل الإنسان قادراً فی مقام العمل علی التفریق بین الطاعة والمعصیة، وکل ما من شأنه أن یرضی الله أو یسخطه، کما تجعله قادراً - فی مقام اختیار الرأی والنظر - علی التمییز بین الرأی الخاطئ والرأی الصائب. أنّ المتقی - ومن خلال التمسّک بالتقوی الإلهیة - یتسلّح بسلاح الوضوح فی الرؤیة، ویغدو بإمکان عقله - فی ضوء الهدوء والطمأنینة الحاصلة

ص:91

من السلامة الروحیة والنفسیة - أن یعمد إلی اختیار الموقف المناسب فی کل واحد من هذه المجالات الفکریة والعملیة بما یتناغم مع ضمان سعادته، وأن یحدد مساره دون خوف أو شک أو تردد. ومن ناحیة أخری فإن الذین یضعون أنفسهم فی الأجواء المشحونة بالذنوب والآثام، سیحرمون فی حیاتهم من دعامة العقل الذی هو من أعظم نعم الله علی العباد. روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال: (أکثر مصارع العقول تحت بروق المطامع)(1). وعنه (علیه السلام) أیضاً: (الهوی عدوّ العقل)(2). وإنّ السر فی تنویر العقل والوضوح فی الرؤیة الحاصل من التقوی، هو أن التقوی تمهّد الأرضیة لإعمال الفکر برویة، والعمل علی اختیار الطریق الصحیح وتمییزه من الطریق الخاطئ بهدوء وتمعّن.

والذی نحن بصدد توظیفه من التقوی فی هذا الکتاب التربوی هو مجرّد إعداد الأرضیة المناسبة من أجل تنمیة الاستعداد العقلی، وإیجاد الرؤیة والتفکیر الصحیح فی هذا السیاق. وهناک مواضع من القرآن الکریم تثبت أن اعتبار کون المخلوقات فی الکون آیة علی وجود الله وحکمته وعظمته وتدبیره، لا یتضح إلّا فی ضوء التقوی، من قبیل قوله تعالی: إِنَّ فِی اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللّهُ فِی السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَّقُونَ3 . وهذا یعنی أن دور التقوی فی الحیاة الفکریة للناس یتضمن إدراک عظمة الله والوصول إلی کنه أسرار الخلق. إن المتقین هم الذین یحضون علی الدوام بالهدایة والعنایة الإلهیة، إذ یقول تعالی فی محکم کتابه الکریم: ذلِکَ الْکِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدیً لِلْمُتَّقِینَ4 . کما أنّهم یحضون بالتعالیم الإلهیة فی إطار معرفة المسائل الشرعیة والعمل بمضامینها.

ص:92


1- (1)) نهج البلاغة: الحکمة: 219.
2- (2)) مصباح الشریعة: الباب: 38، ص 223.

وباختصار یمکن اعتبار التمییز بین الحق والباطل بوصفه الأثر التربوی الأول المترتب علی التقوی، والفصل بین هذین العنصرین فی المجالات الثلاثة الآتیة:

أ) العقائد: فالتقوی هی میزان التفریق بین الإیمان والکفر، أو الهدی والضلالة.

ب) العمل: حیث إن التقوی تفرّق بین الطاعة والمعصیة.

ج) الرأی والتفکیر: إذ إن التقوی تمیز الرأی الصائب من الرأی الخاطئ.

2. التغلب علی المشاکل والمعضلات: إن من بین الآثار التربویة الأخری المترتبة علی التقوی، هی التخلص من المشاکل والصعاب. فمن وجهة نظر القرآن، إن الله یهب المتقی قوّة دفاعیة خاصة - سواء علی المستوی النفسی والداخلی أو علی المستوی الخارجی - بحیث یستطیع من خلالها التغلب علی جمیع المشاکل المحیطة به. ومن ذلک قوله تعالی: وَ مَنْ یَتَّقِ اللّهَ یَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً1 ، وقوله تعالی: وَ مَنْ یَتَّقِ اللّهَ یَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ یُسْراً2 ، وقوله تعالی: فَأَمّا مَنْ أَعْطی وَ اتَّقی * وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنی * فَسَنُیَسِّرُهُ لِلْیُسْری3 ، وقوله تعالی: فَمَنِ اتَّقی وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ4 . وکما تقدمت الإشارة فی

معرض الحدیث عن الآثار التربویة للإیمان، فإنّ الطمأنینة الحاصلة من الإیمان الإلهی تحصّن الفرد من الحوادث التی یکون لإرادة الإنسان دخل فیها، أو تلک التی لا یکون لإرادة الإنسان تأثیر فیها. کذلک الأمر بالنسبة إلی التقوی أیضاً، فإنها تمنح الإنسان مثل هذه القدرة علی نحو أشد وأقوی، حیث تفرض سیطرتها علی شخصیة الإنسان، وتربطه بالقدرة الأزلیة والأبدیة

ص:93

لله عزّ وجل، وبذلک فإنها تضمن له ما یساعده علی رفع مشاکله والعقبات الماثلة فی طریقه. وأساساً فإن من جملة الآثار الوضعیة المترتبة علی التقوی، هی تسهیل الأمور والتمکن من التغلب علی المشاکل والصعاب. إن المتقی یتمسّک عند احتدام أمواج الحوادث والفتن بحبل الله المتین، فیخلّص نفسه من الیأس والقنوط. قال تعالی: وَ أَنْجَیْنَا الَّذِینَ آمَنُوا وَ کانُوا یَتَّقُونَ1 ، وقال أیضاً: لا نَسْئَلُکَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُکَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوی2 . وحیث إنه یتسلح بشعاع الأنوار الإلهیة، ویتمتّع بالفیض الربانی، حیث قال تعالی: هذا ذِکْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ لَحُسْنَ مَآبٍ3 وقال أیضاً: وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّکَ لِلْمُتَّقِینَ4 ؛ فإنّه یتجاوز العقبات الماثلة فی طریقه، ویعتلی صهوة التقوی بصبر واستقامة ویمضی قدماً نحو الغایة النهائیة والهدف السامی، قال تعالی: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِینَ5 . إنّ الصبر والحلم من بین أهم النتائج المترتبة علی الإیمان. فإنّ الإنسان المتقی عند احتدام المشاکل حیث یتحلی بالأمل فیما یتعلق بقدرة الله، فإنه سوف یتمتع بصبر خاص لا یمکن أن یتحلی به غیره.

کما أنّ من بین أهمّ الثمار المترتبة علی هذا الأثر التربوی، هو تنمیة روح المقاومة فی الإنسان، والتی تخلق لدیه نوعاً من الصبر والقوّة علی التحمّل. فعلی الرغم من أنّ أصل النجاح فی مواجهة المشاکل ناشئ عن وجود قوّة المقاومة، إلا أنّ تجربة تکرار المقاومة الناجحة یکون سبباً فی تنمیة قوّة المقاومة. إنّ إعداد وتربیة الصغار علی تحمّل الصعاب، ومواجهة

ص:94

المشاکل، یؤدّی بهم إلی مواجهة العقبات ومشاکل الحیاة منذ مستهل التنمیة، وأنّ یذوقوا حلاوة التغلّب علیها من خلال توجیه وهدایة المربین ومساعدتهم، والوصول إلی الغایات والأهداف فی ظل مساعیهم وجهودهم الشخصیة. ولا شک فی أن التأنی إنما یکون نافذاً فی روح الإنسان، إذا تمسَّک بالصبر والمقاومة والثبات بوجه المشکلات مما یجعله أقرب إلی أهدافه منه إلی التسرّع وعدم الاستقرار. وبشکل عام فإن کل إنسان إنما یتحلی بالصبر فیما إذا کان أولاً: علی استعداد نفسی من أجل الصمود والمقاومة. وثانیاً: أن یعلم بأنه سیحصل علی النتیجة التی یرومها من خلال السعی وبذل الجهد والصبر والاستقامة. فإن الکثیر من الأفراد مع أنهم یدرکون ضرورة الصبر أمام المشاکل والصعاب من أجل الوصول إلی الهدف، بید أنهم حیث لا یملکون هذا الاستعداد من الناحیة الداخلیة، وحیث لم یوجدوا فی أنفسهم أرضیة الصبر والثبات، فإنهم لا یستطیعون الصمود والمقاومة بوجه المشاکل والصعاب. وإن روح الصبر والاستقامة إنما تحرز فی ضوء بعد النظر (وضوح الرؤیة الناتجة عن التقوی) والاتجاهات الإنسانیة السامیة. إن الإنسان المتقی هو الذی یستطیع تحلیل عواقب الأمور برؤیة إلهیة، وأن یمیّز طریق الحق من طریق الباطل، کما أنه هو الذی یستطیع أن یصارع جمیع المشقات والمنغّصات الداخلیة والخارجیة علی المستوی العملی، وأن ینجح فی الوصول إلی أهدافه. وعلی هذا الأساس فإن الصبر والتأنی الدینی إنما یتحقق فی ظل التقوی الألهیة، ولیس هناک أی عامل یستطیع أن یخلق هذه الروحیة فی الإنسان.

3. حفظ وصیانة النفس من التمرّد: إنّ من بین الآثار البارزة المترتبة علی التقوی، صیانة النفس عن المعاصی. وعلی الرغم من أنّ الوضوح فی الرؤیة الحاصل من هذه الصفة الإلهیة یجعل المرء علی معرفة بالضلالة والضیاع، بید

ص:95

أنّ دور التقوی لیست مجرّد بثّ للوعی، بل إن دورها یذهب إلی أبعد من ذلک حیث یأخذ الاتجاه العملی بنظر الاعتبار أیضاً. إن المنظور الرئیس والأول من هذا الأثر التربوی هو الدور الفاعل للتقوی فی الحیاة الإنسانیة. تذهب الرؤیة الإسلامیة إلی القول: إنّ الإنسان المتقی یمیل میلاً باطنیاً وفطریاً إلی الله، وإن هناک قوّة تلقائیة تنظم حرکة الإنسان للوصول إلی الله، وضمان عدم انحرافه فی مسیرة الحیاة، قال الله تعالی فی کتابه الکریم: إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّیْطانِ تَذَکَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ1 ، ومن وجهة نظر القرآن الکریم لیس هناک من زاد لقطع هذا الطریق الملیء بالعقبات والمنعطفات غیر التقوی الإلهیة، وفی ذلک قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزّادِ التَّقْوی وَ اتَّقُونِ یا أُولِی الْأَلْبابِ2 .

العبادة

اشارة

إنّ من بین الأهداف الوسیطة الأخری التی یتمّ طرحها فیما یتعلّق بالارتباط بالله هی العبادة التی تشتمل علی مرحلة من المراحل الخاصة بالعروج إلی الله سبحانه وتعالی. وبطبیعة الحال فإن العبادة بمعناها العام تشمل کل ما یرتبط بالله عزّ وجل؛ وذلک لأن روح العبادة تعنی الشکر والتبجیل والخضوع أمام الله (تعالی) فی جمیع مراحل القرب والتقرّب إلیه؛ فإننا عندما نتمسک بمعرفة الله فی إطار التقرّب منه، نکون فی الحقیقة قد مارسنا نوعاً من العبادة والتقرب منه سبحانه وتعالی. کما أن الإیمان والتقوی والشکر والتوکل تشتمل علی هذا المظهر من التقرّب المتمثّل فی العبادة. وإن المنظور فی إطار هذا الهدف الوسیط، لیس هو المعنی العام للعبادة، وإنما هو مفهومها الخاص.

ص:96

والمراد من العبادة بهذا المعنی هو إقامة نوع من الارتباط المباشر مع الله، حیث یکون نفس الارتباط من أهم خصائصه. وإن العنوان الذی یعبّر عن هذا الارتباط لیس شیئاً آخر غیر العبادة، خلافاً لما علیه الأمر فیما إذا کان المنظور فی ذلک هو العبادة بالمعنی العام، حیث تصدق بشأنها عناوین أخری من قبیل: المعرفة والتوکّل والشکر وما إلی ذلک أیضاً. بالالتفات إلی هذه المقدمة فإن العبادة عبارة عن نوع من الارتباط الخاشع والمسبح والمفعم بالإطراء والثناء والتبجیل الذی یقوم به الإنسان تجاه بارئه وخالقه سبحانه وتعالی. وإن هذا الارتباط یتحقق علی نحوین:

1. العبادة اللفظیة: وهی بیان سلسلة ومجموعة من العبارات والأذکار، من قبیل: قراءة سورة الحمد والسورة فی الصلاة، أو قراءة الدعاء.

2. العبادة العملیة: یقوم الإنسان بأعماله العبادیة للتعبیر عن خضوعه لخالقه، ویعمل علی إظهار مشاعره عن طریق القیام بأعمال عبادیة خاصة.

ومن الضروری الالتفات إلی هذه النقطة وهی أنه علی الرغم من أن روح العبادة تتبلور لدی الإنسان من خلال تکرار الألفاظ والقیام بالأعمال الخاصة، إلّا أن مجرّد هذه الأعمال لا تکون کافیة من أجل تحصیل حقیقة العبادة ألا وهی تنمیة روح العبودیة، وإذا کانت العبادة - اللفظیة والعملیة - خالیة من التدبّر والإخلاص، فإنها لن تحتوی علی تأثیر ملحوظ فی تنمیة روح العبودیة. وإن هذه الروحیة إنما یمکن الحصول علیها إذا کانت الأعمال الظاهریة مقرونة بحضور القلب والإخلاص الداخلی. روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال: (لا خیر فی عبادة لیس فیها تفقّه)(1) ، کما روی عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) أنه قال: (لا عبادة إلّا بالتفقّه)(2).

ص:97


1- (1)) بحار الأنوار: 75/78.
2- (2)) المصدر: 138.
1. العبادة هدف وسیط

إنّ مرادنا من اعتبار العبادة هدفاً هو الحصول علی روح العبودیة وتنمیتها بحیث تکون لدی الإنسان علی الدوام حالة من الخضوع والخشوع تجاه الله سبحانه وتعالی، وأن یؤمن العبد من صمیم قلبه بإحاطة الله بأعماله وسلوکه ونوایاه. وهناک من الآیات القرآنیة ما یصرّح بأن أساس خلق الإنسان یقوم علی عبادة الله، من قبیل: قوله تعالی: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ1 ، وهذا یعنی أنّ الإنسان إذا لم یجعل عبادة الله محوراً له، فإنّه لن یبلغ کنه السر الکامن من وراء خلقه. وهناک من الآیات ما یؤکد علی أن الهدف من بعث الأنبیاء وإرسال الرسل (صلی الله علیه و آله) هو التوصل إلی عبادة الله، وذلک من قبیل: قول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِی کُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ2 ، وقوله تعالی: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِی إِلَیْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ3 وقوله تعالی: فَأَرْسَلْنا فِیهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ4 ، وقوله تعالی: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلی قَوْمِهِ فَقالَ یا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ5 . والذی یُستنبط من هذه الآیات هو العبادة بالمعنی الخاص، وهو المتمثل فی وصول الإنسان إلی مقام العبودیة لله والخضوع والخشوع فی حضرته.

2. ارتباط العبادة بالهدف النهائی

إنّ العبادة بالمعنی الخاص تعنی القیام بسلسلة من الأعمال العبادیة من

ص:98

أجل الحصول علی روح العبودیة، إلّا أن نفس القیام بالأعمال وبیان الأذکار التی یتمّ طرحها فی هذا المقام - بوصفها هدفاً وسیطاً - لا تعنی روح العبودیة، بل هی مقدمة للحصول علی تلک الروح. وبعبارة أخری: إن العبادة وسیلة للتقرّب من الحق تعالی والتکامل الواقعی للإنسان، وهی إحدی الوسائل التی أقرّها الإسلام واختارها وشرّعها لهدایة الإنسان وتکامله وتربیته علی المستوی الروحی والأخلاقی. وإن ما یتمّ رسمه من الزاویة الإسلامیة بشکل محدد فی بیان حقیقة العبادة - بوصفها هدفاً وسیطاً -، یتمثل فی أنه یجب علی الناس من أجل التقرّب من الله أن یقوموا بسلسلة من الأعمال العبادیة بحضور قلب وتدبّر. إن هذا الهدف العام، یجب توفیر أرضیة تحققه فی النظام التربوی للإسلام فی مستهل البدء بالوسائل التربویه للطفل، لیتمکن فیما بعد - عندما یبلغ مرحلة التکلیف بالعبادات - أن یمارسه فی رهاب الصلاة والصیام والحجّ وما إلی ذلک من الأحکام الشرعیة، ویجب أن یقترن أمتثالها بحضور قلب وتدبّر تام، ودون أن تشتمل علی أیّ مشقة أو صعوبة وعنت.

إنّ العبادة بوصفها سلسلة من الأعمال والأذکار المقترنة بحضور القلب، - بالإضافة إلی ارتباطها بالهدف النهائی المتمثل بالقرب من الله -، فإنها ترتبط علی نحو متبادل بسائر الأهداف الوسیطة الأخری أیضاً. وفی الحقیقة کلما مارس الإنسان العبادة بشکل عمیق، فإن روح الإیمان والتقوی والشکر والتوکل ستنمو فی وجوده علی نحو أشد، ویغدو أکثر استعداداً لتقبل المعارف الأسمی. ومن ناحیة أخری کلما اکتملت معرفته، وارتقی فی مدارج الإیمان والتقوی، فإن عبادته سوف تتجلی علی نحو أکبر.

3. الآثار التربویة للعبادة

قبل التعرّض إلی التذکیر بالآثار التربویة للعبادة، علینا أن نطرح هذا

ص:99

السؤال: هل یمکن للعبادة أن تکون ذات أثر تربوی؟ وبعبارة أخری: ما هو دور العبادة علی مسار حیاتنا؟ وما هو التأثیر الذی یمکن لبعض الأعمال الرمزیة وبیان بعض الأذکار الخاصة أن تترکه علی حیاتنا؟ ولو أننا عمدنا إلی تقسیم الحیاة إلی قسمین: دنیویة وأخرویة، ألا تنحصر نتیجة ومعطیات العبادة بالحیاة الأخرویة فقط؟ والذی یتعیّن علینا بیانه فی معرض الإجابة عن هذه الأسئلة هو أن تقسیم حیاة الإنسان - من وجهة نظر الإسلام - إلی دنیویة وأُخرویة، وتفسیر هذا التقسیم علی اعتبار عدم تأثیر أحد هذین القسمین فی الآخر غیر صحیح. إن لحیاة الإنسان فی الدنیا مسار متواصل، تکون کل لحظة فیه متأثرة باللحظة السابقة لها. وإن هذا التأثیر والتأثر هو الذی یبنی شخصیة الإنسان، ویفرض سیطرته وهیمنته علی سلوکه وأفعاله الظاهریة. فإن الوجود الحقیقی والواقعی للإنسان - أو بعبارة أخری: شخصیته - لیست شیئاً آخر غیر السلوکیات والأفکار والنوایا والمشاعر المتبلورة لدیه علی طول الزمان. وهذا هو مکمن الفرق بین الناس وتمایزهم من بعضهم البعض. وفی الحقیقة فإن منشأ الاختلاف فی المنظومة الشخصیة لکل فرد عن الفرد الآخر یکمن فی نوع السلوک والأداء الفردی والتأثیر والتأثر المتبادل بین أفراد المجتمع الإنسانی. فعلی الرغم من أن الإنسان محکوم - من بعض الجهات - لسیطرة منظومته الشخصیة الخاصة به، إلا أنه فی الوقت نفسه یستطیع تغییر هذه المنظومة، وبناء منظومة أخری بدلاً منها. وهذا هو مکمن السر فی حریة الإنسان واختیاره وقدرته، حیث یستطیع - من خلال إرادته - تغییر مسیرة حیاته، والتحرّک باتجاه الغایة التی أرادها. إن المراد مما قیل: إن الفرد یخضع لسیطرة بعض الملکات ومنظومته الشخصیة، یعنی أن هناک مجموعة من الصفات الرئیسة هی التی تشکل صرح سلوکیاته وأفعاله وحتی أفکاره ونوایاه، ولکن فی الوقت نفسه یجب الالتفات إلی هذه النقطة أیضاً، وهی أن

ص:100

هذا الفرد - علی کل حال - یمتلک کامل الحریة والاختیار فی انتخاب قواعده الشخصیة وأسسه الفکریة.

إن هذه المنظومة الشخصیة التی هی حصیلة سنوات من حیاة الإنسان، والتی تظهر فی هذه الدنیا علی شکل سلوکیات وأفعال ظاهریة ونوایا وأفکار باطنیة، سوف یکون لها ظهور فی الحیاة الأخرویة علی نحو أجلی وأکثر وضوحاً. إن حسن وقبح أفعال الإنسان، وجمال وقبح روحه، وخبث أو طهارة طینته التی تظهر فی هذه الحیاة الدنیا علی نحو باهت، سیکون لها فی عالم الآخرة ظهور أقوی وأجلی. وبالالتفات إلی هذا التفسیر فإن سلوکیاتنا وأفعالنا فی هذه الحیاة الدنیا، هی التی ستحدد مسار حیاتنا الأبدیة والخالدة فی الآخرة. وإن العبادة بوصفها واحدة من الأعمال الأخری فی هذا المسار، تلعب دوراً خاصاً فی هذا الشأن. وبعبارة أخری: إن لسلوک الإنسان فی إطار العبادة - بوصفها فعلاً من الأفعال - تحتوی علی تأثیر فی قولبة شخصیته بالتوازی مع الأفعال والأعمال الأخری، فقد روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال:

«قال الله تعالی: یا عبادیَ الصِدّیقینَ، تَنعَّموا بعِبادَتی فی الدُنیا، فإنّکُم تَتِنعّمونَ بها فی الآخِرَةِ»(1).

إنّ المراد من الاثار التربویة للعبادة، هو تماماً ذات المفهوم الذی کنا نریده من خلال البحوث السابقة من الآثار التربویة. فإن للعبادة أیضاً - إلی جانب سائر المظاهر الأخری من مظاهر الارتباط بالله - آثاراً تربویة محددة، وإن من بین أهم تلک الآثار التربویة هی:

1. تجنب التکبّر وحبّ الأنا: إنّ من بین الأسس الأخلاقیة المنشودة للإسلام فی جمیع المسائل التربویة، هو البعد عن الأنا (الذات)، وإعراض الفرد

ص:101


1- (1)) بحار الأنوار: 253/70.

عن اللذات والمصالح الخاصة به من أجل الحصول علی القیم والمراتب الأسمی والأعلی. إن التحرر من الأنا یشکل محور جمیع المسائل الأخلاقیة، ومفتاحاً للوصول إلی القیَم الإلهیة والإنسانیة السامیة. فما دام الإنسان یعتبر نفسه هو المحور، ویصبّ کل اهتمامه علی اللذات والمصالح الزائلة، ویرکز النظر علی بهارج الدنیا وجمالها الزائف، فإنه لن یتمکن أبداً من الحصول علی البصیرة اللازمة من أجل بلوغ السعادة الأبدیة. وعلی الرغم من أن تجنب الأنا والتکبر موجود - بنحو من الأنحاء - فی جمیع المفردات والأمثلة التربویة المقترحة من قبل الدین، إلّا أنها تبرز فی إطار العبادة والخضوع لله علی نحو أجلی وأقوی. وبشکل محدد یمکن تلخیص الأثر التربوی المترتب علی العبادة فی الحصول علی التواضع أمام القیم الإلهیة، وبالتالی علی التواضع والخضوع أمام الله سبحانه وتعالی. إن الفرد الذی یتوجّه بقلبه إلی الله من خلال سلسلة من الأذکار والأعمال العبادیة، إنما یمدّ ید الافتقار والحاجة إلی معبود قادر، ویری نفسه فی دائرة الارتباط بالقدرة والعلم المطلق. وعلی هذا الأساس فإنه وإن کان یشعر بضعفه أمام الله سبحانه وتعالی، إلا أن هذا الشعور بالضعف إنما یمثل أحد وجهی العملة فی الارتباط الخاشع به، وأما الوجه الآخر لذلک فیحکی عن العزّة والقدرة والافتخار والکرامة. إن الخلاص من المتاهات، ومقاومة الرغبات والأهواء الشخصیة، وصیانة النفس فی مواجهة الظلم والتمرّد الذی یمارسه الآخرون، من الأوجه البارزة للعبادة فی الحیاة الفردیة والاجتماعیة للإنسان. وقد اعتبر التخلف عن عبادة الله فی منطق القرآن نوعاً من التکبر، وذلک إذ یقول تعالی: إِنَّ الَّذِینَ یَسْتَکْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِی سَیَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِینَ1 . وإن الأثر الأخروی المترتب علی هذا الاستکبار والتکبر هو البعد عن الله، والسقوط فی جحیم صنعها الإنسان بسوء أعماله.

ص:102

2. مراعاة العدالة وحقوق الآخرین: إن الأثر التربوی الهام الآخر الذی یترتب علی عبادة الله، یتجلی فی العدالة ورعایة حقوق الآخرین. إن العدالة الدینیة هی نقطة الالتقاء بین الدنیا والآخرة، وثمرة شجرة العبادة المبارکة التی تمهّد الطریق - من خلال رفع المنّ والأنا - أمام تقدم المجتمع. فلا یمکن القضاء علی الأنا والتکبّر وتحقیق العدالة الاجتماعیة إلّا فی ضوء العبودیة لله. فعلی الرغم من تأثیر توظیف العقل والعلم وغیرهما من الوسائل والأدوات فی ضمان العدالة، إلّا أن الذی یعتبر البوصلة الموجهة والأرضیة المعدّة لذلک هو روحیة الإنسان واستیعابه وفهمه للعدالة فی تکوین وبناء أساس العدالة الاجتماعیة وتطبیقها. فقد تمکن الإنسان من الوصول بعقله إلی أعلی قمم العلم والتکنولوجیا، ولکنه لم یتمکن أبداً من تطبیق العدالة الاجتماعیة بین مختلف أفراد الإنسانیة. إن المنّ والتکبر لدی الإنسان المعاصر قد هیمن علی العلاقات الإنسانیة، وإن التکبر قد تجلی أحیاناً فی ثوب العصبیة الفردیة وعلی شکل الدکتاتوریة والاستبداد، کما أن النزعة القومیة قد تجلت أحیاناً علی شکل الاستعمار، وتلاعبت بحیاة الناس وحقوقهم علی طول التاریخ. وفی الرؤیة الدینیة فإن العنصر والعامل المؤثر الوحید فی تطبیق العدالة، وتجنّب هذه النزعة الروحیة السلبیة، إنّما یکمن فی الاعتصام بحبل الله وعبادته؛ لأن التعلق بالله یساوق التنصّل عن الأنا وتجنّب الأهواء النفسیة. وباختصار یمکن تقییم معطیات العبادة وآثارها فی التقدم الاجتماعی للإنسان ضمن المحورین الآتیین:

1. إن عبادة الله تعدّ الإنسان لتقبل الأوامر والأحکام الألهیة، وتطبیقها علی مستوی المجتمع، وهذا یؤدی بدوره إلی تحقیق العدالة الاجتماعیة.

2. إن العبادة تخلق لدی الإنسان روح البعد عن التکبّر والأنا، وإن تبلور هذه الروحیة فی کیان الإنسان رهن بالعبادة. وإن التواضع والبعد عن التکبر -

ص:103

وبشکل عام الارتباط بالله الذی هو ثمرة العبادة - یمهد الأرضیة لزرع بذور العدالة وقطف ثمارها. وعلی هذا الأساس فإن إقامة العدالة رهن بتنمیة روح العبادة لدی جمیع الأفراد، وإن نار التکبر والعصبیة فی وجود الإنسان لا یمکن إخمادها إلّا من خلال عنصر العبادة والتواضع لله.

نحن نقوم ببعض العبادات بشکل فردی، ولکننا نقوم بالکثیر من العبادات الأخری علی شکل جماعی، وإن السر فی تأثیرها یکمن فی القیام بها بشکل جماعی، من قبیل: صلاة الجماعة والحج. إن هذا النوع من العبادة کما یعزز روحیة الخضوع والخشوع لدی الإنسان - کما هو الحال بالنسبة إلی العبادات الفردیة - یؤدی کذلک إلی ترسیخ الروابط العاطفیة بین الناس، ویعمل علی تحسین وتطویر العلاقات الاجتماعیة أیضاً.

3. الابتعاد عن المعاصی: إنّ من بین الثمار التربویة المترتبة علی العبادة، عدم المعصیة، والابتعاد عن الذنوب والآثام. وإن استمرار التواصل والارتباط بالله فی إطار العبادة، یدعو الإنسان علی الدوام إلی امتثال الأوامر الإلهیة وأن یجدّ فی الابتعاد عن المعاصی. إنّ الآلیة النفسیة للتلقین - الحاصل بفعل تکرار الارتباط العبادی - تؤدی إلی القضاء علی عنصر الغفلة وعامل النسیان، وتجعل الإنسان ذاکراً لله عزّ وجل. وأساساً فإن المعصیة والتمرّد علی الله لا یدور مدار العلم والإدراک. فما أکثر الذین یدرکون الآثار الفردیة والاجتماعیة المدمّرة المترتبة علی المعاصی، ولکنهم لا یبادرون أبداً إلی إصلاح أنفسهم. إن الذی یؤثر فی الابتعاد عن المحظورات أو الاقتراب منها هو مقدار الغفلة أو التذکّر. فالغافل هو الذی لا یمیل إلی امتثال الأحکام والأوامر الإلهیة، ولا یبتعد عن المحرمات الإلهیة. وإن تکرار الأعمال العبادیة بمنزلة الماء فی ضرورته لنمو شجرة الإیمان وإیناعها. فقد روی عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنه قال:

ص:104

فإن قائل: لمَ تعبدهم؟ قیل: لئلا یکونوا ناسین لذکره، ولا تارکین لأدبه، ولا لاهین عن أمره ونهیه.(1)

وباختصار یمکن تلخیص الأثر التربوی الثالث للعبادة علی الشکل الآتی: إنّ للعبادة أثراً تلقینیاً یجعل المرء ذاکراً لله علی الدوام. فقد قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: إِنَّنِی أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِی وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِکْرِی2 . إن أهم ذکر لله فی منطق القرآن الکریم، هو ذلک الذی یتمثل بالارتباط القلبی تجاه الله الذی یمکن تحصیله علی الدوام بدرجات مختلفة. ومن وجهة نظر القرآن لیس هناک من حد للعبادة، فجمیع الناس - بما فیهم النبیّ - مکلفون بعبادة الله إلی آخر لحظة من حیاتهم. قال تعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ اعْبُدْ رَبَّکَ حَتّی یَأْتِیَکَ الْیَقِینُ3 . وعلی هذا الأساس لو أراد الإنسان أن یقیم حیاته ضمن إطار التوجّه إلی الله، لن یکون بإمکانه تحقیق ذلک إلّا من خلال اجتیاز مراحل المسیر إلی الباری تعالی، ولا یمکن تحقیق هذا الأمر وإحرازه إلّا من خلال أسلوب التلقین العبادی. وأنّ الأسلوب التربوی المتبع فی العبادة هو التلقین والتوجه المستمر، الذی یمهّد الأرضیة لامتثال الأوامر الإلهیة والابتعاد عن المعاصی.

الشکر

اشارة

إنّ من بین الأهداف الوسیطة الاُخری فی سلسلة الأهداف التربویة من وجهة نظر الإسلام، هو الشکر. إن للشکر - بمعنی معرفة حقّ المنعم طیفاً واسعاً یبدأ من أدنی مراتبه الذی یتمثل بالشکر باللسان، ویستمرّ إلی أعلی

ص:105


1- (1)) علل الشرائع: 256.

مستویاته، وهو المتمثّل بالشکر العملی. وأساساً فإن ماهیة الشکر هی أن یقوم المرء بردة فعل إیجابیة تجاه النعم، وکل ما یستوجب صلاحه وسعادته؛ لأنّ کلّ إنسان من الناحیة النفسیة یشعر بالدَین تجاه کل من یوفر له أسباب السعادة والطمأنینة، أو کل من یمهد له سبل الراحة والرخاء، وینتهز الفرصة لیردّ الجمیل فی اللحظة المناسبة، لیکون قد أدّی دَینه تجاه ذلک المنعم. ومن وجهة نظر العقلاء فإن عدم رعایة الحقوق تترتّب علیه تبعات سلبیة، تبدأ من تأنیب الضمیر، وتستمر لتصل حتی إلی حرمان النفس من استمرار الآخرین فی مدّ ید العون له وتقدیم المساعدة فی وقت الأزمات. وإن بروز مثل هذا النوع من المشاکل فی المجتمع أمر لا یمکن اجتنابه؛ وذلک لأن کل فرد من الناحیة الاجتماعیة یُعتبر مسؤولاً تجاه الآخرین، وإن الإنسان کما ینتفع بالآخرین من خلال القیام بالواجبات التی تفرضها علیه تلک المسؤولیة، فإنه یحرم نفسه منها بنفس نسبة عدم وفائه بتلک الواجبات.

1. مفهوم وماهیة أداء حقِّ الله

ما الذی یعنیه قولنا: (یجب أداء حقوق الله)؟ فنحن نعلم بأنّ الله غنی عنا، وهو غیر محتاج لشکرنا حتی نکون من خلال ذلک قد قمنا بوفاء دَیننا له، وعلیه فما هو معنی وجوب أداء شکره؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التذکیر بأن دائرة أداء الحقوق وشکرها لا تقتصر حدودها علی رفع الحاجات المتبادلة. فمن باب المثال: إن المعلم الذی یجدّ فی تعلیم الطلاب بإخلاص، لا یتوقع من الطلاب أن یقوموا بخدمته وفاءً لجهوده، وإنما یری أداء حقه فی أن یقوم الطلاب بالإصغاء إلی دروسه جیداً، وأن یحصلوا علی درجات عالیة فی الامتحانات. وعلیه فإن أداء حق المعلم یکون من خلال ارتقاء الطالب للمدارج العلمیة ونجاحه فی دراسته. وإن هذا النوع من رعایة الحقوق -

ص:106

بالإضافة إلی الآثار الاجتماعیة الإیجابیة -، یحمل فی طیاته آثاراً فردیة أیضاً. بمعنی: أنّ الطالب الشاکر والمؤدی لحقوق أستاذه یحصل علی إمکانیة التقدم والرقی فی المجتمع، وإن فائدة ذلک تعود بالنفع له مباشرة. وفی الحقیقة فإن نتیجة مثل هذا النوع من أداء الحقوق تتلخص فی الرقی والتقدم الذی یأتی من خلال رعایة حقوق الآخرین.

إنّ هذا النوع من أداء الحقوق یتجلّی فیما یتعلّق بالله بشکل أوضح وأبرز. فإنّ النعم التی منّ الله بها علینا تفرض علینا أن نکون شاکرین له علی هذه النعم. ولکن کما تقدّم فإنّ هذا الشکر لا یعنی رفع الحاجة، وأنّ الله فقیر من هذه الناحیة - والعیاذ بالله - فإنه هو الغنی المطلق. وعلیه فإن ماهیة شکر الله کما تقدم أن ذکرنا، شبیهة بشکر المعلم وأداء حقه، مع فارق أن جمیع المصالح والمنافع الناشئة من شکره تعود إلینا، وأن الله غنی عن کل هذا الشکر؛ إذ قال الله تعالی: وَ مَنْ شَکَرَ فَإِنَّما یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیٌّ کَرِیمٌ1 ، وقال أیضاً: وَ مَنْ یَشْکُرْ فَإِنَّما یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ حَمِیدٌ2 . خلافاً لأداء حق المعلّم الذی یشتمل علی نوع من رفع الحاجة المعنویة والعاطفیة؛ وذلک لأن المعلّم یری فی تقدم الطالب تکلیلاً لجهوده بالنجاح. وفی منطق الإسلام فإن شکر المنعم بمعنی الانتفاع بالنعمة فی محلها حیث یکمن هناک رضی المنعم وهو الله سبحانه وتعالی، وأنّ هذا الشکر قبل أن یکون باللسان، یجب أن یکون نابعاً من القلب، وظاهراً من خلال السلوک والعمل. من هنا فإن أداء الفرد المسلم لحق الله وشکره یکمن فی امتثال أوامره، وتجنّب معاصیه، وإن محور أنواع أداء الحق یدور حول الارتباط بالله، والقرب منه، والنجاح فی العمل علی طبق الأحکام الشرعیة والعبادیة.

ص:107

2. بحث خاص

لقد اعتبر القرآن الکریم إعطاء النعم تفضلاً من قبل الله علی الناس؛ یقول تعالی فی محکم کتابه الکریم: إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَی النّاسِ وَ لکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لا یَشْکُرُونَ1 .

و یقول أیضاً: إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَی النّاسِ وَ لکِنَّ أَکْثَرَ النّاسِ لا یَشْکُرُونَ2 .

إن مفهوم التفضل یشتمل علی نوع من الارتباط الذی یکون فیه الطرف المستقبل محتاجاً إلی هذا التفضل من قبل المتفضّل. وإن هذا النوع من الارتباط لا یحمل أیّ منفعة للمعطی؛ وذلک لکونه غنیاً عن منافع ذلک التفضّل. وإن هذا التفضل عندما یکون أحد طرفیه هو الله، والطرف الآخر هو العبد والمخلوق، یکون مشتملاً علی مفهوم أکثر بروزاً وتجلیاً، بمعنی أنّ الله یکون هو صاحب الفضل والتکرّم علی عبده ومخلوقه. فهو لا یکون بحاجة إلی ما یعطیه، بحیث ینقص منه شیء إذا أعطاه، ولا هو ینشد الاستغناء وعدم الحاجة من خلال نفس العطاء والکرم، کما هو الحال بالنسبة إلی بعض الناس، حیث ینشدون النجاح والاستغناء، وتلبیة نوع من الحاجة المعنویة من خلال عطائهم. وعلیه فإن التفضّل الإلهی یعتبر أعلی وأسمی أنواع التفضّل والعطاء، حیث یخلو من کل أنواع السعی إلی الحصول علی المصالح والمنافع من قبل المعطی والواهب للنعم. وفی هذا النوع من التفضل إذا قام الإنسان بواجب الشکر فإن فائدة هذا الشکر تعود إلیه، وإن لم یشکر وکفر بالنعمة، عاد الضرر فی ذلک علیه أیضاً، حیث سیغدو هو المحروم من النعم، ویسقط فی مستنقع الضلالة، ولن یصیب الله بأیّ سوء من جراء کفران العبد لنعمته أبداً، قال تعالی: وَ مَنْ یَنْقَلِبْ عَلی عَقِبَیْهِ فَلَنْ یَضُرَّ اللّهَ شَیْئاً وَ سَیَجْزِی اللّهُ الشّاکِرِینَ3 .

ص:108

3. الأسس الحاکمة علی الشکر فی القرآن الکریم

عودة النفع فی أداء واجب الشکر إلی الشاکر: کما تقدّم أنّ ذکرنا فإن الشکر لله وأداء حقه یعتبر أسمی أنواع الشکر وأداء الحقوق فی دائرة العلاقات الإنسانیة، بمعنی أنها أسمی حتی من النعمة والفضل الذی یقوم به المعلّم المخلص تجاه تلمیذه، أو الأم العطوفة تجاه ولدها، وإن کل فائدة ومصلحة تکون فی هذه النعمة، وشکرها وأداء حقها یعود إلی الإنسان نفسه. وفی الحقیقة، فإن أداء الحق هنا، هو فی حدّ ذاته تفضّل من الله، حیث یُمنح الإنسان من خلاله فرصة للتعالی والسمو والوصول إلی القرب من الله سبحانه وتعالی.

زیادة النعم بسبب الشکر: إنّ من الأسس الحاکمة الأخری علی مفهوم الشکر، هو زیادة النعم بسبب الشکر. إذ یقول الله سبحانه وتعالی: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّکُمْ لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ وَ لَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِی لَشَدِیدٌ1 . وعلیه فإنّ هذا الأصل الذی یقوم علی أساس تحفیزی، إنّما هو مکافأة من الله یقدّمها للإنسان الذی یقوم بواجب الشکر، إن الفرد الذی یجدّ فی امتثال الأوامر الإلهیة، ویحرص علی تجنب المعاصی، ویستفید من النعم الإلهیة علی نحو ما یریده الله ویرضاه، یتوقع علی الدوام أن یکافِأه الله علی ذلک. وإن هذه المکافأة یمکن أن تکون کیفیة أو کمیة، ومادیة أو معنویة. إنّ الإنسان المؤمن یؤدی شکر استفادته وانتفاعه من النعم الجدیدة، وهذا بدوره یؤدی إلی قربه من الله (سبحانه وتعالی).

التعرّض لحالة الاختبار: إنّ من الأسس الحاکمة الأخری علی مفهوم الشکر، هو التعرض لحالة الاختبار، وفی ذلک یقول الله تبارک وتعالی: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّی لِیَبْلُوَنِی أَ أَشْکُرُ أَمْ أَکْفُرُ2 . وبالالتفات إلی أن ماهیة الشکر تکمن فی توظیف النعم فی الموارد التی تعکس رضا الله سبحانه وتعالی، فإن الأعمال التی تؤدی إلی أداء

ص:109

الحق، تطرح بوصفها أدوات لتقییم حجم التقوی والإیمان الذین یتحلی بهما الفرد. إنّ من بین أحد أفضل السبل وأوسعها نطاقاً فی الوقت نفسه، والتی تتخذ أساساً لإجراء الاختبار، هو هذا الشکر وأداء حق المنعم. وإن هذه الآلیة فی الوقت الذی تقع تحت عنوان أداء الحق، تشمل جمیع مسؤولیات الإنسان، وحتی ما کان من قبیل الجهاد - الذی هو من أبرز الوسائل لتحدید المؤمن وتمییزه من غیر المؤمن - یندرج بوصفه واحداً من الأوامر الإلهیة تحت عنوان أداء الحقوق. وعلی هذا الأساس فمن زاویة الآیات القرآنیة الکریمة والروایات الشریفة فإن جمیع أعمالنا ونوایانا فی الدنیا هی نوع من الاستجابة الإیجابیة أو السلبیة إزاء النعم الإلهیة، وإن هذه الاستجابات هی التی تستطیع أن تحدد حجم أدائنا لحقوق الله علینا. إذن یمکن للشکر أن یُتخذ وسیلة لاختبار وقیاس مقدار إقبالنا الباطنیّ والظاهریّ نحو القرب من الله سبحانه وتعالی.

4. الشکر واختلافه عن سائر الأهداف الوسیطة الأخری

إنّ أداء الحق مقولة مغایرة للإیمان والتقوی والعبادة الإلهیة، وبطبیعة الحال - کما تقدّم أن ذکرنا - فإنه لا یمکن تحدید الخط الفاصل بین کل واحد من هذه المفاهیم. بید أنّ الذی یمکن طرحه بشکل خاص تحت عنوان الشکر وأداء الحق، إنّما یکون من خلال الالتفات إلی الرؤیة التی تکون مشمولة بهذا العنوان. فإنه علی الرغم من أن کل عمل یؤدی إلی الشکر، یعد من وجهة نظر أخری رکناً من أرکان الإیمان أو التقوی، إلّا أن الالتفات إلی مقام الشکر وأداء الحق هو أمر آخر مغایر لمقام الحصول علی التقوی والإیمان أو العبودیة لله. وإن الذی یترک فی الإنسان أثراً تربویاً هو الالتفات إلی کل واحد من هذه المراتب المختلفة. ولو أن الفرد عمد إلی بلورة حیاته من خلال الالتفات إلی الفلسفة الحاکمة علی الشکر والأسس المرتبطة بهذا المفهوم، فإن الآثار التربویة الناشئة عنها، ستمنح المرء باقة من العناصر الإنسانیة والأخلاقیة. وفی الحقیقة ربما یکون

ص:110

أحد أسرار التنوع فی البیان القرآنی الهادف إلی هدایة الإنسان إلی الله، بمختلف العناوین، من قبیل: المعرفة الإلهیة، والإیمان والتقوی والشکر وما إلی ذلک، هو تمکین الإنسان من توظیف اللوازم الأخلاقیة والروحیة المختلفة لهذه الأمور، وإلّا فإن الذی یواکبنا فی مسیرة الحیاة هو الهدف النهائی نفسه المتمثل بالقرب من الله سبحانه وتعالی. وعلی الرغم من أن القرآن قد أکد بشکل خاص علی الهدف النهائی، ولکنه لا یصرّ أبداً علی حصریّة هذا الهدف، بل إنه یؤسس لأهداف مرحلیة أخری تقع فی طول الهدف النهائی، لیمهّد الأرضیة بذلک للمعالی والسمو عبر هذه الأهداف الوسیطة فی مختلف المراتب. من هنا فإن الهدف من الشکر - کسائر الأهداف الأخری - یحتوی علی سلسلة من اللوازم الأخلاقیة والتربویة التی لا یمکن أن تنبثق إلّا عن الفرد الشاکر والمؤدّی للحقوق. ومن وجهة نظر القرآن فإن ذات أداء الحق یعدّ هدفاً وغایة مطلوبة، وإن الله یرعی الآثار الروحیة والمعنویة لهذا العمل. فمن باب المثال: إن القتال والجهاد وتحقیق النصر مقدمة ووسیلة للوصول إلی مقام الشکر وأداء الحق، قال الله سبحانه وتعالی: وَ لَقَدْ نَصَرَکُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ1 . ومن ناحیة أخری فإن الآیات الإلهیة تبیّن أن الهدف والغایة هی الوصول إلی هذا المقام وهذه المرتبة، وذلک إذ یقول الله سبحانه وتعالی: کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ2 ، ویقول أیضاً: کَذلِکَ سَخَّرْناها لَکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ3 . کما توجد هناک آیات فی القرآن الکریم تری أن إعطاء نعمة العلم والوعی ووسائل الکسب إنما هو من أجل الوصول إلی أداء الحقوق وواجب الشکر، وذلک إذ یقول الله تبارک وتعالی: وَ اللّهُ أَخْرَجَکُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِکُمْ لا تَعْلَمُونَ شَیْئاً وَ جَعَلَ لَکُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ

ص:111

وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ1 . وأنّ الهدف والغایة من الانتفاع بنعم الله ورزقه، هو أنّ یبلغ الإنسان من خلال شکر هذه النعم، الدرجات العالیة والمراتب السامیة، وذلک إذ یقول تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُلُوا مِنْ طَیِّباتِ ما رَزَقْناکُمْ وَ اشْکُرُوا لِلّهِ إِنْ کُنْتُمْ إِیّاهُ تَعْبُدُونَ2 ، ویقول أیضاً: فَکُلُوا مِمّا رَزَقَکُمُ اللّهُ حَلالاً طَیِّباً وَ اشْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ إِنْ کُنْتُمْ إِیّاهُ تَعْبُدُونَ3 ، ویقول أیضاً: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْکُرُوا لَهُ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ4 . کما تمّ بیان البرکات الإلهیة فی القرآن الکریم فی إطار الرزق واستثمار الطبیعة من أجل الوصول إلی هذه المنزلة والمرتبة، حیث قال تعالی: وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْکُنُوا فِیهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ5 ، وقال أیضاً: وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ یُرْسِلَ الرِّیاحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِیُذِیقَکُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِیَ الْفُلْکُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ6 . وعلیه فإن لکشف النقاب عن الآثار التربویة والأخلاقیة المترتبة علی الشکر أهمیة خاصّة فی بیان شأنه ومنزلته. وأنّ من بین الصفات التی یذکرها القرآن الکریم هی صفة الشاکر والشکور، وذلک إذ یقول تعالی: وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَیْراً فَإِنَّ اللّهَ شاکِرٌ عَلِیمٌ7 ، ویقول أیضاً: ما یَفْعَلُ اللّهُ بِعَذابِکُمْ إِنْ شَکَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ کانَ اللّهُ شاکِراً عَلِیماً8 ، ویقول أیضاً: لِیُوَفِّیَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ یَزِیدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَکُورٌ9 . إن هذه الصفة من الصفات التی یهدف أثرها التربوی إلی الحصول علی مقام الشکر وأداء الحق،

ص:112

وفی الحقیقة فإنه من أهم الطرق المؤدیة إلی التخلّق بالأخلاق الإلهیة والربانیة. وتبرز أهمیة هذه الصفة بحیث أنها بالرغم من وجود حق لله علی الإنسان، إلّا أن الله مع ذلک یبادر إلی شکر الإنسان إذا کان متقیاً ورعاً، ویمهد له الأرضیة للرقی والتکامل من خلال زیادة النعم علیه واستثماره وتوظیفه لفضله ومنّه.

5. الآثار التربویة المترتبة علی الشکر

قبل بیان الآثار التربویة المترتبة علی الشکر، لا بد من التذکیر أولاً بأن الشکر وأداء الحق هما أمران تربویان أیضاً. وأنّ الفارق الرئیس الذی یمیّز الشکر من غیره من الأهداف الوسیطة الأخری، یکمن فی أنّ الشکر - بالإضافة إلی اشتماله علی الآثار التربویة - یعتبر فی حدّ ذاته أمراً تربویاً أیضاً. وبعبارة أخری: إن ذات ارتباط الإنسان مع الله فی إطار أداء الحق یعدّ أمراً تربویاً لا غبار علیه، وإن هذا الشکر هو أحد الأمثلة والنماذج التربویة فی الإسلام، خلافاً للأهداف الوسیطة الأخری - من قبیل: المعرفة والتقوی والإیمان والعبادة - التی تندرج تحت عنوان الارتباط التربوی مباشرة. إن الأهداف التربویة وإن کانت تحتوی علی آثار تربویة هامّة، بید أن التقوی والإیمان والعبودیة والمعرفة الإلهیة، لا تطرح بوصفها نموذجاً تربویاً أبداً. فإن جمیع هذه النماذج تنظر إلی نوع خاص من سلوکنا النظری والعملی فی مسیر القرب من الله الذی یشتمل علی آثار تربویة خاصّة. غیر أن الشکر - بالإضافة إلی کونه مثل سائر الموارد الأخری نوعاً من السلوک تجاه الخالق تعالی - فإنه یشتمل أیضاً علی توجّه قلبی یهدف إلی تنظیم مجموعة من النوایا والسلوکیات من أجل البلوغ بالإنسان إلی أعلی مراتب الکمال.

إن الذی یُنظر إلیه علی الدوام من خلال الشکر، هو نوع من الرؤیة فی إطار التکامل والارتقاء نحو الله، والحصول علی المنافع والثمار التی یحصل علیها الفرد المؤدی للحق فی هذا المسار دائماً وأبداً. وفی مفهوم الشکر تتمّ - من وجهة نظر

ص:113

علم النفس - مراعاة أحد الأصول التحفیزیة الهامة والمتمثلة بالمکافأة والعقوبة. وبعبارة أخری: إننا عندما نقوم بواجب الشکر، نکون فی الحقیقة قد قمنا بتوظیف نعم الله فی المسیر المؤدی إلیه، وعملاً وامتثالاً لأوامره وأحکامه. ویتمّ ذلک فی إطار الحصول علی المنفعة ومزید من النعم. وقد جرت سنة الله علی حصول الإنسان بالشکر علی مزید من النعم، وإذا قام الإنسان بأداء الحقوق بأزاء ما یحصل علیه من النعم، فلیس هناک من شک فی أنه سیکون مستعداً للحصول علی مزید من الأفضال الإلهیة والربانیة. فإن زیادة النعم - سواء علی الصعید الکمی أو الکیفی - رهن بقیام الفرد بواجب الشکر. ومن ناحیة أخری فإن السقوط والانزلاق فی مستنقع المعاصی والذنوب، یکون ناشئاً عن کفران النعم، وعدم توظیفها فی المسار الصحیح. وعلی هذا الأساس فإن توظیف آلیة المکأفاة والعقاب فی هذه المساحة الواسعة، یؤدی إلی نتائج تحفیزیة ویخلق عناصر مشجّعة فی وجود الإنسان. ویمکن القول بضرس قاطع: إن الشکر - بوصفه عملاً تربویاً - یقع فی صلب مسار العملیة التربویة فی التشریع الإسلامی.

1. تحقیق العدالة الاجتماعیة: لو أنّ المناخ المهیمن علی علاقاتنا مع الله هو مناخ أداء الحقوق والقیام بواجب الشکر، فإنّ ذلک - لا محالة - سیؤدی إلی تنظیم سلوکنا وتعاطینا مع الآخرین علی المستوی الاجتماعی، وإذا قامت العلاقات والسلوکیات الاجتماعیة علی أساس من أداء الحقوق، فإن تحقیق العدالة الاجتماعیة سیکون أمراً قریب التحقق والمنال. فإن رفع الظلم، وتوسیع رقعة العدالة بین مختلف المؤسسات الاجتماعیة، رهن بسیادة العدالة الفردیة فی إطار علاقة الأفراد ببعضهم البعض، وإن مراعاة الحقوق الفردیة والاجتماعیة رهن بوجود ثقافة أداء الحقوق بین الناس. وإذا لم تکن هذه النزعة الداخلیة ظاهرة علی السلوک الفردی، فلیس هناک من شک فی أن المؤسسات الاجتماعیة سوف تعجز وتقصر عن إقامة العلاقات الإیجابیة والسلیمة فیما بینها. وعلی هذا الأساس

ص:114

فإن إقامة العدالة الاجتماعیة تتوقف علی إقامة العدالة الفردیة، ولن یکون ذلک إلّا من خلال شیوع ثقافة أداء الحقوق والقیام بواجب شکر المنعم. ومن ناحیة أخری فإنه من وجهة نظر الإسلام إذا لم تکن أفعالنا ذات صبغة إلهیة، فإنها مهما بدت عقلانیة وحکیمة فی ظاهرها، إلّا أنها - حیث تفتقر إلی الحافز والدافع الکافی فی جمیع مراحل حیاة الإنسان -، لن تکون کافیة لتحقیق الکمال وبلوغه. وبعبارة أخری: لو أننا تمکنا من تطبیق نظام أداء الحقوق ورعایتها علی أساسٍ من العقل والمنطق فی مجتمع صغیر - کالأسرة مثلاً - فإن هذا لا یعنی بالضرورة إمکان تطبیق هذا النظام فی المحیط الخارج عن کیان البیت والأسرة.

وعلی هذا الأساس فإن وجود ثقافة أداء الحق ضمن مدینة أو حتی بلد کبیر، لا یشکل دلیلاً علی أنّ أبناء تلک المدینة أو ذلک البلد، یعیشون ذات هذه الثقافة تجاه جمیع الناس فی کافة المجتمعات، بل وحتی بالنسبة إلی الأجیال السابقة والأجیال القادمة. إن النقص الموجود فی النظام الراهن لحقوق الإنسان فی العالم یعتبر نموذجاً ودلیلاً بارزاً علی عدم تمکّن الإنسان من تقدیم نظام تربوی شامل وجامع یأخذ بنظر الاعتبار جمیع الناس، ولا یقتصر علی فئة خاصة منهم. وإن الثابت بفعل التجربة وشهادة التاریخ هو أن العقل والمعطیات العلمیة للإنسان لم تحرز أیّ نجاح فی تنمیة هذا الشعور وهذه الثقافة الناجعة لدی الإنسان، وأن الدین وجعل الله نصب العین، هو وحده الکفیل بإیصالنا إلی هذه الغایة. وعلی هذا الأساس فإننا إذا استطعنا أن نؤدی حق الله، فإننا سوف نتمکن - بالمعنی الواقعی للکلمة - من أداء حقوق سائر الناس، وباختصار فإن أول أثر تربوی یترتب علی شکر الله وأداء حقّه، یکمن فی رعایة حقوق الآخرین فی ضوء القرب من الله سبحانه وتعالی.

2. بلوغ مقام الرضا والقناعة والتوکل: إن من بین الآثار التربویة الأخری المترتبة علی الشکر، الصبر والقناعة. إنّ الإنسان الشاکر یسعی من خلال تطویع

ص:115

نفسه إلی الحصول علی مرضاة الله. وبعبارة أخری: إنّ الذی یکون شاکراً لله فی حیاته، لا شکّ فی أنّه یتجنب الانهماک فی الإکثار، ویقنع بما قسمه الله له. إنّ تنمیة الفرد لروح القناعة فی نفسه، یقترن علی الدوام بکبح جماح الإکثار وطلب المزید والحرص والطمع، وفی الأساس فإن مقولة الجشع والطمع لا تجتمع مع الشکر وأداء الحقوق أبداً. وذلک لأن الإنسان الجشع لا یمکن أن یقنع بما أعطاه الله وقسمه له، ویسعی علی الدوام إلی الحصول علی المزید من الأموال والأرباح والمنافع. الأمر الآخر أن الجشع والطمع یدفع الفرد إلی العدوان والتجاوز علی حقوق الآخرین، وإذا تعارضت حقوق الآخرین مع مصالحه الشخصیة، فإنه سیتجاوزها وینتهکها بکل بساطة، دون إحساس بالمسؤولیة أو شعور بوخز الضمیر. وعلیه کلما کان الإنسان أکثر قناعة، کان أکثر رعایة لحقوق الآخرین.

إنّ من بین أسباب عدم التوکل علی الله، هو عدم الثقة به. وإن عدم الثقة لا یجتمع مع أداء الحق. فإن الفرد العارف بحق الله، لا یمکن إلّا أن یکون علی ثقة تامّة به تعالی، ویعلم جیداً أنّه إذا شکر نعمة الله فإنه سیکون فی معرض الرحمة والبرکة الإلهیة. وإنّ مثل هذا الفرد یتمسک بالقدرة الإلهیة لضمان قضاء حاجاته ورفع مشاکله، ومن هنا فإنّه یلجأ إلی توظیف عنصر التوکل الذی یلعب دوراً هاماً فی تنظیم وتوجیه الرغبات الإنسانیة، وحیث إنه یدرک ضعفه وعدم قدرته علی تلبیة حاجاته المعیشیة، فإنه یلجأ إلی القوة التی تمتلک کل المقدرة علی حل مشاکله وتلبیة احتیاجاته، ولا یکون فی اللجوء إلیها أی خدش أو جرح لمشاعر الإنسان وکبریائه.

ص:116

الفصل الثانی: الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلّق بارتباط الإنسان بنفسه

اشارة

إنّ الهدف الثانی من الأهداف التربویة الوسیطة فی الإسلام یتمّ طرحه فی دائرة ارتباط الإنسان بنفسه. فکما یقیم الإنسان ارتباطاً بینه وبین خالقه، ویفهم من المراحل التربویة المهیمنة علی هذا الارتباط أهدافاً خاصّة، کذلک هناک للإنسان أفعال وردود أفعال فیما بینه وبین نفسه، وتهیمن علی المراحل التربویة لذلک الفعل والانفعال أهداف خاصة أیضاً. والمراد من الأفعال، الاحتیاجات والمیول، والمراد من الانفعال فی دائرة وجود الإنسان تلبیة تلک الاحتیاجات والمیول والرغبات والقوی الجسدیة والروحیة. وبعبارة أخری: إنّ الترکیبة الوجودیة للإنسان تحتوی علی آلیة تستوجب ظهور میول وقوی وقابلیات واحتیاجات خاصة فی البعدین الروحی والجسدی للإنسان. ولکی نوصل کل واحدة من العناصر الوجودیة إلی مرحلة الفعلیة، نحتاج إلی القیام بحرکة فاعلة فی سیاق رفع الاحتیاجات والاستجابة للمیول والرغبات. فمن باب المثال: یمتلک الإنسان الکثیر من القوی، من قبیل: قوّة المعرفة، والمیول العاطفیة، وقدرة الإرادة، وکذلک القوی الجسدیة. وهو طوال حیاته یسعی -

ص:117

بما یتناسب وکل واحدة من هذه الموارد - إلی توظیف الإمکانات المتاحة والموجودة فی ترکیبته الوجودیة. وإنّ الأداة الوحیدة المحرّکة له هی هذه القوی والقابلیات الوجودیة، وأنّ الإنسان من خلال توظیف هذه العناصر یحدد مسار حیاته، بید أن توظیف کل واحد من هذه العناصر المذکورة واستثمارها من أجل رفع الاحتیاجات والحصول علی السعادة والطمأنینة، لا یعنی بالضرورة أن مجموعة العناصر الوجودیة قد سارت علی أرضیتها المناسبة فی سیاق تکامل شخصیة الإنسان. وکما توجد هناک إمکانیة لتوظیف هذه القوی والطاقات فی الطریق الصحیح وصولاً إلی الکمال الإنسانی، هناک إمکانیة لتوظیفها فی المسار الخاطئ أیضاً. وإن الذی یعمل علی توجیه رغبات وطاقات الإنسان، ویهدیه إلی طریق السمو والوصول إلی الهدف النهائی من الهدایة، هو البرنامج الحرکی فی إطار الحصول علی الأهداف الخاصة. وإن هذا البرنامج - بالإضافة إلی حاجته إلی تعیین الهدف النهائی من أجل تحدید اتجاه الحرکة -، بحاجة إلی تعیین المراحل المختلفة من أجل الحصول علی ذلک الهدف أیضاً. وإن دور الأهداف الوسیطة یکمن فی القیام بهذه الوظیفة الأخیرة. وإن الأهداف الوسیطة التی نتناولها فی هذا الفصل، ناظرة إلی برنامج مرحلی یتضمن تبویب حرکة الإنسان فی مسیرته إلی الله علی أساس من أبعاده وقواه الوجودیة.

إن الإنسان یحتوی بشکل عام علی بعدین، بعد روحانی، وبعد جسمانی. وإن کل واحد من هذین البعدین یشتمل علی طاقات وقابلیات مختلفة. وإن معیارنا وملاکنا فی فهم النصوص الدینیة (الآیات والروایات) - من أجل تقسیم وتبویب المراحل المختلفة للأهداف التربویة للإسلام فی مجال ارتباط الإنسان بنفسه، - هو بنیته الوجودیة. وإن بعده الروحی یشتمل علی ثلاثة أنحاء متمایزة من بعضها، وهی: الناحیة المعرفیة، والناحیة الانتمائیة، والناحیة

ص:118

العاطفیة. وإن کل واحدة من هذه الأنحاء - مضافة إلی البعد الجسدی - لها تأثیر لا یمکن إنکاره علی أوضاع حیاة الإنسان وظروف نشاطه. ولیس هناک من شیء خارج هذه الأبعاد الوجودیة؛ لیکون هو المؤثر، ومن هنا فإن برنامج حرکة الإنسان یمکن تقسیمه إلی مشاریع أکثر تحدیداً بالنسبة إلی کل واحد من أبعاده الوجودیة. وفی هذا الفصل نسعی - بما یتناسب وکل واحد من هذه الأبعاد المذکورة - إلی بیان البرنامج التربوی للإسلام، والذی یحتوی علی الأهداف الوسیطة فی هذا المجال.

الأبعاد المختصّة بالإنسان

أ) الأهداف المعرفیة
اشارة

إن من بین الخصائص البارزة والممتازة فی وجود الإنسان التی تمتعه بالقدرة علی التفکیر والاستدلال، وبکلمة واحدة: العقل. فإن تنمیة هذه الطاقة والقوة وتوظیفها بشکل صحیح من وجهة نظر الإسلام، یعتبر من أهم مراحل الصعود إلی المراحل الإنسانیة العالیة، وبلوغ الأهداف النهائیة. وقد تمّ بیان الاهتمام الإلهی الخاص بهدایة الإنسان عن طریق العقل وإعمال الفکر والنظر فی الکثیر من الآیات والروایات، حیث تؤکد هذه النصوص علی استحالة اجتناب العقل والتفکیر من أجل الوصول إلی القرب من الله. وعلی هذا الأساس فإن تنمیة الطاقات الذهنیة والمعرفیة والعقلیة، واستیعاب العلوم والمعارف من أجل إثراء هذه الطاقات یعتبر من الأهداف الوسیطة. جدیر ذکره أنّ الإنسان من خلال استیعابه لمزید من العلوم والمعارف یغدو أکثر إحاطة بما حوله، ومن خلال إدراکه ومعرفته لنفسه یمکنه المضی فی طریق معرفة الله بشکل أفضل وأیسر. وعلی هذا الأساس یمکن تلخیص سلسلة الأهداف المعرفیة فی المقولات الأربع الآتیة:

ص:119

1. تنمیة قوة العقل.

2. استیعاب العلوم والمعارف.

3. النمو الفکری.

4. معرفة الذات.

1. تنمیة قوة العقل

إنّ الهدف الأول فی سلسلة الأهداف التربویة للإسلام - فیما یتعلق بارتباط الفرد بنفسه - هو تنمیة وتقویة العقل والتفکیر. فإن الإنسان من خلال قدرته الناشئة من عقله وتفکیره یستطیع التوصّل إلی کنه الدین وأعماقه. وإن تشجیع القرآن الکریم والروایات الشریفة علی تنمیة هذه الطاقة وتوظیفها فی فهم الدین یثبت أهمیة دور العقل فی فهم وإدراک الحقائق والتشریعات الدینیة. إن عقل الإنسان یمکنه - فی رقعة ثقافة العصر والاحتیاجات الناشئة عنه - أن یساعد علی اکتشاف الطبقات المجهولة من الدین وحقائقه الکامنة منه والخفیة، وأن یقدم مناهج جدیدة لتوظیف واستثمار الکنوز الدینیة. والذی یتوقع من الإنسان هو أن یستفید من هذه الموهبة الإلهیة فی تحلیله للمسائل والظواهر بدقة وذکاء. وفی الحقیقة فإن العقل بوصفه حجّة باطنیة، یعتبر بوتقة لصهر الأدلة علی إثبات الأمور الفطریة المودعة فی جبلة الإنسان. وبعبارة أخری: إن العقل یعتبر أرضیة خصبة ومناسبة لمختلف المیول والاتجاهات، فإذا تمکنت الفطرة الإنسانیة من فرض سیطرتها وهیمنتها علی هذا المسار، فسوف یمکن الحصول علی العقل الفطری والإلهی. وهو العقل الذی تم الثناء علیه وتبجیله فی الآیات الکریمة والروایات الشریفة. إلّا أن هذه القابلیة والکفاءة ذاتها إذا تمّ توظیفها فی إرضاء الأهواء النفسیة والنزوات المنحرفة، ستکون سبباً فی السقوط والانحطاط والبعد عن الله.

ص:120

ویعتبر الذین یعملون علی توظیف هذه النعمة الإلهیة فی طریق السقوط والانحراف فی المنطق القرآنی بعیدین کلّ البعد عن التعقل والبصیرة. وبطبیعة الحال فإن العقل لن یکون مجدیاً أو نافعاً إلّا فی ضوء توظیفه فی تلبیة المیول الفطریة، قال تعالی فی محکم کتابه الکریم: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ یُؤْمِنُوا لَکُمْ وَ قَدْ کانَ فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَسْمَعُونَ کَلامَ اللّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ1 . کما تمّ التعریف بالعقل والتفکر فی القرآن الکریم بوصفهما هدفاً وغایة لبیان الآیات، وفی ذلک قال الله تبارک وتعالی:

کَذلِکَ یُحْیِ اللّهُ الْمَوْتی وَ یُرِیکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ2 .

کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمُ الْآیاتِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ3 .

اِعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ یُحْیِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَیَّنّا لَکُمُ الْآیاتِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ4 .

کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمُ الْآیاتِ لَعَلَّکُمْ تَتَفَکَّرُونَ5 .

کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ6 .

یعتبر التعقل والتفکر الصحیحان فی الرؤیة الإسلامیة هدفاً وغایة فی حدّ ذاتهما، ولکن علی کل حال فإن التفکر والتعقل یتعلّقان بأمر یکون فهمه ومعرفته أمراً مطلوباً، وإن المطلوب والمراد من وجهة نظر القرآن الکریم یحتوی علی جهة خاصة تمت الإشارة إلیها فی القرآن الکریم، وذلک إذ یقول الله تعالی:

- وَ مَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلاّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدّارُ الْآخِرَةُ خَیْرٌ لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ7 .

ص:121

- وَ الدّارُ الْآخِرَةُ خَیْرٌ لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ1 .

- أَ فَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَیْرٌ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ2 .

- وَ ما أُوتِیتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَمَتاعُ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ زِینَتُها وَ ما عِنْدَ اللّهِ خَیْرٌ وَ أَبْقی أَ فَلا تَعْقِلُونَ3 .

إن ما یمکن استنباطه من القرآن الکریم بشأن آلیة العقل ودوره فی حیاة الإنسان، أمرین، وهما:

أ) توظیف القوّة الفکریة والعقلیة فی کل زمان، بحیث لا یقوم الإنسان بأی عمل دون تعقل أو تفکیر. وفی الحقیقة فإن هذه صفة تترسخ فی نفس الإنسان من خلال الممارسة والمتابعة الجادة.

ب) إن دور العقل والتفکیر الفرید یصبّ فی معرفة الله والمعارف والحقائق الدینیة والعلوم، وکذلک معرفة نفس الإنسان، من أجل الوصول إلی الله سبحانه وتعالی والقرب منه.

وأنّ الآیات والروایات التی تدل علی أهمیة هذا الهدف الوسیط عبارة عن:

الدعوة إلی التفکّر والتعقل: هناک الکثیر من الآیات فی القرآن الکریم تدعونا إلی التعقل والتفکر(1). إن هذه الآیات بمختلف مضامینها تسعی إلی إبراز هذه المسألة وهی أن الإنسان لا مندوحة له - لاختزان التجربة والاعتبار

ص:122


1- (4)) هناک فی القرآن الکریم الکثیر من الآیات التی تدل - من خلال مختلف العناوین من قبیل: التفکر والتفقه والتدبر والتذکر والاعتبار والنظر والعلم والبصر واللب - علی أهمیة الفکر والتعقل وتوظیف هذه النعمة الإلهیة فی إطار التکامل والسمو والقرب من الله سبحانه وتعالی.

والتعلم من مختلف الأمور والوصول إلی القرب من الله - من التفکر والتعقل والتدبّر. وإن اکتشاف الآیات الإلهیة، والاعتبار بعاقبة المجرمین علی طول التاریخ، والاستفادة من القصص والأمثال القرآنیة، واستیعاب المبدأ والغایة (التوحید والمعاد)، وکذلک التوصّل إلی کنه أسرار خلق السماوات والأرض، إنما یغدو ممکناً فی ضوء التفکر والتعقل. وإن الآیات المتعلقة بالتفکر والتعقل تدعونا - بشکل صریح وضمنی - إلی التفکر، والابتعاد عن السفاهة وعدم تعطیل دور العقل والتفکیر. ویمکن لنا بشکل محدد أن نستعرض الکثیر من الآیات التی تعقّب بعد بیان أمر خاص بأنه آیة وعلامة من الله، وتسند التوصل إلی هذه الحقیقة إلی التعقل والتفکر. وکأنه لا یمکن لشخص أن یدرک أن هذه المسائل من آیات الله إلّا إذا تسلح بسلاح العقل والتفکیر. ومن هنا یجهد القرآن الکریم فی هدایة الإنسان - لاکتشاف هذه العلقة - ویدعو إلی دائرة توظیف العقل والتفکیر والتدبّر، ویری أن هذه الأمر هو وحده الکفیل بذلک. وفیما یلی نستعرض نماذج من هذا الآیات القرآنیة حیث یقول الله سبحانه وتعالی:

- وَ هُوَ الَّذِی مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِیها رَواسِیَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ کُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِیها زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ یُغْشِی اللَّیْلَ النَّهارَ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ1 .

- یُنْبِتُ لَکُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّیْتُونَ وَ النَّخِیلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ کُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ2 .

- وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْواجاً لِتَسْکُنُوا إِلَیْها وَ جَعَلَ بَیْنَکُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ3 .

ص:123

- اَللّهُ یَتَوَفَّی الْأَنْفُسَ حِینَ مَوْتِها وَ الَّتِی لَمْ تَمُتْ فِی مَنامِها فَیُمْسِکُ الَّتِی قَضی عَلَیْهَا الْمَوْتَ وَ یُرْسِلُ الْأُخْری إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ1 .

إن النتیجة المترتبة علی مثل هذا التعقل والتفکیر هو التوصّل إلی معرفة کنه أسرار الخلق، وذلک إذ یقول الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: أَ فَلَمْ یَنْظُرُوا إِلَی السَّماءِ فَوْقَهُمْ کَیْفَ بَنَیْناها وَ زَیَّنّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ2 ، ویقول أیضاً: أَ فَلا یَنْظُرُونَ إِلَی الْإِبِلِ کَیْفَ خُلِقَتْ3 ، وإذ یقول أیضاً: فَانْظُرْ إِلی آثارِ رَحْمَتِ اللّهِ کَیْفَ یُحْیِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِکَ لَمُحْیِ الْمَوْتی وَ هُوَ عَلی کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ4 ، والحصول علی التجربة، ذلک إذ یقول الله تعالی: أَ وَ لَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ کانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً5 ، وإذ یقول تعالی کذلک: أَ فَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ کانُوا أَکْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِی الْأَرْضِ فَما أَغْنی عَنْهُمْ ما کانُوا یَکْسِبُونَ6 ، ویقول تعالی: أَ فَلَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللّهُ عَلَیْهِمْ وَ لِلْکافِرِینَ أَمْثالُها7 ، ویقول تعالی: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُکَذِّبِینَ8 . وتجنب السفاهة والجهالة التی أدّت إلی ضلال الماضین، وبعدهم عن منزلة القرب من الله سبحانه وتعالی. ومن ناحیة أخری فإن

ص:124

القرآن الکریم - لکی یحثنا علی التفکر والتعقل - یذکر لنا أمثالاً وقصصاً کثیرة من تاریخ المتقدمین والأمم السابقة، وقد تمّ ذکر کلّ واحدة من هذه الأمثال والقصص فی مناسبة خاصة. وأنّ الهدف من وراء ذکر هذه الأمثال والقصص هو مجرد إحداث جذوة وبارقة تدعو الإنسان إلی التفکیر والتعقل واکتساب مزید من التجربة فی الحیاة، قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لکِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَی الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ کَمَثَلِ الْکَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَیْهِ یَلْهَثْ أَوْ تَتْرُکْهُ یَلْهَثْ ذلِکَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ1 ، وقال تعالی: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلی جَبَلٍ لَرَأَیْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْیَةِ اللّهِ وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ2 . ولا شک فی أن الشخص لا یمکنه الاعتبار بتجارب الآخرین، إلّا إذا کان ینظر إلی واقع الحیاة بعقل ووعی ونظرة عمیقة.

إزدهار العقل فی ضوء البعثة: إنّ من بین الموارد الدالة علی أهمیة العقل فی النظام التشریعی وهدایة الإنسان، هو الاهتمام الخاص الذی یولیه الأنبیاء (علیه السلام) للعقل. فإن جمیع الأنبیاء قد عملوا علی استثارة هذه الأداة المفکرة فی إطار إصلاح الإنسان وتربیته وبلوغه أعلی مراتب الکمال. وعلی هذا الأساس یمکن القول: إن أحد الأهداف المترتبة علی بعث الأنبیاء هو رفع مستوی المقدرة العقلیة والفکریة للإنسان وإیصالها إلی الکمال المنشود، وفی ذلک روی عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله)، أنه قال:

(ومَا بعَثَ اللهُ نَبیّاً ولَا رَسولاً حتّی یَستَکمِلَ العَقلَ).(1)

وروی عن الإمام علیّ (علیه السلام) أنه قال:

ص:125


1- (3)) أصول الکافی: ج 1، الحدیث 11.

فَبَعَثَ فِیهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَیْهِمْ أَنْبِیاءَهُ، لِیَسْتَأْدُوهُمْ مِیثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَیُذَکِّرُوهُمْ مَنْسِیَّ نِعْمَتِهِ، وَیَحْتَجُّوا عَلَیْهِمْ بَالتَّبْلِیغِ، وَیُثِیرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ)(1). وروی عن الإمام موسی بن جعفر (علیه السلام) أنه قال: (ما بعَثَ اللهُ أنبیاءَهُ ورُسُلَه إلّا لُیَعقِلوا عَنِ اللهِ، فأَحسَنُهُم استِجابَةً أحسَنُهُم مَعرِفَةً)(2).

وقد جاء اهتمام الأنبیاء وتوظیفهم للعقل، من أجل غایتین، وهما:

1. التأثیر فی الإنسان، وبیان الآیات الإلهیة. وبعبارة أخری: إن الذی یقع مورداً لخطاب الأنبیاء (علیه السلام) أولاً وبالذات هو القوة التی یستطیع الإنسان من خلالها تحدید الأمور وتمییزها من بعضها؛ لأن هذه القوة هی وحدها الکفیلة بالتمییز بین الحق والباطل، والخیر والشر، والقبح والجمال، والصلاح والفساد، ولکی یتمکن الأنبیاء من إیصال رسالة الله إلی الناس، لیس أمامهم من طریق سوی الانفتاح علی العقل ومخاطبته للوصول إلی روحه وبصیرته.

2. إن الأنبیاء (علیه السلام) وبعد تمکنهم من استقطاب الإنسان، یجب علیهم الإبقاء علی تواصلهم مع العقل من أجل عدم خروج الإنسان عن مسار الهدی حتی بلوغ الکمال، ولذلک یجب علیهم الاستمرار فی مخاطبة العقل والتفکیر، ومن هنا یتمتع العقل بمکانة عالیة فی طریق الهدایة وتحلیل المعلومات، وتوظیفها فی جمیع جوانب الحیاة. وعلی هذا الأساس یمکن القول: إن العقل - سواء فی مرحلة إیجاد الارتباط وفی مرحلة الحصول علی الرسالة الإلهیة - یلعب دوراً فریداً وحیویاً، ولذلک فإن ازدهاره وتنمیته تعتبر من أهم أهداف الأنبیاء.

التأثیرات السلبیة لعدم التفکیر: کما تمّ التأکید علی أهمیة التدبّر والتفکیر فی إطار تنمیة العقل وتوظیفه بشکل صحیح، وکما استحق العلماء منزلة القرب من

ص:126


1- (1)) نهج البلاغة: الخطبة الأولی.
2- (2)) المصدر: 16.

الله والثناء والتکریم بسبب توظیفهم لمقدرتهم العقلیة، فقد تمّ فی المقابل مؤاخذة الذین لم یستفیدوا من هذه النعمة الإلهیة، ولذلک نجد الله یکیل لهم التوبیخ قائلاً عن لسان النبیّ إبراهیم (علیه السلام): أُفٍّ لَکُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ1 . ومن وجهة نظر القرآن الکریم فإن الشخص الذی لا یمارس التفکیر والتعقل، هو مجرد من الحقیقة والماهیة الإنسانیة، وذلک لأنه قد تخلی عن أهم الخصائص الإنسانیة، وأطفأ سراج العقل فی وجوده وکیانه، ومن هنا یکون قد أغلق طریق التواصل بینه وبین الأشخاص الآخرین الذین آثروا العیش فی إطار المساحة العقلیة. إن مثل هذا الفرد محروم من أکثر القوی تجذّراً فی حیاته. فهو لا یری ولا یسمع ولیس لدیه شیء لیقوله، وفی ذلک یقول الله تعالی: وَ مَثَلُ الَّذِینَ کَفَرُوا کَمَثَلِ الَّذِی یَنْعِقُ بِما لا یَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُکْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لا یَعْقِلُونَ2 . وحیث إنه بالإضافة إلی ذلک قد تجاهل أداة الارتباط المتمثلة بالعقل وسیکون علی مستوی البهائم والعجماوات التی تعجز عن إقامة جسور التواصل مع العقلاء من البشر، وفی ذلک یقول الله تعالی أیضاً: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُکْمُ الَّذِینَ لا یَعْقِلُونَ3 . إن الهبوط إلی هذا المستوی المتدنی من الانحطاط والتنکر لحقائق الوجود هو نتیجة طبیعیة لعدم توظیف العقل والتفکیر. إن الذین یعملون علی توظیف هذه المقدرة العقلیة لا یبتلون بالانحراف العملی، ولا یبتلون بالکفر والشرک فی البعد النظری. وعلاوة علی ذلک فإن الذین یستخدمون عقولهم فی الحیاة من أجل التقرّب من الله، یقیمون علاقات اجتماعیة نافعة ومطلوبه مع الآخرین، وهذا بنفسه یمهّد الأرضیة المناسبة من أجل تحقیق العدالة الاجتماعیة. وبعکسهم أولئک الذین یجتنبون استخدام العقل والتفکیر فی طریق الوصول إلی

ص:127

الله، ویتجاهلون دوره الذی لا ینکر، فإنهم حتی إذا تمتعوا بالسعادة والرفاه الظاهری، إلّا أنهم من وجهة نظر القرآن الکریم بحکم الأنعام، فلا یمکنهم التواصل مع الآخرین بشکل طبیعی، ولا یمکنهم المشارکة فی إقامة المجتمع السلیم ونشر الثقافة الصحیحة. وإن الذی یمکنه أن یساعد فی إقامة الأرضیة المناسبة لإیجاد الثقافة الصحیحة من وجهة نظر القرآن الکریم، هو العمل علی توظیف العقل فی إطار القرب من الله سبحانه وتعالی. وإن عدم الاستفادة من هذا العنصر، یعد بمثابة العجز عن إیجاد الارتباط والتواصل المعقول. وفی مثل هذه الحالة حتی إذا بدا أن هناک تواصل ظاهری فیما بین الناس، ولکن حیث إن هذا الارتباط السطحی لا یقوم علی أساس من العقل والتفکیر الإلهی، فإنهم فی الحقیقة لا یشکلون إلّا مجتمعاً متفککاً ومشتتاً وغیر متلاحم، یقوم بناؤه علی أساس المصالح المادیة والمنافع الدنیویة. قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: تَحْسَبُهُمْ جَمِیعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّی ذلِکَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا یَعْقِلُونَ1 .

عدم التفکیر والنزوع إلی الخبث: إن الإنسان الجاهل - حیث لا یمتلک المعیار والملاک الصحیح الذی یمکنه من التمییز بین الخیر والشر -، فی المنطق القرآنی لا یستطیع تجنب الزیغ والانحراف، قال تعالی: وَ یَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَی الَّذِینَ لا یَعْقِلُونَ2 . إن الذی لا یفکر فی نظام الخلق، ولا ینظر إلی حقائق العالم والتاریخ باعتبارٍ ما، لن یکون لدیه متاع وتجربة کافیة للمسیر إلی الله، وأنه کلما أمعن فی التقدم زاد بعداً وضلالاً عن الطریق، وأن مصیره لا محالة سیکون هو السقوط فی قعر جهنم، قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ قالُوا لَوْ کُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما کُنّا فِی أَصْحابِ السَّعِیرِ3 .

ص:128

مواجهة عناصر الرکود والجمود الفکری: إن من بین المؤشرات والأدلة الأخری علی اهتمام الإسلام بتنمیة العقل والفکر وتوظیف التعقل والتفکر، هی مواجهة العناصر التی تستوجب - بنحو من الأنحاء - الرکود والجمود الفکری. وبعبارة أخری: إن النظام المنطقی للإسلام یمکِّننا من تحدید عناصر الرکود والجمود الفکری، والتعرف علی مواطن الزلل الذهنی والعمل علی مواجهته ومکافحته. وإن تلک العناصر من وجهة نظر القرآن عبارة عن:

- التقلید السلبی للأسلاف. إن الإیمان بمعتقدات وآراء الأجیال الماضیة، وتقلید الآباء والأجداد والأسلاف دون تحقیق أو تمحیص یعدّ من العناصر الهامة فی الجمود الفکری والعقلی. وعلیه فإن ما آمن به الأقدمون والتزموا به علی المستوی العملی، لا ینبغی أن یکون مناط اعتقادنا لمجرّد أنهم آباؤنا وأسلافنا. فمن وجهة نظر القرآن إن الانحیاز إلی عقیدة ومذهب أو طریقة یجب أن یقوم علی أساس من التعقل البحت، دون الانتماء العاطفی لما کان علیه جیل من الأجیال السابقة؛ إذ لو کان مناط الإیمان وملاک الالتزام الدینی وتحدید الصحیح من السقیم هو العقل والتفکیر - والمفروض أن هذا الملاک والمناط ساریاً علی أسلافنا أیضاً - فما هو الداعی إلی التقلید والمحاکاة. وقد ذمّ الله سبحانه وتعالی التبعیة إلی الأسلاف والأمم الماضیة فی الکثیر من آیاته القرآنیة، وإلیک نماذج منها:

- وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَیْنا عَلَیْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ کانَ آباؤُهُمْ لا یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَ لا یَهْتَدُونَ1 .

- وَ إِذا قِیلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلی ما أَنْزَلَ اللّهُ وَ إِلَی الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَیْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ کانَ آباؤُهُمْ لا یَعْلَمُونَ شَیْئاً وَ لا یَهْتَدُونَ2 .

ص:129

- وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَیْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ کانَ الشَّیْطانُ یَدْعُوهُمْ إِلی عَذابِ السَّعِیرِ1 .

فی الرؤیة القرآنیة لا یعتبر الذین یوجدون سُنّة من السنن، ملاکاً ومعیاراً صحیحاً لقبول أو رفض تلک السُنّة، وإنما الملاک والمعیار الصحیح للإیمان بسُنّة أو عدم الإیمان بها هو ما تتمتع به من العقلانیة والهدایة وإمکانیة التکامل من خلالها. وعلی هذا الأساس فإن اتباع السُنّة والتقلید المطلوب هو الاحتکام إلی العقل وجعله هو المحک فی القبول بما کان علیه الأسلاف والأجیال الماضیة، دون التبعیة والتقلید الأعمی.

2. بحث خاصّ

إن الکثیر من العقائد والسنن التی کانت سائدة بین أسلافنا لا تقوم علی أسس منطقیة أو معقولة. وهذا الأمر یعود بجذوره إلی تطور الثقافات عبر العصور، وکذلک إلی المیول والنزعات النفسیة. وإن ما نقوله من أنه لا ینبغی اتباع سنن الأقدمین دون إقامة الدلیل العقلی علی تلک السنن، یعنی أن العقل الإنسانی یحصل علی مزید من الازدهار بمرور الزمن واکتساب المعلومات الجدیدة واتساع رقعة الثقافات، فإن الذین کانوا یعیشون فی الأزمنة الماضیة لم یستطیعوا فهم ما توصلنا إلیه فی عصرنا الراهن، وقد کانت عقائدهم تتناسب ومذاخاتهم الفکریة التی کانت سائدة فی عصورهم. وبعد الالتفات إلی هذه الحقیقة فإن عدم القبول بسنن الأسلاف لا یعنی أنهم لم یکونوا یستفیدون من طاقاتهم العقلیة والفکریة، بل بمعنی قصور أذهانهم عن إدراک أوضاعنا الراهنة. وعلی هذا الأساس فإن اعتقادهم بأمر لیس مذموماً أو أنه غیر صحیح، بل إن اتباع سُنّتهم بالنسبة لنا دون تدبر أو تعقل هو المذموم. وفیما

ص:130

یتعلق بهذا النوع الأخیر بالإضافة إلی کون التبعیة والتقلید الأعمی مذموماً وسلبیاً، فإن ذات هذه السُنّة سلبیة ومذمومة أیضاً. والذی یتوقع من الإنسان - فی معرفة هذه السنن الباطلة وتمییزها من السنن الصحیحة - هو الحد الأدنی من التفکیر والتعقل. إن التکامل والتنمیة والازدهار العقلی لیس له تأثیر فی قبول أو رفض السنن الباطلة والمذمومة. وإن النزعة الفطریة إلی الإیمان بالله والمعاد والتوحید الربوبی أمر خضع للنقاش والجدل عبر الأجیال المتمادیة. وإن الإیمان بالله قابل للشرح والبیان والاستدلال حتی من خلال العقل الفطری، فلو أن بعض الأسلاف لم یستجیبوا لنداء فطرتهم، وبعکسهم قامت الأجیال اللاحقة بالإستجابة إلی نداء هذه الفطرة وآمنوا بالتوحید، فإن هذا لا یعنی وجود قصور أو نقصان فی عقول الإسلاف، وکمال فی عقول الأجیال اللاحقة، وإنما یعود السبب فی ذلک إلی عدم توظیف الأسلاف للعقل والتفکیر، وحجبه تحت ستار الأهواء النفسیة.

- اتباع أصحاب النفوذ والسلطة: إنّ التعویل علی بعض الشخصیات البارزة والکبیرة وتقلیدها فی الکثیر من الحالات، یعتبر سبباً فی تزلزل المعتقدات وزوال الاستقلال الفکری، ویفضی بالتالی إلی الجمود العقلی. إن اتباع أصحاب المناصب والسلطة والشخصیات العلمیة - فی الموارد التی یمکن للفرد فیها توظیف عقله وإعمال فکره فی تحلیل الأمور - لا یترتب علیه سوی التبعات التی تؤدی إلی زعزعة أرکانه الإیمانیة والعقائدیة. إن الأثر السلبی الذی یترتب علی اتباع الشخصیات العلمیة وأصحاب النفوذ والسلطة یکمن فی أنه لا ینطوی علی أیّ دعامة تضمن لنا الهدایة إلی الصراط المستقیم من خلال التقلید وأداء فروض الطاعة لهم. بل قد یؤدی اتباعهم فی الکثیر من الموارد إلی الانحراف والابتعاد عن الأهداف الواقعیة والحقیقیة. ویتجلی هذا الأمر فی الموارد التی یتم فیها اتباع أصحاب السلطة والنفوذ

ص:131

الاجتماعی بالالتفات إلی الجوانب الظاهریة علی نحو أکبر. فکثیراً ما یحدث أن تؤثر الکاریزما الشخصیة لبعض الأفراد المقتدرین والهیبة والجلال الذی یتمتعون به، علی شخصیات الآخرین بحیث یعدون قراراتهم وکلماتهم بمنزلة الوحی المنزل، ویتمسکون بها ویعملون فی ضوئها دون تحقیق أو تمحیص. وهذه ظاهرة کثر حدوثها علی طول تاریخ حیاة الإنسان الاجتماعیة، وهی ظاهرة قد رصدها القرآن الکریم فی الکثیر من آیاته، ومن ذلک قوله تعالی: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسی بِآیاتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِینٍ * إِلی فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِیدٍ1 . ولا زلنا نشهد الکثیر من هذه المظاهر التی تطالعنا کل یوم فی عصرنا الراهن. إن القبول والالتزام بأمر - یتعین علینا أن نقوم بأنفسنا بالاستدلال علیه - إذا صدر عن شخصیة علمیة أو صاحب سلطة، حیث لا یمتلک الدلیل العقلی علیها وإنما تفرض علینا بفعل الضغوط الخارجیة، لن تکون دعائمها إلا هاویة ومتزعزعة وآیلة إلی السقوط. ولذلک نجد القرآن الکریم یقول حکایة عن لسان أمثال هؤلاء الذین یعطون قیادهم إلی الشخصیات البارزة من أصحاب النفوذ والسلطة: وَ قالُوا رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ کُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِیلاَ2 . وروی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال:

من دخل فی هذا الدین بالرجال، أخرجه منه الرجال کما أدخلوه فیه. ومن دخل فیه بالکتاب والسُنّة، زالت الجبال قبل أن یزول.

لیس هناک ما یدعو إلی الوثوق والاطمئنان فی أنه إذا برزت شخصیة مؤثرة أخری وجاءت بعقیدة ورأی مختلف، أن لا نؤمن بها أیضاً؛ وذلک لأن جوهر هذا النوع من العقائد لا یقوم علی أساسٍ من الاستدلال والتحلیل العقلی، حتی یبقی ثابتاً بعد تغیّر العوامل والأسباب الخارجیة، فیمکن تغییره

ص:132

عند انفصاله عن منشئه الخارجی. وعلیه فإن تقلید الآخرین والتعویل علیهم - فی الموارد التی یمکن للفرد فیها أن یقوم بنفسه بعملیة التحقیق والتحلیل والبحث العقلی - لن یؤدی سوی إلی الانحراف والانزلاق العقائدی. ومن هنا فإن استحکام العقیدة وثباتها یتوقف علی ترسیخ جذورها فی جوهر ذات الإنسان وعمق کیانه، وذلک من خلال الجهود العقلیة والفکریة التی یباشرها الإنسان بنفسه، ولا یمکن للإنسان أن یواصل مسیرته التقدمیة نحو الکمال إلّا من خلال سلوک هذا الطریق.

- اتباع الظن: إن من بین الموارد التی تؤدی إلی الجمود الفکری والعقی هو اتباع الظنون والأوهام، وهو ما تحدث عنه القرآن الکریم بقوله: وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئاً1 . إن الاکتفاء والاقتناع بالمراتب المتدنیة من الإدراکات العقلیة والفکریة، وعدم التحقق والتدقیق والتمحیص من أجل الوصول إلی مرتبة الیقین، یؤدی بالإنسان إلی القیام بأعمال واهیة وضعیفة فی اختیار العقائد، ولذلک فإنه سیتخلی عنها لأدنی شک أو شبهة. وإن هذا الأمر سیفضی إلی الانحراف عن الواقع فیما یتعلق بالبعد العقائدی، وإلی سوء الظن بالآخرین فیما یتعلق بالبعد الاجتماعی. قال تعالی فی محکم کتابه الکریم: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا کَثِیراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ...2 .

إن أساس وجذور التبعیة للظنون - من وجهة نظر القرآن الکریم - تعود إلی عبادة الأهواء النفسیة. قال الله تعالی: إِنْ هِیَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّیْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَی الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ

ص:133

جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدی1 . إن الذی ینحاز إلی الأهواء النفسیة، یرزح فی ظلمات الظن والشکوک، ویحرم من نور العقل والتفکیر.

الانحیاز إلی الأکثریة: إن الإنسان فی اختیاره للمعتقد ولمنهجه فی الحیاة بحاجة إلی محمل یستطیع من خلاله تبریر اعتناقه لتلک العقیدة واختیاره لذلک المنهج. فإن معرفة دلیل کل أمر بالإضافة إلی أنها تعمل علی إقناع المرء من الناحیة العقلیة، فإنها تخلق لدیه حالة من الطمأنینة والاستقرار من الناحیة النفسیة. وإذا کان لعدم الحاجة إلی الدلیل والاطمئنان بدرجة من الهدوء والاستقرار، دعامة عقلیة، فإن ذلک سیمنحها ثباتاً واستحکاماً، بید أنه فی بعض الأحیان یؤدی بنا الحصول علی الاطمئنان والقناعة الباطنیة - فی عملیة البحث عن الدلیل - إلی أن نغض الطرف عن اللجوء إلی العقل، والاستناد إلی عناصر أخری من قبیل: أقوال الآخرین ومواقفهم.

إن التمسک بآراء الآخرین والقبول بعقیدتهم ونهجهم، وإن کان یؤدی إلی حدٍّ ما إلی الطمأنینة من الناحیة النفسیة، إلّا أنّ المیل إلی الأکثریة والاستناد إلی آراء الجماعة، لا یجعلنا فی غنی عن التمسک بالعقل. وعلی هذا الأساس فإن الإیمان بکل نوع من أنواع العقیدة أو أی منهج من مناهج الحیاة - إذا لم یقم علی أساس من التفکیر والتعقل - فإنه سیؤدی إلی تزلزل العقیدة، بل وفی کثیر من الأحیان إلی الانحراف والابتعاد عن الحقیقة والواقع. أنّ أکثر الناس، بدلاً من أن یقوموا بتوظیفت العقل والفکر فإنهم یتبعون الظن، وإن اتباع الجماعات اتباعاً أعمی یؤدی بدوره إلی التبعیة للظنون والشکوک، ولن ینتج عن ذلک سوی الضیاع والضلال. ومن هنا عمد القرآن الکریم إلی شجب ومنع اتباع الأکثریة دون تفکیر أو تعقل، وذلک حیث یقول الله تبارک

ص:134

وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ إِنْ تُطِعْ أَکْثَرَ مَنْ فِی الْأَرْضِ یُضِلُّوکَ عَنْ سَبِیلِ اللّهِ إِنْ یَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ یَخْرُصُونَ1 .

العصبیة العمیاء: إن العصبیة بمعنی الإصرار علی معتقد أو طریقة أو مذهب، إنما تکون مذمومة ومرفوضة إذا کانت قائمة علی الجهل والسفاهة. وإن هذا النوع من العصبیة هو عدول عن المسار الصحیح، وانحراف عن حدود العلم والیقین. إن الشخص المتعصّب یضع عقله تحت قدمیه، فهو علی الرغم من وعیه وإدراکه لبطلان عصبیته، ویقینه بأحقیة العقیدة الأخری، إلّا أنه ینکر کل ذلک انصیاعاً لأهوائه الشخصیة. وفی ذلک یقول الله تبارک وتعالی: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِینَ2 . وإن الذی یؤخذ بنظر الاعتبار فیما یتعلق بالعصبیة السلبیة إلی حد أکبر هو عدم توظیف ثمار العقل المتمثلة بالوعی والیقین.

إن بعض عناصر الجمود والرکود الفکری من قبیل: التبعیة للأسلاف، واتباع الشخصیات ذات السلطة والنفوذ، واتباع الأکثریة، إنما تکون مذمومة لأنها تحول دون توظیف الإنسان لعقله وتفکیره، وأما فیما یتعلق بموارد من: العصبیة العمیاء: فإن جذور الجمود الفکری والرکود العقلی تعود إلی الأهواء النفسیة، والتی تؤدی بالإنسان إلی التنکر لعقله مدرکاً عالماً وعامداً، حتی تنطفئ جذوة العقل بالتدریج. وفی ذلک روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال: (اللَّجَاجَةُ تَسُلُّ الرَّأْیَ)(1).

- التسرّع بالحکم: إن القبول والتصدیق بأمر أو رفضه وإنکاره یجب أن یقوم علی أسس عقلیة، وأن یکون عن درایة وبصیرة وصبر وتروّی وإحاطة

ص:135


1- (3)) الشریف الرضی، نهج البلاغة، قصار الحکم، الحکمة رقم: 179.

علمیة. إن إبداء المواقف العجولة والمتسرّعة والسطحیة یُعدّ واحداً من علامات الجمود الفکری وعدم توظیف العقل فی مقاربة أفکار الآخرین وتقییمها. ومن هنا فإن القرآن الکریم یحظر علی الإنسان أن یتسرّع فی قبول الأفکار أو رفضها، ویری أن ذلک بمنزلة الشرخ الفکری والعلمی الذی من شأنه أن یؤدی بالمرء إلی قعر الجهل والظلام. قال الله تعالی: بَلْ کَذَّبُوا بِما لَمْ یُحِیطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّا یَأْتِهِمْ تَأْوِیلُهُ کَذلِکَ کَذَّبَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الظّالِمِینَ1 ، وقال أیضاً: حَتّی إِذا جاؤُ قالَ أَ کَذَّبْتُمْ بِآیاتِی وَ لَمْ تُحِیطُوا بِها عِلْماً أَمّا ذا کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ2 ، وروی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال:

لَو أن العِبادَ حینَ جَهِلوا وَقَفوا، لَم یَکفُروا ولَم یَضِلّوا.(1)

وإن الحلم والتصبّر نتیجة العقل والحکمة، وهو یؤدی بالإنسان إلی الوعی والکمال والسمو، وقد روی فی ذلک عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

«فتشعّبَ مِنَ العَقلِ الحِلمُ، ومِنَ الحِلمِ العِلمُ، ومِنَ العِلمِ الرُشدُ»(2).

- العلاقات غیر العقلائیة: إن من بین العناصر الأخری التی تؤدی إلی الرکود الفکری والجمود العقلی هی التعلقات الاعتباطیة وغیر المعقولة والتی یتمّ فیها تجاهل الأفکار الصحیحة والتنکر لها. وإذا لم تقم علاقات الإنسان علی أساسٍ من العقل والتفکیر، فإن الحب والبغض سیحول دون التقدم والسیر علی إیقاع الحرکة العقلائیة. وإن إغلاق عین البصیرة والتفکیر والعقل بغمامة الحب والبغض والتعلقات غیر المعقولة، یفضی بالإنسان إلی دائرة الحرمان من نور العقل والتفکیر. وإن الذین یقیمون حبهم أو بغضهم علی

ص:136


1- (3)) الآمدی، غرر الحکم ودرر الکلم: 261.
2- (4)) العلامة محمد باقر المجلسی، بحار الأنوار: 117/16.

عناصر غیر عقلیة یحبسون أنفسهم فی شباک هذه العلاقات والأحقاد غیر المنطقیة. وفی ذلک روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال:

«وَمَنْ عَشِقَ شَیْئاً أَعْشَی بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ یَنْظُرُ بِعَیْنٍ غَیْرِ صَحِیحَةٍ، وَیَسْمَعُ بَأُذُنٍ غَیْرِ سَمِیعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ»(1).

وإن التعلق بأمور من قبیل: الثروة والجاه والمقام والنفوذ الاجتماعی والعُجب، والأنانیة، وعبادة الهوی، والانغماس فی الملذّات، تجعل الإنسان حبیساً داخل شرنقة تحیط به من جمیع الجوانب حتی تمنعه من القدرة علی الرؤیة والتبصر. وقد روی عن الإمام علی (علیه السلام) فی هذه الموارد أحادیث کثیرة من قبیل: قوله (علیه السلام):

(ضَیاعُ العقول فی طَلَبِ الفُضولِ)(2).

(عُجبُ المَرءِ بنَفسهِ، أحَدُ حُسّادِ عَقلهِ)(3).

(عَدُّو العَقلِ الهَوی)(4).

(إذا کَمُلَ العَقلُ، نَقَصَتِ الشَهَوةُ)(5).

(مَن کَمُلَ عَقلُه، استَهانَ بِالشَهَواتِ)(6).

وعلیه فإنّ اجتناب هذه الأمور، یؤدی إلی استثمار الکفاءة العقلیة بالشکل الصحیح والناجع.

- الغضب والحقد: إن الغضب یؤدّی بمعطیات العقل والفکر إلی الضیاع والفناء. فإن الذی یُبتَلی بالغضب والحنق لا یمکنه أن یتمتع بالصبر والحلم،

ص:137


1- (1)) الشریف الرضی، نهج البلاغة، الخطبة رقم: 109.
2- (2)) غرر الحکم ودرر الکلم.
3- (3)) بحار الأنوار: 317/72.
4- (4)) المصدر: 12/78.
5- (5)) غرر الحکم ودرر الکلم.
6- (6)) المصدر.

ولا یستطیع الاختیار الصحیح بحکمة وتعقل، ولا یمکنه القیام بنشاط علمی، وفی ذلک روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال:

«الغَضَبُ یُفسِدُ الألبابَ، ویُبعِدُ عَنِ الصَوابِ»(1). وفی موضع آخر روی عنه (علیه السلام) أیضاً: «شِدّةُ الغَضَبِ تُغیّرُ المَنطِقَ، وتَقطَعُ مادَّةَ الحُجّةِ، وتُفَرِّقُ الفَهمَ».(2)

کما أن الغَضوب یقید نفسه بسلاسل وأغلال الحنق. وأما الحرکة بهدی العقل والتفکیر السلیم، فإنها لا تکون إلّا من خلال التحرر من ربقة الغضب.

عناصر تنمیة العقل والفکر: لقد ذکّر الإسلام بأسباب وعناصر الخمود والجمود الفکری، محذّراً الإنسان من الوقوع فی شباکها، ویقدّم له السبل الناجعة والعوامل المفیدة التی یستطیع من خلالها الوصول إلی التعقّل والتفکیر الصحیح. وإنّ من بین العوامل التی تساعد الإنسان علی بلوغ الاستقلال الفکری والعقلی من وجهة نظر الإسلام أموراً نذکر منها ما یلی:

1. اقتفاء الدلیل: إنّ من بین عناصر تنمیة قوة التعقل والتفکیر لدی الإنسان، هو نزوعه إلی اقتفاء الدلیل واتباعه. قال تعالی: وَ مَنْ یَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا یُفْلِحُ الْکافِرُونَ .(3) ویجب أخذ هذا العنصر بنظر الاعتبار سواء فی ذلک عند الاستماع إلی آراء الآخرین أو عند مخاطبة الآخرین والسعی إلی نقل آرائنا إلیهم. بمعنی: أنّ الملاک فی رفض أو قبول الآراء یجب أن یقوم علی الدلیل أو الأدلة التی یجب أن یقترن بها ذلک الرأی. إنّ إقامة الدلیل والبرهان یقنع الإنسان، ویشکّل فی الوقت نفسه دعامة تحفظ الإنسان من الزیغ والانحراف. ومن وجهة نظر القرآن فإنّ الذی

ص:138


1- (1)) المصدر.
2- (2)) بحار الأنوار: 428/71.
3- (3)) المؤمنون: 117.

یتفوّه بکلام دون أن یقیم الدلیل علیه، لا یعبّر فی الحقیقة عن مذهب أو معتقد، وإنّما یقوم بمجرّد إبراز أمنیة ورغبة لم یقم الدلیل علی صحتها أو صدقها، ومن ذلک ما یذهب إلیه الیهود والنصاری فی اعتبار أنفسهم وحدهم الناجین یوم القیامة، وهو ما عبّر عنه الله تعالی فی القرآن الکریم بقوله: وَ قالُوا لَنْ یَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ کانَ هُوداً أَوْ نَصاری تِلْکَ أَمانِیُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ1 . وقال الله تعالی أیضاً: وَ نَزَعْنا مِنْ کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَکُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما کانُوا یَفْتَرُونَ2 .

ومن هنا فإنّ کلمات أمثال هؤلاء لا یمکن أن تکون مقبولة من قبل الآخرین. ولذلک فإن القرآن یشجّعنا علی مطالبة المدّعین بالدلیل والبرهان، ویعدّ الذین لا یقیمون الأدلة والبراهین علی کلامهم أناساً غیر صادقین. وذلک من قبیل: قوله تعالی: أَمَّنْ یَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ وَ مَنْ یَرْزُقُکُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ3 .

إنّ الملاک فی الرؤیة الواقعیة والکشف عن الحقائق هو تقدیم الدلیل. ولذلک فإن الذین یجنحون إلی الخیال - حیث إنهم غیر واقعیین -، یتهرّبون من إقامة الدلیل، ومن هنا فإنّهم یفقدون مسکتهم العقلیة بالتدریج، لأن اقتفاء الدلیل یزید من المقدرة العقلیة، وکلما نضب معین هذه القوة والقابلیة والکفاءة، فإنّ رصید الجنوح نحو الخیال سیکون مرتفعاً ویکون هو المحور الذی تدور علیه الأنشطة الفردیة والجماعیة. وإنّ من بین النتائج الکارثیة المترتبة علی هذا النوع من الحیاة الفکریة هو عض أصابع الندم، حیث لا ینفع الندم. وفی ذلک قال الله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ

ص:139

فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ1 .

إنّ الذی لا یبحث عن الدلیل ولا یسأل عن البرهان، یُبتلی بالعدید من المشاکل فی حیاته، ولن تقتصر هذه المشاکل علی التبعات الخارجیة، بل ستؤثر علیه حتی من الناحیة الداخلیة والنفسیة، حیث سیعیش فی قلق واضطراب. إنّ الکثیر من المواجهات الاجتماعیة التی یعقبها الندم تعود بجذورها إلی عدم إحاطتنا بجوانب الأمور. ولو أنّ الإنسان کان یلاحظ مصالحه الحقیقیة فی کلّ خطوة یخطوها فی حیاته، فإنّه لن یتحمل الخسائر الفادحة، ولن یؤدی به ذلک إلی الندامة والحسرة علی ما فاته وضیّعه. وهکذا نجد الله سبحانه وتعالی یسعی من خلال الآیات الإلهیة إلی إقامة الدلیل ووضع العلامات للناس من أجل الحصول علی المعطیات العقلیة والفکریة، ویدعو الإنسان إلی رحاب قُدسه من خلال التماس الدلیل والبرهان القاطع والحاسم. قال الله تعالی: کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ2 . وقال أیضاً: کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمُ الْآیاتِ لَعَلَّکُمْ تَتَفَکَّرُونَ3 . وعلی هذا الأساس فإن توظیف هذه الآلیة فی التنمیة والهدایة بقیادة العقل، یعتبر الخطوة الأولی فی إطار بلوغ الأهداف النهائیة والقرب من الله سبحانه وتعالی.

2. توظیف العقل والتفکیر: إنّ ازدهار وتطوّر وتکامل أی قوّة واستعداد رهن بتوظیف ذلک الاستعداد وتلک القوّة. وهذا الأمر وإن کان ملحوظاً ومحرزاً فیما یتعلّق بالقوی الجسدیة، إلّا أنه یصدق بالنسبة إلی الأبعاد الذهنیة ویمکن تحصیله علی المستوی العقلی أیضاً، وإن کان ذلک علی درجة

ص:140

مختلفة بالمقارنة مع البعد الجسدی(1). وفی الدائرة الذهنیة والعقلیة نجد التفکیر یؤدی إلی إتقان المعلومات واستحکامها، ویزید من قدرة الفرد علی کشف المجهولات. وبعبارة أخری: إنّ تقویة العقل تعنی ارتفاع مستوی المعرفة وإدراک الأدلة والعلامات البارزة، وبذلک فإنها تضع تحت تصرّف العقل الکثیر من الأدوات (الدلائل) من أجل کشف المجهولات وحلّ رموزها. وعلیه فإن الدعوة إلی التعقل فی الأمور، وتجنب السذاجة یعنی توظیف هذه المقدرة فی جمیع الأحوال. إنّ القرآن الکریم یرشد الإنسان إلی بذل الجهد للاستفادة القصوی من هذه المقدرة؛ وذلک لأنّ الاعتیاد علی توظیف العقل واستخدامه فی مسیرة الحیاة، واستثمار التجارب والعلوم یؤدی إلی تطویر العقل وتکامله. وفی ذلک روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنّه قال:

«العقل غریزة تزید بالعلم والتجارب».(2) وقال أیضاً: «من أکثر الفکر فیما تعلم، أتقن علمه، وفهم ما لم یکن یفهم».(3)

3. تعمیق الفکر: إنّ من بین العوامل الأخری التی تعمل علی إحیاء العقل وشحذ الذهن، فهم الأمور بدقة وعمق. إنّ أخذ جمیع الأبعاد بنظر الاعتبار، یسد منافذ الجهل والنظر إلی الأمور بسطحیة، ویجعل الفرد لا یقنع بتجاوز المسائل ببساطة بعیدة عن التدقیق والتروّی، وفی ذلک روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنّه قال فی وصف أهل بیت النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله): (عَقَلُوا الدِّینَ عَقْلَ وِعَایَةٍ وَرِعَایَةٍ، لاَ عَقْلَ سَمَاعٍ وَرِوَایَةٍ)(4). إن التعمّق والتدبّر فی الأمور یعد من المراحل الفکریة العالیة فی مسار البشریة العلمی، حیث یمکن من خلاله

ص:141


1- (1)) وفی ذلک إشارة إلی نظریة الانتقال المشترک ل - "ثیرندایک" ،بدلاً من نظریة الریاضة الذهنیة لأرسطو التی ترمی إلی توحید وتقویة الذهن وتنمیته.
2- (2)) غرر الحکم ودرر الکلم: 67.
3- (3)) بحار الأنوار: 316/68.
4- (4)) نهج البلاغة: الخطبة: 239.

الحصول علی نتائج جدیدة. وإن هذه الصفة من الأهمیة بحیث إن القرآن الکریم علی الرغم من أنه لم یعمد إلی الثناء علی الله بالتعقل أو التفکیر، إلّا أنه وصفه سبحانه بأنه صاحب تدبیر وأنه مدبّر الأمور. وإن هذا النوع من التدبیر یعنی الإحاطة الشاملة بالأمور، وإن هذه المرحلة من المعرفة والوعی تحکی عن الإحاطة الشاملة التی تشمل حتی العلم الإلهی أیضاً، وقد أشار الله سبحانه وتعالی إلی هذه الحقیقة فی الکثیر من آیات القرآن الکریم، نذکر منها علی سبیل المثال: قوله تعالی:

إِنَّ رَبَّکُمُ اللّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیّامٍ ثُمَّ اسْتَوی عَلَی الْعَرْشِ یُدَبِّرُ الْأَمْرَ .(1)

قُلْ مَنْ یَرْزُقُکُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ یَمْلِکُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَ یُخْرِجُ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَیِّ وَ مَنْ یُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَیَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ .(2)

- اَللّهُ الَّذِی رَفَعَ السَّماواتِ بِغَیْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوی عَلَی الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ کُلٌّ یَجْرِی لِأَجَلٍ مُسَمًّی یُدَبِّرُ الْأَمْرَ یُفَصِّلُ الْآیاتِ لَعَلَّکُمْ بِلِقاءِ رَبِّکُمْ تُوقِنُونَ .(3)

- یُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَی الْأَرْضِ4 .

وعلی هذا الأساس فإن الترغیب والتشجیع والحث علی التدبّر والتعمّق فی الأمور یحکی عن أهمیة هذه الصفة. قال تعالی فی محکم کتابه الکریم: أَ فَلا یَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلی قُلُوبٍ أَقْفالُها5 ، وقال أیضاً: کِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَیْکَ مُبارَکٌ لِیَدَّبَّرُوا آیاتِهِ وَ لِیَتَذَکَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ6 .

ص:142


1- (1)) یونس: 3.
2- (2)) یونس: 31.
3- (3)) الرعد: 2.

4. الاستفادة من مختلف الآراء: إنّ المنظور من توظیف العقل والتفکیر بوصفه قوّة مودعة لدی الإنسان، هو بیان فکرة وعقیدة صحیحة ومستحکمة. وإنّ صلابة واستحکام العقیدة رهن بنجاحها فی مواجهة العقائد المخالفة والآراء المناهضة لها، ومن هنا فإنّ الإنسان العاقل لیس لدیه أیّ خشیة أو تخوّف من مقارعة الأفکار والعقائد والمذاهب المخالفة ومواجهتها. ومن وجهة نظر القرآن الکریم فإنّ منهج الوصول إلی العقل السلیم والفهم الصحیح یکمن فی الترحیب بالأفکار المتنوّعة والعمل علی دراستها وتمحیصها. وعلی کل حال یجب تدریب العقل بحیث یستطیع تقییم الآراء والعقائد المختلفة وإصدار الحکم بشأنها. وإنّ هدایة الله وإرشاده إنّما یشمل الذین بلغوا هذا المستوی من المنهج الفکری، وتمکّنوا من تقییم الأفکار واختیار ما هو الأفضل من بینها، وفی ذلک قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: اَلَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِکَ الَّذِینَ هَداهُمُ اللّهُ وَ أُولئِکَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ1 .

5. توظیف القوالب الفکریة لدی الآخرین: إنّ من بین سبل إحیاء وتجدید قوّة التفکیر لدی الأفراد، الاستفادة والتوظیف الصحیح لبعض المعتقدات الفکریة. ففی هذا الأسلوب یتمّ توظیف ما یدین به الشخص فی إبطال عقیدته. وقد استخدم القرآن الکریم مختلف الأدلة والبراهین والآیات، ومع ذلک تمّ دعم الأنبیاء (صلی الله علیه و آله) بالمعاجز تارة، وتارة من طریق بیان عظمة الخلق، وتارة من خلال توظیف ذات الأمور التی یؤمن بها المعاند بغیة استثارة العملیة العقلیة والفکریة لدیه. وهو ما نراه جلیاً فی قصة تحطیم النبیّ إبراهیم (علیه السلام) للأصنام وإلقاء اللوم علی کبیرهم، وبذلک أثبت أنّ الأصنام ما هی إلّا جمادات نصنعها بأیدینا، ولن تستطیع أن تعمل شیئاً لتغییر نظام الطبیعة، بل لا تستطیع حتی الدفاع

ص:143

عن نفسها، ولذلک فإنّها لا تستحق العبادة أبداً. وقد صوّر القرآن هذه الحادثة علی النحو الآتی: وَ تَاللّهِ لَأَکِیدَنَّ أَصْنامَکُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِینَ * فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاّ کَبِیراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَیْهِ یَرْجِعُونَ * قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظّالِمِینَ * قالُوا سَمِعْنا فَتًی یَذْکُرُهُمْ یُقالُ لَهُ إِبْراهِیمُ * قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلی أَعْیُنِ النّاسِ لَعَلَّهُمْ یَشْهَدُونَ * قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا یا إِبْراهِیمُ * قالَ بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کانُوا یَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلی أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّکُمْ أَنْتُمُ الظّالِمُونَ * ثُمَّ نُکِسُوا عَلی رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ یَنْطِقُونَ * قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا یَنْفَعُکُمْ شَیْئاً وَ لا یَضُرُّکُمْ * أُفٍّ لَکُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ1 .

6. التدبّر فی أحوال تاریخ الاُمم السابقة: إنّ من بین الطرق الأخری لخلق الداعی والحافز إلی التفکیر فی فهم وإدراک وتوظیف العقل، هو النظر فی تجارب وأداء الأمم السابقة وأسلافنا الماضین. فإنّ التاریخ بمثابة المرآة الصافیة التی تنعکس فیها جمیع الأحداث الماضیة وتجارب الأمم السابقة، وتترتب علیه من النتائج والآثار ما یؤول بنا فی نهایة المطاف إلی التفکیر والتدبّر والاعتبار. وقد أشار القرآن الکریم إلی الاعتبار بتاریخ الماضین واستلهام دروس العبر والاتعاظ بها. وأنّ محور جمیع هذه التجارب هو توظیف العقل والتفکیر من أجل الخلاص من المصائب التی حاقت بالأمم السابقة نتیجة لبعدها عن الله واقترافها المعاصی والذنوب، من قبیل: التعویل علی عامل القوّة الاقتصادیة والعسکریة، وکثرة العدّة والعدد، والظلم والجور والإجحاف بحق الآخرین، وتکذیب الرسل، واستعمال المکر والحیلة والخداع للتنصل من آثار أعمالهم السیئة. والقرآن الکریم یعلمنا بأننا إذا أردنا أن لا نُبتلی بنفس ما ابُتلیَ به أسلافنا بسوء أعمالهم، فما علینا إلّا الاعتبار بمصیرهم، وأن نکتسب الخبرة

ص:144

والتجربة مما جری علیهم. وإلیک نماذج من آیات القرآن الکریم التی تناولت هذه الظاهرة:

- أَ وَ لَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ کانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَکْثَرَ مِمّا عَمَرُوها1 .

- أَ وَ لَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ کانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ کانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِی الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما کانَ لَهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ واقٍ2 .

- أَ وَ لَمْ یَسِیرُوا فِی الْأَرْضِ فَیَنْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ کانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما کانَ اللّهُ لِیُعْجِزَهُ مِنْ شَیْءٍ فِی السَّماواتِ وَ لا فِی الْأَرْضِ إِنَّهُ کانَ عَلِیماً قَدِیراً3 .

- فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الظّالِمِینَ4 .

- فَکَذَّبُوهُ فَنَجَّیْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِی الْفُلْکِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِینَ5 .

- ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسی بِآیاتِنا إِلی فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِینَ6 .

- وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَیْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِینَ7 .

- فَانْظُرْ کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ مَکْرِهِمْ أَنّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِینَ8 .

ص:145

وإن من بین الفوائد والآثار الأخری المترتبة علی التفکیر فی تاریخ الاُمم، هو أن ذلک یساعد علی فهم المسائل والأمور المشترکة بین الناس فی الحیاة. إنّ التعرّف علی المسائل والمشاکل التی ابُتلیَ بها الناس عبر الوصول السابقة، یساعدنا علی تحدید العناصر المؤثرة فی مسار التاریخ والمجتمعات الإنسانیة. فمن باب المثال: نستطیع من خلال قراءة التاریخ أن ندرک أن التعلقات الدنیویة والمرحلیة، وإن کان من الممکن أن تستمر لفترة طویلة، إلّا أنها ستنتهی إلی الفناء یوماً ما ولن یبقی لها من رسم ولا أثر.

7. مجالسة العلماء والمفکرین: وإن من بین العناصر التی لا یمکن إنکار تأثیرها علی منظومتنا الفکریة هی مجالسة العلماء والمفکرین، إذ إنها تؤدی إلی تنمیة مقدرتنا وکفاءتنا العقلیة الکامنة، والتعرّف علی القوالب الفکریة الجدیدة، وتنمیة قوّة التفکیر لدینا. فقد روی عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) فی ذلک أنه قال: (مُجالَسَةُ الصالِحینَ، داعِیَةٌ إلی الصَّلاح وآداب العُلماءِ، زیادَةٌ فی العَقلِ). وفی المقابل فإن مجالسة الجهّال تکون سبباً فی خمود بریق العقل وانطفاء جذوته، فقد روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال: (مَن صَحِبَ جاهِلاً، نَقَصَ مِن عَقلِهِ)(1).

ومن الضروری التذکیر بهذه النقطة وهی أن عناصر التنمیة العقلیة والفکریة تنقسم إلی قسمین، وهما: العناصر الداخلیة، من قبیل: توظیف العقل والفکر وتعمیقهما، ومراعاة التقوی. والعناصر الخارجیة، من قبیل: اقتفاء الدلیل، والاستفادة من مختلف الآراء والنظریات، ومعرفة التاریخ، ومجالسة العلماء والمفکرین.

8. تهذیب النفس وطهارة القلب: تقدّم أن ذکرنا فی بحث التقوی أن من بین الآثار التربویة المترتبة علی التقوی، هی البصیرة وحلّ المشاکل وکشف

ص:146


1- (1)) جامع أحادیث الشیعة: 283/13.

المجاهیل، وذلک لا یأتی إلّا فی ضوء العقل والتفکیر. وقد روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال:

«مَن لَم یُهذّب نَفسَهُ، لَم یَنتَفِع بالعَقلِ».(1)

إنّ تهذیب النفس یُعدّ أرضیة مناسبة ترفع من مستوی فراسة المؤمن وقدرته علی تحدید الخیر وتمییزه عن الشر. وبعکس ذلک لو عاش المرء أجواءً مظلمة وملبّدةً بالذنوب، حیث لن یکون بإمکانه بلوغ الهدایة والکمال، ولن یکون مصیره سوی السقوط فی مستنقع الضیاع والسفاهة والبعد عن مصادر الحقیقة. قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ یَجْعَلْ لَکُمْ فُرْقاناً وَ یُکَفِّرْ عَنْکُمْ سَیِّئاتِکُمْ وَ یَغْفِرْ لَکُمْ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ2 . وروی عن الإمام أبی عبد الله الحسین (علیه السلام) أنه قال:

(لا یَکمُلُ العَقلُ إلّا باتّباعِ الحَقِّ).(2)

3. تحصیل العلوم والمعارف

إن اکتساب العلوم والإقبال علی المعارف والحصول علی التجارب العلمیة والمعرفیة المعاصرة یؤدی إلی زیادة سعة أُفق العقل وارتفاع مستوی الإدراک، کما أنّ التعرّف علی الحضارات والثقافات البشریة المعاصرة الذی هو حصیلة اکتساب الفنون والعلوم والمعارف النظریة یؤدی إلی تقویة موقف العقل فی مواجهته لمختلف التیارات الفکریة، وانتهاج الأسالیب النافعة فی الحیاة. وعلی الرغم من أنّ توظیف العقل الفطری وما أمرنا الله به فی القرآن الکریم - باعتباره سبباً فی الهدایة والتکامل - لا یتوقف علی تحصیل علوم ومعارف خاصّة - فإنّ بإمکان الفرد أن یحصل علی الهدایة

ص:147


1- (1)) غرر الحکم ودرر الکلم: 700، الحکمة رقم: 1311.
2- (3)) بحار الأنوار: 128/78.

والتکامل علی المستوی الفطری والعادی من خلال الاستفادة من مناهج المعرفة المتمثلة بالتفکر والتدبّر فی أسرار الخلق وآثار الأمم السالفة وما إلی ذلک - إلّا أنّ الذی یقع موضع اهتمام الدین علی الدوام هو الوصول إلی الهدایة الأسمی والکمال الأکبر. إنّ سعی الإنسان من أجل الوصول إلی المراحل العلیا من الهدایة، رهن بتنمیة العقل الفطری وتطویره من خلال الاطلاع علی الاکتشافات الحدیثة والعلوم الجدیدة التی تمّ التوصل إلیها فی مختلف الفروع والمجالات. وبطبیعة الحال لیس هناک فی الرؤیة الإسلامیة ما یضمن أن یکون الإنسان العالم عاقلاً أیضاً. فعلی الرغم من وجود التأثیر والتأثر بین العلم والعقل، إلّا أنّ زیادة العلوم لا تستلزم ازدهار العقل البشری بالضرورة. فما أکثر العلماء والمفکرین الذین حرموا من نعمة العقل، فقاموا بتوظیف قدراتهم العلمیة فی طریق الانحراف أو إبادة الشعوب والأمم. وهناک الکثیر من الآیات القرآنیة الدالة علی أنّ مجرّد معرفة طرق الهدایة والکمال لا یعنی تحقق الهدایة والکمال، بل لا بد - بالإضافة إلی معرفة الهدایة والکمال - عن أن یتحلّی الشخص بعنصر التقوی والفطرة السلیمة أیضاً. وقد أشارت بعض الآیات القرآنیة إلی أنّ هناک من الناس من یکتمون الحقّ رغم معرفتهم وعلمهم به، وذلک إذ یقول تعالی: وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِیقٌ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ کِتابَ اللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ کَأَنَّهُمْ لا یَعْلَمُونَ .(1) وقال تعالی أیضاً: اَلَّذِینَ آتَیْناهُمُ الْکِتابَ یَعْرِفُونَهُ کَما یَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِیقاً مِنْهُمْ لَیَکْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ .(2) وهناک من ینسب إلی الله الکذب - والعیاذ بالله - وقد أشار الله تعالی إلی ذلک بقوله: وَ یَقُولُونَ عَلَی اللّهِ الْکَذِبَ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ .(3) وبقوله تعالی: وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِیقاً یَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ

ص:148


1- (1)) البقرة: 101.
2- (2)) البقرة: 146.
3- (3)) آل عمران: 75.

بِالْکِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْکِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْکِتابِ وَ یَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ یَقُولُونَ عَلَی اللّهِ الْکَذِبَ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ .(1) وهناک من یعمل علی إثارة الفتن وإشعال فتیل الحروب، وبثّ الاختلاف والفرقة. وفی ذلک یقول الله (عزّ وجل): إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ2 ، ویقول تعالی أیضاً: وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ3 ، وقال الله تعالی أیضاً: وَ آتَیْناهُمْ بَیِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ إِنَّ رَبَّکَ یَقْضِی بَیْنَهُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ فِیما کانُوا فِیهِ یَخْتَلِفُونَ4 .

نستنتج من جمیع هذه الموارد أنّ هؤلاء الأفراد قد تعرّضوا للضلال والانحراف علی الرغم من الإرشاد والدعوا إلی الهدی. إنّ العامل والعنصر الذی یؤدی بالبشریة إلی الحرمان من الهدایة الإلهیة والبعد عن الله یکمن فی الجهل وعدم التعقّل والمعرفة. ولو أنّ جمیع المجاهیل فی العالم أصبحت واضحة للإنسان، مع ذلک لا یمکن اعتبار علمه مفیداً بحاله؛ لأن العلم إنما یکون مفیداً إذا کان مسیطراً علیه من قبل العقل. وعلی حد تعبیر القرآن فإنّ الذین یدرکون ما یحدث فی هذا العالم، دون أن یفهموا حقیقة المعاد لا یمکن اعتبارهم من العلماء. وذلک لأنّ علمهم إنّما یتعلّق بالأمور المحسوسة التی یمکن أن تخضع للتجربة، دون أن تسری إلی کنه الأمور وأعماقها. ومن هنا فإنّ هؤلاء غافلون عن الآخرة التی هی تعبیر آخر عن کنه عالم الدنیا. قال الله تعالی: یَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ5 .

أسباب التأکید علی شمولیة العلوم والمعارف: نبدأ البحث بهذا السؤال

ص:149


1- (1)) آل عمران: 78.

القائل: إذا کان بإمکان الإنسان - من خلال التمسک بالعقل الفطری - أن یدرک الأسس والأصول الدینیة، وأن یتوصل إلی معرفة التوحید والمعاد وضرورة النبوة، إذن، ما هی الضرورة إلی دراسة العلوم والمعارف من الناحیة الدینیة، وأساساً ما هو دور العلوم والمعارف الدینیة فی تکامل الإنسان فی مسیرته إلی الله سبحانه وتعالی؟

للإجابة عن هذا السؤال یجب القول: إنّ المراد من العقل الفطری، وما ذکر فی القرآن الکریم تحت عنوان العقل، هو نوع من الکفاءة والرؤیة التی یمکن للإنسان من خلالها أن یحصل علی الهدایة البدائیة دون تدخل من عنصر وعامل خارجی للهدایة، وأنّ یؤمن بالتوحید وأنّ الله خالق الکون، وأنّ علینا الاستعانة به والتوکّل علیه. کما یمکن للعامل والعنصر الخارجی فی الهدایة أن یأخذ بأیدینا إلی هذه الهدایة البدائیة، فنؤمن من خلاله بالتوحید وأنّ الله خالق الکون والعالم والوجود، وأنّه یجب علینا أن لا نطلب العون إلّا منه، ولا نتوکل إلّا علیه. وأما الإجابة عن مقدار ما یمکن لهدایة الفطرة أن تقودنا إلیه، وهل تشمل هذه الفطرة ضرورة المعاد والبعثة والموارد الأخری، فهی بحاجة إلی بحث آخر أیضاً، إلّا أن الذی تمّ التصریح به فی القرآن الکریم هو الإیمان بالتوحید ومعرفته الفطریة. وفی ذلک قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ .(1)

- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَیَقُولُنَّ اللّهُ .(2)

- وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ .(3)

ص:150


1- (1)) العنکبوت: 61.
2- (2)) العنکبوت: 63.
3- (3)) لقمان: 25. وانظر أیضاً: الزمر: 38؛ الزخرف: 87.

وعلیه یمکن لنا أن نستنتج أنّ الدور الرئیس والأوّلی للعقل الفطری فی مجال هدایة الإنسان، هو الإرشاد والهدایة إلی التوحید.

کما تقدّم أن ذکرنا إن العقل الفطری مقدرة خاصة أودعها الله فی وجود الإنسان، لکی یهتدی من خلالها. وأنّ هذه المقدرة تلعب أدواراً متنوعة تبعاً لمختلف الحالات، ولها آلیة محددة بالالتفات إلی مقدار العلم والمعرفة التی تکون مقرونة بها، فمثلاً: أنّ المعرفة بالدلائل التکوینیة تؤدی إلی حصول الإنسان علی مرحلة عالیة من التوحید. وهکذا الاطلاع علی الآیات التشریعیة یؤدی إلی التعرّف علی التوحید فی الخالقیة والتوحید الربوبی أیضاً. وکذلک فإن دراسة تاریخ الأمم السابقة وأحوال الأجیال الماضیة، تمکّن الدارس من الحصول علی مزید من التجربة، فلا یعید أخطاء الأمم السالفة، والتمکّن من الحصول علی التکامل والتقدّم. إن العقل فی هذا المجال یکون بمنزلة القائد والمرشد والدلیل الذی ینظر إلی الهدف والغایة، وأنّه من خلال توظیف العلوم والمعارف یصل إلی قصده وإلی هدفه وغایته. ومن هنا یمکن القول: إنّ العقل فی مقابل الجهل بمثابة عنصر للهدایة الذی یهدف إلی الصعود نحو المراتب العلیا من خلال الاستعانة بالأدوات العلمیة والمعرفیة. إنّ اتساع الأفق العلمی وتوسیع رقعة المعلومات البشریة یعدّ أرضیة مناسبة للنشاط والمناورة العقلیة. وکلما زادت معرفة الإنسان، کان أعلم بالهدایة إلی الله، إلّا أنّ مستوی الهدایة فی کلِّ واحد من هذین الأمرین یکون مختلفاً. قال الله سبحانه وتعالی: وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ1 ، وقال تعالی أیضاً: بَلْ هُوَ آیاتٌ بَیِّناتٌ فِی صُدُورِ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما یَجْحَدُ بِآیاتِنا إِلاَّ الظّالِمُونَ2 ، وقال تعالی أیضاً: إِنَّما یَخْشَی

ص:151

اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ1 ، وقال سبحانه أیضاً: یَرْفَعِ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ2 . إن الرغبة فی الحصول علی مزید من المعارف ضارب بجذوره فی العقل، وحیث إن تقدّم الإنسان ورقیه رهن بجمع المعلومات، فقد کان طلب العلم مورد تأکید من قبل العقل. وعلی هذا الأساس فإنّ نشوء العلم ونموّه وتکامله التدریجی، ولید إرادة الإنسان من أجل توظیف العقل والتوصل إلی حیاة أفضل وأکثر رخاءً ورفاهیة.

وعلی الرغم من أنّ الکثیر من الناس قد تناسوا الأهداف الإنسانیة العالیة، فلم یعودوا یستخدمون العقل فی الاتجاه الصحیح، وأخذوا یُقبلون علی طلب العلم من أجل الحصول علی مزید من المنافع والمصالح المادیة، ولکن علی کل حال فإن وظیفة العقل من وجهة نظر الإسلام تکمن فی تنمیة وتطویر العلم بقصد التقرّب من الله، وعلیه لا بدّ من توظیفه فی هذا الإطار وهذه الغایة. ومن هنا یمکن لنا أن ندرک کنه التأکید الذی نجده فی الآیات القرآنیة والروایات الشریفة وتشجیعها وحثّها علی طلب العلم. قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ3 . وروی عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

«طَلَبُ العِلمِ فَریضَةٌ علیُ کُلّ مُسلمٍ ومُسلمةٍ)(1). وروی عنه أیضاً أنه قال: (اطلُبوا العِلمَ مِنَ المَهدِ إلی اللَّحدِ».(2)

إنّ التأکید علی أهمیة تحصیل العلم والمعرفة فی الآیات والروایات بوصفهما هدفاً وسیطاً فی مسار هدایة الإنسان إلی الله، یثبت القیمة الاستثنائیة

ص:152


1- (4)) بحار الأنوار: 177/1.
2- (5)) نهج الفصاحة، ص 64.

والفذّة لهذا العنصر الفرید فی المسار الموصل إلی الهدف الغائی. إن ضرورة الاهتمام بهذه المسألة مع مرور الزمن واتساع رقعة العلم ودائرة الثقافة البشریة تتجلّی بشکل أکبر إلی الحدّ الذی یمکن القول معه: إن إحیاء وتجدید الحضارة الإسلامیة وتوسیع نطاقها رهن بالتعرّف علی المعطیات العلمیة والفنیة، والتفنیات الحدیثة وکذلک استیعاب الأسالیب المعرفیة والمعلومات النظریة أیضاً. إنّ إرادة أکثر الناس فی العالم المعاصر قد آلت إلی الضعف والرکود بسبب هیمنة العوامل الاجتماعیة والمناخ الحاکم والمهیمن علی المجتمع العالمی، وإن المساعی والجهود المنصبّة علی معرفة الذات ومواجهة الشک والغموض قد استبدلت باضمحلال الإرادة والتقهقر أمام معتقدات الآخرین. إن الإنسان الراهن قد انحاز فی البعد العملی إلی تحسین أوضاعه المادیة والاقتصادیة، کما یسعی فی الأبعاد النظریة إلی تبریر ابتعاده عن مقتضیات فطرته الإنسانیة. وفی هذه الأجواء یغدو تناسی منشأ الفطرة والمسیر علی خلاف اتجاه الترکیبة والبنیة الوجودیة، من السهولة بحیث یبدو الزیغ والانحراف والانکباب علی الدنیا، والابتعاد عن الله، والسنن الحسنة للأسلاف، وکأنه متناغم مع فطرة الإنسان وبنیته الوجودیة. إنّ استعداد الإنسان الراهن للاستجابة لمقتضیات الفطرة أضحی أقل مما علیه بالمقارنة مع أجداده وأسلافه الماضین، وأضحی تأثره بالعوامل الخارجیة أکثر من تلبیته لندائه الباطنی. وإن الذی یمکنه أن یکون مفتاحاً لحل الکثیر من المشاکل - فی مثل هذه الأجواء - ویخلّص الإنسان من هذا الواقع المأساوی، هو الاستضاءة بنور العلم، وتوظیف المعارف التی تدعو الإنسان إلی مزید من الوعی والمعرفة. ویمکن النظر إلی حضور عنصر العلم والفکر فی مسار هدایة الإنسان من خلال رؤیتین، وهما:

1. الهدایة الفردیة: کما تقدّم أن ذکرنا سابقاً، فإنّ استیعاب المعطیات

ص:153

العلمیة، یرفع من مستوی إدراک الإنسان للواقع، ویزید من رعایة التناسب الثقافی، وفهم لغة التخاطب. قال الله تبارک وتعالی: وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ1 .

2. اتساع رقعة الثقافة والحضارة الإسلامیة: إنّ تجدید وإحیاء الحضارة الإسلامیة وتوسیع رقعتها الثقافیة فی المجتمع الراهن مرتبط - إلی حدّ کبیر - بالاستفادة القصوی من الأدوات والمعطیات العلمیة والتقنیة. یعد التمسّک بالعلم والمعرفة فی الوقت الراهن من أهم أدوات وسبل توسیع رقعة الحضارة الدینیة فی مختلف الأبعاد السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة وغیرها. ومن دون توظیف هذه العناصر لا تکون هناک إمکانیة لأداء أیّ دور ملحوظ علی المسرح العالمی. فإن إدخال الناس فی دائرة الحضارة الإسلامیة وتبلیغ الرسالة الإلهیة لکافة أنحاء العالم رهن بتوظیف المعلومات التی ندین بها لمعطیات العلوم الحدیثة.

استیعاب العلوم طریق إلی التکامل: إنّ کمال کل موجود فی دائرة الحیاة رهن بتوفیر الإمکانات المتناسبة مع بنیته الوجودیة. فإنّ من الکائنات ما یتمتع بنمو وحیاة نباتیة، ومنها ما یتمتع بحیاة حیوانیة (النمو المقترن بالشعور والحرکة)، ومنها ما یتمتع - بالإضافة إلی ذلک - بحیاة روحیة ونفسیة وفکریة. وأنّ اختلاف کلّ واحد من هذه الأنواع الثلاثة یکمن فی نوع الحیاة والمراتب الوجودیة للکائنات فی هذه السلسلة. وعلی هذا الأساس فإنّ مفهوم التکامل یکتسب معناه الخاص بما یتناسب وکل واحدة من هذه المجموعات المذکورة. فالذی یعتبر بالنسبة إلی الحیاة النباتیة الحد الأقصی من النمو والتکامل، یعدّ بالنسبة إلی الحیاة الحیوانیة والإنسانیة أمراً متدنیاً فی التکامل. وأنّ ما یطرح فی الحیاة الحیوانیة من هذا المفهوم، یقع فی المرتبة المتوسطة

ص:154

من الأهمیة. إنّ مراحل التکامل النباتیة والحیوانیة تعد من المراحل التمهیدیة للتکامل الإنسانی. بید أن إصرار الإنسان وتأکیده علی هذه المراحل التمهیدیة یؤدی إلی حرمانه من المراحل القصوی من التکامل الإنسانی. وکما أن حیاة النبات تقتضی مرونة الأنسجة والألیاف النباتیة، کذلک الأمر بالنسبة إلی الحیاة الحیوانیة حیث یجب أن یتمتع الحیوان بما یتناسب ونموّ أعضائه من أجل الشعور بالإحساس والحرکة. وإن الافراط والتفریط فی کل واحد من خلفیات تکامل الإنسان - أی التکامل النباتی والحیوانی - یفضی إلی حرمانه من الحیاة الإنسانیة المتمثلة بالعقل والروح والإرادة والاختیار. إنّ التمتع بعناصر التکامل النباتی والحیوانی یعدّ شرطاً ضروریاً للإنسان. إلّا أنّ الشرط الکافی لذلک یکمن فی تجاوز دائرة التکامل الحیوانی والدخول فی ساحة العقل والإرادة. ومنذ تلک اللحظة یکون التقدّم فی هذه الساحة أو النکوص والتقهقر هو الملاک فی التکامل والتقدم أو الانحراف والتخلف.

وکما أنّ نمو النبات وتکامله، أو تقویة أعضاء الحیوان وسلامته رهن بالتغذیة المناسبة، فإن علوّ مرتبة الإنسان رهن بغذائه الروحی والنفسی أیضاً. ومن هنا یتّضح دور العلم والوعی والفکر والمعرفة. إنّ اکتساب العلوم یؤدی إلی تنمیة الجوانب الإنسانیة والتقدم فی مسار التکامل، ولا یمکن اجتیاز طریق التکامل من أجل التقرّب من الله دون اکتساب العلم والمعرفة. إنّ القرآن الکریم یعتبر العلم والمعرفة طریقاً للوصول إلی الهدایة والتکامل، وقد ذکر أن أحد الأدوار الفاعلة فی أداء الرسالة تکمن فی نشر الوعی وبیان الحِکَم الإلهیة، وأحیاناً یذکّر بتزوید الإنسان بالعلم والمعرفة، ومحو الجهل عنه، وأحیاناً یذکر البیان والقلم بوصفهما من الأدوات الخاصة للتنمیة الفکریة والتقدّم العلمی. وذلک حیث یقول تعالی:

- عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ یَعْلَمْ1 .

ص:155

- وَ اتَّقُوا الَّذِی أَمَدَّکُمْ بِما تَعْلَمُونَ1 .

- وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها2 .

- اَلرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَیانَ3 .

- اِقْرَأْ وَ رَبُّکَ الْأَکْرَمُ * اَلَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ4 .

إنّ التمتع بالنعم الإلهیة یختلف باختلاف المساحات التکاملیة. لقد أودع الله فینا - بالإضافة إلی إمکانات التکامل النباتی والحیوانی - أرضیة التکامل الإنسانی والروحی والازدهار العقلی أیضاً، ودعانا إلی ارتقاء القمم للتکامل الإنسانی. إنّ مفهوم العون والإمداد الإلهی - فیما یتعلّق بتکامل الحیاة الإنسانیة من خلال تزویدنا بالعلم والمعرفة - یعدّ مفهوماً فریداً فی مسار الإنسان التکاملی. إنّ للتکامل النباتی والحیوانی نظاماً تکوینیاً، وعلی کل حال فإن هاتین المرحلتین من التکامل تحصلان فی حیاة الکائنات بشکل متناسب ومقتضیات تلک الکائنات. وأما بالنسبة إلی الإنسان - فبالإضافة إلی وجود النزعة إلی کسب العلم والمعرفة ومکافحة الجهل بشکل تکوینی - فقد تمّ التأسیس للنظام التشریعی علی قاعدة التحریض والتشجیع علی کسب العلم والمعرفة أیضاً. إنّ القرآن الکریم، من جهة، یری أن رِفعة درجات المؤمنین وإدراک الآیات وعلامات الهدایة الإلهیة رهن بکسب العلم والمعرفة، حیث یقول الله تعالی:

- یَرْفَعِ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ الَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِیرٌ5 .

ص:156

- وَ مِنْ آیاتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِکُمْ وَ أَلْوانِکُمْ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِلْعالِمِینَ1 .

- فَتِلْکَ بُیُوتُهُمْ خاوِیَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ2 .

- وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَ ما یَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ3 .

ومن جهة أخری، یری أنّ الحصول علی الإیمان والوصول إلی مقام الخشوع والخضوع وامتلاک جوهر الیقین رهن بتحطیم قیود الجهل، وبلوغ مصدر العلم والمعرفة. قال الله سبحانه وتعالی:

- إِنَّما یَخْشَی اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ4 .

- وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما یَذَّکَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ5 .

- لکِنِ الرّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ یُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِکَ6 .

- کَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْیَقِینِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِیمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَیْنَ الْیَقِینِ7 .

ذمّ الجهل والجاهلین: إنّ تطور الإنسان ورقیّه فی مسیرة التکامل رهین باکتساب العلم والمعرفة، وأما انحرافه وتراجعه عن هذه المسیرة فیعود بجذوره إلی الجهل والتخلف. من هنا فإن تشجیع القرآن لنا علی طلب العلوم من جهة، وذمه للجاهلین، من جهة أخری، یثبت محوریة العلم والتفکیر فی

ص:157

هدایة الإنسان. إن نعمة العقل والعلم من النعم المعدودة التی تمّ التأکید علیها من قبل الباری تعالی کثیراً، کما أن الجهل من الموارد التی ذمّها الله، وحذر الإنسان من الوقوع والسقوط فی ظلماتها. وإن أهمیة النتائج المترتبة علی العلم والدور الخطیر الذی یلعبه هذا العنصر فی ارتقاء قمم الهدایة، یعکس مدی أهمیته وحساسیته. إن الله سبحانه یعتبر جوهر العلم زینة للإنسان السالک فی طریق الرشد والهدایة، ویمتدح العلماء لذلک فحسب، بل یدعو جمیع الناس إلی اجتناب الجهل والامتناع عن التبعیة للجاهلین وإطاعة أوامرهم. قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم:

- فَلا تَسْئَلْنِ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّی أَعِظُکَ أَنْ تَکُونَ مِنَ الْجاهِلِینَ * قالَ رَبِّ إِنِّی أَعُوذُ بِکَ أَنْ أَسْئَلَکَ ما لَیْسَ لِی بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِی وَ تَرْحَمْنِی أَکُنْ مِنَ الْخاسِرِینَ1 .

- وَ لا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ کُلُّ أُولئِکَ کانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً2 .

- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِیما لَکُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِیما لَیْسَ لَکُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللّهُ یَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ3 .

- فَاسْتَقِیما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِیلَ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ4 .

- ثُمَّ جَعَلْناکَ عَلی شَرِیعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ5 .

ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالی یحظر علی الناس أن یمارسوا التبعیة العمیاء للآخرین، ویری أن عاقبة الذین لا ینتهجون سبیل العلم والمعرفة، هی

ص:158

الضلال والخسران والسقوط فی مغبة أعمالهم الجاهلة. إن المیول النفسیة التی تحث الفرد علی عدم الاستفادة من أداة العلم والمعرفة، تؤدی به إلی الضلال والضیاع. إن التضاد والاختلاف القائم بین العلم والجهل ناشئ عن النتائج المترتبة علی هاتین المقولتین؛ لأنّ العلم والمعرفة یؤدیان بالإنسان إلی الهدایة ویدعوانه إلی طلب العلی، بینما الجهل بعکس ذلک یعدّ أرضیة للمیول النفسیة التی تقوّی عند الإنسان التطلعات السطحیة والدنیویة المنحطة. قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ إِنَّ کَثِیراً لَیُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَیْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِینَ1 .

- قَدْ خَسِرَ الَّذِینَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَیْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِراءً عَلَی اللّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما کانُوا مُهْتَدِینَ2 .

- بَلِ اتَّبَعَ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَیْرِ عِلْمٍ فَمَنْ یَهْدِی مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِینَ3 .

- کَذلِکَ یَطْبَعُ اللّهُ عَلی قُلُوبِ الَّذِینَ لا یَعْلَمُونَ4 .

وعلیه فإن أساس ذمّ الجهل وتقریع الجاهلین یکمن فی تحریر النفس من قیود الشهوات النفسیة، وتخلیصها من العذاب الإلهی. إن الجهل والتخبط فی مستنقع الجهالة یمهّد الأرضیة للافتراء علی الله سبحانه وتعالی ونسبة الکذب إلیه (والعیاذ بالله). قال تعالی:

- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَری عَلَی اللّهِ کَذِباً لِیُضِلَّ النّاسَ بِغَیْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ5 .

ص:159

- وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَیْها آباءَنا وَ اللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا یَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَی اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ1 .

- قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا فِی الْحَیاةِ الدُّنْیا خالِصَةً یَوْمَ الْقِیامَةِ کَذلِکَ نُفَصِّلُ الْآیاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ2 .

وبطبیعة الحال فإن العلم والوعی یُعتبران شرطین ضروریین ولازمین، ولکنهما لیسا کافیین. وأنّ العقل والرؤیة الإنسانیة هما اللذان یمکنهما تحدید الخیارات المناسبة من خلال توظیف الإمکانات والأدوات العلمیة والحصول علی مزید من الوعی والعلم والمعرفة. وهناک دلالات کثیرة فی القرآن الکریم تشیر إلی التضاد القائم - فی الکثیر من الأحیان - بین العمل وبین العلم والنظر. وذلک إذ یقول الله سبحانه وتعالی:

- أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ یُؤْمِنُوا لَکُمْ وَ قَدْ کانَ فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَسْمَعُونَ کَلامَ اللّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ3 .

- یا أَهْلَ الْکِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَکْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ4 .

- وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَکْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ5 .

- أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَیْهِمْ ما هُمْ مِنْکُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ یَحْلِفُونَ عَلَی الْکَذِبِ وَ هُمْ یَعْلَمُونَ6 .

إن أداء الإنسان وسلوکه وعمله إنما یکون تابعاً للعلم والوعی والمعرفة

ص:160

والأسس النظریة التی یذهب إلیها، إذا کانت واقعة تحت إشراف العقل والتفکیر، وإلّا فإن العلم والوعی لیس لهما من دور غیر إیجاد الأرضیة المناسبة للتقدّم والرقی والتکامل.

خصائص العلوم وهدایة الإنسان: بعدما ذکرنا أهمیة اکتساب العلم وتحصیل المعرفة، یطرح هذا التساؤل نفسه: هل یکون طلب کل علم وأیّ نوع من أنواع المعرفة أمراً مطلوباً فی الدین؟

للإجابة عن هذا التساؤل، من الأفضل أن ننظر إلی العلم بوصفه أداة وآلة. أنّ المطالب العلمیة والمعارف النظریة فی إطار الحرکة الإنسانیة بوصفها أداة ووسیلة تشتمل علی وظیفة وآلیة مختلفة عن آلیة ذلک الشیء الذی ینظر إلیه بوصفه هدفاً وغایة للحرکة الإنسانیة. ولا شکّ فی أنّ الحصول علی العلم والوعی من المعارف النظریة والتطور العلمی لا یعد هدفاً وغایة نهائیة، وإنّما هو هدف وسیط، وکما تقدّم أن ذکرنا بشأن بیان خصائص الأهداف الوسیطة، فإن سمة هذا النوع من الأهداف یکمن فی کونه وسیلة وآلة. وعلیه یجب أن یتناسب والهدف المحدد له، شأنه فی ذلک شأن جمیع الوسائل والأدوات الأخری.

إن العلم والمعرفة بوصفهما وسیلتان وأداتان إنما یمکن لهما مواکبتنا فی مسار التقدّم والهدایة، إذا کانتا،

أولاً: قد تمّ توظیفهما فی إطار القیَم، وأن یقعان تحت سیطرة وإشراف الهدف النهائی المتمثل بالقرب من الله سبحانه وتعالی.

وثانیاً: أن یعملان بوصفهما وسیلتان وأداتان علی تلبیة حاجة الإنسان فی الوصول إلی التقرّب من الله. ولأهمیة هذا الموضوع نشیر فیما یلی إلی الخصائص التی إذا اشتملت علیها العلوم فإنها ستأخذ بأیدینا إلی الهدف النهائی.

- تحصیل العلوم من أجل مرضاة الله. إن المعرفة والعلم مثل کل الأدوات والوسائل الأخری یمکن توظیفهما فی اتجاهین. وإنّ دافعنا إلی توظیف

ص:161

هاتین الوسیلتین هو الذی یحدد اتجاه هذه العملیة التوظیفیة. وبعبارة أخری: کما یمکن توظیف هاتین الوسیلتین من أجل الارتقاء والصعود إلی قمم الهدایة والصلاح، یمکن أیضاً توظیفهما فی طریق الضلال والانحراف عن طریق التکامل الإنسانی، فالعلم وسیلة یمکن لکل شخص أن یعمل علی توظیفها فی إطار ما یصبو له. وإن هذه الوسیلة فی الحالة الاعتیادیة تقف علی الحیاد، فلا تحتوی علی أیّ قیمة أو أهمیة. ولکنها إذا وقعت تحت تصرّف الإنسان الصالح، ستکون وسیلة للتقرّب من الله، وأما إذا عمد إنسان غیر صالح إلی توظیفها، فإنها ستکون وسیلة لتلبیة الأهواء والنزوات الحیوانیة، والاستجابة للمیول المتدنیة التی توفر الأرضیة للضیاع والضلال والانحراف.

وعلی الرغم من وقوف العلم من الناحیة الأخلاقیة علی الحیاد، إلّا أنه لا مندوحة من توظیفه إما فی الناحیة الإیجابیة أو السلبیة. ومن هنا فإن العلم إنما یمکنه إیصالنا إلی القرب من الله، ویکون وسیلة لعروجنا وتکاملنا، إذا کان الدافع منه إلهیاً، وأن تکون الوظیفة علی الدوام واقعة فی إطار القرب من الله سبحانه وتعالی. وقد روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) فی هذا الشأن أنه قال:

مَن تَعلّمَ للهِ، وعَمِلَ للهِ، وعَلَّمَ للهِ، ُدعیَ فی ملکوتِ السماواتِ عظیماً؛ فقیل: تعلّمَ للهِ وعَمِلَ للهِ وعَلَّمَ للهِ.(1)

وکما تقدم أن ذکرنا فی بحث خصائص الهدف النهائی، فإنّ الوصول إلی التقرب من الله یمکن أن یتحقق حتی من خلال القیام بأبسط الأعمال أیضاً. فإن توظیف العلم واستثماره بوصفه هدفاً وسیطاً إذا وقع فی دائرة التقرّب من الله، سیکون مشتملاً علی آلیة ذات قیمة أخلاقیة، وسوف یصبّ فی صالح الهدایة والتکامل الإنسانی، وإلّا فسوف یترتب علیه الکثیر من التبعات السلبیة.

ص:162


1- (1)) بحار الأنوار: 27/2.

- أن یکون العلم نافعاً وتنمویاً وداعیاً إلی التکامل: إنّ العلم النافع والمفید من وجهة نظر الإسلام هو الذی یشتمل علی الصفات الآتیة:

أ) الإخلاص والابتعاد عن الشوائب: بمعنی: أن لا یکون مشوباً بالأهواء والرغبات المادیة. فقد روی عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنه قال:

مَن أخَذَ العِلمَ مِن أهلهِ وعَمِلَ بهِ نَجا، ومَن أرادَ بهِ الدُنیا فَهُوَ حَظُّهُ.(1)

أو أن لا تکون النزعات الدنیویة من قبیل: کسب المال والمقام هی المحور فی التربیة والتعلیم. روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال:

مَن غَلَبَ عِلمُهُ هَواهُ، فذَلِکَ عِلمٌ نافِعٌ.(2)

ب) أن یؤدی إلی العمل. فإن العلم إنما یکون منتجاً وتترتب علیه الآثار الإیجابیة، إذا تمّ العمل بمضمونه ومحتواه، وإلّا فإنّ العلم إذا ظلّ حبیس الذهن ولم یتجلّ علی الأفعال والأعمال، لن یکون مفیداً للإنسان ولا نافعاً للمجتمع. وعلیه فإن التنمیة العلمیة رهینة بالعمل بمضمون العلم، وإدخاله وتطبیقه علی الصعید الخارجی، وعدم حبسه ضمن المنظومة الذهنیة والفکریة، فقد روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال:

العِلمُ رُشدٌ لِمَن عَمِلَ بهِ.(3) إن تطبیق العلوم والفنون علی الواقع العملی من

خلال السلوک الفردی والاجتماعی - وبشکل عام فی جمیع المجالات التی تشتمل علی إمکانیة تظهیر العلم - لن تؤدی إلی ارتفاع المستوی العلمی فحسب، بل إنها تخلق إمکانیة لتقییم واختبار المعطیات العلمیة وتنمیتها وتطویرها وانتشارها فی المرحلة العملیة أیضاً، وفی ذلک روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال: (أنفَعُ العِلمِ ما عُمِلَ بهِ)(4).

ص:163


1- (1)) المصدر: 34.
2- (2)) غرر الحکم ودرر الکلم.
3- (3)) المصدر.
4- (4)) المصدر.

ب) المواد التعلیمیة: إنّ البحث عن العلم النافع والعلم غیر النافع بالالتفات إلی أن من بین خصائص العلم النافع هو أن یقوم علی تلبیة حاجات الإنسان ومطالبه، یرد السؤال: ما هی العلوم التی تشتمل علی هذه الخصوصیة؟ وهل هناک من وجهة نظر الإسلام معیار خاص لتحصیل العلوم؟ إنّ الذی یجب أخذه بنظر الاعتبار فی معرض الإجابة عن هذا السؤال، هو أنّ کلّ هدف وسیط - بما فی ذلک تحصیل العلم والمعرفة - قابل للتفسیر والتبریر فی ضوء الهدف الغائی والنهائی. وعلی هذا الأساس فإن العلوم المطلوبة للدین هی تلک التی تدخل فی إطار مساعدة الإنسان علی التقرّب من الله سبحانه وتعالی. ومن ناحیة أخری، فإنّ نفس العلم أوذات المعرفة التی تقع متعلقاً لإرادتنا، یجب أیضاً أن تکون لها القابلیة علی اجتذاب ما یؤدی إلی هذا العامل المتمثل بالقرب من الله (عزّ وجل). وبعبارة أخری: إنّ طلب العلم إنّما یکون من الأهداف الوسیطة إذا کان وراء تحصیله دافع إلهی. هذا أولاً. وثانیاً أن یکون متعلّق طلب العلم - وهو العلم والمعرفة نفسها - من العلوم التی یمکنها أن توفر مستلزمات الوصول إلی الهدف النهائی. وهنا یأتی هذا التساؤل: هل یمکن لجمیع العلوم من وجهة نظر الإسلام أن تؤدی إلی التقرّب من الله وأن تکون ذات حافز إلهی؟ وهل هناک انتقائیة من وجهة نظر الإسلام بین العلوم والمعارف من هذه الناحیة؟ یجب القول فی الجواب: بشکل عام هناک فی منطق الإسلام معیار واحد لانتقاء العلوم والمواد التعلیمیة، ویکمن ذلک المعیار فی تلبیة حاجات الإنسان وحلّ مشاکله. فی هذه الرؤیة تعتبر العلوم والمعارف والفنون والمهارات التی تعمل بنحو من الأنحاء علی تلبیة الحاجات الأساسیة والجوهریة للإنسان، وتساعده علی التقرّب من الله (عزّوجل)، أموراً ضروریة. وبطبیعة الحال فإن هذه الضرورة تختلف باختلاف درجة اهتمام تلک المادة التعلیمیة وذلک العلم الخاص بحاجة الإنسان وقدرته علی رفع تلک الحاجة وتلبیتها، وفی بعض الأحیان تکون تلک الضرورة فی

ص:164

بعض العلوم والمواد التعلیمیة من القوّة بحیث إنها تدعو کافة الأفراد إلی تحصیلها، بحیث أن قیام البعض بتحصیلها لا یکون کافیاً فی إسقاط ضرورة التحصیل عن الآخرین. وأما الأنواع الأخری من العلوم والمواد التعلیمیة فلا تحضی بمثل هذه الأهمیة الخاصة، لیکون جمیع الناس مضطرین إلی استیفائها والسعی إلی تحصیلها، بل یکفی تحصیل البعض فی إسقاط ضرورتها عن الآخرین. وإن النوع الأول من هذه العلوم ینظر إلی الجهات الشخصیة والروحیة من الإنسان. فی حین أن النوع الثانی ینظر إلی الأبعاد الوجودیة الأخری من الإنسان، من قبیل: الرفاه والأمن الاجتماعی. وعلیه فمن وجهة نظر الإسلام یکون تحصیل العلوم المرتبطة بنحوٍ من الأنحاء بشخصیة الإنسان وحالاته وصفاته وبشکل عام بخصائصه الروحیة والنفسیة، واجباً عینیاً، فیجب علی جمیع الأفراد أن یستوعبوا هذا النوع من العلوم، وان لا یتهاونوا أو یتقاعسوا فی تحصیله.(1) وإن تلک العلوم عبارة عن:

أ) المعارف العقائدیة. إنّ المراد من المعارف العقائدیة هو معرفة الإنسان بمبدئه ومنتهاه، وهو الذی یشتمل علی معرفة الله ومعرفة النبیّ والمعاد. إنّ هذه المعارف تساعد الفرد علی التدرّج عبر المراحل التالیة. وکما تقدم أن ذکرنا فإنه من دون الحصول علی المعلومات العقائدیة لا یمکن العمل علی بناء منظومة أخلاقیة وتربویة. من هنا فإن معرفة الله، والتعرّف علی الأصول العقائدیة یُعدّان أساساً لبنیتنا وترکیبتنا الشخصیة.

ص:165


1- (1)) من المهم التنویه بهذه النقطة وهی أن من بین المصادر الهامّة لهذه العلوم هو القرآن الکریم والأحادیث والروایات الشریفة. من هنا فإن فهم القرآن والأحادیث ومعرفة أصولها وقواعدها العقائدیة والأخلاقیة، وکذلک الفقهیة من خلال هذین المصدرین، یوجب أن نستفید من الأسالیب التخصصیة الضروریة بما یتناسب وهذه العلوم. إلا أن القدر المتیقن هو أن تحصیل المعارف الأولیة من النصوص الدینیة لمعرفة أصل الدین واجب وضروری بالنسبة إلی کل مسلم ومسلمة.

ب) المعارف الأخلاقیة والتربویة. إنّ التعرف علی القیَم الأخلاقیة والمعارف التربویة والعمل بها وتطبیقها یؤدی بالإنسان إلی تجنب الأمور التی تکون سبباً فی ضیاعه واضمحلاله علی المستوی الشخصی والروحی، وتدفعه إلی التحلی بالسجایا والفضائل الأخلاقیة. روی عن الإمام موسی الکاظم (علیه السلام) أنه قال:

ألزَمُ العِلمِ لکَ، ما دَلَّکَ علی صَلاحِ قَلِبکَ، وأظهَر لکَ فَسادَهُ.(1)

ج) الأحکام العملیة والفقهیة. إنّ من بین المعارف الضروریة الأخری هو ضرورة تعلم وتحصیل المعرفة بالقرارات والأحکام الإسلامیة. فإن القیام بالفرائض والعبادات من قبیل: الصلاة والصوم والحجّ، لا شک أنها تترک آثاراً إیجابیة لا یمکن إنکارها علی تکوین شخصیتنا. إن لسلوکنا تجاه الخالق والمجتمع أسلوباً خاصاً. وإن هذا الأسلوب إنما یکون مثمراً ومنتجاً إذا کان منبثقاً عن الدین؛ لأن الله هو وحده القادر - بسبب معرفته الکاملة بأبعاد الإنسان - علی وضع القرارات والقوانین التی تؤدی إلی سعادته وصلاحه. وعلی هذا الأساس یجب علینا - من أجل رعایة حقوق الآخرین والحفاظ علی أنفسنا من السقوط والضیاع - أن نتعرّف علی المسائل الفقهیة والأحکام العملیة سواء فی البعد العبادی أو البعد الاجتماعی، وأن نطّلع علی سلسلة المسؤولیات والوظائف الدینیة الأولیة التی اتضحت ضرورتها من قبل الدین نفسه.

أما النوع الثانی من المعارف فذو صبغة ثقافیة وصحیة واقتصادیة وصناعیة وسیاسیة وما شابه ذلک، وهی تلک العلوم التی تعود إلی الحاجات المشترکة لنوع الإنسان ومطالبه الیومیة، وهی غیر ناظرة إلی النواحی الفردیة والشخصیة. وإن رفع وتلبیة هذه المطالب بحاجة إلی عامل خارج عن وجود الإنسان. فهو مضطر لکی یبقی علی قید الحیاة، إلی تعلم أسالیب استثمار الطبیعة ومصادرها، وأن یؤمّن ما یحتاج إلیه من خلال توظیف العلوم والفنون

ص:166


1- (1)) بحار الأنوار: 220/1.

الطبیعیة. وهکذا مسائل السلامة والصحّة ومکافحة الأمراض والأوبئة، وهکذا الأمور التی تعود بنحو من الأنحاء إلی الثقافة والمجتمع (العلوم الإنسانیة)، هی بأجمعها من معطیات العلوم البشریة التی تجعل الحیاة أفضل وأیسر، وتعلم الإنسان أسالیب الحیاة والمعیشة الأفضل. وإن رفع المشاکل وتجاوز عقبات الکوارث الطبیعیة والحصول علی الأمن والرخاء فی الحیاة رهن بتقدم وتطوُّر العلم والمعرفة.

ومن وجهة نظر الإسلام یعدّ تحصیل هذا النوع من العلوم - لما توفّره من أرضیة ملائمة ومناسبة لتنمیة الإنسان وتکامله - أمراً ضروریاً. فقد روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال مخاطباً المُفضَّل:

أذکُر یا مُفضَّل فیما أَعطی الإنسانُ عِلمَهُ، فإنهُ أُعطِیَ جَمیعُ ما فیهِ صَلاحُ دینهِ ودُنیاهُ، کذلِکَ أُعطِیَ ما فیهِ صَلاحُ دُنیاهُ، کالزراعَةِ والغَراسِ، واستخراجِ الأرضینَ، واقتناءِ الأغنامِ والأنعام، واستنباطِ المیاهِ، ومعرفَةِ العَقاقیرِ التی یُستَشفی بها مِن ضُروبِ الأسقامِ والمَعادِنِ التی یُستَخرَجُ منها أنواعُ الجَواهرِ، ورُکوب السُفنِ، والغوصِ فی البحرِ وضُروبِ الخیلِ، وصیدِ الوَحشِ والطَیرِ والحِیتانِ، والتَصرُّفِ فی الصناعاتِ ووُجوهِ المَتاجرَ والمَکاسِبِ، وغیرِ ذلِکَ لِما یَطولُ شَرحُه ویَکثُرُ تَعدادُهُ مِمّا فیهِ صَلاحّ أَمرِهِ فی هذهِ الدارِ.(1)

إن معارف من هذا القبیل لا تتعاطی بشکل مباشر مع المنظومة الشخصیة وهویة الإنسان، وإنما فی الواقع هی أدوات للوصول إلی المراحل الأعلی، بمعنی أنّها تعدّ الأرضیة للحصول علی المراحل التی تعمل بشکل مباشر علی بناء شخصیتنا. ومن هنا فإنّه من وجهة نظر الإسلام یکون تحصیل هذه العلوم واجباً کفائیاً، بمعنی أنّه لا یجب علی جمیع الأفراد السعی إلی تحصیله، وإن تخصص البعض فی هذا النوع من العلوم یسقط الوجوب عن الآخرین،

ص:167


1- (1)) المصدر: 83/3-84.

ویرفع حاجتهم إلیها. هذا بالإضافة إلی أنّ هذه العلوم من الکثرة والاتساع بحیث لا یمکن لشخص واحد أن یجهد من أجل تحصیلها.

4. السموّ الفکری

إن التنمیة والازدهار والتکامل العقلی ضروری من أجل إقامة المنظومة الشخصیة والاحتراز عن الانحرافات التی یُبتلی بها الإنسان، وکذلک توسیع نطاق المعرفة الحسیّة فی إطار تحصیل العلوم والفنون. إلّا أن المسألة التی یتمّ طرحها هی: هل هناک إمکانیة لأن یحصل الإنسان علی معارف ومعلومات من خارج حدود العقل والحس، أم لا؟ إن طرق وأدوات حصول المعرفة - من وجهة نظر الإسلام - لا تنحصر بهاتین الأداتین المعرفیتین، وإن الکثیر من المعارف والعلوم البشریة تعود بجذورها إلی عناصر وعوامل غیر العقل والحس، من قبیل: المعارف التی یتم الحصول علیها من طریق الوحی والإلهام والشهود. وإن عدم الحصول علی هذه المعارف یؤدی بنا إلی الحرمان من المقدمات العلمیة الضروریة من أجل الوصول إلی الهدف الغائی والنهائی. فمن وجهة نظر الإسلام، إنّ المعارف العقلیة والحسیة رغم کونها من أجزاء المعارف الإنسانیة التی لا یمکن إقصاؤها أو تجاوزها، ولکن لا یمکن الوصول إلی جوهر السعادة والقرب من الله - کما هو موجود فی التعالیم السماویة - من خلال الاقتصار علی هذین المصدرین. إن محدودیة العقل والحس، وعدم تمکنهما من إدراک بعض الأمور تعیق رقیّ وسموّ الفکر البشری؛ وعلیه فإن اللجوء إلی أداة غیر العقل والحسّ من أجل الصعود والارتقاء نحو المراحل الأعلی التی لا یمکن تحقیقها من خلال هاتین الأداتین یُعدّ أمراً ضروریاً. إن للعلوم والمعارف المختلفة جهة إنتاجیة. بمعنی أن کل اکتشاف ومعلومة جدیدة تثیر أمواجاً متلاطمة فی محیط المعارف

ص:168

الإنسانیة، وتؤدّی إلی انتعاش وازدهار المعارف الأخری. کما تلعب الأدوات المعرفیة الأخری من قبیل: الوحی والإلهام والشهود، أدواراً إنتاجیة بالنسبة إلی سائر العناصر والعوامل الذهنیة الأخری أیضاً، وهی تؤدی فی النتیجة إلی تکاملها وسموّها وتعالیها.

إنّ من بین عناصر تکامل الفکر الإنسانی وتنمیة مواقفه وآرائه، هی التعالیم المنبثقة عن الوحی السماوی. وإن دور الوحی فی الهدایة یکمن فی تعریف الإنسان بالأهداف المنشودة لخالقه. إن التنمیة والتکامل الإنسانی یوجب علیه أن یطلع ویتعرّف علی دقائق وجزئیات خلق العالم بما یتناسب مع واقعه الثقافی. وإن وظیفة الأنبیاء (علیه السلام) - بوصفهم وسطاء بین الإنسان وخالقه - تکمن فی تعریف الفرد وتوعیته فی الأمور التی تؤدی به إلی السعادة. وإن هذه المعارف یتمّ عرضها من قبل الله (تعالی) علی الإنسان فی إطار الوحی. وإن للوحی - الذی هو لغة الهدایة ومن أعمق وأرقی منافذ المعارف الإنسانیة - آلیتین، وهما:

أ) الآلیة الأُولی: تعمل علی إیقاظ الإنسان والتعرّف علی نفسه وإدراکها علی حقیقتها، کی لا یکون متهاوناً فیما یتعلق باقتضاءاته الفطریة. وفی الحقیقة فإن الهدف الرئیس والجوهری للوحی یقوم علی تذکیر الإنسان بالمعارف التی تمّ إیداعها فی وجوده. إن شرارة الوحی تشعل بیدر المعارف الفطریة والکامنة فی وجود الإنسان، وفی ذلک فإن الاهتداء إلی الهدایة یعود لصالح السالک فی طریق التقرّب من الله سبحانه وتعالی. ولذلک نجد الله یقول:

- إِنْ هُوَ إِلاّ ذِکْرٌ لِلْعالَمِینَ1 .

- وَ لَقَدْ یَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّکْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّکِرٍ2 .

ص:169

ب) أما الآلیة الثانیة: لعمل الوحی فتکمن فی أنه یقوم بتزوید الإنسان بالمعارف والتعالیم الجدیدة التی لم یکن بإمکانه الحصول علیها من طریق العقل والحس، وفی ذلک قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- کَما أَرْسَلْنا فِیکُمْ رَسُولاً مِنْکُمْ یَتْلُوا عَلَیْکُمْ آیاتِنا وَ یُزَکِّیکُمْ وَ یُعَلِّمُکُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ یُعَلِّمُکُمْ ما لَمْ تَکُونُوا تَعْلَمُونَ1 .

- فَاذْکُرُوا اللّهَ کَما عَلَّمَکُمْ ما لَمْ تَکُونُوا تَعْلَمُونَ2 .

بحیث لو أنّ الله لم یبیّن هذه المعارف للإنسان، لم یکن هناک من طریق آخر للتعرف علیها. ومن بین تلک الموارد: خلود الإنسان، والأحکام العملیة والفقهیة، وتاریخ الأمم السالفة، وکذلک العوالم الأخری مثل عالم الآخرة والملائکة، وما إلی ذلک.

ویمکن تقسیم المعارف من ناحیة تفاعلها المتبادل مع المیول القلبیة وتأثرها بها إلی مجموعتین:

هناک مجموعة من المعارف لیس لنتائجها أیّ ارتباط بالمیول والرغبات الإنسانیة، من قبیل: القوانین الریاضیة والکثیر من القوانین العلمیة الأخری التی لا تأثیر لإثباتها ونفیها علی الدوافع والمیول الأخلاقیة لدی الانسان، کما لا یشکل هذا الدافع الأخلاقی عقبة أمام تقدّمه العلمی أو أن یؤدی إلی التسریع من وتیرته. وبعبارة أخری: إن هذا النوع من العلوم حیث لا یشتمل علی اتجاه أخلاقی وعدم تعارضه مع القیَم التی یؤمن بها الفرد، فإنه یکون حیادیاً ولا یحتوی علی أی عنصر کابح أو محرّک فی هذا الاتجاه.

وهناک من المعارف الأخری مجموعة تنظر إلی الأبعاد الروحیة والمعنویة لدی الأفراد. فهی معلومات یؤدی التعرف علیها إلی هدایة الإنسان،

ص:170

کما فی المقابل یفضی الجهل بها إلی وقوع الفرد فی الضلال والضیاع، ولا یمکن أن یکون لها موقف حیادی تجاه مصیر الإنسان. وفیما یتعلق بالقسم الأخیر حیث یتم طرح مسألة الدوافع والمیول والأحاسیس وتأثیرها علی المعارف العقائدیة والنظریة، یمکن تلخیص التأثیر المذکور ضمن ثلاث مراحل علی النحو الآتی:

1. إن المیول والرغبات الفردیة هی التی تشکل قاعدة وأساساً للعقائد والأفکار لدی الفرد. وفی مثل هذه الموارد إنما یتقبل الشخص آراء الآخرین وأفکارهم إذا کانت متناغمة ومنسجمة مع رغباته وتطلعاته النفسیة. وعلیه لا یمکن لنا أن ننکر دور الدوافع والعلاقات والحب والبغض الشخصی فی قبول أو رفض المعارف النظریة.

2. إن الکثیر من الأمور التی یقبلها الإنسان بدافع من هذه المیول القلبیة والنفسیة الخاصّة، إما أن تطالها ید النسیان، أو أن تستقر فی دائرة المعارف الإنسانیة، ولربما کانت هذه المقبولات والمعلومات من بین المعارف التی تلعب دوراً حاسماً وحیویاً فی مصیر الإنسان.

3. إنّ من بین موارد تأثیر المیول القلبیة علی الأسس الفکریة، هی أنّ الإنسان أحیاناً - ومن خلال الالتفات إلی دوافعه ومیوله الوجودیة الخاصة، والطهارة القلبیة - یغدو علی استعداد لتحصیل المعلومات الجدیدة. وإن هذه المطالب سواء انبثقت من الداخل علی شکل الشهود الباطنی، أو من الخارج علی شکل الإلهام، معلولة لشیء واحد وهو طهارة القلب وتهذیبه وتنظیم الدوافع والمیول والرغبات الداخلیة.

وفی جمیع هذه المراحل المذکورة یکون لعنصر الصفاء وطهارة القلب من الذنوب والمعاصی والمیول الشریرة، تأثیر لا یمکن إنکاره علی هدایتنا وتقدّمنا. مع فارق أننا فی کل مرحلة نحصل من الهدایة علی ما یتناسب وتلک

ص:171

المرحلة. ففی المرحلة الأولی یکون الإنسان من خلال تطهیر قلبه وصفاء سریرته مستعداً لاستقبال کلام الله وتجنّب العناد والتمرّد والتکبّر. وفی المرحلة الثانیة یعمل علی هدم الطبقات المتراکمة بفعل الدوافع والمیول المتدنیة، وإزالتها عن أعماق وجوده، حتی تظهر له النقاط المشرقة والمضیئة من فطرته، وکذلک الدوافع المدفونة تحت هذه الطبقات. وفی المرحلة الأخیرة یؤدی صفاء الروح وصقلها إلی استعدادها لتقبّل الفیض والعلم والمعرفة من طریق الشهود الباطنی أو الإلهام، وفی ذلک یقول الله تبارک وتعالی: وَ کَذلِکَ نُرِی إِبْراهِیمَ مَلَکُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِیَکُونَ مِنَ الْمُوقِنِینَ1 . وعلیه فمن وجهة نظر الإسلام لو تمکن الإنسان من المحافظة علی طهره، ولم یتعرّض للأزمات الأخلاقیة، والتعلقات غیر المعقولة، فإنّ أرضیة التقدم العقلی والفکری ستکون متوفرة فی وجوده وکیانه، قال الله عزّ وجل: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ یَجْعَلْ لَکُمْ فُرْقاناً وَ یُکَفِّرْ عَنْکُمْ سَیِّئاتِکُمْ وَ یَغْفِرْ لَکُمْ وَ اللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِیمِ2 .

5. معرفة النفس
اشارة

ما هو المراد من معرفة النفس؟ وما هی النتائج المترتبة علیها؟ وهل یشمل مفهوم النفس جمیع الأبعاد الوجودیة للإنسان أم أنه یقتصر علی بعضها فقط؟ وهل تحصل معرفة النفس من خلال قراءة ودراسة وجود النفس فقط أم هناک عوامل أخری یجب أن تضاف إلی ذلک أیضاً؟

إنّ من بین الأهداف الوسیطة فی سلسلة الأهداف التربویة فی الإسلام، معرفة النفس. إنّ معرفة النفس، مثل سائر الموارد الأخری (معرفة الله،

ص:172

واکتساب العلوم والمعارف وما إلی ذلک) لیست له صبغة نظریة وذهنیة فحسب، بل إنّ مساحة هذا النوع من المعارف تمتدّ لمقام العمل، یخاصةٍ العمل التربوی. إن محور البحث فی هذا الکتاب هو العمل التربوی الذی یتجه نحو الأهداف التربویة، ومن هنا فحتی البحوث المعرفیة تتلفع بصبغة عملیة، وتنطلق من الفضاء المفهومی البحت، لتدخل فی دائرة العمل. وعلی هذا الأساس فإنّ الهدف من وراء طرح بحث معرفة النفس هنا، لیس هو مجرد الحصول علی نوع من المعرفة، وإنّما المراد هنا هو المعرفة المقرونة بالتطبیق. وبعد هذا الوصف فإن لحاظ الهدف العملی والاهتمام بالمقصد الغائی من بحث معرفة النفس، یترک تأثیراً لا یمکن إنکاره فی بلورته وتکوینه. إن البحث عن مفهوم معرفة النفس - وبخاصةٍ ماهیة النفس - یرتبط بالهدف المترتّب علی معرفة النفس. وبعبارة أخری: إن تحدید موقع ومساحة معرفة النفس من الناحیة المفهومیة مرتبط بالهدف الذی نحصل علیه من خلال هذا النوع من المعرفة فی المسار التربوی. ولذلک سنبدأ البحث من الهدف من معرفة النفس. وبشکل عام یمکن القول: إن الهدف من معرفة النفس هو بناؤها وتنمیتها فی المسار التربوی. إن معرفة الأبعاد الوجودیة مقدمة لبناء النفس، ومن دون معرفة ما هو الموضوع التربوی (أی الإنسان) لا توجد هناک إمکانیة لإصدار الوصفة التربویة الناجعة.

إن ضرورة بناء النفس وتنمیتها فی حیاة الإنسان تبلغ حدّاً بحیث لم یقتصر جعلها محوراً للتعمقات العقلیة والنظریة علی الأدیان فحسب، بل ذهبت إلی ذلک أکثر المذاهب الفلسفیة أیضاً. ومن ناحیة أخری فإن معرفة النفس هی بمنزلة القنطرة الموصلة إلی بناء النفس، وحیث إنها تستوجب وعی الموضوع التربوی، فإنها تُعَدُّ ضروریة لبناء النفس. وإن المراد - فی النظام التربوی - من أهمیة معرفة النفس، هو الحصول علی هذا الهدف

ص:173

التربوی ألا وهو بناء النفس وتربیتها. ولو أنّ بناء النفس لم یتمّ طرحه فی دائرة وجود الإنسان، لما حصلت معرفة النفس علی تلک الأهمیة الکبیرة والخاصة؛ إذ - فی هذه الصورة - لا تکون هناک ثمار عملیة یمکن أن تترتب علی معرفة الأبعاد الوجودیة للإنسان فی الفضاء التربوی، وعلی الرغم من ترتّب بعض النتائج فی الأبعاد النظریة علی کل حال - من قبیل أنّ معرفة قوّة النفس وضعفها وإدراک بدایتها ومنتهاها، تؤدّی إلی معرفة الله وإدراک قدرته وحکمته - إلا أن هذه النتیجة تبقی حبیسة الذهن والتفکیر، ولا تفضی إلی العمل التربوی. وبعبارة أخری: إنّ النتائج المترتبة علی معرفة النفس یتم طرحها علی المساحتین النظریة والعملیة، ولیس الأمر أن تنحصر معرفة النفس علی بنائها وتوجیهها إلی ناحیة العمل التربوی فحسب، بل إنها - بالإضافة إلی ذلک - تشتمل علی البعد المعرفی المتمثل بمعرفة الله سبحانه وتعالی أیضاً. ومن هنا فقد روی عن النبی الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (مَنِ عَرَفَ نَفسَهُ فقَد عَرَفَ رَبَّهُ)(1). إلا أننا لو جرّدنا منها الخاصیّة التربویة ونتیجة العمل المترتب علی المعرفة النفسیة، فإن أهمیتها وفائدتها سوف تکون منحصرة بالبعد المعرفی البحت، ولا شک فی أن العلم والوعی الصرف - حتی لو کان متعلقه وموضوعه هو الله - إذا لم یؤد إلی العمل، فإنه لن تترتب علیه أیّ فائدة، بل سیکون وبالاً علی العالِم أیضاً، لأن العالِم من دون عمل، سیکون مقصراً أکثر من الشخص الجاهل الذی لا یعمل.

ومن هنا یمکن القول: إنّ الهدف من معرفة النفس فی النظام التربوی فی الإسلام یکمن فی شیئین، وهما: معرفة الله، وبناء النفس. والمراد من معرفة الله لیس مجرّد المعرفة النظریة الصرفة، بل هی تلک التی تکون مقدمة لبناء

ص:174


1- (1)) العلامة محمد باقر المجلسی، بحار الأنوار: 32/2.

النفس. فإن الإنسان فی إطار الدین إنما یتمکن من بناء نفسه إذا کان قد تعرّف إلی ربه. وعلی هذا الأساس إذا أردنا أن ندرس المنظومة الطولیة فی هذا المسار الذی یبدأ من معرفة النفس وینتهی إلی بناء النفس، سندرک أن معرفة النفس إنما هی مقدمة لمعرفة الله، وأول ما یترتب علیها من النتائج، وکذلک فإن بناء النفس لا یتأتی إلا من طریق معرفة الله؛ فإن معرفة الله بدورها تشکل مقدمة لبناء النفس. وعلیه فإنّ بناء النفس رهین بمعرفة الله، وأنّ معرفة الله لا یمکن لها أن تفسّر أو تبیّن إلّا فی ضوء معرفة الإنسان لنفسه.

ویمکن بیان المسار المؤدی إلی بناء النفس علی النحو الآتی:

معرفة النفس.... معرفة الله.... بناء النفس.

معرفة النفس مقدمة إلی معرفة الله:

إن إدراک الإنسان لأبعاده الشخصیة یؤدی إلی کسب المعلومات عن أمور هی خارجة عن وجوده وفی الوقت نفسه هی مرتبطة به بنحوٍ من الأنحاء. وهناک ثلاثة مواقف یمکن تصویرها للإنسان، وهی: بدایته وأنّه من أین جاء؟ وواقعه الراهن وأنّه ما الذی یتعیّن علیه أن یفعله فی اللحظة الراهنة. ومنتهاه وأنّه إلی أین سیؤدی به مصیره. وفی ذلک روی عن الإمام علی (علیه السلام) أنه قال:

رحم الله امرءً عَرفَ مِن أینَ وفی أینَ وإلی أینَ.(1)

والمراد من أنّ علی الإنسان أن یعرف نفسه، هو أنه یجب علیه أن یدرس هذه المواقف المحیطة بجمیع أنحاء وجوده وکیانه من بدایته إلی نهایته. وفی طبیعة الحال فإن المواقف المذکورة لیست خارجة عن الوجود ولا فی مقابله، بل هی فی الحقیقة تدخل فی المسار التصاعدی لوجود الإنسان نفسه، وإذا کان یرید تحدید موقفه الوجودی فی هذا العالم، فهو مضطرّ إلی التعرّف علی مسار وجوده من بدایته إلی نهایته. وأنّ هذا الأمر لا یؤثر فی

ص:175


1- (1)) غرر الحکم ودرر الکلم.

معرفة کل الوجود فحسب، بل إن معرفة کل مرتبة ومقطع وجودی دون التعرّف علی المرتبة الأخری یبدو ناقصاً. وبعبارة أخری: إنّ معرفة هذه المراحل الثلاث المهیمنة علی المسار الوجودی للإنسان لها فائدتان، وهما: أولاً - معرفة جمیع جوانب وجوده. وثانیاً - تأثیر کلِّ واحدة من المراحل فی معرفة المراحل الأخری. فمثلاً: إنّ معرفة المعاد دون إدراک البدایة والوضع الراهن، یعتبر إدراکاً ضعیفاً وناقصاً، وهکذا معرفة الوضع الراهن، فإنه لن یکون لها تأثیر تربوی ملحوظ إذا لم تکن مصحوبة بالبدایة والنهایة. وعلیه فإنّ معرفة کلِّ مرحلة من مراحل وجود الإنسان الثلاثة، تحظی بأهمیة خاصة فی معرفة کل جوانب وجوده، ومعرفة کل واحدة من المراحل الأخری. تحظی معرفة المنشأ والمبدأ وارتباط الإنسان بهما وکیفیة تکوینه، بأهمیة خاصة من الناحیة الدینیة. إن جوهر وجود الإنسان یکمن فی روحه المجرّدة وغیر المادیة، والتی تتمتع بخاصیة الخلود وعدم الفناء. وقد خُلقت هذه الروح من قبل الله وبأمره، ولا یسع الإنسان أن یدرک ماهیتها. وفی ذلک یقول الله سبحانه وتعالی:

- وَ یَسْئَلُونَکَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی وَ ما أُوتِیتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِیلاً1 .

- فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ2 .

وعلیه فإننا إنما نستطیع أن ندرک تبعیتنا للهِ وارتباطنا به، وأما ماهیة الروح وحقیقتها فهی أمر لا یمکن للإنسان أن یدرکه. إننا عندما ننظر إلی الماضی نری أننا لم نلعب أیّ دور فی تکویننا ووجودنا، وأنّ وجودنا خاضع لإرادة الله. إن إدراکنا لحقیقة أننا مخلوقین لله، وأننا بحاجة إلیه، وأننا خاضعین لقدرته وعظمته، له تأثیر عمیق فی ارتباطنا وعلاقتنا به. وقد ذهب القرآن

ص:176

الکریم إلی اعتبار عبادة الله والوصول إلی القرب منه، وکذلک رعایة التقوی منوطاً بفهم هذه النقطة الحیویة. قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: یا أَیُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّکُمُ الَّذِی خَلَقَکُمْ وَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ .(1)

- وَ اتَّقُوا الَّذِی خَلَقَکُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِینَ .(2)

وقد تمّ وضع خلق الإنسان من تراب فی سیاق کونه آیة لوصوله إلی مقام القرب من الله والسلوک فی هذا الطریق، ونجد هذا منعکساً بشکل صریح فی قوله تعالی: وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ خَلَقَکُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ3 . وإنّ معرفة مراحل التکوین فی البُعد المادی للإنسان، یُحدِثُ نقلةً فی رؤیته ومعرفته بنفسه.

إن التعابیر التی استعملها القرآن الکریم لبیان الناحیة المادیة من وجود الإنسان، عبارة عن: التراب، والطین، والطین اللازب، والحمأ المسنون، والنطفة، والماء الدافق، والعلقة، وهو ما جاء فی الآیات الآتیة التی سنذکرها فیما یلی علی طریقة اللف والنشر المرتّب:

- یا أَیُّهَا النّاسُ إِنْ کُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ تُرابٍ .(3)

- هُوَ الَّذِی خَلَقَکُمْ مِنْ طِینٍ ثُمَّ قَضی أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّی عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ .(4)

- فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِینٍ لازِبٍ .(5)

- وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ .(6)

ص:177


1- (1)) البقرة: 21.
2- (2)) الشعراء: 184.
3- (4)) الحج: 5.
4- (5)) الأنعام: 2.
5- (6)) الصافات: 11.
6- (7)) الحجر: 26.

- وَ اللّهُ خَلَقَکُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ .(1)

- فَلْیَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ .(2)

- اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِی خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ .(3)

إنّ معرفة الإنسان لبدایته تجعل منه شخصاً واقعیاً، ولذلک تکون رؤیته معقولة، وتکبح جماح زهوه وغروره وتکبّره. ویُعدّ الانحراف والجهل ببدایة الخلق وعدم التعرّف علی قدرة الله فی خلق الکائنات، من جملة عوامل الکفر والشرک. وقد قال الله تعالی فی بیان هذه الحقیقة:

- یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّکَ بِرَبِّکَ الْکَرِیمِ * اَلَّذِی خَلَقَکَ فَسَوّاکَ فَعَدَلَکَ .(4)

- قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَکْفَرَهُ * مِنْ أَیِّ شَیْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ .(5)

- أَ یُشْرِکُونَ ما لا یَخْلُقُ شَیْئاً وَ هُمْ یُخْلَقُونَ .(6)

- یا أَیُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ یَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ یَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَیْئاً لا یَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ .(7)

- وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا یَخْلُقُونَ شَیْئاً وَ هُمْ یُخْلَقُونَ وَ لا یَمْلِکُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا یَمْلِکُونَ مَوْتاً وَ لا حَیاةً وَ لا نُشُوراً .(8)

ومن هنا نجد القرآن الکریم یحثنا علی التفکیر والتدبّر فی مسألة خلق الإنسان، وذلک لکی نتعرّف علی أنفسنا، وأن نکون علی استعداد للقیام

ص:178


1- (1)) فاطر: 11.
2- (2)) الطارق: 5-6.
3- (3)) العلق: 1-2.
4- (4)) الانفطار: 6-7.
5- (5)) عبس: 17-19.
6- (6)) الأعراف: 191.
7- (7)) الحج: 73.
8- (8)) الفرقان: 3.

بالتکالیف المفروضة علینا فی المرحلة الثانیة (أی الدنیا)، وذلک إذ یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- أَ وَ لَمْ یَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِیمٌ مُبِینٌ .(1)

- أَ وَ لا یَذْکُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ یَکُ شَیْئاً2 .

ومن خلال التمعّن فی آیات القرآن الکریم ندرک أن الإنسان یستطیع القیام ببلورة شخصیته علی نحوین.

فهناک من الآیات ما یدل علی عظمة الإنسان، باعتباره خلیفة الله فی الأرض، وأنّه أهل لتسجد له حتی الملائکة، وأنّ الله قد خلقه علی أحسن صورة، وذلک إذ یقول الله تعالی:

- ثُمَّ جَعَلْناکُمْ خَلائِفَ فِی الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ کَیْفَ تَعْمَلُونَ .(2)

- وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً... .(3)

- فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ * فَسَجَدَ الْمَلائِکَةُ کُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ .(4)

- وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا .(5)

فی حین تذهب آیات أخری إلی وصف الإنسان بالضعف والتسرّع فی الأمور والطمع وما إلی ذلک من الأوصاف، وذلک من قبیل ما جاء فی الآیات القرآنیة الآتیة:

ص:179


1- (1)) یس: 77.
2- (3)) یونس: 14.
3- (4)) البقرة: 30.
4- (5)) الحجر: 29-30.
5- (6)) البقرة: 34.

- یُرِیدُ اللّهُ أَنْ یُخَفِّفَ عَنْکُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِیفاً1 .

- خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِیکُمْ آیاتِی فَلا تَسْتَعْجِلُونِ .(1)

- وَ یَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَیْرِ وَ کانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً .(2)

- إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَ إِذا مَسَّهُ الْخَیْرُ مَنُوعاً .(3)

إن إدراک الإنسان لکیفیة خلقه وموقعه وما یتمتع به من القدرة علی التقدم والرقی کجانب إیجابی وإمکانیة سلوکه طریق التخلف والانحطاط، والانحراف والطغیان، حیث یقول تعالی فی بیان وصف النفس الإنسانیة:

فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها5 . یؤدی به إلی العمل علی الاختیار الصحیح. وأنّ معرفة النفس فی الحقیقة هی معرفة الاستعدادات والقابلیات الکامنة فیها، والتی تؤدی - فی البعدین المتعارضین (معرفة الصفات الإیجابیة والسلبیة) - إلی وعی الإنسان بأطره الوجودیة. ولیس هناک مَن یمکنه أن یدّعی عدم وجود الصفات السلبیة فی وجود الإنسان، من قبیل: الطمع والجشع والضعف والتسرّع والتکبر والغرور. کما أن ارتکاب الأعمال السیئة، والتذرّع بوجود مثل هذه الأمور فی وجود الإنسان لا یمکن أن یکون صحیحاً فی تبریرها، بل فی الحقیقة یمکننا - بحسن اختیارنا وبتوفیق من الله - أن نقوّی الخصال الإیجابیة فی وجودنا وأن نحول دون استفحال الصفات السلبیة.

وبعد إدراک الإنسان للبدایة والمرحلة الأولی من مسیرته الوجودیة، یغدو بإمکانه التعرّف علی خالقه وبارئه؛ إذ بعد أن یدرک الإنسان أنه کائن

ص:180


1- (2)) الأنبیاء: 37.
2- (3)) الإسراء: 11.
3- (4)) المعارج: 19-21.

ضعیف، ویشعر باحتیاجه إلی قوّة خالدة ومطلقة، یفتح لنفسه طریقاً یوصله إلی معرفة الله. وعلیه تکون معرفة النفس - من هذه الناحیة، أی من زاویة الارتباط بالمبدأ ومعرفته - مقدمة وأرضیة فصبة لمعرفة الله، وإن هاتین الدعامتین المعرفیتین - أی: معرفة النفس، ومعرفة الله - ستشکلان زاد الإنسان فی المرحلة الثانیة (الواقع الراهن)، ویغدو علی استعداد لبناء نفسه وتربیتها. وعلی هذا الأساس فإن بناء النفس یتوقف بشکل مباشر علی معرفة الواقع الراهن، والتعرّف علی الدوافع والحالات والسلوکیات الإنسانیة فی ذلک الواقع. إلا أن معرفة الواقع الراهن لا یکفی لبناء النفس. إن بناء النفس مفهوم یتوقف بالکامل علی معرفة النفس. ومن هنا فإن شرح وتبیین بناء النفس فی ضوء معرفة الله ومعرفة النفس تیطّلب منّا بالضرورة أن نتعرّف - بالإضافة إلی الواقع الراهن - علی المرحلة الأخیرة من مساره الوجودی، أی المنتهی والمعاد أیضاً.

إن تعرّف الانسان علی الواقع الذی یعیش فیه، والمسؤولیات والوظائف الملقاة علی عاتقه، وکذلک الاطلاع علی حالته النفسیة والروحیة، من الموارد الضروریة جداً بالنسبة له. إن الإنسان من حیث الخلقة یتمتع بقوی وقابلیات خاصّة، وإن سلوکیاته وشخصیته تخضع لتأثیر العناصر والعوامل الوراثیة والثقافیة السائدة فی محیطه. ومن هنا یکون مضطراً إلی الاستفادة من عنصر الإرادة والاختیار من أجل الوصول إلی الهدف النهائی، وأن یبذل کلّ ما بوسعه فی هذا الإطار. إن التعرّف علی الأوصاف والخصائص الداخلیة، وکذلک تعرّف الإنسان علی نقاط ضعفه وقوّته الشخصیة والأخلاقیة تشکل سبیلاً یتمکن من خلاله، التغلب علی النواقص، والعمل علی تنمیة قیَمه الداخلیة. علی الإنسان أن یعلم الدور الملقی علی عاتقه فی الحیاة. فمن وجهة نظر الإسلام یعتبر الإنسان خلیفة الله فی الأرض، وأنه یستحق أن یکون قبلة

ص:181

للملائکة، وهو کائن حرّ ومختار، وأنه لم یُخلق عبثاً، بل هناک حکمة کامنة من وراء خلقه. وهذا ما أکد علیه القرآن الکریم فی الکثیر من مواضعه، ونذکر منها من باب المثال الآیات الآتیة:

- إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِیهِ فَجَعَلْناهُ سَمِیعاً بَصِیراً .(1)

- إِنّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ إِمّا شاکِراً وَ إِمّا کَفُوراً .(2)

- أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناکُمْ عَبَثاً وَ أَنَّکُمْ إِلَیْنا لا تُرْجَعُونَ .(3)

- وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّ لِیَعْبُدُونِ .(4)

إن علی عاتق الإنسان - سواء فی البعد الفردی أو البعد الاجتماعی - مسؤولیات توجب علیه التعرف علی نفسه ومجتمعه. وإن معرفته بالوظائف والمسؤولیات التی یجب علیه أن یضطلع بها، والتعرف علی الخیارات الأفضل، هی من جملة الأمور التی تجعله أکثر استعداداً إلی سلوک طریق القرب من الله فی إطار معرفته لنفسه. ومن وجهة نظر الدین فإن مجرّد تحصیل العلم وطلب المعرفة وإدراک ما یؤدی إلی تکامل الشخصیة وتحسین السلوک لا یشکل ضمانة لتطبیق مضامین ذلک العلم أو تلک المعرفة. وإن معرفة النفس إنما تؤدی إلی بناء النفس إذا تکلّلت بمعرفة المرحلة الثالثة من مساره الوجودی - أی المعاد والمصیر والهدف النهائی - وفی هذه الصورة لن تکون هناک - من الناحیة المعرفیة - أی نقطة إبهام أو ضعف فی إعداد الأرضیة من أجل بناء النفس وبناء الشخصیة المعنویة، وإذا کان هناک من ضعف فإنه لا یأتی من ناحیة المعارف، بل یأتی من حیث المیول والتعلقات.

ص:182


1- (1)) الدهر: 2.
2- (2)) الدهر: 3.
3- (3)) المؤمنون: 115.
4- (4)) الذاریات: 56.

فإنه حیث یجب علی الإنسان التعرّف علی مآله وعودته ورجوعه إلی الله، وحیث تتعیّن علیه الإجابة عن کل ما یقوم به ویفعله وینویه - إذ یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: یَوْمَئِذٍ یَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً لِیُرَوْا أَعْمالَهُمْ * فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ * وَ مَنْ یَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا یَرَهُ1 . فعلیه لذلک أن یُذعن لنتیجة أعماله ویکون لذلک تأثیر کبیر فی انتخاب مساره وبنائه لنفسه.

بالالتفات إلی ما تقدّم یمکننا أن نتوصّل إلی النتائج الآتیة:

1. إن معرفة النفس لا یتمّ طرحها فی البعد الأخلاقی البحت، بل إنّها تشمل جمیع الأبعاد الوجودیة (المادیة والمعنویة)، وعلی الرغم من أن نتائجها لا تکون إلا أخلاقیة ومعنویة صرفة، إلا أنه یتعیّن علی الإنسان - من أجل تحقیق الاختیار المناسب فی الدائرة الروحیة والنفسیة - أن یتعرّف علی نفسه بشکل کامل. وعلیه فإن مفهوم معرفة النفس یشمل جمیع الأبعاد الوجودیة للإنسان.

2. إن معرفة النفس لیست أمراً داخلیاً، بل هی الحصول علی مزید من المعلومات فی إطار معرفة النفس علی نحو أکبر، وإنما یتم ذلک عبر المراحل الثلاث الآتیة:

أ) معرفة النفس من الناحیة الخلقیة، بمعنی معرفة القابلیات المستخدمة فی خلق الإنسان وکیفیة تکوینه.

ب) معرفة النفس من الناحیة الدنیویة، بمعنی معرفة واقعنا وموضعنا فی هذه الدنیا.

ج) معرفة النفس من الناحیة الأخرویة، بمعنی معرفة المعاد والحیاة بعد الموت.

3. إن معرفة النفس الخلقیة مقدمة علی معرفة الله، وإن معرفة الله مقدمة علی بناء النفس.

ص:183

4. إن ثمرة ونتیجة معرفة النفس ومعرفة الله تظهر علی بناء النفس وتربیتها. وعلیه فمن دون معرفة الإنسان - بوصفها موضوعاً تربویاً - لا یمکن العبور من الوضع الراهن، والوصول إلی الوضع المنشود والمطلوب.

ب) الأهداف الإنتمائیة
اشارة

کما تقدم أن ذکرنا فی مستهل البحث بشأن أهداف الإسلام الوسیطة فی مجال الارتباط التربوی للإنسان فیما یتعلق بنفسه، فإن المعیار فی انتخاب هذه الأهداف هو البنیة والترکیبة الوجودیة للإنسان نفسه. وإن الأبعاد الوجودیة المختلفة للإنسان تمثل منطلقاً لاختیار هذه الأهداف والإصرار علی بلوغها.

إن الأبعاد الجسدیة والروحیة المختلفة التی تشمل الأبعاد المعرفیة والانتمائیة وبُعد الإرادة لدی الإنسان، بالإضافة إلی اشتمالها علی المنشأ الداخلی والباطنی، فإنها تشتمل علی دعامة وسند خارجی أیضاً. إن الله سبحانه وتعالی کما أودع فی الإنسان عقلاً وقدرة علی التفکیر والتدبّر، فإنه قد عمل أیضاً علی ترتیب واقعه الخارجی بشکل یتمکن معه من التکامل والرقی بما یتناسب مع مناشئ هذه القوّة والقابلیة. کما یجری هذا الأمر أیضاً علی سائر الأبعاد الانتمائیة والعاطفیة الأخری أیضاً، بمعنی أن الله سبحانه وتعالی إذا أودع فی الإنسان میلاً أو نزعة إلی أمرٍ من الأمور، فإنه سوف یُعدّ الإمکانات الخارجیة بشکل یتیح إمکانیة الوصول إلی ذلک الهدف الموجود بشکل کامل. فلیس الأمر أن تکون لدی الإنسان رغبة أو میل إلی أمر وجودی، وتکون العوامل الخارجیة سائرة فی الاتجاه المعاکس لها، بحیث تشکل عقبة أمام وصوله إلی ذلک الهدف. وبطبیعة الحال فإن محور البحث هنا هو الدوافع والمیول الخاصة بالإنسان والتی تکون تابعة لسلسلة من الأصول العامة، من قبیل: النزوع إلی معرفة الحقیقة، والمیل إلی الخلود والکمال، دون

ص:184

غرائز من قبیل: الشهوة إلی الطعام الموجودة فی جمیع الحیوانات. هذا وإن التعابیر المختلفة من قبیل: النزعة والمیل والدافع وإن کان لها معانٍ مختلفة فی علم النفس، إلا أنها فی هذا البحث لا یراد منها سوی معنی ومفهوم واحد، وهو القوّة الداخلیة التی تدفع إلی التحرّک نحو هدفٍ خاص.

وعلی الرغم من أن هناک الکثیر من المیول والرغبات الإنسانیة، إلا أنها لیست عامة وشاملة بأجمعها. وإن الذی یمیّز بین المیول العامة والخاصة هی الخصوصیات التی نشرحها علی النحو الآتی:

1. هناک میول موجودة لدی جمیع الناس، بحیث أن القیام ببعض الأمور، والمیل إلی بعض الأشیاء یعدّ من أهم وأبرز المیول الداخلیة لدی الشخص. وعلی الرغم من أن هذه المیول تختلف باختلاف الأفراد فی الشدة والضعف، ولکنها موجودة لدی الجمیع، وإن علی أنحاء ومستویات مختلفة ومتفاوتة.

2. إنّ المیول العامة لا تختص فی وجودها لدی جمیع النابالوقت الحاضر فقط، بل کان لها وجود حتی فی الأزمنة السحیقة أیضاً. وإنّ أهم دلیل علی وجود هذه المیول هو الشواهد التاریخیة، وما نجده فی المعطیات الحضاریة والثقافیة للإنسان. وأنّ هذه المیول هی من قبیل: البحث عن الخالق، وطلب الکمال، فهی من الأمور التی کان الإنسان منذ القدم یسعی إلی إدراکها، وهو مستمر فی سعیه إلی إدراکها حتی هذه اللحظة، ولم تَضعُف حدّتها وشدتها أبداً، بل إن هذا المیل وهذه النزعة قد ازدادت حدّة وإلحاحاً، وقد تجلّت علی نحو أکثر تکاملاً من ذی قبل.

3. إن بنیة الإنسان وترکیبته تمکّنه من الاهتمام بالکثیر من الأمور. وکما توجد لدی الإنسان بعض الغرائز والمیول التی تبرر حاجته إلی الماء والطعام، دون أن تکون هناک من حاجة إلی السؤال عن أسباب وعلل وجودها، فإن فطرة الإنسان - فی البُعد المعنوی - تعمل علی تبریر سلسلة أخری من الرغبات والمیول التی یتمّ التعبیر عنها بالمیول الفطریة.

ص:185

4. قد یذهب التصوّر ببعضٍ إلی القول: إن میول الإنسان تقوم علی أساس من الفطرة، فلا تکون هناک من حاجة إلی التعلّم، ولا یمکن نقل النزعة لدی الإنسان فی البحث عن الله والحقیقة والجمال من طریق المفاهیم، وإن المیول الفطریة کسائر الغرائز لیست من مقولة المفاهیم الذهنیة والفکریة التی یمکن نقلها عبر الأدوات والوسائل التعلیمیة، بل إن هذه الأمور خارجة عن الأطر والأنظمة التعلیمیة، فهی نوع من الخلق الذی لا سبیل إلی تغییره. وأنّ المراد من أنّ هذه المیول قد وقعت هدفاً وغایة لا یعنی أن أصل المیل هو الهدف والغایة؛ لأن المیول والدوافع قد تمّ إیداعها فی وجود الإنسان من خلال الخلقة. وإنما المراد من هدفیتها، هو تنمیتها والعمل علی توجیهها وهدایتها إلی الاتجاه الصحیح الذی یریده الدین. وبعبارة أخری: إن الذی یُستنبط من الوصایا الموجودة فی الدین بشأن هذه المیول، إنما ینظر إلی النشاط والدور الذی یتکفل به هذا العامل فی وجود الإنسان. ولا شک فی أن الدور البنّاء له هو تهیئة الأرضیة للإنسان لتکون له القدرة علی القیام ببعض النشاطات المحددة، والاهتمام بأمور معیّنة. وإن الأهداف التی یتم استنباطها من الدین فی هذا السیاق ناظرة إلی أمرین، وهما:

1. تجدید وتعزیز المیول فی وجود الإنسان.

2. الهدایة والتوجیه الصحیح لهذه المیول.

وفی هذا الکتاب نستفید من کلمة التنمیة لبیان مفهوم جامع لهذین المعنیین، لأنها تشمل التعزیز وتشمل الهدایة أیضاً.

1. تنمیة المطالبة بالحقیقة

إنّ من بین المیول المتأصلة فی وجود الإنسان هو نزعته ورغبته فی البحث للوصول إلی الحقیقة. والمراد من طلب الحقیقة هو شوق الإنسان إلی

ص:186

معرفة الارتباط القائم بین الظواهر. إن اکتشاف الحقائق - سواء فی البعد النظری والمعرفی أو فی الأبعاد الفنیة والعملیة - ناشئ من رغبته ومیله إلی إدراک هذه الأمور. فلو لم تکن لدی الإنسان مثل هذه الرغبة والشوق إلی تحصیل العلوم وتنمیة أفکاره وآفاقه العلمیة، لما وصل المستوی العلمی والثقافی للإنسان إلی هذه المرحلة من التکامل والازدهار. وعلی الرغم من أن الحاجة إلی رفع المشاکل تشکل أحیاناً حافزاً ودافعاً إلی تحصیل العلم والمعرفة، بید أن النزعة والمیل إلی طلب المعرفة یظهر منذ فترة الطفولة حیث لا یکون الطفل بعدُ قادراً علی إدراک الارتباط بین طلب العلم وإیجاد الحلول للمشاکل. وعلیه فإن أساس طلب العلم والمعرفة لا یکمن فی مسألة الافتقار والحاجة، وإن إدراک الارتباط بین الموجودات والتعرّف علی المسار العلمی هو الذی شغل عقول الکثیر من العلماء. وعلی الرغم من أن التعرّف علی العلوم واتساع رقعة الفنون ساعد علی رفع الکثیر من حاجات الإنسان، إلا أن أساسه وقاعدته تعود إلی النزعة الباطنیة والشوق إلی بلوغ الحقائق واکتساب المعارف.

وکما تقدم أن ذکرنا فی بحث الأهداف المعرفیة بالتفصیل، فإنّ الله سبحانه وتعالی قد عمل علی توظیف میل الإنسان ورغبته وشوقه الشدید إلی إدراک الحقائق فی إطار هدایته. وإن التشجیع علی استثمار العقل والتفکیر، ووضع العلامات والآیات الواضحة فی خلق العالم، وإرسال الرسل، تأتی بأجمعها فی سیاق تنمیة هذه النزعة والرغبة لدی الإنسان. وفی الحقیقة فإن جمیع الآیات التی عمدت بنحوٍ من الأنحاء إلی دعوتنا إلی التفکر والتعقل، والتی جعلت التدبّر فی الخلق محور حرکتنا العقلیة، تأتی فی سیاق تعزیز هذه القدرة والکفاءة. إن علی الإنسان - من وجهة نظر الإسلام - أن یبذل جهوداً متواصلة فی البحث عن الحقیقة، إلا أن مجرّد هذه النزعة لا تشکل ضمانة

ص:187

لتحقق الهدایة. فما أکثر الحقائق التی بقیت خافیة علی ذهن الإنسان، وما أکثر الأمور الوهمیة التی تجلّت للإنسان بوصفها حقائق ثابتة لا یمکن التشکیک فیها.

إن عدم تعزیز هذه النزعة الباطنیة یؤدّی إلی الضعف والخور فی وجود الإنسان، ویوفّر الأرضیة لانحرافه وضلاله. إن مثل هذا الفرد یتعرّض للشک فی معرفة الحق وتمییزه من الباطل، ویقع فریسة لآراء وأفکار وعقائد الآخرین بکل یسر وسهولة. وباختصار فإن عدم تعزیز هذه الناحیة الوجودیة فی الإنسان، تفضی به إلی الانحراف الفکری والتبعیة للآخرین، وعبادة الأشخاص، والانحیاز إلی الأکثریة دون تعمّق أو تفکیر. فالفرد الذی ینشد الحقیقة، یقوم فی البحث عنها بنفسه، ولا یجعل من آراء الآخرین ملاکاً ومعیاراً لفهم الحقیقة. وبطبیعة الحال فإن الذی ننظر إلیه فیما یتعلق بطلب الحقیقة هو التنمیة بمعنی تعزیزها وتقویتها، وإلا فإن الهدایة والعمل علی توجیه طلب الحقیقة لیس له من معنی محصّل، ولربما أدی الانسیاق فی هذه المقولة إلی الابتعاد عن أصل المطالبة بالحقیقة. وعلیه فإن الأثر التربوی المترتب علی تعزیز النزعة إلی طلب الحقیقة یکمن فی اعتماد الفرد علی نفسه ومقدرته العقلیة والفکریة فی تحدید الحق وتمییزه من الباطل.

2. تنمیة النزعة إلی البحث عن الله

إنّ المیل الفطری إلی الله بوصفه خالق الإنسان والقادر علی تلبیة احتیاجاته وحلّ مشاکله، مودع فی وجود کلّ إنسان. وعلی الرغم من أن أصل المیل الفطری إلی الله یمتدّ بجذوره فی الترکیبة والبنیة الوجودیة للإنسان وطبیعة خلقه وجبلّته بحیث لا تقبل التبدیل أو التغیّر، حتی قال الله سبحانه وتعالی: فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنِیفاً فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِکَ

ص:188

اَلدِّینُ الْقَیِّمُ1 ، ولکن مع ذلک یرد السؤال القائل: إذا کانت مسألة النزعة والمیل إلی الله مسألة فطریة مودعة فی جبلّة الإنسان، فلماذا ینحرف الکثیر من الناس، وینحدرون إلی عبادة ما سوی الله؟ وعلیه ألیس من الأفضل أن نجیز النزعة إلی عبادة أیّ معبود وإن لم یکن هو الله حقیقة، إشباعاً لهذا الشعور والمیل الفطری؟ وهل یمکن فی هذه الصورة تبریر المیول المختلفة بین أفراد البشر باتجاه الکثیر من الآلهة ومن بینها الله سبحانه وتعالی؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، یمکن دراسة المسألة من ناحیتین، وهما: الناحیة الدینیة، والناحیة النفسیة والروحیة.

الناحیة الدینیة: إن الذی تمّ طرحه فی القرآن الکریم بوصفه نوعاً خاصاً من الخلق، یشمل بشکل صریح وواضح الخلقة الإلهیة. بمعنی أن الفطرة والبنیة الوجودیة للإنسان، وُجدت بحیث تعمل علی هدایته إلی الله سبحانه وتعالی دون أیّ معبود آخر. وبعبارة ثانیة: إن الکامن فی بنیة وترکیبة خلق الإنسان هو المیل إلی الله، وعلی الرغم من أن عدم الاهتمام بهذه النزعة وهذا المیل، یؤدی ببعض الناس إلی عدم العمل بما تقتضیه فطرتهم وجبلّتهم، إلا أنّ مجرّد عدم الاهتمام بنزعة أو میل لا یصلح دلیلاً علی عدم وجود ذلک المیل أو النزعة. وبعبارة أخری: إن ما قام به بعض الناس علی طول التاریخ من إظهار المیل إلی معبودات غیر الله، أو الذین واصلوا هذا النهج فی العصر الحاضر ضمن أطر وقوالب أخری، لا یکون دلیلاً علی أن میلهم ونزعتهم إلی هذه المعبودات الخاصة، مودع فی أصل خلقتهم وجبلتهم. إن الترکیبة والبنیة الوجودیة للإنسان من وجهة نظر الدین وُجدت بحیث لا تمیل ولا تنزع لغیر الله، إلا أن هذا لا یعنی أن تکون آلیة هذه النزعة ثابتة علی جمیع الأحوال

ص:189

والظروف، بل من الممکن لبعض العوامل أن تعیق ظهور هذه النزعة الفطریة. من هنا نجد القرآن یحثنا ویشجعنا علی الاهتمام الخاص بهذه الناحیة من خلقته. وعلیه فإن معنی تنمیة الشعور والنزعة إلی البحث عن الله، هو تعزیز وتقویة وهدایة هذا البعد من وجود الإنسان. ومن ناحیة أخری فإن النزعة والمیل إلی عبادة معبود غیر الله، إنما هو ولید جبلة الإنسان وفطرته التی تنزع إلی البحث عن المعبود. لأننا عندما نحلل فطرة الإنسان ندرک ضعفه وعجزه عن إدارة أموره. إن هذا العنصر والعامل من أهم العوامل فی وصول الإنسان إلی خالقه. إن ما یقال من أن لدی الإنسان فطرة وجبلّة إلهیة، وإن لنزوعه ومیله إلی الله موقعاً خاصاً ومتمیّزاً فی نظام الوجود، من الممکن إرجاعه إلی ضعفه الوجودی وحاجته إلی موجود قادر ومتمکّن، ولو أن الإنسان أدرک هذا الضعف من صمیم وجوده فإنه سیدرک وجود الله الواحد الأحد أیضاً. فإن المیل إلی الله ولید ذلک الشعور والإحساس بالفقر والحاجة والضعف الوجودی. ومن هنا فإن الله یدعونا إلی التدبّر فی هذه الناحیة من الفقر والضعف فی وجودنا کثیراً. ولو أننا لم نلتفت إلی هذه الناحیة المتمثلة بحاجتنا إلی الله وفقرنا الوجودی بشکل کامل، فإننا لن نتمکن من الإیمان بالله الواحد کما تقتضیه فطرتنا. فإذا کان شعورنا بالضعف الوجودی یتمتع بقوّة خاصة، فإنه سیجعلنا بشکل طبیعی تابعین إلی وجودٍ أقدر وأقوی من جمیع القوی والموجودات الأخری، بحیث یکون هذا الوجود هو الأقدر علی رفع حاجاتنا الوجودیة. وکلما کانت نسبة إحساس الإنسان وشعوره بضعفه وفقره الوجودی أقل، کان سعیه إلی رفع حاجاته من خلال اللجوء إلی القوی المادیة الضعیفة أکثر. وإن السرَّ فی اختلاف انتماءات الأفراد ونزعتهم إلی عبادة الله الواحد، والمعبودات الأخری من قبیل: الوثن والقمر والنجوم، بل

ص:190

وحتی التشبّث المفرط بالمناصب وحبَّ الجاه والثروة وما إلی ذلک من الأمور، یعود إلی اختلاف شعورهم وإدراکهم لضعفهم وفقرهم الوجودی. فالذین یرون أنفسهم فی فقر واحتیاج مطلق، ینظرون إلی قمّة وذروة الغنی المطلق المتمثل بالله الواحد الأحد، ویجعلونه هو المعبود الأوحد لهم ولا یشرکون بعبادته أحداً:

- یُولِجُ اللَّیْلَ فِی النَّهارِ وَ یُولِجُ النَّهارَ فِی اللَّیْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ کُلٌّ یَجْرِی لِأَجَلٍ مُسَمًّی ذلِکُمُ اللّهُ رَبُّکُمْ لَهُ الْمُلْکُ وَ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما یَمْلِکُونَ مِنْ قِطْمِیرٍ1 .

- اَللّهُ الَّذِی خَلَقَکُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَیْبَةً یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِیمُ الْقَدِیرُ2 .

- یُرِیدُ اللّهُ أَنْ یُخَفِّفَ عَنْکُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِیفاً3 .

- یا أَیُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّکُمُ الَّذِی خَلَقَکُمْ وَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکُمْ لَعَلَّکُمْ تَتَّقُونَ4 .

وأما أولئک الذین تخضع مدرکاتهم ومعارفهم للفقر والحاجة الوجودیة لسیطرة التعلقات الدنیویة العابرة، من قبیل: الثروة والمنصب والجاه أو المیول الغریزیة، فإنّ معبودهم سیتناسب وهذا الحجم من التعلقات. من هنا فإنّهم وبعد أن ترتفع هذه الحاجة المرحلیة یشعرون بالاستغناء وعدم الافتقار والحاجة. وأنّ هذا الشعور بالاستغناء وعدم الافتقار والحاجة - من وجهة نظر القرآن - هو الذی یمثل أحد أسباب وعلل النزوع إلی الشرک بالله سبحانه وتعالی:

- یا أَیُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّکَ بِرَبِّکَ الْکَرِیمِ * اَلَّذِی خَلَقَکَ فَسَوّاکَ فَعَدَلَکَ .(1)

ص:191


1- (5)) الانفطار: 6-7.

- قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَکْفَرَهُ * مِنْ أَیِّ شَیْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ .(1)

الناحیة الروحیة والنفسیة: إنّ الاطلاع علی الطبقات المعقدة للروح وکیفیة تأثیر کل واحد من المیول علی بعضها، أمر فی غایة الصعوبة والتعقید. عندما ینظر الإنسان إلی واقعه، ویقیس نسبته إلی العالم والتاریخ الذی یعیش فیه، ویقارن بین حاجته وفقره وضعفه وبین قدراته وإمکاناته، ویدرس کذلک تاریخ ومصائر الآخرین، سیدرک أنه أضعف بکثیر مما یتصوّر. وعلی الرغم من ذلک نجد أغلب الناس یرون لأنفسهم قدرات خاصة فی حلّ مشاکلهم والتغلب علی المعضلات المحیطة بهم. وعلی کلّ حال فإنّ الانغماس فی الرغبات الدنیویة الزائلة والغرائز الحیوانیة تجعل المرء فی غفلة عن التعرف علی الطبقات الرئیسة من وجوده، بید أنه إذا نجح فی دراسة نفسه وتمحیصها، وتمکن من إزاحة الطبقات المتراکمة، وتوصل إلی أعماق وجوده، سیدرک أن وجوده أضعف وأدنی بکثیر مما کان یتصوّر. وعلیه فإننا إذا استثمرنا عقولنا وتفکیرنا، فسیکون بمقدورنا أن نعتبر بحیاة الآخرین، وأن نجعل مصیر الأمم السابقة نصب أعیننا، ونعمل علی إیجاد التغییر الباطنی من وجودنا وأن ندرک حقیقة وجودنا دون تعریض أنفسنا لمواقف وظروف حادة وعصیبة. فإذا غدا بمقدورنا بلوغ هذه المرتبة من الفهم، واستطعنا أن نتعرّف علی حقیقة أنفسنا، فعندها سیکون بمقدورنا إدراک وجود معبودنا الحقیقی وخالق الوجود أیضاً. وقد روی فی ذلک عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ).

3. تنمیة النزعة إلی اکتساب الفضیلة

إنّ من بین الأمور التی ینزع إلیها الإنسان بفطرته هو میله إلی اکتساب

ص:192


1- (1)) عبس: 17-19.

الفضیلة. والمراد من الفضیلة هی القیمة الأخلاقیة الراسخة فی وجود الإنسان. إنّ الاختلاف الجوهری بین الفضائل الأخلاقیة وبین سائر الأمور الأخری ذات النزعة الأخلاقیة، یکمن فی قوّة واستحکام الفضائل الأخلاقیة فی دواخلنا. فإن الفضیلة الأخلاقیة إذا ما قیست إلی الأمور الأخلاقیة الاعتیادیة سنجدها أکثر صلابة واستحکاماً فی الاضطلاع بدورها. وفی الحقیقة فإن الفضائل الأخلاقیة تتمتع بضمانة داخلیة وباطنیة تعمل علی تنظیم شخصیة الانسان، خلافاً لسائر الأمور الأخلاقیة الأخری التی لا تحظی بمثل هذه الدعامة الداخلیة، ولم تدخل فی تکوین شخصیة الإنسان. والمراد من قولنا: إنّ تنمیة النزعة إلی اکتساب الفضیلة یعدّ من الأهداف الوسیطة فی النظام التربوی للإسلام، هو النظر إلی هذا البُعد من اکتساب الفضیلة الداخلیة. وعلی الرغم من أنّ البحث عن اکتساب الفضائل والقیَم الأخلاقیة یعدّ من البحوث الفلسفیة التی تتمّ دراستها فی فلسفة الأخلاق، ولکننا - لتوضیح مفهوم تنمیة الفضائل الأخلاقیة - إنما نکتفی بذکر بعض النقاط فی هذا السیاق.

إن نزعة الإنسان إلی الفضائل الأخلاقیة، من قبیل: العدل والصدق والأمانة والوفاء بالعهد وما إلی ذلک، أمور لا یمکن أن تنکر. فإذا کان الواقع الخارجی بحیث تتساوی فیه نتیجة النزوع إلی الفضیلة الأخلاقیة أو الرذیلة الأخلاقیة، فإنه سیتجه نحو ما تمیل إلیه نزعته الباطنیة. وفی مثل هذه الحالة لن یکون الانسان بصدد اقتراف الرذیلة الأخلاقیة؛ لأن الرذائل الأخلاقیة لیس لها مناشئ باطنیة. ومن هنا عندما یکون الانسان غی مستوی بحیث لا تؤثر علیه العناصر والعوامل الخارجیة، ولا تقوم المشاکل والضرورات بتقیید حریة اختیاره إحدی الصفات، ویکون قادراً علی قول الصدق والکذب علی السواء، فإنه سیختار الصدق لکونه هو الأقرب إلی فطرته. وإن مسار حیاة الإنسان علی طول التاریخ یثبت ترجیحه للفضائل علی الرذائل. وتظهر هذه الأرجحیة إما علی شکل

ص:193

السلوک الأخلاقی الصائب، أو علی شکل الندم واللوم (من قبل الفرد نفسه أو من قبل الآخرین). وعلی کل حال، ففی هذه اللحالة تعدّ مفاهیم من قبیل: العدل والصدق والوفاء بالعهد ورعایة الأمانة والکرم وحسن السریرة وما إلی ذلک، فضیلة أخلاقیة إیجابیة، وما یتعارض مع هذه الأمور، من قبیل: الظلم والجور والکذب والخیانة بالعهد، وخیانة الأمانة، والبخل وسوء السریرة فیعدّ من الرذائل الأخلاقیة، ویحمل مفهوماً سلبیاً. ومن الضروری هنا أن نُذَکِّر بأن الذی نبحثه هنا لیس هو مصداقاً محدداً لهذه الفضائل المذکورة أو ما شاکل ذلک من المفاهیم، بل الذی نرید بحثه هو أصل المفاهیم التی تندرج تحت عنوان الفضائل أو الرذائل الأخلاقیة. ولکن یرد هنا سؤال مفاده: ما هی المشکلة التی یمکن لهذه النقطة أن تحلها؟ وبعبارة أخری: لو أننا سلمنا بوجود نزعة لدی الإنسان نحو العدل، إلا أننا سنختلف فی تحدید مصداق العدالة، بحیث أن ما یعتبره شخص عین العدل، یراه آخر المصداق الأبرز للرذیلة، ولا یمکن اعتباره فضیلة أخلاقیة أبداً. وعلی هذا الأساس کیف یمکن لنا تفسیر ما یقال: إن أصل النزعة إلی المطالبة بالعدل، وغیره من الفضائل الأخلاقیة تدخل فی صمیم الفطرة الإنسانیة، وإن أصل الظلم والجور وما إلی ذلک من الرذائل الأخلاقیة من الأمور التی یمقتها الإنسان بفطرته؟ فمثلاً: لماذا نجد الکثیر من الناس - علی الرغم من تشبّثهم بالمطالبة بالعدالة - یرتکبون أعمالاً مناقضة لما یطالبون به، بحیث یتهم کل واحد منهم الآخر بارتکاب الظلم والجور بحقه؟ فلماذا یری البعض مساعدة الفقراء والمساکین والضعفاء مصداقاً للعدالة الاجتماعیة، بینما یذهب آخرون إلی القول: إن العدل یکمن فی إبادتهم وفسح المجال لزیادة ثراء الأثریاء والأقویاء؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال تشکل مقدّمة للدخول فی البحث عن فلسفة سعی الأدیان إلی تربیة وإصلاح وهدایة میولنا المختلفة، ومن بینها نزعتنا إلی اکتساب الفضیلة.

ص:194

إنّ العمل بما یتطابق والفطرة الداخلیة والترکیبة الوجودیة للإنسان علاوة علی قابلیة تبریرها فی ضوء النظام الوجودی للإنسان، یمکن تفسیرها وبیانها عقلیاً أیضاً. فمن باب المثال: إذا سألنا شخصاً: لماذا تسلک سلوکاً عادلاً؟ أمکننا تبریر وتفسیر سلوکنا عبر مرحلتین طولیتین. فی المرحلة الأولی نعمل علی إرجاع سلوکنا العادل إلی البنیة والمنظومة الخلقیة لنا، ونسعی من خلال ذلک إلی بیانها وشرحها وتفسیرها، ونعمل علی التذکیر بخلفیة وعلل هذا السلوک، کأن نقول مثلاً: إن مردّ ذلک إلی وجود نزعة داخلیة فینا تعمل علی ترجیح کفّة العدل. وفی المرحلة الثانیة نستدلّ لسلوکنا المتطابق مع بنیتنا الوجودیة ونزعتنا الداخلیة علی المستوی العقلی، وبذلک نعتبر السلوک المذکور أمراً عقلیاً(1). بالالتفات إلی هذه الموارد نجد أن الذی لا یعمل علی طبق نزعته الوجودیة والفطریة، فإن سلوکه سوف لن یکون متطابقاً مع بنیته الوجودیة ومیوله الداخلیة، بل لا یملک لها تبریراً عقلیاً أیضاً، وکلّ مَن کان کذلک فإنه سیشکو من هاتین النقیصتین. وعلیه فإن السلوک الأخلاقی یتمتع بدعامة وجودیة کما یتمتع بالدلیل العقلی.

إنّ الذی یتمّ طرحه قبل کلّ شیء فی أی منظومة أخلاقیة - بما فی ذلک الأخلاق الدینیة - هو امتلاک الإدراک والمعرفة والعلم بما یتعلق بالعمل والسلوک الأخلاقی. لا شک فی أنه لیس هناک نظام أخلاقی یقرّ السلوک والعمل الذی ینطلق تحققه من خلفیة الجهل وانعدام المعرفة. فإن الأعمال التی تدخل فی دائرة وعینا ومعرفتنا هی وحدها التی تحظی بدعامة أخلاقیة وتدخل ضمن منظومة القیَم، وأما السلوک غیر الواعی فحیث لا یکون إرادیاً

ص:195


1- (1)) وبطبیعة الحال فإن هذا الأمر إنما یطرح علی مستوی المیول الأخلاقیة دون المیول الغریزیة؛ لأننا نجد فی الکثیر من الموارد أن عدم تلبیة المطالب والمیول الغریزیة أکثر عقلانیة من تلبیتها.

ولا یصدر عن اختیار الفرد ووعیه، فإنه لا یقبل الانتساب إلی فاعله من الناحیة الأخلاقیة. ولذلک فإننا لا نمدح الجاهل ولا نلومه. وعلی هذا الأساس فإن الذی یکون ملاکاً ومعیاراً فی إطار السلوک الأخلاقی هو العلم والإدراک، وأن العمل والسلوک إنّما یتصف بالحسن أو القبح، ویستحق فاعله المدح أو الذمّ، فی إطار الالتفات إلی هذه الحقیقة. وبالالتفات إلی هذا الأمر فإن الأفعال التی تصدر عن الفرد بسبب میوله الباطنیة، إذا کانت مندرجة ضمن وعی الفرد وإدراکه، فإنها - حتی وإن کانت لها تبعات سلبیة - ستدخل ضمن دائرة السلوک الأخلاقی. وبعبارة أخری: لو أن فرداً - من باب المثال - قام بعمل یراه مصداقاً للعدل، یکون ما صدر عنه سلوکاً أخلاقیاً - مهما کان من وجهة نظر الآخرین مصداقاً للظلم - وتکون له قیمة إیجابیة. فإن الفرد العامل فی مثل هذه الحالة یکون أولاً: قد قام بما یتطابق مع میله ونزعته الباطنیة، وکما تقدم أن ذکرنا فإن التحقق الخارجی لنزعة الفرد الداخلیة، یتمتع بدعامتی العلة الوجودیة والدلیل العقلی. وثانیاً: لقد کان الفرد من حیث تشخیص المصداق یتصوّر أن ذلک السلوک هو عین العدالة، ولذلک فإنه یکون قد قام بعمل یراه منطبقاً تمام الانطباق مع میله ونزعته الباطنیة والداخلیة، وإنه من هذه الناحیة یستحق التکریم والثناء؛ لأنه لو لم یقم بذلک السلوک، یکون قد تخلّی عن عمل هو - من وجهة نظره - مصداق للعدل والفضیلة الأخلاقیة، وفی هذه الصورة سیکون مرتکباً لمعصیة أخلاقیة یستحق اللوم والذمّ علیها. وعلی هذا الأساس فإن معیار وملاک العمل والسلوک الأخلاقی لا یکمن فی إنتاجیته وإثماره، وإنما تکون إنتاجیته هامّة من وجهة نظر العامل. فعندما یقوم الفرد بعمل یراه مثمراً ونافعاً یکون عمله موضع تقدیر وتکریم حتی وإن لم یکن فی الحقیقة والواقع مثمراً أو نافعاً. إن ماهیة ما یترتب علی السلوک من الآثار والتبعات الخارجیة لیس لها تأثیر فی

ص:196

أصل الفضیلة الأخلاقیة. وعلیه فإنما یمکن کیل المدیح لشخص أو إلقاء اللوم علیه إذا قام بما یتطابق مع نزعته ومیله عن وعی ومعرفة. إن الالتفات إلی هذه المسائل یساعدنا علی فهم سبب هدفیة تنمیة الفضیلة فی سلسلة الأهداف الوسیطة. وکما تقدم أن ذکرنا فإن البحث عن الفضیلة إنما هو نزعة ومیل باطنی، ومن هنا فإن أول مسألة یجب أخذها بنظر الاعتبار هی تنمیة وتعزیز هذه النزعة الباطنیة والداخلیة، وتجنب کل ما من شأنه أن یؤدی إلی تقویض هذه النزعة. إن الذی لا یتمتع بأی نزعة أو میل للقیم الأخلاقیة یعتبر من وجهة نظر الدین شخصاً یعمل فی الحقیقة بوحی من میوله الدنیئة التی تؤدی إلی تحقیق مصالحه المادیة وشهواته الدنیویة فحسب. وإن هذه المیول الدنیئة قد تطغی علی المیول الإنسانیة السامیة، من قبیل: الوصول إلی معرفة الحقیقة، والوصول إلی الله والفضیلة. من هنا فقد أکد الدین علی توسیع رقعة الفضائل واکتساب الأخلاق الحسنة، بید أن مجرّد تعزیز المیول إلی الفضائل لا یُعدّ هو الهدف؛ إذ ما أکثر الأشخاص الذین یقعون فی الأخطاء رغم ما یتمتعون به من المیول الشدیدة إلی الفضائل الأخلاقیة. ففی الحقیقة إن مجرّد وجود النزعة والمیل القوی إلی اکتساب الفضیلة لا ینهض دلیلاً علی تحدید الفضائل الأخلاقیة وتمییزها من الرذائل الأخلاقیة، وإن الجزء الأعظم من المشاکل الأخلاقیة علی المستوی الفردی والاجتماعی یعود إلی التشخیص غیر الصائب للفضائل الأخلاقیة، ولیس عدم الاهتمام بها. فما أکثر الأفراد الذین یرتکبون الأخطاء بسبب جهلهم، ولکنهم یعتبرونها صحیحة ومتطابقة مع القیم الأخلاقیة، ویقومون بها بکل تفانٍ وإخلاص. إن الله - وبسبب إحاطته بجمیع أنحاء وجود الإنسان ومعرفة خیره وصلاحه - یضع تحت تصرفه الطرق والأسالیب التی تساعده فی الحصول علی الفضائل الأخلاقیة التی تضمن سعادته، وتقدّم له العون فی بلوغ الهدف النهائی المتمثل بالقرب من الله

ص:197

سبحانه وتعالی. وأن مکارم الأخلاق من الأهمیة بحیث اعتبرت أحد أهم أهداف البعثة النبویّة وغایاتها، وذلک إذ رُویَ عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (إنّما بُعِثتَ لِأُتَمَّمَ مَکارِمَ الأخلاقِ)(1). کما ذکر القرآن الکریم أخلاق النبیّ الحسنة بوصفها من أهم السجایا والخصال التی یتصف بها، وذلک إذ یقول الله تعالی: وَ إِنَّکَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِیمٍ .(2)

4. تنمیة النزعة والمیل إلی الخلود

إنّ التفکیر فی أنواع المیول الباطنیة للإنسان، وبخاصةٍ النزعة إلی البحث عن الحقیقة، ووجود الله، والتحلّی بالفضیلة، یستدعی هذا التساؤل القائل: کیف یمکن للإنسان الفانی أن یدرک مفهوم الخلود والمیل إلی الأمور الأبدیة؟ وما هو العامل الکامن فی وجود الإنسان، والذی یجعله علی استعداد لتقبّل هذه الأمور والنزوع إلیها؟

إنّ البحث بشأن النزعة والمیل إلی خلود الروح متفرّع علی البحث عن خلودها، بمعنی أن الروح یجب أن تکون خالدة لیحصل لدی الإنسان مثل هذه النزعة وهذا المیل. إلا أن الذی نروم بحثه هنا هو النزعة إلی خلود الروح ولیس أصل خلودها.

ومع افتراض القبول بوجود نزعة لدی الإنسان ومیل إلی الأمور الخالدة والحقائق الأبدیة (من قبیل: الله)، یقضی علی جمیع احتمالات عدم خلوده. فلو کان الإنسان مخلوقاً فانیاً، فلن تکون فی وجوده وکیانه أیّ نزعة إلی البقاء، بل سیفتقر حتی إلی النزوع والمیل إلی الأمور الخالدة من قبیل: الحقیقة والخالق والفضیلة أیضاً. وهکذا الأمر إذا کان الإنسان مخلوقاً خالداً

ص:198


1- (1)) سفینة البحار، المحدث القمی: 410/1.
2- (2)) القلم: 4.

وأبدیاً، ولکنه لا یمتلک نزعة أو میلاً إلی الخلود، فإنه لن یبدی أی میل تجاه الأمور الأبدیة. لم یکن لدی الإنسان فی أی من الأمور الآنفة میلاً أو نزعة إلی الخلود لیکون بصدد الحصول علی العوامل التی تلبی حاجاته. ومن هنا حیث نشاهد الکثیر من الأدلة والعلامات علی وجود هذه النزعة إلی الأمور الأبدیة وبأنحاء مختلفة من وجود الإنسان، یثبت وجود المیل إلی الخلود والاتصال بالأبدیة فی وجوده. إن نزعته المطلقة إلی معرفة الحقیقة وإثبات وجود الله، والقیام بصالح الأعمال والأفعال الحسنة من أبرز الأدلة علی وجود هذه النزعة لدی الإنسان.

کما أنّ من جملة الأدلة والعلامات علی وجود النزعة والمیل إلی الخلود لدی الإنسان، هو ذهابه إلی تصور الخلود بالنسبة إلی بعض الأمور الفانیة. إذ نراه یسعی إلی الحصول علی بعض الأمور وکأنها خالدة ولا تطالها ید التغییر والحدثان. وحتی تهالک الإنسان علی اکتساب الثروة والقدرة والتأثیر والنفوذ الاجتماعی وما إلی ذلک من الأمور التی لا تعرف الوقوف عند حد - فمهما بلغ الإنسان من الحصول علی المکانة الاجتماعیة المؤثرة والثراء الطائل نجده یطلب المزید - یدل بشکل غیر مباشر علی وجود هذه النزعة والمیل الباطنی إلی الخلود والبقاء وعدم الفناء.

بالالتفات إلی ما تقدّم فإنّ مرادنا من تنمیة النزعة إلی الخلود لدی الإنسان - بوصفه هدفاً وسیطاً - أحد أمرین، وهما:

1. إن النزعة إلی الأبدیة لدی الإنسان - من وجهة نظر الدین - لا ینبغی أن تنحدر بسبب المیول والرغبات المرحلیة والآنیة إلی الضعف والخمول. إن إحیاء وتجدید هذه النزعة الداخلیة والباطنیة تمهّد الأرضیة المناسبة لطیّ المراحل الأخری. أما الذی یعتبر نفسه کائناً فانیاً، ویحصر وجوده بهذه الحیاة الدنیا، فلن یبدی أی میل أو رغبة نحو القیَم الأبدیة والخالدة، وحیث إن

ص:199

تصوّره عن نفسه یقترن بنوع من الفناء والخواء، فإن هدایته إلی الأمور الخالدة والقیَم الثابتة فی غایة الصعوبة والتعقید. وبطبیعة الحال فإن تزعزع میل الإنسان ورغبته فی الخلود ناشئ عن رؤیته السلبیة إلی نفسه وحیاته الأبدیة والخالدة، وحیث إن هذه النزعة مسألة ذاتیة ولا یمکن إلغاؤها، فإنها تتجلّی بشکل آخر فی أطر المیول الدنیویة.

2. إن الدور الآخر الذی یلعبه الدین فی تنمیة المیل والنزعة إلی الخلود عند الإنسان، یکمن فی هدایته إلی هذه القوّة والقابلیة. فما أکثر الذین عمدوا إلی إهدار هذه القابلیة والطاقة من خلال توظیفها فی الأمور المحدودة والمرحلیة. وإن التهافت والتهالک علی هذا التضاد فی النزعة والمیل الباطنی تجاه المتعلق الخارجی، یعد من وجهة نظر الدین سبباً فی ضلال الإنسان، فإن الدنیا ومظاهرها المتمثلة بالأمور الاعتباریة من قبیل: الثروة والجاه وما إلی ذلک من الأمور، تعدّ بأجمعها من الموارد التی تتعارض مع حمل مفهوم الأبدیة والخلود. وفی ذلک قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- یَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ1 .

- وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِکَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ2 .

- ما عِنْدَکُمْ یَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِیَنَّ الَّذِینَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما کانُوا یَعْمَلُونَ3 .

إنّ الجاذبیة الکامنة فی نزوع الإنسان ومیله إلی الخلود، من القوّة بحیث لا یسعها التعلّق بالأمور المحدودة والمرحلیة التافهة، وإذا لم یُراع التناسب بین هاتین المسألتین، وتمّ هدر طاقة الإنسان وقدرته - الناشئة عن وجود هذه

ص:200

النزعة لدیه - فی هذه الأمور المحدودة والتافهة، فإنها ستخلّف مشاکل روحیة ونفسیة ومعضلات اجتماعیة جمّة. فمن جهة، حیث تکون الطاقة الاستیعابیة للإنسان أکبر من متعلقها المتمثل بالدنیا وجمیع الأمور الاعتباریة، فلا یقنع بکل ما یحصل علیه منها، فإنه سوف یُصاب بسبب ذلک بالإحباط والقلق وما إلی ذلک من مختلف أنواع الأمراض الروحیة والنفسیة، ومن ناحیة أخری، فإن محدودیة الهدف ومتعلق المیل والنزعة، والرغبة الجامحة والمطلقة وغیر المحدودة لدی الإنسان یؤدی بدوره إلی التضاد الاجتماعی. وإن من جملة منافذ الشیطان لحرف الإنسان عن الصراط المستقیم هو العمل علی توظیف رغباته ومیوله اللامحدودة فی سلوک الطرق غیر الصحیحة. إن خلق حالة من الربط غیر المتناغم بین النزعة الإنسانیة إلی المطلق، وبین متعلقها الدنیوی المحدود یؤدی إلی ضلال الفرد وانحرافه عن جادّة الصواب، وخضوعه إلی الشیطان وتسلیم القیاد له. قال الله تعالی:

- فَوَسْوَسَ إِلَیْهِ الشَّیْطانُ قالَ یا آدَمُ هَلْ أَدُلُّکَ عَلی شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْکٍ لا یَبْلی1 .

- فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّیْطانُ لِیُبْدِیَ لَهُما ما وُورِیَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاکُما رَبُّکُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَکُونا مَلَکَیْنِ أَوْ تَکُونا مِنَ الْخالِدِینَ2 .

وأنّ الذی یمکن له أن ینجیه هو مراعاة التناسب بین نزعته ومیله إلی الأبدیة والخلود، وبین متعلق هذه النزعة، فإن التناغم بین هذین الأمرین هو وحده الذی یضمن السعادة لبنی البشر. وإن منطق القرآن الکریم یقول: إن کل ما یعود إلی الله وینشأ عنه یتصف بالبقاء والخلود، ولذلک فإن الخلاص من حبائل الشیطان رهن بالتمسک بهذه الأمور. وفی ذلک یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

ص:201

- کُلُّ مَنْ عَلَیْها فانٍ * وَ یَبْقی وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِکْرامِ1 .

- وَ ما أُوتِیتُمْ مِنْ شَیْءٍ فَمَتاعُ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ زِینَتُها وَ ما عِنْدَ اللّهِ خَیْرٌ وَ أَبْقی أَ فَلا تَعْقِلُونَ2 .

إنّ هدایة النزعة إلی الله وسائر مظاهره المتمثلة بالحقائق والفضائل وأنواع الجمال والخیر وما إلی ذلک فی ضوء التعالیم الدینیة والنظام التربوی، تشکل سبباً فی هدایتنا وتکاملنا فی مسیر القرب من الله سبحانه وتعالی.

5. تنمیة النزعة إلی اکتساب الکمال

یرغب کلّ إنسان بالتقدّم بطریقة ما، وأنّ ینتقل من واقعه الراهن إلی واقع أفضل. فإنّ النزعة إلی الانتقال من المرحلة السفلی إلی المرحلة العلیا ضاربة بجذورها فی الطبیعة الإنسانیة الفطریة. وأنّ صراع الإنسان فی الحیاة من أجل تغییر واقعه فی مختلف شؤون الحیاة، یأتی فی سیاق تلبیته لمیوله الباطنیة المتحفّزة لإحداث التغییر فی الحیاة. وعلی الرغم من أن کل تحوّل أو تغییر لا یؤدّی بالضرورة إلی التکامل والتقدّم نحو الأفضل، إلّا أنّ الذی یدعو إلی الحرکة علی کل حال هو الحافز الکامن لدی الإنسان فی الوصول إلی الوضع الأفضل، ویمکن لنا أن نقول بکل ثقة: لو لم تکن النزعة إلی الکمال والمیل إلی التقدم والحصول علی الواقع الأفضل قائماً بوصفه أساساً للحرکة، لما شهدنا أیّ نشاط تکاملی علی مستوی الحیاة أبداً.

الدافع والحافز... الحرکة والنشاط... الحصول علی الوضع المنشود

إنّ دور الحافز لیس مجرّد دور بدائی بحیث یقتصر تأثیره فی المرحلة الأولی وقبل القیام بالحرکة، بل إن تأثیره یمتد حتی بلوغ النتیجة المنشودة.

ص:202

إن تحلیل الدافع بوصفه العامل الرئیس فی استمرار الحرکة، یتجه بنا إلی عاملین وهما: عامل الرغبة والمیل (المیل إلی الکمال)، وعامل المعرفة (تطبیق النزعة إلی الکمال علی مصداق معیّن). وإن هذین العاملین والعنصرین مترابطان ویعملان علی توفیر الطاقة الضروریة للتحرک والانطلاق باتجاه الهدف المنشود والمطلوب.

وإن الحرکة تتوقف فی حالتین، وهما:

1. عندما یصل الإنسان إلی نتیجة مفادها أنّ الهدف الذی ینشده لم یعد موصلاً إلی الکمال، وعلیه لا تعود هناک من حاجةَ إلی السعی من أجل بلوغ ذلک الهدف.

2. عندما یتمّ الوصول إلی النتیجة المطلوبة والغایة النهائیة.

إنّ نزوع الإنسان إلی الکمال لا یتوقف عند تحقیق نتیجة واحدة؛ لأن العامل الرئیس فی خلق الحافز لن یتلاشی علی الاطلاق، وأنّ جمیع الحرکات والأنشطة واختیارات الانسان معلولة لنزعته ومیله إلی الکمال.

وأنّ المراد مما یقال: إن أحد الأهداف الوسیطة لتنمیة النزعة إلی الکمال لدی الإنسان، ناظر إلی عامل النزعة والمیل، والعامل المعرفی الکامن فی الدافع. یقوم المسار التربوی فی الدین علی محور تعزیز عامل المیل والنزعة إلی الکمال، وإن الانسان إنما یتمکن من بلوغ القرب من الله إذا سعی إلی بسط کماله الوجودی. وحتی المیول الأخری من قبیل: معرفة الحقیقة، والبحث عن الله، والفضیلة، إنما یمکن تبریرها وتفسیرها بالاستناد إلی هذا المیل والنزعة، ولو لم تکن النزعة والمیل إلی الکمال موجوداً لدی الإنسان، لما کان هناک من معنی للنزوع إلی معرفة الحقائق والفضائل والخالق الذی هو مصدر جمیع الکمالات.

إنّ الهدایة الدینیة ناظرة إلی العامل المعرفی الکامن فی الحافز والدافع،

ص:203

والذی یساعدنا فی انتخاب واختیار الکمالات. إن دور الدین فی هدایة وتوجیه نزعة الإنسان إلی الکمال یؤدی به إلی عدم تضییع طاقته الداخلیة فی الأمور الدنیئة والفانیة. وإن کمالات من قبیل: العلم والمعرفة، والفضائل الأخلاقیة، ومعرفة الحقیقة، والبحث عن الله، هی من الموارد التی یؤکّد الدین علی ضرورة تحصیلها واکتسابها. وإن مظاهر الدنیا تعتبر من وجهة نظر القرآن وسیلة للانحراف عن مسیرة الکمال، وإنها تؤدی إلی الضلال والضیاع، وبعکس ذلک فإن کلّ ما یتصل بالبعد الأبدی من الإنسان أو الله، یُعدّ من مظاهر التقرّب من الله سبحانه وتعالی، من قبیل: التقوی والصبر والتوبة والصیام والصلاة، وکذلک الأعمال الاجتماعیة الصالحة من قبیل: الصلح بین الخصوم والتصدّق ومساعدة الفقراء والمساکین، وکفالة الأیتام، ورعایة حقوق الآخرین. وهناک الکثیر من الآیات القرآنیة الکریمة التی رصدت هذه الموارد، وإلیک عرض لهذه الآیات علی النحو الآتی:

- زُیِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِینَ وَ الْقَناطِیرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَیْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِکَ مَتاعُ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ اللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَ أُنَبِّئُکُمْ بِخَیْرٍ مِنْ ذلِکُمْ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ وَ اللّهُ بَصِیرٌ بِالْعِبادِ .(1)

- قُلْ مَتاعُ الدُّنْیا قَلِیلٌ وَ الْآخِرَةُ خَیْرٌ لِمَنِ اتَّقی .(2)

- وَ رَحْمَتُ رَبِّکَ خَیْرٌ مِمّا یَجْمَعُونَ .(3)

- اَلْمالُ وَ الْبَنُونَ زِینَةُ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ الْباقِیاتُ الصّالِحاتُ خَیْرٌ عِنْدَ رَبِّکَ ثَواباً وَ خَیْرٌ أَمَلاً .(4)

ص:204


1- (1)) آل عمران: 14-15.
2- (2)) النساء: 77.
3- (3)) الزخرف: 32.
4- (4)) الکهف: 46.

- وَ مَا الْحَیاةُ الدُّنْیا إِلاّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدّارُ الْآخِرَةُ خَیْرٌ لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ .(1)

- بَقِیَّتُ اللّهِ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِحَفِیظٍ .(2)

- وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَیْرَ الزّادِ التَّقْوی وَ اتَّقُونِ یا أُولِی الْأَلْبابِ .(3)

- یا بَنِی آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَیْکُمْ لِباساً یُوارِی سَوْآتِکُمْ وَ رِیشاً وَ لِباسُ التَّقْوی ذلِکَ خَیْرٌ ذلِکَ مِنْ آیاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ یَذَّکَّرُونَ .(4)

- وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَیْرٌ لَکُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِیمٌ .(5)

- وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَیْرٌ لِلصّابِرِینَ * وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُکَ إِلاّ بِاللّهِ .(6)

- فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَیْرٌ لَکُمْ .(7)

- وَ أَنْ تَصُومُوا خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .(8)

- یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا نُودِیَ لِلصَّلاةِ مِنْ یَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلی ذِکْرِ اللّهِ وَ ذَرُوا الْبَیْعَ ذلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .(9)

- یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا ارْکَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّکُمْ وَ افْعَلُوا الْخَیْرَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ .(10)

- وَ الصُّلْحُ خَیْرٌ .(11)

ص:205


1- (1)) الأنعام: 32.
2- (2)) هود: 86.
3- (3)) البقرة: 197.
4- (4)) الأعراف: 26.
5- (5)) النساء: 25.
6- (6)) النحل: 126-127.
7- (7)) التوبة: 3.
8- (8)) البقرة: 184.
9- (9)) الجمعة: 9.
10- (10)) الحج: 77.
11- (11)) النساء: 128.

- وَ لا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ یَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَیْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ .(1)

- وَ إِنْ کانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلی مَیْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .(2)

- وَ یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْیَتامی قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَیْرٌ .(3)

- وَ أَوْفُوا الْکَیْلَ إِذا کِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِیمِ ذلِکَ خَیْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِیلاً .(4)

إن جعل الله هو المحور فی المنطق القرآنی، وجعله هو القبلة والغایة فی مسیرة الحیاة یشتمل علی جمیع هذه الکمالات، وإن کل واحد من هذه الأمور تعتبر مظهراً ونموذجاً لها. وإن سرّ نجاحنا یکمن فی قربنا من الله. قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ اللّهُ خَیْرٌ وَ أَبْقی .(5)

- إِنَّما عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .(6)

- لکِنِ الَّذِینَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَ ما عِنْدَ اللّهِ خَیْرٌ لِلْأَبْرارِ .(7)

- قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِکَ فَلْیَفْرَحُوا هُوَ خَیْرٌ مِمّا یَجْمَعُونَ8 .

6. تنمیة النزعة إلی الحیاة الاجتماعیة

إنّ لمنشأ نزوع ومیل الإنسان إلی إقامة الارتباط مع الآخرین - أیاً کان نوعه - ظهوراً واسعاً. فإننا لو استعرضنا المظاهر الواسعة لارتباط الناس ببعضهم

ص:206


1- (1)) آل عمران: 180.
2- (2)) البقرة: 280.
3- (3)) البقرة: 220.
4- (4)) الإسراء: 35.
5- (5)) طه: 73.
6- (6)) النحل: 95.
7- (7)) آل عمران: 198.

منذ فجر التاریخ إلی یومنا هذا، سندرک أن هناک نوعاً من المیل والنزعة لدی الإنسان باتجاه توثیق الأواصر الاجتماعیة والعلاقات فیما بینه وبین أخیه الإنسان. وأما منشأ ومصدر هذه النزعة، وما إذا کان متمثلاً بالفطرة أو الغریزة أو الحاجة الفردیة، فهو موضوع آخر(1). وعلی کلّ حال، فإن اختلاف الرأی

ص:207


1- (1)) هناک فی هذا المجال ثلاث نظریات رئیسة، وهی:1. إن الإنسان کائن اجتماعی بطبعه، وإن النزعة الاجتماعیة کامنة فی وجوده. یقول أرسطو رائد هذه النظریة: إن صفة التکلم التی یتمتع بها الإنسان ویمتاز بها من غیره من المخلوقات تحکی عن طبعه الاجتماعی، (تاریخ فلسفة ایران وروما، کابلستون، فریدریک، ترجمة: إلی: جلال الدین مجتبوی: 401). کما یذهب مسکویه إلی الاعتقاد بأن الإنسان یمیل بطبعه إلی الأنس بالآخرین، (وتهذیب الأخلاق وتطهیر الأعراق، مسکویه: 118). وهکذا یذهب ألفرد إدلر - عالم النفس الشهیر - إلی الاعتقاد بوجود نزعة فطریة بین الأفراد إلی الارتباط بالآخرین، وتظهر هذه النزعة فی أول أمرها علی العلاقة بین الأم وولیدها، ثمّ تتسع شیئاً فشیئاً لتصل إلی تأسیس الجماعات والعلاقات الاجتماعیة المعقدة (الدافع والحافز، موری، إدوارد جی، ترجمة: محمد نقی براهنی: 116).2. ذهب بعض الفلاسفة وعلماء النفس إلی القول: إن ضرورة العیش وحاجة الفرد إلی الآخرین هی التی فرضت علیه اختیار الحیاة الاجتماعیة. قال الفارابی: إن الإنسان من الأصناف التی لا یمکنها تلبیة ضرورات الحیاة والوصول إلی أفضل الأوضاع الروحیة إلا من خلال بناء المجتمع، (سیاسة المدینة، الفارابی: 69). وقال العلامة الطباطبائی فی هذا الشأن: «إن معنی ما یقال من أنّ الإنسان مدنی بالطبع هو أن ضرورات الحیاة هی التی تقوده إلی الحیاة الاجتماعیة؛ لأنّه لا یستطیع وحده القیام بتلبیة هذه الضرورات»، (تفسیر المیزان: 121/2).3. هناک من المفکرین الآخرین من یری أن المیول الاجتماعیة مشتقة من المیول الأخری مثل: صیانة الذات أو طلب الکمال. قال نصیر الدین الطوسی فی الأخلاق الناصریة: «إن النزعة الاجتماعیة ناشئة عن النزعة إلی تحصیل الکمال الفطری».أما القرآن الکریم، فقد أشار إلی وجود هذه النزعة فی الإنسان، دون التطرّق إلی منشئها ومصدرها، وذلک إذ یقول تعالی:یا أَیُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثی وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ (الحجرات/ 13).وَ هُوَ الَّذِی خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ کانَ رَبُّکَ قَدِیراً (الفرقان/ 54).

فی هذه المسألة لا یحول دون بحثنا من أجل التعرّف علی حقیقة هذه النزعة الکامنة فی وجود الإنسان، والعمل علی تعزیزها وهدایتها. إن أیّ واحد من الآراء المطروحة فی هذا الشأن، لا یعنی إلغاء ونفی أصل النزعة المذکورة؛

لأن کل واحد منها یؤمن بوجود أصل النزعة إلی الحیاة الاجتماعیة، وإن الفارق الوحید یکمن فی مصدرها ومنشأ ظهورها. وعلی هذا الأساس، فحتی لو سلّمنا إنکار أن یکون لهذه النزعة جذور فطریة وداخلیة، وقلنا: أن المنشأ لها هو مجرّد الحاجة الخارجیة للإنسان، فإن هذا لا یغیّر فی أصل المسألة. وإن اهتمام الکثیر من النصوص الدینیة بهذه الناحیة من وجود الإنسان یثبت أهمیة العلاقات الاجتماعیة وتعاطی الأفراد فیما بینهم. ولو عمدنا إلی تقسیم نشاط الإنسان إلی قسمین، وهما: النشاط الفردی، والنشاط الاجتماعی، سنجد النشاط الاجتماعی والعلاقات بین مختلف الأفراد یحتَلُّ المساحة الأکبر من مساحة النشاط الفردی. فإن مختلف المؤسسات الاجتماعیة المتنوعة من قبیل: الأسرة والمدرسة والجامعة وغیرها تترک تأثیراً کبیراً علی الحیاة الفردیة وتلقی بظلها علی خیارات الانسان الشخصیة. بحیث یمکن القول: إن الکثیر من الناس یقومون باتخاذ القرار بتأثیر من عقائد الآخرین والثقافة الاجتماعیة التی یعاصرونها. لقد اعتُبر الانفصال عن المجتمع والاستغناء عن خدمات الآخرین - علی طول التاریخ - أمراً مستحیلاً. إن الإنسان من أجل رفع حاجاته - سواء فی ذلک الحاجات المعاشیة أو الغریزیة أو الروحیة - مضطر إلی الانتساب لعضویة مختلف فئات المجتمع، وعلی الرغم من ملاحظة بعض مظاهر الانفصال المؤقتة والمرحلیة أحیاناً، بید أن الانقطاع الکامل والتام لا هو بالممکن ولا هو بالأمر المطلوب والمنشود. وإن تعزیز الکثیر من طاقات وقابلیات الإنسان من قبیل: اللغة والتفکیر والعواطف والمشاعر، رهین بالعلاقات والروابط الاجتماعیة. إنّ تجنب العیش فی نطاق المجتمع یؤدی

ص:208

إلی عقم فی بعض الطاقات وضعف ونقصان فی بعضها الآخر. فمن باب المثال: إن کبح التقدم الطبیعی فی مجال تعلیم اللغة، یؤدی بدوره إلی خفض المستوی الفکری والذهنی. وهذا الأمر یصدق بالنسبة إلی المشاعر والعواطف وحتی الأعمال الظاهریة للفرد أیضاً. وفی الإسلام تحظی مسألة تکوین شخصیة الإنسان فی إطار الحیاة الاجتماعیة بأهمیة خاصة. إن موقف الإسلام بالنسبة إلی الحیاة الاجتماعیة للإنسان قد ترک تأثیره حتی علی الکثیر من الأعمال العبادیة، وقد أکّد کثیراً علی الأمور العبادیة التی تقام بشکل جماعی. ومن هنا عندما تُطرح مسألة تنمیة النزوع والمیل إلی الحیاة الاجتماعیة من وجهة نظر الدین، یکون ناظراً إلی تقویته وتعزیزه، وناظراً أیضاً إلی توجیهه وهدایته. والمراد من التقویة والتعزیز هو تنمیة هذه الناحیة من وجود الإنسان بحیث یتمّ من خلالها القضاء علی النزعة الفردیة، والتشجیع علی المشارکة فی الأنشطة الاجتماعیة مع الآخرین. وفی الحقیقة لو آل هذا النوع من المیول إلی الأفول، فإننا سنکون وجهاً لوجه أمام الکثیر من المیول والرغبات المختلفة التی یشکل کل واحد منها عقبة کأداء أمام التقدّم. والمسألة الأخری هی أنه لولا التعاون الجماعی لما قامت حضارة علی الأرض أبداً. وفی ذلک روی عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال:

إنّهُ لا بُدَّ لَکُم مِنَ الناسِ، إنَّ أَحَداً لا یَستَغنی عَنِ الناسِ فی حَیاتِهِ، وَالناسُ لا بُدَّ لِبَعضِهِم مِن بَعضٍ.(1)

إن النتائج والمعطیات العلمیة والثقافیة العظیمة رهینة بالتعاون الفکری والمشارکة الجماعیة، فقد روی عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

المُؤمنُ یَألَفُ وَیُؤلَفُ، وَلا خَیرَ فیمَن لا یَألَفُ ولا یُؤلَفُ.(2)

ص:209


1- (1)) وسائل الشیعة: 399/8.
2- (2)) کنز العمال: 142/1.

إن المعطیات التربویة الحاصلة من العلاقات الاجتماعیة عبارة عن:

أ) إِزدهار الطاقات والقابلیات الفردیة: لقد سلَّح الله سبحانه وتعالی الإنسان وجهّزه بمختلف الطاقات والإمکانات، بحیث إن کلّ فرد یتمتع بسلسلة من القابلیات والکفاءات الخاصة، ولیس الأمر بحیث إن عامة الأفراد یتمتعون بکامل الإمکانات التی تُمکِّنهم من الحیاة ورفع الحاجات بشکل منفرد عن الآخرین. إنّ تلاحم جمیع أفراد البشر واتحادهم لا یؤدی إلی تلبیة جمیع حاجات الناس المتنوّعة فحسب، بل إن ذلک سیعد الأرضیة لازدهار وتطوّر قابلیاتهم وکفاءاتهم أیضاً. بحیث یمکن القول: إنّ المعطیات العلمیة والصناعیة والثقافیة للإنسان مدینة لقبول الأفراد بالعیش فی إطار المجتمع، ولولا ذلک لما توصلنا الیوم إلی مثل هذه الحضارات والثروات الراهنة.

ب) التحرر من محوریة الذات وتنمیة روح التعاون والإخاء: إن تعزیز وتقویة تنمیة النزعة والمیل إلی الحیاة الاجتماعیة یساعد علی تقریب الإنسان من سائر إخوته فی الإنسانیة، والابتعاد عن متطلباته ورغباته الشخصیة والأنانیة. إن احترام کفاءات الآخرین ورعایة حقوقهم، یجعل من استثمار طاقاتهم أمراً میسوراً، ویمهّد الأرضیة لاستعراض المهارات الفردیة، ویشجع علی الابداع والابتکار. وعلاوة علی ذلک، کلما کان الارتباط الإجتماعی وثیقاً، کان النزاع بین الناس قلیلاً، ومن هنا ینخفض احتمال الحروب، وتحلّ الألفة والرحمة محلّ البغضاء والتشاحن والفرقة. وفی ذلک قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ کُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْها کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ1 . لقد أکّد الإسلام علی التواجد فی الساحة الاجتماعیة بحیث اعتبر

ص:210

عبادات من قبیل: الصلاة - التی هی عمود الدین ومن أبرز الأعمال العبادیة والاتصال بین الله والإنسان - إنما تحصل علی صورتها الأکمل إذا أقیمت بشکل جماعی، ومن هنا فإن صلاة الجمعة والجماعة تعدّ من أهم الشعائر الإسلامیة.

إن ثبات واستحکام العلاقات والروابط المتبادلة بین الناس إنما یُکتَب لها الدوام إذا اتّسمت بالکیفیة المقبولة. فإن علاقة الناس ببعضهم لا تُبنی علی أساس الغرائز کما هو شأن سائر الحیوانات. فالحیوانات تَبنی علاقاتها ببعضها علی أساس من غرائزها، وأما خارج حدود هذه الغرائز فلا یوجد أی مفهوم أو معنی لهذه العلاقات. وأما بالنسبة إلی الإنسان فإن حدود العلاقات تتخطی النزعة الغریزیة، حیث هناک عنصر آخر یلعب دوراً کبیراً فی توثیق وتعزیز واستمرار العلاقات والروابط بین أفراد البشریة، فإذا حذفنا هذا العضر من دائرة العلاقات الاجتماعیة، فإن الجو السائد فی هذه العلاقات سیؤول نحو البرود والضعف، وسوف تقتصر العلاقات والروابط علی الأمور الغریزیة والمعیشیة فقط. ولیست هذه العوامل سوی نزعة الانسان إلی ترجیح کفّة الحیاة الاجتماعیة. وفی الحقیقة فإن هذا العنصر أوالعامل یؤدی إلی توثیق العلاقات واستمرارها. وحیث توسعت واشتدّت أبعاد هذا العامل الداخلی بحیث یعتبر الفرد الآخرین بمنزلة نفسه، فیحبّ لهم ما یحبّ لها، فإن استمرارها وبقاءها سیکون أکثر استقراراً وثباتاً. وإن الإیثار والتضحیة من الأمثلة البارزة والکاملة علی تقویة وتعزیز هذا البعد فی کیان الإنسان. إن الألفة والعلاقة بین المؤمنین رهینة بالابتعاد عن المنّ والأذی والأنا، وإن محور هذه الألفة والأخوّة هو الإیمان بالله سبحانه وتعالی. فإن العنصر الذی یُجنّب الانسان الأنا والنفعیة، ویعزز لدیه النزعة إلی الحفاظ علی مصالح المجتمع العامة وترجیح کفتها علی مصلحته الشخصیة هو الإیمان بالله الذی یحثّه علی الاهتمام بهدف واحد والتوجه إلی نقطة واحدة محدّدة. قال الله

ص:211

تعالی فی محکم کتابه: هُوَ الَّذِی أَیَّدَکَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِینَ * وَ أَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً ما أَلَّفْتَ بَیْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لکِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَیْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ1 . وعلیه فإن الإیمان بالله سبحانه وتعالی هو وحده الذی یضمن التألیف بین القلوب، وهدایتها إلی التوجه نحو الهدف والغایة الوحیدة المتمثلة بالله تبارک وتعالی. فلو حلّت الثروة والجاه والمناصب وسائر المظاهر الدنیویة الأخری محل الله تعالی، وصار کل شخص یسعی الضمان منفعته الخاصة، فلا محالة من وقوع التعارض بین مختلف المصالح، وعندها سوف تستعر نار الفرقة والخلاف فی المجتمع. وفی ذلک روی عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنه قال:

إِتّقوا اللَه وَکونوا إخوَةً بَررَةً، مُتحَابّینَ فی اللهِ، مُتَواصِلینَ مُتَراحِمینَ، تَزاوَروا وَتَلاقُوا وتَذَاکَروا أَمرَنا وأَحیوهُ).(1)

وعلی الرغم من تأکید الإسلام علی توسیع وتعزیز روح التعاون، إلّا أنّه لیس کل تعاون ینتهی بالضرورة إلی تحقیق الأهداف المتعالیة، وعلیه لیس هناک من شک فی أنّ التعاون فی إطار تحقیق الأهداف والغایات الخبیثة، لا یمکن أن تندرج فی إطار خدمة الإنسانیة والعمل لصالحها. قال الله سبحانه وتعالی: وَ تَعاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ وَ التَّقْوی وَ لا تَعاوَنُوا عَلَی الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِیدُ الْعِقابِ3 .

وعلیه فبالالتفات إلی هذین العنصرین اللذین تمّ التأکید علیهما من قبل الدین، وهما:

1. السعی إلی إیجاد الألفة والتراحم بین المؤمنین وتعزیز روح الأخوة بین الناس.

ص:212


1- (2)) الشیخ الکلینی، أصول الکافی: 140/2.

2 - السعی إلی توجیه وهدایة التعاون نحو الهدف المتعالی.

یمکننا بعد ذلک أن نعمل علی تحدید أسلوب إقامة الارتباط والعلاقات مع الآخرین. وإن الملاک والمعیار فی تحدید سیاسة العلاقات والروابط فی المجتمع الدینی لا یتجاوز شیئاً واحداً، ألا وهو القرب من الله سبحانه وتعالی. وفی النظرة الأولی یقوم التصوّر علی إمکان التقرّب من الله علی نحوین، وهما: الطریقة الفردیة، والطریقة الجماعیة. أما الشِقُّ الأول - أی الحرکة الفردیة - فهو منبوذ ومرفوض؛ وذلک لأن التکالیف الدینیة أثقل وأشد من أن یتمکن الفرد لوحده من القیام بها علی النحو المطلوب. وأما الشِقُّ الثانی - أی الحرکة الجماعیة نحو الهدف المنشود - فإنه یؤدی بنا إلی المسیر علی جادّة القرب من الله، ویُعدّ الأرضیة لکمالنا. یمکن لنا - من جمیع النصوص الدینیة الواردة فی هذا الباب - التوصل إلی الدور الفرید والفذ الذی تلعبه الأنشطة الجماعیة من أجل الوصول إلی الأهداف المتعالیة. إن النظام التربوی الدینی یؤکد علی بناء الألفة والتعاون الهادف، ویساعدنا علی اختیار الجلیس الصالح. فإن الدقة فی اختیار الخَدِین الذی یمکنه مواکبتنا فی مسیر القرب من الله یعدّ فی غایة الأهمیة من وجهة نظر الدین.

لقد تم إطلاق کلمة (الإخوة) فی القرآن الکریم علی صنفین من الناس، وهما: الصنف الذی تربطه رابطة الأخوّة النسبیّة، والصنف الذی تربطه رابطة الأخوّة الأنسانیة، ولکنه مع ذلک یتمتع برابطة وثیقة تجعل العلاقة القائمة بین أعضائها قویة ولصیقة جداً. وقد أطلق القرآن الکریم علی هذا العامل عنوان (الإیمان)، مؤکداً علی ضرورة عنصر التآخی والمودة بین المؤمنین، وذلک إذ یقول الله سبحانه وتعالی: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ1 ، ویقول تعالی أیضاً: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ

ص:213

فَإِخْوانُکُمْ فِی الدِّینِ1 . وقد تمّ بیان أهمیة المیل والنزعة القلبیة إلی مواکبة الراکعین والصادقین والعابدین والمجاهدین والمهاجرین والشاهدین والدخول فی الواحة الأبدیة ومجاورة الأبرار، والبدء بالحیاة الخالدة مع الصالحین، فی القرآن الکریم بشکل بلیغ للغایة، وذلک إذ یقول الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ أَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ وَ ارْکَعُوا مَعَ الرّاکِعِینَ2 .

- یا مَرْیَمُ اقْنُتِی لِرَبِّکِ وَ اسْجُدِی وَ ارْکَعِی مَعَ الرّاکِعِینَ3 .

- یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ کُونُوا مَعَ الصّادِقِینَ4 .

- وَ اصْبِرْ نَفْسَکَ مَعَ الَّذِینَ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِیِّ یُرِیدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَیْناکَ عَنْهُمْ تُرِیدُ زِینَةَ الْحَیاةِ الدُّنْیا5 .

- وَ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَکُمْ فَأُولئِکَ مِنْکُمْ6 .

- رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاکْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِینَ7 .

- رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِیاً یُنادِی لِلْإِیمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّکُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ کَفِّرْ عَنّا سَیِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ8 .

- رَبِّ قَدْ آتَیْتَنِی مِنَ الْمُلْکِ وَ عَلَّمْتَنِی مِنْ تَأْوِیلِ الْأَحادِیثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِیِّی فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِی مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِی بِالصّالِحِینَ9 .

ص:214

من هنا فإن الشرط الرئیس فی اختیار الخَدِین والجلیس هو قیاس مقدار تعهده ووفائه للهدف الغائی المتمثل بالقرب من الله سبحانه وتعالی. وقد رُوی عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه سُئل: من هو الجلیس الصالح؟ فقال: (مَن یُذَکِّرکُمُ اللهُ برُؤیَتِهِ، وَیَزیدُ فی عَمَلِکُم مَنطِقُهُ، وَیُرَغِّبُکُم فی الآخِرَةِ عَمَلُهُ)(1). کما أن تأکید القرآن الکریم علی تجنّب مصاحبة الظالمین والکافرین والمنافقین یثبت أهمیة الشخصیة الأخلاقیة والروحیة للانسان الذی نختاره بوصفه جلیساً وصدیقاً، قال تعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِینَ2 .

- وَ إِذا رَأَیْتَ الَّذِینَ یَخُوضُونَ فِی آیاتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّی یَخُوضُوا فِی حَدِیثٍ غَیْرِهِ وَ إِمّا یُنْسِیَنَّکَ الشَّیْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّکْری مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِینَ3 .

- وَ نادی نُوحٌ ابْنَهُ وَ کانَ فِی مَعْزِلٍ یا بُنَیَّ ارْکَبْ مَعَنا وَ لا تَکُنْ مَعَ الْکافِرِینَ4 .

- وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَیْکُمْ فِی الْکِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آیاتِ اللّهِ یُکْفَرُ بِها وَ یُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّی یَخُوضُوا فِی حَدِیثٍ غَیْرِهِ إِنَّکُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جامِعُ الْمُنافِقِینَ وَ الْکافِرِینَ فِی جَهَنَّمَ جَمِیعاً5 .

7. تنمیة النزعة والمیل إلی الدفاع

إنّ من بین المیول التی یمتاز بها الإنسان، سعیه إلی الحفاظ علی إنجازاته الشخصیة والاجتماعیة والدفاع عن تلک الإنجازات. وأما البحث فیما إذا کان منشأ هذا الدفاع والحفاظ علی هذه الإنجازات فطریاً أم غریزیاً أم له مناشئ

ص:215


1- (1)) الحر العاملی، وسائل الشیعة: 412/8.

أخری، فهی مسألة أخری. فإن ما هو المهم هنا بالنسبة لنا هو تأثیر هذه النزعة والمیل فی مختلف الأبعاد الفردیة والاجتماعیة. یسعی کل شخص - ما أمکنه - إلی القیام بردود فعل تجاه السدود والموانع بغیة الدفاع عن نفسه والتغلب علی الموانع. ذلک أن التقاعس عن مواجهة هذه الموانع سوف یستتبع الندم وعذاب الضمیر، فی حین أن النجاح فی التغلّب علیها سیؤدی إلی الرضا والسعادة. لا یمکن إنکار الدور الخاص الذی تلعبه الأنشطة الدفاعیة فی ضمان الأمن وخلق الأرضیة والظروف المناسبة من أجل الوصول إلی الکمال فی سائر المجالات والحقول الأخری. فلو أنه تمّ إلغاء عناصر الدفاع والوقوف بوجه الهجمات الخارجیة من حیاة الإنسان، فإن ذلک سیؤدی إلی زعزعة الأوضاع الآمنة، ولن تکون هناک إمکانیة لممارسة الأنشطة الفردیة والاجتماعیة، وإن الأمل بالغد والمستقبل المشرق بالنسبة إلی مختلف المجالات، سیتحول إلی إحباط ویأس وانعدام للأمل. إن التخلّص والتحرر من القوی المهاجمة والعناصر التی تهدد وجود الانسان الذی یطمح إلی الکمال والقرب من الله، أمر لا یمکن اجتنابه. إن تاریخ الإنسانیة مفعم بالحروب والنزاعات بین جناحی الحق والباطل. وهی حروب تتخذ کل یوم أشکالاً متنوّعة ومختلفة. فکل شخص یروم الوصول إلی أهدافه ونوایاه یضطرّ إلی ضمان الأمن فی دائرة نشاطه. خلاصة الأمر أن استمرار حیاة الإنسان رهن بضمان الأمن الخارجی، ولا یمکن تحقیق هذا الأمن إلا فی ظلّ وجود قوّة دفاعیة موثوقة.

والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: ما هو المراد من هدفیة تنمیة النزعة إلی الدفاع فی سلسلة الأهداف الوسیطة؟ فهل المراد من إدراج هذا الدفاع ضمن سلسلة الأهداف الوسیطة، یعنی تحقیقه وفعلیته؟ وبعبارة أخری: إن اعتبار أمرٍ ما هدفاً یعنی الاتجاه نحو تحقیقه والوصول إلیه،

ص:216

وأما فیما یتعلق بالهدف الأخیر، فکیف یمکن توجیه هذه النزعة؟ فی الإجابة عن هذا السؤال، یجب أن نقول: إن المنظور فیما یتعلق بالأهداف الوسیطة لیس هو مجرّد النزعة إلی الدفاع فقط، حتی یکون هذا الإشکال وارداً، وإنما الهدف هو نفس الدفاع الذی هو رهن بعوامل أخری من قبیل: الهجوم الخارجی. وإن هذا النوع من الأهداف لا یحدث أی میل لدی الإنسان، وإنما هو مجرّد ردّة فعل طبیعیة وفیزیقیة تحصل من تلقائها عند احتدام النزاع المتبادل. وإن ما هو الغایة المنشودة هو تنمیة النزعة إلی الدفاع وصدّ العدوان، ولیس نفس الدفاع. التنمیة بمعنیین: تعزیز نزعة النفس إلی الدفاع، والعمل علی توجیه وهدایة هذه النزعة). إن وظیفة هذا الهدف تکمن فی إعداد الأرضیة للحصول علی الأهداف الوسیطة الأخری، وتجعل الحیاة أکثر أماناً واستقراراً. إن تحلیلنا للهدف الدفاعی یوصلنا إلی هذه الحقیقة وهی أن المیول الإنسانیة نحو الحفاظ علی مختلف الإنجازات وإحیاء الأمل باستمرار النشاط، أضحی سبباً فی إیجاد هدفٍ مستقل فی عرض الأهداف الأخری. وإن دور هذا الهدف بالمقارنة إلی الأهداف الوسیطة الأخری، وحتی السلوکیات الجزئیة، یکمن فی توفیر الأمن بغیة تحقیقها علی نحو أفضل. وعلیه فمن خلال المقارنة بین مختلف الأهداف الوسیطة نصل إلی نتیجة مفادها أن مطلوبیة الهدف الدفاعی لیست ذاتیة، بل إن هذا الهدف یمهّد الأرضیة لظهور الأهداف الأخری، فإنه یمثل بالنسبة لها مطلوبیة آلیة، خلافاً لسائر الأهداف الوسیطة الأخری التی تحتوی علی قیمة ذاتیة.

إن الدفاع فی مواجهة الهجوم والصمود أمامه من أجل الحفاظ علی القیَم الدینیة المنشودة، یعتبر من بین الأمور التی تمّ التأکید والحثّ علیها فی النصوص الدینیة. فمن وجهة نظر القرآن الکریم یُعدّ تعزیز وتوظیف هذه

ص:217

الناحیة من المیول، عنصراً هامّاً فی الحیلولة دون ظهور الفساد فی الأرض. قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لکِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَی الْعالَمِینَ1 .

- وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِیَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ یُذْکَرُ فِیهَا اسْمُ اللّهِ کَثِیراً وَ لَیَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ یَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ2 .

- أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّهَ عَلی نَصْرِهِمْ لَقَدِیرٌ3 .

- إِنَّ اللّهَ یُدافِعُ عَنِ الَّذِینَ آمَنُوا إِنَّ اللّهَ لا یُحِبُّ کُلَّ خَوّانٍ کَفُورٍ4 .

لو أن الانسان تجنب الدفاع فی مواجهة غزو القوی التی تروم الفساد فی الأرض، فإن الأمر لن یقتصر علی هدم المعابد التی هی مظهر الاتحاد واجتماع کلمة المؤمنین بالله فحسب، بل سیعمّ الفساد جمیع أنحاء الکرة الأرضیة. وعلیه فإن استمرار القیم الفردیة والاجتماعیة وتعزیزها رهن بالدفاع عنها، وإن أی تقصیر فی هذا المجال یعنی زوالها وانهیارها. ومن هنا نجد الله سبحانه وتعالی یحث النبی الأکرم (صلی الله علیه و آله) علی تحریض المؤمنین وتشجیعهم علی الجهاد والدفاع عن حیاض الدین، وذلک إذ یقول تعالی:

- یا أَیُّهَا النَّبِیُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِینَ عَلَی الْقِتالِ5 .

وکما أن الله تبارک وتعالی من جهة یشمل الذین یقاتلون الغزاة وحملة رسالة الشرک والکفر، بمحبّته ورعایته الخاصة، إذ یقول: إِنَّ اللّهَ یُحِبُّ الَّذِینَ

ص:218

یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِهِ صَفًّا کَأَنَّهُمْ بُنْیانٌ مَرْصُوصٌ1 . نجده فی الجانب الآخر یؤاخذ الذین یضیعون حیاتهم ولا یحافظون علی حیثیتهم الدینیة والإنسانیة، وذلک إذ یقول الله تبارک وتعالی:

- وَ ما لَکُمْ لا تُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْیَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ نَصِیراً2 .

- فَلَمّا کُتِبَ عَلَیْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِیلاً مِنْهُمْ وَ اللّهُ عَلِیمٌ بِالظّالِمِینَ3 .

وبالإضافة إلی تعزیز وتقویة أصل المیل والنزعة إلی الدفاع، فإن هدایة وتوجیه هذه النزعة مأخوذة بنظر الاعتبار أیضاً. إن جمیع الآیات القرآنیة الواردة فی هذا المجال تدل علی توجیه هذه النزعة نحو المواجهة مع الکفر والشرک والنفاق. من هنا یجب أن یکون المعیار فی توجیه هذه النزعة هو مواجهة غزو الکفر والشرک المدفّر والحیلولة دون قوّة شوکتهما. ولذلک نجد القرآن الکریم یأمرنا بالدفاع عن أنفسنا، ومواجهة الکفار والمشرکین والمنافقین. وهناک من الآیات ما یدل علی وجوب مواجهة غزوهم وضرورته، إذ یقول تعالی:

- وَ قاتِلُوا فِی سَبِیلِ اللّهِ الَّذِینَ یُقاتِلُونَکُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا یُحِبُّ الْمُعْتَدِینَ4 .

- وَ قاتِلُوا الْمُشْرِکِینَ کَافَّةً کَما یُقاتِلُونَکُمْ کَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِینَ5 .

ولیست هذا فحسب بل تری مجرّد وجود أئمة الکفر والشرک والذین

ص:219

یعاندون المؤمنین ویحاربونهم خطراً علی المؤمنین وعباد الله، وأمر بجهادهم. قال الله تبارک وتعالی:

- فَقاتِلُوا أَوْلِیاءَ الشَّیْطانِ إِنَّ کَیْدَ الشَّیْطانِ کانَ ضَعِیفاً1 .

- وَ إِنْ نَکَثُوا أَیْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِی دِینِکُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْکُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَیْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ یَنْتَهُونَ2 .

- یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِینَ یَلُونَکُمْ مِنَ الْکُفّارِ وَ لْیَجِدُوا فِیکُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِینَ3 .

إنما تمّ التأکید فی القرآن الکریم علی ضرورة مجاهدة الأعداء، لکونهم مصدر الفتنة، حیث سیکونون سبباً فی حرف أفراد الإنسانیة عن جادّة الصواب، ومن هنا یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ لِلّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَی الظّالِمِینَ4 .

8. تنمیة النزعة إلی الجمال

إن من بین الأمور التی ینزع إلیها الإنسان، هو الفن والجمال. فهذه النزعة موجودة عند جمیع الناس، حیث یمیل کل إنسانٍ بنحو من الأنحاء إلی الجمال، وینفر من القبح. وإن رغبة الناس وشوقهم إلی الجمال خیر شاهد علی وجود هذه النزعة الباطنیة الکامنة فی وجودهم. وإن اللذة الحاصلة من هذا البعد من النزعة الموجودة لدی الإنسان، قد أفضت إلی ظهور مختلف الأنظمة المتنوعة والآثار الفنیة المختلفة. وإن إنجاز الآثار الفنیة من قبیل: الموسیقی والرسم والعمارة

ص:220

والشعر والأدب والاهتمام بالمظاهر الفنیة، مدین إلی نزعة الإنسان الداخلیة نحو هذه الآثار الفنیة ومواهبها الإبداعیة. إن الفن قد دخل الیوم فی صلب الثقافة والأمور المعنویة بشکل عام، بحیث لو أننا جرّدنا الفن من حیاة الإنسان، سنکون قد حرمناه من الغذاء الروحی والنفسی والوجدانی.

إن الإنسان کما ینمّی عقله من خلال توظیفه لأدوات العلم والتفکیر وممارسة العملیة التعلیمیة، فإنه إلی جانب ذلک یصقل مشاعره وعاطفته من خلال تنمیة إحساسه بالفن والجمال. من هنا فإن نزعة الإنسان إلی الجمال والأعمال الفنیة تضرب بجذورها فی أبعاد النفس الإنسانیة، وإن أهمّ الشواهد علی ذلک ما نراه فی النشاط الیومی للإنسان. فإن اختیار أجواء الحیاة، ونوع الثیاب، والواسطة النقلیة، والاهتمام بالتراث والآثار الفنیة، یقوم علی أساس الذوق الشخصی وتوظیف نوع من الشعور بالجمال. وإن اختلاف الناس فیما بینهم فی النزعة إلی الجمال، یضرب بجذوره فی اختلاف أذواقهم. فلربما یکون شیء مصداقاً للجمال، بینما یذهب شخص آخر إلی عدم رؤیته جمیلاً. فإن الإجابة عن ماهیة مصداق الجمال، وما إذا کان من الممکن تحدید معیار معیّن لمعرفة الجمال - یکون مقبولاً من قبل الجمیع - أمر یعود إلی فلسفة معرفة الجمال. أما بحثنا فیدور حول وجود هذه النزعة لدی جمیع الناس، وظهورها فی دائرة نشاطهم ومیولهم. وعلیه فما هو المراد من کون هدایة النزعة إلی الجمال من الأهداف الوسیطة؟ وهل إذا فصَلنا هذه النزعة من سلسلة میول الإنسان، سیحدث خلل فی مسار حرکته نحو الهدف النهائی المتمثل بالقرب من الله سبحانه وتعالی؟ إن أنشطة الإنسان الموجهة للقیام بالأمور واختیارها بشکل أفضل وأجمل، ورعایة التناسب الذوقی والمزاجی إنما یمکن تبریرها وتفسیرها فی ضوء المیول الباطنیة والنزعة الداخلیة إلی الجمال. إن إرجاع هذا النوع من النشاط البشری إلی النزعة الداخلیة، یحکی

ص:221

عن نوع من البحث عن العلل والأسباب البنیویة. إن نزعة الإنسان إلی الجمال تتناسب ونظام الخلق فی العالم، فإذا کان المرء طالباً للجمال فإن فی العالم الخارجی ما یلبی له هذه الحاجة الروحیة ویشبعها. إن الأبعاد العاطفیة لدی الإنسان تمثل بعداً من أبعاده الوجودیة الهامّة. وإن الکثیر من التعلقات والوشائج والتوجهات الإنسانیة مرتبطة بقیَمه العاطفیة، التی یمکنه من خلالها العمل علی تلبیة حاجاته العاطفیة. لیس الإنسان مجرّد کائن عقلانی بحت، لا وجود فی حیاته لغیر القیاسات العقلیة والریاضیة، بل إنه یحتوی - بالإضافة إلی ذلک - علی روابط ومشاعر وعواطف جیاشة واقعة تحت تأثیر حبّه للجمال. وإن الجمال المادی والمعنوی عنصران یعملان علی ربط جانب کبیر من العلاقات الإنسانیة التی یعبر عنها بالعلاقات العاطفیة، ولها حکم البلاط فی إیجاد هذا النوع من العلاقات. ولو أننا فصلنا هذین العنصرین عن العلاقات الإنسانیة والعاطفیة، فإن النشاط البشری سیصاب بالتصدّع، وهذا بدوره سیؤول إلی فنائه؛ لأن الإنسان لا یستطیع العیش دون علاقات عاطفیة. وعلی هذا الأساس یکون للإهتمام بهذه النزعة تفسیرٌ وتبریرٌ عقلیٌّ ومنطقیٌّ، وإن طیفاً واسعاً من الأنشطة الروحیة (المشاعر والعواطف) للإنسان ناجم عن وجود هذا النوع من المیول. وإن الحالة الکامنة فی هذه النزعة بوصفها هدفاً وسیطاً ینظر إلی هدایة وتوجیه دفّة هذه النزعة الداخلیة علی نحو أکثر منه إلی تقویتها وتعزیزها. من هنا فإن محور البحث الدینی فی هذا الباب هو تعیین نوع ومصداق الجمال، وهدایة هذه النزعة الداخلیة.

إن النزوع إلی الجمال - وإن کان کسائر المیول الأخری - یؤدی إلی تکامل الإنسان وتسامیه، إلا أنه فی الوقت نفسه یشکل أرضیة مناسبة لانحرافه أیضاً. فلیسَ الإنحراف والضلال أمرین یُحملان إلی الإنسان من الخارج، بل إن عوامل الانحراف والضلال کامنة فی قدرات الإنسان وقابلیاته. وإن إحدی

ص:222

هذه القدرات والقابلیات تتمثل فی نزعة الإنسان إلی الجمال. فإن الأدب والعمارة والنحت وسائر المظاهر الفنیة الأخری، کما یمکنها أن تکون وسیلة للتقرّب من الله، یمکن أن تؤدی إلی الانحراف والضلال أیضاً. فإن المیل إلی بعض أنواع الموسیقی والأشعار الفاحشة - وبشکل عام، الأعمال الفنیة التی تصبّ فی إطار إشاعة الفحشاء والفساد، یترک آثاراً سلبیة علی روح الإنسان ویهدم القیَم الدینیة ویعدّ هذا النوع من المیل أحد الأسباب الهامة لانعدام العفّة وتضعضع الشخصیة واضمحلال العواطف الإنسانیة، وتَشتُّت کیان الأسرة. من هنا یذهب الدین إلی اعتبار ما کان مصداقاً للاستمتاع واللذة السلبیة عاملاً وعنصراً من عناصر البعد عن الله، ولذلک فإنّ الدین یحذر الإنسان من مغبّة الوقوع فی هذا النوع من اللذة المحرمة، ویأمره بإحیاء شخصیته من خلال تشویقها إلی الآفاق المعنویة والروحیة والعمل علی توظیف هذه النزعة الداخلیة فی الاتجاه الإیجابی الصائب.

9. هدایة وتوجیه النزعة إلی التملّک

إن المیول والنزعات لدی الإنسان تنقسم إلی قسمین، فهناک منها ما یرتبط به مباشرة، وهناک منها ما یرتبط به علی نحو غیر مباشر. أما المیول التی ترتبط بالإنسان مباشرة، فهی تلک المیول التی لا تتوسط بینها وبین الإنسان أی واسطة، من قبیل: النزعة إلی البحث عن الله، والبحث عن الحقیقة، والنزعة إلی الخلود. وبطبیعة الحال فإن دائرة هذا النوع من المیول لا تنحصر بما ذکرناه فی هذا الکتاب، وإنما تشمل بعض المیول الأخری أیضاً، وهی علی الرغم من عدم طرحها بوصفها أهدافاً وسیطة، إلا أن بإمکان مظاهرها وتجلیاتها الخارجیة أن تقع بنحوٍ من الأنحاء فی سلسلة الأهداف الوسیطة. فمن باب المثال: إن حبّ الإنسان لنفسه وحبه لذاته أمر مرکوز فی قرارة کل

ص:223

فرد. وإن هذه النزعة مستقرة فی أعماق وجود الإنسان، وتتمتع بوافر من القوّة بحیث لا تحتاج معها إلی ما یجبر ضعفها بمزید من الأعمال التربویة. وبعبارة أخری: إن التعلق بالوجود لیس أمراً قابلاً للانحراف، حتی یصار إلی طرح مسألة الهدایة بشأنه. وإن من بین مظاهر حب الانسان لذاته، مُحاولة حفظها من الحوادث الکارثیة التی من شأنها أن تقضی علی وجوده أو تسبب له نقصاً جسدیّاً أو عقلیاً أو ضعفاً فی قدراته وإمکاناته. وفی الحقیقة فإن النزعة البشریة إلی حفظ النفس، والعمل علی صیانتها، تدخل ضمن دائرة المیول التی ترتبط بوجود الإنسان بشکل غیر مباشر. وإن موقع هذه النزعة فی المجموعة الثانیة یحکی عن دورها الوسیط وغیر الذاتی. وعلی هذا الأساس فإن دور هذه المجموعة من المیول فی وجود الإنسان لیس دوراً أصیلاً وأولویاً، وإنما هو مجرّد عنصر مودع فی وجود الإنسان لیحفظ حیاض أمر آخر وهو المتمثل بالنزعة الذاتیة لحمایة النفس وصیانتها. کما یجب علینا البحث عن مصدر حب الإنسان للتملک والحیازة فی هذه النزعة الإنسانیة الأصیلة والمتمثلة بحبّ الذات.

وحیث إن کل إنسان یحب نفسه، فإنه یسعی إلی الحفاظ علیها وصیانتها من البلاء والمصائب، ومن هنا فإنه یسعی إلی توسیع دائرة قدرته وقابلیته، فکلما کان مستوی قدرة الانسان علی حفظ نفسه أکبر، کانت حظوظ مقاومته ونجاحه فی صدّ المخاطر عن نفسه عالیة وکبیرة. وقد کان لهذا العنصر - علی طول تاریخ البشریة - تأثیر هام علی علاقة الأفراد فیما بینهم، وإن صفحات التاریخ مفعمة بالنزاعات والحروب الدامیة من أجل الحصول علی مزید من القدرة. وما أکثر الذین یجعلون من الحصول علی المال والثروة هدفاً رئیساً فی حیاتهم، ویتصرّفون وکأنهم لا یُسغلهم أی اهتمام بالخسران الأبدی الذی یترتب علی ذلک. قال الله سبحانه وتعالی: وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا

ص:224

جَمًّا1 . والسبب فی ذلک هو أن هذه النزعة المنشودة قد فقدت موقعها بوصفها وسیلة لحفظ الذات وواسطة لبلوغ الأهداف السامیة. ومن هنا فإن الدور الإصلاحی للدین فی هذا الباب یتجلی من خلال محورین:

1. تبیین موقع هذه النزعة فی المسار الوجودی للإنسان.

2. طریقة توظیف هذه النزعة.

- بیان موقع النزعة إلی التملک فی المسار الوجودی للإنسان: إن کلّ نزعة من النزعات الإنسانیة تحظی بمکانة خاصة من وجهة النظر الدینیة، فإن الدین یضمن للإنسان بلوغ الکمال والقرب من الله إذا وضّف تلک النزعات بالشکل الصحیح. وإن سعی الدین إلی هدایة نزعة الإنسان إلی التملک، تأتی فی هذا السیاق أیضاً. فمن وجهة نظر القرآن، إن هذه النزعة تحظی بأهمیة أکبر بالقیاس إلی سائر النزعات الأخری؛ إذ یری القرآن أن حفظ حیاة الإنسان وبقاء نسله رهین بتوظیف هذه النزعة فی حدود الحاجة والمستویات الطبیعیة. ومن هنا یعمد الدین إلی توجیه الإنسان إلی الاستفادة من هذه النزعة فی الحدّ المعقول، وأن لا یجعل منها هدفاً وغایة مطمح له. ومن جمیع الآیات القرآنیة التی تدعو الانسان إلی التوظیف المعقول لهذه النزعة، نستفید من النقاط التی سنعرضها فیما یلی تباعاً.

فمن وجهة نظر القرآن الکریم یعد حبّ المال والافراط فی الاهتمام به مسألة تنسینا ذکر الله، وتجعلنا ننکص عن مواصلة التقرّب من الله عزّ وجل، وذلک إذ یقول الله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُلْهِکُمْ أَمْوالُکُمْ وَ لا أَوْلادُکُمْ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَأُولئِکَ هُمُ الْخاسِرُونَ2 ، ویقول تعالی أیضاً: سَیَقُولُ لَکَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا یَقُولُونَ

ص:225

بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ1 . وإذا حلَّت هذه النزعة مَحِلَّ التقرّب من الله، فإنها ستشکل حاضنة خصبة للانحراف والبُعد عن الهدایة والفلاح، قال تعالی فی محکم کتابه الکریم: قُلْ إِنْ کانَ آباؤُکُمْ وَ أَبْناؤُکُمْ وَ إِخْوانُکُمْ وَ أَزْواجُکُمْ وَ عَشِیرَتُکُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ کَسادَها وَ مَساکِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَیْکُمْ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِی سَبِیلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّی یَأْتِیَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْفاسِقِینَ2 .

إن اکتناز الثروة لا یساعد المرء علی عدم الافتقار فحسب، بل قد یسلبه حتی إمکان التقرّب من الله سبحانه وتعالی. وأنّ السبب الرئیس الذی یجعل الفرد ینساق وراء اکتناز الثروة، یعود إلی أن هذه الثروة یمکنها أن تعمل علی صیانة الذات والمحافظة علیها. جدیر ذکره أننا من خلال الأموال نستطیع تلبیة جانب من احتیاجاتنا، کی نوفّر الأرضیة لکمالنا ورفِعة حاجاتنا الوجودیة السامیة. إن توظیف النعم والمواهب الإلهیة یرفع حاجاتنا الأولیة (الفسیولوجیة)، ویمهّد الطریق للتدرّج نحو المراحل والمراتب العالیة، بید أن الافراط فی ذلک یؤدی إلی الإعراض والتخلف عن تحقیق الأهداف والأغراض الأساسیة والرئیسة، من قبیل: النزعة إلی الخلود والبحث عن الله سبحانه وتعالی. وفی ذلک یقول الله فی محکم کتابه الکریم:

- وَیْلٌ لِکُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * اَلَّذِی جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ * یَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ3 .

- تَبَّتْ یَدا أَبِی لَهَبٍ وَ تَبَّ * ما أَغْنی عَنْهُ مالُهُ وَ ما کَسَبَ4 .

- ما أَغْنی عَنِّی مالِیَهْ5 .

ص:226

- إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا لَنْ تُغْنِیَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَیْئاً وَ أُولئِکَ هُمْ وَقُودُ النّارِ1 .

- لَنْ تُغْنِیَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَیْئاً أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ2 .

وعلیه، لا یسع الإنسان أن یلبّی حاجته - بوصفه کائناً ینزع إلی الخلود وطلب الحقیقة - من خلال التهالک علی جمع الأموال واکتناز الثروة: وَ ما أَمْوالُکُمْ وَ لا أَوْلادُکُمْ بِالَّتِی تُقَرِّبُکُمْ عِنْدَنا زُلْفی إِلاّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِکَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِی الْغُرُفاتِ آمِنُونَ3 .

فمن وجهة نظر القرآن، لا یمکن للثروة والنزعة إلیها أن تساعده علی تلبیة حاجته الرئیسة والجوهریة الکامنة فی دفعه إلی التقرّب من الله سبحانه وتعالی:

- یَوْمَ لا یَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ4 .

- اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَیاةُ الدُّنْیا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِینَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَیْنَکُمْ وَ تَکاثُرٌ فِی الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ5 .

- اَلْمالُ وَ الْبَنُونَ زِینَةُ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ الْباقِیاتُ الصّالِحاتُ خَیْرٌ عِنْدَ رَبِّکَ ثَواباً وَ خَیْرٌ أَمَلاً6 .

وعلیه، یجب علی الإنسان أن یستمتع بالأموال والثروات بحدود ماتقتضیه الطبیعة فی هذا الوجود، وإن النظر إلی الأموال والثروات یجب أن یکون علی نحو الطریقیة دون الموضوعیة.

ص:227

إن شدّة تعلّق الإنسان بالثروة یبلغ حداً بحیث إِن الله سبحانه وتعالی یجعله فی مستوی حبّ الإنسان لأولاده. وعلیه فإن الأموال والأولاد من الموارد التی توفر أرضیة خصبة لتجاوز الأوامر الإلهیة والانحراف عن سبل الهدایة. ولکی یختبر الله الإنسان ویبتلیه، فإنه یحدد له طریقة التلبیة المعقولة لهذه النزعة ویبتلیه بها، لیراه هل یشکر ویصبر أم أنه یفشل فی الاختبار؛ فیغدو بطراً أو قانطاً. قال تعالی فی محکم کتابه الکریم:

- إِنَّما أَمْوالُکُمْ وَ أَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ وَ اللّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِیمٌ1 .

- لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْوالِکُمْ وَ أَنْفُسِکُمْ2 .

- وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُکُمْ وَ أَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِیمٌ3 .

- أسلوب توظیف النزعة إلی التملک: إن أسلوب التعاطی مع مفهوم الثروة یترک تأثیره علی مجموع النشاط الإنسانی. إن اهتمام الدین بماهیة الثروة بوصفها عنصراً مؤثراً فی رفع الحاجة المعاشیة للإنسان فی الحیاة الدنیا، من جهة، ونزعة الإنسان الذاتیة إلی حفظ وصیانة الذات، وتوسیع رقعة قدرته ونفوذه، من جهة أخری، أدی به إلی تقدیم أحکام وقوانین توجیهیة فی غایة الأهمیة والخطورة فی هذا المجال.

یری القرآن الکریم أنّ الانغماس المفرط فی حبّ الثروة والتکالب علیها یزید من تعرّض الإنسان للمخاطر والأضرار، وإن تجنّب ما من شأنه أن یزید من فورة المیول النفسیة المتدنیة، یؤدی إلی تعزیز تهذیب النفس وتزکیتها. وأنّ الإنفاق من الأمور التی تؤدی إلی تهذیب النفس وتزکیتها وإعداد الأرضیة سمّوا الانسان، ولیست ذلک فحسب بل إنه کذلک یعمل - من خلال

ص:228

رفع الحاجات الأولیة للآخرین - علی تمهید الأرضیة لهم کیما یرتقوا فی مدارج الکمال والرِفعة أیضاً. ومن هنا فإن الإسلام بشکل عام یری ثمرة الإنفاق فی ثلاثة أمور، وهی:

1. الحیلولة دون التعلق المفرط بالاموال، والذی یحول دون سمّو الإنسان ورقیّه فی مدارج الکمال.

2. رفع حاجات الآخرین.

3. توفیر الظروف التی تساعد الآخرین علی الرقّی والکمال.

وعلیه فإن للإنفاق دوراً إصلاحیاً فی المجتمع، حیث یؤدی إلی تهذیب النفس وتزکیتها، ومن هنا نجد أن الله سبحانه وتعالی یقول فی محکم کتابه الکریم:

- خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَکِّیهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَکَ سَکَنٌ لَهُمْ وَ اللّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ1 .

- اَلَّذِی یُؤْتِی مالَهُ یَتَزَکّی2 .

- وَ مَثَلُ الَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَ تَثْبِیتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ کَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُکُلَها ضِعْفَیْنِ فَإِنْ لَمْ یُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِیرٌ3 .

وبطبیعة الحال، فإن الإنفاق المنشود للقرآن الکریم هو الإنفاق الذی لا یقترن بدافع غیر حبّ الخیر للآخرین والشعور بالمواساة لهم، بعیداً عن جمیع أنواع التفاخر والریاء وحبّ الظهور فی العلاقات الاجتماعیة، ولذلک نجد تأکیداً کبیراً فی القرآن الکریم علی هذه الناحیة، وذلک إذ یقول سبحانه وتعالی:

- اَلَّذِینَ یُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ ثُمَّ لا یُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذیً لَهُمْ

ص:229

أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ1 .

- قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَیْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ یَتْبَعُها أَذیً وَ اللّهُ غَنِیٌّ حَلِیمٌ2 .

من هنا فإنه وبالالتفات إلی هذه الحقیقة ندرک أن الهدف من الإنفاق لا ینحصر بمجرد رفع حاجات الفقراء، بل هناک بالإضافة إلی ذلک هدف أهم تمّ التأکید علیه فی التعالیم الإلهیة بشکل خاص، ألا وهو تهذیب النفس وتزکیتها. وعلیه فإن الذین یرون فی أموالهم حقاً للآخرین، إنما هم أولئک الذین یجعلون هذا الهدف نصب أعینهم، ویتمتعون بإیمان صُلب وراسخ. قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ فِی أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ3 .

- وَ الَّذِینَ فِی أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ4 .

إن الذی یحصل علیه المرء من خلال الإنفاق وبذل الصدقة هو تسامی الروح وتکاملها، بید أن ذلک یتبدد بمجرّد المنّ والأذی والتفاخر والشعور بالاستعلاء. وفی ذلک یقول الله سبحانه وتعالی فی القرآن الکریم:

- یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِکُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذی کَالَّذِی یُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَ لا یُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ کَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَیْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَکَهُ صَلْداً لا یَقْدِرُونَ عَلی شَیْءٍ مِمّا کَسَبُوا وَ اللّهُ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الْکافِرِینَ5 .

وإن أهمیة هذه المسألة تبلغ حدّاً بحیث إن إنفاق الأموال - مع مراعاة بعض الشروط الخاصة - یعتبر من وجهة نظر القرآن الکریم نوعاً من الجهاد فی سبیل الله، وإنه وسیلة للتقرّب من الله سبحانه وتعالی:

ص:230

- اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِکُمْ وَ أَنْفُسِکُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ ذلِکُمْ خَیْرٌ لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ1 .

إنّ القاعدة العامة التی تحکم طرق الاستفادة الصحیحة من الأموال - کما یذکرها القرآن الکریم - تکمن فی الابتعاد عن جمیع أنواع التعاطی المحرّم من وجهة نظر الشرع المقدّس. وفی ذلک یقول سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَی الْحُکّامِ لِتَأْکُلُوا فَرِیقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ2 .

- یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَکُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْکُمْ3 .

إنّ الإحجام عن ارتکاب الحرام فی الاستفادة من الأموال - یعنی عدم توظیفه فی الطرق غیر الصحیحة، واجتناب الظلم والعدوان علی أولئک الذین استأمننا الله علی حقوقهم - یبیّن لنا الخطوط العامة والعریضة لکیفیة الاستفادة من الأموال. قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- إِنَّ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ أَمْوالَ الْیَتامی ظُلْماً إِنَّما یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَیَصْلَوْنَ سَعِیراً4 .

- وَ آتُوا الْیَتامی أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِیثَ بِالطَّیِّبِ وَ لا تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ إِنَّهُ کانَ حُوباً کَبِیراً5 .

ص:231

خلاصة القول: إنّ هناک ضوابط خاصّة تحکم النزعة إلی التملّک، وإنّ تجاوز تلک الضوابط سیؤدی بالانسان إلی الخروج والجنوح عن المسار الطبیعی الذی رسمه الله للحیاة، وسوف یفضی بالتالی إلی البعد عن الله سبحانه وتعالی.

ج) تعزیز الإرادة:

لو أننا عمدنا إلی تحلیل مختلف أبعاد وجود الإنسان، فسندرک أنّ لکل إنسان خصائص، وإن تلک الخصائص هی التی تقولب شخصیة الإنسان بوصفه إنساناً. وإنّ هذه الأبعاد تتجلّی فی المساحات الثلاث الآتیة، وهی: المساحة العقلیة، والمساحة العاطفیة، والمساحة الإرادیة. فلا وجود لهذه المساحات فی أی کائن آخر کما نجدها لدی الإنسان. إن امتلاک النزعات العقلیة فی إطار المعرفة والمیل إلی الحقیقة، والعناصر العاطفیة التی توجد أرضیة النزعة والمیل إلی هذا البعد، تُعُّد من خصائص وجود الإنسان. وهکذا الإرادة للقیام بالأمور عن وعی، إنما هی من الموارد التی لا نجدها إلا عند الإنسان. فالحیوانات وإن کانت تمتلک معرفة صوریة وبدائیة للغایة، حیث نشاهد أن لدیها بعض العواطف الغریزیة المحدودة، والإرادة علی فعل بعض الأعمال الفیزیائیة، بید أن المستوی البدائی لهذه الأمور لا یمکن أن تقاس بالأبعاد المعرفیة والعاطفیة والإرادیة الواسعة وغیر المحدودة فی وجود الإنسان. وقد سبق أن تعرّضنا إلی الأبعاد المعرفیة لدی الإنسان والأهداف الوسیطة فی هاتین الدائرتین من الناحیة الدینیة. وبغیة تکمیل البحث، ونظراً للأهمیة الخاصة التی تتمتع بها مسألة الإرادة فی الرؤیة الدینیة، سنعمد هنا إلی دراسة واستعراض النظریات الدینیة بشأن هذا البُعد والشاخص الوجودی أیضاً.

ص:232

نبدأ البحث من السؤال القائل: ما هو دور الإرادة فی سلوکنا؟ وما الذی سوف یحصل إذا ألغینا الإرادة من ترکیبة الإنسان الوجودیة؟ وباختصار: ما هو دور الإرادة فی أفعال الإنسان وردود أفعاله؟ للإجابة عن هذا النوع من التساؤلات، یتعیّن علینا أن نعمل قبل کلّ شیء علی إیضاح وشرح حدود البحث. ولا بد من التذکیر بهذه النقطة الهامة وهی أن البحث فی ماهیة الإرادة ومعرفة أبعادها وحقیقتها لا یدخل فی مهام الأبحاث المذهبیة والدینیة. فإن هذه المعرفة یمکن الحصول علیها وإحرازها من طریقین، وهما:

1. الأسلوب العقلی والفلسفی.

2. الأسلوب التجریبی والنفسی.

والذی نبحثه هنا هو مجرّد الرؤیة الدینیة بشأن أهداف التربیة والتعلیم، وبیان سبل الوصول إلی الکمال الفردی والاجتماعی. ومن هنا فإننا - لکی لا نبتعد عن دائرة البحث - سنطرح الأسئلة المرتبطة بالإرادة - بالالتفات إلی هذه الحقیقة - علی النحو الآتی: ما هو دور الإرادة فی أفعال الإنسان وسلوکیاته؟ فهل یمکن لنا - من خلال إلغاء الإرادة والقول بالجبر فیما یتعلق بأعمال الإنسان - القول بإمکان الوصول إلی الکمال المنشود، وهو القرب من الله، واعتبار الإنسان مسؤولاً عن أفعاله، أم لا؟

إن هذا النوع من الأسئلة هو ما نسعی إلی الإجابة عنه فی هذا البحث. لا شک فی أن أساس الدین قد أقیم علی اختیار الإنسان. فإنّ مفاهیم من قبیل: الهدایة والثواب والعقاب تحکی عن رؤیة الدین الخاصة تجاه الإنسان، إذ یعتبر کائناً مختاراً وذا إرادة، ویتمّ توجیه الأوامر والتکالیف إلیه بالنظر إلی هذه الحقیقة. وبطبیعة الحال فإن هذه الرؤیة الدینیة لا تعنی التصریح بوجود الإرادة والإختیار لدی الإنسان علی نحو ما یتمّ بحثه فی الفلسفة أو علم النفس، بل یمکن التوصّل إلی هذه الرؤیة عن ماهیته من خلال النظر فی

ص:233

مجموع الخطابات الدینیة الموجّهة إلی الإنسان. إن هذا النوع من قبیل السلوک الملائم فی إطار التربیة والتعلیم فی الرؤیة التی نراها عند المذهب الوجودی، أو ما هو علیه المذهب الذی ینتهج السلوکیة المتطرّفة. فکلا هذین المذهبین یخاطب الإنسان، مع فارق أن الوجودیة تخاطبه بوصفه کائناً مختاراً وحرّاً ویتمتع بحق الانتخاب والاختیار، بینما نجد السلوکیة المتطرّفة تخاطبه بوصفه مجرّد آلة مسلوبة الحریة والاختیار. وکذلک الدین عندما یواجه الانسان، یعتبره کائناً مدرکاً ومختاراً فی انتخاب هدفه ومساره. فإننا نواجه هذه الحقیقة فی الکثیر من الخطابات الدینیة، حیث نجد أن بإمکان المرء أن یعمل علی تحلیل الأمور قبل القیام بها، ومع ذلک نجد الدین یحرص علی إبقاء الباب مفتوحاً أمامه حتی بعد ارتکاب الأخطاء، للرجوع والاستدراک والتوبة والإنابة، الأمر الذی یثبت حقیقة ماهیة الإنسان وکونه کائناً مختاراً فی الرؤیة الدینیة. وذلک من قبیل قوله تعالی:

- وَ الَّذِینَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَکَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَ لَمْ یُصِرُّوا عَلی ما فَعَلُوا وَ هُمْ یَعْلَمُونَ1 .

- وَ مَنْ یَعْمَلْ سُوءاً أَوْ یَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ یَسْتَغْفِرِ اللّهَ یَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَحِیماً2 .

ومن ناحیة أخری فإن العدل الإلهی یقتضی أن یکون الإنسان مستحقاً للثواب أوالعقاب، عندما یکون قادراً علی انتخاب طریقه. وعلیه فإن دور الإرادة فی حیاة الإنسان بوصفه کائناً مختاراً موضع اعتراف الدین وإقراره، وإن من بین الأمور التی یتم الاهتمام بها من قبل الدین هو عنصر الإرادة وقدرة الانسان علی الاختیار والانتخاب. إن أکثر الأنشطة والأفعال التی تصدر عن الإنسان هی من النوع الإرادی والإختیاری، ولهذا السبب یکون هو

ص:234

المسئول الأول عن الأفعال الصادرة عنه. وإن مجموع المسائل الدینیة المشتملة علی الواجبات والمحرّمات الشرعیة والعقلیة، تسعی إلی بیان الأمرین الآتیین، وهما:

1. تحدید المسار الذی تتعلق به إرادة الإنسان واختیاره، وما الذی یتعیّن علیه فعله فی هذا المسار من أجل التقرّب من الله سبحانه وتعالی.

2. تقویة النفس وتعزیز ملکاتها بحیث تغدو قادرة علی تحمل الصعاب، ومقاومة العقبات التی تبعدها عن مسار القرب من الله إلی أبعد الحدود الممکنة.

تحظی تقویة الإرادة وکیفیة التعاطی مع العناصر المکوّنة للشخصیة والتی تحدد مسار حرکة الإنسان من وجهة نظر الدین، بأهمیة خاصّة. وإن أیّ ضعف أو تهاون فی هذه الناحیة من الوجود یسلب الإنسان إمکانیة التقدّم والوصول إلی المراحل العلیا. من هنا لا بد من تعزیز الإرادة وتقویتها من أجل الوصول إلی الغایة المنشودة. فالانسان الذی یعانی من ضعف فی الإرادة، لا یستطیع مواجهة الصعاب والمشاکل، ولن یغدو بإمکانه بلوغ الرشد والکمال من خلال التغلب علیها.

إن أهمّ أسلوب لتقویة الإرادة من وجهة نظر الدین، عبارة عن إیجاد نوع من العلقة بمصدر مستقل، یتمتع بالقدرة والسلطة والعلم والمعرفة المطلقة. فإن الإنسان لا یستطیع صیانة نفسه فی مواجهة الحوادث والمشاکل، إلا إذا أوجد فی نفسه نوعاً من القدرة فی کیانه. وإن هذه المقدرة الذاتیة توجد بطرق وأنحاء وعلی مستویات مختلفة. والمهم أن نعلم ما هو الأمر الذی نجعله منشأً لاقتدارنا واستطاعتنا. مما لا شکّ فیه هو أن العناصر الخارجیة، لا تستطیع التأثیر علی نفسه وإرادته. ومن وجهة نظر الدین فإن العنصر الوحید الذی یمکنه تقویة الإرادة لدی الإنسان، وجعله أهلاً للارتقاء نحو المراحل العلیا من الرقی والکمال، هو الارتباط بالله

ص:235

وتعزیز هذا الارتباط وتوثیقه. وفی هذه الرؤیة، فإن الإنسان الذی یتمسک بالله، ویجعله محور نوایاه ومیوله وأفعاله، سوف یتمتع بالقدرة والإرادة القویة بمقدار شدّة تمسّکه وإیمانه واعتقاده بالله سبحانه وتعالی. فی منطق الدین یعتبر التمسّک بغیر الله مساوقاً لضعف الاتجاه الباطنی الذی یؤدی بالإنسان إلی الرقی والکمال. ومن المهم بیان هذا الأمر وهو أن تقویة الإرادة لا تعنی بالضرورة توظیفها فی المسار الإلهی، فلیس الأمر أن الأسلوب فی تعزیز الإرادة وتقویتها منحصر بتوظیفها فی المسار الإلهی. فما أکثر الذین یسعون وراء تحصیل العلم والمناصب والثروة وما إلی ذلک، ویجعلون من هذه الأمور هدفاً وغایة مطمح لهم، ویبذلون کل ما بوسعهم، متمتعین فی ذلک بإرادة قویة وعزم لا یلین من أجل تحقیق هذه الأهداف، متحملین من أجل ذلک أنواع الصعاب، بل قد یضحّون حتی بأرواحهم من أجل ذلک. وعلیه فبالالتفات إلی هذه الحقیقة ندرک أن تقویة الإرادة لا تعنی توجیهها بشکل صحیح نحو الهدف الأسمی والغایة المتعالیة دائماً. والذی یتم استهدافه من وجهة نظر الدین، فیما یتعلق بتعزیز الإرادة وتقویتها هو توجیهها نحو الله سبحانه وتعالی. وفی الحقیقة، فإن ارتباط الدین بالإنسان من حیث إنه کائن مرید، یتجلی من خلال بعدین، وهما:

1. تقویة إرادته، لکی یتجنّب الضعف والتهاون فی إنجاز أعماله.

2. أن یجعل من تعزیز إرادته أمراً هادفاً، بأن یعمل علی توظیف هذه الإرادة فی المسار الإلهی فقط.

عناصر تعزیز الإرادة فی المنظار الدینی:

لم یبحث القرآن الکریم فی الإرادة وتقویتها أبداً، وإنما رکز البحث - بوصفه کتاباً تربویاً - علی الطرق التربویة علی المستوی العملی فقط. من هنا، فإنه لم یبحث فی الاتجاه النظری بشأن الإرادة، مکتفیاً باستعراض بعض

ص:236

الشواهد فی هذا المجال، ویمکن اعتبار هذه الشواهد کنماذج وأمثلة، یمکن الوصول إلی اکتساب التجربة من خلالها، أو التعرّف بواسطتها علی السبل العملیة فی الوصول إلی السعادة، وبلوغ الکمال فی إطار تعزیز الإرادة وتقویتها.

فمن باب المثال، یمکن الإشارة إلی قصة نبینا آدم (علیه السلام). إذ أمره الله سبحانه وتعالی بأن لا یقرب الشجرة المحظورة، وأخذ علیه عهداً بأن لا یتناول من ثمرها، ورأی آدم أنه ملزم بهذا العهد، وأنه لن یحید عنه أبداً، ولکنه سرعان ما نَسِیَ العهد، وما أن واتته الفرصة حتی سارع إلی الأکل منها. وقد تعرّض القرآن الکریم لهذا السلوک من قبل آدم (علیه السلام) بوصفه نموذجاً من نماذج ضعف الإرادة وعدم الإلتزام بعهد الله، وفی ذلک یقول الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلی آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِیَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً1 .

إن تعزیز الإرادة والقدرة علی القیام ببعض الأمور من وجهة نظر القرآن تستلزم الصبر علی مرضاة الله سبحانه وتعالی، وإن استعجال الأمور یؤدی إلی الضیاع والانحراف. وقد تمّ التعبیر عن الصبر وقوّة التحمّل بوصفه ملاکاً للتمییز بین الإرادة القویة والإرادة الضعیفة. وإن الصبر علی الشدائد، وبخاصةٍ فیما یتعلق بالجهاد، واجتناب جمیع أنواع التهاون، والصبر علی العبادة من أهم الأدلة علی الدخول فی دائرة القرب من الله والفوز بأنعم الله، وکذلک الحصانة فی مواجهة شیطان النفس. وقد انعکس ذلک کله فی الآیات القرآنیة الآتیة:

- وَ لَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَیْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَی الْقَوْمِ الْکافِرِینَ2 .

ص:237

- لَتُبْلَوُنَّ فِی أَمْوالِکُمْ وَ أَنْفُسِکُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ مِنْ قَبْلِکُمْ وَ مِنَ الَّذِینَ أَشْرَکُوا أَذیً کَثِیراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِکَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ1 .

- یا بُنَیَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ اصْبِرْ عَلی ما أَصابَکَ إِنَّ ذلِکَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ2 .

- وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِکَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ3 .

- وَ لَنَبْلُوَنَّکُمْ حَتّی نَعْلَمَ الْمُجاهِدِینَ مِنْکُمْ وَ الصّابِرِینَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَکُمْ4 .

- وَ الصّابِرِینَ فِی الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِینَ الْبَأْسِ أُولئِکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ5 .

- وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا یَضُرُّکُمْ کَیْدُهُمْ شَیْئاً إِنَّ اللّهَ بِما یَعْمَلُونَ مُحِیطٌ6 .

- وَ کَأَیِّنْ مِنْ نَبِیٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّیُّونَ کَثِیرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَکانُوا وَ اللّهُ یُحِبُّ الصّابِرِینَ7 .

- وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ8 .

- وَ لا تَهِنُوا فِی ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَکُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ یَأْلَمُونَ کَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللّهِ ما لا یَرْجُونَ9 .

- فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَی السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللّهُ مَعَکُمْ وَ لَنْ یَتِرَکُمْ أَعْمالَکُمْ10 .

ص:238

- وَ اسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَکَبِیرَةٌ إِلاّ عَلَی الْخاشِعِینَ1 .

- یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِینَ2 .

- إِنِّی جَزَیْتُهُمُ الْیَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ3 .

- أُولئِکَ یُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَیْنِ بِما صَبَرُوا وَ یَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّیِّئَةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ4 .

- ما عِنْدَکُمْ یَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِیَنَّ الَّذِینَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما کانُوا یَعْمَلُونَ5 .

- إِنَّ الَّذِینَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ الْمَلائِکَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِی کُنْتُمْ تُوعَدُونَ6 .

- إِنَّ الَّذِینَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَ لا هُمْ یَحْزَنُونَ7 .

وبالنتیجة یمکن اعتبار أن أهم عناصر تعزیز الإرادة وتقویتها یکمن فی التمسّک بالله، وإیجاد سبل الارتباط به. وإن العبادات بوصفها مظهراً من مظاهر فعلیة هذا النوع من الارتباط، تضع الإنسان فی مسار تعزیز هذه الناحیة من وجوده وکینونته. فالإنسان المتدیّن یحصل علی قوته الروحیة من خلال التوسل بالله وتوظیف عنصر العبادة فی هذا الطریق. إن التمتع بالإرادة القویة یؤدی بالانسان إلی الاجتناب والإعراض عن المعاصی. کما أن الضعف والتهاون فی إقامة الارتباط والتواصل مع الله سبحانه وتعالی یؤدی به إلی

ص:239

الزلل والانهیار أمام المعاصی والمحرّمات. وعلیه فإن أحد أهم الآثار التربویة فی تقویة الإرادة یکمن فی ضوء العبادات والابتعاد عن المعاصی، واجتناب کلّ الأمور التی من شأنها أن تؤدی إلی الانحراف عن مسار التکامل.

الأبعاد المشترکة بین الإنسان والحیوان

1. هدایة وتعدیل المیول المشترکة

کما تقدّم أن ذکرنا، فإن المیول الإنسانیة تکون ذات جنبة اختصاصیة تارة، وتکون ذات جنبة مشترکة تارة أخری. إننا بالنظر إلی خصائص الإنسان الروحیة والنفسیة والمساحة الواسعة من المعاییر الفطریة، نراه فی مساحة من المیول والرغبات، بحیث إنه لو رکّز علی جوانبه المشترکة مع سائر الکائنات، لن نجد من أثر لتلک المیول والرغبات فی دائرة مطالبه واحتیاجاته. بعبارة أخری: إن للإنسان - بالالتفات إلی ما یتمتع به من البعدین الوجودیین، وهما: البعد الروحی، والبعد الجسدی - منشأین محددین فی دائرة المیول والرغبات، بحیث یمکن تقسیم وجوده من خلال إرجاع کل مجموعة من الرغبات والمیول الروحیة والجسدیة إلی دائرتها. فهو من جهة یعتبر کائناً إنسانیاً یتمتع بسلسلة من الصفات الروحیة، من قبیل: البحث عن الحقیقة، والعدالة، والخلود، والجمال. ومن جهة أخری نجده کسائر الحیوانات، بحاجة إلی بعض الأمور التی تشبع متطلباته وغرائزه الجسدیة، من قبیل: الجوع، والعطش، والتعب، والغریزة الجنسیة. بید أن المسألة المطروحة هنا هی فصم عری الإنسان، وتقسیمه إلی جهتین، وبتبع ذلک، العمل علی الفصل بین مطالبه ومیوله. فکیف یمکن لنا أن نقیم ارتباطاً بین هاتین الناحیتین الوجودیتین؟ فهل ینظر الإنسان إلی الأمور دائماً من زاویتین، ویرمق عالم الوجود من نافذتین مختلفتین؟ فإذا کان هذان المنشآن الوجودیان منفصلین عن بعضهما

ص:240

بالکامل، إذن کیف یکون الإنسان کائناً واحداً؟ وإذا کان هناک من ارتباط بین هاتین الناحیتین من وجوده، فما هی کیفیة هذا الارتباط؟ إن مما لا شکّ فیه هو أن للإنسان - علی الرغم من تمتعه بمختلف المیول والرغبات المتنوّعة والمختلفة بالکامل - هویة محددة، وإن میوله ورغباته المتعارضة لا تؤدی إلی اختلاف وتشتت شخصیته وهویته. فإن أسلوب الارتباط بین النواحی الوجودیة للإنسان فی إطار المیول والرغبات الخاصة والمشترکة، إذا کانت من قبیل: سیادة المیول والرغبات الخاصة وتوجیهها للرغبات والمیول المشترکة، فإن الدوران الوجودی له سیمضی فی اتجاه مختلف عما إذا کانت السیادة فیه للرغبات المشترکة، وتوجیهها لدفَّة الرغبات والمیول الخاصة. فالإنسان یتذبذب علی الدوام بین طیفین، فهو إما یمیل إلی تحکیم سیادة المیول السامیة والمتعالیة علی رغباته المتدنیة التی تتفرّع عن الأبعاد غیر السامیة من وجوده، أو أنه یمیل إلی إلغاء النواحی المتعالیة والقیم الکامنة فی وجوده، بحیث یکرّس کل اهتمامه علی إشباع غرائزه الحیوانیة بشکل مطلق.

لیس أمام الإنسان من خیار سوی تلبیة احتیاجاته المادیة، غیر أن المهمّ فی البین هو کیفیة تلبیة هذه الاحتیاجات. إن محور بحثنا فی هذا الکتاب هو الاهتمام بکیفیة رؤیة الإنسان، وکیف یجب أن یکون الارتباط بین القیم السامیة والمتعالیة، والمطالب الحیویة المتصلة بأبعاده الجسدیة والمادیة من الزاویة الدینیة. إن الذی یتمّ طرحه بوصفه هدفاً لیس هو نفس تلبیة الشعور بالجوع أو العطش أو الغریزة الجنسیة، بل کیفیة تعاطی الروح الإنسانیة مع هذا النوع من الحاجات الجسدیة. إننا بصدد بیان هذه المسألة، وهی: کیف یمکن لنا أن نجعل المیول المتعالیة محوراً فی حیاتنا، وتلبیة المطالب والغرائز الجسدیة فی ضوء تلک المیول المتعالیة؟ فهل تطرّق الدین فی تعالیمه إلی بیان السبل الصحیحة والسلیمة لتلبیة هذا النوع من المطالب والغرائز؟ وهل

ص:241

هناک فی هذه التعالیم ما یعمل علی توجیه وهدایة وتعدیل هذه المطالب والغرائز، أم لا؟

إنّ جمیع الأنشطة الإختیاریة للإنسان تنشأ من اتجاهه الثقافی والعقائدی فی الأمور. إن الدین - بوصفه نظاماً آیدیولوجیاً قادراً علی بناء الصرح الثقافی - یستطیع توجیه أفعال الإنسان وأنشطته نحو الهدف الغائی، وبیان طریقة الوصول إلی الهدف العام من خلال رسم الأهداف الوسیطة. وإن هذه الأهداف ناظرة إلی القوانین والأسس التی تحکم الأنشطة الرئیسة للإنسان، وتشمل دائرة واسعة من سلوکیاته، وتسوقها فی إطار نظام مترابط نحو الأهداف والغایات النهائیة. وفی هذا النظام یتمّ الاکتفاء بطرح المنهج العام لتلبیة الحاجات الفطریة والمتعالیة للإنسان، ولیس هذا فحسب بل وقد تمّ الاهتمام حتی بالمطالب والمیول المادیة والجسدیة له أیضاً.

2. بحث خاصّ
اشارة

إنّ ما یحدده الدین ویرسمه للإنسان من أنماط الحیاة، لا یتعلق بالأسالیب الخاصة والجزئیة للسلوک، بل هو منهج عام یعمل علی توجیه أفعاله الجزئیة. إن ما هو المهم بالنسبة إلی الدین هو بیان حدود نشاط الإنسان فی مختلف المجالات الوجودیة المتنوعة التی تستدعی توظیف سلسلة من الأسالیب والسلوکیات الخاصّة. وعلیه فإنّ الدین مبدع لنظام مسلکی خاص، وهو وإن کان لا یخوض فی الأسالیب الجزئیة للسلوک والأنشطة الخاصّة فی جمیع المجالات، بید أنه یرسم إطاراً محدّداً. إن وجود الترابط المنطقی والتلاحم المعقول بین الأهداف المتنوّعة، وإرجاع کلّ هدف إلی هدف أعلی، وبیان ضرورته فی ضوء الغایات الأسمی، وصولاً إلی بلوغ الهدف الغائی والنهائی، یحکی عن وجود النظم والتنسیق فی داخل هذا النظام. إنّ بیان نشاط الإنسان

ص:242

یتمّ أحیاناً من خلال الالتفات إلی الأسالیب والأطر السلوکیة، وأحیاناً من خلال الالتفات إلی الأهداف والمضامین الموجّهة. وإن الذی یعتریه التغیّر والتبدّل دائماً هو هذه الأسالیب والأطر الصوریة للسلوک، التی تظهر فی کلّ زمان علی شکل خاص تبعاً لتطوُّر آلیات التفکیر. وفی العلوم التربویة یتم الاهتمام بأسالیب الوصول إلی الأطر الجدیدة للسلوکیات التربویة المتنوّعة بنحو أکثر منه إلی ذات المحتوی والأهداف الکیفیة للتربیة. بعبارة اخری: فی الأسلوب العلمی نجد أنّ النظام التربوی یشتمل علی أسالیب لبلوغ الأهداف التربویة المنشودة بغض النظر عما تحمله من القیَم، وأما النظام التربوی الدینی، فهو یسعی من خلال تحدید الأهداف وإیجاد نوع من الارتباط المنطقی الطولی والعرضی بینها، إلی تقدیم إطار سلوکی خاص یحتوی علی منظومة من القیم. وعلیه فلم یدخل أیٌّ من العلم والدین فی موضوع التربیة بشکل مستقل. وبطبیعة الحال فإنّ منهجیة التربیة فی دائرتی العلم والدین لا تعنی بالضرورة تناغمهما مع بعضهما البعض. جدیر بالذکر أنّه إذا قیل: إنّ للدین منظومة من القیم ضمن مقولة الأهداف التربویة، وإنّ العلم بصدد تقدیم أسالیب ومناهج تربویة فی إطار نظام، فإن هذا لا یعنی أنه لم یتمّ بیان أیّ أسلوب وطریقة فی الدین للوصول إلی الأهداف التربویة. فقد قدّم الدین - بما یتناسب ومختلف الضرورات - أسالیب خاصة للوصول إلی المضامین التربویة. إن سُنّة وسیرة النبیّ (صلی الله علیه و آله) والأئمة الأطهار (علیه السلام) حیث تمّ انتخابها واختیارها من قبل هؤلاء العظام، فقد تمّ إلقاؤها - بوصفها سُنّة - من قبل الشارع فی إطار الأحکام الدینیة، واکتسبت قداستها. یقع البحث فی أنه مع هذا الاعتراف بوجود هذه الأسالیب والطرق فی الدین، هل یمکن لنا أن نستنبط من الدین نظاماً مشتملاً علی القیَم التربویة، بحیث یکون ناظراً ومهیمناً علی جمیع القوالب وطرق الوصول إلی الملاکات التربویة فی کل زمان

ص:243

ومکان؟ لا شک فی أن العلوم التربویة تسعی إلی بیان القوالب والمناهج للمسائل التربویة التی تشتمل علی دور آلی، بمعزل عن القیم. فإنّ نماذج البرامج التعلیمیة، والإدارة التعلیمیة، وکیفیة التدریس، ورسم الأهداف التعلیمیة فی المساحات الثلاث: المعرفیة، والنفسیة - الحرکیة والعاطفیة، والنفسیة - والحرکیة، والموارد الأخری، لا تشتمل - من الناحیة العلمیة - علی منظومة من القیَم الأخلاقیة، بل یمکن توظیفها بوصفها قوالب وأدوات مختلفة ومتنوّعة، فی مختلف الأهداف والغایات. إن العلم یقدّم للتربیة أسالیب وقوالب جدیدة، طبقاً لمقتضی الحیاة الیومیة وتغیّر طبیعة العلاقة بین الناس. وإن الذی یؤدی إلی عدم ثبات واستحکام الأسالیب المقدّمة لمضمون واحد فی جمیع الأزمنة، هو هذا التجاهل بالنسبة إلی منظومة القیَم، وأما النظام التربوی الدینی فإنّه - من خلال الاهتمام بالأهداف والمضامین - یهتم بالأسس التربویة ویسعی إلی تقدیم منظومة شاملة من القیَم الأخلاقیة فی المسار التربوی. إن قداسة القیَم الحاکمة علی النظام التربوی الدینی تنشأ من نفس اختیارها من قبل الله. وإن الذی أدی إلی خلود وثبات الأهداف التربویة فی جمیع الأزمنة والأمکنة، هو أن الله قد اختار هذه الأهداف بما یتناسب والبنیة الوجودیة للإنسان. وفیما یتعلّق بمقولة الأسالیب والقوالب التربویة یکون البحث عن القیَم ناظراً إلی هذه الناحیة. وإن هذه الموارد - علی الرغم من الأسلوب والمنهج - حیث تختص بمنظومة القیَم، یکون الهدف التربوی منها، هو ذلک الأسلوب والمنهج الخاص المرسوم من قبل الله والأنبیاء وأوصیائهم المعصومین، ویکتسب لذلک وجهة أخلاقیة، ویصبح داخلاً ضمن منظومة القیَم. وأن الذی یحظی بالأهمیة فی حرکة الإنسان - بوصفه کائناً متدیناً وعاقلاً - هو توظیفه لسلاح الدین والعقل (العلم)، أی المحتوی والأسلوب، أو الأهداف والقوالب.

ص:244

إنّ الإنسان - کسائر الکائنات الحیة - بحاجة - لکی یواصل الحیاة - إلی الطعام والماء والراحة وإشباع غریزته الجنسیّة. فلو أن فرداً أهمل تلبیة احتیاجاته الفسیولوجیة، فإنه لن یتمکن من تحقیق الأهداف الإنسانیة والإلهیة. لذلک فإن الملاک فی إشباع هذا النوع من الاحتیاجات یکمن فی توفّر النمو والتکامل فی سائر الأنحاء الوجودیة الأخری. بعبارة أخری: إن السرّ فی اهتمام الدین بکیفیة إشباع الاحتیاجات الفسیولوجیة، هو توفیر الأرضیة المناسبة للرقی والحصول علی الرؤیة الإلهیة والتقرّب من الله سبحانه وتعالی.

إن الدین یرفض کلّ ما من شأنه أن یحول دون الإنسان ودون الاهتمام بالنواحی السامیة من وجوده، ویمنعه من الرقّی، أعم من أن تکون تلک الموانع ناشئة عن التفریط فی القوی الفیزیقیة أو ناشئة عن الإفراط وعدم الاهتمام بالاحتیاجات الروحیة والنفسیة.

إنّ الجوع والعطش لدی الإنسان وإن کان یرتفع بتناول الطعام وشرب الماء، بید أنّ موضوع النزعة إلی رفع الجوع والعطش أمر مغایر لنفس رفع الجوع والعطش. والذی یقع فی معرض الإفراط والتفریط دائماً هو هذه النزعة إلی رفع هاتین الحاجتین، وإلّا فإن الفرد الجائع إذا حصل علی طعام وتناوله، فإنه سیخمد شعوره بالجوع إلی حدٍّ ما، ولن تکون لدیه حینها أیّ رغبة بتناول أی طعام آخر مهما کان لذیذاً أو شهیاً، وهکذا الأمر بالنسبة إلی رفع العطش، حیث لا تکون لدیه أی رغبة بنوع خاص من الماء أو أی شراب آخر، فالمهم والثابت عنده هو إطفاء لهب العطش بأیّ سائل صالح للشرب. إن هذه الحاجة لا تعتبر بشکل مباشر حاجة فسیولوجیة وجسدیة. بل هی منبثقة من داخل وجود الإنسان، وناشئة عن رؤیته إلی هاتین الحاجتین. بعبارة أخری: إن لدینا حاجة جسدیة یمکن رفعها بالکامل من خلال تناول الطعام وشرب الماء، وحاجة نفسیة تدعونا دائماً إلی النشاط من أجل توفیر ما

ص:245

نحتاجه لمواصلة الحیاة. إن الذی یدعونا دائماً إلی القیام بالأنشطة لرفع الحاجات الحیویة، هو أن الاحتیاجات الجسدیة تتکرر باستمرار، وعلیه فإن هذا النوع من الاحتیاجات موجود باستمرار ما دام الإنسان حیاً. وأن الذی أوجب عدم الاعتدال وأدی إلی التفریط فی رفع الاحتیاجات الحیویة هو الخوض المفرط فی هذا النوع من الاحتیاجات. وعلیه فإن نقطة الارتکاز فی بحثنا ستدور حول هذه المسألة. إن کلّ ما تمّ طرحه فی الدین فیما یتعلق بتعدیل أو توجیه النزعة إلی رفع الاحتیاجات الفسیولوجیة، ناظر إلی هذه الناحیة. إذ إن الذی یقع مورداً لخطاب الموضوعات الدینیة هو الذی تکون فیه إمکانیة التخطئة والإصلاح. فی حین أنه فی مسألة إشباع الحاجة الجسدیة لا یتطرّق البحث فیه إلی الخطأ والصواب، لیکون موضوعاً للقضایا الدینیة. إن الإنسان بعد تناول الطعاب وشرب الماء، أثناء سلسلة من الأعمال الحیویة یشعر بالشبع والارتواء، وعدم الرغبة إلی المزید. کما یصدق هذا الأمر بالنسبة إلی المقولات الأخری، من قبیل: النوم، والشهوة الجنسیة، أیضاً. إلا أن الخوض فی هذا النوع من الاحتیاجات، لا یکون أمراً طبیعیاً علی الدوام، ویکون منشأ ذلک فی روح الإنسان ومواقفه. وبهذا اللحاظ، عندما یدور البحث فی الهدایة وتعدیل المیول المشترکة بین الإنسان والحیوانات، علینا أن نلاحظ أن سلسلة نشاط الإنسان فی إطار رفع الاحتیاجات الفسیولوجیة، تختلف اختلافاً کبیراً عن الأنشطة التی تمارسها الحیوانات. فإن الکثیر من الحیوانات ما أن تشبع حاجتها إلی الطعام والشراب، حتی تکفّ عن مواصلة البحث عن الطعام والماء، إلی حین شعورها بالجوع والعطش مجدّداً. وإذا کانت بعض الکائنات الحیة تعمد إلی ادخار الطعام من أجل ضمان حاجتها المستقبلیة فی ظروف غیر ملائمة، أو تصنع أعشاشها لتوفیر الحمایة لنفسها أو لضمان استراحتها، فإنما تقوم بذلک اتباعاً لغریزة طبیعیة کامنة فی وجودها،

ص:246

وإن تلک الغریزة تعمل ضمن آلیة میکانیکیة خاصة، ولذلک لا نجدها تشطّ أو تتغیّر فی أسلوب وکیفیة جمع الطعام أو بناء الأعشاش وغیر ذلک. وأما مسألة توفیر ما یحتاج إلیه الإنسان من الأمور الحیویة، فإنه یُطرح علی مستویً أعلی، تؤثر فیه المیول النفسیة وکذلک الإختیار والإرادة فی کیفیة الأسالیب المختارة وتطبیق تلک الأسالیب علی أرض الواقع. إذ یطرح البحث فی کیفیة الإشباع فی مستوی أعلی من الحیاة الحیوانیة، حیث یکون ناظراً إلی الحیاة الإنسانیة. وأن رؤیة الدین تجاه هدایة المیول المشترکة تطرح نفسها أیضاً بالالتفات إلی هذه الناحیة من المیول الإنسانیة، وإن أهم مسألة تطرح فی الرؤیة الدینیة بشأن المیول المشترکة وهدایتها وتعدیلها، إنما تکون بالالتفات إلی ارتباط هذا النوع من المیول بالمیول الخاصّة بالإنسان، وخاصّة میوله المتسامیة والمتعالیة. إن ما ترسمه الأهداف الوسیطة هو المسار الذی یؤدی بالإنسان إلی الله سبحانه وتعالی. ومن ناحیة أخری فإن مقدار اهتمامنا بالمیول المختلفة یحدّد جهة مسارنا. فإذا کانت الهیمنة للمیول المشترکة علی المیول الخاصة، فإن جهة مسارنا ستنحرف نحو تلک الأمور المشترکة، ویکون هناک عدول من ناحیتنا عن الأهداف النهائیة. ومن وجهة نظر الدین لا ینبغی للإنسان أن یرکز اهتمامه علی الأمور التی هی مجرّد أدوات ومقدمات للوصول إلی الأهداف المتعالیة. ومن هنا عندما یطرح البحث بشأن هدایة المیول المشترکة وتعدیلها من وجهة نظر الدین، یرد هذا السؤال إلی الذهن: ما هی السبل التربویة التی یتخذها الدین من أجل توظیف المیول المشترکة فی مواضعها؟ إن سلسلة الأحکام والقوانین والتعالیم الدینیة فی هذا الشأن، یعکس الاهتمام الکبیر الذی یولیه الدین من أجل تعدیل هذا النوع من المیول. وسنعمد فی هذا البحث إلی دراسة أربعة أنواع من المیول الأساسیة المشترکة بین الإنسان وسائر الکائنات الحیة، وذلک علی النحو الآتی:

ص:247

أ) هدایة وتعدیل إشباع الجوع والعطش

کما تقدّم أن ذکرنا، فإن الدین یری أن الاهتمام ببعض الاحتیاجات والمیول الطبیعیة، من قبیل: الجوع والعطش وما إلی ذلک، ورفع هذه الحاجات، یخضع لضوابط خاصة، وإن العدول عن هذه الضوابط یعدّ بمنزلة الخروج والجنوح عن المسار الذی ینتهی بنا إلی الأهداف والغایات النهائیة. ومن وجهة نظر القرآن الکریم یمکن تلخیص هذه الضوابط فی المحورین الآتیین:

المحور الأول: موقف الإنسان من رفع الجوع والعطش: عندما یتحدّث القرآن الکریم عن مسألة الأکل والشرب، یعمل علی تذکیر الإنسان بهذه النقطة، وهی أن علیه أن لا یتخذ - تجاه هذه المسائل الحیویة - نفس الرؤیة والموقف الغریزی الذی نراه عند الحیوانات، عندما تروم تلبیة هذه الاحتیاجات، فتقوم بکل ما بإمکانها للحصول علی مبتغاها. ومن زاویة القرآن الکریم فإن الاستفادة من هذه النعم متوفّرة لکلٍّ من الکافر والمسلم علی السواء، غایة ما هنالک أن الکافر یتمتع بهذه النِعَم کما تتمتّع النَعَم، فی حین أنّ للمسلم تجاه ذلک رؤیة أخری. قال تعالی فی محکم کتابه الکریم:

إِنَّ اللّهَ یُدْخِلُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِینَ کَفَرُوا یَتَمَتَّعُونَ وَ یَأْکُلُونَ کَما تَأْکُلُ الْأَنْعامُ وَ النّارُ مَثْویً لَهُمْ1 .

فالمؤمن لا یحشر نفسه فی دائرة ضیّقة من الغرائز، فهو علی یقین من أن الله سبحانه وتعالی قد تکفّل برزقه وما یحتاج إلیه فی حیاته، وأن ابتعاده عن الممارسات غیر المشروعة فی هذا المجال، لا تدخلة فی مأزق حرج. وفی ذلک نجد القرآن الکریم یقول:

ص:248

- قُلْ مَنْ یَرْزُقُکُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ یَمْلِکُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَ یُخْرِجُ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَیِّ وَ مَنْ یُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَیَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ1 .

- یا أَیُّهَا النّاسُ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَیْرُ اللّهِ یَرْزُقُکُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّی تُؤْفَکُونَ2 .

إن سلوک الانسان المتدیّن فیما یتعلق بموضوع الأکل والشرب، یقع ضمن دائرة متکاملة تحتوی علی سائر اهتماماته الأخری، ومن أهمها، التقرّب من الله سبحانه وتعالی، والتوکّل علیه فی الحصول علی الرزق. قال تعالی فی محکم کتابه الکریم:

إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْکاً إِنَّ الَّذِینَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا یَمْلِکُونَ لَکُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْکُرُوا لَهُ إِلَیْهِ تُرْجَعُونَ3 .

إنّ الانسان الذی یتمتع بهذه الرؤیة ویتسلّح بهذا الفهم، نجده - عندما یسعی إلی رفع احتیاجاته - لا یحاول التعدّی علی حقوق الآخرین أبداً. فهو علی اطمئنان من اتساع الأسباب والعناصر الدخیلة فی الحصول علی الرزق، وأنه لن یواجه طریقاً مسدوداً فی ما یتعلق بتلبیة مطالبه ورفع احتیاجاته، ولذلک لا تجد منه میلاً إلی التکالب علی جمع الأموال والجشع فی طلب المزید. وإن أهم أمر یطرح نفسه فی بحث هدایة وتعدیل النزعة المذکورة، هو الإعراض عن الله وعدم الاطمئنان إلیه فی بسط الرزق وتوزیع الأسباب الدخیلة فی تلبیة هذا النوع من الاحتیاجات الحیویة. إنّ الإنسان المعتقد بالله والواثق برحمته حیث یعمر قلبه الاطمئنان لن یتعرّض للوساوس الشیطانیة التی تدعوه إلی الطمع والجشع والتهالک علی حطام الدنیا، ولذلک فإنه یرکز کلّ

ص:249

اهتمامه علی ما یؤثر فی تلبیة احتیاجاته الجسدیة. ومن ناحیة أخری فإن الانسان الذی یری نفسه عاملاً مطلقاً فی رفع احتیاجاته الحیویة، حیث لا یتمسّک بالله، فإنه یتصرَّف علی نحو غرائزی، ویقوم ببعض الأعمال التی تبعده عن الله، وعن القیّم الإنسانیة، ویأخذ هذا السلوک بیده إلی تبنی النزعة المادیة واعتبار أن الهدف من الحیاة هو الاستفادة القصوی من الملذّات الدنیویة. ولذلک نجده یتهالک فی طلب الدنیا والحصول علی مصالحه الشخصیة، وحیث أنه یجعل من الدنیا ولذّاته غایة لاهتمامه، فإنه یفرط فی الاستفادة من المأکولات والمشروبات والانغماس فی سائر الشهوات.

المحور الثانی: نوع وأسلوب إشباع الجوع والعطش: هناک طرق وأسالیب متنوّعة لرفع الاحتیاجات الحیویة. ففی کل زمان ومکان - وبما یتناسب ونوع تغذیة البشر، والتطوّر العلمی فی الحصول علی الإمکانات الجدیدة، وکذلک الواقع الثقافی والجغرافی وما إلی ذلک من الأمور الخارجة عن بحثنا - هناک أسالیب مختلفة تدخل فی عملیة توفیر ما یحتاج إلیه الإنسان من الأمور الحیویة. وأن هذه الأسالیب لا تحتوی علی جنبة أخلاقیة. فمن باب المثال: إنّ طریقة انتاج محصول، وطرق توفیر مختلف أنواع الأطعمة، من الأمور التی لا تحتوی علی أی اتجاه أخلاقی، ولم یتطرّق الدین إلی بحثها. وبطبیعة الحال وکما تقدم أن أشرنا، فإن رؤیة الإنسان المسلم لهذه الأمور والمفاهیم تنطلق من رؤیة إلهیة تضعه ضمن حدود خاصة، وعلی الرغم من تحکّم الإنسان فی الأسالیب الجزئیة للحصول علی الرزق، إلا أن هذا لا یعنی عدم سیادة الهدف والغایة وهیمنتهما علی الأسالیب والطرق المستخدمة. نحن نعتقد أن بإمکان الإنسان - من خلال توظیف طاقاته ومواهبه التی زوده الله بها - أن یستفید الاستفادة القصوی من الطبیعة فی سیاق رفع احتیاجاته ومتطلباته، إلا أنه یعمل علی توظیف هذه الطاقات والإمکانات فی

ص:250

سیاق تلبیة مطالبه الحیویة من خلال الالتفات إلی أهدافه، ویعمد إلی بذل الجهود والسعی إلی استثمار الطبیعة انطلاقاً من غایاته الخاصة.

إنّ المناخ المهیمن - فی الرؤیة الدینیة - علی سلسلة الأنشطة الحیویة، ینطلق من الهدف الذی یتمّ تحدیده ورسمه لهذا النوع من النشاط. فحیث یکون الهدف العام هو الحصول علی القرب الإلهی والأهداف المتعالیة، سوف تتحدّد وظیفة کلّ مسلم فی المسیر علی الطریق الذی ینتهی إلی هذه الغایة، ورعایة الأسس والقوانین التی من شأنهاأن تفضی إلی الأهداف المذکورة. ومن وجهة نظر الإسلام، فإنّ الأسس الحاکمة التی تهیمن علی طرق الارتزاق، والأنشطة التی تؤدی إلی تلبیة الحاجة إلی إشباع الجوع ورفع العطش بشکل عام، عبارة عن:

- حِلّیة وطیب الأطعمة والأشربة:

تعنی الحِلّیة هنا، رضا الله عن استهلاک وتناول الأطعمة والأشربة، وطرق الحصول علیها. ولکن أحیاناً لا تکون طرق الحصول علی الأطعمة والأشربة صحیحة، وإن لم یکن تناولها حراماً فی نفسه. من قبیل: عدم رعایة الموازین الشرعیة فی معاملة الحیوان الذی یؤکل لحمه. وأحیاناً بغض النظر عن طریقة الحصول علی الطعام، یکون ذلک الطعام فی نفسه غیر طیّب، من قبیل: لحم الخنزیر المحرّم فی نفسه. وعلی کلّ حال، فإن الحصول علی الأطعمة والأشربة غیر الطیّبة، یجب أن لا تدخل فی دائرة نشاط الإنسان الذی یؤدی إلی إشباع رغبته وحاجته إلی رفع الجوع والعطش، سواء علمنا عِلّة خبثها وعدم طیبها، من قبیل: الأطعمة الفاسدة والمتفسّخة، أو لم نعلم، من قبیل: المشروبات الکحولیة والکثیر من المحرمات الأخری التی لم یطلعنا الله علی أسباب حرمتها وخبثها. هناک مجموعة من الآیات القرآنیة التی تتحدّث عادة عن اشتراط طیب وطهارة الأطعمة والأشربة، وحِلّیة طرق الحصول علیها

ص:251

بشکل رئیس، من قبیل: قول الله سبحانه وتعالی: یا أَیُّهَا النّاسُ کُلُوا مِمّا فِی الْأَرْضِ حَلالاً طَیِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّیْطانِ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ1 .

- الشکر وعدم الطغیان والعصیان:

یتعرّض الناس وبشکل عام - علی الأخص فیما یتعلق بضمان المعاش لتلبیة هذه النزعة النفسیة، والتغلّب علی الاضطرابات الناشئة من الحاجة إلی الطعام والشراب - إلی الطمع والأثرة، مما یشکل ظلماً بحقّ الآخرین. ومن ناحیة أخری، فإن الشعور بالغنی - بعد ضمان الإنسان لما یحتاجه فی معاشه - یُعدُّ الأرضیة للطغیان والتمرّد علی الله وعدم شکره. ومن وجهة نظر القرآن الکریم، فإن نتیجة هذا التمرد الناشئ عن الطمع والأثرة والشعور بعدم الحاجة هو البُعد عن الهدف الغائی، والتهالک علی طلب اللذة. قال الله سبحانه وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- کُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِی الْأَرْضِ مُفْسِدِینَ2 .

- وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً کُلُوا مِمّا رَزَقَکُمُ اللّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّیْطانِ إِنَّهُ لَکُمْ عَدُوٌّ مُبِینٌ3 .

هناک بون شاسع بین سلوک الانسان الذی یری نفسه مصوناً عن الانحراف والزلل فی دائرة القوانین الإلهیة، وسلوک ذلک الانسان الذی یتهالک علی طلب المزید من المادیات، والغارق حتی هامته فی المعاصی والذنوب. إن النتیجة والثمرة المترتبة علی رعایة الحدود الدینیة - فیما یتعلق بالاستفادة من النعم الإلهیة - هو الشکر فی مقام القول والعمل. وفی الحقیقة، فإن الشکر یضرب بجذوره فی الأسس الفکریة للإنسان، فیما یتعلّق بمصدر

ص:252

رزقه وهو الله سبحانه وتعالی. ومن وجهة نظر القرآن، فإنّ الشکر وأداء الحق، من أبرز أهداف بَسط الرزق من قبل الله للإنسان. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ اذْکُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِیلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِی الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ یَتَخَطَّفَکُمُ النّاسُ فَآواکُمْ وَ أَیَّدَکُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَکُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ1 .

- وَ لَهُمْ فِیها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا یَشْکُرُونَ2 .

وعلیه، یمکن لنا أن نعتبر الشکر - بوصفه هدفاً مباشراً - فی سلسلة الأهداف الوسیطة.

- مشارکة الآخرین فی النعم الإلهیة:

إنّ من بین الأسس والقواعد الحاکمة علی الأهداف الوسیطة، هو إقامة نوع من العلاقة بین المتمکنین والعلماء والفقراء والأمیین. فإن تقدّم الانسان واستفادته من النعم الإلهیة علی نحو منفرد، لن یکون میسوراً علی النحو المطلوب. بعبارة أخری: إنّ أرضیة التطوّر والنمو والرقّی ورفع الموانع أمام التکامل، إنما تکون من خلال إقامة التعاون، وإقامة العلاقات المتبادلة والنافعة بین الناس. فإن التعاون بین أبناء البشر یشمل الجوانب الثقافیة، کما یشمل رفع الاحتیاجات المادیة أیضاً. کما تمّ التأکید فی القرآن الکریم کثیراً علی تعاون الناس من أجل القضاء علی الفقر، إذ یقول تعالی: فَکُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِیرَ3 . ویقول تعالی أیضاً: فَکُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ کَذلِکَ سَخَّرْناها لَکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ4 . ویسعی إلی تجسید هذا الأمر الهام وتطبیقه علی الواقع العملی، من خلال إقامة منظومة التعاون فی

ص:253

صیغة إقرار الخمس والزکاة والإنفاق، وهناک من الآیات القرآنیة ما یشجب الطمع والإسراف فی المأکل والمشرب. قال الله تبارک وتعالی: وَ کُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا یُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ1 .

ب) هدایة وتوجیه النزعة إلی النوم

إنّ من بین المیول المشترکة بین الإنسان وسائر الحیوانات، نزعته أو حاجته إلی الاستراحة. وتعود هذه النزعة بجذورها إلی طبیعة الترکیبة الوظیفیة لأعضاء الإنسان. بعبارة أخری: إن نزعة الإنسان إلی الراحة والنوم، تأتی کاستجابة إلی الهروب من المشاکل والحصول علی السکون والتخلّص من وعناء التعب والنصب، واستعادة القوی المنهکة، وبشکل عام إعادة التوازن الفسیولوجی لوظائف أعضاء الجسد، بید أن النفس الإنسانیة التی تمیل إلی الدعة والکسل، تدعوه علی الدوام إلی طلب المزید من الرکون إلی الراحة المستمرة والمقرونة بطلب اللذّة، بما یتجاوز مجرّد الحاجة الضروریة إلی تحصیل التوازن الفسیولوجی. إن الذی ننشده بوصفه هدفاً وسیطاً فی سلسلة الأهداف الدینیة، من أجل الحصول علی التوازن فی طلب الراحة، یتجلی مصداقه الأهم فی ظاهرة النوم. وفی الحقیقة، إن النوم یعتبر هو المصداق الأبرز لنزوع الإنسان إلی الحصول علی الراحة والتخلّص من التعب. یعتبر النوم من وجهة نظر القرآن نوعاً من الحصول علی الراحة وتجدید القوی. قال تعالی: وَ هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ اللَّیْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً2 .

لا شک فی أن الإفراط والتفریط سیکونان سبباً فی عدم الحصول علی الهدف المنشود وهو الحصول علی الاستراحة الضروریة، وإن نتیجة هذا الإفراط

ص:254

والتفریط تؤدی إلی نوع من الاضطراب فی سائر الأفعال والنشاطات الحیویة الأخری للإنسان، وبالتالی فإنهما یشکلان مانعاً وعقبة أمام تکامله ورقیّه. من هنا فإن النوم والاستراحة إذا کانا بمقدار الحاجة فلا یکونانِ ضروریین فحسب، بل سیکونان عنصرین هامّین فی التکامل الروحی والمعنوی.

ج) توجیه وهدایة الرغبة الجنسیة:

إنّ من بین المیول المشترکة الأخری بین الإنسان والحیوان، نزوعه إلی الرغبة الجنسیة تجاه الشریک، وإقامة نوع من العلاقة معه. إنّ الإنسان فی تلبیة حاجته إلی الطعام والشراب بغیة إشباع جوعه أو عطشه لا یضطرّ إلی الارتباط بالآخرین، إذ یمکنه العمل علی ذلک بشکل منفرد، وأما فیما یتعلق برغبته الجنسیة فیوجد هناک نوع من الارتباط، وإن تلبیة الانسان لحاجته الجنسیة تستلزم تلبیة لحاجة الطرف المقابل أیضاً. وفی الحقیقة، إن الإنسان طبقاً لسلسلة من الآلیات الغریزیة - النفسیة، یعمل علی تلبیة حاجته الجنسیة، ولتلبیة هذه الحاجة یقیم علاقة مع الآخر، ویعمل علی إشباع رغبته وغریزته الجنسیة أیضاً. ولا شک فی أن البحث بشأن هدفیة وهدایة الرغبة الجنسیة، یجب أن یتمّ من خلال الالتفات إلی هذه الحقیقة. وعلی هذا الأساس، فإننا إذا عمدنا إلی تحلیل ماهیة الرغبة الجنسیة سنواجه عاملین هامین فی هذه النزعة، وهما:

1. تلبیة الحاجة الجنسیة.

2. العلاقة الحاصلة فی سیاق تلبیة هذه الحاجة الجنسیة.

تلبیة الحاجة الجنسیة:

یدور بحثنا حول هدایة وسیطرة الإنسان علی غریزته الجنسیة وتلبیته لهذه الحاجة الغریزیة فیما یتعلق بکیفیة تعاطیه وتلبیته لهذه الغریزة، ونحن نسعی إلی بیان موقع هذه النزعة فی تکامل الإنسان من الناحیة الدینیة. وکما

ص:255

تقدّم أن ذکرنا، فإن جمیع التعالیم الدینیة جاءت فی سیاق الاهتمام بالإمکانات الوجودیة للإنسان وترکیبة خلقه. بعبارة أخری: إن الدین - بالالتفات إلی البنیة الوجودیة والحالة النفسیة للإنسان - قد رصد مجموعة من الأهداف التی یمکن تحقیقها، وقد أقیمت جمیع الأحکام والأوامر الإلهیة علی قاعدتها. ومن بین الأمور التی حضیت باهتمام الدین بشکل خاص، وتم وضع الأحکام والقوانین الدینیة الخاصة لها، هی مسألة الحاجة الجنسیة. إن أهم مسألة فی باب تلبیة الحاجة الجنسیة - بوصفها هدفاً وسیطاً - هو تلبیة هذه الحاجة. تعتبر تلبیة هذه الحاجة من وجهة نظر الإسلام أمراً یتناسب مع ترکیبة الإنسان الوجودیة، إلا أن کلاً من الإفراط والتفریط بشأن هذه الغریزة یؤدی إلی نتائج سلبیة. ویعود سبب الاهتمام الکبیر الذی یولیه الدین لهذه المسألة إلی أنه یعمل علی تلبیة الحاجة الجنسیة والنفسیة للانسان، کما یلبی رغباته الفطریة الأخری من قبیل: نزعته إلی حبّ الأولاد أیضاً. فهناک فی الإسلام مجموعة من التعالیم الخاصة الواردة فی إطار هذه الرغبة، سواء علی مستوی الآیات القرآنیة أو الروایات الواردة فی السُنّة الشریفة، حیث تشیر إلی رفع الحاجة الجنسیة وتلبیتها من خلال الزواج، مع التصریح برفض الإعراض عن الزواج تحت ذریعة الفقر وما إلی ذلک، وإلیک بعض النصوص الدینیة فی هذا المجال: قال تعالی:

- وَ أَنْکِحُوا الْأَیامی مِنْکُمْ وَ الصّالِحِینَ مِنْ عِبادِکُمْ وَ إِمائِکُمْ إِنْ یَکُونُوا فُقَراءَ یُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ .(1)

- روی عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (ما بُنیَ فی الإسلام بناء أحبّ إلی الله وأعزّ من التزویج).(2)

ص:256


1- (1)) النور: 32.
2- (2)) بحار الأنوار: 222/103.

- وروی عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أیضاً أنه قال:

(النِکاحُ سُنَّتی فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتی فَلیَسَ مِنّی).(1)

وعلی هذا الأساس فإن تلبیة الحاجة الجنسیة تتخذ فی الإسلام شکلاً محدداً، ویتمّ طرحها ضمن هذه الآلیة المحدّدة. حیث نجد الآیات والروایات من خلال حثّ الإنسان وتشجیعه علی الزواج، تعمل علی منعه وردعه عن التهاون فی تلبیة هذه الرغبة والحاجة الضروریة جدّاً، وتضع أمامه الطریق الصحیح لإشباع هذه الرغبة وتلبیة هذه الحاجة. کما أنّ رعایة الاعتدال فی تلبیة الحاجة والرغبة الجنسیة، من جملة الموارد التی تمّ التأکید علیها فی التعالیم الدینیة کثیراً. فإن التفریط فی هذه الحاجة وتجاهل هذه الرغبة وکبتها، لا یُعدّ من الزهد فی شیء أبداً، بل قد تمّ شجب هذا التفریط والتجاهل واستنکاره فی التعالیم الدینیة أیضاً. وذلک لأن ترک الطریقة المنشودة لرفع الحاجة الجنسیة (أی الزواج) أیاً کان سببه ودلیله، یترک آثاراً سلبیة وسیّئة سواء علی الفرد أو المجتمع، بحیث یسلب الإنسان إمکانیة التکامل الروحی والمعنوی. فالشخص الذی یتنکّر لهذه المسألة المهمّة، ولا یعمل علی تلبیة هذه الرغبة، ویصرّ علی عدم الزواج، إنما یرفض ویتمرّد علی أحد أبرز المسؤولیات الاجتماعیة، أی أنه یتنصل عن مسؤولیته الاجتماعیة فی تکفل الأفراد المنضوین تحت مسؤولیته وکفالته. هذا بالإضافة إلی أن عدم الإقبال علی الزواج یُضعِف الأواصر الاجتماعیة، حیث تبقی سلسلة من الحاجات الإنسانیة فیما یتعلق بالعلاقات مع الآخرین، دون أن تجد من یقوم بتلبیتها والاستجابة إلی مطالیبها. من هنا نجد الإسلام ینبذ الرهبانیة والزهد السلبی فی إطار کبت الغریزة الجنسیة.

ص:257


1- (1)) المصدر: 220.

ومن ناحیة أخری، فإن الإفراط فی إشباع هذه الغریزة، له تبعات ونتائج مدمّرة علی الإنسان أیضاً. فإن ذلک یؤدی إلی شیوع الفحشاء والمنکر فی المجتمع ویؤدی إلی مخاطر کبیرة فیما یتعلق باستمرار النسل أیضاً، قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَکُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِینَ * إِنَّکُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ1 .

هناک تعارض بین الانغماس فی الشهوات، وعدم الاستجابة لنداء العقل، وبین الهدایة والتعالی، وهذا هو السرّ الکامن وراء تأکید الدین علی توظیف الطرق الصحیحة لتلبیة الحاجة الجنسیة أیضاً. بالاضافة إلی ذلک فإن العفة وصیانة العرض رهین بتلبیة الحاجة الجنسیة بالشکل الصحیح، والابتعاد عن المقدمات التی تؤدی إلی الانحراف عن المسار المحدّد. إن التهاون بشأن الأمور التی تدعو الإنسان إلی الإفراط فی إشباع غریزته الجنسیة، وتجنب الأعمال التی تؤدی بالمرء إلی الزلل، وموارد من هذا القبیل، تلعب دوراً هاماً فی هدایة وتعدیل الغریزة المذکورة.

وفی هذا الشأن یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- قُلْ لِلْمُؤْمِنِینَ یَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ یَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِکَ أَزْکی لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِیرٌ بِما یَصْنَعُونَ * وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ یَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ یَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا یُبْدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْیَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلی جُیُوبِهِنَّ وَ لا یُبْدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِی إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِی أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَکَتْ أَیْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِینَ غَیْرِ أُولِی الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِینَ لَمْ یَظْهَرُوا عَلی عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا یَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِیُعْلَمَ ما یُخْفِینَ مِنْ زِینَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَی اللّهِ جَمِیعاً أَیُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ2 .

ص:258

العلاقات الناشئة عن الحاجة الجنسیة:

کما سبق أن ذکرنا، فإن الدائرة التی تمّ تعیینها من قبل الدین، تعمل علی تحدید حریة الإنسان فی تلبیته لهذه الحاجة. إن سلسلة القوانین والأحکام الدینیة تشتمل علی أسالیب خاصة للاستجابة إلی الغریزة الجنسیة والعلاقة بین الرجل والمرأة، وتضعها فی إطار محدّد. إن المنع من الفساد والفحشاء والتحلل والإباحیة، وإقامة العلاقات السلیمة بین الرجل والمرأة، لا یقتصر علی التشریعات الدینیة فقط، وإنما یتمّ رصدها والاهتمام بها حتی من قبل الأنظمة والقوانین الوضعیة فی إطار إدارة المجتمعات البشریة أیضاً. وبطبیعة الحال هناک اختلاف ماهوی بین الأحکام الإلهیة والقوانین الوضعیة. فإن القوانین الوضعیة فی الکثیر من الأحیان، وبسبب عدم إحاطة الواضعین بالبنیة الوجودیة للإنسان، لا تکون غیر مفیدة فحسب، بل وقد تترتب علیها بعض المشاکل أیضاً. أما الخالق سبحانه وتعالی فهو محیط بمخلوقه ومساره الوجودی وبنیته الماهویة، ولذلک یضع له أفضل القوانین والأهداف، وکما أنه أودع فیه غریزة المیل إلی الجنس المخالف، فقد حدّد له طریقة إشباع هذه الرغبة أیضاً. إن الزواج الذی یتمّ طرحه بوصفه الطریق الوحید فی هذا الاطار حیث یعمل علی تلبیة هذه الرغبة الجنسیة، ویؤدی أیضاً إلی صیانة الأسرة والمجتمع من الانحراف، ویضمن سلامة الأجیال. إن اجتناب الفساد والفحشاء والضیاع، من الأهمیة بحیث نجد القرآن الکریم یعتبر الزواج مرادفاً لسائر مظاهر القدرة الإلهیة، ویذکره بوصفه علامة وآیة من آیات الله عز وجل، قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْواجاً لِتَسْکُنُوا إِلَیْها وَ جَعَلَ بَیْنَکُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ1 .

ص:259

لقد قامت إرادة الله سبحانه وتعالی - من وراء خلق الإنسان - بتلبیة حاجته إلی الهدوء والاستقرار والسکینة من خلال قیام الارتباط والعلاقة مع الجنس المخالف. وإن هذه السکینة إنما تتحقق إذا قامت وفق نموذج خاص. وهنا تکمن مسألة فی غایة الأهمیة، وهی أن تلبیة هذه الرغبة والحاجة الفسیولوجیة تشکل أرضیة وقاعدة لتلبیة حاجات نفسیة ومعنویة أسمی، وإن وراء الرغبة الجنسیة الظاهریة یکمن هدف أسمی یتمثّل بالحصول علی السکینة والطمأنینة وبناء العلاقات العاطفیة فی إطار الروابط الأسریة. من هنا فإن العلاقات اللامشروعة وغیر المعقولة، وإن کانت تؤدی أحیاناً إلی تلبیة الحاجة الجسدیة وإشباع الغریزة الجنسیة، إلا أنها لا تستطیع أن تملأ الفراغ الموجود فی نفس الإنسان کایملأُه الزواج الشرعی. وبعبارة أخری: إن التمسک بالطرق غیر المشروعة یمکن أن یکون مجرد وظیفة آلیة وظاهریة، تخمد الفورة الشَهَویة لدی الإنسان مؤقتاً، ولکن هذا لا یمکن مقارنته بالطمأنینة الثابتة والسکون الدائم والمستقر أبداً.

3. أهداف الإسلام التربویة فی خصوص جسم الإنسان

کما سبق أن ذکرنا، فإن هناک سلسلة من المیول المشترکة بین الإنسان والحیوان، والتی تکون بالقیاس إلی میوله الخاصة فی مرتبة أدنی. ومن خلال دراسة الغرائز والمیول البشریة، یمکن لنا تصنیفها ضمن إطارین عامین علی النحو الآتی:

1. الغرائز والمیول التی تقع فی المرتبة العلیا، وتکون هدفاً وغایة بالقیاس إلی المیول الأخری، من قبیل: النزعة إلی طلب العلم، والبحث عن الحقیقة، وإثبات الخالق، والخلود، والجمال وما إلی ذلک.

2. الغرائز والمیول التی تقع فی المرتبة الأدنی، ویکون لها دور آلی، ویکون الهدف من ممارستها هو الحصول علی القدرة اللازمة للتقدّم والتعالی.

ص:260

من هنا عندما نتحدث عن هدایة وتعدیل المیول والغرائز المشترکة، یکون المراد هو التدبّر فی کیفیة توظیف هذا النوع من الغرائز فی المسار المحدّد من قبل الدین. إن لجسد الإنسان - بوصفه وجوداً تؤثر سلامته أو عجزه علی حرکته نحو الکمال - وظائف خاصة فی سلسلة تکالیف الإنسان ومسؤولیاته. یجب علی الإنسان أن یتمتع بالقدرة الجسدیة الکافیة لیتمکن من التکامل العلمی والمعنوی والصعود فی مدارج السعادة، وإذا لم تکن لدیه القدرة الجسدیة الکافیة للقیام بالأمور الروتینیة والنشاط الیومی علی المستوی الفردی والاجتماعی، وحتی العبادات الظاهریة، فعندها لن یتمکن من التقدّم فی مسار التکامل. وبطبیعة الحال، فإن هذا الکلام لا یعنی أن الحرکة فی مسیرة التکامل رهینة بسلامة الجسم فقط وفقط، بحیث لا یمکن للعاجز أن یبلغ التقدم والتکامل بنحو من الأنحاء.

فلو أننا تعمّدنا عدم تلبیة حاجاتنا الجسدیة، وأدّی ذلک إلی تعرّض أجسادنا إلی الضعف والنحول، بحیث یعوقها ذلک عن التکامل، فإن ذلک لا محالة سیجعلنا مقصّرین من وجهة النظر العقلیة والشرعیة. فإذا کانت المشاکل الروحیة والنفسیة، والعجز عن تحصیل العلم والمعرفة، ناشئة عن عدم الاهتمام بالقوی الجسدیة، لن یکون لذلک من تبریر عقلی أو شرعی أبداً. عندما یتمّ الحدیث عن هدفیة أمور یکون لها تدخل مباشر فی التأثیر علی صحة الجسد وسلامته، إنما یکون ذلک ناظراً للدور الآلی والمعدّ لها فی عملیة التکامل والتسامی. من هنا یجب الاهتمام بالجسم فی الحدود المطلوبة، وإن العدول عن تلک الحدود إفراطاً وتفریطاً لا یُعدّ صحیحاً من الناحیة الشرعیة، فهو فی کلتا الصورتین لا یخدم الأهداف الإنسانیة العلیا، أی الأهداف المرتبطة بالأبعاد الإنسانیة والروحیة والنفسیة. إذ إن ذلک یؤدی إلی التضحیة بها من أجل اللّذة الجسدیة المفرطة، أو تجاهلها الناشئ عن ضعف

ص:261

البدن ونحوله. یعود سبب تأکید الدین علی حفظ سلامة الجسد وصحته إلی أن ذلک یوفّر الأرضیة اللازمة لإمکان النشاط فی مسیر التکامل العلمی والمعنوی، ومن هنا تُعدّ رعایة المسائل الصحیة، والعلاج المبکر، والتغذیة المناسبة، والتحرک والاستراحة الکافیة، وما إلی ذلک من الأمور، ضروریة فی نظر الدین الإسلامی. إن الکثیر من الأحکام الفقهیة التی تردع الإنسان - بنحو من الأنحاء - عن المحرّمات والخبائث، أو توجب علیه الحکم بطهارة بعض الأطعمة والأشربة، أو طهارة البدن والثیاب، تؤدی بالتالی إلی سلامة البدن. وتتجلی هذه الأحکام علی شکل الواجبات والمحرّمات والمکروهات والمستحبات والمباحات، مما یعکس دقة اهتمام الدین الإسلامی بالأمور المرتبطة بالجسد.

ص:262

الفصل الثالث: أهداف الإسلام التربویة فی خصوص علاقة الإنسان بالآخرین

اشارة

إنّ نشاط الإنسان یشمل - بالإضافة إلی السلوکیات الفردیة - سلسلة من علاقاته وارتباطاته بسائر أبناء جنسه الآخرین. إن نزعة الإنسان إلی إقامة التواصل والارتباط مع أفراد الإنسانیة الآخرین، أدی إلی تزاید اهتمام المدارس الاجتماعیة والفلسفیة والعلمیة بهذه الظاهرة. إن دائرة العلاقات بین الناس لا تقتصر علی الزمن الراهن والحاضر فقط، بل تشمل حتی استثمار المصادر الثقافیة والعلوم الماضیة التی تربطنا - بنحو من الأنحاء - بأفراد الإنسانیة فی القرون والعصور القدیمة، کما یشمل الأجیال القادمة التی ستعمل علی استثمار التراث الذی سنترکه لهم أیضاً. وعلی هذا الأساس، عندما نبحث فی علاقة الإنسان بالإنسان، لا یقتصر ذلک علی مجرّد الارتباط فی قالب محدّد أو دائرة معیّنة فی الزمن الراهن. إنّ مقولة الارتباط بالآخرین - بالالتفات إلی التوجهات المختلفة - تستدعی مواقف تربویة خاصّة. وقد یتخذ هذا الأمر تارة، طابعاً إجتماعیاً، وطوراً، طابعاً سیاسیاً، وأحیاناً، طابعاً اقتصادیاً أو ثقافیاً. وإن کلّ واحد من هذه الأبعاد الارتباطیة الخاصة، یُنظر إلیه بوصفه من المقولات المستقلة

ص:263

والمشتملة علی بعد أخلاقی فی عرض المسائل التربویة الأخری. إن النظام التربوی الدینی، إنما یکون نظاماً حاویاً علی الترابط المنطقی بین أجزائه إذا کان - فی عین شمولیته - ناظراً إلی جمیع الأبعاد الکامنة فی وجود الإنسان. لا شک فی أن مثل هذا النظام سیکون قادراً علی توجیه الأفعال الإنسانیة وهدایتها إلی الطُرق الصحیحة فی مختلف المجالات. إن النظام التربوی الدینی بوصفه نظاماً قادراً علی تنظیم وتوجیه النشاط والسلوک الإنسانی - بالالتفات إلی مطالبه وحاجاته الوجودیة - هو النظام الحقیقی الوحید الذی یضمن وصول جمیع الناس إلی السعادة. إن من بین أهم المسائل التی حظیت باهتمام الدین، مسألة ارتباط الإنسان بأخیه الإنسان فی مختلف المجالات. وإن بیان الأحکام الدینیة فی هذه المقولة یأتی فی سیاق الأهداف الوسیطة الممهدة لتکامل الإنسان ورقیّه من أجل بلوغ الأهداف الغائیة.

فی تبویب جامع للأهداف التربویة فی خصوص ارتباط الإنسان بالآخرین، یمکن لنا التوصل إلی تبویب أکثر جزئیة للأهداف الوسیطة بما یتناسب ومختلف الأبعاد الارتباطیة والوجود البارز لناحیة من النواحی الارتباطیة الأخری. فإذا کنا نبحث فی موضوع الترابط بالنظر إلی العلاقات المتبادلة، وطریقة التعاطی مع الآخرین، والوظائف المترتبة علینا تجاههم، وکنا بصدد بیان الأهداف التربویة، فإن تلک الأهداف التربویة ستکون بشکل عام ناظرة إلی العلاقات الاجتماعیة، وأما إذا کانت الأبعاد السیاسیة أو الاقتصادیة أو الثقافیة هی التی تشکل الرکن البارز فی العلاقات والروابط، فإن المسائل التربویة سوف یتمّ بحثها من خلال النظر إلی هذه الأبعاد. وفیما یلی سنعمد إلی تبویب وبحث الأهداف الوسیطة فی خصوص علاقة الإنسان بالآخرین، ضمن أربعة أقسام فرعیة، وهی: العلاقات الاجتماعیة، والعلاقات السیاسیة، والعلاقات الاقتصادیة، والعلاقات الثقافیة. وذلک علی النحو الآتی:

ص:264

أهداف الإسلام التربویة فیما یتعلق بالعلاقات الاجتماعیة:

اشارة

حیث إن الإنسان لا یستطیع القیام بتلبیة حاجاته بمفرده، فإنه یبادر إلی إقامة العلاقات والتواصل مع الآخرین. إن نزعته إلی تلبیة احتیاجاته من جهة، ونزوعه إلی التعالی والکمال من جهة أخری، یعدّان دافعین قویین یحفزانه نحو إقامة العلاقات والروابط علی مختلف المستویات. وعلیه فمن أجل دراسة الآفاق الارتباطیة بین الناس فی الإطار الدینی، علینا أن نلتفت إلی الاحتیاجات الأساسیة للوصول إلی الکمال الذی هو منشأ هذا النوع من العلاقات. إن بحثنا بشأن الأهداف الوسیطة فی هذه المقولة ینقسم إلی الأهداف الآتیة:

1. الأهداف التربویة فیما یتعلق بالنبیّ والأئمة وخلفائهم

یحتاج الإنسان إلی التربیة والهدایة الإلهیة فی عملیة رقیّه وتکامله. وعلی الرغم من أننا لا نعیش فی عصر النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أو الأئمة الأطهار (علیهم السلام) بید أن بإمکاننا الاستفادة من تعالیمهم والسیر علی النهج الذی اختطوه لنا، کی لا نقع فی الانحراف. إن الاهتمام بالأحادیث المأثورة عن المعصومین (علیهم السلام) ودراسة سیرتهم تعرّفنا بأرکان الهدایة والتکامل فی النهج الذی أرادوه لنا. فمن وجهة نظر الإسلام لا تکون الاستفادة من الشرائع الدینیة والأحکام الإسلام ممکنة إلا من خلال التأسی بنهج وسُنّة المعصومین (علیهم السلام) فقد رُویَ عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنه قال: (لا یُعرَف اللهُ ودینُه وحدودُه وشرائعُه، بغَیرِ ذلک الإمام)(1). ولذلک یجب فی الشریعة الإسلامیة اتباع الولایة التی تبدأ بالنبیّ والأئمة، وتنتهی بالفقیه الجامع للشرائط (فی عصر الغیبة)، وصولاً إلی الإمام المهدی (عج). رُویَ عن الإمام محمد الباقر (علیه السلام) أنه قال: (أفضلُ ما یتقرّب بهِ العِبادُ إلی اللهِ عزّ وجلّ، طاعةُ اللهِ، وطاعةُ رسولِه، وطاعةُ أولی الأمرِ)(2).

ص:265


1- (1)) العلامة محمد باقر المجلسی، بحار الأنوار: 290/24.
2- (2)) الشیخ الکلینی، أصول الکافی: 144/1.
2. الأهداف التربویة فیما یتعلق بالمعلِّم أو المتعلِّم
اشارة

إن احتیاج الإنسان المتزاید إلی طلب العلم، وخوض مسیرة التکامل العلمی والمعنوی، یسوقه إلی إقامة العلاقات والروابط الجدیدة فی إطار التربیة والتعلیم. وقد کان هذا الأمر یتحقق فی الأزمنة السابقة بشکل بسیط یتجلی فی نوع من العلاقة والارتباط المباشر بین المعلِّم والمتعلِّم، بید أن اتساع مقولة التربیة والتعلیم وبناء المؤسسات المستقلة فی هذا المجال، أدی إلی تعقید منظومة العلاقات، وبتبع ذلک أخذت الأهداف التربویة المنشودة تتخذ هی الأخری منحیً معقداً أیضاً. لسنا نروم - من خلال رسمنا للأهداف التربویة فی سلسلة الأهداف الوسیطة من وجهة نظر الإسلام - أن نهتم بجمیع الأمور التی تقع موضوعاً خاصاً للتربیة والتعلیم المعنوی والعلمی فی مؤسسة التربیة والتعلیم، بل إننا نروم بیان الخطوط العامة فی هذا المجال. إن هذه الخطوط العامة والعریضة ترسم التوجهات والأهداف فیما یتعلق بالمعلِّم أو المتعلِّم، وسائر أرکان المؤسسة التعلیمیة والتربویة فی المسار التعلیمی.

مسؤولیات المعلِّم تجاه المتعلِّمین

إن رسمنا وتنظیمنا للعلاقة بین المعلِّم والمتعلِّم ضمن الأطر المستنبطة من القواعد العامة فی تربیتنا الدینیة، یضعنا أمام المحورین الآتیین:

أ) مسؤولیة المعلِّم تجاه المتعلِّم فی مجال إلقاء المفاهیم الدرسیة التخصصیة:

- الصلاحیة والکفاءة فی أمر التعلیم: إن التدریس والتعلیم، من المناصب التی یحتاج المرء فی إحرازها أن یتصف بالاستحقاق واللیاقة والتخصّص. إن المعلِّم فی ارتباطه بالمتعلِّم، إنما یکون ناجحاً إذا کان متمکناً وعالماً بموضوع الدرس، وکانت له القدرة علی نقل المفاهیم إلیه. وعلیه فإن الدخول فی موضوع دون التخصّص فیه، ونقل المسائل العلمیة بشکل ببغائی دون إدراک

ص:266

مضامینها، لا یساعد الطالب علی الرقّی والتکامل العلمی، بل قد یُضعف رغبته وتعلّقه بذلک الفرع العلمی, رُویَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

المُتشبّعُ بِما لَم یُعطَ، کَلابِسِ ثَوبَی زُورٍ.(1)

- أخذ مقدرة الطالب الاستیعابیة بنظر الاعتبار عند إلقاء الدرس علیه: إن عدم التفات المعلِّم إلی المستوی العلمی للطالب، وعدم اهتمامه بشروط التعلیم، وإعداد المقدمات اللازمة للدخول إلی البحث، لن یعقّد علیه إدراک المطلب فحسب، بل سیؤدی ذلک إلی عدم رغبته فی مواصلة الدراسة أیضاً. ومن هنا، قیل: إن العالم الربّانی هو الذی یعمل علی تعلیم الناس الأمور البسیطة والسهلة، قبل تعلیمهم المعارف المعقدة والمشکلة(2).

- السعی وبذل الجهد من أجل التعلیم: إن رغبة المعلِّم واندفاعه نحو التعلیم یؤدی به إلی توظیف طاقته فی هذه المهمة الحیویة والهامة، وأن یبذل کلّ ما بوسعه من أجل تعزیز بنیته العلمیة والتخصّصیة، وإقامة الارتباط المناسب بینه وبین المتعلِّمین.

- الاستفادة من عنصری التشجیع والعقوبة: إن من بین الأمور التی یتعین علی المعلِّم أن یلتفت إلیها، هی الاهتمام بعنصری الترغیب والحث، بأن یعمل علی تشجیع الطالب من أجل تعلُّم المزید من المفاهیم الدراسیة، وردعه عن التساهل فی مسألة التعلُّم. لا شک فی أن عامل الترغیب والترهیب یؤدی إلی تحسین المسار التعلیمی.

- تقییم مسار التعلیم وطلب العلم: علی المعلِّم أن یستعمل أسلوباً یساعده فی التعرّف علی نتائج وثمار العملیة التعلیمیة، بحیث یتوصل من خلاله إلی مدی نجاحه فی مجال نشاطه التعلیمی. وتوجد الیوم الکثیر من الأسالیب فی

ص:267


1- (1)) منیة المرید: 60.
2- (2)) انظر: صحیح البخاری: 1، الباب: 53.

هذا الخصوص لتقییم المسار التعلیمی علی مختلف المستویات، وإن الاستفادة منها تلبی الهدف العام من عملیة التقییم(1).

ب) مسؤولیات المعلِّم فیما یتعلق بالأبعاد الارتباطیة:

- حسن الأخلاق والتواضع: إن من بین الأوجه الضروریة فی العلاقة القائمة بین المعلِّم والمتعلِّم، مراعاة حسن الخلق. رُویَ عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: قال أمیر المؤمنین (علیه السلام):

إنّ للعالِم ثَلاثَ علاماتٍ: العلم، والحلم، والصمت.(2)

إن تواضع المعلِّم أمام الطالب یخلق لدیه حافزاً قویاً یدفعه نحو بذل مزید من الاهتمام بالمضامین التی یلقیها المعلِّم أثناء الدرس، وقیامه بعملیة التعلیم. ولکی نقیم العُلقة العاطفیة بین المعلِّم والمتعلِّم، علی المعلِّم أن یکون هو من یأخذ زمام المبادرة إلی ذلک، ولا یبقی بانتظار الطالب لیکون هو من یقوم باتخاذ تلک الخطوة. إن المعلِّم الناجح هو الذی یحتفظ بمکانته العلمیة الرصینة، ومع ذلک یکون قادراً علی التأثیر فی کوامِن الطالب الوجودیة والعاطفیة أیضاً.

- العمل علی بذل العلم: من بین المسؤولیات الأخری الملقاة علی عاتق المعلِّم، هو أن یسعی إلی بذل العلم الطلّاب. فإن فی تحصیل العلم والمعرفة والعلم بکیفیة إیصالهما إلی الطلّاب خدمة جلیلة لهم، وطریقاً إلی تکاملهم المعرفی. عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: قرأتُ فی کتاب علیّ (علیه السلام): (إنّ اللهَ لمَ یأخُذ علی الجُهّال عهداً بطَلَبِ العِلم، حتّی أخَذَ علی العُلَماءِ عَهداً بِبَذلِ العِلمِ لِلجُهّالِ)(3).

ص:268


1- (1)) جدیر ذکره أن کیفیة الارتباط بین المعلِّم والمتعلِّم إنما تستنبط - فی المستوی العام - من خلال النصوص الدینیة، ومن هنا فإن الاستفادة من الأسالیب المذکورة فی العلوم التربویة، وبخاصةٍ علم النفس التربوی، یساعدنا فی الوصول إلی هذه الأهداف التربویة.
2- (2)) أصول الکافی: 86/1، کتاب فضل العلم، الباب الخامس، صفة العلماء، ح: 7.
3- (3)) منیة المرید فی آداب المفید والمستفید: 185، نقلاً عن أصول الکافی: 41/1، کتاب فضل العلم، باب بذل العلم، ح الأول.

- ضرورة التطابق بین سلوک المعلِّم وقوله: إن الکثیر من المفاهیم تحتوی علی قیمة أخلاقیة، وإذا أضحت ضمن هذه الغایة جزءاً من المحتوی التعلیمی، وجب أن تظهر علی شخصیة الانسان وسلوکه، ولذلک یجب قبل کل شیء ترسیخ هذه المفاهیم فی عمق شخصیة المعلِّم وأفعاله وسلوکیاته. فقد رُویَ عن الإمام علیّ (علیه السلام) أنه قال: (ثَمرةُ العِلمِ العَمَلُ بهِ)(1). وعنه (علیه السلام) أیضاً أنه قال: (العِلمُ بغَیرِ عَملٍ وَبالٌ)(2). وعلیه فإن تأثیر السلوک والعمل علی الطالب منوط بمحوریتهما فی دائرة نشاط المعلِّم. وبالإضافة ذلک فإن اتخاذ عنوان: (المعلِّم) یعنی تحمّل سلسلة من المسؤولیات والأسس الأخلاقیة التی یجب أن تنعکس علی سلوک المعلِّم، مهما کان مضمون التعلیم لا یحمل قیمة أخلاقیة. وفی الحقیقة، فإن التأثیر الأخلاقی للمعلِّم رهین بسلوکه النهج الأخلاقی فی تصرّفاته وأفعاله.

- تربیة الطالب علی إخلاص النیة: إن المراد من إخلاص النیة فی مسار العملیة التعلیمیة، هو أن یسعی المعلِّم من أجل وضع المتعلِّمین علی السِکّة المؤدیة إلی الهدف النهائی والغائی، وأن لا یغفل عن الحالات الروحیة، وتقدیم الرؤیة الصحیحة. وعلیه تذکیر المتعلِّمین بأن العلم لیس سوی وسیلة وآلة، وأن الهدف الهام هو کیفیة الاستفادة من هذه الوسیلة للوصول إلی الهدف النهائی المنشود.

- إیجاد الرغبة لدی الطلاب إلی تحصیل العلم والمعرفة: یجب علی المعلِّم أن یعمل علی تشجیع المتعلِّمین علی طلب العلم من خلال استخدامه لمختلف الأسالیب المشوِّقة، بحیث یبادرون إلی طلب العلم والمعرفة برغبة من أنفسهم، ولیس بضغط من العوامل الخارجیة. ویعتبر إخلاص المعلِّم

ص:269


1- (1)) غرر الحکم ودرر الکلم: 327.
2- (2)) المصدر: 85.

للطالب عنصراً هاماً فی خلق الرغبة لدیه إلی المضامین الدراسیة والتعلیمیة. ونعنی بالإخلاص، تعاطف الأستاذ مع الطالب، وإدراکه لاحتیاجاته، والعمل علی تلبیة مطالبه، فإن ذلک یعتبر خیر وسیلة لرفع الکثیر من المشاکل التی یعانی منها طالب العلم. ومن بین الأمور التی تؤدی إلی إیجاد الحافز والدافع لدی الطالب إلی تحصیل العلم والمعرفة، سؤال المعلم عن أوضاع المتعلِّمین، مع مراعاة المساواة بینهم فی النظرة والمحبة والبسمة.

بالالتفات إلی ما ذکر بشأن کیفیة العلاقة بین المعلِّم والمتعلِّم من وجهة نظر الإسلام، نتوصّل إلی نتیجة مفادها أن الاهتمام بالأمور الجزئیة للطلاب، والعنایة بمطالبهم فی غایة الأهمیة. إن هذا الأمر ینطبق علی نوع من النظام التعلیمی الذی تکون فیه الأبعاد الوجودیة الخاصة بالمتعلِّم محوراً للاهتمام. إن الاختلاف القائم بین المتعلِّمین من حیث الاستعداد أو الحاجات أو الإرادات، یحظی بأهمیة خاصة، وإن الاهتمام بهذه الأمور یکون سبباً فی ازدهار النظام التعلیمی بشکل ملحوظ. وعلی هذا الأساس، فإن النظام التعلیمی الذی لا یأخذ الاحتیاجات الفردیة لشخصیة الطالب بنظر الاعتبار، ویذیبها فی الدائرة الجماعیة، لا یمکن له أن یلبی مطالب النظام التعلیمی المنشود من وجهة نظر الإسلام.

3. الأهداف التربویة فیما یتعلّق بالارتباط بالوالدین:
اشارة

إن استمرار مسیرة الإنسان وبقاء نسله فی منظومة الخلق یکمن فی وجوده، وأن دور الانسان فی بقائه ونمائه وتوجیه نسله یعود بجذوره إلی أعماق وجوده وماهیته. لقد تعلقت مشیئة الله سبحانه وتعالی بأن یکون الوالدان واسطة لفیضه الإلهی، وأن یلعبا دوراً محوریاً فی استمرار الحیاة وبقائها. وقد أولی الله سبحانه وتعالی أهمیة کبیرة لهذا الدور فی سلسلة

ص:270

الخلق. وعندما ینطلق الحدیث عن الأهداف التربویة الدینیة فیما یتعلق بعلاقة الأولاد بالوالدین، لا یکون ناظراً إلی نوع جدید من الارتباط. فقد أودع الله حبّ الوالدین فی جبلّته وتکوینه. إن حبّ الولد لوالدیه لیس أمراً اعتباریاً أو تشریعیاً، وإن توسط الوالدین فی عملیة خلق الولد والمحافظة علیه ورعایته، یُشکل حاضنة طبیعیة لحبّ الولد لهما. وإن السیاسة الدینیة فی خصوص العلاقة القائمة بین الأولاد والآباء تقوم علی أساس تعدیل علائقهم. وبشکل خاص یمکن طرح الإفراط فی متابعة الأبناء للآباء والأجداد فیما إذا لم تبلغ حدّ المواجهة العلنیة مع الله سبحانه وتعالی، بوصفها نموذجاً من التعدیل فی نوع العلاقات القائمة بین الأولاد والآباء. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَکَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ کُنّا ذُرِّیَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِکُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ1 .

- وَ کَذلِکَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ فِی قَرْیَةٍ مِنْ نَذِیرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلی أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلی آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ2 .

کما ینتقد القرآن الکریم ویشجب سیاسة التبعیة للأسلاف فی موقفهم الخاطئ فیما یتعلق بعبادة الأصنام والأوثان، والإعراض عن الله سبحانه وتعالی، ونجد القرآن الکریم یقول فی بیان الحوار الذی دار بین النبیّ إبراهیم (علیه السلام) وقومه وأقاربه علی النحو الآتی:

- إِذْ قالَ لِأَبِیهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِیلُ الَّتِی أَنْتُمْ لَها عاکِفُونَ * قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِینَ * قالَ لَقَدْ کُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُکُمْ فِی ضَلالٍ مُبِینٍ3 .

ص:271

- وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَیْنا عَلَیْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ کانَ آباؤُهُمْ لا یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَ لا یَهْتَدُونَ1 .

وعلیه فإن من بین أهداف الإسلام التربویة بخصوص العلاقة بین الأولاد والوالدین، هو الاحتراز من اتباع الأبناء للآباء فی سلوکیاتهم الباطلة وتصرّفاتهم الخاطئة. إن هذا التحرّز هو نوع من التحرّز التربوی الذی یهدف إلی تعدیل محبّة الأولاد لأسلافهم. یری منطق الدین أن لا شیء ینبغی أن یشکل حاجباً ومانعاً من الوصول إلی الحقیقة، ومن هنا فحیث إن العلاقة العاطفیة بین الأولاد والوالدین قد تشکل سبباً للتمسک بآراء الأسلاف الخاطئة التی تؤدی فی الغالب إلی الضلال والبُعد عن الهدایة، فإنه یسعی جاهداً إلی تعدیل هذه العلاقة والخروج بها من حالة الإفراط إلی الحالة الطبیعیة. وعلی الرغم من أن هذا الأمر قد تجلی فی القرآن الکریم بشکل عام علی صیغة عبادة الأوثان والشرک بالله والإعراض عن التوحید، إلا أنه یتجلی فی المجتمعات الراهنة علی صور أخری. إن رغبة الکثیر من الأفراد إلی انتهاج المسار العام الذی یسلکه آباؤهم فی الحیاة، دون تدبّر للعواقب، أمر مألوف ومتعارف علیه. فإن الأولاد بعد أن یتبنوا القواعد التی تحکم سلوک آبائهم، یعمدون إلی تأطیرها ضمن قوالب جدیدة للوصول إلی ذات الأهداف التی تجنح فی غالبیتها نحو الاتجاهات المادیة، ظناً منهم أن ذلک یجعل منهم أصحاب رأی جدیدٍ مغایر لما کان علیه أباؤهم، فی حین أنهم من خلال إصرارهم علی المناهج التی خطّها آباؤهم وأجدادهم، یسیرون علی ذات الأهداف حذو القذّة بالقذة، ولکن بعد تغلیفها بإطار جدید. جدیر ذکره أن الوقوف بوجه التوحید لا ینحصر بعبادة الأصنام والنزعة المادیة فقط، بل له

ص:272

صور متعددة، من قبیل: الغرور والعصبیة والتکبّر والانغماس فی المظاهر الدنیویة، وخاصة فی عصرنا الراهن، حیث تشکل هذه الأمثلة أبرز مصادیقها.

بعد بیان هذا البُعد التربوی، الذی سبق أن أشرنا إلیه فی باب الأهداف المعرفیة من زاویة أخری، سندخل فی بیان الأهداف التربویة من بُعدها الإیجابی.

أ) إحترام الوالدین

ماذا نعنی باحترام الوالدین؟ وما الذی نعنیه بضرورة رعایة حرمتهم، وکیف یتعیّن علینا أن نقوم بهذا الواجب؟ یمکن لنا أن نبحث فی مسألة الإحترام ومراعاة الکرامة من زاویتین:

أ) ما هو منشأ ضرورة احترام الآخرین؟

ب) کیف یمکن تحقیق ذلک، وما هی الأدوات التی یمکن لنا توظیفها فی هذا المجال؟

فیما یتعلق بالإجابة عن السؤال الأول، یجب القول: إن المرء إنما یقوم بعمل إذا کان یلبی حاجته الخاصة بنحو من الأنحاء. وإن أحد الأمور التی تمتدّ بجذورها فی الحاجة الخاصة لدی الإنسان، هو احترام الآخرین والاعتراف بحقوقهم، مما یلعب دوراً فی رفع احتیاجاته. إن اختلاف نشاط الإنسان فی مجال احترام الآخرین یحکی عن قوّة أو ضعف هذه الحاجة فی الإنسان. وبشکل عام یمکن القول: کل امرء یقوم بلعب دور أکبر فی رفع احتیاجات الشخص، ویکون ذلک الشخص متمتعاً باحترام أکبر عنده. إن الاختلاف فی أسلوب التعاطی مع الآخرین، ومستوی الاهتمام بهم ناشئ عن مقدار تأثیر القوّة الخارجیة فی رفع احتیاجات الإنسان، فهو یعمل علی تلبیة طاقة المساعد بما یتناسب ومساعدته. ویتجلی هذا الأمر فیما یتعلق بعلاقة الإنسان بالله علی أعلی وأشد مستویاتها، حیث تتخذ ماهیة الاعتراف بالحق والإقرار بالجمیل الذی یستحق الشکر، إلا أن النقطة

ص:273

التی یجب علینا الالتفات إلیها، هی أننا مخلوقون لله، وإن کل ما لدینا إنما هو منه تعالی، وعلیه فإن شکرنا لله لیس تلبیة لحاجة الله لأنه تعالی غنیّ عن خلقه. وعلیه فإن الاحترام هنا یعنی الشکر، وإن فوائد ذلک تعود إلینا، لا إلی الله.

وإذا تجاوزنا هذه المرحلة، نصل إلی مسألة الاحترام فیما یتعلق بالوالدین، والذی یقع بحسب التسلسل فی المرتبة التالیة للعلاقة مع الله. وفیما یتعلق باحترام الوالدین یصعب علینا أن نفصل ماهیة الاعتراف بالحق عن الاحترام. وبعبارة أخری: بالالتفات إلی أن الاعتراف بالحق والشکر بما هو نوع من الوفاء للشخص الذی قام لنا بحل مشکلة من مشاکلنا، یتضمن نوعاً من إیصال المساعدة والتعاون المتبادل، إلا أن الاحترام یعنی من زاویة أخری الحفاظ علی حرمة الشخص ورعایة منزلته وشأنه. وأن الاحترام بمعنی الاعتراف بوجود حرمة للأفراد یشتمل علی معنی إیجابی، ویشتمل علی معنی سلبی أیضاً. فأحیاناً نحافظ علی احترام الآخرین من خلال مراعاة حقوقهم، وأحیاناً أخری من خلال الاجتناب عن الأمور التی تخدش منزلتهم وشأنهم. یری القرآن الکریم أن رعایة حقوق الوالدین تقع فی طول رعایة حرمة الله، وفی مرتبة تالیة لها. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّکُمْ عَلَیْکُمْ أَلاّ تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً1 .

- وَ قَضی رَبُّکَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِیّاهُ وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً2 .

- وَ اعْبُدُوا اللّهَ وَ لا تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً...3 .

- وَ إِذْ أَخَذْنا مِیثاقَ بَنِی إِسْرائِیلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً...4 .

ص:274

إن هذا الهدف من الأهمیة بمکان بحیث تمّ التأکید علیه بمختلف الأنحاء. فتارة یجعل الله سبحانه أخذ العهد والمیثاق واسطة للحفاظ علی الاحترام، وتارة یُصرّح بهذه المسألة، وأخری یحثّ علی هذا الأمر من خلال الأمر به.

وأما فیما یتعلّق بالسؤال الثانی، وما هی الأدوات والسبل التی یتعیّن علینا توظیفها للقیام بهذا الأمر الهام؟ فیجب القول: إنّ رؤیة الإسلام - کما رأینا فی ما تقدم من آیات القرآن الکریم - تقوم علی أن الإحسان بالوالدین لا ینفک عن احترامهم. إن الإحسان من الأهمیة بحیث یؤدی إلی علوّ مقام الإنسان، وحصوله علی المراتب السامیة، حتی أن الله عز وجل یذکر أن من أسباب بلوغ یحیی (علیه السلام) مقام النبوّة، هو إحسانه إلی والدیه. وفی الحقیقة، إن الإحسان وما له من قیمة أنسانیة یعتبر من الأسالیب العامة للوصول إلی الهدف التربوی المنشود لنا، أی الحفاظ علی حرمة الوالدین ورعایة احترامهم. وإن احترام الوالدین إنما یبلغ کماله إذا اقترن بالخضوع وخفض جناح الذل لهما. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ قَضی رَبُّکَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِیّاهُ وَ بِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً إِمّا یَبْلُغَنَّ عِنْدَکَ الْکِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ کِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً کَرِیماً * وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما کَما رَبَّیانِی صَغِیراً1 . وبذلک یحصل علی العزّة والکرامة والشوکة، تماماً کما یحصل علی ذلک من خلال الخضوع والعبودیة لله عز وجل.

ب) الاعتراف بحقّ الوالدین

إنّ من بین الأهداف التربویة فی الارتباط المتبادل، هو الاعتراف بالحق وشکر النعم، والمعونة التی تعمل - بنحوٍ من الأنحاء - علی حلّ مشاکل الإنسان وتلبیة احتیاجاته. وإذا کان الملاک فی الاعتراف بالحق والقیام

ص:275

بواجب الشکر یعود إلی درجة تدخل العنصر المقابل فی رفع وتلبیة الاحتیاج، یجب القول: إن أداء الشکر للوالدین والاعتراف بحقّهم، یأتی بعد الاعتراف بحق الله تعالی، ویقع فی الدرجة الثانیة من الأهمیة. إن تقدیر جهود الوالدین فی تنمیة الأولاد وتقدّمهم، إنما یتحقق من خلال الشکر والاعتراف بحقّهم والقیام بواجب تکریمهم. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ وَصَّیْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَیْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلی وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِی عامَیْنِ أَنِ اشْکُرْ لِی وَ لِوالِدَیْکَ إِلَیَّ الْمَصِیرُ1 .

وعلی هذا الأساس، فکما أن کُفران النعمة واجتناب الاهتمام بحقّ المنعم یستدعی العقوبة الأبدیة، کذلک الإعراض عن الوالدین والتقصیر فی حقّهم یؤدی إلی الابتعاد عن مسیر القرب من الله. إن من بین التعالیم التربویة فی الإسلام والذی هو من أبرز مصادیق الاعتراف بحق الوالدین، یتجلی فی طلب الخیر والبرکة لهما فی إطار الدعاء لهما والذی یعبّر عن نوع من الاتحاد بین الأولاد والأبوین، وقد أشار القرآن الکریم إلی هذه الحقیقة من خلال طلب الغفران والرحمة لهما، إذ یقول الله تبارک وتعالی: رَبَّنَا اغْفِرْ لِی وَ لِوالِدَیَّ وَ لِلْمُؤْمِنِینَ یَوْمَ یَقُومُ الْحِسابُ2 .

إن مسألة الاعتراف بحق الوالدین من الأهمیة بحیث إن ضلالهما وانحرافهما لا یشکل مانعاً من طلب الهدایة والغفران والخیر والإحسان الإلهی لهما، وهو الأمر الذی صنعه النبیّ إبراهیم (علیه السلام) لهدایة عمّه الوثنی الذی تولی رعایته وتربیته، ولم یوفر جهداً فی طلب المغفرة له. وقد حکی الله تبارک وتعالی ذلک عنه بقوله: وَ اغْفِرْ لِأَبِی إِنَّهُ کانَ مِنَ الضّالِّینَ3 .

ص:276

4. الأهداف التربویة فیما یرتبط بالعلاقة الزوجیة
اشارة

إن من بین أهم وجوه العلاقة بین الإنسان والآخرین - من الناحیة الکمیة والکیفیة - هی تلک العلاقة التی تتجلی فی الارتباط بین الزوجین. وإن هذه العلاقة تعود بجذورها إلی أعماق المیول والاحتیاجات الروحیة والنفسیة للإنسان. وکما أن الله سبحانه وتعالی قد أودع فی قرارة الإنسان هذه المیول والاحتیاجات، فإنه قد زوّده أیضاً بإمکانیة تلبیتها والاستجابة لها. وإن ما هو المطروح بشکل محدّد من هدفیة هذا البُعد فی ضبط العلاقة بین الزوجین، هو ذات هذه العلاقة أولاً، وکیفیة هذه العلاقة فی ظلّ تأثیر الضرورات والمحظورات الشرعیة ثانیاً، حیث تتخذ شکلها الخاص، ولا یمکن بلوغ الهدف المنظور والمنشود للدین من إقامة هذا النوع من العلاقات إلا فی إطار هذا الشکل الخاص. وکما تقدم أن أسلفنا فإن الهدف والغایة من الزواج وتکوین الأسرة هی استمرار النسل البشری، وإشباع العواطف والمشاعر والحصول علی السکن والطمأنینة. إن أفراد الإنسانیة والمجتمعات البشریة لا یمکنها - من وجهة النظر الدینیة - أن تبلغ الکمال والرقی المتمثل فی القرب من الله، إلا فی ضوء هذه الطمأنینة والسکون. والبحث الذی یطرح نفسه هنا هو بیان کیفیة ارتباط کل فرد بزوجه، وموقع هذا الارتباط من العلاقات الإنسانیة. وفی الحقیقة، عندما ینطلق الحدیث عن کیفیة العلاقة الزوجیة، فإن الذی یکون الاهتمام به فی البین هو عناصر تعزیز بنیة وأرکان الأسرة والعوامل التی تؤدی إلی زعزعتها. وإن الذی نبحثه - قبل کل شیء - هو التعرّف علی العناصر الدخیلة فی تعزیز الکیان الأسری، والمحافظة علی أرکانه، وما هی العوامل التی یعتبرها الإسلام دخیلة فی توثیق أواصر الأسرة، ویمنحها الدور الأکبر فی هذا الشأن، لننتقل بعد ذلک إلی البحث عن دور العناصر المذکورة بوصفها من الأهداف التربویة للإسلام فی تنظیم شؤون

ص:277

الأسرة وانسجامها. وبشکل عام، فإن احتیاجات الزوج إلی زوجه تنقسم إلی مجموعتین: إحداهما روحیة والأخری مادیة، وتبعاً لذلک تنقسم العناصر الدخیلة فی رفعها وتلبیتها إلی هاتین المجموعتین أیضاً:

أ) تلبیة الاحتیاجات الروحیة:

حیث کان الإنسان کائناً عاطفیاً، ویری أن تلبیة الکثیر من احتیاجاته رهن بإقامة العلاقات مع الآخرین، فإنه یسعی دائماً إلی التواصل مع إخوته فی الإنسانیة لرفع هذه الحاجة الوجودیة. إن لاحتیاجات الإنسان جذوراً فی أعماق وجوده، ویمکن تلبیتها عن طریق عناصر وأدوات خاصة. إن برکان الاحتیاجات الطاغیة للإنسان لا یمکن أن تخمد إلا بدفء الحنان والمحبة. ومن وجهة نظر الإسلام، فإن السکینة والمحبة تعتبران عنصرین رئیسین فی إقامة العلاقات واستمرارها.

- المحبة: إن الحاجة إلی المحبة، وأن یکون الإنسان محبوباً من قبل الآخرین، تُعتبر من الاحتیاجات الرئیسة للإنسان. وفی ذلک یقول رسول الله (صلی الله علیه و آله):

قَولُ الرَّجُلِ لِلمَرأةِ إنّی أُحِبُّکِ لا یَذهَبُ مِن قَلبِها أَبَداً.(1)

إن الحیاة المفعمة بالمحبة تصلح لأن تکون أرضیة خصبة لتقدم الإنسان ورقیه وتکامله. وإن أهم وأبرز أثر تربوی ناجم عن المحبة یکمن فی تکامل الإیمان وقوّته، حیث ینشأ من الاهتمام بالآخرین، والسعی إلی رفع احتیاجاتهم. رُویَ عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (العَبدُ کلّما ازدادَ للنِساءِ حُبّاً، ازدادَ فی الإیمانِ فَضلاً)(2).

وهذا الغیر هو الذی یهتم بالآخر بوصفه زوجاً، ویعمل علی هدایة

ص:278


1- (1)) وسائل الشیعة: 10/9.
2- (2)) المصدر: ج 11، ح 10.

البصیرة من الفحشاء والمنکر، وتوجیهها نحو العفاف والتقوی؛ إذ رُویَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

جُلوسُ المَرءِ عِندَ عِیالهِ أحَبُّ إلی اللهِ تَعالی مِنِ اعتکافٍ فی مَسجدی هذا.(1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) أیضاً أنه قال:

(إنّ المَرَءَ لَیُؤجَر فی رَفعِ اللُّقمَةِ إلی فی امرأَتِه)(2). وعنه (صلی الله علیه و آله) أیضاً أنه قال:

إذا سَقی الرجلُ امرأَتَه، أُجِر.

وعنه أیضاً أنه قال:

ما مِنِ امَرأةٍ تَسقی زَوجَها شُربَةً مِن ماءٍ، إلّا کانَ خَیراً لَها مِن عِبادةِ سَنَةٍ.(3)

وفی المقابل یتم شجب واستنکار النزاع وعدم التعاطنی والانسجام الأُسری؛ لأن المناخ المتشنّج یقضی علی عنصر استمرار الحیاة الأسریة، ونعنی به العنصر المتمثل بالحب والحنان. رُویَ عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال:

ملعونةٌ، ملعونةٌ امرأَةٌ تُؤذی زَوجَها. وسَعیدةٌ، سعیدةٌ امرأَةٌ تُکرِمُ زَوجَها ولا تُؤذیهِ، وتُطیعُهُ فی جَمیعِ أحوالهِ(4).

- السکینة: لقد اعتبر الحصول علی السکینة واحداً من الأهداف الأساسیة من الزواج، إذ یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ مِنْ آیاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَکُمْ مِنْ أَنْفُسِکُمْ أَزْواجاً لِتَسْکُنُوا إِلَیْها وَ جَعَلَ بَیْنَکُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ5 .

إن أُنس الإنسان بالإنسان وشعوره إلی جواره بالسکینة، إنما هو ثمرة

ص:279


1- (1)) میزان الحکمة: 287/4.
2- (2)) المحجة البیضاء: 70/3.
3- (3)) بحار الأنوار: ج 103.
4- (4)) المصدر: ج 11، ح: 10.

استمرار المحبة وقیام کل واحد من الزوجین بواجباته تجاه الآخر، ومن هذه الناحیة کان وجود الزوج - من وجهة نظر الدین - إلی جانب زوجه نعمة إلهیة تستحق الشکر والاعتراف بالحق. ومن هنا قال الإمام زین العابدین (علیه السلام) فی رسالة الحقوق:

وحقُّ الزوجةِ أن تَعلمَ أنّ اللهَ عزّ وجلّ جَعَلها لکَ سَکَناً وأُنساً، وتَعلَم أنّ ذلکَ نِعمةٌ مِنَ اللهِ تَعالی علیکَ؛ فتُکرِمُها وتَرفقُ بها، وإن کانَ حَقُّکَ علیها أوجَبَ، فإنّ لها علیکَ أن تَرحَمها لأنّها أَسیرُکَ، وتُطعِمُها وتَکسوها، فإذا جَهِلَت عَفَوتَ عنها.(1)

وأنّ حسن الخلق والألفة والعفو والصفح وغض الطرف والتغاظی عن الأخطاء، من العوامل الرئیسة فی ترسیخ دعائم السکینة والهدوء فی الأسرة. رُویَ عن الإمام أمیر المؤمنین علیّ (علیه السلام) أنه قال:

فَدارِها علی کُلِّ حالٍ، وأَحسِنِ الصَحبَة لها؛ لِیَصفو عَیشکَ.

ب) تلبیة الاحتیاجات المادیة:

الحاجة الجنسیة: إن هذه الحاجة تعدّ واحدة من الاحتیاجات البدیهیة والفطریة التی تؤدی إلی التواصل واستمرار هذا التواصل، بل إن من بین التفسیرات البارزة فیما یتعلق بالحصول علی السکینة إلی جوار الزوج هو التفسیر المرتبط ارتباطاً مباشراً بالاستجابة إلی الحاجة الجنسیة. رُویَ عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) أنه قال:

فَإنَّ لها حَقَّ الرَحمةِ والمُؤانسَةِ، ومَوضعَ السکونِ إلیها قَضاءُ اللّذَّةِ التی لا بُدَّ مِن قَضائِها، وذلکَ عَظیمٌ ولا قُوّةَ إلّا بِاللهِ.(2)

الحاجة الاقتصادیة: إن مسؤولیة الرجل فی تلبیة الاحتیاجات الاقتصادیة

ص:280


1- (1)) تحف العقول: رسالة الحقوق: 241، الحق رقم (20).
2- (2)) تحف العقول عن آل الرسول: 187، نقلاً عن رسالة الحقوق، الحق: 19.

لزوجته تعدّ من بین الأمور التی أکد الإسلام علی ضرورتها کثیراً. وقد سألت امرأةٌ رسولَ الله (صلی الله علیه و آله) عن حقّ المرأة علی زوجها؛ فقال (صلی الله علیه و آله) ما مضمونه: أن یُطعِمُها مِمّا یُطعِمُ به نفسَهُ، وأن یُلبِسَها مِن جِنسِ ما یَلبَسُ. ورُویَ عن الإمام زین العابدین (علیه السلام) أنه قال: (إنّ أرضاکُم عِندَ اللهِ أَسبَغکُمُ علی عِیالهِ).(1)

إن توفیر الرفاه فی الأسرة وإشاعة روح التسامح، من المسائل الهامّة فی العلاقات الاقتصادیة بین الرجل والمرأة(2).

5. الأهداف التربویة فیما یرتبط بالعلاقة مع الولد
اشارة

وصل بنا البحث بشأن سلسلة الأهداف الوسیطة - التی تتراوح بین الهدف الغائی وأفعالنا وأنشطتنا الجزئیة - إلی الأهداف التربویة فی إطار العلاقة بین الأولاد والأبوین. إن التواصل مع الأولاد یتبع سلسلة من القواعد والقوانین التربویة الخاصة. نسعی فی هذا المقال إلی بیان رؤوس الأقلام والخطوط العریضة التی تساعدنا بنحو من الأنحاء فیما یتعلق بالارتباط والتواصل مع الأولاد وتربیتهم. وهذه الخطوط العریضة هی الأهداف الوسیطة التی یجب أن تکون فی متناول الوالدین بشکل ملموس. نحن لا نرمی إلی بیان کیفیة تربیة الأولاد، والأهداف التربویة من هذه الزاویة، وإنما المهم - بالنسبة لنا - هو بیان الموقف الدینی فیما یتعلق بعلاقة الإنسان مع الآخرین، بمن فیهم الأولاد. بشکل عام، فإن مسألة التعلق بالولد والاهتمام بتلبیة رغباته واحتیاجاته الضروریة، تشکل محور تحدید الأهداف الوسیطة فی إطار النظام التربوی الدینی. وبالالتفات إلی التعلق العاطفی والمحبة التی تعمر قلب الوالدین تجاه أولادهما، وتعدیل هذه النزعة وتوجیهها نحو الهدف الغائی، یمکن بیان الأهداف الوسیطة فی النظام التربوی للإسلام.

ص:281


1- (1)) المصدر: 199.
2- (2)) انظر: وسائل الشیعة: 118/14.
أ) تجنب الإفراط والتفریط فی تربیة الأولاد

إن لدی الإنسان نزعة فطریة ومیلاً خاصاً إلی حبّ أولاده، بحیث نجده علی أتمّ الاستعداد للمخاطرة بنفسه من أجل سلامة وأمن أولاده. وإن لهذه النزعة جذوراً تمتدّ فی أعماق وجوده وکیانه. وإن جذور العواطف التکوینیة من معین الخلیقة فی وجود الإنسان، لتتفرّع ثمارها فی دوحة الحیاة عن براعم تتمثل فی الأولاد أنفسهم. إن الشعور بالوحدة والتلاحم مع الأولاد یمتدّ بجذوره فی أعماق روح الوالدین. والذی یقع مورداً لخطاب الدین التعلیمی والتربوی هو هذه الناحیة التی تتعرّض علی الدوام للإفراط والتفریط. إن المبالغة والإفراط فی الاهتمام بالولد، أو التقصیر والتفریط فی ذلک یترک تبعات وآثار سلبیة خطیرة، ومن هنا نجد الدین یؤکد علی عدم الانزلاق فی الإفراط والتفریط فی هذه الناحیة. وقد شجب القرآن الکریم فی بعض آیاته التقصیر فی حق الأولاد وعدم الاهتمام بهم والتهاون فی تلبیة مطالیبهم، وذلک إذ یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِیّاکُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ کانَ خِطْأً کَبِیراً1 . کما تمّ استنکار قتل الأولاد بسبب جنس المولود أو بسبب المشاکل المادیة، وعدم الاهتمام بعناصر توثیق الروابط بین الوالدین وأولادهما. وقد ذهبت بعض الروایات إلی اعتبار مسألة التفریط وتجاهل حقوق الأولاد نوعاً من العقوق الذی یطال الوالدین من قبل الأولاد. وبعبارة أخری: کما یجب مراعاة حقوق الوالدین علی الأولاد، کذلک من الضروری أن یراعی الوالدان حقوق أولادهما. فمن وجهة نظر الإسلام فإن التقصیر فی تلبیة حاجة الأولاد (المادیة والنفسیة) وضیاع شخصیتهم ومصیرهم، سیعرّض الوالدین إلی نقمة الله، ویؤدی إلی عقوق الأولاد. فقد رُویَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

ص:282

یَلزَمُ الوالِدَینِ مِن عُقوقِ الَولَدِ، ما یَلزَمُ الوَلدُ لَهما مِنَ العُقوقِ.(1)

وقد ورد هذا الحدیث بصیغة أخری، حیث قال (صلی الله علیه و آله):

یلَزمُ الوالِدَ منِ الحقُوقِ لوَلدِه، ما یَلزمُ الوَلدَ مِنَ الحُقوقِ لوِالدِه.(2)

وکما أن التهاون والتقصیر فی تلبیة الاحتیاجات الرئیسة للأولاد یُعدّان مانعاً من تسامی الوالدین، فإن المبالغة فی الاهتمام بهم تشکل أیضاً عقبة أمامهم تحول دون ارتقائهم قمّة القرب من الله سبحانه وتعالی. فإن من أهم العناصر التی تعرّض الوالدین إلی الانحراف والزلل هو هذا الشعور المفرط فی حبّ الأولاد. فهناک من یغوص فی عباب وقعر بحر حبّ أولاده بحیث یستحیل علیه العودة إلی ساحل النجاة. وقد اعتبر القرآن الکریم هذه المسألة واحدة من مواطن اختبار إیمان الوالدین، وذلک إذ یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُکُمْ وَ أَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِیمٌ3 . ویقول سبحانه أیضاً: إِنَّما أَمْوالُکُمْ وَ أَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ وَ اللّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِیمٌ4 .

إن بذل الجهود من أجل ضمان الرفاه المادی للأولاد من خلال ارتکاب الممارسات غیر المشروعة، تحت ذریعة القیام بواجب الأبوّة أو الأمومة تجاه الولد، وکذلک الامتناع عن الجهاد فی سبیل الله، وغیر ذلک من الوظائف والمسؤولیات والواجبات الشرعیة، هی من التبعات والآثار السلبیة لهذا الحبّ المبالغ فیه تجاه الأولاد. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تُلْهِکُمْ أَمْوالُکُمْ وَ لا أَوْلادُکُمْ عَنْ ذِکْرِ اللّهِ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَأُولئِکَ هُمُ الْخاسِرُونَ5 ، وقال تعالی أیضاً: إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا لَنْ تُغْنِیَ عَنْهُمْ

ص:283


1- (1)) بحار الأنوار: 93/104.
2- (2)) میزان الحکمة: 723/1.

أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَیْئاً وَ أُولئِکَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِیها خالِدُونَ1 .

بالالتفات إلی ما تقدم، ندرک أن علاقة الوالدین بأولادهما إذا لم تخضع لملاکات محددة، ولم تکن بمعزل عن الإفراط والتفریط، فإنها تحدث إرباکاً فی تربیة الأولاد، وقد تشکل عقبة دون تمکن الوالدین من طیّ مدارج الرقی والکمال أیضاً.

ب) مسؤولیة الوالدین تجاه الأولاد

إنّ من الضروری جداً أن یتمّ الالتزام بشکل جاد بالتعالیم التی ترسمها الشریعة السماویة فیما یتعلق بتربیة الأولاد. والمراد من تربیة الأولاد هو تنشئتهم فی مختلف المراحل، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأبعاد الوجودیة بجمیع أنواعها الجسدیة والنفسیة والاجتماعیة. وعلیه فإن البحث بشأن الأهداف التربویة فی إطار الاهتمام بوظائف الوالدین تجاه الأولاد، والحق الذی لهما علیهم، ناظر إلی تحدید الخطوط الحقوقیة العریضة التی یجب مراعاتها من قبل الوالدین بشکل کامل، ویمکن بیان هذه الحقوق علی النحو الآتی:

1. تلبیة احتیاجات الأولاد: إن للأولاد - کما هو الحال بالنسبة إلی الزوجة - حقوقاً، ومن أهمها تلبیة الاحتیاجات الأولیة، من قبیل: المأکل والملبس والأمن، وکذلک توفیر الأرضیة المناسبة لتربیتهم وتقدّمهم. رُویَ عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال فی جواب مَن سأله عن حق الولد: (وأن تضعه موضعاً حسناً).(1)

إن التقصیر فی تلبیة الاحتیاجات الأولیة للأولاد، یُشکل عقبة أمام تکاملهم وبلوغهم المراحل العلیا. وعلیه، فإن توفیر الأجواء المناسبة لتقدّم

ص:284


1- (2)) وسائل الشیعة: 198/15، ح 1.

الأولاد ورقیّهم فی مدارج الحیاة، یعتبر من أهم الوظائف التی یتعیّن علی الوالدین أن یضطلعا بها. فقد رُویَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) فیما یتعلق بمسؤولیة رعایة الأولاد أنه قال:

کُلَّکُم راعٍ وکُلَّکُم مَسؤولٌ عَن رَعیَّتهِ. والرَجلُ راعٍ علی أهل بَیتهِ، وهو مَسؤولٌ عَن رَعیَّتهِ. والمَرأةُ راعِیَةٌ علی أهلِ بَیتِ بَعلِها وَوَلدِه، وهیَ مَسؤولَةٌ عَنهُم.(1)

2. المحبّة: إن من بین أرکان تربیة الولد، هو إقامة التواصل المناسب معه علی أساس من المودة والمحبّة؛ لأن المحبّة بوصفها أهم واسطة فی إقامة التواصل، یجب أن تخضع لاهتمام خاص. والمراد من المحبّة فی هذا البحث هو توفیر الظروف التی یتلقی فیها الولد دَفقات من المحبّة والمودّة، کی یتم بذلک تجاوز معضلة تجاهله وإهماله. هناک الکثیر من الروایات المشتملة علی ضرورة إبداء المودة والمحبّة للأولاد. ومن ذلک ما رُویَ عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال:

إنّ اللهَ یَرحَمُ العَبدَ لِشِدّةِ حُبّهِ لَوِلَدِه(2) ،

ورُویَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

مَن قَبَّلَ وَلَدَهُ، کَتَبَ اللهُ لَهُ حَسَنَةً. وَمن فَرَّحَهُ، فَرَّحَهُ اللهُ یومَ القیامَةِ.(3)

وبالالتفات إلی التعالیم الإسلامیة التربویة الأخری، ندرک دلالتها علی هذا الأمر بوصفه واسطة لإقامة الارتباط التربوی بین الوالدین والأولاد.

3. تربیة الولد: إن البحث بشأن تربیة الولد، هو من أهم الموارد التی أکّد علیها الإسلام کثیراً. إن تلبیة احتیاجات الأولاد یمهد الأرضیة لهم لبلوغ

ص:285


1- (1)) مجموعة ورّام: 6/1.
2- (2)) من لا یحضره الفقیه: 310/3.
3- (3)) میزان الحکمة: 699/10.

المراحل التربویة العلیا فی طریق التکامل والرقّی. وعلی هذا الأساس، تندرج مقولة التربیة - ضمن ترتیب منطقی - بوصفها هدفاً وغایة لسائر المقولات الارتباطیة بالأولاد. إن تربیة الولد بشکل شامل وواسع یستوعب جمیع أبعاده الوجودیة. بحیث إن تجاوز أیّ واحد من هذه الأبعاد، یترک آثاراً لا یمکن تدارکها علی مسار حیاة الولد وتقدمه. وبشکل عام فإن الخطوط العریضة التی نحتاج إلیها فیما یتعلق بتلبیة احتیاجات الأولاد، علی النحو الآتی:

- تعلّم العلوم والفنون: فی کلّ زمان تتجدد بعض العلوم والفنون بما یتناسب والاحتیاجات الجدیدة، ویمکن للاطلاع علیها أن یسهم فی حلّ المشاکل المستحدثة. وفی الحقیقة، إن توفیر الرفاه والسعادة والأمن فی الحیاة رهن بتعبید طرق العلم والمعرفة والفن، وهنا تتجلّی مسؤولیة الوالدین فی توجیه أولادهما إلی أهمیة دور العلم والمعرفة فی الحیاة. وبطبیعة الحال، فإن مناهج التعلیم تتغیر علی الدوام بما یتناسب والتقدّم والتطوّر فی کلّ عصر وزمان. وعلیه، فإن تعلُّم الکتابة والسباحة والرمایة وإن کانت تحظی بالأولویة والأهمیة فی المجال المعرفی فی عصر النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله)، حتی رُویَ عنه أنه قال:

حَقُّ الوَلَدِ علی والدِهِ أن یُعلِّمهُ الکِتابَةَ والسِباحَةَ والرِمایة.(1)

وعنه (صلی الله علیه و آله) أیضا:

(علِّموا أولادَکُمُ السِباحَةَ والرِمایَةَ)(2). کما رُویَ عن الإمام علیّ (علیه السلام) أنه قال: (مُروا أولادَکُم بِطَلَبِ العِلمِ)(3). وأما فی العصر الراهن، فبالالتفات إلی ظهور الاحتیاجات الجدیدة وتنوّع المضامین التعلیمیة لا یمکن للإقتصار علی هذه الموارد أن یلبّی أهدافنا فی عملیة تربیة الأجیال فی المرحلة الراهنة. وفی الحقیقة، إن کلام رسول الله (صلی الله علیه و آله) إنما هو ناظر إلی

ص:286


1- (1)) میزان الحکمة: 720/1.
2- (2)) وسائل الشیعة: 247/12.
3- (3)) میزان الحکمة: 721/10.

الحاجة الراهنة، وقد عبّر عنها من خلال أبرز مصادیقها فی عصره، فکما أن السباحة تنقذ الإنسان من الموت غرقاً، بالإضافة إلی کونها ریاضة تساعد علی بناء الجسم والحفاظ علی الصحّة وتقویة البنیة، کذلک فإن الحصول علی الأمن رهن باکتساب المهارات فی هذا الفن، وعلیه، فإن کل ما من شأنه أن یقوم بهذه الوظیفة، یکون مندرجاً تحت العنوان الذی حثّ الرسول (صلی الله علیه و آله) علی تعلّمه. وعلیه، فإن الخط التعلیمی العام، یتحدد من خلال الالتفات إلی المصادیق والمضامین المختلفة الراهنة التی تعود فی منشئها إلی الاحتیاجات المستحدثة، وتتخذ أشکالاً جدیدة ومعاصرة.

- تعلم الآداب والتربیة الأخلاقیة: إن من بین موارد تعلیم الأولاد، هو تعلیمهم الآداب والسنن الحسنة والتربیة الأخلاقیة، وإن تنمیة فضائل الأخلاق لدیهم والحیلولة دون تلوثهم بالرذائل، من أهم نتائج تربیتهم الأخلاقیة. فقد رُویَ عن الإمام أمیر المؤمنین علیّ (علیه السلام) أنه قال:

إِنَّ لِلْوَلَدِ عَلَی الْوَالِدِ حَقّاً، وَإِنَّ لِلْوَالِدِ عَلَی الْوَلَدِ حَقّاً: فَحَقُّ الْوَالِدِ عَلَی الْوَلَدِ أَنْ یُطِیعَهُ فِی کُلِّ شَیْءٍ إِلاَّ فِی مَعْصِیَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَحَقُّ الْوَلَدِ عَلَی الْوَالِدِ أَنْ یُحَسِّنَ اسْمَهُ، وَیُحَسِّنَ أَدَبَهُ وَیُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ.(1)

ورُویَ عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (تَجِبُ لِلوَلَدِ علی والِدِه... المُبالَغةُ فی تَأدیبهِ)(2). ورُویَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (أَکرِموا أولادَکُم وَأَحسِنوا آدابَهُم)(3). والمهمّ فی هذا السیاق هو الاستفادة من الأسالیب التعلیمیة فی مسار تربیة ونقل الآداب والأخلاق الحسنة للولد. ولا شکّ فی أن المحتوی الضروری فی هذا الباب، ممکن استنباطه من النصوص الإسلامیة کالقرآن

ص:287


1- (1)) نهج البلاغة: الحکمة: 399.
2- (2)) بحار الأنوار: 236/78.
3- (3)) میزان الحکمة: 721/10.

والسّنُة النبویة الصحیحة، ولو أن هذه النصوص صُبّت فی قوالب حدیثة، فسیکون تأثیرها علی الأطفال کبیراً جداً.

- تعلیم القرآن والتعالیم الإسلامیة الخاصة: لو أن المفاهیم الدینیة والتعالیم السماویة لم یتم تعلیمها للطفل فی صغره، بحیث تستقر فی أعماق وجوده وأحاسیسه وعواطفه، فلا یکون هناک ما یضمن بقاءَها ورسوخها فی نفسه عند البلوغ والکبر. من هنا، فإن الاستفادة من المناهج التعلیمیة الخاصة بالصغار، تضمن لنا التوجه الصحیح لهم فی الأعوام المقبلة. إن تعرّف الصغار علی القوانین والأسس الدینیة، واستیعابهم للأحکام العملیة للدین وأنسهم بالآیات القرآنیة والأحادیث الشریفة المرویة عن الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) والأئمة الأطهار (علیهم السلام) رهن بما نقوم به من تعلیمهم وتربیتهم علی المناهج الدینیة والإلهیة، کی نحفظهم من طوفان الحوادث وأمواج الضیاع التی سیتعرضون لها عندما یبلغون مرحلة الشباب، لا محالة. رُویَ عن الإمام علیّ (علیه السلام) أنه قال:

(وَحَقُّ الْوَلَدِ عَلَی الْوَالِدِ أَنْ... یُعَلِّمَهُ الْقُرْآنَ)(1). ورُویَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

أَدِّبوا أولادَکُم علی ثَلاثِ خِصالٍ: حُبِّ نَبیّکم، وَحُبِّ أهلِ بَیتِه، وقِراءَةِ القرآنِ.(2)

ورُویَ عن الإمام علیّ (علیه السلام) أیضاً أنه قال:

بادِروا أَحداثَکُم بالحَدیثِ قَبلَ أن تَسبِقَکُمُ المُرجِئَةُ.(3)

وعنه (علیه السلام) أیضاً أنه قال: (علموا أولادَکُمُ الصَلاةَ، وَخُذوهُم بِها إذا بَلَغوا الحُلُمَ)(4).

بید أن تعلیم الصغار یجب أن یتناسب والظروف الزمانیة المتغیّرة. فلربما

ص:288


1- (1)) نهج البلاغة: الحکمة: 339.
2- (2)) میزان الحکمة: 721/10.
3- (3)) الحر العاملی، وسائل الشیعة: 247/12.
4- (4)) غرر الحکم ودرر الکلم.

کان یکفی الاقتصار فی عهد النبیّ (صلی الله علیه و آله) علی تعریف الأولاد بالقرآن الکریم وبعض الأحادیث، حیث کان لوجود الرسول الأکرم (صلی الله علیه و آله) والأئمة الأطهار (علیه السلام) الذین هم منبع الأنوار الإلهیة، من جهة، للإجابة عن جمیع الإشکالات، وعدم تنوّع الأفکار والعقائد بالقیاس إلی ما نشهده فی عصرنا الراهن، من جهة أخری، ما یرسم أمامنا أفقاً واضحاً ومحدداً، وأما فی العصر الراهن المفعم بأنواع الضلال والإنحراف، فیتعیّن علی الآباء والأمهات أن یشبعوا أولادهم بمعین المعارف القرآنیة والأحادیث الشریفة، لتعزیز توجّهاتهم الدینیة فی مواجهة الأمواج الجارفة لهجوم الکفر والشرک والجهل فی هذا العصر.

6. الأهداف التربویة بشأن علاقة المؤمنین ببعضهم

إن دائرة علاقات الإنسان فی تغیّر مستمر، حیث تعمل توجّهاته المتنوّعة للتغییر مساراته الارتباطیة. فما هو منشأ هذا التغیّر والانفصال عن العلاقات السابقة والتنکّر لها؟ ولماذا یعمد الإنسان إلی إعادة النظر فی علاقاته أحیاناً؟ وما هو المعیار والملاک فی هذه الخیارات وقطع العلاقات؟ نبدأ الإجابة عن هذه التساؤلات بهذه العبارة: إن أساس العلاقات البشریة یقوم علی خلفیة من وعی الإنسان وانتماءاته الفکریة. فإن رغبة الفرد فی الانتساب إلی عضویة مؤسسة أو جماعة، وبناء العلاقات والجسور مع سائر أعضاء تلک الجماعة، رهن بمدی تطابق مطالبه ورغباته مع مطالب تلک الجماعة ورغباتها، ومدی تلبیة تلک الجماعة لتطلعاته. فإذا کان اهتمام الفرد ینصبّ علی تلبیة حاجاته السامیة والاستجابة إلی ندائه الفطری الذی یدعوه إلی مواصلة القرب من الله سبحانه وتعالی، فإن مطالبه ستکون أسمی وأرقی من مجرد تلبیة الاحتیاجات المادیة والحیوانیة. إن من بین العناصر الهامة التی تترک تأثیرها علی بناء

ص:289

العلاقات الاجتماعیة، هی الاعتقادات والولاءات التی یتبناها الفرد. ولذلک نجد الإنسان المؤمن إنما یقیم علاقاته بما یتناسب وحاجاته الخاصة مع أولئک الذین یستطیعون تلبیة هذه الحاجات. ولا شک فی أن مثل هؤلاء الأفراد ینبغی أن یکونوا قد توصلوا إلی درجة عالیة من التقوی الإلهیة لیتمکنوا من توثیق وتعزیز أواصر العلاقة فیما بینهم. وعلی هذا الأساس، فإن الاتحاد فی المسلک والرؤیة هو الشرط الرئیس فی بناء وتعزیز العلاقة والارتباط مع الآخرین واستمرار تلک العلاقة. بالالتفات إلی ما ذکر، فإن تقویة النواحی الارتباطیة منوط برعایة الملاکات - التی تؤدی إلی تقرّب الناس من بعضهم. وإن هذه الملاکات - فیما یتعلق بخصوص علاقة المؤمنین ببعضهم - تکمن فی الإیمان وتقوی الله. وإن البحث فی شؤون الأهداف التربویة فی دائرة علاقة الشخص المؤمن بغیره من المؤمنین، ناظر إلی إقامة روح الأخوّة والتعاون بین الأفراد للوصول إلی الهدف الغائی المتمثّل بالقرب من الله. فما أکثر المتعاضدین الذین یراعون قواعد الأخوّة فیما بینهم، ولکنهم للأسف الشدید یصرفون کل جهودهم فی المسیر الخاطئ. وعلیه، فإن الذی یجب علینا الاهتمام به فی هذا البحث هو الأخوة والمودّة والمحبّة الموجّهة نحو بلوغ الهدف الأسمی، ألا وهو الوصول إلی القرب من الله سبحانه. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ1 .

- وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ کُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْها کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ2 .

ص:290

إن أواصر المودّة والأخوة والتعاون إنما تبلغ ذروة الاستحکام إذا قامت علی أسس محکمة وثابتة، ولا یمکن لهذا الأمر أن یتحقق إلا من خلال الالتفات إلی العالم الأسمی، وتجاوز الاحتیاجات المرحلیة. فقد رُویَ عن الإمام علیّ (علیه السلام) أنه قال:

(مَن آخی فی الله غَنِمَ، ومن آخی للدُنیا حُرِمَ)، وعنه (علیه السلام) أیضاً: (مَودّةُ أبناءِ الدُنیا تَزولُ لأَدنی عارِضٍ)(1). ورُویَ عنه (علیه السلام) فی موضع آخر، أنه قال: (الناسُ إخوانٌ، فَمن کانت أُخوّتُه فی غَیرِ ذات الله فهیَ عَداوَةٌ، وذلک قَولُه عزّ وجلّ اَلْأَخِلاّءُ یَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِینَ2 )(2).

بالالتفات إلی ما قیل بشأن عنصر الارتباط بین المؤمنین، فإن بناء الفضاء المناسب لإقامة العلاقة فیما بینهم منوط بقیامهم بمسؤولیاتهم الدینیة واتصافهم بالتقوی الإلهیة. وفی هذه الحالة تتوفر الأرضیة المناسبة لتربیة روح المودّة والمحبّة. وبشکل عام، فإن ترسیخ دعائم الأخوة فی المجتمع رهن بعاملین، وهما: توفیر الأرضیة لبناء الأخوّة، والعمل بالوظائف والمسؤولیات المتبادلة. وسنبحث هذین العاملین ضمن العنوانین الآتیین:

1. أما العامل الأول المتمثل بتوفیر الأرضیة المناسبة لبناء الأخوّة الدینیة والتعاون فی ظلّ الشریعة، فإنما یتحقق إذا امتثل أفراد المجتمع للوظائف المفروضة علیهم من قبل الشرع. وفی هذه الصورة یمکن لنا أن نغرس فسیل المحبّة والأخوّة. قال الله تعالی فی محکم کتابه الکریم: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ فَإِخْوانُکُمْ فِی الدِّینِ وَ نُفَصِّلُ الْآیاتِ لِقَوْمٍ یَعْلَمُونَ4 .

إن الحاجة إلی الارتباط بین الإخوة المنتمین إلی ذات المسلک،

ص:291


1- (1)) غرر الحکم ودرر الکلم.
2- (3)) بحار الأنوار: 160/74.

والحصول علی القدرة والوجاهة فی ظل بعضهم بعضاً إنما یأتی فی إطار مرحلة من تقدم الوعیّ الفردیّ، حیث یقوم الفرد بامتثال وظیفته ومسؤولیته تجاه دینه، لیغدو أهلاً للإنتساب والإنسجام مع بیئته الطبیعیة. وإن الذی یؤدی - فی الإسلام - إلی تقریب الناس من بعضهم البعض ویشدّ من أواصر العلاقة بینهم، هو التوجّه نحو الله وامتثال أوامره. وفی مثل هذه الأجواء لن یکون لحفظ الذات من معنی ومفهوم غیر المحافظة علی الدین، ولکی نحفظ الدین لا مندوحة لنا من إقامة العلاقات وتوسیع رقعتها ونطاقها إلی أبعد الحدود الممکنة. وأما کیفیة التوصل إلی بناء هذه العلاقات واستمرارها، فتعود إلی العامل الثانی فی مسألة الأخوّة الدینیة.

2. والعامل الثانی هو القیام بالأعمال التی تؤثر فی دعم وتوثیق أواصر الأخوّة. إن مسؤولیة کل واحد من الأفراد تکمن فی الحفاظ علی هذه العلاقات من الآفات، والإلتفات إلی مشاعر وعواطف بعضهم البعض. والمهم بالنسبة لنا هو أن بإمکاننا التعرّف علی بعضنا فی ظلّ هذا العامل والعنصر الذی یؤدی إلی بناء جسور العلاقات ونعنی بذلک الإسلام والإیمان بالله والقیام بالوظائف الشرعیة. وإن المحافظة علی حرمة الأخ فی الدین، ومساعدته علی القیام بمسؤولیاته ورفع مشاکله، وتوفیر المناخ المناسب والمطلوب، وإرشاده وما إلی ذلک من الأمور الکثیرة التی توثر فی المحافظة علی الأخوّة وتوسیع نطاقها. وهذا ما أکدت علیه النصوص الدینیة التی نذکر منها الموارد الآتیة، علی سبیل المثال دون الحصر:

1. رُویَ عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

مَن أکرَم أخاهُ المُسلِمَ بِکَلِمَةٍ یَلَطِّفُه بها، ومَجلِسٍ یُکرِمُه بهِ، لَم یَزَل فی ظِلّ اللهِ (عزّ وجلّ) مَمدوداً علیهَ بالرَحمَةِ ما کانَ فی ذلِکَ.(1)

ص:292


1- (1)) بحار الأنوار: 316/74.

2. رُویَ عن الإمام علیّ (علیه السلام) أنه قال:

قَضاءُ حُقوقِ الإخوانِ، أشرَفُ أعمالِ المُتّقین.(1)

3. رُویَ عن النبیّ الأکرم (صلی الله علیه و آله) أنه قال:

(إلقَ أخاکَ بوَجهٍ مُنبَسِطٍ)(2).

4. ورُویَ عنه (صلی الله علیه و آله) أیضاً أنه قال:

المُؤمِنُ مِرآةٌ لأخیهِ المُؤمِنِ، یَنصَحهُ إذا غابَ عنهُ، ویُمیطُ عنهُ ما یَکَرهُ إذا شَهِدَ.(3)

7. الأهداف التربویة فیما یتعلق بعلاقة المؤمن بعامة الناس

یقع موضوع البحث هنا حول العلاقات الاجتماعیة والارتباط بالآخرین. فنقول: إن الإنسان یحبّ التعایش مع الآخرین ومشارکتهم فی الحیاة سواء أکانت اجتماعیته ذات منشأ ذاتی، أو أنه إنما یستجیب لذلک تلبیة لإشباع رغبته النفسیة والتغلب علی مشاکله المادیة. ربما أمکن القول - بغض النظر عن البحوث النظریة بشأن فلسفة النزعة الإنسانیة نحو الحیاة الاجتماعیة -: إن المعیار فی التعایش بین الناس فی النظرة الأولی لیس هو الانتماء إلی معتقد أو مذهب واحد، رغم أن ذلک یلعب دوراً خاصاً فی المراحل المتقدّمة من التکامل المعنوی، بید أنه قبل أن یکون المذهب والمسلک هو محور الأُنس والألفة، نجد أن ماهیتنا المشترکة وهویتنا الواحدة هی التی تسوقنا نحو إقامة مختلف العلاقات والروابط فیما بیننا. إن الفرد إنما یقیم علاقته مع الفرد الآخر إنطلاقاً من إنسانیته، فی حین أن العلاقة المنشودة دینیاً لا تقوم علی هذا المنطلق. وبعبارة أخری: إن الدین لم یأتِ لیقیم - فی عرض العلاقات والإرتباطات الإنسانیة القائمة علی الملاکات البشریة - علاقات أخری مستقلة

ص:293


1- (1)) المصدر: 229.
2- (2)) المصدر: 171.
3- (3)) المصدر: 233.

تقوم علی أساس الرؤیة المذهبیة، ودعوتهم إلی إقامة علاقة من نوع جدید، بل إنه یسعی إلی هدایة الناس علی أساس من نفس الملاکات والمعاییر القائمة علی الأسس الإنسانیة وتکاملها وتطویرها للوصول إلی الأهداف السامیة، والحیلولة دون اضمحلال منظومة القیَم تحت سیطرة الأهواء النفسیة والمیول المادیة والأطماع البشریة. بالالتفات إلی ذلک یمکن القول: إن رؤیة الفرد الذی یؤمن بالقوانین والأصول الدینیة - بوصفها قوانین تعمل علی بناء الإنسان فیما یتعلق بإقامة الروابط والعلاقات مع الآخرین دون أخذ مشاربهم ومسالکهم بنظر الاعتبار - تختلف عن رؤیة ذلک الفرد الذی یقیم علاقاته علی أساس من احتیاجاته البحتة. إن المؤمن هو الذی ینظر إلی الأمور والعلاقات القائمة من خلال المنظار الإلهی، ویرصد نتائج هذا النوع من العلاقات فی إطار أوسع یشمل الملاکات الإلهیة أیضاً، خلافاً لذلک الشخص الذی یروم تفسیر العلاقات مع الآخرین فی ضوء تجاربه المحدودة. واضح أن علم الله بالمسار الوجودی للإنسان ومراتبه یفوق ما یعلمه البشر بشأن واقعه، وأنّ توظیف التعالیم الدینیة سیغنیه عن تکرار تجاربه التاریخیة المریرة. إنّ بحثنا بشأن الأهداف الوسیطة تحت عنوان (علاقة الإنسان المؤمن بالآخرین)، تأتی أهمیته من حیث سعة دائرة العلاقات الاجتماعیة فیه، حیث لا تقتصر علی خصوص علاقة الفرد المؤمن بالآخرین من المؤمنین فقط، بل تشمل غیر المؤمنین أیضاً. یدور بحثنا حول ماهیة الأهداف التربویة الحاکمة علی هذا النوع الأخیر من العلاقات، وما هی ردود الفعل التی تصدر عن الفرد المؤمن فی تعاطیه مع الآخرین الذین لا ینتمون إلی المسلک والمذهب الذی ینتسب له. إن ما یتم طرحه فی دائرة الإسلام حول أسلوب العلاقة مع الآخرین، هو وجوب التعاطی مع الإنسان بوصفه إنساناً. فإن الإنسان من وجهة نظر الإسلام کائن محترم، ویتمتع بمکانة ومنزلة مرموقة ترفعه وتمیّزه من

ص:294

سائر المخلوقات الأخری. إن المنزلة والمکانة التی شرّف بها الله الإنسانَ والتی تجلّت فی أمر الله لملائکته بالسجود لآدم والاعتراف بمواهبه وطاقاته الکامنة فی وجوده من العقل والإدراک والعلم، هو أفضل فخر یحصل علیه الإنسان من الله سبحانه وتعالی. إنّ الإنسان من وجهة نظر الإسلام یتمتع بقیمة لا یمکن حتی للملائکة أن تدرکها، فعندما تأتی الملائکة علی ذکر ما یمکن لهذا الإنسان أن یقوم به من الموبقات وسفک الدماء، یعمد الله تبارک وتعالی إلی التذکیر بتفوّق هذا الإنسان علی سائر الکائنات بما فیها الملائکة أنفسهم، ولکی یجسّد ذلک علی الصعید العملی یأمرهم بالسجود له، وبیان تفصیل ذلک من القرآن الکریم علی النحو الآتی:

وَ إِذْ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِیفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِیها مَنْ یُفْسِدُ فِیها وَ یَسْفِکُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَ نُقَدِّسُ لَکَ قالَ إِنِّی أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ * وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ کُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَی الْمَلائِکَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِی بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ * قالُوا سُبْحانَکَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّکَ أَنْتَ الْعَلِیمُ الْحَکِیمُ * قالَ یا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ غَیْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما کُنْتُمْ تَکْتُمُونَ * وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِکَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ أَبی وَ اسْتَکْبَرَ وَ کانَ مِنَ الْکافِرِینَ1 .

إن عدم المحافظة علی حرمة الإنسان یعتبر من وجهة نظر القرآن مصداقاً بارزاً للشر، ویکون سبباً فی البعد عن رحمة الله، کما تمّ حرمان الشیطان من رحمة الله بسبب تمرّده وکبریائه وامتناعه عن الاعتراف بشرف الإنسان. وبالالتفات إلی هذه المنزلة والمکانة السامیة التی یتمتع بها الإنسان فی المنظور الإسلامی والقیَم المعرفیة لهذا الدین، نستنتج أن أهم رکن فی العلاقة مع الآخرین تشمل أصلین وقانونین عامَّین، وهما:

ص:295

أ) احترام الإنسان لإخوته فی الإنسانیة: کما تقدم أن ذکرنا، فإن احترام الإنسان لأبناء جلدته له جذور دینیة. وفی الحقیقة، إذا أردنا أن نقدّم تفسیراً ظاهریاً للخروج من رحمة الله بسبب عدم مراعاة حرمة الآخرین، نستنتج أن تجاوز حقوق الآخرین یؤدی إلی تعرّض الناس وعدوانهم علی حقوق بعضهم بعضاً، والابتعاد عن الإنسانیة، والخضوع للأهواء النفسیة، الأمر الذی یعرض المجتمع بأسره إلی المخاطر الکارثیة. لقد کرّم الله الإنسانَ فی القرآن الکریم وفضَّله علی الکثیر من مخلوقاته، وذلک إذ یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ لَقَدْ کَرَّمْنا بَنِی آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِی الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّیِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلی کَثِیرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِیلاً1 . وعلیه، فإن الإیمان بهذا الأصل القرآنی یمثل خیر ضمانة أخلاقیة تلزمنا برعایة حقوق الآخرین، وتعمل علی تنظیم علاقاتنا ببعضنا البعض. إن الإنسان جدیر بالاحترام؛ لأنه مسؤول، وإن مسؤولیته تستلزم حریته فی الاختیار. وعلیه، یجب علی المسلم أن یحترم غیر المسلم لمکان إنسانیته، وأن یراعی حرمته من هذه الناحیة. إن تجنّب السخریة من الآخرین، وبشکل عام تجنب کل العناصر التی من شأنها أن تقلل من احترام الآخرین، یعتبر من الأصول والقواعد الدولیة الثابتة فی الإسلام، وإن أی تهاون بها أو عدول عنها یؤدی إلی الفرقة والاختلاف، الأمر الذی یحدث فجوة وثغرة یمکن للشیطان أن یتسلل منها لیحیط بأعمالنا ویسیطر علینا، وفی ذلک یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا یَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسی أَنْ یَکُونُوا خَیْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسی أَنْ یَکُنَّ خَیْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَکُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِیمانِ وَ مَنْ لَمْ یَتُبْ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ2 .

ب) مراعاة العدالة: إن العدالة التی تعنی رعایة حقوق الآخرین هی مثل احترامهم قبل أن تکون ذات جذور دینیة، فإنها ذات جذور إنسانیة، وإن دور

ص:296

الدین فیها هو العمل علی إثرائها وتنمیتها. إن الإنسان من وجهة النظر الدینیة کائن جدیر بالاحترام والتکریم وبحاجة إلی إقامة العلاقات العادلة، وإلی هیمنة قواعد وأسس، من قبیل: المساواة والاعتدال المنسجمین مع أسسه الوجودیة. قال تعالی: فَلِذلِکَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ کَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ کِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَیْنَکُمُ1 .

إن الأمة الإسلامیة أمة متوازنة، وهی علی حدّ تعبیر القرآن الکریم أمة وسطیة، وهذا یعنی أن یکون جمیع الناس فی بحبوحة من العدل والبعد عن الأحقاد والانتقام والرکون إلی التقوی الإلهیة، قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا کُونُوا قَوّامِینَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا یَجْرِمَنَّکُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلی أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوی وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِیرٌ بِما تَعْمَلُونَ2 .

إنّ بإمکاننا من خلال ممارسة الأخلاق الحسنة ورعایة الاعتدال فی السیرة والتمسّک بالعدالة والتقوی أن نستعید مکانتنا کأمة وسطیة، وأن نشکل عنصر جذب للناس نحو التکامل من خلال الالتزام بالتعالیم الإسلامیة والإنسانیة. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: وَ کَذلِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَداءَ عَلَی النّاسِ وَ یَکُونَ الرَّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً3 .

وعلی هذا الأساس، یمکن للعدالة بوصفها عنصراً هاماً وجوهریاً فی دائرة العلاقات البشریة، وفیما یتعلق بارتباطنا بسائر نظرائنا فی الإنسانیة، أن تلعب دوراً فریداً فی تقدّم المجتمعات البشریة وازدهارها.

الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلق بالعلاقات الاقتصادیة

اشارة

لا یدور البحث هنا حول الأهداف التربویة فیما یتعلق بالعلاقات

ص:297

الاقتصادیة الناظرة إلی المسار الاقتصادی الحاکم فی المجتمع الإسلامی، وماهیة الاقتصاد، وأهدافه فی النظام الإسلامی، بل یدور بحثنا حول سلسلة الأهداف الوسیطة فیما یتعلق بالمساحات المختلفة فی التربیة الدینیة. لا شکّ فی أن هذا النوع من المسائل یُطرح علی الدوام ضمن توجّه تربوی خاص منتزع من نوع ارتباط الفرد بسائر الحوزات الأخری، لا أن یطرح فی معزِلٍ عن أی نوع من الروابط الأخری. وبعبارة أخری: إن التربیة إنما تتحقق ضمن إطار خاص یختلف بما یتناسب ونوع العلاقات البشریة.

یتبع الإنسان فی سلوکه الاقتصادی نموذجاً خاصاً من نماذج الانتاج والتوزیع والاستهلاک. إن هذه المقولات الثلاث تحدّد الکثیر من سلوکیات الإنسان، وتستوعب جزءاً کبیراً من حیاته الیومیة. وإن اهتمام الدین بهذا الجانب من حیاة الناس یکمن فی ناحیتین:

الناحیة الأولی: بیان الأهداف والأسالیب الاقتصادیة.

الناحیة الثانیة: بیان الفلسفة التربویة الحاکمة علی الأصول والمبانی والأسالیب الاقتصادیة المقدّمة من قبل الدین.

إن المنظور لنا فی هذا المقام هو الاهتمام بالفلسفة التربویة والأهداف الدینیة التربویة فی الروابط والعلاقات الاقتصادیة. إذ یدور بحثنا حول ما هی العلاقة القائمة بین الدین والمذهب والأفعال الاقتصادیة للإنسان؟ وفی معرض الإجابة عن هذا السؤال یجب التنویه إلی أن الاقتصاد الذی هو شکل من أشکال النشاط الروتینی والیومی للإنسان، یمثّل موضوعاً مناسباً لتطبیق الأهداف التربویة للدین ومضامینه الأخلاقیة. إن الذی لا یتمسّک بالأخلاق الاقتصادیة المطروحة فی النظام الإسلامی، لا یستطیع أن یدّعی التدیّن وسلوک مسیر الهدایة. یری المنطق الإسلامی أن الإسراف والبذخ والربا واستغلال الآخرین وما إلی ذلک، نتیجة طبیعیة لعدم التبعیة للمنهج التربوی الدینی الخاص بالأخلاق الإسلامیة فیما یتعلق بالحقل الاقتصادی. إن ارتباط الإسلام بمقولة الاقتصاد علی نحوین:

ص:298

1. الارتباط المباشر. فإن للإسلام - بوصفه دیناً یرسم سبل الهدایة فی مسار الحیاة - تعلیمات وقوانین خاصّة فیما یتعلق بالمسائل الاقتصادیة، من قبیل: الملکیة، والتبادل التجاری، والضرائب، والمواریث وما إلی ذلک.

2. الارتباط غیر المباشر. ویتم هذا الارتباط من طریق التربیة والأخلاق. فالإسلام یدعو الناس إلی مراعاة الأمانة، والعدل، والإحسان، والإیثار، والإنفاق، وعدم السرقة والخیانة والرشوة وأکل الربا وما إلی ذلک مما یندرج فی دائرة الثروة والمسائل الاقتصادیة.

إن النظام الاقتصادی المثالی من وجهة نظر الإسلام لیس هو النظام الذی یسعی إلی تلبیة حاجة الناس فقط، بل یری أن النظام الاقتصادی المثالی هو الذی یعمل علی تلبیة حاجة الإنسان فی سیاق خاص یضمن تحقیق العدالة الاجتماعیة وتوفیر الرفاه والسعادة للجمیع. ولذلک، فإن ما ورد فی بعض آیات القرآن الکریم من الدعوة إلی الإنفاق والصدقة وتجنّب الإسراف والتبذیر، لا یهدف إلا إلی توسیع دائرة الرفاه العام ونشره بین الناس کافة، من ذلک قوله تبارک وتعالی:

- یا بَنِی آدَمَ خُذُوا زِینَتَکُمْ عِنْدَ کُلِّ مَسْجِدٍ وَ کُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا یُحِبُّ الْمُسْرِفِینَ1 .

- وَ آتِ ذَا الْقُرْبی حَقَّهُ وَ الْمِسْکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِیراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِینَ کانُوا إِخْوانَ الشَّیاطِینِ وَ کانَ الشَّیْطانُ لِرَبِّهِ کَفُوراً2 .

وعلیه، فإن القانون العام فی النظام الاقتصادی للإسلام هو تحقیق العدالة الاجتماعیة والرفاه العام، وإن الأهداف التربویة فی الدین إنما تأتی فی هذا الإطار.

1. أهداف الإسلام التربویة فیما یتعلق بالإنتاج

إنّ الإنسان بحاجة - فی مواصلة حیاته - إلی النعم التی أعدّها الله له. وإن بعض

ص:299

هذه النعم یمکن الحصول علیه بیسر ودون أدنی عناء، من قبیل الأوکسجین الضروری للبقاء علی قید الحیاة، وهو متوفّر دائماً فی الجوّ المحیط بالأرض. وهناک من النعم شاءت الحکمة والمصلحة أن لا یتمّ الحصول علیها إلا بشیء من السعی وبذل الجهود، ولکن بعد الحصول علیها یمکن الاستفادة منها دون إحداث أیّ تغییر علیها، من قبیل: الماء فی المناطق الصحراویة الجافة. وهناک من النعم التی تحتاج إلی إجراء بعض التغییرات علیها بعد تحصیلها، من قبیل: إستخراج المعادن، کالحدید والنحاس والذهب والفضة. وعلی کل حال، فإن تقدم الإنسان رهن برفع مستوی حیاته ومعلوماته، وهذا یستلزم بذل الکثیر من المساعی والجهود. بل وحتی یمکن القول: إن الجهود المادیة تترک تأثیرات ملحوظة علی المسائل المعنویة. فمن باب المثال: نجد الناس - فی سعیهم إلی توسیع حجم الانتاج - یحصلون علی معرفة أکبر وأکمل بما یحیط بهم، ویتوصلون بذلک إلی عظمة الله فی السماوات والأرض، بل وحتی فی أنفسهم، ومن هنا نتوصّل إلی تأثیر النشاط الاقتصادی والانتاجی علی الکمالات المعنویة. من هنا یمکن تعریف الانتاج ضمن الرؤیة الإسلامیة علی النحو الآتی: (کل نشاط اقتصادی یصبّ فی إطار الاستفادة من النعم الإلهیة، سواء أکان ذلک النشاط یتمّ عبر إنتاج البضائع أو عبر تقدیم الخدمات). وبالالتفات إلی هذه المسائل یمکن القول: إن أهداف الإنتاج ودوافعه ترمی إلی تلبیة الاحتیاجات ورفع المستوی المعیشی فی حیاة الإنسان. تتحدّد أهداف الانتاج تارة من خلال المصالح العامة، وتارة یتمّ تحدیدها من خلال المصالح الفردیة، ولکن الأجدی علی ما یبدو هو التولیف بین المصالح الفردیة والمصالح العامة. بمعنی إمکانیة أن یقوم البعض بالنشاط الانتاجی بهدف تلبیة الاحتیاجات الفردیة، مع اختیار نوع ذلک النشاط مع أخذ المصالح العامة بنظر الاعتبار. وفی هذا المضمار سیبادر أولئک الذی یحصلون علی أکثر من فرصة عمل، إلی اختیار ذلک العمل الذی یعود بالفائدة الأکبر علی المجتمع، حتی وإن کان الربح الذی یحصلون علیه

ص:300

أقل مِمّا یحصل عَلیه غیرهم. وهذا الاختیار یسود بشکل أکبر فی المجتمعات التی تدار بهدی القادة الربانیین، حتی یکون الانتاج فی مثل هذه المجتمعات من الضرورة بحیث یرقی إلی وجوبه من قبل الشارع.

إنّ بذل الجهود فی رفع الانتاج من أجل ضمان الرفاهیة للآخرین، من أهمّ الأهداف التی یتمّ التأکید علیها فی التعالیم الإسلامیة کثیراً، بحیث إنما کان الإمام علیّ (علیه السلام) یعمل علی الانتاج لهذه الغایة، وکان الإمام الصادق (علیه السلام) یستثمر أمواله فی هذا الاتجاه. فقد رُویَ عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنه قال: (إن أمیرَ المُؤمنینَ (علیه السلام) أعتَقَ ألفَ مَملوکٍ مِن کَدِّ یَدهِ)(1).

إنّ عملیة الانتاج إذا تمّت فی سیاق تحقیق الهدف الذی یدعو إلیه الدین، والمتمثّل بتوفیر الرفاه للفرد والأسرة والمجتمع، کان أمراً مقبولاً وممدوحاً. إن الأهداف الفردیة أو العامة للإنتاج تطرح نفسها فی طول الأهداف النهائیة المتمثلة بالقرب من الله عزّ وجلّ. إن عدم القیام بالدور الاقتصادی والانتاجی فی المجتمع یؤدی إلی الرکود الاقتصادی والانحطاط الاجتماعی، وعندها سیکون استقرار المجتمع عرضة للمخاطر، وینفتح الباب علی مصراعیه أمام الکثیر من المعاصی والجرائم والمفاسد الاجتماعیة. إننا لو أجرینا دراسة حول الجرائم والمفاسد الاجتماعیة، من قبیل: السرقة، والقتل، وغلاء الأسعار، والتطفیف، وغیرها من أنواع الجرائم، سنجد أنها تعود بجذورها إلی الفقر المدقع أو الإسراف والتهتک وطلب الاستعلاء. وعلیه، فإن العزّ کل العزّ والاعتدال کل الاعتدال رهن بالجهد الاقتصادی والمبادرة إلی الانتاج، من هناک کان الإمام علیّ (علیه السلام) یصف التجارة بالعزّ، إذ یقول: (أُغدُ إلی عِزّک؛ یعنی السُوقَ)(2). ومن ناحیة أخری، فإن الطمع والجشع فی الانتاج یؤدی بالفرد - من أجل إشباع هذا الرغبة والحصول علی مزید

ص:301


1- (1)) الشیخ الکلینی، فروع الکافی: ج 5، کتاب المعیشة، الباب الخامس، ح: 4.
2- (2)) فروع الکافی: 149/5، ح: 7.

من الربح - إلی القیام بکلّ شیء قبیح واستخدام حتی الرذیلة. إن الانتاج إذا لم تتمّ السیطرة علیه، فإنه سیتحوّل إلی أداة لتهدید الناس وظلمهم، ویتحوّل إلی سلاح هدّام لمحاربة الدین. کما هو الحال بالنسبة إلی الدول الرأسمالیة التی تستعمل هذا السلاح کأداة للحظر الاقتصادی والضغط علی المجتمعات التی تروم الوصول إلی حقوقها بالطرق المشروعة بعیداً عن الهیمنة الاستکباریة.

2. الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلق بالتوزیع

مرادنا من التوزیع هنا هو تخصیص المصادر والنعم الإلهیة. والتوزیع بهذا المعنی من أکثر الأبحاث الاقتصادیة إثارة للجدل، حتی أخذت الکثیر من المدارس الاقتصادیة علی عاتقها مهمة حلّ هذه المسألة بوصفها من أهم المواضیع التی تعنی بها. وإن أکبر الجهود التی بذلتها الإشتراکیة والمارکسیة وحتی الرأسمالیة إنما تصبّ فی هذا السیاق، وکل واحدة من هذه المذاهب الاقتصادیة تدّعی أنها قدّمت أکثر المناهج عدلاً فیما یتعلق بالتوزیع. إن الهدف من التوزیع فی المذهب الاقتصادی للإسلام هو الوصول إلی مجتمع تسوده العدالة الاقتصادیة. إن ثمرة جهود ونشاط کلّ شخص تعود إلیه، وبذلک یتحقق الرفاه العام تلقائیاً. وإن تطبیق القوانین الحقوقیة فی الاقتصاد الإسلامی، وامتثال الأحکام الاقتصادیة للإسلام، یمهّد الأرضیة الصالحة للوصول إلی مثل هذا المجتمع. إن النظام الإقتصادی - بالإضافة إلی العدالة الاقتصادیة وضمان الرفاه العام - یهدف أیضاً إلی غایة أسمی، ألا وهی تحقیق حُلم المجتمع الذی یشارک فیه الناس بعضهم بعضاً فی الرزق والمعیشة. ولا یمکن الوصول إلی هذه الغایة إلا فی ظلّ التربیة الإسلامیة وتوسیع أفق الرؤیة لدی الناس وتطبیق الأحکام الحقوقیة للإسلام. وإن من بین الإصلاحات التی أنجزها رسول الله (صلی الله علیه و آله) هو أنّه أدّب المسلمین فی صدر الإسلام بآداب القرآن بحیث جعلهم یتنافسون فیما بینهم فی الإیثار علی أنفسهم، وکانوا یقدمون حاجة الآخرین علی حاجتهم.

ص:302

بالالتفات إلی هذه الأمور، یکون المراد من الأهداف التربویة فی هذه المقولة هو تحقیق المواساة فی الأموال والتحقیق العملی للرفاه والعدالة الاجتماعیة. وإن تحقیق هذا الهدف یتمّ بالدرجة الأولی عبر الدولة الإسلامیة، وإذا تمکن شخص من الاضطلاع بعملیة التوزیع، فعلیه أن یراعی هذا الهدف المذکور، وأن لا یحید عنه أبداً. إن المنظومة الاقتصادیة العادلة تشتمل علی أجزاء، ویقوم کل جزء بوظائفه ومسؤولیاته التی تؤدی إلی الاعتدال فی المنظومة الاقتصادیة بشکل کامل. وإن الإنفاق(1) والصدقة والخمس والزکاة المستحبة والواجبة، یضمن التوزیع العادل للأموال الذی یمتدّ بجذوره فی عمق الأخلاق والاقتصاد الفردی. وإن مرادنا من الأهداف التربویة فی هذه المقولة بالتحدید ناظر إلی القیام بهذا النوع من المسؤولیات الدینیة.

3. الأهداف التربویة للإسلام فیما یتعلق بالاستهلاک

إن للناس فی استهلاک البضائع والخدمات دوافعَ مختلفة تعود إلی انتماءاتهم وأذواقهم. وإن تلبیة بعض هذه الدوافع الناشئة عن المطالب المعقولة والمنطقیة تحظی بتأیید الإسلام، وأما تلبیة بعض المطالب الأخری الناشئة عن الاحتیاجات الزائفة وغیر المعقولة فهی مَنهِیٌّ عنها فی التعالیم الإسلامیة.

یسعی الإسلام إلی تربیة الإنسان بشکل یوجّه حرکاته ونشاطاته نحو الهدف الغائی من خلقه، ألا وهو القرب من الله سبحانه وتعالی. وإن مفهوم الاستهلاک لیس استثناءً من هذه القاعدة. وعلی هذا الأساس فإن المطلوب إسلامیاً هو أن تساق الدوافع الغائیة للإستهلاک نحو الحصول علی مرضاة الله ونیل القرب منه. وفی ذلک رُویَ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (وَلیَکُن لکَ فی کُلِّ شیءٍ نِیَّةٌ صالِحَةٌ، حتّی فی النَومِ والأکلِ)(2).

ص:303


1- (1)) انظر: التوبة: 60؛ الأنفال: 41؛ آل عمران: 92؛ البقرة: 274.
2- (2)) مکارم الأخلاق: 464.

أهداف الإسلام التربویة فیما یرتبط بالعلاقات السیاسیة

اشارة

وصل بنا البحث بشأن الأهداف الوسیطة من زاویة العلاقات القائمة فی المجتمعات البشریة فیما یتعلق بالعلاقات السیاسیة. یبقی السؤال القائم یقول: ما هو المراد من الأهداف الوسیطة فی دائرة العلاقات البشریة؟ هل یمکن لنا أن نتصور للعلاقات المذکورة مشاهد أخری غیر العلاقات السیاسیة الخاصة فی إطار علاقات الفرد بالحکومة أو الأفراد والمؤسسات السیاسیة ببعضها؟ للإجابة عن هذا السؤال نذکّر بأن العلاقات الإنسانیة فی أیّ إطار وضعناها، وإلی أیّ جهة مالت، لا یمکن لنا فیها أن نتجنّب سیادة القوانین الأخلاقیة سواء أکانت صحیحة أم خاطئة. وبعبارة أخری: حیثما کان هناک ارتباط وأقیمت علاقة وکان الإنسان طرفاً فیها، لا محالة ستحکم هذه العلاقة سلسلة من القیَم الأخلاقیة أو المبادئ التربویة الخاصة. إن نجاح الفرد فی الوصول إلی منبع الحقیقة، رهن بجهوده فی العثور علی القوانین والأسس الصحیحة الناشئة عن الإحاطة بجمیع أحواله الوجودیة وأحوال العالم. إن الإنسان لا یمکنه الوصول إلی الغایة والهدف النهائی إلا من خلال التمسّک بمثل هذا القانون. والأسس الحاکمة علی العلاقات السیاسیة لا یمکن أن تستثنی من هذا الحکم العام. إننا لا نستطیع التقدم فی الفضاء الاجتماعی والسیاسی المناسب والصحیح إلا فی ضوء القانون الإلهی. إن مرادنا من الهدف التربوی فی هذه المقولة هو الروح التربویة الحاکمة علی العلاقات السیاسیة فی العالم الإسلامی، ولیس بیان الأهداف السیاسیة من وجهة نظر الإسلام.

إن أهم شاخص وملاک فی العلاقات السیاسیة، هو الحصول علی القدرة والسیطرة. فإن القدرة - بوصفها أداة للحصول علی الأهداف - تعتبر أول مؤشر علی النشاط السیاسی، إذ لا یمکن الوصول إلی الأهداف السیاسیة فی المجتمع علی نحو کامل أو نسبی إلا من خلال القدرة والسیطرة، ولا شک فی أن هذا لن یتحقق إلا من خلال التمسّک بحبل القدرة والعناصر الموجدة لتلک الحکومة

ص:304

والقیادة فی المجتمع. وعلیه، یمکن النظر إلی مفهوم القدرة فی دائرة العلاقات السیاسیة فی الرؤیة التربویة من زاویتین، وهما: أولاً: السعی إلی تحصیل القدرة السیاسیة. وثانیاً: توظیف القدرة من أجل الوصول إلی الأهداف السامیة للإسلام.

1. السعی إلی تحصیل القدرة السیاسیة

إن من بین أسس الإسلام الثابتة علی مستوی الأبعاد الاجتماعیة، قیادة المجتمع وتوفیر الأرضیة المناسبة لتقدم المجتمع وارتقائه. وهذا الأمر لا یمکن أن یحصل إلا من خلال الاستناد إلی حکم وإقامة دولة. فإن المجتمعات التی تنمو فیها الغرائز الحیوانیة والسَبُعیّة فی ظلّ خمود جمیع أفراد المجتمع وتخاذلهم عن حقوقهم، تعرّض تقدم الأبعاد الإنسانیة والإلهیة إلی خطر الزعزعة، والسیر نحو القهقری. إن الإطاحة بحدود انعدام الهویة، وفتح قمم العزة والشرف، إنما هو رهن بامتلاک القدرة، وإسقاط المتسوّرین زوراً علیها. وعلیه، فإن الحصول علی القدرة للفرد المسلم من أهم المسائل، إذ من خلال هذه الحقیقة فقط یمکن الوقوف بوجه الفساد، وإعداد الأرضیة المناسبة للهدایة. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- اَلَّذِینَ یَتَرَبَّصُونَ بِکُمْ فَإِنْ کانَ لَکُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَکُنْ مَعَکُمْ وَ إِنْ کانَ لِلْکافِرِینَ نَصِیبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَیْکُمْ وَ نَمْنَعْکُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ فَاللّهُ یَحْکُمُ بَیْنَکُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ وَ لَنْ یَجْعَلَ اللّهُ لِلْکافِرِینَ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلاً1 .

- یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْیَهُودَ وَ النَّصاری أَوْلِیاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِیاءُ بَعْضٍ وَ مَنْ یَتَوَلَّهُمْ مِنْکُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لا یَهْدِی الْقَوْمَ الظّالِمِینَ2 .

- وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنِینَ3 .

ص:305

إنّ القرآن الکریم یشجب أولئک الذین یرون العزّة والعظمة فی انحراف الزعماء وفسادهم، ویؤاخذهم علی هذه الرؤیة. وفی ذلک یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- اَلَّذِینَ یَتَّخِذُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ أَ یَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِیعاً1 .

إن ما هو المهم بالنسبة إلی الدین هو الآثار التربویة المترتبة علی اکتساب القدرة السیاسیة والدخول إلی دائرة هدایة الناس. وبشکل محدّد یمکن لنا أن نرصد تأثیرین فی هذا السیاق، وهما:

1. الحیلولة دون الظلم والضیاع الناشئ عن الهیمنة السیاسیة للتیارات الفاسدة فی المجتمع.

2. هدایة الناس والحرکة فی إطار الوصول إلی المدینة الدینیة الفاضلة التی کانت حُلم إفلاطون.

وعلی فرض الإخفاق الظاهری فی الوصول إلی مثل هذه الغایة، فإن ذلک لن یکون خالیاً من الأثر التربوی، فإن هذه الحرکة سُتثبت فی الحدّ الأدنی عدم الرضوخ للظلم والفساد والفحشاء فی المجتمع المنحرف. وقد کانت هذه هی غایة الإمام الحسین (علیه السلام) فی ثورته یوم عاشوراء، ولا زال تأثیرها ینیر الدرب للغیاری عبر القرون المتمادیة.

2. ممارسة السلطة من أجل تحقیق الأهداف الإسلامیة المتعالیة

إنّ ما هو المنظور فی الرؤیة الإسلامیة بشأن الحصول علی السلطة هو مجرّد الحصول علی وسیلة وأداة، وأما القدرة والسلطة فهی غیر مرادة لذاتها. وإن الفارق الأهم بین الشخص المتدیّن وغیره من الأفراد الذین یجعلون من الدنیا

ص:306

والحیاة الضیقة أکبر همهم، یکمن فی رؤیة کل منهما تجاه السلطة ووظیفتها فی الحیاة. فالفرد الذی یحبس نفسه فی دائرة الدنیا الضیّقة ینظر إلی السلطة بوصفها قیمة ذاتیة، ویراها عنصراً حیویاً یلبی رغباته وغرائزه الدنیویة المحدودة من قبیل: اللذّة والرفاهیة. وبعکسه الشخص الذی یتمتع برؤیة دینیة وإلهیة، فلِما یتمتع به من الأفق الواسع الناشئ عن ارتباطه بالرؤیة الإلهیة الشاملة، فإنه ینظر إلی السلطة بوصفها وسیلة للوصول إلی الأهداف الأسمی، وامتثال الکمال الدینی المطلوب علی مستوی الحیاة الفردیة والاجتماعیة، وهذا أهم ما یمیّز الرؤیة الدینیة من الرؤیة المادیة. من هنا، إذا کانت السلطة هی محور جهود الکثیر من کبار رجال الدین علی طول التاریخ، فإن ذلک لم یکن بداعی اعتبار السلطة عنصراً مطلوباً ومؤثراً فی العلاقات السیاسیة لذاتها، بل لمجرّد کونها وسیلة لتطبیق القوانین الإنسانیة والإلهیة للحصول علی عناصر أکثر سمواً، وأکثر رقیاً. وعلی هذا الأساس، فإن العلاقات الإنسانیة فی النظرة الدینیة تختلف عن العلاقات الإنسانیة فی النظرة غیر الدینیة، وإن الذی یلعب الدور الهام من وجهة نظر الإسلام لیس هو السلطة، بل الأهداف التی یمکن الوصول إلیها من خلال هذه السلطة. فی هذه الرؤیة یتعاطی الحاکم الإسلامی مع مختلف طبقات المجتمع وأفراد الشعب تحت تأثیر هذه الأهداف وهذه الأسس، خلافاً للرؤیة المقابلة التی تری اتساع رقعة العلاقات مع الآخرین بتأثیر من السلطة أو علی أساس من الحصول علی اللذّة والمتعة أو تلبیة الرغبات والغرائز الوضیعة والمتدنیة. فی منطق الفرد المؤمن فإن السلطة والقدرة لیستا عنصرین رادعین عن الأخوّة ولیستا عنصرَین ضغط علی الآخرین، وسلب الاستقلال والحریة عنهم، ولیس المراد منهما الحصول علی المصالح الشخصیة ونیل المطالب الدنیویة المحدودة، کی یؤدی التناحر بین الإرادات المختلفة إلی الجور والظلم. وعلی هذا الأساس، فإن السلطة تستخدم دوماً بما یتناسب والهدف المراد من ورائها. إن هذا الهدف إذا کان هدفاً إلهیاً،

ص:307

فسوف تترتب علیه نتائج تربویة خاصة تنعکس علی ممارسة السلطة والعلاقات الناشئة عنها علی المستوی الاجتماعی. وإذا کان الهدف غیر ذلک فإن سلوک الناس تجاه بعضهم بعضاً سیکون له مظهر غیر أخلاقی، وسیتخذ طابعاً سلطویاً ودنیویاً. إن العناصر التربویة الدخیلة فی رسم السلطة السیاسیة فیما یتعلق بالعلاقات الاجتماعیة من وجهة نظر الإسلام عبارة عن:

- إحیاء الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر: إن من بین أهم أهداف الحکومة الإسلامیة فی المجتمع، توفیر الأرضیة اللازمة من أجل إحیاء المعروف والحیلولة دون وقوع المنکر وکل ما ینهی عنه الشارع المقدس. ولا ریب فی أنه کلما اتسعت قدرة الإنسان کانت دائرة مناورته أکبر، وأضحی وصوله إلی الأهداف المنشودة أیسر. إن من جملة أهداف السلطة السیاسیة فی نظام الدولة الإسلامیة هو توفیر مناخ سلیم ومجرّد عن جمیع أنواع القبائح والمفاسد. وإن هذا الهدف بالإضافة إلی کونه هدفاً سیاسیاً، فإنه یبیّن المسار التربوی العام للنظام الإسلامی أیضاً. إن مسؤولیة کل فرد مؤمن فی المنظار الدینی تکمن فی التحرّک من أجل الحصول علی القدرة لتطبیق الأهداف المذکورة؛ لأن من أهم الأرکان فی الإطار الدینی هو المنحی الأخلاقی والتربوی فی المسائل وتعلیماتها؛ من هنا، کلما تمّ الرجوع إلی الأهداف الدینیة یتم التطبیق بین تلک الأهداف والجوانب التربویة الأخری. ومن ذلک مسألة الحصول علی السلطة والقدرة حیث یتمّ توفیر الأرضیة اللازمة للخوض فی الأمور التی تضمن صلاح الفرد والمجتمع، ویتمّ فیها الإعراض عن کلّ ما من شأنه ضیاع الفرد واضمحلال المجتمع، بوصفه هدفاً تربویاً عاماً تسعی إلیه الدولة الإسلامیة؛ إذ یقول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم: اَلَّذِینَ إِنْ مَکَّنّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْکَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ1 .

ص:308

إن الهدف من الوصول إلی السلطة من وجهة نظر الإسلام هو إحیاء الدین الإلهی بوصفه أکبر معروف یمکنه أن یعمّ المجتمعات الإنسانیة بأسرها. قال الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ لِلّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَی الظّالِمِینَ1 .

- وَ قاتِلُوهُمْ حَتّی لا تَکُونَ فِتْنَةٌ وَ یَکُونَ الدِّینُ کُلُّهُ لِلّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللّهَ بِما یَعْمَلُونَ بَصِیرٌ2 .

- المحافظة علی الحریة والاستقلال: إن الحریة والاستقلال من أهم النعم التی أنعم الله بها علی الإنسان. فقد ولد الإنسان حراً، ولن یستطیع أحد أن یملی علیه طریقته فی الحیاة أو یفرض علیه رأیه وأفکاره. إنما الذی یمکنه أن یقیّد الحریة فی المجتمع هو الحریة نفسها. فإن القوانین الدینیة علی المستوی العام وغیرها من القوانین الاجتماعیة فی مستوی أخص تهدف إلی رفع التعارض القائم بین الناس علی المستوی الاجتماعی. إن الإنسان إنما یمکنه رفع هذا التعارض من وجهة النظر الإلهیة إذا سعی إلی حلّ هذه المعضلة من خلال القوانین الدینیة. إن القوانین والمعطیات البشریة من أجل رفع هذه التعارضات علی طول التاریخ، لم تنتج سوی تشدیدها واتساع رقعتها. إن من بین القوانین الموضوعة علی أعلی المنظمات الحقوقیة هو حق النقض (الفیتو) الذی یستعمل بوصفه سلاحاً بوجه البلدان والشعوب الضعیفة. وعلیه، لا یبقی أمام الإنسان - لنیل حقوقه الطبیعیة من الحریة والاستقلال ورفع الصعوبات وتجاوز المعضلات الناشئة عن نقص القوانین البشریة - سوی التمسک بالتعالیم الإلهیة الدینیة. ومن هذه الناحیة عندما یکون الحدیث - فی النظام التربوی فی الإسلام - عن الوصول إلی السلطة السیاسیة، فإن من بین الآثار

ص:309

التربویة التی تنتج عن ذلک، هو الاهتمام بالحریة والاستقلال للناس کافة فی إطار القوانین الإسلامیة. وبطبیعة الحال، فإن للحریة والاستقلال فی الدین تعریفهما الخاص الذی لا یسعنا التطرّق له فی هذا الکتاب.

- تعزیز روح الإخاء: إن مظاهر السلطة الزائفة تؤدی إلی انعدام الکرامة والعواطف والمشاعر الإنسانیة، وإلی استشراء مظاهر العنف والقسوة. بید أنه کما ذکرنا، فإن الإسلام ینظر إلی السلطة بوصفها أداة ووسیلة لخدمة الأهداف الإنسانیة والإلهیة. وإن بسط وتعمیم علامات الأخوّة وتوسیع رقعة العلاقات العاطفیة بین أفراد المجتمع یتفرّع عن الدور الآلی للسلطة، وإن العمل علی حل مشاکل الآخرین وخاصة الضعفاء منهم، وتوفیر الأرضیة المناسبة للتقدم والمساواة، إنما هو من الثمار المترتبة علی التربیة الدینیة. وفی ذلک نجد الله تبارک وتعالی یقول فی محکم کتابه الکریم: وَ ما لَکُمْ لا تُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْیَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ نَصِیراً1 . وإن الأخوّة لا تکتسب معانیها العمیقة فی المجتمعات الإسلامیة فحسب، بل نجد لها تجلیات خاصة حتی فی العلاقات الدولیة أیضاً. ولذلک یقول الله سبحانه وتعالی: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ وَ اتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ2 .

أهداف الإسلام التربویة فیما یتعلق بالعلاقات الثقافیة

إن علاقة الإنسان فی إطار الثقافة السائدة، تعکس سلوکه فی منعطفات الحیاة الاجتماعیة. وفی الأساس، فإن أحد أهم المعاییر التی یتمّ توظیفها فی بیان

ص:310

حیاة الإنسان هی هذه القوالب الثقافیة التی تحدّد هویة الناس عبر الأجیال وعلی طول التاریخ. وبعبارة أخری: إن الثقافة أیاً کان نوعها یُنظر إلیها الیوم بوصفها عصارة الحیاة الاجتماعیة التی تتجلی فی مختلف أبعاد الحیاة المادیة والمعنویة، وتظهر فی المعتقدات والأخلاق والقیم، وتترک تأثیرها بنحو ما علی تفکیرنا ومیولنا ونشاطاتنا. ولربما أمکن القول: إن الثقافة بُنیة متکاملة تضمّ جمیع النماذج السلوکیة لشعب من الشعوب. إن الثقافة - التی تبدأ من أصغر نواة لها وهی التی تتمثل بالنموذج السلوکی، إلی أکبر مفرداتها المتمثلة بالمؤسسة الاجتماعیة، التی تتألف من اجتماع تلک النویات الصغیرة - لها وظائف محدّدة. وبطبیعة الحال، فإن الإنسان کما یتأثر بالثقافة، یمکن له أن یترک تأثیره علیها، وعلی الرغم من تبلور شخصیته وسلوکه فی الفضاء الثقافی، واتخاذ توجهاتها ما یتناسب وتلک الثقافة، ولکن فی الوقت نفسه یمکن للإنسان أن یکون عنصراً مؤثراً فی تغییر المناخ الثقافی، وأن یعمل علی تغییر الثقافة بإرادته. والذی یقع موضع اهتمامنا هنا هو تأثیر الدین من خلال الإنسان فی الثقافة والمجتمع البشری.

تنقسم العناصر المؤثرة علی سلوک الإنسان إلی مجموعتین، هما: العناصر التی لا تقع تحت اختیار الإنسان، من قبیل: العوامل الجغرافیة والطبیعیة، أو حتی بعض العوامل الاجتماعیة التی تستحوذ علی سلوک الإنسان وشخصیته، وتعمل علی بناء ثقافة بعینها. والعناصر الاختیاریة، وهی تلک المجموعة من العناصر الخاضعة لإرادة الإنسان واختیاره، والتی تعمل علی تحدید خصوصیاته وسلوکیاته الفردیة. والمراد من الأهداف التربویة فی هذا المجال هی العناصر الإرادیة ذات الاتجاه الدینی، والتی تترک تأثیراً کبیراً علی النماذج السلوکیة والمنظومات الاجتماعیة، وتعمل علی بناء ثقافة المجتمع بشکل عام. وقد خضعت العناصر الثقافیة، من قبیل: الفن والسیاسة والاقتصاد والأخلاق والعرفان والفلسفة وحتی العلم، تحت تأثیر الدین وتعالیمه وقیمه منذ القدم. إن دراسة الثقافات والحضارات لدی الشعوب التاریخیة

ص:311

العریقة تُثبت تأثُّر جمیع المؤسسات الاجتماعیة والثقافیة بالدین بشکل بنّاء، وإن تأثُّر الآداب والسنن والقیم والموسیقی والعمارة والشعر، وکذلک المنظمات الاقتصادیة والتعلیمیة والسیاسیة وغیرها، بالدین، یُثبت الصلة الوثیقة بین الدین والثقافة علی طول التاریخ. إن رعایة المسائل الدینیة فی سیاق العلاقات الثقافیة یضمن الوصول إلی الأهداف الوسیطة فی هذا المقال، ومع الأخذ بنظر الاعتبار، الأهداف التربویة الإسلامیة فی الحقول الفردیة والاجتماعیة، یمکن تحقیق الأهداف المنشودة للإسلام فی مجال المسائل الثقافیة. وبعبارة أخری: إنما نحصل علیه من خلال العمل بجمیع الأهداف التربویة فی مختلف المجالات، یؤکّد مکانة الثقافة فی المجتمع الإسلامی. ومن هنا، لا یمکن أن نحدّد لمقولة الثقافة دائرة مختلفة عن الدائرة التی ذکرناها سابقاً، وعندما تجتمع العناصر السلوکیة فی المجالات الفردیة والاجتماعیة، تعمل العناصر التربویة علی تشکیل البُنیة الثقافیة الخاصة. إن هذه البُنیة - بالالتفات إلی المحتوی والعناصر البنّاءة دینیاً - تعکس ثقافة دینیة خاصة. وبالتحدید یمکن اعتبار الهدف التربوی فی هذا المجال هو توجیه الثقافة السائدة فی المجتمع نحو الرشد والتکامل الإنسانی. وعندما یتم توجیه الأسس الثقافیة من (الفن والاقتصاد واللغة والآداب والتقالید وغیرها) نحوالقیم، والحصول علی هدف خاص (القرب من الله)، فإن الوجه العام لثقافة المجتمع سوف یتغیّر بالکامل. من هنا، فإن إیجاد المظاهر الثقافیة المتناغمة مع التعالیم الدینیة، ودفع عناصر الانحراف والفساد عن الثقافة، والجنوح نحو ضمان المطالب المتعالیة، ویمکن للأبعاد الإنسانیة أن تعتبر من أهم الأهداف التربویة فی هذا المجال.

ص:312

الفصل الرابع: أهداف الإسلام التربویة فیما یرتبط بعلاقة الإنسان بالطبیعة

اشارة

یتواصل الإنسان مع البیئة المحیطة به طوال حیاته. وتمثل هذه البیئة: الأرض وما فیها من الجبال والصحاری والغابات والبحار والحیوانات وکذلک السماء وما فیها من الکواکب والنجوم وجمیع مظاهر الطبیعة جلیلها وحقیرها یعتبر تجلیاً من تجلیات قدرة وعظمة الخالق سبحانه وتعالی، وتترک أثراً عمیقاً علی رؤیة الإنسان للحیاة. والذی یتمّ طرحه فی إطار الأهداف التربویة من وجهة نظر الإسلام، هو أن الحق فی استثمار الطبیعة لا یعنی احتکار هذا الحق، بل إن الطبیعة مجرد ضمان لرفع ما یحتاج إلیه الإنسان، ووسیلة لاستمرار حیاته فی هذه الدنیا.

إنّ رؤیة الإسلام حول کیفیة ارتباط الإنسان بالطبیعة منبثق عن أساسه الاعتقادی والتربوی، الذی یفسر النهج الصحیح للإستفادة من العناصر الحیویة لطیّ مدارجُ سُلّم السمو نحو المنازل الإلهیة وبلوغ التکامل والقرب من الله سبحانه وتعالی(1). من هنا فإن الموقف الذی یتخذه الإنسان المسلم تجاه

ص:313


1- (1)) أنظر: البقرة: 26 و 164؛ الأنعام: 99؛ إبراهیم: 32-34؛ النحل: 10-12؛ طه: 53-54؛ الفرقان: 48؛ النمل: 60؛ الروم: 24 و 48؛ فاطر: 20؛ الذاریات: 22 و 48؛ نوح: 17.

العالم وما فیه، یعکس مدی اهتمامه بالوصول إلی الهدف الغائی من خلال هذه القناة. وحیثما تحدث القرآن الکریم عن استثمار الطبیعة، کان ذلک مقروناً علی الدوام بنوع من الأهداف التربویة والأخلاقیة. إن الاستفادة من المصادر المادیة إنما یأتی فی سیاق ضمان هدف قیّم، لا أن تکون هذه المصادر المذکورة هی الهدف والغایة المنشودة لذاتها. إن التعقل والتدبّر فی طریقة تکوین هذه المصادر، والوصول إلی غایة التوحید، والإیمان بالغیب، والتقوی وطهارة النفس، واجتناب الکفر بالنعم، والابتعاد عن الشرک، والتمسک بالعدالة فی ردود الأفعال الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة، هی من بین الغایات والأهداف الملحوظة فی خلق الطبیعة. ولمزید من إلقاء الضوء علی البحث، فإننا سنخوض فیه من ناحیتین:

معرفة الطبیعة

لکی نستثمر الطبیعة یجب علینا أن نتعرف علیها معرفة عمیقة، والذی یقع مورداً لاهتمام العلم حالیاً هو مزید من المعرفة لخفایا الطبیعة وظواهرها والقوانین السائدة علیها بغیة الاستفادة القصوی منها. وقد اقترنت إشارات القرآن الکریم إلی الطبیعة علی الدوام بالعبرة فی سیاق الهدایة والقرب من الله، وقد تمّت دعوة الإنسان إلی التوصّل إلی معرفة أکمل بمظاهر قدرة الله لضمان سعادة الإنسان فی الدنیا والآخرة، من قبیل: قول الله تبارک وتعالی فی محکم کتابه الکریم:

- إِنَّ فِی خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّیْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْکِ الَّتِی تَجْرِی فِی الْبَحْرِ بِما یَنْفَعُ النّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْیا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِیها مِنْ کُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِیفِ الرِّیاحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَیْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ1 .

ص:314

- هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَکُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِیهِ تُسِیمُونَ * یُنْبِتُ لَکُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّیْتُونَ وَ النَّخِیلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ کُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ * وَ سَخَّرَ لَکُمُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَعْقِلُونَ * وَ ما ذَرَأَ لَکُمْ فِی الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیَةً لِقَوْمٍ یَذَّکَّرُونَ * وَ هُوَ الَّذِی سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْکُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِیًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْیَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَی الْفُلْکَ مَواخِرَ فِیهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ * وَ أَلْقی فِی الْأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ * وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ یَهْتَدُونَ1 .

إن فی التعمّق فی الآیات الإلهیة والتدبّر فیها واکتشافها، انتقال من الوعی السطحی إلی المعرفة الأدق والأعمق، وهذا یؤدی بدوره إلی إدراک القدرة الإلهیة، وبالتالی فإنه یفضی إلی هدایة الإنسان، ویمهّد له الأرضیة اللازمة والمناسبة لتقدّمه روحیاً ومعنویاً. وبالنسبة إلی الفرد المسلم یُعدّ وجوب تحصیل العلم ومعرفة القوانین الطبیعیة من أجل توظیفها فی الطریق الإلهی أمر لا یمکن اجتنابه أبداً. وفی الحقیقة، فإننا کلما تعرّفنا علی الطبیعة بشکل أکثر، کان ذلک سبباً فی اقتدار المجتمع الإسلامی والحفاظ علی مکانته وکینونته، واکتساب القدرة للدفاع عن الإسلام، وإبلاغ الدعوة والرسالة الإلهیة. وبهذا اللحاظ یمکن لنا أن نبحث معرفة الطبیعة من ناحیتین:

1. إن معرفة العناصر الطبیعیة والنظم والقوانین الحاکمة علیها، یعدّ طریقاً إلی معرفة خالق الکون.

2. إنّ معرفة الطبیعة علی نحوجزئی، واکتشاف القوانین الحاکمة والمهیمنة علیها، تکون سبباً فی اقتدار الإنسان، وهذا یؤدی بطبیعة الحال إلی اتساع قدرته وحضوره فی المجتمع.

ص:315

توظیف الطبیعة بشکل صحیح

أما المسألة الأخری التی تطرح نفسها فیما یتعلق بارتباط الإنسان بالطبیعة، فهی مسألة کیفیة استثمار الطبیعة. فإنّ الافراط فی الاستفادة من الطبیعة والتبذیر والإسراف فیها یؤدی إلی اضمحلالها وزوالها، الأمر الذی یحرم الأجیال القادمة من هذه النعم الإلهیة. وعلیه، فإن الاستفادة الصحیحة والمناسبة من الطبیعة تُعدّ واحدة من الأسس والقواعد التی یجب الالتزام بها علی الدوام.

ص:316

المصادر

1. الری شهری: محمد، میزان الحکمة، دارالحدیث، قم، ط 1، 1416 ه.

2. الطباطبائی: السید محمدحسین (ت 1981 ه)، المیزان فی تفسیر القرآن، مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، بیروت، لبنان، ط 2، 1970 م.

3. الشریف الرضی: محمد بن الحسین الموسوی (ت 406 ه)، نهج البلاغه، شرح محمد عبده، دارالمعرفة، بیروت.

4. الشیرازی: صدرالدین محمد (ت 1050 ه)، الحکمة المتعالیة فی الأسفار العقلیة الأربعة، دار إحیاء التراث العربی، بیروت، ط 3، 1981 م.

5. ابن شعبة: الحسن بن علی بن شعبة الحرّانی (ت القرن 4)، تحف العقول عن آل الرسول، تعلیق و تصحیح: علی أکبر الغفاری، مؤسسة النشر الإسلامی، قم، ط 2، 1404 ه.

6. البروجردی: السید حسین الطباطبائی، جامع أحادیث الشیعة، المطبعة العلمیة، قم، 1399 ه.

7. الحرّ العاملی: محمد بن الحسن (ت 1104 ه)، تفصیل وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، مؤسسة آل بیت، قم، ط 1، 1412 ه.

8. ورّام: الأمیر أبوالحسن، ورّام بن أبی فراس المالکی (ت 605 ه)، تنبیه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورّام)، دارالکتب الإسلامیة، طهران، ط 2، 1368 ه. ش.

ص:317

9. الفیض الکاشانی: محمد بن محسن بن مرتضی (ت 1091 ه)، المحجّة البیضاء فی تهذیب الإحیاء، تصحیح و تعلیق: علی أکبر الغفّاری، مؤسسة النشرالإسلامی، قم، ط 2.

10. الطبرسی: رضی الدین، أبونصرالحسن بن فضل (القرن 6 ه)، مکارم الأخلاق، منشورات الشریف الرضی، قم، ط 6، 1972 م.

11. الإمام الصادق (علیه السلام): الإمام جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) (ت 148 ه)، مصباح الشریعة ومفتاح الحقیقة، المنسوب إلی الإمام الصادق (علیه السلام)، مؤسسة الأعلمی، بیروت، ط 1، 1400 ه - 1980 م.

12. الصدوق: محمد بن علی بن الحسین بن بابویه القمی (ت 381 ه)، من لایحضره الفقیه، صححه وعلّق علیه: علی أکبر غفّاری، مؤسسة النشر الإسلامی التعالیة لجماعة المدرّسی، قم، ط 2، 1404 ه.

13. الشهید الثانی: زین الدین الجبعی العاملی (ت 965 ه)، منیة المرید فی آداب المفید والمستفید، تحقیق: رضا مختاری، نشر: مکتب الإعلام الإسلامی، إیران، ط 1، 1409 ه.

14. الکلینی: محمد بن یعقوب الرازی (ت 329 ه)، الکافی، تصحیح: علی أکبر الغفّاری، دارالکتب الإسلامیة، قم، ط 3، 1988 م.

15. المجلسی: محمدباقر، بحارالأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء، بیروت، ط 3، 1403 ه.

16. القمی: الشیخ عباس بن محمدرضا (ت 1359 ه)، سفینة البحار.

17. الصدوق: محمد بن علی بن بابویه القمی (ت 381 ه)، علل الشرایع، المکتبة الحیدریة، النجف، الواق، 1699 م.

18. السبزواری: الملّة هادی السبزواری، منظومة السبزواری.

19. المتقی الهندی: علاءالدین علی المتقی (ت 975 ه)، کنزالعمال فی سنن الأقوال والأفعال، مؤسسة الرسالة، بیروت، 1409 ه.

20. الکراجکی: أبوالفتح، محمد بن علی (ت 449 ه)، کنزالفوائد، مکتبة المصطفوی، قم، ط 2، 1369 ه. ش.

ص:318

21. ابن منظور: محمد بن مکرم الإفریقی (ت 711 ه)، لسان العرب، نشر: أدب الحوزة، قم، ط 1، 1405 ه.

22. مسکویة: أحمد بن محمد الرازی (ت 421 ه)، تهذیب الأخلاق وتطهیر الأعراق، مؤسسة تحقیقات و نشر معارف أهل البیت (علیهم السلام) قم.

23. البخاری: محمد بن إسماعیل الجعفی (ت 256 ه)، صحیح البخاری، تحقیق: مصطفی دیب البغا، دارابن کثیر، دمشق، بیروت، ط 4، 1990 ه.

24. الفارابی: سیاسة المدینة

25. نرمان ای: الأهداف السلوکیة، بترجمة: أمان الله مصطفوی

26. شعبانی: حسن، المهارات التربویة والتعلیمیة

ص:319

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.