سرشناسه:رضایی اصفهانی، محمدعلی، 1341 -
عنوان و نام پدیدآور:تنظیم الاصول و تقریرات درس الاصول/محمدعلی رضایی اصفهانی.
مشخصات نشر:قم : مرکز بین المللی ترجمه و نشر المصطفی(ص)، 1436ق.= 1393.
مشخصات ظاهری:203ص.عربی
یادداشت:کتابنامه: ص. [203] - 204؛ همچنین به صورت زیرنویس.
موضوع:تفاسیر شیعه -- قرن 14
رده بندی کنگره:BP98/ر6ت7 1393
رده بندی دیویی:297/179
ص :1
ص :2
عرّف علم الاُصول بعدّة تعاریف (1) لا یخلو أکثرها من الإشکال:
الأوّل: التعریف المشهور بل الأشهر:
«العلم بالقواعد الممهّدة لإستنباط الأحکام الشرعیّة الفرعیّة من أدلّتها التفصیلیّة».
وقد اختصره صاحب الکفایة بأنّه: «العلم بالقواعد الممهّدة لإستنباط الأحکام الشرعیّة» (2).
الإعتراضات: وقد لوحظ علی هذا التعریف ما یلی:
1 - عدم الإنعکاس؛ لخروج بعض المباحث الاُصولیّة عن هذا التعریف، کمباحث الظن الإنسدادی علی الحکومة، ومباحث الاُصول العملیّة فی الشبهات الحکمیّة من النقلیّة والعقلیّة.
توضیح: أمّا خروج الاُصول العملیّة النقلیّة - کالإستصحاب والبراءة النقلیّة ونحوهما - فلأنّ الإستنباط معناه وظاهره جعل القواعد الاُصولیّة وسائط لإثبات الحکم الواقعی والعلم به، مع أنّ تلک الاصول مضامینها احکام ظاهریّة منطبقة علی
ص:3
عرّف علم الاُصول بعدّة تعاریف (1) لا یخلو أکثرها من الإشکال:
الأوّل: التعریف المشهور بل الأشهر:
«العلم بالقواعد الممهّدة لإستنباط الأحکام الشرعیّة الفرعیّة من أدلّتها التفصیلیّة».
وقد اختصره صاحب الکفایة بأنّه: «العلم بالقواعد الممهّدة لإستنباط الأحکام الشرعیّة» (2).
الإعتراضات: وقد لوحظ علی هذا التعریف ما یلی:
1 - عدم الإنعکاس؛ لخروج بعض المباحث الاُصولیّة عن هذا التعریف، کمباحث الظن الإنسدادی علی الحکومة، ومباحث الاُصول العملیّة فی الشبهات الحکمیّة من النقلیّة والعقلیّة.
توضیح: أمّا خروج الاُصول العملیّة النقلیّة - کالإستصحاب والبراءة النقلیّة ونحوهما - فلأنّ الإستنباط معناه وظاهره جعل القواعد الاُصولیّة وسائط لإثبات الحکم الواقعی والعلم به، مع أنّ تلک الاصول مضامینها احکام ظاهریّة منطبقة علی
ص:3
عرّف علم الاُصول بعدّة تعاریف (1) لا یخلو أکثرها من الإشکال:
الأوّل: التعریف المشهور بل الأشهر:
«العلم بالقواعد الممهّدة لإستنباط الأحکام الشرعیّة الفرعیّة من أدلّتها التفصیلیّة».
وقد اختصره صاحب الکفایة بأنّه: «العلم بالقواعد الممهّدة لإستنباط الأحکام الشرعیّة» (2).
الإعتراضات: وقد لوحظ علی هذا التعریف ما یلی:
1 - عدم الإنعکاس؛ لخروج بعض المباحث الاُصولیّة عن هذا التعریف، کمباحث الظن الإنسدادی علی الحکومة، ومباحث الاُصول العملیّة فی الشبهات الحکمیّة من النقلیّة والعقلیّة.
توضیح: أمّا خروج الاُصول العملیّة النقلیّة - کالإستصحاب والبراءة النقلیّة ونحوهما - فلأنّ الإستنباط معناه وظاهره جعل القواعد الاُصولیّة وسائط لإثبات الحکم الواقعی والعلم به، مع أنّ تلک الاصول مضامینها احکام ظاهریّة منطبقة علی
ص:3
مواردها الجزئیّة، فلا تکون قواعد لإستنباط الأحکام؛ والإستنباط فی هذه الاُصول العملیّة لیس إلّاعبارة عن تطبیق تلک الأحکام الظاهریّة علی مواردها بعد الفحص عن الأدلّة الإجتهادیّة والیأس عن الظفر بها، وهذا غیر جعلها وسائط لإثبات الأحکام الشرعیّة (1)(2).
والحاصل: أنّ تلک الاُصول مضامینها أحکام کلّیة ظاهریّة مستخرجة من الأمارات الحاکیة عن الواقع - أعنی أدلّة الاُصول - شأنها شأن سائر الأحکام الفرعیّة (3).
وأمّا الاُصول العملیّة العقلیّة - کالبراءة العقلیّة والإشتغال العقلی والظنّ الإنسدادی علی الحکومة - فتخرج من التعریف بقید «الشرعیّة»، لعدم الحکم الشرعی بناءً علیها کما لا یخفی.
2 - أخذ کلمة «العلم» فی التعریف غیر وجیه؛ إذ العلم والفنّ المدوّن لیس إلّا نفس القواعد والقضایا المتکفّلة لغرض مخصوص، فلیس الفنّ هو العلم والتصدیق بالقواعد، ولهذا قد یضاف إلیه العلم وقد یضاف إلیه الجهل، فیقال: زید عالم بالاُصول أو بالقواعد، وعمرو جاهل بها (4).
ص:4
الثانی: تعریف الآخوند قدس سره فی کفایة الاُصول:
«صناعة یعرف بها القواعد التی یمکن أن تقع فی طریق استنباط الأحکام أو التی یُنتهی إلیها فی مقام العمل، بناءً علی أنّ مسألة حجّیة الظنّ علی الحکومة ومسائل الاُصول العملیّة فی الشبهات الحکمیّة من الاُصول کما هو کذلک» (1)(2)(3).
توضیح: التعبیر بالصناعة إشارة إلی أنّه من العلوم العملیّة لا العلمیّة النظریّة فیکون کالهندسة والمنطق، أو إشارة إلی کونه آلة للفقه کالمنطق للفلسفة.
الإعتراضات:
1 - العلم المدوّن لیس إلّانفس القواعد والقضایا وکذلک الفن، کما مرّ فی الإعتراض الثانی علی التعریف المشهور، فذکر کلمة «صناعة» فی التعریف غیر وجیه.
2 - انطباق هذا التعریف علی مبادیء المسائل فقط؛ وذلک لعدم انطباق «ما یعرف به القواعد» علی غیر المبادیء، ومن الواضح جدّاً أنّ العلم لیس نفس المبادیء
ص:5
فقط، بل العلم إمّا هو القضایا والمسائل وحدها أو مع المبادیء أیضاً (1).
3 - دخول بعض القواعد الفقهیّة - کقاعدة ما لا یضمن وقاعدة الضرر والحرج ونحوها - فی التعریف، إلّاأن یفسّر الصناعة بالعلم الآلی المحض (2).
إلّاأن یقال - کما عرفت آنفاً - إنّ القواعد الفقهیّة لا تکون ممهّدة لاستنباط الأحکام، بل هی نفسها مستنبطات عامّة تنطبق علی مواردها الخاصّة، وکبریات کلیّة منطبقة علی صغریاتها، فلا تدخل فی التعریف.
الثالث: تعریف الإمام الخمینی قدس سره فی تهذیب الاُصول:
«هو القواعد الآلیّة التی یمکن أن تقع فی کبری (3) استنتاج الأحکام الکلیّة الفرعیّة (4) الإلهیّة أو الوظیفة العملیّة».
ص:6
فیخرج بالآلیّة القواعد الفقهیّة؛ فإنّ المراد بها کونها آلة محضة ولا ینظر فیها بل ینظر بها فقط، والقواعد ینظر فیها فتکون استقلالیّة لا آلیّة؛ لأنّ قاعدة ما یضمن وعکسها حکم فرعی إلهی منظور فیها علی فرض ثبوتها، وقواعد الضرر والحرج والغرر کذلک؛ فإنّها مقیّدات للأحکام بنحو الحکومة فلا تکون آلیّة لمعرفة حال الأحکام، وأمّا خروج بعض الاُصول العملیّة فلا غرو فیه علی فرضه.
وإنّما قلنا: «یمکن أن تقع» لأنّ مناط الاُصولیّة هو الإمکان لا الوقوع الفعلی، فالبحث عن حجیّة القیاس والشهره والإجماع المنقول بحث اصولی. وخرج مباحث سائر العلوم بقولنا: «تقع کبری». ولم نقیّد الأحکام بالعملیّة لعدم عملیّة جمیع الأحکام کالوضعیّات وکثیر من مباحث الطهارة وغیرها وإضافة الوظیفة لإدخال مثل الظنّ علی الحکومة. ولم نکتف بأنّه ما یمکن أن تقع کبری لإستنتاج الوظیفة لعدم کون النتیجة وظیفة دائماً کالأمثلة المتقدّمة، وانتهاءها إلی الوظیفة غیر کونها وظیفة.
ثمّ إنّ المسائل المتداخلة بین هذا العلم وغیره - ککثیر من مباحث الألفاظ مثل ما یبحث فیه عن الأوضاع اللغویّة، کدلالة طبیعة الأمر علی الوجوب، والنهی علی الحرمة، ودلالة أداة الحصر علی مدلولها، وکمدالیل المفردات والمرکّبات - یمکن إدخالها فیه وتمییزها عن مسائل سائر العلوم بکونها آلة محضة (1)، فالاُصولی یبحث عنها بعنوان الآلیّة والوقوع فی کبری الإستنتاج، وغیره بعنوان الإستقلالیّة أو لجهات اخر، ویمکن الإلتزام بخروجها عن علم الاُصول، وبحث الاُصولی عنها لکونها کثیرة الدوران فی الفقه (2)، ولذا لم یقتنع بالبحث عنها فی بعض مباحث الفقه، والأمر
ص:7
سهل (1).
وهناک تعاریف اخری لعلم الاُصول لا بأس بالإشارة إلیها:
الرابع: ما فی المحاضرات من أنّ الاُصول هو:
«العلم بالقواعد التی تقع بنفسها فی طریق إستنباط الأحکام الشرعیّة الکلیّة الإلهیّة من دون حاجة إلی ضمیمة کبری أو صغری اصولیّة اخری إلیها» (2).
الخامس: ما ذکره الشهید الصدر قدس سره :
من أنّه «العلم بالعناصر المشترکة فی الإستدلال الفقهی خاصّة التی یستعملها الفقیه کدلیل علی الجعل الشرعی الکلی» (3)(4).
السادس: ما فی المعالم من أنّ:
«علم اصول الفقه متضمّن لبیان کیفیّة الإستدلال» (5).
السابع: ما قاله السید قدس سره فی الذریعة:
«اعلم أنّ الکلام فی اصول الفقه إنّما هو علی الحقیقة کلام فی أدلّة الفقه، یدلّ علی أنّا إذا تأمّلنا ما یسمّی بأنّه اصول الفقه وجدناه لا یخرج من أن یکون موصلاً إلی العلم بالفقه أو متعلّقاً به وطریق إلی ما هذه صفته» (6).
ص:8
الثامن: ما قاله بعض الأعاظم من أنّ:
«کلّ ما دخل فی ربط محمول إلی موضوع، فی صغری أو کبری قیاس استنباط، فهو من الاُصول» (1).
التاسع: ما قاله الآمدی فی الإحکام:
«وأمّا اصول الفقه، فاعلم أنّ أصل کلّ شیء هو ما یستند تحقّق ذلک الشیء إلیه، فاُصول الفقه هی أدلّة الفقه وجهات دلالتها علی الأحکام الشرعیّة، وکیفیّة حال المستدلّ بها من جهة الجملة لا من جهة التفصیل، بخلاف الأدلّة الخاصّة المستعملة فی آحاد المسائل الخاصّة» (2)(3).
العاشر: التعریف المختار:
وهو أنّ علم الاُصول هو القواعد الآلیّة التی تقع فی طریق استنباط الأحکام الشرعیّة عن أدلّتها التفصیلیّة أو ما ینتهی إلیه فی مقام العمل (4).
ص:9
الخلاصة
الأوّل: التعریف المشهور: العلم بالقواعد الممهّدة لإستنباط الأحکام الشرعیّة.
1 - بعدم الإنعکاس، لخروج مباحث وردّ علیه: الاُصول العملیّة.
2 - أخذ کلمة العلم فی التعریف غیر وجیهٍ.
الثانی: تعریف الآخوند قدس سره : صناعة یعرف بها القواعد التی یمکن أن تقع فی طریق استنباط الأحکام أو التی ینتهی إلیها فی مقام العمل... .
تعریف علم الاُصول:
1 - بأنّ ذکر کلمة الصناعة فی التعریف غیر وجیهٍ.
وردّ علیه: 2 - ینطبق هذا علی مبادئ المسائل الاُصولیّة فقط.
3 - دخول بعض القواعد الفقهیّة فی التعریف.
الثالث: تعریف الإمام قدس سره : القواعد الآلیّة التی یمکن أن تقع فی کبری استنتاج الأحکام الکلیّة الفرعیّة أو الوظیفة العملیّة.
ص:10
1 - یلزم خروج مباحث الألفاظ من الاُصول.
ویرد علیه: 2 - نقص التعریف بعد ذکر قید «من الأدلّة التفصیلیّة».
الرابع: تعریف المحاضرات: العلم بالقواعد التی تقع بنفسها فی طریق إستنباط الأحکام... .
الخامس: تعریف الشهید الصدر قدس سره : هو العلم بالعناصر المشترکة فی الإستدلال الفقهی خاصّة... .
السادس: تعریف المعالم: علم اصول الفقه متضمّن لبیان کیفیّة الإستدلال.
السابع: تعریف الذریعة: کلام فی أدلّة الفقه.
الثامن: تعریف الآمدی: اصول الفقه هی أدلّة الفقه.
التاسع: التعریف المختار: علم الاُصول هو القواعد الآلیّة التی تقع فی طریق استنباط الأحکام الشرعیّة عن أدلّتها التفصیلیّة أو ما ینتهی إلیه فی مقام العمل.
ص:11
یقع البحث هاهنا عن امور (1):
الأوّل: منشأ دلالة الألفاظ.
الثانی: حقیقة الوضع.
الثالث: الواضع وأنّه من هو؟
الرابع: أقسام الوضع.
الخامس: المعانی الحرفیّة.
السادس: الخبر والإنشاء.
السابع: أسماء الإشارة والضمائر والموصولات.
ص:12
وفیه وجهان، بل قولان (1):
(أ) إنّ منشأ دلالة الألفاظ علی المعانی هی المناسبة الذاتیّة کالمناسبة بین النار والحرارة او کالثلج والبرودة، فلا حاجة إلی الوضع وجعل العلقة الوضعیّة؛ لمکان العلقة الذاتیّة التی لولاها لزم الترجیح بلا مرجّح، بل لو کانت العلقة وضعیّة جعلیّة إعتباریّة لزم انتفاؤها وانعدامها بانعدام الواضعین المعتبرین وانقراضهم.
الإعتراضات:
1 - أنّ هذا القول ممّا یکذّبه الوجدان.
2 - أنّ هذا القول ممّا یکذّبه البرهان، إذ المناسبة الذاتیّة والعلاقة التکوینیّة لیست بجزافیّة، بل لابدّ هناک إمّا من العلیّة والمعلولیّة أو المعلولیّة للعلّة الثالثة کالضوء والنار حیث إنّ کلیهما معلولان لطلوع الشمس، ألا تری أنّ اللّه تعالی بسیط الحقیقة لا ترکیب فیه أصلاً لا من مادّة وصورة ولا من جنس وفصل ولا من ماهیّة ووجود مع أنّه یطلق علیه الألفاظ والأسماء الکثیره فی لغات مختلفة، فلو کان لجمیعها الربط الذاتی لزم الترکیب فی ذاته، ولو کان لبعضها دون بعض لزم الترجیح بلا مرجّح مع لزوم نقض قاعدة المناسبة الذاتیّة، وإن لم یکن لها ربط ذاتی أصلاً فیتمّ المطلوب (2).
3 - أنّ الترجیح بلا مرجّح لا یلزم؛ لأنّ الترجیح لا ینحصر فی العلاقة الذاتیّة، بل قد یحصل من سهولة الأداء وحسن الترکیب ونحوهما کما سیأتی (3).
ص:13
4 - لو قیل بالمناسبة الذاتیّة للزم کون سماع اللفظ علّة تامّة لانتقال الذهن إلی معناه، لکلّ سامع، وهو کما تری؛ لعدم الإنتقال إلّامع العلم بالوضع، فالمناسبة الذاتیّة ممکنة ثبوتاً لکن لا دلیل علیها إثباتاً بل لا وجه لها أصلاً، فلیس المقام کالنار والحرارة أو کالثلج والبرودة.
5 - أنّ لزوم انتفاء العلقة بانعدام الواضعین لا ضیر فیه أصلاً، بل الأمر کذلک؛ لدوران الإعتباریات مدار الإعتبار وجوداً وعدماً وحدوثاً وبقاءً، فکم من لغة متروکة منسیّة قد انتفت العلقة بینها وبین معانیها بانقراض أربابها، والأمر کذلک فی مثل الزوجیّة والملکیّة ونحوهما.
(ب) قد یقال: إنّ منشأ دلالة الألفاظ هو الوضع:
وهذا واضح لمن تأمّل فی وضع اللّغات فی عصرنا والأعصار الماضیة، ألا تری أنّ کلّ شخص عندما رزقه اللّه ولداً یختار له اسماً ولا یراعی أیّة مناسبة بین اللفظ والولد إلّا شاذّاً، والأمر کذلک فی الفنون والصنائع والإختراعات... .
وسیأتی لما نحن فیه مزید بیان فی مبحث تعیین الواضع، فانتظر.
وأمّا إشکال لزوم انتفاء العلقة بانعدام الواضعین فقد مضی ردّه فی الإعتراض الخامس علی القول الأوّل.
الأمر الثانی: فی حقیقة الوضع:
قد اختلفوا فی حقیقة الوضع علی أقوال، نشیر إلی بعضها:
الأوّل: ما قاله الآخوند قدس سره فی الکفایة من أنّ الوضع هو نحو اختصاص اللفظ بالمعنی وارتباط خاصّ بینهما ناش من تخصیصه به تارةً ومن کثرة استعماله فیه اخری.
وفیه ما لا یخفی؛ لکون ما ذکره من آثار الوضع لا نفسه (1).
ص:14
الثانی: ما عن بعض الأساطین من أنّ الوضع أمر واقعی؛ لا بمعنی کونه من إحدی المقولات الجوهریّة والعرضیّة، إذ الجوهر له أقسام خمسة وهی الهیولی، الصورة، الجسم، الطبیعی، النفس، والعقل، ولیس الوضع - کما تری - واحداً منها، فلیس الوضع هو الجوهر.
العرض بأقسامه التسعة - من الکم، الکیف، الأین، المتی، الإضافة، الوضع، الفعل، الإنفعال والملک «أو الجدة» أوله - متقوّم بالموضوع فی الخارج، والوضع متقوّم باللفظ والمعنی، والمعنی قد یکون معدوماً أو محالاً کلاشیء وشریک الباری وجبل من یاقوت وغیرها، فلیس الوضع عرضاً.
بل بمعنی کونه ملازمة خاصّة وربطاً مخصوصاً بین اللفظ المعنی، نظیر الملازمة بین طلوع الشمس ووجود النهار، ونظیر الملازمة بین زوجیّة العدد وانقسامه إلی متساویین.
ویرد علیه: أنّ الملازمة حتّی عند الجاهل بالوضع ممنوعة، والملازمة عند العالم بالوضع لیست نفس الوضع بل تکون من آثاره وفروعه (1).
الثالث: الوضع أمر اعتباری وجعلیٌّ لا واقعیٌّ حقیقیٌّ، فهو جعلُ اللّفظ للمعنی وتعیینه بإزائه للدلالة علیه (2)(3)، والعلقة حاصلة من هذه الناحیة (4)، هذا هو
ص:15
المختار (1).
الرابع: قیل: الوضع هو الإلتزام والتعهّد؛ أی تعهّد الواضع والتزامه بأنّه متی أراد إفادة المعنی الفلانی تکلّم بکلمة کذا، وهذا أمر معقول ولکن جعل العلاقة بین اللفظ والمعنی وجعلهما مرتبطین بعدما لم یکن بینهما علاقة وارتباط أصلاً غیر معقول.
قال فی تشریح الاُصول: إنّه عبارة عن تعهّد الواضع والتزامه بإرادة المعنی من اللفظ من استعمالاته للفظ بلا قرینة (2).
وفیه: أوّلاً: أنّ العلقة علی وجهین تکوینیّة وجعلیّة اعتباریّة، وما لا یعقل هی الاُولی؛ إذ لا یقبل التکوین الإعتبار والجعل الإعتباری، وأمّا الثانیة فتجعل بالإعتبار.
وثانیاً: الواضع ربمّا یغفل عن التعهّد المذکور، بل قد لا یستعمل کی یحتاج إلی التعهّد والإلتزام، بل یضع کی یستعمله الآخرون (3).
وثالثاً: الوضع هو التسمیة، فلیس بمعنی التعهّد والإلتزام، فهل یکون معنی «وَضَعَ اللفظَ»، «تَعَهَّدَ» إلّاأن یقدّر ویقال: تعهّد والتزم بأنّه متی أراد إفادة المعنی الفلانی تکلّم بکلمةِ کذا، ویلزم حینئذ أن یکون وضع بمعنی تعهّد والتزم، وهذا کما
ص:16
تذییل: فی الوضع التعیینی والتعیّنی، الفعلی والقولی:
الوضع تعیینی وشخصی دائماً، غایة الأمر إمّا أن یکون قولیّاً أو فعلیّاً إستعمالیّاً، وعلی أیّ تقدیر یحصل إمّا من شخص واحد فی زمن واحد، أو أشخاص معیّنین کذلک، أو من أشخاص کثیرین بعد مدّة (1)، فلا وضع تعیّنی کی نفسّر الوضع بما فسّره به فی الکفایة ثمّ نقسّمه إلی التعیینی والتعیّنی، فقوله فی الکفایة: «وبهذا المعنی صحّ التقسیم إلی التعیینی والتعیّنی» غیر صحیح؛ إذ الوضع علی ما ذکر یدور مدار الجعل والتعیین. نعم یصح التقسیم بناءً علی کون الوضع هو الإختصاص والإرتباط الخاص (2).
فالوضع تعیینی دائماً إلّاأنّه قد یحصل بالقول والإنشاء القولی کقوله: وضعت هذا اللفظ لذلک المعنی، وربمّا یحصل بالفعل بنفس الإستعمال المقصود به تحقّق العلقة
ص:18
الوضعیّة، فتقول فی مقام التسمیة مثلاً: ناولونی ولدی أحمد أو جئنی بولدی حسن، وهذا کالمعاطاة إذ هی أیضاً إنشاء فعلی للبیع وحصول الملکیّة (1).
إن قلت: مثل هذا الإستعمال لیس بحقیقة لعدم استعمال اللفظ فیما وضع له وضعاً سابقاً علی الإستعمال؛ إذ المفروض حصول الوضع بنفس الإستعمال، ولیس بمجاز لعدم تحقّق ملاک المجازیّة؛ إذ المجاز لابدّ وأن یکون فی طول الحقیقة ومع ملاحظة العلاقة بینه وبینها، والمفروض عدم الحقیقة أصلاً حتّی یکون هذا الإستعمال المجازی باعتبارها.
قلنا: لا ضیر فیه، والتقسیم إلی الحقیقة والمجاز لیس بوحی منزل أو بحکم العقل، فلا انحصار فیهما.
إن قلت: هذا مستحیل عقلاً؛ للزوم اجتماع اللحاظین فی اللفظ، فمن جهة الإستعمال یکون اللفظ ملحوظاً آلیّاً عبوریّاً للعبور منه إلی المعنی ولحاظه به، ومن جهة الوضع یکون ملحوظاً استقلالیّاً، إذ الوضع یقتضی لحافظ اللفظ الموضوع لحاظاً استقلالیّاً، فالإستعمال یقتضی الآلیّة والوضع یقتضی الإستقلالیّة.
قلنا: شخص هذا اللفظ الصادر من اللافظ المسمّی یکون مرآةً إلی طبیعة هذا اللفظ المقصود تحقّق العلاقة بینها وبین المعنی، فشخص هذا اللفظ ملحوظ آلی، وطبیعة اللفظ المقصود تحقّق العلاقة بینها وبین المعنی ملحوظ استقلالی، فلا یجتمع اللحاظان، فهذا القسم من الوضع أمر ممکن ولیس محالاً عقلاً. هذا ملخّص ما أفاده فی نهایة الأفکار (2).
والحقّ أنّه سهو؛ إذ شخص اللفظ لیس مرآةً لطبیعی اللفظ بل مرآة للمعنی، ولا یکون مرآةً للمعنی وطبیعی اللفظ معاً کما لا یخفی.
ص:19
والحقّ فی الجواب ما قرّره شیخنا الاُستاذ قدس سره فی بدایع الأفکار (1) من أنّ الملحوظ باللحاظ الإستقلالی فی مقام الوضع هو طبیعی اللفظ کما هو واضح وأشرنا إلیه، والملحوظ باللحاظ الآلیّ فی مقام الإستعمال هو شخص اللفظ المستعمل، وعلیه لا یلزم فی الوضع بالنحو المزبور اجتماع اللحاظین المتنافیین فی موضع واحد (2).
إن قلت: یلزم الدور؛ لتوقّف الإستعمال علی أهلیّة اللفظ واستعداده للدلالة علی المعنی، وهذه الأهلیّة متوقّفة علی الوضع، والوضع یتوقّف علی الإستعمال، فالإستعمال یتوقّف علی الأهلیّة، وهی علی الوضع، والوضع یتوقّف علی الإستعمال، وهذا دور مضمر.
قلنا: إنّ الإستعمال یتوقّف علی الأهلیّة للدلالة فی ظرف الإستعمال لا قبله، وهذا حاصل فی مقام تحصیل الوضع به بوجود القرینة الموجبة للأهلیّة والإستعداد حتّی لو کانت تلک القرینة قرینة الوضع، لا القرینة الدالّة علی المعنی کما فی المجاز.
الأمر الثالث: من الواضع:
اختلفوا فی واضع اللغات علی أقوال والعلم عند الملک المنّان:
الأوّل: أنّ الواضع لیس شخصاً واحداً معیّناً أو أشخاصاً معیّنین بل أشخاص کثیرون.
من الطبیعی أنّ تحلیل اصول الألسنة المختلفة المتنوّعة ومعرفة جذورها الأصلیّة أمر فی غایة الصعوبة، ولعلّ تکامل الإنسان وتطوّره عبر القرون والأعصار - وفی شؤونه وأبعاده المادیّة والمعنویّة - أوجب تکثّر الألسنة وتشعبّها وتکاملها.
ألا تری أنّ لغة واحدة فضلاً عن اللغات کیف توسّعت وتشعّبت، فالفارسیّة إلی الطهرانیّة والشیرازیّة والیزدیّة والإصفهانیّة والخراسانیّة الی النیشابوریّة
ص:20
والسبزواریّة وغیرهما، وکالعربیّة إلی الحجازیّة والعراقیّة والاُردنیّة والمصریّة وغیرها، کما أنّ اللسان الواحد من العربی والعبری وغیرهما لم یکن بدء نشوئها إلّا عدّة کلمات قلیلة وشرذمة یسیرة من الألفاظ والأوضاع، فتکاملت وتوسّعت شیئاً فشیئاً بمقدار ازدیاد الحاجات وحدوث الحوادث، کما نشاهد ذلک عند أصحاب الصنعة والإختراع والإکتشاف والکلمات المتداولة عندهم کالقطار والطیّارة و... .
ومنشأ التنوّع فی اللسان الواحد هو التباعد وانعدام الروابط بین أبناء الملل والأدیان وأبناء الأمکنة والأزمان، فاختار کلّ للإفادات والإستفادات لغات وألفاظاً، فالواضع لیس شخصاً واحداً معیّناً أو أشخاصاً معیّنین، بل أشخاص کثیرون علی طول الأعصار والقرون. هذا هو المختار کما أشار إلیه سیّدنا الاُستاذ الکبیر المحقّق قدس سره علی ما فی تهذیب الاُصول.
الثانی: ما نسب إلی عدّة من الأشاعرة، حیث قالوا: إنّ الواضع هو اللّه تعالی، وذلک بواسطة إلهامه الأنبیاء والأولیاء ذلک، ودلیلهم لزوم وجود العلاقة بین اللغات والمعانی، وإلّا لزم الترجیح بلا مرجّح، وامتناع الإحاطة لغیر علّام الغیوب باللغات والمعانی أجمع لکثرتها (1).
الإعتراضات:
وفیه: أوّلاً: عدم انحصار المرجّح فی خصوص الرابطة والعلاقة بین اللفظ والمعنی، بل قد یحصل الترجیح باُمور اخر، کسهولة التلفّظ والأداء وحسن الترکیب ونحوهما.
ثانیاً: أنّ امتناع الإحاطة مقبول، لکن قد عرفت عدم إنحصار الواضع فی فرد واحد معیّن أو أشخاص معیّنین، بل الوضع یکون من أشخاص کثیرین عبر الأعصار والقرون، فلا یلزم الإحاطة بجمیع اللغات والمعانی لفرد واحد حتّی یشکل علیه
ص:21
بالإمتناع (1).
الامر الرابع: فی أقسام الوضع:
هنا مقامان: المقام الأوّل: حول المعنی، والثانی: حول اللفظ، والکلام الآن حول المعنی وسیأتی الکلام حول اللفظ.
المقام الأوّل: حول المعنی:
الأقسام المتصوّرة للوضع ثبوتاً أربعة (2):
ص:22
(أ) الوضع العام والموضوع له العام.
(ب) الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ.
(ج) الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ.
(د) الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.
ویقع البحث تارةً فی إمکانها ثبوتاً، واُخری فی وقوعها أعنی مقام الإثبات.
الأوّل: فی إمکان الأقسام الأربعة للوضع ثبوتاً:
فیقع البحث فی جهتین:
1 - الوضع العامّ والموضوع له کذلک، وهو أن یُتصوّر المعنی الکلّی العامّ حین الوضع ویوضع اللفظ بإزائه، سواء کان ذلک التصوّر علی وجه التفصیل وبالکنه، أم بالوجه والعنوان، أم بالعنوان المشیر المعرِّف، کأن یتصوّر الإنسان ویجعل لفظ «إنسان» بإزائه.
2 - الوضع والموضوع له الخاصّان، کالأعلام الشخصیّة، وهنا یُتصوّر معنی خاصّ إمّا بالکنه أو إجمالاً فیوضع اللفظ له وبإزائه، کأن یتصوّر معنی زید ویجعل لفظ «زید» له.
وهذان القسمان واقعان، فالأوّل کما فی أسماء الأجناس، والثانی کما فی أعلام الأشخاص، فلا تصل النوبة إلی البحث عن إمکانهما.
ص:23
3 - الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ویقع البحث هنا فی إمکانه، فنقول: لمّا کان تصوّر العامّ تصوّراً لأفراده بوجه وإجمالاً فیکن القول بإمکان هذا القسم (1).
قال فی الکفایة: «لأنّ العامّ یصلح لأن یکون آلة للحاظ أفراده ومصادیقه بما هو کذلک، فإنّه من وجوهها، ومعرفة الشیء معرفته بوجه... الخ» (2).
وفی المقام إشکال وهو أنّه قد یقال باستحالته إذ المفهوم - أیّ مفهوم کان - لا یحکی إلّاعمّا هو بحذائه ولا یکون مرآة لنفسه وغیره، کلیّاً کان أو جزئیّاً، عامّاً کان أو خاصّاً، فلا یحکی العامّ بما هو عامّ عن الخاصّ کما لا یحکی الخاصّ بما هو خاصّ عن العامّ.
وبعبارة اخری: طبیعة المفهوم هی الدلالة والحکایة عن مصداقه ولو عن مصداق مفروض مقدّر کمفهوم العدم واللّاشیء ونحوهما، وحکایته لا تکون إلّاعمّا هو بحذائه، فیستحیل أن یحکی إلّاعن نفسه أی عمّا هو بحذائه فلا یحکی عن غیره، والخصوصیّات الفردیّة وإن کان متّحدة مع العامّ وجوداً لکنّها تغایره عنواناً ومفهوماً، فالإنسان مثلاً لا یحکی إلّاعن حیثیّة الإنسانیّة المشترکة الجامعة المعبّر عنها بالحیوانیّة والناطقیّة، وأمّا الکون الخاص والخصوصیّات الفردیّة والمشخصّات الخاصّة کالسمن الخاصّ والهزال والطول والقصر کذلک نحوها فلا یحکی عنها، نعم الخصوصیّات متحدة مع تلک الجهة الجامعة وجوداً، وهذا المقدار لا یکفی فی الحکایة؛ إذ الحکایة فرع الدخول فی الموضوع له والمعنی.
وبالجملة: الإتحاد الخارجی غیر کاف فی الحکایة، وإلّا لحکت الأعراض عن الجواهر ولحکت المحمولات عن الموضوعات فی الحمل الشایع لإتّحادهما خارجاً ووجوداً، وهو کما تری، إذ لا یحکی البیاض مثلاً عن الجسم، ولا القیام أو العلم عن
ص:24
زید ونحوه، فالخصوصیّات غیر داخلة فی الموضوع له العامّ کی یحکی العام عنها.
وإن شئت فقل: الحکایة تدور مدار الوضع والدخول فی الموضوع له لا الإتّحاد الخارجی الوجودی، والقول بالإنتقال من تصوّر العامّ إلی مصادیقه لا وجه له.
والجواب عن هذا الإشکال أن نقول: إنّه یمکن أن یجعل العامّ عنواناً مشیراً إلی الخاصّ إجمالاً، حیث إنّ معرفة الخاصّ علی وجوه ثلاثة: الحدّ والرسم والعنوان المشیر، فتکون معرفتُهُ معرفةَ الخاصّ بتلک الجهة الجامعة لا بخصوصیّاته، وهذا هو مراد صاحب الکفایة قدس سره بقوله: «فإنّه من وجوهها، ومعرفة وجه الشیء معرفته بوجه».
وهذا المقدار من المعرفة الإجمالیّة کاف فی الوضع، وإلّا فیستحیل تصوّر الأفراد والخصوصیّات لکثرتها وعدم تناهیها، فتصوّر العامّ تصوّر للخاصّ بوجه؛ ولذا نحکم علی الأفراد والمصادیق فی القضیّة الحقیقیّة علی الأفراد المحقّقة والمقدّرة قبال القضیّة الطبعیّیة. فالحقّ أنّ تصوّر العامّ تصوّر للخاصّ بوجه، لا أنّ تصوّره ینتقل عنه إلی تصوّر الخاصّ، بل عینه بوجه کما أشرنا إلیه.
وبالجملة: تصوّر العامّ تصوّر له بنفسه وتصوّر للخاصّ بوجهه، فلیس هنا تصوّران کی ینتقل من أحدهما إلی الآخر.
4 - الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ: ویقع البحث هنا فی إمکانه، والحق هو القول بالإستحالة (1)؛ إذ تصوّر الخاصّ بما هو خاصّ لا یکون تصوّراً للعامّ لا بعینه
ص:25
وتفصیله ولا بوجهه وإجمالاً، علی أنّه لو کان الخاصّ وجهاً وعنواناً للعامّ، والعامّ وجه لکلّ خاص، فسوف یکون الخاص وجهاً لخاصّ آخر؛ إذ وجه الوجه وجه وعنوان العنوان عنوان، وهو بدیهی البطلان.
نعم تصوّر الخاص تفصیلاً وبکنهه یوجب تصوّر العامّ بنفسه لا بوجهه، فلا یکون تصوّر الخاصّ تصوّراً للعام أصلاً، بل یکون سبباً لتصوّر العام بنفسه، وفرق بین کون تصوّر الخاصّ سبباً لتصوّر العام بنفسه وبین کون تصوّر الخاص تصوّراً للعام بوجهٍ، فبواسطة تحلیل الخاص نصل إلی العام فنتصوّره بنفسه.
وهذا هو المراد من قول صاحب الکفایة قدس سره : «نعم ربمّا یوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه فیوضع له اللفظ، فیکون الوضع عامّاً کما کان الموضوع له عامّاً».
أقول: بل الأمر بالعکس؛ إذ الخاصّ فی صقع المفهوم کلٌّ والعامّ جزء منه (1)، وتصوّر الجزء مقدمّة لتصوّر الکل، فالصحیح أن یقال: قد یکون فی تصوّر الخاص تصوّر العام بنفسه، ولعله مراد صاحب الکفایة قدس سره ، وعلیه فیکون المراد من قوله:
«ربّما یوجب...» لیس الإیجاب بمعنی السببیّة، بل بمعنی أنّ تصوّر العام یکون واجباً من باب وجوب تصوّر الجزء أوّلاً کی یتصوّر الکلّ.
وحینئذٍ فلا انتقال کما فی التهذیب (2)، ولا قنطرة کما فی بحوث فی علم الاُصول؛ حیث قال: فلا یعقل أن یتصوّر الواضع معنی خاصّاً لیضع اللفظ بإزاء المعنی الأعمّ منه إلّابجعل تصوّره للمعنی الخاصّ قنطرة للإنتقال منه إلی تصوّر المعنی العام، فیکون من الوضع العامّ والموضوع له العام (3).
ص:26
وعن شیخنا الاُستاذ قدس سره - تقریراً لکلام شیخه قدس سره - فی بیان استحالة القسم الرابع ما هذه عبارته: أمّا کونه غیر معقول فلأنّ الخاصّ بما هو خاصّ لا یکون وجهاً وعنواناً للعام بنحو یکون تصوّره تصوّراً للعام ولو بنحو الإجمال؛ وذلک لأنّ الخصوصیّة المقوّمة للخاص تناقض العموم وتنافیه، والعموم لا یتحصّل فی معنیً ما إلّا بإلغاء الخصوصیّة، ومعه کیف یمکن أن یکون الشی مرآةً ووجهاً لنقیضه (1).
أقول: هذا بناءً علی کون المرآة هی الفرد والخصوصیّة، فیباین مفهوم الفرد مفهوم العام والکلی، والمباین لا یجعل مرآة للمبایل، وأمّا لو کان آلة اللحاظ هو الکلّی المتقیّد بالخصوصیّة الموجودة فی زید وعمرو ونحوهما، فمع انحفاظ تلک الخصوصیّة یکون مبایناً مفهوماً مع المطلق الجامع المرسل، ومع إلغائها وتجریده عن الخصوصیّة یرجع الأمر إلی الوضع العام والموضوع له العام.
وقد یقال فی تصویر إمکان القسم الرابع: إنّه لابدّ فی الوضع من معرفة أمرین:
الموضوع والموضوع له، ومعرفة الموضوع له علی وجه ثلاثة: بالتفصیل والکنه، بالإجمال وبالوجه، وبالعنوان المشیر. وعلیه فإذا تصوّر الواضع الخاصّ ورأی خاصّاً آخر... مشابهاً لهذا الخاص، فیعلم أنّ بین هذین الخاصّین قدراً جامعاً مشترکاً یکون متّحداً معهما، فیضع اللفظ لذلک الجامع الذی لا یعرفه إلّابعنوان المتّحد معهما، وهذا المقدار من المعرفة کافٍ فی عملیّة الوضع.
وبهذا الوجه یمکن إثبات إمکان القسم الثالث - أعنی الوضع العام والموضوع له الخاص - أیضاً، بأن یقول الواضع: وضعت اللفظ للأفراد والمصادیق التی لا تکون معلومة لا تفصیلاً ولا إجمالاً إلّابعنوان المتّحدة مع العام الجامع المتصوّر.
أقول: هذا من باب الوضع العام والموضوع له العام؛ إذ الجامع تُصوّر فی
ص:27
الفرض بعنوانه المشیر، فوضع اللفظ له.
الثانی: فی وقوع الأقسام الأربعة للوضع أعنی مقام الإثبات:
فالقسم الأوّل - أی الوضع والموضوع له الخاصّان - لا إشکال فی وقوعه، ومثّلوا له بأعلام الأشخاص.
والقسم الثانی - أی الوضع والموضوع له العامّان - کذلک لا إشکال فی وقوعه، ومثّلوا له بأسماء الأجناس.
وأمّا القسم الثالث - أی عموم الوضوع وخصوص الموضوع له - فقد مثّلوا له بالحروف وما الحق بها من الأسماء والظروف کأسماء الإشارة والضمائر وغیرها، وسیأتی البحث عنها إن شاء اللّه (1).
إلّاأنّ فی التمثیل للقسم الأوّل بالأعلام الشخصیّة إشکالاً، فی تهذیب الاُصول قال: ولکن فی النفس من التمثل بالأعلام للثانی (2) شیء؛ إذ لو کانت موضوعة لنفس الخارج والهویّة والوجودیّة لزم أن یکون قولنا: «زید موجود» قضیّة ضروریّة ومن قبیل حمل الشیء علی نفسه، ومجازیّة قولنا: «زید معدوم» أو «زید إمّا موجود وإمّا معدوم» لاحتیاجها إلی عنایة التجرید، مع أنّا لا نجد الفرق بینها وبین ما إذا کان المحمول لفظ «قاعد» أو «قائم» والذی یناسب الإرتکاز هو القول بکونها موضوعة لماهیّة لا تنطبق إلّاعلی فرد واحد لا للماهیّة المنطبقة علی الکثیرین ولا للفرد المشخّص، وعلی هذا الإرتکاز جرت سیرة العلوم فی الإخبار عن معدومیّة المسمّیات فی زمان وموجودیّتها فی زمان آخر، ویقال: لم یکن زید فی ذلک الزمان بل وجد بعده، فیستکشف أنّ الوضع لم ینحدر عن الهویّة الوجودیّة بل علی ماهیّة مخصّصة بإضافات کثیرة وحدود وافرة ولو ارتکازاً؛ لینطبق علی المشخّص المعین (3).
أقول: لابدّ فی الوضع من معرفة الموضوع له، والهویّة الخارجیّة هی الوجود
ص:28
الخارجی الذی مفهومه من أعرف الأشیاء وکنهه فی غایة الخفاء، فکیف یصیر الخارج موضوعاً له والحال أنّه یلزم أن یکون إدراک کنه الوجود الخارجی ممکناً؟!.
علی أنّه یلزم أن تکون قضیّة «زید معدوم» محال؛ لتضمنها حمل أحد النقیضین علی الآخر، فتکون ممتنعة وهذه القضیّة ممکنة بلا ریب کما أنّ علیه تصیر قضیّة «زید إمّا موجود أو معدوم» فی قوّة «الوجود معدوم وعدم» أو «الوجود إمّا وجود أو عدم» (1).
المقام الثانی: حول اللفظ وتصوّره:
الوضع من ناحیة اللفظ علی قسمین: شخصی ونوعی.
ففی الأوّل یلاحظ الواضع شخص اللفظ بمادّته وهیئته، فیلاحظ اللفظ بوحدته الطبیعیّة وشخصیّته المتمیّزة فیضعه للمعنی، کما فی أسماء الأجناس وأعلام الأشخاص.
وفی الثانی یلاحظ الهیئة فقط بلا لحاظ للمادّة، غایة الأمر لمّا لم یکن تحقّق الهیئة بدونها ممکناً حتّی فی الذهن - فضلاً عن الخارج - لم یمکن تجریدها عنها لحاظاً أیضاً، فعملیّة الوضع لأشخاص الهیئة تکون بمعونة الجامع العنوانی لا بشخصیّتها الذاتیّة، فیقال مثلاً: کلّ ما کان علی هیئة فاعل فهو موضوع لکذا، أو کلّ ما کان علی هیئة فعل فهو موضوع لکذا، فالوضع فی الهیئات مطلقاً نوعی، وذلک مثل هیئات المشتقّات والجمل من الفعلیّة والإسمیّة والتامّة والناقصة.
وأمّا موادّ المشتقّات فإن کانت من المصادر فالوضع شخصی إذ المصادر هی من أسماء الأجناس، وإن کانت من الأفعال فالوضع نوعی، وعلی القول بکون مبدأ الإشتقاق هو الحروف المهملة بلا أیّة صورة فلا وضع لها أصلاً.
إذا عرفت هذا، فتثلیث الأقسام حسب الملاحظة وإدراج مواد المشتقّات فی قسم الوضع الشخصی - کما فی المحاضرات - غیر ظاهر الوجه:
قال: فالواضع حین إرادة الوضع إمّا أن یلاحظ اللفظ بمادّته وهیئته کما فی أسماء
ص:29
الأجناس وأعلام الأشخاص، وإمّا أن یلاحظ المادّة فقط کما فی مواد المشتقّات، وإمّا أن یلاحظ الهیئة کذلک کما فی هیئات المشتقّات وهیئات الجمل الناقصة والتامّة، فالوضع فی الأوّل والثانی شخصی وفی الثالث نوعی... إلخ (1).
لا یخفی أنّ هذا البحث صغروی؛ أی أنّه بعد الفراغ عن البحث الکبروی - أعنی الأقسام الأربعة للوضع من جهة المعنی، وقسمیه من جهة اللفظ - یقع البحث فی أنّ وضع الحروف یندرج تحت أی قسم من تلک الأقسام، وههنا أقوال:
الأوّل: قول السیّد الشریف وهو أنّه لا وضع للحروف.
الثانی: قول التفتازانی وهو عموم الوضع والموتضوع له وخصوص المستعمل فیه.
الثالث: قول صاحب الکفایة رحمه الله (2)وهو عموم الوضع والموضوع له والمستعمل فیه والخصوصیّة ناشئة من جهة الإستعمال.
الرابع: قول المحقّق العراقی رحمه الله فی أنّ الحروف کلّها إخطاریّة (3)(4).
ص:30
الخامس: القول المختار وهو أنّ الوضع عامّ والموضوع له خاصّ فی الحروف الحکائی، والوضع عام والموضوع له خاصّ فی الحروف الإیجادی.
الأوّل: قول السید الشریف رحمه الله (1):
إنّ الحروف لم توضع لمعنی، بل هی أمارات علی خصوصیّات مدخولاتها، کالحرکات الإعرابیّة فی الرفع والنصب والجرّ؛ حیث لم توضع تلک الحرکات لمعنی، بل هی أمارات وعلامات علی خصوصیّات المدخولات فی الفاعلیّة والمفعولیّة ونحوهما، فکلمة «فی» تفید خصوصیّة فی مدخولها غیر ما تفیده کلمة «علی» وکلمة «من».
ویرد علیه: أنّ إنّما دلّ علیها الحروف؛ بحیث لولا الحروف لم تفهم أصلاً، فهی وضعت بإزائها.
وبعبارة اخری: تلک الخصوصیّات لا تکون مدلولة لأمر عدمی وللّاشیء کما أنّها لیست مدلولة للدخول، فینحصر الأمر فی کونها مدلولات للحروف، فهذا القول واضح الفساد (2).
الثانی: قول التفتازانی:
الثالث: قول صاحب الکفایة رحمه الله : إنّ الوضع عامّ والموضوع له عامّ والمستعمل فیه عامّ والإستعمال خاصّ.
قال: وأمّا الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ فقد توهّم أنّه وضع الحروف وما
ص:31
الحق بها من الأسماء، کما توهّم أیضاً أنّ المستعمل فیها خاصّ مع کون الموضوع له کالوضع عامّاً (1) والتحقیق حسبما یؤدّی إلیه النظر الدقیق أنّ حال المستعمل فیه والموضوع له فیها حالهما فی الأسماء (2).
وفی مقام الإستدلال علی ذلک قال: وذلک لأنّ الخصوصیّة المتوهّمة إن کانت هی الموجبة لکون المعنی المتخصّص بها جزئیّاً خارجیّاً فمن الواضح أنّ کثیراً ما لا یکون المستعمل فیها کذلک بل کلیّاً؛ ولذا التجأ بعض الفحول إلی جعله جزئیّاً إضافیّاً وهو کما تری، وإن کانت هی الموجبة لکونه ذهنیّاً حیث إنّه لا یکاد یکون المعنی حرفیّاً إلّاإذا لوحظ حالةً لمعنی آخر و... .
إلّاأنّ هذا اللحاظ لا یکاد یکون مأخوذاً فی المستعمل فیه؛ وإلّا فلابدّ من لحاظ آخر متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ... مع أنّه یلزم أن لا یصدق علی الخارجیّات.
وقال فی الفرق بین الحروف والأسماء: الفرق بینهما إنّما هو فی اختصاص کلّ منهما بوضع؛ حیث إنّه وضع الإسم لیراد منه معناه بما هو هو وفی نفسه، والحرف لیراد منه معناه لا کذلک بل بما هو حالة لغیره، فالإختلاف بین الإسم والحرف فی الوضع یکون موجباً لعدم جواز إستعمال أحدهما فی موضع الآخر (3).
وقال أیضاً: وقد عرفت بما حقّقناه فی معنی الحرف وشبهه أنّ ما استعمل فیه الحرف عامّ کالموضوع له، وأنّ خصوصیّة لحاظه بنحو الآلیّة والحالیّة لغیره فی خصوصیّة الإستعمال، کما أنّ خصوصیّة لحاظ المعنی بنحو الإستقلال فی الإسم کذلک (4).
وحاصل کلامه قدس سره : اتّحاد المعنیین الإسمی والحرفی ذاتاً وحقیقةً وعدم تمایزهما
ص:32
جوهریّاً، بل التمایز والإختلاف إنّما یکون فی مرحلة اللحاظ والإعتبار، فاللحاظ فی صقع الإستعمال فی الإسم استقلالی وفی الحرف آلی، فالإستقلالیّة والآلیّة أمران خارجان عن حریم الموضوع له والمستعمل فیه، والمعنی فی نفسه لا یتّصف بواحدة منهما، بل تکونان من شؤون الإستعمال وطواریه، ومنشأ ذلک لیس أخذهما فی الموضوع له، بل إشتراط الواضع لذلک علی المستعملین فی مقام الإستعمال علی وجه الشرط فی ضمن العقد أو الإیقاع.
واستدلّ علی مدّعاه بأنّ الخصوصیّة المتوهّمة لو أجبت جزئیّة المعنی المتخصّص بها خارجاً فمن الواضح عدم جزئیّة المستعمل فیه دائماً، بل یکون کلیّاً أحیاناً، کالواقعة فی تلو الأوامر والنواهی أو الإخبارات غیر الماضیة؛ ولذا التجأ صاحب الفصول إلی جعله جزئیّاً إضافیّاً، وهو کما تری.
وإن أوجبت الخصوصیّة المتوهّمة جزئیّة المعنی ذهناً - حیث لابدّ أن یلاحظ آلةً وحالةً لمعنی آخر ویکون حاله کحال العرض، غایة الأمر العرض فی الموضوع خارجاً والمعنی الحرفی فی مفهوم آخر فی الذهن؛ ولذا قیل فی تعریفه: ما دلّ علی معنی فی غیره، فکلاهما فی الغیر لکن العرض فی الغیر عیناً والحرف فیه ذهناً وعلماً - فنسلّم جزئیّة المعنی بهذا اللحاظ وصیرورته مبایناً لنفسه لو لوحظ ثانیاً حتّی مع وحدة اللاحظ، لکن هذا اللحاظ لا یؤخذ فی المستعمل فیه فضلاً عن الموضوع له، بل یکون فی عوارض الإستعمال؛ وإلّا فیرد الإشکال فی وجوه ثلاثة: من اجتماع اللحاظات، ولزوم عدم الصدق علی الخارجیّات، ولزوم اللحاظ فی الأسماء أیضاً.
الإعتراضات:
ویرد علیه: أوّلاً: أنّه لا دلیل علی وجوب اتّباع الواضع ما لم یؤخذ فی الموضوع له، بل لا دلیل علی أنّ الواضع اشترط هذا الشرط.
وثانیاً: لو سلّمنا وجوب الإلتزام بالشرط لم یلزم الإستهجان عند استعمال کلٍّ من الإسم والحرف مکان الآخر، بل مخالفة الشرط توجب الذمّ.
ص:33
وثالثاً: أنّ الشرط ولو ابتداءً لابدّ أن یقع بین طرفین أحدهما یشترط والآخر یقبل ذلک الشرط، وفی المقام من القابل لشرط الواضع؟!.
ورابعاً: أنّ فیما رتّبه صاحب الکفایة فی البرهان علی نفی جزئیّة الموضوع له فی الحروف مغالطة؛ إذ هذا البرهان مبتنٍ علی تسلیم الإتحاد بین الأسماء والحروف وأنّها من سنخ واحد جوهراً وتعقّلاً ودلالةً، فهو قدس سره سلّم عموم معنی الحرف وکلیّة الموضوع له فیه، فقال: ما الموجب لجزئیّته وما المراد من الجزئیّة هل هی الخارجیّة أو الذهنیّة؟ فحینئذٍ یصح أن یبنی علیه ما بنی من عدم أمر وخصوصیّةٍ موجبةٍ لخروج المعنی الحرفی عن العموم والکلیّة، وأنّ الخصوصیّة الموجبة للجزئیّة إمّا توجب الجزئیّة الخارجیّة... إلخ. وسیأتی بیان الفرق بینهما ذاتاً وتمایزهما جوهریّاً.
الرابع: قول المحقّق العراقی قدس سره :
إنّ الحروف کلّها إخطاریّة، وإنّ مدالیل الحروف تمتاز عن مدالیل الهیئات فی وجه وتشترک معها فی وجه، وأمّا الثانی فهو کون مدلول کلیهما معنی نسبیّاً قائماً بالطرفین، وأمّا الأوّل - الإمتیاز - فمدلول الحروف قسم من الأعراض النسبیّة المعبّر عن وجودها ووجود بقیّة الأعراض بالوجود الرابطی، ومدلول الهیئات عبارة عن ربط الأعراض بموضوعاتها المعبّر عن ذلک بالوجود الرابط، ففی الجمل المشتملة علی الحروف تتحقّق الدلالة علی الوجود الرابطی بالحروف، وعلی الوجود الرابط بالهیئات الطارئة علی الجملة، خلافاً لما علیه جماعة من الحکماء ومنهم صدر المتألّهین وتبعه علیه بض الاُصولیین فی وحدة مدلولهما وهو الرابط.
ثمّ قال رحمه الله : فإن قلت: إذا کان مدلول الحرف عرضاً نسبیّاً فهو بذاته مرتبط بموضوعه، فلا حاجة إلی وضع هیئة الجملة للدلالة علی ذلک «الوجود الرابط»؛ وإلّا لزم تکرار دلالة الجملة المتضمنة للحروف لتعدّد الدالّ علی الإرتباط المزبور؛ أعنی الحروف والهیئة.
قلت: لا یلزم ذلک؛ لدلالة الحرف علی نفس العرض المنتسب إلی موضوع ما،
ص:34
ودلالة الهیئة علی ربط ذلک العرض بموضوع بعینه مفصّلاً، فالهیئة تدلّ علی معنی یستلزم تفصیل ما دلّ الحرف علیه مبهماً ومجملاً.
ثمّ شبّه هذا بالجملة غیر المشتملة علی الحرف مثل «زید قائم». وقال: فکما أنّ هیئة قائم دلّت علی ارتباط القیام بموضوع ما، وهیئة الجملة علی ارتباط ذلک العرض بزید، فکان مدلولها معنی یستلزم تفصیل ذلک الربط المجمل، کذلک هیئة «زید فی الدار»، فلفظ «فی» دلّ علی عرض الأین منتسباً إلی موضوعٍ ما، وهیئة الجملة علی ربط ذلک العرض بزید نفسه، فأین التکرار؟!
ثمّ قال قدس سره : فتحصّل ممّا تقدّم إحظاریّة المعانی الحرفیّة کما أوضحنا فی الأمر الأوّل، وأنّها ملحوظة باللحاظ الضمنی من دون أن تکون مغفولاً عنها کما أوضحناه فی الأمر الثانی، ومباینة للمعانی الإسمیّة ذاتاً لکونها هویّات إرتباطیّة متقوّمة فی وجودها وماهیّتها بغیرها بخلاف المعانی الإسمیّة کما أوضحناه فی هذا الأمر الثالث (1).
الإعتراضات:
ویرد علیه: أوّلاً: لو کانت المعانی الحرفیّة من الأعراض النسبیّة لکانت مستقلّة تامّة الماهیّة غیر تامّة الوجود کالأسماء من الأعراض، فتصلح أن تقع محکوماً علیها وبها؛ إذ القول بالأعراض النسبیّة والوجودات الربطیّة عین القول بالوجود المحمولی والإستقلالی فی المفهومیّة، ولا تقع طرف الربط، مع أنّ عدم استقلالها ماهیّة أیضاً من المسلّمات.
وثانیاً: أنّ الحروف لو کانت دالّة علی الأعراض النسبیّة - وهی السبعة من التسعة المعلومة - لکانت تلک الأعراض معلومة مشخصّة، ولیست کذلک؛ ولذا قال قدس سره : وأمّا تشخیص کونه من أیّ الأعراض فهو لیس بمهمٍّ فی المقام (2).
وثالثاً: أنّ الحکایة فی مثل حروف النداء لا نفهمها، فأی شیء یحکیه القائل
ص:35
بقوله: «یا کوکباً...»؟! هل یحکی عن نداء خارجی أو ذهنی، أو لا یحکی عن شیء بل یوجد فرداً من النداء حین الإستعمال؟!
وأیضاً ما یقول هذا المحقّق الکبیر فی مثل: «زید له البیاض» أو «الجسم له طول» ممّا یکون المحمول وطرف الربط فیه عرضاً کیفیّاً کالمثال الأوّل أو عرضاً کمیّاً کالمثال الثانی، فهل یمکن أن یقال: اللام موضوعة للعرض النسبی لکن استعملت فی المثالین مجازاً؛ أی استعملت فی نفس الربط والإضافة بین الموضوع والمحمول؟! وهذا کما تری خلاف الإرتکاز.
والتحقیق: إفادة اللام للإضافة بمعناها التصوّری، وإفادة الهیئة لتحقّق تلک الإضافة (1).
الخامس: القول المختار:
وهو أنّ الحروف علی قسمین فمنها حکائیّة ومنها إیجادیّة. وفی القسم الأوّل یقع الکلام فی مقامین:
الأوّل: فی بیان حقیقة المعنی الحرفیّ.
الثانی: فی بیان کیفیّة وضعه من حیث العموم والخصوص.
المقام الأوّل: الوجود قسمان:
1 - الوجود المحض الذی لا ماهیّة له ولا ترکیب فیه بوجه أصلاً وهو الواجب تعالی، فهو وجود فی نفسه بنفسه لنفسه.
2 - الوجود الإمکانی، وهو الزوج الترکیبی من الماهیّة والوجود، وهو من أدقّ التراکیب وأظرفها، وهذا القسم علی أنحاء ثلاثة:
أ - تامّ الماهیّة والوجود، فیعقل ویدرک فی نشأة الذهن مستقلّاً بلا إحتیاج إلی توسیط شیء آخر، ویحصل ویتحقّق فی نشأة العین أیضاً بلا احتیاج إلی موضوع وإن احتاج إلی المدّة کالصور، أو المتعلّق کالنفس إلی البدن.
ص:36
فهذا النحو مستقلّ ماهیّة ووجوداً، أو فقل: تام علماً وعیناً، وغیر ذلک من التعابیر، وذلک مثل وجود الجواهر فهو فی نفسه ولنفسه؛ فی نفسه أی لا فی غیره، ولنفسه أی لا لغیره، فیکون فی نفسه أی ذا ماهیّة معقولة مستقلّاً، ولنفسه أی یکون ذا وجود مستقلّ غیر محتاج إلی موضوع.
ب - تامّ ومستقلّ ذهناً وعلماً فقط؛ أی یتصوّر ویعقل فی نشأة الذهن وحوزة الإدراک بحیاله وعلی استقلاله، فلا یحتاج إلی أن یکون فی غیره، غیر تامّ خارجاً بل هو کائن فی غیره فی عالم الخارج والعین، فلا یحصل فی العین إلّاتبعاً مندکّاًِ فی غیره.
وهذا النحو فی الوجود لمّا کان فی المدرکات الذهنیّة المستقلّة أمکن أن یصیر موضوعاً ومحمولاً وغیر ذلک، کما یمکن أن یحکم علیه بأحکام من العموم والخصوص والکلیّة والجزئیّة ونحوها، وأمّا خارجاً فهو لا یشغل العین إلّابتبع الموضوع کالأعراض، وبناءً علی ذلک فهذا النحو من الوجود یکون فی نفسه ولغیره.
ج - غیر تامّ ماهیّة ووجوداً، بل لا ماهیّة له مستقلّاً وإنّما هو تبعی اندکاکی وتطفّلی عیناً وعلماً، ذهناً وخارجاً، لا تمامیّة له فی نشأةٍ أصلاً، بل یوجد فی النشأتین مندکّاً فی الغیر وربطاً للغیر؛ کالنسب والإضافات والوجودات الرابطة (لا الرابطیّة کالأعراض). فمفاهیم النسب والإضافات والروابط - وهی مفاهیم إسمیّة مستقلّة - نسب وإضافات وروابط بالحمل الأوّلی، وأمّا بالحمل الشایع فلیست هذه ربطاً بل معانٍ اسمیّة مستقلّة - کالجزئی والمعدوم المتصوّر، جزئی ولیس بجزئی، معدوم ولیس بمعدوم، وکاللاشیء فهو لا شیء بالحمل الأوّلی وشیء بالحمل الشایع، وکمفهوم الممتنع ممتنع بالحمل الأوّلی متصوّر ممکن بالحمل الشایع، وکشریک الباری وغیر ذلک من الأمثلة ... - محکیّات ومسمیّات فی الخارج مندکّات فی وجودات هی روابط محضة، فتلک الروابط الإندکاکیّة مندکّات الوجود لا ماهیّة لها، فلا تحصّل لها فی الذهن ولا فی الخارج إلّاتبعا لإطرافها، فلا استقلال لهذا النحو من الوجود فی عالمی
ص:37
الحضور لا فی الحضور العلمی ولا فی الحضور العینی (1).
إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ الحروف فی الجملة - لا کلّها - معانیها هی محکیّات النسب والروابط غیر التامّة ماهیّةً ووجوداً، وبعبارة اخری: معناها هو الربط بالحمل الشایع.
إن قلت: علی هذا کیف تکون عملیّة الوضع فیها مع عدم إمکان استحضار المحکیّات بنفسها فی الذهن؛ لعدم حضور ما فی العین بنفسه وهویّته فیه؛ لأنّه لا هویّة لها مستقلّة ولا ماهیّة لها بحیالها کی تحضر تلک المحکیّات بماهیّاتها فیه؟!
قلت: ینتزع العقل فی مثل کلمة «من» و «إلی» عنون «الإبتداء» الرابط الآلی و«الإنتهاء» الرابط الآلی - وهما آلیّان رابطان بالحمل الأوّلی، واستقلالیّان بالحمل الشایع - اللذین یحکیان عمّا هو ربط محض وآلة محضة فی الخارج ویشیران إلیه بنحو من الحکایة والإشارة.
والحاصل: الإستحضار فی الذهن إنّما یکون بمعونة العناوین الإسمیّة الإنتزاعیّة کعنوان الإبتداء الآلی فی مثل کلمة «من» والإنتهاء الآلی فی مثل کلمة «إلی»، لا بمعونة الجامع الذاتی؛ إذ لا ذات مستقلّة لتلک الروابط حتّی یکون لها جامع ذاتی، بل هی امور نسبیّة وجودها وثبوتها فی الخارج إنّما یکون بوجود طرفیها فیتوصّل إلی ذلک بواسطة الجامع العنوانی (2)(3).
ص:38
إن قلت: هذه - أی عدم الکلیّة والجزئیّة والعموم والخصوص... - أحکام له فی نفسه أی للمعنی الحرفی بما هو موضوع له.
قلت: هذه أحکام سلبیّة لا تقتضی وجود الموضوع وکما أنّه من تنقیحنا للمطلب ضمن مقامین یتبیّن ما فی الکفایة، حیث لم یتعرّض فیها للمقام الأوّل، بل أورد الکلام فی المقام الثانی فقط. کما یتبیّن مافی قول صاحب الفصول رحمه الله من کون المعنی فی «سر من البصرة...» جزئیّاً إضافیّاً.
القسم الثانی: الحروف الإیجادیّة:
وههنا قسم آخر من الحروف معانیها إیجادیّة لا حکائیّة، وهذه لیس لها واقع وراء اللفظ کی تطابقه تارةً ولا تطابقه اخری، بل هذه الحروف توجد وتُنشأ معانیها حال التکلّم بها، کحروف النداء والتنبیه والتحضیض والتأکید والقَسَم والردع (1).
فلولا قول القائل: «یا زید» أو قوله: «یا کوکباً ما کان أقصر عمره» وأمثال ذلک لم یحصل النداء، کما أنّه لا قسم فی الخارج لا فی الماضی ولا فی الحال ولا فی الإستقبال لولا قوله تعالی: «تاللّه لأکیدنّ أصنامکم» وأمثاله. فإذن لا واقع لهما ولا لغیرهما محفوظاً کی تحکی عنه هذه الحروف، وهذا واضح.
إلّاأنّ المحقّق الکبیر العراقی قدس سره - بعد أن ذکر التفصیل فی المعانی الحرفیّة وتقسیمها إلی الحکائیّة والإیجادیّة - أورد علی الإیجادیّة بوجوه ثلاثة:
الأوّل: أنّ معنی اللفظ ومدلوله بالذات هو ما یحضر فی الذهن عند سماع اللفظ الموضوع له أو حین تصوّره، والموجود الخارجی لا یعقل حضوره فی الذهن؛ ولذا قلنا بکون الخارج مدلولاً علیه بالعرض؛ لفناء ما فی الذهن - وهو المدلول علیه بالذات - فیه.
الثانی: هذا الموجود الخارجی المسمّی بالنداء أو التشبیه یکون نداءً أو تشبیهاً
ص:41
بالحمل الشایع لا یتحقّق إلّابنفس الإستعمال، فیکون متأخّراً عنه إمّا بالطبع أو بالمعلولیّة، ومن المعلوم تقدّم المستعمل فیه علی الإستعمال بالطبع، والمفروض أنّ هذا الوجود الناشیء من قبل الإستعمال هو المستعمل فیه، فیلزم تقدّمه علی الإستعمال وتأخّره عنه فی زمان واحد، وهذا محال بالضرورة.
الثالث: لا شبهة فی استعمال أدوات النداء والتشبیه والتمنّی والترجّی والطلب ونحوها فی غیر ما یکون نداءً أو تشبیهاً أو غیرهما بالحمل الشایع، بل تستعمل هذه الأدوات بداعی التشویق أو السخریة أو التودّد أو الحنین أو التوجّه أو التحیّر أو التهدید وغیرها فی الدواعی الاُخری کما هو مذکور فی محلّه، ولا ریب فی أنّ الموجود بهذا الإستعمال لا یکون بالحمل الشایع فرداً فی أفراد معنی من معانی هذه الأدوات، فالإستعمال بداعی التشویق مثل «أیا حیلی نعمان»، أو التوجّه مثل «یا کوکباً ما کان أقصر عمره» لا یکون نداءً بالحمل الشایع، بل یکون تشوّقاً أو توجّداً بهذا الحمل...
فإلإستعمالات فی هذه الموارد إنّما تکون بدواع غیر إفادة ما وضعت الأدوات له، فإّما یکون إستعمال هذه الأدوات فی المعانی المزبورة بنحو المجاز وضرب فی العنایة وهذا لا یقول به المفصّل، أو یکون استعمالها فی هذه الموارد فی معانیها حقیقةً ولکن بداعی أحد الاُمور المزبورة من التشویق والتوجّد وغیرهما، فیلزم أن یکون معانیها غیر ما یوجد بها حتّی فیما استعملت بداعی إفادة ما وضعت له، وهو المطلوب (1).
ویمکن الجواب عن الإشکال الأوّل والثانی بوجه مشترک وهو أنّه: لیس معنی الألفاظ الإیجادیّة هو الفرد الموجود فی الخارج من النداء والقسم وغیرهما کی یرد علیه الإشکالان الأوّل والثانی، بل هذه الألفاظ والحروف الإیجادیّة وضعت لإیجاد النداء أو القسم مثلاً، لا للقسم الموجود أو النداء الموجود، وهذا مثل لفظة «بعت» حیث وضعت لإنشاء البیع وإیجاد علقة الملکیّة، لا الملکیّة الموجودة فی عالم الإعتبار، وهکذا الزوجیّة، فلفظة «أنکحت» لم توضع للزوجیّة الموجودة المنشأة فی عالم
ص:42
الإعتبار، بل وضعت لإنشائها وإیجادها، فإشکال المحقّق العراقی منتفٍ رأساً؛ إذ النسبة نسبة العلّة والمعلول والعلّة مقترن زماناً مع المعلول ومتقدّمة علیه رتبةً، فالإستعمال لیس فی الإیجاد بل الإستعمال للإیجاد، فالإیجاد لا یکون مستعملاً فیه، وکذا الموجود المنشأ لا یکون مستعملاً فیه؛ بل هو موجود بسبب إستعمال الحروف الإیجادیّة.
وعلیه: فالإخطار فیها - أی فی الحروف الإیجادیّة - إنّما یکون بملاحظة أنّ سماعها أو تصوّرها یوجب حظور معنی الإیجاد فی الذهن، هذا.
وقد أورد فی التهذیب (1) علی خصوص الإشکال الثانی بأنّه لا دلیل علی لزوم تقدّم المستعمل فیه علی الإستعمال وإن کانت لفظة «فی» فی المستعمل فیه توهّم ذلک؛ وذلک لإنتفاء ملاک التقدّم حتّی فی الحاکیات من الحروف؛ إذ التقدّم والتأخّر لا یکونان بجزافیّین بل یکونان بملاک، وأقسامهما تسعة من التقدّم والتأخّر بالرتبة الوضعیّة الإعتباریّة کالإمام والمأموم، والطبیعیّة کتقدّم کلّ جنس علی نوعه فی ترتّب الأجناس والأنواع لو کان المبدأ المفروض هو الجنس العالی، وکتقدّم کلّ نوع علی جنسه إن کان المبدأ هو النوع السافل، ومن التقدّم والتأخّر بالشرف، بالزمان، بالعلیّة، بالطبع، بالتجوهر... وبالدهر، بالحقیقة والمجاز، بالحقّ، وهذا کما فی الأسفار... (2).
فملاک التقدّم والتأخّر منتف فی الإستعمال والمستعمل فیه، والتقدّم فی بعض الموارد أمر اتّفاقی لا طبیعی، ومن یقول بإیجادیّة بعض الحروف والألفاظ ینکر لزوم التقدّم.
وبالجملة: الألفاظ إمّا حاکیات عن الواقع المقرّر فی موطنه فی زمن الماضی أو الحال أو الإستقبال، أو موجودات للمعانی فی الوعاء المناسب لها، والکلّ - من الحاکیات والموجودات - إحظاریّة موجبة لحظور معانیها فی الذهن، ولا دلیل أزید من ذلک ولا سند علی لزوم تقدّم المستعمل فیه علی الإستعمال لو لم نقل بوجود الدلیل
ص:43
علی خلافه.
أقول تأییداً لما فی التهذیب: إنّ الإستعمال لو کان عبارة عن جعل العَلَم والعلامة - أی جعل اللفظ علماً ونصبه علامة - لصحّ ما قاله وکان اللازم تقدّم المعنی المستعمل فیه علی الإستعمال، لکنّ الصحیح أنّ الإستعمال عبارة عن جعل اللفظ عاملاً وآلة فی خدمة المعنی ووسیلةً لأجل المعنی، وعلیه لا یلزم التقدّم؛ وذلک لأنّ اللفظ عامل یستخدم إمّا للحکایة عن المعنی أو لإنشائه وإیجاده، وعلی الحکایة یلزم التقدّم، وأمّا علی الإیجاد فلا، إذ هو آلة لإیجاد المعنی وإنشائه وإخراجه من کتم العدم إلی حیّز الوجود، فلا تقدّم للمعنی، بل الأمر بالعکس حیث إنّ اللفظ آلة للإیجاد حسب الفرض.
وأمّا الإشکال الثالث فقد اورد علیه بأنّ من المحقّق عند العارف بأسالیب الکلام ومحاسن الجمل أنّ المجاز لیس إلّاإستعمال اللفظ فیما وضع له بدواع عقلائیّة من السخریة والمبالغة والتشویق حتّی فی مثل إطلاق لفظ الأسد علی الجبان ویوسف علی قبیح المنظر وأمثالهما، ولولا ذلک لصار الکلام مبتذلاً خالیاً عن الحسن واللطافة؛ ففی مثل «یا کوکباً ما کان أقصر عمره» قد استعمل حرف النداء فی معناه وهو إیجاد فرد من النداء لکن بداعی التحزّن والتحسّر، فهذا وأمثاله من المجازات قد استعمل اللفظ فیها فی معناه الحقیقی لکن بداعی التجاوز منه إلی غیره، ولطافة الکلام لا تتأتّی إلّا بذلک، ولا یفترق الحال بین هذا المورد وبقیّة الموارد، فالأمر مثلاً یستعمل فی معناه دائماً لکن بدواع مختلفة، وهکذا الإستفهام ونحوهما، وربمّا یختلط الأمر علی بعض الاُدباء فیضعون الدواعی موضع المعانی (1)(2)(3).
ص:44
الکلام فی المبهمات من الضمائر والموصولات وأسماء الإشارة:
وهذا البحث أیضاً صغروی کسابقه، وفی المقام أقوال نشیر إلی بعضها:
الأوّل: قول المحقّق الکبیر البروجردی قدس سره من أنّ الموضوع له نفس حیثیّة الإشارة.
الثانی: قول الإمام الخمینی قدس سره فی التهذیب من التفصیل بین الضمائر وغیرها.
الثالث: القول المختار (1).
ص:45
الأوّل: قول البروجردی قدس سره : وهو أنّه ینقسم اللفظ بحسب أنواع المعانی وأنحاء الإستعمالات إلی خمسة أقسام؛ لأنّ إستعمال المتکلّم للّفظ وطلبه لعمله فی المعنی (1) علی قسمین:
القسم الأوّل: أن یکون بنحو الإعلام والإفهام، وهذا یکون فیما کان للمعنی - مع قطع النظر عن هذا الإستعمال الخاصّ - نفس أمریّةٍ ما، فیراد إفهام المخاطب إیّاه بالإستعمال؛ کی یتصوّره أو یصدّق به ویذعن بوقوعه.
القسم الثانی: أن یکون بنحو الإیجاد، فیکون صدور اللفظ عن اللافظ آلة لإیجاد المعنی، وهذا یکون فیما إذا کان المعنی من الاُمور الإعتباریّة التی أمر إیجادها بید المتکلّم، وهنا لیس المقصود إفهام المخاطب، بل المراد هو الإیجاد والإصدار.
والقسم الأوّل أعنی ما یکون بنحو الإفهام والإعلام علی قسمین:
1 - أن یکون من المعانی المستقلّة مثل: «الرجل» «الضرب» ونحوهما، وتسمّی بالمفاهیم الإسمیّة، والأسماء وضعت بإزائها، فیکون عمل اللفظ فیها عملاً إفهامیّاً تصوریّاً؛ حیث إنّ مقصود المتکلّم من ذکر اللفظ أن یفهم المخاطب معناه ویتصوّره بنحو الإستقلال.
2 - أن یکون من المفاهیم الرابطیّة الإندکاکیّة، کالمعانی الحرفیّة والنسب الإضافیّة والإیقاعیّة، وهذه المفاهیم قد وضعت بإزائها ألفاظ الحروف والهیئات.
والقسم الثانی من هذین القسمین ینقسم إلی قسمین:
ص:46
أ - أن یکون بنحو الإعلام والإفهام التصوّری، فالمتکلّم بإستعمال اللفظ یلقی المعنی الإندکاکی إلی المخاطب لیتصورّه مندکّاً فی الطرفین؛ کالمعانی الحرفیّة التی یتحقّق بها الإرتباط بین المعانی الإسمیّة من دون کونها متعلّقة للتصدیق؛ مثل الربط الإبتدائی الرّابط بین السیر والبصرة والإنتهائی بین السیر والکوفة، وکالنسبة الإضافیّة غیر التامّة بین المضاف والمضاف إلیه فی نحو «سیری» أو «سیر زید».
ب - أن تکون بنحو الإعلام والإفهام التصدیقی، فالمقصود الإعلام والإفهام کی یصدّق المخاطب بوقوعه، کالنسبة التامّة بین الفعل والفاعل، وبین المبتدأ والخبر؛ فإنّها معنی إندکاکی وضع بإزائه هیئة الجملة، والمقصود من إلقائه إلی المخاطب أن یصدّق بوقوعه.
والقسم الثانی - أعنی ما یکون بنحو الإیجاد علی نحوین:
1 - ما لا یکون معنی فانیاً ومندکّاً فی غیره، مثل الطلب الموجَد بمثل «اضرب»، ومثل جمیع مضامین العقود والإیقاعات الموجَدَة بسبب صیغها فی عالم الإعتبار.
2 - ما یکون معنی فانیاً فی غیره ومندکّاً فیه، مثل حقیقة الإشارة الموجَدَة بأسمائها والضمائر والموصولات؛ إذ المبهمات کلّها من وادٍ واحد وضعت لأن یوجد بها الإشارة، فالموضوع له نفس حیثیّة الإشارة، وهو معنی اندکاکی وامتداد موهوم متوسّط بین المشیر والمشار إلیه، وعمل اللفظ فیه عمل إنشائی لا حکائی إفهامی، فقولک: «هذا» بمنزلة توجیه الإصبع الذی توجه به الإشارة ویکون آلة لإیجادها.
وما قیل - من أنّ «هذا» موضوع لمفرد مذکّر مشار إلیه - فاسد جدّاً، إذ لم یوضع لمفهوم المشار إلیه ولا لذاته الخارجیّة الواقعة فی طرف الإمتداد الموهوم؛ إذ لولا «هذا» لما کان لدینا إشارة حتّی یصیر المفرد المذکّر مشاراً إلیه ویستعمل فیه «هذا»، فلفظ «هذا» وضع لنفس الإشارة، وعمل اللفظ فیها عمل إیجادی، ولم یوضع للمشار إلیه، قال فی الألفیّة: بذا لمفرد مذکّر أشر... الخ، وقوله هذا ظاهر فیما ذکرنا لا
ص:47
فیما ذکروا.
إن قلت: کیف تجعل کلمة «هذا» ونحوها مبتدأ وغیره، والمعانی الحرفیّة الإندکاکیّة لا تجعل ألفاظها وکلماتها محکوماً علیها وبها؟!
قلت: ذلک لکون حقیقة الإشارة معنی إندکاکیّاً فانیاً فی المشار إلیه، فکأنّها هو بحیث ینتقل الذهن من کلمة «هذا» إلی المشار إلیه، ویترتّب علی هذا اللفظ - لفظ هذا - ما یترتّب علی اللفظ الموضوع للمشار إلیه، فیقال: «هذا قائم» کما یقال: «زید قائم» (1).
وهکذا الضمائر والموصولات حیث یشار بضمیر المتکلّم إلی نفس المتکلّم، وبضمیر المخاطب إلی نفس المخاطب، وبضمیر الغائب إلی المرجع المتقدّم ذکره، فیوجد بسببها فی وعاء الإعتبار امتداد موهوم بین المتکلّم ونفسه، أو بینه وبین المخاطب، أو بینه وبین ما تقدّم ذکره، ویشار بالموصول إلی ما هو معروض الصلة.
ثمّ قال قدس سره : والحاصل: وضع المبهمات بالبرهان بإزاء الإشارة لیوجد بها الإشارة إلی امور متعیّنة فی حدّ ذاتها خارجیّاً وهو الأغلب، أو ذکریّاً «فی ضمیر الغائب»، أو وصفیّاً کما فی الموصولات؛ حیث یشار بها إلی ما یصدق علیه مضمون الصلة وعمومها یکون بعموم الصلة (2)(3).
ونتیجة کلّ البحث: أنّ الحیثیّات مختلفة؛ فبعضها یرجع إلی الإختلاف الذاتی بین المعانی ویکون من شؤون تباینها وتمایزها ذاتاً وجوهراً کالإستقلالیّة والآلیّة فإنّهما تجعلان المعانی علی سنخین، ثمّ وضع بعض الألفاظ بإزاء المعانی المستقلّة وبعضها الآخر بإزاء المعانی الربطیّة الإندکاکیّة، فالإستقلال فی جوهر المعنی ذاته والربطیّة کذلک، وبعض الحیثیّات یرجع إلی کیفیّة الإستعمال ویکون من شؤونه
ص:48
کالإفهامیّة والإنشائیّة والتصوریّة والتصدیقیّة، فهذه لم تؤخذ فی الموضوع له، بل هی أنحاء عمل اللفظ فی المعنی، نعم لاحظها الواضع حین وضعه؛ لأنّ غرض الواضع سدّ الحاجات، فلاحظ أنّ الناس قد یریدون إفهام المعنی وقد یریدون إیجاده، والإفهام تارة یکون بداعی التصوّر واُخری بداعی التصدیق؛ ولذا وسّع دائرة الوضع فوضع بعض الألفاظ لبعض المعانی کی یستعمل فیها بنحو الإیجاد، وبعضها بنحو الإفهام التصوّری أو التصدیقی (1).
فلفظ «هذا» لم یوضع بإزاء إیجاد الإنشاء، بل وضح لحیثیّة الإشارة، وحیثیّة الإیجاد من شؤون الإستعمال، غایة الأمر هی ملحوظة حال الوضع... (2).
بنحو الإعلام التّصوری کالمعانی الحرفیّة
من المفاهیم الرابطیة
بنحو الإعلام بنحو الإعلام التصدیقی کالنسبة التامّة
استعمال والافهام من المعانی المستقلة کالرجل والضرب
اللفظ مالایکون فانیاً فی غیره ک «إضرب»
بنحو الایجاد
ما یکون فانیاً ومندکاً فی غیره کالمبهمات (والموضوع له فیها نفس حیثیة الإشارة)
الثانی: قول الإمام الخمینی قدس سره :
فی التهذیب قال ما حاصله: إنّ «هذا» لم یوضع للمشار إلیه «المفرد المذکّر وغیره فی الأشخاص أو الأشیاء» کما قال به الاُدباء، وضمائر الغیبة أیضاً، بل المبهمات کلّها موضوعة لنفس الإشارة - أعنی إیجادها - إمّا إلی الحاضر أو الغائب، فتمام
ص:49
الموضوع له نفس الإشارة بلا إندراج المشار إلیه فی المعنی أصلاً، وإحضار المشار إلیه فی ذهن السامع تبعی کالإحضار بإشارة الأخرس، نعم الشارة إلی الحاضر متوقّفة علی حضوره حقیقة أو حکماً، کتوقّف الإشارة إلی الغائب علی کونه معهوداً أو مذکوراً من قبل، فالمبهمات کلّها منسلکة فی باب الحروف، ومفاهیمها حرفیّة غیر مستقلّة ماهیّة وهویّةً.
والدلیل علی هذا العرف أوّلاً، ووجدان عدم الفرق ثانیاً بین الإشارتین بالإصبع وباسم الإشارة، بل ربمّا یقوم أحدهما مقام الآخر عند التمکّن أو عدمه کإشارة الأخرس... (1).
ثمّ قال: ألفاظ الموصولات لا تفترق عن الإشارة وأخواتها ظاهراً؛ فهی موضوعة لنفس الإشارة أی لإیجاده.
ثمّ قال: ضمائر الخطاب والتکلّم موضوعة لشخص المتکلّم بهویّته المعیّنة، وللمخاطب کذلک، لا للإشارة انظر إلی مرادفاتها (2)(3).
وفیه: أنّ ضمائر الخطاب والتکلّم أیضاً موضوعة للإشارة... إلّاأنّ ضمائر الغیبة إشارة إلی الغائب، والخطاب إشارة إلی المخاطب، والتکلّم إلی المتکلّم، نظیر توجیه الإصبع إلی المخاطب أو المتکلّم بلا فرق.
الثالث: القول المختار:
ص:50
ویقع البحث هنا فی هیئة الجمل التامّة والناقصة والإخباریّة والإنشائیّة والفرق بینهما:
فنقول: الجملة تنقسم إلی قسمین:
الأوّل: الجملّة التامّة: وهی ما یصح السکوت علیها، وهی تنقسم إلی ضربین أیضاً:
1 - الجملة الإخباریّة، وهی ما یحتمل الصدق والکذب.
2 - الجملة الإنشائیّة، وهی ما لا یحتمل الصدق والکذب.
الثانی: الجملة الناقصة: وهی ما لا یصح السکوت علیه، وحکمها حکم المفردات ولذا تکون حکایة هیئتها حکایة تصوریّة ولهذا لا تتصف بالصدق والکذب.
والأوضح أن یقال: إنّ هیئة الجمل التامّة حاکیة عن تحقّق شیء أو لا تحقّقه فی الهلیّات البسطیة، أو عن کون شیء شیئاً أو لا کونه کذلک فی الهلیّات المرکّبة، وهذه حکایة تصدیقیّة (1).
وهیئة الجمل الناقصة ک «غلام زید» و «زید العالم» تدلّ علی نفس الربط والإضافة لا علی تحقّقها، وعلی الهوهویّة التصوریّة لا علی ثبوتها فی الخارج، فالمحکی بالحکایة التصوریّة فی الناقصة تارة هو الهوهویّة التصوریّة کما فی الوصف والموصوف مثل «زید العالم» ولذا یصحّ الحمل، فیقال: «زید عالم» فتنعقد القضیّة بلا تخلّل الأداة، واُخری هو الإضافة والإنتساب کما فی المضاف والمضاف إلیه مثل «غلام زید» ولا یصحّ الحمل إلّابتخلّل الأداة مثل «زید له الغلام».
ص:51
هیئة الإخبار والإنشاء:
ویقع البحث هنا فی مقامین: الأوّل فی الإنشاء، والثانی فی الإخبار، وهذا البحث أیضاً صغروی، وهنا أقوال نشیر إلی المختار منها (1)(2).
المقام الأوّل: فی الإنشاء:
الجمل الإنشائیّة علی قسمین:
الأوّل: الجمل الإنشائیّة فی أبواب الأمر والنهی، فالکلام فی مدلول هیئاتها یقرّر فی محلّها.
الثانی: الجمل الإنشائیّة فی أبواب العقود والإیقاعات، والهیئات فیه آلات لإیجاد أمر (3) من الإعتباریّات التی یحتاج إلیها الإنسان ک «بعت» لإنشاء حقیقة البیع، کما أنّ الخبری من هذه الکلمة یحکی عن هذا الإیجاد، والمنشأ الموجَد یختلف فی الإنشائیّات فهو علی أقسام:
1 - أن یقصد إیجاد الهوهویّة فی عالم الإعتبار لعدم الهوهویّة واقعاً وخارجاً،
ص:52
فالهوهویّة إمّا حقیقیّة غیر جعلیّة أو جعلیّة اعتباریّة نحو «أنت حرّ» و«أنت طالق» و«أنا ضامن»، فالموضع یصیر مصداقاً للمحمول اعتباراً بعد تمام الکلام ویترتّب علیه الآثار، ففی أمثال المقام ینشیء الهوهویّة کالهوهویّة فی الإخبار، وإنشاء هذه الهوهویّة هو إنشاء الحریّة والفراق والضمان.
2 - أن یقصد إیجاد الکون الرابط بناءً علی القول بالکون الرابط فی القضایا غیر المؤوّلة، نحو: «من ردّ ضالّتی فله هذا الدینار أو الدرهم» فینشیء کون الدینار للرادّ.
فیمکن أن یقال بإنشاء الملکیّة أو إنشاء الجعالة کالبیع والإجارة أو کون شیء علی العهدة.
3 - ینشیء ماهیّة ذات إضافة کالبیع والإجارة.
4 - ینشیء کون شیء علی العهدة کما فی النذر والعهد، وهذه هی الکون الرابط ظاهراً، أو هو إنشاء لعنوان العهد والنذر ومثلهما الیمین (1).
المقام الثانی: فی الإخبار:
وهذا البحث مقدّمة لتبیین الفرق بین الخبر والإنشاء، فنقول:
ههنا امور أربعة قد تسالم علیها القوم:
الأوّل: أنّ الفرق بین الإنشاء والإخبار هو أنّ للثانی نسبة فی الخارج والذهن، وهما تارة یتطابقان واُخری یختلفان، بخلاف الإنشاء.
الثانی: ما هو المعروف والدائر بینهم من أنّ العلم إن کان إذعاناً بالنسبة فتصدیق وإلّا فتصوّر.
الثالث: ما یقال من تقوّم القضایا بأجزاء ثلاثة: من النسبة والموضوع والمحمول.
الرابع: تفسیر الصدق والکذب بمطابقة النسبة للواقع وعدمه.
ص:53
وفی جمیع هذه الاُمور نظر، وقبل الخوض فی بیان النظر فیها نذکر أقسام القاضایا، فالقضایا تنقسم قسمین:
1 - موجبة. 2 - سالبة.
والموجبة تنقسم إلی: غیر المؤوّلة والمؤوّلة.
وغیر المؤوّلة تنقسم إلی: الحملیّة بالحمل الأوّلی. والحملیّة بالحمل الشایع.
وکل قضیّة أیضاً تنقسم إلی ثلاثة أقسام:
1 - قضیّة لفظیّة. 2 - قضیّة معقولة. 3 - قضیّة خارجیّة.
فنقول: أمّا القسم الأوّل - أعنی القضایا الموجبة غیر المؤوّلة التی یکون الحمل فیها حملاً أولیّاً ذاتیّاً - فهی القضایا التی یتحد فیها الموضوع والمحمول وجوداً وماهیّة ومفهوماً، مثل «الإنسان إنسان».
والحق خلوّ صفحة الوجود عن النسبة والربط والإضافة فی موردها؛ لبداهة امتناع النسبة فی محکی الأولیّات والبسائط بحسب نفس الأمر؛ فإنّ الحدّ عین المحدود وتفصیل لنفس حقیقته، فلا یمکن فرض إضافة واقعیّة بینهما فی وعاء تقرّر الماهیّة، وکذا الحال فی الهلیّات البسیطة مثل «زید موجود» فإنّه لا یعقل تحقّق الإضافة بین موضوعها ومحمولها؛ وإلّا یلزم زیادة الوجود علی الماهیّة فی الخارج وغیر ذلک من المحاذیر، کما أنّه لا یعقل ذلک فی حمل الشیء علی نفسه أو حمله علی مصداقه الذاتی.
هذا حال القضایا إذا لوحظت باعتبار الخارج، وأمّا القضایا اللفظیّة والمعقولة فلا شکّ فی کونها مطابقة للخارج؛ فلا تحکی إلّاعمّا اشتملت علیه صفحة الوجود بلا زیادة ولا نقصان؛ لأنّه لا معنی لإشتمالها علی الإضافة والنسبة بلا حکایة عن الخارج.
وأمّا القسم الثانی - أعنی القضایا الموجبة غیر المؤوّلة التی یکون الحمل فیها حملاً شایعاً صناعیّاً - فهی القضایا التی یتحّد فیها الموضوع والمحمول وجوداً فقط، مثل «زید أبیض» أو «البیاض أبیض».
والمختار فیها أنّها أیضاً لا تدلّ إلّاعلی الهوهویّة التی هی المقصودة للمتکلّم
ص:54
والقضیّة الحاکیة عنها.
وأمّا القسم الثالث - أی القضایا الموجبة المؤوّلة - فهی القضایا التی تتخلّل فیها الأداة نحو قولنا: «زید فی الدار»، وهی لیست حملیّات حقیقیّة ولذلک تتأوّل بکائن أو حاصل.
ودلالتها لفظاً علی النسبة الخارجیّة ممّا لا إشکال فیه، کما أنّ الإضافات لها نحو تحقّق فی الخارج؛ إذ هی - بشهادة التبادر - تحکی عن النسبة بین الأشیاء بعضها مع البعض، ولفظة «فی» وما أشبهها تدلّ علی نحو إضافة وحصول بینهما.
وأمّا القسم الرابع - أی السالبة - فإنّها عند المحقّقین لیست لحمل السلب أو حمل هو السلب، بل لسلب الحمل ونفی الهوهویّة بنحو التصدیق فی الحملیّات غیر المؤوّلة کقولنا: «زید لیس حجراً» ولسلب الحصول ونفی النسبة والکینونة تصدیقاً فی المؤوّلة منها نحو «زید لیس فی الدار»، فالحملیّات الحقیقیّة السالبة لا تشتمل علی النسبة مطلقاً، والمؤوّلة منها یؤخذ اللفظ الدالّ علی النسبة فیها لإیقاع السلب علیها.
والحاصل: الهیئة فی الحملیّات الموجبة غیر المؤوّلة وضعت للدلالة علی الهوهویّة التصدیقیّة مقابل الهوهویّة التصوریّة التی تکون فی المرکبات الناقصة، ومفادها أنّ المحمول عین الموضوع خارجاً، کما أنّ الهیئة فی المؤوّلة وضعت لتدلّ علی تحقّق النسبة دلالة تصدیقیّة، فهی تشتمل علی التصدیق لا محالة علی اختلاف فی المتعلّق من الهوهویّة أو ثبوت النسبة ومضیّ الحال فی السالبة.
وعلی هذا فالحملیّات بأجمعها عاریة عن النسبة فی جمیع أقسامها سواء کانت لفظیّة أم معقولة أم خارجیّة (1)(2).
ص:55
ومِن تحقیق ما سبق ظهر ضعف ما یقال من:
اوّلاً: أنّ مدلول الهیئة هو ربط العرض بموضوعه وأنّ ذلک هو المعبّر عنه بالوجود الرابط، کما ذکره المحقق العراقی رحمه الله وقد مضی کلامه.
ثانیاً: أنّ الفرق بین الإخبار والإنشاء هو أنّ للإخبار نسبة فی الخارج والذهن قد یتطابقان وقد لا یتطابقان بخلاف الإنشاء.
الفرق بین الإخبار والإنشاء:
فظهر ممّا ذکرنا الفرق بین الإخبار والإنشاء فی نواح:
1 - هیئة الإخبار هی للحکایة عن الهوهویّة التصدیقیّة (فی الهلیّات المرکّبة) وللحکایة عن تحقّق الشیِ (فی الهلیّات البسیطة) بخلاف هیئة الإنشاء؛ فإنّها لإیجاد أمر من الإعتباریّات التی یحتاج إلیها الإنسان.
2 - الجمل الإخباریّة تحتمل الصدق والکذب بخلاف الإنشاء (1).
ص:56
وفیه بحوث:
الأوّل: هل المجاز إستعمال اللفظ فی غیر ما وضع له أو لا؟
الثانی: هل المجاز بالطبع أو بالوضع؟
الثالث: هل یحتاج استعمال المجاز إلی الترخیص من الواضع أو لا؟
الرابع: هل العلائق المعتبرة فی المجاز تحتاج إلی وضع شخصی أو یکفی الوضع النوعی؟
البحث الأوّل: هل المجاز استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له أو لا؟
یقع البحث فی مقامین (1):
المقام الأوّل: المجازات المفردة.
المقام الثانی: المجازات المرکّبة.
المقام الأوّل: المجازات المفردة: فیه أقوال:
أوّلها: القول المشهور: المجاز استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له.
ثانیها: قول السکّاکی: التفصیل بین الإستعارة وغیرها.
ص:57
ثالثها: قول صاحب وقایة الأذهان: المجاز استعمال اللفظ فی الموضوع له (1).
أوّلها: القول المشهور:
المجاز عند الاُدباء، استعمال اللفظ فی غیر الموضوع له، وإرادته بقرینة صارفة مع اعتبار علاقة (2)، وهذا القول هو الذی یظهر من الکفایة (3).
ثانیها: قول السکّاکی:
لقد فصّل السکّاکی بین الإستعارة وغیرها من المجازات، وخالف بذلک الاُدباء فی خصوص الإستعارة (4) لا فی جمیع المجازات، فقال بکونها حقیقة لغویّة، والتصرّف یکون فی أمر عقلی، أی جعل ما لیس بفرد فرداً (5).
ودلیله: لولا هذا لما صحّ التعجّب فی قول الشاعر: قامت تُظلّلنی ومن عجب شمسٌ تُظلّلُنی من الشمس
إذ لا تعجب فی أن یظلل إنسان حَسِن الوجه إنساناً آخر، ولمّا صحّ - أیضاً - النهی عن التعجّب فی قول الشاعر: لا تعجبوا من بلی غِلالته قد زرّ أزراره علی القمر
الإعتراضات:
أوّلاً: قد یقال بابتناء التعجّب فی الأوّل والنهی عنه فی الثانی علی نسیان التشبیه، ووجه النسیان إداء حقّ المبالغة، فهذا التناسی لأداء حقّ المبالغة مصحّح للتعجّب والنهی عنه.
ص:58
وفیه: أنّ الإدّعاء وجعل ما لیس بفرد فرداً، فهو المصحّح للتناسی؛ إذ الحقّ المبالغة إدّعاء فردیّة ما لیس بفرد، ولذا یوجّه نسیانه، فهذا الإشکال غیر وارد.
ثانیاً: قد یقال بعدم تمامیّة ذلک فی الأعلام الشخصیّة؛ فلا المراد لما قاله السکّاکی فی مثل: «حاتم» و «مارد»؛ لعدم کلیّة المعنی کی یجعل ما لیس فرداً فرداً له (1).
ثالثاً: قد یقال باشتراکه مع القول المشهور فی کون الإستعمال فی غیر ما وضع له؛ لوضوح أنّ استعمال اللفظ فی المصداق الحقیقی للموضوع له بخصوصه مجاز، فکیف بالفرد الإدّعائی؟ فما ذهب إلیه من أنّ الإدّعاء المزبور یجعله حقیقة لُغویّة، غیر تامّ.
ثمّ إنّک قد عرفت أنّ استعمال اللفظ الموضوع للطبیعة اللابشرط المعرّاة عن کلّ قید فی مصادیقها الواقعیّة مجاز، فضلاً عمّا جعل مصداقاً بالإدّعاء، ولا ینتقض هذا بمثل «زید إنسان» إذ المحمول المستعمل فی الماهیّة المطلقة، لا فی الفرد الخاص، والهیئة الحُکمیّة تفید الإتّحاد والهوهویّة (2).
وفیه: الظاهر لیس مراد السکّاکی استعمال اللفظ فی الفرد الإدّعائی بخصوصه کی یکون مجازاً کما فی الفرد الحقیقیّ، فهو لا یقول بهذا، بل صریح کلامه استعمال اللفظ فی معناه الحقیقیّ، ولذلک یقول بکونه حقیقة لغویّة، مع أنّ مجازیّة استعمال اللفظ الکلّی فی فرد من أفراده بخصوصه أوضح من أن یخفی عنده، فهو یقول بعدم التصرّف فی المعنی وعدم التغییر فی افقه وحریمه أصلاً، بل التصرّف وقع فی أمر عقلی.
وبالجملة: اللفظ الکلّی فی الإستعارة یستعمل فی معناه دائماً لا فی الفرد، والفردیّة من الحقیقیّة الإدعائیّة تفهم من القرینة - من باب تعدد الدال والمدلول - فلا فرق بناءً علی مسلک السکّاکی بین «رأیت أسداً» و «رأیت أسداً یرمی» ففی کلا
ص:59
المثالین استعمل لفظ «أسد» فی معناه الحقیقیّ، وهو الحیوان المفترس، والفرد الحقیقیّ فی الأوّل والإدّعائیّ فی الثانی ارید بمعونة القرینة، فلم یستعمل فی الفرد أصلاً.
ثالثها: قول صاحب وقایة الأذهان - الشیخ محمد رضا الإصفهانی قدس سره -
وهو المختار:
الحقّ استعمال اللفظ فی جمیع المجازات - من الإستعارت، والمرسلات، والمفردات، والمرکّبات، وفی جمیع الکنایات - فی الموضوع له، وهو المراد الإستعمالی، لکنّ المراد الجدّی أمر آخر غیر الموضوع له.
وإن شئت فقل: إنّ الإستعمال المجازی لتطبیق ما هو الموضوع له علی غیره: إمّا بادّعاء الفردیّة وجعله مصداقاً له إدّعاءً کما فی «أسد علی»، وفی نحوه من الکلیّات وأسماء الأجناس، وأمّا بادّعاء العینیّة نحو: «حاتم» و«مارد» من الأعلام الشخصیّة.
هذا ما اختاره القائد الکبیر قدس سره وارتضاه (1)، بعد ما استفاده شفاهاً من العلّامة أبی المجد الشیخ محمد رضا الإصفهانی قدس سره (2).
ثمّ الظاهر عدم الفرق بین هذا المسلک ومسلک السکّاکی إلّافی التعمیم (3)، فعلی کلا المذهبین استعمل اللفظ فی معناه الحقیقیّ واُرید منه ذلک، غایة الأمر طبّق علی ما لیس بفرد حقیقی للتنزیل والإدّعاء فی الکلیّات وأسماء الأجناس؛ فالإرادتان
ص:60
بالنسبة إلی المعنی الحقیقی متطابقتان (1) علی کلا المسلکین، اللّهمّ إلّاأن یقال باستعمال اللفظ علی مسلک السکّاکی فی الفرد الإدّعائی وإرادته منه، فالإرادتان متطابقتان بالنسبة إلیه، وباستعمال اللفظ فی معناه الحقیقی وإرادة غیره جدّاً علی مسلک الإصفهانیّ، وقد عرفت ما هو مراد السکّاکی آنفاً.
فما فی التهذیب من الفرق - بین المسلکین من أنّ المستعمل فیه بالإرادة الإستعمالیّة هو نفس الموضوع له علی رأی شیخنا وإن کان الجدّ علی خلافه، دون ما ذهب إلیه السکّاکی فإنّ المتعلّق للإرادة عنده إستعمالیّة کانت أو جدیّة شیء واحد - فهو مبنی علی ما افید آنفاً، وقد عرفت ما هو مراد السکّاکی.
فحقیقة المجازات: لیست عبارة عن التلاعب بالألفاظ باستعارتها عن معانیها الحقیقیّة لغیرها، بل حُسنها ولطافتها إنّما یکون بالتلاعب بالمعانی بتوسعتها من جهة المصادیق بحیث تسع وتعمّ ما لا تسعه بمقتضی الوضع وبمجرّده، فلا تسعه مفاهیم الألفاظ بحیث تسع وتعمّ ما لا تسعه بمقتضی الوضع وبمجرّده، فلا تسعه مفاهیم الألفاظ ومعانیها إبتداءً بلا عنایة، بل تسعه بعد الإدّعاء، أی إدّعاء الفردیّة والعینیّة.
فقوله تعالی: «إِنْ هَذاَ إِلَّا مَلَکٌ کَرِیم» (2) لیس حُسن هذا المجاز فی استعارة لفظ «ملک» خالیاً ومجرّداً عن معناه لوجود یوسف علیه السلام وجعلها متّحدین فی الإسم، بل اللطافة والحسن فی استعماله فی معناه وادّعاء الإنطباق علیه علیه السلام کما ینطبق علی مصداقه الحقیقیّ، فللمَلَک فردان: حقیقیّ سماویّ وادّعائیّ أرضیّ، وهکذا الأسد فله فردان: فرد حقیقیّ وفرد ادّعائیّ، وفی حاتم ومارد ادّعی العینیّة.
وهکذا الکلام فی المرسل، فإطلاق العین علی الربیئة «دیده بان» یکون من باب الإدّعاء، أی ادّعاء کونه عیناً باصرة بتمام وجوده، فکأنّه عین لا غیر لکمال
ص:61
المراقبة والمحافظة، لا من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الکلّ لعلاقة الکلّ والجزء، فللعین فرادن: حقیقیّ وإدّعائیّ، وکذا إطلاق المیت علی المشرف علی الموت أو علی الجاهل غیر البصیر، وهکذا القریة أو الدار علی أهلها، فکأنّ الأهل هو نفس القریة والدار.
ولعل أمثال هذین من باب الإشتهار - وأنّ القضیّة فی غایة الوضوح وفی مرتبة عالیة من الشهرة بحیث تجیب عنها القریة - قول الشاعر: هذا الذی تعرف البطحاء وطأته والبیت یعرفه والحلّ والحرم
وقوله تعالی: «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِم جَعَلَ السّقَایَةَ فِی رَحْلِ أَخِیهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤذّنٌ أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسارِقُون» (1) والعیر هو قافلة الجمال «کاروان شتر».
والقول: یکون أمثال هذا من المجاز فی الحذف، إخراج للکلام عن الحسن واللطافة کما لا یخفی.
المقام الثانی: فی المجازات المرکّبة:
المجازات المرکّبة - مثل: «أراک تقدّم رِجْلاً وتُؤخّر اخری» - کالمجازات المفردة؛ لعدم استعمال المفردات إلّافی معانیها الحقیقیّة، والمرکّب لا وضع له علی حِده بحیث تکون أجزاؤه من المفردات بمنزلة حروف الهجاء فیها؛ کی یستعمل فی غیر ما وضع له، فهنا أیضاً إدّعاء وتنزیل وجعل ما لیس مقدّم رجله تارة ومؤخّرها اخری حقیقة من أفراد هذا المثل، فکأنّک تدّعی أنّ هذا الشخص المتردّد المتحیّر هو أیضاً یقدّم رجلاً ویؤخّر اخری.
وأمّا البحث الثانی - هل المجاز بالطبع أو بالوضع؟ والثالث - هل المجاز یحتاج إلی الترخیص من الواضع أم لا؟ والرابع - هل العلائق المعتبرة فی المجاز تحتاج إلی وضع شخصی أو یکفی الوضع النوعی؟
فقد قال فی الکفایة: «الثالث: صحّة استعمال اللفظ فیما یناسب ما وضع له، هل
ص:62
هو بالوضع أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان، أظهرها أنّه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الإستعمال فیه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الإستعمال فیما لا یناسبه ولو مع ترخیصه، ولا معنی لصحّته إلّاحسنه» (1).
یظهر من الکفایة ثلاثة امور:
الأوّل: أنّ المجاز استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له، أی فیما یناسب ما وضع له.
الثانی: لا یحتاج المجاز إلی الوضع، بل یکون بالطبع، فالمجوّز هو الطبع لا الوضع.
الثالث: صحّة الإستعمال وحسنه فیما یناسب، تکون بشهادة الوجدان، فالإستعمال حسن ولو من غیر ترخیص، وغیر حسن ولو مع الترخیص.
أقول: وممّا ذکرنا انقدح عدم الحاجة إلی کثیر من المباحث المطروحة فی باب المجاز، مثل: هل یحتاج فیه إلی الترخیص من الواضع أو لا؟ ومثل: هل تحتاج العلائق المعتبرة فیه إلی وضع شخصی أو یکفی الوضع والترخیص النوعی؟ ومثل: هل المجاز بالوضع أو بالطبع؟ إذ المجازات کلّها لا یستعمل اللفظ فیها إلّافی الموضوع له، غایة الأمر هو بالإدّعاء، إمّا بادّعاء الفردیّة کما فی الکلیّات وأسماء الأجناس، أو العینیّة کما فی «حاتم» و «مارد» من أعلام الأشخاص، وإن کان صحّة الإدّعاء وحسن وقوعه أمراً یرجع إلی الذوق السلیم (2).
ص:63
هنا بعد نقل کلام صاحب الکفایة قدس سره ثلاثة مقامات:
المقام الأوّل: فی إطلاق اللفظ وإرادة شخصه.
المقام الثانی: فی إطلاق اللفظ وإرادة مثله.
المقام الثالث: فی إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه.
کلام صاحب الکفایة قدس سره :
قال: «لا شبهة فی صحّة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به، کما إذا قیل: «ضَرَبَ» - مثلاً - فعل ماض، أو صنفه کما إذا قیل: «زید» فی «ضَرَب زیدٌ» فاعل؛ إذا لم یقصد به شخص القول، أو مثله ک- «ضرب» فی المثال فیما إذا قصد.
وقد أشرنا إلی أنّ صحّة الإطلاق کذلک وحسنه، إنّما کان بالطبع لا بالوضع، وإلّا کانت المهملات موضوعة لذلک، لصحّة الإطلاق کذلک فیها، والإلتزام بوضعها کذلک کما تری.
وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه، کما إذا قیل: «زید لفظ» واُرید منه شخص نفسه، ففی صحّته بدون تأویل نظر؛ لإستلزامه اتّحاد الدالّ والمدلول، أو ترکّب القضیّة من جزئین کما فی الفصول (1).
بیان ذلک: أنّه إن اعتبر دلالته علی نفسه - حینئذٍ - لزم الإتّحاد، وإلّا لزم ترکبّه من جزئین؛ لأنّ القضیّة اللفظیّة - علی هذا - إنّما تکون حاکیة عن المحمول والنسبة لا الموضوع، فتکون القضیّة المحکیّة بها مرکّبة من جزئین، مع امتناع الترکّب إلّامن الثلاثة؛ ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبین.
ص:64
(وأجاب عن الإشکال بأنّه) یمکن أن یقال: إنّه یکفی تعدّد الدالّ والمدلول اعتباراً وإن اتّحدا ذاتاً، فمن حیث إنّه لفظ صادر عن لافظه کان دالّاً، ومن حیث إنّ نفسه وشخصه مراده کان مدلولاً، مع أنّ حدیث ترکّب القضیّة من جزئین - لولا اعتبار الدلالة فی البین - إنّما یلزم إذا لم یکن الموضوع نفس شخصه، وإلّا کان أجزاؤها الثلاثة تامّة، وکان المحمول فیها منتسباً إلی شخص اللفظ ونفسه، غایة الأمر أنّه نفس الموضوع، لا الحاکی عنه، فافهم، فإنّه لا یخلو عن دقّة.
وعلی هذا لیس من باب استعمال اللفظ بشیء، بل یمکن أ ن یقال: إنّه لیس أیضاً من هذا الباب ما إذا اطلق اللفظ واُرید به نوعه أو صنفه، فإنّه فرده ومصداقه حقیقة، لا لفظه وذاک معناه کی یکون مستعملاً فیه استعمال اللفظ فی المعنی، فیکون اللفظ نفس الموضوع الملقی إلی المخاطب خارجاً قد احضر فی ذهنه بلا واسطة حاک، وقد حکم علیه ابتداءً بدون واسطة أصلاً، لا لفظه کما لا یخفی، فلا یکون فی البین لفظ قد استعمل فی معنی، بل فرد قد حکم فی القضیّة علیه بما هو مصداق لکلّی اللفظ، لا بما هو خصوص جزئیّته (1).
المقام الأوّل: فی إطلاق اللفظ وإرادة شخصه:
کما إذا قیل: «زید لفظ» واُرید منه شخص نفسه ففی صحّة هذا القسم إشکالات:
الإشکال الأوّل من صاحب الفصول قدس سره : وهو إستلزام اتّحاد الدال والمدلول أو ترکّب القضیّة من جزئین (2). وأجابه الآخوند قدس سره : بتعدّد الدالّ والمدلول اعتباراً، وتمامیّة الأجزاء الثلاثة... کما مضی (3).
الإشکال الثانی من تهذیب الاُصول مع توضیحات منّا: أنّه لیس من باب
ص:65
الإستعمال والدلالة الوضعیّة، وأنّه یفارق المقام، باب الإستعمال، وهو لیس إلّاإیجاد صورة الموضوع وإحداث نقشه فی ذهن السامع لینتقل منها إلی شخص الموضوع، فلیس المقام من باب الدلالة علی نفسه والإستعمال فی نفسه، کالإنتقال من صورة اللفظ المنقوشة علی شیء إلی شخص هذا اللفظ، وهنا أیضاً یکتب وینقش بإطلاق اللفظ وإلقائه صورته ونقشه علی لوح نفس السامع، فینتقل منها إلی شخص ذلک اللفظ الملقی، ففی القرطاس مثلاً یکتب وینقش اللفظ بقلم من الأقلام، وفی لوح النفس وقرطاسیها - تعلم - اللسان آلة الإیجاد، فهناک هی الأقلام وهنا اللسان، والقابل هناک القرطاس وهنا لوح النفس، التی هی أیضاً قرطاس بمعناه العامّ، کالمیزان والصراط ونحوهما.
بیان إیجاد صورة اللفظ فی النفس: أنّه مع صدور الحرف المتصرّمة عن المتکلّم وتمام الکلمة وخروجها عن مقاطع الفمّ وخلاصها منها، یقرع الهواء ویتموّج فی ناحیة الصماخ، فیحصل من تلک الحروف صورة ونقش فی نفس السامع، ومن الواضح جدّاً أنّ هذه الصورة المنقوشة علی لوح النفس لیست عین ما فی الخارج وشخصه، وإلّا لزم الإنقلاب - أی انقلاب ما فی الذهن خارجاً - لأنّ الخارج أمر متصرّم منصرم سیّال لا قرار له ولا بقاء، بخلاف نقش لوح النفس فهو أمر ثابت قارّ.
وعلیه إذا حمل علیه - کحمل لفظ علی زید مثلاً - محمول، یکون من خواصّ هذا اللفظ خارجاً، کلفظ فی مثل «زید لفظ»؛ حیث إنّ اللفظیّة من خواص ما یلقی باللسان. وأمّا المنقوش علی لوح النفس، فلا یطلق علیها لفظ، لأنّه لا ینتقل ذهن السامع من تلک الصورة المنقوشة إلی اللفظ الصادر من المتکلّم.
والحاصل: أنّ ذلک الموجود المتصرّم یوجد فی لوح نفس السامع مع الصورة أوّلاً، وتلک الصورة تحکی عن شخص ذلک المتصرّم ثانیاً، لا مثل حکایة اللفظ عن معناه لعدم الوضع، بل کحکایة صورة الفرس المنقوشة علی الجدار عن الفرس، فاللفظ المتصرّم آلة إیجاد الصورة، والصورة المنقوشة آلة حکایة ذلک المتصرّم.
ص:66
أو فقل: الإنتقال هنا کالحرکة الإنعطافیّة، أی هنا انتقال فقط لا إیجاد أیضاً، إلّا إنّه ینتقل من اللفظ الخارجی إلی صورة اللفظ ونقشه الموجود فی لوح النفس، ومن الصورة إلی ذلک اللفظ الخارجی أیضاً، هذا بخلاف الدلالة والإستعمال، إذ فی الإستعمال ینتقل من اللفظ إلی الصورة، ومنها إلی المعنی، ومنه إلی الخارج، فلا انتقال منها إلی اللفظ.
وإن شئت فقل: الإنتقالات فی الدلالة والإستعمالات طولیّة مترتبة، وفیما نحن فیه دوریّة متعاکسة، کالحرکة الفکریّة، حیث تکون إلی المبادئ ومن المبادئ إلی المراد.
ولا مشاحّة فی إطلاق الدلالة فیما نحن فیه أیضاً، لکنّ لا الوضعیّة الإصطلاحیّة، بل بمعنی جعل اللفظ دالّاً بواسطة إیجاد کاشفه، ومدلولاً فی الآن المتأخّر لإنکشافه بذلک الکاشف الموجود بواسطته.
وأمّا الدلالة الوضعیّة فمستحیلة؛ للزوم إتحاد الدالّ والمدلول، ودفعه بالتعدّد الإعتباری غیر مجدٍ؛ لإنتزاع عنوان الصادریّة وما قاربها فی رتبة متأخّرة عن الإستعمال وبعد صدور اللفظ، فکیف یقع مثل هذا العنوان مصحّحاً للإستعمال الواقع قبله؟! (1) علی أنّه یلزم اجتماع اللحاظین الآلی والإستقلالی فی شیء واحد؛ ضرورة عدم لحاظ الدال إلّاآلیّاً والمدلول إلّاإستقلالیّاً.
الإشکال الثالث: من التهذیب - أیضاً - قال: «وأمّا حمل ذلک علی إلقاء الموضوع فی ذهن السامع، فهو أفسد؛ إذ الموضوع للحکم لیس إلّاالهویّة الخارجیّة، ولا تنال النفس متن الأعیان، ولا یمکن إلقائها فی ذهن السامع (2).
هذا إیراد علی صاحب الکفایة قدس سره حیث قال - بعد إختیار عدم کون الرابع
ص:67
«إطلاق اللفظ وإرادة شخصه» من باب الإستعمال - : «بل یمکن أن یقال: إنّه لیس أیضاً من هذا الباب ما إذا اطلق اللفظ واُرید به نوعه أو صنفه، فإنّه فرده ومصداقه حقیقة لا لفظه وذاک معناه، کی یکون مستعملاً فیه استعمال اللفظ فی المعنی، فیکون اللفظ نفس الموضوع الملقی إلی المخاطب خارجاً قد احضر فی ذهنه بلا وساطة حاکٍ، وقد حکم علیه ابتداءً بدون واسطة أصلاً، لا لفظه کما لا یخفی» (1).
أقول: الإنصاف عدم ورود هذا الإیراد، إذ لیس مراده قدس سره من قوله: «قد احضر فی ذهنه»، هو إحضار نفس الخارج ومتن العین؛ لبداهة إستحالته، بل المراد هو إحضار صورته ونقشه، ولعلّ مراده قدس سره أنّ إلقاء اللفظ موجب لإیجاد صورته وخیاله فی نفس السامع علی ما حقّق، والمراد من قوله: «بلا وساطة حاک» أی بلا حاک ودالّ بدلالة وضعیّة.
المقام الثانی: إطلاق اللفظ وإرادة مثله:
ک- «ضرب» فی - المثال - «ضرب زید» فیما إذا قُصِدَ، أی قصد شخص القول، فهو من باب الاستعمال والدلالة، لا إلقاء الموضوع بنفسه، ففی هذه الصورة لا یُحکَم علی شخص ما تلفّظ به وأوجده متصرّماً، بل علی شیئ آخر وشخص ثانی مثله واقع فی کلامه أو کلام متکلّم آخر. وهذا من باب استعمال اللفظ فی مماثله، ودلالته علیه کدلالة اللفظ علی معناه، غایة الأمر یکون من باب الاستعمال فی غیر ما وضع له (2).
وإن شئت فقل: شخص هذا اللفظ بإلقائه وإیجاده یکون سبباً لإیجاد صورته ونقشه فی ذهن السامع، ثم ینتقل من تلک، الصورة إلی مماثل هذا اللفظ، کما فی الصورة الأولی (3)، والفرق فی الأولی أنّه ینتقل من الصورة ثانیاً إلی شخص اللفظ، وهنا إلی
ص:68
مثله، کالإنتقال من صور وخیال اللفظ إلی معناه، کما فی الدلالات والاستعمالات - أی الانتقالات مترتبة لامتعاکشه منعکشه - وعلیه فهذا القسم أیضاً لا یکون من باب الدلالة الوضعیّة، نعم لا مشاحّة فی إطلاق الدلالة علیه بالمعنی المتقدّم فی الأوّل (1).
المقام الثالث: إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه:
قال فی الکفایة: «لا شبهة فی صحّة إطلاق اللفظ وإرادة نوعه به، کما إذا قیل «ضَرَب» مثلاً فعل ماضٍ، أو صنفه کما إذا قیل: «زید» فی «ضَرَب زیدٌ» فاعل إذا لم یقصد به شخص القول» (2).
فقد یقال: بکونه من قبیل إلقاء الموضوع بنفسه أیضاً؛ لغفلة السامع بعد سماعه عن التشخّص کلّه زماناً أو مکاناً أو غیرهما، فهو من باب إیجاد الکلّیّ فی نفس السامع - فما فی نفسه یکون کلیّاً نوعاً - ولو قیّد بقید آخر دالّ علی الصنفیّة لکان من باب إیجاد الصنف.
أورد علیه فی التهذیب: بتبعیّة الفردیّة والکلیّة للواقع ولاحظ لید الإعتبار هنا، فالفرد الحقیقی والشخصی لا یصیر کلیّاً بمجرّد الإغماض والغفلة أو التغافل عن عوارضه، بل الجزئیّة والتشخّص یدوران مدار امتناع الصدق علی کثیرین کدوران الکلیّة مدار عدم الإمتناع فی نفس الأمر، فصورة اللفظ وخیاله شخصیّ وجزئیّ حقیقیّ، کصورة زید وخیاله لا یمکن أن تصیر کلیّة.
وبالجملة: صورة اللفظ الحاصلة فی ذهن السامع وهی المعلومة بالذات، جزئیّة
ص:69
حقیقیّة ذات عوارض وتشخّصات لا تسلب عنها بالإغماض والغفلة فلا تصیر کلیّة مطلقة، إلّاأن یراد من کلّیّتها أنّ السامع لغفلته عن تلک العوارض یفهم من هذه الصورة المعلومة بالذات نفس الطبیعة بالعرض والتبع، وینتقل من الصورة إلی الطبیعة فی المرّة الثانیة، فهذا حقّ؛ لکنّ أین هو من إلقاء الموضوع بنفسه، بل هذا کالإستعمال والدلالة؛ إذ لا منع فی دلالة مثل: «ضرب فعل ماض» علی نوعه أو صنفه وحکایته عنه، إذ الدلالة عبارة عن کون الشیء بحیث یفهم منه المعنی، واللفظ الصادر آلة لإیجاد الصورة فی الذهن، ووسیلة لإنتقال السامع منه إلی المراد، أعنی طبیعة اللفظ.
وقد یقال: إنّ إستعمال اللفظ فی نوعه مستلزم لإتّحاد الدالّ والمدلول، إذ اللفظ المستعمل فی النوع إمّا أن یراد منه طبیعته أو شخصه، والإتّحاد علی الأوّل واضح، وعلی الثانی یلزم الإتّحاد إذا کان الحکم شاملاً لموضوع القضیّة، کقولنا: «زید لفظ» فشخص «زید» الملفوظ الموضوع أیضاً لفظ کنوعه، فهو دالّ علی النوع، ولکون فرداً للنوع مشمولاً لحکم یکون مدلولاً أیضاً، إذ مدلولیّة النوع والکلّی مدلولیّة لکلّ فرد منه.
هذا مضافاً إلی تباین الشخص مع الطبیعیّ؛ لترکّب الشخص من الطبیعیّ والتشخّص والمرکّب من المبیان مباین، فالإستعمال حینئذ لا یصحّ للمباینة» (1).
وفیه: أنّ المستعمل هو الشخص لا الطبیعیّ، فهو الدال والمدلول وهو الطبیعیّ بما هو هو، ولا یدلّ النوع والطبیعی بما هو هو علی الأشخاص والخصوصیّات، ومجرّد شمول حکم القضیّة لموضوعها لا یوجب صیرورته مدلولاً أیضاً، بل المدلول نفس الطبیعة اللابشرط والفرد منطبق علیه لا مدلول، إذ الفرد هی الطبیعة بشرط شیء، والمبیانة لیست من موانع الإستعمال؛ لدورانه مدار المناسبة ولو إدیناها ولا یذهب علیک أنّ المجازیّة فی هذه الإطلاقات لیست علی وزن ما ذکر من المجازیّة علی کلا المسلکین، فلا تنزیل هنا ولا إدّعاء ولا اختلاف بین الإرادتین، بل تتطابقان، لأنّ وجود المناسبة هنا بین اللفظ ونوعه أو صنفه أو مثله أوجب إحضار المستعمل فیه.
ص:70
ولا مجازیّة علی مسلک المشهور أیضاً لدورانها مدار المناسبات والعلائق الذوقیّة الطبیعیّة، إذ العلاقة هنا هی المناسبة الصوریّة، لکنّها غیر ملحوظة حین الإستعمال بل لا تخطر بالبال، ولعلّ المقام من باب الوضع، أی وضع اللفظ لنوعه أو صنفه أو مثله، فتأمّل.
ص:71
سؤال: هل الألفاظ موضوعة للمعانی بما هی أو بما هی مرادة؟ وبعبارة اخری:
هل یکون الموضوع له مقیّد بالإرادة أم لا؟
هنا قولان (1):
الأوّل: الألفاظ موضوعة بإزاء معانیها من حیث هی، لا من حیث کونها مرادة للافظها، وهذا قول الآخوند قدس سره فی الکفایة ومختارنا.
الثانی: الألفاظ موضوعة للمعانی بما هی مرادة للافظها (2).
القول الأوّل - الألفاظ موضوعة للمعانی بما هی (3):
هذا قول صاحب الکفایة قدس سره حیث قال: «لا ریب فی کون الألفاظ موضوعة
ص:72
بإزاء معانیها من حیث هی» (1).
وأدلّة هذا القول:
أوّلاً - إرادة المعنی وقصده علی أنحائه - من الآلیة والإستقلالیّة والإخباریّة والإنشائیّة - تکون من شؤون الإستعمال ومقوّماته، ولا تکون من قیود المستعمل فیه، فضلاً عن الموضوع له.
ثانیاً - لو کانت الألفاظ موضوعة لمعانیها بما هی مرادة، لما صحّ الحمل والإسناد بلا تصرّف وتجرید، مع ضرورة صحّتها بدونه، فالمحمول علی «زید» فی «زید قائم» والمسند إلی «زید» فی «ضرب زید» هو نفس القیام والضرب لا بما هما مرادان. وهکذا الحال فی طرف الموضوع، ولو کانت الإرادة داخلة فی المعنی للزم التصرّف والتجرید من هذا القید عند الحمل، وکذا الحال فی طرف الموضوع.
ثالثاً - لو کانت الألفاظ موضوعة لمعانیها بما هی مرادة؛ للزم عموم الوضع وخصوص الموضوع له فی جمیع الألفاظ؛ لمکان اعتبار خصوص إرادة اللافظین فی الموضوع له، مع أنّ عدم أخذ مفهوم الإرادة فیه واضح.
رابعاً - البرهان: وهو بطلان جمیع المعانی لو اخذ القصد أو الإرادة فی الموضوع له، فالحق کما قال صاحب الکفایة: «عدم دخل الإرادة فی المعانی أصلاً لا شطراً ولا شرطاً، بل الألفاظ موضوعة لنفس المعانی الواقعیّة بما هی هی تعلّقت بها الإرادة أم لا».
وحقیقة الأمر - کما عن بعض الأساطین - تتضّح ببیان مقدّمتین:
المقدّمة الاُولی: أنّ حقیقة الوضع علی ما حُقّق، عبارة عن تعیین اللفظ بإزاء المعنی بلا حصول علاقة تکوینیّة، وتفسیره بالتعهّد والإلتزام تفسیر بالآثار، کتفسیره بنحو ارتباط خاصّ - وهذا القول بالتعهد (2) - مردود.
ص:73
فالقول المبتنی علی أنّ الوضع حیثیّ لا مطلق - أی لا یجعل اللفظ بإزاء المعنی إلّا بحیث إذا أطلقه الواضع أو غیره، لکان مریداً لمعناه - باطل، وهذا القول یؤیّد القول بأخذ الإرادة فی المعانی، وهو باطل أیضاً؛ لابتناءه علی حدیث التعهّد والإلتزام فی تفسیر الوضع.
المقدّمة الثانیة: أنّ أفعال ذوی العقول معلّلة بأغراض وغایات، حتّی الأفعال العبثیّة واللّغویّة، حیث إنّها غیر معللة بأغراض عقلائیّة لا أنّها بدون أغراض رأساً؛ فالعلّة الغائیّة فی الأفعال - کما فی کتب المعقول - ممّا لابدّ منها، وهی من العلل الأربع، وهی علّة بوجودها العلمیّ لفاعلیّة الفاعل، وإن کانت معلولة بوجودها العینیّ - أی الغایة أوّل البقیّة وآخر الدّرک، أو أوّل العلم وآخر العمل - فهی بوجودها العلمیّ الذهنیّ مؤثرة فی تحریک الفاعل والمعلول؛ لکونه رشحة من رشحات العلّة، وجلوة من جلواتها، وتابع لها سعة وضیقاً، إطلاقاً وتقییداً، فیتضیّق ویتقیّد بتضییق العلّة وتقییدها، وهذا لیس بتقیید وتضییق، بل تقیّد وتضیّق ذاتیّ تابع لإستعداد المعلول وظرفیّته، إذ لا یتأتّی له أن یکون أوسع من علّته.
إذا عرفت المقدّمتین فاعلم: أنّ أنحاء وضع الألفاظ للمعانی المرادة حسب التصوّر أربعة:
أوّلها - کون الإرادة بمفهومها وبالحمل الأوّلی جزء الموضوع له، وهذا لم یتفوّه به أحد، ولا ینبغی لمن له أدنی فضل ومعرفة أن یلتزم به.
ثانیها - وضع الألفاظ للمعانی المرادة مع أخذ الإرادة بالحمل الشائع فیها، وهی الأمر القائم بنفس المرید کالعلم، وتکون الإرادة بهذا الوجه من شؤون النفس تتعلّق بالصورة المتقوّمة بالنفس، وهی المرادة بالذات کما تکون معلومة بالذات، والخارج مراد بالعرض کما یکون معلوماً بالعرض.
وعلیه: فلو وضعت الألفاظ للمعانی المرادة بالذات؛ لما صحّ الحمل فی مثل
ص:74
«زید عالم»؛ لعدم انطباقه علی الخارج، فلا یحمل علی ما فی الخارج ولو مع التجرید؛ هذا مع لزوم عموم الوضع وخصوص الموضوع له فی جمیع الألفاظ والأوضاع.
ثالثها - وضع الألفاظ للمراد بالعرض.
وفیه ما ذکرنا من خصوص الموضوع له فی جمیع الأوضاع، ولزوم عدم صحّة الحمل إلّابالتجرید، مع وضوح صحّته بدونه، کما فی الکفایة (1).
رابعها - وضعها للمعانی المرادة علی وجه الحینیّة لا المشروطة، فالإرادة لا تکون من قیود المعنی وعناوینه.
وما یقال: من أنّ غایة فعل الواضع هو إظهار المقاصد وإبراز المرادات (2) - فالغایة «اعلان المرادات» محدّدة وتوجب تضییق فعل الواضع «أعنی الوضع بأن یکون للمعنی المراد، فتؤخذ الإرادة فی المعنی» إذ کون الوضع للمعنی بنفسه هو إطلاقه بعد إنحصار الداعی فی إظهار المراد وإعلان ما هو المقصود - لغو.
وفیه: أوّلاً: الحقّ أنّ غایة الوضع لیس ما ذُکر - أعنی إفادة المرادات وإظهارها - بل هی إفادة ذوات المرادات ونفس المعانی بما هی هی، لا بما هی مرادة، فالمتکلّم اللافظ یرید إفادة نفس المعانی، من غیر دخل للإرادة لا شطراً ولا شرطاً، وقد مرّ أنّ أنحاء إرادة المعنی من الآلیّة والإستقلالیّة وغیرهما، إنّما تکون من شؤون الإستعمال ومقوّماته، ولا تکون مأخوذة فی المستعمل فیه، فضلاً عن الموضوع له أو الوضع، وکون المعانی مرادة إنّما یکون عند الإستعمال أو من مقدّماته التی لا ترتبط بالوضع، بل کونها مرادة مغفول عنه للمتکلّم والسامع (3).
ثانیاً: أنّ مجرّد کون الغایة هی إفادة المرادات وکنها علّة من علل الوضع؛ مقتضاه حصولها ووجودها عند حصول الوضع والمواضعة بین اللفظ والمعنی، وأمّا أخذها فی المستعمل فیه فضلاً عن الموضوع له فلا یلزم من ذلک، بل اللازم حینئذ
ص:75
تعلّق الإرادة بالموضوع له ولو حین الإستعمال، وعلیه لا یلزم اللّغویّة أیضاً لو کان الوضع لنفس المعنی؛ لترتّب الغایة والأثر علی الوضع علی تقدیر تعلّق الإرادة بالمعنی، واللّغویّة إنّما تلزم لو لم یترتّب علی الوضع أثر أصلاً حتّی حین الإستعمال.
وهذا التصوّر الرابع - أی أنّ الألفاظ وضعت لذوات المرادات حین إرادتها بلا تقیید فی البین أصلاً - لعلّه مراد العلمین (1)؛ لکنّه بعید عن مساق کلامهما، وأمّا الحمل علی الدلالة التصدیقیّة کما فی الکفایة؛ فهو أبعد کما سیأتی.
القول الثانی - الألفاظ موضوعة للمعانی بما هی مرادة للافظها (2):
نسب صاحب الفصول (3) الغرویّة إلی العلمین (4) فی ظاهر کلامها بأنّ اللفظ لا یدلّ بذاته علی معناه، بل باعتبار الإرادة والقصد.
وأورد علیه صاحب الکفایة قدس سره فقال: «وأمّا ما حکی عن العلمین من تبعیّة الدلالة للإرادة، فلیس ناظراً إلی کون الألفاظ موضعة للمعانی بما هی مرادة، کما
ص:76
توهمّه بعض الأفاضل (1)، بل ینظر إلی الدلالة التصدیقیّة، أی دلالة الألفاظ علی کون معانیها مرادة للافظها تابعة لإرادتها منها تبعیّة مقام الإثبات للثبوت، وتفرّع الکشف علی الواقع المکشوف؛ إذ لولا الثبوت فی الواقع لما کان للإثبات والکشف والدلالة مجال، ولذا لابدّ من إحراز کون المتکلّم بصدد الإفادة فی إثبات إرادة ما هو ظاهر کلامه ودلالته علی الإرادة، وإن کانت لکلامه هذه الدلالة التصوریّة، أی کون سماعه موجباً لإحظار معناه الموضوع له، ولو کان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور ولا إختیار» (2).
أقول: قد عرفت مراد العلمین فی ذیل القول الأوّل، بأنّه لعلّ مرادهما وضع الألفاظ للمعانی المرادة علی وجه الحیثیّة لا المشروطة، أی أنّ الألفاظ وضعت لذوات المرادات حین إرادتها بلا تقیید فی البیت أصلاً؛ لکنّه بعید عن مساق کلامهما.
وأمّا الحمل علی الدلالة التصدیقیّة کما فی الکفایة، فأبعد، إذ عبارة العلّامة قدس سره فی الجوهر النضید (3) صریحة فی التصوریّة، علی أنّ إحراز المتکلّم أراد معنی اللفظ، ونسبته إلیه متوقّف علی أصل عقلائیّ وهو أصالة تطابق الجدّ والإستعمال، فلا یکفی
ص:77
فیه مجرّد وضع الألفاظ للمرادات (1).
فی الوضع فی المرکّبات
وفیه أربع مقامات:
المقام الأوّل: فی تحریر محل النزاع.
المقام الثانی: الأقوال فی الوضع للمرکّبات.
المقام الثالث: فی الأدلّة.
المقام الرابع: فی الثمرة.
المقام الأوّل: فی تحریر محل النزاع (2):
المراد من الوضع للمرکّبات: لا شکّ فی أنّ المعانی علی قسمین:
الأوّل - المعانی التصدیقیّة، وهذه کثر الإهتمام بها، وهی المهمّة فی سلسلة
ص:78
المقاصد، کدلالة الهیئة فی المبتدأ والخبر (1).
الثانی - المعانی التصوریّة: کدلالة مفردات المرکّبات علی المعانی التصوریّة.
فمعنی المواد والمفردات معلوم، ومفاد الهیئات - أیضاً - معلوم، فلا مجال لهذا النزاع، ولیس تصویره بهذا الوجه معقولاً مقبولاً؛ للزوم اللغویّة علی فرض (2)، والتکرار فی الدلالة علی فرض آخر (3).
نعم یمکن أن یتصوّر النزاع بوجه آخر، محصّله: هل المعنی التصدیقی هو مفاد نفس الهیئة وحدها، أو مفاد مجموع الجملة من الهیئة وغیرها؟ والأوّل هو المشهور، وقد یقال بالثانی، وینبغی أن یحرّر النزاع علی هذا الوجه.
المقام الثانی: الأقوال فی الوضع للمرکّبات:
فیه قولان:
الأوّل: القول المشهور؛ وهو لا وجه لتوهّم الوضع للمرکّبات غیر الوضع للمفردات، وهو قول الآخوند قدس سره (4)والمختار.
الثانی - القول المنسوب إلی بعض النحویین: للمرکّبات وضع غیر وضع المفردات (5).
ص:79
المقام الثالث: أدلّة القول المشهور:
لا وضع للمجموع ولا حاجة إلیه؛ للزوم اللغویّة لو لم یفد شیئاً، وللزوم التکرار فی الدلالة لو أفاد ما افید بالهیئة.
قید یقال: بالوجه الثانی - افید وضع المجموع ما افید بالهیئة - علی وجه الترادف، بأن تکون الهیئة والجملة مترادفتین.
لکن یرد علیه: أوّلاً: بما حُکی عن الأدیب البارع (ابن مالک)، من أنّ وضع المرکّبات بجملتها لو کان لازماً، لم یکن لنا التکلّم بکلام، ومرکّب جدید حادث لم تُسبق إلیه، لعدم هذا النوع الجدید الحادث زمن الواضع، کی یضعه الواضع (1).
لا یقال: وضعه الواضع نوعیّاً.
لأنّه یقال: الوضع النوعی إنّما یتصوّر فی الهیئات لمکان الوحدة النوعیّة فیها، وأمّا المجموع من الهیئات والمواد فلا وضع نوعیّاً له؛ حیث إنّ المواد المتنوعة غیر محصورة، ولا جامع واحداً عامّاً لها کما فی الهیئات، فلو کان الوضع للمجموع لکان شخصیّاً، وتعلّق الوضع الشخصی بکلّ مجموع مجموع یتکلّم به المتکلّمون، کما تری، علی أنّه یلزم عدم الوضع للجمل الحادثة، التی لم تکن زمن الواضع أو الواضعین موجودة.
وثانیاً: بأنّ الترادف فی محلّ کلام، وإن سُلّم هنا، یستلزم اللغویّة؛ لعدم إنفکاک الهیئة عن المادّة، فالمترادفان هنا متلازمان لا ینفکان أصلاً، إلّاأن یقال بالتأکید، فیفید المجموع المعنی الذی تفیده الهیئة وحدها تأکیداً.
المقام الرابع: فی الثمرة:
لا طائل تحت هذا البحث، إلّاالملاعبة بأُمور لا تحلّ العقد ولا عقدة واحدة.
ص:80
الوضع فیها شخصیّ ونوعیّ:
قد مضی أنّ المعنی قد یتصوره الواضع بنفسه، وقد یتصوره بوجهه وعنوانه، واللّفظ أیضاً کذلک، قد یلحظه الواضع بنفسه - أی بمادّته وهیئته - وإن شئت فقل:
بوحدته الطبیعیّة وشخصیّته المتمایزة، فیضعه لمعنی، فالوضع شخصیّ، کما فی أعلام الأشخاص وأسماء الأجناس.
وقد یلحظ الواضع اللفظ بهیئة (1) فقط، دون لحاظ المادّة، غایة الأمر حیث إنّه لا یمکن تحقّق الهیئة من دون مادّة حتّی فی الذهن، ولا یمکن تجریدها عنها فی موطن من المواطن أصلاً، ولعدم إمکان حصر الموادّ، ولعدم إمکان تصوّرها جمیعها؛ فعملیّة الوضع تکون لأشخاص الهیئة، حیث تجعل بمعونة الجامع العنوانیّ، لا بشخصیّتها الذاتیّة، فیقال مثلاً: کلّ ما کان علی زنة «فاعل» أو زنة «فعل» أو غیرها من الهیئات الاُخری، فالجامع العنوانیّ هو وزن الفاعل مثلاً، کما اصطلح علیه، وهو عامّ شامل لجمیع المواد، وهذا هو الوضع النوعیّ.
فالوضع فی الهیئات مطلقاً - من هیئات المشتقّات، والجمل الإسمیّة والفعلیّة والتامّة والناقصة - نوعیّ.
ومواد المشتقّات: إن کانت هی المصادر فالوضع شخصیّ؛ لکونها من أسماء الأجناس، وإن کانت من الأفعال فالوضع نوعیّ، وعلی القول بکون مبدأ الإشتقاق هی الحروف المهملة من دون أیّة صورة، فلا وضع لها أصلاً.
فما فی المحاضرات من تثلیث الأقسام، إذ قال: «فالواضع حین إرادة الوضع إمّا
ص:81
أن یلاحظ اللفظ بمادّته وهیئته - کما فی أسماء الأجناس وأعلام الأشخاص - وإمّا أن یلاحظ المادّة فقط - کما فی مواد المشتقّات - وإمّا أن یلاحظ الهیئة کذلک - کما فی هیئات المشتقّات، وهیئات الجمل الناقصة والتامّة - فالوضع فی الأوّل والثانی شخصیّ وفی الثالث نوعیّ» (1)، غیر سدید إذ المادّة للمشتقّات قد عرفت حالها (2).
ص:82
فی علامات الحقیقة والمجاز (1).
وفیه مقامات:
المقام الأوّل: فی تحریر محل النزاع.
المقام الثانی: فی ما یعدّ من علائم الحقیقة.
المقام الثالث: فی ثمرة النزاع.
المقام الأوّل: فی تحریر محلّ النزاع (2):
وفیه صورتان:
الاُولی: صورة العلم بالمعنی الموضوع له، إمّا من تنصیص أهل اللغة، أو کون الإنسان نفسه من أهل اللّغة، فیعرف أن إستعمال اللفظ فی الموضوع له حقیقة، وفی غیره مجاز، ولا نزاع فی هذه الصورة.
الثانیة: صورة الشک فی المعنی الموضوع له، فلا نعرف أنّ المعنی الفلانی هل هو حقیقة أو مجاز؟ وهذا هو محلّ النزاع هنا.
المقام الثانی: فی ما یعدّ من علائم الحقیقة:
ذکروا هنا علامات:
الاُولی - التبادر.
الثانیة - عدم صحّة السلب وصحّة الحمل.
ص:83
الثالثة - الإطّراد.
الاُولی - التبادر:
وهو إنسباق المعنی من نفس اللفظ، وهذا هو التبادر الحاقیّ، وحیث إنّ الدلالة علی المعنی لا تکون إلّابثلاثة أسباب:
الأوّل - المناسبة الذاتیّة، وقد عرفت بطلانها (1).
الثانی - العلقة الوضعیّة.
الثالث - القرینة سواء کانت حالیّة أو مقالیّة.
فمع عدم إستناد الدلالة إلی الثالث، یفهم استنادها إلی الثانی وهو المطلوب، فالتبادر هو انسباق المعنی من نفس اللفظ عاریاً عن کلّ قرینة، لا سرعة حصول المعنی فی الذهن بالنسبة إلی معنی آخر، أو سبقه علیه (2)(3).
ص:84
الثانیة - صحّة الحمل، وعدم صحّة السلب (1):
الحمل الأولی علامة الوضع، والحمل الشائع (2) علامة الفردیّة الحقیقیّة، ففی الأوّل: یُجعل اللّفظ موضوعاً والمعنی المشکوک فیه محمولاً، وفی الثانی: یجعل الفرد موضوعاً والکلّیّ محمولاً، والحمل الشائع بالذات (3) - أیضاً - علامة الحقیقة.
وفیه: أنّ عدم صحّة السلب - أی صحّة الحمل فی الأولیّ، والشائع بالذات - مسبوق بالتبادر، فلیس علامة علی حده، فلک من «الإنسان» معنیً أوّلاً فی ذهنک یتبادر من حاق اللفظ إجمالاً، ثم تحمل «الحیوان الناطق - مثلاً - » علیه، بذلک المعنی المتبادر، فتجد بینهما الإتحاد والهوهویّة.
وبالجملة: الإستعلام واستکشاف الحال، یکون بالتبادر الحاصل من تصوّر الموضوع، وتصوّر الموضوع وعرفانه بماله من المعنی سابق علی الحمل وعدم صحّة السلب. وبعبارة اخری: القضیّة الحملیّة الملفوظة، مسبوقة بالحملیّة المعقولة، والمعقولة لا تنعقد إلّابعد عرفان الموضوع والمحمول بمعناها، وهو لا یحصل إلّابالتبادر، وبعد عرفان وحدتهما، ففی ما نحن فیه استعلام الحال مستند إلی التبادر، لا إلی صحّة الحمل
ص:85
وعدم صحّة السلب، کما قال فی تهذیب الاُصول:
«الحاکم المستعلم بحمله، لابدّ أن یتصوّر الموضوع أوّلاً بما له من المعنی الإرتکازی؛ حتّی یجده متحداً مع المعنی المشکوک فیه فی مفهومه، ثم یحمل المحمول المتصوّر علی الموضوع المعلوم حملاً أوّلیّاً، ولو لا ذلک لما کان لحمله وزن ولا قیمة، وعندئذٍ إذا وجد فی عالم التصوّر متحداً معه قبل حمله، فقد عُلم بوضع اللّفظ للمعنی، ولم یبق لتأثیر صحّة الحمل فی رفع الستر مجال» (1)(2).
الثالثة - الإطّراد:
کثرة استعمال اللفظ فی أفراد الکلّیّ بحیثیة خاصّة - کرجل بإعتبار الرجولیّة فی زید وعمرو، والعالم بإعتبار العلم فی زید وعمرو وغیرهما - مع القطع بکونه غیر موضوع لکلّ واحد علی حده، فهو علامة العلقة الوضعیّة بین تلک الأفراد وذلک الکلّیّ، فیعلم أن اللفظ موضوع لطبیعیّ المعنی، فالإطّراد یدلّ علی الوضع، وعدمه علی عدمه.
وفیه: أنّ إستعمال اللّفظ فی الأفراد مع الخصوصیات، مجاز مع وجود العلاقة أو مع حسن الإستعمال، وإلّا غلط. ومع عدم الخصوصیات یندرج فی صحّة الحمل بالحمل الشائع - أی إستعمال الکلّیّ فی الفراد وإطلاق الکلّیّ علی الفرد - فلا یکون من باب الإطّراد.
قد یقال الإطّراد معناه عدم توقّف الإستعمال فی الموضوع له علی غیر الوضع، فیطّرد، والمجاز یتوقّف علی غیر الوضع، من مصحّح الإدعاء، وحسن الاستعمال بقبول الطباع، وهما لا یطّردان.
ص:86
وهذا کما تری: لأنّ العلم بصحّة الإستعمال مطّرداً، متوقّف علی فهم المعنی الموضوع له، وهو متوقف علی الإطّراد، فیدور (1): کما أن العلم بمصحّح الإدعاء - من حسن التنزیل، أو حسن الإستعمال - فیما یناسب الموضوع له فی المجاز، یتوقّف علی العلم بالموضوع له (2).
والحقّ: أنّ العلامة هو التبادر فقط، والباقی إمّا مسبوق بالتبادر کعدم صحّة السلب وصحّته، أو راجع إلیه، کالإطّراد الراجع إلی الحمل، وهو إلی التبادر، وتنصیص أهل اللغة لیس إلّابیان موارد الإستعمال، لا بیان المعنی الحقیقی (3).
المقام الثالث - فی ثمرة النزاع:
لا ثمرة عملیّة مترتبة علی العلم بالحقائق والمجازات، إذا الملاک والحجّة المتبعة، هو الظهور (4)، وألفاظ الکتاب والسنّة، إمّا لها قدر متیقّن، أو المراد منها معلوم بمعونة
ص:87
الروایات، وعلی الإجمال المرجع الأصول العملیّة، فلا حاجة إلی العلم بالوضع (1).
ص:88
الأحوال للفظ خمسة:
قال فی الکفایة: «إنّ للفظ أحوال خمسة وهی: التجوّز، والإشتراک، والتخصیص، والنقل، والإضمار، لا یکاد یصار إلی أحدها فیما إذا دار الأمر بینه وبین المعنی الحقیقیّ، إلّابقرینة صارفة عنه إلیه.
وأما إذا دار الأمر بینهما، فالاُصولیّون وإن ذکروا لترجیح بعضها علی بعض وجوهاً، إلّاأنّها استحسانیّة لا اعتبار بها، إلّاإذا کانت موجبة لظهور اللّفظ فی المعنی لعدم مساعدة دلیل علی اعتبارها بدون ذلک، کما لا یخفی» (1).
ولهذا البحث أمثلة:
الأوّل: دوران الأمر بین الإشتراک والتجوّز: مثل «لا تنکحوا ما نکح آباؤکم» فإنّه یدور الأمر بین إشتراک لفظ النکاح بین العقد والوطیء - وحمله فی الدیّة علی الوطیء - وبین التجوّز فی النهی بإرادة القدر المشترک بین الحرمة والکراهة، فیتعارض المجاز والإشتراک.
الثانی: دوران الأمر بین النقل والإشتراک: مثل «الطواف بالبیت صلاة» فإنّه یدور الأمر فی معنی الصلاة بین النقل عن المعنی الأوّل إلی العبادة المخصوصة - فیشترط فی الطواف ما یشترط فیها من الطهارة وغیرها - وبین الإشتراک، فیصیر مجمل؛ لاحتمال أحد المعنیین من اللّغویّ والشرعیّ، فلا تثبت - بهذا الکلام - للطواف شرائط الصلاة.
الثالث: دوران الأمر بین الإضمار والإشتراک: مثل «وإسئل القریة»، فإنّه یدور الأمر بین الإضمار بتقدیر الأهل، والإشتراک بین المحل والحالّ - وهم الأهل - .
والحقّ - ما فی الکفایة - : فلا اعتداد بالاُمور الإستحسانیّة فی باب الألفاظ، بل المتبع کما ذکرنا فی العلائم، هو الظهور العرفیّ، وعلیه جرت السیرة العقلائیّة فی مقام
ص:89
الإحتجاج واللجاج، فلا یترتب علی الإستحسانات العقلیّة والاُمور الظنیّة، أثر شرعیّ، إلّاإذا أوجبت الظهور، فیعمل بالظهور لا بها (1).
ص:90
وفیه مقامات:
المقام الأوّل: فی تحریر محلّ النزاع.
المقام الثانی: فی الأقوال فی الحقیقة الشرعیّة.
المقام الثالث: فی الأدلّة.
المقام الرابع: فی کیفیّة وضع الألفاظ علی القول بالحقیقة الشرعیّة.
المقام الخامس: فی الثمرة.
المقام الأوّل - فی تحریر محلّ النزاع (1):
الألفاظ التی بین أیدینا تنقسم إلی قسمین:
الأوّل - الإصطلاحات العامّة.
الثانی - الإصطلاحات الخاصّة، وهی التی تکون فی ألفاظ العلوم المختلفة والشرائع المقدّسة.
والبحث هنا فی الألفاظ الخاصّة - مثل: صلاة، صوم، حجّ، وغیرها - المستعملة فی شریعتنا المقدّسة فی زمن النبی والأئمّة (صلوات اللّه علیهم أجمعین)، هل هی مستحدثة وموضوعة بالوضع التعیینی علی نحو «الحقیقة الشرعیّة» أو التعیّن علی نحو «الحقیقة المتشّرعة»؟ وعلی الأوّل هل هی موضوعة بالوضع التعیینی الإستعمالیّ أو القولی؟ وهل یمکن الوضع الإستعمالیّ أم لا؟ أم لم تکن فی زمن النبی صلی الله علیه و آله موضوعة أصلاً، بل هی حقائق لغویّة مرسومة فی العرف والشرائع السابقة؟
ص:91
المقام الثانی - الأقوال فی الحقیقة الشرعیّة:
الأوّل: إثبات الحقیقة الشرعیّة مطلقاً، إمّا من طریق الوضع التعیینی الإستعمالی أو من طریق الوضع التعیّنی.
الثانی: نفی الحقیقة الشرعیّة مطلقاً، بل الألفاظ حقائق لغویّة مأخوذة من العرف أو الشرائع السابقة، لا کونها حقائق مستحدثة شرعیّة.
الثالث: التفصیل بین العبادات والمعاملات، بالثبوت فی الاُولی والنفی فی الثانیة.
الرابع: التفصیل بین الإثبات فی زمان الصادقین علیهما السلام والنفی فی زمان النبی صلی الله علیه و آله (1).
قال صاحب الکفایة قدس سره : «إنّه اختلفوا فی ثبوت الحقیقة الشرعیّة وعدمه علی أقوال.... إذا عرفت هذا؛ فدعوی الوضع التعیینی فی الألفاظ المتداولة فی لسان الشارع هکذا (أی حین الإستعمال) قریبة جدّاً، ومدّعی القطع به غیر مجازف قطعاً... هذا کلّه بناءً علی کون معانیها مستحدثة فی شرعنا.
وأمّا بناءً علی کونها ثابتة فی الشرائع السابقة، کما هو قضیّة غیر واحد من الآیات مثل قوله تعالی: «کُتِبَ عَلَیْکُمْ الْصِیَام کَما کُتِبَ...» (2) فألفاظها حقائق لغویّة لا شرعیّة.
ثمّ قال: فالإنصاف منع حصوله (الوضع التعیّنی) فی زمان الشارع فی لسانه ولسان تابعیه مکابرة.» (3)
المقام الثالث: فی الأدلّة.
أوّلاً: أدلّة إثبات الحقیقة الشرعیّة:
أحدها - تبادر المعانی الشرعیّة - من الألفاظ - فی محاورات النبی صلی الله علیه و آله .
ص:92
ثانیها - المؤّید: أنّه ربمّا لا تکون علاقة معتبرة بین المعانی الشرعیّة واللغویّة، فأی علاقة بین الصلاة شرعاً والصلاة بمعنی الدعاء، ومجرّد اشتمال الصلاة علی الدعاء لا یوجب ثبوت ما یعتبر من علاقة الجزء والکلّ بینهما، کما لا یخفی، (إذ شرط هذه العلاقة کون الجزء ممّا ینتفی الکلّ بانتفائه والدعاء فی الصلاة لیس بهذه المثابة).
وإنّما جعل صاحب الکفایة قدس سره هذا مؤیّداً لا دلیلاً، لما تقدّم من أنّ صحّة استعمال اللّفظ فی غیر الموضوع له، إنّما تکون بالطبع لا بالعلائق التی ذکروها.
ثانیاً: أدلّة نفی الحقیقة الشرعیّة:
أحدها - أصل «عدم النقل» لمعانی الألفاظ من قبل النبی صلی الله علیه و آله إلی زمانه صلی الله علیه و آله ؛ فهی علی معانیها اللغویّة، ولا مجال لدعوی الحقیقة الشرعیّة أو المتشرعیّة (1).
ثانیها - معانی الألفاظ لم تُستحدث فی شرعنا، بل هی قدیمة ثابتة فی الشرائع السابقة، فهی حقائق لغویّة لا شرعیّة، وهذا مقتضی بعض الآیات مثل قوله تعالی:
«کُتِبَ عَلَیْکُمْ الْصِیَام کَما کُتِبَ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِکم» (2)، وقوله تعالی: «وَأَذِّنْ فِی النّاسِ بِالْحَجِّ» (3)، وقوله تعالی: «وأَوْصَانِی بَالصَّلوةِ وَالْزَّکَوةِ مَا دُمْتُ حَیّاً» (4)، إلی غیر ذلک.
واختلاف الشرائع فیها شطراً أو شرطاً، إنّما یکون من قبیل الإختلاف فی المصادیق والمحقّقات، لا فی الحقیقة والماهیّة، نظیر الإختلاف حسب الحالات فی شریعتنا، کصلاة الغرقی والمسافر. فعلی هذا الإحتمال (عدم کونها مستحدثة) لا مجال
ص:93
لدعوی الوثوق بثبوت الحقیقة الشرعیّة (1)، فضلاً عن القطع بها، حتّی علی وجه الوضع التعیّنی فضلاً عن التعیینی.
المقام الرابع - فی کیفیّة وضع الألفاظ علی القول بالحقیقة الشرعیّة:
وفیه قولان:
الأوّل - الوضع التعیینی الإستعمالی:
قال صاحب الکفایة قدس سره - فی صدر کلامه - : «فدعوی الوضع التعیینی فی الألفاظ المتداولة فی لسان الشارع هکذا (أی حین الإستعمال) قریبة جدّاً، ومدّعی القطع به غیر مجازف قطعاً، ویدل علیه تبادر المعانی الشرعیّة منها فی محاوراته» (2).
أقول: الوضع عنده تعیینی وتعیّنی، والتعیینی عنده قدس سره قولی حاصل بإنشائه تصریحاً باللّفظ (3)، وفعلی حاصل بإستعمال اللفّظ فی غیر ما وضع له بقصد الحکایة عنه والدلالة علیه بنفسه، کالإستعمال فیما وضع له بلا قرینة، وإن کان لابدّ - حینئذ - من نصب قرینة، لکنّ لیس علی إرادة المعنی کما فی المجاز، بل یکون علی بیان قصد الوضع، فنصب القرینة أمارة للوضع لا للدلالة علی المعنی، وکون استعمال اللفظ حینئذ استعمالاً فی غیر ما وضع له بلا مراعاة ما اعتبر فی المجاز، فلا یکون بحقیقة ولا مجاز (إذ الحقیقة استعمال اللفظ فیما وضع له والمجاز استعماله فی غیره مع مراعاة العلاقة) غیر ضائر، إذ الملاک قبول الطبع وعدم استنکاره.
ص:94
ویشکل علیه: الوضع التعیینی الفعلی یوجب الجمع بین اللحاظین (الإستقلالی والآلی)، إذ حین الوضع یلاحظ اللّفظ آلة ومرآة إلی المعنی، وهنا یلاحظ استقلالاً لوضع المعنی له، فاللّفظ حیث یستعمل فی المعنی یلحظ آلیّاً وحیث یوضع بإزائه یلحظ إستقلالیّاً.
ویجاب عنه: أوّلاً: الوضع یجعل قبل الإستعمال، والإستعمال مظهر ومبرز له، فعمل الواضع القولی والفعلی یکون قبل الإتیان بالمظهر المبرز، فیعیّن الواضع اللّفظ للمعنی ویخصّصه به، ثمّ یظهره بالقول أو بالفعل، وعلیه یندفع محذور الجمع بین اللحاظین.
وثانیاً: یجاب عنه بما فی التهذیب: «أمّا محذور الجمع بین اللحاظین فی الوضع التعیینی الفعلیّ، فیندفع بمنع لزوم الغفلة عن اللفظ حال الإستعمال دائماً، فلا مانع من لحاظ اللّفظ فی تلک الحال والإلتفات إلیه.
أو یقال: بکونه من باب الکنایة - أی الإستعمال کنایة عن الوضع - فالإستعمال لازم والوضع ملزوم، فحین الإستعمال الملحوظ هو الإستعمال بلا لحاظ للوضع، إمّا لإلتفاته إلیه سابقاً، أو لإلتفاته إلیه بعد بنظرة اخری، أو الملحوظ کلاهما؛ إذ النفس من الاُفق الأعلی، فلها اقتدار لحاظهما معاً، ویمکن أن یقال: المستعمل هو شخص اللّفظ، والموضوع له طبیعة اللفظ» (1).
أقول: الوضع التعیینی لاسیّما القولی موثوق العدم، إذ لو کان لبان بالتواتر، ولا أقلّ من الآحاد (2).
الثانی - الوضع التعیّنی:
قال صاحب الکفایة قدس سره فی ذیل کلامه: «فالإنصاف أنّ منع حصوله (الوضع التعیّنی) فی زمان الشارع، فی لسانه أو لسان تابعیه مکابرة، نعم حصوله فی خصوص لسانه ممنوع، فتأمّل» (3).
أقول: الوضع التعیّنی فی لسانه صلی الله علیه و آله لاسیّما بالنسبة إلی بعض الألفاظ الکثیر
ص:95
الدوران - کالصلاة والصوم الزکاة والحجّ (1) ونحوها - لاسیّما الصلاة من بینها غیر بعید، وهذا الوضع (2) ممّا لا ریب فیه فی عصر أمیر المؤمنین علیه السلام ؛ لصیرورة إستعمال اللّفظ فی معنی جدید خاص فی ألسنة المسلمین قاطبة فی زمن طویل حقیقة قطعاً، فهذه الألفاظ إذا وردت فی روایاتهم علیهم السلام مجرّدة عن القرائن تحمل علی معانیها الشرعیّة، نعم کونها حقائق فی خصوص زمنه صلی الله علیه و آله غیر معلوم، لکنّه لیس ببعید.
المقام الخامس - فی الثمرة:
قد اختلفوا فی أصل الثمرة هنا علی قولین:
الأوّل - توجد ثمرة فی هذه المسألة (3):
قال فی الکفایة: «وأمّا الثمرة بین القولین، فتظهر فی لزوم حمل الألفاظ الواقعة فی کلام الشارع بلا قرینة علی معانیها اللغویّة مع عدم الثبوت (أی عدم ثبوت الحقیقة الشرعیّة أو المتشرعیّة)، علی معانیها الشرعیّة علی الثبوت فیما إذا علم تأخّر الإستعمال، وفیما إذا جُهل التاریخ ففیه إشکال، وأصالة تأخّر الإستعمال مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع، لا دلیل علی اعتبارها تعبّداً، إلّاعلی القول بالأصل المثبت، ولم یثبت بناء من العقلاء علی التأخّر مع الشکّ، وأصالة عدم النقل إنّما کانت معتبرة فیما إذا شکّ فی أصل النقل، لا فی تأخّره، فتأمّل» (4).
ص:96
أقول: إذا کان المراد: هو الإستصحاب فمعارض أوّلاً، وأصل مثبت ثانیاً. وإن کان المراد هو الأصل العقلائیّ، فلا بناء منهم إلّاعند الشکّ فی أصله، لا فی تأخّره بعد تحقّق أصل النقل.
الثانی - لا توجد ثمرة فی هذه المسألة أصلاً:
وهذا القول یظهر من عبارات تهذیب الاُصول، والمحاضرات، وهو المختار.
قال فی تهذیب الاُصول: «وعلی کلّ حال الثمرة المعروفة، أو الفرضیّة النادرة الفائدة ممّا لا طائل تحتها عند التأمّل؛ حیث إنّا نقطع بأنّ الإستعمالات الواردة فی مدارک فقهنا إنّما یراد منها هذه المعانی التی عندنا» (1).
وقال فی المحاضرات: «لا ثمرة فی هذه المسألة أصلاً؛ لمعلومیّة المراد من ألفاظ الکتاب والسنّة الواصلة إلینا یداً بید، فلا نشکّ فی المراد الإستعمالی فیها، ولا نتوقّف فی حملها علی المعانی الشرعیّة أصلاً» (2).
أقول: لا ثمرة فی هذا البحث، لعدم وجود مصداق له فیما بأیدینا من الأدلّة، بل الحقّ أنّ البحث عن حقیقة الألفاظ ومجازها لیس من شأن الاُصولیّ، إذ الواقع فی طریق الإستنباط هو الظهور اللفظیّ، أعمّ من الحقیقة والمجاز، ولذا نکتفی بالظهور فیما لا دلیل فیه علی الوضع، کظهور صیغة «إفعل» فی الوجوب، و«لا تفعل» فی الحرمة، فنستفید من ظهورها فیهما فائدة الوضع.
ولا نکتفی بمجرّد ثبوت الوضع فیما کان حقیقة متروکة - کأحد معنیی المشترک - إذا کان مهجوراً لظهور المعنی الآخر. هذا کما فی حاشیة الکفایة عن بعض الأساطین (3).
والوضع التعیینی لاسیّما القولیّ موثوق العدم، إذ لو کان لبان بالتواتر ولا أقلّ
ص:97
بالآحاد، والتعیّنی فی لسانه صلی الله علیه و آله لاسیّما بالنسبة إلی بعض الألفاظ الکثیرة الدوران غیر بعید.
وهذا الوضع ممّا لا ریب فیه فی عصر أمیر المؤمنین علیه السلام ؛ لصیرورة استعمال اللّفظ فی معنی جدید خاص فی ألسنة المسلمین قاطبة فی زمن طویل حقیقة قطعاً، فهذه الألفاظ إذا وردت فی روایاتهم علیهم السلام مجرّدة عن القرائن، تحمل علی معانیها الشرعیّة.
نعم کونها حقائق فی خصوص زمنه صلی الله علیه و آله غیر معلوم، لکن لیس ببعید، إلّاأنّه لا أثر لهذا الجهل؛ لعدم ابتلائنا بالسنّة النبویّة به، إلّاما نقل من طریق أهل البیت (صلوات اللّه علیهم) وقد أشرنا إلی أنّها تحمل فی لسانهم علیهم السلام علی مانیها المستحدثة، وهذه الکلمات فی القرآن محفوفة بالقرائن المعیّنة، أو تظهر معانیها بمعونة الروایات المأثورة (1).
المقام الثالث - فی أسماء المعاملات وفیه بحثان:
الأوّل: جریان النزاع علی القول بالسببّ أو المسبّب (والأقوال فیه).
الثانی: هل یمکن الأخذ بالإطلاق فی المعاملات علی القول بالصحیح او الأعمّ؟
ص:98
وفیه ثلاث مقامات:
وفیه بحوث:
البحث الأوّل: جریان النزاع علی القول بالحقیقة الشرعیّة وعدمها.
جریان النزاع علی القول بثبوت الحقیقة الشرعیّة واضح بلا إشکال، وإنّما الإشکال فی جریانه بناء علی القول بعدمها، سواء قیل: بالإستعمال علی وجه المجازیّة، أم قیل بمقالة القاضی أبو بکر الباقلانی: من أنّ استعمال الألفاظ فی معانیها اللّغویّة (1)، وتستفاد الخصوصیات الشرعیّة - أی الأجزاء والشرائط - من دوالّ اخر أی من باب تعدّد الدالّ والمدلول.
والظاهر بل المقطوع به جریان النزاع علی المجازیّة - أیضاً - فیقال: هل الشارع إستعمل هذه الألفاظ فی المعانی الصحیحة مجازاً واعتبر العلاقة بینها وبین المعانی
ص:99
اللّغویّة أوّلاً ثمّ تبعها استعملها فی الفسادة، أم استعمل الألفاظ فی المعنی الأعمّ باعتبار العلاقة بینها وبینه؟ فعلی الأوّل: ینزّل کلام الشارع علی الصحیحة مع القرینة الصارفة عن المعانی اللّغویّة وعدم قرینة اخری معیّنة للآخر (الأعمّ)، وعلی الثانی: ینزّل علی الأعم إلّاإذا قامت قرینة علی إرادة خصوص الصحیحة (1).
وأمّا جریان النزاع علی مسلک الباقلانیّ فمشکل جدّاً کما قال استاذنا قدس سره فی بدائع الأفکار، حیث قال: «فإنّ غایة ما یمکن أن یقال فی تصویره: هو أنّ اللفظ إذا استعمل فی معناه اللّغوی مع القرینة الدالّة علی بقیّة الأجزاء والشرائط فی المأمور به، فإن کانت تلک القرینة دالّة علی جمیع الأجزاء والشرائط؛ کان المدلول علیه هو الصحیح، وإن کانت دالّة علی جملة الأجزاء والشرائط بنحو القضیّة المهملة؛ کان المدلول علیه هو الأعم» (2)، هذا.
ولکن لا یخفی ما فیه؛ فإنّ تصویر مجری النزاع کما ذکره وإن کان ممکناً، إلّاأنّه لا تترتّب علیه الثمرة المذکورة لهذه المسأله علی هذا التقریر؛ لأنّ القرینة إن دلّت علی جمیع ما یعتبر فی المأمور به؛ فلا شکّ لیتمسّک بالإطلاق وغیره لینفیه، وإن دلّت علی الأجزاء والشرائط بنحو الإهمال؛ فلا إطلاق لفظیّاً فی الکلام لیتمسّک به لنفی المشکوک، والإطلاق المقامی جار علی کلا القولین علی هذا القول.
أقول: اللّهمّ إلّاأن یقال: الشارع حین إرادته للمعانی الشرعیّة نصب القرینة العامّة علی الصحیحة فحینئذ نحتاج لإرادة الأعم إلی القرینة الخاصّة، أو نصبها علی إرادة الأعمّ، فحینئذ تحتاج لإرادة الصحیحة إلی القرینة الخاصّة.
البحث الثانی: فی معنی الصحّة والصحیح:
ذکروا هنا تعاریف نشیر إلی بعضها:
ص:100
1 - الصحّة: هی التمامیّة (1).
2 - الصحّة: ما یوجب سقوط الإعادة والقضاء (2).
3 - الصحیح ما یکون موافقاً للشریعة (3).
4 - الصحّة: هی التمامیّة من حیث الأجزاء والشرائط، ویعبّر عنه ب- «درستی» فی لغة الفرس، وهذا معناها لغة وعرفاً (4).
أمّا تفسیر الصحّة بإسقاط الإعادة والقضاء، أو بموافقة الشریعة؛ یکون باللازم؛ إذ لازم تمامیّة الصلاة وصحّتها من تلک الجهتین موافقة الشریعة، والإسقاط للقضاء والإعادة من دون دخلهما فی معناها وماهیّتها؛ فلیستا من الحیثیّات التی تتمّ بها حقیقتها وماهیّتها.
فما أفاده المحقّق النائینی قدس سره غیر سدید، حیث قال: «إنّ حیثیّة إسقاط القضاء وموافقة الشریعة وغیرهما لیست من لوازم التمامیّة بالدقّة، بل من الحیثیّات التی یتم بها حقیقة التمامیّة؛ حیث لا واقع للتمامیّة إلّاالتمامیّة من حیث إسقاط القضاء أو من حیث ترتّب الأثر إلی غیر ذلک، واللّازم لیس من متمّمات معنی ملزومه، فتدبّر» (5).
وقال قدس سره فی الهامش: «إنّه إشارة إلی أنّ اللّازم إن کان من لوازم الوجود؛ صحّ ما ذُکر، وإن کان من لوازم الماهیّة؛ فلا؛ إذ لا منافاة فی لازم الماهیّة وعارضها أو بین اللزوم وکونه محقّقاً لها، کالفصل بالإضافة إلی الجنس، فإنّه عرض خاص له مع أنّ تحصّل الجنس بتحصّله».
وفیه: أنّه خلط بین تمامیّة الشیء فی نفسه وفی مرحلة الماهیّة من حیث هی - أی من حیث الأجزاء والشرائط - وبین التمامیّة فی مرحلة الإمتثال والإجزاء؛ ففی
ص:101
هذه المرحلة التمامیّة إنّما تکون بلحاظ الآثار واللوازم فلا تمامیّة فی هذه المرحلة مع قطع النظر عن هذه الآثار، وأمّا فی افق الماهیّة فلا دخل للآثار فی الماهیّة لا عیناً ولا جزءً (1).
أو خلط بین واقع التمامیّة وعنوانها، فالصلاة مثلاً وضعت بإزاء الحقیقة الملتئمة من الأجزاء والشرائط، نعم انتزاع عنوان التام منها متوقّف علی ترتب الأثر، فترتّب الآثار لیس من متمّمات التمامیّة فی مرحلة الحقیقة واقع التمامیّة، واللّازم سواء کان لازم الوجود أم لازم الماهیّة لا یعقل أن یکون من متمّمات معنی الملزوم وحقیقته.
وأمّا الفصل فهو لازم وعرض خاص للجنس حسب المفهوم والماهیّة، ولیس من هذه الجهة محصّلاً له، بل المحصّلیّة إنّما تکون بحسب الإنیّة والهویّة.
فالصحّة: بمعنی التمامیّة من حیث الأجزاء والشرائط، لا تتأتّی إلّافی المرکّبات والمقیّدات، وأمّا البسیط فلا یتطرّق إلیه الصحّة والفساد، بل أمره دائر بین الوجود والعدم، والصحّة والفساد أمران إضافیّان مختلفان باختلاف الحالات والأوقات.
فتحصّل: أنّ محلّ النزاع هو الصحّة من حیث الأجزاء والشرائط مع قطع النظر عن ترتّب الأثر وعدمه (2)، وإمّا الصحّة الفعلیّة المنتزعة من إنطباق المأمور به علی
ص:102
المأتی به، فخارجة عن البحث قطعاً؛ لتأخّرها عن الأمر وهی من شؤونه، فلا یعقل أخذها فی المسمّی ومتعلّق الأمر، نعم المطلوب هو الصحیح قطعاً.
والحاصل: المبحوث عنه هی الصحّة بمعنی التمامیّة من حیث الأجزاء والشرائط، وأمّا الجهات والحیثیّات الاُخر فهی من الآثار واللوازم المتأخّرة عن افق المسمّی.
البحث الثالث: هل الشرائط داخلة فی محلّ النزاع (المسمّی) أم لا؟
هل المسمّی یصدق علی الأجزاء والشرائط أو یصدق علی تامّ الأجزاء فقط (1)؟
توضیحه: الواجب المرکّب - کالصلاة - إذا قیس إلی أمر یکون علی نوعین:
النوع الأوّل: ما یکون أجنبیّاً عن المرکّب رأساً، أی لا دخل لذلک الأمر فی
ص:103
المرکّب شطراً ولا شرطاً، ولا فی الماهیّة ولا فی الفرد، وهو ینقسم إلی قسمین:
الأوّل: المرکّب الراجح فی نفسه «کالأدعیة فی أیّام رمضان ولیالیه» حیث إنّها راجحة فی نفسها أجنبیّة عن الصوم.
الثانی: لیس له رجحان فی نفسه «کنزول المطر حین أداء الصلاة».
وهذان القسمان خارجان عن محلّ النزاع وصدق المسمّی؛ لعدم کونهما شطراً ولا شرطاً فی المأمور به المسمّی.
النوع الثانی: الأمر الذی له دخل فی الواجب المرکّب بنحو من أنحائه، وهو ینقسم إلی أقسام:
الأوّل: الأمر الذی یکون خارج عن ماهیّة الواجب المرکّب شطراً أو شرطاً، ولکنّه داخل فی خصوصیّات الفرد، وموجب لمزیّة فیه «کعنوان: الجماعة، المسجد، القنوت»، فطبیعة الصلاة باقیة علی ما هی علیها من المصلحة لا تزید ولا تنقص بما ذکر من الخصوصیّات، غایة الأمر تطبیقها علی الواجد للخصوصیّات أولی من تطبیقها علی الفاقد، ولذا ورد: أنّ الصلاة فریضة والجماعة مستحبّة، وهذا معناه عدم کون الجماعة من أفراد الواجب، بل معناه أنّ الجماعة لکونها واجدة للخصوصیّة، یستحب تطبیقها علیها، أی إتیان الصلاة جماعة.
وهذا القسم خارج عن محلّ النزاع؛ لعدم کونه شطراً ولا شرطاً للمأمور به ولا للمسمّی.
الثانی: الأمر الذی یکون دخیل فی الواجب المرکّب بنحو الشرطیّة، أی التقیّد داخل فی حقیقته والقید خارج عنه، ولکون التقیّد داخلاً یلزم کونه اختیاریّاً للمکلّف، سواء کان القید اختیاریّاً «کالطهارة»، أو کان القید غیر اختیاری «کالقبلة».
هذا هو محلّ البحث والنزاع فیه أنّه هل داخل فی المسمّی أم لا (1)؟
ص:104
ص:105
الثالث: الأمر الذی یکون دخیل شطراً فی الواجب المرکّب، فیکون بنفسه متعلّقاً للأمر ومقوّماً لحقیقة الواجب «کالرکوع فی الصلاة».
الظاهر أنّه لا بحث ولا نزاع فی دخول هذا القسم فی المسمّی.
وبعبارة اخری: هنا خمسة صور:
قیاس أمر للواجب المرکّب إمّا لا دخل له فی الواجب، وإمّا داخل فی الواجب، وعلی التقدیر الثانی إمّا دخیل فی الماهیّة أو دخیل فی الفردیّة، وعلی التقدیر الاول أمّا یکون دخیلاً علی وجه الشطریّة أو دخیلاً علی وجه الشرطیّة.
تحریر محل النزاع: لکلّ مرکّب اعتباری أجزاء وشرائط غالباً:
فأمّا الأجزاء: لا بحث فی دخولها فی المأمور به والمسمّی، کما أنّ الرکوع داخل فی ما یسمّی بالصلاة وفی ما هو المأمور به من الصلاة.
وأمّا الشرائط: فلا بحث فی دخولها فی المأمور به، لکنّ البحث فی أنّه هل هی داخلة فی المسمّی أیضاً أم لا؟
أقول، المختار: دخول الأجزاء من الرکنیّة وغیرها فی المسمّی، ممّا لا إشکال فیه، وکذا شرائط المأمور به. وما فی التقریرات من أنّ مرتبة الأجزاء مرتبة المقتضی، والشرائط مرتبتها متأخّرة لدخلها فی فعلیّة التأثیر لا فی ماهیّة المقتضی؛ فلا تساوی بینهما، فلا تکون داخلة فی المسمّی (1).
ففیه: یجوز وضع اللفظ بإزاء المجموع، والوضع بإزاء المختلفین فی الرتبة بل فی الزمان، وهو غیر عزیز. فالفرق بهذا الأمر بین مرتبة الأجزاء والشرائط غیر فارق فی الوضع.
وبالجملة: الإختلاف فی الرتبة بالتأخّر لا یوجب الإختلاف فی التسمیة.
ص:106
ولا یخفی علیک: عدم دخل کلّ ما لم یؤخذ فی المأمور به فی المسمّی، بل یکون خارج عن المسمّی وإن کان دخیلاً فی الصحّة «کقصد القربة وامتثال الأمر، ومثل عدم مزاحمة العبادة بواجب آخر، وعدم کونها منهیّاً عنها» (1)، ووجه عدم الدخل واضح (2)، ولذا لم یقل بدخلها فی المسمّی أحد حتّی ممّن قال بکونها موضوعة للصحیحة.
فلا حاجة إلی ما أفاده المحقّق الکبیر النائینی قدس سره : من امتناع الأخذ فی المسمّی عقلاً، بتقریب: «أنّ الصحّة من جهة تلک الاُمور - قصد القربة، عدم المزاحم، عدم النهی - تکون فی مرتبة متأخّرة عن المسمّی متفرّعة علی تحقّقه؛ فلابدّ أوّلاً من تحقّقه وتکوّنه حتّی ینهی عنه أو یقصد به القربة أو یوجد له المزاحم، فلو اخذت فیه لزم أخذ ما هو المتأخّر فی المتقدّم» (3).
وفیه مضافاً إلی عدم الحاجة لوضوحه، أنّه لا مانع أصلاً فی الوضع المفروض، وهو وضع اللفظ بإزاء أمرین طولیّین ذاتاً بل زماناً، کوضعه بإزاء أمرین عرضیّین، فکون تلک الاُمور الثلاثة فی طول الأجزاء المأمور بها وطول شرائطها، لا ینافی
ص:107
أخذها فی المسمّی؛ فلا یلزم محذور تقدّم الشیء علی نفسه، أو محاذیر اخر (1).
والإستدلال علی الإستحالة بالقضیّة الفرعیّة، وتفرّع تلک الاُمور علی تحقّق المسمّی فی رتبة سابقة علیها، کما تری، إذ هذا یصحّ علی تقدیر خروج هذه الاُمور عن صقعه، وأمّا مع أخذها فی المسمّی «کالشرائط والأجزاء» فلا یتحقّق قبلها حتّی یقصد به التقرّب أو ینهی عنه أو یزاحم بواجب آخر بعد تحقّقه وتکوّنه، بل لو نُهی عنه حینئذ أو زُوحم بواجب آخر أو لم یقصد به التقرّب؛ لم یتحقّق المسمّی؛ لانتفاء المرکّب أو المقیّد بانتفاء جزئه أو قیده، غایة الأمر حینئذ یکون المسمّی غیر المأمور به، وهذا غیر الإمتناع العقلیّ.
فتحصّل: دخول الأجزاء والشرائط فی محل النزاع بلا إشکال، وخروج مثل الاُمور الثلاثة المذکورة عنه.
قال المحقّق الخوانساری قدس سره : «إذا عرفت هذا کلّه؛ فلا شبهة فی عدم دخل ما نُدب إلیه فی العبادات نفسیّاً فی التسمیة بأسامیها، وکذا فیما له دخل فی تشخصّها مطلقاً، وأمّا ما له الدخل شرطاً فی أصل ماهیّتها فیمکن الذهاب - أیضاً - إلی عدم دخله فی التسمیة بها، مع الذهاب إلی دخل ما له الدخل جزءاً فیها؛ فیکون الإخلال بالجزء مخلّاً بها دون الإخلال بالشرط، لکنّک عرفت أنّ الصحیح اعتبارهما فیها» (2).
البحث الرابع: تصویر الجامع الوحدانی.
وفیه قولان:
الأوّل: أنّ تصویر الجامع الوحدانیّ المشترکة فیه الأفراد لازم مطلقاً، سواء
ص:108
قبلنا بالأعمّ أو بالصحیح، وسواء قلنا: بأنّ الموضوع له فی أسماء العبادات والمعاملات عامّاً أو خاصّاً، فعلیه:
أوّلاً إن قلنا: بکون الموضوع له فی ألفاظ العبادات والمعاملات عامّاً کالوضع - وهو الحق حیث أنّها من أسماء الأجناس - فواضح؛ إذ ألفاظها حینئذٍ من أسماء الأجناس والموضوع له فیها عامّ، نعم علی الصحیحیّ الموضوع له حصّة خاصّة من الطبیعة، وعلی الأعمیّ الموضوع له نفس الطبیعة المطلقة.
ثانیاً إن قلنا: بکون الموضوع له فی ألفاظ العبادات والمعاملات خاصّاً بخلاف الوضع، فواضح أیضاً؛ إذ تصوّر الأحاد والأفراد بأسرها تفصیلاً مستحیل؛ فلابدّ من تصوّرها بالجامع الذی هو وجهها وعنوانها، لکنّ هذا القول (1) ضعیف مردود - وعلی هذا القول أیضاً وضعت الألفاظ للأفراد الصحیحة علی الصحیحیّ وللأعمّ علی الأعمّی.
وأمّا الإشتراک اللفظی، ووضع مثل الصلاة لأصنافها بأوضاع متعدّدة، أو کون ألفاظها حقیقة فی بعض الأصناف ومجازاً فی الآخر؛ فهو موهون ولم یقل به أحد؛ لوضوح إطلاق تلک الألفاظ علی الأنواع والأصناف بمعنی واحد بلا عنایة وتجوّز؛ فبعد ردّ احتمالی الإشتراک اللفظی والحقیقة والمجاز؛ ثبت احتمال الإشتراک المعنوی (2).
الثانی: هو القول بعدم الحاجة إلی تصویر الجامع الوحدانی المشترک بین الأفراد، وهو للمحقّق النائینی قدس سره إذ قال: «ویمکن دفع الإشکال عن کلا القولین بالتزام؛ أنّ الموضوع له أوّلاً هی المرتبة العلیا الواجدة لتمام الأجزاء والشرائط، والإستعمال فی غیرها من المراتب الصحیحة علی القول الصحیحیّ أو الأعمّ منها علی الأعمّیّ من باب الإدّعاء والتنزیل، أی تنزیل الفاقد منزلة الواجد مسامحة کما فی جملة من الإستعمالات، أو من باب إکتفاء الشارع به کما فی صلاة الغرقی، فإنّه لا یمکن فیه الإلتزام بالتنزیل المذکور (فهی لیست بصلاة حتی تنزیلاً وإدّعاءً).
ص:109
ثمّ قال: «وأمّا القصر والإتمام فهما وإن کانا فی عرض واحد بالقیاس إلی المرتبة العلیا، إلّاأنّه یمکن تصویر الجامع بینهما فقط، وعلی ما ذکرناه، فیبطل النزاع الصحیحیّ والأعمّیّ رأساً» (1).
ثمّ أشار إلی کون الحال فی سائر المرکّبات الإختراعیّة کذلک، وأنّها وضعت إبتداءً للمرتبة العلیا فقط، واستعمالها فی المراتب الاُخر - الوسطی والدنیا - کالصلاة.
حاصل کلامه وملخّصه:
(أ) أنّ الموضوع له فی العبادات والمرکّبات الإختراعیّة هی المرّتبة العلیا علی کلا القولین - الصحیحیّ والأعمّی - والإستعمال فی غیرها یکون من باب الإدّعاء أو الإکتفاء، غایة الأمر الصحیحیّ یدّعی الإستعمال فی المراتب الصحیحة، والأعمّی یدّعیه فی الأعمّ منها ومن الفاسدة.
(ب) لابدّ من تصویر جامع فی خصوص القصر والإتمام علی کلا القولین؛ حتّی یوضع لفظ الصلاة بإزاء ذلک الجامع.
(ج) بطلان الثمرة علی القولین علی هذا المسلک.
ویلاحظ علیه:
أوّلاً: أنّ ما ذکره أوّلاً - الوضع للمرتبة العلیا - وإن کان ممکناً ثبوتاً، لکن لا دلیل علیه فی الإثبات، بل الدلیل علی خلافه؛ ضرورة کون إطلاق لفظ الصلاة مثلاً علی العلیا والمراتب الاُخری التی لها عرض عریض علی وجه واحد وبمعنی فارد، بلا لحاظ عنایة وتنزیل أو الإشتراک فی الأثر، کإطلاق لفظ الإنسان علی الفرد الکامل والمتوسّط والدانی والسافل، وهکذا الألفاظ الاُخری (2).
وبالجملة: لا فرق فی أسماء الأجناس بین المرکّبات والبسائط، وفی المرکّبات منها بین المخترعة وغیرها. فإنّ إطلاق لفظ الصلاة علیها أو علی غیرها بلا قیام أمارة،
ص:110
کإطلاقها علی المرتبة العلیا الکاملة، والمُطلقون للصلاة علی غیر العلیا من المراتب الاُخری غافلون عن التنزیل والإدّعاء أو الإکتفاء، فلا یرون تفاوتاً بین الإطلاقین أصلاً، فنستکشف حینئذ أنّ الموضوع له هو الجامع بین المراتب.
ثانیاً: أنّ المرکّبات الشرعیّة کالمعاجین وإن کان لمرتبتها العلیا أجزاء معینة وحدود مخصوصة؛ لکنها لا تختلف تلک المرتبة بالزیادة والنقیصة، فتنعدم تلک المرتبة وتنتفی بانتفاء أحد الأجزاء، فیمکن أن یکون لها ثلاثة أجزاء مثلاً أو أزید أو أنقص، فیمکن دعوی وضع ألفاظها للمرتبة القصوی، ودعوی التنزیل والإدّعاء فی المراتب الاُخری.
ثالثاً: أنّ العبادات کالصلاة ونحوها لیس لمراتبها العلیا کمیّة وکیفیّة خاصّة متعیّنة بحیث لا تزید ولا تنقص، بل المراتب العلیا بأنفسها مختلفة متفاوتة کمیّة وکیفیّة، فالمرتبة العلیا من صلاة المغرب غیر المرتبة العلیا لصلاة العشاء، والمرتبة العلیا للظهرین غیر المرتبة العلیا للصبح، والمرتبة العلیا لصلاة الآیات والعیدین غیر المرتبة العیا للصلاة الیومیّة.
وبالجملة: للصلاة عرض عریض حسب أصنافها الکثیرة، والمرتبة العلیا فی کلّ صنف تکون بحسبه، فالمراتب العالیة نفسها متعدّدة؛ ولابدّ من تصویر جامع بینها، فتصویر الجامع ممّا لابدّ منه علی أیّ تقدیر ولو قلنا بوضعها للمرتبة العلیا.
رابعاً: فقد عرفت أنّ تصویر الجامع لا یختص بالقصر والإتمام فقط، بل لابدّ منه بین جمیع المراتب حتّی المراتب العلیا.
خامساً: وأمّا بطلان الثمرة بناءً علی ما التزم به - من الإلتزام بالوضع للمرتبة العلیا - فالحقّ عدم البطلان، بل تظهر الثمرة حتّی علی هذا الفرض، وسیأتی البحث عن الثمرة إن شاء اللّه.
ص:111
ظهر ممّا مضی؛ أنّه لابدّ من تصویر الجامع علی کلا القولین، فإن أمکن التصویر ثبوتاً علی کلا القولین، فللنزاع الإثباتی مجال، وإن لم یکن إلّاعلی أحد القولین فالقول الآخر لا مجال له إثباتاً، فلابدّ من الإلتزام إثباتاً بذلک القول الممکن ثبوتاً فقط.
4 فعلیه: إن أمکن تصویر الجامع علی القول بالصحیح والأعمّ فی مقام الثبوت؛ یقع البحث عن أدلّة الصحیحی والأعمّی فی مقام الإثبات، وإن لم یمکن تصویر الجامع إلّا علی أحد القولین ثبوتاً؛ فلا مجال للبحث عن القول الآخر إثباتاً؛ لأنّ القول الذی یمکن تصویره ثبوتاً لابدّ من الإلتزام به إثباتاً (1).
فعلی هذا یقع البحث فی مرتبتین وخاتمة:
الاُولی - فی مقام الثبوت؛ وفیها بحثان:
الأوّل: تصویر الجامع علی القول بالصحیح.
الثانی: تصویر الجامع علی القول بالأعمّ.
الثانیة - فی مقام الإثبات؛ وفیها بحثان:
الأوّل: أدلّة الصحیحی.
الثانی: أدلّة الأعمّی.
الخاتمة - فی ثمرة النزاع بین الصحیح والأعمّ.
المرتبة الاُولی - فی مقام الثبوت:
وفیها بحثان:
البحث الأوّل: تصویر الجامع علی القول بالصحیح:
ص:112
وفیه أقوال نشیر إلیها:
الأوّل - قول صاحب الکفایة قدس سره : الجامع هو المفهوم الواحد المنتزع من هذه المرکّبات.
الثانی - قول المحقّق الإصفهانی قدس سره : الجامع من سنخ الوجود والمصداق مبهم، لیس جامع مقولیّ ولا عنوانیّ.
الثالث - قول بعض الأعلام المعاصرین: الجامع هو ما یترتّب علیه الأثر المطلوب (المؤثّر فی الأثر).
البحث الثانی - تصویر الجامع علی القول بالأعمّ:
وفیه قول الإمام قدس سره : الجامع عنوان عرضی لا بشرط هیئة ولا مادّة.
وفیه أقوال:
الأوّل - قول صاحب الکفایة قدس سره :
فقد أشار إلی أنّ وجود الجامع علی القول الصحیح ممّا لابدّ منه؛ مستدلّاً بقاعدة «الواحد لا یصدر إلّامن الواحد».
قال قدس سره : «ومنها أنّه لابدّ علی کلا القولین من قدر جامع فی البین، کان هو المسمّی بلفظ کذا، ولا إشکال فی وجوده بین الأفراد الصحیحة وإمکان الإشارة إلیه بخواصّه وآثاره؛ فإنّ الإشتراک فی الأثر کاشف عن الإشتراک فی جامع واحد یؤثّر الکلّ فیه بذلک الجامع، فیصحّ تصویر المسمّی بلفظ الصلاة مثلاً: بالناهیة عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما... .
ثمّ قال: الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکّبات المختلفة زیادة ونقیصة، بحسب اختلاف الحالات متحد معها نحو اتّحاد...» (1).
ص:113
حاصل کلامه: أنّه لابدّ من السنخیّة بین العلّة والمعلول، والواحد بما هو واحد لا یکون مسانخاً لکثیر بما هو کثیر، وهنا الأثر فی الأفراد الصحیحة واحد، وهو النهی عن الفحشاء والمنکر، أو عمود الدین، أو معراج المؤمن، أو قربان کلّ تقی کما فی الأخبار؛ فلابدّ أن یکون بین الأفراد علی کثرتها جامع واحد هو المؤثّر لذلک الأثر الواحد؛ لعدم مسانخة الواحد للکثیر.
تنبیه: ما نسب إلیه بأنّه قدس سره یقول: بکون الصلاة موضوعة لنفس الأثر أو للمقیّد به أو بالملاکات، لا یلائم ظاهر کلامه، فلم یقل بوضعها للأثر، بل قال بوضعها للجامع، وأنّه یشار إلیه بالأثر، فلیس ظاهر کلامه کون الأثر موضوعاً له، أو کون الموضوع له هو المقیّد بالأثر أو بالملاک.
وعلیه: فلا یرد علی الکفایة - إیراد المحقّق النائینی قدس سره بعد تلک النسبة - عدم صحّة تعلّق التکلیف بالملاکات، لا بنفسها ولا بأخذها قیداً لمتعلّق التکلیف؛ لإشتراط القدرة فی صحّته، فیعتبر مقدوریّة المکلّف به بجمیع أجزائه وقیوده، والملاکات إنّما تکون من الدواعی ولا تکون من المسببات التولیدیّة بالنسبة إلی الصلاة ونحوها من العبادات، إذ الصلاة مثلاً لا تکون علّة تامّة بالإضافة إلی الملاکات؛ حتّی تکون من الأفعال التولیدیّة لدخل امور ومقدّمات اخری خارجة عن حیطة قدرة المصلّی فی حصول تلک الملاکات (1).
إذ یمکن أن یقال فی جوابه قدس سره : لو فرض علیّة شیء لحصول أثر بنحو الإعداد وقیام ذلک الأثر به، فلا مانع من وضع اللفظ لذات ذلک المؤثّر والإشارة إلیه بأثره، ولا مانع - أیضاً - من تعلّق التکلیف بنفس ذلک المؤثّر بلا تقیید بالأثر والملاک، علی أنّه لا مانع من تعلّق التکلیف بالمقیّد، فالصلاة المقیّدة بالمراجعة مقدورة؛ للعلم
ص:114
بحصولها بالإتیان بالأرکان المخصوصة الواجدة للأجزاء والشرائط.
الإعتراضات:
ویلاحظ علی الکفایة:
أوّلاً: القاعدة - الواحد لا یصدر إلّامن الواحد - تختص بالواحد البسیط الحقیقی الذی لا یُدانیه شوب الترکیب أصلاً، لا من المادّة والصورة، ولا من الجنس والفصل، ولا من الماهیّة والوجود، وأمّا الواحد الإعتباری - کالصلاة ونحوها - فلا تجری فیه قاعدة الواحد.
ثانیاً: الجامع إمّا عنوانی أو مقولی (1)، فأمّا الجامع العنوانی الإعتباری: - کالناهیة عن الفحشاء، ونحوه من العناوین الاُخری - وضع لفظة الصلاة بإزائه وإن کان ممکناً؛ لکن لازمه عدم صحّة إستعمالها فی نفس المعنون بلا عنایة؛ إذ العنوان غیر المعنون، ولیس الجامع العنوانی کالذاتی المتحد مع جمیع المراتب، مع أنّ إستعمالها فی نفسه الهیئة الترکیبیّة صحیح بلا عنایة.
هذا مضافاً إلی سخافة القول بوضعها لعنوان «الناهیة ونحوه» لأنّه یلزم منه الترادف، وهو کما تری.
وأمّا الجامع المقولی الذاتی، فغیر معقول؛ لترکبّها - أی الصلاة - من مقولات متبائنة من الکیف والوضع وغیرهما، والمقولات أجناس عالیات متبائنات ومتمایزات بتمام الذوات. فالصلاة مرکّبة منها، ولیس المرکّب إلّاالأجزاء بالأسر، فلیس بنفسه مقولة، فالجامع الذاتی المقولی لا یکون لمرتبة واحدة من الصلاة؛ فعدمه للمراتب الکثیرة المختلفة کمّاً وکیفاً بطریق أولی، علی أنّ وحدة الأثر وبساطته کاشفة عن وحدة المؤثّر وبساطته، ومن المسلّم استحالة إتحاد البسیط مع المرکّب، ولو اتحدت الأجزاء وإندرجت تحت مقولة واحدة.
ص:115
وبالجملة: البسیط لا یمکن أن یُطلق علی المرکّب، والمرکّب یستحیل أن یکون فرداً للبسیط، نعم یمکن أن یقع فی البسیط التشکیک شدّة وضعفاً ونحوهما من دون ترکیب.
فتحصّل: عدم معقولیّة الجامع الذاتی المقولی، وعدم الوضع بإزاء الجامع العنوانی.
ثالثاً: تأثیر الصلاة بمراتبها المختلفة کمّاً وکیفاً فی النهی عن الفحشاء، لا یکشف عن وحدة حقیقیّة ذاتیّة بین تلک المراتب، إذ النهی عنها واحدة عنواناً لا ذاتاً وحقیقةً، والواحد کذلک (عنواناً) غیر کاشف عن الواحد کذلک، وهو عنوان الناهیة عن الفحشاء والمنکر وإن کان ذات المنکر فی کلّ مرتبة مبائنة لذاته فی مرتبة اخری.
والحاصل: الإتحاد العنوانی لا یکشف عن الإتحاد الذاتی الحقیقی المقولی.
رابعاً: الجامع المقولی لو کان معقولاً، فلا یختصّ بالصحیحی، بل یعمّ الأعمّی - أیضاً - إذ الصحّة والفساد إنّما تکونان باختلاف الإعتبارات وجهات الصدور، فلا تؤثّران فی الجهة الذاتیّة.
وبعبارة اخری: المقولات امور واقعیّة، لا تختلف باختلاف الإعتبارات وحیثیّات الصدور من طائفة دون اخری (1).
خامساً: أنّ الصحّة فی محلّ النزاع هی التمامیّة فی نفسها - أعنی تمامیّة الصلاة مثلاً - من حیث الأجزاء والشرائط، فهذه الصحّة مبحوث عنها، وإن کانت الصلاة موضوعة للصحیح أو للأعمّ.
وأمّا الصحّة من جهات اخری - کقصد القربة، أو عدم النهی، أو عدم المزاحمة - فخارجة عن محلّ النزاع غیر داخلة فی المسمّی، کما أشرنا إلیه سابقاً وقلنا بتقدّم المسمّی، وکونه فی مرتبة سابقة علی هذه الثلاثة، فقد یوجد له مزاحم أو یُقصد به القربة أو یُنهی عنه، لکن مع ذلک لها دخل فی الصحّة وفی فعلیّة الأثر، فلو زوحمت
ص:116
الصلاة بواجب أهم أو نُهی عنها أو لم یقصد التقرّب بها؛ لم یترتّب أثر علیها.
ونتیجة ما ذکرنا: أنّ الصحیح الفعلی الواجد للأثر لا یکون موضوعاً له، والموضوع له لا یکون إلّاصحیحاً اقتضائیّاً، وهذا کما یصدق علی الأفراد الصحیحة کذلک یصدق علی الأفراد الفاسدة، إذ الفاسدة - أیضاً - قد تقع صحیحة بالنسبة إلی شخص آخر أو حالة اخری أو زمان آخر.
والحاصل: الصحیح الفعلی لم یوضع له اللفظ، وما وضع له اللفظ - أعنی الإقتضائی - جامع للقبیلین، فالفاسد - أیضاً - ناهی عن الفحشاء والمنکر إقتضاءً.
سادساً: قد اورد - أیضاً - علی الکفایة بأنّ الجامع لابدّ أن یکون أمراً عرفیّاً، وما ذکر من الجامع - المکشوف بقاعدة الواحد - علی فرض تسلیم وجوده، لا یکون عرفیّاً حتّی یکون مسمّی بالصلاة ویصیر مورداً للخطاب، إذ اللفظ لم یوضع لمعانٍ خارجة عن المتفاهم العرفی، ولا یصیر مثلها مورداً للخطابات الشرعیّة المنزّلة علی المفاهیم العرفیّة، والجامع المذکور لیس بعرفی، فلا یکون موضوعاً له، والکلام لیس فی تصویر جامع بأی وجه أمکن، بل فی تصویر جامع عرفی یقع تحت الخطاب.
فالجامع العقلی البسیط المکشوف بالبرهان الخارج عن متفاهم العرف؛ لا یکون هنا مبحوثاً عنه.
وإن شئت فقل: مصلحة الوضع الداعیة إلیه وحکمته، هو التفهیم والإفادة، فهذه الحکمة دعت إلی وضع الألفاظ بإزاء المعانی التی یفهمها أهل المحاورة، وهی المعانی العرفیّة القابلة للتفهیم والإستفادة عرفاً؛ وأمّا المعانی الدقیّة الخارجة عن دائرة فهمهم، فغیر موضوع لها، بل کان الوضع حینئذ لغواً، والجامع المفروض فی الکفایة من هذا القبیل، فکثیر من الناس لا یعلمون تأثیر الصلاة فی النهی عن الفحشاء، فضلاً عن العلم بکشفها عن جامع ذاتی مقولی، فلا یکون مثل هذا موضوعاً له، والعرف لا یفهم ذلک من قولنا «زید صلّی»، فالجامع المقولی غیر معقول.
وقد عرفت الحال فی الجامع العنوانی، وأنّ الوضع بإزاء «الناهیة عن الفحشاء»
ص:117
وإن کان ممکناً، لکنّه لم یوضع لفظ الصلاة بإزائه قطعاً، هذا مع لزوم الترادف بین لفظ الصلاة والناهیة، وهو کما تری، ولو کان هنا ترادف لزم أن یکون حمل الناهیة علیها حملاً أوّلیّاً (1).
الثانی - تصویر الجامع للصحیحی عند المحقّق الإصفهانی قدس سره :
الجامع عنده قدس سره من سنخ الوجود والمصادیق مبهمة، لا من قبیل الجامع العنوانی ولا الجامع المقولی إذ قال: سنخ المعنی والماهیّات عکس الوجود العینی، ففی مسألة السعة والإطلاق متعاکسان، فإنّ سعة الماهیّات من جهة الضعف والإبهام، وسعة سنخ الوجود من فرط الفعلیّة، فکلّما کان الضعف والإبهام فی المعنی أکثر؛ کان الإطلاق والشمول أوفر، وکلّما کان الوجود أشدّ وأقوی؛ کان الإطلاق والسعة أعظم وأتمّ.
فالماهیّة الحقیقیّة: ضعفها وإبهامها بلحاظ الطواریء وعوارض ذاتها مع حفظ نفسها، کالإنسان فلا إبهام فیه نفسه من حیث الجنس والفصل المتقوّمین لحقیقته، بل الإبهام من جهة الشکل وشدّة القوی وضعها وعوارض النفس والبدن.
والماهیّة غیر الحقیقیّة: المتألّفة من عدّة امور بحیث تزید وتنقص کمّاً وکیفاً، مقتضی وضعها بحیث یعمّها مع تفرّقها وشتاتها، فملاحظتها مبهمة غایة الإبهام بمعرفیّة بعض العناوین غیر المنفکّة عنها.
ثمّ مثّل قدس سره بالخمر، وقال بکونه مائعاً مبهماً من حیث الإتخّاذ من العنب والتمر وغیرهما - هذا من حیث المادّة - ومن حیث اللّون والطعام والرائحة، ومن حیث مرتبة الإسکار، ولذا لا یمکن وضعها (وصفها) إلّالمائع خاص بمعرفیّة المسکریّة من دون لحاظ الخصوصیّة تفصیلاً، فإذا أراد المتصوّر تصوّره لم یوجد فی ذهنه إلّامصداق
ص:118
مائع مبهم من جمیع الجهات إلّاحیثیّة المائعیّة بمعرفیّة المسکریّة.
کذلک لفظ الصلاة مع هذا الإختلاف الشدید بین مراتبها کمّاً وکیفاً، لابدّ أن یوضع لسنخ عمل معرّفه «النهی عن الفحشاء، أو غیره» من المعرّفات، بل العرف لا ینتقل من سماعه إلّاإلی سنخ عمل خاصّ مبهم إلّامن حیث کونه مطلوباً فی الأوقات الخاصّة، والإبهام هنا غیر التردید فی النکرة المأخوذ فیها الخصوصیّة البدلیّة.
ثمّ قال قدس سره : وهذا الذی تصوّرناه فی ما وضع له الصلاة بتمام مراتبها من دون الإلتزام بجامع ذاتی مقولی وجامع عنوانی، ومن دون الإلتزام بالإشتراک اللفظی؛ ممّا لا مناص عنه بعد القطع بحصول الوضع ولو تعیّناً.
ثمّ قال قدس سره : وقد التزم بنظیره بعض أکبار المعقول (صدر المتألّهین) فی تصحیح التشکیک فی الماهیّة، جواباً عن تصور شمول طبیعة واحدة لتمام المراتب الزائدة والمتوسّطة والناقصة، فقال: «نعم الجمیع مشترک فی سنخ واحد مبهم غایة الإبهام بالقیاس إلی تمام نفس الحقیقة ونقصها وراء الإبهام الناشیء فیه عن اختلاف فی الأفراد بحسب هویاتها.
ثمّ قال قدس سره : وسیجیء إن شاء اللّه تعالی أنّ هذا البیان یجدی للأعمّی أیضاً» (1).
توضیح: الفرق بینه وبین المحقّق الخراسانی قدس سره أنّه قال بالإشارة إلیه بالأثر، وإمکان الإشارة إلیه بخواصه وآثاره، وهذا المحقّق قدس سره قال بالمعرفیّة بالأثر، وبعض العناوین غیر المنفکّة عنها.
یلاحظ علیه: أوّلاً: التعاکس غیر مقبول، بل الماهیّة بسعتها وإطلاقها بعدم القیود أو قلّتها من المفاهیم والماهیّات الاُخری، وضیقها بوجود القیود وکثرتها، والوجود العینی کذلک، لکنّ السعة وضیقه باُمور اخری لا بالمفاهیم والماهیّات، فقید کل شیء بحسبه، فقد المعنی والماهیّة یکون من سنخ المعنی، وقید الوجود أمر آخر من الفقدان وعدم الفعلیّة، وإلّا فالفعلیّة والوجدان لیسا بقیود للوجود یتزاید ویشتدّ
ص:119
الوجود بها، فافهم واغتنم.
ثانیاً: لابدّ للصلاة من جامع متواطیء صادق علی أفراده، متعیّن متحصّل فی مقام تجوهره وتقرّر ذاته، یعرضه الإبهام باعتبار العوارض والطواریء، ولولا ذلک للزم أن یکون من قبیل الفرد المردّد الذی یکون الإبهام داخلاً فی صقع ذاته ومرتبة تجوهره.
ثالثاً: هذا الجامع الذی صوّره یرجع إمّا إلی جامع مقولی أو عنوانی وکلاهما فاسدان (1).
رابعاً: إیکال الأمر بالآخرة إلی معنی مبهم (2)(3).
البحث الثانی - تصویر الجامع علی القول بالأعمّ:
قول السیّد الإمام سلام اللّه علیه فی تهذیب الاُصول: الجامع: هو عنوان عرضی - کالعبادة الخاصّة - لا بشرط هیئة ولا مادّة.
وتحقیق الأمر یحتاج إلی ذکر مقدّمات:
الاُولی: محلّ الکلام ومورد البحث تصویر جامع منطبق علی الأفراد المختلفة کمّاً وکیفاً.
ص:120
الثانیة: نتیجة ذلک؛ تقدّم مرتبة فرض الجامع علی مرتبة عروض الصحّة والفساد؛ لکونها من عوارض وجود العبادات خارجاً، فالعبادات فی الخارج إمّا صحیحة فقط، أو فاسدة فقط.
الثالثة: فما یقال بکون الصلاة للصحیح فقط - إلّاانّ الصحّة إضافیّة، فتکون صحیحة بنسبة، فاسدة بنسبة اخری - غیر صحیح. بل بینهما تضاد - وهما کیفیّتان وجودیّتان عارضتان للشیء فی الوجود الخارجی - کالسواد والبیاض.
فالماهیّة المتألّفة الموجودة فی الخارج، وکذا الماهیّة الحقیقیّة بحسب وجدوها، إمّا صحیحة فقط أو فاسدة فقط. نعم قد یکون فساد الماهیّة فی الطبائع الحقیقیّة وصحّتها معاً أحیاناً علی وجه التبعّض، بحیث یکون بعضها صحیحاً مطلقاً، والآخر فاسداً کذلک، فالبطیخ قد یکون نصفه صحیح والنصف الآخر فاسد.
وهذا لا یتأتّی فی مثل الصلاة الفاقدة لبعض الشروط أو الأجزاء، فلا تتصف بهما معاً، بل هی فاسدة فقط غیر صحیحة، لا فاسدة فی جهة وصحیحة فی اخری، أی غیر فاسدة حسب نصفها الفاسد، وصحیحة حسب نصفها الآخر الصحیح.
الرابعة: إنقدح خروج بعض شرائط الصحّة - کقصد القربة، عدم النهی، عدم المزاحمة - عن حریم النزاع، إذ البحث فی تصویر الجامع المنطبق علی الأفراد، المتقدّم علی مرتبة الوجود الخارجی وعوارضه فی الصحّة والفساد.
الخامسة: نتیجة ذلک هو الإعتراف بمقالة الأعمّی فی الموضوع له، لا الصحیحی القائل بکون الموضوع له هو الصحیح فقط؛ لعدم إتصاف ماهیّة الصلاة بالصحّة دائماً، بل إذا وجدت فی الخارج مجرّدة عن تلک الشرائط الخارجة عن الموضوع له - حتّی باعتراف الصحیحی - تتّصف بالفساد قطعاً، ولا یمکن إتصافها بالصحّة حینئذٍ أصلاً، فالماهیّة الموضوعة لها الصلاة لا تکون فی الخارج صحیحة دائماً، وهذا قول الأعمّی.
السادسة: من الواضح - أیضاً - لیس النزاع فی الوضع لمفهوم الصحیح أو
ص:121
الأعمّ، کی یکون لفظ الصلاة - مثلاً - مرادفاً للصحیح، ولیس النزاع فی الوضع للماهیّة المتقیّدة بمفهوم الصحّة شطراً أو شرطاً، بل لا یمکن الوضع للماهیّة الملازمة للصحّة، إذ مفهوم الصحّة وحقیقة الصحّة لیسا من لوازم الماهیّة، بل الصحّة من عوارض الوجود - کما عرفت - (1).
ولا یمکن الوضع لماهیّة إذا وجدت فی الخارج کانت صحیحة؛ لخروج بعض شروط الصحّة عن حریم الدعوی قطعاً، کالاُمور الثلاثة المشار إلیها من قصد القربة وغیره.
السابعة: نتیجة کلّ ما ذکرنا: عدم ملازمة الماهیّة الموضوع لها الصلاة للصحّة والفساد وما أشبههما، فلا مجال للنزاع بتلک الصورة، إلّابإلغاء عنوانی الصحیح والأعم، فیقال: هل الألفاظ موضوعة للماهیّة التامّة من حیث الأجزاء والشرائط، أو لما هو لازم لها، أو لا؟ ولعلّ القوم کان نظرهم هذا، ولکن أتوا بعبارة الصحیح والأعم لسهولة التعبیر.
الثامنة: بعدما عرفت ما ذکرنا من الاُمور، فاعلم أنّ المرکّب الإعتباری
ص:122
المشتمل علی الهیئة والمادّة، ربمّا یؤخذ کلّ منهما فی مقام وضعه لا بشرط، أی لا یلاحظ فی مقام التسمیة إلّابعرضها العریض، کالمخترعات الصناعیّة المستحدثة، حیث إنّ مخترعها بعد أن أحکم صنعها من المواد المختلفة، وألّفها علی هیئة خاصّة، وضع لها اسم الطیّارة والسیّارة ونحوهما، ولکن بأخذ المواد والهیئات لا بشرط.
فلذا یُطلق الإسم ویصدق العنوان مع طریان تغیّرات فی المادّة أو فی الهیئة بمقتضی تکامل الصنعة وتطوّرها، وهذا لیس إلّالإعتبارها لا بشرط وعدم لحاظ مادّة أو هیئة خاصّة.
التاسعة: وهی توضیح ما جاء فی التهذیب لتقسیم المرکّب الإعتباری إلی قسمین:
أحدهما - المرکّب الإعتباری بالنسبة إلی المادّة، وهو علی نحوین:
الأوّل: ما یکون الملحوظ فیه کثرة متعیّنة لا تزید ولا تنقص - أی یکون بالنسبة إلی الکثرة المعیّنة بشرط شیء - فتنعدم بفقد واحد من آحادها، کما تنعدم بزیادة واحد کالعشرة مقابل العشرین والثلاثین، فتنعدم وتصیر تسعة لو نقص منها واحد، وتصیر عشرین لو زادت علیها عشرة اخری، وهکذا، فقوام هذا القسم یکون بکثرته الخاصّة وموادّه وآحاده.
الثانی: ما یکون قوام وجوده الإعتباری بهیئته وصورته العرضیّة، من دون لحاظ کثرة معیّنة فی جانب المادّة، فمادامت هیئتها وصورتها العرضیّة موجودة، یصدق علیها الإسم والعنوان الموضوع لها، سواء قلّت موادّها أو کثرت أو تبدّلت، وإن شئت فقل بابتداع الهیئة للمواد والأجزاء، صارت هی نفسها مقصودة فی اللحاظ، بحیث تکون المادّة تحت الشعاع مقهورة مغلوبة غیر مرئیّة ولا منظورة، کالسیّارة ونحوها بالنسبة إلی هیئتها وصورتها القائمة بموادّها وأجزائها.
هذا حال المادّة، فالمادّة هنا مأخوذة بنحو اللابشرطیّة کمّا وکیفاً.
ص:123
ثانیهما - المرکّب الإعتباری بالنسبة إلی الهیئة، وهو علی نحوین:
الأوّل: تلاحظ الهیئة متعیّنة بحیث لا تتغیّر.
الثانی: تلاحظ الهیئة بنحو اللابشرطیّة، کالمادّة بعرضها العریض.
وبالجملة: المرکّب غیر الحقیقی ربمّا تؤخذ موادّه فانیة ذائبة فی صوره وهیئاته، بحیث یُقصر النظر إلی الهیئات، لکن الهیئة أیضاً تؤخذ لا بشرط کالدار والسیّارة ونحوهما، وهی التی یُشار إلیها بلفظ واحد إلی جامع عرضی عنوانی جامع بین أفرادها، حیث لا جامع مقولیّاً حقیقیّاً بیهما مؤلفاً من جنس وفصل.
والحاصل: لا یشار إلی الجامع بینها إلّابعناوین عرضیّة، کالإشارة إلی العبادة الخاصّة بلفظ الصلاة، والإشارة إلی المرکوب الخاصّ بالسیّارة أو الطیّارة، والإشارة إلی المسکن الخاص بالبیت أو الدار، فالبیت بیت سواء اخذت موادّه من الحجر أو من الطین أو من الجص أو من الخزف فإنّه یبنی علی هیئة خاصّة مثل المربع أو المثلث أو غیرهما، حیث وضع الواضع هذا اللفظ بإزاء هیئة مخصوصة تکون المواد فانیة فیها، بحیث لو کان وجود الهیئة بدون المادّة ممکناً لم یلزم وجودها، ومع ذلک لم یلحظ الهیئة أیضاً معیّنة من جمیع الجهات.
وعلی ما ذکرنا إلی الآن: فلا مانع من القول بوضع لفظ الصلاة ونحوها لنفس الهیئة اللابشرطیّة، الکائنة فی الفرائض الواجبة علی السالم والمریض والنوافل وقصرها وتمامها إلی غیر ذلک من المراتب، إلّابعضها کصلاة الغرقی حیث لا یصدق علیها لفظ الصلاة.
فالصلاة وضعت لهیئة خاصّة علی وجه اللابشرطیّة مع فناء المواد المعینة فیها من ذکر وقرآن ورکوع وسجود، فتصدق علی المیسور من کلّ واحد منها، وهیئة الصلاة عبارة عن صورة اتّصالیّة خاصّة حافظة لمادّتها اخذت علی وجه اللابشرطیّة من بعض الجهات، والفرق بینها وبین مثل الدار وجود نوع تضییق فی الصلاة من حیث المادّة من التکبیر إلی التسلیم، ولکن مع ذلک لکل من موادها عرض عریض،
ص:124
فالرکوع والسجود ونحوهما جزءان للصلاة بعرضها العریض، إلّاأنّ الغرض متوجه إلی الهیئة الخضوعیّة الصادقة علی فاقد الحمد والتشهّد وغیرهما، مع بقاء ما یحفظ به صورتها وهیئتها.
ثمّ بعد ما أسمعناک من حقیقة الوضع فی المرکّبات الإعتباریّة، تعرف أنّ الشرائط کلّها خارجة عن الماهیّة، وأنّها عبارة عن الهیئة الخاصّة الحالّة فی أجزاء خاصّة تتحد معها نحو اتحاد الصورة مع المادّة، کما أنّ عنوانی الصحیح والأعمّ خارجان عن الموضوع له رأساً (1)(2)(3).
ص:125
ص:126
ص:127
ص:128
وفیها بحثان:
البحث الأوّل: فی أدلّة الأعمّی:
أوّلاً: التبادر.
ثانیاً: عدم صحّة السلب (1)
توضیح ذلک: الأوضاع امور قدیمة عامّة البلوی عند الناس وذلک فی وضعهم الأسماء للأشخاص وللأشیا، فهی امور عرفیّة عقلائیّة، والشارع رئیس العقلاء، فلا یتخطی عن طریقتهم فی امورهم، نعم قد یقدم علی الإصلاح والتعدیل، فلیس الوضع عنده أمراً آخر غیر ما عند العقلاء، والماهیّات المرکّبة عندهم کثیرة، والوضع لها عندهم لا یعد ولا یحصی، فهل تری إلی الآن بینهم هذا البحث (الصحیح والأعمّ)، مع أنّ الأشیاء صحیحة وفاسدة، سلیمة ومریضة، معیبة وغیر معیبة.
فلفظ الإنسان یطلق علی زید وعمرو، سواء کانوا سالمین أو مرضاء، ناقصین أو کاملین، ولا یصحّ عندهم سلب لفظ الإنسان من زید المعلول الناقص المریض
ص:129
مثلاً.
ثالثاً: استعمال الصلاة وغیرها فی الأخبار فی الفاسد.
کقول الباقر علیه السلام : (بنی الإسلام علی خمس: الصلاة، والزکاة، والحج، والصوم، والولایة، ولم یناد أحد بشیء کما نودی بالولایة، فأخذ الناس بأربع وترکوا هذه، فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام لیله، ومات بغیر ولایة، لم یقبل له صوم ولا صلاة) (1)(2).
إنّ قلت کما قال صاحب الکفایة قدس سره ، کون المراد الجدّی هو خصوص الصحیح، بقرینة أنّها ممّا بنی الإسلام علیها (3).
قلنا: لا یکون هذا دلیلاً علی الوضع للصحیح، کما أنّ المراد من الصلاة فی «أقم الصلاة» ومن الصوم فی «کتب علیکم الصیام» وغیرها هو الصحیح قطعاً، وفی الإستعمالات العرفیّة أیضاً کذلک، فالمراد من «الماء» فی «جئنی بماء» هو الماء الخالص، وکذا فی «جئنی بلحم» هو اللحم السالم قطعاً، لکن لیس هذا دلیلاً علی وضع تلک الألفاظ للصحیح فقط.
فما فی الکفایة: خلط بین المراد والمسمّی، أو بین المراد الجدّی والإستعمالی.
ص:130
إن قلت - کما قال صاحب الکفایة قدس سره - ، الإستعمال أعمّ من الحقیقة والمجاز، فإستعمال الصلاة فی هذه الروایة فی الاعمّ، لا یدلّ علی وضعها للأعم.
قلنا:
رابعاً: صحّة تقسیم الصلاة ونحوها إلی الصحیحة والفاسدة والکاملة والناقصة، بلا عنایة ومجاز، وهذا یدلّ علی أنّ لفظ الصلاة موضوع للأعم من الصحیح والفاسد (1).
خامساً: صحّة تعلّق النذر ونحوه بترک الصلاة فی مکان تکره فیه، وحصول الحنث بفعلها، وهذا ممّا لا شبهة فیه، مع أنّه لو کان المنذور ترکه خصوص الصلاة الصحیحة، لا یکاد یحصل بفعها الحنث أصلاً، لفساد الصلاة المأتی بها لحرمتها، بل
ص:131
یلزم المحال؛ لتعلّق النذر بالصحیح منها حسب الفرض، ولا یمکن أن تصحّ مع النذر، وما یلزم من وجوده عدمه محال؛ حیث یلزم من وجود النذر عدمه، أو من فرض الصحّة عدمها.
وفی تهذیب الاُصول - فی تقریب الإستحالة - قال: «ولو کانت موضوعة للصحیحة، لزم عدم قدرة المکلّف علی مخالفة هذا النذر، ومعه لا یتحقّق الحنث أبداً، فیلزم من صحّة النذر عدمه» (1). هذا.
وأجاب المحقّق الخراسانی قدس سره عن هذین الإستدلالین بوجهین:
أوّلاً: مقتضی هذا عدم صحّة تعلّق النذر بالصحیح، لا عدم وضع اللفظ له شرعاً.
ثانیاً: عدم منافاة الفساد من قبل النذر صحّة المتعلّق (لولا النذر) فلا یلزم من فرض وجود الصحّة عدمها، فالصحّة باقیة فالنذر باق غیر باطل.
ثمّ قال: وحصول الحنث لأجل الصحّة لولا تعلّقه، (أی الصحّة الولائیّة)، نعم لو فرض تعلّقه بترک الصلاة المطلوبة بالفعل (المطلوبة حتّی مع نذر ترکها) لکان منع حصول الحنث بفعلها بمکان من الإمکان (لعدم المطلوبیّة بالفعل مع تعلّق النذر بترکها) (2).
ثالثاً: قال العلّامة المؤسّس الحائری قدس سره فی الجواب عن الإستدلال بالنذر، بما حاصله: «عدم إمکان تجاوز الأمر المتعلّق بعنوان عن ذلک العنوان، وعدم سرایته منه إلی الخصوصیّات والأفراد، لکون الأمر بعثاً إلی الطبیعة غیر الحاکیة إلّاعن مفادها المعرّی عن کلّ قید، فالمأمور به فی «أقم الصلاة» هو نفس الطبیعة بلا لحاظ خصوصیّاتها الزمانیّة والمکانیّة من المسجد أو الحمام، والنهی التنزیهی لم یتعلّق بالطبیعة کما تعلّق بها الأمر، بل تعلّق بالکون الرابط، أعنی وقوعها فی الحمام، وعلیه
ص:132
فلا مانع من صحّة الصلاة فی مفروض البحث؛ لتعلّق النهی والکراهة بإیقاعها فی الحمّام، أو سائر الأماکن المشابهة، والمفروض أنّه قد أوقعها، فیحنث بذلک» (1).
قال الإمام قدس سره فی تهذیب الاُصول:
«منشأ أکثر هذه الکلمات الخلط بین متعلّق أمر الصلاة وبین متعلّق أمر النذر، مع أنّ متعلّق الأوّل هی ذات الصلاة بما هی هی، ومتعلّق الآخر هو الوفاء فی قول الشارع: «أوفوا بالنذر»، من غیر أن یتجاوز عنه إلی غیره، غایة الأمر المصداق الخارجی لهما واحد.
توضیح ذلک: إنّ الصلاة المنذور ترکها فی الحمّام ذات عناوین ثلاثة:
الأوّل: عنوان الصلاة وهو عنوان ذاتی لها، والموجود الخارجی - أیضاً - مصداق حقیقی لها.
الثانی: عنوان کونها فی الحمّام، أی تحیّثها بأین کذا، ووقوعها فیه، وهذا عنوان عرضی لنفس الفرد الخارجی، والفرد الخارجی مصداق عرضی له.
الثالث: عنوان کونها مخالفة للنذر، وهذا - أیضاً - عنوان عرضی، کما أنّ الخارج مصداق عرضی له.
فما یدخل فی جوهر الخارج ومتن حقیقته هو الأوّل دون الأخیرین، بل هما منتزعان من وقوعه فی الخارج فی أین خاص، ومن کونه مخالفاً فعله للأمر بالوفاء بالنذر، فلو فرض تعلّق النذر بترک ذات الصلاة (وفرض صحّته) لا ترک الکون الرابط - أعنی ترک وقوعها فی الحمّام - لا یوجب ذلک صیرورة الصلاة محرّمة، إذ المحرّم حینئذٍ هو عنوان تخلّف النذر وحنثه المنطبق علی الفرد بالعرض.
کما أنّ الواجب بالذات، هو طبیعة الصلاة المنطبقة علی الخارج بالذات، ولذا قلنا فی محلّه: نذر المستحبّات کصلاة اللیل لا یوجب اتصافها بالوجوب بعناوینها، بل الواجب هو الوفاء، وأمّا صلاة اللیل باقیة علی استحبابها، وأمّا غائلة إجتماع البعث
ص:133
وفیها بحثان:
الأوّل: ظهور الثمرة فی الأصل اللفظی:
إجمال الخطاب علی قول الصحیحی، وعدم جواز الرجوع إلی إطلاقه فی رفع ما إذا شکّ فی جزئیّة شیء للمأمور به وشرطیّته أصلاً؛ لاحتمال دخوله فی المسمّی، کما
ص:135
لا یخفی. وجواز الرجوع إلیه فی ذلک علی قول الأعمّی فی غیر ما احتمل دخوله فیه، ممّا نشکّ فی جزئیّته أو شرطیّته، وبدون الإطلاق لا مرجع إلّاالبراءة أو الإشتغال، علی الخلاف فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الإرتباطیّین (1).
بعبارة اخری: جواز التمسّک بالإطلاق علی الأعمّ دون الصحیح، لصدق المسمّی وتحقّقه علی الأوّل، فلو شککنا فی دخل شیء فی صحّته وعدمه لأمکن دفعه بالإطلاق، وأمّا علی الثانی: فالشکّ یرجع إلی تحقّق أصل المسمّی، والتمسّک بالإطلاق حینئذٍ یکون تمسّکاً فی الشبهة المصداقیّة، وهذه الثمرة صحیحة ومقبولة.
إن قلت: تارة بعدم وجود الإطلاق فی الکتاب والسنّة، واُخری بکفایة الثمرة الفرضیّة، وثالثة بأنّ المسمّی وإن کان هو الأعم، لکنّ المأمور به هو الصحیح حتّی علی مسلک الأعم، فالمسمّی بعد الأمر مقیّد بالصحیح، والأخذ بالإطلاق بعد هذا التقیید تمسّک به فی الشبهة المصداقیّة.
قلنا: هذا کلّه لا یُعبأ به، إذ لا وجه لإنکار الإطلاق رأساً (2)، ولا معنی فرض الثمرة فی مثل هذه المسألة الواسعة (3).
ومن المسلّم أنّ الأمر والبعث لم یتعلّق بعنوان الصحیح ونحوه من العناوین الملازمة، بل الأوامر تتعلّق بنفس العناوین والموضوعات مجرّدة عن عنوان الفساد والصحّة (4)، فمع تمامیّة مقدمات الحکمة نأخذ بالإطلاق، وقد قرّر فی محلّه عدم بطلان الإطلاق بالقیود المنفصلة، کعدم بطلان العموم وإنثلامه بالمخصّصات المنفصلة، نعم
ص:136
لولا الإطلاق لوصلت النوبة إلی الإشتغال أو البراءة علی الخلاف فی المسألة (مسألة الأقل والأکثر الإرتباطیّین).
الثانی: ظهور الثمرة فی الأصل العملی:
الأخذ بالبراءة علی الأعم، وبالإشتغال علی الصحیح، عند الشکّ فی الجزئیّة أو الشرطیّة فی الأقل والأکثر الإرتباطیّین، إذا لم یکن هناک إطلاق؛ لإجمال الخطاب أو إهماله (1).
قد یقال: بعدم إمکان التمسّک بالبراءة حینئذٍ - علی المختار وهو الأعم - عند الشکّ فی جزئیّة شیء للمأمور به، لکون نسبة الأجزاء إلی الهیئة والصورة، نسبة المحصَّل إلی المحصِّل، فالشکّ فی دخل شیء فی المادّة، یرجع إلی الشکّ فی المحصَّل للهیئة البسیطة المعلومة من حیث المفهوم.
وفیه: فرق بین القول بوضع الصلاة للناهیة عن الفحشاء والمنکر، أو لما یکون ملزوماً له، وبین ما ذُکر من الوضع للهیئة العبودیّة الخضوعیّة؛ لمعلومیّة الهیئة الخضوعیّة والصلاتیّة، فهی معلومة مشاهدة لأفراد المسلمین، مرتکزة لأهل القبلة، لا نشکّ فیها، فالمسمّی متحقّق حتّی عند فقد ما یشکّ فی وجوبه، بل ما یعلم وجوبه أیضاً، فلا یرجع الشکّ إلی تحقّق المسمّی، بل إلی شرطیّة شیء أو شطریّته للمأمور به.
ولک أن تقول: المأمور به هی الهیئة والصورة الوحدانیّة العارضة للمواد، وهی متحدة مع المادّة إتحاد الصورة مع المادّة، فلا خبر من المحصِّل والمحصَّل، فتعلّق الأمر بالهیئة الوحدانیّة تعلّق وبعث إلی المواد والأجزاء، حیث تنحل الماهیّة إلیها، فالأمر بإیجاد الهیئة والصورة، أمر إلی إیجاد المواد والأجزاء بهیئتها المعلومة، کالأمر بإیجاد
ص:137
البیت أو الدار أو السفینة، أمر بإیجاد أجزائها بهیئة البیت المعلومة، وإلّا فلا أمر مستقلّاً بالمواد والأجزاء ولا أمر ضمنی، ولا مقدّمی.
نتیجة ذلک: کون الأمر بالواحد أمر بالکثرات، فمع الشکّ فی جزئیّة شیء أو شرطیّته للمأمور به، یُشکّ فی تعلّق الأمر بذلک الشیء، فتجری البراءة.
ولک أن تجری البراءة فی متن الصورة والهیئة البسیطة الحاصلة بحصول أجزائها؛ لکونها وإن کانت بسیطة قابلة للزیادة والنقیصة والکمال والنقص - کالخط - فالشکّ فی شیء، شکّ فی وجوب امتداد الصورة زیادة علی ما امتدت به، فتجری البراءة.
تنبیه: ما نقول به یفارق ما فی الکفایة، إذ قال: «والإشکال فیه (الجامع الواحد البسیط)، بأنّ الجامع لا یکاد یکون أمراً مرکّباً؛ إذ کلّ ما فرض جامعاً یمکن أن یکون صحیحاً وفاسداً - لما عرفت - ولا أمراً بسیطاً؛ لأنّه لا یخلو إمّا أن یکون هو عنوان المطلوب، أو ملزوماً مساویاً له، والأوّل غیر معقول؛ لبداهة استحالة أخذ ما لا یتأتّی إلّا من قبل الطلب فی متعلّقه، مع لزوم الترادف بین لفظة الصلاة والمطلوب، وعدم جریان البراءة مع الشکّ فی أجزاء العبادات وشرائطها؛ لعدم الإجمال - حینئذٍ - فی المأمور به فیها، وإنّما الإجمال فیما یتحقّق به، وفی مثله لا مجال لها (البراءة)، کما حقّق فی محلّه، مع أنّ المشهور القائلین بالصحیح، قائلون بها (البراءة) فی الشکّ فیها، وبهذا یشکل لو کان البسیط هذا ملزوم المطلوب أیضاً».
وأجاب صاحب الکفایة قدس سره عن الإشکال: «بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکّبات المختلفة زیادة ونقیصة، بحسب إختلاف الحالات، متحد معها نحو إتحاد، وفی مثله تجری البراءة (إذ هو شکّ فی أصل التکلیف)، وإنّما لا تجری فیما إذا کان المأمور به أمراً واحداً خارجیّاً، مسبّباً عن مرکّب مردّد بین الأقل والأکثر، کالطهارة المسبّبة عن الغسل والوضوء فیما إذا شکّ فی أجزائها» (1).
ص:138
ویرد علی مقالة الکفایة: عدم إمکان جریان البراءة ولو قیل باتحاد العنوان الإنتزاعی مع الأجزاء خارجاً، بل لا فرق فی ذلک بین القول بکون المأمور به الجامع نفس الأثر، عنوان «معراج المؤمن» أو «الناهیة عن الفحشاء» أو نحوهما، وبین القول بکونه أمراً بسیطاً مبدءً للأثر، وکذا لا فرق بین القول بکون المأمور به مقیّداً بالإلتزام لا بالإشتراک، کلّ هذه الفروض فی أنّ الأمر تعلّق بشیء بسیط معلوم، إمّا بنفسه لو کان المأمور به هو نفس الأثر، أو بعنوانه المشیر إلیه وبأثره لو کان المأمور به هو الأمر البسیط المبدأ للأثر، أو بقیده لو کان المأمور به هو المقیّد بالأثر، وإذا تعلّق الأمر بشیء معلوم بنفسه أو بقیده أو بأثره وعنوانه المشیر إلیه، فلابدّ من تحصیل الیقین بالفراغ منه، إذ الشکّ فی جزئیّة شیء له وعدمها، شکّ فی تحقّق المأمور به وعدمه، فیجری الإشتغال لا البراءة.
هذا بخلاف المسلک المختار لتحقّق المسمّی الذی تعلّق به الأمر، وصدقه مع فقد المعلوم وجوبه شطراً، فضلاً عن المشکوک، ولا یرجع الشکّ إلی المسمّی، بل یرجع إلی الشکّ فی جزئیّة شیء للمأمور به، زائداً علی ما یتحقّق به المسمّی.
فتحصّل: أنّه یصحّ التمسّک بالبراءة علی المختار عند الشکّ فی جزئیّة شیء للمأمور به، ولیس هذا من باب الشکّ فی المحصّل (1).
ص:139
وفیه أمران:
الأمر الأوّل: هل یجری النزاع علی القول بکون الألفاظ فی المعاملات موضوعة للمسبّبات أو للأسباب؟
الأمر الثانی: هل یمکن التمسّک بالإطلاق علی القول بالصحیح أو الأعم فی المعاملات؟
الأمر الأوّل: یقع البحث فیه علی مبنیین:
المبنی الأوّل: أسماء المعاملات موضوعة للمسبّبات، بمعنی أنّ لفظ البیع وضع لنتیجة البیع وأثره، وهی الملکیّة أو الزوجیّة الحاصلة، وهی بسیطة.
قال المحقّق الخراسانی قدس سره : «إنّ أسامی المعاملات، إن کانت موضوعة للمسبّبات؛ فلا مجال للنزاع فی کونها موضوعة للصحیحة أو للأعم؛ لعدم إتصافهما
ص:140
بهما، کما لا یخفی، بل بالوجود تارة وبالعدم اخری» (1).
بعبارة اخری: الصحیح ما یترتّب علیه الأثر، والمسبَّب عبارة عن نفس الأثر لا ما یترتّب علیه الأثر، فلا یوصف المسبّب بالصحّة والفساد.
توضیحه: لا نزاع بناءً علی المسبَّب، کما هو المشهور، لدورانه بین الوجود والعدم؛ لإعتباریّة الماهیّات المعاملیّة المتقوّمة بالإعتبار، فأمّا تعتبر شرعاً أو لا، کنکاح المحارم والبیع الربوی، فهنا لا إعتبار، فلا موضوع أصلاً، ومن الواضح لغویّة الإعتبار مع نفی جمیع الآثار، مع مخالفته مع إرتکاز المتشرّعة.
اللّهمّ إلّاأن یقال؛ بالفاسد - أیضاً - باعتبار نظر العرف وملاحظة محیطه، وإلّا فبالنسبة إلی محیط الشرع، الأمر دائر بین الوجود والعدم، فالمُسَبّبات امور اعتباریّة تکون فی رهن الإعتبار، وکونها اموراً واقعیّة تکوینیّة کشف عنها الشرع، واضح البطلان.
تنبیه: الظاهر کون أسماء المعاملات أسامی للمسبّبات، فالبیع مثلاً للمبادلة، والعقد اللفظی أو الفعلی سبب وآلة لإیجادها وإنشائها، فلا تکون أسامی للأسباب المحصِّلة، ولا للنتائج والثمرات الحاصلة من الأسباب والمسبّبات، کالملکیّة فی البیع والزوجیّة فی النکاح ونحوهما.
والدلیل علی ذلک امور:
الأوّل: التبادر.
الثانی: إرتکاز المتشرّعة؛ فإذا سُئلت «هل بعت؟» کان المفهوم «هل أوقعت المبادلة؟» «هل بادلت ذلک المال أم لا؟» ولا یصحّ إطلاق مثل البیع علی النتیجة.
ص:141
فعلی القول بالمسبّب، لا یتأتّی نزاع الصحیحی والأعمّی، لدورانه بین الوجود والعدم (1).
المبنی الثانی: فی کون أسامی المعاملات موضوعة للأسباب.
بمعنی أنّ البیع وضع للفظ بعت کذا بکذا.
قال فی الکفایة: «بناءً علی وضعها للأسباب، فالنزاع فی أنّها وضعت للصحیحة أو للأعمّ، فیه مجال، لکنّه لا یبعد دعوی کونها موضوعة للصحیحة أیضاً، وأنّ الموضوع له هو العقد المؤثّر للأثر کذا شرعاً وعرفاً، والإختلاف بین الشرع والعرف فیما یعتبر فی تأثیر العقد، لا یجوب الإختلاف بینهما فی المعنی، بل الإختلاف فی المحقّقات والمصادیق، وتخطئة الشرع العرف فی تخیّل کون العقد بدون ما اعتبره فی تأثیره محقّقاً لما هو المؤثّر، کما لا یخفی» (2).
تنبیه: إذا قلنا بأنّ أسامی المعاملات وضعت للأسباب، فالتبادر یقتضی الأعم (3).
ص:142
وهناک سؤال آخر، هل الأمر کذلک، أعنی رجوع الإختلاف إلی المصادیق والمحقّقات مع الإتحاد فی المفهوم، أم لا، بل الإختلاف فی المفهوم؟
الأمر الثانی: هل یمکن التمسّک بالإطلاق فی المعاملات علی القول الصحیحی أو الأعمّی؟
وفیه بحثان:
البحث الأوّل: فی أنّه علی القول بأنّ أسماء المعاملات وضعت للمسبّبات، فیمکن التمسّک والأخذ بالإطلاق، سواء قلنا بالصحیح أو الأعم؛ لعدم جریان نزاع الصحیح والأعم هنا، کما مرّ.
قد یقال بعدم جواز التمسّک بالإطلاق عند الشکّ، بناءً علی وضعها للمسبّبات؛ لدوان أمر المسبّب بین الوجود والعدم - کما أشرنا إلیه - وعلیه لو تمسّکنا بإطلاق دلیل الإمضاء للمسبّب المعتبر عرفاً، کان معناه رجوع أدلّة الردع - مثل ردع الشارع عن البیع الربوی - إلی نفی الأثر، والخروج تخصیصاً وحکماً، لا إلی نفی أصل الإعتبار والخروج تخصّصاً وموضوعاً، ومن المعلوم لغویّة نفی الآثار مع إمضاء أصل الإعتبار، فلا محیص عن رجوع أدلّة الردع إلی التخصّص والخروج الموضوعی عن أدلّة الإمضاء، وحینئذٍ تصیر الشبهة موضوعیّة.
وبالجملة: نشکّ حینئذٍ فی الإمضاء والردع فی إمضاء أصل الموضوع وردعه، وفی أنّ أصل الموضوع متحقّق أم لا؟ فلا یجوز التمسّک بالإطلاق لمصداقیّة الشبهة.
قلت: لا نسلّم إختلافهما فی المفهوم بناءً علی المسبّب؛ لوضوح أنّ مفهوم البیع هو المبادلة المعهودة، والإجارة نقل المنفعة بالعوض شرعاً وعرفاً، وعلیه یرجع الردع إلی عدم اعتبار المصداق وإعدام الموضوع، فلا یصدق علی الربوی والغرری البیع، لا لضیق المفهوم شرعاً، بل لعدم اعتبار المصداق بعد التخصیص الراجع إلی التخصّص،
ص:143
وحینئذٍ لا مانع من الأخذ بالإطلاق عند الشک؛ لکونه حجّة لا ترفع عنها الید إلّا بحجّة اخری.
قلت: هذا لولا الإجمال فی الصدق، کان العنوان منطبقاً علی المصداق، ولکن الشکّ فی فرض إحتمال عدم إعتبار الشارع لبیع کذا مثلاً، یرجع إلی صدق أصل العنوان وعدمه؛ فالشبهة مصداقیّة لا یجدی الإطلاق فیها.
والحاصل: لو قلنا بأنّ أدلّة الردع ترجع إلی التخصّص والخروج عن أدلّة الإمضاء تخصّصاً وموضوعاً، ففی صورة الشکّ فی الردع وعدمه، یُشکّ فی صدق عنوان البیع الواقع فی دلیل الإمضاء، فتصیر الشبهة مصداقیّة، فلا یجوز التمسّک بالإطلاق.
فالحق أن یقال: أدلّة الإمضاء فی المعاملات، إمضاء وتصویب لها بما لها من المعانی العرفیّة الإرتکازیّة المعلومة فی أذهانهم؛ فالمفهوم من قوله تعالی: «أحَلَّ اللّهُ الْبَیْع» ومثل قوله صلی الله علیه و آله : «الصلح جائز بین المسلمین» أو عنوان «الإجارة» أو «العاریة» ونحوها، هو عین ما کان یفهم قبل طلوع نیر الإسلام وقبل نزول الوحی، ولم یکن لهذه الألفاظ والکلمات فی لسان الشارع مفاهیم حدیثة ومعانی جدیدة، وعلیه فلا تکون أدلّة الردع راجعة إلی التخصّص والخروج الموضوعی - إذ الموضوع هو المعنی العرفی - بل تکون تخصیصاً وخروجاً حکمیّاً.
فالموضوع فی البیع هو العرفی، وإخراج الربوی - مثلاً - عنه موضوعاً، إمّا یکون بلحاظ العرف وبنظره، وهذا لیس فی وسع التشریع - أی لیس فی وسعه إبطال اعتبار أهل العرف وإعدامه موضوعاً - أو یکون ذلک الإخراج بلحاظ الشارع وبنظره، وهذا أمر معقول مقبول، لما مرّ من أنّ رفع الحکم والأثر شرعاً یلازم نفی الموضوع وإلغائه، وذلک دفعاً لمحذور اللغویّة، حیث إنّ الإعتبار موضوعاً والحکم ببیع کذا شرعاً، مع نفی جمیع الآثار وسلبها کلّها؛ لغو، فسلب الأثر یلازمه نفی الموضوع شرعاً.
ص:144
لکنّ الخروج الشرعی لا یستلزم الخروج العرفی عن أدلّة الإمضاء موضوعاً، إذ موضوعها أمر عرفی لا شرعی، والعمومات والإطلاقات منّزلة علی تلک المعانی العرفیّة، فلا یکون للشبهة المصداقیّة مجال، إذ الموضوع عرفی محض، محرز عند الشکّ فی إعتبار شیء فیه، فلیأخذ بالإطلاق لدفعه، إلّاأن یشکّ فی اعتبار شیء فیه عرفاً، فلا مجال للتمسّک بالإطلاق فی عدم اعتباره، ولأصالة عدم الأثر بدونه.
تنبیه: قد تمسّک شیخنا قدس سره تبعاً لشیخه قدس سره بالإطلاق المقامی. قال مقرّراً لبحث استاذه: «والذی یسهّل الخطب، هو أنّه یمکن التمسّک بالإطلاق المقامی، لرفع الشکّ لی هذین النحوین.
وتقریبه: أنّه لا ریب فی أنّ الشارع المقدّس قد حکم بلزوم الوفاء بالعقود، والمفروض أنّه یرید بالعقود المعاملات التی یراها فی الواقع نافذة، جامعة للخصوصیّات، تقوم بها مصلحة النظام العام، ومع هذا کلّه لم یجعل طریقاً خاصّاً لتشخیص تلک العقود الواقعیّة، فنستکشف من جمیع ذلک أنّه قد وکّل أمر تشخیصها إلی نظر العرف العام، فما یراه عقداً صحیحاً یکون هو العقد الصحیح فی الواقع، إلّاما ردع الشارع عنه، ونبّه علی خطأ العرف فیه، وعند عدم الردع نستکشف صوابه ووصوله إلی الواقع، فنأخذ به» (1).
ولا یخفی علیک أنّه مع الإطلاق اللفظی لا تصل النوبة إلی الإطلاق المقامی.
البحث الثانی: فی کون أسماء المعاملات وضعت للأسباب، وفیه وجوه:
الأوّل: بناءً علی القول بوضع ألفاظ المعاملات للصحیح، المؤثّر شرعاً وعرفاً من الأسباب، یلزم الإجمال کالعبادات، لرجوع إختلاف الشرع والعرف حینئذٍ إلی المفهوم لا إلی المصادیق (خلافاً لما مرّ عن الکفایة) (2).
ص:145
توضیحه: قال فی التهذیب: «المراد من الصحیح لیس کون الموضوع له هو العقد الصحیح بالحمل الأوّلی ولا بالحمل الشائع، کما لم یکن المراد کذلک من العبادات، بل المراد وضعها لماهیّة إذا وجدت فی الخارج لا تنطبق إلّاعلی الصحیح المؤثّر، فللمفهوم دائرة مضیّقة، وإلّا فمع الإتفاق فی المفهوم لا یعقل الإختلاف فی المصداق، وعلیه فلو احتمل دخل شیء فی المعاملة، لکان ذلک شکّاً فی الموضوع، فتصیر الشبهة مصداقیّة» (1).
الثانی: بناءً علی الأعمّی - أی القول بوضع ألفاظ المعاملات للأعم - فیجوز حینئذ التمسّک بالإطلاق بعد إحراز الموضوع، فیدفع به دخل کلّ قید وشرط محتمل.
الثالث: بناءً علی الصحیحی - أی القول بوضع ألفاظ المعاملات للصحیح المؤثّر عرفاً - کذلک یجوز التمسّک بالإطلاق کما مرّ.
ص:146
وفیه مقامان:
المقام الأوّل: الأقوال فی مقام الثبوت من إمکان الإشتراک أو وجوبه أو امتناعه.
المقام الثانی: منشأ الإشتراک.
المقام الأوّل - الأقوال فی مقام الثبوت:
وفیه أقوال أربعة:
الأوّل: الإشتراک واجب.
الثانی: یمتنع الإشتراک مطلقاً.
الثالث: یمتنع الإشتراک فی القرآن.
الرابع: یمکن الإشتراک
الأوّل - القول فی وجوب الإشتراک:
دلیله: تناهی الألفاظ والتراکیب، وعدم تناهی المعانی، فالحاجة إلی تفهیمها وإفادتها تقتضی لزوم الإشتراک؛ لکی لا یبقی معنی بلا لفظ دالّ علیه.
وأورد علیه فی الکفایة وجوه أربعة:
ص:147
الأوّل: امتناع الإشتراک فی هذه المعانی لإستدعائه الأوضاع الغیر متناهیة، وصدورها من الواضع المتناهی محال.
الثانی: لو سلّم، لم یکد یجدی إلّافی مقدار متناه؛ لأنّ الوضع مقدّمة للإستعمال ولإظهار المقاصد والحاجات، فالوضع لغو لکونه زائداً علی مقدار الحاجة.
والحاصل: المستعمل هو البشر - وإن کان الواضع هو اللّه تعالی - وإستعماله متناهٍ، فالوضع الزائد علی المقدار المتناهی یلزم اللغویّة.
الثالث: تناهی المعانی الکلیّة ووضع الألفاظ بإزائها لا بإزاء جزئیّاتها، وإن کانت الجزئیّات غیر متناهیة، لکن یوضع اللفظ بإزاء الکلّی ویستعمل فی أفراده ومصادیقه حسب الحاجة، وهذا کما فی أسماء الأجناس إذ یضع الواضع لفظاً خاصّاً لواحد من المعانی، ثمّ یطلقه علی کلّ واحد من الأفراد من دون أن یکون للأفراد أسامی خاصّة، کلفظ الأسد والشجر والحجر.
الرابع: باب المجاز واسع - أی وضع اللفظ بإزاء بعض المعانی واستعماله فی باقی المعانی مجازاً - ولا مانع من أن یکون لمعنی واحد حقیقی معانٍ مجازیّة متعدّدة (1).
أقول: الوجه الأوّل متین، - أی امتناع الإشتراک لإستلزامه أوضاعاً غیر متناهیة - وکذا الثانی - أی لزوم اللغویّة - .
لکن تسلیم المقدّمة الثانیة فی الأوّل (2) - أعنی تناهی الألفاظ المرکّبات - غیر سدید؛ إذ محدودیّة مواد الألفاظ والحروف الهجائیّة وتناهیها، لا تستلزم تناهی الألفاظ المؤلّفة والهیئات المحصّلة منها، لإستلزام اختلاف الألفاظ - بالهیئات، والتقدیم والتأخیر، والزیادة والنقصان، والحرکة والسکون - تعددها وتکثرها إلی لا نهایة، فیختلف لفظ واحد ویتعدد ویتکثّر باختلاف حرکاته، من ضمّ الأوّل أو فتحه أو
ص:148
کسره، وهکذا الآخر والأوسط، هذا، مع زیادة حرف فی اللفظ أو حرفین، وهذا مثل الأعداد، موادّها محدودة من الواحد إلی العشرة؛ لکن الترکیب لا یقف علی حدّ معیّن؛ فالألفاظ کالمعانی غیر متناهیة (1).
أمّا الوجه الثالث: تناهی المعانی الکلیّة وإن کانت الجزئیّات غیر متناهیة.
فإن أراد من المعانی الکلیّة المفاهیم العامّة فوق المقولة - کالشیء، والأمر، والممکن، والوجود - فهی محصورة معدودة، لکن لم توضع جمیع الألفاظ بإزائها، ولا یمکن إفادة جمیع المعانی والأغراض بواسطة الألفاظ الموضوعة بإزائها، بل لابدّ أن تکون للمعانی أسامی خاصّة حتّی تقع مورد الإفادة والإستفادة فی مقام الحاجة.
وإن أراد مثل الإنسان والحیوان والشجر والحجر وغیرها من المعانی والأحداث أو الذوات والأجناس، فالظاهر عدم تناهیها؛ حیث إنّ لها أجزاء من الأجناس والفصول بأقسامها والعوارض بأنحائها إلی لا نهایة؛ بل یکفی لذلک نفس مراتب الأعداد الکلیّة اللّامتناهیة، المنطبقة علی مصادیق کثیرة من العشرین والعشرة، فالمعانی الکلیّة کالجزئیّات غیر متناهیة، هذا، وأنت تعلم صعوبة التفهیم بالمعانی الکلیّة فی جمیع الموارد.
فقد تحصّل: عدم وجوب الإشتراک لعدم تناهی الألفاظ کالمعانی.
قال فی تهذیب الاُصول: «الحقّ وقوع الإشتراک فضلاً عن إمکانه، وقد أفرط جماعة فذهبوا إلی وجوبه؛ لتناهی الألفاظ وعدم تناهی المعانی.
وفیه: إن ارید من عدم التناهی معناه الحقیقی؛ فمردود بعدم الحاجة إلی الجمیع،
ص:149
لو سلّمنا عدم التناهی فی نفس الأمر، مع أنّ فیه إشکالاً ومنعاً. وإن ارید منه الکثرة العرفیّة، فنمنع عدم کفایتها، مع کثرة الوضع للکلیّات» (1).
الثانی - القول فی امتناع الإشتراک مطلقاً:
دلیله: منافاة الإشتراک لمصلحة الوضع - وهو التفهیم والتفهّم فی مقام الحاجة - إذ إبراز المقاصد وإظهارها فی جمیع الموارد - من المحسوسات والمعقولات والحقائق والکنایات - وبالوجه التام الصریح القاطع وبالنحو الکامل المؤکّد، لا یتأتّی إلّا بالألفاظ واللغات، وأمّا الإشارة بأنحائها فلا تفی بذلک ولاسیّما فی المعقولات، ولذلک صار الوضع ضروریّاً لضرورة الحاجة إلی المصلحة المذکورة، والإشتراک یخل بهذه المصلحة؛ لإیجابه الإجمال فیما یراد؛ فیصیر الوضع لغواً؛ فیستحیل صدوره من الواضع الحکیم.
وأورد علیه فی الکفایة بوجهین:
الأوّل: إمکان التفهیم والتفهّم مع الإشتراک یکون بمعونة القرائن الجلیّة، إذ دلالة اللفظ علی المقصود تارة بنفسه بلا قرینة، واُخری تکون بمعونتها، فلا إخلال بحکمة الوضع، اللّهمّ إلّاأن یکون الإشتراک علّة تامّة للإخلال والإجمال، وهو کما تری.
الثانی: منع إخلاله بالغرض وحکمة الوضع؛ لتعلّق الغرض بالإجمال والإهمال أیضاً، کتعلّقه بالإفادة والإستفادة، وعلیه لابدّ من الإشتراک لتحصیل هذا الغرض (2).
الثالث - القول فی امتناع الإشتراک فی القرآن:
دلیله: لأنّه تعالی إن استعمل الألفاظ المشترکة فی القرآن، فإمّا یعتمد حینئذ علی القرائن؛ فیکون تطویل بلا طائل، أو لا یعتمد علی القرائن، فیکون إهمال وإجمال، وکلاهما مستحیل فی حقّه تعالی.
ص:150
یرد علیه: الإتکال علی القرائن الحالیّة لیس بتطویل، والإتکال علی القرائن المقالیّة لأغراض اخری لیس بلا طائل، والإجمال قد یکون مطلوباً، قال تعالی: «هُوَ الّذِی أَنْزَلَ عَلَیْکَ الْکِتَابَ مِنْهُ آیَاتٌ مُحْکَمَاتٌ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات» (1)، والمتشابه هو المجمل (2).
الرابع - القول فی إمکان الإشتراک:
الأدلّة علی إمکان الإشتراک:
الأوّل: وقوعه فی اللغة، کالقرء للحیض والطهر، والجون للسواد والبیاض (3).
کما اعترف بهذا کثیر من العلماء الأعلام، مثل العلّامة الطباطبائی (4)، وصاحب المعالم (5)، وصاحب بدائع الأفکار (6)، وآیة اللّه البجنوردی فی منتهی الاُصول (7)،
ص:151
والإصفهانی فی نهایة الدرایة (1)، وصاحب الکفایة (2) قدس سرهم .
الثانی: استنتج صاحب الکفایة من ردّ سند الوجوب والإمتناع، إمکان الإشتراک (3).
الثالث: التبادر کما اعترف به فی الکفایة (4)، وهو یدلّ علی الوقوع، فیدلّ علی الإمکان بالأولویّة.
الرابع: عدم صحّة السلب بالنسبة إلی معنیین أو أکثر للفظ واحد.
فتحصّل: أنّه لا ینبغی إنکار الإشتراک ودعوی امتناعه، بل هو واقع کالترادف.
قال صاحب المحاضرات: «إنّ ما فی الکفایة من إمکان الإشتراک وعدم وجوبه وامتناعه، إنّما یتم علی مسلک القوم فی تفسیر الوضع - أی علی مسلک من یری أنّ حقیقته هو اعتبار الواضع وجعله الملازمة بین اللفظ والمعنی، أو جعله وجود اللفظ عین وجود المعنی تنزیلاً، أو جعله اللفظ ونصبه علماً وعلامة علی المعنی - فعلی هذه المبانی لا مانع من الإشتراک وتعدد الجعل؛ لخفّة مؤنة الإعتبار، وعدم المحذور فی تعدّده فی لفظ واحد.
وأمّا علی ما نراه من کون حقیقة الوضع التعهّد والإلتزام النفسانی، فلا یمکن الإشتراک وتعدّد الوضع علی وجه الإستقلال؛ إذ معنی التعهّد عبارة عن تعهّد الواضع فی نفسه بأنّه متی تکلّم بلفظ مخصوص لا یرید منه إلّاتفهیم معنی خاصّ، ومن المعلوم أنّه لا یجتمع مع تعهّده ثانیاً، بأنّه متی تکلّم بذلک اللفظ الخاص لا یقصد إلّا
ص:152
تفهیم معنی آخر یباین الأوّل؛ ضرورة أنّ معنی ذلک لیس إلّاالنقض لما تعهّده أوّلاً، أو أنّ الوضع هو التعهّد المجرّد عن الإتیان بأیّة قرینة، وعلیه فلا یمکن الجمع بین التعهّدین کذلک أو أزید؛ لمناقضة الثانی للأوّل، إلّاأن یرفع الید عن الأوّل ویلتزم ویتعهّد بالثانی. نعم یمکن علی مسلکنا ما تکون نتیجته نتیجة الإشتراک، وهو الوضع العام والموضوع له الخاص» (1).
أقول: قد أشرنا سابقاً إلی حقیقة الوضع، وأنّه عبارة عن جعل العلقة بین اللفظ والمعنی، کجعل العلقة الزوجیّة أو الملکیّة ونحوهما من الاُمور الإعتباریّة، ولیس الوضع عبارة عن نحو إختصاص کما فی الکفایة، أو تعهّد والتزام أو غیرهما. علی أنّه لو سلّم کونه هو التعهّد، فلا مانع عقلاً عن تعهّدات عدیدة بالنسبة إلی لفظ واحد، إمّا من الواضعین أو من واضع واحد کما فی الأعلام الشخصیّة المشترکة، غایة الأمر لابدّ من نصب قرینة معیّنة.
ولیس معنی التعهّد هو الإنحصار وعدم تعهّد آخر ولاسیّما إذا کان من واضع آخر، کما لا إشکال فی حصول إنتقالین مستقلّین عند تصوّر اللفظ علی تقدیر وضعه لمعنیین، ولا برهان علی کون الإستقلال بمعنی عدم وجود إنتقال آخر.
المقام الثانی: فی منشأ الإشتراک:
وفیه إحتمالان:
الأوّل: الوضع تعییناً أو تعیّناً من واضع أو واضعین لمعنیین، کوضعه أو وضعهم جمیعاً للفظین لمعنی واحد فی الترادف.
الثانی: أن یضع شخص أو أشخاص لمعنی وشخص آخر أو أشخاص آخرون لمعنی آخر، کأن تضعه قبیلة لمعنی وقبیلة اخری لمعنی آخر، ومثل أن تضع قبیلة لفظاً لمعنی وقبیلة اخری لفظاً آخر لعین ذلک المعنی فی الترادف، وهذا یکون من باب تداخل اللغات.
ولذلک تراهم یقولون لغة تمیم هکذا أو حمیر أو الحجاز، فیعلم من هذا أنّ الوضع یتعدّد بتعدّد القبائل والأقوام، واختلاف النواحی والأقطار.
ص:153
قال فی تهذیب الاُصول: «الحقّ وقوع الإشتراک فضلاً عن إمکانه، ومنشأه إمّا تداخل اللغات، أو حدوث الأوضاع التعینیّة فیما یناسب المعنی الأوّل، أو غیر ذلک من الأسباب» (1).
قیل فی توضیح الإحتمال الثانی: إنّ المنشأ هو الخلط، أی خلط اللغات بعضها ببعض، فکانت العرب علی طوائف، فکلّ طائفة وضعت اللفظ لمعنی، وبعد ما جمعت اللغات من جمیع الطوائف وجعلت لغة واحدة؛ حدث الإشتراک، وهکذا الترادف حدث من جمع اللغات، وإلّا کان یعبّر عن کلّ معنی فی کلّ لغة بلفظ واحد؛ فمنشأ الإشتراک هو جمع اللغات وخلط بعضها ببعض، وإلّا فلا إشتراک بالأصالة وبالذات.
وفیه: أنّ الجزم به مشکل، ولاسیّما علی وجه الإیجاب الکلّی - وإن کان ممکناً فی نفسه - حیث لا شاهد علیه، فلم ینقل ذلک فی التاریخ، بل یبعده وقوع الإشتراک فی أعلام الأشخاص، فیضع شخص واحد کالأب لفظاً واحداً لأولاده، کما فی أولاد سیّدنا سیّد الشهداء علیه السلام فکان اسم ثلاثة منهم علیّاً، وکان التمییز بینهم بعنوان الأکبر والأوسط والأصغر.
فتحصل - من بدو هذا البحث إلی الختم - امور:
1 - إمکان الإشتراک.
2 - جواز إستعماله فی القرآن الکریم فضلاً عن غیره.
3 - منشأه أحد الأمرین، الوضع بأحد نحویه، أو تداخل اللغات وخلط بعضها ببعض (2).
ص:154
وفیه مقامان:
الأوّل: فی تحریر محل النزاع.
الثانی: الأقوال فی جواز الإستعمال وعدمه.
المقام الأوّل: فی تحریر محلّ النزاع:
هل یجوز إستعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد علی سبیل الإنفراد والإستقلال - بأن یراد منه کلّ واحد کما إذا لم یستعمل إلّافیه - أو لا یجوز؟
قال صاحب المعالم قدس سره : «محلّ النزاع فی المفرد هو إستعمال اللفظ فی کلّ من المعنیین، بأن یراد به فی إطلاق واحد هذا وذاک، علی أن یکون کلّ منهما مناطاً للحکم، ومتعلّقاً للإثبات والنفی» (1).
فلیس محلّ النزاع فی المرکّب من المعنیین، إذ هذا استعمال فی المعنی الواحد لا فی أکثر منه، فهو إمّا مجاز أو غلط.
ولا یکون النزاع فی استعمال اللفظ فی الطبیعة علی وجه العموم الاستیعابی فهذا أیضاً لیس استعمالاً فی اکثر من معنی بل المستعمل فیه واحد اعتبر فیه الاستیعاب، ولا یکون النزاع فی المعنی الواحد علی وجه العموم البدلی الشامل لمعنیی الحقیقة
ص:155
والمجاز، علی وجه عموم المجاز، أو علی وجه عموم الإشتراک فی معنیین حقیقیّین، کإستعمال «الأسد» فی «الشجاع» أو «المجتریء» الشامل للحیوان المفترس والرجل الشجاع.
ولا یکون النزاع فی استعمال اللفظ فی أحد المعانی - کما نسب إلی السکّاکی - إذ المراد إن کان هو الأحد المفهومی، فهو مفهوم واحد لا أکثر قابل للإنطباق علی کلّ فرد، فیؤول إلی الفرض الثانی، وإن کان المراد هو المصداق المعیّن واقعاً المجهول عند المخاطب أو المتکلّم، أو المصداق المردّد والفرد المنتشر، فهو أیضاً خارج عن الفرض، ولا عموم فیه بنحو الإنطباق أیضاً، علی أنّ اللفظ لا یستعمل إلّافی المفاهیم، والمصداق لا یکون مستعملاً فیه بإرادة إستعمالیّة، نعم إنّما یراد بالقرائن إرادة جدیّة.
فهذه الفروض کلّها لا تکون محلاًّ للنزاع (1).
المقام الثانی: الأقوال فی جواز الإستعمال فی أکثر من معنی وعدمه:
الأوّل: عدم جواز إستعمال اللفظ فی أکثر من معنی عقلاً. وهو قول صاحب الکفایة قدس سره ، واستدلّ للإمتناع بوجوه:
أحدها: لزوم اجتماع اللحاظین اللآلیّین فی إستعمال واحد.
قال فی الکفایة: «إنّ حقیقة الإستعمال لیس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنی، بل جعله وجهاً وعنواناً له، بل بوجه نفسه کأنّه الملقی.
ص:156
وبالجملة: لا یکاد یمکن فی حال إستعمال واحد لحاظه وجهاً لمعنیین وفانیاً فی الاثنین، إلّاأن یکون اللاحظ أحول العینین» (1).
ویمکن تقریر کلام المحقّق الخراسانیّ قدس سره وتوضیح الملازمة بوجهین:
الوجه الأوّل: بأن یقال إنّ الإستعمال هو الإفناء - أی إفناء اللفظ فی المعنی - فیکون لحاظ اللفظ آلیّاً تبعاً للحاظ المعنی، ومعه لو استعمل فی معنیین یکون تبعاً لهما فی اللحاظ، فیجتمع فی اللفظ لحاظان آلیّان تبعیّان للحاظین إستقلالیّین لمعنیین.
الوجه الثانی: أو یقال لابدّ فی کلّ استعمال لحاظ اللفظ والمعنی، لإستحالة الإستعمال مع الذهول عن أحدهما، فإذا استعمل فی معنیین لزم لحاظه مرّتین، فیلزم اجتماع اللحاظین.
قال فی تهذیب الاُصول: «ویمکن تقریر بطلان التالی بأنّ تشخّص الملحوظ بالذات إنّما هو باللحاظ وتعیّن اللحاظ بالملحوظ - کما أنّ الأمر کذلک فی باب العلم والمعلوم، بل ما نحن فیه من قبیله - فحیئنذٍ إجتماع اللحاظین فی شیء یساوق کون الشیء الواحد اثنین، وکما أنّ توحّد الاثنین محال، کذلک تثنیة الواحد محال، وتعلّق العلمین بمعلوم واحد یستلزم کون الواحد اثنین، بل لا یمکن الجمع فی الملحوظ بالعرض أیضاً؛ للزوم کون المعلوم بالعرض التابع للمعلوم بالذات فی الإنکشاف منکشفاً فی آن واحد مرّتین، وهو محال» (2).
ویلاحظ علیهما:
ما أورد علی الملازمة بالوجه الأوّل إن کان المراد من التبعیّة هو الإنتقال، أی انتقال المتکلّم إلی اللفظ بعد تصوّر المعنی وبتبعه. فیقال بعدم لزوم الإنتقالین إلی اللفظ من تصوّر المعنیین عرضاً، بل ینتقل بعد تصورهما وحضورهما لدیه وإلیه مرّة واحدة وانتقالاً واحداً، کالإنتقال من تصوّر اللازمین إلی ملزوم واحد، غایة الأمر لحاظ
ص:157
اللفظ آلی.
وإن کان المراد هو إجتماع اللحاظین عند السامع، فلا نسلّم لزومه؛ لانتقاله من اللفظ إلی المعنی، فلحاظ المعنی تابع للحاظ اللفظ وسماعه، فإذا کان دالّاً علی معنیین انتقل منه إلیهما بلا محذور أصلاً.
والحاصل: عدم لزوم اجتماع اللحاظین لا فی اللفظ ولا فی المعنی، أمّا المتکلّم فینتقل من تصوّر المعنیین إلی اللفظ مرّة واحدة وانتقالاً واحداً، وأمّا السامع فینتقل من اللفظ إلی المعنیین دفعة، کما إذا سمع اللفظ من المتکلّمین دفعة؛ فالمتکلّم ینتقل من اثنین إلی واحد، والسامع من واحد إلی اثنین.
إن قلت: المراد من التبعیّة هی السرایة - أی سرایة لحاظ المعنی إلی اللفظ - فیستلزم من استعمال اللفظ فی المعنیین لحاظین آلیین للفظ، أو المراد من التبعیّة تعلّق اللحاظ بالذات بالمعنی وبالعرض باللفظ، فیتعدّد لحاظ اللفظ بتعدّد ما بالذات، أی لحاظ المعنی.
قلنا: صدر الکلام غیر معقول وذیله غیر المفروض، إذ کیف ینشأ من اللحاظ الإستقلالی لحاظ آلی، وأمّا الذیل ففیه أنّه لا یلزم حینئذ اجتماع اللحاظین فی اللفظ حقیقة، بل الملحوظ بالحقیقة هو المعنی، واللفظ ملحوظ بالعرض والمجاز. هذا کلّه فی منع الملازمة علی التقریر للوجه الأوّل.
وما اورد علی الملازمة بالوجه الثانی: بأنّ لازم الإستعمال هو ملحوظیّة اللفظ والمعنی وعدم الذهول عنهما، وأمّا لزوم لحاظ اللفظ عند الإستعمال فی شیئین مرّتین کی یلزم اجتماع اللحاظین، فلا دلیل علیه، ولیس هو لازم الإستعمال.
ألا تری أنّ قوی النفس - کالباصرة والسامعة وغیرهما - آلات لها فی الإدراک، وقد تبصر شیئین وتسمع صوتین فی عرض واحد، من دون أن یکون لکلّ واحدة من الآلتین حضوران لدی النفس؟! (بواسطة استعمالها فی إدراک شیئین)، فکذلک استعمال لفظ واحد فی معنیین، فلا یلزم أن تلحظ النفس هذا اللفظ الواحد
ص:158
المستعمل مرتین وبلحاظین (1).
ثانیهما: الإستعمال إفناء ویستحیل إفناء الواحد فی الشیئین، أو فقل: الإستعمال جعل اللفظ بتمامه وشراشره قالباً للمعنی، فلا یمکن أن یصیر کذلک قالباً لمعنی آخر.
ویرد علیه: الإستعمال جعل اللفظ آلة للإفهام، فإن کان المراد من الإفناء أو کونه قالباً أو مرآتاً أو ما به ینظر وأمثالها، صیرورة نقل المعنی فی الواقع وبحسب التکوین، فواضح بطلانه؛ لعدم إمکان الفناء الواقعی بحیث لم یبق للفظ هویة أصلاً إلّا هویّة المعنی، بل هو باق علی هویّته وفعلیّته کالمعنی، فهما مقولتان؛ وإن کان المراد عطف القصد بالذات إلی المعنی وإفهامه دون اللفظ، فالتالی غیر ممنوع؛ لکون اللفظ ما به ینظر ومنظوراً به، والمعنیان منظور فیهما، فلا إستحالة ولا بطلان للتالی.
ثالثهما: قال بعض بإستحالة تصور النفس شیئین، وإستحالة کون اللفظ علّة لحضور معنیین فی الذهن؛ لإمتناع صدور الکثیر من الواحد.
ویرد علیه: لا إستحالة فی الأوّل؛ لضرورة إمکان تصوّر الشیئین، وإلّا لما صحّ التصدیق بکون الشیء شیئاً، إذ لابدّ عند الإذعان والتصدیق من تصوّر الطرفین وإحضارهما معاً. وقاعدة الواحد تجری فی بسیط الحقیقة ولا تجری هنا، والدلالة لیست من قبیل العلیّة والصدور (صدور المعنی من اللفظ).
رابعهما: عن بعض الأعین حقیقة الإستعمال إیجاد المعنی فی الخارج باللفظ، إذ وجود اللفظ خارجاً وجود لطبیعی اللفظ بالذات والطبیعی المعنی بالجعل والمواضعة لا بالذات، إذ لا یکون وجود واحد وجوداً لماهیّتین بالذات کما هو ظاهر، وحیث إنّ الموجود الخارجی واحد بالذات، فلا مجال للقول بأنّ وجود اللفظ وجود لهذا المعنی خارجاً ووجود آخر لمعنی آخر؛ حیث لا وجود آخر هناک کی ینسب إلیه بالتنزیل.
ویرد علیه: أنّه مغالطة، ولعلّه ناشیء من بعض أهل الذوق من کون الوجود اللفظی من مراتب وجود الشیء، وهذا لو صحّ؛ معناه کونه موضوعاً له ومرآة
ص:159
بالمواضعة الإعتباریّة، وعلی هذا لو کان الموضوع له متعدّداً أو المستعمل فیه کذلک، لا یلزم منه کونه ذا وجودین أو کونه موجودین.
وإن شئت قلت: الأثر المفروض لکونه وجوداً تنزیلاً، لا یوجب التعدّد فی الوجود الواقعی؛ فکون شیء وجوداً تنزیلیّاً لشیء، لیس معناه سوی کونه کذلک بالإعتبار لا بالحقیقة والذات (1).
القول الثانی: جواز إستعمال اللفظ فی أکثر من معنی مطلقاً:
وهو المختار، والأدلّة:
أحدها: أنّ أدلّة الإمتناع غیر تامّة، کما مرّ.
ثانیها: وقوع ذلک فی کلمات الاُدباء والشعراء، وأدل دلیل علی إمکان الشیء وقوعه (2)، بل واقع فی الشریعة مثل حدیث «کلّ شیء نظیف حتّی تعلم أنّه قذر»
ص:160
یستعمل فی القاعدة واستصحاب الطهارة، و «کلّ شیء حلال حتّی تعلم أنّه حرام» یستعمل فی قاعدة الحلیّة واستصحابها، و «لا یکلّف اللّه نفساً إلّاما آتاها» یستعمل فی التکلیف والفعل، و «لا تنقض الیقین بالشکّ» یستعمل فی قاعدة الیقین والإستصحاب.
ص:161
قال صاحب الکفایة قدس سره : «اختلفوا فی أنّ المشتقّ (کالضارب) حقیقة فی خصوص ما تلبّس بالمبدأ فی الحال (کزید ضارب فی الحال)، أو فیما یعمّه (الحال والماضی) وما انقضی عنه، علی أقوال، بعد الإتفاق علی کونه (الضارب) مجازاً فیما یتلبّس به فی الإستقبال (1).
وتحریر بحث المشتق فی امور:
الأوّل: تحریر محل النزاع.
الثانی: فی اسم الزمان.
الثالث: فی وضع الهیئات.
الرابع: فی تقسیم المشتقّات.
الخامس: أخذ الزمان فی الأفعال.
السادس: الأصل فی المشتق (وضع المادة الاُولی فی المشتقات).
السابع: اختلاف مبادیء المشتقّات.
الثامن: المراد بالحال.
التاسع: تأسیس الأصل فی المشتق.
العاشر: الأقوال فی المشتق.
الحادی عشر: أدلّة القول بالأعم وبالأخص.
الثانی عشر: بساطة المشتق وترکبّه.
الثالث عشر: الفرق بین المبدأ والمشتق.
الرابع عشر: کیفیة جری الصفات علی اللّه تعالی.
الخامس عشر: ثمرة النزاع.
ولا یخفی علیک أنّهم ذکروا بعض الاُمور لا ربط لها بالبحث عن المشتقّ
ص:162
الاُصولی، ولا یهمّ البحث عنها هنا، ولهذا سوف لا نذکر بعضها (1) وسنلخّص بعضها الآخر.
الأمر الأوّل: فی تحریر محلّ النزاع:
وفیه مقامان:
المقام الأوّل: فی کون المسألة لغویّة أو عقلیّة:
وفیه قولان:
أحدهما: کون المسألة لغویّة.
الظاهر کون المسألة لغویّة قررّت لتعیین الموضوع له، ولذا عنونوا عنوان الحقیقة والمجاز وهما من شؤون الإستعال، وهذا القول هو المختار.
ثانیهما: کون المسألة عقلیّة.
ذکر فی تهذیب الاُصول عن بعض الأعیان - المحقّق الإصفهانی قدس سره - : کونها عقلیّة، إذ ملاک حمل الشیء علی شیء هو تحیّث الموضوع بحیثیّة ووجدانه لمبدأ به یصحّ الحمل، ولولاه لجاز حمل کلّ شیء علی کلّ شیء.
ثمّ قال: قد یکفی فی جواز الحمل حدوث المبدأ آناً ما بلا شرط الإستمرار والبقاء، کالاُبوّة، وهی أمر آنی ناشیء من تخلّق الابن من ماء الأب، إلّاأنّ العرف یری استمراره، ثمّ فرّع علی ذلک قول صاحب المحّجة من أنّ القائل بعدم صحّة الإطلاق علی ما انقضی عنه المبدأ یری وحدة سنخ الحمل فی المشتقّات والجوامد، فکما لا یصحّ إطلاق الماء علی الهواء بعد ما کان ماءً وزالت عنه الصورة المائیّة فانقلبت هواءً، کذلک لا یصحّ إطلاق المشتق علی ما زال عنه المبدأ بعد تلّبسه به، فإنّ المعنی الإنتزاعی تابع لمنشأ انتزاعه حدوثاً وبقاءً، والمنشأ مفقود بعد الإنقضاء، والإنتزاع بدونه علی حدّ المعلول بلا علّة، والقائل بصحّة الإطلاق یدّعی تفاوت الحملین، فإنّ الحمل فی الجوامد حمل «هو هو» فلا یصح أن یقال للهواء إنّه ماء،
ص:163
والحمل فی المشتقّات حمل «ذی هو» وحمل انتساب، وتکفی فی النسبة مجرّد الخروج من العدم إلی الوجود، فیصحّ الحمل علی المتلبّس وعلی ما انقضی عنه دون ما یتلبّس (1).
ملاحظات:
الاُولی: الظاهر أنّ هذه (النسبة إلیه بکون المسألة عقلیّة) من سهو قلم المقرّر، إذ صریح قول بعض الأعیان قدس سرهم إنّ النزاع فی الوضع والإستعمال.
قال المحقّق الإصفهانی قدس سره : «إنّ النزاع هنا فی الوضع والإستعمال أو فی صحّة الإطلاق وعدمها مع التسالم علی المفهوم والمعنی، والظاهر هو الأوّل کما تفصح عنه کلمات القوم من قدیم الزمان إلی الیوم، فإنّ الحقیقة والمجاز المذکورین فی عنوان النزاع من شؤون الإستعمال».
ثمّ قال قدس سره : «صریح بعض المدققین من المعاصرین هو الثانی، بدعوی أنّ وجه الخلاف مع عدم الإختلاف فی المفهوم والمعنی، هو الإختلاف فی الحمل، فإنّ القائل بعدم صحّة الإطلاق... إلخ» (2).
فکون المسألة عقلیّة من بعض المدقّقین صاحب المحجّة قدس سره ، لا من المحقّق الإصفهانی قدس سره .
الثانیة: أورد فی تهذیب الاُصول علی صاحب المحجّة، قال: لو کان الأمر کما ذکره بعض المدقّقین، للزم إندراج هذا البحث فی عداد البحث عن الحقائق؛ فلا مجال حینئذٍ للنزاع فی أنّه هل یقع الفاقد للمبدأ بعد ما کان واجداً له مصداقاً للواجد بالفعل حسب متن الواقع وکبد العین أو لا؟ وسخافة هذا الأمر واضحة؛ لأنّ الصدق وعدمه یدوران مدار الإشتمال علی المبدأ وعدمه، فلا یعقل الصدق علی الفاقد حقیقةً کی یختاره الأعمّی، نعم لو کان البحث لفظیّاً لغویّاً فالواضع مختار فی تعیین حدود
ص:164
الموضوع له - کاختیاره فی تعیین أصل الموضوع له - فیضع اللفظ لخصوص الملتبّس أو للأعم کما هو المختار فی تعیین الألفاظ، أی تعیین أیّ لفظ کان للمعنی (1).
الثالثة: أورد صاحب نهایة الدرایة قدس سره علی صاحب المحجّة قدس سره بقوله: «فیه من الغلط ما لا یخفی علی من له خبرة بالإصطلاح المرسوم فی تقسیم الحمل إلی «هو هو» و «ذی هو»، فالحمل بلا واسطة لفظة «ذی» ولا اشتقاق لغوی مواطاة کما فی «الإنسان جسم» و«هذا حجر»، ومع أحد الأمرین کالأعراض - من السواد والبیاض - فهو اشتقاق کقولنا «الجسم سواد»، أی ذو سواد أو أسود، فالمحمول بالإشتقاق نفس العرض، وأمّا الوصف المشتقّ منه فمحمول مواطاة.
ثمّ استشهد قدس سره بکلام العلّامة الطوسی قدس سره فی شرح منطق الإشارات، فقال:
«وهنا نوع آخر من الحمل یسمّی حمل الإشتقاق وهو حمل «ذو هو» کالبیاض علی الجسم، والمحمول بذلک الحمل لا یحمل علی الموضوع وحده بالمواطاة، بل یحمل مع لفظة «ذو» کما یقال «الجسم ذو بیاض»، أو یشتق منه اسم «کالأبیض» ویحمل بالمواطاة علیه کما یقال: «الجسم أبیض»، والمحمول بالحقیقة هو الأوّل (2).
وغرضه من الأوّل هو المحمول بالمواطاة، فاتضح أنّ حمل الأوصاف حمل «هو هو» والمواطاة لا حمل «ذی هو» وبالإشتقاق کما تخیّله المعاصر المتقدّم، واسناد اختلاف الحمل علی الوجه المزبور إلی العلماء من المتأخّرین والقدماء، وجعله منشأ لهذا الخلاف العظیم؛ سخیف جدّاً» (3).
ص:165
المقام الثانی: فی المراد من المشتق (1):
هل المراد من المشتق هنا هو المشتق فی إصطلاح الصرف أو الأعم منه؟ ولتوضیح المراد نذکر مقدّمة فی أقسام العناوین الجاریة علی الذات:
الأوّل: المنتزع من حاق الذات بلا دخل شیء، وهذا قد یکون الخارج مصداقاً ذاتیّاً له؛ کالأجناس والفصول والأنواع، وقد یکون الخارج کالمصداق الذاتی له؛ کالوجود المنتزع من الموجودات الخارجیّة.
الثانی: المنتزع من الذات باعتبار تلبّسه بشیء وجودی أو عدمی، والوجودی إمّا حقیقی؛ کانتزاع مثل العادل أو العالم أو الأبیض ونحوها باعتبار العلم أو العدل أو البیاض، أو أمر انتزاعی أو اعتباری لا وجود له إلّافی وعاء اعتبار العقل ولحاظه أو اعتبار العقلاء؛ کالإمکان والملکیّة والزوجیّة ونحوها من الإعتبارات الإجتماعیّة العقلائیّة، وربما یمثّل للعدمی بالإمکان - باعتبار کونه سلب الضرورتین تحصیلیّاً - ونظیره الإمکان الأعمی والاُمّی ونحوهما.
الثالث: الأمر الإنتزاعی إمّا اشتقاقی أو جامد، والإشتقاقی کالضارب والناطق، والجامد کالنار والماء والزوج.
ص:166
الرابع: العنوان الجاری إمّا ملازم للذات فی النشأتین الخارج والذهن؛ وهو المسمّی بلازم الماهیّة، أو ملازم للذات فی إحدی النشأتین، أو مفارق کالأعراض المفارقة، إلی غیر ذلک من الأقسام.
إذا عرفت هذه المقدّمة، فالحق خروج العناوین الصادقة علی الذات بذاتها - أی غیر الإشتقاقیّة - عن حریم النزاع، کالمالء والإنسان (1).
قال المحقّق النائینی قدس سره فی وجه الخروج: «إنّ شیئیّة الشیء بصورته لا بمادّته، فإذا فرضنا تبدّل الإنسان تراباً فما هو ملاک الإنسانیّة وهو الصورة النوعیّة قد زال، وأمّا المادّة المشترکة الباقیة وهی القوّة الصرفة لقبول إفاضة الصورة فهی غیر متصفة بالإنسانیّة، هذا بخلاف المشتقّات العرضیّة فإنّ المتصف فیها هی الذات وهی باقیة بعد انتفاء وصفها» (2).
وأورد علیه فی تهذیب الاُصول: بأنّ النزاع هنا لغوی لا عقلی، فلا مانع من وضع الإنسان للأعم (3) بعدما کان عنان الوضع بید الواضع فی تعیین الموضوع له وتعیین حدوده، وتعیین اللفظ الموضوع؛ حیث إنّ التسمیة لا تدور مدار هویّة الشیء.
علی أنّ إنقضاء المبدأ لا یوجب مطلقاً زوال الصورة النوعیّة ولو عرفاً - کما فی تبدّل الخمر خلّاً - إذ هما لیسا حقیقیتین مختلفتین بالفصول، بل متحدان فی الذاتیّات متفارقان فی الأوصاف عرفاً - کالماء والثلج - إذ الإختلاف بینهما لیس فی الحقیقة، بل یکون من قِبل الوصف، أعنی إتصال أجزائهما وعدمه بالتکاثف والتخلّل.
مع أنّ النزاع لو کان عقلیّاً، لم یعقل صدق المشتقّ عقلاً علی من زال عنه المبدأ، فلا یصدق العالِم - أیضاً - علی من زال عنه العلم.
الحاصل: الظاهر فی وجه الخروج - خروج الإنسان والماء عن محلّ النزاع -
ص:167
هو اتفاقهم علی کونها موضوعة لنفس العناوین فقط، لا للذات المتلبّس بها ولو فی زمان ما، هذا بخلاف المشتقّات إذ دخول الذات فیها أمر مبحوث عنه غیر مختلف فیه؛ فیقع فیها النزاع.
وأمّا العناوین المنتزعة بلحاظ تلبّس الذات بأمر عدمی ووجودی حقیقی أو اعتباری ممّا لیست من العناوین المشتقّة - کالزوجیّة والرقیّة ونحوهما - فهی مندرجة فی حریم النزاع کما یشهد به ما عن الفخر والشهید 0 فی مسألة من کان له زوجتان کبیرتان أرضعتا زوجته الصغیرة مع الدخول بإحدیهما، حیث قال الفخر: لا إشکال فی تحریم المرضعة الاُولی والصغیرة، وأمّا المرضعة الثانیة ففی تحریمها إشکال، اختار والدی المصنف وابن إدریس تحریمهما؛ لأنّه یصدق علیها أنّها امّ زوجة؛ لعدم اشتراط بقاء المبدأ فی المشتق (1).
ص:168
وفیه قولان:
الأوّل: خروج أسماء الزمان عن محطّ البحث:
وذلک لأنّ الزمان سیّال، ویکون التصرّم والتقضّی فی حاق ذاته، فلا بقاء له کی یکون متلبّساً بالمبدأ أو منقضیاً عنه المبدأ؛ فلا مصداق له خارجاً باقیاً، وعلیه فلا یجری فیه النزاع.
بعبارة اخری: الزمان له مصداق واحد وهو المتلبّس، ولیس له مصداق منقض عنه المبدأ، والإطلاق - أحیاناً - کإطلاق المقتل علی کلّ عاشر من المحرّم فی کلّ عام، فهو من باب العنایة.
توضیحه: دخول شیء فی محلّ النزاع یتوقّف علی رکنین:
الأوّل: الجریان علی الذات، الثانی: بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ، والزمان فاقد للثانی.
الثانی: دخول أسماء الزمان فی محطّ البحث:
وقرّروا ذلک بوجوه:
أوّلها: ما قاله صاحب الکفایة قدس سره : «ویمکن حلّ الإشکال بأنّ إنحصار مفهوم عامّ بفرد کما فی المقام، لا یوجب أن یکون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام، وإلّا لما وقع الخلاف فیما وضع له لفظ الجلالة، مع أنّ الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فیه تبارک وتعالی» (1).
توضیحه: أنّ إنحصار مفهوم عام فی فردین أحدهما ممکن والآخر ممتنع؛ لا یوجب عدم إمکان وضع اللفظ للکلّی (للجامع) کی یضطر إلی وضعه للفرد الممکن، لإمکان ملاحظة الجامع بینهما ووضعه له، وما نحن فیه من هذا القبیل، فانحصار مفهوم اسم الزمان فی فرد لا یوجب وضعه له، بل یمکن لحاظ المفهوم العام ووضع اللفظ
ص:169
بإزائه، وإن کان فی النهایة ینحصر فی الخارج فی فرد واحد - وهو الزمان المتلبّس بالمبدأ - ویمتنع الفرد الآخر - أی الزمان المنقضی عنه المبدأ - ولا مانع من وضع لفظ للجامع بین الفردین، وله نظیر مثل لفظ الجلالة - اسم للجلالة أو علم - فیمکن وضعه للکلّی الجامع بین الإله الممکن والمستحیل، وإلّا لم یصح النزاع، بل کان المتعیّن العلَمیّة، وهکذا لفظ الواجب وإن انحصر فیه تعالی لکنّ مفهومه شامل لسائر الأفراد، فهو موضوع لفردین أحدهما ممکن والآخر ممتنع.
یرد علیه: أنّ غایة الوضع هو الإفهام - أی إفهام ما فی الذهن ذهنیّاً کان أو عینیّاً - ، فالوضع لما لیس له مصداق فی النشأتین - کما فی الزمان - لغو، فالوضع علی هذا النحو ممکن لکنّ الوقوع متوقّف علی الحاجة، ولا حاجة إلی تفهیم الجامع، بل لا جامع.
والواجب لا نسلّم وحدة مصداقه، بل متعدد؛ من الواجب بالذات وبالغیر وبالقیاس إلی الغیر، ولیس للواجب بالذات وضعاً آخر علی حده کی یقال بانحصاره فی واحد، بل هذا من باب ضمّ مفهوم إلی مفهوم آخر، ومن باب تعدّد الدال والمدلول.
ولفظ الجلالة علم وهکذا الشمس والقمر، ولو سلّم عدم العَلَمیّة، وقیل بکون الجلالة اسماً للذات الجامع للکمالات واللفظین لماهیّة الشمس والقمر؛ فلعلّه للإحتیاج إلی إفهام معانیها العامّة، ولفظ اللّه تعالی غیر آب عن الکثرة لو خلی وطبعه، وإنّما الوحدة وامتناع الکثرة تکون بالأدلّة والبراهین اللفظیّة، وهذا بخلاف الزمان لإبائه عن البقاء مع انقضاء المبدأ ذاتاً.
ثانیها: عن بعض الأعیان قدس سرهم : «وضع اسم الزمان لوعاء الحدث - الأعم من وعاء الزمان والمکان - من غیر خصوصیّة الزمان والمکان، فیکون مشترک معنوی موضوع للجامع مفهوماً، فعدم صدقه علی من انقضی عن المبدأ لا یوجب اللغویّة وعدم جریان النزاع فیه» (1).
ص:170
ویرد علیه: عدم وجود الجامع الحقیقی بین الوعائین کما لا یخفی، ووقوع الفعل فی کلّ غیر وقوعه فی الآخر، والجامع العرضی الإنتزاعی کمفهوم الوعاء والظرف وإن کان متصوّراً إلّاأنّه بالحمل الأوّلی، باطل جدّاً؛ لأنّه خلاف المتبادر من اسمی الزمان والمکان؛ ضرورة أنّه لا یفهم من لفظ المقتل مفهوم وعاء القتل الجامع بینهما أو مفهوم ظرفه، وأمّا أخذ الوعاء بالحمل الشائع فهو موجب لخصوصیّة الموضوع له، مع عدم دفع الإشکال به.
علی أنّ وعائیّة الزمان إنّما تکون بضرب التشبیه لإحاطة الزمان بالزمانی کالمکان بالمکانی، وإلّا فالزمان لیس ظرفاً ووعاءً، بل الزمان أمر منتزع أو متولّد من تصرّم الطبیعة وسیلانها (1).
ثالثها: ما عن المحقّق الخوئی قدس سره کما فی المحاضرات: «التحقیق فی المقام أنّ أسماء الأزمنة لم توضع بوضع علی حدة فی قبال أسماء الأمکنة، بل الهیئة المشترکة بینهما وهی هیئة «مفعل» وضعت بوضع واحد لمعنی واحد کلّی، وهو ظرف وقوع الفعل فی الخارج أعمّ من أن یکون زماناً أو مکاناً، وقد سبق أنّ النزاع إنّما هو فی وضع الهیئة بلا نظر إلی مادّة دون مادّة، فإذا لم یعقل بقاء الذات فی مادّة مع زوالها، لم یوجب ذلک عدم جریان النزاع فی الهیئة نفسها - التی هی مشترکة بین ما یعقل فیه بقاء الذات مع انقضاء المبدأ عنها وما لا یعقل فیه ذلک - وحیث إنّ الهیئة فی محلّ البحث وضعت لوعاء المبدأ الجامع بین الزمان والمکان؛ کان النزاع فی وضعها لخصوص المتلبّس أو الأعم نزاعاً معقولاً. غایة الأمر انّ الذات إذا کانت زماناً لم یعقل بقاؤها مع زوال التلبّس عن المبدأ، وإذا کانت مکاناً یعقل فیه ذلک، وقد عرفت أنّه لا مانع من وضع اللفظ للجامع بین الفرد الممکن والممتنع إذا تعلّق الحاجة بتفهیمه» (2).
ص:171
وفیه: لا یخفی علیک أنّ المحقّق الخوئی قدس سره أخذ هذا الوجه من کلام بعض الأعلام قدس سرهم ، وقد مرّ جوابه.
ص:172
لا مانع من وضعها، وقد یتوهّم عدم إمکان وضعها؛ لعدم إمکان تصوّرها خالیة عن المواد، ویلزم فی الوضع تصوّر الموضوع والموضوع له، ولعدم إمکان التکلّم بها بلا مادّة، فلا طریق إلی وضعها.
وفیه : ما مرّ من إمکان تصوّرها والتلفظ بها فی ضمن بعض المواد، نحو «ف ع ل»، فتوضع الهیئة الملحوظة فی ضمنها والمتلفظ بها لمعنی، مع إلغاء خصوصیّة المادّة من «ض ر ب» و «ن ص ر» وغیرهما.
الأمر الرابع: فی تقسیم المشتقّات:
المشتقّات إسمیّة وفعلیّة، والفعلیّة إمّا حاکیات کالماضی، أو موجودات کالأمر.
والإسمیّة کالزوج وغیره.
الأمر الخامس: أخذ الزمان فی الأفعال:
فیه أقوال:
الأوّل: ظاهر کلام الاُدباء أخذ الزمان فیها من الماضی والمستقبل والحال، فتدلّ علی الحدث والزمان، أو السبق واللحوق، أی علی نسبة الحدث إلی الفاعل مع الزمان.
الثانی: قال صاحب الکفایة قدس سره : «قد اشتهر فی ألسنة النحاة دلالة الفعل علی الزمان، حتّی أخذوا الإقتران بها فی تعریفه، وهو اشتباه» (1).
والحق: أنّ وزان الهیئات فی الوضع وزان الحروف، لا إستقلال لها بالمفهومیّة والموجودیّة، وضعها عام والموضوع له خاص.
ووجه حرفیّة معانیها أنّ هیئة الماضی المتبادر منها هی الحکایة عن وقوع الحدث وصدوره من الفاعل وهذا معنی حرفی، أو عن حلول مثل «حَسُنَ وقَبُحَ»، ومن الواضح أنّ الحکایة عنه لا تکون بالحمل الأوّلی وبالمعنی المصدری الإسمی، بل
ص:173
بالشائع، وهذا معنی حرفی عین الربط بفاعله، وهکذا المضارع، غایة الأمر حکایة الأوّل عن السبق والثانی عن اللحوق، وهذا لیس بمعنی وضعهما بإزاء الزمان أو السبق واللحوق، بل الوضع یکون لمعنی منطبق علیهما؛ إذ العمل والفعل بعد الفراغ منه ماضٍ سابق قهراً، والواقع بعد مستقبل لاحق کذلک.
والحاصل: الزمان إنّما یکون من توابع معناهما ولوازمه، أو یقال: المعنی عند التحلیل یقبل التکثیر، کما أنّ لفظ الفعل واحد صورة منحلّ إلی مادّة وهیئة سیرةً (1).
الأمر السادس: وضع المادّة الاُولی فی المشتقّات:
اختلفوا فی المادّة الاُولی وکیفیّة وضعها، بعد الإتفاق علی أصل وجودها فی المشتقّات علی أقوال:
الأوّل: قال الکوفیّون هی المصدر.
الثانی: قال البصریّون هی الفعل.
الثالث: عن بعض الأعلام هی اسم المصدر.
وربما یظهر عن نجم الأئمّة عدم کون النزاع بینهما فی الأصلیّة والفرعیّة، بل یکون فی تقدّم تعلّق الوضع بهذا أو ذاک.
وبطلان القولین الأوّلین واضح، للزوم سریان المادّة المشترکة، کالهیولی فی الفروع قاطبة بتمام وجودها - أی بحروفها وهیئتها - وهما (المصدر والفعل) لیس کذلک، لإباء هیئتهما عن ورود هیئة اخری علیهما، بل المادّة عاریة عن جمیع الهیئات ولا بشرط من جمیع الجهات، فهی الحقیقة العاریة عن جمیع فعلیّات الصور، فکأنّها
ص:174
هیولی عالم الألفاظ، والهیئات کهیولی عالم التکوین، فمادّة الألفاظ لیست بلفظ، ومادّة المشتقّات لیست بمشتقّة، کما أنّ مادّة الأعداد لیست بعدد، بل الألفاظ والأعداد تتألّف منها، والقول بالوضع التهیئی لا محصّل له، أو لیس بوضع.
فالحق: أنّه لا وضع للمادّة، ولو کان للمادّة وضع فما فائدة وضع المصدر أو اسم المصدر.
وبالجملة: مادّة الألفاظ هیولی الألفاظ، کما أنّ معناها هیولی المعانی - أی تقبل هیئة ذات معنی - والمشهور بین الاُدباء وضع اسم المصدر لنفس الحدث بلا نسبة أصلاً حتّی الناقصة، بل المصدر أیضاً کذلک، وهو المتبادر منهما، وعلیه فهما موضوعان لجنس الحدث وطبیعته، وسائر المشتقّات موضوعة لانتسابها إلی فاعل ما بأطوار وشؤون مختلفة، فالمشتقّات لها وضع نوعی والمصدر له وضع شخصی.
وظنّی أنّ المصدر وضع أوّلاً، ثمّ سائر المشتقات، ولعلّ هذا هو مراد من جعل المصدر أصل الکلام.
الأمر السابع: اختلاف مبادیء المشتقات:
اختلاف المبادیء من حیث الحرفة والصنعة والشأنیّة والملکة (1)، لا یوجب اختلافاً فی الجهة المبحوث عنها، إنّما الإختلاف فی أنحاء التلبّسات والإنقضاءات، ففی جمیع ذلک یجری النزاع، غایة الأمر الإنقضاء فی کلّ مورد یکون بحسبه، والتلبّس بالمادّة علی وجه القوّة والإستعداد علی وجهین:
الأوّل: المادّة موضوعة لذلک کالإجتهاد.
الثانی: الهیئة موضوعة لها کالمکنس والمفتاح، إذا الفتح والکنس ظاهران فی الفعلیّة، لا فی الإستعداد والقابلیّة، لکنّ الهیئة موضوعة لإفادة التلبّس شأناً واستعداداً.
الحاصل: أنّ اختلاف مبادیء المشتقّات لا دخل له فی محلّ البحث أصلاً؛
ص:175
لکون النزاع فی وضع هیئة المشتقّات.
ص:176
التحقیق: أنّ المراد من الحال هو حال تلبّس الذات بالمبدأ وفعلیّة تلبّسها به بأنحاء التلبّسات، ومرجع النزاع إلی سعة مفهوم المشتقّ وضیقه، ووضعه لخصوص المفهوم المنطبق علی خصوص الذات حال التلبّس أو للأعم منه ومن حال الإنقضاء، فعلی السعة له فردان المتلبّس والمنقضی عنه المبدأ، وعلی الضیق له فرد واحد وهذا هو المراد فی هذا النزاع، وإلّا فمن الواضح أنّ المشتق، بل أسماء الأجناس قاطبة لم توضع للفرد الخارجی أو الأفراد.
وأمّا الحال: بمعنی حال النقط فلا یراد فی هذا النزاع ولا یکون النزاع فی الحال بمعنی زمن النطق، إذ لا دلالة للأوصاف المشتقّة علی الزمان أصلاً حالاً أو غیره، لا علی وجه الشطریّة ولا علی نحو الشرطیّة، کعدم دلالة أسماء الأجناس والجوامد
ص:177
علیه، ولذا لا تجوّز فی مثل «کان زید قائماً بالأمس» مع عدم التلبس حال النطق وزمنه، وکذا فی «سیکون زید قائماً غداً»، أو مثل «زید کان إنساناً، أو سیکون تراباً»، علی أنّ الأوصاف قد تستند إلی نفس الزمان أو إلی المجرّدات، ولا زمان لهما، ولو کانت دالّة علی الزمان؛ لکن الإسناد فی أمثال المقام محتاجاً إلی تجرید وعنایة، نعم لو اسند المشتقّ إلی زمانی؛ لکان التلبّس فی أحد الأزمنة لا محالة، وهذا لا لدلالته علی الزمان، بل لکون الفاعل المسندإلیه زمانیّاً، ولابدّ من وقوع الفعل الصادر منه فی زمان.
فالحال لیس بمعنی حال النطق أو زمنه، وانسباق حال النطق وزمنه عند الحمل من الإطلاق أو بمعونة قرینة الحکمة، لا یوجب بطلان النزاع، لأنّهم فی هذا العنوان بصدد بیان ما وضع له المشتقّ وتعیینه، لا تعیین ما یراد بالقرینة.
قال فی تهذیب الاُصول: «علی أنّ الکلام فی المشتق إنّما هو فی المفهوم اللغوی التصوّری، فالمراد بالحال لیس زمان الجری والإطلاق، ولا زمان النطق ولا النسبة الحکمیّة، لأنّ کلّ ذلک متأخّر عن محلّ البحث، ودخله فی الوضع غیر ممکن، وبما أنّ الزمان خارج عن مفهوم المشتق لا یکون المراد زمان التلبّس، بل المراد أنّ المشتق هل وضع لمفهوم لا ینطبق إلّاعلی المتّصف بالمبدأ أو لمفهوم أعم منه» 12؟
ص:178
الأصل هنا إمّا موضوعی (وهو الأصل اللفظی أو العملی) ویجری لتنقیح الموضوع له فی المشتق وتعیینه. أو حکمی (هو الأصل العملی) ویجری عند عدم وجود الأصل اللفظی.
الأوّل: الأصل الموضوعی الجاری لتعین الموضوع له وأنّه هل هو المعنی العام أو المعنی الوسیع الذی له فردان المتلبّس بالمبدأ والمنقضی عنه المبدأ، أو المعنی الضیّق الذی له فرد واحد؟ - لیس بموجود کی یعوّل علیه عند الشکّ، بعد عدم تمامیّة الأدلّة لتعیین الموضوع له.
ویقرّر عدم وجود الأصل بوجهین (1):
أوّلهما: الأصل العقلائی، بمعنی بناء العقلاء علی عدم ملاحظة الخصوصیّة أی خصوص المتلبّس بالمبدأ، ولکن لا یوجد بناء کذلک منهم.
ثانیهما: الأصل بمعنی الإستصحاب، فأصالة عدم ملاحظة الواضع للخصوصیّة فی الموضوع له حین الوضع، معارضة بأصالة عدم ملاحظة العموم والإطلاق؛ لتباین
ص:179
المفاهیم، فالأمر یدور بین المتباینین، فکما یحتمل الأوّل کذلک یحتمل الثانی، وکل واحد منهما حادث مسبوق بالعدم، فتقع المعارضة بین الأصلین.
علی أنّ الأصل هنا لا یجری فی نفسه؛ لعدم إثبات الوضع للأعم بأصالة عدم لحاظ الخصوصیّة إلّاعلی القول بالأصل المثبت، وهکذا أصالة عدم لحاظ العموم لا تثبت الوضع للأخص إلّاعلی الإثبات (1).
الثانی: الأصل الحکمی «العملی»، ویختلف باختلاف الموارد:
أوّلها: یرجع إلی البراءة لو شکّ فی أصل حدوث الحکم بعد زوال العنوان المأخوذ فی الموضوع، مثل ما إذا ورد «أکرم العالم» بعد زوال العلم عن زید العالم، فنشکّ فی وجوب إکرامه؛ لاحتمال وضع المشتق للأعمّ.
ثانیها: یرجع إلی الإستصحاب لو شکّ فی بقاء الحکم بعد حدوثه، کما إذا ورد «أکرم العالم» وکان زید عالماً واجباً إکرامه، إلّاأنّه انقضی عنه العلم بعدما مضی زمان من وجوب إکرامه، فنشکّ فی بقاء الحکم لإحتمال الوضع للأعم.
قال صاحب الکفایة قدس سره : «وأمّا الأصل العملی فیختلف فی الموارد، فأصالة البراءة فی مثل «أکرم کلّ عالم» یقتضی عدم وجوب إکرام ما انقضی عنه المبدأ قبل الإیجاب، کما أنّ قضیّة الإستصحاب وجوبه لو کان الإیجاب قبل الإنقضاء» (2).
أقول: لیس الأمر کما أفاده، بل المرجع هو البراءة مطلقاً (عند عدم وجود الأصل اللفظی) ولو کان الشک فی البقاء، ولا مجال لجریان الإستصحاب، لا علی مسلک من لا یجری الإستصحاب فی الشبهات الحکمیّة، ولا علی مسلک المشهور - المنصور - من جریانه فیها.
وذلک لأنّ الإستصحاب یجری فیها علی تقدیر الشکّ فی سعة الحکم وضیقه مع
ص:180
تعیّن المفهوم سعة وضیقاً، مثل ما إذا شککنا فی بقاء حرمة الوطیء بعد انقطاع دم الحیض وقبل الإغتسال، فنستصحب الحرمة إلی أن تغتسل، وکما إذا شککنا فی بقاء نجاسة الماء المتغیّر بعد زوال تغیّره فی نفسه، فنستصحب الحکم فی أمثال هذه الصور، وهذه کلّها شبهات حکمیّة محضة.
وأمّا الشبهة الحکمیّة الناشئة من الشبهة المفهومیّة، فلا یجری فیها الإستصحاب أصلاً، لا موضوعاً ولا حکما؛ لأنّه یعتبر فی الإستصحاب أمران: الأوّل الیقین السابق، الثانی: الشکّ اللاحق، مع اتحاد المتعلّق وفی الشبهات المفهومیّة لا یقین ولا شکّ فی الموضوع، ومثاله إذا شککنا فی بقاء وجوب صلاة العصر بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقیّة عن قبّة الرأس من قبل الشکّ فی مفهوم المغرب - هل هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة؟ - لم یجر استصحابه؛ لأنّ الإستتار معلوم التحقّق والذهاب مقطوع العدم، إنّما الشکّ فی أمرین: أولهما: بقاء الحکم، والثانی: وضع اللفظ لمعنی موسّع أو مضیّق، والأوّل لا یجری فیه الإستصحاب؛ لعدم إحراز بقاء الموضوع، والثانی لا أصل فیه یعوّل علیه کما تقدّم.
وما نحن فیه من هذا القبیل، والشبهة مفهومیّة؛ لتردّد الموضوع له بین المتلبّس والأعمّ، فلا یجری استصحاب الحکم لعدم إحراز اتحاد القضیّتین، فنشکّ فی بقاء الموضوع. ولا یجری استصحاب الموضوع؛ لعدم الشکّ فی شیء خارجاً، إذ التلبّس السابق والإنقضاء اللاحق کلاهما قطعیّان، بل الشکّ فی وضع المشتقّ ولا أصل فیه.
وقد أشار الشیخ الأنصاری قدس سره فی آخر بحث الإستصحاب إلی مسألة إستحالة بقاء الموضوع، وإلی هذه المسألة - مسألة عدم جریان الإستصحاب فی الشبهات الحکمیّة - فالمرجع علی ما ذکرنا البراءة فقط، ولا مجال للإستصحاب أصلاً (1).
ص:181
قال صاحب الکفایة قدس سره : إنّ الأقوال فی المسألة وإن کثرت، إلّاأنّها حدثت بین المتأخّرین، بعد ما کانت ذات قولین بین المتقدمین:
الأوّل: اعتبار التلبّس فی الحال، وهو قول الأشاعرة ومتأخّری الأصحاب، (فیکون المشتق مجازاً فی المستقبل والماضی).
الثانی: عدم اعتبار التلبّس فی الحال، بل المشتق حقیقة فی الحال والماضی، (أی من تلبّس بالمبدأ ومن انقضی عنه المبدأ) وهو قول المعتزلة ومتقدمی الأصحاب (1)(2).
الحق: کونه حقیقة فی خصوص المتلبّس، والبحث لغوی محض ولیس بعقلی فلسفی.
ص:182
الأوّل: استدلّ لخصوص المتلبّس فی الحال بالأدلّة اللغویّة:
أوّلاً - التبادر (أی المتبادر من المشتقّات هو خصوص المتلبّس بالمبدأ).
ثانیاً - عدم صحّة السلب علی المتلبّس فی الحال، وهو یرجع إلی التبادر. وقد ذکروا هنا وجوهاً عقلیّة لا تجدی:
أوّلها: قال صاحب الکفایة قدس سره : «لا ریب فی مضادّة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادیء المتضادّة علی ما ارتکز لها من المعانی، فلو کان المشتقّ حقیقة فی الأعم، لما کان بینها مضادّة بل مخالفة؛ لتصادقها فیما انقضی عنه المبدأ وتلبّس بالمبدأ الآخر» (1).
وفیه: أنّ العقل حاکم بعدم إمکان إتصاف الشیء بمبدأین متضادّین، وهذا حکم صحیح، وأمّا الحکم بمضادّة القائم والقاعد، أو العالم والجاهل، فلا یکون إلّابعد تعیین معنیها بمقتضی التبادر، وأنّ المتبادر هو خصوص المتلبّس، ومعه لا حاجة إلی هذا الوجه العقلی.
ثانیها: للمحقّق الإصفهانی قدس سره ، قال: «بساطة مفهوم الوصف إمّا بما یراه الدوانی - تبعاً لبعض عبارات القدماء - من اتحاد المبدأ والمشتق ذاتاً واختلافهما اعتباراً، أو بما یساعد النظر من کون مفهومه صورة مبهمة متلبّسة بالقیام علی نهج الوحدانیّة کما هو کذلک فی الخارج، وعلی کلا معنیی البساطة لا یعقل الوضع للأعم.
أمّا علی الأوّل؛ فلأنّ الوجه الوجیه فی تصحیح کلامه وتنقیح مرامه، هو دعوی ملاحظة المبدأ من أطوار موضوعه وشؤونه وکونه مرتبة منه، وبهذا اللحاظ یصیر وصفاً مشتقّاً، ولو لوحظ نفسه بنفسه لا بما أنّه من شؤون الموضوع یصیر مبدأً، فالوصف نفس المبدأ ذاتاً وغیره بهذه الملاحظة، ومن الواضح أنّه مع زوال المبدأ وانقضاء التلبّس به لا شیء هناک حتّی یعقل لحاظه من أطوار موضوعه وشؤونه،
ص:183
فکیف یعقل الحکم باتحاد المبدأ مع الذات فی مرحلة الحمل مع عدم قیامه به؟!
وأمّا علی البساطة التی ساعدها النظر القاصر، فلأنّ مطابق هذا المعنی الوحدانی لیس إلّاالشخص علی ما هو علیه من القیام مثلاً، ولا یعقل معنی بسیط یکون له الإنتساب (حیث لا تکون هنا اثنینیّة حتّی یتحقّق انتساب أحدهما إلی الآخر، بل لا تکون إلّاالوحدانیّة) حقیقة إلی الصورة المبهمة المقوّمة لعنوانیّة العنوان، ومع ذلک یصدق علی فاقد التلبّس» (1).
أورد علیه فی التهذیب: «إنّ بساطة المشتق وترکّبه فرع الوضع، وطریق اثباته هو التبادر لا الدلیل العقلی، وسیأتی أنّ ما اقیم من الأدلّة العقلیّة علی البساطة ممّا لا یسمن» (2).
ثالثها: أنّه لابدّ فی الجری والحمل (فی الأوصاف والمشتقّات) من خصوصیّة (وهی هنا لیس إلّاالمبدأ) وإلّا لزم جواز حمل کلّ شیء علی کلّ شیء، والمنقضی عنه المبدأ فاقد للخصوصیّة، ولو قیل بکون المشتق حقیقة فی الأعمّ؛ فلابدّ إمّا من إنکار لزوم الخصوصیّة؛ وهذا کما تری، أو من ادّعاء بقائها؛ والمفروض هو الإنقضاء.
وفیه: أنّ عدم جواز الحمل علی الفاقد مبتنی علی القول بتبادر خصوص المتلبّس، والخصوصیّة التی لابدّ منها أعم من الحاصلة حال الجری والحاصلة حال التلبّس.
علی أنّ النزاع إنّما یکون فی المفهوم اللغوی التصوّری، والحمل والجری إنّما یکونان بعد الوضع، ولذا لا یکون المراد من الحال زمان الجری والإطلاق، ولا زمان النطق، ولا زمان النسبة الحکمیّة؛ لعدم إمکان دخل جمیعها فی الوضع.
علی أنّ الحمل علی المنقضی، إنّما یصحّ ویمکن لو أمکن وضع المشتق للجامع بینه وبین المتلبّس، وهو غیر معقول.
ص:184
الثانی: استدلّ للأعم من المتلبّس فی الحال:
أوّلاً: التبادر (من نحو قاتل وسارق، هو الأعم).
وفیه: أنّه قد عرفت أنّ المتبادر هو خصوص حال التلبّس (1).
ثانیاً: عدم صحّة السلب عن المضروب والمقتول ممّن انقضی عنه المبدأ.
وفیه: أنّ عدم صحّته فی مثلهما؛ إنّما هو لأجل أنّه ارید من المبدأ معنی یکون التلبّس به باقیاً فی الحال ولو مجازاً (2) - (هذا کما فی الکفایة) (3) - وذلک لأنّ المراد من القتل هو زهق الروح؛ وهو کالملکة فی البقاء، ومن الضرب وقوعه علی الشخص أو أثره، لا تأثیره حین صدوره.
والتحقیق فی ردّ الأعمّی أن یقال:
أوّلاً - المتبادر خصوص المتلبّس (4).
وثانیاً - عدم إمکان تصویر الجامع، والإشتراک المعنوی.
فیبقی القول بالوضع لخصوصه؛ لعدم القول بالإشتراک اللفظی، ولا بعموم الوضع وخصوص الموضو له، والقائل بالأعم - أیضاً - لا یقول بهما (5).
ص:185
تذکرة - فی لزوم فرض الجامع علی القولین، وامتناعه علی الأعم - :
لابدّ للقائل بالوضع للأعم من فرض جامع بین المتلبّس به والمنقضی عنه، ومع عدم تصویره تسقط دعواه من غیر احتیاج إلی إقامة برهان، وذلک لأنّ الجامع ممتنع علی قوله علی الوجهین:
الأوّل - وجه امتناع تصویر الجامع البسیط واضح؛ لأنّه لیس فی وسع المفهوم البسیط غیر المنحلّ إدخال فردین وإخراج فرد آخر، والبسیط المنحلّ غیر معقول.
الثانی: وجه کون تصویر الجامع المرکّب ممتنع؛ لأنّ الجامع إمّا ذاتی أو انتزاعی.
أوّلهما: امتناع الجامع الذاتی لعدم إمکان تعقله بین الواجد والفاقد، والموجود والمعدوم، کما لا یعقل بین الوجدان والفقدان، وبین الوجود والعدم.
ثانیهما - امتناع الجامع الإنتزاعی البسیط؛ لعدم إمکان إفادة مفهوم بسیط لمعنی مرکّب، یدخل فیه الواجد والفاقد الآن المتلبّس فیما مضی، ویخرج عنه الفاقد الآن المتلبّس بعد؛ إذ المدّعی کونه حقیقة فی الواجد الآن، والفاقد الآن المتلبّس فیما مضی.
والجامع البسیط المنحلّ إلی المرکّب، غیر معقول أیضاً؛ إذ المنتزع لابدّ وأن ینتزع من الخارج والواقع، وهو غیر صالح لهذا الإنتزاع.
محصّل الکلام فی تصویر الجامع وعدمه: إمّا علی البساطة بناءً علی ما قاله المحقّق الدوانی، أو علی ما أشار إلیه المحقّق الإصفهانی قدس سره (1)، فالمشتقّ مختص بالمتلبّس فقط، ولا یعقل الجامع کما لا یخفی.
وأمّا بناءً علی الترکیب، وکون الجامع مطلق ما خرج من العدم إلی الوجود.
ففیه: أنّ هذا یختص بالماضی فقط، إلّاأن یقال المراد مطلق الخارج من العدم إلی الوجود، فلا یحتاج إلی قید آخر کی یوجب الترکیب علی نحو أفحش، إلّاأن یضاف إلیه قید آخر حتّی یدخل فیه المتلبّس بالفعل، وهذا کما تری یوجب ترکیباً أکثر.
ص:186
علی أنّ الوضع لأمثال هذا المعنی خلاف الضرورة، کالوضع لما تلبّس بالمبدأ فی الجملة، هذا کلّه لا فرق فیه بین القول بأخذ الذات أو الزمان فی المشتق وعدمه؛ إذ الذات أو الزمان لابدّ أن یقیّد بالتلبّس والإنقضاء - ولیس کلّ واحد منهما مأخوذاً بنحو الإطلاق والتجرید - ولا جامع حینئذٍ بینهما (1).
قال فی تهذیب الاُصول: وأحسب أنّ القائل إعتمد علی إطلاق المشتق أحیاناً علی من انقضی عنه المبدأ، وزعم أنّه حقیقة من دون أن یتفکّر فی جامعه أو هو بسیط أو مرکّب، والبسیط مقولی أو انتزاعی، ثمّ الإنتزاعی أهو قابل للإنحلال أو لا.
وبالجملة: إنّ عجزه عن تصویر الجامع کاف فی بطلان مرامه، والأوّلی الصفح عمّا استدل به علی مختاره، مثل دعوی التبادر فی المقتول والمضروب، وأنّ المتبادر هو الأعم، مع أنّ فیه منعاً واضحاً؛ لأنّ استعمال المضروب وأمثاله إنّما هو بلحاظ حال التلبّس، وإلّا فأی فرق بینه وبین اسم الفاعل، إذ الضاربیّة والمضروبیّة متضائفتان، وهما متکافئتان قوّةً وفعلاً عرفاً وعقلاً (2).
أقول: إشکالات التهذیب علی الجامع بناءً علی الترکیب، وهو مطلق ما خرج من العدم إلی الوجود أربعة:
1 - الإختصاص بالماضی.
2 - الترکیب الأفحش لو اضیف قیداً آخر.
3 - الإلتزام بالترکیب التفصیلی بلا جامع وحدانی، مساوق للإلتزام بالإشتراک اللفظی.
4 - الوضع الکذائی خلاف الضرورة.
فأمّا الأوّل والثانی فغیر واردان؛ لما أشرنا من أنّ مطلق ما خرج - أی الخارج - أعم من المنقضی عنه والمتلبّس بالفعل، فلا اختصاص ولا حاجة إلی قید آخر.
ص:187
والإشکال الرابع إثباتی لا ثبوتی، والإشکال الثالث وارد، إذ هذا إنکار للجامع الذاتی المشترک، ومن ثمّ إلتزام بالإشتراک، ولذا احتیج إلی مرکّب تفصیلی یعمّ جمیع الأفراد.
والقول بکون الجامع هو الذات أو الزمان، مردود؛ لعدم الوضع لمجرّد الذات، بل للذات المتلبّسة أو المنقضی عنها المبدأ (1).
ص:188
وجه اختصاص المشتق بهذا النزاع وعدم إجراءه فی الجامد، اشتماله علی أمرین، المادّة والهیئة - لکلّ منهما وضع مستقل - بخلاف الجامد، وهذا هو سرّ جریان نزاع حدیث البساطة والترکیب فیه دونه.
والمحتملات فی المقام وجوه (1):
ص:189
الوجه الأوّل: المشتق مرکّب تفصیلی، ووزان المادّة والهیئة فیه، وزان المضاف والمضاف إلیه - مثل غلام زید - فکما لهذین معنیان مستقلّان متمائزان والمعنی فیهما مرکّب تفصیلی، کذلک لهما فیه (1) معنیان متمائزان مستقلّان، فمعناه مرکّب تفصیلی دائر بین ثلاثة وجوه:
الأوّل: الذات والحدث والنسبة.
الثانی: الذات والحدث.
الثالث: الحدث والنسبة.
فعلی أحد هذه الوجوه یکون معنی المشتق مرکّباً تفصیلیّاً لا تحلیلیّاً. قال فی تهذیب الاُصول: ولکن لا أظن أحداً یلتزم بذلک (2).
الوجه الثانی: الموضوع له فی المشتق بسیط محض، لا ترکیب ولا إنحلال فیه أصلاً، لا دلالةً ولا مدلولاً، لا بدواً ولا تعملاً.
تقریب هذا القول: إنّ الوضع لا یکون إلّاللمادّة، فهی وضعت للحدث ونفس الطبیعة بنحو بشرط لا غیر قابل للحمل، وأمّا الهیئة فلا وضع لها، بل جاءت لقلب معنی المادّة من بشرط لا وعدم قبول الحمل إلی اللّابشرط القابل للحمل، هذا نظیر ما قیل فی المصدر من أنّ مفاد مادّته هو نفس الطبیعة ولیس للهیئة وضع ومعنی آخر، بل جاءت حتّی یتمکن من التکلّم بالمادّة وصیرورتها متحصّلة. وبعبارة اخری:
جاءت لإخراج المادّة عن اللاتحصّل إلی التحصّل والتعیّن، وعن الإبهام فی الدلالة إلی الإستقلال والتحصّل فیها، کالهیئات والصور الطارئة علی المواد والهیولات. هذا
ص:190
محصّل هذا المبنی.
وعن قائدنا الأعظم قدس سره فی تهذیب الاُصول نقد لطیف علی هذا الإحتمال محصّله: أنّ هذا القول - البساطة المحضة - یؤول إلی الترکیب الإنحلالی التحلیلی وإن غفل عنه قائله.
توضیحه: أنّ اللابشرطیّة وبشرط اللائیّة لیستا من الإعتبارات الجزافیّة التی أمرها بید المعتبر، حتّی إذا أراد حمل ماهیّة علی شیء اعتبرها لا بشرط قابلة للحمل ولو لم تکن کذلک لو خلیّت وطبعها، وإذا أراد عدم الحمل اعتبرها بشرط لا آبیة عن الحمل ولو کانت قابلة له بنفسها.
بل التحقیق: کون جلّ المفاهیم من المعقولات الاُولی والثانیة نقشة لمتن الواقع وحاق العین، فالمفاهیم تابعة للواقع فی قبول الحمل وعدمه، والألفاظ تابعة للمفاهیم، ولا حمل فی المفاهیم المعقولة والملفوظة، إلّامع الإتحاد والوحدة فی العین وحاق الخارج أو نفس الأمر.
وما عن الأساطین فی الأجناس والفصول من اللابشرطیّة، لیس بناظر إلی الإعتبار، بل المراد أنّ واقعها ومطابقها کذلک - أی لا بشرط بحیث یتحد کلّ مع الآخر - ومن المعلوم أنّ المفاهیم والألفاظ الموضوعة لها تابعتان للواقع وحاق العین، والأجناس والفصول مأخذهما المادّة والصورة، وهما متحدتان فی نفس الأمر، ولذلک الإتحاد صحّ حمل أحدهما (الأجناس والفصول) علی الآخر، ولولاه لما صحّ الحمل، بل کان ممتنعاً ولو اعتبر اللابشرط ألف مرّة.
والحمل هو الهوهویّة فی القضیّة الملفوظة والمعقولة، الحاکیة عن الهوهویّة الخارجیّة الواقعیّة الکائنة بین الحقائق والأعیان، وما فی الألسن والأذهان نقشة لما فی الأعیان.
فالجوهر والعنصر والمعدن والنبات والحیوان والناطق، مأخذها ومحکیها هی الحقائق نفس الأمریّة، المتحدة من للمادّة الاُولی، المتدرّجة إلی منزل الإنسان؛ ففی کلّ
ص:191
منزل تکون المادّة متحدة مع الصورة، وهذا الإتحاد العینی مناط اللابشرطیّة ومناط صحّة الحمل فی المعانی المأخوذة منها، وفی الألفاظ الحاکیة عنها، وبهذا المعنی یکون الترکیب بین المادّة والصوره اتحادیّاً لا إنضمامیّاً.
مثلاً قوّة النواة قد صارت عین النواة بحیث لیس هنا إلّافعلیّة النواة، نعم بما أنّ فی هذه النواة قوّة الشجر حقیقة؛ یکون الترکیب بین صورة النواة وقوة الشجر انضمامیّاً، فصورة النواة متحدة مع قوتها، لکن مشتملة علی قوّة الشجر بلا اتحاد، فقوّة الشجر وصورة النواة تکونان بشرط لا، لا یحمل أحدهما علی الآخر، إلّابوجه عنائی.
فکما أنّ الصور المتدرّجة فی الکمال إذا صارت واقفة علی حد تکون بشرط لا بالنسبة إلی حدود اخری واقعاً، والمفهوم المأخوذ منها بشرط لا بالنسبة إلیها وإن کانت لا بشرط بالنسبة إلی المصادیق، فالشجر هو النبات الواقف أی بشرط لا، والنامی هو الحقیقة المتدرّجة فی الکمال أی لا بشرط.
فتحصّل ممّا مرّ: أنّ اللابشرطیّة وبشرط اللائیّة لیستا جزافیتین تابعتین لاعتبار المعتبر، فحینئذٍ نقول لا یمکن أن تکون الهیئة لإخراج المادّة إلی اللابشرطیّة، إلّا أن تکون حاکیة لحیثیّة بها صار المشتق قابلاً للحمل، فإنّ نفس الحدث غیر قابل له ولم یکن متّحداً فی نفس الأمر مع الذات، فقابلیّة الحمل تابعة لحیثیّة زائدة علی الحدث المدلول علیه بالمادّة، فظهر أنّ لمادّة المشتقّات معنی ولهیئتها معنی آخر به صار مستحقّاً للحمل، وهذا عین الترکیب الإنحلالی (1).
أدلّة بساطة المشتقّات:
الأوّل: استدلال المحقّق الشریف علی بساطة المشتقّ من أنّ امتناع دخول مفهوم الشیء فی الناطق، لإستلزامه دخول العرض العام فی الفصل الذاتی، ولو اعتبر فیه مصداقه لزم انقلاب الممکنة فی «الإنسان کاتب» إلی الضروریّة.
ص:192
ویلاحظ علیه: أوّلاً: هذا الإستدلال لا یثبت بساطة المشتق، غایة الأمر دلالته علی خروج الذات مفهوماً ومصداقاً عن مفهومه، فلعلّ القائل بالترکیب یختار الإحتمال الثالث المتقدّم، ویقول مفاده هو الحدث المنتسب إلی الذات بحیث یکون الذات خارجاً والحدث والنسبة داخلین.
ثانیاً: عدم معقولیّة کون المشتق من الذاتیّات والفصول المقوّمة، مع أنّ له معنی حدثیّا، فالناطق من النطق بمعنی التکلّم أو الإدراک، فهو من الأعراض الخاصّة، فأخذ الشیء فیه أخذ للعرض العام فی الخاص، وهذا لا فرق فیه بین البساطة والترکیب (1).
ثالثاً: برهانه إنّما یتم بناءً علی الترکیب التفصیلی، ولا قائل به، وأمّا علی الترکیب التعملّی التحلیلی فلا.
توضیح ذلک: أنّ المقرّر هو اتحاد ترکیب الجنس والفصل، حیث اشیر إلی أنّ المادّة حین تلبّسها بالکمال الأوّل - أی الحرکة - وتوجهها بها إلی الکمالات الثانیة، تصوّر علیها صور طولیّة فی مراحل حرکتها ومدارج سیلانها، فتصیر فی کلّ مرتبة عین الصورة بلا تعدّد وتکثر وجوداً. نعم تقبل الکثرة تحلیلاً، وهذه الحرکة والسیلان واعتوار الصور یستمر إلی صورة قصوی جامعة لجمیع ما دونها من الفعلیّات والکمالات، وهذه الوحدة الشخصیّة والبساطة لا تنافی انتزاع حدود عن الذات الواحدة؛ إذ انتزاعها لا یوجب الکثرة الخارجیّة حتّی ینافی البساطة، بل الحدّ وترکّبه یکون تحلیلیّاً تعملیّاً.
وعلیه: فکما أنّ البساطة الخارجیّة لا تنافی الترکّب التحلیلی، کذلک وعاء المفاهم ومدالیل الألفاظ، فلا ینافی تحلیل المشتق وترکبه التعملّی بساطة مفهومه وکونه أمراً وحدانیّاً، فتحلیل المشتق وانحلال مفهومه إلی الذات الحدث وانتزاع
ص:193
مفهومها منه، لیس إلّاکانتزاع الجنس والفصل عن الموجود البسیط المتحد جنسه مع فصله.
وبعبارة اخری: الحد التام عین المحدود، فهو معرّف للماهیّة علی ما هی علیه فی نفس الأمر، ولو تخلّف عن الماهیّة فی جهة من الجهات وحیثیّة من الحیثیّات لم یکن تامّاً، وماهیّة الإنسان بسیط جنسها مضمن فی فصلها وفصلها مضمن فی جنسها، وإذ مأخذهما هو المادّة والصورة المتحدتان، فالمأخوذان منهما متحدان أیضاً، والحد لابدّ أن یکون مفیداً لذلک، فالحیوان الناطق حاک عن الحیوان المتعیّن بصورة الناطقیّة - أی المادّة المتحدة بتمام المعنی مع الصورة - فالذات المبهمة المأخوذة علی نحو الوحدة مع العنوان فی المشتق صارت متعیّنة بتعیّن حیوانی، فکأنّه قال: الإنسان حیوان متلبّس بالناطقیّة، وکانت الناطقیّة صورة له، وهو متحد معها، لا أنّه شیء والناطق شیء آخر. هذا کلّه راجع إلی الشقّ الأوّل من کلام السیّد الشریف.
رابعاً: وأمّا الشقّ الثانی من کلامه ففیه: أمّا الإنقلاب إلی الضروریّة بالرجوع إلی قضیّتین؛ فیلزم لو اخذت الذات فیه تفصیلاً حتّی یصیر «زید ضارب» إخبارین «زید زید» و «زید له الضرب»، وقد مرّ أنّ الترکیب إنحلالی (1) و«الإنسان کاتب» لیس إخبارین بل خبر واحد، إخبار عن کتابة الإنسان لا عن إنسانیّته أیضاً، فالکاتب یعنی «نوسینده» مبهماً من حیث المعنون و«زید» فی «زید کاتب» تعیّن ذلک المبهم، فلیس فی «کاتب» ترکیب تفصیلی بل تحلیلی، فهو إخبار واحد لا إخباران.
ولو سلّم کونه إخبارین فلا انقلاب، بل قضیّتان أحدهما ضروریّة والاُخری ممکنة، فلم تنقلب الممکنة إلی الضروریّة، فهنا إنحلال لا انقلاب، والسیّد أخذ الإنقلاب مکان الإنحلال، وبینهما بون بعید (2).
ص:194
الثانی: ذکر صاحب الکفایة قدس سره دلیل آخر لبساطة المشتق حیث قال: «ثمّ أنّه یمکن أن یستدل علی البساطة، بضرورة عدم تکرار الموصوف فی مثل «زید الکاتب» ولزومه من الترکّب، وأخذ الشیء مصداقاً أو مفهوماً فی مفهومه» (1).
ویلاحظ علیه: أنّه یلزم لو اخذ تفصیلاً لا تحلیلاً، وقد قلنا بالتحلیل، وأنّه لا ینقدح منه إلّامعنی واحد، فلیس هنا تکرار بل إجمال وتفصیل، وإبهام وتعیین، «فزید» فی «زید کاتب» تفصیل وتعیین، لما فی «الکاتب» مبهماً ومجملاً - أی المعنون المبهم - والتناقض فی أنّه إنسان ولیس بقائم، والتکرار فرع کونه إخبارین وقضیّتین، وقد قلنا إنّه إخبار واحد.
الوجه الثالث: المشتق بسیط بدواً مرکّب تحلیلاً:
المشتقّ الإسمی القابل للحمل علی الذات، موضوع لأمر وحدانی مفهوماً منحل إلی معنون مبهم وعنوان بلا نسبة، فهو متوسّط بین الجامد والبسیط لفظاً ودلالة ومدلولاً، وبین المرکّب التفصیلی، فهو أمر وحدانی لفظاً ودلالة ومدلولاً بدواً وحسب النظرة الاُولی؛ منحلّ إلی شیئین تعمّلاً وتحلیلاً.
هذا القول هو الموافق للتحقیق والإرتکاز.
قال فی الکفایة: «إرشاد: لا یخفی أنّ معنی البساطة - بحسب المفهوم - وحدته إدراکاً وتصوّراً، بحیث لا یتصوّر عند تصوّره إلّاشیء واحد لا شیئان، وإن انحلّ بتعمّل من العقل إلی شیئین، کانحلال مفهوم الحجر والشجر إلی شیء له الحجریّة والشجریّة مع وضوح بساطة مفهومها.
وبالجملة: لا ینثلم بالإنحلال إلی الإثنینیّة - بالتعمّل العقلی - وحدة المعنی وبساطة المفهوم کما لا یخفی، وإلی ذلک یرجع الإجمال والتفصیل الفارقان بین المحدود والحدّ مع ما هما علیه من الإتحاد ذاتاً، فالعقل یحلّل النوع ویفصّله إلی جنس وفصل بعدما کان أمراً واحداً إدراکاً وشیئاً فارداً تصوّراً، فالتحلیل یوجب فتق ما هو علیه
ص:195
من الجمع والرتق» (1).
توضیح ذلک: أنّ الحاصل فی الذهن من الخارج، تارة یکون ذات الشیء ونفسه وحده بلا وصف عنوانی، واُخری مع وصفه العنوانی، والثانی علی قسمین:
أوّلهما: الحاصل ربمّا یکون هو الذات والوصف معاً تفصیلاً، فیتعلّق بالذات إدراک وبوصفه وعنوان إدراک آخر، فیکونان مدکرین بإدراکین مستقلّین.
ثانیهما: الحاصل فی الذهن هو الذات والوصف معاً، لکن لا تفصیلاً بل مع کونهما مدرکین بإدراک واحد؛ لکونهما فی الحقیقة أمراً واحداً وشیئاً فارداً معنوناً بعنوان واحد.
فهذه أقسام ثلاثة، والحاکی عن الأوّل هی الجوامد کالجسم، وعن الثانی هو المرکّب من لفظین أو أزید نحو زید له البیاض، وعن الثالث هو المشتق مثل أبیض، فهذا الأخیر لیس بحاک عن الذات فقط، ولا عن ذات العنوان تفصیلاً، بل یحکی عن المعنون بما هو أمر وحدانی، غایة الأمر انحلاله إلیهما - الذات والوصف العنوانی - تحلیلاً وعقلاً، والإنحلال إلی الإثنینیّة بالتعمّل العقلی لا یوجب انثلام وحدة المعنی وانخرام بساطة المفهوم، کالمحدود والحد.
وإن شئت فقل: لفظ الجسم بسیط دالّاً ومدلولاً ودلالة، فهو لا یدلّ إلّاعلی معنی وحدانی، فهذا اللفظ الوحدانی غیر قابل للإنحلال أصلاً، وفی أیّة مرحلة من هذه المراحل الثلاث، وقولک «جسم له البیاض» أو «شیء معنون بالأبیضیّة» یدلّ بدلالات مستقلّة وبکلمات وألفاظ منفصلة علی مدلولات ومعانی منفصلة مشروحة، والأبیض دال علی المعنون بما هو کذلک بلا تفصیل وتشریح، بل بنحو الوحدة، فالمراحل الثلاثة فی المشتق مطویّة لها وحدة إندماجیّة؛ فینحل المشتق إلی هذه المراحل، لکن بالتحلیل والتعمّل العقلی.
إن قلت: الجسم - أیضاً - ینحلّ إلی أمرین مادّة وصورة بناءً علی مسلک
ص:196
المشاء؛ فکیف تقولون بعدم انحلاله مدلولاً؟ وعلیه فلا فرق بین الجسم والمشتق - مثل الأبیض - بحسب المدلول بدواً وإنحلالاً.
قلت: انحلال الجسم یکون حسب التکوین وذاته، لا بحسب المدلول والمعنی، بخلاف المشتق فانحلاله یکون بحسب المفهوم، ففی المشتق کما تکون الهیئة والمادّة موجودتین بوجود واحد، کذلک دلالتهما تکون دلالة واحدة ومفهومها مفهوم واحد، وفی الخارج موجودتان بوجود واحد، والمعنون الذی هو مفهوم المشتق یحمل ویجری علی الأفراد، فزید فی الخارج متحد الوجود مع الضارب الذی ینحلّ إلی المعنون بالضاربیّة (1).
ص:197
قال صاحب الکفایة قدس سره : «الفرق بین المشتق ومبدأه مفهوماً أنّه بمفهومه لا یأبی عن الحمل علی ما تلبّس بالمبدأ ولا یعصی عن الجری علیه؛ لما هما علیه من نحو من الإتحاد، بخلاف المبدأ فإنّه یأبی عن ذلک، بل إذا قیس ونسب إلیه کان غیره لا هو هو، وملاک الحمل والجری إنّما هو نحو من الإتحاد والهوهویّة، وإلی هذا یرجع ما ذکره أهل المعقول فی الفرق بینهما من أنّ المشتق یکون لا بشرط والمبدأ یکون بشرط لا، أی یکون مفهوم المشتق غیر آب عن الحمل ومفهوم المبدأ یکون آبیاً عنه» (1)(2).
أقول: ما أشار إلیه من الفرق بین المشتق والمبدأ بنحو اللابشرطیّة والبشرط اللائیّة، إنّما یصحّ (3) بناءً علی کون المبدأ هو المصدر، وأمّا علی التحقیق (4) فلا یصح.
وذلک لأنّ مادّة المشتقّات فی غایة الإبهام واللامتحصلیّة هیئةً ومعنیً، والمصدر کسائر المشتقّات له مادّة وهیئة متحصّلة ومعنی مستقل متحصّل؛ فلیس هو المبدأ، إذ المبدأ والمادّة لابدّ أن یتحقّق فی جمیع الصور والهیئات، فلا یکون ذا صورة متعیّنة، وإلّا یلزم اتحاد المتحصّل مع المتحصّل.
وعلیه: فمادّة المشتقّات لا تحصّل لها أصلاً حسب نفسها، إنّما تتحصّل بهیئة من الهیئات المشتقّة، ولا تحصل لمعناها أیضاً، بل یتحصل ویستقل بمعنی من معانی المشتقات فالمادّة مبهمة غایة الإبهام هیئة ومعنی، ولهذا الإبهام والإنغمار فی عدم
ص:198
التحصّل لا تتصف بقابلیّة الحمل ولا بعدم القابلیّة، إلّاعلی وجه السلب التحصیلی لا الإیجاب العدولی أو السلب العدولی؛ حیث لا شیئیّة لها أصلاً؛ فالمادّة متصوّرة بصور مختلفة من المشتقات، أفعالها وأسمائها متحصّلة مع کلّ بنوع من التحصّل.
فمادّة المشتقّات غیر المصدر والإسم - إذ هی لا متحصّلة وهما متحصّلان - وغیر المشتق القابل للحمل، فالمادّة موضوعة للعنوان المبهم، والمشتق المرکّب من المادّة والهیئة یدلّ علی المعنون بعنوان المبدأ علی وجه الوحدانیّة - کما مرّ - ولذا یحمل علی الذات.
ولو کان المبدأ بشرط لا والمشتق لا بشرط لزم اجتماع أمرین متنافیین فی المشتقّات؛ إذ المادّة لابدّ وأن تکون فی ضمن أیّة هیئة کانت، فلو کانت فی ضمن المشتق فهی بشرط لا غیر قابل للحمل، والمشتق لا بشرط غیر آب عن الحمل بل مقتضٍ له؛ علی أنّ بشرط لا أمر متحصّل، والمتحصّل لا یصیر مبدأ لأمر آخر.
فما نسب صاحب الکفایة (1) إلی أهل المعقول من لا بشرطیّة المشتق وبشرط لائیّة المادّة، غیر سدید، کما ذکر ذلک فی التهذیب أیضاً (2).
ومؤیّد المختار ما فی الکفایة لأنّه قال قدس سره : «ضرورة أنّ المصدر لیس مادّة لسائر المشتقّات، بل هو صیغة مثلها، کیف وقد عرفت فی باب المشتق مباینة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنی؟! فکیف بمعناه یکون مادّة لها» (3)؟
ص:199
اشکل فی جریان الصفات علیه تعالی بأنّ المادّة فی المشتق موضوعة للحدث اللا متحصّل، وهیئة المشتق للمعنون - أی الذات المتعیّنة بالعنوان تحلیلاً، فیشکل الأمر من وجهین:
الوجه الأوّل: هیئة المشتق حیث تقتضی مغایرة المبدأ مع ما یجری علیه المشتق وزیادته علیه، وفیه تعالی العینیّة لا المغایرة.
الوجه الثانی: من جهة المادّة حیث تقتضی کون المبدأ حدثاً، وهو تعالی خالق کلّ شیء من الجواهر والأعراض ولیس بواحد منها «أیّن الأین فلا أین له، وکیّف الکیف فلا کیف له».
واُجیب عن الوجه الأوّل من الإشکال بوجوه:
الأوّل: أجاب صاحب الکفایة قدس سره بکفایة المغایرة مفهوماً وإن اتحدا عیناً، حیث قال: «الرابع: لا ریب فی کفایة مغایرة المبدأ مع ما یجری المشتق علیه مفهوماً، وإن اتحدا عیناً وخارجاً، فصدق الصفات - مثل العالم، والقادر، والرحیم، والکریم، إلی غیر ذلک من صفات الکمال والجلال - علیه تعالی علی ما ذهب إلیه أهل الحق من عینیّة صفاته، یکون علی الحقیقة، فإنّ المبدأ فیها وإن کان عین ذاته تعالی خارجاً إلّا أنّه غیر ذاته تعالی مفهوماً» (1).
وفیه: لا یدفع هذا الجواب الإشکال الثانی؛ علی أنّ الجواب - مغایرة المفهوم - أجنبی عن الإشکال الذی هو معنی المشتق زیادة العنوان علی المعنون.
وأعجب منه ذیل کلامه قدس سره : «ففی صفاته الجاریة علیه تعالی یکون المبدأ مغایراً له تعالی مفهوماً وقائماً به عیناً، لکنّه بنحو من القیام لا بأن یکون هناک اثنینیّة وکان ما بحذائه غیر الذات، بل بنحو الإتحاد والعینیّة وکان ما بحذائه عین الذات، وعدم اطلاع العرف علی مثل هذا التلبّس من الاُمور الخفیّة لا یضرّ بصدقها علیه
ص:200
علی نحو الحقیقة؛ إذا کان لها مفهوم صادق علیه تعالی ولو بتأمّل وتعمل من العقل، والعرف إنّما یکون مرجعاً فی تعیین المفاهیم لا فی تطبیقها علی مصادیقها» (1).
إذ فیه: القول بالعینیّة علی القول بالقیام، فلو قلنا بالقیام لعاد المحذور والإشکال، اللّهمّ إلّاأن یراد بالقیام عدم القیام.
علی أنّ المدّعی إجراء العرف وحمل هذه الصفات علیه تعالی کما یجریها علی مخلوقاته، فالقول بأنّ العرف متبع فی المفاهیم لا التطبیق، کما تری، وعدم مرجعیّة العرف فی التطبیق - أیضاً - محلّ إشکال.
الجواب الثانی: من الفصول، وقد التزم بالتجوّز أو بالنقل (2) فی الصفات الجاریة علیه تعالی.
وفیه: أنّ هذا واضح البطلان، وخلاف الوجدان؛ لعدم الفرق بین جری الصفات علیه تعالی وعلی غیره.
الجواب الثالث: أقول: الحق أنّ المشتق معناه هو المعنون بعنوان المبدأ بما أنّه معنون، فلا یدل إلّاعلی هذا، وأمّا زیادة العنوان علی المعنون وقیامه به فهو خارج عن مفهومه، غایة الأمر الغالب فی المشتقات هی الزیادة والمغایرة، وهذه الغلبة الخارجیّة توجب انسباق الزیادة والمغایرة إلی الذهن، وإلّا فالمشتق بمفهومه لا یدلّ علیهما.
وبعبارة اخری: المشتق یدلّ علی المعنون بما هو معنون، وأمّا عینیّة العنوان أو
ص:201
زیادته ومغایرته فهی من خصوصیّات المصادیق، فهو تعالی «عالم، قادر» أی معنون بعنوان العالم والقادر من غیر دلالة علی کونهما وصفاً زائداً علی الذات، فلا نقل ولا تسامح وتجوز فی البین.
واُجیب الوجه الثانی من الإشکال: بأنّه لا دلیل علی لزوم کون المبدأ حدثاً أو عرضاً، بل المسلم قبول المعنی المبدئی، التصرّف الأدبی والتصریف بتوارد الصور والهیئات علیه، وحقیقة الوجود ونحوها قابلة للتصریف ولیست بحدث وعرض، فالمشتق یدلّ علی المعنون بما هو معنون بلا دلالة علی الحدثیّة والعرضیّة، فاللّه تعالی عالم أی لیس ذاته کاشف أو کشف تام (1)(2).
ص:202
أنکر بعض الأعاظم قدس سرهم ثمرة النزاع فی البحث عن المشتق، حیث قال فی المحاضرات: «الخامس: أنّه لا ثمرة تترتب علی النزاع فی وضع المشتق» (1).
وقبل ذلک قال فی توضیح مختاره بما حاصله: أنّ القضایا الشرعیّة من القضایا الحقیقیّة التی اخذ الموضوع فیها مفروض الوجود، فإنّ فعلیّة الحکم فیها تابعة لفعلیّة موضوعه، ولا یعقل تخلّف الحکم عنه، فإنّه کتخلّف المعلول عن علّته التامّة. نعم یجری النزاع فی القضایا الخارجیّة التی یکون الموضوع فیها أمراً موجوداً خارجیّاً، فإنّه یمکن أن یؤخذ الحکم فیها باعتبار خصوص المتلبّس أو الأعم منه ومن المنقضی عنه المبدأ.
ثمّ قال: والصحیح أنّ الأحکام الحقیقیّة الشرعیّة المترتبة علی تلک العناوین تختلف بحسب الموارد ومقتضیاتها، ففی غالب الموارد تدور مدارها حدوثاً وبقاءً، وهذا هو المتفاهم منه عرفاً، وفی بعض الموارد لا یدور بقاء الحکم مدار بقاء عنوان موضوعه، بل یبقی بعد زوال العنوان - أیضاً - کما فی آیتی الزنا والسرقة، ولا دخل لهذا بوضع المشتق للأعم أو الأخص (2).
ص:203