آرشیو دروس خارج اصول آیت الله شیخ محمداسحاق فیاض38-37

اشارة

سرشناسه:فیاض، محمداسحاق1930

عنوان و نام پدیدآور:آرشیو دروس خارج اصول آیت الله شیخ محمداسحاق الفیاض38-37/محمداسحاق فیاض.

به همراه صوت دروس

منبع الکترونیکی : سایت مدرسه فقاهت

مشخصات نشر دیجیتالی:اصفهان:مرکز تحقیقات رایانه ای قائمیه اصفهان، 1396.

مشخصات ظاهری:نرم افزار تلفن همراه و رایانه

موضوع: خارج اصول

أدلة حجیة خبر الواحد ___ آیة النفر بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ___ آیة النفر

کان الکلام فی آیة النفر وهل تدل علی حجیة خبر الواحد (وَمَا کَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِیَنفِرُواْ کَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن کُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّیَتَفَقَّهُواْ فِی الدِّینِ وَلِیُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) (1) وتمامیة الاستدلال بهذه الآیة المبارکة تتوقف علی مجموعة من المقدمات:

المقدمة الأولی: دلالة الآیة المبارکة علی وجوب الحذر لأنها إذا دلت علی وجوب الحذر فهو یدل علی أن إنذار المنذر حجة وهذا معناه حجیة خبر الواحد، ولکن دلالة الآیة المبارکة علی وجوب الحذر تتوقف علی أمور:

الأمر الأول: أن کلمة لعل الواردة فی هذه الآیة الکریمة لیس بمعناها اللغوی العرفی وهو الترجی إذ یستحیل وجود هذا المعنی فی ذاته تبارک وتعالی، فلا محالة یکون المراد من کلمة لعل أنها تدل علی محبوبیة مدخولها أی أن الحذر محبوب لله تعالی فإذا کان محبوبا لله تعالی فهو واجب للملازمة بینهما.

الأمر الثانی: أن الحذر غایة للإنذار والإنذار واجب وغایة الواجب أولی بالوجوب، ثم أن الحذر لو لم یجب لکان وجوب الإنذار لغوا وقد تقدم الکلام فی هذه الوجوه وناقشنا فی جمیعها تماما علی تفصیل تقدم.

المقدمة الثانیة: أن الآیة المبارکة تدل علی أن الحذر مترتب علی عنوان الإنذار بدون أی قید آخر وتدل علی ذلک أیضا أمور:

الأمر الأول: ان مقتضی إطلاق الآیة المبارکة (وَلِیُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ) أن الحذر مترتب علی إنذار المنذر بعنوانه لا بعنوان أنه مفید للعلم بالواقع أو الاطمئنان والوثوق بالواقع بل بما هو إنذار فإن تقیید الإنذار بالعلم أو الاطمئنان والوثوق بحاجة إلی قرینة ولا قرینة من داخل الآیة المبارکة ولا من خارجها وظاهر إطلاق الآیة المبارکة ترتب الحذر علی عنوان المنذر.

ص: 1


1- القرآن المجید، سورة التوبة، آیة122.

فإذاً إنذار المنذر بما هو حجة یوجب وجوب الحذر ویکون سببا لوجوب الحذر فلو لم یکن إنذار المنذر حجة لم یجب الحذر، فوجوب الحذر الذی هو مترتب علی إنذار المنذر بعنوانه یدل علی أن إنذار المنذر حجة وهذا معناه أن خبر الواحد حجة.

ولکن ناقشنا فی هذه الأمور أیضا علی تفصیل تقدم.

إلی هنا انتهی الکلام فی النقطة الثانیة.

النقطة الثالثة: أن للحذر تفسیرات متعددة وردت فی کلمات الأعلام من الأصولیین:

التفسیر الأول: أن المراد من الحذر فی الآیة المبارکة الحذر من الوقوع فی المفسدة الواقعیة غیر المنجزة أو تفویت المصلحة الواقعیة غیر المنجزة.

التفسیر الثانی: أن المراد من الحذر هو الخوف النفسانی من الإدانة والعقوبة.

التفسیر الثالث: أن المراد من الحذر هو التحفظ والتجنب العملی الخارجیة لا الخوف النفسانی من الإدانة والعقوبة، أی التحفظ علی فعل الواجبات وترک المحرمات.

أما التفسیر الأول: فهو غیر صحیح لوضوح أنه لا یجب الحذر من الوقوع فی المفسدة غیر المنجزة ولا مانع من الوقوع فیها، کما انه لا مانع من تفویت المصلحة الواقعیة غیر المنجزة ولا یجب الحذر من الوقوع فی مثل هذه المفسدة التی هی غیر منجزة ومن تفویت المصلحة الواقعیة التی هی غیر منجزة.

والصحیح: هو التفسیر الثانی فإن المتفاهم العرفی من الحذر الوارد فی الآیة المبرکة هو الخوف النفسانی من الإدانة والعقوبة علی مخالفة إنذار المنذرین لأن هذا الخوف النفسانی من الإدانة والعقوبة مترتب علی مخالفة إنذار المنذرین فإن المنذرین (بالفتح) یخافون من الإدانة والعقوبة علی مخالفتهم المنذرین (بالکسر)، هذا هو المتفاهم العرفی من الحذر والآیة تدل علی ذلک فإن الخوف مترتب علی إنذار المنذرین (بالکسر) فبطبیعة الحال یکون المراد من الحذر هو الخوف من الإدانة والعقوبة ومخالفة إنذار المنذرین حیث أن إنذار المنذر إذا کان بالواجب یخاف المنذر (بالفتح) من ترک الواجب وإذا کان علی الحرمة یخاف من الإدانة والعقوبة علی ارتکابه.

ص: 2

واما التفسیر الثالث: فمما لا یمکن المساعدة علیه؛ لأن التحفظ والتجنب العملی الخارجی معلول للخوف النفسی من الإدانة والعقوبة فإن الخوف النفسی من الإدانة والعقوبة هو السبب للتحفظ والتجنب العملی الخارجی فإذا خاف الإنسان من الإدانة والعقوبة علی فعل فبطبیعة الحال یتجنب عنه فالتحفظ والتجنب العملی الخارجی معلول للخوف النفسانی من الإدانة والعقوبة والمراد من الحذر هو الخوف النفسانی من الإدانة والعقوبة الذی هو سبب للتحفظ من ترک الواجب والتجنب من فعل الحرام.

هذا بحسب ظاهر الآیة المبارکة وبقطع النظر عن کلمة ((لعل)).

وأما معها فالآیة لا تدل علی وجوب الحذر فإن کلمة ((لعل)) فی الآیة المبارکة تدل علی ترقب الحذر لا علی وجوبه فالمستفاد من الآیة الکریمة بضمیمة کلمة لعل أن ترقب الحذر هو المترتب علی إنذار المذرین لا وجوب الحذر.

وعلی هذا: فالآیة الکریمة لا تدل علی حجیة خبر الواحد لأنها لا تدل علی حجیة إنذار المنذرین لأن المترتب علی إنذار المنذرین لیس وجوب الحذر بل المترتب هو ترقب الحذر فمن أجل ذلک لا تدل الآیة الکریمة علی حجیة اخبار الآحاد.

ومع الإغماض عن ذلک وتسلیم دلالة الآیة المبارکة علی وجوب الحذر وأنه مترتب عل إنذار المنذر فیکون إنذار المنذر حجة فهل الآیة حینئذ تدل علی حجیة أخبار الآحاد أو لا تدل علی ذلک؟ فهنا مجموعة من الإشکالات فی دلالتها علی حجیة اخبار الآحاد:

الإشکال الأول: أن مورد الآیة المبارکة الشبهات الحکمیة التی یکون التکلیف فیها منجزاً ولا یمکن إجراء الأصل المؤمن فی الشبهات قبل الفحص کأصالة البراءة أو استصحاب عدم التکلیف أو أصالة الطهارة، وکذلک فی الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالی فإن التکلیف فیها منجز والأصول المؤمنة لا تجری فی أطرافها.

وبیان هذا الإشکال وتقریبه ____ أی اختصاص الآیة الکریمة بالشبهات الحکمیة التی یکون التکلیف فیها منجزاً وعدم جریان الأصول المؤمنة فیها لکونها شبهة قبل الفحص ____: أن المولی إذا قال: توضأ لکی تصلی فإنه ظاهر فی أن وجود الوضوء شرط لوجود الصلاة لا أنه شرط لوجوبها لأن الصلاة واجبة سواء توضأ المکلف ام لم یتوضأ، وعلیه یکون وجود الوضوء فی الخارج شرط لوجود الصلاة لا انه شرط لوجوبها، أو إذا قال فی شهر رمضان موجها خطابه للجنب أو الحائض: اغتسل قبل الفجر لکی تصوم غداً فإنه ظاهر فی أن وجود الغسل شرط لوجود الصوم لا أنه شرط للوجوب فالصوم واجب سواء أغتسل المکلف او لم یغتسل.

ص: 3

ففی هذه الأمثلة ونحوها لا شبهة ان وجود المأمور به شرط لوجود العلة لا لوجوبها وهل یمکن تطبیق هذه الکبری علی الآیة المبارکة أو لا یمکن؟ نتکلم فیها لاحقاً إن شاء الله تعالی.

أدلة حجیة خبر الواحد __ آیة النفر بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد __ آیة النفر

تحصل مما ذکرنا أن تعلیل الأمر بشیء بعلة ظاهر فی أن وجود ذلک الشیء المأمور به شرط لوجود العلة لا شرط لوجوبها، کما إذا أمر بالمولی بالتوضؤ لکی تصلی فإنه ظاهر فی أن وجود الوضوء شرط لوجود الصلاة لا أنه شرط لوجوبها، بل لا یمکن أن یکون شرطا لوجوبها؛ لأن وجوب الصلاة ثابت سواء توضأ المکلف أم لم یتوضأ وکذلک إذا أمر المولی بالاغتسال قبل الفجر فی شهر رمضان لکی تصوم غدا فإنه ظاهر فی أن وجود الغسل شرط لوجود الصوم لا لوجوبه؛ فإن وجود الغسل مقدمة وجودیة ولیس مقدمة وجوبیة وهو شرط لوجود الصوم غدا، وأما وجوب الصوم فهو ثابت أغتسل المکلف أم لم یغتسل فلا یمکن ان یکون شرط لوجوب العلة، بل هو شرط لوجودها، فإذا أمر المولی بالنذر لکی یفی به فلا یمکن ان یکون وجود النذر شرط لوجوب الوفاء فإن وجوب الوفاء معلول للأمر بالنذر فلا یعقل أن یکون الأمر بالنذر مسبب عن وجوب الوفاء ومعلول له ولا یعقل أن یکون شرطا للحکم.

والکلام إنما هو فی تطبیق هذه الکبری علی الآیة المبارکة؛ إذ قد ورد الأمر فی الآیة المبارکة بالنفر للتفقه وتعلیل الأمر بالنذر للتفقه ظاهر فی أن وجود النفر شرط لوجود التفقه لا لوجوبه فوجوب التفقه ثابت فی الواقع سواء نفر أم لم ینفر وکذلک الأمر بالتفقه للإنذار فإن تعلیل الأمر بالتفقه للإنذار ظاهر فی أن وجود التفقه شرط لوجود الإنذار ولیس شرطا لوجوبه وکذلک الحال فی الإنذار فإن أمر المولی بالإنذار للحذر فإنه ظاهر فی أن وجود الإنذار شرط لوجود الحذر لا أنه شرط للوجوب.

ص: 4

فإذاً الآیة المبارکة بجمیع فقراتها وجملها ظاهرة فی أن الشرط شرط لوجود العلة لا أنه شرط لوجوبها.

ونتیجة ذلک: أن وجوب التفقه ثابت فی الواقع فی المرتبة السابقة سواء تحقق النفر أم لم یتحقق، وکذلک وجوب الإنذار ثابت فی الواقع فی المرتبة السابقة سواء تفقه وتعلم الأحکام الشرعیة أم لم یتعلم، وکذلک وجوب التحذر فإنه ثابت فی الواقع وفی المرتبة السابقة سواء أنذر المکلف أو لم ینذر.

ونتیجة ذلک: اختصاص الآیة المبارکة بالشبهات الحکمیة التی یکون المرجع فیها قاعدة الاشتغال وهی الشبهات الحکمیة قبل الفحص؛ فإن وجوب التحذر من مخالفة الأحکام الشرعیة ثابت فیها فی المرتبة السابقة سواء أنذر المکلف أو لم ینذر، فالإنذار شرط لوجود التحذر لا لوجوبه؛ لأن وجوبه ثابت فی الواقع.

ولکن لا یمکن تطبیق الآیة المبارکة علی الشبهات الحکمیة التی یکون المرجع فیها الأصول المؤمنة کأصالة البراءة أو استصحاب عدم التکلیف أو أصالة الطهارة وإلا لزم تعلیل الأمر بالنذر بوجوب التحذر لا بوجوده، وهو لا یمکن؛ فإن وجوب التحذر لا یمکن أن یکون سببا لوجوب الإنذار أی للأمر بالإنذار فإن الأمر بالإنذار هو سبب لوجوب التحذر فلا یمکن تعلیل الأمر بالإنذار بوجوب التحذر فالآیة المبارکة لو کانت شاملة للشبهات الحکمیة التی یکون المرجع فیها الأصول المؤمنة کقاعدة البراءة أو الاحتیاط أو استصحاب عدم التکلیف فإنها إذا کانت شاملة لزم تعلیل الأمر بالإنذار بوجوب التحذر، وهذا مما لا یمکن.

نعم یمکن تعلیل الأمر بالإنذار بوصول وجوب التحذر وتنجزه علی المکلف فإن وصول وجوب التحذر إلی المکلف وتنجزه علیه منوط بإنذار المنذرین، وهذا لا مانع منه فإن وصول الأحکام الشرعیة إلی المکلف تارة یکون بالعلم الوجدانی وأخری یکون بالاطمئنان والوثوق، وثالثة یکون بالعلم التعبدی أی بحجیة أخبار الاحاد فیسمی بالعلم التعبدی، ورابعة یکون بالتنجز کما فی موارد قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب المثبت للتکلیف، فإن فی هذه الموارد یصل التکلیف الی المکلف بالتنجز لا بالعلم الوجدانی ولا بالاطمئنان ولا بالعلم التعبدی وإنما وصل بالتنجز فقط فالحکم الواقعی فی موارد قاعدة الاشتغال والاحتیاط منجز کما فی الشبهات قبل الفحص فإن الأحکام الواقعیة لم تصل إلی المکلف لا بالوجدان ولا بالاطمئنان والوثوق ولا بالعلم التعبدی لعدم وجود إمارة معتبرة فیها وإنما وصلت بقاعدة الاشتغال ووصولها بالتنجز فقط فالأحکام الواقعیة منجزة، وهذا یعنی أن احتمال التکلیف من الوجوب والحرمة منجز طالما لم یکن هناک أصل مؤمن کأصالة البراءة أو قاعدة الطهارة او استصحاب عدم التکلیف وهو ما یسمی بالاستصحاب الترخیصی، فالتکلیف فی هذه الموارد قد وصل تنجزه لا ذاته کما فی الشبهات قبل الفحص فإن احتمال التکلیف من الوجوب والحرمة منجز باعتبار أن الأصول المؤمنة لا تجری فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص فإذا لم تجر کان احتمال التکلیف منجز فوصول التکلیف إنما هو بالتنجز لا بالعلم الوجدانی ولا بالاطمئنان والوثوق ولا بالعلم التعبدی.

ص: 5

وفی المقام: الآیة المبارکة تدل بالنسبة إلی الأحکام الواقعیة علی أن وجود النفر شرط لوجود التفقه لا لوجوبه ووجود التفقه شرط لوجد الإنذار لا لوجوب الإنذار ووجود الإنذار شرط لوجود الحذر لا لوجوبه هذا بالنسبة إلی الأحکام الواقعیة.

لکن لا شبهة فی أن إنذار المنذر إذا کان حجة وفرضنا أن الآیة المبارکة تدل علی أن إنذار المنذر یکون حجة فإذا کان حجة فهی موجبة لوصول الأحکام الواقعیة تعبدا وتنجزا فالأحکام الواقعیة فی موارد الأمارات المعتبرة کأخبار الآحاد واصلة الی المکلف تعبدا وتنجزا فإن اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة وعدم رضائه بتفویتها بما لها من الملاکات والمبادئ اللزومیة التی هی حقیقة الأحکام وروحها اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة وعدم رضائه بتفویتها بما لها من الملاکات والمبادئ اللزومیة هو الداعی والمحرک للمولی فی جعل الأمارات حجة فی موارد الاشتباه والالتباس، وإذا کانت أخبار الاحاد حجة فهی موجبة لوصول الأحکام الواقعیة ظاهرا وتنجزا، وإذا کان إنذار المنذر حجة فهو موجب لوصول وجوب التحذر ظاهرا وتنجزا ولا یمکن أن یکون موجبا لوصول وجوب التحذر واقعا؛ إذ ان وصول وجوب التحذر واقعا منوط بالعلم الوجدانی أو بالوثوق والاطمئنان وأما الأمارات المعتبرة التی یکون موردها الشبهات الحکمیة وموارد الالتباس والشبهات فإنها توجب وصول الأحکام الواقعیة ظاهرا وتنجزا.

فالنتیجة: أن الآیة المبارکة تدل علی أن إنذار المنذر شرط لوجود التحذر لا لوجوبه واقعا ولکن فی نفس الوقت أن إنذار المنذر إذا کان حجة فهو شرط لوصول وجوب التحذر ظاهرا وتنجزا ولا بد من العمل به.

أدلة حجیة خبر الواحد ____ آیة النفر بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ____ آیة النفر

تضمنت الآیة المبارکة ثلاث فقرات:

الفقرة الأولی: وجوب النفر بغایة التفقه وتعلم الأحکام الشرعیة من الواجبات والمحرمات وغیرهما.

ص: 6

الفقرة الثانیة: وجوب التفقه بغایة الإنذار.

الفقرة الثالثة: وجوب الإنذار بغایة التحذیر والتخویف.

وهذه الفقرات الثلاث تشترک فی نقطتین وتختلف فی نقطة ثالثة.

أما النقطة الأولی: فإن الفقرة الأولی ظاهرة فی أن وجود النفر المأمور به شرط ومقدمة لوجود التفقه الذی هو علة غائیة لوجوب النفر فوجود النفر بما أنه مأمور به فهو شرط ومقدمة وجودیة لوجود التفقه لا لوجوبه فکذلک وجود التفقه المأمور به شرط ومقدمة وجودیة لوجود الإنذار الذی هو غایة له، ووجود الإنذار بما هو مأمور به شرط ومقدمة وجودیة لوجود التحذیر لا لوجوبه فالنفر بوجوده شرط ومقدمة وجودیة ولیس مقدمة وجوبیة للتفقه فإن وجوب التفقه ثابت فی الواقع سواء أ قام المکلف بالنفر أم لم یقم، فکذلک وجوب الإنذار والإرشاد وإخبار الناس بالأحکام الشرعیة ثابت فی الواقع سواء قام المکلف بتعلم الأحکام أم لا وکذلک التحذیر.

فإذن هذه الفقرات الثلاث مشترکة فی هذه النقطة وعلی حد سواء.

النقطة الثانیة: أن منشأ وجوب النفر وعلته اهتمام المولی بالحفاظ علی وجوب التفقه الواقعی وعدم رضائه بتفویته بما له من المبادئ والملاکات اللزومیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس فهذا الاهتمام للمولی هو منشأ وجوب النفر للتفقه وتعلم الأحکام الشرعیة وأیضا منشأ وجوب التفقه اهتمام المولی بوجوب الإنذار والحفاظ علیه وعدم جواز تفویته بما له من الملاکات والمبادئ اللزومیة التی هی حقیقة الحکم وروحه حتی فی موارد الاشتباه والالتباس.

وکذلک الحال فی الفقرة الثالثة فإن منشأ وجوب الإنذار هو اهتمام المولی أیضا بالتحذیر وتخویف الناس من الإدانة والعقوبة علی مخالفة الأحکام الشرعیة.

والفقرات الثلاث تشترک فی هذه النقطة وهی علی حد سواء بالنسبة إلیها.

وأما النقطة الثالثة: فالغایة المباشرة لوجوب النفر هی وجود التفقه الواقعی فإن وجود التفقه الواقعی هو غایة لوجوب النفر بنحو مباشر وکذلک وجوب الإنذار الواقعی هو الغایة لوجوب التفقه وتعلم الأحکام بنحو مباشر واما التحذیر الواقعی والتخویف الواقعی من الإدانة والعقوبة فلیس غایة لوجوب الإنذار، فمن هذه الناحیة الفقرة الثالثة تختلف عن الفقرة الأولی والثانیة؛ فإن فی الفقرة الأولی الغایة المباشرة هی وجود التفقه الواقعی وفی الفقرة الثانیة الغایة المباشرة لوجوب التفقه هی وجود إنذار المنذر الواقعی وأما فی الفقرة الثالثة فوجود التحذر الواقعی هو لیس غایة لوجوب الإنذار؛ لأن التحذیر الواقعی لا یترتب علی إنذار المنذرین وإنما یترتب علی العلم بالواقع فإذا علم المکلف بالواقع أی بالوجوب او الحرمة فیترتب علیه التخویف الواقعی من الإدانة والعقوبة واما إنذار المنذر فلا یفید العلم بالواقع بل لا یفید الاطمئنان بالواقع فمن أجل ذلک لا یکون التخویف الواقعی غایة لإنذار المنذرین بل التخویف الظاهری الطریقی هو من الآثار المترتبة علی إنذار المنذر، فالمترتب علی وجوب إنذار المنذر هو التخویف الظاهری وشأن وجوب التخویف الظاهری الطریقی الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات فی موارد الاشتباه والالتباس.

ص: 7

فإذن المترتب علی إنذار المنذر فی الآیة الکریمة هو وجوب التخویف الظاهری الطریقی وهو من آثار حجیة إنذار المنذر فإذا کان إنذار المنذر حجة فیترتب علیه وجوب التخویف الظاهری الطریقی بمعنی أن الأحکام الظاهریة أحکام طریقیة وشأنها الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات اللزومیة فی موارد الاشتباه والالتباس فإن الأحکام الظاهریة احکام طریقیة وشأنها إیصال الأحکام الواقعیة تنجیزا او تعذیرا لا واقعا والحفاظ علیها بما لها من المبادئ فی موارد الاشتباه والالتباس.

فالآیة المبارکة ظاهرة فی أن وجوب التخویف مترتب علی إنذار المنذر بعنوانه وهذا یدل علی أنه حجة وأن وجوب التخویف الظاهری الطریقی من آثار حجیة إنذار المنذر.

وعلی هذا فهذا الإشکال غیر وارد علی الآیة المبارکة ولا قصور فی دلالتها علی حجیة إنذار المنذر بما هو إنذار المنذر وهو داخل فی أخبار الاحاد.

هذا هو الإشکال الأول وجوابه.

لکن هذا الجواب إنما یصح لو قطعنا النظر عن کلمة لعل واما مع وجودها فالآیة المبارکة لا تدل علی وجوب التحذیر وإنما تدل علی الترقب فقط وعندئذ لا تدل علی حجیة إنذار المنذر وقد تقدم الکلام فیه.

الإشکال الثانی: أن مدلول الآیة المبارکة ومضمونها ترتب وجوب التحذیر والتخویف علی إنذار المنذرین وهذا اللسان مختص بالأخبار المتکفلة للأحکام الالزامیة لأن فی مخالفتها الخوف من الإدانة والعقوبة فی ترک الواجب أو فعل الحرام. وأما الأخبار المتکفلة للأحکام الترخیصیة فلا یتصور فیها التخویف من الإدانة العقوبة ولازم ذلک أن الآیة المبارکة مختصة بالأخبار المتکفلة للأحکام الإلزامیة وتدل علی حجیتها مع أن المدعی إثبات حجیة أخبار الآحاد مطلقا سواء کانت متکفلة للأحکام الإلزامیة أم کانت متکفلة للأحکام الترخیصیة.

وبکلمة أن لسان الآیة المبارکة لیس لسان التنزیل أی تنزیل إنذار المنذرین بالأحکام الواقعیة منزلة العلم بها کما هو أحد التفاسیر لحجیة أخبار الآحاد حیث أن کثیر من الأصولیین قد فسروا حجیة أخبار الآحاد بالتنزیل أی تنزیل مؤدی الخبر منزلة الواقع وتنزیل نفس الأخبار منزلة العلم بالواقع. فیکون معنی الحجیة علی هذا هو التنزیل.

ص: 8

ولکن لسان الآیة المبارکة لیس تنزیل إنذار المنذرین بالأحکام الواقعیة منزلة العلم بها کما أن لسان الآیة المبارکة لیس جعل الحکم الظاهری المماثل للحکم الواقعی فی صورة المطابقة والمخالف له فی صورة عدم المطابقة کما هو مبنی الشیخ الأنصاری(قده) کما ان لسان الآیة المبارکة لیس جعل الطریقیة والکاشفیة کما هو مختار مدرسة المحقق النائینی ومنهم السید الاستاذ(قدهم) فإن معنی حجیة إنذار المنذرین وحجیة أخبار الآحاد معناه جعل الشارع الأخبار طریقا إلی الواقع وکاشفا عن الواقع. فلسان الآیة المبارکة لیس شیئا من ذلک، بل لسان الآیة المبارکة التخویف والتحذیر وهذا اللسان یناسب وجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة التی توجد فی موردها أخبار الآحاد التی لا تکون حجة فإن وجوب الاحتیاط فی هذه الشبهات ولسان الآیة المبارکة منسجم مع وجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة التی توجد فیها الأمارات ولیس لسانها لسان الحجیة.

والجواب عن ذلک واضح: فإن لسان الآیة المبارکة هو ترتب التحذر علی إنذار المنذر بعنوانه ووجوب التحذر الظاهری الطریقی مترتب علی إنذار المنذر بعنوانه وهذا اللسان لا یناسب وجوب الاحتیاط لأن لسان وجوب الاحتیاط هو احتمال مطابقة الواقع فإن موضوع وجوب الاحتیاط هو الشک فی ثبوت الواقع واحتمال المطابقة ولیس الاحتمال فی الآیة المبارکة موجودا وإنما الموجود فی الآیة المبارکة هو ترتب وجوب التحذر علی إنذار المنذر بعنوانه وهذا کاشف عن ان إنذار المنذر حجة ومع کونه حجة یترتب علیه أثره وهو وجوب التحذر من الإدانة والعقوبة علی المخالفة للأحکام التی وصلت إلیه ظاهرا تنجیزا أو تعذیرا.

فالآیة المبارکة تدل علی حجیة إنذار المنذر علی المنذرین (بالفتح) ووصول الأحکام الواقعیة إلیهم تنجیزا وهو یوجب التخویف والتحذیر من الإدانة والعقوبة علی مخالفتها.

فالنتیجة أنه لا قصور فی دلالة الآیة من هذه الناحیة علی حجیة إنذار المنذر.

ص: 9

أدلة حجیة خبر الواحد _____ آیة النفر بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد _____ آیة النفر

ملخص الإشکال علی دلالة الآیة المبارکة علی حجیة إنذار المنذر: أن لسان الآیة المبارکة لیس لسان جعل الحجیة لإنذار المنذر لأن معنی الحجیة تنزیل الخبر منزلة العلم بالواقع، ولیس لسان الآیة المبارکة التنزیل أو الحجیة بمعنی جعل الحکم الظاهری فی مؤدی الأمارة وفی مؤدی الخبر المماثل للحکم الواقعی فی صورة مطابقة الخبر للواقع والمخالف له فی صورة عدم المطابقة، ولیس لسان الآیة المبارکة لسان الجعل أو الحجیة بمعنی الطریقیة والکاشفیة أی أن الشارع جعل خبر الواحد طریقا الی الواقع وکاشفا عنه وعلما تعبدیا.

فإذاً لا یمکن حمل الآیة المبارکة علی أن مفادها حجیة إنذار المنذر بل مفادها التحذیر والتخویف عن الإدانة والعقوبة علی مخالفة الواقع وهذا اللسان یناسب وجوب الاحتیاط کما فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص فإن المرجع فیها قاعدة الاشتغال واحتمال التکلیف ( الوجوب والحرمة ) فیها منجز طالما لم یکن هنا أصل مؤمن فی البین من اصالة البراءة او استصحاب عدم التکلیف او قاعدة الطهارة فاحتمال التکلیف الالزامی من الوجوب والحرمة منجز کما فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص حیث ان الأصول المؤمنة لا تجری فیها فاحتمال التکلیف منجز ولهذا لا بد من الاحتیاط فیها والمرجع فیها قاعدة الاشتغال. او فی موارد العلم الاجمالی فإن تنجیز التکلیف فی أطراف العلم الاجمالی مستند الی احتمال وجوده لا الی العلم الاجمالی لأن العلم الاجمالی إنما یکون منجزا للمعلوم فقط وهو الجامع فإذا علم بنجاسة أحد الإناءین فالعلم الاجمالی منجز للجامع وهو النجاسة بین الإناءین لأن هذه النجاسة معلومة وأما نجاسة هذا الإناء او فی ذاک فإن المنجز لها هو احتمال وجود النجاسة طالما لم یکن هنا أصل مؤمن فی البین فإن الأصل المؤمن لا یجری إما لقصور المقتضی أو من جهة وجود المعارضة فی البین فیکون المنجز فی کل طرف من أطراف العلم الاجمالی هو احتمال التکلیف. وأما الجامع فهو منجز بالعلم الاجمالی لأنه معلوم وأما الأطراف فهی منجزة بالاحتمال باعتبار أن الأصل المؤمن لا یجری.

ص: 10

هذا ملخص الإشکال فی المقام.

والجواب عن ذلک: أن ظاهر الآیة المبارکة هو حجیة إنذار المنذر فإن لسانها ترتب التخویف والحذر من الإدانة والعقوبة علی إنذار المنذر وظاهر فی أنه مترتب علی إنذار المنذر بعنوانه لا بعنوان انه مطابق للواقع او انه لیس مطابقا للواقع فإن ترتب الحذر من الإدانة والعقوبة فی لسان الآیة المبارکة علی إنذار المنذر بعنوانه لا بعنون احتمال أنه مطابق للواقع وإذا کان ترتب الحذر علی إنذار المنذر بعنوانه فهو کاشف عن انه حجة إذ لو لم یکن حجة فلا یوجب الحذر من الإدانة والعقوبة علی مخالفة الواقع.

نعم .. لو کان لسان الآیة المبارکة ترتب الحذر علی إنذار المنذر من جهة احتمال مطابقته للواقع وکان لسان الآیة لسان وجوب الاحتیاط لا لسان حجیة إنذار المنذر أی احتمال مطابقة الواقع هو الموضوع لوجوب الاحتیاط لکان لما ذکر وجه ولکن لما کان لسان الآیة لسان ترتب الحذر علی وجوب الإنذار بعنوانه لا بعنوان احتمال مطابقته للواقع فحینئذ تکون الآیة المبارکة ظاهرة فی أن إنذار المنذر وخبر الواحد حجة.

الإشکال الثالث: ان الآیة المبارکة تدل علی ترتب الحذر والخوف من الإدانة والعقوبة علی إنذار المنذر لا علی أخباره وإنذار المنذر عبارة عن الأخبار المتضمنة للتخویف أی الأخبار عن شیء مخوف یصدق علیه الإنذار سواء کان فی الشبهات الموضوعیة أو فی الشبهات الحکمیة کما إذا اخبر عن قطّاع الطریق أو وجود الحیوان المفترس فإنه إخبار عن شیء مخوف ویصدق علی هذا الإخبار عنوان الإنذار، واما فی الشبهات الحکمیة فإذا أخبر عن وجوب شیء وکان منجزا فی المرتبة السابقة بمنجز فیصدق علیه عنوان الإنذار؛ فإن وجوب شیء إذا کان منجزا بمنجز فیترتب علی مخالفته الحذر من العقوبة والإدانة فیصدق علی هذا الخبر عنوان الإنذار کما إذا أخبر عن وجوب منجز فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص او فی الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالی فإذا أخبر عن وجوب شیء فی هذه الشبهات أو حرمة شیء فیها فیصدق علی هذا الخبر عنوان الإنذار.

ص: 11

واما إذا اخبر عن وجوب شیء لا یکون منجزا بمنجز فی المرتبة السابقة فلا یصدق علیه عنوان الإنذار کما هو الحال فی الشبهات الموضوعیة کما إذا اخبر عن عدالة زید أو عن علمه أو عن سفره او ما شاکل ذلک فلا یصدق علی هذا الإخبار عنوان الإنذار وکذلک الحال فی الشبهات الحکمیة فإذا اخبر عن وجوب غیر منجز او حرمة غیر منجزة فلا یصدق علی هذا الإخبار عنوان الإنذار.

هذا ملخص هذا الإشکال.

والجواب عن ذلک: أن صدق إنذار المنذر لا یکون منوطا بان یکون مدلول الخبر والمخبر بهذا الخبر منجزا فی المرتبة السابقة بمنجز آخر فإن إنذار المنذر یصدق علی هذا الخبر عن وجوب شیء او حرمة شیء إذا کان وجوبه منجزا بنفس حجیة هذا الخبر باعتبار أن الحذر والخوف مترتب علی مخالفة هذا الواجب أو علی مخالفة هذا الحرام فإن تنجزه مستند إلی حجیة الخبر، فإذا أخبر عن وجوب شیء لشخص یصدق علیه الإنذار وانه انذر هذا الشخص بالوجوب إذا کان خبره حجة کما فی إخبار الثقة بالوجوب او الحرمة باعتبار أن تنجز وجوب هذا الشیء او حرمته مستند إلی حجیة الخبر وحینئذ بطبیعة الحال یترتب علیه الحذر والخوف من الإدانة والعقوبة علی المخالفة وإذا ترتب علیه ذلک صدق علیه عنوان الإنذار

والخلاصة: أن عنوان الإنذار کما یصدق علی الإخبار عن وجوب منجز فی الواقع فی المرتبة السابقة بمنجز آخر کما فی الشبهات قبل الفحص أو فی الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالی کذلک یصدق علی الإخبار عن وجوب شیء او حرمته إذا کان التنجز مستندا الی حجیة هذا الخبر، بل یمکن أن یقال إن ظاهر الآیة المبارکة ان ترتب الحذر علی إنذار المنذر انه مستند إلی حجیته وان لسان الآیة المبارکة هو ترتب الحذر علی إنذار المنذر وبطبیعة الحال یکون مستندا الی حجیته بل ظاهر الآیة المبارکة هو ان إنذار المنذر موجب للخوف لأن لسانها ترتب الحذر علی إنذار المنذر فبطبیعة الحال هذا الترتب مستند الی حجیته.

ص: 12

فالنتیجة ان هذا الإشکال غیر وارد.

أدلة حجیة خبر الواحد ______ آیة النفر بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ______ آیة النفر

تقدم الکلام فی الإشکال الأول والثانی والثالث وذکرنا أن هذه الإشکالات لا ترد علی الآیة المبارکة بعد تسلیم أنها تدل علی وجوب التحذر.

الإشکال الرابع: ما ذکره شیخنا الأنصاری(قده) (1) من أن ترتب وجوب الحذر علی إنذار المنذر یدل علی أن الإنذار واجب فإنه غایة للواجب وهو التفقه حیث أن التفقه فی الدین واجب فإذا کان غایة للواجب فغایة الواجب واجبة بطریق أولی.

فإذن وجوب التحذر من الإدانة والعقوبة مترتب علی الإنذار الواجب، والمراد من الإنذار الواجب هو الإنذار بالدین بقرینة قوله تعالی: ( لیتفقهوا فی الدین ولینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم) فإن الآیة تدل علی أن المراد من الإنذار هو الإنذار بالدین فإذا کان المراد من الإنذار هو الإنذار بالدین فإحراز المنذرین (بالفتح) أن إنذار المنذرین (بالکسر) إنما هو بالدین وجب علیهم التحذر من الإدانة والعقوبة.

واما إذا لم یحرزوا فلا یجب لاستحالة ثبوت الحکم بدون إحراز موضوعه فإن موضوع وجوب التحذر إنذار بالمنذر بالدین فلا بد من إحراز أن هذا الإنذار الصادر منهم إنما هو بالدین، فإذا توقف وجوب التحذر علی کون إنذار المنذر بالدین وعلی إحرازه فعندئذ یکون جعل الحجیة لإنذار المنذر یکون لغوا وجزافا وأن المعتبر فی وجوب التحذر من الإدانة والعقوبة إحراز إنذار المنذر بالدین وعندئذ یکون جعل الحجیة لغوا لأنه من أردئ تحصیل الحاصل فإن ما هو حاصل بالعلم الوجدانی تحصیله بالعلم التعبدی من أردئ أنحاء تحصیل الحاصل.

هذا ملخص ما ذکره شیخنا الأنصاری(قده).

وللمناقشة فیه مجال واسع. فلا شبهة فی أن الإخبار عن الوجوب والإخبار عن الحرمة إخبار عن التفقه فی الدین فإن الدین عبارة عن الوجوب والحرمة وما شاکلهما ولیس المراد من الدین فی الآیة المبارکة مفهوم الدین بل المراد من الدین واقع الدین وواقع الدین متمثل بالوجوب والحرمة والجزئیة والشرطیة وما شاکلهما من الأحکام التکلیفیة والأحکام الوضعیة فلا شبهة فی أن الإخبار عن الوجوب إخبار عن الدین والإخبار عن الحرمة إخبار عن الدین فإذا کان الخبر حجة فلا شبهة فی أنه یثبت الوجوب تعبدا وظاهرا وتنجزا وقد ذکرنا أن للثبوت مراحل:

ص: 13


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج1، ص282.

المرحلة الأولی: ثبوت الحکم وجدانا.

المرحلة الثانیة: ثبوت الحکم تعبدا.

المرحلة الثالثة: ثبوت الحکم تنجزا.

وغالب الأحکام ثابتة تعبدا وظاهرا وأما الأحکام الوجدانیة والأحکام الضروریة والأحکام القطعیة فهی قلیلة جدا ولا تتجاوز نسبتها عن جمیع الأحکام بنسبة تقریبیة عن 6% وإلا فباقی الأحکام جمیعا أحکام نظریة وإثباتها بحاجة إلی دلیل وغالبا ما تثبت بالتعبد او بالتنجز کما فی موارد أصالة الاشتغال وفی موارد الأمارات إثباتها إثبات تعبدی ویترتب علیه تنجزها.

وعلی هذا فإذا أخبر المولی عن وجوب شیء فهذا الخبر یدل علی الوجوب بالمطابقة ویدل علی استحقاق العقوبة والإدانة علی مخالفته وترکه التزاما وإذا أخبر المولی عن حرمة شیء فهذا الخبر یدل علی الحرمة بالمطابقة وان الحرمة مدلول مطابقی لهذا الخبر ویدل بالالتزام علی ترتب الإدانة والعقوبة علی مخالفتها وارتکابها ویصدق علی هذا الخبر عنوان الإنذار فما ذکره شیخنا الأنصاری من أنه لا بد علی المنذرین بالفتح الإحراز الوجدانی ان إنذار المنذرین بالکسر بالدین فهذا غیر صحیح فلا فرق بین أن یکون إحراز إنذار المنذرین بالدین بالعلم الوجدانی او بالتعبد کالأمارة لأنها محرزة لهذه الأحکام تنجیزا وتعبدا ویترتب علی مخالفتها الإدانة والعقوبة.

فإذن کما یمکن إحراز أن هذا الإنذار إنذار بالدین من خلال العلم الوجدانی کذلک یمکن إحرازه بالعلم التعبدی کما هو الحال فی جمیع الموارد فإن العلم التعبدی یقوم مقام العلم الوجدانی فإن لم یتمکن من تحصیل العلم الوجدانی وجب علیه تحصیل العلم التعبدی والعلم التعبدی هو الکثیر فی الأحکام الشرعیة.

وما ذکره شیخنا الأنصاری من أن الإنذار لا بد أن یکون بالدین وأن یکون هذا الإنذار مطابقا للواقع فهذا أیضا غیر صحیح فإن الخبر لا یدل علی أن المخبر به مطابق للواقع أو غیر مطابق للواقع لأن الخبر إنما یدل علی ثبوت المخبر به وأنه ثابت تعبدا وتنجزا واما انه مطابق للواقع أو غیر مطابق للواقع فهو خارج عن مدلول الجملة الخبریة لأن مدلولها الوضعی علی المشهور مدلول تصوری فإذا سمعت الجملة الخبریة من لافظ بلا شعور واختیار او من لافظ فی حال النوم خطر فی ذهن الإنسان ثبوت المحمول للموضوع تصورا وفی عالم الذهن لا فی عالم الخارج وهذا هو المدلول التصوری المستند الی الوضع فالدلالة الوضعیة علی المشهور دلالة تصوریة. واما الدلالة التصدیقیة فی مرحلة الاستعمال ومرحلة التفهیم فهی بحاجة الی قرینة أی بحاجة إلی أن الخبر صادر من مخبر ملتفت وعاقل فعندئذ یدل هذا الخبر علی أن المخبر قصد تفهیم معناه او قصد استعماله فی معناه وأما إذا أحرز أن هذا المتکلم فی مقام الجد فعندئذ یدل الخبر علی أنه أراد معناه بإرادة جدیة ونهائیة، فالدلالة الوضعیة دلالة تصوریة واما الدلالة التصدیقیة فلیس مستندة الی الوضع سواء کانت فی مرحلة التفهیم والاستعمال أم فی مرحلة الجد والإرادة الجدیة والنهائیة.

ص: 14

واما علی مسلک سیدنا الاستاذ(قده) ان الدلالة الوضعیة دلالة تصدیقیة ولیست بتصوریة والجملة الخبریة موضوعة لدلالة علی قصد الحکایة والإخبار عن ثبوت شیء او نفیه فیه واما أن هذا الثبوت مطابق للواقع او غیر مطابق للواقع فلا تدل علیه الجملة الخبریة لأنها إنما تدل علی قصد الحکایة عن ثبوتها واما أنه ثابت فی الواقع واقعا أو غیر ثابت فلا تدل علی ذلک. والجملة الإنشائیة موضوعة لدلالة علی قصد الإنشاء وإبراز الأمر الاعتباری النفسانی فی الخارج.

فإذن الجملة الخبریة علی کلا المسلکین لا تدل علی مطابقة مدلولها للواقع، فما ذکره شیخنا الأنصاری من ان إنذار المنذر لا بد ان یکون بالدین ولا بد ان یکون مطابقا للواقع لا یرجع الی معنی صحیح.

فالنتیجة ان ما ذکره شیخنا الأنصاری من أن علی المنذرین (بالفتح) من إحراز ان إنذار المنذرین (بالکسر) بالدین ویکون مطابقا للواقع وإلا لم یجب علیهم التحذر من الإدانة والعقوبة لا یمکن المساعدة علیه؛ لأن إحراز إنذار المنذرین بالدین تارة یکون بالعلم الوجدان وأخری یکون بالعلم التعبدی وثالثة یکون بقاعدة الاشتغال والاحتیاط او بالاستصحاب وإن إثبات الحکم تارة یکون بالوجدان وأخری یکون بالتعبد وثالثة بالتنجز وعلی جمیع التقادیر یترتب الإدانة والعقوبة علی المخالفة.

فالنتیجة: أن الإشکال الذی ذکره شیخنا الأنصاری لا یمکن المساعدة علیه.

أدلة حجیة خبر الواحد _________ آیة النفر بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد _________ آیة النفر

ما ذکره شیخنا الأنصاری(قده) من الإشکال مبنی علی نقطتین أساسیتین:

النقطة الأولی: أن الآیة المبارکة قد قیدت إنذار المنذر بالدین ولا تدل علی إنذار المنذر مطلقا.

النقطة الثانیة: أن یکون إنذار المنذر بالدین مطابقا للواقع.

وما ذکره(قده) من الإشکال یدور مدار هاتین النقطتین.

ص: 15

ولکن کلتا النقطتین خاطئتین ولا واقع موضوعی لها.

أما النقطة الأولی: فإن الدین لیس شیئا زائدا علی الأحکام الشرعیة المجعولة فی الشریعة المقدسة من الأحکام الوضعیة والأحکام التکلیفیة فالوجوب هو الدین ولیس الدین شیئا زائدا علی الوجوب أو الحرمة وما شاکلهما من الأحکام الشرعیة والدین مفهوم عام لجمیع الأحکام الشرعیة ومصادیقه فی الخارج هی نفس الأحکام الشرعیة فالإخبار بالوجوب أو الحرمة أو بصحة شیء إخبار بالدین فمن أخبر عن وجوب شیء فقد أخبر بالدین.

فالوجوب هو المخبر به ولیس شیئا زائدا علی المخبر به کما إذا أخبر شخص عن عدالة زید فتکون عدالة زید هی المخبر به غایة الأمر أن الإخبار عن الوجوب لا یثبت أن الوجوب من الدین إلا بشمول دلیل الحجیة للإخبار فإذا شمل دلیل الحجیة للخبر فالخبر حینئذ یدل علی ثبوت الجوب تعبدا وشرعا ویدل علی ثبوته تنجزا فیتصف الوجوب بالوجوب الشرعی وأما قبل حجیة الخبر فلا یکون الوجوب متصفا بالوجوب الشرعی فاتصافه بالوجوب الشرعی وتنجزه واستحقاق العقوبة والإدانة علی مخالفته والمثوبة علی موافقته کل ذلک مترتب علی ثبوته شرعا بخبر الواحد وإنما ثبت شرعا بخبر الواحد إذا کان الخبر حجة ومشمولا لدلیل الحجیة، فالإخبار عن الوجوب إنذار بالدین إذا کان الخبر حجة وحینئذ یثبت وجوب الشیء تعبدا وشرعا وتنجزا وعندئذ یترتب علی مخالفته الإدانة والعقوبة وعلی موافقتها الثواب.

ومن هنا یظهر أن ما قیل من أن موضوع حجیة الخبر إنذار المنذر المقید بالدین فلا بد من إحراز موضوع الحجیة فی المرتبة السابقة حتی یثبت حکمه؛ لاستحالة ثبوت الحکم بدون ثبوت الموضوع، فلو توقف ثبوت الموضوع علی حجیة الإنذار لدار؛ فإن حجیة الإنذار تتوقف علی ثبوت الموضوع بتمام قیوده ومنها قید الدین، فلو توقف ثبوت الموضوع علی ذلک أی علی حجیته لدار.

ص: 16

ومن هنا یظهر أن ما قیل غیر تام ولا یرجع الی معنی محصل، وقد ذکرنا أن الدین لیس قیدا زائدا فی المخبر به بل الدین هو نفس المخبر به فإذا أخبر عن وجوب شیء فهو إنذار بالوجوب وإخبار عن الدین وهذا الوجوب لا یتصف بالوجوب الشرعی وبالتنجز وبالثبوت الشرعی الا إذا کان الخبر حجة ومع صیرورة الخبر حجة بدلیل حجیته یثبت الوجوب تعبدا وشرعا وتنجزا ویترتب علیه استحقاق العقوبة والإدانة علی مخالفته والمثوبة علی موافقته.

فالنتیجة ان هذه النقطة لا ترجع الی معنی محصل؛ فإن التقیید بالدین لیس شیئا زائدا؛ لأن الإخبار عن الوجوب هو إخبار عن الدین، فواقع الدین نفس هذه الأحکام الشرعیة المجعولة فی الشریعة المقدسة من الأحکام التکلیفیة والأحکام الوضعیة.

واما النقطة الثانیة: فهو شیء غریب من مثل الشیخ(قده)فلا شبهة فی أن الخبر لا یدل علی أن مدلوله مطابق للواقع او غیر مطابق للواقع بل لا بد من إحراز ذلک من الخارج، فنفس الإخبار لا یدل علی ذلک وإنما یدل علی ثبوت الوجوب لو کان الإخبار عن وجوب شیء سواء کان علی القول المشهور الذی یتبنی القول بدلالة الجملة الخبریة بالوضع علی الثبوت أو علی قول السید الاستاذ(قده) من دلالة الجملة الخبریة علی قصد الحکایة بالدلالة التصدیقیة واما انها تدل علی ثبوت هذا الشیء فی الواقع أو لیس بثابت فالخبر لا یدل علی ذلک، بل کون کل خبر إنما یدل علی ثبوت مدلوله شیء فی غایة الوضوح إما ثبوت مدلوله وجدانا فیما إذا کان الخبر متواترا وقطعیا او تعبدا فیما إذا کان الخبر خبر واحد وکان حجة وأما انه مطابق للواقع أو غیر مطابق للواقع فهو لا یدل علی ذلک.

فالنتیجة ان ما ذکره شیخنا الأنصاری من الإشکال لا یمکن المساعدة علیه.

ص: 17

هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری أن وجوب الحذر هل هو وجوب مولوی أو انه وجوب ظاهری طریقی أو انه وجوب إرشادی أو أنه وجوب عقلی؟

لا شبهة فی أن وجوب التحذر لیس وجوبا مولویاً بأن یکون له ملاک ومبدأ، واما کونه وجوبا طریقیا کإیجاب الاحتیاط وکحجیة الأمارات إذ هی حجة طریقیة بمعنی أن الأمارات جعلها الشارع حجة للحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات اللزومیة فی موارد الاشتباه والالتباس فجعل الحجیة جعل طریقی ومعنی الطریقیة أن لا شأن له غیر الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات ولا ملاک للأحکام الطریقیة غیر ملاک الأحکام الواقعیة ولا عقوبة علی مخالفتها غیر العقوبة علی مخالفة الأحکام الواقعیة ولا مثوبة علی امتثالها غیر المثوبة علی امتثال الأحکام الواقعیة ولهذا لا شأن لها فی مقابل الأحکام الواقعیة بل شأنها الحفاظ علی الأحکام الواقعیة فقط بما لها من المبادئ والملاکات فی موارد الاشتباه والالتباس کإیجاب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص او فی الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالی فهو وجوب طریقی لأجل الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات.

ولکن وجوب التحذر لیس وجوبا طریقیا.

واما انه وجوب إرشادی إرشاد إلی إیجاب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص والشبهات المقرونة بالعلم الاجمالی او إرشاد الی جعل الحجیة لأخبار الآحاد وإنذار المنذرین للمنذرین (بالفتح)، والظاهر أنه لا دلیل علی ذلک أیضا فإن إیجاب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص لا یحتاج الی دلیل بل هو علی القاعدة فإن احتمال التکلیف بنفسه منجز طالما لم یکن هنا أصل مؤمن فی البین وحیث أن الأصل المؤمن لم یجر فی الشبهات الحکمیة فاحتمال التکلیف منجز وکذلک الحال فی الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالی فإن احتمال ثبوت التکلیف فی کل طرف من أطرافه منجز حیث لم یکن أصل مؤمن فی البین فإن الأصول المؤمنة لا تجری فی أطراف العلم الاجمالی إما من جهة قصور المقتضی أی قصور دلیلها او من جهة التعارض وسقوطها بالمعارضة فمن أجل ذلک یکون احتمال التکلیف فی کل طرف من أطراف العلم الاجمالی منجز وحینئذ لا حاجة الی الدلیل الخارجی علی وجوب الاحتیاط.

ص: 18

والظاهر ان وجوب التحذر وجوب عقلی فإن العقل یحکم عند إنذار المنذرین( بالکسر) المنذرین( بالفتح) فإذا کان إنذارهم حجة فهو یثبت الوجوب تعبدا وتنجزا وکذلک یثبت الحرمة تعبدا وشرعا وتنجزا وإذا ثبت الوجوب تنجزا وتعبدا فالعقل یحکم بالحذر عن مخالفته لأن العقل یدرک ترتب استحقاق العقوبة والإدانة علی مخالفته.

والظاهر أن وجوب الحذر وجوب عقلی لأن الحاکم بوجوب الحذر عن الإدانة والعقوبة إنما هو العقل لا الشرع.

فإذن وجوب الحذر فی الآیة المبارکة وجوب عقلی ولیس وجوبا مولویا ولا طریقیا ولا إرشادیا.

ومن ناحیة ثالثة أن الآیة المبارکة لیست فی مقام التأسیس بل مفادها إنما هو تقریر ما سبق عند العقلاء وجرت علیه سریتهم بما هو مرتکز فی أذهانهم حیث أن التفقه فی الدین فی کل ملة عند العقلاء موجود فإن قیام المنذرین( بالکسر) بإنذار المنذرین( بالفتح) وتحذیرهم من هذا الإنذار لهو امر ثابت عند العقلاء والآیة المبارکة فی مقام تثبیت ذلک وتقریر ولیست فی مقام التأسیس.

أدلة حجیة خبر الواحد ___ آیة النفر بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ___ آیة النفر

الإشکال الخامس: ما ذکره المحقق الخراسانی(قده) (1) وجماعة أخری.

وحاصله: أن الآیة المبارکة تدل علی حجیة صنف خاص من الأخبار وهو الصنف المتضمن للتحذیر والتخویف من الإدانة والعقوبة علی المخالفة ولا تدل علی حجیة الروایات مطلقا، ومن الواضح أن هذا الصنف مختص بفتاوی الفقهاء والمجتهدین فإن الفقیه ینقل رأیه ویصدق علیه الإنذار باعتبار أنه یترتب علی مخالفته الإدانة والعقوبة فإذا أخبر الفقیه عن وجوب شیء یصدق علیه أنه أنذر به باعتبار انه یترتب علیه التخویف والتحذیر من الإدانة والعقوبة علی مخالفته وکذلک إذا اخبر عن حرمة شیء صدق علیه الإنذار باعتبار أنه یترتب علی مخالفتها وارتکابها التخویف والتحذیر من الإدانة والعقوبة.

ص: 19


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص299.

فإذن المعتبر فی صدق الإنذار أن یکون المخبر فاهما لمعنی الراویة ویخبر عن رأیه ویری ان معنی الروایة هو رأیه وعلی طبق اجتهاده ونظریته وهو یخبر عن رأیه لأن الفقیه یخبر عن رأیه لا عن الواقع لکن رأیه ذات طابع إسلامی وشرعی ولیس أجنبیا عن الشرع وإلا فالفقیه لم یخبر عن الواقع أی الوجوب الواقعی أو الحرمة الواقعیة وإنما أخبر عن الوجوب الذی هو رأیه او الحرمة کذلک ولکن رأیه ذات طابع إسلامی وشرعی فالتخویف والتحذیر إنما یترتب علی مخالفة فتوی الفقیه واخباره.

واما الراوی للأخبار الواصلة إلیه من الأئمة(ع) فهو یروی ما وصل إلیه من الالفاظ حرفیا بلا زیادة ولا نقیصة وبدون أی تصرف وبدون أی إعمال اجتهاد او نظر فیها ویفهم هذه المضامین کل أهل اللسان فهو یروی هذه المضامین بدون أعمال أی نظر.

فالمعتبر فی الراوی أن یکون حافظا لروایاته ولا یعتبر فیه ان یکون فاهما لمعنی الروایة ولهذا قد یکون الراوی عامیا وقد یکون من غیر أهل اللسان

والخلاصة ان المعتبر فی فتوی الفقیه إنما هو العلم بمضمون الروایات وهذا المضمون رأی الفقیه سواء کان المضمون وجوبا أو حرمة أو صحة أو فسادا او جزئیة او شرطیة او ما شاکل ذلک فهو رأیه ویترتب علیه التحذیر والتخویف من الإدانة والعقوبة ولا یترتب التحذیر والتخویف علی روایة الراوی فإن الراوی یروی ما سمع من الإمام(ع) أو ما وصل إلیه بالواسطة من الإمام(ع) بألفاظها حرفیا أو بمضمونها التی تکون الروایات ظاهرة فیها عرفا بدون أی أعمال نظر واجتهاد، والآیة المبارکة مختصة بدلالتها علی حجیة صنف خاص من الخبر هو الخبر المتضمن للتخویف وهذا إنما ینطبق علی فتوی الفقیه ولا ینطبق علی روایة الراوی.

ص: 20

ودعوی الملازمة بین حجیة فتوی الفقیه وبین حجیة الروایة من جهة عدم القول بالفصل بینهما هذه الدعوی لا أساس لها؛ فإن القول فی الفصل بینهما موجود فی کثیر من الموارد تکون الروایة حجة إذا کانت عن حس وإذا کانت عن حدس لا تکون حجة فتدل الآیة المبارکة علی حجیة الخبر عن حدس إذا کان متضمنا للتخویف والتحذیر من الإدانة والعقوبة ولا تدل علی حجیة الخبر عن حس فالملازمة بینهما غیر موجودة بحیث تشکل الدلالة الالتزامیة، فما دل علی حجیة الأخبار عن حدس بالمطابقة یدل بالالتزام علی حجیة الأخبار عن حس.

فدعوی عدم الفصل بینهما لا أساس لها.

ومع الإغماض عن ذلک فالقول بعدم الفصل لا یکون حجة فإن الاجماع المنقول لا یکون حجة فضلاً عن القول بعدم الفصل، فلا أثر لهذه الدعوی.

هذا ملخص ما ذکره المحقق الخراسانی(قده)

والجواب عن ذلک: ان الآیة الکریمة تدل علی أن فرقة من کل طائفة تحملوا مسؤولیة النفر للتفقه فی الدین ولتعلم الأحکام إذا رجعوا إلی قومهم فینذرون بها ویمکن تقسیم هذه الفرقة إلی ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: أنهم ینقلون آرائهم واجتهاداتهم لأقوامهم واهل بلدهم.

الصنف الثانی: انهم ینقلون ما وصل إلیهم من الأئمة الأطهار من الروایات بنفس ألفاظها حرفیا بدون زیادة ونقیصة فی البین أو ینقلوا مضامینها التی تکون هذه الروایات ظاهرة فیها عرفا بحیث لا یتوقف علی الاجتهاد والنظر وهذا النقل یدخل فی النقل عن حس أیضا أی کما ان النقل الأول یکون عن حس یکون النقل الثانی أیضا عن حس فالنقل فی کلا القسمین یکون عن حس والخبر فی کلا القسمین یکون داخل فی الخبر عن الحس ومشمول لأدلة الحجیة إذا کان المخبر ثقة فإن ادلة الحجیة التی عمدتها السیرة القطعیة من العقلاء مختصة بالأخبار الحسیة او ما هو قریب من الحس لجریان السیرة العقلائیة علی العمل بها وحیث أن الشارع أمضی هذه السیرة بعدم الردع فهی حجة فکلا القسمین من الخبر یدخل فی الأخبار عن حس ومشمول لأدلة الحجیة.

ص: 21

وهذا بخلاف فتوی الفقیه فإنه خبر حدسی باعتبار ان الفقیه أخبر عن رأیه الذی استنبطه عن حدس وعن مقدمات فخبر الفقیه لا یکون مشمولا للسیرة العقلائیة ولکن حجیته ثابتة من طریق آخر.

فالنتیجة: ان النافرین إذا رجعوا إلی بلدهم یقوموا بإخبار المنذرین (بالفتح) بما تفقهوا فی الدین وبما تعلموه من الروایات الواصلة إلیهم من الأئمة الأطهار(ع) وبالأحکام الواصلة إلیهم(ع) کما هو الحال فی زمن الغیبة فإن اهل العلم یرجعون إلی بلدانهم لنقل فتوی الفقهاء والمجتهدین لأهل بلدهم، وهذا النقل حجة فإذا کان حجة وکان المخبر ثقة یترتب علیه التخویف ویترتب علیه التحذیر من الإدانة والعقوبة علی المخالفة، فإذا أخبر عن وجوب شیء أو حرمة شیء آخر لأهل بلدهم فبطبیعة الحال یحصل الخوف والحذر لأهل البلد من الإدانة والعقوبة علی المخالفة فیما لو ترک الواجب وأتی بالحرام.

فالآیة المبارکة تدل علی حجیة هذه الأخبار.

الصنف الثالث: من الفرقة فإنهم تارة ینقلون آرائهم واجتهاداتهم واخری ینقلون الأحکام التی تعلموها وتفقهوا فیها.

أما الصنف الأول: فهو خارج عن محل الکلام لوضوح ان من یقوم بالنفر للتفقه فی الدین وتعلم الأحکام ینذرون الناس من قبلهم إذا رجعوا کما هو ظاهر الآیة المبارکة، فظاهر الآیة المبارکة أنهم ینذرون أهل بلدهم بما تفقهوا فیه ولیس إنذار أهل بلدهم بآرائهم واجتهاداتهم فإن الآیة غیر ظاهرة فی ذلک.

وأما الصنف الثانی: فهو الصحیح لأن کل فرقة تفقهوا فی الدین بعد الرجوع إلی بلدانهم ینشرون ما تفقهوا فیه من الدین ویقوموا بأخبار المنذرین (بالفتح) بما تعلموه من الدین لا أنهم یعلمون الناس آرائهم واجتهاداتهم ونظریاتهم، فیکون هذا الصنف هو المطابق لظاهر الآیة المبارکة.

فالآیة المبارکة تدل علی حجیة إنذار المنذر إذا کان إنذارهم بما تفقهوا فی الدین وبما تعلموه ولا تدل علی حجیة إنذاره إذا کان إنذاره عن آرائه واجتهاداته ونظریاته.

ص: 22

فالصحیح من هذه الأصناف هو الصنف الثانی والشق الثانی من الصنف الثالث.

أدلة حجیة خبر الواحد _____ آیة النفر بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد _____ آیة النفر

کان الکلام فی الجواب عن اشکال المحقق الخراسانی علی الاستدلال بالآیة المبارکة وأنها تدل علی أن إنذار المنذر وإخباره یکون حجة إذا کان بما تفقهوا من الدین وتعلموا من الأحکام الشرعیة ولا تدل علی أن إخبارهم عن آرائهم واجتهاداتهم ونظریاتهم یکون حجة فالآیة أجنبیة عن الدلالة علی ذلک وظاهر الآیة الکریمة حجیة إنذار المنذرین للمنذرین (بالفتح) إذا کان إخبارهم وإنذارهم بما تفقهوا من الدین وتعلموا من الأحکام الشرعیة من الوجوب والحرمة وغیرهما فالآیة تدل علی ذلک ولا نظر للآیة إلی إخبارهم وإنذارهم بآرائهم واجتهاداتهم ونظریاتهم.

وعلی هذا فالآیة المبارکة تشمل الصنف الثانی فقط دون الصنف الأول فهو خارج عن الآیة الکریمة واما الصنف الثالث فالقسم الأول منه خارج والقسم الثانی مشمول للآیة الکریمة.

هذا فی عصر الحضور.

وأما فی عصر الغیبة فالأمر أوضح من ذلک فإن فرقة من کل طائفة یقوموا بالنفر إلی الحوزات العلمیة کالنجف الأشرف وغیره من الحوزات الدینیة للتفقه فی الدین ولتعلم الأحکام الشرعیة وبعد فترة زمنیة یرجعون إلی بلادهم لینذروا أقوامهم وأهل بلادهم بما تفقهوا من الدین وبما تعلموا من الأحکام الشرعیة ولا ینقلون لهم آرائهم واجتهاداتهم ولو کان فهو نادر جدا وشاذ والغالب هو نقل آراء وفتاوی المجتهدین للناس.

ثم أن السید الاستاذ(قده) قد أجاب (1) عن إشکال المحقق الخراسانی(قده) بأن الرواة فی عصر التشریع غالبا یکونوا من الفقهاء والمجتهدین کزرارة ومحمد بن مسلم والحلبی وأمثالهم إذ الاجتهاد فی ذاک العصر أمر سهل، لأنه لا یتطلب أکثر من سماع الروایة من الإمام(ع) ومعرفة مقصود الإمام منها وجهة صدورها، ولا یتوقف الاجتهاد علی مقدمة أخری فإن عملیة الاجتهاد فی عصر التشریع عملیة سهلة وغیر معقدة بینما هی عملیة صعبة ومعقدة.

ص: 23


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسیید محمد الواعظ، ج2، ص187.

والسر فی ذلک: هو الفراغ بین عصر التشریع وعصر الاجتهاد فمهما طال أو کثر واجهت النصوص التشریعیة الشکوک والأوهام من مختلف الجهات والنواح ویتوقف علی تکوین القواعد والنظریات العامة وفق شروطها الخاصة فی حدودها المسموح بها شرعا بینما عملیة الاجتهاد فی عصر التشریع لا تتوقف علی تلک المقدمات ولا تواجه الشکوک والأوهام والمخاطر فإن أمثال زرارة إذا سمع الروایة من المعصومین(ع) وفهم منها مقصود الإمام(ع) فهو مجتهد ولا یتوقف علی أی مقدمة أخری بینما فی العصر الحاضر لیس الأمر کذلک، فإن عملیة الاجتهاد تتوقف علی تحقیق إسناد الروایات بکاملها فی تمام السلسلة إلی الإمام وأیضا لا بد من تحقیق دلالة الروایات وانها تدل علی هذا المعنی او لا تدل وبعد تنقیح عملیة السند وعملیة الدلالة لا بد من تحقیق الجهة وان الروایة صدرت تقیة او صدرت لبیان الحکم الواقعی، وبعد هذه الجهات لا بد من تحقیق أن لهذه الروایات معارض أو لیس لها معارض فلو کان لها معارض فهل یوجد مرجح لها او لا یکون لها مرجح أو ان المرجح یکون فی طرف المعارض ولیس فی طرف الروایة وإذا لم یکن هناک مرجح لشیء منهما فهل مقتضی القاعدة التخییر أو سقوط کلتا الروایتین فلا بد من بحث هذه البحوث تماما، وإذا لم یکن لها معارض فهل هناک دلیل حاکم علیها او دلیل یقدم علیها دلالة حیث یمکن الجمع الدلالی العرفی بینهما کالدلیل الآخر الذی یکون أظهر منه دلالة فیقدم من باب تقدیم الأظهر علی الظاهر او تقدیم الخاص علی العام او تقدیم المقید علی المطلق.

فعملیة الاجتهاد فی العصر الحاضر تتوقف علی هذه المقدمات تماما ولهذا تکون هذه العملیة عملیة صعبة معقدة ودقیقة بینما تلک العملیة فی عصر التشریع عملیة سهلة لا تتوقف علی تلک المقدمات فإن الفراغ بین عصر التشریع وعصر الاجتهاد هذا الفراغ یؤدی إلی هذه النتیجة.

ص: 24

هکذا ذکره السید الاستاذ(قده).

وما ذکره(قده) فی غایة الدقة والصحة ولکن الراوی فی عصر التشریع وإن کان الغالب منهم فقیه ومجتهد ولکن المجتهد قد یروی الراویة الواصلة إلیه منهم(ع) بألفاظها حرفیا أو بمضامینه المکشوفة ظاهرا عند العرف وأخری یروی آرائه وینقلها لا ان الفقیه والمجتهد یروی دائما اجتهاده لیس الأمر کذلک فإن المجتهد قد یروی ما سمع من الإمام(ع) او قد وصلت إلیه بطرق معتبرة فیرویها بألفاظها حرفیا بدون إعمال نظر واجتهاد وأخری ینقل آرائه واجتهاده ولا فرق بینهما من هذه الناحیة فقد یکون الراوی عامیا لا یعرف معنی الروایة ولکنه حافظ فإنه لا یعتبر فی الراوی أن یکون من اهل الفهم أو من أهل اللسان ولکنه لا بد أن کون حافظا للروایة بتمام ألفاظها وخصوصیاتها کما وکیفا فروایته حجة ومعتبرة إذا کان ثقة. هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری یمکن إثبات حجیة خبر الواحد من الآیة المبارکة بالأمر بإنذار المنذرین لأنه واجب علی المنذرین بالکسر واما إثبات حجیة خبر الواحد بترتب التحذر علی إنذار المنذرین فلا یمکن لأن الحذر لا یترتب علی إنذار المنذرین بل المترتب هو ترقب الحذر لا فعلیة الحذر ووقوعه فعلا لقوله تعالی: (لعلهم یحذرون) فترقب الحذر هو المترتب علی إنذار المنذرین وإخبارهم بما تفقهوا من الدین لا وقوع الحذر فعلا فیمکن إثبات حجیة خبر الواحد فی الآیة المبارکة من جهة وجوب الإنذار علی المنذرین.

وهذا الوجوب لا یخلو إما أن یکون وجوبا نفسیا مولویا أو وجوبا غیریا مقدمیا أو وجوبا طریقیا أو إرشادیا ولا وجود لاحتمال خامس.

أما الاحتمال الأول: فهو غیر محتمل ضرورة أن الإنذار لیس من الواجبات فی الشریعة المقدسة کالصلاة والصیام ونحوهما، أما الاحتمال الثانی: وهو أن الوجوب وجوبا غیریا فالأمر أیضا لیس کذلک، فإن الإنذار لیس مقدمة وجودیة لعمل المنذرین (بالفتح) بالأحکام الشرعیة؛ لأنهم قد عملوا بالأحکام الشرعیة بدون إنذار المنذرین وقد لا یعملون بالأحکام الشرعیة بعد إنذار المنذرین أیضا فعمل المنذرین (بالفتح) لا یتوقف علی إنذار المنذرین من باب توقف الواجب علی مقدمته الوجودیة.

ص: 25

هذا مضافا إلی ما ذکرناه فی محله انه لا دلیل علی وجوب المقدمة شرعا.

وعلی هذا فهذا الوجوب إما طریقی او إرشادی فإن کان طریقیا فهو یدل علی أن دلالة الآیة الکریمة علی حجیة أخبار الآحاد وإنذار المنذرین تأسیسیة لا تأکیدیة؛ لأن الوجوب الطریقی وجوب مجعول من قبل الشارع بغرض الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات اللزومیة فی موارد الاشتباه والالتباس وحجیة أخبار المخبرین وإنذارهم مجعولة للحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات اللزومیة فی موارد الاشتباه والالتباس.

واما إذا کان وجوب الإنذار وجوبا إرشادیا فهو إرشاد إلی أن دلالة الآیة المبارکة علی حجیة إنذار المنذرین وأخبارهم تأکیدیة وإمضائیة فإن الآیة الکریمة فی مقام الإمضاء لما بنی علیه العقلاء من العمل بأخبار الثقة وهذا البناء ممضی شرعا والآیة المبارکة تدل علی إمضاء هذا البناء وتأکیده وتقریره إذا کان الوجوب إرشادیا.

وهذا هو الظاهر لأن جمیع الآیات والروایات التی استدل بها علی حجیة أخبار الآحاد مفادها الإمضاء للسیرة العقلائیة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة ولیس التأسیس وهذه السیرة مرتکزة فی إذهان الناس فإذا کان المخبر ثقة فهم یعملون بقوله بدون أدنی التفات ولذا کانت حجیة خبر الثقة أمر مرتکز فی الاذهان.

هذا تمام کلامنا فی الاستدلال بآیة النفر.

أدلة حجیة خبر الواحد _____ آیة الکتمان بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد _____ آیة الکتمان

انتهی کلامنا إلی آیة الکتمان وهی قوله تعالی:(إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَیِّنَاتِ وَالْهُدَی مِن بَعْدِ مَا بَیَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِی الْکِتَابِ أُولَئِکَ یَلعَنُهُمُ اللّهُ وَیَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (1) وقد استدل بها علی حجیة أخبار الآحاد

ومورد الآیة المبارکة قیام علماء الیهود بإخفاء رسالة النبی الأکرم وصفاته واسمائه وبشائره بعد ما بینها الله تعالی فی کتب العهدین.

ص: 26


1- سورة البقرة، آیة159.

وبما أن المورد لا یخصص الوارد فلا مانع من الاستدلال بها علی کبری کلیة وهی أنه کلما حرم کتمان شیء ووجوب إظهاره فلا محالة یجب قبوله مطلقا وإلا لکان وجوب الإظهار لغوا وبلا فائدة، وصدور اللغو من المولی الحکیم مستحیل، وهذا مما لا یمکن الالتزام به.

وهذا نظیر قوله تعالی: (وَلاَ یَحِلُّ لَهُنَّ أَن یَکْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِی أَرْحَامِهِنَّ إِن کُنَّ یُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ) (1) فإنه نهی عن کتمان ما خلق الله تعالی فی أرحامهن وأوجب إظهاره علیهن فإذا وجب الإظهار علیهن وجوب القبول فمن أجل ذلک یکون قول النساء فی الأخبار عما فی أرحامهن مسموع وحجة.

وقد أورد علی هذا الاستدلال بوجوه:

الوجه الأول: أن الآیة المبارکة فی مقام بیان حرمة الکتمان ووجوب الإظهار أی أن کتمان الحقیقة محرم وإظهارها واجب ولیست فی مقام بیان وجوب القبول مطلقا تعبدا وإن لم یحصل العلم بالحقیقة ولا الاطمئنان بها.

وعلی هذا فکما یحتمل أن یکون القبول واجبا مطلقا تعبدا وإن لم یحصل العلم بالحقیقة ولا الاطمئنان بها فیحتمل أن یکون القبول واجبا عند حصول العلم فإذا حصل العلم من إظهارهن الحقیقة وجب القبول وإن لم یحصل العلم او الاطمئنان بالحقیقة من الإظهار فلا یجب القبول.

فوجوب القبول عند الإظهار مجمل فالآیة الکریمة لا تدل علی وجوب القبول مطلقا تعبدا وإن لم یحصل العلم بالحقیقة ولا الاطمئنان والوثوق بها إذ یکفی فی دفع اللغویة أن یکون إظهار کل فرد من هؤلاء جزء السبب لحصول العلم لا تمام السبب فعندئذ لا یکون وجوب الإظهار علی کل هؤلاء لغوا باعتبار ان إظهار کل واحد منهم جزء السبب لحصول العلم بالحقیقة أو جزء حصول الاطمئنان بالحقیقة وهذا المقدار یکفی فی دفع اللغویة.

ص: 27


1- سورة البقرة، آیة228.

فالنتیجة: أن الآیة المبارکة مجملة من ناحیة وجوب القبول فالآیة فی مقام بیان حرمة الکتمان ووجوب الإظهار وأما وجوب القبول فالآیة مجملة من هذه الناحیة وحینئذ یکون القدر المتیقن منها وجوب القبول عند حصول الاطمئنان أو العلم.

هذا مضافا: إلی أنه یمکن منع الملازمة بین وجوب الإظهار وبین وجوب القبول حتی من شخص واحد فإذا وجب الإخبار علی شخص واحد فلا دلیل علی وجوب القبول منه مطلقا فیمکن ان یقبل منه عند حصول العلم او الاطمئنان ولو بقرائن حالیة او مقامیة فهذه الملازمة غیر موجودة لا بین إظهار جماعة ولا فی وجوب الإظهار علی کل فرد فوجوب الإظهار بالحقیقة أو الإخبار بها علی فرد لا یستلزم وجوب القبول منه إذ لا دلیل علی هذه الملازمة.

واما الآیة المبارکة وهی قوله تعالی:( وَلاَ یَحِلُّ لَهُنَّ أَن یَکْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِی أَرْحَامِهِنَّ إِن کُنَّ یُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ) فإنها فی نفسها لا تدل علی وجوب قبول قول المرأة مطلقا ولو من دون حصول العلم والاطمئنان فالعمدة فی هذه المسألة هی الروایات وهی تدل علی ان قول المرأة مسموع فی إخبارها عما فی رحمها ولولا هذه الروایات فلا یمکن استفادة قبول قول المرأة مطلقا تعبدا بدون أن یحصل العلم او الاطمئنان من قولها.

ومن هنا یظهر الفرق بین آیة الکتمان وبین آیة النفر فإن فی آیة النفر الحذر غایة لوجوب الإنذار ومترتب علیه وتدل علی ان الحذر مستند إلی إنذار المنذر فإذا کان مستندا إلیه فبطبیعة الحال یکشف عن أنه حجة إذ لو لم یکن إنذار المنذر حجة لم یترتب علیه الخوف والحذر، فإذا اخبر بالوجوب أو الحرمة وکان إنذاره حجة حصل الخوف للمنذر وإن لم یکن حجة فلا یحصل له الخوف.

ص: 28

واما فی هذه الآیة المبارکة فالقبول لیس غایة لحرمة الکتمان ووجوب الإظهار ولا یکون مترتبا علیه فمن أجل ذلک تختلف هذه الآیة الکریمة عن آیة النفر فالنتیجة ان الآیة المبارکة لا تدل علی وجوب القبول مطلقا تعبدا.

الوجه الثانی: أن حرمة الکتمان لا تخلو إما ان تکون حرمة نفسیة أو حرمة طریقیة او حرمة إرشادیة ولا رابع فی البین.

أما الأول: وهو الحرمة التکلیفیة النفسیة فهی غیر محتملة إذ لا شبهة فی أن حرمة الکتمان لیست نفسیة لأن الحرمة النفسیة ناشئة من وجدود مفسدة ملزمة فی متعلقها کحرمة شرب الخمر مثلا فإنها ناشئة من وجود مفسدة ملزمة فی الشرب فوجود المفسدة الملزمة فی شرب الخمر هو المنشأ لجعل الحرمة له.

وما نحن فیه لیس کذلک فإن الکتمان هو إخفاء الحقیقة أی إخفاء مصلحة اکبر وأعظم وانما المراد من الحقیقة هو رسالة النبی الأکرم(ص) ولا شبهة فی أن إخفائها من المحرمات ولکن من المحرمات العقلیة ولیس من المحرمات الشرعیة فالعقل یحکم بوجوب إظهارها کما یحکم بوجوب الامتثال فإن العقل هو الحاکم بوجوب الامتثال دون الشرع فوجوب الامتثال لیس وجوبا شرعیا بل هو وجوب عقلی کما أن حرمة المعصیة لیست حرمة شرعیة بل هی حرمة عقلیة وما نحن فیه کذلک فإن حرمة الکتمان لم تنشأ من وجود مفسدة فی نفس الکتمان بل حرمة الکتمان من جهة إخفاء الحقیقة والرسالة التی هی من أعظم وأکبر المصالح.

وعلیه فلا یمکن ان تکون حرمة الکتمان حرمة نفسیة.

وأما أنها لیس حرمة طریقیة فلأن الحرمة الطریقیة حکم ظاهری فی طول الحکم الواقعی ومجعول بغرض الحفاظ علی الحکم الواقعی بما له من الملاک فی موارد الاشتباه والالتباس وحرمة الکتمان لیست حرمة ظاهریة طریقیة ومجعولة للحفاظ علی الحکم الواقعی بل حرمة الکتمان من جهة الإخفاء لرسالة النبی الأکرم(ص) وصفاته وبشائره واسمائه وتوقیت مبعثه وما شاکل ذلک.

ص: 29

ومن هنا تکون حرمة الکتمان حرمة إرشادیة أی إرشاد الی ما استقل به العقل فإن العقل مستقل بحرمة کتمان رسالة النبی الأکرم(ص) ووجوب إظهارها وبیانها للناس وهذا هو المناسب للسان الآیة المبارکة أیضا لأن قوله تعالی: أولئک یلعنهم الله اللاعنون لسانه لسان التهدید ولسان التوبیخ ولسان اللعن هو المناسب للإرشاد إلی حکم العقل بوجوب إظهار رسالة النبی الأکرم(ص) وحرمة إخفائها عقلا.

فإذن لیست هذه الحرمة حرمة نفسیة واقعیة ولا حرمة ظاهریة طریقیة.

والخلاصة: ان الآیة المبارکة فی مقام بیان أن علماء الیهود قد قاموا بکتمان رسالة النبی الأکرم(ص) وصفاته وبشائره التی بینها الله تعالی فی کتب العهدین ولکن علماء الیهود أخفوها عن الناس فالآیة المبارکة فی مقام تحریم ذلک وتهدید هؤلاء العلماء فلیست الآیة المبارکة فی مقام الجعل بل لسان التهدید والتوبیخ فمن أجل ذلک تکون الآیة المبارکة أجنبیة عن الدلالة علی حجیة خبر الواحد وان دلالتها علی حجیة خبر الواحد لا بد ان یکون لسانها لسان الجعل مع أن لسان الآیة المبارکة لسان التهدید والتوبیخ لا الجعل. فلا یمکن الاستدلال بها علی حجیة أخبار الآحاد.

أدلة حجیة خبر الواحد ____ آیة الکتمان بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ____ آیة الکتمان

کان کلامنا فی آیة الکتمان وقد أورد علی الاستدلال بها بوجوه، تقدم الکلام فی الوجه الأول والثانی.

الوجه الثالث: أن الآیة تدل علی حرمة کتمان شیء وإخفاءه حینما یکون المقتضی لإظهاره موجودا بحیث لولا الکتمان والإخبار لظهر وعلم الناس به فإن الله تعالی قد بین رسالة النبی الأکرم(ص) فی کتب العهدین وصفاته واسمائه وبشائره وعلائم نبوته بحیث لولم یکن من قبل علماء الیهود والنصاری کتمانها وإخفائها لظهرت وعلم الناس بها لکنهم بنوا علی إخفائها وکتمانها، فالآیة المبارکة تدل علی حرمة الکتمان والإخفاء إذا کان المقتضی لإظهاره موجودا.

ص: 30

ولکن المقام لیس کذلک فإن الراوی إذا سمع الروایات من الأئمة الأطهار(ع) أو وصلت إلیه بطرق صحیحة فعدم قیامه بإخبارها للناس وبنقلها لهم لا یصدق علیه الکتمان والإخفاء حتی یکون مشمولا للآیة الکریمة فإن المقتضی بهذا النحو غیر موجود بحیث لولم ینقل هذه الأخبار للناس لظهرت ولعلم الناس بها.

فلهذا لا یمکن الاستدلال بهذه الآیة المبارکة علی حجیة أخبار الآحاد.

وقد أجیب عن ذلک:

أولاً: بأن صدق الکتمان لا یتوقف علی وجود المقتضی وکتمان کل شیء بحسبه فالراوی إذا لم یرو ما سمع من الإمام أو وصل إلیه یصدق علیه الکتمان والإخفاء سواء کان المقتضی للإظهار موجودا أم لم یکن موجودا فصدق الکتمان لا یتوقف علی وجود المقتضی للإظهار بل یصدق الکتمان علی عدم الإخبار بشیء وهو یعلم بهذا الخبر فالراوی إذا لم یخبر بما سمع من الإمام(ع) أو وصل إلیه صدق علیه الکتمان والإخفاء ومشمول للآیة المبارکة.

وثانیا: أن الآیة المبارکة إذا دلت علی حرمة الکتمان ووجوب القبول فی فرض وجود المقتضی دلت علی وجوب القبول فی الفرض الثانی وهو عدم وجود المقتضی أیضا، فالآیة المبارکة تدل علی حجیة أخبار الأحاد.

ولکن الظاهر أن هذه الأجوبة بتمامها غیر صحیحة کما تقدم فی جواب الإشکال الأول والثانی والثالث وأن الآیة المبارکة لا تشمل أخبار الآحاد لأمرین:

الأمر الأول: أن الآیة المبارکة فی مقام بیان رسالة النبی الأکرم(ص) وعلائم نبوته وبشائره وصفاته وهی من أصول الدین ومن الواضح أن الخبر لا یکون حجة فی باب أصول الدین والعقائد. ولا یمکن التعدی من موردها الی فروع الدین.

الأمر الثانی: ان الله تعالی قد بیّن رسالة النبی الأکرم(ص) فی کتب العهدین وعلائم نبوته وصفاته بشکل تفصیلی ولکن علماء الیهود والنصاری أخفوها وکتموها ولم یظهروها للناس بحیث لو لم یکتموها لظهرت وعلم الناس بها ومن الواضح ان الآیة بهذا المعنی لا تشمل خبر الواحد فلا تدل علی وجوب القبول تعبدا.

ص: 31

فالنتیجة ان الآیة لا تدل علی حجیة أخبار الآحاد.

ومنها[ من الأدلة علی حجیة أخبار الآحاد]: آیة الذکر وهی قوله تعالی: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّکْرِ إِن کُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (1)

وتقریب الاستدلال بها: ان وجوب السؤال یستلزم وجوب القبول وإلا لکان وجوب السؤال لغوا، فلا یمکن ان قال یجب علیک السؤال ولکن لا یجب علیک القبول، وحیث أن الله تعالی قد أمر بالسؤال فیکون السؤال واجب فلا بد ان یجب القبول وإلا لکان معنی وجوب السؤال لغوا، فالملازمة بین وجوب السؤال وجوب القبول موجودة.

ولکن للمناقشة فی ذلک مجالاً سیأتی الکلام حولها.

ثم ان المراد من أهل الذکر لیس خصوص الأئمة الأطهار(ع) وإن کانوا من أظهر مصادیق الذکر بل المراد منه مطلق أهل الذکر فیشمل حتی الراوی فإن الراوی من أهل الذکر فی الأخبار بالنسبة إلی غیره کما أن الفقیه من أهل الذکر بالنسبة الی غیر الفقیه والطبیب من أهل الذکر فی الطب بالنسبة إلی غیر الطبیب. فأهل الذکر یختلف باختلاف الموارد.

وعلی هذا: فالراوی من أهل الذکر فی الروایات بالنسبة إلی غیره وحینئذ تشمل الآیة الراوی ایضا وتدل علی وجوب السؤال منه ویجب قبول قوله وأخباره وهذا معنی أن خبره حجة إذ لو لم یکن حجة فلا یجب قبوله.

ولکن أورد علی هذا الاستدلال السید الاستاذ(قده) (2) بأمرین:

الأمر الأول: ان وجوب السؤال لا یدل علی وجوب القبول مطلقا تعبدا وإن لم یحصل العلم او الاطمئنان بل لعل الغرض من السؤال بدافع حصول العلم او الاطمئنان او الوثوق بالواقع من السؤال لا قبوله تعبدا وإن لم یحصل العلم والاطمئنان والوثوق إذ یکفی فی دفع اللغویة أن یکون الغرض من السؤال تحصیل العلم بالأحکام الشرعیة فلا یکون وجوب السؤال علی الجاهل لغواً وإنما الدافع له إنما هو تحصیل العلم بالأحکام الشرعیة. فمن هذه الناحیة فالآیة المبارکة لا تدل علی حجیة أخبار الاحاد لأن الغرض من السؤال کان داعی الحصول علی العلم بالواقع لا قبول قول المخبر تعبدا.

ص: 32


1- سورة النحل، آیة43.
2- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد الواعظ، ج2، ص189.

الأمر الثانی: أن الآیة المبارکة موردها أصول الدین لأنها فی مقام رد المشرکین حیث استنکروا نبوة النبی الأکرم(ص) حیث کانوا یعتقدون ان النبی لا یمکن أن یکون بشرا بل لا بد أن یکون ملکا، والآیة فی مقام رد هؤلاء من خلال السؤال عن علماء الیهود والنصاری لأنهم هم المراد من أهل الذکر هنا باعتبار أنهم من أهل الذکر برسالة النبی الأکرم(ص) لعلمهم برسالته(ص) وصفاته وعلائم نبوته، فالآیة فی مقام ذلک وأجنبیة عن الدلالة علی حجیة خبر الواحد فلا صلة للآیة الکریمة علی حجیة خبر الواحد.

نعم قد یقال کما قیل: إن المراد من قوله تعالی: (إِن کُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) أعم من العلم الوجدانی والعلم التعبدی غایة الأمر فی موارد أصول الدین ینطبق العلم الوجدانی فقط وأما فی موارد أخبار المخبرین فیکون المراد من العلم العلم التعبدی.

ولکن هذا التفسیر أیضا غیر صحیح.

أدلة حجیة خبر الواحد ____ آیة الذکر. بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ____ آیة الذکر.

إلی هنا قد تبین ان مورد آیة الذکر أصول الدین لأن الآیة فی مقام رد المشرکین المنکرین لرسالة الرسول الأکرم(ص) والمدلول هنا العلم الوجدانی فالآیة لا تدل علی حجیة خبر الواحد .

قد یقال کما قیل: إن المراد من العلم فی الآیة المبارکة (إِن کُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) أعم من العلم الوجدانی والعلم التعبدی حیث أن مفاد الآیة المبارکة قضیة ارتکازیة فطریة موافقة للجبلة والذات وهی رجوع الجاهل إلی العالم أو رجوع الجاهل الی اهل الخبرة وهذه قضیة فطریة ارتکازیة لا تتوقف علی أی مقدمة أو أی دلیل.

والعالم فی المقام یختلف فتارة یکون العالم بالعلم الوجدانی کما فی أصول العقائد وأخری یکون العالم بالعلم التعبدی کرجوع العامی إلی المجتهد ورجوع المریض إلی الطبیب فإنه أمر فطری وموافق للارتکاز، فرجوع الجاهل إلی العالم أعم من أن یکون علمه وجدانیا أم تعبدیا أو رجوع من لا یعرف الهندسة إلی المهندس.

ص: 33

فمفاد الآیة المبارکة قضیة ارتکازیة موافقة للفطرة والذات.

والراوی أیضا کذلک فإنه من أهل الخبرة بالروایات فتشمل الآیة المبارکة روایة الراوی أیضا، ویکون الرجوع إلی الراوی من الرجوع إلی أهل الخبرة، هکذا قیل.

والجواب عن ذلک:

أولاً: أن مورد الآیة المبارکة أصول الدین والمطلوب فیه العلم الوجدانی ولا أثر للعلم التعبدی فیها لأن العلم التعبدی لیس بعلم حقیقة بل هو علم باصطلاح الفقهاء وکلما کان علی خلاف العلم الوجدانی فهو جهل غایة الأمر ترتب آثار العلم علیه فمن أجل ذلک یسمی بالعلم التعبدی کقیام الأمارات مقام القطع الطریقی والموضوعی فإن آثار العلم الوجدانی مترتبة علی الأمارات الظنیة وتسمی تلک الأمارات بالعلم التعبدی من جهة ترتیب آثار العلم الوجدانی علیها.

والتعدی عن مورد الآیة الذی یکون المطلوب فیه هو العلم الوجدانی إلی سائر الموارد أی موارد العلم التعبدی بحاجة إلی دلیل وقرینة او مناسبة بینهما.

وفی المقام لا مناسبة بین العلم الوجدانی والعلم التعبدی ارتکازا حتی یمکن التعدی عن مورد العلم الوجدانی إلی العلم التعبدی، فالتعدی بحاجة إلی قرینة ولا قرینة فی نفس الآیة المبارکة ولا من خارجها.

وثانیا: مع الإغماض عن ذلک وتسلیم أنه یمکن التعدی عن مورد الآیة المبارکة إلی موارد العلم التعبدی ولکن ذکرنا أن مفاد الآیة المبارکة قضیة ارتکازیة فطریة وهی رجوع الجاهل إلی العالم ورجوع الجاهل إلی أهل الخبرة وهو أمر مرتکز فی الاذهان وموافق للفطرة فلا یحتاج إلی أی مقدمة ودلیل.

ومن الواضح أن أهل الخبرة لا یصدق علی الراوی؛ لأن أهل الخبرة هو من له رأی ونظر کالمجتهد والطبیب والمهندس وما شاکل ذلک، وأما الراوی فوظیفته نقل ما سمعه من الإمام أو ما وصل إلیه من الإمام(ع) بطرق صحیحة حرفیا من دون إعمال أی رأی ونظر فیه، بل قد لا یفهم الراوی معنی الروایة.

ص: 34

ومن هنا کان المعتبر فی الراوی هو الحفظ ولا یعتبر فی الراوی الفهم لمعنی الروایة بل قد یکون الراوی لیس من أهل اللسان؛ فمن أجل ذلک لا ینطبق عنوان أهل الخبرة علی الراوی حتی إذا فهم معنی الراویة.

فالنتیجة: أن الراوی لا یصدق علیه أنه من أهل الخبرة فلا تشمله الآیة الکریمة وإن قلنا أن الآیة تدل علی قضیة ارتکازیة فطریة وهی رجوع الجاهل إلی العالم ورجوع الجاهل إلی أهل الخبرة فلا تشمل الآیة الکریمة الراوی لأن الراوی لیس من أهل الخبرة.

وحینئذ لا تدل الآیة الکریمة علی حجیة خبر الواحد وأن قلنا أن المراد من العلم فی الآیة الکریمة أعم من العلم الوجدانی والعلم التعبدی.

ولکن قد یقال کما قیل: إن عدم شمول الآیة للراوی تام إذا کان المذکور فی لسان الآیة المبارکة عنوان العلم لأن الراوی لیس من أهل العلم والاجتهاد والنظر وأما إذا کان الوارد فی الآیة عنوان الذکر والذکر أعم من العلم ولا یعتبر فی الذکر إعمال الرأی والنظر فحینئذ یشمل هذا العنوان الراوی لأن الراوی من أهل الذکر فی الروایات بالنسبة إلی غیره.

والجواب عن ذلک:

أولاً: إن مناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة تقتضی أن یکون المراد من الذکر هو العلم لا أن المراد منه ما هو مقابل للعلم حتی یشمل الراوی أیضا.

وثانیاً: أن ذیل الآیة قرینة علی أن المراد من الذکر فی صدر الآیة هو العلم لقوله تعالی: ( إِن کُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) ولم یقل: إن کنتم لا تذکرون فهذا قرینة علی ان المراد من الذکر هو العلم ولیس المراد منه ما هو أعم من العلم.

فالنتیجة: أن الآیة الکریمة لا تدل علی حجیة خبر الواحد.

إلی هنا قد تبین أن الآیات الکریمة التی ذکرت دلیلا علی حجیة خبر الواحد لا یتم شیء منها دلیلا علی حجیة خبر الواحد وعلی تقدیر دلالتها علی حجیة خبر الواحد فمدلولها تأیید وإمضاء لما بنی علیه العقلاء من العمل بأخبار الثقة لأنه أمر مرتکز فی الأذهان لأن الناس یعملون بأخبار الثقة بدون التفات إلی أی دلیل ومقدمة غیر إحراز وثاقة المخبر ارتکازا فبمجرد علمه بأن المخبر ثقة یعمل بخبره من دون توقف علی شیء آخر فحجیة أخبار الثقة أمر مرتکز فی الأذهان، والآیات الکریمة لو کانت دالة علی حجیة أخبار الآحاد لکانت إمضاءً لما بنی علیه العقلاء وتأکیدا له ولیس مفادها التأسیس.

ص: 35

وأما الکلام فی السنة.

فلا شبهة فی أنه لا یجوز الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بخبر الواحد وهذا أمر واضح لأن فاقد الشیء لا یعقل أن یکون معطیا له فخبر الواحد إذا لم یکن حجة فکیف یمکن الاستدلال به علی حجیة نفسه لأن لازم ذلک أن تکون حجیة نفسه علة لحجیة نفسه وکون الشیء علة لنفسه أمر مستحیل.

ومن هنا إذا أردنا الاستدلال بالسنة علی حجیة أخبار الآحاد فلا بد من افتراض کون السنة متواترة وقطعیة الصدور فعندئذ یجوز الاستدلال بها علی حجیة أخبار الآحاد.

نعم ذکر المحقق الخراسانی(قده) (1) أنه یجوز الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بالروایات المتواترة إجمالا، فإذا فرضنا أن هناک مجموعة من الروایات الکثیرة التی نعلم بصدور بعضها من الأئمة الأطهار(ع) ولکن هذا البعض مجهول لنا ولا ندری أن هذا البعض أی خبر من هذه الأخبار وحینئذ لا یجوز الاستدلال بکل واحد منها علی حجیة خبر الواحد لأنه من الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بخبر الواحد، ولکن إذا فرضنا أن هذ المجموعة تقسم إلی أصناف متعددة:

الصنف الأول: ان یکون دالاً علی حجیة خبر الواحد ثقة او غیر ثقة.

الصنف الثانی: یدل علی حجیة خبر الواحد إذا کان راویه إمامیاً.

الصنف الثالث: ما یدل علی حجیة خبر الواحد إذا کان راویه ثقة.

الصنف الرابع: ما یدل علی حجیة خبر الواحد إذا کان راویه إمامیا عادلا.

وأخص هذه الأصناف هو الصنف الرابع لأنه واجد لخصوصیة تمام هذه الأصناف فهو واجد لخصوصیة الصنف الأول فلو کان الصادر من الإمام(ع) الصنف الأول فالصنف الرابع واجد لخصوصیته، ولو کان الصادر الصنف الثانی فهو أیضا واجد لخصوصیته ، ولو کان الصادر الصنف الثالث فهو أیضا واجد لخصوصیته، فلو فرضنا انا نعلم إجمالا أن أحد هذه الأصناف قد صدر من الإمام(ع) فلا محالة یکون ذلک تعبیرا عن علمنا إجمالا بأن الصنف الرابع قد صدر من الإمام(ع) إما بلفظه أو بمضمونه وحینئذ لا مانع من الاستدلال به علی حجیة أخبار الآحاد.

ص: 36


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص302.

ولکن تمامیة الاستدلال به علی حجیة أخبار الآحاد یتوقف علی مجموعة من المقدمات یأتی التعرض لها إن شاء الله تعالی.

أدلة حجیة خبر الواحد ___ السنة. بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ___ السنة.

کان کلامنا فی الاستدلال بالسنة علی حجیة خبر الواحد، وذکرنا أنه لا یمکن الاستدلال بخبر الواحد علی حجیته لأنه غیر معقول.

وأما إذا کان الخبر متواترا اجمالا فإذا کانت الأخبار الاجمالیة عبارة عن أصناف متعددة وفیها صنف أخص من سائر الأصناف وواجد لتمام خصوصیات سائر الأصناف زائدا علی خصوصیته ففی مثل ذلک نعلم أن هذا الصنف قد صدر من المعصوم(ع) إما بلفظه أو بمضمونه فعندئذ یمکن الاستدلال به علی حجیة خبر الواحد.

ولکن هذا الاستدلال بهذا النحو یتوقف علی تمامیة مقدمات:

المقدمة الأولی: أن تکون الأخبار متواترة إجمالا.

المقدمة الثانیة: ان تکون الروایات التی استدل بها علی حجیة أخبار الآحاد تامة دلالة.

المقدمة الثالثة: ان تکون النسبة بین أصناف الروایات المتواترة عموما وخصوصا مطلقا لا عموما وخصوص من وجه ولا بنحو التباین، لأن الأخص مطلقا واجد لصفات جمیع الأصناف وخصوصیاتها فکل صنف صدر من الإمام(ع) فالصنف الأخص واجد لخصوصیته ومضمونه فعندئذ نعلم إجمالا أن الأخص قد صدر من المعصوم(ع) إما بلفظه أو بمضمونه.

وعلی هذا: فما ذکرناه من الأصناف للروایات التی المتواترة إجمالا نعلم بأن الصنف الرابع وهو الروایة التی کان راویها عدلا إمامیا قد صدر من المعصوم(ع) إما بلفظه او بمضمونه فعندئذ یمکن الاستدلال به علی حجیة خبر الواحد لأنه لیس من قبیل الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بخبر الواحد بل من قبیل الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بخبر مقطوع الصدور إما مضمونا أو لفظا.

ثم أنه إذا کانت بین أفراد هذه الأصناف روایة تدل علی حجیة خبر الثقة فعندئذ تثبت حجیة خبر الثقة وإن لم یکن إمامیا بل إذا کان ثقة ولم یکذب فتکون روایته حجة وإن کان فاسقا.

ص: 37

فإذا وجد فی أفراد الروایة التی یکون راویها عدلا فرد یدل علی حجیة خبر الثقة ثبتت حجیتها وإن لم یکن الثقة إمامیا ولا عدلا بهذا الطریق.

والمقدمات التی ذکرت بحاجة إلی إثبات تمامیتها.

اما المقدمة الأولی: فالروایات المتواترة علی أقسام:

القسم الأول: التواتر اللفظی. بأن یکون شخص اللفظ الصادر من المعصوم(ع) قد وصل إلینا بطرق قطعیة فی جمیع الطبقات بتمام خصوصیاته وألفاظه کماً وکیفاً بدون أی زیادة، وهذا النوع من التواتر قلیل جدا وشاذ فی جمیع الروایات التی استدل بها علی المسائل الفقهیة، بل معدوم. نعم توجد هذه الروایات فی العقائد کحدیث الثقلین وحدیث من کنت مولاه وما شاکل ذلک، واما الروایات المتکفلة للأحکام الشرعیة فالتواتر اللفظی فیها نادر جدا بل معدوم.

القسم الثانی: التواتر المعنوی، ونقصد به أن هذا المعنی قد صدر عن المعصوم(ع) أو هو ممضا من قبله (علیه السلام) ولکن بأی لفظ صدر من المعصوم أو بأی لفظ أمضاه فهو مجهول لدینا فلا ندری صیغة معینة لهذا المعنی فکل ذلک مجهول لدینا ولکن نعلم أن هذا المعنی المشترک بین الروایات قد صدر عن المعصوم أو کان قد أمضاه.

هذا هو التواتر المعنوی.

القسم الثالث: التواتر الإجمالی، وهو علی أقسام:

القسم الأول: أن هذه الروایات روایات کثیرة تبلغ من الکثرة حد التواتر الاجمالی ولهذا تکون ذات أصناف متعددة وحینئذ قد تکون النسبة بین أصنافها عموما وخصوصا مطلقا، وقد تکون النسبة التباین وعدم الاشتراک لا فی اللفظ ولا فی المعنی. وقد تکون النسبة عموم وخصوص من وجه بأن یکون لکل منهما مادة اجتماع ومادة افتراق.

فالتواتر الاجمالی إنما یفید فی المقام إذا کانت النسبة بین أصنافها عموما وخصوصا مطلقا بأن یکون بین الروایات صنف خاص هو أخص الأصناف فیکون واجد لتمام صفات الأصناف الأخری وشریک مع سائر الأصناف فی المضمون ویتمیز عنها بخصوصیة زائدة، وحینئذ نعلم إجمالا بأن هذا الصنف قد صدر من المعصوم إما بلفظه الخاص أو بمضمونه المخصوص فیجوز الاستدلال به علی حجیة أخبار الآحاد.

ص: 38

واما النسبة بین الأصناف إذا کانت هی التباین فلا یجوز الاستدلال بها لأننا لا نعلم تفصیلا صدور أی صنف من أصنافها فکل صنف منها مشکوک الصدور ولا اشتراک بینها لا فی اللفظ ولا فی المضمون فکل صنف مباین لصنف آخر فلا نعلم بصدور أی صنف من الأصناف بالخصوص.

نعم.. نعلم إجمالا بصدور صنف خاص من هذه الأصناف عن المعصوم ولکن کل واحد منها بنفسه وبحده مشکوک الصدور ولهذا لا یمکن الاستدلال بشیء من أصنافه علی حجیة خبر الواحد لأنه من الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بخبر الواحد وهذا غیر معقول.

وکذلک الحال فی الصنف الثالث أی فیما إذا کانت النسبة بین الروایات عموما من وجه فإنها وإن اشترکت فی مادة الاجتماع إلا أنها افترقت فی مادة الافتراق فلا نعلم بصدورها فی مادة الاجتماع لاحتمال انها صدرت فی مادة الافتراق فقط فمن أجل ذلک لا علم وجدانی بصدور بعضها.

نعم نعلم أجمالا بصدور واحد منها من المعصوم(ع) وأما صدور واحد منها معین فلیس لنا علم وجدانی فکل واحد من هذه الأصناف مشکوک الصدور فلا یمکن الاستدلال بشیء من هذه الأصناف علی جیة خبر الواحد.

فالنتیجة: ان الأخبار المتواترة إجمالا إذا کانت النسبة بین أصنافها عموما مطلقا یجوز الاستدلال بالأخص منها لأنه قد صدر عن المعصوم یقینا إما مضمونا أو لفظا دون ما إذا کانت النسبة بین أصنافها التباین او العموم من وجه لعدم العلم بصدور بعضها المعین.

هذه هی المقدمة الأولی.

واما المقدمة الثانیة: فقد استدل بالروایات الکثیرة علی حجیة خبر الواحد إلا أن دلالة أکثرها غیر تامة، ویمکن تقسیمها إلی مجموعات:

المجموعة الأولی: روایات الترجیح وهی التی تدل علی أن الخبرین المتعارضین یمکن ترجیح أحدهما علی الآخر بموافقة الکتاب او بمخالفة العامة (1) فإذا فرضنا أن أحد الخبرین المتعارضین موافق للکتاب والآخر مخالف فهذه الروایات تدل علی تقدیم الموافق علی المخالف والأخذ بالموافق وطرح المخالف وان الموافق حجة دون المخالف او إذا کان أحدهما مخالفا للعامة والاخر موافقا لهم فهذه الروایات تدل علی حجیة الخبر المخالف للعامة فتقدمه علی الخبر الموافق للعامة وحمله علی التقیة، فروایات الترجیح والروایات العلاجیة تدل علی حجیة خبر الواحد بالالتزام لأنها تدل بالمطابقة علی الترجیح وبالالتزام علی حجیة خبر الواحد لأنه لو لم یکن حجة فلا معنی لترجیح أحدهما علی الآخر.

ص: 39


1- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص106، باب9، من ابواب صفات القاضی، ط آل البیت.

ولکن الاستدلال بها غیر صحیح لأن الأخبار العلاجیة واخبار الترجیح أخبار آحاد ولیس أخبار متواترة فلا یمکن الاستدلال بها علی حجیة أخبار الآحاد لأنه من قبیل الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بخبر الواحد وهو مستحیل.

وأیضا ان هذه الروایات لا تدل علی حجیة أخبار الآحاد بالالتزام فإن هذه الروایات إنما تدل علی حجیة أخبار الآحاد بالالتزام إذا کان مفادها ترجیح أحد المتعارضین علی الآخر بموافقة الکتاب ومخالفة العامة.

ولکن کما یحتمل ذلک یحتمل أن یکون مفاد هذه الروایات فی مقام تمییز الحجة عن غیر الحجة وتمییز الخبر الصادق عن الخبر الکاذب مع أن سند کلا الخبرین المتعارضین قطعی ولکن لا نعلم أن احدهما کاذب قطعا إذ لا یتصور التعارض بین الخبرین القطعیین فوقوع التعارض دلیل علی أن احدهما کاذب والآخر صادق وهذه الروایات فی مقام تمییز الصادق عن الکاذب فالروایات الموافقة للکتاب صادقة والروایة المخالفة للکتاب کاذبة والروایة المخالفة للعامة صادقة والروایة الموافقة لهم کاذبة.

وکلا الاحتمالین فی هذه الروایات موجود فکما یحتمل أن تکون هذه الروایات فی مقام علاج الخبرین المتعارضین کذلک یحتمل أن تکون هذه الروایات فی مقام التمییز للخبر الصادق عن الخبر الکاذب، وحینئذ تکون هذه الطائفة من الروایات مجملة فلا یمکن الاستدلال بها علی تقدیر التسلیم انها متواترة سندا ولکنها مجملة دلالة

ادلة حجیة خبر الواحد – السنة بحث الأصول

الموضوع: ادلة حجیة خبر الواحد – السنة

کان کلامنا فی الأخبار العلاجیة من جهة أنه قد یناقش فیها أنها کما یحتمل أن تکون فی مقام ترجیح أحد الخبرین المتعارضین علی الآخر بموافقة الکتاب أو السنة أو بمخالفة العامة یحتمل أن تکون فی مقام تمییز الخبر الصادق عن الخبر الکاذب أو تمییز الحجة عن اللاحجة مع أن الخبرین قطعیین صدورا فإن التعارض بین القطعیین صدورا غیر معقول ولکنه اشتبه علی المکلف أیهما صادر عن الإمام(ع) وأیهما غیر صادر وهذه الروایات فی مقام تمییز الصادق عن الکاذب.

ص: 40

فهذه الروایات مجملة باعتبار أنه لا ترجیح للاحتمال الاول علی الثانی.

والجواب عن ذلک واضح: وهو أن الأخبار العلاجیة علی طائفتین:

الطائفة الأولی: وتسمی بأخبار الطرح ولسان هذه الطائفة لسان عدم صدور الخبر المخالف للکتاب والسنة (1) ، وقد ورد فیها أن ما خالف الکتاب والسنة فهو زخرف وباطل ولم أقله، وهی تدل علی الاستنکار والتحاشی عن صدور الخبر المخالف للکتاب والسنة؛ ولهذا صرح فیها بأن ما خالف الکتاب والسنة زخرف وباطل ولم یقله، فهذه الطائفة فی مقام التمییز للصادق عن الکاذب ولکنها لیست من الأخبار المرجحة ومن الأخبار العلاجیة.

الطائفة الثانیة: الأخبار العلاجیة (2) وهی تعالج مشکلة التعارض بین الخبرین المتعارضین وهذه الأخبار ظاهرة فی أن کلا من الخبرین المتعارضین حجة فی نفسه ولکن من جهة المعارضة لا یمکن شمول دلیل الحجیة لکلیهما معا ولهذا لا بد من علاج المعارضة بالرجوع الی المرجحات فإن کان أحدهما موافقا للکتاب، والمراد من الموافقة للکتاب الموافق لإطلاق الکتاب أو عمومه، والآخر مخالفا لإطلاق الکتاب وعمومه فلا بد من تقدیم الأول علی الثانی وان الأول حجة دون الثانی، فالثانی لا یکون حجة ولهذا لا بد أن یکون المراد من المخالف فی الأخبار العلاجیة المخالف لعموم الکتاب والسنة أو لإطلاق الکتاب والسنة؛ فإن خبر الواحد إذا کان مخالفا لإطلاق الکتاب والسنة أو عمومهما فهو حجة ویخصص عمومهما او یقید إطلاقهما ولکن إذا کان الخبر مخالفا لعموم الکتاب فهو مردود وزخرف وباطل ولم یصدر منهم(ع).

فالروایات العلاجیة وهی أخبار الترجیح تدل علی الترجیح بالمطابقة وعلی حجیة خبر الواحد بالالتزام ولکن من جهة أن هذه الروایات لیست من الکثرة بدرجة تبلغ حد التواتر فلا یمکن الاستدلال بها علی حجیة خبر الواحد لأنه من قبیل الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بخبر الواحد وهو مستحیل.

ص: 41


1- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص110، ب9، من أبواب صفات القاضی، ح12، ط آل البیت.
2- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص118، ب9، من أبواب صفات القاضی، ح29، ط آل البیت.

المجموعة الثانیة: وهی الروایات الواردة فی الأفراد الخاصة من الرواة وبأوصاف خاصة وبألسنة مختلفة وبصیغ متعددة:

فمنها: ما جاء بصیغة لولا هؤلاء ( زرارة ومحمد بن مسلم والحلبی وبرید بن معاویة وغیرهم) لاندرست آثار النبوة (1) .

ومنها: ما جاء بصیغة مثالیة وهی ان هؤلاء أمناء الله علی حلاله وحرماه مشیرا إلی طائفة خاصة من الرواة (2) .

ومنها: ما جاء بصیغة أن هؤلاء حفظة الدین مشیرا الی فئة مخصوصة (3) .

ومنها: ما ورد إذا أردت حدیثا فعلیک بهذا الجالس (4) (وهو زرارة او محمد بن مسلم).

ومنها: ما جاء بصیغة ما یمنعک من الرجوع إلی ومحمد بن مسلم فإنه قد سمع من أبی أحادیث وکان عنده وجیها (5) .

ومنها: ما ورد بصیغة ممن آخذ معالم دینی من زکریا بن آدم القمی فإنه مأمون علی الدین والدنیا (6) .

وهکذا غیرها مما قد ورد بألسنة مختلفة ومتعددة وبصیغ خاصة.

وتقریب الاستدلال بها أنه لا شبهة فی أن أشخاص هؤلاء لا خصوصیة لها ولا موضوعیة فاحتمال أن لشخص زرارة أو شخص محمد بن مسلم دخل فی حجیة أخبارهم غیر محتمل وإنما الحجیة لأخبارهم من جهة الأوصاف الطارئة علیهم من الأمانة علی حلال الله وحرامه ووصف حفظة الدین ووصف أنه لولاهم لاندرست آثار النبوة، فهذ التعبیرات واضحة الدلالة علی أن ملاک حجیة اخبارهم هی هذه الأوصاف.

ص: 42


1- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص142، باب11، من أبواب صفات القاضی، ح14، ط آل البیت.
2- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص142، باب11، من أبواب صفات القاضی، ح14، ط آل البیت.
3- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص150، باب11، من أبواب صفات القاضی، ح43، ط آل البیت.
4- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص143، باب11، من أبواب صفات القاضی، ح19، ط آل البیت.
5- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص144، باب11، من أبواب صفات القاضی، ح23، ط آل البیت.
6- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص146، باب11، من أبواب صفات القاضی، ح27، ط آل البیت.

ولکن یمکن المناقشة فی ذلک: من جهة أن حجیة أخبار هؤلاء وإن کانت من جهة توفر هذه الأوصاف فیهم واقعا ولکن هذه الطائفة فی مقام بیان أرقی مرتبة من مراتب الوثاقة وهی الوثاقة الواقعیة التی ثبت بنص الإمام(ع) وتصریحه، وحینئذ یمکن البناء علی حجیة أخبارهم من هذ الجهة. ولکن التعدی من مورد هذه الروایات وهو حجیة روایات خصوص هؤلاء إلی حجیة خبر کل ثقة ولو ثبتت حجیته ظاهرا بتوثیق الشیخ أو الکلینی أو النجاشی او الصدوق بحاجة إلی قرینة لأن هذا التعدی لیس مطابقا للأصل بل هو مخالف للأصل، وحینئذ یکون بحاجة إلی قرینة ولا قرینة فی هذه الروایات لا فی نفسها ولا من الخارج.

ومن هنا لا یمکن الاستدلال بهذه المجموعة علی حجیة أخبار الآحاد مطلقا أو علی حجیة أخبار الثقة مطلقا وإن کانت وثاقته ثابتة ظاهرا لا واقعا.

ثم أن هذه المجموعة لا یبعد أن تکون متواترة معنویا وإن لم تکن متواترة لفظا وهذا المعنی معنی الأمانة علی حلال الله وحرامه صادر من الإمام(ع) ولکن بهذه الصیغة أو بصیغة أخری فهو مشکوک ولا نعلم به.

والنتیجة: أنه لا یمکن الاستدلال بهذه المجموعة علی حجیة خبر الواحد مطلقا؛ لأنها لا تدل إلا علی حجیة قسم خاص من خبر الواحد لا علی حجیة خبر الواحد مطلقا کما هو محل الکلام فی المسألة ومحل النزاع.

المجموعة الثالثة من الروایات: وهذه المجموعة تارة وردت بلسان أعرفوا منازل الرجال (1) بقدر أحادیثهم عنّا، وأخری بلسان یا جمیل أرو هذا الحدیث لإخوانک (2) . فهل یمکن الاستدلال بهذه الطائفتین من هذه المجموعة او لا یمکن؟

ص: 43


1- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص149، باب11، من أبواب صفات القاضی، ح37، ط آل البیت.
2- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج27، ص88، باب11، من أبواب صفات القاضی، ح40، ط آل البیت.

اما الطائفة الأولی: فلا یمکن الاستدلال بها لأنها لم تبلغ من الکثرة حد التواتر وحینئذ تکون من الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بخبر الواحد وهو لا یمکن. وکذلک الطائفة الثانیة فهی خبر واحد ولا تبلغ من الکثرة حد التواتر ولیست قطعیة الصدور فلا یمکن الاستدلال بها علی حجیة خبر الواحد هذا مضافا إلی إمکان المناقشة فی دلالتها فإن ترغیب الإمام علی کثرة الروایات وانه موجب لنمو منزلة الرواة عند الناس لعله من جهة الرغبة فی انتشار الروایات بین الناس حتی یعرفوا الروایات الصادرة من الأئمة الأطهار(ع) من غیرها والغرض من وراء ذلک هو حصول العلم او الاطمئنان بصدور هذه الروایات لا حجیة خبر الواحد مطلقا.

واما الطائفة الثانیة وهی قوله(ع) یا جمیل أور الحدیث لإخوانک فإنه وإن دل علی وثاقة جمیل واقعا فیکون هذا من أرقی درجة الوثاقة ولکن لا یمکن التعدی من مورد هذه الطائفة إلی سائر الموارد لأنها تدل علی حجیة أخبار الأحاد فیما إذا کان الراوی واجدا لأرقی مراتب الوثاقة وهی الوثاقة الواقعیة ولا یمکن التعدی منها إلی غیرها.

والنتیجة: أن هذه المجموعة ایضا لا یمکن الاستدلال بها والعمدة فی ذلک أنها لم تبلغ حد التواتر.

أدلة حجیة خبر الواحد ____ السنة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ____ السنة

المجموعة الرابعة: قد وردت بلسان أمر المولی بکتابة الروایات والاهتمام بها وحفظها لأنها تفید فی المستقبل للأجیال القادمة وقد ورد ذلک فی روایات کثیرة ولکن هذه الروایات لا یمکن الاستدلال بها من جهة انها لا تبلغ من الکثرة حد التواتر ولا تکون قطعیة الصدور فلا یمکن الاستدلال بها علی حجیة خبر الواحد ولیست هی أخص المجموعات لتکون قطعیة الصدور إما بمضمونها او بلفظها فمن أجل ذلک هذه الروایات أخبار آحاد فلا یمکن الاستدلال بها علی حجیة خبر الواحد.

ص: 44

هذا مضافا إلی أن هذه الروایات لا تدل علی حجیة أخبار الآحاد إذ یمکن أن یکون الغرض من وراء الأمر بکتابة الروایات هو انتشار آثار والنبوة والأئمة(ع) بین الناس لیحصل العلم او الاطمئنان بها لا حجیتها مطلقا وتعبدا فمجرد الاهتمام بکتابة الروایات لا یدل علی أن هذه الروایات حجة تعبدا ومطلقا.

المجموعة الخامسة: روایات کثیرة أیضا عمدتها صحیحة الحمیری وهی روایة طویلة ورد فی ذیلها:( قَالَ : سَأَلْتُهُ وقُلْتُ : مَنْ أُعَامِلُ؟ أَوْ عَمَّنْ آخُذُ؟ وقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ لَهُ: الْعَمْرِیُّ ثِقَتِی ؛ فَمَا أَدّی إِلَیْکَ عَنِّی ، فَعَنِّی یُؤَدِّی ، ومَا قَالَ لَکَ عَنِّی ، فَعَنِّی یَقُولُ ؛ فَاسْمَعْ لَهُ وأَطِعْ ؛ فَإِنَّهُ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ)

وهذه الروایة واضحة الدلالة علی حجیة قول الثقة وقد ورد فی الفقرة الثانیة فیها: وَأَخْبَرَنِی أَبُو عَلِیٍّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ علیه السلام عَنْ مِثْلِ ذلِکَ ، فَقَالَ لَهُ الْعَمْرِیُّ وَابْنُهُ ثِقَتَانِ ؛ فَمَا أَدَّیَا إِلَیْکَ عَنِّی ، فَعَنِّی یُؤَدِّیَانِ ، ومَا قَالَا لَکَ ، فَعَنِّی یَقُولَانِ ؛ فَاسْمَعْ لَهُمَا وأَطِعْهُمَا ؛ فَإِنَّهُمَا الثِّقَتَانِ الْمَأْمُونَانِ) (1) .

فیقع الکلام فی هذه الصحیحة تارة فی سندها وأخری فی دلالتها.

أما سندها فإن هذه الصحیحة من الصحاح الأعلائیة وهی فی اصطلاح أهل الرجال هو أن راویها إمامیا ومزکاً بأکثر من عدلین وهذه الروایة کذلک فإن الراوی الأول هو الکلینی علیه الرحمة وجلالة قدره وثقته وأمانته علی الروایات معروفة ومشهورة ومتفق علیها بین الأصحاب ولا شبهة فیه فإنه مزکاً بأکثر من عدلین. والراوی الثانی الذی یروی عنه الکلینی راویان: أحدهما محمد بن عبد الله الحمیری وهو جلیل القدر وقد اتفق الاصحاب علی عدالته، والآخر هو محمد بن یحیی العطار وهو شیخ القمیین ووجههم ولا شبهة فی وثاقته وجلالة قدره وامانته علی الأحادیث والراوی المباشر عن الإمام(ع) هو عبد الله بن جعفر الحمیری ولا شبهة فی وثاقته وجلالة قدره فإن الأصحاب اتفقوا علی وثاقته وامانته وجلالة قدره فلا شبهة فی أنه مزکاً من العدول.

ص: 45


1- الکافی، الکلینی، ج2، ص125، ح1 (ط دار الحدیث).

فالواسطة بین الکلینی وبین الإمام علیه السلام واسطتین فقط أی واسطة قلیلة بینهما وهذه الروایة قد وصلت من الإمام(ع) إلی الکلینی بواسطتین.

قد یقال کما قیل: إن ضم جهة قلة الواسطة إلی هذه الروایة الصحیحة یوجب حصول العلم منها فإنها کالروایة القطعیة الصدور من الإمام(ع) وإذا ضممنا إلیها ان کل راوٍ مزکاً بأکثر من عدلین وجلالة قدره ووثاقته معروفة ومتسالمة علیها بین الأصحاب فالروایة تصبح کالروایة القطعیة أی تفید القطع بالواقع فعندئذ یمکن الاستدلال بها علی حجیة خبر الواحد.

ولکن الأمر لیس کذلک فإن هذه الروایات لا تخرج عن خبر الواحد ولیست متواترة وقطعیة لا تواتر لفظی ولا تواتر معنوی ولا اجمالی، وحصول القطع فی مورد ما لشخص ما من هذه الروایة فهو بسبب ذاتی لا بسبب نوعی أی یحصل القطع له لخصوصیة ذاتیة فی هذه الشخص من جهة حسن ظنه وما شاکل ذلک ولا یحصل القطع من هذه الروایة لشخص آخر، فی حین أن الروایة لو کانت قطعیة الصدور فهی قطعیة بالنسبة الی الجمیع لا بالنسبة الی شخص تفید القطع دون شخص آخر، فإنْ أفادت القطع لشخص ما دون آخر فلا محالة یکون مستندا الی خصوصیة ذاتیة لا خصوصیة نوعیة توجب ذلک.

فإذن لا یمکن الاستدلال بهذه الصحیحة وما شاکلها علی حجیة أخبار الآحاد.

هذا من ناحیة.

ومن ناحیة اخری فقد ورد فی هاتین الفقرتین المذکورتین الأمر بالسماع ( فاسمع لهما واطعهما فإنهما الثقتان المأمونان) ولا شبهة فی أن هذا الأمر بالإطاعة والسماع لیس امرا مولویا نفسیا لأنه غیر معقول ولا أمرا غیریا فیدور بین کونه امرا طریقیا او أمرا إرشادیا ولا ثالث لهما.

وذکرنا ان المراد من الأمر الطریقی هو جعل الحکم الطریقی من قبل المولی ولا شأن له غیر الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من الملاکات والمبادئ اللزومیة فی موارد الاشتباه والالتباس وإلا فلا مثوبة علی موافقة الأمر الطریقی ولا عقوبة علی مخالفته.

ص: 46

والأمر الطریقی هذا کوجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص أو الشبهات الحکمیة بعد الفحص عند الإخباریین وفی الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالی والغرض من هذه الوجوب الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات اللزومیة فی موارد الاشتباه والالتباس، وکجعل الحجیة للأمارات فی هذه الموارد.

وعندئذ تدل هذه الروایة علی حجیة أخبار الثقة ولکن فیما إذا کانت وثاقته واقعیة کالعمری وابنه وما شاکلهما ولا یمکن التعدی عن مورد هذه الصحیحة إلی حجیة کل خبر ثقة وإن کانت وثاقته ثابتة ظاهرا لا واقعا، فإن التعدی بحاجة إلی قرینة ولا قرینة علی ذلک.

واما إذا کان هذا الأمر أمرا إرشادیا فعندئذ لا تدل هذه الصحیحة علی حجیة أخبار الآحاد بل مفادها الإرشاد إلی حجیة أخبار الثقة فی المرتبة السابقة بالسیرة القطعیة من العقلاء الجاریة علی العمل بها الممضاة شرعا فمفاد هذه الصحیحة إرشاد إلی أن حجیة اخبار الثقة ثابتة فی الواقع بقطع النظر عن هذه الصحیحة بالسیرة القطعیة من العقلاء الممضاة شرعا.

وحینئذ لا یمکن الاستدلال بهذه الصحیحة علی حجیة اخبار الثقة.

ونظیر ذلک صحیحة محمد بن عیسی عن الرضا(ع) وقد ورد فیها (قال: قال : قلت :لا أکاد أصل إلیک أسألک عن کلّ ما أحتاج إلیه من معالم دینی ، أفیونس بن عبد الرحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی ؟ فقال : نعم) (1)

فإن هذه الصحیحة فی مقام بیان الصغری واما الکبری وهی حجیة أخبار الثقة فهی ثابتة فی المرتبة السابقة ببناء العقلاء الممضی شرعا وهذه الصحیحة فی مقام إثبات الصغری فإذا کان یونس بن عبد الرحمن ثقة فأخباره حجة وتنطبق علیه الکبری وهی حجیة أخبار الثقة وحینئذ یکون مفاد هذه الصحیحة الإرشاد إلی حجیة أخبار الثقة وهی فی مقام إثبات الصغری وأما الکبری فهی معلومة ومرتکزة فی الأذهان ولهذا سأل عن وثاقة یونس لا عن حجیة خبره لأن حجیة خبر الثقة أمر مرتکز فی الأذهان.

ص: 47


1- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج27، ص147، باب11 من أبواب صفات القاضی، ح33(آل البیت).

هذا تمام کلامنا فی الاستدلال بالروایات.

وإلی هنا قد تبین أن لا شیء من الآیات المبارکة والروایات التی ادعی دلالتها علی حجیة أخبار الآحاد یدل علی حجیتها.

وبعد ذلک یقع الکلام فی الاجماع.

أدلة حجیة خبر الواحد ____ الاجماع بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ____ الاجماع

کان کلامنا فی أدلة حجیة خبر الواحد وقد تقدم الکلام فی الاستدلال بالکتاب والسنة، وقد انتهی کلامنا إلی الاستدلال بالإجماع، فقد یستدل علی حجیة خبر الواحد بالإجماع ونقصد به أعم من الإجماع القولی والإجماع العملی.

أما الإجماع القولی: فإن أرید بالإجماع الإجماع المنقول بخبر الواحد فلا یمکن الاستدلال به علی حجیة خبر الواحد؛ لأنه بمثابة خبر الواحد وقد تقدم أن الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بخبر الواحد غیر ممکن لاستلزامه توقف الشیء علی نفسه وعلیّة الشیء لنفسه وهو مستحیل، فالاستدلال علی حجیة خبر الواحد بالإجماع المنقول بخبر الواحد غیر ممکن.

وأما الإجماع المحصّل: بین العلماء من المتقدمین والمتأخرین فلیس بإمکاننا إحراز مثل هذا الإجماع، إذ لو فرضنا ثبوت مثل هذا الإجماع بین المتأخرین سواء فی المسائل الفقهیة أو فی المسائل الأصولیة کحجیة خبر الواحد، فلا طریق لنا إلی إحراز أن هذا الإجماع قد وصل إلی المتأخرین من الفقهاء المتقدین، ولا طریق لنا إلی إحراز موافقة المتقدمین للمتأخرین فی حجیة خبر الواحد، إذ المنقول فی کتب المتأخرین إنما هی فتاوی العلماء المتقدمین والفتوی لا تدل علی أن مدرکها فی المسألة الاجماع؛ لأنه کما یمکن أن یکون مدرک الفتوی الاجماع کذلک یمکن ان یکون مدرکها غیر الاجماع، والمنقول فی کتب المتأخرین هو فتاوی المتقدمین لا إجماعاتهم فمن أجل ذلک لا یمکن إحراز موافقة المتقدمین للمتأخرین فی دعوی الاجماع. کما أن لیس للمتقدمین کتب استدلالیة بین أیدینا حتی نستطیع إحراز استنادهم إلی الإجماع، إما لأنه لیس لکل واحد منهم کتاب استدلالی أو کان ولکنه لم یصل إلینا حتی نرجع إلیه ونحرز انه موافق للإجماع او لیس موافقا له.

ص: 48

وعلیه: فلیس لنا طریق إلی إحراز أن الاجماع الثابت بین المتأخرین قد وصل إلیهم من العلماء المتقدمین فضلا عن وصول هذا الاجماع من زمن الأئمة علیهم السلام إلینا یدا بید وطبقة بعد الطبقة، فلا أثر لهذا الاجماع، لأن الاجماع فی نفسه لا یکون حجة وإنما حجیته من جهة وصوله إلینا من زمن الأئمة(ع) یدا بید وطبقة بعد الطبقة، وقد عرفت أنه لا طریق لنا إلی إحراز ذلک.

فالنتیجة: أن الاجماع الثبات بین المتأخرین لا یمکن إحراز ثبوته بین المتقدمین وانه قد وصل منهم إلینا کذلک، فضلا عن ثبوت هذا الاجماع بین أصحاب الأئمة(ع) ووصوله إلینا یدا بید، ولا فرق فی ذلک بین الاجماع فی المسائل الفقهیة والاجماع فی المسائل الأصولیة کحجیة خبر الواحد.

وأما الاجماع العملی: کعمل الفقهاء المتأخرین جمیعا بأخبار الثقة فأیضا الأمر کذلک، ولکن لا یمکن إحراز موافقة المتقدمین لهم فی ذلک، بل نعلم بمخالفة المتقدمین لهم فی ذلک؛ فإن السید المرتضی وغیره لا یقولون بحجیة اخبار الآحاد وإن کانت من الثقات، فالإجماع العملی غیر ثابت بین العلماء المتأخرین والمتقدمین فضلا عن وصوله من زمن الأئمة(ع) إلینا.

فمن أجل ذلک لا یمکن الاعتماد علی الاجماع فی شیء من المسائل الفقهیة ولا فی المسائل الأصولیة.

ولکن مع ذلک قد یستدل علی حجیة خبر الواحد بعدة طرق ووجوه:

الوجه الأول: أن الروایات المتقدمة الواردة بألسنة مختلفة وبعناوین متعددة تدل علی اهتمام الأصحاب وعلماء الطائفة بها فی مقام العمل ومن الواضح أنه من غیر المحتمل أنهم لا یعملون بها إلا إذا کانت قطعیة بالتواتر أو بالقرائن الخارجیة، بل لا شبهة فی أنهم یعملون بالروایات التی یکون رواتها من الثقات فی مقابل عدم عملهم بروایات المجهولین أو بروایات الکذابین والوضاعین، ومن الواضح أن اهتمام الأصحاب وعلماء الطائفة بهذه الروایات فی مقام العمل کاشف عن قیام سیرتهم علی ذلک ووصولها إلینا یدا بید وطبقة بعد الطبقة.

ص: 49

ولکن الجواب عن ذلک: واضح.

أولا: انه لا طریق لنا إلی إحراز وصول هذه السیرة من زمن أصحاب الأئمة(ع) إلینا، ولیس بإمکاننا إثبات هذه السیرة المتشرعیة بین أصحاب الأئمة وصولها إلینا یدا بید وطبقة بعد الطبقة.

وعلی تقدیر تسلیم ذلک إلا أنه من المحتمل أن اهتمام الأصحاب بالعمل بهذه الروایات وعمل علماء الطائفة بها یکشف عن وجود السیرة، ولکن کونها سیرة متشرعیة أو سیرة عقلائیة فهذا ما لا یمکن کشفه من قیام هذه السیرة، إذ لعل هذه السیرة امتداد لسیرة العقلاء المرتکزة فی أذهانهم من العمل بأخبار الثقات وهذه السیرة ممضاة شرعا وبعد الإمضاء تصبح السیرة العقلائیة سیرة متشرعیة.

فاهتمام الأصحاب بهذه الروایات جمیعا وعمل علماء الطائفة بها لو فرض أنه کاشف عن قیام السیرة بین الأصحاب ولکن لا یمکن إحراز أنها سیرة متشرعیة مستحدثة من زمن أصحاب الأئمة(ع) من مجرد قیام السیرة علی ذلک بین أصحاب الأئمة(ع) لاحتمال أنها سیرة العقلاء الجاریة علی العمل بأخبار الثقة الممضاة شرعا، وبعد إمضائها تتولد سیرة متشرعیة علی العمل بأخبار الثقة، فعمل الأصحاب بها لا یکون کاشف عن أنها سیرة مستحدثة متشرعیة.

الوجه الثانی: أن عمل العلماء بأخبار الثقة فی تمام أبواب الفقه من البدایة إلی النهایة، لا یمکن أن یکون جزافاً، ولا یحتمل أن یکون مدرک هذا العمل الروایات القطعیة الواصلة إلیهم، إذ لو کانت هناک روایات قطعیة فی جمیع أبواب الفقه لکانت معروفة وواضحة بینهم ولکانت مدونة فی کتبهم مع أنه لا عین ولا أثر لها.

والجواب عن ذلک: أن هذا الوجه إنما یتم بتمامیة مقدمتین:

المقدمة الأولی: ثبوت أن هناک إجماع بین الأصحاب والفقهاء من المتقدمین والمتأخرین علی العمل بأخبار الثقة فی تمام أبواب الفقه.

ص: 50

المقدمة الثانیة: أن لا یکون لهذا الاجماع مدرک.

ولکن کلتا المقدمتین غیر صحیحة.

أما المقدمة الأولی: فهی غیر تامة من جهة أن جماعة من المتقدمین وبعض المتأخرین لا یرون العمل بأخبار الثقة، وأما الروایات الموجودة فی الکتب الأربعة فهی وإن کانت أخبار آحاد صورة ولکنها قطعیة الصدور ولیست بأخبار آحاد حقیقة.

ومن هنا لا یکون هناک إجماع بین المتقدمین والمتأخرین علی ذلک.

وأما المقدمة الثانیة: فمن المحتمل أن یکون مدرک هذا الاجماع أحد الأدلة المتقدمة أو السیرة العقلائیة، وحینئذ لا یکون مثله کاشفا عن وجود سیرة متشرعة بین أصحاب الأئمة(ع) لأنه محتمل المدرک.

أدلة حجیة خبر الواحد _____ السیرة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد _____ السیرة

الوجه الثالث: أنّا نعلم وجدانا أن سیرة الأصحاب فی زمن الرسول الأکرم(ص) وفی زمن الأئمة(ع) جاریة علی العمل بأخبار الثقة، والنکتة فی ذلک أنه لا یمکن لکل فرد الوصول إلی النبی الأکرم(ص) أو إلی أحد من الأئمة الأطهار(ع) وأخذ الوظائف الدینیة منهم مباشرة؛ إذ لیس ذلک میسورا لکل فرد من الأصحاب الموجودین فی المدینة المنورة فضلا عمن کان فی البلاد البعیدة، وحینئذ یکون بطبیعة الحال جریان سیرتهم علی العمل بأخبار الثقة فی ذلک، وهذه هی سیرة المتشرعة الثابتة بین أصحاب الأئمة الأطهار(ع) ونحن نعلم بهذه السیرة وجدانا.

والجواب عن ذلک: ان هذا الوجه وإن کان صحیحاً ولا شبهة فیه؛ لأن لیس لکل فرد من الأفراد الموجودین فی المدینة المنورة تیسر الوصول إلی النبی الأکرم(ص) أو أحد الأئمة الأطهار(ع) وأخذ معالم الدین والوظائف الدینیة منهم(ع) مباشرة ومن هنا جرت سیرتهم علی العمل بأخبار الثقة.

إلا أن هذه السیرة لیست سیرة متشرعیة حادثة بین أصحاب الأئمة(ع) بل هذه السیرة سیرة العقلاء الثابتة قبل وجود الشرع والشریعة، وبعد وجود الشرع یعمل الناس بحسب ارتکازاتهم بأخبار الثقة من دون الالتفات إلی أن هذا العمل صحیح شرعا أم لا.

ص: 51

نعم سکوت النبی الأکرم(ص) والأئمة(ع) وعدم منعهم عن العمل بهذه السیرة إمضاء لها فإذا کانت ممضاة من قبل الشرع فهی سیرة شرعیة بعد الإمضاء.

والفرق بین سیرة العقلاء وبین سیرة المتشرعة أن سیرة المتشرعة مستندة إلی الشرع ولیست لها سابقة وأمر مستحدث ومستند إلی وجود الشرع وأما سیرة العقلاء فهی مستندة علی المصالح العامة لدی العقلاء المرتکزة فی أذهانهم وموجودة قبل وجود الشرع ولا تکون مستندة إلی الشرع.

هذا هو الفارق بین السیرتین.

وإلی هنا قد تبیّن أنه لا یمکن الاستدلال علی حجیة خبر الواحد بالسیرة المتشرعة فإن هذه السیرة لا دلیل علی ثبوتها فی زمن الأئمة(ع) والثابت إنما هو سیرة العقلاء.

وینتهی الکلام إلی سیرة العقلاء.

ولا شبهة فی أن سیرة العقلاء جاریة علی العمل بأخبار الثقة فی الأحکام المتشرعة الموجودة بین الموالی والعبید سواء کانوا الموالی من الموالی الحقیقیة أم کانوا من الموالی العرفیة، وحیث أن هذه السیرة هی عبارة عن عمل العقلاء، ولا یمکن أن یکون عملهم بدون مبرر وسبب ونکتة؛ لأن کل إنسان واعی وعاقل لا یمکن ان یعمل تعبدا وجزافاً وبدون سبب وداع ومبرر، فلا محالة یکون کل فاعل صادر من الإنسان الواعی والعاقل ذا سبب وله مبرر ولا یمکن أن یکون تعبدا وجزافاً، إذ التعبد أنما یتصور فی الأحکام الشرعیة بین المولی والعبید، لأن العبد لا بد له من العمل بالأحکام الصادرة من الشرع تعبدا أدرک مصلحتها أو لم یدرکها ویعلم ملاکها أو لم یعلم فیجب علیه امتثال أوامر المولی والاجتناب عن نواهیه، فالتعبد إنما یتصور فی الأحکام الشرعیة بین الموالی والعبید واما فی الأفعال الخارجیة التی لا ترتبط بالشرع فلا یمکن صدور عمل من الإنسان الواعی العاقل المختار تعبدا وجزافا بدون أی مبرر، فسیرة العقلاء هی عملهم فلا یمکن أن تکون بدون مبرر وسبب ونکتة تبرر هذه السیرة. هذا من ناحیة.

ص: 52

ومن ناحیة أخری الإنسان بحکم علاقته بالآخرین ____ سواء کانت هذه العلاقة من نوع العلاقة بین الموالی والعبید (الموالی الحقیقة أو من الموالی العرفیة) أم کانت هذه العلاقة من نوع العلاقة بالمجتمع بکافة طبقاته من الطبقات العرضیة والطولیة ____ لا یمکن له العمل بالعلم الوجدانی فی میادین هذه العلاقات وحینئذ لا یکون له إلا العمل بالأمارات الظنیة الکافیة فی إشباع حاجة الإنسان، وهی أخبار الثقة، وأخبار الثقة لا شبهة فی حجیتها فی میادین العلاقات فیما إذا لم یکن المطلوب فیها الوصول إلی الواقع، کما هو الحال فی الأحکام الشرعیة بین المولی والعبید، فإن هَمّ العبد فی هذه الموارد تحصیل الأمن من الإدانة والعقوبة لا الوصول إلی الواقع، فعمله بخر الثقة من حیث أنه حجة سواء طابق الواقع أم کان مخالفا للواقع باعتبار أن عمله به یوجب له الأمن من الإدانة والعقوبة وإن کان مخالفا للواقع.

واما فی موارد علاقته بالمجتمع فیختلف الحال فإن فی هذه الموارد قد لا یکون خبر الثقة حجة والناس لا یعملون به وإنما یعملون بالعلم والاطمئنان فقط کما فی التاجر فإنه لا یتاجر فی شیء إلا بعد حصول الاطمئنان بالنفع وعدم الضرر ولا یکون خبر الثقة حجة إلا إذا أفاد الاطمئنان وحینئذ یکون العمل بالاطمئنان لا بخبر الواحد، لأن معنی حجیة خبر الثقة هو العمل به وإن کان لا یفید الظن بل وأن کان الظن غیر المعتبر علی خلافه فمع ذلک یکون خبر الثقة حجة ومؤمن من الإدانة والعقوبة.

وکذلک فی الأسواق المالیة؛ فالتبادلات والتعاملات فی هذه الأسواق کلها مبنیة علی العلم والاطمئنان ولا یعتمد علی أخبار الثقة بما هی أخبار الثقة إلا إذا أفادت الاطمئنان.

والنتیجة أن أخبار الثقة فی الموضوعات الخارجیة وفی علاقة الإنسان بالمجتمع بتمام أصنافه وطبقاته لا یکون حجة.

ص: 53

نعم هو حجة فی بعض الموارد فی الموضوعات الخارجیة، وقد لا یکون حجة وإنما الحجة هو البینة دون خبر الثقة کما فی الأعراض.

وکیف ما کان فخبر الثقة إنما یکون حجة فی الأحکام الشرعیة التی لا یکون المطلوب فیها الوصول إلی الواقع بل تحصیل الأمن من العقوبة والانقیاد إلی المولی وطاعته، والانقیاد والطاعة یحصلان وإن لم یکن العمل بخبر الثقة مطابق للواقع، وأما فیما کان المطلوب فیه هو الوصول إلی الواقع فقد یکون خبر الثقة حجة وقد لا یکون حجة، والوصول إلی الوقع إما بالعلم الوجدانی أو بالاطمئنان والمفروض أن خبر الثقة لیس علما وجدانیا ولیس اطمئنانا. نعم قد یفید الاطمئنان فعندئذ یکون الاطمئنان هو الحجة لا خبر الثقة.

هذا من ناحیة ثانیة.

ومن ناحیة ثالثة ان کل أمارة محفوفة بنقطتین مضعفتین:

النقطة الأولی: احتمال الکذب، أی ان هذه الأمارة کاذبة ولیس مطابقة للواقع.

النقطة الثانیة: احتمال الخطأ والاشتباه فی المخبر.

وفی حال کونها من الثقة فتسقط کلتا النقطتین.

أما النقطة الأولی وهی احتمال کذب الأمارة فهو مدفوع بوثاقة المخبر، لأن المخبر إذا کان ثقة فهو لا یکذب.

وأما النقطة الثانیة وهو احتمال الاشتباه والخطأ فهو مدفوع بأصل عقلائی، وهو ان کل فعل صادر عن إنسان عاقل ومختار لا یمکن حمله علی أنه صدر اشتباها أو خطأً لأن مقتضی أصالة عدم الخطأ والاشتباه هو عدم خطأه واشتباهه وهو أصل عقلائی ثابت بالسیرة العقلائیة الجاریة علی العمل به.

فیکون خبر الثقة حجة من هذه الناحیة لسقوط کلتا النقطتین المضعفتین.

ثم أن سیرة العقلاء سیرة مرتکزة فی الأذهان وثابتة فی أعماق نفس الإنسان لأنه یعمل بخبر الثقة بدون أی تأمل وتوقف علی أی مقدمة خارجیة أو نکتة کذلک فإذا علم أن المخبر ثقة فهو یعمل بخبره من دون أی التفات لشیء آخر، وقد ورد فی جملة من الروایات ما یؤکد ذلک ففی الوسائل هکذا: (قال : قلت :لا أکاد أصل إلیک أسألک عن کلّ ما أحتاج إلیه من معالم دینی ، أفیونس بن عبد الرحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم دینی ؟ فقال : نعم. (1) ( فإنه یدل علی أن حجیة خبر الثقة أمر مفروغ عنه ولهذا یکون السؤال عن وثاقته لا عن حجیة خبره، فهذه الروایات تدل علی أن حجیة خبر الثقة أمر مرتکز بین العقلاء وجاریة بین الناس ومستمرة بعد الشرع والشریعة والناس یعملون بها من دون الالتفات إلی أی شیء آخر، فلو کان العمل بخبر الثقة مخالفا للأغراض الشرعیة لکان علی النبی(ص) والأئمة الأطهار(ع) الردع عن ذلک والمنع منه صراحة بل فی کل مناسبة وفی کل اجتماع حتی یذهب هذا الارتکاز من أذهان الناس مع أنه لم یصدر منهم(ع) ردع عن العمل بهذه السیرة.

ص: 54


1- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج27، ص147، أبواب صفات القاضی، باب11، ح33، طآل البیت.

أدلة حجیة خبر الواحد ______ السیرة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ______ السیرة

إلی هنا قد تبیّن أنه لا شبهة فی أن سیرة العقلاء جاریة علی العمل بأخبار الثقة فی الشبهات الحکیمة وکذلک فی الشبهات الموضوعیة.

وأما فی الموضوعات الخارجیة فیختلف الحال فیها. فإن کان المطلوب الوصول إلی المصالح الواقعیة والاجتناب عن المفاسد فلا یکون خبر الثقة بما هو خبر ثقة حجة والعمل فیها إنما هو بالعلم الوجدانی أو بالاطمئنان وهذا یختلف باختلاف الموضوعات.

وینبغی لنا التنبیه علی مجموعة من المقدمات:

المقدمة الأولی: أن سیرة المتشرعة تفترق عن سیرة العقلاء؛ فإن السیرة العقلائیة تبتنی علی أحد ملاکین:

الملاک الأول: أن ما بنی علیه العقلاء وما جرت علیه سیرتهم لا بد أن یکون أمرا مرتکزا فی الأذهان وثابتا فی أعماق النفوس وموافقا للجبلّة والفطرة.

الملاک الثانی: المصلحة العامة التی لها دخل فی حفظ النظام الموجود بین الموالی والعبید؛ فإن تلک المصالح ملاک لجریان سیرة العقلاء وبناءهم.

وأما سیرة المتشرعة فهی مستندة إلی الشرع فقط ومعلولة له ولیس لها ملاک آخر.

المقدمة الثانیة: أن سیرة المتشرعة إذا کانت مستحدثة کالسیرة بین الفقهاء من المتأخرین والمتقدمین فلیس بإمکاننا إحراز وجود هذه السیرة فی زمن المعصومین(ع) وانها وصلت إلینا بطرق قطعیة یدا بید وطبقة بعد طبقة، وإثباتها بحاجة إلی علم الغیب ومن هنا لا تکون هذه السیرة حجة. وأما سیرة العقلاء إذا کانت مستحدثة وحدثت بعد عصر التشریع کبناء العقلاء علی حق التألیف والطبع والنشر؛ فإنه بناء مستحدث من العقلاء علی حق التألیف والطبع والنشر بعد عصر التشریع فإن فی عصر التشریع لم یکن هناک تألیف وهو یعنی انتفاء الموضوع، والنقطة المهمة هی فی أنه هل بإمکاننا إثبات إمضاء الشارع لهذا البناء أو لا یمکن ذلک؟

ص: 55

ومن الواضح أنه لیس لنا طریق إلی إثبات إمضاء الشارع لهذا البناء وإقراره؛ إذ لا نعلم أن هذا الحق لو کان موجودا فی عهد التشریع لکان ممضیً من قبل الشارع، فإثبات حجیة هذه السیرة من العقلاء غیر ممکن.

ومن أجل ذلک قلنا: إن حق الطبع غیر ثابت فی الشریعة المقدسة وکذلک حق النشر فیجوز لکل من یملک کتابا ان یتصرف فیه بما یشاء من البیع والهدیة والطبع والنشر.

فحق الطبع لیس ثابتا ولیس للمؤلف حق المنع عن ذلک وإن کان المعروف بین الفقهاء أن هذا الحق ثابت ببناء العقلاء ولکن حیث أنه مستحدث فلا یمکن إثبات إمضاء هذا البناء إذ لا طریق لنا إلی ذلک.

نعم لو کان هذا الحق من الحقوق المرتکزة فی الأذهان الثابتة فی أعماق النفوس والموافقة للجبلة والفطرة فیمکن إثبات إمضائه واعتراف الشارع بهذا الحق بنحو القضیة الشرطیة أی أن هذا الحق لو کان ثابتا فی عهد التشریع لأمضاه الشارع.

ویستفاد هذا الإمضاء من عدم ردع الشارع عن العمل بهذا الحق، إذ لو کان بناء العقلاء علی هذا الحق منافیاً لأغراض التشریع وخطرا علیها وفیه مفاسد فبطبیعة الحال یقوم الشارع بالردع عنه بنحو القضیة الشرطیة، فیستکشف من عدم ردعه عنه ولو بنحو القضیة الشرطیة عن إمضائه له وإن کان هذا البناء متأخر.

ومثل هذا الأمر الارتکازی لا یختص بزمن دون زمن وبمکان دون مکان وبطائفة دون طائفة أخری، فلا یقاس ذلک بالتقالید والعادات بین الطوائف؛ فإن تقالید کل طائفة غیر تقالید طائفة أخری، وهی تختلف باختلاف الأزمن والأمکنة وباختلاف الطوائف، ومنشأ هذه التقالید خصوصیات الزمان والکان والطوائف وعوامل البیئة،

ولیس کذلک الأمر الارتکازی الثابت فی أعماق نفوس الناس فإنه لا یختلف باختلاف الناس والطوائف والأزمنة والأمکنة، فحجیة خبر الثقة مثلاً أمر مرتکز فی الأذهان فی کل زمان ومکان، فکما أنه مرتکز فی أذهان الناس قبل عهد التشریع فکذلک هو مرتکز فی أذهانهم بعد عهد التشریع.

ص: 56

وأما حق الطبع والنشر فلیس کذلک، فإن بناء العقلاء علی هذا الحق ناشئ من المصلحة الشخصیة المالیة للمؤلف ولیس ناشئا من العوامل الارتکازیة الثابتة فی أعماق نفوس الناس.

فمن أجل ذلک لا یمکن إثبات إمضاء هذا البناء. لأنه لو فرضنا وجود هذا البناء فی عهد التشریع لم یمکن لنا إثبات إمضاء الشارع له، فإن هذا الحق متمثل فی التألیف فقط وهو أمر معنوی لا یختلف باختلاف الأزمنة والأمکنة وغیر قابل للنقل والانتقال، وکذلک حق الطبع والنشر، لأن هذه الحقوق ثابتة لکل من یملک الکتاب، والإسلام إنما یعترف بملکیة ما هو نتاج عمل الإنسان وتعبه، کما إذا قام شخص بإحیاء أرض، فإن حیاة هذه الأرض نتیجة عمله وتعبه سواء کانت هذه الحیاة متمثلة فی البناء أو فی الزراعة أو فی التشجیر وهو انما یملک الحیاة فقط لأنها نتیجة عمله وتعبه وجهده وأما رقبة الأرض فلا یملکها، بل هی ملک للإمام(ع) وإنما یملک ما هو نتیجة عمله وهو حق الحیاة فی هذه الأرض، وکذلک من حاز الثروات الطبیعیة، فهو یملک ما هو نتیجة عمله وهو ما حازه من الثروات الطبیعیة، باعتبار أنه نتیجة عمله وتعبه ولا یعترف الإسلام بملکیة من استولی علی الأراضی الواسعة أو الثروات الطبیعیة الواسعة بالقوة، وإنما یعترف بملکیة ما هو نتیجة عمله وجهده، ومن الواضح أن نتیجة بذل جهد المؤلف وتعبه وهو التألیف فقط وهو أمر معنوی غیر قابل للنقل والانتقال. وأما حق الطبع والنشر فهو لیس نتیجة جهده وعمله وتعبه فمن أجل ذلک لا یکون مالکا لحق الطبع والنشر والتألیف ولیس له حق المنع عن طبع کتابه من شخص آخر إذا کان مالکا للکتاب فله أن یطبعه وینشره.

إلی هنا قد تبین أن مثل حق النشر والطبع والتألیف التی علیها بناء العقلاء فی الزمن المتأخر لیس بإمکاننا إحراز أن هذا البناء ممضیً شرعاً.

ص: 57

فالنتیجة أن حق الطبع والنشر والتألیف غیر ثابت شرعاً

أدلة حجیة خبر الواحد ___________ السیرة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ___________ السیرة

المقدمة الثالثة: الفرق بین سیرة المتشرعة وسیرة العقلاء، إذا کانت السیرة موجودة فی عصر التشریع فإن کانت السیرة سیرة المتشرعة فلا مجال للبحث عن إمضائها وعدم إمضائها وردعها وعدم الردع عنها وإن سیرة المتشرعة بنفسها حجة ومستندة إلی الشرع، ولا معنی للبحث عن إمضائها وعدم إمضائها، فإن هذا البحث فیه تهافت وتناقض لأن معنی البحث عن إمضائها انها لیست مستندة إلی الشرع ولیست حجة فی نفسها والمفروض أنها مستندة إلی الشرع بنفسها وحجة.

فمن أجل ذلک لا موضوع لهذا البحث إن کانت السیرة الموجودة فی عهد التشریع سیرة المتشرعة.

وأما لو کانت السیرة الموجودة فی عهد التشریع هی سیرة العقلاء فلهذا البحث مجال لأن سیرة العقلاء لیست مستندة إلی الشرع بل هی مستندة إلی عوامل أخری کالعوامل الارتکازیة أو المصالح العامة الارتکازیة، فالسیرة العقلائیة لیست مستندة إلی الشرع ولیست بنفسها حجة فلهذا یفحص عن ان الشارع ردع عنها ومنع عن العمل بها أو انها لیست بمردوع عنها بل هی ممضاة شرعا، فإذا أمضاها الشارع تحولت من السیرة العقلائیة البحتة إلی السیرة المتشرعیة.

المقدمة الرابعة: أن السیرة العقلائیة بما أنها مرتکزة فی الأذهان أی ناشئة من العوامل الارتکازیة فی الأذهان وفی أنفس الناس کالجبلة والفطرة، ومع فرض کون السیرة العقلائیة مخالفة للأغراض التشریعیة ولها خطر علی المصالح الدینیة وفیها مفاسد ففی مثل ذلک لا بد للشارع من الردع عنها، ولا یمکن ردعها ببیان واحد وإصدار نص واحد لأن إزالة هذا الارتکاز عن أنفس الناس وقلع جذوره منهم بحاجة إلی بیانات متعددة والتشدید والتأکید فی کل مناسبة وفی کل اجتماع حتی یمکن إزالة هذا الارتکاز من أنفس الناس وقلع جذوره وإلا فهی باقیة.

ص: 58

فإذن تبدیل هذا الارتکاز بالارتکاز الملائم للمصالح والأغراض الشرعیة بحاجة إلی بیانات متعددة والتأکید علی بیان مفاسد هذا الارتکاز ومدی خطورتها علی الأغراض التشریعیة.

هذا بالنسبة إلی أصل السیرة العقلائیة المرتکزة فی الأذهان.

النقطة الخامسة: فی حجیتها فإن حجیة هذه السیرة شرعا منوطة بإحراز إمضائها من الشارع، فإذا علمنا أن الشارع أمضی هذه السیرة فهی حجة وحینئذ تکون سیرة متشرعة بعنوان ثانوی وإن کانت سیرة عقلائیة بعنوانها الأولی، فإذا أحرزنا إمضائها وعدم صدور الردع عنها نعلم بانها حجة منجزة للواقع ومعذرة لأن هذه السیرة حجة وتدل علی حجیة خبر الثقة، وأن خبر الثقة بعد حجیته منجز عند مطابقته للواقع ومعذر عند عدم مطابقته للواقع.

وأما إذا شککنا فی إمضاء هذه السیرة فلا یمکن الحکم بحجیتها.

وما عن المحقق الأصفهانی (1) (قده) من أن هذه السیرة حجة حتی عند الشک فی الردع عنها وعند الشک فی إمضائها فهو غریب من مثله(قده) فإن الشک فی الإمضاء مساوق للشک فی حجیتها والشک فی الحجة مساوق للقطع بعدم الحجیة الفعلیة وعدم ترتیب آثار الحجیة علیها کما هو الحال فی الأمارات، فإن الشک فی حجیة الأمارة أی فی جعل الحجیة لها مساوق للقطع بعدم الحجیة الفعلیة وعدم ترتیب الآثار علیها.

إلی هنا قد تم الکلام فی المرحلة الأولی. وهی مرحلة حجیة سیرة العقلاء والفرق بینها وبین السیرة المتشرعیة، وقد تبین أن سیرة العقلاء ناشئة من العوامل الارتکازیة والثابتة فی أذهان الناس وانفسهم کالجبلة والفطرة.

وأما الکلام فی المرحلة الثانیة فهل الآیات الناهیة عن العمل بالظن کقوله تعالی: (إَنَّ الظَّنَّ لاَ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا) (2) أو قوله تعالی: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ) (3) وما شاکلهما من الآیات والروایات فهل هذه الآیات الناهیة عن العمل بالظن وتدل علی حرمة العمل به تصلح للردع عن هذه السیرة أو لا تصلح للردع عنها؟

ص: 59


1- نهایة الدرایة فی شرح الکفایة، المحقق الأصفهانی، ج3، ص248.
2- سورة یونس، آیة36.
3- سورة الأسراء، آیة36.

قد یقال کما قیل: انها تصلح للردع عن هذه السیرة، وأنها تدل علی حرمة العمل بالظن ولا شبهة فی أن الظن بإطلاقه یشمل جمیع أخبار الآحاد ومنها خبر الثقة فإن خبر الثقة لیس علما بل هو من أفراد الظن، فتشمله الآیات الناهیة عن العمل بالظن بإطلاقها وعندئذ نشک فی حجیة هذه الأخبار لصلوح هذه الآیات للردع عن هذه السیرة، ولا محالة حینئذ من دلالة هذه الآیات علی عدم حجیة اخبار الآحاد مطلقا ومنها أخبار الثقة بالمطابقة، ودلالتها علی الردع عن السیرة العقلائیة بالالتزام.

وقد أجیب عن ذلک بوجوه:

الوجه الأول: ما ذکرته مدرسة المحقق النائینی(قده) (1) من أن السیرة العقلائیة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة حاکمة علی هذه الآیات ومقدمة علی هذه الآیات ولا تصلح هذه الآیات لمعارضة السیرة.

وقد أفاد فی وجه ذلک: أن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی فالسیرة العقلائیة تدل علی أن أخبار الثقة علم غایة الأمر أنها علم تعبدا لا علم وجدانا وأخبار الثقة طریق إلی الواقع وکاشف عن الواقع وعلم بالواقع تعبدا، فإذا کانت أخبار الثقة علم تعبدا فحینئذ تکون هذه السیرة رافعة لموضوع هذه الآیات تعبدا وهذا هو معنی الحکومة لأن موضوع هذه الآیات هو الظن أو عدم العلم، والمفروض ان خبر الثقة علم تعبدا وبحکم الشارع.

ومن هنا لا بد من تقدیم السیرة علی هذه الآیات ولا تصلح هذه الآیات لردع عن هذه السیرة.

والجواب عن ذلک: قد تقدم منّا کثیرا حیث ذکرنا أن هذا المبنی لا یمکن الأخذ به ثبوتا وإثباتا.

أما ثبوتا فلأن الطریقیة التکوینیة غیر قابلة للجعل سواء کانت قطعیة ام کانت ظنیة، فطریقیة القطع قطعیة تکوینیة فهی غیر قابلة للجعل التشریعی ولا یمکن تکوین الشیء بالتشریع، فإن الجعل عین المجعول فلو أمکن تکوین الشیء بالجعل التشریعی لزم الخلف أی لزم کون الجعل التشریعی جعلا تکوینیا، کما أن الإیجاد عین الوجود فلا اختلاف بینهما إلا بالاعتبار ولهذا لا یعقل تکوین الشیء بالجعل التشریعی، فالجعل التشریعی لا یمکن ان یتعلق بالطریقیة التکوینیة، فالطریقیة التکوینیة ثابتة تکوینا بمقتضی عللها وأسبابها ولا یمکن تعلق الجعل التشریعی بها سواء کانت تلک الطریقیة ظنیة أم قطعیة.

ص: 60


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص115.

واما الطریقة الشرعیة فهی وإن کانت قابلة للجعل إلا أن معنی الطریقیة الشرعیة هو جعل الآثار من الوجوب أو الحرمة او ما شاکل ذلک لا جعل الطریقیة، فإن جعل الطریقیة لأخبار الثقة مجرد لقلقة لسان ولا یؤثر فی طریقیة أخبار الثقة لا تکوینا کما هو واضح ولا تشریعا نعم یؤثر فی جعل الآثار لهذه الطریقیة التکوینیة.

ومن هنا لا یمکن أن یکون المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی بل هو مجرد لقلقة لسان ولا یمکن تعلق الجعل التشریعی بالتکوین وإلا لزم الخلف کما تقدم لأن المجعول عین الجعل فالمجعول لو کان أمرا تکوینیا فالمجعول أیضا أمرا تکوینیا، ولا یعقل الاختلاف بینهما کالإیجاد والوجود.

هذا کله بحسب مقام الثبوت.

أدلة حجیة خبر الواحد _____ السیرة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد _____ السیرة

تحصّل مما ذکرنا أن الطریقیة التکوینیة سواء کانت قطعیة ام کانت ظنیة فهی غیر قابلة للجعل الشرعی إذ لا یمکن تکوین شیء بالجعل الشرعی لأن الجعل عین المجعول فلا یمکن ان یکون المجعول أمرا تکوینیا والجعل أمرا اعتباریا، فهذا غیر معقول، فلا یمکن جعل الطریقیة التکوینیة سواء کانت قطعیة أو ظنیة بالجعل التشریعی.

وأما الطریقیة الشرعیة فلیس لها وجود فی الخارج لأنها أمر اعتباری لا واقع موضوعی لها فی الخارج إلا فی عالم الاعتبار کسائر الأحکام الشرعیة، حیث أن الأحکام الشرعیة أمور اعتباریة لا واقع موضوعی لها فی الخارج إلا فی عالم الاعتبار والذهن، فمرجع جعل الطریقیة الشرعیة إلی جعل آثارها من الوجوب أو الحرمة أو نحوهما، ولأجل ذلک تقوم الأمارات مقام القطع الطریقی والقطع الموضوعی فی ترتیب الآثار فإن آثار القطع مترتبة علی الأمارة إذا کانت حجة.

ص: 61

هذا فی مقام الثبوت

وأما فی مقام الإثبات فلو سلمنا أن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی إلا أنه لا دلیل علی ذلک فی مقام الإثبات فإن الدلیل علی حجیة الأمارات إن کان هو الآیات الکریمة فهی لا تدل علی أکثر من أن الأمارات کأخبار الثقة حجة وأما أن الحجیة بمعنی الطریقیة والکاشفیة او الحجیة بمعنی المنجزیة والمعذریة أو بمعنی جعل الحکم الظاهری المماثل للحکم الواقعی فی صورة المطابقة والمخالف فی صورة عدم المطابقة أو تنزیل الأمارة منزلة العلم فلا تدل علی شیء من هذه الأقسام وإنما تدل علی الحجیة فقط.

هذا مضافا إلی ما ذکرناه سابقا من أن الآیات الکریمة قاصرة عن الدلالة علی حجیة أخبار الآحاد ومنها أخبار الثقة.

وأما الروایات فهی أیضا کذلک فعلی تقدیر دلالتها فإنما تدل علی أن الأمارات حجة کأخبار الثقة ولا تدل علی أن حجیتها بمعنی الطریقیة والکاشفیة أو بمعنی المنجزیة والمعذریة أو بمعنی آخر.

هذا مضافا إلی ما ذکرناه من أن الروایات أیضا قاصرة عن الدلالة علی حجیة أخبار الآحاد.

فالعمدة هی سیرة العقلاء، وهی الدلیل الوحید علی حجیة أخبار الثقة، وهذه السیرة قطعیة کما أن إمضائها قطعی ولا شبهة فیه ولهذا تکون مرتکزة فی الأذهان والأنفس وثابتة فی أعماق النفوس کالجبلة والفطرة.

ولکن من الواضح أن سیرة العقلاء عبارة عن عمل العقلاء بأخبار الثقة والعمل مجمل لا لسان له فلا یدل إلا علی حجیة السیرة ولا تدل السیرة علی أن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة فإن لسان السیرة لیس لسان الجعل؛ لأنه لا لسان لها، وهی إنما تدل علی أن خبر الثقة منجز إذا کان مطابقا للواقع ومعذر إذا کان مخالفا للواقع، ولا تدل علی أکثر من ذلک.

ص: 62

فلو سلمنا ان المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة وأنه أمر ممکن ثبوتا ولکن لا دلیل علی ذلک فی مقام الإثبات، إذ عمدة الدلیل علی حجیة اخبار الثقة سیرة العقلاء وهی لا تدل علی الجعل أصلاً وإنما تدل علی وجوب العمل بأخبار الثقة وأنها منجزة عند المطابقة ومعذرة عند عدم المطابقة.

هذا أولاً.

وثانیاً: مع الإغماض عن ذلک وتسلیم أن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة ولکن مع ذلک لا تکون السیرة حاکمة علی الآیات الناهیة فإن حکومة السیرة علی الآیات الناهیة مبنیة علی أن یکون مفاد الآیات الناهیة الحرمة التکلیفیة المولویة بأن یکون مفادها حرمة العمل بالظن حرمة تکلیفیة مولویة، والنهی عن العمل بالظن نهی مولوی تکلیفی.

وعلی هذا تصلح أن تکون السیرة حاکمة علی هذه الآیات المبارکة فإن الآیات المبارکة تدل علی حرمة العمل بالظن بنحو القضیة الحقیقیة، ومن الواضح أن القضیة الحقیقیة ترجع إلی قضیة شرطیة مقدمها وجود الموضوع وتالیها وجود المحمول وهو الجزاء.

فالآیة تدل علی حرمة العمل بشیء علی تقدیر کونه ظنا کما هو الحال فی سائر الأحکام الشرعیة، فالصلاة واجبة علی المکلف علی تقدیر کونه بالغا او عاقلا أو قادرا والحج واجب علی المکلف البالغ العاقل القادر علی تقدیر کونه مستطیعا فالاستطاعة بمثابة الجزاء، ومن الواضح ان القضیة الحقیقیة مفادها إثبات الحکم لموضوعها علی تقدیر ثبوت موضوعها فی الخارج وأما أن هذا التقدیر ثابت أو غیر ثابت فالقضیة لا تدل علی ذلک فإن قوله تعالی: ( لله علی الناس حج البیت ) مفاده مفاد القضیة الحقیقیة وتدل علی وجوب الحج علی المکلف البالغ العاقل القادر علی تقدیر کونه مستطیعا واما ان هذا التقدیر ثابت موجود فی الخارج أو لا فالقضیة لا تدل علی ذلک، وإنما تدل علی وجوب الحج علی تقدیر کونه مستطیعا وأما أن هذا التقدیر ثابت أو لیس بثابت فهی لا تدل علی ذلک.

ص: 63

وعلی هذا فالسیرة حاکمة علی هذه الآیات الناهیة فإن هذه الآیات تدل علی حرمة العمل بشیء علی تقدیر کونه ظنا أو غیر علم، وأما أن هذا التقدیر ثابت أو غیر ثابت فالقضیة لا تدل علی ذلک فإن القضیة الشرطیة تدل علی ثبوت حکمها لموضوعها علی فرض وجود موضوعها فی الخارج ولا تدل علی ثبوت موضوعها فی الخارج أو عدم ثبوته.

وعلی هذا فالآیات الناهیة تدل علی حرمة العمل بشیء علی تقدیر کونه ظنا والسیرة العقلائیة تدل علی أن خبر الثقة لیس بظن بل هو علم، فتکون السیرة رافعة لموضوع هذه الآیات الناهیة فإن الدلیل الحاکم رافع لموضوع الدلیل المحکوم تعبدا أو یوسع موضوع الدلیل المحکوم تعبدا کقوله(ع): (لا تشربه فإنه خمر مجهول) (1) فإنه موسع لدائرة الخمر والمفروض أن الدلیل المحکوم لا یدل علی ثبوت موضوعه حتی یکون منافیا للدلیل الحاکم بل الدلیل المحکوم ساکت عن ثبوت موضوعه وعدم ثبوته واما دلیل الحاکم فهو ینفی ثبوت موضوعه فی الخارج.

وعلی هذا تکون حکومة السیرة علی الآیات الناهیة مبنیة علی أن یکون مفادها الحکم التکلیفی المولوی.

ولکن الأمر لیس کذلک فإن مفاد الآیات الناهیة الإرشاد إلی عدم حجیة الظن وان الظن لیس بحجة لأن ما لا یکون علما فهو لیس بحجة سواء کان الظن متمثلا فی خبر الثقة أو فی غیره باعتبار أن خبر الثقة ظن ولیس بقطع.

وأما السیرة فتدل علی أن خبر الثقة حجة رغم أنه ظن فتقع المعارضة بینهما ، لأن الآیات الکریمة تنفی حجیة خبر الثقة باعتبار أنه من أفراد الظن والسیرة العقلائیة تثبت حجیة خبر الثقة فالتعارض بینهما بالتناقض وبالنفی والإثبات فتقع المعارضة بینهما فلا تصلح السیرة لأن تکون حاکمة علی الآیات الناهیة.

ص: 64


1- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج3، ص469، أبواب النجاسات، باب38 نجاسة الخمر والنبیذ، ح5، ط آل البیت.

وثالثا: مع الإغماض عن ذلک أیضا وتسلیم ان مفاد الآیة المبارکة الحرمة التکلیفیة المولویة، ولکن هذه الحرمة حرمة تشریعیة ولیست حرمة ذاتیة کحرمة شرب الخمر وما شاکلها، فحرمة العمل بالظن حرمة تشریعیة ومرجع هذه الحرمة إلی أن الاستناد إلی الظن فی مقام العمل الخارجی أو فی مقام الفتوی غیر جائز فهو تشریع ومحرم، وکذلک إسناد مؤداه إلی الشارع تشریع ومحرم وهذه الحرمة حرمة تشریعیة لا حرمة ذاتیة والحرمة التشریعیة تکشف عن أن الظن لیس بحجة فی المرتبة السابقة إذ لو کان الظن حجة جاز الاستناد إلیه فی مقام العمل الخارجی أو الافتاء وجاز إسناد مؤداه إلی الشارع سواء کان الوجوب أو الحرمة فحرمة التشریع تکشف عن عدم حجیة الظن فی المرتبة السابقة.

وعلی هذا فالآیات الکریمة تدل بالمطابقة علی حرمة العمل بالظن تشریعا وبالالتزام علی عدم حجیة الظن فتقع المعارضة بین المدلول الالتزامی للآیات المبارکة وبین المدلول المطابقی للسیرة.

فلا تصلح السیرة أن تکون حاکمة علی الآیات.

إلی هنا قد تبین أن السیرة لا تصلح أن تکون حاکمة علی الآیات.

أدلة حجیة خبر الواحد ______ السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد ______ السیرة العقلائیة

کان کلامنا فی الاستدلال بالسیرة العقلائیة علی حجیة خبر الثقة وظواهر الالفاظ فإنه لا شبهة فی أن السیرة العقلائیة قد جرت علی العمل بأخبار الثقة، کما أنه لا شبهة فی أنها ممضاة شرعها فإن هذه السیرة قد أصبحت مرتکزة فی أذهان الناس وثابتة فی أعماق نفسوهم ویعملون علی طبقها بطبیعتهم بدون أدنی منبه وتذکیر فإن الناس فی صدر الإسلام یعملون بأخبار الثقة بدون ان یلتفتوا إلی احتمال أن السیرة مردوعة من قبل الشارع فإنهم یعملون علی طبق ارتکازهم طبعا بدون أدنی منبه فلو کانت هذه السیرة مخالفة للأغراض التشریعیة وفیها مفاسد فبطبیعة الحال کان علی الشارع أن یردع عنها ویمنع عن العمل بها وبیان مفاسدها. فسکوت الشارع عن ذلک وعدم صدور الردع کاشف عن أنها لم تکن مخالفة للأغراض التشریعیة ولم یکن فی العمل بها مفاسد، فیکون سکوت الشارع کاشف قطعی عن إمضاء هذه السیرة.

ص: 65

ولکن قد یقال کما قیل إن هذه السیرة مردوعة بالآیات الناهیة عن العمل بالظن کقوله تعالی: (إَنَّ الظَّنَّ لاَ یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا) (1) وهکذا سائر الآیات الناهیة عن العمل بالظن فهی بإطلاقها تشمل أخبار الثقة أیضا لأنها أخبار ظنیة ولیست بقطعیة والعمل بها عمل بالظن، فیکون العمل بها مشمول للآیات الناهیة عن العمل بالظن وهذه الآیات تصلح أن تکون رادعة عن العمل بهذه السیرة.

وقد أجیب عن ذلک بوجوه:

الوجه الأول: ما ذکرته (2) مدرسة المحقق النائینی(قده) من أن سیرة العقلاء حاکمة علی الآیات الناهیة، لأن هذه السیرة تدل علی أن المجعول فی باب الأمارات هو طریقیة أخبار الثقة أی أن أخبار الثقة علم تعبدا، فالعمل بأخبار الثقة لیس عملا بالظن بل هو عمل بالعلم فمن أجل ذلک تکون السیرة حاکمة علی الآیات الناهیة ورافعة لموضوعها تعبدا.

ولکن ذکرنا أنه لا جعل ولا مجعول فی باب الأمارات، والسیرة العقلائیة لا تدل علی الجعل فإن السیرة عبارة عن عمل خارجی للعقلاء بأخبار الثقة ولا لسان للعمل لا لسان الجعل ولا لسان التنزیل.

ومع الإغماض عن ذلک فجعل الطریقة والعلم التعبدی لأخبار الثقة لا یمکن ثبوتا؛ لأنه إن أرید بالطریقیة المجعولة الطریقیة التکوینیة فجعلها غیر معقول لأن الجعل الشرعی الاعتباری لا یعقل أن یتعلق بالطریقیة التکوینیة لأن الجعل عین المجعول فالمجعول إذا کان أمرا تکوینیا فالجعل لا بد أن یکون امرا تکوینیا ولا یعقل أن یکون الجعل أمرا اعتباریا والمجعول أمرا تکوینیا، ففی الإیجاد والوجود لا یعقل أن یکون الإیجاد أمرا اعتباریا والوجود أمر تکوینی مع أن الإیجاد عین الوجود فی الخارج ولا اختلاف بینهما إلا بالاعتبار. هذا بحسب مقام الثبوت.

ص: 66


1- سورة یونس، آیة36.
2- أجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص115.

وأما فی مقام الإثبات فلا دلیل علی أن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة فإن عمدة الدلیل علی حجیة الأمارات کأخبار الثقة وظواهر الالفاظ السیرة القطعیة من العقلاء والسیرة عبارة عن عمل العقلاء والعمل لا یدل علی جعل شیء، فالسیرة العقلائیة لا تدل علی أن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی.

ومع الإغماض عن ذلک وتسلیم ان المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة مع ذلک لا تکون السیرة حاکمة علی الآیات الناهیة، لأن حکومة السیرة علیها مبنیة علی أن یکون مفاد الآیات الناهیة حرمة العمل بالظن حرمة تکلیفیة مولویة، إلا أن مفاد الآیات لیس الحرمة التکلیفیة المولویة، بل مفادها إرشاد إلی أن الظن لیس بحجة فالأمارات الظنیة لیست بحجة، فتقع المعارضة حینئذ بین الآیات الناهیة وبین السیرة العقلائیة، فالسیرة تدل علی حجیة أخبار الثقة بمعنی الطریقیة والآیات الناهیة تدل علی نفی الحجیة عن الظن وبإطلاقها تشمل أخبار الثقة أیضا.

فالظن لا یکون حجة بأی معنی کان سواء کان معنی الحجیة الطریقیة والکاشفیة أو معنی الحجیة المنجزیة والمعذریة أو معنی الحجیة جعل الحکم المماثل أو معنی الحجیة تنزیل الأمارات منزلة العلم الوجدانی فالآیة تنفی حجیة الظن بأی معنی کان للحجیة، وحینئذ تقع المعارضة بین سیرة العقلاء وبین الآیات الناهیة فإن السیرة تدل علی حجیة الأمارات کأخبار الثقة والآیات المبارکة تدل علی نفی حجیتها فإذن لا حکومة فی البین.

ومع الإغماض عن ذلک ایضا فإن مفاد الآیات المبارکة وإن کان الحرمة التکلیفیة إلا أنها حرمة تشریعیة ولیس بحرمة ذاتیة أی حرمة مستندة إلی التشریع ولیست مستندة إلی المفاسد الذاتیة، فالآیات تدل بالمطابقة علی حرمة العمل بالظن تشریعا وبالالتزام علی عدم حجیة الظن، فتقع المعارضة بین المدلول الالتزامی للآیات الناهیة والمدلول المطابقی للسیرة العقلائیة.

ص: 67

فالنتیجة ان ما ذکرته مدرسة المحقق النائینی ومنهم السید الاستاذ(قده) من الحکومة لا وجه له وأن السیرة لا تصلح أن تکون حاکمة علی الآیات الناهیة.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر: أن هنا إشکالا آخر وهو أن السیرة العقلائیة لا تصلح أن تکون حاکمة علی الآیات الناهیة إذ معنی الحکومة ان الدلیل الحاکم یتصرف فی مدلول الدلیل المحکوم سعة او ضیقا حیث أن الدلیل الحاکم ناظر إلی مدلول الدلیل المحکوم سعة کقولنا: الطواف فی البیت صلاة، والفقاع خمر استصغره الناس وما شاکل ذلک، أو إلی نفی الموضوع کقولنا لا ربا بین الوالد والولد، ولا ضرر ولا ضرار فی الإسلام وما شاکلهما، فالدلیل الحکام ناظر إلی مدلول الدلیل المحکوم سعة أو ضیقا.

والمعتبر فی الحکومة أن یکون الدلیل الحاکم والدلیل المحکوم صادرین من متکلم واحد أو ما کان بحکم المتکلم الواحد واما إذا کان الدلیل الحکام صادرا من متکلم ودلیل المحکوم صادر من متکلم آخر فلا معنی للحکومة بینهما.

وبکلمة أن المعتبر فی شرائط التعارض بین الدلیلین ____ سواء کان التعارض مستقرا أم کان غیر مستقر کما فی موارد الجمع الدلالی العرفی بین العام والخاص او المطلق والمقید وبین الظاهر والأظهر أو الظاهر والنص وبین الحاکم والمحکوم وبهذا لجمع یرتفع التعارض بینهما _____ أن یکون الدلیلان المتعارضان صادرین من متکلم واحد أو ما کان بحکم متکلم واحد فعندئذ یقع التعارض بینهما تارة بنحو التعارض المستقر وتارة بنحو غیر المستقر.

واما إذا صدر العام من متکلم والخاص من متکلم أخر فلا ارتباط بینهما حتی یحمل العام علی الخاص، او صدر ما دل علی وجوب شیء من متکلم وصدر ما دل علی إباحة ذلک الشیء من متکلم آخر فلا معنی للتعارض بینهما لأن مقصود المتکلم الأول الوجوب ومراد المتکلم الثانی الإباحة فلا تنافی بینهما.

ص: 68

وحدیث الأمة الأطهار مع النبی الأکرم(ص) بمثابة المتکلم الواحد بالنسبة إلی الشریعة المقدسة، فإن جمیعهم یخبرون عن الشریعة الواحدة ولهذا یقع التعارض بین ما صدر من الإمام الباقر(ع) وما صدر عن الصادق(ع) فإنهما بمثابة متکلم واحد وکلاهما یخبر عن الشریعة الواحدة فلأجل ذلک یقع التعارض بینهما إما بنحو المستقر أو بنحو غیر المستقر، کما إذا صدر من أحدهما عام وصدر من الآخر خاص فإنه یحمل العام علی الخاص فیجعل الخاص قرینة علی تخصیص العام.

وفی المقام حیث أن السیرة من العقلاء والآیات من الشارع فلا ارتباط بینهما حتی تکون السیرة حاکمة علی الآیات الناهیة وتتصرف فی مدلولها سعة وضیقا نعم لو أمضی الشارع هذه السیرة فتصبح هذه السیرة دلیلا شرعیا بعد الإمضاء فعندئذ تصلح أن تکون حاکمة وتعارض الآیات ولکن الکلام إنما هو فی إمضاء هذه السیرة فمع وجود هذه الآیات لم نحرز إمضاء هذه السیرة لاحتمال أن هذه الآیات تکون رادعة عن العمل بالسیرة والسیرة لا نحرز إمضائها وحینئذ نشک فی حجیة الأمارات کأخبار الثقة والشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدمها فعلا أی عدم ترتیب آثار الحجیة علیها قطعا، لأن الآثار المترتبة علی حجیة شیء هی الاستناد إلی الحجة فی مقام العمل الخارجی او فی مقام الإفتاء وإسناد مؤداها علی الشارع، فالشک فی إمضاء السیرة یوجب الشک فی حجیة الأمارات کأخبار الثقة وهو مساوق للقطع بعدمها.

هکذا قیل ولکن للمناقشة فیه مجال.

أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة

إلی هنا قد تبین أن التعارض بین الدلیلین وکذلک الجمع الدلالی العرفی بین الدلیلین کحمل العام علی الخاص والمطلق علی المقید والظاهر علی الأظهر والمحکوم علی الحاکم جمیع هذه الموارد مشروط بأن یکون کلا الدلیلین صادرا من متکلم واحد أو ما هو بمنزلة المتکلم الواحد کالأئمة الأطهار فإنهم جمیعا یخبرون عن الشریعة الواحدة فهم بمثابة متکلم واحد، ولهذا یقع التعارض بین ما صدر من إمام وما صدر من إمام آخر، وقد یمکن الجمع الدلالی العرفی بینهما.

ص: 69

وعلی هذا فالسیرة العقلائیة سیرة صادرة من العقلاء وهی عمل العقلاء بأخبار الثقة والآیات دلیل شرعی صادر من الشارع المقدس فلا ارتباط بینهما حتی تقع المعارضة بینهما أو کان أحدهما حاکما علی الآخر فلا صلة بین السیرة التی هی من العقلاء لا من الشارع وبین الآیات الناهیة عن العمل بالظن التی صدرت من الشارع.

نعم لو أمضی الشارع السیرة فحینئذ تصبح السیرة دلیلا شرعیا فیمکن أن تقع المعارضة بینها وبین الآیات الناهیة، ویمکن الجمع الدلالی العرفی بحکومة السیرة علی الآیات الناهیة.

ولکن هذا بحاجة إلی أحراز إمضاء الشارع للسیرة ومع وجود هذه الآیات الناهیة عن العمل بالظن فلا یمکن إحراز إمضائها وحینئذ تکون حجیة السیرة مشکوکة والشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدمها، أی عدم ترتیب آثار الحجیة علیها، والمهم منها اثنان:

احدهما: الاستناد إلیها فی مقام العمل الخارجی.

والآخر: إسناد مؤداها إلی الشارع.

فإذا لم یترتب علی هذا الشیء هذان الأثران فلا یکون حجة أی أن حجیة الشیء مساوقة لترتیب هذین الشیئین علیه.

هذا والصحیح فی المقام ان یقال: إنه لا یمکن أن تکون هذه الآیات الکریمة بعموماتها وإطلاقاتها رادعة عن السیرة، وذلک لأمرین:

الأول: أن السیرة قطعیة، لأنها عبارة عن عمل العقلاء بأخبار الثقة وهی أمر محسوس ومشاهد وقطعی بل هو ضروری وکذلک إمضاء هذه السیرة من قبل الشارع ضروری وقطعی وأما الآیات المبارکة فهی وإن کانت قطعیة سندا إلا أنها ظنیة دلالة، فلا یمکن ان تقاوم السیرة القطعیة لأن الدلیل الظنی لا یمکن ان یقاوم الدلیل القطعی فالسیرة دلیل قطعی فلا بد من العمل به ولا یمکن رفع الید عنها بواسطة دلالة هذه الآیات الکریمة لأن دلالة الآیات ظنیة.

فمن أجل ذلک لا بد من تقدیم السیرة علی هذه الآیات، ومن هنا کان الناس یعملون بالسیرة فی مرأی ومسمع من هذه الآیات الکریمة أی هم یعملون بأخبار الثقة ارتکازا وطبعا بدون ادنی منبه ومن دون أی احتمال لأن تصلح هذه الآیات أن تکون رادعة عن هذه السیرة.

ص: 70

فالنتیجة ان الدلیل الظنی لا یمکن ان یقاوم الدلیل القطعی.

الثانی: أن هذه السیرة مرتکزة فی أذهان الناس وثابتة فی أعماق نفوسهم کالفطرة والجبلة فلهذا یعمل الناس بها بطبعهم بدون أدنی منبه وتذکیر، ولذلک لا یمکن ان تکون هذه الآیات بعموماتها وإطلاقاتها رادعة عن هذه السیرة، فلو کانت هذه السیرة مخالفة للأغراض التشریعیة وفیها مفاسد فلا بد من التصریح بالردع عن هذه السیرة فی کل مناسبة وفی کل مجلس وفی کل مورد حتی یمکن قلع جذور هذه السیرة عن أنفس الناس وما دامت جذورها موجودة فی النفوس وهم یعملون بها رغم وجود هذه الآیات الکریمة ولا یلتفتون إلی هذه الآیات، فالردع عن هذه السیرة لا یمکن ان یکون من خلال خبر الواحد أو بدلالة الآیات الظنیة بل لا بد من بیان مفاسدها مکررا وبأدنی مناسبة وفی کل مجلس ومورد حتی یتمکن من قلع جذورها عن أنفس الناس، فمن أجل ذلک لا یمکن أن تکون هذه الآیات رادعة عن هذه السیرة.

فالنتیجة: ان ما ذکره المحقق النائینی(قده) وکذلک غیره من أن السیرة العقلائیة حاکمة علی هذه الآیات الکریمة لا وجه له أصلا.

الوجه الثانی من وجوه الأجوبة: ما ذکره المحقق الخراسانی(قده) (1) من انه یستحیل رادعیة هذه الآیات بعموماتها لأنها دوریة، حیث أن رادعیة هذه الآیات بعموماتها تتوقف علی عدم مخصصیة السیرة لها فی الواقع باعتبار أن السیرة أخص من عمومات هذه الآیات الناهیة فإن السیرة مختصة بأخبار الثقة وأما الآیات الناهیة فهی تعم جمیع الظنون، وعدم مخصصیة السیرة لها فی الواقع یتوقف علی رادعیة هذه الآیات الناهیة، وحینئذ تتوقف رادعیتها علی رادعیتها، وهذا من توقف الشیء علی نفسه، ومرجع توقف الشیء علی نفسه إلی علیة الشیء لنفسه وهی مستحیلة، فمن أجل ذلک یکون الدور مستحیلا.

ص: 71


1- کفایة الاصول، المحقق الآخوند، ج1، ص303.

ورادعیة هذه الآیات عن العمل بالظن بعموماتها مستحیلة.

ثم أورد علی نفسه أن مخصصیة هذه السیرة لعمومات هذه الآیات الناهیة تتوقف علی عدم رادعیتها لها فی الواقع إذ لو کانت هذه الآیات رادعة عن السیرة فلا تصلح ان تکون السیرة مخصصة لعموماتها، فمخصصیة السیرة لعمومات هذه الآیات الناهیة تتوقف علی عدم رادعیة هذه الآیات الناهیة للسیرة فی الواقع وعدم رادعیتها للسیرة فی الواقع یتوقف علی مخصصیة هذه السیرة لها أی لعمومات هذه الآیات فیلزم توقف مخصصیة هذه السیرة علی مخصصیتها، وهذا من توقف الشیء علی نفسه ومآله إلی علیة الشیء لنفسه وهی مستحیلة.

وما ذکره(قده) غریب جدا؛ فإن لازم ذلک أن استحالة رادعیة هذه الآیات الناهیة بعموماتها عن السیرة فی الواقع تستلزم ضروریة المخصصیة کما أن استحالة مخصصیة السیرة لعمومات هذه الآیات تستلزم ضرورة رادعیتها فکیف یعقل ان تکون رادعیتها مستحیلة ومخصصیة السیرة أیضا مستحیلة فکیف یمکن الجمع بینهما.

فلأجل ذلک هذا الإشکال الثانی فی نفسه غریب.

ثم أجاب(قده) عن هذا الإشکال ببیان ان مخصصیة السیرة لعمومات الآیات الناهیة عن العمل بالظن لا تتوقف علی عدم رادعیتها عن السیرة فی الواقع بل یکفی فی مخصصیة السیرة عدم العلم برادعیتها وعدم العلم لا یتوقف علی شیء لأن العلم بحاجة إلی سبب واما الجهل فلا یحتاج إلی سبب، فإذا لم یوجد سبب العلم فعدم العلم بالذات موجود من الأزل.

فإذن مخصصیة السیرة لعمومات الآیات لا تتوقف علی عدم رادعیة هذه الآیات الناهیة عن السیرة فی الواقع بل یکفی فی مخصصیة السیرة لعمومات هذه الآیات عدم العلم بالردع وعدم ثبوت الردع فلا دور فی المقام. فإن ما یتوقف علیه مخصصیة السیرة غیر ما یتوقف علیه رادعیة هذه الآیات الناهیة عن العلم بالظن بعموماتها فإن ما یتوقف علیه مخصصیة السیرة لعمومات هذه اللآیات هو عدم العلم بالرادعیة لهذه الآیات، وأما رادعیة هذه الآیات فهی تتوقف علی عدم مخصصیة السیرة لها فی الواقع، فمکا یتوقف علیه رادعیة هذه الآیات غیر ما یتوقف علیه مخصصیة هذه السیرة.

ص: 72

وبتعبیر آخر ما ذکره(قده) من الجواب جواب عن الدور الثانی لا جواب عن الدور الأول، فالدور الثانی هو ان مخصصیة السیرة لعمومات هذه الآیات الناهیة تتوقف علی عدم کونها رادعة عنها فی الواقع، وعدم کونها رادعة عنها فی الواقع یتوقف علی مخصصیتها فیلزم الدور وتوقف مخصصیتها علی مخصصیتها وهو من توقف الشیء علی نفسه ومآله إلی علیة الشیء لنفسه وهو مستحیل فما ذکره جواب عن هذا الدور باعتبار ان مخصصیة السیرة لا تتوقف علی عدم رادعیة هذه الآیات الناهیة بعموماتها عن السیرة فی الواقع بل یکفی فی مخصصیة هذه السیرة عدم العلم بکونها رادعة، وعدم العلم لا یتوقف علی شیء حتی یلزم الدور.

فإذن هذا الجواب جواب عن الدور الثانی لا عن الدور الأول.

وهذا الجواب غریب جدا من مثله(قده).

فإن مخصصیة السیرة تتوقف علی حجیتها بان تکون هذه السیرة حجة حتی تکون مخصصة وحجیتها تتوقف علی إحراز إمضائها وإلا فالسیرة فی نفسها لا تکون حجة بدون الإمضاء من الشارع، ومع احتمال أن الآیات الناهیة تکون رادعة عن هذه السیرة لم نحرز إمضائها فإن مخصصیة السیرة تتوقف علی عدم العلم بکون هذه الآیات رادعة ولکن احتمال انها رادعة موجود، ومع هذا الاحتمال لا یمکن إحراز أمضاء هذه السیرة والعلم بالإمضاء ومع عدم إحراز إمضاء هذه السیرة لم نحرز حجیتها، وحینئذ تکون حجیتها مشکوکة ومحتملة ولا علم بحجیتها والشک فی الحجیة کما ذکرنا مساوق لعدم حجیتها فعلا لعدم ترتیب آثار الحجیة علیها.

فإذن ما ذکره(قده) من الجواب غریب جدا فإن مخصصیة السیرة لا تتوقف إلا علی عدم العلم بکون هذه الآیات رادعة ولکن احتمال انها رادعة فی الواقع موجود ومع هذا الاحتمال لم نحرز الإمضاء ومع عدم إحراز الإمضاء لا علم بحجیتها فتکون حجیتها مشکوکة وهو مساوق للقطع بعدمها.

ص: 73

فمن أجل ذللک ما ذکره(قده) غریب جدا وسیاتی تفسیر ذلک.

أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة

تحصل مما ذکرنا أن ما ذکره صاحب الکفایة(قده) من ان مخصصیة السیرة لعموم الآیات الناهیة عن العمل بالظن لا یتوقف علی عدم رادعیتها عن السیرة فی الواقع بل یکفی فی مخصصیتها عدم ثبوت الردع.

وقد ذکرنا أن هذا غریب من مثله(قده) فإن مخصصیة السیرة متوقفة علی حجیتها وإحراز حجیتها متوقف علی إحراز إمضائها ومع الشک فی الإمضاء یشک فی حجیة السیرة والشک فی حجیة السیرة مساوق للقطع بعدمها أی بعدم ترتیب آثارها علیها فکیف یکفی فی مخصصیة السیرة عدم ثبوت الردع عنها فإن احتمال وجود الردع فی الواقع مانع عن إحراز إمضاء الشارع لها ومع عدم إحراز إمضاء الشارع لها لم یحرز حجیتها، فتکون حجیها مشکوکة والشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدمها فما ذکره(قده) لا یمکن المساعدة علیه.

والصحیح هو ما ذکرناه من أن الآیات المبارکة بعموماتها لا تصلح أن تقاوم السیرة لأن السیرة دلیل قطعی وإمضائها قطعی والآیات المبارکة بعموماتها دلیل ظنی ومن الواضح أن الدلیل الظنی لا یمکن ان یعارض الدلیل القطعی فالدلیل القطعی متقدم علیه.

وقد أورد (1) السید الاستاذ(قده) علی صاحب الکفایة:

أولا: کما یکفی فی مخصصیة السیرة لعمومات الآیات الناهیة عدم ثبوت الردع عنها کذلک یکفی فی رادعیة الآیات الناهیة بعموماتها عن السیرة عدم ثبوت مخصصیتها ولا یتوقف علی ثبوت عدم مخصصیة السیرة بل یکفی فی رادعیة الآیات الناهیة بعموماتها عدم ثبوت التخصیص فإن العام یکون حجة طالما لم یعلم بالتخصیص أی عدم العلم بوجود المخصص أو عدم العلم بوجود التخصیص. فلا وجه لتخصیص الجواب عن الدور فی مخصصیة السیرة؛ فإن هذا الجواب کما یجری فی مخصصیة السیرة کذلک یجری فی رداعیة الآیات الناهیة بعموماتها.

ص: 74


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد الواعظ الحسینی، ج2، ص198.

وثانیا: أن الأمر بالعکس فإن مخصصیة السیرة تتوقف علی حجیتها وحجیة السیرة تتوقف علی إحراز إمضائها والعلم به ومع الشک فی الإمضاء أو مع الشک فی رادعیة الآیات الناهیة عن السیرة فی الواقع واحتمال انها رادعة فی الواقع لم نحرز إمضاء السیرة ومع عدم إحراز إمضاء السیرة لم نحرز حجیتها فتکون حجیتها مشکوکة والشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدمها. واما رادعیة الآیات الناهیة بعموماتها فلا تتوقف علی ثبوت عدم المخصص فی الواقع بل یکفی فی رادعیة الآیات الناهیة بعموماتها عدم ثبوت التخصیص فإن العام حجة فی عمومه ما لم یثبت التخصیص أو یثبت المخصص ولا مانع من التمسک بعموم العام طالما لم یعلم بوجود التخصیص.

فالآیات الناهیة بعموماتها حجة طالما لم یعلم المخصص ویکفی فی رادعیتها بعموماتها عدم ثبوت التخصیص ولا تتوقف علی ثبوت عدم التخصیص، فالأمر عکس ما ذکره المحقق صاحب الکفایة(قده).

وأقول: اما الإشکال الأول فهو شبه جدلی ونقضی وتوسعة فی الإشکال، وأما الإشکال الثانی فمبنی علی أن الآیات الناهیة بعموماتها تصلح لأن تکون رادعة عن السیرة، ولکن تقدم آنفا أن الآیات الناهیة عن العمل بالظن بعموماتها لا تصلح أن تکون رادعة عن السیرة لأمرین:

الأول: ان السیرة دلیل قطعی والآیات الناهیة دلیل ظنی.

الثانی: أن السیرة أمر مرتکز فی أذهان الناس وثابت فی أعماق نفوسهم فلا یمکن الردع عن هذه السیرة وقلع جذورها بدلیل ظنی ولهذا یعمل الناس بأخبار الثقة فی زمن نزول الآیات الناهیة عن العمل بالظن ولا یلتفتوا إلیها.

فإذن الدلیل الظنی لا یصلح أن یکون رادعا عن مثل هذه السیرة المترکزة فی الأذهان لأن الردع عنها وقلع جذورها لا یمکن إلا بنص قطعی سندا ودلالة فی کل مناسبة وفی کل مورد حتی یتمکن الشارع من قلع جذور هذه السیرة إذا کانت هذه السیرة خطرة علی أغراض الشرع المقدس.

ص: 75

فمن أجل ذلک هذه المباحث أی مباحث الدور بین رادعیة السیرة وبین رادعیة هذه الآیات الناهیة بعموماتها وبین مخصصیة السیرة کل ذلک مبنی علی أن الآیات الناهیة بعموماتها تصلح أن تکون رادعة عن هذه السیرة ولکن الأمر لیس کذلک.

الوجه الثانی: أن السیرة کانت موجودة بین العقلاء قبل وجود الإسلام وهم یعملون بأخبار الثقة وبعد الإسلام کذلک موجودة فالناس یعملون بأخبار الثقة بطبعهم بدون ادنی منبه وتذکیر.

وأما الآیات الناهیة عن العمل بالظن بعموماتها فهی نازلة بعد ذلک فنزولها متأخر عن السیرة فیدخل المقام فی کبری دوران الأمر بین کون الخاص المتقدم __ وهو السیرة __ مخصصة لعموم الآیات الناهیة او کون العام المتأخر ناسخا للخاص المتقدم، فإن المقام من صغریات کبری دوران الأمر بین کون الخاص المتقدم مخصص للعام المتأخر أو أن العام المتأخر ناسخا للخاص المتقدم.

وهذه الکبری منقحة فی مبحث العام والخاص ولا شبهة فی أن الخاص مخصص سواء کان متأخرا عن العام زمانا أو متقدما علی العام کذلک. نعم هنا جماعة ذهبوا إلی أن العام المتأخر ناسخ للخاص.

ولکن قد یقال کما قیل أن الآیات الناهیة عن العمل بالظن بعموماتها وإطلاقاتها وإن کان نزولها متأخرا إلا أن مضمونها ثابت فی صدر الإسلام فالآیات بحسب مضمونها لیست متأخرة عن السیرة فکما ان السیرة موجودة فی صدر الإسلام فکذلک مضامین هذه الآیات موجودة فی صدر الإسلام.

والجواب عن ذلک ظاهر؛ فإن الآیات لا ظهور لها فی ذلک لأن جعل الأحکام الشرعیة کان تدریجیا بحسب تدریجیة الوحی فإن جعل الأحکام منوط بالوحی متی نزل الوحی علی النبی الأکرم(ص) بحکم من الأحکام الشرعیة فیجعل هذا الحکم، وهذه الآیات لا تکشف عن أن مضامینها ثابتة فی صدر الإسلام، بل هی تدل علی ثبوت مضامینها من حین نزولها ومجیء الوحی بها، نعم الروایات الصادرة من الأئمة الأطهار من العمومات والمطلقات هی تکشف عن ان مضامینها صادرة فی زمن النبی الأکرم(ص) لأن الوحی قد أنقطع بعد النبی(ص) وما یصدر من الأئمة الأطهار هو ما وصل إلیهم من النبی الأکرم(ص) غایة الأمر أن بیان هذه الأحکام کان تدریجی بحسب المصالح.

ص: 76

فما صدر من الأئمة(ع) من العمومات والمطلقات کاشف عن ان مضامنیها ثابتة فی زمن النبی الأکرم(ص) والتأخر إنما هو فی بیانها لا فی جعلها.

واما عمومات الآیات ومطلقاتها فهی لا تدل علی أن مضامینها ثابتة فی صدر الإسلام. فهذه الدعوی غیر صحیحة والمقام داخل فی تلک الکبری.

والصحیح فی تلک الکبری أن الخاص المتقدم مخصص للعام المتأخر والعام المتأخر لا یصلح أن یکون ناسخا للخاص المتقدم.

أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة

إلی هنا قد تبین أن الآیات الکریمة غیر ظاهرة فی أن مضامینها ثابتة فی صدر الإسلام ولکن بیانها متأخر زمنا غیر ظاهرة فی ذلک؛ فإن جعل الأحکام الشرعیة فی زمن النبی الأکرم(ص) کان تدریجیا، وهذا الجعل إما من خلال إبلاغ النبی الأکرم(ص) بالوحی أو بإبلاغ جبرئیل له؛ فإذا وصل إلیه الوحی أو أبلغ من قبل جبرئیل بالحکم الشرعی فیقوم النبی الأکرم(ص) ببیانه، فزمان الجعل هو زمان البیان ولا یکون البیان فی الخطابات القرآنیة أو فی السنة متأخرا عن زمن الجعل.

وعلی هذا فالآیات الکریمة متأخرة عن السیرة زمنا وکذا جعل مضامینها فیکون المقام داخلا فی تلک الکبری وهی دوران الأمر بین الخاص المتقدم والعام المتأخر فهل الخاص المتقدم یکون مخصصا للعام المتأخر أو أن العام المتأخر یکون ناسخا للخاص المتقدم.

نعم یحتمل أن تکون الأحکام الشرعیة بکافة أصنافها وأقسامها قد نزلت علی قلب النبی الأکرم(ص) وأن الشارع یعلّم النبی الأکرم(ص) بجمیع الأحکام بکافة أصنافها وأقسامها ولکن بیانها یکون تدریجیا من حیث الزمن بمقتضی المصالح العامة بین الناس.

ولکن هذا مجرد احتمال ولا دلیل علی ذلک. نعم الروایات الصادرة من الأئمة الأطهار(ع) ظاهرة فی أن مضامینها ثابتة فی زمن النبی الأکرم(ص)؛ لأن الوحی أنقطع بعد النبی الأکرم(ص) وما صدر من الأئمة الأطهار هو ما تعلموه من النبی الأکرم(ص).

ص: 77

فإذن العمومات والمطلقات الصادرة من الأئمة الأطهار ظاهرة فی ثبوت مضامینها فی زمن النبی الأکرم، وعلی هذا فإذا صدر خاص من إمام متقدم وصدر عام من متأخر، فصدور العام متأخر وصدور الخاص متقدم کما إذا صدر خاص من الإمام الباقر(ع) والعام من الإمام الصادق(ع)، فإن علمنا انهما کذلک فی زمن الوحی أیضا فعندئذ یدخل فی تلک الکبری، وهی دوران الأمر بین الخاص المتقدم والعام المتأخر، وإن لم یعلم بذلک لاحتمال أنهما متقارنین أو احتمال أن وحی الخاص متأخر عن وحی العام فعندئذ لم نحرز ان المقام من صغریات تلک الکبری.

وقد یناقش فی المقام بأن سکوت النبی الأکرم(ص) فی صدر الإسلام عن ردع هذه السیرة الجاریة بین الناس کاشف عن إمضائها فعلا، فعلی هذا یکون المقام داخلا فی تلک الکبری فإن الخاص متقدم علی العام فالآیات الناهیة عن العمل بالظن بعموماتها وإطلاقاتها متأخرة زمنا عن السیرة العقلائیة الممضاة شرعا وان سکوت النبی الأکرم(ص) عن ردع هذه السیرة فی صدر الإسلام کاشف عن إمضائها فعلا فعندئذ یدخل فی تلک الکبری.

ولکن هذا البناء خاطئ؛ فإن سکوت النبی الأکرم(ص) لعله من جهة عدم وصول الوحی إلیه فإنه(ص) (وَمَا یَنطِقُ عَنِ الْهَوَی إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْیٌ یُوحَی) (1) ولا فرق فی ذلک بین الأحکام الشرعیة وبین الإمضاء فلا یمکن صدور الردع عن النبی الأکرم بدون الوحی به، فسکوته لعله من جهة عدم وصول الإمضاء إلیه من قبل الوحی او جبرئیل، فمجرد السکوت لا یکون کاشفا عن الإمضاء فعلا، لأن السکوت قد یکون من جهة عدم وصول الإمضاء إلیه أو لوجود مانع آخر.

ولکن هذا القول قابل للمناقشة؛ فإن العمل بهذه السیرة العقلائیة ___ الجاریة بین الناس والمرتکزة فی أذهانهم ___ لو کان فیه خطر علی الأغراض الشرعیة والمصالح الدینیة وفی العمل بها مفاسد نوعیة فلا شبهة فی أن الشارع __ وهو الله تعالی __ أمر نبیه الأکرم(ص) بالردع عنها وبالمنع عن العمل بها من جهة ان العمل فیها خطر علی الشریعة المقدسة والمصالح الدینیة وفیها مفاسد نوعیة، فإذا کان الأمر کذلک فبطبیعة الحال قد صدر أمر من الله تعالی إلی نبیه(ص) بالردع عن هذه السیرة. فسکوت النبی الأکرم(ص) وعدم صدور الردع عنه یکشف أنه لا خطر فی العمل بها علی المصالح والأغراض الدینیة ولیس فی العمل بها مفاسد، فیکون سکوت النبی الأکرم(ص) کاشف عن الإمضاء وعدم الردع فعلا...هذا من جانب

ص: 78


1- النجم/السورة53، الآیة3 - 4.

ومن جانب آخر إن المقام خارج عن محل الکلام فإن الدلیل المخصص فی المقام هو السیرة العقلائیة والسیرة دلیل لبی فلا ظهور لها فی العموم الأزمانی وأما الکبری المذکورة فإنما هی بین العام اللفظی والخاص اللفظی فإن الخاص اللفظی ظاهر فی العموم الأزمانی والعام المتأخر ظاهر فی العموم الأفرادی ولهذا یقع التعارض بینهما، بین تقدیم العام الأزمانی علی العام الأفرادی او بالعکس وتقدیم العام الأفرادی وجعله ناسخا للعام الأزمانی وتقید هذا العام بفترة خاصة من الزمن لا بجمیع الأزمنة.

فإذن الخاص المتقدم ظاهر فی العموم الأزمانی وان هذا الحکم الخاص ثابت فی تمام الأزمنة إلی یوم القیامة وأما العام المتأخر فظاهر فی العموم الأفرادی حتی أفراد الخاص، فالجمع بینهما لا یمکن. فإما أن نرفع الید عن الخاص الظاهر فی العموم الأزمانی ویقید العام بغیر أفراد الخاص او نأخذ بعموم العام المتأخر ونرفع الید عن ظهور الخاص فی العموم الأزمانی ونقیده بفترة خاصة من الزمن وکأن العام المتأخر ناسخ له ویوجب تخصیصه بفترة خاصة من الزمن.

واما إذا کان الدلیل الخاص لبیا فلا ظهور له فی العموم الأزمانی لکی تقع المعارضة بین الخاص المتقدم والعام المتأخر فلا معارضة بینهما.

وأیضا فرق بینهما فإن الدلیل الخاص إذا کان لبیا کالسیرة فحجیته منوطة بإحراز إمضائه ومع الشک فی الإمضاء ومع الشک فی أن العام المتأخر ناسخ له لم نحرز حجیته فتکون حجیته مشکوکة والشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدمها بینما إذا کان الخاص دلیلا لفظیا ظاهرا فی العموم الأزمانی وهذا الظهور حجة ولا نرفع الید عن حجیة هذا الظهور بمجرد احتمال أن العام المتأخر ناسخ لأن مجرد هذا الاحتمال لا قیمة له، وکذلک الأمر بالعکس فإن العام ظاهر فی العموم الأفرادی وهذا الظهور حجة ولا نرفع الید عن حجیة الظهور بمجرد احتمال ان الخاص المتقدم مخصص له کذلک لا یوجب رفع الید عن ظهور العام فی العموم الأفرادی.

ص: 79

ولکن مع ذلک ذکرنا فی مبحث العام والخاص أن الخاص مقدم علی العام بلا فرق بین کونه متأخرا عن العام او مقارنا له او متقدما علیه لأن الخاص بنظر العرف قرینة مفسرة للمراد النهائی الجدی من العام وحینئذ لا یفرق فیه بین کونه متقدما او متأخرا او مقارنا مع العام.

أدلة حجیة خبر الواحد - السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد - السیرة العقلائیة

إلی هنا قد تبین أن ما نحن فیه لا یکون داخلا فی کبری ما إذا کان الخاص متقدما زمنا والعام متأخرا زمنا، ووقع التعارض بین ظهور الخاص فی العموم الأزمانی وظهور العام فی العموم الأفرادی فالمقام غیر داخل فی هذه الکبری؛ فإن هذه الکبری منوطة بکون الخاص دلیلا لفظیا وله ظهور فی العموم الأزمانی کما أن العام لا بد أن یکون دلیلا لفظیا وله ظهور فی العموم الأفرادی. واما فی المقام فالخاص دلیل لبی وهو سیرة العقلاء والدلیل اللبی لا ظهور له فی العموم فمن أجل ذلک لا یکون المقام داخلا فی تلک الکبری فعندئذ الحکم فی المقام هو أن مخصصیة السیرة تتوقف علی حجیتها وحجیتها تتوقف علی إحراز إمضائها ومع احتمال کون الآیات الناهیة بعموماتها رادعة عن هذه السیرة لم نحرز إمضاء هذه السیرة فإذا لم نحرز إمضائها لم نحرز حجیة السیرة أیضا فإذا لم نحرز حجیة السیرة فتکون حجیتها مشکوکة وقد تقدم أن الشک فی الحجیة مساوق للجزم بعدم حجیتها أی مساوق للجزم بعدم ترتیب آثار الحجیة علیها.

وأما إذا کان الخاص دلیلا لفظیا ظاهرا فی العموم الأزمانی فلا یرفع الید عن هذا الظهور فإن هذا الظهور حجة ولا یرفع الید عن هذا الظهور إلا بثبوت القرینة علی الخلاف وطالما لم یعلم بالقرینة فظهور الخاص فی العموم الأزمانی حجة، کما أن ظهور العام فی العموم الأفرادی حجة طالما لم یعلم بوجود المخصص له، ومجرد احتمال وجود المخصص فی الواقع لا أثر له؛ فإن ظهور العام فی العموم الأفرادی أو ظهور الخاص فی العموم الأزمانی أو ظهور المطلق فی الإطلاق حجة طالما لم یعلم بوجود القرینة علی الخلاف، ومجرد احتمال وجود القرینة لا أثر له.

ص: 80

هذا فرق بین ما إذا کان الخاص فی المقام دلیلا لفظیا وله ظهور فی العموم الأزمانی وبین ما إذا کان الخاص دلیلا لبیا کسیرة العقلاء، فإن الخاص إذا کان دلیلا لبیا فحجیة الخاص کالسیرة العقلائیة تتوقف علی إحراز إمضائها وهو یتوقف علی أن الآیات الناهیة عن العمل بالظن بعموماتها لا تصلح أن تکون رادعة وأما إذا احتمل أنها رادعة فلم نحرز إمضاء السیرة ومع عدم إحراز إمضاء السیرة لم نحرز حجیتها وعندئذ تکون حجیتها مشکوکة.

ومن هنا یظهر أن ما ذکره المحقق الخراسانی(قده) ___ من أن سیرة العقلاء بما أنها متقدمة زمنا علی الآیات الناهیة عن العمل بالظن فیدخل المقام فی تلک الکبری وهی ان الخاص متقدم زمنا والعام متأخر زمنا فیقع التعارض بین ظهور الخاص فی العموم الأزمانی وظهور العام فی العموم الأفرادی ____ لا یمکن المساعدة علیه؛ فإن هذا إنما هو فی إذا کان الخاص دلیلا لفظیا، واما إذا کان الخاص دلیلا لبیا کما فی المقام فلا یدخل تحت تلک الکبری الکلیة .

الأمر الثالث: أیضا ذکره المحقق الخراسانی فی هامش الکفایة (1) ، وحاصل هذا الوجه أنا لو سلمنا أن السیرة المتقدمة التی هی أخص من عمومات الآیات لا تصلح أن تکون مخصصة لعموم الآیات الناهیة والآیات بعموماتها حیث أنها متأخرة عن السیرة لا تصلح أن تکون ناسخة للسیرة التی تقدمت علی الآیات لو سلمنا ذلک فتصل النوبة إلی الأصل العملی حیث لا یمکن التمسک بالأصل اللفظی لا بعموم الآیات ولا بسیرة العقلاء فتصل النوبة إلی الأصل العملی وهو فی المقام استصحاب بقاء حجیة خبر الثقة؛ إذ لا شبهة فی أنه حجة بالسیرة القطعیة من العقلاء فی صدر الإسلام حیث لم یرد ردع من النبی الأکرم(ص) عن هذه السیرة وان الأصحاب یعملون بأخبار الثقة فی مرأی ومسمع من النبی الأکرم(ص) فلو کان فی العمل بهذه السیرة خطرا علی الأغراض الشرعیة والمصالح الدینیة وفیها مفاسد لکان علی النبی الأکرم(ص) ردع الناس عنها ولا مانع له من الردع فعدم الردع والسکوت کاشف عن الإمضاء، واما عند نزول الآیات الناهیة عن العمل بالظن فنحتمل أن هذه الآیات بعموماتها رادعة عن السیرة ومع هذا الاحتمال لم نحرز حجیة السیرة ومع عدم إحراز حجیة السیرة فلا یمکن التمسک بالسیرة لإثبات حجیة خبر الثقة، فیصل الأمر إلی الأصل العملی، وهو استصحاب بقاء حجیة أخبار الثقة، فإنها کانت حجة فی صدر الإسلام والآن نشک فی بقاء حجیتها فلا مانع من استصحاب بقاء حجیتها.

ص: 81


1- کفایة الاصول، المحقق الآخوند، ص304.

هکذا ذکره صاحب الکفایة(قده) فی هامش الکفایة.

وقد أورد (1) علیه السید الاستاذ بوجوه:

الوجه الأول: أن هذا الاستصحاب استصحاب فی الشبهات الحکمیة وهو غیر جار فیها؛ فإن استصحاب بقاء المجعول فی الشبهات الحکمیة معارض باستصحاب عدم جعل زائد فیسقط هذا الاستصحاب من جهة المعارضة، فلا یمکن التمسک به لإثبات حجیة اخبار الثقة لأنه من الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة وهو غیر جار.

والوجه الثانی: أن هذا الاستصحاب مبنی علی إمضاء الشارع لهذه السیرة فی صدر الإسلام، فإذا أحرزنا إمضاء هذه السیرة فی صدر الإسلام وعند نزول هذه الآیات نحتمل ردعها عن السیرة فعندئذ لا مانع من استصحاب بقاء حجیتها؛ لأنها حجة فی صدر الإسلام والآن نشک فی بقاء هذ الحجیة باحتمال ردع هذه الآیات عنها فلا مانع من استصحاب بقاء حجیة هذه السیرة.

الوجه الثالث: ان الدلیل علی حجیة الاستصحاب هو أخبار الثقة ولا یمکن الاستدلال علی حجیة اخبار الثقة بالاستصحاب لاستلزامه الدور، لأن حجیة اخبار الثقة إذا کانت متوقفة علی حجیة الاستصحاب والمفروض أن حجیة الاستصحاب متوقفة علی حجیة أخبار الثقة فإذن لازمه أن حجیة أخبار الثقة متوقفة علی حجیة نفسها، وهذا من توقف الشیء علی نفسه وهو مستحیل لأن مرجعه إلی علیة الشیء لنفسه وهو مستحیل.

الوجه الرابع: أن هذه الآیات الناهیة کما تصلح أن تکون رادعة للسیرة کذلک تصلح أن تکون رادعة عن الاستصحاب أیضا فإن الاستصحاب أیضا داخل فی الظن وفیما لا یعلم وهذه الآیات الناهیة تدل علی عدم حجیة ما لم یعلم، فتکون هذه الآیات بعموماتها صالحة للردع عن الاستصحاب.

هکذا ذکر السید الاستاذ(قده).

ولکن بعض هذه الوجوه لا یخلو عن مناقشة.

ص: 82


1- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد الواعظ الحسینی، ج2، ص198.

أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة

تقدم أن صاحب الکفایة(قده) ذکر أنا لو تنزلنا عن رادعیة الآیات الناهیة للسیرة أو مخصصیة السیرة وکذلک تنازلنا عن کون الآیات الناهیة ناسخة للسیرة باعتبار أنها بعموماتها متأخرة عن السیرة تصل النوبة إلی الأصول العملیة وهی استصحاب بقاء حجیة أخبار الثقة حیث أنا نشک فی بقائها بعد نزول هذه الآیات الکریمة فلا مانع من استصحاب بقائها.

وذکرنا ان السید الاستاذ(قده) قد أورد علی هذا الاستصحاب بوجوه:

الوجه الأول: ان هذا الاستصحاب هو استصحاب فی الشبهات الحکمیة وهو غیر جار فیها.

وما أفاده السید الاستاذ(قده) صحیح فإنا أیضا بنینا علی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة. ولکن ما ذکره السید الأستاذ من سبب عدم جریانه هو إنما هو التعارض بین استصحاب بقاء المجعول واستصحاب عدم سعة الجعل فیسقطان بالتعارض فمن أجل ذلک لا یجری الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة من جهة ابتلائه بالمعارض.

ولکنا ذکرنا أن الوجه فی عدم جریانه فی الشبهات الحکیمة لیس هو التعارض بل أمر آخر علی تفصیل ذکرناه فی مبحث الاستصحاب.

الوجه الثانی: من الوجوه التی ذکرها السید الاستاذ(قده) ان جریان هذا الاستصحاب فی المقام مبنی علی أن تکون السیرة ممضاة شرعا فی صدر الإسلام وقبل نزول الآیات الناهیة عن العمل بالظن وأما إذا قلنا إن إمضاء هذه السیرة قبل نزول هذه الآیات غیر معلوم فلا موضوع لهذا الاستصحاب لأن الشک حینئذ فی أصل وجود حجیة أخبار الثقة، فمن أجل ذلک لا مجال لهذا الاستصحاب.

وهذا الذی أفاده(قده) لا یمکن المساعدة علیه؛ إذ لا شبهة فی أن هذه السیرة ممضاة فی صدر الإسلام وأول البعثة فإن أصحاب النبی الأکرم(ص) والتباعین له بکافة أصنافهم کانوا یعملون بأخبار الثقة فی أمورهم الاجتماعیة والفردیة والعقائدیة والمادیة والمعنویة فی مرأی ومسمع النبی الأکرم(ص) فلو کانت هذه السیرة خطرا علی الأغراض التشریعیة والمصالح الدینیة لکان علی النبی الردع عنها لأن بإمکانه(ص) ذلک، ولم یکن هنا أی مانع من الردع عنها. فسکوته وعدم الردع کاشف قطعی عن الإمضاء من قبل النبی لهذه السیرة، غایة الأمر إذ نزلت هذه الآیات المبارکة الناهیة عن بالعمل بالظن یشک فی رادعیتها وهذا الشک یکون منشأ للشک فی بقاء حجیة السیرة فعندئذ لا مانع من استصحاب بقاء الحجیة.

ص: 83

الوجه الثالث: أن هذا الاستصحاب دوری لأن الدلیل علی حجیة الاستصحاب هو حجیة اخبار الثقة فلو کانت حجیة اخبار الثقة ثابتة بالاستصحاب لدار إذ معنی ذلک أن حجیة أخبار الثقة متوقفة علی حجیة الاستصحاب وحجیته متوقفة علی حجیة أخبار الثقة فیلزم توقف حجیة أخبار الثقة علی حجیة أخبار الثقة وهذا مستحیل لأنه من توقف الشیء علی نفسه ومرده إلی علیة الشیء لنفسه وهی مستحیلة.

هذا مضافا إلی أن هذا الدور مبنی علی أن یکون دلیل الاستصحاب هو حجیة أخبار الثقة وأما إذا قیل أن دلیل حجیته هو حکم العقل أو الاجماع فلا یلزم هذا الدور، وإن کان هذا القیل غیر ثابت.

الوجه الرابع: أن الآیات الناهیة کما تصلح ان تکون رادعة عن السیرة کذلک تصلح أن تکون رادعة عن الاستصحاب لأن الاستصحاب أیضا داخل فی عدم العلم أی الظن والآیات تدل علی حرمة العمل بالظن فلا یمکن الاعتماد علی هذا الاستصحاب.

وهذا الوجه صحیح بعد التنازل عن أن السیرة لا تصلح أن تکون مخصصة لعمومات هذه الآیات الناهیة.

هذا کله حول ما ذکره صاحب الکفایة(قده).

الوجه الثالث: ما ذکره (1) السید الاستاذ(قده) من أنا نقطع بعدم الردع عن هذه السیرة ونقطع بإمضائها شرعا وثابتة فی الشریعة المقدسة فقد أفاد فی وجه ذلک أمرین:

الأول: ان هذه السیرة مستمرة بین أصحاب النبی الأکرم(ص) وتابعیه بکافة طوائفهم وهکذا فی زمن الأئمة الأطهار(ع) ولم یرد أی ردع أو منع لا من النبی الأکرم(ص) ولا من الأئمة الأطهار(ع) فی هذه الفترة الزمنیة الطویلة فإنهم کانوا یعملون علی أخبار الثقة فی أمورهم الدینیة الاجتماعیة والفردیة والمادیة والمعنویة وفی علاقاتهم مع المجتمع لیلا ونهارا بأخبار الثقة رغم وجود هذه الآیات فی الکتاب العزیز ولا یخطر ببالهم أن هذه الآیات رادعة عن السیرة، فهم یعملون علی طبق مرتکزاتهم فإن مرتکزات کل إنسان وتقالیده هی المحددة لسلوکه الخارجی الاجتماعی والفردی والمادی والمعنوی فما دام لم یکن هنا مانع وردع عن العمل بمرتکزاته وتقالیده فهو یتحرک علی طبقها بدون ادنی منبه وتذکیر فی البین.

ص: 84


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد الواعظ الحسینی، ج2، ص199.

وعلی هذا فنقطع أن هذه السیرة غیر مردوع عنها لا من النبی الأکرم(ص) ولا من الأئمة الأطهار(ع) فی طول هذه الفترة الزمنیة.

الأمر الثانی: أن مفاد هذه الآیات الناهیة إرشاد إلی حکم العقل وهو تحصیل الأمن من العقوبة ولیس حکما تکلیفیا مولویا، فإن العقل مستقل بتحصیل الأمن من الإدانة والعقوبة فی مقام الامتثال والطاعة لأن هم العقل هو تحصیل المؤمن من العقوبة. وهذ الآیات الناهیة مفادها الإرشاد إلی هذا الحکم العقلی والمؤمن الذاتی هو العلم الوجدانی فإذا علم الإنسان بأن صلاته مطابقة للواقع وصحیحة حصل له الأمن من العقوبة وأما حجیة أخبار الثقة فهی مؤمنة بالعرض وحیث أن کل ما بالعرض لا بد أن ینتهی إلی ما بالذات فحجیة أخبار الثقة إنما تکون مؤمنة باعتبار القطع بحجیتها ففی الحقیقة المؤمن هو القطع بحجیة أخبار الثقة، فإذا حصل للمکلف القطع بالمؤمن فهو یکتفی فی مقام الامتثال والإطاعة سواء علم بمطابقة عمله للواقع أو لم یعلم.

وعلی هذا فالسیرة العقلائیة حیث قد جرت علی العمل بأخبار الثقة فتکون أخبار الثقة حجة بعد إمضاء الشارع لهذه السیرة وحجیة أخبار الثقة قطعیة فتکون أخبار الثقة مؤمنة من جهة القطع بحجیتها وهذا القطع هو المؤمن من الإدانة والعقوبة فی مرحلة الامتثال.

وعلی هذا فالسیرة العقلائیة القائمة علی العمل بأخبار الثقة التی تدل علی حجیتها واردة علی هذه الآیات الناهیة ورافعة لموضوعها وجدانا فإن موضوع النهی فی هذه الآیات عدم المؤمن أی لا یجوز العمل بما لا یؤمن من الإدانة والعقوبة.

فتقدیم السیرة العقلائیة القائمة علی العمل بأخبار الثقة التی تدل علی حجیتها بعد الإمضاء وحیث أن المکلف یقطع بحجیة أخبار الثقة فیکون قطعه رافع لموضوع هذه الآیات الناهیة وجدانا فتکون السیرة العقلائیة واردة فی نهایة المطاف علی هذه الآیات المبارکة نظیر حکومة [ورود] الأصول العملیة کالاستصحاب ونحوه علی الأصول العملیة العقلیة کأصالة البراءة العقلیة فإن الاستصحاب وارد علی أصالة البراءة العقلیة لأن موضوعها عدم البیان ولا شبهة فی أن الاستصحاب مع حجیته بیان فمن أجل ذلک یکون تقدیم الاستصحاب علی أصالة البراءة العقلیة بالورود لا بالحکومة وکذا تقدیمه علی أصالة التخییر العقلی إذ لا شبهة فی أن الاستصحاب مرجح والعقل إنما یحکم بالتخییر إذا لم یکن لأحدهما مرجح علی الآخر.

ص: 85

هکذا ذکره السید الاستاذ(قده).

أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة

إلی هنا قد تبین أن ما ذکره السید الاستاذ(قده) من ان مفاد هذه الآیات إرشاد إلی ما استقل به العقل وهو تحصیل المؤمن من الإدانة والعقوبة فی مقام الامتثال والإطاعة فإن العقل مستقل فی ذلک وانه یجب علی المکلف تحصیل المؤمن من الإدانة والعقاب فی مقام الامتثال والإطاعة والآیات الکریمة مفادها إرشاد إلی ذلک.

وعلی هذا فلا شبهة فی أن سیرة العقلاء بعد حجیتها وإمضاء الشارع لها مؤمنة، فأخبار الثقة بعد حجیتها خارجة عن عموم الآیات بالورود خروجا موضوعیا لا بالحکومة.

وللنظر فیما أفاده(قده) مجال فإن الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم وبالظن تصنف إلی أصناف ثلاثة:

الصنف الأول: ما یکون مدلوله مختص بأصول العقائد ولا یعم الأحکام الفرعیة العملیة.

الصنف الثانی: ما یکون مدلوله شاملا للأحکام الفرعیة العملیة أیضا.

الصنف الثالث: أیضا یعم الأحکام العملیة الفرعیة.

أما الصنف الأول: فهو قوله تعالی: [وَإِنَّ الظَّنَّ لَا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئًا] (1) فإن هنا قرینتین علی أن هذه الآیة لا تشمل الأحکام الفرعیة العملیة:

القرینة الأولی: هو النهی عن العمل بالظن مطلقا فمقتضی إطلاق قوله تعالی: [إن الظن لا یغنی من الحق] أن الظن لا أثر له أصلا مع أنه لا شبهة فی جملة من الموارد أن الظن بما هو ظن حجة فی الأحکام الفرعیة العملیة، منها رکعات الصلاة فإن الظن حجة فیها وکذلک فی موارد الشکوک فی الرکعات فلا شبهة فی حجیة الظن بما هو ظن فی بعض الفروع الفقهیة وکذا فی غیرها من الموارد.

فإطلاق هذه الآیة المبارکة قرینة علی اختصاصها بأصول العقائد.

ص: 86


1- النجم/السورة53، الآیة28.

القرینة الثانیة: کلمة الحق فی الآیة المبارکة فإنها ظاهرة فی الواقع ولیس المراد منها العلم وإن فسرت بذلک فی بعض الموارد فإن المطلوب فی أصول العقائد هو الوصول إلی الواقع بینما فی الأحکام الشرعیة العملیة المطلوب هو تحصیل الأمن من الإدانة والعقوبة سواء کان العمل مطابق للواقع أم لم یکن إذ لیس هم المکلف تحصیل الواقع والوصول إلیه بل همه تحصیل المؤمن فی مرحلة الامتثال والإطاعة، وهو المطلوب فی الأحکام الفرعیة العملیة کان العمل مطابقا للواقع ام لم یکن فإذا کان خبر الثقة حجة فالعمل به مؤمنا من الإدانة والعقوبة کان مطابقا للواقع أم لم یکن ومن هنا لا شبهة فی کون الانقیاد من أظهر مصادیق الطاعة فإن الانقیاد قد یکون مطابقا للواقع وقد لا یکون کذلک کما أن التجری والتمرد من أظهر أفراد العصیان والتعدی علی المولی مع أنه غیر مطابق للواقع.

فإذن المطلوب فی الأحکام الفرعیة العملیة لیس هو الوصول إلی الواقع بل هو تحصیل الأمن من العقوبة والإدانة فی مرحلة الامتثال والإطاعة. بینما المطلوب فی أصول العقائد لیس تحصیل الأمن من العقوبة بل هو الوصول إلی الواقع فإن الغرض من إثبات التوحید وإثبات الرسالة وإثبات الإمامة وما شاکل ذلک هو الوصول إلی الواقع.

فإذن کلمة الحق قرینة علی اختصاص الآیة المبارکة بالعقائد فلا تشمل الأحکام الفرعیة العملیة التی لیس المطلوب فیها الوصول الی الواقع.

فهذان الأمران قرینتان علی اختصاص الآیة بأصول العقائد فلا تشمل الأحکام الفرعیة العملیة. ومما یؤید ذلک وقوع هذ الآیة فی سیاق الآیات التی وردت فی شجب عمل الکفار والمشرکین بظنونهم وتخمیناتهم فی أصول العقائد.

ومع الإغماض عن ذلک وتسلیم أن الآیة غیر ظاهرة فی أصول العقائد فالمحتمل فی الآیة أمران:

ص: 87

الأمر الأول: ان یکون مفادها إرشاد إلی ما استقل به العقل وهو تحصیل المؤمن من العقوبة.

الثانی: أن یکون مفادها الإرشاد إلی عدم حجیة الظن.

فالأمر یدور بین هذین الاحتمالین ومناسبة الحکم والموضوع تقتضی أن یکون المراد من الآیة الاحتمال الثانی وذلک لأن کل کلام صادر من المولی ظاهر فی إعمال المولویة فحمله علی الإرشاد بحاجة إلی قرینة لأن معنی الإرشاد هو الأخبار ولیس متکفلا لأی حکم شرعی، وهذا قرینة علی أن المراد من الآیة الاحتمال الثانی، فإن فیه شائبة المولویة، فیکون مفادها حکم مولوی وهو عدم حجیة الظن، وأما الاحتمال الأول فهو أخبار فقط عن حکم العقل ولا یکون فیه شائبة إعمال المولویة بل هو أخبار عن حکم العقل بتحصیل المؤمن فی مقام الامتثال والطاعة.

وأما الصنف الثانی من الآیات الکریمة: فهو قوله تعالی: [قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی اللّهِ تَفْتَرُونَ] (1) فإن هذه الآیة تدل علی حرمة الافتراء علی الله تعالی ولا شبهة فی أن العمل بالخبر بدون أن یکون حجة افتراء علی الله تعالی باعتبار أن المراد من العمل بالخبر هو أسناد مؤداه إلی الشارع ومع عدم ثبوته فهو افتراء علی الله تعالی، وحینئذ یکون حرام وغیر جائز. واما إذا کان الخبر حجة کأخبار الثقة فإنها تکون حجة فإذا کانت حجة فالعمل بأخبار الثقة لیس افتراء علی الله تعالی وحینئذ یجوز إسناد مؤداها إلی الشارع سواء کان مؤداها الوجوب أو الحرمة ام غیره من الأحکام التکلیفیة او الوضعیة فیجوز إسناد مؤداها إلی الشارع کما یجوز الاستناد إلیه فی مقام الامتثال فلا یکون افتراء.

وعلی هذا فهذه الآیة الکریمة وما شاکلها مفادها الحکم التکلیفی المولوی التشریعی لا الذاتی، أی أن مفادها الحرمة التشریعیة لا الحرمة الذاتیة، ولیس مفادها الإرشاد لا الإرشاد إلی حکم العقل ولا الإرشاد إلی عدم حجیة الظن بل مفادها الحرمة التکلیفیة التشریعیة.

ص: 88


1- سورة یونس، آیة59.

وعلی هذا فالسیرة العقلائیة بعد حجیتها واردة علی الآیة المبارکة لأن سیرة العقلاء بعد إمضائها وحجیتها تکون أخبار الثقة حجة وحینئذ یجوز إسناد مؤداها إلی الشارع قطعا کما یجوز الاستناد إلیه فی مقام العمل قطعا.

فأخبار الثقة بعد حجیتها تکون واردة علی الآیة ورافعة لموضوعها فإن موضوع الآیة المبارکة الافتراء والعمل بأخبار الثقة لیس بافتراء قطعا بل الشارع أجاز ذلک.

فتقدیم السیرة العقلائیة علی الآیة الکریمة وما شاکلها إنما هو من باب الورود، وعلی هذا فإن ما ذکره السید الاستاذ(قده) من ان مفاد الآیة إرشاد إلی ما استقل به العقل لا یمکن المساعدة فی مثل هذه الآیة المبارکة، فإن مفاد هذه الآیة وما شاکلها لیس إرشادا بل هو حکم تکلیفی تشریعی وهذا الحکم التکلیفی یدور مدار الافتراء علی الله تعالی وتقدس وعدم الافتراء، بل لا قرینة علی الإرشاد.

ودعوی ان هذه الآیة غیر قابلة للتخصیص وهو قرینة علی الإرشاد فإن حکم العقل بلزوم تحصیل المؤمن غیر قابل للتخصیص فعدم قبول هذه الآیة للتخصیص قرینة علی أن مفادها الإرشاد [هذه الدعوی] لیس الأمر فیها کذلک فإن مفاد هذه الآیة واضح وهو حرمة الافتراء وحرمة الافتراء غیر قابلة للتخصیص إذ لا یعقل أن یکون الافتراء علی الله جائزا فهذا الأمر غیر محتمل إذ ما دام یصدق علیه الافتراء فهو غیر جائز.

وعلی هذا فالسیرة العقلائیة بعد حجیتها واردة علی هذه الآیة وان العمل بها لیس افتراء علی الله تعالی.

ثم أن هذه الآیة مسوقة بنحو القضیة الحقیقیة کما هو الحال فی جمیع الآیات الناهیة والآیات الآمرة والسنة إلا فی بعض الموارد فإن الآیات والروایات التی هی فی مقام التشریع مفادها قضیة حقیقیة ونقصد بالقضیة الحقیقیة أن الحکم الشرعی مجعول فی هذه القضیة للموضوع المقدر وجوده فی الخارج اما أن الموضوع موجود او غیر موجود فالقضیة لا تدل علی ذلک، لأن القضیة تدل علی أن هذا الحکم ثابت للموضوع علی تقدیر وجوده فی الخارج وأما أن هذه التقدیر ثابت أو غیر ثابت فلیس للقضیة نظر إلیه، مثلا قوله تعالی: [وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا] (1) تدل علی وجوب الحج عل المستطیع علی تقدیر وجوده فی الخارج واما أن المستطیع موجود أو غیر موجود فالآیة لا تدل علی ذلک ومن هنا ترجع القضیة الحقیقیة إلی قضیة شرطیة مقدمها وجود الموضوع وتالیها ثبوت المحمول، وثبوت المحمول للموضوع بنحو القضیة الشرطیة یعنی علی تقدیر وجود الموضوع فالمحمول ثابت له کما هو الحال فی جمیع القضایا الشرعیة التی وردت فی مرحلة جعل الأحکام الشرعیة.

ص: 89


1- سورة آل عمران، آیة97.

فمفاد هذه الآیة هو حرمة الافتراء علی الله تعالی وأما أن هذه الشیء افتراء أو لیس بافتراء فالآیة لا تدل علی أنه افتراء او لیس افتراء، بل تدل علی أنه علی تقدیر کونه افتراء فهو حرام واما ان هذا التقدیر ثابت أم لیس بثابت فالآیة ساکتة عن ذلک.

فالنتیجة أن هذه الآیة لا یکون مفادها الإرشاد بل مفادها الحکم التکلیفی المولوی التشریعی وان سیرة العقلاء بعد حجیتها واردة علی هذه الآیة ورافعة لموضوعها وجدانا.

فما ذکره السید الاستاذ(قده) لا ینطبق علی هذه الآیة وما شاکلها.

أدلة حجیة خبر الواحد- السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد- السیرة العقلائیة

إلی هنا قد تبین أن الصنف الأول من الآیات الناهیة مختص بالمسائل العقائدیة بقرینتین مذکورتین فیها، والصنف الثانی لا یدل علی الردع فإنه یدل علی ان المکلف إذا کان مأذونا یجوز له الاتیان بالعمل ولا یکون فیه افتراء علی الله تعالی وإن لم یکن مأذونا فهو افتراء علی الله تعالی فهذه الآیة لا تدل علی الردع عن العمل بالسیرة فإن السیرة إذا قامت علی حجیة اخبار الثقة فیکون العمل بأخبار الثقة مأذونا من قبل الله تعالی فلا یکون فیه افتراء. واما إذا لم تقم السیرة علی العمل بأخبار الثقة فلا یکون العمل بها مأذونا فهو افتراء علی الله.

وعلی کلا التقدیرین فالآیة الکریمة لا تکون ناظرة إلی ان السیرة تدل علی حجیة أخبار الثقة أو لا تدل علی ذلک، فالآیة إنما هی ناظرة إلی أن کلما ما کان مأذونا من قبل الله تعالی فلا افتراء فیه وما لم یکن مأذونا فهو افتراء ومحرم واما أی شیء مأذون وأی شیء لا یکون مأذونا فی الخارج فالآیة غیر ناظرة إلیه أی الآیة تدل علی الکبری ولا تنظر إلی تحقق الصغری هل انها محققة أو لیس محققة؟

ص: 90

وأما الصنف الثالث من الآیات الناهیة فهو قوله تعالی: [وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا] (1) فإن هذه الآیة المبارکة تدل علی أنه لا یجوز الاعتماد علی کل ما لیس بعلم والاستناد إلیه فی مقام العمل وما کان علما فیجوز الاعتماد والاستناد إلیه.

وعلی هذا فمفاد الآیة المبارکة هل هو إرشاد إلی عدم حجیة ما لیس بعلم وجدانی أو أنه إرشاد إلی حکم العقل بتحصیل المؤمن فی مرحلة الامتثال والإطاعة؟

والظاهر هو الأول وأن مفاد الآیة إرشاد إلی عدم حجیة ما لیس بعلم وجدانی؛ فإن مناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة تقتضی الأول لأن الآیات الکریمة والروایات الصادرة من المولی ظاهرة فی المولویة، وحملها علی الإرشاد والإخبار عن حکم العقل بحاجة إلی قرینة وطالما لم تکن فی البین قرینة فلا یمکن حمل الآیة علی الإرشاد لأن ظاهر الآیة هو بیان الحکم المولوی والحکم الشرعی ولأجل ذلک تکون الآیة ظاهرة فی الإرشاد إلی عدم الحجیة باعتبار أن عدم الحجیة حکم مولوی لا بد من صدوره من قبل المولی، فحمل الآیة علی هذا أنسب من حملها علی الثانی فإن الثانی لیست فیه شائبة المولویة بل هو فی الحقیقة إخبار عن حکم العقل بوجوب تحصیل المؤمن فی مقام الامتثال والطاعة ولهذا لو لم تکن الآیة المبارکة فالعقل مستقل بذلک، فمن أجل ذلک لا یمکن حمل الآیة علی المولویة کالآیات التی تدل علی الإطاعة والروایات التی تدل علی وجوب الامتثال فإن هذه الآیات لا یمکن أن یکون مفادها حکما مولویا بل هو إرشاد إلی ما استقل بهه العقل وهو وجوب طاعة المولی وتحصیل المؤمن من الإدانة والعقوبة من قبل المولی فی مرحلة الامتثال ومرحلة الطاعة.

ص: 91


1- سورة الإسراء، الآیة36.

هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری الظاهر أن المراد من العلم فی الآیة المبارکة هو مطلق الحجة ولیس المراد منه العلم الوجدانی وذلک بقرینة ذیل الآیة وهو قوله تعالی: [إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا] فإن هذه الذیل یدل علی أن المناط فی المسؤولیة هو متابعة مطلق الحجة ولا شبهة فی أن خبر الثقة إذا کان حجة فهو رافع للمسؤولیة، ورفع المسؤولیة لا یتوقف علی العلم الوجدانی فیکفی فی رفع المسؤولیة الحجة الشرعیة وإن لم یعلم أنها مطابقة للواقع أو لم تکن مطابقة للواقع فإذا کان خبر الثقة حجة فهو رافع للمسؤولیة عن العبد فإذا عمل به فلا مسؤولیة علیه عند المولی ولا إدانة ولا عقوبة علیه سواء کان الخبر مطابقا للواقع أم لم یکن مطابقا للواقع فالمناط إنما هو بالمسؤولیة وعدم المسؤولیة، فهذه الآیة قرینة علی ان المراد من العلم مطلق الحجة فإن المسؤولیة وعدم المسؤولیة یدوران مدار حجیة شیء وعدم حجیته فإذا عمل بخبر الثقة ولم یکن حجة فهو مسؤول أمام الله وإن کان الخبر مطابقا للواقع وأما إذا کان الخبر حجة وعمل به فهو لیس بمسؤول ومأمونا من العقوبة والإدانة وإن کان الخبر مخالفا للواقع.

فهذه الآیة قرینة علی أن المراد من العلم لیس هو العلم الوجدانی بل المراد منه مطلق الحجة.

وعلی هذا فالآیة الکریمة مفادها قضیة حقیقیة وتدل علی أن العمل بکل ما هو حجة شرعا رافع للمسؤولیة وللإدانة والعقوبة سواء کان موافقا للواقع أم لم یکن موافقا للواقع. وکل ما لیس بحجة إذا عمل به یکون مسؤولا ومدانا من قبل الله تعالی وإن کان مطابقا للواقع. فالآیة تدل بنحو القضیة الحقیقیة علی هذه الکبری الکلیة.

ولکن لا تدل علی تحدید الصغری فأی شیء فی الخارج حجة وأی شیء آخر فی الخارج لیس بحجة لا تدل علی ذلک. وإنما تدل علی أنه علی تقدیر کونه حجة فالعمل به یوجب الأمن من العقوبة ویرفع المسؤولیة عن العبد والعقوبة عنه وإن کان مخالفا للواقع، وأما أن هذا التقدیر ثابت فی الواقع أولا فهی غیر ناظرة الی ذلک کما هو الحال فی جمیع القضایا الحقیقیة، حیث أنها تدل علی ثبوت الحکم للموضوع المفروض والمقدر الوجود فی الخارج وأما انه موجود فیه او لا فالقضیة الحقیقیة لا تدل علی ذلک.

ص: 92

إلی هنا قد تبین أن هذا الصنف من الآیات الناهیة أیضا لا یصلح ان یکون رادعا عن السیرة ومانعا عن العمل بها وأنه یدل علی أن العمل بکل ما هو حجة فلا یکون المکلف عنه مسؤولا ویکون مأمونا من العقوبة وإن کان مخالفا للواقع. والعمل بکل ما لیس بحجة فهو لیس بمأمون من العقوبة فهو مسؤول وأن کان العمل مطابقا للواقع.

فإذن هذا الصنف من الآیات لا یدل علی أن سیرة العقلاء الجاریة علی العمل بأخبار الثقة حجة أو لیست بحجة فهی غیر ناظرة إلی المانع والرادع عن حجیتها.

نعم لو کان المراد من العلم فی هذه الآیة المبارکة العلم الوجدانی فعندئذ تکون الآیة المبارکة مانعة عن حجیة ما لیس بعلم وجدانی والمفروض أن خبر الثقة لیس بعلم وجدانی فعندئذ تدل هذه الآیة علی عدم حجیة خبر الثقة.

ولکنه علی هذا أیضا یمکن الأمر بالعکس فإذا قامت السیرة علی العمل بأخبار الثقة وکانت هذه السیرة ممضاة من قبل الشرع فتکون أخبار الثقة حجة وحینئذ فهو مخصص لعموم هذه الآیة المبارکة، فتکون السیرة مقدمة علی هذا الصنف من الآیات المبارکة فی التخصیص لأن النسبة بین عموم هذه الآیة والسیرة عموم مطلقا أی نسبة العام والخاص فلا بد من تخصیص عموم هذا الصنف من الآیات الکریمة بالسیرة.

فالنتیجة أن هذه الأصناف من الآیات منها ما هو أجنبی عن المقام وهو الصنف الأول ومختص بالمسائل الاعتقادیة، ومنها لا یصلح أن یکون رادعا عن السیرة وهو الصنف الثانی، ومنها ما یصلح للرادعیة فیما إذا کان المراد من العلم هو العلم الوجدانی ومع ذلک لا بد من تقدیم السیرة علیه من باب تقدیم الخاص علی العام لأن النسبة بینهما العموم والخصوص المطلق.

ص: 93

هذا کله فی الآیات الکریمة.

الوجه الرابع: ما ذکره المحقق الأصفهانی(قده) (1) وحاصله انه لا دلیل علی حجیة ظواهر هذه الآیات الناهیة حتی تصلح أن تکون رادعة عن السیرة لأن السیرة العملیة قد جرت علی العمل بأخبار الثقة وتدل علی حجیة اخبار الثقة بعد إمضائها شرعا ومن الواضح انه لا یمکن قیام هذه السیرة علی حجیة ظواهر هذه الآیات أیضا وإلا لزم التناقض والتهافت بین السیرتین: السیرة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة ومفادها حجیة أخبار الثقة ومعنی حجیة أخبار الثقة أن هذه الآیات لا تصلح أن تکون رادعة ومعنی قیام السیرة علی حجیة ظواهر هذه الآیات الناهیة انها رادعة عن السیرة فیلزم التناقض والتهافت بینهما، فمن أجل ذلک لا یمکن القول بان ظواهر هذه الآیات حجة.

والجواب عن ذلک واضح؛ فهذا الإشکال غریب من مثله(قده) فإن السیرة لم تقم علی حجیة ظواهر الآیات الناهیة فقط بل السیرة إنما قامت علی حجیة ظواهر الالفاظ مطلقا ومنها ظواهر هذه الآیات وإلا فالسیرة لیست قائمة علی حجیة ظواهر هذه الآیات فقط حتی یلزم التهافت والتناقض بل السیرة جاریة علی حجیة ظواهر الالفاظ مطلقا من الکتاب والسنة ولا تنافی بین هذه السیرة والسیرة القائمة علی حجیة أخبار الثقة إلا بالإطلاق والتقیید أو بالعموم والخصوص ولا مانع من ان یشمل دلیل الحجیة العام والخاص معا لعدم التنافی بینهما لإمکان الجمع الدلالی العرفی بینهما.

وفی المقام کذلک لا مانع من قیام السیرة علی حجیة ظواهر الالفاظ من الکتاب والسنة وقیام السیرة علی حجیة أخبار الثقة ولا تنافی بینهما إلا بالإطلاق والتقیید او العموم والخصوص ومن الواضح إمکانیة الجمع الدلالی العرفی بینهما وحینئذ لا مانع من شمول دلیل الاعتبار لکلیهما معا بدون أی تنافی بینهما.

ص: 94


1- نهایة الدرایة فی شرح الکفایة، المحقق الاصفهانی، ج3، ص253.

خبار الثقة فلا یکون العمل بها مأذونا فهو افتراء علی اللهال

أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة

کان کلامنا فیما ذکره المحقق الأصفهانی(قده) من أنه لا یمکن الجمع بین السیرة القائمة علی حجیة ظواهر الالفاظ ومنها ظواهر الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم وبین السیرة القائمة علی العمل بأخبار الثقة فإن مقتضی السیرة القائمة علی حجیة الظواهر ومنها ظواهر الآیات الناهیة أن ظواهر الآیات الناهیة حجة فإذا کانت حجة فهی رادعة عن العمل بأخبار الثقة ومعناه أن أخبار الثقة لیست بحجة ومعنی قیام السیرة علی العمل بأخبار الثقة أن أخبار الثقة حجة فلهذا یلزم اجتماع النقیضین فمن أجل ذلک لا یمکن الجمع بین هذین السیرتین.

وقد أورد علیه أنه لا تنافی بین السیرتین فإن السیرة القائمة علی حجیة ظواهر الالفاظ مطلقا ومنها ظواهر هذه الآیات لا تنافی بینها وبین السیرة العقلائیة القائمة علی العمل بأخبار الثقة فإن التنافی بینهما من التنافی بین الإطلاق والتقیید أو التنافی بین العام والخاص وهذا التنافی غیر مستقر فلا مانع من شمول دلیل الحجیة لکل من العام والخاص معا ولکل من المطلق والمقید وبعد شمول دلیل الحجیة یمکن الجمع الدلالی العرفی بینهما ولا فرق فی ذلک بین ان تقوم السیرة العقلائیة علی حجیة الظواهر مطلقا ومنها ظواهر الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم وبین قیام السیرة علی العمل بظواهر الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم خاصة فإن بین السیرة القائمة علی العمل بظواهر هذه الآیات وبین السیرة القائمة علی العمل بأخبار الثقة أیضا عموم وخصوص مطلقا ولا تنافی بینهما من هذه الناحیة فلا مانع من شمول دلیل الحجیة لکل من أخبار الثقة وظواهر هذه الآیات الناهیة معا لإمکان الجمع الدلالی العرفی بینهما من خلال حمل العام علی الخاص والمطلق علی المقید.

ص: 95

ثم أن بعض المحققین(قده) قد أورد علی ما ذکره المحقق الأصفهانی بإشکالین :

الإشکال الأول: ان سیرة العقلاء الجاریة علی العمل بأخبار الثقة کان العمل بأخبار الثقة فعلیا بین العقلاء قبل مجیء الشریعة؛ فإن المقتضی للعمل بأخبار الثقة موجود وهو سیرة العقلاء المرتکزة فی الأذهان والمانع مفقود فالعمل بأخبار الثقة یکون فعلیا بین العقلاء وهم یعملون بأخبار الثقة فی أمور معاشهم الاجتماعیة والفردیة وفی الأوامر المولویة العرفیة بین الموالی وبین العبید فهم یعملون بأخبار الثقة.

واما بعد مجیء الإسلام فالسیرة تقتضی العمل بأخبار الثقة إذ لو خلی الإنسان بطبعه کان یعمل بأخبار الثقة لأن المقتضی موجود وهو سیرة العقلاء المرتکزة فی الأذهان فإنها تقتضی العمل بأخبار الثقة ولکن حیث أن بعد مجیء الشریعة احتمال وجود الرادع والمانع موجود فلا بد من إحراز انه لا رادع فی البین فالمقتضی للعمل بأخبار الثقة موجود ولکن فعلیة العمل بأخبار الثقة تتوقف علی إحراز عدم الرادع عن العمل بها وعدم وجود المانع فلا بد من إحراز عدم وجود المانع.

وعلی هذا فالسیرة العقلائیة القائمة علی العمل بأخبار الثقة تقتضی العمل بها اقتضاء واما السیرة القائمة علی العمل بظواهر الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم فهی تقتضی فعلیة العمل بها من حیث کونها رادعة ومانعة ولا تنافی بین السیرتین؛ فإن السیرة الأولی تقتضی العمل بأخبار الثقة اقتضاء لا فعلا وأما السیرة الثانیة فهی تقتضی العمل بالظواهر بما هی رادعة فعلا ولا تنافی بینهما أی بین ما یکون مقتضیا لإیجاد شیء اقتضاء وبین ما یکون مقتضیا خلافه فعلا، فلا تنافی بینهما ولا یلزم التناقض.

فما ذکره المحقق الأصفهانی(قده) من التناقض مبنی علی أن کلتا السیرتین تقتضی العمل بأخبار الثقة وبظواهر هذه الالفاظ أی الآیات الناهیة عن العمل فعلا فعندئذ یلزم التناقض واما إذا کانت السیرة الأولی تقتضی العمل بأخبار الثقة اقتضاء لا فعلا وأما السیرة القائمة علی العمل بالظواهر الآیات الناهیة فهی تقتضی العمل بها فعلا بعنوان کونها رادعة ومانعة فلا تنافی بین ما یکون مقتضیا لشیء اقتضاء وبین ما یکون مقتضیا خلافه فعلا فلا تنافی بینهما.

ص: 96

الإشکال الثانی: لو سلمنا أن السیرة العقلاء القائمة علی العمل بأخبار الثقة بعد ورود الشرع تقتضی العمل بأخبار الثقة فی أمور معاشهم وفی الأحکام الشرعیة المولویة فعلا فالمقتضی موجود وهو السیرة المرتکزة فی الأذهان والمانع مفقود وهو عدم وجود الرادع وعدم وجود المانع فسیرة العقلاء تقتضی العمل بأخبار الثقة فعلا بعد مجیء الاسلام وبعد وجود الشریعة کما انها تقتضی العمل بأخبار الثقة فعلا فی عصر العقلاء قبل مجیء الإسلام کذلک تقتضی بعد مجیء الإسلام، إلا أن السیرة القائمة علی العمل بظواهر الآیات الناهیة فإن مدلول هذه السیرة حجیة ظواهر هذه الآیات فإن هذه الآیات حجة وکاشفة عن مراد المولی الجدی النهائی فی الواقع ولا تقتضی العمل بها إذ لا ملازمة بین حجیة شیء والعمل به فإنه لا شبهة فی أن ظهور الآیات حجة ولکن قد یعمل بها وقد لا یعمل فلا ملازمة بن حجیة شیء وبین العمل به فإن کثیرا من العقلاء لا یعملون بالأحکام الشرعیة. فمفاد السیرة القائمة علی العمل بظواهر الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم حجیة هذه الظاهرة وانها حجة وکاشفة عن الواقع ولا تقتضی العمل بها فإن العمل بالحجة شیء آخر فلا ملازمة بین حجیة شیء والعمل به.

وعلی هذا فلا تنافی بین السیرتین فإن السیرة القائمة علی العمل بأخبار الثقة فإنها تقتضی العمل بها فعلا واما السیرة القائمة عل العمل بظواهر الالفاظ فإنها لا تقتضی العمل بها وإنما تقتضی حجیتها وکاشفیتها عن الواقع فلا تنافی بین الأمرین.

هکذا ذکره(قده) علی ما فی تقریر بحثه.

وللمناقشة فیهما مجال.

فمضافا إلی ما ذکرناه من أنه لا تنافی بین السیرتین بین السیرة القائمة علی العمل بظواهر الالفاظ ومنها ظواهر هذه الآیات الناهیة وبین السیرة القائمة علی العمل بأخبار الثقة فإن النسبة بین السیرتین عموم وخصوص مطلق ولا تنافی بین العام والخاص ولا مانع من أن یکون کلاهما مشمولا لدلیل الحجیة لإمکان الجمع الدلالی العرفی بینهما، وفی المقام الأمر کذلک فإن ظهور الآیات الناهیة أو ظهور الالفاظ مطلقا أعم من أخبار الثقة فلا مانع من شمول السیرة لکلیهما معا ولا یلزم أی تناقض وتهافت لإمکان الجمع الدلالی العرفی بینهما.

ص: 97

مضافا إلی ذلک فکلا الإشکالین مورد للمناقشة:

أما الإشکال الأول فلا شبهة فی أن العمل بأخبار الثقة بعد مجیء الإسلام یکون فعلیا لأن السیرة حیث أنها مرتکزة فی الأذهان وثابتة فی أعماق نفوسهم کالجبلة والفطرة فهم یعملون بأخبار الثقة فی امور معاشهم وفی العلاقات الاجتماعیة الدینیة وغیرها بدون ادنی التفات إلی أن هناک مانع أو لا أو رادع أو لا وبدون أی منبه وتذکیر ویتحرکون فی الخارج علی طبق هذا الارتکاز فإن المرتکزات النفسیة الثابتة فی أعماق نفوس الإنسان تحدد سلوک الإنسان فی الخارج فإذن لا شبهة فی أنهم بعد مجیء الإسلام یعملون بأخبار الثقة فعلا فی أمور معاشهم وعاداتهم وعلاقاتهم الاجتماعیة والدینیة والمادیة والمعنویة.

فما ذکره(قده) من أن السیرة تقتضی العمل بأخبار الثقة بعد مجیء الإسلام اقتضاء لا فعلا لا یمکن المساعدة علیه.

واما ما ذکره(قده) من الإشکال الثانی فإن لزوم التناقض إنما هو فی مرحلة الجعل لا فی مرحلة التطبیق والعمل فإن قیام السیرة علی العمل بأخبار الثقة معناه أنها حجة ومعنی انها حجة انه لا رادع لها ولا مانع عنها ومعنی قیام السیرة علی العمل بظواهر الالفاظ ومنها ظواهر الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم أن ظواهر الالفاظ حجة ومعنی حجیتها أن ظواهر الآیات الناهیة حجة فإذا کانت حجة فهی رادعة عن حجیة أخبار الثقة وهذا هو معنی التناقض فیلزم الجمع بین حجیة أخبار الثقة وعدم حجیتها وبین رادعیة الآیات الناهیة وعدم رادعیتها ومعنی أن أخبار الثقة حجة أن ظواهر الآیات الناهیة لیس برادعة ومعنی أن ظواهر هذه الآیات حجة ان أخبار الثقة لیست بحجة لأنها رادعة عنها فمن أجل ذلک یلزم التناقض فی مرحلة الجعل فلیس الکلام فی لزوم التناقض فی مرحلة التطبیق والعمل وإنما لزوم التناقض فی مرحلة الجعل.

ص: 98

أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة. بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أن ما ذکره المحقق الأصفهانی(قده) أراد به أن السیرة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة مفادها حجیة أخبار الثقة وانها حجة لدی العقلاء بمعنی المنجزیة والمعذریة والسیرة الجاریة علی العمل بظواهر الکتاب والسنة ومنها ظواهر هذه الآیات الناهیة معناها حجیة هذه الظواهر وأن الحجیة مجعولة لها بمعنی المنجزیة والمعذریة والجمع بین السیرتین بهذا المعنی لا یمکن فإن معنی حجیة أخبار الثقة أن ظاهر هذه الروایات المانعة لا تصلح أن تکون رادعة إذ لو کانت رادعة لم تکن أخبار الثقة حجة فحجیة أخبار الثقة معناه عدم صلاحیة رادعیة ظواهر هذه الآیات الناهیة ومعنی حجیة ظواهر هذه الآیات الناهیة أن السیرة مردوعة أی أن أخبار الثقة مردوعة ولیست بحجة فمن أجل ذلک لا یمکن الجمع بین السیرتین السیرة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة والسیرة الجاریة علی العمل بظواهر الکتاب والسنة ومنها ظواهر هذه الآیات الناهیة.

هذا هو مراد المحقق الأصفهانی(قده).

والإشکال علیه تارة بأن السیرة بعد مجیء الإسلام والشریعة تقتضی العمل بأخبار الثقة اقتضاء لا فعلا واما الاسیرة الجاریة علی العمل بالظواهر فهی تقتضی فعلیة العمل بها فلا یکون هناک تنافیا بینهما إذ لا تنافی بین ما یکون مقتضیا لشیء اقتضاء وبین ما یکون مقتضیا منافیه فعلا وما ذکره المحقق الأصفهانی من التنافی لا یمکن المساعدة علیه.

ولکن الجواب عن ذلک قد ظهر:

أولا: أن غرض المحقق الأصفهانی لیس العمل بمؤدی السیرة أی لیس العمل بأخبار الثقة عملا خارجیا ولیس العمل بظواهر الکتاب عملا خارجیا من باب الامتثال والتطبیق بل غرضه حجیة أخبار الثقة وحجیة ظواهر الآیات الناهیة عن العمل بالظن وحجیة الشیء لا تستلزم العمل به فالعمل شیء والحجیة شیء إذ یمکن أن یکون الشیء حجة ولکن المکلف لا یعمل به ویعصی فلا ملازمة بین حجیة شیء وبین العمل به فالتنافی بین حجیة أخبار الثقة وبین حجیة ظواهر الآیات الناهیة فی مرحلة الجعل أی جعل الحجیة لا فی مرحلة الامتثال والعمل الخارجی.

ص: 99

وأخری بان مفاد السیرة الجاریة علی العمل بظواهر الکتاب والسنة ومنها ظواهر هذه الآیات الناهیة حجیة هذه الظواهر وکاشفیتها عن مراد المولی الجدی النهائی فی الواقع وکذلک السیرة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة مفادها حجیتها وکاشفیتها عن مراد المولی الجدی النهائی فی الواقع، ولیس مفاد السیرة الجاریة علی العمل بظواهر الآیات العمل بمؤداها وامتثاله وکذلک المراد من السیرة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة لیس مفادها العمل بمؤدی هذه السیرة وهو العمل بأخبار الثقة وامتثالها حتی یکون بینهما تنافیا ولا یمکن الجمع بین العمل بأخبار الثقة والعمل بظواهر الآیات الناهیة.

ولکن هذا الاشکال لیس واردا لأن هذا الإشکال لیس مرادا للمحقق الأصفهانی(قده)، فلیس مراده العمل بمؤدی السیرة الجاریة علی حجیة ظواهر هذه الآیات ولیس مراده العمل بمؤدی السیرة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة بل مراده حجیة أخبار الثقة فإنها مفاد السیرة وحجیة ظواهر الکتاب والسنة ومنها ظواهر هذه الآیات الناهیة هذا هو مراده.

هذا مضافا إلی أنه لو کان المجعول الحجیة فی مرحلة الجعل ومراد المحقق الأصفهانی العمل بالمؤدی فأیضا التنافی موجود وبذلک لا ینحل التنافی فإن التنافی بن حجیة ظواهر هذه الآیات الناهیة وبین حجیة أخبار الثقة موجود لا یمکن الجمع بینهما فإن معنی حجیة ظواهر الآیات الناهیة أنها رادعة عن حجیة أخبار الثقة وأنها لیست بحجة ومعنی حجیة أخبار الثقة أنها لیست مردوعة وممنوعة عن العمل بها وأن ظاهر الآیات الناهیة لیس رادع عنها.

فالنتیجة أن ما أورده(قده) من الإشکال علی المحقق الأصفهانی(قده) غیر تام.

الوجه الرابع: ما ذکره بعض المحققین(قده) من ان السیرة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة فی زمن الأئمة(ع) بین أصحابهم وبین تابعیهم لا یمکن ان تکون الآیات الناهیة عن العمل رادعة عن هذه السیرة فإن هذه السیرة سیرة متشرعیة موجودة بین أصحاب الأئمة(ع) وتابعیهم وفی زمانهم مع وجود هذه الآیات الناهیة عن العمل بالظن وبغیر العلم فلو کانت هذه الآیات الناهیة عن العمل بالظن وبغیر العلم رادعة عن هذه السیرة لصدر من الأئمة(ع) منبه ینبه أصحابهم بأن هذه الآیات رادعة مع أنه لم یصدر منهم(ع) منبه لا نصا ولا إشارة ولا کنایة.

ص: 100

ومن هنا نستکشف أن هذه الآیات لا تصلح ان تکون رادعة عن السیرة المتشرعیة الموجودة بین أصحاب الأئمة(ع) وتابعیهم. نعم السیرة العقلائیة التی لا تکون بنفسها حجة وحجیتها إنما هی بإمضاء الشارع لها فإن لم یصدر إمضاء من الشارع فلا تکون حجة فعندئذ یمکن ان یقال أن هذه الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم تصلح أنت تکون رادعة أی مانعة عن الإمضاء یمکن ان یقال بذلک.

هکذا ذکره(قده).

وللمناقشة فیما أفاده مجال.

فإنه لیس هنا سیرتان سیرة متشرعیة علی العمل بأخبار الثقة فی زمن الأئمة(ع) بین أصحابهم وتابعیهم وسیرة عقلائیة موجودة بین الناس بل السیرة سیرة واحدة وهی سیرة العقلاء فإن هذه السیرة مرتکزة فی الأذهان وثابتة فی أعماق نفوسهم کالجبلة والفطرة والناس یعملون بهذه السیرة قبل مجیء الإسلام وبعده فإنهم یعملون بهذه السیرة بدون أدنی منبه وتذکیر غایة الأمر أن هذه السیرة بعد الإمضاء تحولت من السیرة العقلائیة إلی السیرة المتشرعیة فاتصافها بالسیرة المتشرعیة بعنوان ثانوی وإلا فهی ذاتا سیرة العقلاء فقبل الإمضاء لا تکون حجة وبعدم الإمضاء تتحول من السیرة العقلائیة إلی السیرة المتشرعیة فتکون حجة.

وعلی هذا فلیس هنا سیرتان سیرة مستحدثة وهی سیرة المتشرعة فی زمن الأئمة(ع) إذ لا شبهة انه لم تحدث سیرة علی العمل بأخبار الثقة بین أصحاب الأئمة(ع) غیر سیرة العقلاء فهی موجودة ومرتکزة غایة الأمر قبل الإسلام لم تکن حجة شرعا وبعد مجیء الإسلام وإمضاء الشارع لها تکون حجة وتتحول من السیرة العقلائیة إلی السیرة المتشرعیة.

فما ذکره بعض المحققین(قده) علی ما فی تقریر بحثه من أن هذه السیرة سیرة متشرعیة وحادثة فی الشریعة لیس الأمر فیه کذلک. لأن سیرة المتشرعة مستندة إلی الشرع فهی بنفسها حجة وحجیتها لا تتوقف علی الإمضاء ولا معنی لتعلیل حجیتها بالإمضاء فإن ما یکون حجة فی نفسه لا یصح تعلیل حجیته بأمر خارج عنه وهذا نظیر تعلیل نجاسة الدم بملاقاته للبول فإن هذا التعلیل غیر صحیح ورکیک لدی العرف والسیرة المتشرعیة حیث انها مستندة إلی الشرع فهی بنفسها حجة لا بالإمضاء واما السیرة العقلائیة فهی بنفسها لیست بحجة ولا تکون مستندة إلی الشرع بل هی مستندة إلی نکتة عقلائیة وهی أقربیة أخبار الثقة إلی الواقع نوعا من أخبار غیر الثقة وأقربیة ظواهر الکتاب والسنة إلی الواقع من ظواهر الأفعال، وحینئذ تکون حجیتها متوقفة علی الإمضاء فطالما لم یمض الشارع لهذه السیرة لم تکن حجة ومع إمضائها کانت حجة.

ص: 101

هذا کله فیما ذکره بعض المحققین(قده).

ادلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: ادلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة

إلی هنا قد تبین أن شبهة رادعیة الآیات الناهیة عن العمل بالظن وبغیر العلم مما لا أساس لها وذلک لسببین مهمین:

السبب الأول: قد تقدم أن هذه السیرة مرتکزة فی أذهان الناس وثابتة فیها کالتقالید والعادات التی هی بمثابة ذاتی الإنسان وتحدد سلوکیاته فی الخارج وعلة لها وهی إما سلوکیات معتدلة ومستقیمة وأما منحرفة فهذه التقالید والعادات التی هی بمثابة ذاتیة للإنسان علة لسلوکیات الإنسان فی الخارج والسیرة أیضا کذلک أی هی کالتقالید الذاتیة للإنسان فالناس یتحرکون ویعملون بأخبار الثقة بدون أی التفات ومن دون أن یخطر ببالهم أن الآیات الناهیة عن العمل بالظن رادعة عن العمل بهذه السیرة ومن هنا قلنا إن السیرة قطعیة بل ضروریة وکذلک إمضاؤها، إذ لو کانت هذه السیرة منافیة للأغراض الدینیة لصدر عن النبی الأکرم(ص) ردع عنها وتنبیه وإشارة وتأکید علی أن هذه السیرة منافیة للمصالح الدینیة بطبیعة الحال مع أنه لا عین ولا أثر لذلک لا من النبی الأکرم(ص) ولا من الأئمة الأطهار(ع) فی طول هذه الفترة الزمنیة.

ومن هنا نکشف کشفا قطعیا بل ضروریا أن هذه السیرة ممضاة شرعا وأنها مقبولة عند الشارع فمن أجل ذلک لا یمکن أن تکون الآیات الناهیة بعمومها وإطلاقها رادعة عن هذه السیرة فإنه لا یمکن ان یکون الدلیل الظنی مزاحما للدلیل القطعی فإن ظهور الآیات الناهیة فی العموم والإطلاق ظنی وأما هذه السیرة فبنفسها وإمضائها قطعیة فکیف یمکن ان تعارض مثل هذه السیرة وکیف یمکن ان تکون رادعة عنها؟!

السبب الثانی: أن السیرة دلیل لبی ولیس دلیلا لفظیا والدلیل اللبی لیس له مقامین: مقام الإثبات ومقام الثبوت إذ أن مقام إثباته عین مقام ثبوته ومقام ثبوت عین مقام إثباته، لأن مقام الثبوت والإثبات إنما یتصور فی الدلیل اللفظی فإن دلالته فی مقام الإثبات والمعنی وجوده وجود واقعی قد یکون اللفظ کاشفا عنه وقد لا یکون کاشفا عنه فالکشف غیر وجود المکشوف فی الواقع واما فی الدلیل اللبی فلا یتصور الکاشف والمکشوف والدال والمدلول ولهذا لا یتصور فی الدلیل اللبی مقام الإثبات ومقام الثبوت لأن مقام إثباته عین مقام الثبوت وبالعکس. والدلیل اللبی کالسیرة العقلائیة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة بمثابة القرینة المتصلة للآیات الناهیة عن العمل بالظن وبغیر العلم والقرینة المتصلة مانعة عن انعقاد ظهور العام فی العموم وظهور المطلق فی الإطلاق.

ص: 102

فهذه السیرة بنفسها مانعة عن ظهور هذه الآیات فی العموم وفی الإطلاق فتصبح الآیات مجملة ولا بد من الأخذ بالمقدار المتیقن منها والمقدار المتیقن منها غیر أخبار الثقة التی قامت علی حجیتها السیرة القطعیة من العقلاء الممضاة شرعا.

فإذن هذه السیرة بما أنها دلیل لبی مانعة عن انعقاد ظهور هذه الآیات الناهیة فی العموم والإطلاق.

ولو فرضنا وسلمنا أن هذه السیرة رغم أنها دلیل لبی لا تکون مانعة عن انعقاد ظهور هذه الآیات فی العموم والإطلاق فعندئذ هل یکون إطلاق هذه الآیات وعمومها رادع عن هذه السیرة أولا یکون رادعا.

والجواب عن ذلک: أن هنا عدة اتجاهات وعدة مسالک:

الاتجاه الأول: ما تقدم منا من أنه لا تنافی بین السیرة القائمة علی حجیة ظهور هذه الآیات الناهیة عن العمل بالظن وبغیر العلم والسیرة القائمة علی حجیة أخبار الثقة فإن النسبة بینهما عموم مطلق ولا مانع من شمول دلیل الاعتبار لکل من العام والخاص معا والمطلق والمقید معا، فإن التعارض بینهما غیر مستقر لإمکان الجمع الدلالی العرفی بینهما فکلاهما مشمول لدلیل الاعتبار بلا أی تناف وتعارض.

وما نحن فیه کذلک فإن ظهور هذه الآیات الناهیة فی العموم والإطلاق أعم من السیرة القائمة علی حجیة أخبار الثقة. ولا مانع من شمول کلتا السیرتین للظهور ولأخبار الثقة معا لإمکان الجمع الدلالی العرفی بینهما بحمل العام علی الخاص.

الاتجاه الثانی: ما ذکره المحقق الخراسانی(قده) (1) وقد أشرنا إلیه فیما سبق أیضا من أنه لا مانع من مخصصیة السیرة لعموم الآیات الناهیة عن العمل بالظن وبغیر العلم؛ فإن مخصصیة السیرة لا تتوقف علی عدم رادعیة عموم هذه الآیات فی الواقع ومقام الثبوت بل تتوقف علی عدم ثبوت رادعیة هذه الآیات فی مقام الإثبات وإن کانت رادعة فی مقام الثبوت فإذا لم تثبت رادعیة عموم هذه الآیات عن السیرة فی مقام الإثبات فهو کاف للتمسک بالسیرة القائمة علی حجیة أخبار الثقة.

ص: 103


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص303.

فإذاً مخصصیة أخبار الثقة أو مخصصیة هذه السیرة لعموم هذه الآیات الناهیة لا تتوقف علی عدم رادعیتها فی الواقع ومقام الثبوت بل تتوقف علی عدم ثبوت رادعیتها فی مقام الإثبات وحینئذ لا دور فی المقام، فإن عدم ثبوت الرادعیة لا یتوقف علی شیء بل هو ثابت هذا العدم من الأزل.

ولکن ما ذکره(قده) غیر تام؛ لما تقدم من أن مخصصیة السیرة تتوقف علی حجیتها وحجیتها تتوقف علی إحراز إمضائها شرعا ومع الشک فی رادعیة هذه الآیات الناهیة فی الواقع فلا یمکن القطع بحجیة هذه السیرة فبطبیعة الحال الشک فی الإمضاء والشک فی عموم رادعیة هذه الآیات للسیرة یشک فی حجیتها وقد تقدم ان الشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدمها أی بعدم ترتیب آثارها التی لا تنفک عنها، لا أن مخصصیة السیرة تتوقف علی عدم ثبوت رادعیة عموم هذه الآیات وإن کانت رادعة فی الواقع ومقام الثبوت.

وهذا غریب من صاحب الکفایة(قده) إذ مع احتمال أن عموم هذه الآیات الناهیة رادع عن السیرة فی الواقع ومقام الثبوت لم یحرز حجیة هذه السیرة ولم یحرز إمضائها فبطبیعة الحال یشک فی حجیتها والشک فیها مساوق للقطع بعدمها فما ذکره صاحب الکفایة(قده) غریب جدا.

بل الأمر بالعکس تماما فإن رادعیة عموم هذه الآیات الناهیة عن السیرة لا یتوقف علی عدم مخصصیتها فی الواقع ومقام الثبوت بل تتوقف علی عدم ثبوت مخصصیتها فی مقام الإثبات فقط وإن کانت فی الواقع ومقام الثبوت مخصصة باعتبار أن التمسک بالعام ثابت فیما إذا لم یعلم بوجود المخصص فإن ظهور العام فی العموم حجة طالما لم یعلم بوجود المخصص له وإن کان موجودا فی الواقع فوجوده فی الواقع لا أثر له فطالما لم یصل المخصص إلی المکلف ولم یعلم به فلا أثر لوجوده فی الواقع. فالتمسک بالإطلاق والعموم منوط بعدم العلم بالمخصص فی مقام الإثبات وإن کان المخصص أو المقید موجودا فی الواقع ومقام الثبوت والا فلا یمکن التمسک بأکثر عمومات الآیات الکریمة والروایات وإطلاقاتها لاحتمال وجود المخصص والمقید لها، مع أن الأمر لیس کذلک.

ص: 104

أدلة حجیة خبر الواحد- السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد- السیرة العقلائیة

إلی هنا قد تبین أن ما ذکره المحقق الخراسانی(قده) والسید الاستاذ(قده) من أن رادعیة عموم الآیات الناهیة لا تتوقف علی عدم مخصصیة السیرة واقعا وفی مقام الثبوت بل تتوقف علی عدم ثبوت مخصصیة السیرة فی مقام الإثبات وکذلک العکس فإن مخصصیة السیرة لا تتوقف علی عدم رادعیة عموم الآیات الناهیة فی مقام الثبوت والواقع وإنما تتوقف علی عدم ثبوت رادعیة عموم الآیات الناهیة فی مقام الإثبات وعلی هذا فلا دور فی المقام من کلا الطرفین؛ فإن رادعیة عموم الآیات الناهیة تتوقف علی عدم ثبوت مخصصیة السیرة فی مقام الإثبات وعدم مخصصیة السیرة لا یتوقف علی شیء وهو عدم أزلی. وکذلک مخصصیة السیرة تتوقف علی عدم ثبوت رادعیة عموم الآیات الناهیة فی مقام الإثبات وعدم ثبوت رادعیة عموم الآیات الناهیة لا یتوقف علی شیء بل هو عدم أزلی فلا دور فی المقام فما ذکره المحقق الخراسانی من الدور فلا أصل له ولا دور فی المقام.

وذکر بعض المحققین(قده) أن هذا البیان إنما یتم إذا کان دلیل المخصص لفظیا لأنه حینذاک یکون له مقام الثبوت ومقام الإثبات فإن مقام الإثبات قد یکون مطابقا لمقام الثبوت وقد لا یکون مطابقا له، فإذا کان المخصص لفظیا فما ذکره المحقق الأصفهانی(قده) وکذلک السید الاستاذ(قده) من ان رادعیة عموم الآیات الناهیة تتوقف علی عدم ثبوت مخصصیة السیرة فی مقام الإثبات هذا إنما یتم فیما إذا کان المخصص لفظیا وله مقام الإثبات ومقام الثبوت.

وأما إذا کان المخصص لبیا کما هو الحال فی المقام فإن المخصص فی المقام السیرة القطعیة من العقلاء الممضاة شرعا وهی دلیل لبی ولیس له مقام الثبوت ومقام الإثبات بل مقام ثبوته عین مقام إثباته وبالعکس فإذاً لا وجه لهذا التفصیل لأن رادعیة عموم هذه الآیات الناهیة تتوقف علی عدم ثبوت مخصصیة السیرة فی مقام الإثبات ولا تتوقف علی عدم ثبوت مخصصیتها فی الواقع ومقام الثبوت.

ص: 105

هکذا ذکره بعض المحققین(قده) من الإشکال علی المحقق الأصفهانی والسید الاستاذ(قدهما).

ولکن للمناقشة فیه مجالا ولا بد فی المقام من التفصیل؛ فإنه لا شبهة فی أن القضایا الوجدانیة لا یتصور فیها مقام الثبوت ومقام الإثبات سواء کانت ضروریة أم کانت قطعیة وکذلک القضایا الفطریة والقضایا الارتکازیة الثابتة فی أعماق النفوس فإن فی هذه القضایا لا یتصور مقام الثبوت ومقام الإثبات؛ فإن مقام الثبوت والإثبات إنما یتصوران فی غیر القضایا الوجدانیة سواء کانت ضروریة ام کانت قطعیة.

وعلی هذا: فالسیرة العقلائیة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة أمر وجدانی فإنها کالقضیة الفطریة ومن القضایا الوجدانیة الارتکازیة الثابتة فی أعماق أذهان الناس فلا یتصور فیها مقام الثبوت ومقام الإثبات عند العقلاء ولا عند الشارع فإنه بعد مجیء الإسلام الناس یعملون بأخبار الثقة فطرة وجبلة بدون أدنی التفات إلی المنع من قبل الشارع والردع بل هم یعملون بها فی مرأی ومسمع النبی الأکرم(ص) فی أمور معاشهم ومعادهم وفی الأوامر والنواهی المولویة وفی العلاقات الاجتماعیة والفردیة فی اللیل والنهار ومن البدیهی أن هذه السیرة لو کانت مخالفة للأغراض التشریعیة فبطبیعة الحال لم یسکت النبی الأکرم(ص) عنها ولصدر منه ردع عن العمل بهذه السیرة ومنع باعتبار أنها مخالفة للمصالح الدینیة فکیف یعقل سکوت النبی الأکرم(ص) عن ذلک فسکوته کاشف قطعی عن إمضاء هذه السیرة وأنها لا تنافی الأغراض التشریعیة والمصالح الدینیة.

ولا یتصور فی هذه السیرة مقامی الثبوت والإثبات فإن هذه السیرة کاشفة بنفسها عن حجیتها المتقومة بإحراز إمضائها من قبل الشارع فلا یتصور فیها مقام الثبوت ومقام الإثبات لأنه إما أن تکون کاشفة أو لا تکون کاشفة ولا ثالث لهما.

وأما سیرة العقلاء إذا لم تکن بهذه الدرجة کالسیرة العقلائیة المستحدثة بعد مجیء الإسلام وبعد التشریع فإن حجیة هذه السیرة بحاجة إلی صدور إمضاء من الشارع من نص فی الکتاب أو فی السنة وفی هذه السیرة یتصور فیها مقام الثبوت والإثبات أی إمضاء الشارع لها؛ فإنه یمکن ان یکون الإمضاء صادرا من الشارع ولکنه لم یصل إلینا کما هو الحال فی سائر الأخبار الواردة فی المسائل فإنها قد صدرت فی مقام الثبوت والواقع ولکنها لم تصل إلینا، فصدورها لم یکن ملازما للوصول فقد یصل إلی المکلف وقد لا یصل وکذا إمضاء هذه السیرة فهو بحاجة إلی صدور نص من الشارع فیمکن ان یکون النص قد صدر ولکنه لم یصل إلینا وحینئذ یتصور فی الإمضاء مقام الثبوت ومقام الإثبات، بل سکوت الشارع أمام هذه السیرة المستحدثة لا یکشف عن الإمضاء کالسیرة الجاریة بین العقلاء فی عصر التشریع علی حق النشر وحق التألیف وما شاکل ذلک مع أنه لا یمکن لنا إثبات إمضاء هذه السیرة فیمکن أن یکون الإمضاء قد صدر عن المعصومین(ع) ولکنه لم یصل إلینا، فمن أجل ذلک لا یمکن الحکم بحجیة هذه السیرة.

ص: 106

فالنتیجة: أن السیرة بنفسها لا تکون حجة وحجیتها إنما هی بإمضائها فإذا لم تکن السیرة بنفسها کاشفة عن الإمضاء وإثبات إمضائها بحاجة إلی دلیل ونص فإذا صدر نص من الشارع بإمضاء هذه السیرة فهی حجة وأما إذا لم یصدر نص من الشاعر بإمضائها فلا دلیل علی حجیتها والشک فی حجیتها مساوق للقطع بعدمها کما تقدم.

فإذاً لا بد لنا من التفصیل فی سیرة العقلاء فإنها إن کانت بمثابة السیرة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة وبظواهر الالفاظ کظواهر الکتاب والسنة فلا شبهة فی أن هذه السیرة بنفسها کاشفة جزما وقطعا عن إمضائها وأما إذا لم تکن السیرة بهذه المرتبة فلا تکون فی نفسها کاشفة وإمضاؤها بحاجة إلی صدور نص من المعصومین(ع) فإن صدر نص فی إمضائها ووصل إلینا فنقول بحجیتها وإلا فلا یمکن الحکم بحجیتها.

فالنتیجة: أن ما ذکره بعض المحققین(قده) لا یتم علی إطلاقه بل لا بد من التفصیل.

والنتیجة المحصلة: إن کانت القضیة من القضایا الوجدانیة کالقضایا الضروریة والقطعیة والفطریة والارتکازیة التی هی أمور وجدانیة فلا یتصور فیها مقام الثبوت ومقام الإثبات لأن مقام ثبوتها عین مقام إثباتها، وکذلک الحال فی السیرة الجاریة علی العمل بأخبار الثقة وظواهر الالفاظ فهی داخلة فی القضایا الوجدانیة من جهة ارتکازها فی الأذهان فلا یتصور فیها مقام الثبوت والإثبات. وأما إذا کانت سیرة العقلاء دون ذلک فی المرتبة بحیث لا تکون بنفسها کاشفة عن الإمضاء وموافقة الشارع لها فلا بد من إثبات صدور الإمضاء من الشارع لها.

إلی هنا تبین أن هذا الإشکال وارد علی المحقق الأصفهانی والسید الاستاذ(قدهما) وغیرهم لأن التفصیل بین أن تکون رادعیة عموم هذه الآیات الناهیة متوقفة علی عدم ثبوت مخصصیة السیرة فی مقام الإثبات لا علی عدم مخصصیتها فی الواقع ومقام الثبوت لا وجه له، فإن هذه السیرة مقام إثباتها عین مقام الثبوت.

ص: 107

أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – السیرة العقلائیة

الوجه الثالث: ما ذکره بعض المحققین(قده) لعلاج مشکلة الدور فی المقام.

وتقریب هذا الوجه: أن مخصصیة السیرة وحجیتها متوقفة علی عدم حجیة عموم الآیات الناهیة فی نفسها لا بالفعل وأما حجیة عموم الآیات الناهیة فهی متوقفة علی عدم مخصصیة السیرة وعدم حجیتها بالفعل ومعنی أن حجیة السیرة ومخصصیتها متوقفة علی عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة فی نفسها یعنی أن ظواهر الآیات الناهیة فی العموم حجة بقطع النظر عن السیرة، بمعنی أن حجیة السیرة معلقة علی عدم حجیة إطلاقات الآیات وعموماتها فلو کانت حجة فلا تکون السیرة حجة لأن المعلق ینتفی بانتفاء المعلق علیه، وحجیة السیرة معلقة علی عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة وبانتفائها تنتفی حجیة السیرة، فإذا کانت عمومات الآیات الناهیة حجة فلا تکون السیرة حجة.

وأما عکس ذلک وهو أن حجیة عمومات الآیات الناهیة فهی متوقفة علی عدم حجیة السیرة بالفعل بمعنی أن حجیة السیرة بالفعل لا تکون مانعة عن حجیة عمومات الآیات الناهیة غایة الأمر تقع المعارضة بینهما فلا تکون حجیة عمومات الآیات الناهیة معلقة علی عدم حجیة السیرة.

وبذلک یرتفع الدور لأن ما یتوقف علیه حجیة السیرة ومخصصیتها غیر ما تتوقف علیه حجیة عمومات الآیات الناهیة فإن ما تتوقف علیه مخصصیة السیرة وحجیتها عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة فی نفسها وما تتوقف علیه حجیة عمومات الآیات الناهیة علی عدم مخصصیة السیرة وعدم حجیتها بالفعل فما تتوقف علیه أحداهما غیر ما یتوقف علیه الأخری فلا دور فی البین.

نعم لو کانت حجیة عمومات الآیات الناهیة أیضا متوقفة علی عدم حجیة السیرة ومخصصیتها فی نفسها لزم الدور لاتحاد ما یتوقف علیه فی کلا الجانبین: فی جانب السیرة وفی جانب عمومات الآیات الناهیة. أو إذا کان ما تتوقف علیه الحجیة الفعلیة مخصصیة السیرة وحجیتها متوقفة علی عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة بالفعل وحجیة عمومات الآیات الناهیة متوقفة علی عدم حجیة السیرة ومخصصیتها بالفعل فأیضا یلزم الدور. فإن الدور ینتفی فیما إذا کان ما یتوقف علیه أحداهما غیر ما یتوقف علیه الأخری.

ص: 108

هکذا ذکره(قده) علی ما فی تقریر بحثه.

والظاهر أن ما ذکره(قده) مجرد افتراض لا واقع موضوعی له فی المسألة فإن هناک فروض أربعة:

الفرض الأول: أن مخصصیة السیرة وحجیتها متوقفة علی عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة فی نفسها. وأما حجیة عمومات الآیات الناهیة فهی متوقفة علی عدم مخصصیة السیرة وحجیتها بالفعل.

الفرض الثانی: عکس ذلک أی مخصصیة السیرة وحجیتها متوقفة علی عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة بالفعل وأما حجیة عمومات الآیات الناهیة فهی متوقفة علی عدم حجیة السیرة ومخصصیتها فی نفسها لا بالفعل.

الفرض الثالث: أن مخصصیة السیرة وحجیتها متوقفة علی عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة فی نفسها وکذلک حجیة عمومات الآیات الناهیة متوقفة علی عدم مخصصیة السیرة وحجیتها فی نفسها.

الفرض الرابع: ان مخصصیة السیرة وحجیتها متوقفة علی عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة بالفعل وکذلک حجیة عمومات الآیات الناهیة متوقفة علی عدم مخصصیة السیرة وحجیتها بالفعل.

فهذه فروض أربعة ولا دلیل علی شیء منها ولا واقع موضوعی لشیء منها.

وما ذکره(قده) من أن مخصصیة السیرة وحجیتها متوقفة علی عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة فی نفسها ومعنی ذلک أن حجیة السیرة حجیة لولائیة لا حجیة فعلیة أی لولا حجیة عمومات الآیات الناهیة لکانت السیرة حجة کما ذکره(قده) من أن مخصصیة السیرة وحجیتها متوقفة علی عدم حجیة عمومات الآیات الناهیة فی نفسها. وأما حجیة عمومات الآیات الناهیة فمتوقفة علی عدم مخصصیة السیرة وحجیتها بالفعل ومعنی بالفعل أن عمومات الآیات الناهیة حجة فی حال حجیة السیرة غایة الأمر تقع المعارضة بینهما. ومعنی فی نفسها أن حجیة السیرة لولائیة أی لولا حجیة عمومات الآیات الناهیة لکانت السیرة حجیة ومخصصة.

ولکن لا دلیل علی هذا الفرض.

أما أولا: فقد تقدم أن هذه السیرة سیرة مرتکزة فی الأذهان وثابتة فی أعماق النفوس کالقضیة الفطریة ولهذا یعمل الناس بأخبار الثقة من دون أی یخطر ببالهم أن ظواهر هذه الآیات مانعة ورادعة عن ذلک باعتبار ارتکازیته فلا یمکن فرض أن حجیة السیرة حجیة لولائیة لأن معنی اللولائیة أنه لولا حجیة العمومات الآیات الناهیة لکانت السیرة حجة وأما إذا کانت عمومات الآیات الناهیة حجة فلا تکون السیرة حجة ومخصصة وهذا لا ینسجم مع کون السیرة مرتکزة فی الذهن کالقضیة الفطریة ولهذا تصبح من القضایا الوجدانیة الضروریة فلا یمکن أن تعارض ظواهر الآیات الناهیة مثل هذه السیرة وتزاحمها.

ص: 109

وثانیا: مع الإغماض عن ذلک ولکن یلزم التعارض بین حجیة السیرة ومخصصیتها وحجیة عمومات الآیات الناهیة. وحینئذ فحیث ان النسبة بینهما عموما مطلقا فلا بد من حمل عمومات الآیات الناهیة علی السیرة بقانون حمل العام علی الخاص والمطلق علی المقید الذی هو من أحد موارد الجمع الدلالی العرفی.

فإذاً لا یمکن علاج الدور بذلک.

وثالثا: مع الإغماض عن ذلک أیضا وتسلیم أن حجیة السیرة ومخصصیتها لا تتقدم علی حجیة عمومات الآیات الناهیة من باب تقدیم الخاص علی العام والمقید علی المطلق بسبب من الأسباب فعندئذ تسقط حجیة کل منهما فکما تسقط حجیة السیرة تسقط حجیة عمومات الآیات الناهیة أیضا فلا تکون السیرة حجة ولا عمومات الآیات الناهیة حجة.

وهنا فرضان آخران یمکن افتراضهما ولا واقع موضوعی لهما:

الفرض الأول: أن ظهور الآیات الناهیة فی العموم والإطلاق وإن لم یکن حجة فهی تصلح أن تکون رادعة عن السیرة ومانعة عنها لاحتمال مطابقة ظواهر هذه الآیات فی العموم والإطلاق للواقع وهذا الاحتمال مساوق لاحتمال أنها رادعة عن السیرة وأن هذه السیرة غیر ممضاة شرعا. لأن الشک فی رادعیتها مساوق للشک فی حجیة السیرة وتقدم أن الشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدمها. وعلی هذا الفرض لا دور فی البین.

الفرض الثانی: أن حجیة ظواهر هذ الآیات فی العموم والإطلاق بملاک عدم ثبوت کذبها فی الواقع وحیث أنا لا نعلم أن هذه الآیات کاذبة فی الواقع (الکذب الدلالی یعنی عمومها وإطلاقها) فملاک حجیة ظواهر هذه الآیات فی العموم والإطلاق ملاکها عدم ثبوت کذبها. فهذه الظواهر حجة وحجیتها متوقفة علی عدم ثبوت کذبها لا علی عدم مخصصیة السیرة وعدم حجیتها حتی یلزم الدور، فإذن لا دور فی البین فإن الدور مبنی علی أن حجیة ظواهر هذه الآیات الناهیة فی العموم والاطلاق متوقفة علی عدم حجیة السیرة وعلی عدم مخصصیتها فعندئذ یلزم الدور. وأما إذا کانت حجیة ظواهر الآیات الناهیة فی العموم والإطلاق متوقفة علی عدم ثبوت کذبها فعندئذ لا دور فی المقام.

ص: 110

لکن کلا الفرضین مجرد افتراض ولا واقع موضوعی لهما.

أدلة حجیة خبر الواحد- السیرة العقلائیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد- السیرة العقلائیة

المسلک الرابع: ما ذکره المحقق الأصفهانی(قده) (1) من أن المقام داخل فی المزاحمة بین المقتضی التنجیزی والمقتضی التعلیقی.

بتقریب: ان مقتضی الحجیة للآیات الناهیة عن العمل بالظن تنجیزی وهو ظهورها فی العموم والإطلاق وأما مقتضی الحجیة فی السیرة فتعلیقی فإنه معلق علی إمضاء الشارع وعدم الردع عنها، ومن الواضح أن المقتضی التعلیقی لا یصلح أن یزاحم المقتضی التنجیزی إذ لو کان تأثیر المقتضی التعلیقی مانعا عن تأثیر المقتضی التنجیزی للزم الدور وهو مستحیل.

وقد قرّب(قده) الدور بطریقین:

الطریق الأول: أن تأثیر المقتضی التعلیقی متوقف علی وجوده وتحققه فی الخارج ووجوده وتحققه فی الخارج متوقف علی عدم تأثیر المقتضی التنجیزی فلو کان عدم تأثیر المقتضی التنجیزی متوقفا علی تأثیر المقتضی التعلیقی للزم الدور وهو توقف تأثیر المقتضی التعلیقی علی تأثیر المقتضی التعلیقی وهو من توقف الشیء علی نفسه، وهو مستحیل لرجوعه إلی علیّة الشیء لنفسه.

الطریق الثانی: ان عدم تأثیر المقتضی التنجیزی یتوقف علی تأثیر المقتضی التعلیقی والمفروض أن المقتضی التعلیقی یتوقف علی عدم تأثیر المقتضی التنجیزی فیلزم الدور وهو توقف عدم تأثیر المقتضی التنجیزی علی عدم تأثیر المقتضی التنجیزی وهو من توقف الشیء علی نفسه وهو مستحیل.

هکذا قرّب(قده) الدور فی المقام. فإن الدور لازم لهذین الطریقین.

والظاهر أنه لا تصل النوبة إلی الدور فإن مانعیة المقتضی التعلیقی عن تأثیر المقتضی التنجیزی فی نفسه محال ولا یعقل أن یکون المقتضی التعلیقی مؤثرا فی عدم المقتضی التنجیزی، فمانعیته عن تأثیر المقتضی التنجیزی مستحیلة، فلا تصل النوبة إلی الدور.

ص: 111


1- نهایة الدرایة فی شرح الکفایة، المحقق الأصفهانی، ج3، ص250.

وتقریب استحالة مانعیته وجودا وعدما أما عدما فإن المعدوم لا یصلح أن یکون مانعا فالمانع لا بد أن یکون أمرا وجودیا وأما الأمر العدمی فلا یصلح أن یکون مانعا عن تأثیر شیء وأما وجود تأثیر المقتضی التعلیقی فإن وجوده معلق علی عدم تأثیر المقتضی التنجیزی فوجوده لعدم المقتضی التنجیزی فإن وجود المقتضی التعلیقی معلق علی عدم تأثیر المقتضی التنجیزی فإذا کان معلقا علیه فوجود المقتضی التعلیقی مساوق لعدم وجود المقتضی التنجیزی فإذا کان المقتضی التنجیزی معدوما فلا یتصف المقتضی التعلیقی بالمانعیة فإن المانع إنما یتصف بالمانعیة إذا کان المقتضی موجودا وأما إذا کان المقتضی معدوما فلا یتصف بالمانعیة ومن هنا عدم المعلول مستند إلی عدم المانع إذا کان المقتضی موجودا وأما إذا لم یکن المقتضی موجودا فعدم المعلول مستند إلی عدم المقتضی لا إلی وجود المانع فالمانع إنما یتصف بالمانعیة عند وجود المقتضی وأما إذا کان المقتضی معدوما فالمانع لا یتصف بالمانعیة وما نحن فیه کذلک. فإن وجود المقتضی التعلیقی معلق علی عدم وجود المقتضی التنجیزی فإذا کان المقتضی التنجیزی موجودا فالمقتضی التعلیقی ینتفی بانتفاء المعلق علیه فإنه معلق علی عدم وجود المقتضی التنجیزی فإذا کان المقتضی التنجیزی موجودا فینتفی المقتضی التعلیقی بانتفاء المعلق علیه لأنه معلق علی عدم وجود المقتضی التنجیزی.

وأما إذا کان المقتضی التعلیقی موجودا فوجوده لا محالة مساوق لعدم المقتضی التنجیزی فوجوده من جهة وجود المعلق علیه والمعلق علیه عدم وجود المقتضی التنجیزی فوجوده مساوق لعدم وجود المقتضی التنجیزی فمع عدم وجود المقتضی التنجیزی یستحیل أن یکون المقتضی التعلیقی متصفا بالمانعیة فإن الممنوع غیر موجود والمانع إنما یتصف بالمانعیة إذا کان الممنوع موجودا أی إذا کان المقتضی موجودا وأما إذا لم یکن المقتضی موجودا فلا یمکن ان یتصف بالمانعیة.

ص: 112

فإذاً مانعیة المقتضی التعلیقی عن تأثیر المقتضی التنجیزی وجودا وعدما محالة فلا یصل الأمر إلی الدور فإن مانعیته فی نفسها مستحیلة وحینئذ لا موضوع للدور.

فإذاً لا وجه لهذا الدور.

ومثال ذلک خارجا أنه لو فرضنا أن هناک شخصین أراد أحدهما السفر إلی بلد وإرادة الآخر معلقة علی عدم إرادته فإرادة الأول موجودة فعلا ومنجزة وإرادة الثانی معلقة علی عدم إرادته ومن الواضح أنه لا تزاحم بینهما ولا یعقل التزاحم بینهما ولا یعقل أن تکون الإرادة الثانیة مانعة عن إرادة الأول لأنها معلقة علی عدم إرادته فمع وجود إرادته لا وجود لإرادة الثانی ومع وجود إرادة الثانی لا وجود لإرادة الأول فإذا لم تکن لإرادة الأول وجود فکیف یعقل أن تتصف إرادة الثانی بالمانعیة.

وما نحن فیه شبیه ذلک فإن المقتضی للحجیة تنجیزی فی الآیات الناهیة عن العمل بالظن وهو الظهور وأما المقتضی للحجیة فی السیرة فتعلیقی فإن حجیتها معلقة علی عدم حجیة الآیات الناهیة أی عدم تأثیر الظهور فی الحجیة ومع وجود السیرة فالمقتضی للحجیة معناه أن المقتضی للحجیة فی الآیات غیر موجود ومع عدم وجوده فکیف تتصف بالمانعیة فإن ما یتصف بالمانعیة فیما إذا کان المقتضی موجودا ومع عدم وجود المقتضی فلا یمکن اتصافه بالمانعیة، فلا تزاحم بین المقتضی التنجیزی وبین المقتضی التعلیقی؛ فإن المقتضی التنجیزی عبارة أخری عن العلة التامة فإن المقتضی موجودا والمانع مفقود فإذا کان المقتضی موجودا والمانع مفقودا تحققت العلة التامة، فإذا تحققت العلة التامة فتأثیرها فی المعلول قهری ولا یمکن فرض وجود المانع عن تأثیرها وإلا لزم الخلف أی خلف فرض أنها علة تامة، لأنها إذا کانت علة تامة لا بد أن یستحیل المنع عن تأثیرها وإلا لزم التهافت والخلف والتناقض وهذا هو معنی المقتضی التنجیزی أی أن المقتضی وصل إلی حد العلة التامة، وهذا بخلاف المقتضی التعلیقی. ومن هنا لا یصلح أن یزاحم المقتضی التعلیقی المقتضی التنجیزی. هذا من ناحیة.

ص: 113

ومن ناحیة أخری أن ما ذکره المحقق الأصفهانی(قده) غیر صحیح بل الأمر بالعکس فإن المقتضی للحجیة تنجیزی فی جانب السیرة واما المقتضی للحجیة فتعلیقی فی الآیات الناهیة عن العمل بالظن عکس ما أفاده المحقق الأصفهانی(قده) وذلک لأمور:

الأمر الأول: ما ذکرناه من أن هذه السیرة مرتکزة فی الأذهان کقضیة فطریة وهی دلیل لبی والدلیل اللبی بمثابة القرینة المتصلة فیکون مانعا عن انعقاد ظهور العام فی العموم والمطلق فی الإطلاق فهذه السیرة مانعة من انعقاد ظهور لهذه الآیات الناهیة فی العموم والإطلاق وعندئذ تکون سالبة بانتفاء الموضوع فلا عموم فی هذه الآیات ولا إطلاق فیها بل هی مجملة فلا بد من الأخذ بالمقدار المتیقن منها.

الأمر الثانی: مع الإغماض عن ذلک فقد ذکرنا أن السیرة قطعیة وضروریة وکذلک إمضاء هذه السیرة فقطعی وضروری، ومعنی ذلک أن حجیة هذه السیرة قطعیة وضروریة فلا یمکن أن تزاحمها إطلاقات الآیات الناهیة من العمومات والإطلاقات فإنها أدلة ظنیة وهی لا تصلح أن تزاحم الأدلة القطعیة. فمن هذه الناحیة لا بد من تقدیم السیرة علی هذه الآیات.

الأمر الثالث: أن الآیات الناهیة بعموماتها وإطلاقاتها لا تکون رادعة ومانعة عن العمل بالسیرة إذ لو کانت هذه السیرة مخالفة للأغراض الشرعیة والمصالح الدینیة لم یمکن أن لا یصدر من النبی الأکرم(ص) ولا من الأئمة الأطهار(ع) فی طول هذه الفترة الزمنیة ردع وإشارة أو کنایة أو تلویح أو تصریح مع انه لم یرد أی نص حتی تلویحا وکنایة عن الردع عن العمل بهذه السیرة والناس فی زمانهم یعملون بهذه السیرة مع وجود هذه الآیات الناهیة وهذا یکشف عن أنها لا تصلح أن تکن رادعة. هذا مضافا إلی ما ذکرناه من ان هذه الآیات تنقسم إلی ثلاث أقسام وکل منها لا یصلح للرادعیة.

ص: 114

هذا تمام کلامنا فی سیرة العقلاء الجاریة علی العمل بأخبار الثقة وعمدة الدلیل علی حجیة اخبار الثقة هی سیرة العقلاء وأما الآیات والروایات علی تقدیر تسلیم دلالتها علی حجیة أخبار الآحاد أو أخبار الثقة فمضامینها تأکید لهذه السیرة، ولیسن مضامینها تأسیس لحجیة الخبر بل مفادها التأکید لهذه السیرة.

أدلة حجیة خبر الواحد- العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد- العلم الإجمالی

بقی هنا شیء: وهو ان التزاحم بین المقتضی التنجیزی والمقتضی التعلیقی یتصور فی موارد:

المورد الأول: بین الأشیاء الخارجیة کما إذا أراد شخصان الدخول فی دار ولکن إرادة أحدهما منجزة وإرادة الآخر معلقة علی عدم إرادة الأول أو إذا أراد شرب ماء من کأس وهذه الإرادة منجزة وأما إرادة الآخر فهی معلقة علی عدم إرادة الأول وهکذ... فالتزاحم بین إرادة الأول وإرادة الثانی غیر متصور فإن إرادة الأول بمثابة العلة التامة ومنجزة وإرادة الثانی بمثابة العلة الناقصة فلا یعقل أن تکون العلة الناقصة مانعة عن تأثیر العلة التامة وإلا لزم الخلف والتهافت والتناقض ولزم من فرض وجود العلة التامة عدم وجودها وکل ما یلزم من فرض وجود شیء عدمه فوجوده مستحیل، فمن أجل ذلک لا یمکن ان تکون العلة الناقصة أی المقتضی التعلیقی مانعا عن تأثیر العلة التامة.

المورد الثانی: التزاحم إنما هو فی مرحلة الواقع أعم من الخارج ونفس الأمر کما إذا فرضنا أن الحدید یتمدد بالحرارة فإذا فرضنا أن هناک حرارتین فی الحدید تأثیر أحداهما منجز والأخری تأثیرها فی الحدید معلق علی عدم تأثیر الأولی ففی مثل لا یمکن أن تکون الحرارة الثانیة مزاحمة للحرارة الأولی لأن الحرارة الثانیة بمثابة العلة الناقصة واما الحرارة الأولی فهی بمثابة العلی التامة فلا یمکن ان تکون العلة الناقصة مانعة عن تأثیر العلة التامة وإلا لزم الخلف والتهافت والتناقض.

ص: 115

المورد الثالث: ___ الذی هو محل الکلام فی المقام ___ فی القضایا التشریعیة المجعولة من قبل الشارع فإن تعیین الموضوع وتعیین الحکم وجعله بید الشارع واما المورد الأول والثانی فکان الکلام فی القضایا التکوینیة، والشارع جعل ظواهر هذه الآیات موضوعا للحجیة وجعل الحجیة لها منجزة بدون التوقف علی أی مقدمة أخری، فهذه الحجیة فعلیة بفعلیة موضوعها قهرا من دون التوقف علی أی مقدمة أخری لأن فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه أمر قهری ولیست بید الشارع والذی هو بید الشارع تعیین الحکم وجعل الحکم لهذا الموضوع واما فعلیة الحکم بفعلیة الموضوع فهو أمر قهری، فالمکلف إذا استطاع أصبح وجوب الحج علیه فعلی وهذه الفعلیة أمر قهری فلیست بحاجة إلی الجعل. وفی المقام کذلک. وأما حجیة السیرة فهی معلقة علی إمضاء الشارع وعدم الردع عنها.

وعلی هذا فإذا فرضنا ان حجیة ظواهر الآیات الناهیة رادعة عنها فلا تکون السیرة حینئذ حجة لأن حجیتها معلقة علی عدم الردع عنها والمفروض أن حجیة ظواهر الآیات الناهیة رادعة عنها فلا تکون السیرة حجة.

فمن أجل ذلک لا یمکن ان تکون حجیة السیرة مانعة عن رادعیة حجیة ظواهر الآیات الناهیة لأن حجیة ظواهر الآیات الناهیة فعلیتها بمثابة العلة التامة وتأثیرها أمر قهری وخارج عن اختیار المولی وعن اختیار المکلف فلا یمکن أن تکون السیرة مانعة عن ذلک فإن حجیة السیرة معلقة علی عدم کون الآیات رادعة والمفروض أن حجیة ظواهر هذه الآیات رادعة فمع حجیتها فلا حجیة للسیرة.

هذا هو محل الکلام وهو مقصود المحقق الأصفهانی.

ولکن تقدم أن الأمر لیس کذلک فإن السیرة تتقدم علی الآیات الناهیة لأن السیرة المرتکزة دلیل لبی قطعی والدلیل اللبی بمثابة القرنیة المتصلة مانعة عن انعقاد ظهور هذه الآیات فی العموم والإطلاق فتصبح مجملة فی مقابل هذه السیرة فمن أجل ذلک لا بد من تقدیم السیرة علیها. هذا مضافا إلی أن السیرة دلیل قطعی وظاهر الآیات دلیل ظنی فلا یمکن ان یکون الدلیل الظنی مزاحما للدلیل القطعی علی تفصیل تقدم.

ص: 116

هذا تمام کلامنا فی السیرة العقلائیة الممضاة شرعا التی تدل علی حجیة أخبار الثقة وظواهر الالفاظ کظواهر الکتاب والسنة وهذه السیرة هی عمدة الدلیل علی حجیة أخبار الثقة

حجیة أخبار الثقة بالأدلة العقلیة

وهذه الأدلة العقلیة علی أنواع:

النوع الأول: العلم الإجمالی بصدور مجموعة کبیرة من الروایات الواردة عن النبی الأکرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) فنحن نعلم إجمالا بصدور مجموعة کبیرة من هذه الروایات ولا شبهة فی هذا العلم الإجمالی، وإنما الکلام یقع فی مقامین:

المقام الأول: وفیه عدة مراحل:

المرحلة الأولی: فی تنجیز هذا العلم الإجمالی فهل هو منجز أو انه لیس بمنجز؟

المرحلة الثانیة: فی نسبة هذا العلم الإجمالی إلی الأصول العملیة کالاستصحاب والبراءة وأصالة الطهارة ونحوها، وهل تجری هذه الأصول العملیة فی أطراف هذا العلم الإجمالی أو لا تجری فی أطرافه؟

المرحلة الثالثة: فی نسبة هذا العلم الإجمالی إلی الأصول اللفظیة کأصالة الظهور وأصالة العموم وأصالة الإطلاق ونحوها من الأصول اللفظیة الاجتهادیة، فهل یمکن التمسک بهذه الأصول فی أطراف العلم الإجمالی او لا یمکن التمسک بها؟

ثم أن حجیة أخبار الثقة بالعلم الإجمالی غیر حجیة أخبار الثقة بالسیرة أو بالآیات أو بالروایات فإن الحجیة الثابتة بالسیرة حجیة کل خبر بخصوصه سواء کانت الحجیة بمعنی الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی أو بمعنی جعل الحکم المماثل أو بمعنی التنزیل، والعلم الإجمالی لا یدل علی الحجیة بهذا المعنی أی بمنعی الطریقیة والکاشفیة ولا بمعنی جعل الحکم المماثل للحکم الواقعی فی صورة المطابقة ولا التنزیل أی تنزیل أخبار الثقة منزلة العلم لأن العلم الإجمالی لا یدل علی شیء من ذلک فالعلم الإجمالی شأنه التنجیز وهو ینجز المعلوم بالإجمال، واما کل طرف من أطراف المعلوم بالإجمال وکل فرد من أفراده فالمنجز لیس هو العلم الإجمالی فإن العلم الإجمالی إنما تعلق بالجامع ولم یتعلق بکل طرف من أطراف المعلوم بالإجمال فتنجیز الحکم فی کل طرف من أطراف العلم الإجمالی إنما هو بسبب الاحتمال أی احتمال التکلیف فی کل طرف من أطراف العلم الإجمالی فهذا الاحتمال منجز طالما لم یکن هنا أصل مؤمن والمفروض أن الأصول المؤمنة لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی إما بنفسها أو لأنها تسقط من جهة المعارضة فاحتمال التکلیف منجز طالما لم یجر الأصل المؤمن فیه.

ص: 117

هذا هو معنی حجیة أخبار الثقة أو مطلق الأخبار بالعلم الإجمالی.

المقام الثانی: فی تحدید دائرة هذه الحجیة سعة وضیقا وشروطها. وسوف یأتی الکلام فیه.

أما الکلام فی المرحلة الأولی وهی تنجیز هذا العلم الإجمالی فقد ذهب شیخنا الأنصاری(قده) إلی أن هذا العلم الإجمالی لا یکون منجزا إذ لو کان منجزا لزم العمل بکل إمارة ظنیة کالشهرات الفتوائیة والإجماعات المنقولة وغیرهما مع أن الأمر لیس کذلک.

لکن هذا من الشیخ(قده) مجرد استبعاد ولم یقم دلیل علی ذلک ولا هو أقام دلیل علی ذلک.

وذهب السید الاستاذ(قده) (1) وکذلک غیره من المحققین إلی أن هذا العلم الإجمالی منجز ولکن هذا العلم الإجمالی ذات مراتب طولیة ذلک لأن هنا ثلاث علوم إجمالیة:

العلم الإجمالی الأول: بوجوب شیء أو حرمة شیء فی الشریعة المقدسة، ومنشأ هذا العلم الإجمالی هو وجود الشریعة فإن الشریعة لا یمکن أن تکون بدون حکم فإن مجیء شریعة الإسلام متضمنة للأحکام الشرعیة التکلیفیة، فاحتمال وجوب کل شیء أو احتمال حرمة کل شیء موجود فدائرة هذا العلم الإجمالی دائرة الشریعة ومنشأ هذا العلم الإجمالی هو وجود الشریعة.

العلم الإجمالی الثانی: وهو العلم الإجمالی بصدور الروایات من النبی الأکرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) حیث نعلم إجمالا بأن مجموعة کبیرة من هذه الروایات قد صدرت عنهم(ع) ودائرة هذا العلم الإجمالی الروایات ومطلق الأمارات من الروایات وسائر الأمارات کالشهرات الفتوائیة والاجماعات المنقولة.

العلم الإجمالی الثالث: وهو العلم الإجمالی بصدور مجموعة کبیرة من الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة کالکتب الأربعة ونحوها. ودائرة هذا العلم الإجمالی خصوص الکتب المعتبرة والمعلوم بالإجمال هو صدور مجموعة کبیرة من الروایات الموجودة فی هذه الکتب.

ص: 118


1- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد الواعظ، ج2، ص203.

والعلم الإجمالی الأول ینحل بالعلم الإجمالی الثانی والعلم الإجمالی الثانی ینحل بالعلم الإجمالی الثالث. والمیزان فی انحلال العلم الإجمالی الأول بالعلم الإجمالی الثانی هو أن المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الثانی لا یقل عن المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الأول، فإذا لم یکن المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الثانی أقل من المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الأول فینطبق المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الأول علی المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الثانی فلا علم بالتکلیف فی خارج دائرة الروایات والأمارات فإذا أفرز هذه الروایات فلا علم إجمالی بوجوب شیء أو حرمة شیء خارج عن دائرة الروایات والآیات والأمارات.

والمعلوم بالعلم الإجمالی الثالث لا یکون من المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الثانی فإذا لم یکن أقل منه فهو ینطبق علیه وینحل العلم الإجمالی الثانی إلی علم تفصیلی وهو العلم الإجمالی الثالث وإلی شک بدوی فی خارج أطراف العلم الإجمالی الثانی. فإذن ینحصر العلم الإجمالی المنجز بالعلم الإجمالی الثالث وهو المنجز، والمنجَّز إ نما هو الأحکام الموجودة فی ضمن الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة وأما خارج الکتب المعتبرة فلا علم إجمالی بوجود الحکم الإلزامی فیها علی تفصیل سیبین فی وقته.

هکذا ذکره السید الاستاذ(قده) وجماعة من المحققین.

أدلة حجیة خبر الواحد – الأدلة العقلیة بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الأدلة العقلیة

کان کلامنا فی أدلة حجیة أخبار الآحاد وتقدم جملة کبیرة من هذه الأدلة من الآیات والروایات والإجماع وسیرة العقلاء. وذکرنا أن عمدة الدلیل علی حجیة أخبار الثقة هی سیرة العقلاء الجاریة علی العمل بها والممضاة شرعا وأما الآیات و الروایات فعلی تقدیر تسلیم دلالتها علی حجیة أخبار الثقة فإن مفادها لیس تأسیسا بل التأکید والتقریر لما بنی علیه العقلاء، وأما الإجماع فهو غیر تام، ووصل بنا الکلام إلی الأدلة العقلیة التی أستدل بها علی حجیة أخبار الثقة وهی علی أصناف:

ص: 119

الصنف الأول: هو العلم الإجمالی بمطابقة جملة کبیرة من الأمارات للواقع من الإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة والروایات الصادرة من الأئمة الأطهار(ع) ولا شبهة فی هذا العلم الإجمالی وإنما الکلام یقع فی مقامین:

المقام الأول: فی عدة مراحل:

المرحلة الأولی: فی تنجیز هذا العلم الإجمالی فهل هذا العلم الإجمالی منجز أم أنه لا یکون منجزا؟

المرحلة الثانیة: فی نسبة الروایات والأمارات التی نعلم بمطابقتها للواقع إلی الأصول العملیة الشرعیة والعقلیة فهل هذه الأمارات تمنع عن جریان الأصول العملیة الشرعیة والعقلیة فی أطرافه أو لا تمنع؟

المرحلة الثالثة: فی نسبة هذه الأمارات التی نعلم بمطابقة جملة منها للواقع إلی الأصول اللفظیة کالعمومات والإطلاقات فهل هذه الأمارات تمنع عن التمسک بالأصول اللفظیة أو لا تمنع؟

فیقع الکلام فی هذه المراحل.

المقام الثانی: فی تحدید دائرة حجیة هذه الأمارات ___ التی نعلم بمطابقتها للواقع ___ سعة وضیقا وشروطها وحدودها.

أما الکلام فی المرحلة الأولی: فقد أعترض شیخنا الأنصاری(قده) (1) علی تنجیز هذا العلم الإجمالی وأن هذا العلم الإجمالی لا یصلح أن یکون منجزا وقد أفاد فی وجه ذلک أن هذا العلم الإجمالی لو کان منجزا فلازمه حجیة جمیع الأمارات الظنیة بکافة أقسامها وأصنافها ومنها القیاسات والاستحسانات وهذا مما لا یمکن الالتزام به فإن عدم حجیة مثل هذه الأمارات أمر ضروری فی الشریعة المقدسة.

هکذا ذکره شیخنا الأنصاری(قده).

ولکن ذکر السید الاستاذ(قده) (2) أن هناک علوما إجمالیة ثلاثة:

العلم الإجمالی الکبیر: وهو العلم الإجمالی بثبوت الإحکام الشرعیة من الوجوبات والتحریمات وغیرهما فی الشریعة المقدسة، ودائرة هذا العلم الإجمالی مطلق الشبهات سواء أ کانت هی أمارات أم لم تکن إمارات ومنشأ هذا العلم الإجمالی هو وجود الشریعة المقدسة إذ لا یمکن خلو الشریعة عن الأحکام الشرعیة بل هی عبارة عن جعل جملة من الأحکام الشرعیة التی تحل مشاکل الناس الاجتماعیة والفردیة والعائلیة والاهمال فی الشریعة المقدسة معناه الاهمال فی هذه الأحکام الشرعیة.

ص: 120


1- فرائد الأصول، الشیخ مرتضی الانصاری، ج1، ص357.
2- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج2، ص204.

والعلم الإجمالی الثانی: وهو العلم الإجمالی المتوسط _ أقل دائرة من العلم الإجمالی الأول _ وهو العلم الإجمالی بمطابقة جملة کبیرة من الأمارات ___ کالروایات والإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة وغیرها ___ للواقع ودائرة هذا العلم الإجمالی الأمارات فقط لا مطلق الشبهات أی الشبهات التی لا توجد فیها أمارة فهی خارجة عن دائرة هذا العلم الإجمالی والمراد من الأمارات ما کان أعم من الروایات والإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة ومنشؤها عدم احتمال کذب جمیع هذه الأمارات بحسب حساب الاحتمالات وکذلک بحسب حساب استحالة الصدفة فلا یمکن أن تکون جمیع هذه الأمارات غیر مطابقة للواقع.

العلم الإجمالی الثالث: وهو العلم الإجمالی الصغیر وأطراف هذا العلم منحصرة بالروایات التی وصلت من الأئمة الأطهار(ع) الموجودة فی الکتب المعتبرة فإنا نعلم بصدور جملة کبیرة من هذه الروایات من الأئمة الأطهار(ع) واحتمال الکذب فی الجمیع مدفوع علی حساب الاحتمالات من جهة وحساب استحالة الصدفة من جهة أخری فإن الصدفة لا تدوم. فهذا العلم تنحصر أطرافه بالروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة.

وعندئذ ننظر هل ینحل العلم الإجمالی الکبیر بالعلم الإجمالی المتوسط أو لا ینحل؟

والظاهر أن العلم الإجمالی الکبیر ینحل بالعلم الإجمالی المتوسط فإن وجود الشریعة لا یقتضی جعل الأحکام أکثر مما هو موجود فی مظان هذه الأمارات لأن العلم بوجود الشریعة یقتضی جعل الأحکام الشرعیة بمقدار ما تحل به مشاکل الإنسان الکبری من المشاکل الاجتماعیة والمالیة والفردیة والعائلیة وما شاکل ذلک ولا یقتضی أکثر من ذلک لأنه لغو ومن الواضح أن الأحکام الشرعیة الموجودة فی ضمن هذه الأمارات __ أعم من الروایات والاجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة __ تکفی لحل مشاکل الإنسان الکبری وعندئذ فلا یکون المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی المتوسط أقل من المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الکبیر، وإذا لم یکن أقل منه فهو ینطبق علیه ومع انطباقه علیه ینحل العلم الإجمالی الکبیر، فإذا أفردنا الشبهات التی لا توجد فیها أمارة وبقیت الشبهات التی فیها أمارة من الروایات أو الاجماعات المنقولة أو الشهرات الفتوائیة فلا علم بثبوت الأحکام الشرعیة بالشبهات التی لا توجد فیها أمارة لأن فی تلک الشبهات لا یوجد علم إجمالی فاحتمال ثبوت الحکم موجود والعلم الإجمالی بثبوت الحکم فی تلک الشبهات التی لا توجد فیها أمارة غیر موجود وهذا دلیل علی الانحلال وأن العلم الإجمالی إنما هو علم فی الأمارات فقط أعم من الروایات والاجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة.

ص: 121

واما العلم الإجمالی المتوسط فهل ینحل بالعلم الإجمالی الصغیر أو لا ینحل؟

والظاهر هو الانحلال فإن الأحکام المجعولة فی الشریعة المقدسة لا تکون أکثر من الأحکام الموجودة فی مضامین الروایات فی الکتب الأربعة فإن العمل بتلک الروایات یکفی لحل مشاکل الإنسان الکبری، فلا نعلم أن المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الصغیر أقل من المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی المتوسط، فاحتمال الانطباق موجود ومع هذا الاحتمال لا علم بثبوت الأحکام الشرعیة فی خارج دائرة الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة.

والوجه فی ذلک: أن الأمارات الموجودة فی خارج الروایات الموجودة فی الکتب الأربعة تنقسم إلی فئتین: أحداهما مطابقة لهذه الروایات فی المضامین أی أن مضامین هذه الأمارات مضامین تلک الروایات وإن لم تکن موجودة فی الکتب المعتبرة بل کانت موجودة فی الکتب غیر المعتبرة أو الاجماعات المنقولة فإن مضامینها مطابقة لمضامین الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة وکذلک الشهرات الفتوائیة.

فإذن لا أثر لمخالفة هذه الفئة من هذه الأمارات أعم من الروایات والاجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة.

وأما الأمارات التی تکون مخالفة لها فلیست کثیرة بحیث یعلم إجمالا بمطابقتها للواقع ولهذا ینحل هذا العلم الإجمالی المتوسط بالعلم الإجمالی الصغیر.

فإذن المنجِز هو العلم الإجمالی الصغیر وهو العلم الإجمالی بصدور جملة کبیرة من الروایات الموجودة فی الکتاب المعتبرة فإن هذه الروایات تکفی لحل مشاکل الإنسان الکبری من المشاکل الاجتماعیة والمالیة والعائلیة والفردیة وهکذا.

فما ذکره شیخنا الأنصاری(قده) من أنه لا یمکن ان یکون هذا العلم الإجمالی منجِزا مبنی علی عدم انحلال العلم الإجمالی الکبیر بالعلم الإجمالی المتوسط والعلم الإجمالی المتوسط بالعلم الإجمالی الصغیر.

ولکن تبین أن الأمر لیس کذلک فإن الانحلال ثابت ومعه لا إشکال فی البین.

أدلة حجیة خبر الواحد – الأدلة العقلیة بحث الأصول

ص: 122

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الأدلة العقلیة

إلی هنا قد تبین أن العلم الإجمالی الکبیر ینحل إلی علم إجمالی متوسط والعلم الإجمالی المتوسط ینحل إلی العلم الإجمالی الصغیر فلا یکون هنا أی علم إجمالی إلا فی ضمن الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة، والمعلوم بالإجمال فی الروایات لا یکون أقل من المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی المتوسط فإذا لم یکن أقل منه فالمعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی المتوسط ینطبق علیه.

فإذاً لا علم إجمالی فی خارج أطراف هذا المعلوم بالإجمال أی لیس هنا علم إجمالی فی خارج دائرة الروایات التی هی موجودة فی الکتب المعتبرة الواصلة من الأئمة الأطهار(ع).

وغیرها من الروایات والإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة علی طائفتین: طائفة منها موافقة لهذه الروایات ولا أثر لها، وطائفة أخری مخالفة لهذه الروایات ولا علم إجمالی بمطابقة بعضها للواقع.

فمن أجل ذلک ینحل العلم الإجمال الکبیر بالعلم الإجمالی المتوسط والعلم الإجمالی المتوسط ینحل بالعلم الإجمالی الصغیر وهو علم إجمالی بمطابقة مجموعة کبیرة من الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة وهذه الروایات تکفی لحل مشاکل الإنسان فی کل عصر من المشاکل الاجتماعیة والمادیة والمعنویة والمالیة والشخصیة والعائلیة.

فإذاً لا حاجة إلی جعل الأحکام أکثر من ذلک.

هذا ملخص ما ذکره السید الاستاذ(قده) وکذلک المحقق الخراسانی(قده)

ولکن أورد علی ذلک بعض المحققین (1) بما حاصله: أن العلم الإجمالی الکبیر وإن أنحل بالعلم الإجمالی المتوسط إلا أن العلم الإجمالی المتوسط لم ینحل بالعلم الإجمالی الصغیر.

وقد أفاد فی وجه ذلک ___ علی ما فی تقریر بحثه ___ أن العلم الإجمالی المتوسط ملفق من العلوم إجمالیة متعددة فإن الأمارات فئات متعددة متباینة: ففئة متمثلة فی الشهرات الفتوائیة وفئة فی الإجماعات المنقولة وفئة متمثلة فی الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة، والعلم الإجمالی کما تعلق بمطابقة مجموعة کبیرة من الروایات الموجودة فی الکتاب المعتبرة للواقع کذلک تعلق بمطابقة مجموعة من الإجماعات المنقولة للواقع وتعلق أیضا بمطابقة مجموعة من الشهرات الفتوائیة للواقع، فهنا علوم إجمالیة متعددة متباینة: علم إجمالی بمطابقة مجموعة من الروایات للواقع وعلم إجمالی بمطابقة مجموعة من الإجماعات المنقولة للواقع، وعلم إجمالی بمطابقة مجموعة من الشهرات الفتوائیة للواقع، والعلم الإجمالی المتوسط مؤلف من هذه العلوم الإجمالیة المتعددة والمتباینة وتجمیع لها وتلفیق بینها.

ص: 123


1- بحوث فی علم الاصول، تقریر بحث السید الشهید للسید محمود الشاهرودی، ج4، ص410.

ثم ذکر لتقریب ذلک: فإذا فرضنا أن هنا کتلتین من الأمارات: الکتلة الأولی الإجماعات المنقولة، والکتلة الثانیة الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة، وفرضنا أن کل واحدة من الکتلتین بلغ عددها مائة، فعدد الإجماعات وصل إلی مائة إجماع وعدد الروایات وصل إلی مائة روایة، ونعلم إجمالا بمطابقة عشرة من مائة أجماع للواقع لعدم احتمال کذب الجمیع __ وفق حساب الاحتمالات وعلی حساب استحالة الصدفة ___ ونعلم إجمالا بمطابقة عشرة من الروایات للواقع أیضا لعدم احتمال کذب جمیع الروایات ___ وفق حساب الاحتمال واستحالة دوام الصدفة ____ فهاتان الکتلتان متداخلتان فإن النسبة بینهما عموم من وجه ومورد التداخل والاجتماع بین الکتلتین تسعین أمارة ومورد الافترق من قبل کتلة الاجماع عشرة إجماعات مطابقة للواقع، ومورد الافتراق من قبل کتلة الروایات عشرة روایات مطابقة للواقع.

وعلی هذا فإن أرید انحلال العلم الإجمالی المتوسط بالعلم الإجمالی لأحد الکتلتین فإن العلم لإجمالی بمطابقة عشرة إجماعات علم إجمالی صغیر وعلم إجمالی بمطابقة عشرة روایات للواقع من مائة روایة علم إجمالی صغیر، والعلم الإجمالی المتوسط مؤلف منهما وتجمیع لهما وتلفیق بینهما.

وعلی هذا فإن أرید انحلال العلم الإجمالی المتوسط بأحد هذین العلمین معیناً أی بالعلم بمطابقة عشرة إجماعات للواقع من مائة إجماع فهو ترجیح بلا مرجح فإن نسبة کلا العلمین الصغیرین إلی العلم المتوسط نسبة واحدة فانحلاله بأحدهما دون الآخر ترجیح من غیر مرجح.

فمن أجل ذلک لا یمکن.

وإن أرید انحلاله بالجامع بینهما وهو التسعین أمارة __ لأنها مورد للتداخل والاجتماع بین الکتلتین من الأمارات ___ فهذا أمر معقول ولا یلزم محذور الترجیح بلا مرجح ولکن ذلک لا ینتج ما هو المطلوب من هذا الانحلال؛ فإن ما هو المطلوب من هذا الانحلال هو حجیة جمیع الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة ونتیجة هذا الانحلال هو حجیة الروایات فی مورد الاجتماع فقط لا فی مورد الافتراق ولذلک لا ینتج هذا الانحلال ما هو المطلوب منه.

ص: 124

هذا مضافا إلی أن هذا الانحلال خلاف الفرض فإن هذا العلم الإجمالی بمطابقة عشرة من الروایات فی مورد الاجتماع للواقع افتراض للعلم الاجمالی الأصغر من العلمین الاجمالین الصغیرین وهو خلاف فرض المستدل.

هذا حاصل ما ذکره(قده) علی ما فی تقریر بحثه.

وللمناقشة فیه مجال. فإن الإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة لا یمکن ان تکافئ الروایات لا کما ولا کیفا فإن الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة روایات کثیرة لعلها تبلغ أکثر من عشرة آلاف أو أکثر بینما الإجماعات المنقولة قلیلة جدا فی کلمات الفقهاء ولا سیما الإجماعات المنقولة التی لیس مدرکها الروایات فکیف یمکن العلم الإجمالی بمطابقة مجموع من هذه الإجماعات للواقع وکذلک الحال فی الشهرات الفتوائیة فإن أکثر الشهرات الفتوائیة مدرکها الروایات لأن الشهرة الفتوائیة التی هی تعبدیة ولیس مدرکها الروایات قلیلة جدا.

وعلی هذا فلا یمکن فرض العلم الإجمالی بمطابقة مجموعة من الشهرات الفتوائیة التی لیس مدرکها الروایات فإنها فی نفسها قلیلة ولا علم إجمالی بمطابقة بعضها للواقع، وکذلک الحال فی الإجماعات المنقولة فإن الإجماعات المنقولة التی لم یکن مدرکها الروایات فهی أیضا قلیلة ولا علم إجمالی بمطابقة بعضها للواقع کی یقال إن العلم الإجمالی مؤلف من العلوم الإجمالیة المتعددة بتعدد الأمارات وهو تجمیع وتلفیق بینها فالأمارات وإن کانت متعددة ولکنها لیست متکافئة فإن الروایات تشمل الجمیع وما هو خارج عن الروایات من الإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائة قلیل ولا علم إجمالی بمطابقة بعضها للواقع.

فإذاً ما ذکره(قده) ____ علی ما فی تقریر بحثه ____ مجرد افتراض لا واقع موضوعی له، هذا مضافا إلی إشکال آخر سیأتی ذکره.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

ص: 125

کان کلامنا فیما ذکره بعض المحققین(قده) من أن العلم الإجمالی المتوسط تجمیع لعدة علوم إجمالیة صغیرة وقلنا إنه مجرد افتراض لا واقع موضوعی له فی الخارج لأن سائر الأمارات لا تکون کفوءً للروایات لا فی الکم ولا فی الکیف.

أما فی الکم: فإن الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة أو روایات الثقة موجودة فی جمیع أبواب الفقه من البدایة إلی النهایة بمقدار یشبع حاجة المجتهد فی عملیة الاستنباط فی حل مشاکل الناس من المشاکل الاجتماعیة والفردیة والمادیة والمعنویة والعائلیة والمالیة فی کل عصر، وأما الإجماعات المنقولة فهی لیست کذلک؛ أما الإجماعات المنقولة التی لها مدرک من الروایات فوجودها کعدمها أی لا أثر لها لأنها داخلة فی الروایات باعتبار أن مدرکها الروایات، وأما الإجماعات التعبدیة فهی قلیلة جدا ولا نعلم بمطابقة بعضها للواقع، وکذلک الحال فی الشهرات الفتوائیة فإن الشهرات الفتوائیة الموافقة للروایات ویکون مدرکها الروایات لا أثر لها ووجودها کالعدم حیث أن الروایات تشمل تلک الروایات التی تکون مدرکا للشهرة وأما الشهرات التعبدیة فهی قلیلة جدا ولا نعلم بمطابقة بعضها للواقع.

وعلیه کیف یتصور هنا علوم إجمالیة متعددة بتعدد الأمارات إذ لیس هنا إلا علم إجمالی واحد وهو العلم الإجمالی بصدور مجموعة کبیرة من الروایات عن الأئمة الأطهار(ع) من الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة أو روایات الثقات.

ومن هنا لا مانع من انحلال العلم الإجمالی الوسط بالعلم الإجمالی الصغیر لأن العلم الإجمالی المتوسط علم واحد غایة الأمر أطرافه مطلق الأمارات أعم من الروایات والشهرات الفتوائیة والإجماعات المنقولة وغیرها وأما العلم الإجمالی الصغیر فأطرافه خصوص الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة أو روایات الثقات فینحل العلم الإجمالی المتوسط بالعلم الإجمالی الصغیر لأن المعلوم بالإجمال بالعلم الإجمالی الصغیر لا یکون أقل من المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی المتوسط وهو ینطبق علیه، فإذا انطبق علیه فینحل العلم الإجمالی الوسط بالعلم الإجمالی الصغیر.

ص: 126

هذا بحسب الکم.

وأما بحسب الکیف فإن الروایات من الأمارات الحسیة وأما الشهرات الفتوائیة والإجماعات المنقولة فهما من الأمارات الحدسیة لأنهما أخبار عن الحدس ولیس أخبار عن حس بینما الروایات أخبار حسیة إما مباشرة أو بواسطة الحس.

وعلی هذا فإذا فرضنا أن العلم الإجمالی الوجدانی الکبیر غیر موجود والعلم الإجمالی الوسط غیر موجود وکذلک العلم الإجمالی الوجدانی الصغیر غیر موجود بمعنی أنا لا نعلم بصدور مجموعة من الروایات عن الأئمة الأطهار(ع) فعندئذ لا بد من الرجوع إلی أدلة حجیة الروایات من الکتاب والسنة والإجماع والسیرة، ومن الواضح أن هذه الأدلة مختصة بالأمارات الحسیة حیث أن الأمارات الحسیة أقرب إلی الواقع لأن الخطأ فی الحس قلیل بینما الخطأ فی الحدس کثیر، فالأدلة من الکتاب والسنة والإجماع مختصة بالأمارات الحسیة التی تنطبق علی الروایات، فإن الروایات من الأمارات الحسیة أو قریبة من الحس ولا تشمل الأمارات الحدسیة کالإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة لأنها غیر مشمولة لأدلة الحجیة من الکتاب والسنة والإجماع والسیرة.

فإذاً لا دلیل علی حجیة الإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة.

ومن هنا إذا لم نعلم بمطابقة بعض هذه الإجماعات أو الشهرات للواقع وجدانا فلا یمکن لنا إثبات حجیتها بأدلة الحجیة إذ قد عرفت أن أدلة الحجیة لا تشمل الأمارات الحدسیة.

وعلی هذا فهل یمکن انحلال العلم الإجمالی الکبیر بالعلم الإجمالی المتوسط؟ فإن العلم الإجمالی الکبیر علم وجدانی، وأما العلم الإجمالی الوسط فهو علم تعبدی ولیس وجدانیا. وکذلک العلم الإجمالی الصغیر فهو تعبدی أیضا؟

والظاهر أنه لا مانع من انحلال العلم الإجمالی الکبیر بالعلم الإجمالی الوسط فإن الانحلال تارة یکون حقیقیا وأخری یکون تعبدیا أی یکون الانحلال بحکم الشارع، ولا مانع من انحلال العلم الإجمالی الکبیر الوجدانی بالعلم الإجمالی الوسط التعبدی کما أنه لا مانع من انحلال العلم الإجمالی الوسط التعبدی بالعلم الإجمالی الصغیر التعبدی وهذا الانحلال انحلال حکمی أی الشارع حکم بالانحلال.

ص: 127

فالنتیجة أن الانحلال یحصل علی کلا التقدیرین فی العلم الإجمالی الوسط فسواء کان علما إجمالیا وجدانیا أو کان علما إجمالیا تعبدیا یحصل الانحلال به للعلم الإجمالی الکبیر، ونفس الأمر یجری فی العلم الإجمالی الصغیر أیضا فإن به یحصل انحلال العلم الإجمالی الوسط سواء کان العلم الإجمالی الصغیر علما إجمالیا تعبدیا أو وجدانیا، ولا مناص من الانحلال للعلم الإجمالی الکبیر بالعلم الإجمالی الوسط والعلم الإجمالی الوسط بالعلم الإجمالی الصغیر.

ومع الإغماض عن ذلک وتسلیم أن سائر الأمارات تکون کفوءً للروایات کما وکیفا فأیضا لا یکون ما ذکره بعض المحققین من أن العلم الإجمالی الوسط تجمیع لعدة علوم إجمالیة صغیرة من العلم الإجمالی فی الشهرات الفتوائیة والعلم الإجمالی فی الإجماعات المنقولة والعلم الإجمالی فی الروایات صحیحاً، لأنه مبنی علی الالتزام بالتسبیب أی التسبیب الأشعری بأن تکون کل أمارة سبب لحدوث حکم ولجعل حکم وعندئذ بطبیعة الحال یتعدد الحکم بتعدد الأمارة، سواء تمثلت الأمارة بالإجماع أو بالشهرة أو بالروایة.

ولکن هذا المسلک باطل بل ذکرنا فی محله أنه غیر معقول.

وأما بناءً علی ما هو الصحیح من أن هذه الأمارات ملحوظة بنحو الطریقیة والکاشفیة والمرآتیة للحکم الواقعی، أی أن الحکم فی الواقع واحد وهو متعلق للعلم الإجمالی والتعدد إنما فی الطرق إلیه.

فإذاً الأمارات بجمیع أصنافها ملحوظة بنحو الطریقیة والکاشفیة والمرآتیة وبالمعنی الحرفی إلی الحکم الواقعی والحکم الواقعی واحد ولا یتعدد بتعدد الأمارات ولا یختلف أیضا باختلافها طابقت الواقع أو لم تطابقه.

فإذاً متعلق العلم الإجمالی هو الحکم الواقعی لا الأمارات وإنما الأمارات طریق إلیه.

وعلی هذا فالعلم الإجمالی الوسط علم واحد حقیقة وهو العلم بثبوت الحکم الواقعی فی ضمن هذه الأمارات ولیس هو مؤلفا من علوم إجمالیة متعددة بل هو علم إجمالی واحد متعلق بالحکم الواقعی والحکم الواقعی لا یتعدد بتعدد الطرق إلیه وأما الأمارات فجمیعها ملحوظة بالمعنی الحرفی وبنحو المرآتیة. وأما الواقع فهو ملحوظ بالمعنی الاسمی وله موضوعیة.

ص: 128

فإذاً ما ذکره بعض المحققین(قده) من تألف العلم الإجمالی الوسط من علوم إجمالیة متعددة صغیرة غیر تام ولا یمکن المساعدة علیه.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أنا لو سلمنا أن العلم الإجمالی المتوسط مؤلف من علوم إجمالیة متعددة صغیرة ولکن مع هذا لا یمکن المساعدة علی ما ذکره بعض المحققین لأن ما ذکره مبنی علی أن تکون الأمارات ملحوظة بنحو الموضوعیة وبنحو الاستقلال وبنحو المعنی الاسمی بأن تکون کل واحدة من الأمارات متعلقا للعلم الإجمالی مستقلا، أی أن الروایات بنفسها متعلقة للعلم الإجمالی وکذلک الإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة.

ولکن هذا المسلک غیر صحیح فهو مبنی علی القول بالتصویب وهذا القول باطل.

والصحیح أن الأمارات ملحوظة بنحو الطریقیة والکاشفیة والمرآتیة للواقع وملحوظة بالمعنی الحرفی وأما الحکم الواقعی فلا یتغیر بتغیر الأمارات ولا یتعدد بتعددها وهی قد تکون مطابقة له وقد تکون مخالفة له.

وعلی هذا فبطبیعة الحال العلم الإجمالی متعلق بالحکم الواقعی فی الواقع سواء أ کانت الأمارة مطابقة له أم لا ، وعلی هذا فلا یکون العلم الإجمالی المتوسط مؤلفا من العلوم الإجمالیة المتعددة بل هو علم واحد وهو العلم الإجمالی بثبوت الأحکام الشرعیة فی ضمن الأمارات وعندئذ فبطبیعة الحال هذا العلم الإجمالی ینحل بالعلم الإجمالی الصغیر هو العلم الإجمالی بثبوت أحکام شرعیة فی ضمن أخبار الثقة أو فی ضمن الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة فدائرة العلم الإجمالی الصغیر خصوص الأخبار الموجودة فی الکتب المعتبرة أو خصوص روایات الثقات. فمن أجل ذلک یکون هذا العلم أصغر من العلم المتوسط.

ومع الإغماض عن ذلک أیضا وتسلیم أن العلم الإجمالی المتوسط مؤلف من العلوم الإجمالیة المتعددة الصغیرة ولکن هل یمکن انحلال هذا العلم الإجمالی أو لا یمکن انحلاله؟

ص: 129

قد یقال ___ کما قیل ___ بانحلال العلم الإجمالی المتوسط ___ وإن قلنا بأنه تجمیع وتلفیق منه العلوم الإجمالیة المتعددة الصغیرة ____ لأنه مردد بین الأقل والأکثر الاستقلالین فإنا نعلم إجمالا بعشرة من الأحکام الشرعیة فی مادة الاجتماع بین الاجماعات المنقولة والروایات ونعلم إجمالا بعشرة أحکام فی مادتی افتراق کل من الاجماعات المنقولة والروایات ولکن نحتمل أن العشرة أحکام التی هی فی مادة الاجتماع تکون فی ضمن العشرتین فی مادتی الافتراق ولیست مبانیة لهما فیدور الأمر بین الأقل والأکثر لأننا نعلم بوجود عشرة أحکام فی مادة الاجتماع ونشک فی الزائد علیها بعضا أو کلا وفی مثل ذلک لا مانع من الرجوع إلی الأصل المؤمن بالنسبة إلی الزائد.

وهذا نظیر ما إذا علمنا إجمالا بنجاسة أحد هذه الآنیة الخمسة فإنا نعلم بأن واحد منها نجس قطعا ونشک فی نجاسة الزائد فلا محالة ینحل إلی علم تفصیلی بنجاسة الأقل وشک بدوی بالنسبة إلی نجاسة الزائد وعندئذ لا مانع من الرجوع إلی الأصول المؤمنة عن الزائد کأصالة الطهارة او استصحاب عدم النجاسة. أو إذا علمنا أنه مدیون من زید أما خمسة دنانیر أو عشرة وهذا العلم الإجمالی ینحل إلی علم إجمالی بکونه مدیونا خمسة دنانیر وشک فی الزائد وهذا الانحلال انحلال وجدانی فإنه وجدانا مدیون بخمسة دنانیر وأما فی الزائد فهو شاک فلا مانع من الرجوع إلی الأصول المؤمنة کأصالة البراءة أو الاستصحاب.

وما نحن فیه أیضا کذلک فإنا نعلم إجمالا بعشرة من الأحکام فی الواقع فی مادة الاجتماع ونشک فی الزائد وهذا العلم الإجمالی لا محالة ینحل إلی علم تفصیلی بوجود عشرة أحکام فی الواقع وشکا بدویا بالنسبة إلی الزائد فلا مانع من الرجوع إلی الأصول المؤمنة.

ص: 130

ولکن هذا القیل غیر صحیح ولا یمکن المساعدة علیه؛ فإنه لا شبهة فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالین فی کون العلم الإجمالی فیه علم إجمالی صورة وهو منحل إلی علم تفصیلی بالأقل وشک بدوی فی الأکثر فالعلم الإجمالی صوری فقط فیما لو دار الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالین نعم إنما الکلام فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین أی هل ینحل العلم الإجمالی أولا ینحل؟ أما الانحلال الحقیقی فهو غیر متصور فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین وأما الانحلال الحکمی فهل هو متصور أم لیس بمتصور؟

وقد ذکرنا فی مورده أنه لا مانع من الانحلال الحکمی فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین وأما الأقل والأکثر الاستقلالیین فلا شبهة فی الانحلال الحقیقی فإنه فی الحقیقة لیس هنا علم إجمالی بل علم تفصیلی وشک بدوی.

ولکن المقام لیس من مصادیق دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین؛ لأن دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالین إنما هو فیما إذا کان الأقل موجودا فی ضمن الأکثر بتمامه فیما إذا کان الأقل من أفراد الأکثر وموجودا فی ضمن الأکثر بتمامه کما إذا علمنا أنه إما مدیون خمس دنانیر أو عشرة فالخمسة موجودة فی ضمن العشرة بتمامها أو إذا علمنا أن إناء واحد نجس أو أن خمس آنیة جمیعا نجسة فهذا من دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین فالأقل موجود فی ضمن الأکثر بتمامه وأما إذا لم یکن الأقل موجودا فی ضمن الأکثر فلا تکون المسألة من دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین. کما إذا علمنا إجمالا بأن هذا الإناء الأبیض نجس أو أن النجس فی ضمن هذان الإناءان الأسودان فهذا یکون من دوران الأمر بین الأقل والأکثر ولکن لیس من دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین فإن الأقل غیر موجود فی ضمن الأکثر وإنما هو مباین للأکثر والأقل هو الإناء الأبیض والأکثر هو الإناءان الأسودان أو علمنا بأن النجس إما إناء واحد شرقی أو النجس إناءان غربیان وأنه وإن کان صورة من دوران الأمر بین الأقل والأکثر إلا أنه فی الحقیقة لیس من دوران الأمر بین الأقل والأکثر بل من دوران الأمر بین المتباینین غایة الأمر أحد طرفی العلم الإجمالی أقل من الطرف الآخر وعندئذ هل یمکن الرجوع إلی الأصول المؤمنة فی أطراف العلم الإجمالی أولا؟ أو أن أدلة الأصول العملیة لا تشمل أطراف العلم الإجمالی نهائیا أو أنها تشملها ولکن تسقط من جهة المعارضة لأن جریانها فی الجمیع یستلزم المخالفة القطعیة العملیة وجریانها فی البعض دون البعض الآخر ترجیح من غیر مرجح ومن أجل ذلک تسقط أدلة الأصول العملیة عن أطراف العلم الإجمالی من جهة المعارضة.

ص: 131

وما نحن فیه کذلک فإن الأقل لیس موجودا فی ضمن الأکثر بتمامه فإن الأکثر عشرتین من مادتی الافتراق والأقل عشرة من مادة الاجتماع ولا نعلم أن هذه العشرة موجودة فی ضمن العشرتین بتمامها بل نعلم أن بعضها غیر موجود فی ضمن عشرتین وأما تمامها فلا فمن أجل ذلک لا ینحل هذا العلم الإجمالی لا وجدانا ولا حکما بل یبقی علی حاله؛ أما وجدانا فلأن هذا العلم لا ینحل إلی علم تفصیلی بالأقل وهو عشرة أحکام ثابتة فی الواقع من مادة الاجتماع وشک بدوی بالنسبة إلی العشرتین من مادتی الافتراق فإنا لا نعلم أن عشرة من مادة الاجتماع موجودة بتمامها فی ضمن عشرتین من مادتی الافتراق بل نعلم أن بعضها غیر موجود فی ضمن عشرتین من مادتی الافتراق فمن أجل ذلک لا یکون المقام من دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین لکی ینحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بالأقل وإلی شک بدوی فی الأکثر وأما الانحلال الحکمی ففیه تفصیل.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

ملخص ما ذکرناه من التعلیق علی ما ذکره بعض المحققین(قده) من الافتراض علی ما فی تقریر بحثه من أن العلم الإجمالی الوسط تلفیق وتجمیع لعدة علوم إجمالیة متعددة صغیرة ولهذا اشکل فی انحلال هذا العلم الإجمالی.

أما التعلیق الأول علی ذلک: فلأن ما ذکره من الافتراض مبنی علی أن تکون سائر الأمارات کفوءً للروایات ولکن الأمر لیس کذلک فإن سائر الأمارات عبارة عن الإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة فإن الشهرات الفتوائیة لیست کفوءً لطائفة من الروایات فضلا عن مجموعها کروایات الثقات او الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة، وأما الشهرات الفتوائیة فإن کان لها مدرک من الروایات فالعبرة إنما هی بالروایات لا بالشهرة وأما الشهرة التعبدیة فهی قلیلة جدا فلا یمکن حصول العلم بمطابقة بعضها للواقع.

ص: 132

وکذلک الحال فی الإجماعات المنقولة فإن کان لها مدرک من الروایات فالعبرة إنما هی بالروایات لا بالإجماع وأما الإجماع التعبدی فهو قلیل جدا فلا نعلم بمطابقة بعضها للواقع.

فإذاً لا یمکن أن تکون سائر الأمرات کفوءً لطائفة من الروایات کأخبار الثقة والأخبار الموجودة فی الکتب المعتبرة فإن أخبار الثقة موجودة فی جمیع أبواب الفقه بحیث تکفی فی عملیة الاستنباط فی کل باب بمقدار ما یحتاج إلیه الناس فی حل مشاکلهم.

التعلیق الثانی: مع الإغماض عن ذلک وتسلیم أن سائر الأمارات کفوءً للروایات ولکن ما ذکره(قده) من أن العلم الإجمالی الوسط هو تجمیع من عدة علوم إجمالیة صغیرة فهو مبنی علی أن تکون الأمارات ملحوظة بنحو الموضوعیة والاستقلال والمعنی الاسمی بحیث تکون کل أمارة موضوع للحکم وهذا مبنی علی القول بالتصویب الاشعری وهو باطل بل مستحیل علی تفصیل ذکرناه فی محله.

والصحیح أن الأمارات ملحوظة بنحو الطریقیة والکاشفیة والمعنی الحرفی وأنها طریق الی الواقع والحکم الواقعی حکم واحد لا یتغیر بتغیر الأمارات ولا یتعدد بتعددها فسواء أصابت الأمارة أو أخطأت الواقع یبقی الحکم الواقعی واحد.

وعلی هذا فالعلم الإجمالی متعلق بالحکم الواقعی فلا یکون العلم الإجمالی الوسط تجمیعا لعلوم إجمالیة صغیرة متعددة لأن العلم الإجمالی الوسط هو علم بثبوت الأحکام الشرعیة فی الواقع فی دائرة مطلق الأمارات والعلم الإجمالی الکبیر هو العلم بثبوت الأحکام الشرعیة فی دائرة مطلق الشبهات سواء کانت فیها روایة أم لم تکن وأما العلم الإجمالی الوسط فهو العلم الإجمالی بثبوت الأحکام الشرعیة فی الواقع فی دائرة مطلق الأمارات وأن العلم الإجمالی الصغیر هو علم بثبوت الأحکام الشرعیة فی دائرة أخبار الثقة أو دائرة الأخبار الموجودة فی الکتب المعتبرة.

وعندئذ ینحل العلم الإجمالی الکبیر بالعلم الإجمالی الوسط لأن المعلوم بالإجمال بالعلم الإجمالی الکبیر لیس أکثر من المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الوسط کما أن العلم الإجمالی الوسط ینحل بالعلم الإجمالی الصغیر فإن المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الصغیر لیس أقل من المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الوسط.

ص: 133

هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری قد یقال کما قیل إن العلم الإجمالی الوسط لیس تجمیعا لعدة علوم إجمالیة صغیرة بل هو مردد بین الأقل والأکثر الاستقلالیین ومن الواضح انحلال العلم الإجمالی فی التردید بین الأقل والأکثر الاستقلالی إلی علم تفصیلی بالأقل وشک بدوی فی الأکثر کما إذا علمنا إجمالا أن ذمة شخص إما مشغولة بخمس دنانیر لزید او بعشرة فإنه ینحل إلی علم تفصیلی باشتغال ذمته بالخمسة وإلی شک بدوی فی الزائد، وکذلک لو علمنا إجمالا ان ذمته مشغولة بالصوم خمس أیام او عشرة أو عشرین أو ذمته مشغولة بالصلاة شهر أو شهرین فلا شبهة فی انحلال هذا العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بالأقل وشک بدوی فی الأکثر.

فإذاً لا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة إلی الأکثر عن الوجوب الزائد.

وما نحن فیه أیضا کذلک فإن الأمر یدور بین عشرة أحکام فی مادة الاجتماع وبین عشرتین فی مادتی الافتراق فیکون الأمر دائرا بین الأقل والأکثر فإن العلم الإجمالی الوسط مردد بین عشرة أحکام فی مادة الاجتماع وبین عشرتین فی مادتی الافتراق فینحل عندئذ هذا العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بالأقل وهو عشرة أحکام فی مورد الاجتماع وشک بدوی فی الزائد ولا مانع من الرجوع إلی أصالة البراءة عن الزائد.

ولکن هذا القیل غیر صحیح؛ فإن المیزان فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین وانحلال العلم الإجمالی فیه إلی علم تفصیلی بالأقل وشک بدوی فی الأکثر هو أن یکون الأقل بتمامه موجودا فی ضمن الأکثر کمثال الدین أو اشتغال ذمة الشخص بالصلاة أو بالصوم المرددة بین الأقل والأکثر، فإن فیها یکون الأقل موجود فی ضمن الأکثر بتمامه ففی مثل ذلک لا شبهة فی انحلال العلم الإجمالی.

ص: 134

وأما إذا لم یکن الأقل موجودا فی ضمن الأکثر بتمامه فلا یکون داخلا فی هذه المسألة کما إذا علمنا إجمالا بنجاسة إناءین شرقیین أو نجاسة إناء غربی فإن الأمر وإن کان دائرا بین الأقل والأکثر الاستقلالیین إلا أن الأقل غیر موجود فی ضمن الأکثر وعلیه لا یمکن انحلال العلم الإجمالی، بل یدور الأمر حینئذ بین المتباینین غایة الأمر أحد طرفی العلم الإجمالی أکثر من الطرف الآخر وهذا لا مانع منه. فإذاً أصالة الطهارة عن الإناءین الشرقیین معارضة بأصالة الطهارة عن الإناء الغربی فلا یمکن جریان کلتا الأصالتین لاستلزامه المخالفة القطعیة العملیة وعندئذ تسقطان معا. فلا یکون المقام من دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین.

وما نحن فیه کذلک فإن العشرة أحکام فی مورد الاجتماع لیس موجودة فی العشرتین لموردی الافتراق وإذا لم تکن موجودة فیهما فلا یمکن انحلال العلم الإجمالی لا حقیقة ولا حکما.

أما حقیقة فلأن أحد طرفی العلم الإجمالی لا ینطبق علی الطرف الآخر فإن عشرة أحکام فی مورد الاجتماع لا تکون موجودة فی عشرتی الافتراق حقیقة حتی یکون الانحلال حقیقیا.

واما حکمیا فإن أصالة البراءة عن العشرتین معارضة بأصالة البراءة عن العشرة فی مورد الاجتماع فلا یمکن جریان کلتا الأصالتین لاستلزامه المخالفة القطعیة العملیة.

فإذاً لا یمکن الانحلال فی المقام لا حقیقة ولا حکما. فلا یکون المقام من دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین إذ قد عرفت أن دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین منوط بان یکون الأقل موجودا فی ضمن الأکثر ومع عدم وجوده لا بتمامه ولا ببعضه فلا یمکن انحلال هذا العلم الإجمالی.

ثم أن هنا اشکالا آخر وهو ان العلم الإجمالی بمطابقة بعض الاجماعات للواقع أو بعض الشهرات الفتوائیة للواقع فی فرض اجتماع هذا العلم الإجمالی مع العلم الإجمالی بمطابقة بعض الروایات للواقع فهل المؤثر فی تنجیز الحکم الواقعی فی مورد الاجتماع کلا العلمیین الإجمالیین أو المؤثر أحدهما فقط لا کلا العلمین الإجمالیین؟

ص: 135

المشهور إن المنجز هو العلم الإجمالی بمطابقة جملة من الروایات للواقع دون العلم الإجمالی بمطابقة جملة من الشهرات الفتوائیة للواقع باعتبار أن هذا العلم الإجمالی متأخر عن العلم الإجمالی بالروایات، وکذلک العلم الإجمالی بالروایات متقدم زمنا علی العلم الإجمالی فی الاجماعات المنقولة.

فعلی المشهور أن المؤثر هو العلم الإجمالی السابق دون العلم الإجمالی المتأخر ولهذا اشترط المشهور فی تنجیز العلم الإجمالی فی جمیع أطرافه ان لا یکون بعض أطرافه منجزا بمنجز سابق وإلا فلا یکون للعلم الإجمالی منجزا.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أن ما ذکره السید الاستاذ(قده) من انحلال العلم الإجمالی الکبیر بالعلم الإجمالی الوسط وهو ینحل ایضا بالعلم الإجمالی الصغیر هذا هو الصحیح.

والنکتة فی ذلک: أن جعل الأحکام الشرعیة من قبل الشارع ____ الذی یری مصلحة الناس ومشاکلهم الاجتماعیة والفردیة والعائلیة ____ لا بد أن یکون بمقدار یشبع حوائج الناس الاجتماعیة والفردیة ویحل مشاکلهم من کافة الجهات فی کل عصر لا أکثر من ذلک، ومن الواضح أن المعلوم بالإجمال بالعلم الإجمالی الکبیر لیس أکثر من ذلک وکذلک المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الصغیر لا یکون أقل من المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الوسط.

فإذاً لا اختلاف بین هذه العلوم الثلاثة فی المعلوم بالإجمال لا کما ولا کیفا وإنما الاختلاف فی سعة دائرة المعلوم بالإجمال فی العلم الإجمالی الکبیر فإن دائرته مطلق الشبهات وإن لم تکن فیها روایة وأمارة. ودائرة العلم الإجمالی الوسط مطلق الأمارات أعم من الإجماعات المنقولة والشهرات الفتوائیة ودائرة العلم الإجمالی الصغیر صنف خاص من الروایات کروایات الثقات او الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة.

ص: 136

ثم أن هنا إشکالا آخر فی تنجیز العلم الإجمالی الحاصل من الشهرات الفتوائیة فی مورد الاجتماع مع العلم الإجمالی الحاصل من الروایات وکذلک العلم الإجمالی الحاصل من الإجماعات المنقولة فی مورد اجتماعه مع العلم الإجمالی الحاصل من الروایات وهل ان هذا العلم الإجمالی منجز فی مورد الاجتماع أو لا یکون منجزا؟

والجواب أن فیه قولین: فالمعروف والمشهور بین الأصحاب انه لا یکون منجزا لأن العلم الإجمالی الحاصل من الشهرات الفتوائیة فی مورد الاجتماع مع العلم الإجمالی الحاصل من الروایات متأخر زمنا عن العلم الإجمالی الحاصل من الروایات، وکذلک العلم الإجمالی الحاصل من الإجماعات المنقولة فی مورد الاجتماع متأخر زمنا عن العلم الإجمالی الحاصل من الروایات. والمعروف والمشهور بین الأصولیین أن العلم الإجمالی إنما یکون منجزا فیما إذا لم یکن بعض أطرافه منجزا بمنجز سابق وإلا لم یکون منجزا ومثال ذلک ما لو علمنا بنجاسة أحد إناءین احدهما غربی والآخر شمالی ثم حصل لنا علم إجمالی بنجاسة إناءین أحدهما غربی والآخر شرقی والإناء الغربی طرف لکلا العلمین الإجمالیین. فهنا المعروف والمشهور بین الأصحاب أن العلم الإجمالی الثانی لا یکون منجزا لأن أحد طرفیه منجز بمنجز سابق وهو العلم الإجمالی الأول فلا مانع من الرجوع إلی أصالة الطهارة فی الإناء الشرقی لأن العلم الإجمالی إذا لم یکن منجزا بالنسبة إلی الإناء الغربی فبطبیعة الحال یکون الشک فی نجاسة الإناء الشرقی شکا بدویا ولا مانع من الرجوع فیه إلی اصالة الطهارة.

وما نحن فیه من هذا القبیل فإن العلم الإجمالی الحاصل من الشهرات الفتوائیة فی مورد الاجتماع متأخر زمنا عن العلم الإجمالی الحاصل من الروایات فی مورد الاجتماع، وقد قلنا إن المشهور بین الأصحاب أن هذا العلم الإجمالی الحاصل من الشهرات الفتوائیة لا یکون منجزا لأن بعض أطرافه منجز بمنجز سابق وهو العلم الإجمالی الحاصل من الروایات.

ص: 137

وإذا فرضنا أن مورد الاجتماع لا یکون منجزا بالعلم الإجمالی الحاصل من الشهرات الفتوائیة أو العلم الحاصل من الإجماعات المنقولة فإذا لم یکن منجزا للأحکام الشرعیة فی مورد الاجتماع باعتبار أنها منجزة بمنجز سابق فلا مانع من الرجوع إلی الأصول المؤمنة فی مادة الافتراق لأنا إذا أفرزنا مورد الاجتماع عن الشهرات الفتوائیة فمورد الافتراق قلیل جدا لأن الشهرات الفتوائیة التعبدیة - التی لم تکن فی موردها روایات – قلیلة جدا وکذلک الإجماعات المنقولة التی لم تکن فی موردها روایة فهی قلیلة جدا فلا یوجد علم إجمالی بمطابقة بعضها للواقع، ومن هنا إذا لم یکن العلم الإجمالی الحاصل من الشهرات منجزا للأحکام الشرعیة فی مورد اجتماعه مع العلم الإجمالی من الروایات فلا یکون منجزا للأحکام الشرعیة فی مورد الافتراق أیضا إذ لا علم إجمالی فی مورد الافتراق بل هناک شک بدوی والمرجع فیه هو الأصول المؤمنة من الاستصحاب أو أصالة البراءة هذا هو المشهور بین الأصحاب.

ولکن ما ذهب الیه المشهور من الاصولیین غیر صحیح، بل لا یرجع إلی معنی محصل لأن التنجز أثر للعلم الإجمالی ومعلول للعلم الإجمالی ویستحیل انفکاک الأثر عن المؤثر بأن یکون المؤثر موجودا دون الأثر أو الأثر موجودا دون المؤثر أو العلة موجودة دون المعلول او المعلول موجود بدون العلة کل ذلک مستحیل لأن المعلول یدور مدار العلة حدوثا وبقاءً وجودا وعدما والأثر یدور مدار المؤثر حدوثا وبقاء ووجودا وعدما.

وعلی هذا فالعلم الإجمالی الحاصل من الروایات وإن کان متقدما زمنا فإن أرید به انه منجز للأحکام فی مورد الاجتماع حدوثا وبقاء فهذا غیر معقول لأن معناه انفکاک المعلول عن العلة والأثر عن المؤثر، إذ معناه أن العلم الإجمالی الحاصل فی یوم الخمیس منجز للحکم فی یوم الخمیس ویوم الجمعة وهکذا أی حدوثا وبقاء وهذا معناه انفکاک المعلول عن العلة إذ کیف یکون المعلول یوم الجمعة والعلة یوم الخمیس ولهذا المعلول یدور مدار العلة حدوثا وبقاء، فإذا انتفت العلة انتفی المعلول ولا یعقل بقاؤه بدون العلة فالمعلول کما انه فی حدوثه بحاجة إلی العلة کذلک فی بقائه بحاجة إلی بقائها.

ص: 138

ومن هنا لا یعقل أن یکون العلم الإجمالی الحاصل من الروایات منجزا للأحکام الشرعیة فی مورد الاجتماع حدوثا وبقاء وإلا لزم انفکاک المعلول عن العلة وانفکاک الأثر عن المؤثر وهو مستحیل.

وعلی هذا فإذا اجتمع العلم الإجمالی الحاصل من الروایات مع العلم الإجمالی الحاصل من الشهرات الفتوائیة فی آن واحد فی مورد الاجتماع فعندئذ تنجز مورد الاجتماع مستند إلی کلیهما معا، ولا یعقل أن یکون مستندا إلی أحدهما دون الآخر لأنه ترجیح من غیر مرجح بعد ما کانت نسبة المعلول إلی کلتا العلتین نسبة واحدة، فنسبة المعلول إلی أحداهما المعین دون الأخری ترجیح من غیر مرجح، فلا محالة عندئذ یکون مستندا إلی کلیهما کما هو الحال فی جمیع موارد اجتماع العلتین علی معلول واحد، فإنه حینذاک یکون المعلول مستند إلی کلتیهما معا لا إلی أحداهما دون الأخری لأنه ترجیح من غیر مرجح.

وعلی هذا یجتمع علمان إجمالیان فی مورد الاجتماع ویکون تنجز الأحکام الشرعیة فی مورد الاجتماع مستند إلی کلا العلمین لا إلی احدهما دون الآخر. کما هو الحال فی المثال المذکور سابقا فإن الإناء الغربی مورد لاجتماع کلا العلمین باعتبار أنه طرف لکلیهما فإذا أجتمع فیه کلا العلمین فی آن واحد فلا محالة یکون تنجز هذا الإناء مستند إلی کلا العلمین معا ولا یمکن أن یکون مستند الی العلم الأول دون الثانی لأنه ترجیح من غیر مرجح.

والنتیجة أن ما هو المشهور بین الأصحاب من شرط تنجیز العلم الإجمالی هو أن لا یکون بعض أطرافه منجزا بمنجز سابق غیر تام بل لا یرجع إلی معنی محصل.

هذا تمام کلامنا فی المرحلة الأولی.

وأما الکلام فی المرحلة الثانیة فهو فی انه هل یوجد فرق بین وجوب العمل بالروایات من جهة العلم الإجمالی بصدور مجموعة منها عن المعصومین(ع) او وجوب العمل بها من جهة حجیتها وما هو الفرق بینهما؟

ص: 139

والجواب أن الفرق بینهما فی عدة نقاط یأتی الکلام فیها إن شاء ...

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

أما الکلام فی المرحلة الثانیة فیقع فی الفرق بین وجوب العمل بالروایات بملاک العلم الإجمالی وبین وجوب العمل بها بملاک حجیتها وما هو الفارق بینهما؟

والجواب: أن الفارق بینهما فی مجموعة من النقاط:

النقطة الأولی: أن مقتضی العلم الإجمالی بالروایات یفترق عن مقتضی دلیل حجیة الروایات.

النقطة الثانیة: فی جریان الأصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی وعدم جریانها فإن کان وجوب العمل بالروایات بملاک العلم الإجمالی یقع الکلام فی جریان الأصول العملیة فی أطرافها وعدم جریانها فی أطراف هذا العلم بینما إذا کانت الروایات حجة فلا تجری الأصول العملیة فی مواردها أصلا.

النقطة الثالثة: أن وجوب العمل بالروایات إذا کان بملاک العلم الإجمالی فیقع الکلام فی جریان الأصول اللفظیة فی أطرافه وعدم جریانها فیها بینما لا تجری فی موارد الروایات إذا کانت حجة.

فإذاً یفترق وجوب العمل بالروایات بملاک العلم الإجمالی عن وجوب العمل بها بملاک حجیتها.

أما النقطة الأولی فیفترق مقتضی العلم الإجمالی عن مقتضی دلیل الحجیة فی أمور:

الأمر الأول: أن مقتضی العلم الإجمالی تنجیز التکلیف المعلوم بالإجمال إما مباشرة أو بالواسطة بنحو العلیة التامة او بنحو الاقتضاء وسوف یأتی الکلام فی هذه الجهات فی ضمن الأبحاث القادمة.

وأما مقتضی دلیل حجیة الروایات إما حجیتها مطلقا أو حجیة خصوص طائفة منها کأخبار الثقة أو أخبار العدول أو أخبار طائفة خاصة علی الأقوال فی ذلک.

فإذا کانت الروایات حجة یترتب علیها آثارها علی نفس الروایات بعنوانها الخاص وباسمها المخصوص کصحة الاستناد إلیها فی مقام العمل الخارجی وصحة الاستناد إلیها فی مقام عملیة الاستنباط وصحة اسناد مؤداها إلی الشارع سواء کان مؤداها الوجوب أو الحرمة أو حکم آخر غیرهما، ولا فرق فی هذا بین أن یکون معنی الحجیة هو جعل الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی أو معنی الحجیة المنجزیة والمعذریة او معنی الحجیة جعل الحکم المماثل للحکم الواقعی فی صورة المطابقة من الروایات للواقع وجعل الحکم الظاهری المخالف إذا کانت الروایة مخالفة للواقع فلا فرق من هذه الناحیة.

ص: 140

فالنتیجة أن العلم الإجمالی بالروایات یقتضی وجوب الاحتیاط بینما مقتضی دلیل الحجیة وجوب العمل بکل روایة بخصوصها وترتیب آثار الحجیة علیها.

الأمر الثانی: أن وجوب العمل بالروایات إذا کان بملاک العلم الإجمالی فلا یصح اسناد مؤداها إلی الشارع لأن مؤدی الأمارات ومدلولها إما الوجوب أو الحرمة او غیرهما من الأحکام الشرعیة فلا یصح اسناد مؤداها ومدلولها الی الشارع ولا یصح الاستناد إلیها فی مقام العمل الخارجی کما لا یصح الاستناد إلیها فی مقام عملیة الاستنباط بینما إذا کان وجوب العمل بالروایات بملاک حجیتها فیجوز اسناد مؤداها إلی الشارع ویصح أن یقال أن هذا الوجوب المدلول لهذه الروایة هو وجوب شرعی أو أن هذه الحرمة حرمة شرعیة فیصح اسناد مؤداها ومدلولها إلی الشارع کما یصح الاستناد إلیها فی مقام العمل الخارجی أو عملیة الاستنباط.

هذا هو الفارق بین وجوب العمل بالروایات بملاک العلم الإجمالی وبین وجوب العمل بها بملاک حجیتها.

الأمر الثالث: أن وجوب العمل بالروایات إذا کان بملاک العلم الإجمالی فلا یکون مثبتاتها حجة بینما إذا کان وجوب العمل بالروایات بملاک حجیتها فتکون مثبتاتها حجة.

وأما النقطة الثانیة: ففیها أیضا صور وأمور:

الصورة الأولی: ما إذا کان مفاد الروایات أحکاما إلزامیة کالوجوب أو الحرمة ومفاد الأصول العملیة أحکاما ترخیصیة کأصالة البراءة العقلیة والنقلیة أو أصالة الطهارة واستصحاب عدم التکلیف کاستصحاب عدم الوجوب او استصحاب عدم الحرمة فیکون مدلول الأمارات أحکاما إلزامیة کالوجوب والحرمة ونحوهما، ومدلول الأصول العملیة أحکاما ترخیصیة.

فإذاً تارة یقع الکلام فی جریان الأصول العملیة المؤمنة والمرخصة فی الأطراف فی الروایات إذا کان وجوب العمل بها بملاک العلم الإجمالی فهل تجری الأصول العملیة المؤمنة المرخصة فی أطراف العلم الإجمالی بالروایات أو لا تجری.

ص: 141

والجواب: أنها لا تجری إما لقصور مقتضیها فی نفسه أی أن أدلة الأصول العملیة المؤمنة قاصرة عن شمول أطراف العلم الإجمالی فی نفسها ومنصرفة عنها فلا تشمل أطراف العلم الإجمالی وهذا القول هو الأظهر، او ان أدلة الأصول العملیة المرخصة تشمل بإطلاقها اطراف العلم الإجمالی ولکنها تسقط من جهة المعارضة، فإذا علمنا بنجاسة أحد الإناءین فمن الواضح أن أصالة الطهارة فی هذا الإناء معارضة بأصالة الطهارة فی الإناء الآخر لأن کلتا الأصالتین لا تجری فی کلا الإناءین وإلا لزم الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة وهذا غیر ممکن وأما جریانها فی أحدهما المعین دون الآخر ترجیح من غیر مرجح لأن نسبة أصالة الطهارة الی کلا الإناءین علی حد سواء.

وأما جریانها فی احدهما لا بعینه فغیر صحیح فإنه إن أرید من أحدهما لا بعینه أحدهما المفهومی فلا واقع موضوعی له فی الخارج ولیس من اطراف العلم الإجمالی بل هو مجرد مفهوم فی عالم الذهن فقط. وإن أرید بأحدهما لا بعینه احدهما المصداقی فهو من الفرد المردد والفرد المردد یستحیل وجوده فی الخارج.

فمن أجل ذلک تسقط أدلة الأصول العملیة المؤمنة عن أطراف العلم الإجمالی بالتعارض فإذا سقطت فیکون العلم الإجمالی حینئذ منجز. ونتیجة تنجیز العلم الإجمالی هی وجوب الاحتیاط والاجتناب عن جمیع أطراف العلم الإجمالی.

وأما إذا کان وجوب العمل بالروایات بملاک حجیتها فلا شبهة فی أن الروایات تتقدم علی هذه الأصول العملیة المؤمنة. أما تقدیمها علی أصالة البراءة العقلیة فهو بالورود فإن الروایات التی هی حجة رافعة لموضوع أصالة البراءة العقلیة وجدانا لأن موضوع أصالة البراءة العقلیة عدم البیان ولا شبهة فی أن الروایات إذا کانت حجة شرعا فهی بیان وجدانا.

وأما تقدیمها علی أصالة البراءة الشرعیة وأصالة الطهارة واستصحاب عدم التکلیف فهل هذا التقدیم بالورود أو بالحکومة او بالجمع الدلالی العرفی، فهنا وجوه، سوف یأتی بحثها فی ضمن البحوث الآتیة إن شاء...

ص: 142

فإذاً فرق بین وجوب العمل بالروایات بملاک العلم الإجمالی فیکون هذا الوجوب وجوب احتیاطی وبین وجوب العمل بها بملاک حجیتها.

الصورة الثانیة: ما إذا کانت الأصول العملیة متکفلة للأحکام الالزامیة کأصالة الاشتغال واستصحاب المثبت للتکلیف کاستصحاب بقاء الوجوب او استصحاب بقاء الحرمة فإذا کانت الأصول العملیة متکفلة للأحکام الالزامیة فعندئذ إن کان الأصل العملی مخالفا للروایات وفرضنا أن الروایات حجة فعندئذ لا بد من تقدیم الروایة علی الأصل العملی المتکفل للأحکام الالزامیة. أما تقدیم الروایات إذا کانت حجة علی أصالة الاشتغال فهو بالورود لأن موضوع أصالة الاشتغال احتمال العقوبة علی مخالفة الواقع ولا شبهة فی أن الروایات إذا کانت حجة فهی مؤمنة من العقوبة قطعا فإذا عمل المکلف بالروایة فهو مأمون قطعا من العقوبة والإدانة وإن کانت الروایة مخالفة للواقع، فالروایة رافعة لموضوع أصالة الاشتغال وجدانا فتقدیمها علیها إنما هو بالورود.

واما تقدیمها علی الاستصحاب المثبت للتکلیف فهل هو بالورود أو بالحکومة او بالجمع الدلالی العرفی؟ فیه وجوه وسیأتی بحثها فی ضمن البحوث القادمة إن شاء ..

هذا إذا کان الأصل العملی المتکفل للحکم الالزامی مخالفا للروایة وأما إذا کان موافقا للروایة فهل یکون تقدیم الروایة علی هذه الأصول من باب الورود او من باب الحکومة او من باب الجمع الدلالی العرفی ففیه وجوه تأتی غدا إن شاء ...

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

الصورة الثانیة: ما إذا کانت الأصول العملیة الشرعیة متکفلة للأحکام الالزامیة کقاعدة الاشتغال وکالاستصحاب المثبت للتکلیف کاستصحاب بقاء وجوب شیء أو استصحاب بقاء حرمة شیء فتارة یقع الکلام فی جریان هذه الأصول فی أطراف الروایات بملاک أن هذه الروایات حجة وأخری یقع الکلام فی جریانها فی موارد هذه الروایات بملاک وجوب العمل بها من جهة العلم الإجمالی وقاعدة الاشتغال.

ص: 143

أما الکلام فی الفرض الأول: فإن کانت هذه الأصول مخالفة للروایات التی هی حجة ومدلول الروایة إما نفی الوجوب أو الحرمة واما مدلول قاعدة الاشتغال فوجوب شیء فعندئذ لا شبهة فی تقدیم الروایة علی قاعدة الاشتغال من باب الورود لأن موضوع قاعدة الاشتغال احتمال العقوبة والإدانة والروایة إذا کانت حجة فهی مؤمنة جزما عن العقوبة وإن کانت الروایة مخالفة للواقع.

وأما إذا کان الأصل العملی متمثلا بالاستصحاب فإن کان الاستصحاب حجة بدلیل قطعی کالسیرة العقلائیة أو نحوها فأیضا لا شبهة فی تقدیم الروایة علی الاستصحاب من باب الورود أو من باب الحکومة او من باب الجمع الدلالی العرفی، وسوف یأتی الکلام فیها.

وأما کانت هذه الأصول العملیة کقاعدة الاشتغال موافقة للروایة فهذا یعنی اجتماع قاعدة الاشتغال مع الروایة علی حکم واحد فمع ذلک لا بد من تقدیم الروایة علی قاعدة الاشتغال من باب الورود لأن المأخوذ فی موضوع قاعدة الاشتغال احتمال ثبوت التکلیف فی الواقع کما فی الشبهات قبل الفحص وعدم ثبوت الحکم لا واقعا ولا ظاهرا ومن الواضح أن الروایة إذا کانت حجة فهی تثبت الواقع ظاهرا فلا محالة تکون رافعة لموضوع قاعدة الاشتغال وجدانا فتکون واردة علیها.

وأما إذا کان الأصل العملی متمثلا فی الاستصحاب وفرضنا أنه حجة فی مورد الاجتماع مع الروایة ولکن مع ذلک لا بد من تقدیم الروایة علی الاستصحاب لأنه منوط بالشک فی بقاء الحالة السابقة مقیدا بعدم الدلیل علی ثبوت الحالة السابقة أو نفیها وفی حال کان هناک دلیل علی ثبوت الحالة السابقة ولو ظاهرا فهو رافع لموضوع الاستصحاب وجدانا فیکون واردا علی الاستصحاب وسوف یأتی بحثه فی ضمن الأبحاث القادمة.

واما إذا لم یکن الاستصحاب حجة لعدم الدلیل علیه وکان وجوب العمل به بملاک قاعدة الاشتغال ووجوب الاحتیاط ولیس بملاک حجیة الاستصحاب فعندئذ لا شبهة فی تقدیم الروایة علی الاستصحاب فکما أن الروایة تتقدم علی قاعدة الاشتغال کذلک تتقدم علی الاستصحاب لأن مدرک الاستصحاب قاعدة الاشتغال حسب الفرض. هذا إذا کانت الأصول العملیة المتکفلة للأحکام الالزامیة مخالفة للروایات وکانت الروایات حجة.

ص: 144

وأما الفرض الثانی: وهو ان الروایات لا تکون حجة ووجوب العمل بها بملاک العلم الإجمالی من باب قاعدة الاشتغال لا بملاک حجیتها فی نفسها فعندئذ إذا کان الأصل العملی متمثلا بقاعدة الاشتغال وکانت موافقة للروایة وقد اجتمعت مع الروایة فی مورد الاجتماع بینهما فبطبیعة الحال یکون تنجز الحکم فی مورد الاجتماع مستند إلی قاعدة الاشتغال والروایة معا باعتبار أن وجوب العمل بالروایات من باب قاعدة الاشتغال وکلتا القاعدتین مؤثرة فی تنجیز الحکم فی مورد الاجتماع فهو من باب اجتماع علتین مستقلتین علی معلول واحد وحینئذ لا محالة یکون وجود المعلول مستند إلی کلتا العلتین لا إلی احدهما دون الأخری کما لو اجتمعت حرارة النار مع حرارة الکهرباء علی غلیان الماء فغلیانه مستند إلی کلتا الحرارتین ولا یمکن أن یکون مستند إلی حرارة النار دون حرارة الکهرباء أو بالعکس بل هو مستند إلی کلتیهما معا وهکذا فی کل مورد تجتمع فیه علتان مستقلتان علی معلول واحد فهو مستند إلی کلتیهما معا ویستحیل استناده إلی احداهما دون الأخری.

واما إذا کان الأصل العملی متمثلا بالاستصحاب وکان الاستصحاب حجة بدلیل قطعی کسیرة العقلاء ونحوها فعندئذ لا شبهة فی أن الاستصحاب یقدم علی الروایة فی مورد الاجتماع لأن وجوب العمل بالروایات بملاک الاحتیاط وقاعدة الاشتغال والاستصحاب إذا کان حجة فهو مقدم علی قاعدة الاشتغال لأن المأخوذ فی قاعدة الاشتغال عدم ثبوت الحکم لا واقعا ولا ظاهرا والاستصحاب یثبت الحکم ظاهرا فیقدم علی قاعدة الاشتغال بالورود لأنه رافع لموضوع قاعدة الاشتغال وجدانا.

واما إذا لم یکن الاستصحاب حجة بان یکون العمل به من باب الاحتیاط وقاعدة الاشتغال کما إذا علم إجمالا بصدور بعض الروایات الدالة علی الاستصحاب عن المعصومین(ع) وحینئذ فإذا اجتمع مع الروایة فی مورد واحد فالمفروض ان وجوب العمل بالروایات أیضا من باب قاعدة الاشتغال فتجتمع فی هذا المورد قاعدتی اشتغال فبطبیعة الحال تنجیز الحکم فی مورد الاجتماع مستند إلی کلتا القاعدتین معا لا إلی احداهما دون الأخری.

ص: 145

هذا کله علی ما هو الصحیح من ان تنجیز العلم الإجمالی لأطرافه یکون بنحو الاقتضاء لا بنحو العلة التامة أی ان العلم الإجمالی منجز للمعلوم بالإجمال بنحو العلة التامة ولکنه منجز لأطرافه بنحو الاقتضاء شریطة أن لا تجری الأصول العملیة المرخصة فی أطرافه وإلا فهی مانعة عن تنجیز العلم الإجمالی لأطرافه.

وأما إذا قلنا بان تنجیز العلم الإجمالی لأطرافه أیضا یکون ینحو العلة التامة فلا یجری شیء من الأصول العملیة المرخصة فی اطرافه ولا یمکن جریانها لأن فرض جریانها فرض ان العلم الإجمالی لیس علة تامة وهو خلف لأن العلم الإجمالی إذا کان علة تامة لتنجیز أطرافه فلا مجال لجریان الأصول العملیة المرخصة وکذلک لا مجال للأصول العملیة المتکفلة للأحکام الالزامیة فإنها ایضا لا مجال لجریانها لأن العلم الإجمالی علة تامة فلا محالة یکون منجز بدون توقف علی شیء آخر... نعم قاعدة الاشتغال إذا کانت مستندة إلی العلم الإجمالی بالروایات کما فی الاستصحاب إذا کان مستند إلی العلم الإجمالی بصدور بعض روایاته فالعلم الإجمالی منجز لأطرافه بنحو العلة التامة فعندئذ کما ان العلم الإجمالی بصدور مجموعة من الروایات منجز بنحو العلة التامة کذلک العلم الإجمالی بصدور بعض روایات الاستصحاب منجز بنحو العلة التامة ومع اجتماع کلتیهما فی مورد واحد فالتنجیز عندئذ مستند إلی کلتیهما معا وحینئذ لا وجه لتقدیم قاعدة الاشتغال فی الروایات علی قاعدة الاشتغال فی الاستصحاب لأن مدرک کلتا القاعدتین هو العلم الإجمالی.. نعم العلم الإجمالی بالروایات متقدم عل قاعدة الاشتغال إذا کان مدرکها احتمال ثبوت التکلیف کما فی الشبهات البدویة قبل الفحص لأن فیها یجب الاحتیاط بمقتضی قاعدة الاشتغال لأنه لا مجال لجریانها إذا قلنا ان العلم الإجمالی علة تامة لتنجیز أطرافه لأن التنجیز مستند إلی العلم فلا تصل النوبة إلی الاحتمال.

ص: 146

هذا کله فیما إذا کانت الأصول العملیة المتکفلة للأحکام الالزامیة موافقة للروایة. طجرافه

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

ذکرنا فی الصورة الثانیة ما اذا کان الأصل العملی متکفلا للحکم الإلزامی فتارة یقع الکلام فیما اذا کان الأصل العملی موافقا للروایة وأُخری یکون مخالفا لها وقد تقدم الکلام فیما اذا کان الأصل موافقا للروایة ویبقی الکلام فیما اذ کان الأصل العملی المتکفل للحکم الإلزامی مخالفا للروایة.

فإن کان الأصل العملی متمثلا فی الاستصحاب المثبت للتکلیف فإن قلنا بحجیة الروایة فلا شبهة فی تقدیم الروایة علی الاستصحاب فیکون تقدیمها علیه من باب الورود علی تفصیل یأتی فی ضمن البحوث القادمة.

وأما اذا کان وجوب العمل بالروایات بملاک العلم الاجمالی لا بملاک حجیتها بل من باب الاحتیاط وقاعدة الاشتغال وحینئذ فإن کان الاستصحاب حجة بدلیل قطعی کالسیرة القطعیة ونحوها ولا یمکن إثبات حجیة الاستصحاب بالروایات باعتبار أن الروایات علی الفرض لا دلیل علی حجیتها فاذا ثبتت حجیة الاستصحاب بدلیل قطعی خارجی فعندئذ لا شبهة فی تقدیم الاستصحاب علی الروایات لان العمل بالروایات انما هو بملاک قاعدة الاشتغال والاستصحاب وارد علی هذه القاعدة لأن موضوع هذه القاعدة احتمال ثبوت التکلیف مع عدم وجود مؤمن فی البین ومقید بعدم ثبوته لا واقعا ولا ظاهرا ومن الواضح أن الاستصحاب مثبت للتکلیف ظاهرا فعندئذ ینتفی موضوع القاعدة بانتفاء قیده ولهذا یکون الاستصحاب واردا علی الروایة اذا کان وجوب العمل بها بملاک العلم الاجمالی وقاعدة الاشتغال والاحتیاط.

وأما اذا لم یکن الاستصحاب حجة ولا دلیل علی حجیته من الخارج وروایات الاستصحاب لم تثبت حجیتها ولکن بما أنا نعلم بصدور بعض روایات الاستصحاب فیکون العمل بالاستصحاب بملاک العلم الاجمالی من باب الاحتیاط وقاعدة الاشتغال کما هو الحال فی سائر الروایات فإن وجوب العمل بها بملاک العلم الاجمالی من باب الاحتیاط وقاعدة الاشتغال فحیث انه لا یمکن الجمع بین القاعدتین الاشتغالیتین اذ لا یمکن صدور حکمین متناقضین من العقل ای لا یمکن ان یحکم العقل بحکمین متناقضین ای بحسن شیء وقبحه معا وبقاعدة الاشتغال فی مورد روایات الاستصحاب بقاعدة الاشتغال فی مورد سائر الروایات اذا کانتا متخالفتین ومتناقضتین وفی مثل ذلک لا محالة یحکم العقل بالتخییر بینهما بعد عدم إمکان الحکم بکلتا القاعدتین المتناقضتین فبطبیعة الحال یحکم بالتخییر بینهما.

ص: 147

هذا اذا کان الأصل العملی متمثلا بالاستصحاب.

وأما اذا کان متمثلا بقاعدة الاشتغال بأن یکون مفاد الاشتغال وجوب شیء ومفاد الروایات حرمة ذلک الشیء والمفروض أن العمل بالروایات ایضا من باب قاعدة الاشتغال فعندئذ یقع التنافی بین قاعدتین اشتغالیتین وحیث انه لا یمکن فرض التنافی بینهما إذ معناه ان العقل یحکم بکلتا القاعدتین معا وهذا غیر معقول ولا یصدر من العقل حکمین متناقضین فعندئذ لا محالة یحکم العقل بالتخییر بین الأخذ بقاعدة الاشتغال وبین الأخذ بالعمل بالروایات فإن العمل بالروایات ایضا بملاک قاعدة الاشتغال مخیر بین کلتا القاعدتین

قد یقال إن قاعدة الاشتغال اذا کانت مخالفة للروایات فی موارد العلم الاجمالی لا تجری فی أطرافه لا کلا ولا بعضا فإن قاعدة الاشتغال لا تجری فی أطراف العلم الاجمالی اذا کانت مخالفة للعلم الاجمالی لا کلا ولا بعضا

والجواب أن هذا القول لا یرجع الی معنی محصل إذ لا مانع من جریان قاعدة الاشتغال فی بعض أطراف العلم الاجمالی دون بعضها الآخر لأن جریانها منوط بتحقق موضوعها ومع تحقق موضوعها فی بعض أصناف الروایات دون الأخری تجری القاعدة فی موارد هذا الصنف فعندئذ تکون هذه القاعدة منافیة للعمل بهذه الاصناف من الروایات من باب قاعدة الاشتغال وحینئذ تقع المنافاة بین هاتین القاعدتین الاشتغالیتین وحیث إن المنافاة بینهما غیر ممکنة فلا محالة یحکم العقل بالتخییر بینهما بعد أن لا یمکن الحکم بکلتا القاعدتین معا إذ التعارض بین الأحکام العقلیة القطعیة والعقلیة الضروریة غیر معقول کما لا یمکن التعارض بین الأحکام القطعیة الشرعیة ایضا لانه لا یعقل التعارض بین الآیتین سندا أو بین دلالتین قطعیتین فالتعارض بین الأحکام القطعیة غیر متصور لا سندا ولا دلالة اذا کانت قطعیة وإنما یتصور فی الأحکام الظنیة المعتبرة بدلیل وأما الأحکام الشرعیة اذا کانت قطعیة فلا یتصور التعارض بینها ولهذا لا یعقل التعارض بین الآیتین سندا ولا بین الدلالتین اذا کانتا قطعیتین.

ص: 148

هذا اذا کان تنجیز العلم الاجمالی لأطرافه بالاقتضاء وبالواسطة وأما اذا کان تنجیزه لأطرافه بالمباشرة وبنحو العلة التامة فعندئذ لا مجال لأصالة الاشتغال فی موردها فإن فرض وجود المخالف للعلم الاجمالی عن التنجیز غیر متصور لأنه یعنی ان العلم الاجمالی لیس علة تامة وهو خلف.

وایضاً لا مانع من ان تجری قاعدة الاشتغال المخالفة للعلم الاجمالی بالروایات فی جمیع أطرافه من الروایات وعندئذ تقع المنافاة بین قاعدتین اشتغالیتین أی بین قاعدة الاشتغال التی تجری فی مورد الروایات وبین قاعدة الاشتغال التی یعمل بها فی الروایات لأن العمل بالروایات کان من باب قاعدة الاشتغال ولکن حیث ان المنافاة بینهما غیر معقولة فمن اجل ذلک یحکم العقل بالتخییر بینهما.

هذا کله فی الصورة الاولی

الصورة الثالثة: ما اذا کان الأصل العملی متکفلا للحکم الالزامی والروایات نافیة للحکم الإلزامی بمدلولها المطابقة او بمدلولها الالتزامی فالاصل العملی المتکفل للحکم الإلزامی فی مقابله الروایات النافیة للحکم الإلزامی وهذا الأصل العملی متمثل فی أصلین:

احدهما: قاعدة الاشتغال.

والآخر: الاستصحاب المثبت للتکلیف.

وفی مقابلها روایة نافیة للتکلیف الالزامی کما اذا فرضنا ان قاعدة الاشتغال تقتضی وجوب شیء فی مورد الروایات والروایة تدل علی اباحة ذلک الشیء بالمطابقة وعلی نفی الوجوب بالالتزام فتکون نافیة للوجوب بالدلالة الالتزامیة وکذلک الحال فی الاستصحاب فإن الروایة مخالفة له ومنافیة لمدلوله لانه مثبت للوجوب او الحرمة والروایة تدل علی الإباحة بالمطابقة وعلی نفی الوجوب بالالتزام.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع:- خ__ت__ام.

ذکر السید الماتن (قدس الله نفسه) : الحادیة والثلاثون: إذا بقی من المال الذی تعلق به الزکاة والخمس مقدار لا یفی بهما ولم یکن عنده غیره فالظاهر وجوب التوزیع بالنسبة بخلاف ما إذا کانا فی ذمته ولم یکن عنده ما یفی بهما فإنه مخیر بین التوزیع وتقدیم أحدهم) (1) .

ص: 149


1- العروة الوثقی، السید محمد کاظم الیزدی الطباطبائی، ج4، ص192، ط جماعة المدرسین.

ذکر الماتن ان ما بقی من العین الزکویة او الخمس یوزع بینهما بالنسبة فاذا فرضنا ان خمس هذا المال زکاة وعشره سهم الامام (علیه السلام) والسادة فیقسم بینهما الی ثلاثة اثلاث ثلثین للإمام (علیه السلام) والسادة وثلث للزکاة ، وهکذا اذا کانت النسبة الربع او الخمس فیقسم بینهما بالنسبة.

ولکن هذا التقسیم فی بعض اصناف الزکاة غیر متصور ، مثلا فی زکاة الاغنام فالزکاة متعلقة بعین واحدة وهی شاة من اربعین شاة وتسعة وثلاثین شاة لیس متعلقة للزکاة ولهذا یجوز تصرف المالک فی تسعة وثلاثین شاة ، واما الخمس فهو متعلق بأربعین شاة بنحو المشاع فخمس اربعین شاة وهو سهم الامام (علیه السلام) والسادة فمعناه ان کل واحد من الشیاه مشترک بین المالک وبین الامام (علیه السلام) والسادة وأما الباقی وهو أربعة اخماس فهی للمالک ، فالخمس متعلق بالعین بنحو الاشاعة واما الزکاة فهی متعلقة بالعین بنحو الکلی فی الذمة ، فالزکاة لیست مشترکة بین المالک وبین الفقیر فان شاة واحد تماما هی الزکاة والباقی للمالک ولهذا یجوز تصرف المالک بالباقی من التصرفات الخارجیة والاعتباریة کالبیع والهبة.

واما اذا بقی من اربعین شاة شاةٌ واحدة فهذه الشاة إما هی زکاة بتمامها او خمسها سهم الامام (علیه السلام) والسادة ، فیدور امر هذه الشاة بین کونها زکاة تماما وبین خمسها سهم الامام (علیه السلام) والسادة مشترک بین المالک والامام (علیه السلام) والسادة ولا یمکن التوزیع فالتوزیع منوط بالاشتراک بان یکون المال مشترکا بین الخمس والزکاة وشاة واحدة لیست مشترکة فهی اما زکاة بتمامها او خمسها للإمام والسادة ، اذن فهی اما متعلق للزکاة او متعلق للخمس وتعیین ذلک بحاجة الی القرعة.

واما فی زکاة الابقار فالتوزیع غیر متصور فان زکاة البقر فی ثلاثین بقرة تبیع والتبیع هو الزکاة واما الخمس تعلق بنفس ثلاثین بقر فخمس الثلاثین بقرة هو سهم الامام (علیه السلام) وسهم السادة ، إذن لا اشتراک بینهما حتی یوزع فالتوزیع غیر متصور فی زکاة البقر.

ص: 150

وکذا الحال فی زکاة الابل فان فی خمس إبل شاة والخمس متعلق بنفس الابل بنحو المشاع فخمسها للإمام (علیه السلام) والسادة واربعة اخماسها للمالک فالمالک لا یشترک مع الفقیر فان خمسة ابل ملک المالک تماما ویجوز تصرف المالک فی خمسة ابل بدون أی مزاحم وزکاة خمسة ابل شاة أی شاة کانت سواء أکان اشتری شاة بعنوان الزکاة او کانت الشاة عنده دفعها للفقیر بعنوان الزکاة.

النتیجة ان ما ذکره الماتن من التوزیع انما ینطبق علی زکاة الغلاة وزکاة النقدین فان الزکاة فی الغلاة الاربعة متعلقة بالعین بنحو کسر المشاع وکذا الزکاة فی النقدین وعلی هذا فاذا بقی من الحنطة التی هی متعلقة للزکاة والخمس معا منها مقدار لا یفی بالزکاة والخمس معا فالماتن ذکر التوزیع ، فظاهر کلام الماتن الباقی مشترک بین الفقیر وبین الامام (علیه السلام) والسادة مع ان الامر لیس کذلک فان تعلق الزکاة بالحنطة بنحو الاشاعة بمعنی ان کل جزء من اجزائه مشترک بین المالک والفقیر واذا کانت متعلقة للخمس فکل جزء من اجزاء الحنطة مشترک بین المالک والامام والسادة فحینئذ اذا تلفت الحنطة بآفة سماویة او ارضیة او اتلفها المالک عمدا فعلی الاول لیس المالک ضامنا للزکاة والخمس لان التلف لیس بتقصیر منه وعلی الثانی تنتقل الزکاة والخمس الی ذمة المالک واما الباقی فهو مشترک بین الثلاثة بین المالک والفقیر والامام والسادة لا انه مشترک بین الامام والسادة وبین الفقیر لان هذه الحنطة مشترکة بین الجمیع وفی کل جزء من اجزائها مشترک بین الثلاثة ، اذن ما یظهر من الماتن ان الباقی مشترک بین الزکاة والخمس لیس الامر کذلک ، اذن عشر هذا الباقی زکاة وخمسه سهم الامام والسادة والباقی ملک للمالک کما هو الحال فی الذهب والفضة فاذا فرضنا ان اربعین مثقال من الذهب عند المالک فمثقال واحد زکاة وثمانیة خمس والباقی ملک للمالک ، فما یظهر من الماتن لا یمکن المساعدة علیه.

ص: 151

هذا اذا کانت الزکاة متعلقة بالعین الخارجیة والخمس متعلق بها ، واما اذا کانت الزکاة فی الذمة وکذا الخمس فحینئذ لا تمییز بینهما فی الذمة والتمییز انما هو بالقصد فحینئذ لا یجب علی المالک التوزیع فالمالک مخیر بین ان یدفع ما فی ذمته بعنوان الزکاة او یدفع ما فی ذمته بعنوان الخمس او یدفع نصف ما فی ذمته بعنوان الزکاة ونصف ما فی ذمته بعنوان الخمس فالمالک مخیر ولا دلیل علی التوزیع بالنسبة الی ما فی الذمة فان التوزیع بالنسبة الی ما فی الذمة لا معنی له لان ما فی الذمة امر اعتباری غیر قابل للتقسیم والتوزیع لان التوزیع انما یتصور فی الاعیان الخارجیة لا فی الامور الاعتباریة.

ثم ذکر السید الماتن (قدس الله نفسه) : وإذا کان علیه خمس أو زکاة ومع ذلک علیه من دین الناس والکفارة والنذر والمظالم وضاق ماله عن أداء الجمیع فإن کانت العین التی فیها الخمس أو الزکاة موجودة وجب تقدیمهما علی البقیة، وإن لم تکن موجودة فهو مخیر بین تقدیم أیهما شاء ولا یجب التوزیع وإن کان أولی) (1) .

ذکر الماتن ان العین اذا کانت موجودة فی الخارج وجب تقدیم الزکاة والخمس علی سائر الاشیاء فان الزکاة متعلقة بالعین الخارجیة وکذا الخمس واما الدین فهو متعلق بالذمة لا بالعین الخارجی وکذا المظالم فان المظالم متعلقة بالذمة واما الکفارة فهو مجرد تکلیف فوجوبها لیس وجوبا مالیا بل وجوب تکلیفی وکذا وجوب النذر فهو وجوب تکلیفی محض ولیس وجوبا مالیا فالمنذور لیس خارجا عن ملک المالک وصار ملکا لله تعالی فان النذر لله حاله حال قوله تعالی:﴿ وَلِلّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا ﴾ (2) ، فان الحج لیس ملکا لله تعالی بل یدل علی ان الحج واجب لأجل التقرب لله تعالی.

ص: 152


1- العروة الوثقی، السید محمد کاظم الیزدی الطباطبائی، ج4، ص193، ط جماعة المدرسین.
2- سورة آل عمران، الآیة 97.

ولکن ظاهر الماتن ان وجوب النذر وجوب مالی بقرینة ذکره فی سیاق الزکاة والخمس والدین ورد المظالم ولکن لا دلیل علی ان وجوب الکفارة وجوب مالی بل هو وجوب تکلیفی محض وکذا وجوب الوفاء بالنذر.

ذکرنا انه اذا کانت العین موجودة فلا یجب التوزیع بین الفقیر وبین الامام والسادة بل یجب التوزیع بین ثلاثة اشخاص المالک والامام والسادة والفقیر لأنه مشترک بین الجمیع اذا کان من الاجناس الاربعة او من الذهب والفضة وان لم تکن العین الخارجیة موجودة وکانت الزکاة فی الذمة والخمس فی الذمة فالمکلف مخیر بین ان یدفع ما فی ذمته بعنوان الزکاة او بعنوان الخمس او بعنوان رد المظالم او بعنوان الوفاء بالدین او النذر او الکفارة وذکرنا ان فی الکفارة والنذر ان یکون المکلف ذمته مشغولة بالمال فان وجوب الکفارة والنذر وجوب تکلیفی لیس وجوبا مالیا.

ثم ذکر السید الماتن (قدس الله نفسه): (نعم إذا مات وکان علیه هذه الأمور وضاقت الترکة وجب التوزیع بالنسبة ، کما فی غرماء المفلس، وإذا کان علیه حج واجب أیضا کان فی عرضها) (1) .

ونتکلم فیه ان شاء الله تعالی.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

هنا إشکالان علی جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی: أحدهما إثباتی والآخر ثبوتی.

أما الإثباتی فقد أبداه شیخنا الأنصاری(قده) بدعوی أن روایات الاستصحاب قاصرة عن شمول أطراف العلم الإجمالی لأن شمولها لأطراف العلم الإجمالی یلزم منه التناقض بین إطلاق صدرها وإطلاق ذیلها، ذلک لأن الوارد فی صدر روایات الاستصحاب قوله(ع) (لا تنقض الیقین بالشک) أو (لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک)، والوارد فی ذیل هذه الروایات (ولکن تنقضه بیقین آخر)، وإطلاق الصدر یشمل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی والشبهات البدویة.

ص: 153


1- العروة الوثقی، السید محمد کاظم الیزدی الطباطبائی، ج4، ص193، ط جماعة المدرسین.

فصدر هذه الروایات بإطلاقه یشمل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی والشبهات البدویة، وأما ذیلها فبإطلاقه یشمل الیقین التفصیلی والیقین الإجمالی معا، لصدق الیقین علی کلاهما وصدر هذه الروایات یدل علی حرمة نقض الیقین بالشک حرمة وضعیة وإما ذیلها فبإطلاقه یدل علی وجوب نقض الیقین بالیقین أعم من کونه یقینا تفصیلیا أو یقینا إجمالیا والمفروض ان الیقین الإجمالی موجود فی أطراف العلم الإجمالی وهذا یعنی ان المکلف مأمور بنقض الیقین السابق بالقین الموجود فی أطراف العلم الإجمالی وهو الیقین الإجمالی فعندئذ یلزم التناقض بین إطلاق الصدر الدال علی حرمة نقض الیقین بالشک وبین إطلاق الذیل الدال علی وجوب نقض الیقین السابق وهو الیقین التفصیلی بالیقین وإن کان إجمالیا.

وعلی هذا فلا یمکن أن تکون روایات الاستصحاب شاملة لأطراف العلم الإجمالی لاستلزامه التناقض بین إطلاق الصدر وإطلاق الذیل.

ولکن للنظر فیما أفاده(قده) مجال، لأن المراد من الیقین فی ذیل هذه الروایات هو خصوص الیقین التفصیلی لا الأعم منه ومن الیقین الإجمالی وذلک بقرینة قطعیة وهو أسناد النقض إلیه؛ إذ الیقین إنما یکون ناقضا للیقین السابق فیما إذا تعلق بنفس ما تعلق به الیقین السابق، وإما إذا تعلق الیقین السابق بشیء والیقن اللاحق تعلق بشیء آخر فلا معنی للنقض لعدم ارتباط أحد الیقینین بالآخر ولا صلة بینهما، فإذا تیقنا بعدالة زید ثم حصل الیقین بعدم عدالته فیصدق علی الیقین اللاحق أنه ناقض للیقین السابق أی الیقین بعدالة زید لأنه تعلق بنفس ما تعلق به الیقین السابق وکذا لو تیقن بموت زید ثم حصل له الیقین بعدم موته.

وفیما نحن فیه الیقین الإجمالی لا یصلح أن یکون ناقضا للیقین السابق؛ لأن متعلق الیقین الإجمالی الجامع بحده الجامعی وهو عنوان أحدهما او عنوان أحدها ومتعلق الیقین التفصیلی الفرد بحده الفردی فیکون متعلق الیقین الإجمالی شیء ومتعلق الیقین التفصیلی شیء آخر فلا یکون الیقین الإجمالی ناقضا للیقین التفصیلی لعدم الصلة الارتباط بینهما.

ص: 154

ومن هنا لو علمنا بطهارة أحد الإناءین وکانا فی السابق نجسین فالیقین التفصیلی تعلق بنجاسة کل منهما بحده الفردی أی بنجاسة الإناء بحده الغربی وبنجاسة الإناء الآخر بحده الشرقی، وأما الیقین الإجمالی فقد تعلق بطهارة أحدهما وهو الجامع الانتزاعی وعلی هذا لا یعقل ان یکون الیقین الإجمالی بطهارة أحدهما ناقضا للیقین بنجاسة کل منهما، وإنما الناقض للیقین التفصیلی بنجاسة الإناء بحده الغربی هو الیقین بعدم نجاسته وکذلک الیقین بعدم نجاسة الإناء الشرقی هو الناقض للیقین بنجاسته.

فالنتیجة أن ما ذکره شیخنا الأنصاری من المعارضة بین إطلاق صدر روایات الاستصحاب وإطلاق ذیلها لا یمکن المساعدة علیه بل لا یرجع إلی معنی صحیح.

هذا أولاً.

وثانیاً: مع الإغماض عن ذلک وفرض التسلیم بأن المراد من الیقین فی ذیل روایات الاستصحاب هو ما یعم الیقین الإجمالی إلا أن روایات الاستصحاب علی طائفتین: احداهما: تدل بإطلاق صدرها علی حرمة نقض الیقین بالشک مطلقا فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی والشبهات البدویة وبإطلاق ذیلها تدل علی وجوب نقض الیقین بالیقین الأعم من الیقین التفصیلی والیقین الإجمالی.

واما الطائفة الثانیة من هذه الروایات فلا تکون مذیلة بهذا الذیل فهی إذاً مطلقة وتدل علی حرمة نقض الیقین بالشک.

وعلی هذا فما ذکره شیخنا الأنصاری(قده) لو تم فإنما یتم فی الطائفة الأولی من هذه الروایات فإنه استنادا إلی هذه الطائفة لا یمکن التمسک بجریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی ولکن لا مانع من الاستدلال بالطائفة الثانیة عل جریانه فی أطراف العلم الإجمالی لأن الطائفة الثانیة مطلقة وغیر مذیلة بذیل(ولکن تنقضه بقین آخر).

فالنتیجة أنه لا مانع من جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی إذا لم یستلزم المخالفة القطعیة العملیة.

واما الإشکال الثبوتی فقد أبداه المحقق النائینی(قده) (1) بدعوی ان المانع من جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی هو مانع ثبوتی لا إثباتی، ذلک أنا لو فرضنا ان المکلف توضأ بماء ثم شک فی نجاسة هذا الماء وطهارته فیتولد من هذا الشک شکان: أحدهما الشک فی نجاسة أعضاء وضوئه فإن هذا الماء لو کان نجسا فقد تنجست أعضاء وضوئه، وثانیهما الشک فی صحة هذا الوضوء وفساده لأن الماء إن کان طاهرا فوضوؤه صحیح ورافع للحدث وإن کان الماء نجسا فوضوؤه باطل وغیر رافع للحدث، وفی مثل ذلک لا مانع من جریان کلا الاستصحابین استصحاب بقاء طهارة کل أعضاء وضوئه لأنه قبل استعمال هذا الماء کانت أعضاء وضوئه طاهرة ویشک بعد الوضوء بهذا الماء فی بقاء هذه الطهارة فلا مانع من استصحاب بقائها. وکذلک فی الفرض الثانی لا مانع من استصحاب بقاء الحدث فإنه قبل الوضوء بهذا الماء کان محدثا واما بعد الوضوء به فیشک فی بقائه فلا مانع من استصحاب بقاء حدثه ولا تنافی بین الاستصحابین، لأن الاستصحاب لا یثبت مثبتاته حتی یقع التنافی بینهما.

ص: 155


1- اجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص52.

ومن ذلک ما لو علم بنجاسة کلا الإناءین الأبیض والأسود ثم علم بطهارة احدهما إما بإصابة المطر أو بملاقاته للماء الجاری او الماء الکر وعلم بان احدهما أصابه المطر او لاقی الماء الجاری أو الماء الکر وهذا یعنی علمه بطهارته ولکنه لا یدری أنه الإناء الأبیض أو الأسود ففی مثل ذلک لا مانع من جریان استصحاب بقاء نجاسة کل منهما أی نجاسة الإناء الأبیض ونجاسة الإناء الأسود وهذا العلم الإجمالی لا یکون مانعا عن جریان الاستصحاب فی أطرافه؛ إذ مانعیته عن جریان الاستصحاب لا محالة تکون بأحد أمرین:

الأول: ان یکون العلم الإجمالی رافعا لموضوع الاستصحاب، والمفروض أنه لا یکون رافعا له فإن موضوع الاستصحاب الیقین السابق والشک اللاحق وهو موجود بعد العلم الإجمالی بطهارة أحدهما أیضا.

الثانی: لزوم المخالفة القطعیة العملیة وفی المقام غیر لازم؛ لأن المعلوم بالإجمالی حکم ترخیصی، والمحذور إنما یلزم لو کان المعلوم بالإجمال حکما إلزامیا فعندئذ لا یمکن جریان الاستصحاب المثبت للحکم الترخیصی فی أطرافه لاستلزامه المخالفة القطعیة وأما إذا کان المعلوم بالإجمال حکما ترخیصیا کما فی المقام فلا مانع من جریان الاستصحاب المثبت للتکلیف الالزامی أی استصحاب بقاء نجاسة الإناء الأبیض واستصحاب بقاء نجاسة الإناء الأسود فعلیه الاجتناب عن کلا الإناءین ظاهرا.

ولکن المحقق النائینی فی هذین المثالین وما شاکلهما من الأمثلة منع عن جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی وذکر أن المانع ثبوتی.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

کان کلامنا فی الإشکال الثبوتی علی جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی إذا کان المعلوم بالإجمال حکما ترخیصیا وقد قلنا ان المحقق النائینی أبدی هذا الإشکال بتقریب:

ص: 156

أن المکلف إذا علم إجمالا بطهارة أحد إناءین کانا فی السابق نجسین فاستصحاب بقاء نجاسة کل منهما تعبد علی خلاف الیقین بطهارة أحدهما فإن المکلف یعلم وجدانا بأن احدهما طاهر فکیف یمکن التعبد بنجاسة کلیهما معا فإنه تعبد علی خلاف العلم الوجدانی وهو غیر ممکن هکذا ذکره(قده).

والجواب عن ذلک واضح: فإن التعبد علی خلاف العلم الوجدانی إنما یتصور فیما إذا کان التعبد علی خلاف موضوع العلم الاجمالی الوجدانی فإذا فرض أن العلم الوجدانی تعلق بطهارة أحد الإناءین والتعبد تعلق بنجاسة احد الإناءین فهذا لا یمکن لأنه تعبد علی خلاف العلم الإجمالی الوجدانی ومتعلق التعبد عین متعلق العلم والاختلاف بینهما إنما هو فی الحکم فالعلم تعلق بطهارة أحدهما والتعبد الاستصحابی تعلق بنحاسته وهذا غیر معقول، وأما إذا کان متعلق العلم الإجمالی غیر متعلق التعبد الاستصحابی کما فی المقام فإن متعلق التعبد الاستصحابی فی المقام هو نجاسة الإناء الشرقی بحده الفردی وکذلک نجاسة الإناء الغربی بحده الفردی ومتعلق العلم بطهارة أحدهما هو الجامع العنوانی الانتزاعی فمتعلق التعبد غیر متعلق العلم فمتعلق التعبد هو نجاسة کل من الإناءین بحده الفردی ومتعلق العلم الوجدانی الإجمالی الجامع وهو عنوان أحدهما الانتزاعی، فکیف یکون هذا الاستصحاب تعبد علی خلاف العلم الإجمالی الوجدانی حیث لا صلة بینهما اصلا.

فما ذکره(قده) خلط بین أن یکون متعلق التعبد الاستصحابی غیر متعلق العلم الوجدانی وبین ما إذا کان متعلق التعبد الاستصحابی نفس متعلق العلم الإجمالی الوجدانی والتناقض إنما یلزم فی الثانی دون الأول.

ودعوی أن ما ذکره المحقق النائینی مبنی علی رجوع هذین الاستصحابین إلی استصحاب واحد حقیقة حکما وموضوعا وهو استصحاب بقاء نجاسة کلا الإناءین معا وهذا الاستصحاب تعبد علی خلاف العلم الإجمالی الوجدانی فی جزء الموضوع وفی جزء المتعلق، لأن متعلق التعبد نجاسة کلا الإناءین والمفروض ان العلم تعلق بطهارة احدهما فکیف یمکن التعبد بنجاسة کلیهما معا مع العلم الوجدانی بطاهرة أحدهما.

ص: 157

ولکن هذه الدعوی لا أساس لها ولا ترجع إلی معنی محصل:

أما أولاً: فلأن تعدد الحکم یتبع تعدد الموضوع فإذا کان الموضوع متعددا فلا محالة یکون الحکم متعددا ولا یعقل أن یکون الموضوع متعددا ویکون الحکم واحدا ولا یعقل أن یکون الحکم متعددا والموضوع واحدا فإن التفکیک بین الحکم والموضوع غیر معقول لأنه کالتفکیک بین العلة والمعلول.

فلا شبهة إذاً فی أن الموضوع لکلا الاستصحابین متعدد فموضوع الاستصحاب الأول بقاء نجاسة الإناء الشرقی وموضوع الاستصحاب الثانی بقاء ناجسة الإناء الغربی فکیف یمکن رجوع هذان الاستصحابان إلی استصحاب واحد حقیقة، فهذا لیس إلا مجرد تخیل وتوهم.

هذا مضافا إلی أنه لو سلم رجوع کلا الاستصحابین إلی استصحاب واحد حقیقة وهو استصحاب بقاء نجاسة کلا الإناءین معا ولکن مع ذلک لا یکون هذا الاستصحاب تعبد علی خلاف العلم الإجمالی الوجدانی لأن متعلق التعبد نجاسة الإناءین بحدهما الفردی ومتعلق العلم الإجمالی الوجدانی الجامع الانتزاعی بینهما وهو عنوان أحدهما ومن الواضح ان العلم لا یسری من الجامع إلی أفراده لأن العلم تعلق بالجامع واما أفراده فهی مشکوکة ومحتملة فإذاً لا یلزم من جریان استصحاب نجاسة کلا الإناءین معا محذور التعبد علی خلاف العلم الإجمالی الوجدانی.

إن قلت: لئن سلم عدم رجوع هذین الاستصحابین إلی استصحاب واحد حقیقة إلا أنه یمکن التسلیم برجوعهما إلی استصحاب واحد حکما بتقریب أن استصحاب بقاء نجاسة الإناء الشرقی واستصحاب بقاء نجاسة الإناء الغربی فی حکم استصحاب بقاء نجاسة کلا الإناءین وحینئذ یکون التعبد الاستصحابی علی خلاف الیقین فی جزء الموضوع.

قلت: هذه الدعوی ظهر جوابها مما تقدم وانه لا وجه لذلک فإن مورد التعبد هو بقاء نجاسة کلا الإناءین بحدهما الفردی ومتعلق العلم الإجمالی طهارة الجامع ولا یرجع هذین الاستصحابین إلی استصحاب بقاء نجاسة الجامع حتی یکون هذا التعبد علی خلاف العلم الإجمالی الوجدانی.

ص: 158

وثانیا: أن الحکم الظاهری لا یکون مخالفا للحکم الواقعی ومتعلق العلم الإجمالی هو الطهارة الواقعیة ومورد التعبد الاستصحابی النجاسة الظاهریة وتحقق الحکم الظاهر منوط بتحقق موضوعه فی الخارج والمفروض ان موضوع استصحاب بقاء نجاسة کل من الإناءین بحده الفردی متحقق، فإن الإناء الشرقی کان متیقن النجاسة والآن یشک فی بقاء هذه النجاسة وهذا أمر وجدانی، فالیقین بالنجاسة السابقة والشک فی بقائها أمر وجدانی، فموضوع الاستصحاب متحقق فلا محالة یجری الاستصحاب، وکذلک بالنسبة إلی الإناء الآخر والعلم الإجمالی بتحقق طهارة أحدهما فی الواقع لا یمنع من هذین الاستصحابین فإن الحکم الظاهری قد یکون موافقا للحکم الواقعی وقد یکون مخالفا له وموضوعه احتمال ثبوت الحکم الواقعی والشک فیه ومع تحقق موضوعه یتحقق الحکم الظاهری لأن التفکیک بین الحکم والموضوع غیر معقول.

فالنتیجة أن ما ذکره المحقق النائینی لا یرجع إلی معنی محصل.

نعم لا یجوز العمل بالاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی لأمرین:

الأول: العلم التفصیلی. فإذا حصل للمکلف العلم التفصیلی بنجاسة الفرد أو طهارته فهو رافع لموضوع الاستصحاب، بل لا موضوع لغیر الاستصحاب من الأصول العملیة.

والثانی: لزوم المخالفة القطعیة العملیة فإذا استلزم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی المخالفة القطعیة العملیة فإنه لا یجوز العمل به.

وکلا الأمرین فی المقام غیر متحقق لفرض أن الموجود فی المقام هو العلم الإجمالی لا التفصیلی وأن المعلوم بالإجمال حکم ترخیصی لا إلزامی فلا یلزم من جریان الاستصحاب فی أطرافه المخالفة القطعیة العملیة.

هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری قد ذکرنا فی بحث الجمع بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری ان الحکم الظاهری علی نوعین:

1: الحکم الظاهری الترخیصی کأصالة البراءة وأصالة الطهارة واستصحاب عدم التکلیف الالزامی، والغرض من جعل هذه الأحکام الترخیصیة الظاهریة المصالح العامة بالنسبة إلی نوع المکلفین وهی المصلحة التسهیلیة العامة بالنسبة إلی نوع المکلفین، ومن الواضح ان المصلحة النوعیة تتقدم علی المصالح والمفاسد الشخصیة فإن الحکم الظاهری الترخیصی قد یؤدی إلی تفویت المصلحة الواقعیة وقد یوجب وقوع المکلف فی المفسدة ولکن تلک المصلحة وهذه المفسدة شخصیتان لا تزاحمان المصلحة النوعیة.

ص: 159

فالغرض إذاً من وراء جعل هذه الأحکام الترخیصیة المصالح العامة النوعیة بالنسبة إلی نوع المکلف وهی المصلحة التسهیلیة.

2: الحکم الظاهری اللزومی وهو فی طول الحکم الواقعی والغرض من جعله هو الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من الملاکات والمبادئ والحکم الظاهری الالزامی حکم طریقی، ولا شان له إلا الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من الملاکات والمبادئ. فجعل وجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص الغرض منه هو الحفاظ علی الأحکام الواقعیة اللزومیة بما لها من المبادئ والملاکات، فإن اهتمام الشارع بالأحکام الواقعیة بما لها من الملاکات والمبادئ حتی فی موارد الاشتباه والاختلاط هو الداعی والسبب لجعل الأحکام الظاهریة اللزومیة ولهذا لا شأن لهذه الأحکام الظاهریة إلا الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بل لیس هی أحکاما شرعیة إذ لا عقوبة علی مخالفتها ولا مثوبة علی موافقتها ولا مصلحة فیها لأن شأنها الحفاظ علی الأحکام الواقعیة فالمصلحة التی تدعو إلیها هی مصلحة الأحکام الواقعیة.

وعلیه فالعلم بطهارة أحد الإناءین لا یمنع من جعل نجاسة کلا الإناءین ظاهرا لأن جعل النجاسة طریق للحفاظ علی النجاسة الواقعیة فی صورة الشک والاحتمال کما أن استصحاب بقاء الوجوب أو الحرمة إنما هو لغرض الحفاظ علی الأحکام الواقعیة ولا یمنع من هذا الاستصحاب إباحة الشیء فی الواقع.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

الإشکال الثانی: أن الاستصحاب من الأمارات ولیس من الأصول العملیة کما بنی علیه السید الاستاذ(قده) فإذا کان کذلک فالأمارة تثبت الواقع واقعا وعلی هذا فلا یمکن الجمع بین الاستصحابین وبین الیقین بطهارة أحدهما، فإن استصحاب بقاء نجاسة الإناء الشرقی یثبت نجاسته واقعا واستصحاب بقاء نجاسة الإناء الغربی کذلک یثبت نجاسته واقعا، ومن الواضح أن ثبوت نجاسة کلا الإناءین واقعا لا یجتمع مع الیقین بطهارة أحدهما کذلک لأن نقیض الموجبة الکلیة سالبة جزئیة فلا یمکن الجمع بینهما.

ص: 160

والجواب عن ذلک:

أولاً: أن الاستصحاب لیس من الأمارات علی المشهور بین الأصحاب بل أنه من الأصول العملیة غایة الأمر أنه من الأصول المحرزة فی مقابل الأصول غیر المحرزة کأصالة البراءة والطهارة وما شاکلهما. ولا تکون مثبتاته حجة إذ لو کانت مثبتاته حجة لوقع التعارض بین الاستصحابین لأن العلم الإجمالی بطهارة احد الإناءین یشکل دلالة التزامیة لکل من الاستصحابین فاستصحاب بقاء نجاسة الإناء الشرقی یدل علی نجاسته بالمطابقة وبالالتزام یدل علی طهارة الإناء الغربی وبالعکس فاستصحاب بقاء ناجسة الإناء الغربی یدل بالمطابقة علی نجاسته وبالالتزام یدل علی طهارة الإناء الشرقی فتقع المعارضة بینهما بین المدلول المطابقی لکل منهما والمدلول الالتزامی فیسقط کلا الاستصحابین من جهة المعارضة فلا بد من الرجوع إلی أصالة الطهارة فی کل منهما لسقوط الاستصحابین من جهة المعارضة إذا کانت مثبتاتهما حجة ولکن مثبتاته لم تکن حجة وإن کان الاستصحاب من الأصول المحرزة.

وثانیا: لو سلمنا أن الاستصحاب من الأمارات ولکن الأمارة لا تثبت الواقع واقعا بل هی تثبت الواقع ظاهرا لأن الأحکام الشرعیة فی موارد الأمارات أحکام ظاهریة قد تکون مطابقة للواقع وقد لا تکون مطابقة له فالأمارات لا تثبت الواقع واقعا وإنما تثبت الواقع ظاهرا.

وعلی هذا فلا مانع من جریان کلا الاستصحابین مع العلم الإجمالی بطهارة احدهما لأن العلم الإجمالی تعلق بالطهارة الواقعیة والاستصحاب إنما یثبت نجاسة الإناء الشرقی ظاهرا ونجاسة الإناء الغربی ظاهرا فلا تنافی بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی.

ولا یکون هذا الاستصحاب تعبد علی خلاف الیقین لأن الیقین لم یتعلق بطهارة الإناء الشرقی حتی یکون استصحاب بقاء نجاسته تعبد علی خلاف الیقین والیقین لم یتعلق بطهارة الإناء الغربی حتی یکون استصحاب بقاء نجاسته تعبد علی خلاف الیقین.

ص: 161

فإذاً لا مانع من جریان کلا الاستصحابین فإن مفاد کلا الاستصحابین إثبات الحکم الظاهری والیقن بطهارة احدهما لا یکون مانعا من هذین الاستصحابین، کما ان التعبد بکلا هذین الاستصحابین لا یکون علی خلاف العلم الوجدانی الإجمالی.

ثم لو سلم کون الاستصحاب أمارة إلا أن مثبتات الأمارة التی تکون حجة لیس لمثبتات جمیع الامارات بل خصوص الأمارة التی یکون لسانها الحکایة عن الواقع تکون مثبتاتها حجة کأخبار الثقة وظواهر الالفاظ لأن لسان هذه الأمارات الحکایة عن الواقع لأن من أخبر عن شیء أخبر عن لوازمه أیضا وأما الأمارة التی لا یکون لسانها الحکایة عن الواقع فلا تکون مثبتاتها حجة.

وعلی هذا فالاستصحاب وإن قلنا أنه من الأمارات ولکن لا تکون مثبتاته حجة کالظن فالظن فی رکعات الصلاة حجة ولکن لوازمه لا تکون حجة.

وعلی هذا فحجیة مثبتات الأمارة إنما تختص بطائفة من الأمارات لا لمطلق الأمارات.

هذا تمام کلامنا فی جریان الاصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی فی الروایات فإنها قد تکون موافقة للروایات وقد تکون مخالفة للروایات.

وأما الکلام فی النقطة الثالثة: وهی جریان الأصول اللفظیة من عمومات وإطلاقات من الکتاب والسنة فی أطراف العلم الاجمالی.

حیث إنا نعلم إجمالا بصدور مجموعة من الروایات التی بأیدینا کأخبار الثقة عن الأئمة الأطهار(ع) ولکن أطراف هذا العلم الإجمالی جمیع روایات الثقة، وهنا صور:

الصورة الأولی: ما إذا کانت العمومات والإطلاقات فی أطراف هذا العلم متکفلة للأحکام الالزامیة واما الروایات فهی متکفلة للأحکام الترخیصیة فی مورد الاجتماع وبینهما تنافی من هذه الناحیة فعندئذ إن قلنا بأن الروایات حجة وأن اخبار الثقة حجة بالسیرة القطعیة من العقلاء الممضاة شرعا فعندئذ لا بد من تخصیص عمومات الکتاب والسنة وتقید مطلقاتهما بهذه الروایات لما ثبت فی محله من جواز تخصیص عموم الکتاب والسنة بخبر الواحد إذا کان حجة فعندئذ إذا کانت اخبار الثقة حجة فهی مخصصة لعمومات الکتاب والسنة ومقیدة لمطلقاتها فی مورد الاجتماع.

ص: 162

واما إذا لم تکن الروایات حجة وکان وجوب العمل بها بملاک العلم الإجمالی بصدور مجموعة من الروایات عن الأئمة الأطهار(ع) فعندئذ هل یمکن التمسک بعمومات الکتاب والسنة او بمطلقاتهما فی مورد الاجتماع مع أخبار الثقة أو لا یمکن ؟

والظاهر أنه لا یمکن لأن هذا العلم الإجمالی بصدور مجموعة من أخبار الثقة عن المعصومین یولد علم إجمالی بتخصیص مجموعة من هذه العمومات وتقیید المطلقات بهذه الروایات الصادرة عن المعصومین(ع) المخالفة لها فی مورد الاجتماع، وهذا العلم الإجمالی یشکل دلالة إلتزامیة بین هذه العمومات فإن کل طائفة من هذه العمومات تدل علی العموم بالدلالة المطابقیة وتدل بالالتزام علی تخصیص طائفة أخری.

فإذاً کل طائفة من هذه العمومات والإطلاقات تدل علی عمومها وإطلاقها بالدلالة المطابقیة وبالالتزام تدل علی تخصیص طوائف أخری من العمومات وتقیید طوائف اخری من المطلقات أیضا. وهکذا بالنسبة إلی طوائف أخری، فتقع المعارضة بین الدلالة المطابقیة لکل من هذه العمومات وبین الدلالة الالتزامیة للأخری. فتسقط هذه العمومات والمطلقات عن الحجیة من جهة المعارضة فلا تکون مشمولة لدلیل الحجیة والمرجع الأصول العملیة.

ونظیر ذلک ما إذا ورد فی الدلیل یجب إکرام کل عالم ولکن نعلم إجمالا من الخارج ان إکرام العالم الفاسق حرام أو ان إکرام العامل النحوی حرام أی نعلم إجمالا ان إکرام أحدهما حرام فهذا العلم الإجمالی یشکل دلالة التزامیة لکل منهما فأصالة العموم فی أحدهما تدل علی وجوب إکرام العالم الفاسق بالمطابقة وبالالتزام تدل علی عدم وجوب إکرام العالم النحوی وأصالة العموم بالنسبة إلی العالم النحوی تدل علی وجوب إکرامه بالمطابقة وبالالتزام علی عدم وجوب إکرام العالم الفاسق وعلی هذا المعارضة تقع بین المدلول المطابقی بین کل منهما والمدلول الالتزامی فیسقطان والمرجع حینئذ یکون إلی الأصل العملی. وهو یختلف باختلاف الموارد.

ص: 163

ثم أنه لا فرق فی ذلک بین أن یکون المعلوم بالإجمال حکما إلزامیا وبین ان یکون حکما ترخیصیا.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

کان کلامنا فی جریان الأصول اللفظیة فی أطراف العلم الإجمالی فإذا علمنا إجمالا بصدور مجموعة من الروایات التی بأیدینا کأخبار الثقة عن المعصومین(ع) فهل تجری الأصول اللفظیة کأصالة العموم أو الإطلاق من الکتاب والسنة فی أطراف هذا العلم الإجمالی أو لا تجری؟

وذکرنا أن هنا صورا:

الصورة الأولی: ما إذا کانت الروایات متکفلة للأحکام الالزامیة والأصول اللفظیة متکفلة للأحکام الترخیصیة وفرضنا أن هنا دلیلا علی حجیة أخبار الثقة فلا شبهة فی تخصیص عمومات الکتاب والسنة بها بناء علی ما هو الصحیح من جواز تخصیص عموم الکتاب والسنة بخبر الواحد إذا کان حجة.

واما إذا کان وجوب العمل بالروایات بملاک العلم الإجمالی لا بملاک حجیتها إذ لم یقم دلیل علی حجیة الروایات کأخبار الثقة ولکن من جهة العلم الإجمالی بصدور مجموعة منها عن المعصومین(ع) فیجب العمل بها بملاک هذا العلم الإجمالی فعندئذ هل یجوز التمسک بالعمومات فی أطراف هذا العلم الإجمالی أو لا یمکن التمسک بها؟ والمراد من العموم أعم من الإطلاق

والجواب: انه لا یمکن لأن العلم الإجمالی بصدور مجموعة من الروایات عن المعصومین مخصصة لهذه العمومات وهذا العلم الإجمالی یشکل دلالة التزامیة لکل عام من هذه العمومات ولکل فئة من فئاتها لأن کل عام فهو یدل علی العموم والاستیعاب بالمطابقة ویدل بالالتزام علی تخصیصها من آخر وکل فئة من هذه العمومات تدل بالمطابقة علی العموم والاستیعاب وبالالتزام علی تخصیص فئة أخری فعندئذ تقع المعارضة بین الدلالة الالتزامیة لکل من هذه العمومات وبین الدلالة المطابقیة فإن الدلالة الالتزامیة لکل من هذه العمومات تنفی المدلول المطابقی لهذه العمومات فعندئذ تقع المعارضة بین المدلول المطابقی والمدلول الالتزامی بالنفی والإثبات فیسقطان من جهة المعارضة.

ص: 164

وتقریب ذلک بمثال ما إذا فرضنا أنه ورد بالدلیل یستحب إکرام کل عالم فالعام متکفل للحکم الترخیصی وعلمنا إجمالا بتخصیص هذا العام إما بالعالم الفاسق أو بالعلم النحوی أی نعلم إجمالا إما بحرمة إکرام العالم الفاسق أو بحرمة إکرام العالم النحوی فتقع المعارضة علی تقدیر عدم حجیة الروایات بین أصالة العموم بالنسبة إلی إکرام العالم الفاسق وأصالة العموم بالنسبة علی إکرام العالم النحوی فإن أصالة العموم فی الأول تدل بالمطابقة علی استحباب إکرام العالم الفاسق وبالدلالة الالتزامیة علی حرمة إکرام العالم النحوی وأصالة العموم فی الثانی تدل علی استحباب إکرام العالم النحوی بالمطابقة وعلی حرمة إکرام العالم الفاسق بالالتزام فتقع المعارضة بین المدلول المطابقی والمدلول الالتزامی لأن المدلول الالتزامی فی کل منهما یکون نافیا للمدلول المطابقی فبطبیعة الحال یسقطان من جهة المعارضة هذا إذا کان المعلوم بالإجمال حکما ترخیصیا.

واما إذا فرضنا انه ورد فی الدلیل یجب إکرام کل عالم وعلمنا إجمالا بتخصیص هذا العام إما بالعالم الفاسق او العالم النحوی فهو یعلم إجمالا إما بکراهة إکرام العالم الفاسق أو بکراهة إکرام العالم النحوی فتقع المعارضة بین أصالة العموم بالنسبة إلی العالم الفاسق وبین أصالة العموم بالنسبة إلی العالم النحوی فإن أصالة العموم فی الأول تدل بالمطابقة علی وجوب إکرام العالم الفاسق وبالالتزام تدل علی عدم وجوب إکرام العالم النحوی وأصالة العموم فی الثانی تدل بالمطابقة علی وجوب إکرام العالم النحوی وبالالتزام تدل علی عدم وجوب إکرام العالم الفاسق فإذاً تقع المعارضة بینهما لأن المدلول الالتزامی لکل منهما ینفی المدلول المطابقی للآخر فیتساقطان.

هذا کله فی الشبهة الحکمیة.

واما فی الشبهة الموضوعیة فکما إذا فرض العلم التفصیلی بنجاسة کلا الإناءین الغربی والشرقی ثم علمنا بطهارة أحدهما إما من خلال ملاقاة الکر أو بملاقاة الجاری فعندئذ إذا قامت البینة علی نجاسة الإناء الشرقی وقامت بینة أخری علی نجاسة الإناء الغربی فهذا العلم الإجمالی یشکل دلالة التزامیة لکل من البینتین لأن البینة الأولی تدل بالمطابقة علی نجاسة الإناء الشرقی وبالالتزام علی طهارة الإناء الغربی والبینة فی الثانی تدل علی نجاسة الإناء الغربی بالمطابقة وبالالتزام علی طهارة الإناء الشرقی هذا إذا کان المعلوم بالإجمال حکما ترخیصیا. وکذلک الحال إذا کان المعلوم بالاجمال حکما إلزامیا کما إذا علمنا بطهارة إناءین أسود وأبیض ثم علمنا بنجاسة أحدهما من خلال الملاقاة مع النجس فعندئذ إذا فرضنا أن البینة قامت علی طهارة الإناء الأبیض والبینة الأخری قامت علی طهارة الإناء الأسود فهذا العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما یشکل دلالة التزامیة لکل من البینتین لأن البینة الأولی تدل علی طهارة الإناء الأبیض بالمطابقة وبالالتزام علی نجاسة الإناء الأسود وهکذا البینة الثانیة فتقع المعارضة بین البینتین أی بین المدلول الالتزامی لکل منهما وبین المدلول المطابقی.

ص: 165

ومن هنا تفترق الأصول اللفظیة عن الأصول العملیة فإن سقوط الأصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی لیس من جهة المعارضة لأن المعارضة إنما تتصور فی الأصول اللفظیة باعتبار أنها من الأمارات ومثبتاتها حجة فمن أجل ذلک یکون لها مدلول التزامی کما یکون لها مدلول مطابقی واما الأصول العملیة فلا تکون مثبتاتها حجة لعدم المدلول الالتزامی لها.

وحینئذ إذا علمنا بنجاسة أحد إناءین کانا مسبوقین بالطهارة فلا یمکن جریان استصحاب طهارة کلا الإناءین لأن جریان الاستصحاب فی کلیهما یستلزم المخالفة القطعیة العملیة وجریانه فی أحدهما المعین دون الآخر ترجیح من غیر مرجح لأن نسبة الاستصحاب إلی کلا الإناءین علی حد سواء واما جریانه فی أحدهما لا بعینه فلا یمکن لأنه إن أرید من أحدهما لا بعینه المفهومی فلا واقع موضوعی له فی الخارج غیر وجوده فی عالم الذهن فهو مجرد مفهوم موجود فی عالم الذهن وإن أرید من أحدهما لا بعینه أحدهما المصداقی فهو من الفرد المردد فی الخارج وهو مستحیل فمن أجل ذلک لا یمکن هذا الفرض، وعلیه یسقط کلا الاستصحابین من هذه الناحیة لا من جهة المعارضة، کما ان سقوط الاستصحاب من هذه الناحیة مبنی علی مسلک المشهور من أدلة الأصول العملیة تشمل بإطلاقها اطراف العلم الإجمالی وهذا السقوط إنما هو فیما إذا کان المعلوم بالإجمال حکما إلزامیا والأصول العملیة متکفلة للحکم الترخیصی.

واما إذا کان المعلم بالإجمال حکما ترخیصیا والأصول العملیة متکفلة للحکم الالزامی فلا مانع من جریانه کما إذا علمنا إجمالا بطهارة أحد إناءین کانا مسبوقین بالنجاسة فلا مانع من استصحاب بقاء نجاسة الإناء الشرقی واستصحاب بقاء نجاسة الإناء الغربی معا والعلم بطهارة أحدهما لا یکون مانعا عن جریان هذین الاستصحابین کما تقدم سقوط الأصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی فیما إذا کان المعلوم بالإجمال حکما إلزامیا والأصول العملیة متکفلة للحکم الترخیصی فعندئذ لا یمکن جریان الأصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی. هذا بناء علی ما هو المشهور وإما بناء علی ما هو الصحیح من أن أدلة الأصول العملیة فی نفسها لا تشمل أطراف العلم الإجمالی فإنها منصرفة عنها علی تفصیل یأتی بحثه فی ضمن البحوث القادمة.

ص: 166

ومن هنا یظهر أنه لا تظهر الثمرة العملیة بین القول بحجیة الروایات والقول بوجوب العمل بها بملاک العلم الإجمالی بالنسبة إلی سقوط الأصول اللفظیة فی أطراف العلم الإجمالی لسقوط الأصول اللفظیة علی کلا القولین فی أطرافه اما علی الأول فسقوطها من جهة التخصیص للعمومات واما علی الثانی فسقوطها من جهة المعارضة بین المدلول المطابقی لکل من العمومات والمدلول الالتزامی لها.

فالنتیجة أن الأصول اللفظیة تسقط فی أطراف العلم الإجمالی إما بالتخصیص او بالتعارض فلا تظهر ثمرة عملیة بین القولین.

وکذلک الأصول العملیة فإنها أیضا تسقط فیما إذا کان المعلوم بالإجمال حکما إلزامیا وکانت الأصول العملیة الجاریة فی أطرافه متکفلة للحکم الترخیصی فعندئذ الأصول العملیة أیضا لا تجری واما إذا کان المعلوم بالإجمال حکما ترخیصیا والأصول العملیة متکفلة للحکم الالزامی فلا مانع من شمول أدلة الأصول العملیة لها لأنه لا تنافی بین جریان کلا الأصلین فی أطراف العلم الإجمالی ولا یلزم محذور المخالفة القطعیة العملیة.

هذا تمام کلامنا فی الصورة الأولی.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

الصورة الثانیة: ما إذا کانت العمومات فی أطراف العلم الإجمالی متکفلة للأحکام الالزامیة واما الروایات فهی متکفلة للأحکام الترخیصیة أی عکس الصورة الأولی.

وعلی هذا فإن کانت الروایات حجة فلا شبهة فی تخصیص عمومات الکتاب والسنة بها لأن تخصیص عمومات الکتاب والسنة بخبر الواحد أمر مسلم ولا مانع منه فعندئذ لا تکون العمومات حجة فی دلالتها علی العموم .

واما إذا لم تکن الروایات حجة بأن یکون وجوب العمل بها بملاک العلم الإجمالی فعندئذ هل یمکن التمسک بعمومات الکتاب والسنة فی أطراف العلم الإجمالی أو لا یمکن التمسک بها؟

ص: 167

والجواب أنه لا یمکن التمسک بها ویظهر ذلک مما تقدم فإن العلم الإجمالی بورود التخصیص علی مجموعة من هذه العمومات فی أطراف العلم الإجمالی من جهة العلم إجمالا بصدور مجموعة من الروایات کأخبار الثقات عن المعصومین(ع) وهذه الروایات بطبیعة الحال تکون مخصصة لعمومات الکتاب والسنة فی أطراف العلم الإجمالی فعندئذ نعلم إجمالا بان مجموعة من هذه العمومات مخصصة بهذه الروایات وهذا العلم الإجمالی یشکل دلالة التزامیة فإن کل عام من هذه العمومات یدل علی العموم واستیعاب أفراده بالمطابقة ویدل بالالتزام علی تخصیص عام آخر وکل فئة من هذه العمومات تدل بالمطابقة علی العموم والاستیعاب للأفراد وبالالتزام علی تخصیص فئة أخری فعندئذ تقع المعارضة بین المدلول المطابقی والمدلول الالتزامی فینفی المدلول الالتزامی لکل من هذه العمومات المدلول المطابقی للعام الآخر فیقع التعارض بینهما بالتناقض وبالنفی والإثبات فیسقطان من جهة المعارضة، وعند سقوط العموم من جهة المعارضة فالمرجع فی مورده أصالة الاشتغال لأن هذه العمومات متکفلة للأحکام الالزامیة ولم تخصص من جهة أن الروایات لم تکن حجة ولکن سقطت عموماتها من جهة المعارضة فلا محالة یکون المرجع هو الأصل العملی فی موردها وهو قاعدة الاشتغال وذلک لأن هذه العمومات متکفلة للأحکام الالزامیة وعندئذ یشک المکلف فی وجوب شیء فی موردها أو حرمة شیء آخر وحیث أن الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالی فالمرجع فی هذه الشبهات أصالة الاشتغال وقاعدة الاحتیاط فکما ان الشبهة الحکمیة البدویة إذا کانت قبل الفحص یکون المرجع فیها قاعدة الاشتغال فکذلک الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی یکون المرجع فیها قاعدة الاشتغال.

واما فی موارد الروایات بما انها متکفلة للأحکام الترخیصیة فلا مانع من طرح هذه الروایات ولا محذور فیه لأنها متکفلة للأحکام الترخیصیة ولا یجب العمل بها.

ص: 168

وهنا تظهر الثمرة فی هذه الصورة بین الروایات وبین العمومات فإن فی مورد العمومات بعد سقوطها عن الحجیة من جهة المعارضة فالمرجع قاعدة الاشتغال واما الروایات إذا لم تکن حجة فلا یجب العمل بها ولا أثر للعلم الإجمالی بصدور مجموعة من هذه الروایات باعتبار أنها متکفلة للأحکام الترخیصیة ولا مانع من طرح هذه الأحکام وعدم العمل بها ولا یلزم منه أی محذور.

وعلی هذا فوجوب الاحتیاط وقاعدة الاشتغال إنما یجری فی مورد العمومات الموجودة فی أطراف هذا العلم الإجمالی واما فی مورد الروایات فلا تجری قاعدة الاشتغال لأنها متکفلة للأحکام الترخیصیة ولا مانع من طرحها وعدم العمل بها.

هذه هی الصورة الثانیة.

واما الصورة الثالثة: وهی ما إذا کان کل من العمومات والروایات متکفلة للأحکام الالزامیة أی کما أن العمومات الجاریة فی أطراف هذا العلم الإجمالی متکفلة للأحکام الالزامیة من الوجوب والحرمة والنجاسة وما شاکل ذلک کذلک الروایات التی نعلم بصدور مجموعة منها من المعصومین(ع) متکفلة للأحکام الالزامیة.

وحینئذ إن کانت الروایات حجة کأخبار الثقة فلا بد من تخصیص عمومات الکتاب والسنة بها لما ثبت فی محله من جواز تخصیص عمومات الکتاب والسنة بخبر الواحد إذا کان حجة. واما إذا لم تکن الروایات حجة وکان وجوب العمل بها بملاک العلم الإجمالی فلا یمکن التمسک بهذه العمومات وذلک للعلم الإجمالی بتخصیص مجموعة من هذه العمومات بهذه الروایات لأنا نعلم بأن مجموعة من روایات الثقات صادرة من المعصومین(ع) وهی مخصصة لعمومات الکتاب والسنة فی أطرافها ومن الواضح أن العلم الإجمالی بتخصیص عمومات الکتاب والسنة یشکل دلالة التزامیة کما مر وعندئذ تقع المعارضة بین المدلول المطابقی لهذه العمومات والمدلول الالتزامی لها لأن کل طائفة من هذه العمومات تدل بالمطابقة علی العموم والاستیعاب لجمیع أفرادها وبالالتزام علی تخصیص طائفة أخری وبالعکس فلهذا تقع المعارضة بین المدلول المطابقی لکل منها مع المدلول الالتزامی فتسقط هذه العمومات من جهة المعارضة، فإذا سقطت من جهة المعارضة فالمرجع هو الأصل العملی وهو قاعدة الاشتغال لأن مورد هذه العمومات أحکام إلزامیة کما هو الفرض فإذا لم تکن هذه العمومات مخصصة فتسقط حجیة دلالتها من جهة المعارضة وحینئذ یکون المرجع هو الأصل العملی وهو الاشتغال لأن الشبهة فی موردها مقرونة بالعلم الإجمالی والشک فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی مجری للاحتیاط.

ص: 169

وکذلک الحال فی مورد الروایات لأنها أیضا متکفلة للأحکام الالزامیة فإذا لم تکن الروایات حجة فیکون المرجع فی موردها قاعدة الاشتغال لأن الشبهة فی موردها مقرونة بالعلم الإجمالی والمرجع فی هذه الشبهات هو قاعدة الاشتغال والاحتیاط.

فالمرجع فی کلا الموردین ___ مورد العمومات فی الکتاب والسنة ومورد الروایات معا ___ هو قاعدة الاشتغال.

وعلی هذا ففی مورد الالتقاء والاجتماع بین العام والخاص وهو الروایة یجب علی المکلف العمل بکل منهما بمقتضی قاعدة الاشتغال، ومن هنا لو فرض أن مدلول العام وجوب شیء ومدلول الخاص وهو الروایة حرمة ذلک الشیء فیکون المقام من قبیل دوران الأمر بین المحذورین فلا یتمکن المکلف من العمل بکلیهما معا فلا بد من القول بالتخییر أی المکلف مخیر بین العمل بالعام او العمل بالخاص(الروایة) فیکون المقام ملحق بدوران الأمر بین المحذورین حکما لا موضوعا لأن فی دوران الأمر بین المحذورین منوط بان یکون جنس التکلیف معلوما أی نعلم بوجود الالزام فی المقام ولکن لا ندری أن هذا الالزام متمثل فی وجوب هذا الشیء أو متمثل فی حرمته فعندئذ یدور الأمر بین المحذورین لمعلومیة جنس التکلیف فی المقام وأما فیما نحن فیه فجنس التکلیف غیر معلوم لاحتمال خطأ کل منهما أی احتمال أن یکون العام غیر مطابق للواقع واحتمال أن یکون الخاص وهو الروایة غیر مطابق للواقع فلا علم وجدانی بجنس التکلیف فمن اجل ذلک یکون المقام ملحقا بدوران الأمر بین المحذورین حکما لا موضوعا.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی ان ما ذکرناه من الصور جمیعا داخلة تحت جامع واحد فإنا نعلم إجمالا بأن مجموعة کبیرة من الروایات کروایات الثقات قد صدرت عن الأئمة الأطهار(ع) فی تمام أبواب الفقه من باب الطهارة إلی آخر الدیات وفی مقابل هذه الروایات عمومات فوقیة من الکتاب والسنة (والمراد من السنة أعم من روایات الأئمة الأطهار(ع)) ونسبة الروایات إلی تلک العمومات نسبة الخاص إلی العام ونسبة هذه الروایات إلی هذه العمومات تختلف فطائفة من هذه الروایات تتضمن الأحکام الالزامیة ونسبتها إلی طائفة من هذه العمومات المتضمنة للأحکام الترخیصیة، وتارة تکون نسبة طائفة من العمومات الفوقیة إلی طائفة من الروایات أیضا کذلک لأن العمومات متکفلة للأحکام الالزامیة والروایات متکفلة للأحکام الترخیصیة، وثالثة أن کل طائفة من الروایات وطائفة من العمومات الفوقیة متکفلة للأحکام الالزامیة المتضادة، ورابعة أن طائفة من هذه الروایات موافقة لطائفة من العمومات الفوقیة تارة فی الحکم الترخیصی وأخری موافقة فی الحکم الالزامی ونسبة هذه الروایات فی أبواب الفقه إلی العمومات الفوقیة لا تخلو عن هذه النسب.

ص: 170

وعلی هذا فإذا کانت طائفة من هذه الروایات متکفلة للأحکام الالزامیة فی مقابل طائفة من العمومات الفوقیة المتکفلة للأحکام الترخیصیة فلا تظهر ثمرة عملیة بین القول بحجیة هذه الروایات والقول بالعلم الإجمالی بصدور مجموعة من هذه الطائفة من الروایات فإنه لا بد من رفع الید عن عموم هذه الطائفة من العمومات إما بالتخصیص أو بالتعارض فإن کانت الروایات حجة فهی مخصصة لهذه العمومات وإن لم تکن حجة فإنما نعلم إجمالا بصدور مجموعة من هذه الطائفة وهذا العلم الإجمالی یوجب العلم الإجمالی بتخصیص عمومات هذه الطائفة إجمالا وهذا العلم الإجمالی یؤدی إلی التعارض بین عمومات هذه الطائفة فتسقط من جهة المعارضة وعلی کلا التقدیرین العمومات تسقط إما بالترخیص أو من جهة المعارضة فعندئذ المرجع هو أصالة الاشتغال فی مورد الروایات باعتبار أن الروایات متکفلة للأحکام الالزامیة.

وأما فی مورد هذه الطائفة من العمومات الفوقیة فلا یوجد أصل یتمسک به لا الأصل المثبت للحکم الإلزامی ولا الأصل المثبت للحکم الترخیصی فإن هذه الطائفة من العمومات متکفلة للأحکام الترخیصیة فلا موضوع لقاعدة الاشتغال والاحتیاط فیها واما أصالة البراءة فأیضا لا تجری فیها لأن أصالة البراءة إنما تثبت الحکم الترخیصی وهذا تحصیل للحاصل لأن الحکم الترخیصی موجود فی مورد هذه الطائفة من الروایات.

فلا تظهر الثمرة العملیة بین القولین فی الصورة الثانیة وهی ما إذا کانت طائفة من العمومات متکفلة للأحکام الالزامیة وطائفة من الروایات فی مقابل تلک الطائفة من العمومات متکفلة للأحکام الترخیصیة فإنه لا بد من رفع الید عن عموم هذه الطائفة من الروایات إما بالتخصیص أو من جهة المعارضة. ولکن بعد سقوط عموم هذه العمومات فیکون المرجع هو قاعدة الاشتغال فی مورد هذه العمومات لأنها متکفلة للأحکام الالزامیة والشبهة فیها شبهة حکمیة مقرونة بالعلم الإجمالی والمرجع فیها قاعدة الاشتغال.

ص: 171

وأما فی مورد الروایات فلا یوجد أصل یجری لأن الروایات متکفلة للأحکام الترخیصیة فلا موضع لقاعدة الاشتغال ولا موضوع للاستصحاب المثبت للتکلیف وأما جریان أصالة البراءة فهو تحصیل للحاصل.

واما فی الصورة الثالثة فأیضا لا تظهر الثمرة بین القولین فعلی کلا القولین تکون عمومات هذه الطائفة ساقطة إما بالتخصیص إذا کانت الروایات حجة او بالمعارضة، فعندئذ المرجع قاعدة الاشتغال فی کلتا الطائفتین(طائفة العمومات وطائفة الروایات) لأن کلا من الطائفتین متکفل للأحکام الالزامیة فعندئذ المرجع قاعدة الاشتغال فی مورد کل من الروایات والعمومات، وفی مورد الاجتماع لا یمکن العمل بکلیهما معا لأنه کدوران الأمر بین المحذورین لأن مقتضی قاعدة الاشتغال فی مورد طائفة العمومات الحرمة ووجوب الاجتناب ومقتضی قاعدة الاشتغال فی مورد طائفة من الروایات وجوب الامتثال والاتیان فمن أجل ذلک یکون المکلف مخیرا بین العمل بقاعدة الاشتغال فی مورد طائفة من العمومات أو العمل بقاعدة الاشتغال فی مورد طائفة من الروایات.

وأما الصورة الثالثة فإن کانت طائفة من الروایات موافقة لطائفة من العمومات فی الحکم الترخیصی فلا أثر لهما لا للروایات ولا للعمومات لأن الحکم الترخیصی لا یترتب علیه أی أثر من التخصیص والتقیید وما شاکل ذلک.

واما إذا کان کلتاهما (طائفة من الروایات وطائفة من العمومات) متکفل للحکم الالزامی فعندئذ قد یترتب علیه أثر وهو ما إذا فرضنا أن الروایة قد سقطت عن الحجیة فإن الروایة إن کانت حجة فهی مخصصة لعموم العمومات فإن لم تکن حجة وسقطت حجیتها من جهة وجود المعارض لها بسبب من الأسباب فعندئذ المرجع هو العمومات الفوقیة فیرجع إلیها لأنها حجة هذا تمام کلامنا فی هذه الصور.

بقی هنا مسألة وهی أن لا بد من ملاحظة نسبة الروایات الواردة عن المعصومین(ع) إلی کل مسألة من المسائل الفقهیة فی تمام الأبواب، ویعنی ذلک أنا نعلم إجمالا بثبوت أحکاما شرعیة فی الشریعة المقدسة وقد تقدم أن هذا العلم الإجمالی ینحل بالعلم الإجمالی بصدور مجموعة کبیرة من الروایات المتکفلة للأحکام الالزامیة من الأئمة الأطهار کروایات الثقات او الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة فعندئذ لا بد من العمل بهذه الروایات التی متکفلة للأحکام الالزامیة فی کل مسألة من المسائل الفقهیة.

ص: 172

واما الروایات المتکفلة للأحکام الترخیصیة فلا اثر لها ووجودها کالعدم ولیس لها أی دور فی انحلال العلم الإجمالی أو عدمه نعم قد تظهر الثمرة وهی أن هذه الروایات قد تکون مخصصة للعمومات الفوقیة فعندئذ هذه الروایات التی نعلم بصدورها عن المعصومین فی الجملة یوجب وقوع المعارضة بین العمومات الفوقیة وتسقط تلکم العمومات من جهة المعارضة إذا لم تکن حجة کما هو المفروض وعندئذ نرجع فی مورد هذه العمومات إلی قاعدة الاشتغال باعتبار أن هذه العمومات متکفلة للأحکام الالزامیة وقد سقطت من جهة المعارضة فالمرجع فی موردها قاعدة الاشتغال واما الروایات فبما أنها متکفلة للأحکام التخریصیة فلا أصل جار فی موردها لا الأصل المثبت للتکلیف ولا الأصل المثبت للترخیص.

فإذا هذه الروایات لا یترتب علیها أی أثر.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

ذکرنا أن العلم الإجمالی الکبیر ینحل بالعلم الإجمالی بصدور مجموعة کبیرة من الروایات عن المعصومین(ع) فی طائفة خاصة کأخبار الثقة فی تمام أبواب الفقه ولکن لا دلیل علی حجیتها والعمل بها علی أساس العلم الإجمالی لا علی أساس حجیتها.

وعلی هذه النظریة ففی کل مسألة من المسائل من المسائل الفقهیة یکون الأصل العملی منحصر بأصلین:

الأول: قاعدة الاشتغال وهی قاعدة عقلیة أی الحاکم بها العقل.

الثانی: قاعدة البراءة العقلیة وهی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، واما البراءة الشرعیة او استصحاب عدم التکلیف فحیث إن الدلیل القطعی علی حجیة هذه الأصول غیر موجود لأن الدلیل علی حجیة هذه الأصول هو الروایات وقد فرضنا أنها غیر حجة فلا تکون أصالة البراءة الشرعیة او استصحاب عدم التکلیف حجة.

وعلی هذا ففی کل مسألة من المسائل الفقهیة من البدایة إلی النهایة لابد للفقیه عند استنباط الحکم الشرعی أن ینظر إلی هذین الأصلین، فإن کانت المسألة خالیة عن الروایة فالمرجع فیها أحد هذین الأصلین إما قاعدة الاشتغال أو قاعدة البراءة العقلیة حیث أن العقل إما أن یحکم بالاشتغال والاحتیاط أو یحکم بقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ص: 173

والمعروف والمشهور بین الأصولیین ان الأصل الأولی فی کل مسألة خالیة عن الروایة هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان دون قاعدة الاشتغال وهناک من المحققین من ذهب إلی أن الأصل الأولی فی کل مسألة خالیة من الروایات والدلیل هی قاعدة الاشتغال وعبر عنها بقاعدة حق الطاعة وهی تعبیر آخر عن قاعدة الاحتیاط.

وفرّق بین المولویة الذاتیة وبین المولویة العرفیة والجعلیة، فإن المولی إذا کانت مولویته ذاتیة کمولویة الله تعالی فالمرجع فی موارد احتمال التکلیف هو قاعدة حق الطاعة أی قاعدة الاحتیاط واما إذا کانت مولویة المولی جعلیة کمولویة النبی الأکرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) فإنها جعلیة من قبل الله تعالی فالمرجع فیها لیس قاعدة الاشتغال وحق الطاعة وتفصیل هذه المسألة سوف یأتی فی مبحث البراءة وأن قاعدة قبح العقاب بلا بیان قاعدة ارتکازیة ثابتة فی أعماق نفس الإنسان وموافقة للفطرة والجبلة ورفع الید عنها والتفصیل فیها بین المولی الذاتی والمولی الجعلی هل هو ممکن او غیر ممکن سیأتی الکلام فیه.

وأما إذا کانت فی المسألة روایة متکفلة للحکم الالزامی ولم تکن فی مقابلها روایة أخری متکفلة للحکم الإلزامی من الوجوب أو الحرمة فعندئذ لا بد من العمل بهذه الروایة بمقتضی العلم الإجمالی لأن هذه الروایة من أحد أطراف العلم الإجمالی والعلم الإجمالی منجز فمدلول هذه الروایة منجز علی المکلف بالعلم الإجمالی ولا بد من العمل بها.

واما إذا کانت فی مقابلها روایة متکفلة للحکم الالزامی فأحدهما تدل علی وجوب شیء والأخری تدل علی الحرمة مثلا فلا بد من ملاحظة النسبة بین الروایتین ولا تخلو عن أحد أنحاء ثلاثة فإما أن تکون عموما وخصوصا مطلقا او تکون العموم والخصوص من وجه او تکون النسبة بینهما التباین ولا رابع فی البین.

ص: 174

فإن کانت النسبة بینهما عموما وخصوصا مطلقا ففی مثل ذلک لا یمکن تخصیص العام بالخاص فإن الخاص إنما یصلح لأن یکون مخصصا للعام إذا کان الخاص حجة وأما إذا لم یکن حجة بأن یکون العمل به علی أساس العلم الإجمالی فلا یصلح لأن یکون مخصصا للعام فعندئذ یعمل فی مورد افتراق العام عن الخاص بمقتضی العلم الإجمالی لأن العام من أحد أطراف العلم الإجمالی فمدلوله منجز بالعلم الإجمالی فلا بد من العمل به فی مورد الافتراق لأنه لا معارض له فی هذا المورد.

وأما فی مورد الاجتماع مع الخاص فهما متناقضان لأن مدلول العام مثلا الوجوب ومدلول الخاص الحرمة فلا یمکن العمل بکلیهما معا فی مورد الاجتماع لوجود المضادة بین مدلولیهما فلا بد من التخییر، کما هو الحال فی دوران الأمر بین المحذورین. نعم المقام یفترق عن دوران الأمر بین المحذورین فی نقطتین:

النقطة الأولی: أن فی دوران الأمر بین المحذورین یکون جنس التکلیف معلوما کما فی صورة العلم بوجود الالزام الجامع بین الوجوب والحرمة ولکن یشک فی تمثله فی الوجوب أو الحرمة فیکون الشک فی نوع التکلیف لا فی جنسه واما فی المقام فالشک فی النوع ابتداء لا مقرونا بالعلم لأن احتمال کذب کل من العام والخاص موجود. فاحتمل الوجوب فی مورد الاجتماع بین العام والخاص احتمال بدوی وکذلک احتمال الحرمة واما احتمال الوجوب والحرمة فی دوران الأمر بین المحذورین فمقرون بالعلم بجنس التکلیف وهو الالزام کما فی المقام.

النقطة الثانیة: انه لا مانع من التمسک بأصالة البراءة العقلیة فی کل من الوجوب والحرمة فی دوران الأمر بین المحذورین لاحتمال تعیّن الوجوب وتعیّن الحرمة وحیث إن فی تعین کل منهما کلفة زائدة فیمکن دفعها بأصالة البراءة العقلیة. والنتیجة هی التخییر.

ص: 175

واما العلم بالجامع فهو لا یمنع عن هذه الأصالة لأن امتثال الجامع غیر ممکن لاستحالة موافقته القطعیة ومخالفته القطعیة فإن العلم بالإلزام الجامع بین هذین الاحتمالین لا یمکن امتثاله فإن موافقته القطعیة وکذا مخالفته القطعیة غیر ممکنة لأن حال المکلف یدور بین کونه فاعلا او تارکا ولا یمکن الجمع بینهما لأنه جمع بین النقیضین بان یکون فاعلا وتارکا فمن أجل ذلک لا أثر للعلم بالجامع بین الوجوب والحرمة فلا یکون مانعا عن أصالة البراءة.

وهذا بخلاف المقام فإن الخاص سبب لاحتمال الحرمة والعام سبب لاحتمال الوجوب فی مورد الاجتماع ولا یمکن الرجوع إلی أصالة البراءة عن تعین کل منهما باعتبار أن کلیهما من أطراف العلم الإجمالی والأصول المؤمنة لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی سواء کانت عقلیة أم کانت شرعیة وحینئذ لا مناص من التخییر أی أن المکلف مخیر بین أن یعمل بالخاص أو أن یعمل بالعام فی مورد الاجتماع.

واما الصورة الثانیة وهی أن النسبة بین الروایتین عموما من وجه فلکل منهما مورد افتراق ولهما مورد اجتماع. فأما فی مورد افتراق کل منهما فیجب علی المکلف العمل به بمقتضی العلم الإجمالی لأن کل من العام والخاص من أطراف العلم الإجمالی وهو منجز ولا مانع من العمل بکل منهما فی مورد افتراقه عن الآخر، واما فی مورد الاجتماع فلا یمکن العمل بهما للتضاد والتباین بینهما فی هذا المورد لفرض أن مدلول احدهما الوجوب ومدلول الاخر الحرمة، ولا دلیل علی ترجیح أحد الاحتمالین علی الاحتمال الآخر لأنه بحاجة إلی الدلیل والفرض عدم الدلیل علی ذلک.

واما تطبیق مرجحات باب المعارضة فهو أیضا لا یمکن لأن مورد هذه المرجحات هو الروایات المتکاذبة مع کون کل منها حجة فی نفسها وقد فرضنا فی المقام ان الروایة لیس بحجة بل یجب العمل بهما لأنهما من أطراف العلم الإجمالی.

ص: 176

فالنتیجة هی لا بدیة التخییر لأن ترجیح أحد علی الاحتمالین فی مورد الاجتماع علی الاحتمال الآخر لا یمکن.

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

أما الصورة الثالثة: وهی ما إذا وقع التعارض بین الروایتین المتباینتین فإن احدهما تدل علی وجوب شیء والأخری علی حرمة ذلک الشیء فعندئذ یقع التعارض بین الاحتمالین لا بین الروایتین الحجتین فإن الروایات لا تکون حجة ووجوب العمل بها علی اساس العلم الإجمالی لا علی أساس حجیتها فیقع التعارض بین الاحتمالین احتمال الوجوب واحتمال الحرمة ولا یتمکن الفقیه من العمل بکلا الاحتمالین معا للتضاد بینهما ولا یمکن تطبیق مرجحات باب التعارض فی المقام لاختصاصها بالروایتین المعتبرتین فی نفسیهما فإذا وقع التعارض بینهما فیرجع إلی المرجحات واما فی المقام فالتعارض لیس بین الروایتین المعتبرتین فی نفسیهما وإنما التعارض والتنافی بین الاحتمالین احتمال الوجوب واحتمال الحرمة فإن الروایة التی تدل علی الوجوب لا تکون حجة وکذلک الروایة التی تدل علی الحرمة کما لا یمکن الرجوع الی مرجحات باب المزاحمة أیضا إذ المزاحمة إنما هی بین التکلیفین الثابتین فی مرحلة الجعل وإنما یقع التزاحم بینهما فی مرحلة الامتثال إذ المکلف غیر قادر علی امتثال کلا التکلیفین معا فعندئذ یرجع الی مرجحات باب التزاحم من تقدیم الأهم علی المهم واما فی المقام فأصل التکلیف غیر ثابت جعلا لأن الوجوب والحرمة محتملا الثبوت فی الشریعة المقدسة ولا نعلم بجعل کلا التکلیفین معا فعندئذ إذا کان لأحدهما مرجح بنظر الفقیه الشخصی فیقدم علی الاحتمال الآخر وإن لم یکن مرجح بنظره فلا مناص من التخییر فتکون وظیفته الافتاء التخییر.

إلی هنا قد تبین أنه بناء علی أن روایات الآحاد لا تکون حجة وأن ادلة الحجیة قاصرة عن شمول أخبار الآحاد فعندئذ حیث إنا نعلم إجمالا بصدور مجموعة کبیرة من الروایات عن الأئمة الأطهار فی کل باب من أبواب الفقه وهذا العلم الإجمالی منجز ولا بد للفقیه من العمل بکل راویة فی أبواب الفقه من جهة هذا العلم الإجمالی فإذا فرضنا أن هذا العلم الإجمالی بین أخبار الثقة وحیث إن أخبار الثقة موجودة فی تمام أبواب الفقه فالفقیه فی کل مسألة إذا کان فیها خبر ثقة فلا بد من العمل به وإن لم یکن فیها خبر ثقة فوظیفته التخییر او قاعدة البراءة العقلیة (قبح العقاب بلا بیان) ولیس له ان یرجع إلی الأصول العملیة الشرعیة کأصالة البراءة الشرعیة والاستصحاب وأصالة الطهارة ونحوها ولا إلی الأصول العملیة فی الشبهات الموضوعیة کقاعدة الفراغ والتجاوز ونحوهما لأن مدرک هذه الأصول هو الروایات ولیس لها مدرک قطعی والمفروض ان الروایات لم تکن حجة.

ص: 177

فإذاً وظیفة الفقیه فی کل مسألة من المسائل الفقهیة إن وجدت روایة فیها فوظیفته العمل بهذه الروایة من باب الاحتیاط وقاعدة الاشتغال باعتبار أن هذه الروایة من أحد أطراف العلم الإجمالی، وإن لم تکن هناک روایة فالمرجع هو قاعدة البراءة العقلیة.

واما إذا دار الأمر بین محذورین أو بین احتمالین متباینین ولا یتمکن الفقیه من الجمع بینهما فوظیفته التخییر.

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أن مقتضی الوجه الأول من الأدلة العقلیة هو وجوب العمل بالروایات علی أساس العلم الإجمالی لا علی أساس حجیتها. واما الوجه الثانی والثالث من الأدلة العقلیة فحیث إنهما لا یرجعان علی معنی محصل وإن أطال شیخنا الأنصاری الکلام فیهما ولکن بلا فائدة فلا یرجعان إلی معنی محصل ومن هنا لا نتعرض لهما.

واما الکلام فی المقام الثانی فیقع فی دائرة حجیة أخبار الثقة مثلا إذا فرضنا أن أخبار الثقة حجة. فیقع الکلام فی سعة دائرة حجیة أخبار الثقة.

فالکلام یقع فی ذلک فی عدة جهات:

الجهة الأولی: النظر إلی مدلول أدلة الحجیة سعة وضیقا وشروطها العامة.

الجهة الثانیة: هل المستفاد من ادلة الحجیة حجیة أخبار الثقة مطلقا أو المستفاد منها حجیة أخبار الثقة المفیدة للوثوق الشخصی؟

الجهة الثالثة: ان إعراض الأصحاب عن اخبار الثقة هل یوجب سقوطها عن الاعتبار اولا؟

اما الکلام فی الجهة الأولی فقد تقدم ان عمدة الدلیل علی حجیة أخبار الثقة السیرة القطعیة من العقلاء الجاریة علی العمل بأخبار الثقة وأن هذه السیرة مرتکزة فی الأذهان وثابتة فی أعماق النفوس وصارت کالجبلة والفطرة ولأجل هذا لا یحتاج العمل بأخبار الثقة إلی أی مقدمة خارجیة فإذا علم ان الشخص الفلانی ثقة فانه یقبل قوله ولا یتأمل فی قبول قوله لأن قبول قوله وحجیته أمر مرتکز فی الأذهان وهذا یعنی ان العمل بأخبار الثقة مرتکز فی أعماق النفوس.

ص: 178

ومدلول السیرة العقلاء الممضاة شرعا خصوص أخبار الثقة والنکتة فی ذلک أن سیرة العقلاء قد جرت علی العمل بأخبار الثقة ولم تجر علی العمل بغیر أخبار الثقة وذلک لأن أخبار الثقة أقرب نوعا إلی إثبات الواقع من أخبار غیر الثقة وهذه الأقربیة توجب جریان سیرة العقلاء علی العمل بأخبار الثقة لأنها اقوی طریقا وأکثر کشفا عن الواقع نوعا من أخبار غیر الثقة.

واما السنة التی استدل بها علی حجیة أخبار الثقة فالمرتکز العرفی منها بمناسبة الحکم والموضوع هو ان مفادها الإرشاد إلی بناء العقلاء والتأکید علیه وإمضاء هذا البناء ولیس مفادها تأسیس الحجیة ولهذا فی جملة من هذه الروایات یکون السؤال عن وثاقة الراوی فالراوی إذا کان ثقة یقبل قوله ولا یسأل عن حجیة قوله بل یسأل عن وثاقته ، فحجیة قوله لا تتوقف علی أی مقدمة وأی دلیل خارجی وهذا یدل علی أن حجیة خبر الثقة أمر مترکز فی الأذهان وثابت فی اعماق النفوس فإذا علم بوثاقة شخص یقبل قوله بدون المطالبة بأی دلیل علی ذلک.

فإذاً هذه الروایات أیضا قرینة علی أن مفاد هذه الروایات حجیة أخبار الثقة ولیس مفادها تأسیس الحجیة لها بل مفادها التأکید لما بنی علیه العقلاء وإمضاء له وإرشاد إلیه فالروایات لیست دلیلا مستقلا فی مقابل السیرة علی حجیة أخبار الآحاد.

واما الآیات ومنها آیة النفر وآیة الکتمان وقد تقدم الکلام والمناقشة فی دلالة کلتا الآیتین علی حجیة أخبار الآحاد وقلنا أن کلا منهما لا یدل علی حجیة أخبار الآحاد.

ولکن لو تنزلنا عن ذلک وسلمنا أن کلتا الآیتین تدل علی حجیة أخبار الآحاد فهل مفادهما تأسیس الحجیة فی مقابل السیرة العقلائیة أو مفادهما التأکید وإمضاء بناء العقلاء؟

أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی بحث الأصول

ص: 179

الموضوع: أدلة حجیة خبر الواحد – الدلیل العقلی

ذکرنا أن سیرة العقلاء تدل علی حجیة خبر الثقة فقط ولا تدل علی حجیة غیر خبر الثقة وعلی ضوء هذه السیرة فاتساع دائرة حجیة أخبار الآحاد هو اتساع دائرة أخبار الثقة لا أکثر من ذلک وذکرنا أن عمدة الدلیل علی حجیة أخبار الثقة هو السیرة العقلائیة الجاریة علی العمل به الممضاة شرعا، ولا شبهة فی إمضاء هذه السیرة وانها مرتکزة فی الأذهان ولا یکون العمل بأخبار الثقة متوقفا علی أی مقدمة خارجیة.

واما الروایات التی استدل بها علی حجیة أخبار الآحاد فالمتفاهم العرفی منها بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة لا یکون اکثر من حجیة اخبار الثقة؛ وذلک لأمرین:

الأمر الأول: قد وردت مجموعة من الروایات فی عدم حجیة أخبار الفساق وأخبار الوضاعین والکذابین وما شاکل ذلک من العنوانین فمن مجموع هذه الروایات یستفاد ان موضوع الحجیة هو أخبار الثقة أی إذا کان الراوی ثقة فقوله حجة.

الأمر الثانی: أن حجیة أخبار الثقة أمر مرتکز فی الأذهان وثابت فی أعماق النفوس وهو بمثابة قرینة لبیة متصلة مانعة عن ظهور إطلاق الروایات فی حجیة الخبار مطلقا فإن هذه السیرة الجاریة علی حجیة أخبار الثقة من جهة ارتکازیتها فی النفوس بمثابة القرینة اللبیة المتصلة المانعة عن ظهور الروایات فی حجیة أخبار الآحاد مطلقا.

هذا مضافا إلی أنه قد ورد فی جملة من الروایات السؤال عن وثاقة الروایة لا عن حجیة قوله وهی دالة بوضوح علی أن حجیة أخبار الثقة أمر مفروغ عنه فلا یحتاج إلی أی مقدمة خارجیة لأن العمدة ان الراوی ثقة حتی یعمل بقوله کما فی روایة صحیحة (1) (أ فیونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم دینی...) .

ص: 180


1- اختیار معرفة الرجال(رجال النجاشی)، الشیخ الطوسی، ج2، ص784.

فإذا کان ثقة فجواز أخذ منه معالم الدین لا یتوقف علی غیر دلیل ولا أی مقدمة خارجیة.

واما الآیات الکریمة ومنها آیة النفر وآیة الکتمان فقد تقدم أنهما لا تدلان علی حجیة أخبار الآحاد ومع الإغماض عن ذلک وتسلیم دلالتهما علی حجیة أخبار الآحاد إلا انه لا یستفاد منهما أکثر من حجیة أخبار الثقة وذلک لأن حجیة أخبار الثقة بما أنها أمر مرتکز فی الأذهان وثابتة فی أعماق النفوس فهو بمثابة قرینة لبیة متصلة مانعة عن ظهور هاتین الآیتین فی الإطلاق فلا ینعقد لهما ظهور فی الإطلاق ولا یستفاد من کلتا الآیتین حسب المتفاهم العرفی بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة أکثر من حجیة أخبار الثقة فإن الملازمة الثابتة بین وجوب إنذار المنذر ووجوب قبول قوله إنما هی ثابتة فی ما إذا کان المنذر ثقة لا مطلقا وکذلک الملازمة بین حرمة الکتمان ووجوب القبول. وأما آیة النبأ فلو سلم دلالتها علی حجیة أخبار الآحاد بمفهوم الشرط او بمفهوم الوصف فعندئذ قد یقال بوقوع المعارضة بین مفهومها الدال علی عدم وجوب التبین عن خبر العادل فقط وأما خبر ثقة فتدل بمقتضی إطلاق منطوقها علی وجوب التبین عنه لأنها تدل علی وجوب التبین عن خبر الفاسق شرعا وإن کان ثقة فإن رب فاسق شرعا لکنه لا یکذب وبین سیرة العقلاء الدالة علی حجیة أخبار الثقة وإن کان فاسقا. ومورد الاجتماع هو خبر الثقة الفاسق فمقتضی إطلاق مدلول الآیة وجوب التبین عنه إذا کان الفاسق ثقة ومعناه أن خبره لا یکون حجة واما مقتضی السیرة فهی تدل علی حجیة خبر الثقة وإن کان فاسقا.

وعندئذ لا بد من علاج هذه المعارضة بالرجوع إلی المرجحات.

ولکن هذا الإشکال غیر وارد فإن السیرة العقلائیة بما انها قطعیة وإمضاؤها أیضا قطعی فلا یمکن أن یعارضها إطلاق منطوق آیة النبأ إذ أن إطلاق منطوق آیة النبأ ظنی ولا یمکن أن یعارض الدلیل الظنی الدلیل القطعی.

ص: 181

ومن هنا ذکرنا أنه لا یمکن ان یردع عن هکذا سیرة إلا نصا صریحا ومؤکد وأما ظهور الآیة فی الإطلاق فهو لا یصلح للرادعیة، ولو کان صالحا لذلک لما عمل الناس فی زمن صدور الآیة بخبر الثقة من دون التفات إلی ظهورها فی الإطلاق، وهذا یعنی أن ظهور منطوق الآیة لا یصلح لأن یکون رادعا عن هذه السیرة باعتبار قطعیتها وارتکازها فی الأذهان وکذلک إمضاؤها ولم یصدر أی ردع عنها من النبی الأکرم(ص) ولا من الأئمة الأطهار(ع).

هذا أولاً.

وثانیاً: أن الآیة بنفسها تدل علی أن المراد من الفسق هو الفسق الخبری ولیس المراد منه الفسق الشرعی وذلک لوجود قرائن فی الآیة علی ذلک:

القرینة الأولی: لو کان المراد من الفسق فی الآیة الفسق الشرعی فلازم ذلک وجوب التبین عن خبر الفاسق شرعا إذا کان ثقة وهو غیر مناسب بل لا یمکن لما ذکرنا من ارتکازیة حجیة خبر الثقة فی أذهان الناس بحیث یعملون به من دون أی توقف علی أی مقدمة. فیکون المنع عن حجیة أخبار الثقة وعن العمل به تهافتا وتناقضا.

القرینة الثانیة: أن الوارد فی الآیة (أن تصیبوا قوما بجهالة) فإن کان المراد من الجهالة السفاهة فلا شبهة فی أن العمل بخبر الثقة لیس سفهیا بل هو عقلائی فلا یندرج تحت قوله تعالی: (ان تصیبوا قوما بجهالة). وإن کان المراد منها الجهل بالواقع فلیس العمل بخبر الثقة عملا بالجهل بنظر العقلاء.

القرینة الثالثة: أن نفس الآیة ظاهرة فی أن المراد من الفسق هو الفسق الخبری بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة لأن الآیة فی مقام بیان ذلک.

هذا مضافا إلی أن معنی الفسق فی اللغة هو الانحراف الجامع بین الانحراف فی العمل والانحراف فی العقیدة والانحراف فی القول. وأما المعنی الشرعی له فلعله لم یثبت حین نزول الآیة المبارکة، وحینئذ یکون الفسق فی الآیة المبارکة مستعمل فی معناه اللغوی وهو الانحراف الجامع بین الانحراف فی العقیدة والانحراف فی العمل والانحراف فی القول.

ص: 182

والحاصل من مجموع هذه القرائن ان المراد من الفسق فی الآیة المبارکة هو الفسق الخبری کما انها تدل علی أن المراد من العدل فی مفهوم الآیة الکریمة العدل الخبری یعنی الثقة.

وعلی هذا فلا تعارض بین الآیة المبارکة وبین السیرة أی کما أن السیرة تدل علی حجیة أخبار الثقة فالآیة أیضا کذلک.

ومن جمیع ما ذکرنا یظهر انه لو سلم دلالة الآیات والروایات علی حجیة اخبار الآحاد فلا یکون مفادها إلا التأکید لما بنی علیه العقلاء وهو حجیة أخبار الثقة ولیس مفادها تأسیس الحجیة.

هذا کله فی الفرض الأول

دائرة حجیة خبر الواحد، جابریة عمل المشهور لضعف الخبر. بحث الأصول

الموضوع: دائرة حجیة خبر الواحد، جابریة عمل المشهور لضعف الخبر.

الجهة الثانیة: فهی أن موضوع الحجیة هل هو خبر الثقة بما هو خبر الثقة سواء أفاد الوثوق بالواقع أم لم یفد وسواء أفاد الظن بالواقع أم لم یفد بل کان الظن علی خلافه فإنه حجة فی جمیع هذه الحالات لأن حجیته من باب الوثوق النوعی لا من باب الوثوق الشخصی، فهل موضوع الحجیة هو خبر الثقة کما هو مقتضی سیرة العقلاء او أن موضوعها الخبر المفید للوثوق بالواقع فعلا فکل خبر یکون مفیدا للوثوق بالواقع فعلا فهو حجة وإن لم یکن من ثقة واما الخبر الذی لا یفید الوثوق بالواقع فعلا فلا یکون حجة وإن کان من ثقة.

فإذاً النسبة بین ما هو حجة وبین خبر الثقة عموم من وجه فإن الجامع هو خبر الثقة المفید للوثوق بالواقع فعلا.

ولکن لا یمکن أن یکون الموضوع للحجیة هو الخبر المفید للوثوق بالواقع فعلا؛ وذلک لأمرین:

الأمر الأول: أن مفاد أدلة الحجیة من الآیات والروایات والاجماع والسیرة العقلائیة والمتشرعیة جمیعا هو حجیة خبر الثقة بما هو خبر ثقة وإن لم یفد الوثوق بالواقع فعلا وحجیته من باب الوثوق النوعی لا من باب الوثوق الشخصی.

ص: 183

الأمر الثانی: لا یمکن أن یکون الخبر المفید للوثوق بالواقع فعلا هو الموضوع للحجیة؛ إذ علی ذلک لا موضوع لخبر الواحد لأن الحجة إنما هی الوثوق بالواقع ولو کان ناشئا من خبر الفاسق او من الاجماعات المنقولة او من الشهرات الفتوائیة، وحاله فی ذلک حال القطع فإنه حجة مهما کان منشأه، ومقامنا من هذا القبیل إذا قلنا إن موضوع الحجیة هو الوثوق والاطمئنان لأن المدار حینئذ یکون علی الوثوق والاطمئنان فعلا. وهو کما تری خروج عن محل الکلام إذ محل الکلام فی حجیة خبر الواحد، واما الوثوق والاطمئنان الفعلی فلا شبهة فی أنه حجة عقلائیة وهو ممضی شرعا وحجیته لا تحتاج إلی دلیل إذ ان حجیته ثابتة لدی العقلاء والشارع قد أمضی ذلک.

فإذاً لا إشکال فی حجیة الوثوق والاطمئنان الفعلی وإنما الکلام فی حجیة خبر الواحد فهل موضوع الحجیة هو خبر الثقة او مطلق الخبر؟ هذا هو محل الکلام.

فالنتیجة ان القول بأن موضوع الحجیة هو الخبر المفید للوثوق بالواقع والاطمئنان به فعلا لا یمکن المساعدة علیه.

وعلیه یکون الصحیح ان موضوع الحجیة هو خبر الثقة بما هو خبر ثقة.

هذا کله فی الجهة الثانیة.

واما الجهة الثالثة: فیقع الکلام فی ان عمل المشهور بخبر ضعیف هل یکون جابرا لضعفه وموجبا لدخوله فی أدلة الحجیة اولا یکون کذلک؟

فیه قولان:

القول الأول: وهو ان عمل المشهور بخبر ضعیف جابر لضعفه وموجبا لدخوله فی أدلة الحجیة، وهذا القول هو المعروف والمشهور بین الأصولیین.

القول الثانی: وذهب جماعة من المحققین إلی أن عمل المشهور بالخبر الضعیف لیس جابرا وان وجوده کالعدم فلا یجعل الخبر الضعیف حجة ولا یوجب دخوله فی أدلة الحجیة.

وما استدل به للقول الأول وجهان:

ص: 184

الوجه الأول: ما ذکره المحقق النائینی (قده) من أن عمل المشهور بخبر ضعیف یوجب صحة هذا الخبر ودخوله فی أدلة الحجیة لأن هذا یصیره داخلا فی منطوق آیة النبأ: ( إن جاءکم فاسق بنبأ فتبینوا) وهی دالة علی حجیة الخبر مع التبین ولو کان من الفاسق. ومن الواضح ان عمل المشهور تبیّن ومعه فلا محالة یدخل فی إطلاق المنطوق للآیة المبارکة.

وعلی هذا فالآیة تدل بإطلاق منطوقها علی حجیة الخبر الضعیف مع التبین الصادق علی عمل المشهور، ومن هنا یکون عمل المشهور جابرا لضعف السند وموجبا لدخول هذه الروایة فی منطوق آیة النبأ.

والجواب عن ذلک واضح: إذ ان الآیة المبارکة تدل علی عدم حجیة خبر الفاسق والأمر بالتبین إنما هو أمر بتحصیل الحجة علی النبأ لأن خبر الفاسق لیس بحجة، والمراد من الحجة فی المقام هو تحصیل العلم الوجدانی لأن التبیّن ظاهر فی العلم الوجدانی ولا أقل من ظهوره فی العلم العرفی وهو الاطمئنان.

وعلی هذا فالآیة بمنطوقها ظاهرة فی أن خبر الفاسق لیس بحجة فی المسألة بل یجب علی المکلف تحصیل العلم الوجدانی او لا أقل من العلم العرفی. وحینئذ یکون العمل بالعلم او بالاطمئنان لا بحجیة خبر الفاسق، ومن هنا تکون الآیة أجنبیة عما ذکره المحقق النائینی حیث أن المتفاهم العرفی من الآیة لیس هو ان خبر الفاسق حجة مع التبین، بل هو عدم الاعتناء بخبر الفاسق والواجب علی المکلف تحصیل العلم بالواقع.

وبکلمة ان الأمر بالتبین أمر إرشادی ولیس أمرا تکلیفیا مولویا ضرورة أن التبیّن لیس من أحد الواجبات فی الشریعة المقدسة کسائر الواجبات الأخری بل هو إرشاد إلی عدم حجیة خبر الفاسق ولا بدیة تحصیل حجة اخری فی المسألة وهی العلم الوجدانی او الاطمئنان.

ص: 185

وعمل المشهور فی نفسه لا یکون حجة کما تقدم بحثه موسعا ومن الواضح أن ضم اللا حجة إلی اللا حجة لا أثر له فخبر الفاسق فی نفسه لا یکون حجة وعمل المشهور أیضا لا یکون حجة وضم احدهما إلی الآخر لا یترتب علیه أی أثر فلا یوجب انقلاب ما لیس بحجة حجة بل هو امر مستحیل فی الأحکام الشرعیة التی هی أمور اعتباریة؛ لأنها فعل اختیاری ومباشر للمولی فجعلها نفیا وإثباتا بید المولی ولا یمکن ثبوت الحکم قهرا أو ثبوته معلولا لعلة.

وعلیه فضم الشهرة إلی خبر الفاسق لا یمکن ان یصیّر خبر الفاسق حجة قهرا.

وعلی هذا فلا أثر لضم الشهرة إلی خبر الفاسق. نعم قد یحصل الاطمئنان والوثوق من الشهرة ولکنه لا یعدو ان یکون وثوقا شخصیا یحصل لبعض الفقهاء دون البعض الآخر وقد یحصل فی مسألة ولا یحصل فی مسألة أخری، وهو کما تری لیس ضابطا کلیا، وقد علم مما تقدم ان المسألة الأصولیة لا بد ان تکون ضابطا کلیا ولا تختلف باختلاف الفقهاء والمجتهدین.

الوجه الثانی: __ من وجوه جابریة عمل المشهور للخبر الضعیف __ أن عمل المشهور بخبر یکشف عن صدوره عن المعصومین(ع) وبذلک یدخل الخبر الضعیف فی أدلة الحجیة وشمولها له.

والجواب عن ذلک: انه إن أرید بکاشفیته الکاشفیة النوعیة فیرد علیه:

أولاً: أن عمل المشهور لا یصلح لأن یکون کاشفا نوعیا عن صدور الخبر الضعیف عن المعصومین(ع) بل لا یکون کاشفا ظنیا نوعا فضلا عن کونه کاشفا وثوقیا نوعا.

وثانیاً: مع الإغماض عن ذلک وتسلیم انه کاشف نوعا عن صدور الخبر عن المعصومین(ع) إلا أنه لا دلیل علی حجیة هذا الکشف؛ لأن الدلیل علی حجیة الکشف النوعی إنما هو فی خصوص الکشف النوعی المستفاد من خبر الثقة او من ظواهر الالفاظ لأنها حجة بالسیرة القطعیة من العقلاء بملاک کشفها نوعا عن الواقع. واما فی غیر هذین الموردین فلا دلیل علی حجیة الکشف النوعی؛ لأن حجیة شیء بحاجة إلی دلیل، والکشف النوعی لیس حجة ذاتیة فلا یمکن الحکم بحجیته مطلقا ما لم یقم الدلیل علی ذلک وقد قلنا إن الدلیل القائم علی حجیته مختص بخبر الثقة وظواهر الالفاظ، ولا یمکن التعدی عن موردهما إلی سائر موارد الکشف النوعی؛ إذ التعدی علی خلاف القاعدة وبحاجة إلی دلیل وقرینة، ولا توجد هکذا قرینة علی التعدی لا من نفس السیرة ولا من الخارج کما أنه لا دلیل علی حجیة الکشف النوعی مطلقا.

ص: 186

وإن أرید بکاشفیته الکاشفیة الظنیة فلا دلیل علی حجیة هذه الکاشفیة لأن الأصل الأولی قائم علی حرمة العمل بالظن وعدم حجیته وحجیة کاشفیته بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علی ذلک.

وإن أرید بکاشفیته الکاشفیة القطعیة فهی بحاجة إلی تمامیة مقدمتین فإن تمت هاتان المقدمتان کان عمل المشهور کاشفا قطعا عن صدور الخبر عن المعصوم(ع) وإن لم تتم هاتان المقدمتان فلا یمکن أن یکون عمل المشهور کاشفا.

جابریة عمل المشهور لضعف الخبر بحث الأصول

الموضوع: جابریة عمل المشهور لضعف الخبر

ذکرنا أنه لا یمکن المساعدة علی ما ذکر من ان عمل المشهور بروایة ضعیفة کاشف عن صدورها عن المعصومین(ع)، فإن أرید بالکاشفیة الکاشفیة النوعیة فمضافا إلی أن عمل المشهور لیس کاشفا نوعیا عن صدور الخبر الضعیف عن المعصومین(ع) انه لا دلیل علی حجیة هذه الکاشفیة لأن الدلیل إنما قام علی حجیة الکاشفیة النوعیة فی خصوص خبر الثقة وظواهر الالفاظ ولا دلیل فیما عدا ذلک والتعدی عن خبر الثقة وظواهر الالفاظ إلی هذا المورد لا یمکن لأن کل حکم إذا کان علی خلاف القاعدة فالتعدی منه إلی غیره یکون بحاجة إلی قرینة ولا قرینة فی المقام لا فی نفس أدلة حجیة الکاشفیة ولا من الخارج.

وإن أرید بالکاشفیة الکاشفیة الظنیة فلا دلیل علی حجیتها إذ الأصل الأولی حرمة العمل بالظن فالعمل به بحاجة إلی دلیل ولا دلیل فی المقام علی الحجیة.

وإن أرید بالکاشفیة الکاشفیة القطعیة أو الاطمئنانیة فهی تتوقف علی تمامیة مقدمتین:

المقدمة الأولی: أن یکون العمل بالروایة الضعیفة سندا مشهورا بین المتقدمین من أصحابنا الذین یتصل عصرهم بعصر أصحاب الأئمة(ع).

المقدمة الثانیة: أن تصل هذه الشهرة إلیهم من زمن الائمة(ع) یدا بید وطبقة بعد الطبقة.

ص: 187

فإن تمت هاتان المقدمتان فلا شبهة فی أن الخبر الضعیف حینئذ یکون صادرا عنهم(ع) إما قطعا أو اطمئنانا، لأن هاتین المقدمتین تضمنان شهرة هذا الخبر فی زمن أصحاب الأئمة وهذا یعنی اتصال الشهرة بزمن الأئمة(ع) ما یدل علی إمضاؤه شرعا وهو یدل علی صدوره عنهم(ع).

ولکن لا تتم هاتان المقدمتان:

أما عدم تمامیة المقدمة الأولی: فلأنه لا طریق لنا إلی إحراز عمل مشهور أصحاب الأئمة(ع) وفقهاء الأصحاب بهذه الروایة الضعیفة سندا فی مقام الافتاء لا مباشرة وذلک للفصل الزمنی بین الفقهاء المتأخرین والفقهاء المتقدمین ولا بالواسطة فإن غایة ما یمکن ان یقال فی المقام فی علاج وتخریج ذلک احد طریقین:

الطریق الأول: ان یکون عمل الفقهاء المتقدمین بالروایة الضعیفة سندا قد وصل إلی المتأخرین یدا بید وطبقة بعد الطبقة.

الطریق الثانی: وصول کتب الفقهاء المتقدمین الاستدلالیة إلی المتأخرین بطریق معتبر او متواتر.

وکلا الطریقین غیر تام:

أما الطریق الأول: فلأن المتأخرین وإن کانوا ینقلون آراء المتقدمین وفتاویهم فی کتبهم إلا أن مجرد ذلک لا یکفی فلا بد من إحراز ان المتقدمین قد استندوا فی الافتاء إلی هذه الروایة الضعیفة سندا ومجرد موافقة فتاویهم للروایة لا یدل علی استنادهم إلیها فی مقام الافتاء إذ کما یحتمل ذلک یحتمل أیضا استنادهم إلی حسن الظن أو الی الظن المطلق او الاجماع المنقول أو الشهرة الفتوائیة أو ما شاکل ذلک، وعلیه لا نحرز أن عملهم وفتاویهم مستندة إلی الروایة الضعیفة سندا.

وبعبارة أخری أنه لا یمکن إحراز استناد المتقدمین فی فتاویهم إلی الروایة الضعیفة سندا وذلک:

أولا: ان المتأخرین غالبا ما ینقلون فی کتبهم عبارة أن المشهور بین قدماء الأصحاب هو الرأی الفلانی فی هذه المسألة من دون استقصاء آرائهم، وربما تنقل آراء بعض المتقدمین کما فی النقل عن الشیخ(قده) أنه استند فی الحکم الفلانی الی هذه الروایة الضعیفة ثم ینقل موافقة السید المرتضی له فی ذلک ولم یذکر باقی العلماء ومن الواضح ان مثل هذا لا یدل علی موافقة السید له فی الاستناد إلی هذه الروایة فی الافتاء نعم ربما کان موافقا للشیخ فی الفتوی ولکن ربما لم یکن موافقا له فی الاستناد إلی هذه الروایة الضعیفة.

ص: 188

ومن هنا لا نحرز موافقة باقی المتقدمین للشیخ فی ذلک.

ثانیا: ربما ینقل المتأخرین آراء المتقدمین فی المسألة ولکن بدون الإشارة إلی مدرکها، وآرائهم فی المسالة وإن کانت موافقة لمضمون الروایة الضعیفة إلا أن مجرد الموافقة لا یکون دلیلا علی استنادهم إلیه فی الافتاء لأنه کما یحتمل ذلک یحتمل أیضا أن مدرکهم فی الفتوی حسن الظن او الاجماع المنقول أو مطلق الظن وما شاکل ذلک.

فالنتیجة أنه لا یحرز من موافقة فتوی المتقدمین لمضمون الروایة الضعیفة سندا استنادهم فی الافتاء إلیها.

هذا مضافا إلی أن المتقدمین مختلفون فی آرائهم بل قد یختلف رأی أحدهم فی مسألة واحدة بین کتاب وکتاب آخر له ومن هنا یصعب نقل اتفاق المتقدمین فی مسألة واحدة، وعلیه فلا طریق للمتأخرین فی نقل اتفاق المتقدمین علی رأی مستندین فی ذلک إلی روایة ضعیفة سندا.

وأما الطریق الثانی: فهو مبنی علی أن یکون لکل واحد من المتقدمین کتاب استدلالی یحتوی علی هذه المسالة وعلی غیرها یذکر فیه مدرکه فی الافتاء بهذه المسألة.

ولکن لم یصل إلی المتأخرین مثل هذه الکتب وذلک لأمرین:

أولا: یحتمل أنه لا یوجد لکل واحد من المتقدمین کتاب استدلالی کذلک.

ثانیا: یحتمل أن یکون لکل واحد منهم کتاب استدلالی ولکنه لم یصل إلی المتأخرین.

ولعله لأجل ذلک یذکر المتأخرین آراء المتقدمین من دون ذکر مستندهم فی ذلک وإن کانت آراؤهم مطابقة لمضمون الروایة الضعیفة. ولکن مجرد ذلک لا یکفی فی إحراز استناد المتقدمین إلیها فی الافتاء.

فالنتیجة أن المتأخرین لا طریق لهم إلی إحراز الشهرة بین المتقدمین.

واما المقدمة الثانیة: فإنه علی تقدیر التسلیم بالمقدمة الأولی فلا یمکن الالتزام بالمقدمة الثانیة، لأنه لا طریق لنا إلی إحراز أن الشهرة الموجودة بین المتقدمین قد وصلت إلیهم من زمن الأئمة(ع) یدا بید وطبقة بعد الطبقة. أی إذا أحرزنا الشهرة بین المتقدمین بطریق ما ولکن لا طریق لنا إحراز حجیتها من خلال اتصالها بزمن المعصومین(ع)، وقد وصلت إلی المتقدمین من زمنهم(ع) بطریق معتبر حسی أو بالتواتر.

ص: 189

هذا مضافا إلی أنه لا بد من إحراز کون هذه الشهرة شهرة تعبدیة وأما إذا کان لها مدرک فلا أثر لها لأن حجیتها حینئذ مأخوذة من حجیة مدرکها.

جابریة عمل المشهور لضعف الروایة بحث الأصول

الموضوع: جابریة عمل المشهور لضعف الروایة

أما المقدمة الثانیة وهی وصول هذه الشهرة من زمن الأئمة(ع) إلی المتقدمین یدا بید وطبقة بعد الطبقة فعلی تقدیر تسلیم المقدمة الأولی وثبوت الشهرة بین المتقدمین علی العمل بالروایة الضعیفة إلا أن هذا الوصول بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علی ذلک ولا طریق لنا إلی إحراز أن هذه الشهرة ثابتة بین أصحاب الأئمة(ع) وأنها وصلت إلیهم یدا بید وطبقة بعد الطبقة بنحو التواتر أو لا أقل بطریق آحاد معتبر وحسی.

فإذاً لیس بإمکاننا إحراز أن هذه الشهرة مستندة علی العمل بخبر ضعیف کانت موجودة فی زمن أصحاب الأئمة(ع) ووصلت منهم إلی المتقدمین من أصحابنا یدا بید وطبقة بعد الطبقة او بطریق معتبر حسی.

هذا مضافا إلی أن هذه الشهرة لو کانت موجودة بین أصحاب الأئمة(ع) وأنها وصلت إلینا بطریق متواتر او یدا بید وطبقة بعد الطبقة أو بطریق آحاد معتبر لأشار متقدمی أصحابنا إلی ذلک جزما لأنهم أمناء علی الأحادیث وقد حافظوا علی طرق الأحادیث الواصلة إلیهم من زمن الأئمة(ع) طبقة بعد الطبقة ویدا بید کالشیخ الطوسی علیه الرحمة فقد بین ما وصل إلیه من الأحادیث الواصلة من زمن الأئمة(ع) بوسائط متعددة وکذلک الصدوق علیه الرحمة وغیره فلو کانت هذه الشهرة قد وصلت إلیهم من زمنهم(ع) یدا بید وطبقة بعد الطبقة أو بطریق معتبر حسی لأشاروا إلی ذلک فی کتبهم، مع أنه لا عین ولا أثر لمثل هذا فسکوتهم عن ذلک وعدم الإشارة إلیه دلیل علی عدم وصول مثل هکذا شهرة من أصحاب الأئمة(ع) بوسائط متعددة.

ص: 190

ودعوی أن عمل المشهور بروایة ضعیفة مستند إلی قرینة وتلک القرینة قد وصلت إلیهم من أصحاب الأئمة(ع) یدا بید وطبقة بعد الطبقة أو لا أقل بطریق معتبر حسی لا حدسی وهذه القرینة تدل علی صحة هذه الروایة الضعیفة وصادرة عنهم(ع).

هذه الدعوی مدفوعة لأن هذه القرینة لا تخلو إما أن تکون لفظیة أو لبیة ارتکازیة.

أما احتمال کونها قرینة لفظیة فیرد علیه أنها لو کانت موجودة لأشار إلیها أصحابنا المتقدمین فی کتبهم بطبیعة الحال کما هو شأنهم باعتبار أنهم أمناء علی الأحادیث، فعدم الإشارة إلیها دلیل علی عدم وجودها.

واما احتمال کونها قرینة لبیة ارتکازیة وهی موجودة بین أصحاب الأئمة(ع) وقد وصلت إلی المتقدمین فأیضا لا محالة لأشاروا إلیها وان العمل بهذه الروایة الضعیفة من جهة هذه القرینة، لأنها من الخصوصیات المهمة فی الروایات ویستبعد عدم الإشارة إلیها فی کتبهم، فعدم الإشارة إلیها دلیل علی عدم وجودها.

إلی هنا قد تبین أن ما هو المشهور بین الأصولیین من ان عمل مشهور المتقدمین بروایة ضعیفة جابر لضعفها سندا وموجب لدخولها تحت أدلة الاعتبار والحجیة لا یمکن المساعدة علیه.

واما المشهور بین المتأخرین فلا اثر له، واحتمال وصولها إلیهم من زمن أصحاب الأئمة(ع) غیر صحیح لأنها لو وصلت إلیهم لکان وصولها إلیهم من طریق المتقدمین لعدم إمکان وصولها إلیهم من غیر هذا الطریق وقد عرفت الأمر فیه مما سبق.

هذا من ناحیة أخری.

ومن ناحیة أخری أن إعراض المشهور عن روایة صحیحة هل یوجب سقوطها عن الاعتبار وخروجها عن أدلة الحجیة أو لا؟

والجواب عن ذلک: أن هنا قولین:

القول الأول: وهو المشهور بین الأصحاب أن الإعراض عن روایة صحیحة یوجب سقوطها عن الاعتبار وخروجها عن أدلة الحجیة وادلة الاعتبار.

ص: 191

القول الثانی: ما ذهب إلیه جماعة من المحققین ومنهم السید الاستاذ(قده) من عدم الأثر لإعراض المشهور فی ذلک. وما ذهب إلیه المشهور من أن الإعراض عن روایة صحیحة یوجب سقوطها عن الاعتبار فهو مبنی علی تمامیة مقدمتین:

المقدمة الأولی: أن یکون هذا الإعراض من قدماء الأصحاب الذین یکون عصرهم متصلا بعصر أصحاب الأئمة(ع).

المقدمة الثانیة: وصول هذا الإعراض من أصحاب الأئمة(ع) إلی المتقدمین.

ولکن کلتا المقدمتین غیر تامة.

أما الأولی: فلأنه لا طریق لنا إلی إثبات إعراض أصحابنا المتقدمین عن هذه الروایة الصحیحة سندا، إذ أن إحراز ذلک منوط بوصول إعراضهم إلی المتأخرین یدا بید وطبقة بعد الطبقة بنحو التواتر أو بطریق أحاد معتبر. وشیء منهما غیر موجود، لأنه لا طریق لنا إلی ذلک، إذ أن هذا الوصول منوط بأحد طریقین:

الطریق الأول: ان یکون هذا الوصول بطریق التواتر أو بطریق الآحاد المعتبر، وشیء من ذلک غیر موجود لأن کل مجتهد إذا رجع إلی کتب المتأخرین یری أنهم ینقلون آراء المتقدمین أو اختلافهم فی المسألة بدون الإشارة إلی مدرکها ومستندها او ینقلون الشهرة من المتقدمین او اجماعهم بطریق الآحاد الحدسی ولا یکون لهذا النقل أثر لأن نقل الإجماع الحدسی غیر مشمول لدلیل الاعتبار لاختصاصه بخبر الواحد الحسی دون الحدسی.

فمن أجل ذلک لا طریق لنا إلی إحراز إعراض أصحابنا المتقدمین عن روایة صحیحة سندا.

الطریق الثانی: ان یکون لکل واحد من المتقدمین کتاب استدلالی واصل إلینا.

ولکن الأمر لیس کذلک لأنه لم یصل إلینا کتاب استدلالی یحتوی علی هذه المسألة وغیرها من کل واحد من المتقدمین، إما لعدم وجود کتاب استدلالی لکل واحد منهم فی المسالة او کان ولکن لم یصل إلینا. وعلی کلا التقدیرین فلا طریق لنا إلی ذلک.

ص: 192

واما المقدمة الثانیة: فلا طریق لنا إلی إحراز أن هذا الإعراض قد وصل إلی المتقدمین من أصحاب الأئمة(ع) یدا بید وطبقة بعد الطبقة بنحو التواتر او بطریق آحاد معتبر حسی لا حدسی. لعدم شیء منهما.

ودعوی القرینة کما تقدم مدفوعة فی المقام فلو کانت هناک قرینة علی أن هذه الروایة لم تصدر من المعصومین(ع) لأشار إلیها المتقدمین، مع أنه لا عین ولا أثر لها فی کتب المتقدمین مع أن شانهم الحفاظ علی خصوصیات الروایات لأنهم الأمناء علی الروایات.

والحاصل ان إعراض المتقدمین عن روایة صحیحة لا أثر له ولا یوجب خروجها عن أدلة الاعتبار والحجیة، فما هو المشهور من ان إعراض القدماء عن روایة صحیحة سندا یوجب سقوطها عن الاعتبار لا أثر له ولا واقع موضوعی له.

فالصحیح هو ما ذکره السید الاستاذ(قده) صحاب الأئمة

جابریة عمل المشهور لضعف الروایة. بحث الأصول

الموضوع: جابریة عمل المشهور لضعف الروایة.

إلی هنا قد تبین امور:

الأمر الأول: ان محل الکلام إنما هو فی الشهرة بین قدماء الأصحاب واما الشهرة بین المتأخرین إذا لم تکن بین المتقدمین فلا أثر لها.

الأمر الثانی: أنه لیس بإمکاننا إثبات عمل المتقدمین بروایة ضعیفة ولا إعراضهم عن روایة صحیحة، فإن إثبات ذلک بحاجة إلی إثبات وصول هذا الإعراض والعمل إلیهم یدا بدی وطبقة بعدم الطبقة بنحو التواتر أو بطریق معتبر ولکن لم یکن الموجود فی کتب المتأخرین شیء من ذلک وإنما الموجود هو نقل الشهرة بخبر حدسی ونقل الإجماع بخبر حدسی وهو لا یکون حجة.

فإذاً الصغری غیر ثابتة ولیس بإمکاننا إثبات أن المشهور قد عملوا بروایة ضعیفة حتی یکون جابرا لضعف سندها ولا یمکن إثبات أن المشهور قد أعرضوا عن روایة صحیحة حتی یکون مسقطا لها عن الحجیة.

ص: 193

الأمر الثالث: علی تقدیر الصغری وهی ثبوت الشهرة بین القدماء إلا أنها فی نفسها لا تکون حجة فإن الشهرة الفتوائیة لا دلیل علی حجیتها بل لا دلیل علی حجیة الإجماع فضلا عن الشهرة الفتوائیة.

والدلیل علی حجیة هذه الشهرة إثبات أنها وصلت من زمن الأئمة(ع) إلیهم یدا بید وطبقة بعد الطبقة بنحو التواتر أو بطریق معتبر.

ولکن لا یمکن إحراز ذلک إذ لو وصلت الشهرة إلی القدماء من زمن أصحاب الأئمة(ع) لأشاروا إلی ذلک فی کتبهم لأنه حدث مهم مع انهم أمناء علی الروایات بلا فرق فی ذلک بین الشهرة التی تکون فی العمل بخبر ضعیف او الشهرة فی الإعراض عن خبر صحیح، ولکن لا عین ولا أثر لمثل ذلک، وهذا کاشف عن عدم الوصول.

وعلی هذا لا تکون الکبری ثابتة ولأجل ذلک لا أثر لدعوی الشهرة بین القدماء علی العمل بروایة ضعیفة أو إعراض المشهور عن روایة صحیحة فی المسألة.

نعم استثنی السید الاستاذ(قده) (1) ما إذا کان هناک تسالم بین أصحابنا المتقدمین والمتأخرین علی العمل بروایة ضعیفة او تسالم علی الإعراض عن روایة صحیحة، فإنه یمکن علی ذلک القول بأن الأول جابر لضعف السند والثانی مسقط لها عن الحجیة.

ولکن للمناقشة فیه أیضا مجال:

أولاً: انه لیس لنا طریق إلی إحراز هذا التسالم، إذ لو فرض إحراز مثل هذا التسالم بین المتأخرین فکیف یمکن إحرازه بین المتقدمین والحال أنه لیس فی کتب المتأخرین إشارة إلی وجود مثل هذا التسالم بین المتقدمین وإنما الحاصل من المتأخرین هو نقل التسالم بالحدس والاجتهاد وهو لا یکون حجة والمفروض أنه لا یوجد لکل واحد من المتقدمین کتاب استدلالی حول هذه المسألة وامثالها حتی نرجع إلی کتبهم ونعرف من خلالها آرائهم ومدرکها او کانت لهم کتب ولکن لم تصل إلینا.

ص: 194


1- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج2، ص203.

ولو فرضنا وجود مثل هکذا تسالم ولکن احتمال أنه تسالم تعبدی بین القدماء والمتأخرین معا بعید جدا لأنه یمکن ان یکون مبنی علی الحدس أو حسن الظن أو علی حجیة الظن المطلق أو ما شاکل ذلک.

وعلی کل حال لا یمکن إثبات أن هذا التسالم تعبدی.

ولو فرض أنه تعبدی ولکن لا یمکن ان یکون کاشفا عن أنه وصل إلینا من زمن الأئمة(ع) او یکون کاشفا عن وجود الإمام(ع) بین المجمعین، إذ لا طریق لنا إلی ذلک.

فالنتیجة أنه لا یمکن الاعتماد علی هذا التسالم علی تقدیر ثبوته بین الأصحاب المتقدمین والمتأخرین منهم.

هذا تمام کلامنا فی أدلة حجیة أخبار الآحاد.

وقد ظهر من خلال ذلک أن عمدة الدلیل علی حجیة اخبار الآحاد کأخبار الثقة السیرة القطعیة من العقلاء الجاریة علی العمل بأخبار الثقة، ولم یرد ردع عنها من قبل المعصومین(ع) وهذا یعنی أنها ممضاة شرعا.

واما سائر الأدلة من الروایات والآیات والاجماع وسیرة المتشرعة جمیعا لو کانت تامة فمفادها التأکید للسیرة العقلائیة ولما بنی علیه العقلاء لا التأسیس.

وبعد ذلک یقع الکلام فی دلیل الانسداد

وهذا الدلیل وهو وإن لم یترتب علیه أی أثر عملی ولکن یترتب علیه أثر علمی لأنه دلیل یقام علی حجیة مطلق الظن وهو متأخر عن الأدلة الخاصة التی تدل علی حجیة الأمارات الخاصة کأخبار الثقة وظواهر الالفاظ وأن هذا الدلیل فی طول تلک الأدلة ومبنی علی عدم حجیة الأدلة الخاصة القائمة علی اعتبار الأخبار الخاصة کروایات الثقة، ولکن بما أن الأدلة الخاصة تامة علی حجیة أخبار الثقة وظواهر الالفاظ فعندئذ لا فائدة عملیة لهذا البحث ولکن یترتب علیه أثر علمی ولهذا نقتصر فی هذا البحث علی أرکانه ومسائله المهمة ونترک الفروع المبنیة علی التقدیر والفرض فقط.

ص: 195

ثم ان هذا الدلیل مرکب من مقدمات ویقع الکلام فی هذه المقدمات فی عدة جهات:

الجهة الأولی: فی بیان هذه المقدمات کما وکیفا.

الجهة الثانیة: فی صحة هذه المقدمات وعدم صحتها کلا او بعضا.

الجهة الثالثة: فی نتیجة هذه المقدمات هل هی الحکومة او الکشف.

الجهة الرابعة: أیضا فی نتیجة هذه المقدمات هل هی مهملة او مطلقة.

اما الکلام فی الجهة الأولی: فقد ذکر شیخنا الأنصاری (1) ووافقه السید الاستاذ(قدهما) (2) علی أن دلیل الانسداد مرکب من أربع مقدمات:

المقدمة الأولی: العلم الإجمالی بثبوت أحکام إلزامیة فی الشریعة المقدسة ودائرة أطراف هذا العلم الإجمالی دائرة الشریعة سواء کانت هناک إمارة أم لم تکن هناک امارة.

المقدمة الثانیة: بما ان العلم الوجدانی بمعظم الأحکام الشرعیة منسد لأن معظم الأحکام الشرعیة أحکام نظریة وإثباتها بحاجة إلی عملیة الاجتهاد والاستنباط وتطبیق القواعد العامة الأصولیة علی عناصرها الخاصة لتکون النتیجة مسألة فقهیة کوجوب شیء أو حرمة شیء او ما شاکلهما.

واما الأحکام الضروریة والأحکام القطعیة فهی قلیلة جدا ولا یتوقف إثبات الأحکام الضروریة علی الاجتهاد لأن ثبوتها ضروری ولا تحتاج إلی أی مقدمة لأجل إثباتها وکذلک الأحکام القطعیة لأن القطع یتعلق بالحکم مباشرة وبدون أی واسطة، ومن هنا کانت نسبة الأحکام الضروریة والقطعیة إلی المجتهد والعامی علی حد سواء فلا یرجع العامی إلی المجتهد فی الأحکام الضروریة والأحکام القطعیة وإنما یرجع إلیه فی الأحکام النظریة لأن إثباتها یتوقف علی عملیة الاستنباط والاجتهاد.

و حیث أن الأحکام الضروریة والقطعیة نسبتها تقریبا لا تتجاوز 6% أو أقل أو أکثر بالنسبة إلی الأحکام النظریة فهی قلیلة جدا ولا یمکنها حل مشاکل الإنسان الاجتماعیة والفردیة والمادیة والمعنویة والعائلیة والاقتصادیة وما شاکل ذلک. فمن أجل ذلک نحتاج إلی إثبات الأحکام النظریة بعملیة الاجتهاد والاستنباط وتطبیق القواعد العامة الأصولیة علی عناصرها الخاصة لتکون نتیجتها مسألة فقهیة کالوجوب او الحرمة ونحوهما.

ص: 196


1- فرائد الاصول، الشیخ الانصاری، ج1، ص384.
2- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج2، ص219.

المقدمة الثالثة: عدم إمکانیة الاحتیاط التام فی أطراف هذا العلم الإجمالی من المظنونات والمشکوکات والموهومات جمیعا، ولو تنزلنا وقلنا بإمکان مثل هذا الاحتیاط عقلا إلا أنه غیر واجب لاستلزامه العسر والحرج. فعلی کلا التقدیرین لا یکون هذا الاحتیاط واجب.

المقدمة الرابعة: یدور الأمر بین تقدیم المظنونات علی المشکوکات والموهومات وبالعکس وحیث ان العکس یستلزم ترجیح المرجوح علی الراجح فیتعین تقدیم المظنونات علی المشکوکات والموهومات. فلا بد من العمل بالظن.

هذا ما ذکره شیخنا الأنصاری(قده) ووافقه علیه السید الاستاذ(قده).

وقد زاد صاحب الکفایة(قده) مقدمة خامسة لیصبح دلیل الانسداد عبارة عن خمس مقدمات.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

ذکرنا ان دلیل الانسداد علی ما ذکره شیخنا الأنصاری ووافقه علیه جماعة منهم السید الاستاذ(قده) انه مرکب من أربع مقدمات:

المقدمة الأولی: العلم الإجمالی بثبوت احکام إلزامیة فی الشریعة المقدسة، ومنشأ هذا العلم الإجمالی هو الإیمان بالشریعة ولا معنی للشریعة إلا جعل الأحکام الشرعیة فیها.

المقدمة الثانیة: أن باب العلم الوجدانی منسد بمعظم الأحکام الفقهیة وأما باب العلمی وهو حجیة الروایات فأیضا منسد بمعظم الأحکام الفقهیة.

المقدمة الثالثة: ان الاحتیاط التام لا یمکن عقلا أو شرعا لاستلزامه العسر والحرج.

المقدمة الرابعة: ان الأصول المؤمنة لا تجری فی اطراف العلم الإجمالی لا کلا ولا بعضا، إذ جریانها فی الجمیع یستلزم المخالفة القطعیة العملیة، وجریانها فی بعضها دون بعضها الآخر ترجیح من غیر مرجح.

وزاد المحقق الخراسانی مقدمة أخری وذکر أن دلیل الانسداد مرکب من خمس مقدمات:

الأولی: العلم الإجمالی بثبوت الأحکام الالزامیة فی الشریعة المقدسة.

الثانیة: انسداد باب العلم والعلمی فی معظم الأحکام الفقهیة.

الثالثة: انه لا یجوز إهمال هذه الأحکام وترک امتثالها، وهذه هی المقدمة التی زادها المحقق الخراسانی(قده) (1) .

ص: 197


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص311.

المقدمة الرابعة: تعذر الاحتیاط التام إما بحکم العقل او بحکم الشرع.

المقدمة الخامسة: عدم جریان الأصول المؤمنة فی أطراف العلم الإجمالی لا کلا ولا بعضا.

وقد أشکل السید الاستاذ (1) علی ما ذکره المحقق الخراسانی(قدهما) ان المقدمة الثالثة لیست مقدمة مستقلة فی مقابل المقدمة الأولی بل هی فی طول المقدمة الأولی أی أن المقدمة الأولی متضمنة للمقدمة الثالثة لأن العلم الإجمالی بثبوت أحکام إلزامیة فی الشریعة المقدسة یوجب تنجزها ومع تنجز هذه الأحکام بالعلم الإجمالی فبطبیعة الحال لا یجوز إهمالها، فعدم إهمالها لیس مقدمة مستقلة فی عرض المقدمة الأولی.

هذا ما ذکره السید الاستاذ(قده)، وهو متین.

ولکن ما ذکره وارد ایضا علی ما وافق فیه الشیخ الأنصاری لأن المقدمة الرابعة أیضا داخلة فی المقدمة الأولی، لتضمنها للمقدمة الرابعة ولیست مقدمة مستقلة فی عرض المقدمة الأولی بل هی فی طولها؛ فإن العلم الإجمالی إذا کان منجزا للمعلوم بالإجمال فی أطرافه فلازم ذلک عدم جریان الأصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی، فنفس العلم الإجمالی یتضمن عدم جریان الأصول العملیة المؤمنة فی أطرافه.

فالصحیح أن دلیل الانسداد مرکب من ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولی: العلم الإجمالی بثبوت الأحکام الالزامیة.

المقدمة الثانیة: انسداد باب العلم والعلمی بمعظم الأحکام الشرعیة.

المقدمة الثالثة: ان التبعیض فی الاحتیاط لا یمکن بعد عدم إمکانیة الاحتیاط التام فی تمام أطراف العلم الإجمالی. لأن التبعیض هو إما ترجیح الاحتیاط فی المظنونات علی الاحتیاط فی المشکوکات والموهومات او بالعکس، وحیث إن العکس وهو تقدیم الاحتیاط فی المشکوکات والموهومات علی الاحتیاط فی المظنونات ترجیح للمرجوح علی الراجح وهو لا یمکن فلا بد من تقدیم الاحتیاط فی المظنونات علی المشکوکات.

ص: 198


1- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج2، ص219.

والنتیجة هی وجوب العمل بالظن فی الأحکام الشرعیة ولا یجوز العمل بالشک والوهم.

الکلام فی الجهة الثانیة

فلا شبهة فی العلم الإجمالی بثبوت الأحکام الالزامیة فی الشریعة المقدسة وإنما الکلام فی تنجیز هذا العلم الإجمالی، فقد یقال کما قیل: إن هذا العلم الإجمالی غیر منجز، لأن المانع عن تنجیزه موجود وهو اضطرار المکلف إلی ارتکاب الشبهات، لأن فی کل فعل یرتکبه المکلف یحتمل فی حقه الوجوب أو الحرمة او غیرهما، لأن أطراف هذا العلم الإجمالی جمیع الشبهات سواء أ کانت هناک امارة أم لم تکن امارة.

وعلی هذا فکل فعل یرتکبه المکلف یحتمل وجوبه کما یحتمل حرمته، وهذا الاضطرار یکون مانعا عن تنجیز العلم الإجمالی، إذ قد ذکر أن الاضطرار إلی ارتکاب بعض أطراف العلم الإجمالی مانع عن تنجیزه.

والجواب عن ذلک:

أولاً: ان المانع عن تنجیز العلم الإجمالی هو الاضطرار إلی الطرف المعین واما الاضطرار إلی غیر المعین فلا یکومن مانعا کما إذا فرض العلم الإجمالی بأنه إما الإناء الغربی خمر أو الإناء الشرقی خمر فیعلم إجمالا بأن أحد الإناءین خمر فإذا اضطر المکلف إلی شرب أحدهما فهذا الاضطرار لا یکون مانعا عن التنجیز لأن هذا الاضطرار لا یتعلق بما تعلق به التکلیف وهو الحرمة باعتبار أن الحرمة إنما تعلقت بشرب الإناء الغربی بحده او بشرب الإناء الشرقی بحده ولم تتعلق الحرمة بالجامع بینهما، مع ان متعلق الاضطرار الجامع وعلی هذا فلم یتعلق الاضطرار بما تعلق به التکلیف، ولهذا لا أثر له.

وتطبیق هذا الاضطرار علی أحدهما لا یوجب انحلال العلم الإجمالی وهذا نظیر ما إذا علم بنجاسة أحد الإناءین وشرب أحدهما اضطرارا فإن هذا الاضطرار لا یوجب انحلال العلم الإجمالی لأن العلم الإجمالی بعد الشرب أیضا باق ولا ینحل بشرب أحدهما، بل هو موجود فی نفس المکلف.

ص: 199

وهذا بخلاف ما إذا کان الاضطرار إلی المعین کما إذا اضطر إلی شرب الإناء الشرقی فقط فإن یوجب انحلال العلم الإجمالی لأن الحرمة إذا کانت متعلقة بشرب الإناء الشرقی فقد ارتفعت بالاضطرار فبطبیعة الحال یکون الشک فی حرمة شرب الإناء الغربی شک بدوی فلا مانع من الرجوع إلی الأصول المؤمنة کأصالة البراءة او استصحاب عدم التکلیف.

واما إذا کان الاضطرار إلی غیر المعین فهو لا یکون موجبا لانحلال العلم الإجمالی.

وثانیا: علی تقدیر تسلیم ان الاضطرار إلی غیر المعین یوجب انحلال العلم الإجمالی کما بنی علیه صاحب الکفایة(قد) ولکن لا یکون هذا الاضطرار موجبا لانحلال العلم الإجمالی ومانعا عن تنجیزه لأن الاضطرار تعلق بفئة خاصة من الشبهات اما الشبهات التی هی خارجة عن دائرة الاضطرار فهی کثیرة والعلم الإجمالی بثبوت أحکام إلزامیة فیها موجود وهو منجز فإن المعلوم بالإجمال بتمامه لا ینطبق علی المضطر إلیه فالاضطرار إنما یوجب الانحلال إذا کان المعلوم بالإجمال بتمامه منطبقا علی المضطر إلیه.

وما نحن فیه لیس کذلک فإن دائرة المعلوم بالإجمال أوسع بکثیر من دائرة الاضطرار.

وعلیه لا یکون هذا الاضطرار مانعا عن تنجیز العلم الإجمالی وموجبا لانحلاله.

هذا من ناحیة

ومن ناحیة أخری قد تقدم سابقا أن هنا علوم إجمالیة ثلاثة:

العلم الإجمالی الأول: وهو العلم الإجمالی بثبوت أحکام إلزامیة فی الشریعة المقدسة ودائرة هذا العلم الإجمالی اوسع من دائرة الأمارات أی سواء کانت هناک امارة أم لم تکن.

العلم الإجمالی الثانی: هو العلم الوسط وهو العلم بثبوت أحکام إلزامیة فی دائرة الأمارات فقط.

العلم الإجمالی الثالث: وهو العلم الصغیر وهو العلم الإجمالی بثبوت أحکام إلزامیة فی الشریعة المقدسة فی دائرة فئة خاصة من الأمارات کأخبار الثقة وظواهر الالفاظ او الأخبار الموجودة فی الکتب المعتبرة.

ص: 200

وقد تقدم سابقا ان العلم الإجمالی الکبیر ینحل بالعلم الإجمالی الوسط والعلم الإجمالی الوسط ینحل بالعلم الإجمالی الصغیر. وعلیه لیس لنا علم إجمالی بثبوت أحکام إلزامیة فی خارج دائرة أخبار الثقة وظواهر الالفاظ، فالمعلوم بالإجمال منحصر فی دائرة أخبار الثقة وظواهر الالفاظ.

هذا کله فی المقدمة الأولی.

واما المقدمة الثانیة: فلا شبهة فی أن العلم الوجدانی بمعظم الأحکام الفقهیة منسد ولکن لیس الأمر کذلک بالنسبة إلی العلم التعبدی لجریان السیرة العملیة القطعیة من العقلاء علی العمل بأخبار الثقة وظواهر الالفاظ. فأخبار الثقة حجة وظواهر الالفاظ حجة.

وعلی هذا فباب العلم التعبدی لا یکون منسدا

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

اما المقدمة الثانیة: فلا شبهة فی أن باب العلم الوجدانی منسد بمعظم الأحکام الفقهیة حتی للحاضرین فی زمن النبی الأکرم(ص) لعدم تمکن کل واحد من المسلمین آنذاک من الوصول إلیه(ص) والسؤال منه مباشرة فلا محال یکون وصول الأحکام الشرعیة إلیه من قبل الثقات، بل حتی لو کان قد سمع الحکم من قبل النبی الأکرم(ص) مباشرة فإنه یحتمل اشتباهه فی الفهم ومعه لا یحصل له الیقین بالحکم الشرعی.

وعلی هذا فتحصیل الیقین الوجدانی بالأحکام الشرعیة الفقهیة غیر ممکن لکل احد حتی الحاضرین فی مجلس النبی الأکرم(ص) وحینئذ لا شبهة فی انسداد باب العلم الوجدانی بالحکم الشرعی.

واما باب العلمی فهو غیر منسد لما تقدم من دلالة الدلیل علی ذلک وهو قیام السیرة العقلائیة الممضاة شرعا واما الآیات والروایات والاجماعات المنقولة فهی مؤکدة لها ولیس هی تأسیس.

ولو سلم انسداد باب العلمی أیضا ولا دلیل علی حجیة أخبار الثقة إما لعدم قیام السیرة علیها وإما لقیام السیرة ولکنها غیر ممضاة شرعا واما الآیات والروایات فهی قاصرة الدلالة علی ذلک وکذلک یمکن القول بانسداد باب العلمی لو فرض أن الأدلة لا تشمل ظواهر الالفاظ ومنها ظواهر أخبار الثقة، فتکون الحجة هی أخبار الثقة ذات الدلالة القطعیة، ومن الواضح أن مثل هذه الأخبار لو وجدت فهی قلیلة جدا ولا تکفی لشطر من الأحکام الفقهیة وجریان عملیة الاستنباط فی جمیع المسائل الفقهیة، وکذلک لو فرضنا ان الدلیل علی حجیة ظواهر الالفاظ موجود ومنها ظواهر أخبار الثقة ولکن لا دلیل علی حجیة سندها إما من جهة المناقشة فی الکبری وانه لا دلیل علی حجیة أخبار الثقة کالسیرة العقلائیة إما لعدم وجودها أو لعدم إمضائها وأما الآیات والروایات فلا تدلان علی حجیة أخبار الثقة سندا.

ص: 201

أو من جهة الصغری کما لو فرض المناقشة فی توثیقات جماعة من أکابر الفقهاء المتقدمین والمحدثین کالشیخ الطوسی(قده) لأصحاب الأئمة(ع) لأن توثیقات هؤلاء لا محالة تکون من خلال الواسطة وهذه الواسطة مجهولة لنا، فتدخل هذه التوثیقات فی المرسلات وهی لا تکون حجة.

وحینئذ لا یمکن لنا إثبات حجیة أخبار الثقة سندا، ومن الواضح أن أخبار الثقة التی یکون سندها قطعیا قلیلة جدا ولا تکفی لشطر من المسائل الفقهیة.

وعلی هذا یکون باب العلمی منسد إما لأنه لا دلیل علی حجیة أخبار الثقة سندا ودلالة أو لا دلیل علی حجیتها سندا أو لا دلیل علی حجیتها دلالة فقط، فعلی جمیع التقادیر یکون باب العلمی منسد.

وعلی هذا تکون المقدمة الثانیة تامة أی انسداد باب العلم الوجدانی وباب العلمی.

واما المقدمة الثالثة: فهی مبنیة علی تمامیة المقدمة الثانیة وهی انسداد باب العلم والعلمی فلا محالة تصل النوبة إلی العمل بالعلم الإجمالی لأنه لا شبهة فی تنجیز العلم الإجمالی للمعلوم بالإجمال فی تمام أطرافه بلا فرق بین المشکوکات والموهومات والمظنونات، وحیث إن الاحتیاط التام إما مستحیل لأنه یستلزم الإخلال بالنظام أو انه یوجب العسر والحرج فهو غیر واجب فلا بد من التبعیض فی الاحتیاط.

هذا إذا لم نقل بانحلال العلم الإجمالی.

وأما إذا قلنا بانحلال العلم الإجمالی الکبیر بالعلم الإجمالی المتوسط وانحلال العلم الإجمالی المتوسط بالعلم الإجمالی الصغیر وهو العلم الإجمالی بثبوت الأحکام الالزامیة فی الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة او روایات الثقات فعندئذ لا یلزم محذور اختلال النظام ولا محذور لزوم العسر والحرج، فلا مانع من الاحتیاط فی موارد أخبار الثقة فی جمیع أبواب الفقه، فعندئذ لا مبرر للتبعیض فی الاحتیاط، إذ التبعیض فی الاحتیاط یبرر بأحد أمرین: إما لزوم اختلال النظام او لزوم العسر والحرج، ومع عدم لزوم شیء منهما فلا موجب للتبعیض فی الاحتیاط.

ص: 202

ومع الإغماض عن ذلک والتسلیم بعدم انحلال العلم الإجمالی الکبیر او التسلیم بانحلاله ولکن الاحتیاط التام فی جمیع الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة او روایات الثقات یستلزم العسر والحرج وعندئذ هل یجب التبعیض فی الاحتیاط أو لا یجب؟

والظاهر أنه لا موجب للتبعیض فی الاحتیاط لأن کل واحد من المحذورین المتقدمین لا یمنع عن أصل وجوب الاحتیاط إذ هو واجب علی المکلف بمقتضی العلم الإجمالی ولکن إذا قام بالاحتیاط واستمر علیه ولکن وصل إلی حد یوجب العسر والحرج أو اختلال النظام فعندئذ لا یجب أو لا یجوز الاحتیاط فی المقدار الزائد واما أصل وجوب الاحتیاط من الأول فلیس فیه أی محذور من المحذورین المتقدمین فلهذا یجب علی المکلف الاحتیاط فی جمیع الشبهات سواء کان الحکم فی تلک الشبهات مظنونا او مشکوکا او موهوما لأن هذا الحکم منجز بالعلم الإجمالی لأن نسبة العلم الإجمالی إلی جمیع هذه المحتملات نسبة واحدة فکما انه منجز للحکم المظنون کذلک هو منجز للحکم المشکوک والحکم الموهوم، فلا تمییز فی تنجیز العلم الإجمالی لاحتمال التکلیف فی جمیع أطرافه، کما لو فرض العلم الإجمالی بنجاسة أحد أوانی عشرة وبالطبع احتمال النجاسة متفاوت بین هذه الآنیة العشرة ففی بعضها یکون احتمال النجاسة علی حد الظن وفی ببعضها الآخر مشکوک وفی بعضها الثالث موهوم ولکن العلم الإجمالی منجز لجمیع هذه الاحتمالات فیجب علی المکلف الاجتناب عن جمیع هذه الآنیة العشرة، لأن نسبة العلم الإجمالی إلی جمیع هذه الأطراف نسبة واحدة ودلیل الاحتیاط بحکم العقل لا یدل علی التمییز بین المظنونات والمشکوکات والموهومات، فإن الواجب علی المکلف الاحتیاط من الأول سواء فی المشکوکات او فی المظنونات او فی الموهومات إلی ان یصل إلی حد لزوم الحرج والعسر فعندئذ لا یجب علیه الاحتیاط او یصل إلی حد اختلال النظام فعندئذ لا یجوز الاحتیاط.

ص: 203

فما هو المشهور بین الأصحاب من لا بدیة التبعیض فی الاحتیاط بأن یجب الاحتیاط فی المظنونات وترک الاحتیاط فی المشکوکات والموهومات لأن العکس ترجیح من غیر مرجح إنما یتم لو کان دلیل وجوب الاحتیاط یدل علی التمییز بین المحتملات وقد عرفت عدم دلالتها علی ذلک لأن نسبة العلم الإجمالی إلی جمیع الاحتمالات نسبة واحدة بلا فرق بین الظن والشک والوهم لأن الظن إذا لم یکن حجة فحاله حال الشک والوهم ولا مزیة له علی الشک والوهم وحینئذ یجب الاحتیاط علی المکلف من الأول فی الشبهات التحریمیة والوجوبیة لأنه لا یستلزم العسر والحرج او اختلال النظام إلی أن یصل إلی حد لزوم الحرج والعسر فعندئذ لا یجب أو إلی ان یصل إلی حد اختلال النظام فعندئذ لا یجوز.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

ذکرنا ان العلم الإجمالی الکبیر إذا فرضنا أنه غیر منحل فهو یقتضی الاحتیاط التام فی المظنونات والمشکوکات والموهومات جمیعا وهو غیر ممکن إما عقلا من جهة استلزامه اختلال النظام أو شرعا لاستلزامه العسر والحرج فعندئذ لا بد من التبعیض فی الاحتیاط، ومن الواضح ان العلم الإجمالی لا یقتضی التبعیض فإن نسبة العلم الإجمالی إلی جمیع المحتملات علی حد سواء فهو یوجب تنجیز الحکم المحتمل سواء کان الحکم المحتمل مظنونا او کان مشکوکا أم کان موهوما، ولزوم العسر والحرج واختلال النظام لا یمنع عن أصل لزوم الاحتیاط. فیجب علی الفقیه الاحتیاط فیما لا عسر أو لا حرج او لا اختلال للنظام فیه، وهذا إنما یکون فی ناهیة الشوط لا فی أوله.

وعلیه فکما یجب علی المکلف الاحتیاط فی المظنونات کذلک یجب علیه الاحتیاط فی المشکوکات والموهومات لأن احتمال التکلیف منجز فی الموهومات والمشکوکات کما هو منجز فی المظنونات وعلی هذا فلیس للمکلف ترک الاحتیاط فی المشکوکات لأن احتمال التکلیف فیه منجز من جهة العلم الإجمالی وموجب لاستحقاق العقوبة علی مخالفته.

ص: 204

فالتبعیض وتقدیم الاحتیاط فی المظنونات علی الاحتیاط فی المشکوکات والموهومات بحاجة إلی مقدمة أخری وإلا فالعلم الإجمالی لا یقتضی التبعیض.

والمقدمة الأخری: هی حکم العقل بتطبیق وجوب الاحتیاط فی المظنونات وترکه فی المشکوکات والموهومات لأن العکس یستلزم بنظر العقل ترجیح المرجوح علی الراجح، ولأجل ذلک یحکم العقل بالتبعیض.

ویمکن تخریج ذلک بوجوه:

الوجه الأول: أن الاحتیاط التام لا یمکن من جهة استلزامه اختلال النظام او انه غیر واجب شرعا من جهة استلزامه العسر والحرج ولکن من جهة قوة احتمال الظن من ناحیة وعدم سقوط العلم الإجمالی فی المقام من ناحیة اخری یحکم العقل بصرف تنجیز العلم الإجمالی من المشکوکات والموهومات إلی المظنونات وحینئذ لا یکون العلم الإجمالی بنظر العقل منجزا فی المشکوکات والموهومات.

والجواب عن ذلک: أن الظن إذا لم یکن حجة شرعا فکما لا یثبت مدلوله شرعا فکذلک لا یوجب صرف تنجیز العلم الإجمالی عن المشکوکات والموهومات إلی المظنونات بحسب الصناعة.

والنکتة فی ذلک أن للعلم الإجمالی مراتب ثلاث:

المرتبة الأولی: مرتبة المقتضی، وهو العلم الإجمالی.

المرتبة الثانیة: وهی مرتبة المانع أی عدم جریان الأصول المؤمنة فی أطرافه.

المرتبة الثالثة: مرتبة التنجیز أی تنجیز المعلوم بالإجمال.

أما انحلال العلم الإجمالی فی مرتبة المقتضی فهو انحلال حقیقی کما لو علم إجمالا بنجاسة أحد إناءین: أسود او أبیض ثم علمنا تفصیلا أن الأسود قد طهر بإصابة المطر أو باتصاله بالکر أو بالماء الجاری، فالعلم الإجمالی حینئذ ینحل حقیقة إلی علم تفصیلی بطهارة الإناء الأسود وشک بدوی فی نجاسة الإناء الأبیض، وحینئذ لا یکون لنا علم إجمالی فی النفس لأن الموجود فی النفس هو العلم التفصیلی والشک البدوی، واما العلم الإجمالی فقد زال حقیقة ولا محالة حینئذ یزول أثره وهو التنجیز، ولا یعقل بقاء أثره مع زوال المؤثر لأن بقاء المعلول مع زوال العلة غیر معقول، والتنجیز معلول للعلم الإجمالی فمع زوال العلم الإجمالی بانحلاله لا محالة یزول أثره وهو التنجیز.

ص: 205

واما انحلال العلم الإجمالی فی مرتبة المانع وهو جریان الأصل المؤمن فهو انحلال حکمی ولیس حقیقیا کما إذا فرضنا فی المثال المذکور العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین: الأسود والأبیض وعلمنا أن الأسود مسبوق بالطهارة وعندئذ لا مانع من استصحاب بقاء طهارة الإناء الأسود وبذلک ینحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی تعبدی وشک بدوی فی نجاسة الإناء الأبیض إلا أن هذا الانحلال لیس انحلالا حقیقیا لأن العلم الإجمالی موجود فی نفس الإنسان بل هوم انحلال حکمی أی انحلال بحکم الشارع، وکذلک لو قامت البینة علی طهارة الإناء الأسود أو أخبر الثقة بها، وعندئذ لا مانع من الرجوع إلی الأصل المؤمن کأصالة الطهارة او استصحاب عدم النجاسة فی الإناء الأبیض لأن حکم الشارع بالانحلال یعنی انتفاء أثر العلم الإجمالی بالتنجیز ولا یعقل بقاء الأثر بدون مؤثر بعد حکم الشارع بانتفاء المؤثر.

واما الانحلال فی مرتبة التنجیز بان یکون العلم الإجمالی منجزا للحکم المحتمل فی موارد الظن به أی فی المظنونات ولا یکون منجزا فی المشکوکات والموهومات وهو غیر معقول مع عدم الانحلال فی مرتبة المقتضی وعدم الانحلال فی مرتبة المانع، لأن هذا هو معنی رفع المعلول مع بقاء العلة وهو مستحیل، أی الانحلال فی مرتبة التنجیز مع بقاء العلم الإجمالی فی مرتبة الاقتضاء فی النفس وبقاءه فی مرتبة الشرط مستحیل لأن معناه رفع المعلول مع بقاء العلة وانفکاکه عنها وهو مستحیل.

فلا یعقل أن یکون هذا الظن موجبا لانحلال العلم الإجمالی فی مرتبة التنجیز مع بقاء العلم الإجمالی فی مرتبة الاقتضاء وبقاءه فی مرتبة المانع، فیستحیل ان یوجب هذا الظن صرف تنجیز العلم الإجمالی عن المشکوکات والموهومات علی المظنونات. لأن العلم الإجمالی إما علة تامة للتنجیز او هو مقتض لذلک.

ص: 206

أما کونه علة تامة للتنجیز فلا یتصور المانع أصلا، لأن المانع غیر متصور عن تأثیر العلة التامة لأن معنی العلة التامة أنه لا مانع فی البین ففرض وجود المانع خلف، وعلیه فإذا کان العلم الإجمالی علة تامة لتنجیز المعلوم بالإجمال فی تمام أطرافه فالمانع غیر متصور سواء کان من الأصول العملیة أم کان من غیرها.

واما إذا کان العلم الإجمالی منجزا للحکم بنحو الاقتضاء فأیضا کذلک لأن المقتضی وهو العلم الإجمالی موجود والشرط وهو صلاحیة العلم الإجمالی للتنجیز موجود أیضا والمانع مفقود فإن المانع هو جریان الأصول المؤمن فی أطرافه وهی إما أنها لا تجری فی نفسها او انها تجری ولکن تسقط من جهة المعارضة فالمانع مفقود حینئذ، وعلی هذا لا محالة یکون تأثیر العلم الإجمالی فی التنجیز بنحو العلة التامة، وعندئذ لا یعقل الانحلال فی التنجیز طالما هو معلول للعلة التامة والانحلال فیه معناه التفکیک بین المعلول وبین العلة التامة.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

ذکرنا أن العلم الإجمالی علی القول بأنه علة تامة للتنجیز لا یتصور المانع عنه لا الأصول العملیة المؤمنة ولا غیرها فإن فرض وجود المانع لا ینسجم مع فرض کونه علة تامة لأن معنی کونه علة تامة أنه لا یوجد مانع فی البین، ففرض وجود المانع عن تنجیز العلم الإجمالی علی القول بأنه علی تامة لا یتصور.

واما علی القول بأن تنجیز العلم الإجمالی یکون بنحو الاقتضاء فعندئذ یقتضی العلم الإجمالی تنجیز المعلوم بالإجمال ولکنه مشروط بأن یکون العلم الإجمالی متعلقا بالتکلیف الفعلی الموجه إلی المکلف علی جمیع التقادیر أی سواء أ کان فی هذا الطرف أو فی ذاک الطرف، فإذا فرض خروج بعض أطراف العلم الإجمالی عن محل الابتلاء فعندئذ لا یکون شرط تنجیز العلم الإجمالی متوفرا، لأن العلم الإجمالی وإن تعلق بالتکلیف إلا أنه لا یکون موجها إلی المکلف علی جمیع التقادیر فإن الطرف الذی یکون خارجا عن محل الابتلاء إذا کان متعلقا للتکلیف فهو غیر موجه إلی المکلف.

ص: 207

فالخروج عن محل الابتلاء دخیل فی اتصاف العلم الإجمالی بالتنجیز فهو بمثابة الشرط لذلک ومن هنا إذا کان المعلوم بالإجمال تکلیفا فعلیا وموجها إلی المکلف علی جمیع التقادیر یکون شرط تنجیز العلم الإجمالی متوفرا وحینئذ نرجع لنری المانع عن تأثیر العلم الإجمالی فی التنجیز هل یوجد او لا یوجد؟ والمانع المتصور هو جریان الأصول العملیة المؤمنة کأصالة البراءة ونحوها فإنْ لم تجر هذه الأصول إما من جهة قصور المقتضی بمعنی أن أدلة هذه الأصول قاصرة الدلالة عن الشمول لأطراف العلم الإجمالی ومنصرفة عنها فعندئذ لا مقتضی لجریان الأصول المؤمنة فی أطراف العلم الإجمالی، وأما من جهة سقوطها بالمعارضة فعندئذ یکون تأثیر العلم الإجمالی فعلی أی یکون العلم الإجمالی بنحو العلة التامة للتنجیز لأن المقتضی للتنجیز موجود وهو العلم الإجمالی والشرط متوفر وهو تعلق العلم الإجمالی بالتکلیف الموجه الی المکلف علی کل تقدیر والمانع مفقود، وعندئذ یکون تأثیره فی تنجیز المعلوم بالإجمال فی جمیع أطرافه بنحو العلة التامة.

وعلی هذا فلا یعقل التبعیض أی لا یعقل أن لا یکون العلم الإجمالی منجزا للمشکوکات والموهومات ویکون منجزا للمظنونات فقط وإلا لزم انفکاک المعلول عن العلة التامة وهو مستحیل.

فإذاً تنجیز العلم الإجمالی بعد توفر الشرط وعدم المانع یکون بنحو العلة التامة فلا یعقل أن یکون الظن غیر المعتبر موجبا لصرف التنجیز عن المشکوکات والموهومات إلی المظنونات.

الوجه الثانی: __ من التخریج __ أن أطراف العلم الإجمالی فی المقام تنقسم إلی ثلاث فئات:

الفئة الأولی: المظنونات.

الفئة الثانیة: المشکوکات.

الفئة الثالثة: الموهومات. غایة الأمر أن الموهومات عدمها مظنون فإن کان الموهوم ثبوت التکلیف فعدم ثبوته مظنون وإن کان الموهوم عدم ثبوت التکلیف فثبوته مظنون.

والظن من جهة قوة احتماله یکون مرجحا لتقدیم الاحتیاط فی المظنونات علی الاحتیاط فی المشکوکات والموهومات.

ص: 208

والجواب عن ذلک: أن الظن لا یصلح أن یکون مرجحا بحکم العقل أیضا لأن الظن إذا کان حجة شرعا فهو مانع عن تنجیز العلم الإجمالی حکما وموجب لانحلاله بحکم الشارع. واما إذا لم یکن حجة فلا أثر له ومجرد أقوائیة کشفه عن الواقع بالنسبة إلی الشک والوهم لا یوجب مزیة له لأن الواقع غیر المنجز لا أثر له ولا یکون الوصول إلیه مطلوبا من الشارع، فشرب الماء المتنجس واقعا والذی لم یقم علی نجاسته دلیل لا یکون ذا أثر لأنه واقع غیر منجز فیکون وجوده کالعدم.

ومن هنا لا یحکم العقل بترجیح الظن غیر المعتبر علی الشک والوهم بعد کون نسبة العلم الإجمالی إلی الجمیع علی حد سواء لأن العلم الإجمالی کما یکون منجزا للتکلیف المحتمل علی نحو الظن کذلک یکون منجزا للتکلیف المحتمل علی نحو الشک او الوهم فلا فرق فی ذلک. هذا مضافا إلی ما ذکرناه من أنه لا یمکن ان یحکم العقل بترجیح الظن فإن معنی حکم العقل بترجیح الظن هو انحلال التنجیز وصرفه من الموهومات والمشکوکات إلی المظنونات وهو غیر معقول کما تقدم بعد وجود المقتضی وتوفر الشرط وعدم المانع من تأثیر العلم الإجمالی فی تنجیز المعلوم بالإجمال.

الوجه الثالث: صلاحیة الظن من جهة قوة احتماله للترجیح حیث إنه من احد مرجحات باب التزاحم.

والجواب عن ذلک: واضح..

أما أولاً: فلأنه لیس من مرجحات باب التزاحم إذ هی إما أهمیة أحد المتزاحمین علی الآخر أو احتمال أهمیته ومن الواضح أن قوة الاحتمال لا تکون مساویة للأهمیة، لأنها قد تجتمع معه وقد تفترق عنه، فلا یکون المرجح قوة الاحتمال.

وثانیا: المقام لا یکون داخلا فی باب التزاحم لأن التزاحم إنما یکون بین حکمین فعلیین ثابتین فی الشریعة المقدسة فی مرحلة الجعل ویکون التزاحم بینهما فی مرحلة الامتثال کالتزاحم بین إزالة النجاسة عن المسجد وبین الصلاة فی آخر الوقت. وفی المقام یکون التزاحم بین احتمال أن یکون التکلیف فی المظنونات وبین احتمال أن یکون التکلیف فی المشکوکات والموهومات فلا یکون المقام داخلا فی باب التزاحم.

ص: 209

الوجه الرابع: أن الظن وإن لم یکن صالحا للتنجیز من جهة قوة احتماله إلا أن الأمر فی المقام یدور بین خروج المکلف عن عهدة التکلیف المعلوم بالإجمال إما من خلال الاحتیاط فی المظنونات وإما من خلال الاحتیاط فی المشکوکات والموهومات، والعقل یحکم ببراءة الذمة من خلال الاتیان بالمظنونات وترک المشکوکات والموهومات، کما أن احتمال العکس بان یأتی بالمشکوکات والموهومات بدلا عن الاتیان بالمظنونات مفقود.

وبکلمة: ان المقام من دوران الأمر بین التعیین والتخییر، حیث إن المکلف یعلم أن وظیفته إما الاحتیاط فی المظنونات تعیینا أو ان وظیفته التخییر بین الاحتیاط فی المظنونات والاحتیاط فی المشکوکات والموهومات، وفی دوران الأمر بین التعیین والتخییر یحکم العقل بالتعیین، فیجب الاحتیاط فی المظنونات دون المشکوکات والموهومات.

والجواب عن ذلک: أن حکم العقل بالتعیین فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر إنما هو فی موردین:

المورد الأول: فیما إذا دار الأمر بین حجیة احد الخبرین وحجیة الخبر الآخر أی أن المکلف لا یعلم أن حجیة هذا الخبر بنحو التعیین أو أنها بنحو التخییر ففی مثل ذلک یحکم العقل بالتعیین لأن ما یحتمل ان تکون حجیته تعیینا فهو حجة قطعا إما تعیینا او تخییرا، وأما ما لا یحتمل حجیته تعیینا فحجیته مشکوکة بالشک البدوی والشک فی الحجیة مساوق للقطع بعدم الحجیة فعلا فمن أجل ذلک یحکم العقل فی هذا المورد بالتعیین.

المورد الثانی: ما إذا دار أمر المحصل للواجب البسیط بین الأقل والأکثر ففی مثل ذلک یکون الاتیان بالأکثر موجبا للیقین بتحقق الواجب واما الاتیان بالأقل فلا یعلم معه بتحقق الواجب، وفی مثله یحکم العقل بالإتیان بالأکثر بملاک قاعدة الاشتغال لأن الیقین بالشغل یقتضی الیقین بالفراغ، وحیث إنه یعلم باشتغال ذمته بالواجب فلا بد من تحصیل الیقین بفراغ ذمته منه ولا یمکن ذلک إلا بالإتیان بالأکثر.

ص: 210

والحاصل أن فی هذین الموردین یحکم العقل بالتعیین وأما فی غیرهما کتردد أمر الواجب بین الأقل والأکثر کما هو الحال فی تردد المکلف انه مکلف بالصلاة مع السورة او مکلف بالصلاة من دونها ففی مثله لا یحکم العقل بالتعیین بل هنا تجری البراءة عن التعیین وتکون النتیجة هی التخییر لأن فی التعیین کلفة زائدة وهذه الکلفة ترتفع بالبراءة.

وعلیه لا یمکن المساعدة علی ما ذکر فی هذا الوجه من حکم العقل بالتعیین.

هذا مضافا إلی أن حکم العقل بالتعیین مبنی علی حکم العقل بالتبعیض فی الاحتیاط وانحلال التنجیز وهو غیر معقول.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

إلی هنا قد تبین أن التبعیض فی الاحتیاط لا یمکن فما هو المشهور بین الأصولیین من تقدیم الاحتیاط فی المظنونات علی الاحتیاط فی المشکوکات والموهومات لا یمکن المساعدة علیه، لأن الظن لیس بحجة شرعا حتی یکون موجبا لانحلال العلم الإجمالی حکما فإذا لم یکن حجة فوجوده کعدمه ولا یکون مرجحا لدی العقل فإن العقل لا یحکم بشیء جزافا وبدون ملاک وأقربیة الظن فی الکشف عن الواقع بالنسبة إلی الشک والوهم وإن کانت واقعة إلا ان الواقع بما انه لا یکون منجزا فی المرتبة السابقة فلا أثر لهذا الکشف أو ان هذا الکشف لا یکون منجزا للواقع فلا أثر له.

فإذاً لا ملاک لحکم العقل بترجیح الظن علی الشک والوهم بعد ما کانت نسبة العلم الاجمالی بالنسبة إلی تنجیز المعلوم بالإجمال لجمیع اطرافه من المظنونات والمشکوکات والموهومات علی حد سواء.

هذا مضافا إلی ما ذکرناه من أن التبعیض فی مرحلة التنجیز غیر معقول لأن العلم الإجمالی إما بنفسه علة تامة للتنجیز فعندئذ لا یتصور وجود المانع عنه وإما بنحو المقتضی فإذا توفر شرطه ولم یکن هناک مانع فتأثیره یکون بنحو العلة التامة.

ص: 211

وفی المقام الشرط متوفر وهو صلاحیة العلم الإجمالی لتنجیز المعلوم بالإجمال فی جمیع الأطراف والمانع مفقود لأن الأصول العملیة المؤمنة إما انها لا تشمل أطراف العلم الإجمالی أو انها علی تقدیر الشمول تسقط من جهة المعارضة فیکون العلم الإجمالی علة تامة للتنجیز وإذا کان علی تامة للتنجیز یستحیل التبعیض فی التنجیز بأن یکون منجزا بالنسبة إلی بعض أطرافه دون الطرف الآخر وهو مستحیل لاستلزامه انفکاک المعلول عن العلة التامة وهو مستحیل.

ثم إن دائرة هذا الاحتیاط سعة وضیقا تختلف باختلاف أفراد المکلف فی الخارج فإن المکلف قد یکون متمکنا من الاحتیاط التام فی المظنونات والمشکوکات والموهومات بدون أن یستلزم العسر والحرج علیه فعندئذ وظیفته الاحتیاط التام.

وقد یکون غیر متمکنا من الاحتیاط التام ولکنه متمکن من الاحتیاط فی المظنونات والمشکوکات دون الموهومات فعندئذ یجب علیه الاحتیاط طالما لم یستلزم العسر والحرج وإذا استلزمهما لم یجب علیه الاحتیاط.

وقد یکون المکلف غیر قادر علی الاحتیاط إلا فی المظنونات فقط أو المشکوکات فقط فعندئذ وظیفته الاحتیاط طالما لم یستلزم العسر والحرج.

فإذاً دائرة هذا الاحتیاط سعة وضیقا تختلف باختلاف المکلف، فما هو المشهور بین الأصولیین من تخصیص وجوب هذا الاحتیاط بالمظنونات دون المشکوکات والموهومات لا وجه له أصلا فإن هذا الاحتیاط واجب بمقتضی العلم الإجمالی طالما لم یستلزم العسر والحرج وهو یختلف باختلاف أفراد المکلف.

هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری قد یقال کما قیل: إن التکلیف المحتمل فی أطراف هذا العلم الإجمالی إذا کان فی موارد الشک أهم من التکلیف المحتمل فی موارد الظن أو فی موارد الوهم فالعقل یحکم بتقدیم الأهم علی المهم فإذا فرضنا أن التکلیف المحتمل فی موارد الشک أهم ملاکا من التکلیف المحتمل فی موارد الظن فالعقل یحکم بالترجیح.

ص: 212

وهذا القیل أیضا غیر صحیح: فإن العقل إنما یحکم بتقدیم الأهم علی المهم فی باب التزاحم ولیس منه ما نحن فیه لأن التزاحم إنما یفترض بین التکلیفین الثابتین فی الشریعة المقدسة إلا أن المکلف لا یتمکن من امتثال کلیهما معا لقصور قدرته عن ذلک لأن له قدرة واحدة فإن صرفها فی امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر ولهذا تقع المزاحمة بینهما، فإن کان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمیة فالعقل یحکم بتقدیمه علی المهم.

ولیس المقام من هذا الباب، لأن التزاحم هنا بین الاحتمالین ویمکن ان لا یکون شیء منهما مطابقا للواقع هذا مضافا علی ما ذکرناه من ان لازم حکم العقل بتقدیم الأهم فی المقام التبعیض فی الاحتیاط والتبعیض فی تنجیز العلم الإجمالی وهو غیر معقول لاستلزمه انفکاک المعلول عن العلة التامة وهو مستحیل.

هذا تمام کلامنا فی المقدمة الثالثة.

واما المقدمة الرابعة: وهی جریان الأصول المؤمنة فی أطراف هذا العلم الإجمالی سواء قلنا بانحلال العلم الإجمالی الکبیر بالعلم الإجمالی الصغیر أو لم نقل بالانحلال غایة الأمر إن لم نقل بالانحلال فیجب علی المکلف الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی الکبیر وإن قلنا بالانحلال فیجب الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی الصغیر.

والأصول العملیة الشرعیة لا تجری فإن أصالة البراءة الشرعیة مدرکها الروایات والمفروض عدم حجیة الروایات علی القول بالانسداد وکذلک مدرک استصحاب عدم التکلیف. أما إذا کان مدرک البراءة الشرعیة الآیة الشریفة کقوله تعالی: (وَمَا کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولًا) (1) فإن قلنا بدلالتها علی أصالة البراءة الشرعیة فعندئذ لا مانع من التمسک بأصالة البراءة الشرعیة فی هذه الشبهات، وأما إن قلنا بأن الآیة لا تدل علی البراءة الشرعیة ___ کما هو الصحیح ووسوف یأتی الکلام فیها فی بحث البراءة ____ فتنحصر أصالة البراءة فی المقام فی أصالة البراءة العقلیة وهی قاعدة قبح العقاب بلا بیان وهی لا تجری فی أطراف هذا العلم الإجمالی جمیعا من بدایة الفقه إلی أواخره وذلک لوجوه:

ص: 213


1- الإسراء/السورة17، الآیة15.

الوجه الأول: قیام الاجماع القطعی من الفقهاء علی عدم حجیة اصالة البراءة العقلیة فی المقام بل البراءة العقلیة لا تشمل أطراف العلم الإجمالی لا انها تشمل المقام ولکن تسقط بالمعارضة إذ التعارض لا یتصور بین دلیلین قطعیین والمفروض أن البراءة العقلیة قاعدة عقلیة فلا یتصور التعارض بین أفرادها فی أطراف العلم الإجمالی لأن فرض التعارض بین الدلیلین القطعیین غیر متصور. فالبراءة العقلیة لا تشمل أطراف العلم الإجمالی فی نفسها. وعلی تقدیر شمولها لأطراف العلم الإجمالی فلا یحقل لأی فقیه أن یتمسک بها فی جمیع المسائل الفقهیة من البدایة إلی الناهیة.

الوجه الثانی: قد عُلل ذلک تارة بانه خروج من الدین أی موجب للکفر وتارة أخری بانه تکذیب للنبی الأکرم(ص) لأننا نعلم بوجود جملة کبیرة من هذه الأحکام فی الرسالة المحمدیة فجریان البراءة عنها تکذیب للنبی الأکرم(ص) ومن الواضح أن تکذیبه(ص) موجب للکفر.

ولکن کلا التعلیلین محل نقاش:

أما الأول: فلا شبهة فی ان جریان البراءة العقلیة فی جمیع أبواب الفقه لا یوجب الکفر ولکنه خلاف الضرورة الفقهیة، أما انه لا یوجب الکفر فلأن عدم العمل بالأحکام الشرعیة غیر إنکارها والموجب للکفر هو إنکارها، لأنه تکذیب للنبی الأکرم(ص) وهو موجب للکفر.

واما الوجه الثالث: فلأن العلم الإجمالی منجز سواء قلنا بانحلال العلم الإجمالی الکبیر ام لم نقل غایة الأمر إن لم نقل بالانحلال فالعلم الإجمالی الکبیر منجز للمعلوم بالإجمال فی تمام أطرافه وأما إذا قلنا بالانحلال فالعلم الإجمالی الصغیر موجب لتنجز المعلوم بالإجمال فی تمام أطرافه، ومن الواضح ان الأصول العملیة المؤمنة لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی إما لقصور أدلتها فی نفسها عن شمول أطراف العلم الإجمالی أو لشمولها لها ولکنها تسقط من جهة المعارضة. هذا فی الأصول العملیة الشرعیة.

ص: 214

واما الأصول العملیة العقلیة کقاعدة قبح العقاب بلا بیان فهی فی نفسها لا تشمل أطراف العلم الإجمالی لأن بالنسبة إلی المعلوم بالإجمال لا موضوع لهذه القاعدة فإن موضوع هذه القاعدة عدم البیان ولا شبهة فی أن العلم الإجمالی بالنسبة إلی المعلوم بالإجمال بیان واما بالنسبة إلی أطرافه فلا یعقل التعارض بینها فلا یمکن شمول قاعدة قبح العقاب بلا بیان لأطراف العلم الإجمالی وفرض التعارض بینها لأنه لا یتصور التعارض بین قاعدتین عقلیتین.

ومن هنا یظهر ان الوجه الثانی والثالث تامین.

واما الوجه الأول: فإن أرید بالإجماع الاجماع التعبدی فهو غیر ثابت بین الفقهاء المتقدمین لأن مسألة الانسداد مستحدثة بین المتأخرین ولا وجود لها بین المتقدمین حتی یتحقق الإجماع فیها.

وإن أرید بالإجماع الاجماع الارتکازی وان المرتکز القطعی فی ذهن کل فقیه عدم جواز الرجوع إلی الأصول المؤمنة فی جمیع أطراف هذا العلم الإجمالی من اول باب الطهارة إلی آخر باب الدیات وهذا أمر مرتکز وهذا الارتکاز ثابت فی زمن الأئمة(ع) وهو ممضا من قبلهم(ع).

ومما یؤکد علی هذا فحوی الوجه الثانی من ان الرجوع إلی الأصول المؤمنة یستلزم الخروج عن الدین أی أنه خلاف الضرورة الفقهیة.

إلی هنا قد تبین أن المقدمة الأولی من مقدمات الانسداد تامة وهی وجود علم إجمالی فی الشریعة المقدسة سواء قلنا بالانحلال أو لم نقل.

واما المقدمة الثانیة: فهی غیر تامة لأن باب العلم الوجدانی وإن انسد بالنسبة الی معظم الأحکام الفقهیة ولکن باب العلمی مفتوح.

وأما المقدمة الثالثة: وهی التبعیض فی الاحتیاط فهی أیضا غیر تامة لأنه یجب علی المکلف الاحتیاط طالما لم یستلزم العسر والحرج بلا فرق بین المظنونات والمشکوکات والموهومات.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

ص: 215

أما الکلام فی الجهة الثالثة: هل نتیجة مقدمات الانسداد ___ علی تقدیر تمامیتها ___ حکم العقل بحجیة الظن المعبر عنه بمسلک الحکومة أو ان نتیجتها الکشف عن جعل الشارع الظن حجة المعبر عنه بمسلک الکاشفیة؟

هنا قولان: قول بأن نتیجة مقدمات الانسداد حکم العقل بحجیة الظن، وقول آخر أن نتیجتها الکشف لأنها کاشفة عن حجیة الظن شرعا.

أما القول بالحکومة فقد فسر بعدة تفاسیر:

التفسیر الأول: أن المراد من أن الظن حجة یعنی أنه منجز للواقع علی تقدیر إصابته للواقع ومعذر علی تقدیر المخالفة حاله حال الحجیة الشرعیة، لأن خبر الثقة إذا کان حجة فهو منجز للواقع علی تقدیر الإصابة ومعذر علی تقدیر الخطأ، والظن علی القول بالانسداد وتمامیة مقدماته حاله حال الحجیة الشرعیة فهو منجز للواقع علی تقدیر الإصابة ومعذر علی تقدیر الخطأ.

التفسیر الثانی: أن الظن علی القول بالانسداد حاله حال القطع فی باب الانفتاح فکما أن حجیة القطع فی باب الانفتاح ذاتیة ولا یمکن سلبها عنه أو جعلها له لأنها حجة ذاتیة فی المرتبة السابقة فلا معنی لجعل الحجیة له، والظن فی حال الانسداد کذلک فحجیته حجیة ذاتیة ولا یمکن ان تکون مجعولة إذ لا معنی لجعل الحجیة لما تکون الحجیة له ذاتیة ولا یمکن سلبها عنه.

التفسیر الثالث: ان معنی حجیة الظن علی الحکومة ان العقل یحکم بان الظن یوجب صرف تنجیز العلم الإجمالی إلی مورده وإخراج موردی الشک والوهم عن تنجیز العلم الإجمالی.

اما التفسیر الأول: فقد اختاره المحقق الخرسانی (1) (قده) وأن الظن حجة فی باب الانسداد فهو معذر علی تقدیر الخطأ ومنجز علی تقدیر الإصابة فحاله حال خبر الثقة علی القول بالانفتاح. فمعنی حجیة الظن المنجزیة والمعذریة وهذا هو معنی حجیة الظن عقلا.

ص: 216


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص314.

ویمکن تقریب ذلک بوجهین:

الوجه الأول: أن معنی حجیة الظن هو صرف تنجیز العلم الإجمالی إلی مورده وإخراج موردی الشک والوهم عن التنجیز.

ولکن لا یمکن المساعدة علیه؛ لما تقدم من أن التبعیض فی مرتبة التنجیز غیر معقول ولا یعقل انحلال العلم الإجمالی فی هذه المرتبة لأن تأثیر العلم الإجمالی فی هذه المرتبة یکون بنحو العلة التامة، وأما إن قلنا إنه بنحو الاقتضاء ولکن مع توفر شرطه وعدم المانع یصیر علة تامة للتنجیز.

ولا یمکن التبعیض فإن معنی التبعیض انفکاک المعلول عن العلة التامة وهو مستحیل.

الوجه الثانی: أن المکلف مضطر إلی ترک الاحتیاط فی بعض أطراف العلم الإجمالی غیر المعین لاستحالة الاحتیاط التام أو لا یجب وحیث إن صاحب الکفایة(قده) لا یقول بالفرق بین الاضطرار إلی المعین والاضطرار إلی غیر المعین فی انحلال العلم الإجمالی واسقاطه عن الاعتبار والتنجیز، ومع سقوطه عن الاعتبار لا یجب علی المکلف الاحتیاط إذ منشأ وجوب الاحتیاط هو العلم الإجمالی ومع انحلاله إلی القطع بعدم التکلیف فی مورد الاضطرار والشک البدوی فی غیر مورد الاضطرار فلا علم إجمالی حینئذ حتی یکون موجبا لوجوب الاحتیاط والمرجع فی الشک البدوی هو أصالة البراءة العقلیة والنقلیة او استصحاب عدم التکلیف.

وعلیه فلا یجب علی المکلف الاحتیاط.

ونتیجة ذلک: أن المکلف مهمل ولا یکون مکلفا بشیء لانسداد باب العلم والعلمی فی تمام الأبواب. وهذا خلاف الضرورة وذلک للعلم الإجمالی القطعی بثبوت أحکام إلزامیة من الوجوبات والتحریمات فی الشریعة المقدسة وان الإنسان مکلف بالإتیان بها وامتثالها، ضرورة أن لیس حال الإنسان کحال البهائم فی عدم التکلیف، وعلیه فلا محالة یکون مکلفا بالأحکام الواقعیة.

ولکن حالة الإنسان بالنسبة إلی هذه الأحکام لا تخلو من کونه إما ظانا بها او شاکا أو متوهما، ومن الواضح ان العقل یحکم بحجیة الظن لأنه یصلح أن یکون حجة وکاشفا عن الواقع بما له من الکاشفیة الذاتیة عن الواقع واما الشک والوهم فلا یصلحان لذلک لا انه یحکم بالتعبیض فی الاحتیاط وترجیح المظنونات علی المشکوکات والموهومات لما مر من ان لازم التبعیض فی الاحتیاط عدم سقوط العلم الإجمالی عن الاعتبار وعدم انحلاله، والمفروض انه انحل بالاضطرار وسقط عن الاعتبار فلا أثر له.

ص: 217

فإذاً العقل یحکم بحجیة الظن علی القول بالانسداد.

ولکن للمناقشة فیه مجال بوجوه:

الوجه الأول: ان هذا الاضطرار یرجع إلی الاضطرار إلی المعین لا أنه اضطرار إلی غیر المعین فإن مورد هذا الاضطرار هو الاحتیاطات التی توجب العسر والحرج أی ان المکلف مضطر إلی ترک الاحتیاط فی هذه الموارد فقط وموارد العسر والحرج معینة لأن کل احتیاط یوجب العسر والحرج فالمکلف مضطر إلی ترکه لأنه یجب علی المکلف الاحتیاط ما لم یصل إلی العسر والحرج فإذا وصل إلی العسر والحرج فلا یجب الاحتیاط فمرد هذا الاحتیاط إلی الاحتیاطات التی توجب العسر والحرج وهی من قبیل الاضطرار إلی المعین لا إلی غیر المعین.

ولکن هذا لا ثمرة له بالنسبة إلی صاحب الکفایة(قده) لأنه لا یری فرق بین الاضطرار إلی المعین والاضطرار إلی غیر المعین فی انحلال العلم الإجمالی.

الوجه الثانی: أن هذا الاضطرار لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن الاعتبار وانحلاله لأن الموارد التی لا یکون المکلف مضطرا فیها إلی ترک الاحتیاط کثیرة جدا وهو یعلم بوجود تکالیف إلزامیة کثیرة فی غیر موارد الاضطرار سواء کانت الشبهة تحریمیة أم وجوبیة ومقتضی هذا العلم الإجمالی وجوب الاحتیاط فی تلک الموارد، ومن هنا لا یکون الاضطرار موجبا لسقوط العلم الإجمالی فی المقام وانحلاله؛ والاضطرار الذی یوجب سقوط العلم الإجمالی وانحلاله هو فیما إذا کان مورد غیر الاضطرار لم یکن العلم الإجمالی بالتکلیف موجودا کما إذا علم المکلف بحرمة شرب أحد الإناءین الإناء الشرقی والإناء الغربی والمکلف مضطر إلی شرب أحدهما فعند شرب أحدهما لا یکون هناک علم بالتکلیف فی الطرف الآخر، وحینئذ لا محالة یکون التکلیف فی الطرف الآخر مشکوکا بالشک البدوی. فلو قلنا بأن الاضطرار إلی غیر المعین یوجب الانحلال العلم الإجمالی فإنه إنما یوجب الانحلال فی مثل هذه الموارد بحیث لا یکون هنا علم بالتکلیف فی غیر موارد الاضطرار.

ص: 218

وإما فی المقام فالعلم بالتکلیف فی غیر موارد الاضطرار موجود فالمکلف یعلم إجمالا بثبوت أحکام إلزامیة من الوجوبات او التحریمات فی غیر موارد الاضطرار وهذا العلم الإجمالی یقتضی وجوب الاحتیاط فی تلک الموارد.

فلیس الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی فی المقام غیر المعین لا یوجب انحلال العلم الإجمالی فقط بل الاضطرار إلی المعین أیضا لا یوجب انحلال العلم الإجمالی فی سائر الأطراف باعتبار أنها کثیرة والمکلف یعلم إجمالا بثبوت أحکام إلزامیة فیها.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

ذکر صاحب الکفایة(قده) أن الاضطرار إلی غیر المعین یوجب انحلال العلم الإجمالی وحیث أن المکلف مضطر إلی ترک الاحتیاط فی بعض أطراف العلم الإجمالی کما فی المشکوکات والموهومات فهذا الاضطرار یوجب انحلال العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی برفع التکلیف عن موارد الاضطرار والشک البدوی فی موارد غیر الاضطرار فإذا فرضنا أن موارد ترک الاحتیاط من جهة رفع الاضطرار تنطبق علی الموهومات والمشکوکات فعندئذ ینحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی برفع التکلیف فی المشکوکات والموهومات علی تقدیر ثبوته وشک بدوی فی المظنونات فعندئذ لا مانع من الرجوع إلی البراءة العقلیة فی المظنونات. ولازم ذلک عدم وجوب الاحتیاط علی المکلف فی حال انسداد باب العلم والعلمی من جهة ان الاضطرار یوجب انحلال العلم الإجمالی فیکون المکلف مطلق العنان یفعل ما یشاء ویترک ما یشاء وهو خلاف الضرورة من الدین إذ لا شبهة فی تکلیف الإنسان بالأحکام المجعولة فی الشریعة المقدسة ولا طریق لنا إلی تلک الأحکام إلا الظن فیحکم العقل بحجیة الظن وانه منجز لتلک الأحکام علی تقدیر الإصابة ومعذر علی تقدیر الخطأ وهذا هو معنی حجیة الظن فی باب الانسداد.

والجواب عن ذلک بوجوه:

ص: 219

الوجه الأول: أن الاضطرار إلی غیر المعین لا یوجب انحلال العلم الإجمالی لا فی مرحلة الاضطرار ولا فی مرحلة التطبیق فإذا فرضنا ان المکلف یعلم إجمالا بحرمة شرب أحد الإناءین الإناء الشرقی والإناء الغربی وفرضنا اضطراره بسبب من الأسباب إلی شرب أحدهما لا علی التعیین فمثل هذا الاضطرار لا یعقل أن یکون رافعا للتکلیف لأن الاضطرار تعلق بغیر ما تعلق به التکلیف فالحرمة تعلقت بشرب الإناء الشرقی علی تقدیر ثبوت حرمته وتعلقت بشرب الإناء الغربی بعنوانه الخاص والاضطرار لم یتعلق لا بالإناء الشرقی بعنوانه الخاص ولا بالإناء الغربی بعنوانه الخاص وإنما تعلق بالجامع والمفروض ان الجامع لم یکن متعلقا للحرمة. فما تعلق به التکلیف لم یتعلق به الاضطرار وما تعلق به الاضطرار لم یتعلق به التکلیف فلا یعقل رفع هذا الاضطرار للتکلیف وموجبا لانحلال العلم الإجمالی بل هو باق علی حاله وهو منجز بینما الاضطرار علی المعین لیس کذلک لأنا إذا فرضنا فی نفس المثال أن المکلف اضطر إلی شرب الإناء الشرقی فقط فهذا الاضطرار یوجب انحلال العلم الإجمالی فالحرمة إذا کانت متعلقة بشرب الإناء الشرقی فهی ترتفع بالاضطرار واقعا بمقتضی (( رفع ما اضطروا إلیه)) فإنه ظاهر فی رفع الاضطرار للتکلیف عما تعلق به ومن هنا ینحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بانعدام التکلیف فی الإناء الشرقی وشک بدوی فی الإناء الغربی ولا مانع من الرجوع إلی البراءة العقلیة او الشرعیة فیه وهذا هو الفارق بین الاضطرار إلی المعین وبین الاضطرار إلی غیر المعین فإن الاضطرار إلی المعین تعلق بنفس ما تعلق به التکلیف وحینئذ یکون رافعا للتکلیف واقعا فینحل العلم الإجمالی واقعا بانعدام التکلیف فی المضطر إلیه علی تقدیر کونه متعلقا للتکلیف والشک البدوی بالنسبة إلی الطرف الآخر فیجری الأصل المؤمن فی الطرف المشکوک.

ص: 220

فما ذکره صاحب الکفایة من انحلال العلم الإجمالی بالاضطرار إلی غیر المعین لا یمکن المساعدة علیه.

واما فی مرحلة التطبیق: فإن المکلف لا یتمکن من الموافقة القطعیة العملیة ولا من المخالفة القطعیة العملیة إذا کان الاضطرار إلی غیر المعین لفرض ترخیصه فی تطبیق المضطر إلیه علی أی طرف من أطراف العلم الإجمالی شاء، ففی المثال یکون المکلف مخیر فی تطبیق المضطر إلیه علی أی واحد من الإناءین فإذا اختار الإناء الشرقی فیجوز له شربه وکذا لو اختار الإناء الغربی ولکن هذا التطبیق لا یرفع الحرمة غایة الأمر أنه علی تقدیر مصادفته للحرمة الواقعیة فإنه یعذر المکلف من جهة الاضطرار.

وعلی هذا لا یکون الاضطرار إلی غیر المعین رافعا للحکم لا فی مرحلة الاضطرار ولا فی مرحلة التطبیق.

فمن هنا إذا طبق المکلف المضطر إلیه علی أحد الإناءین وارتکب ذلک الإناء فلا یجوز له ارتکاب الإناء الثانی بل یجب علیه الاجتناب عنه لأن العلم الإجمالی منجز وهو باق ولا یرتفع هذا العلم الإجمالی بهذا الاضطرار وبتطبیقه علی أحد طرفیه.

هذا ما یرد علی صاحب الکفایة(قده).

وللمحقق العراقی (1) (قده) کلام وحاصله:

إن الاضطرار إلی غیر المعین ابتداءً یرجع فی نهایة المطاف إلی الاضطرار إلی المعین، فاضطرار المکلف إلی ترک الاحتیاط فی بعض أطراف العلم الإجمالی من جهة لزوم العسر والحرج فهذا الاضطرار فی نهایة المطاف یرجع إلی الاضطرار إلی المعین. وعلل ذلک بأن أطراف هذا العلم الإجمالی مختلفة ومتفاوتة فإن فئة من أطراف هذا العلم الإجمالی مظنونة وفئة ثانیة مشکوکة وفئة ثالثة موهومة وعلی هذا یدور الأمر بین تطبیق المضطر إلیه علی الفئة المظنونة او تطبیقه علی الفئة الموهومة مع المشکوکة او بدونها، ولا شبهة فی تعین تطبیق الاحتیاط وهو المضطر إلیه علی الموهومات دون المظنونات وإلا لزم ترجیح المرجوح علی الراجح وهو لا یمکن فالعقل یحکم بوجوب العمل بالفئة المظنونة وترک الاحتیاط فی الفئة الموهومة مع المشکوکة او بدونها من جهة انه ترجیح من غیر مرجح.

ص: 221


1- نهایة الافکار، تقریر بحث المحقق العراقی للشیخ البروجردی، ج3، ص155.

والجواب عن هذه المحاولة: أن هذا منه(قده) غریب جدا فإن الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم بالإجمال من خلال العمل بالظن وترک الاحتیاط فی الفئة الموهومة مع الفئة المشکوکة او بدونها معلول لتنجیز العلم الإجمالی وفی طوله مع أن الاضطرار یوجب اسقاط العلم الإجمالی وانحلاله فکیف یکون وجوب العمل بالظن والخروج عن عهدة التکلیف المعلوم بالإجمال مستند إلی تنجیز العلم الإجمالی لا أنه مسقط للعلم الإجمالی وموجب لانحلاله. وبیانه(قده) واضح فی أن العلم الإجمالی باق وهو منجز للعمل بالمظنونات فلا بد للخروج عن عهدة التکلیف المعلوم بالإجمال من خلال العمل بالظن لا بالوهم والشک وهذا معناه أن العلم الإجمالی منجز وغیر ثابت، وهذا تهافت فی کلامه(قده) وغریب أن یصدر مثل ذلک من مثله(قده).

وبکلمة أن الاضطرار إلی غیر المعین یرجع إلی الاضطرار إلی المعین وهذا معناه انطباق المضطر إلیه - وهو ترک الاحتیاط - علی الموهومات مع المشکوکات او بدونها وحینئذ یوجب انحلال العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی برفع التکلیف فی الموهومات مع المشکوکات والشک البدوی فی بقاء التکلیف فی المظنونات فعندئذ لا مانع من الرجوع إلی البراءة العقلیة فی المظنونات.

ومن حق المحقق العراقی أن یقول بان الاضطرار یوجب انحلال هذا العلم الإجمالی ویوجب رفع التکلیف عن موارد الاضطرار والشک البدوی فی موارد غیر الاضطرار فینحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی برفع التکلیف فی موارد الاضطرار وشک بدوی فی موارد غیر الاضطرار.

إلا أن هذا البیان فی المقام أیضا غیر صحیح ؛ لأن موارد الظن موارد کثیرة ویوجد لدینا علم إجمالی بثبوت احکام إلزامیة فی موارد الظن غایة الأمر بان هذا الاضطرار - علی القول بانه یوجب انحلال العلم الإجمالی - یوجب انحلال العلم الإجمالی الکبیر- الذی تکون أطرافه جمیع الشبهات من المظنونات والمشکوکات الموهومات - إلی علم تفصیلی برفع التکلیف فی موارد الاضطرار وإلی علم إجمالی فی موارد آخر فی موارد المظنونات لأن المکلف یعلم بثبوت أحکام إلزامیة فیها.

ص: 222

وعلیه: لا ینحل هذا العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی وشک بدوی بل ینحل إلی علم تفصیلی وعلم إجمالی آخر تکون دائرته أضیق من دائرة العلم الإجمالی الأول.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

إلی هنا قد تبین أن ما ذکره المحقق العراقی(قده) من أن الاضطرار إلی غیر المعین فی المقام یرجع فی نهایة المطاف إلی الاضطرار إلی المعین فیوجب انحلال العلم الإجمالی مبنی علی الخلط والاشتباه فإنه علل ذلک بالتبعیض فی الاحتیاط وتطبیق ترک الاحتیاط علی الفئة الموهومة والمشکوکة لدفع الاضطرار ووجوب الاحتیاط فی الفئة المظنونة وهذا معناه تنجیز العلم الإجمالی فإنه معلول لتنجیز العلم الإجمالی وفی طوله لا أنه معلول لانحلال العلم الإجمالی فإن العلم الإجمالی إذا انحل فلا یجب الاحتیاط فی المظنونات بل المرجع فی المظنونات أصالة البراءة العقلیة باعتبار انحلال العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی برفع التکلیف فی موارد الاضطرار والشک البدوی فی موارد غیر الاضطرار.

فإذاً لیس فی نفس الإنسان إلا الشک البدوی والعلم التفصیلی واما العلم الإجمالی فهو غیر موجود هذا هو معنی الانحلال ، ولهذا وقع فی کلامه(قده) اشتباه فتعلیل الانحلال بتبعیض الاحتیاط مبنی علی الاشتباه.

فما ذکره(قده) غیر تام.

الوجه الثانی: - من الإشکال علی التفسیر الأول للحکومة – فمع الإغماض عما ذکرناه وتسلیم أن الاضطرار إلی غیر المعین کالاضطرار إلی المعین ویوجب انحلال العلم الإجمالی غایة الأمر أن الاضطرار إذا کان إلی المعین یوجب انحلال العلم الإجمالی فی مرحلة الجعل إذ الاضطرار بنفسه رافع للحکم المجعول فی الشریعة المقدسة وهذا یعنی أنه مانع عن جعله فی الواقع باعتبار أن الحکم الضرری والحرجی غیر مجعول فی الشریعة المقدسة وأما إذا کان الاضطرار إلی غیر المعین فهو لا یوجب ارتفاع الحکم الواقعی فی مرحلة الجعل ولا یوجب انحلال العلم الإجمالی فی مرحلة الجعل بل یوجب انحلاله فی مرحلة التطبیق فإنه مرخص واقعا فی تطبیق المضطر إلیه علی أی إناء، ومن الواضح أن الترخیص الواقعی لا یجتمع مع الحرمة فإذا طبق المضطر إلیه علی الإناء الشرقی فبطبیعة الحال ترتفع حرمته لو کان شربه فی الواقع حراما، لأن الترخیص لا یجتمع مع حرمة شیء.

ص: 223

والجواب عنه ذلک:

أولاً: ما تقدم من أن الاضطرار إلی غیر المعین لا یوجب انحلال العلم الإجمالی لا فی مرحلة الجعل ولا فی مرحلة التطبیق:

أما فی مرحلة الجعل: فهو واضح لأن متعلق الاضطرار غیر متعلق التکلیف فالتکلیف تعلق بالفرد بحده الفردی والاضطرار تعلق بالجامع بحده الجامعی فمتعلق أحدهما غیر متعلق الآخر، فلا یعقل ان یکون الاضطرار رافعا للتکلیف.

وأما فی مرحلة التطبیق: فما ذکر فی هذا الوجه مبنی علی الخلط فإن المکلف مرخص فی تطبیق المضطر إلیه علی أی من الإناءین لا أنه مرخص فی شرب الإناء الشرقی مثلا حتی یقال: إن الترخیص لا یجتمع مع الحرمة، بل الحرمة باقیة علی حالها فإذا طبق المکلف الاضطرار علی الإناء الشرقی وکان شربه فی الواقع حراما فیکون قد ارتکب الحرام غایة الأمر انه معذور ولا یعاقب ولهذا العلم الإجمالی باق علی حاله ویجب علیه الاجتناب عن الإناء الآخر وهو الإناء الغربی ولا یجوز له الرجوع إلی البراءة العقلیة.

ثانیاً: أن الاضطرار إلی غیر المعین إنما یوجب انحلال العلم الإجمالی إذا لم تکن دائرة المعلوم بالإجمال أوسع من دائرة المضطر إلیه وأما إذا کانت دائرة المعلوم بالإجمال أوسع من دائرة المضطر إلیه فلا یکون هذا الاضطرار موجبا لانحلال العلم الإجمالی بل الاضطرار إلی المعین أیضا کذلک کما إذا فرضنا ان المکلف یعلم إجمالا بحرمة شرب إناءین من مجموع ثلاث آنیة وفرضنا اضطراره إلی شرب أحدهما إما المعین او غیر المعین فمثل هذا الاضطرار لا یوجب انحلال العلم الإجمالی فإذا ارتکب شرب أحدهما فالعلم الإجمالی بحرمة شرب أحد هذه الآنیة باق علی حاله.

والحاصل: أن الاضطرار سواء کان إلی المعین او کان إلی غیر المعین إنما یوجب انحلال العلم الإجمالی إذا لم تکن دائرة المعلوم بالإجمال اوسع من دائرة المضطر إلیه واحتمال انطباقه علی المضطر الیه فعندئذ یوجب الانحلال واما إذا کانت دائرة المعلوم بالإجمال أوسع من دائرة المضطر إلیه فلا یوجب انحلال العلم الإجمالی.

ص: 224

وثالثاً: مع الإغماض عن ذلک أیضا وفرض ان الاضطرار إلی غیر المعین یوجب انحلال العلم الإجمالی ولکن یوجب انحلال العلم الإجمالی بین المظنونات والمشکوکات والموهومات فإنه مع اضطراره إلی ارتکاب بعض هذه الشبهات وفرضنا ان المکلف طبق ترک الاحتیاط علی الموهومات والمشکوکات انحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بنفی التکلیف فی موارد الاضطرار وشک بدوی فی ثبوت التکلیف فی موارد غیر الاضطرار کالمظنونات.

ولکن هنا علم إجمالی آخر وهو علم إجمالی بین المظنونات فقط فإنه لا شبهة فی أن المکلف یعلم إجمالا أن بعض الظنون الموجودة فی بعض المسائل الفقهیة فی جمیع أبواب الفقه مطابق للواقع ومقتضی هذا العلم الإجمالی هو الاحتیاط.

والنتیجة ان هذا الوجه أیضا غیر تام.

الوجه الثالث: ما ذکره صاحب الکفایة (1) (قده) من أنه إذا تمت مقدمات الانسداد تکون النتیجة هی الکشف فمع فرض انسداد باب العلم والعلمی فی الأحکام الشرعیة ولا طریق لنا إلی الأحکام الشرعیة والاحتیاط غیر واجب لانحلال العلم الإجمالی بالاضطرار ولا شبهة فی أن الإنسان العاقل والواعی مکلف بالدین إذ لیس حاله کحال المجنون والبهائم جزما.

فهذه المقدمات الثلاث:

1. انسداد باب العلم والعلمی بالأحکام الشرعیة.

2. الاضطرار یوجب انحلال العلم الإجمالی فلا یجب الاحتیاط.

3. وعدم سقوط التکلیف الواقعی عن المکلف.

تکشف عن أن الشارع جعل الظن حجة لا انها تکشف عن ان العقل یحکم بحجیة الظن إذ لیس الجعل من شأن العقل لأن شأنه إدراک الأشیاء والجعل بید الشارع سواء کان حکما تکلیفیا أم کان وضعیا، ولذا کان معنی حکم العقل بالحسن والقبح إدراکه حسن شیء أو قبحه وإلا لیس للعقل جعل وحکم.

وعلی هذا فتمامیة هذه المقدمات تکشف عن جعل الشارع الظن حجة شرعا وأنه منجز للواقع عند الإصابة ومعذر عند الخطأ لا أن العقل جعل الحجیة للظن.

ص: 225


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص312.

ولکن ما ذکره(قده) لیس الأمر فیه کذلک.

هذا کله فی التفسیر الأول للحکومة وهو ان العقل یحکم بحجیة الظن.

واما التفسیر الثانی: وهو ان حال الظن فی باب الانسداد کحال القطع فی باب الانفتاح وقد اختار هذا التفسیر المحقق الخراسانی (1) (قده) أی کما ان حجیة القطع فی باب الانفتاح ذاتیة وغیر قابلة للجعل کذلک حجیة الظن فی باب الانسداد.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

واما التفسیر الثانی للحکومة: وهو أن حال الظن فی باب الانسداد کحال القطع فی باب الانفتاح أی کما ان حجیة القطع فی حال الانفتاح ذاتیة وغیر قابلة للجعل ولا لنفیها عن القطع فلا یمکن سلب الحجیة عن القطع کذلک الظن فی حال الانسداد فعند تمامیة مقدمات الانسداد جمیعا یکون حال الظن حال القطع وتکون حجیته ذاتیة وغیر قابلة للجعل ولا للنفی، غایة الأمر أن حجیة الظن من لوازم وجوده فی حال الانسداد أی حصة خاصة من وجوده وهو وجوده فی حال انسداد باب العلم والعلمی وعدم وجوب الاحتیاط، ولیس من لوازم ماهیته بینما حجیة القطع من لوازم ماهیة القطع بلا فرق بین حالة دون حالة أخری أی بلا فرق بین حالة الانسداد وبین حالة الانفتاح بینما حجیة الظن لیست کذلک فإنها ذاتیة للظن فی حال الانسداد فقط واما فی حال الانفتاح فلا یکون الظن حجة.

وقد اشکل علی ذلک المحقق النائینی (2) (قده):

أولاً: حیث إنه فسر حجیة القطع وحجیة الظن بالطریقیة لأن مسلکه فی معنی الحجیة هو الطریقیة والکاشفیة، وعلی هذا فطریقیة القطع وکاشفیته ذاتیة بل الطریقیة نفس القطع ولیست من لوازم القطع لأن الطریقیة عبارة عن الجنس والفصل المقوم للقطع ومن ذاتیات القطع فإن العلم هو الطریقیة والقطع نفس الطریقیة وهی ثابتة للقطع فی تمام الحالات بینما طریقیة الظن لیست ذاتیة له فی تمام الحالات فلو کانت طریقیة الظن ذاتیة فی حالة فهی ذاتیة فی جمیع الحالات إذ لا یمکن التفکیک بین الشیء وبین ذاتیاته لأن الجنس والفصل مقوم للنوع، ومع عدم وجود الجنس والفصل لا نوع فی البین فطریقیة الظن لو کانت ذاتیة فی باب الانسداد فلا بد ان تکون کذلک مطلقا إذ الذاتی لا یمکن ان یتصور فی حالة دون اخری بلا فرق فی ذلک بین ان تکون الذاتیات من ذاتیات باب الکلیات أو ذاتیات باب البرهان.

ص: 226


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص316
2- اجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص135.

وعلی هذا فکیف یمکن ان تکون حجیة الظن ذاتیة للظن فی باب الانسداد ولا تکون ذاتیة له فی باب الانفتاح.

وثانیاً: إن الظن - مع غض النظر عن تمامیة مقدمات دلیل الانسداد ومنها العلم الإجمالی بالأحکام الشرعیة الموجب لتنجزها – لا یکون حجة ولا بیانا ولا رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان کالقطع فإنه رافع لموضوع هذه القاعدة وفرض حجیته علی تقدیر تمامیة مقدمات دلیل الانسداد لا یمکن إلا بالجعل والمفروض أن العقل لا یمکن أن یکون جاعلا ومشرعا فإن الجاعل والمشرع هو الشارع والمولی وشأن العقل الإدراک لا الجعل والتشریع فلیس للعقل جعل الحجیة للظن فی باب الانسداد.

هذا ما ذکره المحقق النائینی(قده).

والظاهر: أن هذا التفسیر لیس مراد المحقق الخراسانی(قده) حیث إنه ذکر أن الظن فی حال الانسداد کالقطع فی حال الانفتاح وأن حجیته ذاتیة والمراد من الحجیة هی ما کانت بمعنی المنجزیة والمعذریة فکما ان منجزیة القطع ذاتیة أی ذاتی باب البرهان لأن الحجیة أمر زائد علی ذات الشیء ولا یعقل أن تکون جنسا وفصلا له فهی من لوازم باب البرهان ولا تنفک عن القطع فمتی حصل القطع فهو منجز ومعذر. والظن فی حال الانسداد کذلک لأن صاحب الکفایة(قده) قد خص منجزیة الظن ومعذریته الذاتیة فی باب الانسداد فقط لا مطلقا.

ولکنه أیضا غیر تام کما سنبینه فی ضمن البحوث الاتیة.

واما التفسیر الثالث للحکومة: فقد اختاره السید الاستاذ (1) (قده) وهو أن معنی الحکومة هو حکم العقل بالتبعیض فی الاحتیاط وذلک لأن الحاکم فی باب الطاعة والامتثال هو العقل والمفروض انه لیس بجاعل حتی یجعل الحجیة للظن فی باب الانسداد إذ التشریع بید الشارع ولیس للعقل شأن إلا الإدراک فجعل الحکم إذاً لیس من شأن العقل، فلا یمکن أن یحکم العقل بحجیة الظن فی باب الانسداد وحینئذ لا مناص من القول بالتبعیض فی الاحتیاط لتفاوت أطراف العلم الإجمالی من جهة ان بعض أطراف الحکم المحتمل مظنون والبعض الآخر مشکوک والبعض الآخر موهوم وحینئذ یدور الأمر فی المقام بین الامتثال الظنی والامتثال الوهمی والامتثال الشکی باعتبار عدم التمکن من الاحتیاط التام لاستلزماه العسر والحرج او اختلال النظام وهذا معناه لا بدیة التبعیض فی الاحتیاط أی یدور الأمر بین الامتثال الظنی وترک الامتثال الشکی والوهمی وبین العکس، ومن الواضح ان العکس غیر جائز لأنه من ترجیح المرجوح علی الراجح والامتثال الظنی فی باب الطاعة مقدم علی الامتثال الشکی والوهمی کتقدم الامتثال العلمی علی الامتثال الظنی بحکم العقل وهذا هو معنی حکم العقل بلزوم العمل بالظن علی القول بالحکومة، لأن العقل لیس بجاعل حتی یجعل الحجیة للظن فعلی القول بالحکومة یکون تقدیم الامتثال الظنی علی الامتثال الشکی والوهمی من باب ترجیح الراجح علی المرجوح، واما العکس فلا یجوز لأن ترجیح المرجوح علی الراجح قبیح.

ص: 227


1- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج2، ص220.

وعلی هذا یکون معنی الحکومة هو التبعیض فی الاحتیاط ولیس جعل العقل الحجیة للظن.

هذا ما ذکره السید الاستاذ(قده).

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

إلی هنا قد تبین أن ما ذکره السید الاستاذ(قده) من أن معنی الحکومة فی المسألة هی حکم العقل بالتبعیض فی الاحتیاط وأن الحاکم فی باب الامتثال والإطاعة هو العقل فالعقل یحکم بتقدیم الامتثال الظنی علی الامتثال الشکی والوهمی، وذلک حیث یتعذر الاحتیاط التام أو لعدم وجوبه لاستلزامه العسر والحرج فیدور الأمر بین الاحتیاط فی المظنونات وترک الاحتیاط فی الموهومات والمشکوکات أو بالعکس وحیث أن العکس ترجیح للمرجوح علی الراجح وهو قبیح لدی العقل فمن أجل ذلک یستقل العقل بتقدیم الامتثال الظنی علی الامتثال الشکی والوهمی.

هکذا ذکره السید الاستاذ(قده).

وللمناقشة فیه مجال: فإن الظن إذا لم یکن معتبرا شرعا فلا یصلح أن یکون مرجحا لا شرعا کما هو واضح ولا عقلا فإن حکم العقل بشیء لا یمکن أن یکون جزافا وحکما تعبدیا فالعقل لا یحکم بشیء بدون ان یحرز ملاک حکمه فالتعبد فی الحکم العقلی غیر معقول وإنما هو متعقل فی الحکم الکائن بین الموالی والعبید وأما فی حکم العقل والسیرة العقلائیة فالتعبد غیر متصور.

وعلیه فما هو ملاک حکم العقل فی المقام؟

أما العلم الإجمالی فتنجیزه بالنسبة إلی جمیع أطرافه علی حد سواء بلا فرق بین الطرف الذی یکون الحکم فیه مظنونا أو مشکوکا أو موهوما، والعقاب والإدانة إنما هو علی مخالفة التکلیف المحتمل لا علی مخالفة الواقع، فإذا خالف التکلیف المحتمل استحق العقاب إما فی صورة المطابقة فواضح واما فی صورة عدم المطابقة فلأنه تجرٍ علی المولی وتعدٍ علیه ومن أظهر مصادیق الظلم وهو تفویت لحق المولی ومن هنا قلنا فی باب التجری أن الإدانة والعقوبة إنما هی علی التجری لا علی ترک الواقع ومخالفته.

ص: 228

وعلی هذا فأقوائیة الظن فی الکشف عن الواقع لا أثر له ولا یصلح أن یکون ملاکا لحکم العقل بتقدیم الظن علی الشک والوهم لأن وجود الواقع وعدمه سیان إذ المناط فی العقوبة إنما هو علی احتمال التکلیف المنجز کان مخالفا للواقع أم لا، فأقوائیة کشف الظن عن الواقع لا أثر لها.

وعلی هذا فلا ملاک لحکم العقل بتقدیم الامتثال الظنی علی الامتثال الوهمی والشکی.

فما ذکره السید الاستاذ(قده) لا یمکن المساعدة علیه.

هذا کله علی القول بالحکومة فی دلیل الانسداد وأن تمامیة مقدمات الانسداد نتیجتها الحکومة علی التفسیرات الثلاث التی تقدم الکلام فی عدم تمامیة شیء منها.

واما علی القول بالکشف: وان تمامیة مقدمات الانسداد نتیجتها الکشف عن حجیة الظن وان الشارع قد جعل الظن حجة بعد أن لا یمکن القول بحجیة فتوی الفقیه او القرعة فلا محالة تمامیة مقدمات الانسداد تکشف عن ان الظن حجة شرعا ولا بد من العمل به والافتاء علی طبقه.

وقد ذکر السید الاستاذ(قده) (1) أن القول بالکشف مبنی علی تقریر المقدمة الثالثة بصیغة خاصة: أی أن المقدمة الثالثة ان قررت بصیغة تکون نتیجتها الکشف وإن قررت بصیغة أخری تکون نتیجتها الحکومة، ذلک ان المقدمة الثالثة وهی عدم وجوب الاحتیاط التام إما لأعدم إمکانه لاستلزامه اختلال النظام وإما لعدم جوبه من جهة استلزامه العسر والحرج فإن قررناها بان الشارع لا یرضی بالامتثال الإجمالی فی معظم الأحکام الفقهیة من بدایة الفقه إلی نهایته ولا یرضی فی الاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة، فعندئذ تکون النتیجة هی الکشف لأن باب العلم والعلمی منسد علی المکلف والشارع لا یرضی بالاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة ولا یرضی بالامتثال الإجمالی وأصالة البراءة العقلیة لا تجری لاستلزامها المخالفة القطعیة العملیة ولا یسقط التکلیف عن المکلف إذ لیس مثله مثل البهائم والمجانین، فهو إذاً مکلف بالواقع وحیث إن التکلیف بغیر المقدور غیر ممکن ولا طریق لنا إلی هذه الأحکام إلا الظن فلا محالة تکشف هذه المقدمات عن جعل الشارع الظن حجة وطریقا إلی الواقع.

ص: 229


1- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج2، ص221.

وأما إذا قررنا المقدمة الثالثة بأن الاحتیاط التام لا یمکن لاستلزامه الخلل أو لا یجب لاستلزمه العسر والحرج فلا بد من التبعیض فی الاحتیاط ولا بد من حکم العقل بترجیح الامتثال الظنی علی الامتثال الشکی والوهمی لأن العکس لا یمکن. فالحاکم هو العقل دون الشارع.

والحاصل ان نتیجة مقدمات الانسداد تختلف باختلاف تقریر هذه المقدمة.

ولکن الصحیح فی المقام ان یقال: إن تقریر هذه المقدمة بأن الشارع لا یرضی بالامتثال الإجمالی فی معظم الأحکام الفقهیة وبالاحتیاط فی معظم المسائل الشرعیة غیر صحیح؛ ودعوی الاجماع من الفقهاء علی ذلک غیر صحیحة. أما الاجماع فلا وجود له مضافا إلی أن المسألة مسألة مستحدثة بین المتأخرین فکیف یمکن دعوی الاجماع فیها والمدعی للإجماع غیر موجود إلا أن یدعی الإجماع علی اعتبار قصد الوجه والجزم بالنیة فی العبادات مضافا إلی قصد القربة.

ولکن یرد علیه:

أولاً: أنه لا دلیل علی اعتبار قصد الوجه فی العبادات أصلا بل المشهور بین الأصحاب عدم اعتباره والمعتبر إنما هو قصد القربة، بل الدلیل علی عدم اعتباره موجود وهو انه لا شبهة فی حسن الاحتیاط بین جمیع الفقهاء من المتقدمین والمتأخرین بل هو أرقی مراتب العبودیة لأنه أرقی مراتب الانقیاد للمولی فلو کان قصد الوجه والجزم فی النیة معتبرا لم یمکن الاحتیاط لأن لازم ذلک عدم مشروعیة الاحتیاط مع أنه لا شبهة فی حسنه.

ودعوی ان سکوت الفقهاء من المتقدمین والمتأخرین قولا وعملا عن مشروعیة الاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة کاشف عن عدم اعتباره أما قولا فلعدم افتائهم بالاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة والمسائل الشرعیة واما عملا فهم لا یعملون بالاحتیاط هذه الدعوی مدفوعة بل لا ترجع إلی معنی محصل.

أولاً: أن سکوت الفقهاء عن الاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة لا یکشف عن عدم مشروعیته بل سکوت الإمام عن شیء لا یکشف عن عدم مشروعیته فضلا عن الفقهاء.

ص: 230

وثانیاً: أن المسألة مستحدثة بین المتأخرین فکیف یصدق سکوت الفقهاء علیها مع ان المتقدمین لا توجد بینهم مثل هذه المسألة.

وثالثاً: أنه یمکن أن یبرر عدم صدور الفتوی منهم فی الاحتیاط فی المعظم باعتبار انهم یرون انفتاح باب العلمی لا من جهة ان الاحتیاط غیر مشروع.

والنتیجة ان هذه الدعوی لا ترجع إلی معنی محصل.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

إلی هنا قد تبین أن دعوی إمکان تقریر المقدمة الثالثة بأن الاحتیاط فی معظم الأحکام الشرعیة غیر مشروع وأن الشارع لا یرضی بذلک هذه الدعوی لا أساس لها ولا إجماع فی البین ولا من یدعی الاجماع ولا شبهة فی أن الاحتیاط حسن وأنه من أرقی مراتب العبودیة لأنه انقیاد وهو أرقی مراتب العبودیة فلا فرق بین الاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة أو الاحتیاط فی بعضها فحسن الاحتیاط امر ذاتی ولیس أمرا عرضیا، فلا مجال لدعوی عدم مشروعیة الاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة.

واما سکوت الفقهاء عن الاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة فمن جهة أنهم یرون انفتاح باب العلم والعلمی فمن أجل ذلک لا موضوع للاحتیاط، هذا مضافا إلی أن سکوتهم لا یکشف عن عدم مشروعیة الاحتیاط.

ولکن قد یقال کما قیل: إن سیرة المتشرعة جاریة علی عدم الاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة وهذه السیرة کاشفة عن أن الشارع لا یرضی بهذا الاحتیاط.

والجواب عن ذلک واضح: وهو عدم التسلیم بوجود مثل هکذا سیرة بین المتشرعة، بل علی تقدیر وجودها فإنما تکون حجة فیما إذا کانت متصلة بزمن الأئمة(ع) ولم تکن مستحدثة بین المتشرعة، ومن الواضح انه لا طریق لنا إلی إحراز اتصال هذه السیرة بزمنهم(ع).

هذا من جانب..

ومن جانب آخر قد یقال کما قیل: إنا لو سلمنا أن تقریر المقدمة الثالثة بعدم مشروعیة الاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة وعدم رضا الشارع بهذا الاحتیاط ولکن مع ذلک لا تکون نتیجة مقدمات الانسداد الکشف، بل نتیجتها التبعیض فی الاحتیاط وتقدیم الامتثال الظنی علی الامتثال الشکی والوهمی، بتقریب قائم علی مجموعة مقدمات وهی:

ص: 231

1. انسداد باب العلم والعلمی فی معظم الأحکام الفقهیة.

2. عدم رضا الشارع بالاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة فهو غیر مشروع.

3. وعدم جریان أصالة البراءة العقلیة فی أطراف العلم الإجمالی لاستلزام جریانها المخالفة القطعیة العملیة أو الخروج من الدین.

4. والتکلیف الواقعی غیر ساقط عن الإنسان العقال الواعی لأنه لیس کالمجانین والبهائم.

5. لا طریق لنا إلی الأحکام الواقعیة الالزامیة غیر احتمال التکلیف وهو احتمال منجز طالما لم یکن هناک أصل مؤمن کما فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص باعتبار أن الأصول المؤمنة لا تجری فیها. وفی المقام أیضا کذلک لعدم جریان الأصول المؤمنة کالبراءة العقلیة فیکون احتمال التکلیف الالزامی منجز.

وهذا الاحتمال ذات مراتب متعددة فإن بعضه واصل إلی درجة الظن وبعضه إلی درجة الشک وبعضه إلی درجة الوهم. فهذه الاحتمالات تنقسم علی ثلاث أقسام: قسم منها مظنون وقسم منها مشکوک وقسم منها موهوم، والعقل بما انه لیس بجاعل ومشرع ولیس له جعل الحجیة للظن إذ المشرع هو الشارع ولیس للعقل إلا إدراک الواقع لکن بما أن الحاکم فی باب الامتثال هو العقل فإن العقل العملی یدرک حسن الامتثال لأوامر المولی وإطاعته وقبح التمرد علیه وعصیانه.

وحینئذ یدور الأمر فی المقام بین الامتثال الظنی والامتثال الشکی والوهمی فإن کان العسر والحرج مدفوع بترک الامتثال فی الموهومات فیقتصر علیه ویحتاط فی المظنونات والمشکوکات وأما إذا لم یکف ترک الاحتیاط فی الموهومات لدفع العسر والحرج فلا بد من ضم المشکوکات إلیه ایضا فعندئذ یحکم العقل بتقدیم الامتثال الظنی علی الامتثال الشکی والوهمی بترک الاحتیاط فی المشکوکات والموهومات والعمل بالمظنونات، ولا فرق فی ذلک بین أن یکون منشأ هذا الاحتیاط العلم الإجمالی أو یکون منشؤه الاحتمال.

ص: 232

ولکن هذا القیل غیر صحیح؛ لأن احتمال التکلیف لیس هو المنشأ وإنما المنشأ هو العلم الإجمالی إذ کل مؤمن برسالة النبی الأکرم(ص) هو مؤمن التزاما بمجموعة من الأحکام الالزامیة المشتملة علیها الرسالة، وهذا التکلیف لا یسقط بحال من الأحوال وإن کان باب العلم والعملی تفصیلا منسد بها ولکن باب العلم الإجمالی مفتوح، هذا مضافا إلی ما ذکرناه من ان الظن إذا لم یکن حجة شرعا فلا یصلح لأن یکون مرجحا لا شرعا ولا عقلا إذ حکم العقل بالترجیح لا یمکن أن یکون جزافا وبلا ملاک ولا ملاک لترجح الظن علی الشک والوهم لأنم الحکم المحتمل منجز سواء کان احتماله بدرجة الظن أو کان بدرجة الشک والوهم فهو منجز والمکلف معاقب علی مخالفته جمیعا بلا فرق بین أن یکون الحکم المحتمل مظنونا او مشکوکا او موهوما لأن مخالفته تعدٍ علی المولی وتمرد علیه وتفویت لحقه وهو حق الطاعة وهو من اظهر مصادیق الظلم لأن تفویت حق کل احد ظلم وتفویت من له حق ذاتی فی الطاعة من اظهر مصادیق الظلم.

فإذاً لیس هنا نکتة لتکون مرجحة لحکم العقل بتقدیم الظن علی الشک الوهم.

إلی هنا قد تبین اننا لو سلمنا بتقریر المقدمة الثالثة بما تکون نتیجته الکشف عن جعل الشارع الظن حجة وطریق إلی الواقع. ولکن إذا قلنا بحسن الاحتیاط وإن کان فی معظم الأحکام الفقهیة لا تکون النتیجة حجیة الظن عقلا إذ لا یعقل أن یکون العقل جاعلا للحجیة فلیس شأنه الجعل والتشریع نعم یحکم العقل بالاحتیاط ولکن حیث لا یمکن الاحتیاط التام فلا محالة یحکم بالتبعیض فی الاحتیاط إما مطلقا أو بتقدیم الاحتیاط فی المظنونات علی الاحتیاط فی المشککات والموهومات کما هو المعروف والمشهور.

ص: 233

هذا تمام کلامنا فی ان نتیجة مقدمات الانسداد هل هی الکشف او الحکومة لا بمعنی جعل الحجیة من قبل العقل.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

أما الکلام فی الجهة الثالثة: فیقع فی أن نتیجة مقدمات الانسداد بعد تمامیة هذه المقدمات هل هی مطلقة او مهملة او فیها تفصیل؟

والجواب عن ذلک: أن الإطلاق والإهمال تارة ملحوظان بالنسبة إلی أسباب حصول الظن واخری ملحوظان بالنسبة إلی مراتب الظن وثالثة ملحوظان بالنسبة إلی الموارد، وعلی جمیع التقادیر فتارة یقع الکلام علی القول بالکشف وان نتیجة هذه المقدمات هی الکشف وأخری یقع الکلام علی القول بالحکومة.

أما علی القول بالکشف: فقد ذکر السید الاستاذ (قده) انه لا إهمال من حیث الأسباب فإن الظن إذا حصل من أی سبب کان فهو صالح لأن یکون حجة شرعا سواء کان حاصلا من الاجماعات المنقولة او من روایات الثقات أو من غیرهم أو من الشهرات الفتوائیة او من حسن الظن بجماعة من الفقهاء أو ما شاکل ذلک فهذا الظن یکون حجة شرعا، لأن هذه المقدمات علی تقدیر تمامیتها تکشف عن حجیة الظن من أی سبب حصل هذا الظن، لأن العقل یعین ان موضوع الحجیة هو الظن بلا فرق بین حصوله من أی سبب کان فإذاً لا إهمال فی النتیجة من حیث الأسباب.

وأما الإهمال: من حیث مراتب الظن المتعددة الطولیة من مرتبة تلو الاطمئنان إلی مرتبة الأدنی من الاحتمال الراجح لأن الظن یطلق علی ادنی رجحان لأحد الاحتمالین علی الاحتمال الآخر کما فی الظن فی رکعات الصلاة وهو حجة فی رکعات الصلاة.

والنتیجة: من حیث المراتب مهملة إذ هذه المقدمات علی تقدیر تمامیتها تکشف عن حجیة الظن بمقدار یفی بمعظم الأحکام الفقهیة فی جمیع أبواب الفقه ولا تقتضی حجیة الظن مطلقا کما انها لا تقتضی حصة خاصة من الظن لأن هذا المقدار یحل مشاکل الإنسان الکبری من المسائل الاجتماعیة والفردیة والعائلیة بکافة أنواعها وأشکالها فإن کل مشکلة یقع الإنسان فیها قد جعل الشارع لها حلا.

ص: 234

فإذاً هذه المقدمات علی تقدیر تمامیتها تکشف عن حجیة الظن بمقدار یفی بمعظم الأحکام الفقهیة من بدایة أبواب الفقه إلی نهایته. ولا تقتضی حجیة الظن فی جمیع المراتب من مرتبة تکون تلو مرتبة الاطمئنان إلی مرتبة ادنی الرجحان کما انها لا تقتضی حجیة حصة خاصة من الظن فی مرتبة خاصة، فإذا فرضنا أن الظن القوی نوعا ___ وهو الظن الحاصل من أخبار الثقة او من الروایات الموجودة فی الکتب المعتبرة ___ یفی بمعظم الأحکام الفقهیة فمقدمات الانسداد علی تقدیر تمامیتها لا تکشف عن حجیة الظن بأکثر من ذلک أی ان خصوص الظن الحاصل من أخبار الثقة هو الحجة دون الحاصل من أخبار غیر الثقة أو أن الظن الحاصل من ظواهر الالفاظ هو الحجة دون الحاصل من ظواهر الافعال.

هذا فی غیر المسائل الشرعیة التی اهتم الشارع فیها کمسائل الدماء والأعراض والأموال الخطیرة فإن الظن فی هذه المسائل لا أثر له، حیث إنه إذا ظن بان هذا الرجل مهدور الدم ولکن یحتمل أنه مؤمن محقون الدم فلا یجوز قتله بمجرد الظن او ظن بان هذه المرأة لیست رضیعته مع احتمال انها رضیعته من فحل واحد فلا یجوز له ان یتزوج بها بمجرد هذا الاحتمال ولا أثر لهذا الظن ولا یکون حجة.

والحاصل: فی المسائل التی اهتم الشارع بالحفاظ علیها لا یجوز العمل بالظن ولا یکون حجة.

وعلی هذا فمقدمات الانسداد علی القول بالکشف علی تقدیر تمامیتها إنما تکشف عن حجیة الظن فی غیر المسائل التی اهتم الشارع فیها.

هذا بحسب المراتب.

واما بحسب الموارد: فنتیجة هذه المقدمات أیضا مهملة فإن هذه المقدمات لا تکشف عن حجیة الظن فی جمیع الموارد وإنما تقتضی حجیة الظن فی معظم الأحکام الفقهیة لا فی جمیع الأحکام الفقهیة فی تمام الموارد أی أن القول بالکشف إما مبنی علی سقوط العلم الإجمالی من جهة الاضطرار إلی بعض أطرافه غیر المعین فإنه یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن الاعتبار کما بنی علیه صاحب الکفایة(قده) وحینئذ یکون العلم الإجمالی فی المقام منحل فلا أثر له وبما ان المفروض ان باب العلم والعلمی منسد والاحتیاط غیر واجب لسقوط العلم الإجمالی عن الاعتبار والتکلیف غیر ساقط، فلا محالة تکشف هذه المقدمات عقلا عن أن الشارع جعل الظن حجة وإلا لزم التکلیف بغیر المقدور وهو محال بمقدار یفی بمعظم الأحکام الفقهیة. أو أن القول بالکشف مبنی علی أن الشارع لا یرضی بالاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة.

ص: 235

أما علی القول الأول: فلأن مقدمات الانسداد تکشف عن حجیة الظن فی غیر المسائل المهمة التی اهتم الشارع بالحفاظ علیها کمسائل حفظ النفس المحترمة ومسائل الأعراض والدماء والأموال الخطیرة، وإذا ضممنا تلک الموارد إلی هذه المسائل فإذا صار المجموع بمقدار معظم الأحکام الفقهیة کفی ذلک فی حل مشاکل الإنسان فإن لم یف بمعظم الأحکام الفقهیة فلا بد من ضم الظن فی موارد أخری إلی ذلک.

فإذاً لا بد من حجیة الظن بمقدار یفی بمعظم الأحکام الفقهیة فإن کفی الظن القوی بذلک فهو وإلا لا بد من ضم ظن آخر أضعف منه حتی یکون المجموع وافیا بمعظم الأحکام الفقهیة. هذا بناء علی ان العلم الإجمالی ساقط ولا أثر له ولا یکون منجزا.

واما فی المسائل التی اهتم بها الشارع فالمنجز هو الاحتمال لا العلم الإجمالی.

وأما علی القول بأن الشارع لا یرضی بالاحتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة فأیضا لا ینافی وجوب الاحتیاط فی تلک المسائل المهمة فإن هذه المسائل غیر داخلة فی معظم الأحکام الفقهیة ولا بد من الاحتیاط فیها ولا یکون الاحتیاط فیها احتیاط فی معظم الأحکام الفقهیة حتی یقال إن الشارع غیر راض بها.

وعلی هذا فلا بد من ضم بقیة الموارد إلی هذه المسائل بمقدار یفی بمعظم الأحکام الفقهیة فإذا وفی بذلک کفی حل مشاکل الإنسان وإن لم یف فلا بد من ضم ظنون اخری وهکذا.

فالنتیجة: أن علی القول بالکشف لا إهمال فی الأسباب واما بحسب المراتب والموارد فالنتیجة مهملة.

واما علی القول بالحکومة: فقد ذکر صاحب الکفایة(قده) (1) انه لا یعقل أن تکون النتیجة مهملة لأن الحاکم بحجیة الظن إنما هو العقل والحاکم لا یشک فی صدور الحکم منه فالعقل لا یشک فی أنه حکم بحجیة مطلق الظن او بحجیة حصة خاصة من الظن، فلا یتصور ذلک فی حق الحاکم فمن أجل ذلک لا یتصور الإهمال فی الأسباب.

ص: 236


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص322.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

اما علی القول بالحکومة فلا یتصور الإهمال لا فی الأسباب ولا فی المراتب ولا فی الموارد فإن الحاکم لا یتصور أن یشک فی أن الحکم الصادر منه مطلق أو مهمل، وعلی هذا فالحاکم فی باب الانسداد علی القول بالحکومة هو العقل ولا یتصور أن یحکم العقل ولا یدری أن حکمه مطلق أو مهمل فلأجل ذلک لا یتصور الإهمال.

أما فی الأسباب: فلأن موضوع الحجیة بحکم العقل هو الظن من أی سبب حصل فلا خصوصیة فیه للسبب ولا موضوعیة له والمناط إنما هو علی حصول الظن فإذا حصل الظن یحکم العقل بحجیته سواء کان حصوله من أخبار الثقة أو أخبار العدول أو الأخبار الموجودة فی الکتب المعتبرة او من الإجماعات المنقولة أو من الشهرات الفتوائیة او من حسن الظن بالجماعة فمن أی سبب حصل الظن فهو موضوع لحکم العقل بالحجیة ولهذا لا یتصور فیه الإهمال.

نعم ذکر صاحب الکفایة(قده) أنه إذا کان هناک أسباب متعددة وبینها قدر متیقن فالنتیجة لیست مطلقة.

وسوف نبین ذلک.

وأما من حیث المورد: فأیضا لا إهمال فی البین بل النتیجة مقیدة والعقل یحکم بحجیة الظن وبمنجزیته مطلقا فی غیر المسائل التی أهتم الشارع بها وهی مسائل حفظ النفوس المحترمة ومسائل الفروج والأعراض ومسائل الاموال الخطیرة فإن الظن لا یکون حجة فی تلک المسائل لا فی حال الانفتاح ولا فی حال الانسداد فالعقل یحکم بمنجزیة الظن ومنجزیته مطلقا فی سائر الموارد غیر هذه المسائل، لأن الظن بهدر دم شخص لا یعول علیه وکذا لو ظن بان امرأة معینة لیست رضیعته فإنه لا یجوز له التزویج بها، فیجب الاحتیاط فی هکذا مسائل لمجرد الاحتمال.

ص: 237

واما من حیث المراتب: فأیضا لا إهمال فیها لأن العقل یحکم بحجیة الظن الاطمئنانی فإن وفی بمعظم الأحکام الفقهیة فهو وإلا فلا بد من ضم ما یلیه من الظنون إلا أن یفی بمعظم الأحکام الفقهیة.

هذا ما ذکره صاحب الکفایة(قده).

أما ما ذکره من عدم الإهمال فی الأسباب فالأمر فیه کما ذکر، لأن هناک فرقا بین باب الانفتاح وباب الانسداد لأن فی باب الانفتاح موضوع الحجیة الأسباب مثل خبر الثقة حجة او لیس بحجة سواء کان مفیدا للظن أو لا یکون مفیدا له، والاجماع المنقول حجة او لیس بحجة واخبار الآحاد حجة أولا فموضوع الحجیة هو السبب سواء أفاد الظن الشخصی او لم یکن مفیدا له، لأن حجیة خبر الثقة من باب إفادة الظن النوعی وإن لم یفد الظن الشخصی بل هو حجة فیما إذا کان الظن الشخصی علی خلافه.

واما فی باب الانسداد: فموضوع الحجیة بحکم العقل هو الظن بما هو ظن من أی سبب حصل فمن أجل ذلک لا یتصور فیه الإهمال، سواء کان من السبب القوی او کان من السبب الضعیف، وعلی کل حال هذه الخصوصیات غیر ملحوظة لأن المناط هو بحصول الظن فی أفق النفس فإذا حصل من أی سبب کان کفی فی حکم العقل بحجیته.

واما ما ذکره(قده): - من أنه إذا کان بین الأسباب قدرا متیقنا فالنتیجة لیست مطلقة - فلا یرجع إلی معنی محصل. فإن أراد بذلک القدر المتیقن فی سببیته لإفادة الظن باعتبار ان بعضها أقوی من الآخر فی إفادة الظن فیرد علیه أن النتیجة مطلقة ولیست مهملة لأن کلا من هذه الأسباب مفید للظن بلا فرق بین ما إذا کان هناک قدرا متیقنا بینها او لم یکن فجمیع هذه الأسباب سبب لإفادة الظن ومفیدة للظن.

ص: 238

وإن أراد التیقن بحسب الأسباب: وأنه إذا کانت هناک أسباب متعددة وکان بینها قدر متیقن من حیث السببیة فیرد علیه أن التیقن إنما هو ملحوظ فی حال الانفتاح لأن موضوع الحجیة فی حال الانفتاح الأسباب سواء کانت مفیدة للظن ام لم تکن مفیدة له وأما فی حال الانسداد فموضوع الحجیة الظن بما هو ظن من أی سبب حصل ولا خصوصیة ولا موضوعیة للأسباب.

وأما ما ذکره من أنه لا إهمال من حیث المورد فالأمر کذلک علی مسلکه(قده) من أن حال الظن فی باب الانسداد کحال الاقطع فی حال الانفتاح فکما أنه لا یتصور الإهمال فی حجیة القطع ومنجزیته من أی سبب حصل وفی أی مورد کان فإن القطع حجیته ذاتیة ومن لوازم ذاته ومنجزیته یستحیل انفکاکها عنها فکذلک الظن فی حال الانسداد فتکون حجیته ومنجزیته ذاتیة فلأجل ذلک لا یتصور الإهمال فی الموارد غیر الموارد التی اهتم الشارع بالحفاظ علیها لعدم حجیة الظن فیها لاهتمام الشارع فی الحفاظ علیها حتی فی فرض الاحتمال، فلا یتصور الاهمال فی الموارد علی مسلکه(قده).

وأما بناء علی معنی حکم العقل بحجیة الظن عل القول بالحکومة أی ان الظن یوجب صرف تنجیز العلم الإجمالی إلی مورده وانحلال هذا التنجیز عن موردی الشک والوهم ولهذا لا مانع من الرجوع إلی البراءة العقلیة فی موارد الشک والوهم واما فی موارد الظن فالعقل یحکم بتنجیز الظن.

وعلی هذا فأیضا لا یتصور الإهمال فی الموارد ففی أی مورد یکون الظن موجودا فهو حجة ومنجز إلا فی الموارد التی اهتم الشارع بالحفاظ علیها حتی فی فرض الاحتمال.

وأما بناء علی أن معنی الحکومة هو التبعیض فی الاحتیاط لأن العقل یحکم بتقدیم الامتثال الظنی علی الامتثال الشکی والوهمی إذ ان أطراف العلم الإجمالی متفاوتة ففئة من اطرافه مشکوکة وفئة أخری موهومة وفئة ثالثة مظنونة فالأمر یدور بین الامتثال الظنی والامتثال الشکی والامتثال الوهمی ولا شبهة فی ان العقل یحکم بتقدیم الامتثال الظنی علی الامتثال الشکی والوهمی لأن الحاکم فی باب الامتثال هو العقل فعندئذ أیضا لا إهمال فی البین فإن فی موارد الظن لا یکون هناک إهمال لأن الظن فی أی مورد کان فهو منجز وحجة یجب العمل به والامتثال له فی غیر الموارد التی اهتم الشارع بالحفاظ علیها إذ لا یکون الظن فیها حجة.

ص: 239

واما من حیث المرتبة فأیضا لا إهمال فیها فإن العقل یحکم بحجیة الظن بمقدار یفی بمعظم الأحکام الفقهیة بنحو الکبری الکلیة لا أکثر ولا أقل.

هذا تمام کلامنا فی دلیل الانسداد.

وقد تبین أن مسألة الانسداد مسألة افتراضیة لا واقع موضوعی لها فإنه لا یوجد بین علمائنا من یقول بالانسداد لأنهم متفقون علی انفتاح باب العلمی غایة الأمر تختلف آراؤهم فی حجیة خبر الواحد فبعضهم یری حجیة خبر الثقة کما هو المعروف بین المتقدمین وبعضهم یری حجیة أخبار العدول وبعضهم یری حجیة أخبار الآحاد مطلقا وبعضهم یری حجیة أخبار الإمامی وإن کان فاسقا.

والحاصل انه لا یوجد منهم من هو قائل بالانسداد.

واما جملة من الإخباریین فیرون ان الأخبار الموجودة فی الکتب الأربعة قطعیة السند لا انها ظنیة السند وإن کانت منقولة بخبر الواحد إلا انها قطعیة السند.

وکیف ما کان فلا وجه لإطالة الکلام فی مسألة الانسداد کما اطال الکلام فی ذلک شیخنا الأنصاری(قده).

وقد تکلم بالتفصیل فی ان نتیجة مقدمات الانسداد هل هی واصلة بنفسها او واصلة بطریقها أو غیر واصلة مع أنه لا یترتب علی هذه المسائل أی أثر شرعی فلا فائدة فیها.

بقی الکلام فی مسألتین:

الأولی: هل یجوز الرجوع فی الانسداد إلی قاعدة الاستصحاب أو القرعة أو فتوی الفقیه؟

أما الاستصحاب: فإن کان الدلیل علی حجیته الروایات فالمفروض انها لا تکون حجة فلا یکون الاستصحاب حجة إلا إذا کان الدلیل علی حجیة الاستصحاب الأخبار المتواترة وهی غیر موجودة أو ان حجیته ثابتة ببناء العقلاء وهذا أیضا غیر ثابت لأن عمدة الدلیل علی حجیة الاستصحاب الروایات وهی لا تکون حجة علی القول بالانسداد، فلا یمکن التمسک بقاعدة الاستصحاب، ومع الإغماض عن ذلک فلا مانع من التمسک بالاستصحاب النافی للتکلیف ولکن هذا الاستصحاب لا یجری فی أطراف العلم الإجمالی إما لأنه قاصر فی نفسه عن الشمول وإما لأنه یسقط من جهة التعارض فکما ان أصالة البراءة لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی کذلک الاستصحاب النافی للتکلیف.

ص: 240

واما الاستصحاب المثبت للتکلیف فی الشبهات الحکمیة فهو قلیل، فضم هذا الاستصحاب إلی الأحکام الضروریة والأحکام القطعیة لا یفی بمعظم الأحکام الفقهیة ولا یحل مشاکل الإنسان الکبری، هذا مضافا إلی عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة.

دلیل الانسداد بحث الأصول

الموضوع: دلیل الانسداد

بقی هنا مسألتان:

المسألة الأولی: هل للفقیه الانسدادی الرجوع إلی سائر القواعد کقاعدة الاستصحاب وقاعدة القرعة وفتوی الفقیه الذی یری انفتاح باب العلمی أم لا یجوز له ذلک؟

والجواب عن ذلک: أما الاستصحاب فإن کان الدلیل علی حجیته الروایات ____ کما هو کذلک ___ فلا یکون حجة لأن الروایات لا تکون حجة علی القول بالانسداد، فلا أثر للاستصحاب إلا إذا کان الدلیل علیه الروایات المتواترة او بناء العقلاء الممضی شرعا.

ولکن هذا الاستصحاب باعتباره نافیا للتکلیف لا یجری فی أطراف العلم الإجمالی لاستلزامه المخالفة القطعیة العملیة أو الخروج من الدین، ومن هنا لا یمکن التمسک بهذا الاستصحاب کما لا یمکن التمسک بالبراءة العقلیة لعدم جریانها فی أطراف العلم الإجمالی.

واما الاستصحاب المثبت للتکلیف فی الشبهات الحکمیة فهو قلیل ولا یجدی فی انحلال العلم الإجمالی ولا أثر له.

ومع ذلک فقد أجیب عن هذا الاستصحاب بجوابین:

الجواب الأول: أن هذا الاستصحاب من قبیل الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة وهو غیر جار فیها ___ کما بنی علیه السید الاستاذ (قد) وبنینا علیه أیضا __ بل هو مختص بالشبهات الموضوعیة.

الجواب الثانی: ما ذکره شیخنا الانصاری(قده) والمحقق النائینی من ان هناک مانع من جریان الاستصحاب غایة الامر ان شیخنا الانصاری یری ان المانع إثباتی والمحقق النائینی یری ان المانع من جریان هذا الاستصحاب ثبوتی لا إثباتی.

بیان ذلک: إن هناک تعارض بین إطلاق صدر أدلة الاستصحاب وإطلاق ذیلها فإنه قد ورد فیها: ( لا تنقض الیقین أبدا بالشک) (1) ومقتضی إطلاق ذلک أنه یشمل الشبهات البدویة ویشمل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی ولکن ذیل هذه الروایات: ( وإنما تنقضه بیقین آخر) والمراد من الیقین الآخر أعم من الیقین التفصیلی والیقین الإجمالی ولازم إطلاق الذیل ان الاستصحاب لا یجری فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی باعتبار ان الیقین الإجمالی موجود وهو ناقض للاستصحاب وهذا یعنی اختصاصه بالشبهات البدویة. فیقع التعارض بین مقتضی إطلاق الصدر ومقتضی إطلاق الذیل. فیسقطان معا من جهة المعارضة إذ لا مرجح فی البین.

ص: 241


1- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج1، ص245، أبواب نواقض الوضوء، باب1، ح1، ط آل البیت.

فتصبح روایات الاستصحاب مجملة ولا إطلاق لها والقدر المتیقن منها جریان الاستصحاب فی الشبهات البدویة وحینئذ لا یجری فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.

والجواب عن ذلک واضح: وهو أن المراد من الیقین فی الذیل: ( ولکن تنقضه بقین آخر) هو الیقین التفصیلی لا الأعم منه ومن الإجمالی لأن الیقین الإجمالی لا یصلح لأن یکون ناقضا إذ الیقین الناقض لا بد ان یتعلق بنفس ما تعلق به الیقین السابق والیقن الإجمالی لیس کذلک لأنه متعلق بالجامع واما الیقین التفصیلی فهو متعلق بالفرد وذلک کما إذا علم إجمالا بطهارة احد إناءین بعد العلم بنجاستهما فالعلم الإجمالی تعلق بالجامع وهو طهارة أحد الإناءین والعلم التفصیلی تعلق بخصوص نجاسة الإناء الشرقی والإناء الغربی ومن الواضح أن العلم الإجمالی لا یصلح أن یکون ناقضا لأن متعلقه غیر متعلق الیقین التفصیلی باعتبار ان متعلق الیقین التفصیلی الفرد بحده الفردی ومتعلق الیقین الإجمالی الجامع فکیف یکون ناقضا له.

وعلی هذا فلامحالة یکون المراد من الیقین الناقض فی ذیل الروایة هو الیقین التفصیلی. ویترتب علیه أنه لا تعارض بین إطلاق ذیل روایات الاستصحاب وإطلاق صدرها. هذا مضافا إلی أن روایات الاستصحاب علی طائفتین:

الطائفة الأولی: تکون مذیلة بهذا الذیل: ( ولکن تنقضه بیقین آخر).

الطائفة الثانیة: لا تکون مذیلة بهذا الذیل بل هی مطلقة؛ لأنه قد ورد فیها: (فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک أبداً) (1) ، وبإطلاقها تشمل الشبهات البدویة والشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.

فإذا فرضنا سقوط الطائفة الأولی من جهة المعارضة عن الاعتبار وأصبحت مجملة فلا مانع من التمسک بالطائفة الثانیة.

وعلی هذا فلا یمکن المساعدة علی ما ذکره شیخنا الأنصاری من الإشکال الإثباتی.

ص: 242


1- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج3، ص66، أبواب النجاسات والاوانی والجلود، ب37، ح1، ط آل البیت.

وأما ما ذکره المحقق النائینی(قده): فقد ذکر انه لا قصور فی أدلة الاستصحاب عن شمولها لأطراف العلم الإجمالی ولکن یوجد مانع من ذلک ثبوتی، فلو فرض أن المکلف توضأ فی ماء ثم شک فی انه نجس أم طاهر، فإنه یتولد من هذا الشک شکان:

احدهما: الشک فی ان أعضاء وضوئه هل تنجست أم انها باقیة علی الطاهرة؟ فإن کان الماء نجسا تنجست أعضاء وضوئه وإن کان طاهرا فهی باقیة علی طهارتها.

الثانی: أن هذا الوضوء رافع للحدث أو لا یکون کذلک، فإن کان الماء طاهرا فالوضوء صحیح ورافع للحدث وأن کان نجسا فلا یکون صحیحا ولا رافعا للحدث. ففی مثل ذلک هل یجری استصحاب بقاء طاهرة أعضاء الوضوء واستصحاب بقاء حدث المکلف مع العلم الإجمالی ببطلان أحدهما؟

ومن أمثلة ذلک: ما إذا علم تفصیلا بنجاسة کلا الإناءین: الأبیض والأسود ثم علمنا بطهارة احدهما إما باتصاله بالکر او بالمکاء الجاری او بماء المطر فهل هذا العلم الإجمالی مانع عن استصحاب بقاء نجاسة کل منهما او لا یکون مانعا؟

الصحیح: انه لا یکون مانعا فإن المانع عن جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی لزوم المخالفة القطعیة العملیة وفی المقام لا تلزم المخالفة القطعیة العملیة لا فی المثال الأول ولا فی المثال الثانی، وإنما تلزم المخالفة القطعیة الالتزامیة وهی لا تکون مانعة عن جریان الأصول المؤمنة فی أطراف العلم الإجمالی.

ولکن المحقق النائینی منع جریان کلا الاستصحابین لأن معنی ذلک هو التعبد علی خلاف العلم الوجدانی لأن المکلف یعلم وجدانا بطهارة أحد الإناءین.

ولکن لا یمکن المساعدة علیه؛ إذ لیس هذا التعبد علی خلاف العلم الوجدانی لأن العلم الوجدانی قد تعلق بالجامع وهو طهارة احدهما واما الاستصحاب فقد تعلق بالفرد وهو بقاء نجاسة الإناء الأبیض بخصوصه وبقاء نجاسة الإناء الأسود بخصوصه فما تعلق به التعبد غیر ما تعلق به العلم الوجدانی فلا یکون التعبد علی خلاف العلم الوجدانی حتی یقال بعدم إمکان جریان هذا الاستصحاب.

ص: 243

فالنتیجة: عدم تمامیة شیء من هذین الإشکالین.

ثم أن صحاب الکفایة (1) (قده) ذکر ان عملیة الاستصحاب تدریجیة فی المسائل الفقهیة ولا یمکن ان تکون دفعیة بل تطول إلی فترة زمنیة طویلة.

وعلی هذا ففی کل مسألة یقوم المجتهد بعملیة الاستنباط فی کل طرف من أطراف العلم الإجمالی الکبیر وابتلی بالاستصحاب فلا مانع من جریانه لأنه غافل عن الاستصحاب فی سائر أطراف العلم الإجمالی فموضوع الاستصحاب متحقق فی هذه المسألة لا فی سائر المسائل فلا مانع من جریان الاستصحاب فیها وعدم جریانه فی سائر المسائل وهکذا إلی ان ینتهی من عملیة الاستنباط.

والجواب عن ذلک أیضا واضح: أنه نعم هو فی حال عملیة الاستنباط ربما کان غافلا عن سائر المسائل فی أطراف العلم الإجمالی الکبیر إلا أنه بعد تمامیة عملیة الاستنباط یعلم إن بعض هذه الاستصحابات مخالف للواقع فکیف یمکنه الافتاء بالجمیع مع علمه بمخالفة بعض هذه الفتاوی للواقع وحینئذ.

فما ذکره صاحب الکفایة(قده) لا یحل المشکلة أیضا.

واما القرعة: فدلیلها الروایات والمفروض أنها لا تکون حجة علی القول بالانسداد مضافا إلی اختصاص القرعة فی الشبهات الموضوعیة ولا تجری فی الشبهات الحکمیة، وما نحن فیه هو الشبهات الحکمیة.

واما فتوی الفقیه الانفتاحی فلیس للمجتهد الانسدادی الرجوع إلیه لأنه یری خطأ هذه الفتوی باعتبار أنه یری عدم الدلیل علی حجیة الأخبار لقصور الدلیل علیها ولأجل ذلک یقول بالانسداد.

هذا تمام کلامنا فی هذه المسألة.

حکومة قاعدة لا ضرر ولا حرج علی الاحتیاط بحث الأصول

الموضوع: حکومة قاعدة لا ضرر ولا حرج علی الاحتیاط

وهنا قولان: قول بالحکومة فی باب الانسداد وقول بعدم الحکومة، واختار القول الثانی المحقق الخراسانی (2) (قده) وقد أفاد فی وجه ذلک:

ص: 244


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص314.
2- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص382.

إن عنوان الضرر والحرج عنوان للفعل فمفاد لا ضرر نفی الحکم بلسان نفی الموضوع وعنوان لا حرج نفی الحکم حقیقة بنفی الموضوع ک_( لا ربا بین الوالد والولد او لا ربا بین الزوج والزوجة) فإنه مسوق لنفی حرمة الربا ولکن بلسان نفی موضوعها وهو الفعل الربوی الذی ینطبق علیه عنوان الربا وکذلک قوله(ع): (لا سهو للإمام إذا کان المأمون حافظا) وبالعکس (لا سهو للمأموم إذا کان الإمام حفاظا ) فإن کلمة لا لنفی الحکم حقیقة أی نفی السهو حقیقة ولکن بلسان نفی الموضوع وعلی هذا فإذا کان متعلق الحکم ضرریا او حرجیا فهذا الحکم منفی بلسان نفی موضوعه فإذا کان الوضوء ضرریا فوجوبه منفی بلسان نفی الموضوع وکذا لوکان الغسل ضرریا او حرجیا، فیکون المنفی حقیقة هو وجوب الوضوء ووجوب الغسل لکن بلسان نفی موضوعهما، والمراد من الموضوع ما یشمل المتعلق، وأما إذا لم یکن المتعلق ضرریا أو حرجیا فلا موضوع لتطبیق قاعدة لا ضرر او لا حرج علیه.

وعلی هذا: فمتعلقات الأحکام الشرعیة فی الواقع لیست بضرریة ولا حرجیة فلا یمکن تطبیق قاعدة لا ضرر ولا حرج علیها لأن انفتاح باب العلم والعلمی معناه أنه لا ضرر ولا حرج فی الاتیان بمتعلقات الأحکام الواقعیة، فلا یمکن تطبیق قاعدة لا ضرر ولا حرج علیها لأن الضرر إنما نشأ من الجمع بین المحتملات باعتبار أن ضم الواجب إلی غیر الواجب یوجب الضرر والحرج لأن معنی الاحتیاط هو الجمع بین المحتملات فیکون الضرر نتاج الجمع بین المحتملات والاحتیاط هو الجمع بین المحتملات من الواجبات وغیرها، وحیث إن الجمع بین المحتملات الذی هو الاحتیاط لیس متعلقا للحکم الشرعی بل هو بحکم العقل فلا یمکن تطبیق قاعدة لا ضرر او لا حرج علیه.

ص: 245

وعلیه فما هو متعلق للحکم الشرعی واقعا لیس فیه ضرر وحرج وما فیه حرج او ضرر لیس متعلقا للحکم الشرعی فمن أجل ذلک لا تکون قاعدة لا ضرر ولا حرج حاکمة علی قاعدة الاحتیاط ولا یمکن رفع الاحتیاط بهذه القاعدة.

ویمکن المناقشة فی ذلک: إذ الضرر لیس عنوانا للفعل وکذلک الحرج لیس عنوانا للفعل لأن عنوان الفعل هو الفعل الضرری لأنه لا یقال: الفعل ضرر ومن هنا لا یکون الضرر والحرج عنوانا للفعل وإنما العنوان للفعل هو الفعل الضرری والفعل الحرجی، فإذا لم یکن الضرر والحرج عنوانا للفعل فلا یکون مشمولا لقاعدة لا ضرر لأنا قلنا: إن هذه القاعدة إنما تنفی الحکم بلسان نفی الموضوع فیما إذا کان الموضوع ضررا أو حرجا أو عنوانا آخر کالربا فإنه عنوانا للفعل وکذلک السهو واما الحرج والضرر فلیس عنوانا للفعل وإنما یقال: الفعل حرجی وضرری ولا یقال: عن الفعل ضرر او حرج.

وعلی هذا لا یکون المقام مشمولا لقاعدة لا ضرر، هذا من جانب ومن جانب آخر.

ومن جانب آخر أنه یمکن تفسیر قاعدة لا ضرر بتفسیرین:

التفسیر الأول: أن مفاد قاعدة لا ضرر نفی الحکم المجعول من قبل الشارع والذی ینشأ من قبله الضرر، فوجوب الوضوء مثلا إذا کان ضرریا أو حرجیا فهو غیر مجعول فی الشریعة المقدسة لأن هذا الفعل ینشأ من قبله الضرر، فمصب النفی هو الحکم الضرری أی الذی ینشأ منه الضرر، وعلیه یکون الحکم المعنون بهذا العنوان ثانوی أی معنون بعنوان (أنه ینشأ منه الضرر) فهو منفی بهذه القاعدة فقوله(ع): (لا ضرر) إشارة إلی نفی الحکم المجعول فی الشریعة المقدسة الذی ینشأ منه الضرر فهذا الحکم غیر مجعول، وقد اختار هذا التفسیر شیخنا الأنصاری (1) (قده) وتبعته علیه مدرسة المحقق النائینی(قده) (2) ومنهم السید الاستاذ(قده) (3) .

ص: 246


1- فرائد الاصول، الشیخ الانصاری، ج2، ص460.
2- اجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص507.
3- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج2، ص521.

التفسیر الثانی: ان المنفی هو الضرر والحرج الذی جاء من قبل المولی واما الضرر الخارجی فهو موجود وغیر قابل للنفی التشریعی باعتبار أن التشریع لا یمکن ان یتعلق بالتکوین فلا بد ان یکون المنفی هو الضرر والحرج الجائی من قبل المولی.

والفرق بین التفسیرین هو أن مصب النفی فی التفسیر الأول هو الحکم ابتداءً وهو الحکم الذی ینشأ من قبله الضرر فمثل هذا الحکم غیر مجعول فی الشریعة المقدسة واما مصب النفی فی التفسیر الثانی فهو الحرج او الضرر الناشئ من قبل المولی.

وبکلمة: إنه یمکن التمییز بین التفسیرین بالقول: إن المنفی فی التفسیر الأول هو علة الضرر ومنشأه والمنفی فی التفسیر الثانی هو مسبَب الضرر ومعلوله لأن الحرج والضرر الذی جاء من قبل المولی معلول للحکم الضرری الذی جعله المولی.

حکومة قاعدة نفی الضرر والحرج علی قاعدة الاحتیاط بحث الأصول

الموضوع: حکومة قاعدة نفی الضرر والحرج علی قاعدة الاحتیاط

کان کلامنا فی مفاد قاعدة لا ضرر ولا حرج والأقوال فیها ثلاثة:

القول الأول: أن مفاد حدیث لا ضرر ولا حرج نفی الحکم بلسان نفی الموضوع کقوله(ع): (لا ربا بین الوالد والولد) أو (لا سهو للإمام إذا کان المأموم حافظا وبالعکس) وما نحن فیه کذلک نفی الحکم حقیقة بلسان نفی الموضوع، وهذا القول مختص بما إذا کان متعلق الحکم بنفسه ضرریا او حرجیا فإذا کان متعلق الحکم بنفسه ضرریا او حرجیا فهو مشمول لهذا الحدیث، وأما إذا لم یکن متعلق الحکم بنفسه ضرریا أو حرجیا بل الضرر ناشئ من الجمع بین محتملات التکلیف من الجمع بین الواجب وغیر الواجب فی أطراف العلم الإجمالی فهو غیر مشمول لهذا الحدیث لأن متعلق التکلیف لیس ضرریا فإن الجمع لیس متعلقا للحکم الشرعی بل هو متعلق للحکم العقلی ومن الواضح أن حدیث لا ضرر لا یشمل نفی الحکم العقلی.

ص: 247

ومن هنا إذا کان الجمع بین المحتملات غیر ضرریا فهو غیر مشمول لهذا الحدیث لأنه مختص بما إذا کان متعلق التکلیف بنفسه ضرریا کما إذا کان الوضوء او الغسل ضرریا او القیام فی الصلاة ضرریا فیکون وجوب الوضوء مثلا منفیا بلسان نفی موضوعه وهو الوضوء وهکذا فی الباقی.

وقد اختار هذا القول المحقق الخراسانی(قده).

القول الثانی: ان مفاد حدیث لا ضرر نفی الحکم الناشئ منه الضرر مباشرة لا نفی الموضوع، فکون الفعل ضرریا فهو مسبب عن الحکم وکون الفعل حرجیا فهو مسبب ومعلول للحکم فالحکم هو الذی یوجب الضرر وسبب ومنشأ له فالمنفی إنما هو نفس الحکم مباشرة لأنه یوجب الضرر والحرج فالوضوء إذا کان ضرریا فضرره ناشئ من وجوبه فالمنفی فی الحقیقة هو الوجوب الناشئ منه الضرر وکذلک الغسل والقیام فی الصلاة، وهذا القول لا یختص بما إذا کان متعلق التکلیف بنفسه ضرریا أو حرجیا بل هو یشمل ما إذا کان الجمع بین محتملاته أیضا ضرریا وحرجیا لأن الضرر المترتب علی الجمع بین المحتملات فی أطراف العلم الإجمالی ناشئ من الحکم الالزامی الواقعی المنجز بالعلم الإجمالی فالذی یوجب الجمع بین المحتملات هو تنجیز الحکم الواقعی الالزامی بالعلم الإجمالی، فالضرر المترتب علی الجمع ناشئ من الحکم الالزامی المنجز بالعلم الإجمالی لأنه هو الذی یوجب تنجز المعلوم بالإجمال فی جمیع أطرافه وهو یقتضی وجوب الاحتیاط الذی یقتضی الجمع بین جمیع أطرافه فإذا کان هذا الجمع ضرریا فهو مستند ومسبب عن الحکم الالزامی المنجز فی العلم الإجمالی فعندئذ یکون المنفی بحدیث لا ضرر هو ذلک الحکم.

وعلی هذا ینتفی حکم العقل بانتفاء سببه وعلته فلا یحکم العقل عندئذ بالجمع بین المحتملات لأن منشأ حکم العقل بالجمع بین المحتملات هو تنجز الحکم الالزامی الواقعی بالعلم الإجمالی فإذا کان هذا الحکم الواقعی الالزامی المنجز بالعلم الإجمالی منفی بحدیث لا ضرر ومرفوع بهذا الحدیث وغیر مجعول فی الشریعة المقدسة انتفی حکم العقل بانتفاء موضوعه فعندئذ لا یحکم العقل بوجوب الاحتیاط وبالجمع بین المحتملات،

ص: 248

وعلی هذا القول فی مفاد حدیث لا ضرر ولا حرج یتم نفی الحکم الالزامی المنجز مباشرة بلا فرق بین ان یکون متعلقه بنفسه حرجیا أو ضرریا او یکون الضرر والحرج ناشئا من الجمع بین محتملاته التی هی أطراف العلم الإجمالی وهو مقتضی حکم العقل بوجوب الاحتیاط.

فعلی کلا التقدیرین ینفی حدیث لا ضرر الحکم الالزامی المنجز سواء کان الضرر فی متعلقه بنفسه أم کان الضرر فی الجمع بین محتملاته لأن حدیث لا ضرر ینفی ذلک الحکم وبانتفائه ینتفی حکم العقل بالجمع وحکم العقل بالاحتیاط.

واختار هذا القول شیخنا الانصاری(قده) وتبعته مدرسة المحقق النائینی(قده) ومنهم السید الاستاذ(قده).

القول الثالث: إن المرفوع نفس الضرر والحرج لا ضرر والحرج الخارجی فإنه غیر قابل للرفع تشریعا بل هو واقع فی الخارج بل المراد من نفی الحرج والضرر الضرر والحرج المسبب من الحکم الشرعی مثلا ضرر الوضوء مسبب عن وجوبه وضرر الغسل مسبب عن وجوبه فحدیث لا ضرر ینفی هذا الضرر المسبب عن الحکم الشرعی وهو الوجوب، وهذا القول أیضا لا یختص بما إذا کان متعلق التکلیف بنفسه ضرریا او حرجیا بل یعم ما إذا کان الضرری والحرجی هو الجمع بین محتملات العلم الإجمالی بحکم العقل فإن حکم العقل بوجوب الجمع بین المحتملات والاحتیاط مسبب عن تنجیز الحکم التکلیفی الالزامی بالعلم الإجمالی لأن العلم الإجمالی حیث إنه منجز للمعلوم بالإجمالی الذی هو حکم إلزامی واقعی وتنجیزه یوجب الاحتیاط ووجوب الجمع بین أطرافه فإذا کان فی هذا الجمع ضرر فهو مسبب عن الحکم الشرعی المنجز بالعلم الإجمالی وحینئذ یکون مفاد حدیث لا ضرر هو نفی الضرر المسبب عن الحکم الشرعی.

والفرق بین القول الثانی والقول الثالث أن علی الثالث یکون مفاد حدیث لا ضرر هو نفی السبب ونفی العلة مباشرة ونفی المسبب (الضرر) بالتبع وأما علی القول الثانی یکون مفاد حدیث لا ضرر نفی المسبب والمعلول مباشرة ونفی العلة بالتبع.

ص: 249

واما القول الأول فهو نفی الحکم بنفی موضوعه مباشرة.

ثم إن السید الاستاذ قد اشکل (1) علی ما ذکره المحقق صاحب الکفایة بأمرین:

الأمر الأول: إن المأخوذ فی لسان حدیث لا ضرر نفی الضرر وفی لسان حدیث لا حرج نفی الحرج لا نفی الفعل الضرری ولا نفی الفعل الحرجی، ومن الواضح أن الضرر لیس عنوانا للفعل ولا ینطبق علی الفعل انطباق العنوان علی المعنون فالفعل لیس ضررا بل الفعل ضرری والفعل لیس حرجا بل الفعل حرجی فالمأخوذ فی لسان حدیث لا ضرر ولا حرج لیس الفعل الضرری والفعل الحرجی بل المأخوذ عنوان الحرج وعنون الضرر وهو لیس عنوانا للفعل.

وعلی هذا فظاهر الحدیث علی ما فسره به صاحب الکفایة(قده) نفی حرمة الضرر ونفی حرمة الحرج باعتبار ان مفاد لا ضرر نفی الحکم بلسان نفی الموضوع لأن الحرج والضرر موضوع للحرمة کقوله: (لا ربا بین الوالد والولد) فحقیقة الربا هو الزیادة فیکون عنوانا للزیادة فیکون المراد من لا ربا بین الوالد والولد هو نفی حرمة الزیادة بنفی موضوعها وهو الربا الذی هو عنوان للزیادة وینطبق علیها وکذلک السهو فالسهو عنوان للشک وینطبق علیه حقیقة فیکون مفاد (لا سهو) نفی حکم السهو حقیقة بنفی موضوعه وهو السهو.

وعلی هذا فمفاد لا ضرر نفی حکم الضرر وحکم الضرر هو الحرمة فإن الإضرار بالنفس أو الإضرار بالغیر محرم فالمنفی هو الحرمة لا الحکم الواقعی المنجز بالعلم الإجمالی أو بالعلم التفصیلی.

وهذا الإشکال وارد علی صاحب الکفایة(قده) لأن الضرر لیس موضوعا للحکم الضرری بل هو موضوع للحرمة لأن موضوع الحکم الضرری الفعل الضرری وموضوع الحکم الحرجی الفعل الحرجی.

ص: 250


1- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج2، ص527.

فإذاً ما ذکره صاحب الکفایة من التفسیر غیر صحیح.

الأمر الثانی: أن الاحتیاط هو العمل بأطراف العلم الإجمالی الکبیر ومن الواضح ان العمل بالاحتیاط تدریجی ولا یمکن ان یکون دفعیا فإن امتثال التکلیف الإجمالی بالإتیان بالمحتملات وبطبیعة الحال یکون هذا الاتیان تدریجیا، ولکن الاتیان بالمحتملات فی أول الأمر لم یکن ضرریا ولا حرجیا لأن المجتهد یتمکن من الاحتیاط فی جمیع المحتملات ابتداءً ولکن إذا استمر علی هذا الاحتیاط فبطبیعة الحال یصل إلی حد لو تجاوزه لکن الاحتیاط حرجیا أو ضرریا، وعندئذ یعلم المکلف أن متعلق التکلیف إما فی الأطراف التی أتی بها او یکون متعلق الحکم الشرعی فی الأطراف الباقیة، فإن کان متعلق التکلیف فی الأطراف التی أتی بها فقد امتثل له وسقط بالامتثال واما إذا کان متعلق التکلیف الواقعی باقیا فی الأطراف الباقیة فقد سقط من جهة الحرج والضرر.

وعلی هذا یکون ما ذکره صاحب الکفایة(قده) من اختصاص مفاد حدیث لا ضرر بنفی الحکم بلسان نفی الموضوع إذا کان متعلق التکلیف بنفسه حرجیا أو ضرریا لیس علی ما ینبغی بل یشمل موارد الاحتیاط أیضا بنفس هذا البیان.

وهذا البیان منه(قده) ایضا متین جدا.

فیرد کل من هذین الإشکالین علی صاحب الکفایة(قده).

حاکمیة حدیث لا ضرر ولا حرج علی قاعدة الاحتیاط. بحث الأصول

الموضوع: حاکمیة حدیث لا ضرر ولا حرج علی قاعدة الاحتیاط.

إلی هنا قد تبین أن ما ذکره صاحب الکفایة(قده) من أن مفاد حدیث لا ضرر نفی الحکم حقیقة بلسان نفی الموضوع ونفی المتعلق لا یمکن المساعدة علیه لما تقدم من الإشکالین اللذین أوردهما السید الاستاذ(قده) علی ذلک وما ذکره السید الاستاذ متین جدا.

ولکن مع ذلک توجد مجموعة من المحاولات یمکن من خلالها تصحیح ما ذکره صاحب الکفایة(قده) فی مفاد حدیث لا ضرر ولا حرج:

ص: 251

المحاولة الأولی: قد یدعی شمول لا ضرر ولا حرج للاحتیاط الثابت وجوبه بحکم العقل علی أساس أن وجوب الاحتیاط تابع لتنجز الأحکام اللزومیة الواقعیة فی الواقع بالعلم الإجمالی وتنجز تلک الأحکام یوجب الاحتیاط فوجوب الاحتیاط تابع لها ولا مانع من التمسک بقاعدة لا ضرر ولا حرج لنفی وجوب الاحتیاط بنفی منشأه تبعا لأن منشأ وجوب الاحتیاط هو الأحکام الشرعیة اللزومیة المنجزة بالعلم الإجمالی ولا مبرر لتخصیص قاعدة لا ضرر بالأحکام الشرعیة فقط.

والجواب عن ذلک: أن قاعدة لا ضرر ولا حرج ظاهرة فی نفی الحکم بلسان نفی الموضوع إذا کان الموضوع ضرریا وظاهر حدیث لا ضرر ولا حرج هو ان یکون متعلق الحکم الشرعی بنفسه ضرریا أو حرجیا والمفروض فی المقام ان الحکم الشرعی لیس ضرریا ولا حرجیا فإن متعلقه لیس ضرریا ولا حرجیا والضرر إنما نشأ من الجمع بینه وبین سائر المحتملات فی أطراف العلم الإجمالی والحاکم بهذا الجمع هو العقل من جهة تنجز الحکم التکلیفی وهو المعلوم بالإجمال المردد بین هذه الأطراف فهذا الجمع یکون ضرریا والمفروض أن هذا الجمع لیس هو متعلقا للحکم الشرعی بل هو متعلق لحکم العقل ومن الواضح ان حدیث لا ضرر لا یدل علی نفی الحکم العقلی بنفی موضوعه لا ثبوتا ولا إثباتا.

نعم لا مانع ثبوتا من دلالة حدیث لا ضرر علی نفی حکم العقل بوجوب الاحتیاط بنفی منشأه وهو الحکم الشرعی المنجز ولکن فی مقام الإثبات لا یدل حدیث لا ضرر علی ذلک، بل هو ظاهر فی نفی الحکم الشرعی بنفی موضوعه کما فی سائر الأدلة مثل لا ربا بین الوالد والولد ولا رهبانیة فی الإسلام وما شاکل ذلک.

والحاصل: ان الحدیث وإن أمکن ثوبتا نفی وجوب الاحتیاط فیه بنفی منشأه وهو الحکم الشرعی المنجز فی العلم الإجمالی إلا أنه فی مقام الإثبات قاصر عن الدلالة علی ذلک.

ص: 252

وعلی هذا لا یتم ما ذکر فی هذه المحاولة.

المحاولة الثانیة: ان متعلق التکلیف بنفسه لیس ضرریا ولا حرجیا إلا أن ذات المتعلق ذو حصتین: حصة منها مقترنة بالاحتیاط أی بالجمع بین المحتملات فی أطراف العلم الإجمالی، وحصة اخری منها لم تکن مقترنة مع الاحتیاط.

اما الحصة الأولی: فالضرر إنما هو فی الجمع بینها وبین سائر المحتملات فی أطراف العلم الإجمالی لا فی نفس الحصة إذ الحصة بنفسها لیست حرجیة ولا ضرریة باعتبار ان الحرج والضرر إنما هو فی الجمع بینها وبین سائر المحتملات فی أطراف العلم الإجمالی والمفروض أن الجمع بینها وبین سائر الأطراف لیس متعلقا للحکم الشرعی لأن الحاکم به العقل فلا یمکن التمسک بحدیث لا ضرر أو لا حرج لنفی الحکم العقلی باعتبار انه حدیث شرعی مختص بنفی الأحکام الشرعیة إذا کانت ضرریة أو حرجیة ولا تعم الأحکام العقلیة.

واما الجامع بین هذه الحصة المقترنة بالجمع بین المحتملات فی أطراف العلم الإجمالی والحصة الأخری غیر مقترنة بالاحتیاط هذا الجامع لیس ضرریا ولا حرجیا لأن الجمع بین الحصة الضرریة والحصة غیر الضرریة غیر ضرری کالجمع بین المقدور وبین غیر المقدور فإنه مقدور لأن الجامع بین المقدور وغیر المقدور مقدور، وفی المقام الجامع بین الحصة الحرجیة أو الضرریة وهی الحصة غیر المقترنة بالاحتیاط والحصة الحرجیة أو الضرریة وهی الحصة المقترنة بالاحتیاط الجامع بین هاتین الحصتین غیر حرجی أو غیر ضرری حتی یکون مرفوعا بحدیث لا حرج ولا ضرر إلا أن الحصة غیر المقترنة بالاحتیاط التی هی متعلق التکلیف الشرعی فی الواقع من ناحیة جهل المکلف بها وترددها بین أطراف العلم الإجمالی فلا یعلم تمثلها فی هذا المحتمل او فی ذاک لا تکون مقدورة للمکلف فعندئذ یکون الجمع بینها وبین الحصة المقترنة بالاحتیاط حرجی وضرری فإنه جمع بین الفعلین الضررین أو الحرجیین والجمع الذی یکون کذلک ضرری او حرجی.

ص: 253

ونظیر ذلک ما إذا علم المکلف أنه مکلف بالصلاة ولکن لا یدری انه مکلف بالصلاة فی مسجد الکوفة او بالصلاة فی الحرم وکانت الصلاة فی مسجد الکوفة حرجیة او ضرریة والصلاة فی الحرم غیر مقدورة فبطبیعة الحال یکون الجمع بین الحصتین من الصلاة ضرری أو حرجی، ولکن هذا الجمع مرفوع بحدیث لا ضرر ولا حرج.

والجواب عن ذلک واضح: فإن الحصة غیر المقترنة وإن کانت غیر مقدورة من جهة جهل المکلف بها إلا أن ذلک لا یوجب کون متعلق التکلیف الواقعی حرجیا او ضرریا إذ لا شبهة فی ان متعلق التکلیف الواقعی لیس بضرری ولا حرجی فی حال انفتاح باب العلم والعلمی.

وبعبارة أخری: إن متعلقات التکالیف الواقعیة بنفسها لیست بحرجیة ولا ضرریة سواء کان المکلف قادرا علیها أم لم یکن قادرا علیها؛ لأن الضرر والحرج إنما نشأ من الجمع بینها وبین المحتملات فی أطراف العلم الإجمالی والجمع لیس متعلقا للحکم الشرعی لأن الحاکم به العقل والمفروض أن حکم العقل لیس مشمول لحدیث لا ضرر، ولا یقاس ذلک بمثال الصلاة فإن الأمر إذا دار بین الصلاة فی مسجد الکوفة والصلاة فی الحرم وفرض أن الصلاة فی الحرم غیر مقدورة وحینئذ یتعین الاتیان بالصلاة فی مسجد الکوفة حال کون المکلف یعلم بوجوب أحداهما فإذا فرض أن الصلاة فی مسجد الکوفة ضرریة او حرجیة فوجوبها مرفوع بحدیث لا ضرر وبحدیث لا حرج.

وفی المقام لیس الأمر کذلک لأن کلتا الحصتین فی المقام حرجیة أو ضرریة اما ضرریة الحصة المقترنة بالاحتیاط أی بالجمع بین أطراف العلم الإجمالی فواضحة واما الحصة غیر المقترنة بالاحتیاط فضرریتها وحرجیتها من جهة عدم قدرة المکلف علیها حال کونها مجهولة وعدم العلم بتمثلها فی محتمل بعینه.

ص: 254

وعلی هذا فما هو حرجی وضرری لیس هو متعلقا للتکلیف وما هو متعلق التکلیف الشرعی فی الواقع لیس بحرجی وضرری فمن أجل ذلک لا تتم هذه المحاولة.

حکومة حدیث لا ضرر ولا حرج علی قاعدة الاحتیاط بحث الأصول

الموضوع: حکومة حدیث لا ضرر ولا حرج علی قاعدة الاحتیاط

المحاولة الثالثة: - لتصحیح ما ذکره المحقق الخراسانی – أنه لا مانع من جعل الاحتیاط الوجوبی فی المقام بملاک اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة الالزامیة بما لها من المبادئ والملاکات اللزومیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس المقرونة بالعلم الإجمالی فإن هذا الاهتمام من المولی یصلح لأن یکون ملاکا لجعل وجوب الاحتیاط شرعا کما هو ملاک لحکم العقل بوجوب الاحتیاط باعتبار أن حکم العقل بوجوب الاحتیاط مبنی علی اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة اللزومیة بما لها من الملاکات والمبادئ حتی فی موارد الاشتباه والالتباس فهذا الاهتمام ملاک لحکم العقل بوجوب الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی کما أنه یصلح ان یکون ملاکا لوجوب الاحتیاط بجعل هذا الوجوب من قبل الشارع فإذا کان هذا الاحتیاط ضرریا أو حرجیا فلا مانع من تطبیق قاعدة لا ضرر ولا حرج علیه ورفع وجوب الاحتیاط ولکن لا یمکن رفع وجوب الاحتیاط إلا برفع ملاکه وهو اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس المقرونة بالعلم الإجمالی فإن ارتفاع وجوب الاحتیاط شرعا وانتفائه بقاعدة لا ضرر ولا حرج إنما هو بنفی ملاکه لما ذکرناه غیر مرة من ان حقیقة الحکم وروحه سواء کان حکما واقعیا ام کان حکما ظاهریا ملاکه واما الحکم بما هو اعتبار فلا قیمة له ولا أثر له، ورفع الحکم الظاهری وهو وجوب الاحتیاط شرعا إنما یکون برفع ملاکه وهو اهتمام المولی فی الحفاظ عل الأحکام الواقعیة بما لها من الملاکات والمبادئ حتی فی موارد الاشتباه والالتباس المقرونة بالعلم الإجمالی هذا مضافا إلی أن الأحکام الظاهریة لیست أحکاما مولویة نفسیة بل هی أحکام طریقیة ولا شأن لها غیر تنجیز الواقع عند الإصابة والتعذیر عند الخطأ ولهذا لا ملاک فی متعلق الأحکام الظاهریة ولا مثوبة علی موافقتها ولا عقوبة علی مخالفتها ومن هنا لا تکون الأحکام الظاهریة أحکاما مولویة شرعیة فمن هذه الناحیة لا یمکن رفعها الا بارتفاع ملاکها فإذا ارتفع ملاک الحکم الظاهری کان لازم ارتفاعه الترخیص من قبل الشارع فی ارتکاب أطراف العلم الإجمالی وحینئذ ینتفی حکم العقل بوجوب الاحتیاط بانتفاء موضوعه لأن موضوع حکم العقل هو هذا الاهتمام من المولی ومعنی انتفاء اهتمام المولی هو الترخیص فی ارتکاب أطراف العلم الإجمالی فیکون العلم الإجمالی کلا علم من هذه الناحیة بارتفاع موضوعه.

ص: 255

وعلی هذا فلا مانع مما ذکره المحقق الخراسانی(قده) من ان مفاد قاعدة لا ضرر ولا حرج نفی الحکم بلسان نفی الموضوع.

والجواب عن ذلک: أنه لا یمکن جعل إیجاب الاحتیاط فی المقام لا ثبوتا ولا إثباتا.

أما ثبوتا: فإن استقلال العقل بوجوب الاحتیاط فی المقام من جهة اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات اللزومیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس مانع عن جعل وجوب الاحتیاط من قبل الشارع لأنه لغو، وهذا نظیر أمر الشارع بالإطاعة فإنه لا یحمل علی المولویة فرارا من اللغویة بعد استقلال العقل بوجوب إطاعة المولی وقبح معصیته، وعلی هذا لا یمکن ان یکون وجوب الطاعة وجوبا مولویا شرعیا ولا یمکن ان تکون حرمة المعصیة حرمة مولولیة شرعیة. هذا علی المشهور بین الأصحاب.

ولکن ذکرنا فی محله أنه لا مانع ثبوتا من أن یکون الأمر بالإطاعة أمرا مولویا ولا مانع ثبوتا من أن یکون النهی عن المعصیة نهیا مولویا ولا تلزم اللغویة طالما أمکن حمل حکم الشارع فی المقام علی التأکید لحکم العقل وجدانا بمعنی أنه اجتمع علی طاعة المولی محرکان: هما حکم العقل فإنه محرک للعبد نحو الطاعة ویدعوه إلیها وحکم الشارع فإنه أیضا یکون محرکا للمکلف نحو طاعة المولی ویدعوه إلیها، فإذا اجتمع کلا المحرکین کانت دعوتهما إلی الطاعة أقوی من دعوة کلا منهما منفردا فمن أجل ذلک لا تکون مولویة أمر المولی بالطاعة لغویة بل هی تأکید لداعویة حکم العقل ومحرکیته وکذلک لا تکون مولویة نهی المولی عن المعصیة لغویة لأنها مؤکدة لحکم العقل بقبح المعصیة.

فالنتیجة: انه لا مانع من جعل الشارع وجوب الاحتیاط فی المقام فإنه لا یکون لغوا بل هو مؤکد لحکم العقل بوجوب الاحتیاط بملاک اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس، وکذلک الشارع فإنه أوجب هذا الاحتیاط بنفس هذا الملاک وحکم الشارع هذا مؤکد لحکم العقل فلا یکون لغوا.

ص: 256

وعلیه لا مانع من کون وجوب الاحتیاط فی المقام وجوبا شرعیا.

هذا بحسب مقام الثبوت.

واما فی مقام الإثبات: فإنه لا دلیل علی جعل وجوب الاحتیاط شرعا کما أنه لا دلیل علی کون الأمر بالإطاعة أمرا مولویا والنهی عن المعصیة نهیا مولویا، بل أن جمیع أوامر الإطاعة وجمیع النواهی عن المعصیة مفادها الإرشاد إلی حکم العقل، وحقیقة الإرشاد هو الإخبار وکأن المولی أخبر عن حکم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصیة فلا یکون هنا أمر مولوی بالإطاعة ولا نهی مولوی عن المعصیة کما انه لیس هنا أی دلیل علی وجوب الاحتیاط شرعا، وعلی هذا یکون القصور فی مقام الإثبات لا فی مقام الثبوت.

هذا أولاً.

وثانیاً: مع الإغماض عن ذلک وتسلیم أن وجوب الاحتیاط مجعول من قبل الشارع ولا مانع من جعله شرعا، ولکن ملاک وجوب الاحتیاط شرعا هو اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات اللزومیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس أی فی موارد الشبهات الحکمیة المقرونة بالعلم الإجمالی، واما ملاک حکم العقل بوجوب الاحتیاط فهو تنجیز العلم الإجمالی لا أنه اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة.

وعلی هذا: فإذا کان وجوب الاحتیاط شرعا ضرریا او حرجیا فهو مرفوع بحدیث لا ضرر ولا حرج وذلک برفع ملاکه وهو اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة، واما ملاک حکم العقل بوجوب الاحتیاط فهو باق علی حاله فلا یکون مرفوعا.

وعلی هذا لا تنافی بین وجوب الاحتیاط شرعا وبین وجوب الاحتیاط عقلا لأن وجوب الاحتیاط شرعا ناشئ من ملاک مخالف لملاک وجوب الاحتیاط عقلا.

هذا کله علی مسلک المحقق الخراسانی(قده).

حکومة حدیث لا ضرر ولا حرج علی قاعدة الاحتیاط بحث الأصول

الموضوع: حکومة حدیث لا ضرر ولا حرج علی قاعدة الاحتیاط

ص: 257

قلنا إنه لا مانع ثبوتا من جعل وجوب الاحتیاط الشرعی فی أطراف العلم الإجمالی مع وجود حکم العقل بلزوم الاحتیاط لأن حکم الشارع بوجوب الاحتیاط یحمل علی أنه تأکید لحکم العقل بذلک وعلی هذا لا یکون الوجوب الشرعی للاحتیاط لغویا، کما ان ملاک هذا الحکم هو اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة الالزامیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس المقرونة بالعلم الإجمالی، نعم لا دلیل علی وجوب الاحتیاط شرعا فی أطراف العلم الإجمالی فی مقام الإثبات فمن أجل ذلک لا یمکن الالتزام به.

وثانیا: مع الإغماض عن ذلک وتسلیم وجوب الاحتیاط شرعا فی أطراف العلم الإجمالی فمع کونه ضرریا أو حرجیا فقد یقال إن المرفوع بحدیث لا ضرر ولا حرج هو وجوب الاحتیاط الشرعی فقط لا ملاکه وهو اهتمام المولی بالحفاظ علیها حتی فی أطراف العلم الإجمالی وموارد الاشتباه والالتباس باعتبار أن هذا الرفع رفع امتنانی وهذا الرفع إنما یکون امتنانی فیما إذا کان ملاکه باقیا وإلا فانتفاء الحکم بانتفاء ملاکه قهری.

فإذاً تطبیق قاعدة لا ضرر او لا حرج علی وجوب الاحتیاط الشرعی إذا کان ضرریا أو حرجیا إنما هو للامتنان ومعنی کونه امتنانا هو بقاء ملاکه وهو اهتمام المولی بالحفاظ علیها حتی فی موارد العلم الإجمالی وموارد الاشتباه والالتباس فملاک حکم العقل بوجوب الاحتیاط باق وهو اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الالزامیة فی موارد الاشتباه والالتباس، وعلی هذا یکون المرفوع هو وجوب الاحتیاط الشرعی واما وجوب الاحتیاط عقلا فهو باق.

ولکن لا معنی لهذا القول لما ذکرناه غیر مرة من أن حقیقة الحکم وروحه ملاکه سواء کان حکما واقعیا او کان حکما ظاهریا واما الحکم بما هو اعتبار فلا أثر ولا قیمة له فإن تمام القیمة للحکم ملاکه فلا یمکن ان یکون المرفوع وجوب الاحتیاط الشرعی مع کون ملاکه باقیا لأن معناه أن الاحتیاط الشرعی لم یرتفع والمرفوع هو نفس الاعتبار بما هو اعتبار وهو لا قیمة له کما قلنا واما ذو الأثر وهو الملاک فهو غیر مرفوع.

ص: 258

هذا مضافا إلی أن الحکم الظاهری لیس حکما مولویا نفسیا بل هو حکم طریقی والغرض من جعل الحکم الظاهری هو تنجیز الحکم الواقعی عند الإصابة والتعذیر عند الخطأ فلا شان له إلا هذا.

وعلی هذا یکون جعل وجوب الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی إنما هو لتنجیزه الأحکام الموجودة فی أطراف العلم الإجمالی أو لکونه مؤکدا لتنجیزها.

وعلی هذا یکون الغرض من جعل وجوب الاحتیاط فی موارد الاشتباه والالتباس المقرونة بالعلم الإجمالی هو تنجیز الأحکام الواقعیة الالزامیة بما لها من المبادئ والملاکات فلو کان وجوب الاحتیاط مرفوعا دون ملاکه وملاکه تنجیز الواقع للزم ارتفاع المؤثر مع بقاء الأثر والتفکیک بین المؤثر والأثر وهو لا یمکن باعتبار أن المؤثر هو وجوب الاحتیاط وأثره التنجیز فإذا کان وجوب الاحتیاط مرفوعا بحدیث لا ضرر ولا حرج ولکن أثره وهو تنجیز الأحکام الالزامیة الواقعیة باق فهذا معناه التفکیک بین الأثر والمؤثر والمعلول عن العلة وهو مستحیل؛ لأن الأثر یدور مدار المؤثر حدوثا وبقاء فلا یتصور الانفکاک بینهما بأن تکون العلة مرفوعة والمعلول موجودا.

ومن هنا إذا قلنا بارتفاع تنجیز الأحکام الواقعیة الذی هو أثر لوجوب الاحتیاط فبطبیعة الحال یرتفع وجوب الاحتیاط العقلی أیضا لأن منشأه تنجیز الأحکام الواقعیة الالزامیة فی موارد الاشتباه والالتباس أی فی اطراف العلم الإجمالی فالعقل إنما یحکم بوجوب الاحتیاط من جهة تنجیز الواقع ومع ارتفاع التنجیز لا محالة یرتفع حکم العقل بوجوب الاحتیاط أیضا وهذا مما لا یمکن الالتزام به.

وعلی هذا لا یکون لما ذکر معنی.

وثالثاً: أن ملاک حکم العقل بوجوب الاحتیاط هو العلم الإجمالی واما ملاک وجوب الاحتیاط شرعا فهو اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة الالزامیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس المقرونة بالعلم الإجمالی، وعلی هذا یکون ملاک احد الاحتیاطین غیر ملاک الآخر، ویترتب علی هذا أنه إذا کان وجوب الاحتیاط الشرعی ضرریا أو حرجیا فهو مرفوع بحدیث لا ضرر او لا حرج بارتفاع ملاکه وهو اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة الالزامیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس واما ملاک حکم العقل بوجوب الاحتیاط فهو باق من جهة بقاء ملاکه وهو العلم الإجمالی.

ص: 259

وهذه الدعوی أیضا لا أثر لها ولا معنی لها؛ فإن وجوب الاحتیاط إنما هو بملاک تنجیز الأحکام الواقعیة فی موارد الاشتباه فإنه منجز لتلک الأحکام الواقعیة فی موارد الاشتباه والالتباس المقرونة بالعلم الإجمالی فإذا ارتفع وجوب الاحتیاط شرعا فبطبیعة الحال یرتفع تنجیز هذه الأحکام فی موارد الاشتباه والالتباس أیضا ومع ارتفاع التنجیز لا یکون هناک اهتمام من المولی فإن اهتمام المولی بالحفاظ علیها إنما هو من جهة انها منجزة بما لها من الملاکات والمبادئ واما إذا ارتفع تنجیزها فلا اهتمام للمولی بها، وعلی هذا فکیف یبقی حکم العقل بوجوب الاحتیاط بعد ارتفاع تنجیزها، باعتبار أن منجزیة هذه الأحکام هی السبب والعلة لحکم العقل بوجوب الاحتیاط لا نفس العلم الإجمالی بلا تنجیز لأنه بدون کونه منجزا لا أثر له، ومع ارتفاع تنجیز هذه الأحکام فی أطراف العلم الإجمالی یرتفع حکم العقل أیضا بارتفاع منشأه وسببه.

إلی هنا قد تبین أن ما ذکر من محاولات لتصحیح ما بنی علیه صاحب الکفایة(قده) من تفسیر حدیث لا ضرر ولا حرج لا یمکن المساعدة علیه.

واما ما ذکره شیخنا الأنصاری(قده) من أن المرفوع هو منشأ وجوب الاحتیاط العقلی باعتبار أن منشأ وجوب الاحتیاط العقلی هو تنجز الأحکام الواقعیة بما لها من الملاکات والمبادئ فی أطراف العلم الإجمالی أی فی موارد الاشتباه والالتباس المقرونة بالعلم الإجمالی فالمرفوع هو هذه الأحکام المنجزة لأن سبب وجوب الاحتیاط العقلی هو تنجز هذه الأحکام فی أطراف العلم الإجمالی فهو وإن کان بحاجة إلی تقدیر أن معنی لا ضرر هو أنه لا حکم ضرری او حرجی ولکن بما ان اسناد نفی الضرر إلی الشارع لا یمکن لوجود الضرر والحرج فی الخارج فلا یکون قابلا للنفی فلا محالة یکون المنفی مقدر هو الحکم الشرعی.

ص: 260

وهذا هو المتفاهم العرفی بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة.

واما القول الثالث: من ان المنفی نفس الضرر والحرج المسبب من الأحکام الشرعیة أی المنفی هو المعلول وبنفی المعلول تنتفی العلة أیضا فهذا وإن کان صحیحا إلا أنه لیس بعرفی باعتبار أن العرف لا یفهم من ذلک هذا المعنی والذی هو عرفی هو نفی المسبب بنفی السبب لا العکس.

فالنتیجة: أن الصحیح هو ما ذهب إلیه شیخنا الأنصاری(قده).

هذا تمام کلامنا فی الانسداد

الأصول العملیة - البراءة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة - البراءة

یقع الکلام هنا فی مراحل:

المرحلة الأولی: إن معظم الأحکام الفقهیة أحکام نظریة وإثباتها والوصول إلیها بحاجة إلی عملیة الاستنباط ولا یمکن إثباتها والوصول إلیها بدون هذه العملیة.

المرحلة الثانیة: فی خصائص الأصول العملیة وامتیازها عن الأمارات.

المرحلة الثالثة: فی أقسام الأصول العملیة وانواعها.

أما الکلام فی المرحلة الأولی: فلأن معظم الأحکام الفقهیة الشرعیة من بدایة الفقه إلی نهایته أحکام نظریة وإثباتها والوصول إلیها بحاجة إلی عملیة الاستنباط ولا یمکن الوصول إلیها وإثباتها بدون هذه العملیة وهی عملیة معقدة وصعبة وبحاجة إلی دراسة طویلة.

واما الأحکام الواصلة إلینا بالضرورة أو بالقطع الوجدانی: - کوجوب الصلاة ووجوب الصوم ووجوب الحج وحرمة شرب الخمر وما شاکل ذلک - فهی أحکام قلیلة ولا تکفی لحل مشاکل الإنسان فی حیاته الیومیة لا المشاکل الاجتماعیة ولا المشاکل الفردیة ولا العلائق الخارجیة ولا المادیة والمعنویة باعتبار ان نسبتها إلی جمیع الأحکام لا تتجاوز بنسبة تقریبیة عن خمسة او ستة بالمائة، وهذه الأحکام وما شاکلها أحکام ضروریة أی أنها قد وصلت إلی المکلف بالضرورة ولا یحتاج وصولها إلی أی مقدمة ولا فرق فیها بین المجتهد والعامی فلا یرجع فیها العامی إلی المجتهد فإنه لا موضوع للتقلید فیها.

ص: 261

واما الأحکام الفقهیة النظریة فإثباتها والوصول إلیها بحاجة إلی مقدمتین:

المقدمة الأولی: تکوین القواعد العامة المشترکة والنظریات العامة فی الحدود المسموح بها شرعا وهی حدود الکتاب والسنة وفق شروطها فی علم الأصول لأنه هو الموضوع للبحث عن تکوین القواعد العامة المشترکة والنظریات فی حدود الکتاب والسنة وفق شروط للتفکیر الفقهی التطبیقی.

المقدمة الثانیة: تطبیق هذه القواعد العامة المشترکة فی الحدود المسموح بها شرعا وبشروطها علی عناصرها الخاصة ومسائلها الخاصة فی الفقه، لأنه هو الموضوع لتطبیق هذه القواعد العامة والمشترکة علی عناصرها الخاصة لتکون النتیجة مسألة فقهیة کوجب شیء وحرمة شیء آخر او جزئیة شیء لشیء أو شرطیة شیء آخر وهکذا.

ومن هنا یکون علم الفقه علم تطبیقی وعلم الأصول علم نظری والنسبة بینهما هی النسبة بین العلم التطبیقی وبین العلم النظری باعتبار أن علم الفقه یتولد من علم الأصول ولیس هو علما مستقلا ولولا الأصول لم یکن هناک فقه فی البین لأن المسائل الفقهیة عبارة عن نتائج تطبیق القواعد العامة الأصولیة علی عناصرها الخاصة ونتیجة هذا التطبیق هی الأحکام الفقهیة ومن الواضح ان النتیجة داخلة فی الکبری والصغری ولیست اجنبیة عنهما، ولهذا یکون ارتباط علم الفقه بالأصول ارتباطا وثیقا وذاتیا ولا یمکن الانفکاک بینهما، وکلما اتسع الفقه بظهور مسائل مستحدثة اتسعت البحوث الفقهیة واتسع تبعا لذلک تطبیق القواعد الأصولیة علی المسائل الفقهیة ومن هنا قلنا: إنه کلما کان الباحث الأصولی أدق واعمق فی تکوین القواعد العامة المشترکة والنظریات العامة فی حدود الکتاب والسنة وفق شروطها کان أدق وأعمق فی تطبیقها علی عناصرها الخاصة فی الفقه ولا یمکن ان تکون المسائل الأصولیة بدرجة أعمق ولا یکون مستوی الفقه کذلک للارتباط الذاتی بینهما باعتبار خروج الفقه من بطن الأصول ولیس هو علما مستقلا عنه.

ص: 262

ویمکن علی هذا القول بوجود علم الأصول ___ لا بشکل علم مستقل کما هو الحال علیه الیوم ___ حتی فی زمن الأئمة(ع) ومما یؤید هذا هو ظاهر کثیر من الروایات التی یکون السؤال فیها عن وثاقة شخص ما وهذا یعنی فراغ السائل عن حجیة خبر الواحد بشروط معینة ویرتب علیه جواز أخذ أحکام الدین منه، وقد علم ان الحجیة مسألة أصولیة ولیست مسألة فقهیة.

وعلی هذا: لا یعقل تحقق الفقه النظری بدون علم الأصول، ومن هنا کان الاجتهاد عملیة ضروریة تبعا لضروریة الدین وکذلک التقلید أمر ضروری للعامی تبعا لضروریة الدین فإنه لا یتمکن من إثبات الأحکام الشرعیة الفقهیة فلا بد له من الرجوع الی المجتهد کما ان فی کل عصر یجب الوصول إلی عملیة الاجتهاد والاستنباط لجماعة ولا یجوز ترک هذه العملیة لأن مآل ترکها إلی ترک الأحکام الشرعیة، ومن هنا تکون کلتا العملیتین ضروریتین.

ثم إن عملیة الاستنباط تکون فی مرحلتین طولیتین:

المرحلة الأولی: متمثلة فی تطبیق القواعد العامة المشترکة علی عناصرها الخاصة کدلیل علی تشخیص الحکم الشرعی وجعله فی الشریعة المقدسة.

المرحلة الثانیة: تطبیق القواعد العامة المشترکة علی عناصرها الخاصة کدلیل علی تشخیص الوظائف العملیة وتعیینها تجاه الحکم الشرعی تنجیزا او تعذیرا.

وتسمی القواعد فی المرحلة الأولی بالأدلة الاجتهادیة المتمثلة فی الأمارات کحجیة أخبار الثقة وحجیة ظواهر الالفاظ کظواهر الکتاب والسنة وغیرهما، وتسمی القواعد فی المرحلة الثانیة بالأصول العملیة المتمثلة فی الاستصحاب وأصالة البراءة وأصالة الطهارة.

وطالما یکون المجتهد متمکنا فی کل مسألة من إقامة الدلیل الاجتهادی علیها فلا تصل به النوبة إلی الأصول العملیة، ومع عدم تمکنه من إقامة الدلیل الاجتهادی علی المسألة إما لعدم عثوره علی أمارة علی ذلک الحکم وإما لعثوره علیها ولکنها قاصرة سندا او دلالة أو جهة أو لوجود المعارض لها فلا محالة تصل النوبة به إلی الأصول العملیة.

ص: 263

هذا فی المرحلة الأولی.

واما الکلام فی المرحلة الثانیة: فالأحکام الظاهریة علی قسمین:

القسم الأول: الأحکام الظاهریة الالزامیة کوجوب الاحتیاط والاستصحاب المثبت للتکلیف وقاعدة الاشتغال، والأحکام الظاهریة الالزامیة احکام طریقیة فی طول الأحکام الواقعیة ولیست فی عرضها وتمام الملاک فی جعلها هو الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من الملاکات والمبادئ حتی فی موارد الاشتباه والالتباس وإلا فهی لیست بأحکام شرعیة مولویة ولهذا لا عقوبة علی مخالفتها والعقوبة إنما هی علی مخالفة الواقع ولا مثوبة علی موافقتها والمثوبة إنما هی علی موافقة الواقع ولا مصلحة فی متعلقاتها لأن مصالح الأحکام الواقعیة هی التی دعت الشارع إلی جعل الأحکام الظاهریة الالزامیة الطریقیة.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

ذکرنا أن الأحکام الظاهریة إذا کانت إلزامیة فهی أحکام طریقیة ولا شأن لها إلا تنجیز الواقع عند الإصابة والتعذیر عند الخطأ وإلا فهی لیست أحکاما مولویة شرعیة لأنه لا مصلحة فی متعلقاتها ولا عقوبة علی مخالفتها ولا مثوبة علی موافقتها فمن أجل ذلک لیس شأنها إلا تنجیز الواقع عند الإصابة والتعذیر عند الخطأ وأما الأحکام الظاهریة الترخیصیة کأصالة البراءة الشرعیة وأصالة الطهارة واستصحاب الحکم الترخیصی أو استصحاب عدم الوجوب أو عدم الحرمة والجامع استصحاب عدم الحکم الإلزامی أعم من الحکم التکلیفی والوضعی فهی أحکام ترخیصیة والداعی علی جعل هذه الأحکام التخریصیة هی المصلحة العامة وهی مصلحة التسهیل بالنسبة إلی نوع المکلفین ولا عقوبة علی مخالفة الواقع إذا کانت مخالفة الواقع مستندة إلی ترخیص المولی من جهة الحکم الظاهری فهی ناشئة من مصلحة عامة.

وأما الأمارات الشرعیة المعتبرة شرعا کأخبار الثقة وظواهر الالفاظ فهی إن کانت متکفلة للأحکام الالزامیة فهی أحکام طریقیة شأنها تنجیز الواقع فقط عند الإصابة والتعذیر عند الخطأ ولا شأن لها غیر ذلک ولا تجب موافقتها إلا من جهة موافقة الواقع ولا تحرم مخالفتها إلا من جهة مخالفة الواقع ولهذا لا مصلحة فی متعلقاتها ولا مثوبة علی موافقتها إلا المثوبة علی موافقة الواقع ولا عقوبة علی مخالفتها إلا المخالفة علی الواقع فجعلها إنما هو للحفاظ علی الأحکام الالزامیة الواقعیة بما لها من المبادئ والملاکات حتی فی موارد الاشتباه والالتباس باعتبار أن اهتمام المولی فی الحفاظ علی الأحکام الواقعیة هو الملاک فی جعل الأحکام الظاهریة الالزامیة الطریقیة لأنها طریق إلی الحفاظ علی الأحکام الواقعیة فی موارد الاشتباه والالتباس.

ص: 264

واما الأمارات المتکفلة للأحکام الترخیصیة فهی مجعولة علی أساس مصلحة عامة وهی مصلحة التسهیل بالنسبة إلی نوع المکلفین فلا فرق بینها وبین الأصول العملیة من هذه الناحیة.

وعلی هذا فما هو الفرق بین الأمارات وبین الأصول العملیة؟

والجواب عن ذلک: أن الأصولیین قد فرقوا بینهما بفروق متعددة: وهذه الفروق تتمثل فی ثلاثة آراء:

الرأی الأول: أن الأمارات تفترق عن الأصول العملیة فی سنخ المجعول فإن سنخ المجعول فی باب الأمارات غیر سنخ المجعول فی باب الأصول العملیة، وقد تبنت هذا الرأی مدرسة المحقق النائینی (1) (قده) فذکرت أن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی، فالشارع جعل خبر الثقة علما تعبدیا وجعل ظواهر الالفاظ علما تعبدیا وطریقا إلی الواقع وکاشفا عنه فمن أجل ذلک تکون مثبتات الأمارات حجة باعتبار ان العلم بالملزوم یستلزم العلم باللازم والعلم بأحد المتلازمین یستلزم العلم بالملازم الآخر فمن أجل ذلک تکون مثبتات الأمارات حجة. واما سنخ المجعول فی باب الأصول العملیة فهی الجری العملی علی طبقها خارجا فی ظرف الجهل بالواقع والشک فیه بدون النظر إلی الواقع أصلا ومن هنا لا تکون مثبتاتها حجة.

وللمناقشة فیه مجال من جهتین:

الجهة الأولی: هی أنا قد ذکرنا غیر مرة أنه لا جعل ولا مجعول فی باب الأمارات أصلاً؛ فإن جعل الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی غیر ممکن ثبوتا لأنه إن أرید بالطریقیة المجعولة الطریقیة التکوینیة فهی غیر معقولة لأن طریقیة أخبار الثقة الناقصة ذاتیة وهی عین خبر الثقة کطریقیة القطع فإنها عین القطع ولیست لازمة للقطع وطریقیة أخبار الثقة إلی الواقع طریقیة ناقصة فهی عین خبر الثقة، وأما جعل الطریقیة التکوینیة لاستکمال الطریقیة الناقصة والتأکید علیها فهو غیر معقول لأن الجعل الشرعی لا یمکن ان یتعلق بالأمر التکوینی باعتبار أن المجعول إذا کان أمرا تکوینیا فلا بد أن یکون الجعل أمرا تکوینیا لأن الجعل عین المجعول ولیس شیئا آخر والاختلاف بینهما بالاعتبار کالإیجاد والوجود فهما متحدان ذاتا مختلفان اعتبارا فلا یعقل علی هذا ان یکون المجعول أمرا تکوینیا وهو الطریقیة التکوینیة والعلم التکوینی والجعل أمرا اعتباریا بل لا بد إذا کان الجعل أمرا تکوینیا أن یکون المجعول أمرا تکوینیا ولا یعقل أن یکون الجعل أمرا اعتباریا فلا یمکن تکوین الشیء بالجعل الشرعی باعتبار ان الجعل الشرعی إنما یتعلق بالأمور الشرعیة الاعتباریة ولا یعقل تعلقه بالأمور التکوینیة فلا یمکن جعل الطریقیة التکوینیة بحیث تکون إکمالا للطریقیة الناقصة وتتأکد الطریقیة الناقصة بها فلا یعقل ان تتأثر طریقیة خبر الثقة الناقصة بالطریقیة المجعولة وتتأکد بها وتکون هذه الطریقیة المجعولة إکمالا لها.

ص: 265


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص416.

وإن أرید بالطریقیة الطریقیة الاعتباریة فهی لا واقع موضوعی لها فی الخارج لأن الأمر الاعتباری لا واقع موضوعی له فی الخارج إلا فی عالم الاعتبار وعالم الذهن ولا وجود له فی الخارج فلا یمکن ان تؤثر الطریقیة الاعتباریة فی الطریقیة التکوینیة ولا یمکن أن تتأثر طریقیة خبر الثقة التکوینیة الناقصة بالطریقیة الاعتباریة فتتأکد بها لأنه لا وجود لها إلا فی عالم الاعتبار . فوجود الطریقیة الاعتباریة مجرد لقلقة لسان ولا یترتب علیها أی اثر.

کما لا یمکن ان یکون مراد مدرسة المحقق النائینی من جعل الطریقیة تنزیل الأمارات منزلة العلم الوجدانی فإن التنزیل یختلف عن جعل الطریقیة باعتبار ان مبنی مدرسة المحقق النائینی هو جعل الموضوع ومفاد مبنی التنزیل هو جعل الحکم مع بقاء الموضوع فتنزیل خبر الثقة منزلة العلم معناه ترتیب أثر العلم علی خبر الثقة لا جعل خبر الثقة علما ولا جعله طریقا فهناک فرق بین جعل الطریقیة وبین التنزیل فلا یمکن حمل ما بنت علیه مدرسة المحقق النائینی من جعل الطریقیة علی التنزیل.

فما ذکرته مدرسة المحقق النائینی(قده) غیر معقول ثبوتا.

ومع الإغماض عن ذلک وتسلیم أنه ممکن ثبوتا فلا بد من الرجوع إلی أدلة الحجیة والبحث عن أنه مدی دلالتها علی أن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی. وسنبین ذلک.

هذه هی الجهة الأولی.

الجهة الثانیة: أن هدف مدرسة المحقق النائینی من البناء علی ان المجعول فی باب الأمارات هی الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی إثبات أن مثبتات الأمارات حجة دون الأصول العملیة باعتبار أن العلم بالملزوم علم باللازم وإن کان علما تعبدیا فإن کان المجعول فی باب الأمارات هو العلم التعبدی فلا محالة تکون مثبتاتها حجة من جهة ان العلم بالملزوم علما باللازم وإن کان اللازم لازما عقلیا او لازما عادیا أو عرفیا.

ص: 266

ولکن لا یمکن الوصول إلی هذا الهدف بما ذکرته هذه المدرسة لأن العلم الوجدانی بالملزوم یستلزم العلم باللازم کما أن العلم الوجدانی بأحد المتلازمین یستلزم العلم بالملازم الآخر سواء کان عادیا أم کان عقلیا، واما إذا کان العلم علما تعبدیا فالعلم التعبدی لیس علما فی الحقیقة فی نفس الإنسان بل علما باعتبار الشارع وحینئذ یکون تابعا لمقدار التعبد فی السعة والضیق، لأنه کما یحتمل فی مقام الثبوت ان یکون الشارع قد جعل خبر الثقة علما بمدلوله المطابقی والالتزامی کذلک یحتمل أن یکون قد جعل خبر الثقة علما فی مدلوله المطابقی فقط دون مدلوله الالتزامی وعندئذ لا بد فی مقام الإثبات من الرجوع إلی أدلة الحجیة والبحث عن إمکان شمول جعل العلم التعبدی حتی للمدلول الالتزامی، وحیث إن عمدة الدلیل علی حجیة أخبار الثقة وظواهر الالفاظ السیرة القطعیة من العقلاء الممضاة شرعا فمن الواضح انها جاریة علی أن خبر الثقة کما هو حجة فی مدلوله المطابقی کذلک هو حجة فی مدلوله الالتزامی أیضا وکذلک ظواهر الالفاظ.

وعلی هذا یکون الفرق بین ماذکرته مدرسة المحقق النایئنی وبین ما ذکرناه هو أن السیرة هی الدالة علی أن مثبتات الأمارات تکون حجة فیکون الفرق بینهما إثباتی لا ثبوتی.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

إلی هنا قد تبین أن أهداف مدرسة المحقق النائینی من جعل الفرق بین الأمارات وبین الأصول العملیة فی سنخ المجعول حیث إن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی والمجعول فی باب الأصول العملیة هو الجری العملی علی طبقها خارجا فی ظرف الشک بالواقع بدون النظر إلیه ثلاثة:

الأول: أن الأمارة علی هذا تقوم مقام القطع الموضوعی الطریقی المأخوذ فی موضوع الحکم بدون أی مؤنة.

ص: 267

الثانی: أن الأمارات علی هذا تکون حاکمة علی الأصول العملیة ورافعة لموضوعها تعبدا.

الثالث: أن مثبتات الأمارات علی هذا تکون حجة وأما مثبتات الأصول العملیة فلا تکون حجة.

وقد تقدم الکلام فیما مضی فی الهدفین الأولیین، وسوف یأتی تتمیم لذلک فی بعض البحوث الآتیة.

والکلام فعلا إنما هو فی الهدف الثالث. فتخیل مدرسة المحقق النائینی أن جعل الشارع أخبار الثقة علما تعبدیا یعنی أن العلم بالملزوم یستلزم العلم باللازم فالعلم بالمدلول الطابقی یستلزم العلم بالمدلول الالتزامی سواء کان المدلول الالتزامی لازما أو ملزوما أو أحد المتلازمین ومن أجل ذلک تکون مثبتات الأمارات حجة ولا فرق من هذه الناحیة بین العلم الوجدانی والعلم التعبدی، فکما أن العلم الوجدانی بالملزوم یستلزم العلم الوجدانی باللازم کذلک العلم التعبدی بالملزوم یستلزم العلم التعبدی باللازم وعلی هذا یکون العلم التعبدی بالمدلول المطابقی مستلزما للعلم التعبدی بالمدلول الالتزامی.

ولکن هذا غیر صحیح فإن العلم إذا کان وجدانیا فلا محالة یکون العلم بالملزوم مستلزما للعلم باللازم ولا یمکن التفکیک بینهما أو أن العلم باللازم یستلزم بطریق الإن العلم بالملزوم وکذلک العلم بأحد المتلازمین وجدانا یستلزم العلم بالملازم الآخر، فالعلم إذا کان وجدانیا فالأمر واضح.

وأما إذا کان العلم علما تعبدیا أی هو لیس بعلم حقیقة وإنما هو علم فی عالم الاعتبار فلا یستلزم العلم التعبدی بالملزوم العلم التعبدی باللازم لأنه لا تلازم بینهما حتی یقال بذلک باعتبار أن العلم التعبدی یتبع مقدار التعبد فی السعة والضیق، فإذا جعل خبر الثقة علما تعبدیا فکما یمکن ان یکون مقدار جعل الحجیة شاملا للمدلول المطابقی والمدلول الالتزامی معا کذلک یمکن ان یکون مقدار جعل الحجیة مختصا بالمدلول المطابقی دون المدلول الالتزامی فهذا تابع لمقدار التعبد.

ص: 268

وکلا الأمرین محتمل فی مقام الثبوت فلا یمکن القول بأن مثبتات الأمارات حجة لنکتة ثبوتیة وهی أن العلم بالملزوم یستلزم العلم باللازم.

وعلی هذا لا بد من الرجوع إلی مقام الإثبات وهی أدلة حجیة خبر الواحد الثقة لنری مقدار الاعتبار علی ما ذا یدل، فإن کان الدلیل علی خبر الثقة دلیلا لفظیا فإن وجد له إطلاق وکان مقتضی إطلاقه حجیة خبر الثقة بالمدلول المطابقی والمدلول الالتزامی معا فحینئذ یسوغ لنا القول بأن مثبتات الأمارات حجة وأما إذا لم یکن له إطلاق فعندئذ لا یمکن الحکم بحجیة الأمارة فی المدلول المطابقی والمدلول الالتزامی معا.

هذا إذا کان الدلیل علی حجیة الأمارات لفظیا.

واما إذا کان الدلیل دلیلا لبیا کسیرة العقلاء فهی عمدة الدلیل علی حجیة أخبار الثقة وظواهر الالفاظ لإمضائها من قبل الشرع وسائر الأدلة من الآیات والروایات علی تقدیر تمامیتها مؤکدة للسیرة ولیست فی مقام التأسیس، فلا شبهة فی جریانها علی حجیة أخبار الثقة فی کلا المدلولین وکذلک الحال فی ظواهر الالفاظ.

وعلی هذا تکون حجیة مثبتات الأمارات مبنیة علی نکتة إثباتیة لا علی نکتة ثبوتیة.

هذا من جانب

ومن جانب آخر أن جریان السیرة علی حجیة أخبار الثقة دون أخبار غیر الثقة لا بد من ان یکون مبنیا علی نکتة ولا یمکن ان یکون جزافا وتعبدا فإن التعبد إنما یتصور فی الأحکام الشرعیة واما فی الأمور العقلائیة والعرفیة فلا معنی للتعبد، فما لم تدرک النکتة فی جریان سیرتهم علی العمل بأخبار الثقة فلا شبهة لا طریق لنا إلی التسلیم فی جریان سیرتهم علی ذلک، والنکتة المبررة لذلک هی أن کاشفیة أخبار الثقة نوعا عن الواقع أقوی وأظهر من کاشفیة أخبار غیر الثقة فهذه الأقوائیة هی السبب لجریان سیرة العقلاء علی حجیة أخبار الثقة دون أخبار غیر الثقة وکذلک الحال بالنسبة إلی ظواهر الالفاظ فإن کاشفیتها عن الواقع أقوی وأظهر من ظواهر الافعال.

ص: 269

وعلی هذا لا شبهة فی أن کاشفیة خبر الثقة الذاتیة النوعیة عن المدلول المطابقی تستلزم کاشفیتها بنفس الدرجة عن مدلولها الالتزامی وهذه الکاشفیة لا یمکن ان تکون مبنیة علی أساس الجعل؛ ضرورة انه لا ملازمة بین الطریقیة الجعلیة لأخبار الثقة بمدلولها المطابقی والطریقیة الجعلیة لأخبار الثقة بالنسبة إلی مدلولها الالتزامی؛ لأنه إن أرید من الملازمة ان الجعل الثانی یتولد من الجعل الأول ومعلول له فهو غیر معقول لعدم تصور العلیة والمعلولیة فی الأمور الاعتباریة لأنه لا واقع موضوعی لها فی الخارج إلا فی عالم الاعتبار والعلیة والمعلولیة إنما تتصور فی الأمور التکوینیة الخارجیة، وعلیه لا یعقل علیّة اعتبار لاعتبار آخر، هذا مضافا إلی أن الاعتبار فعل المعتبر مباشرة لا فعل المعتبر بالتسبیب أو بالعلیة، فلا یعقل علی هذا ان یکون اعتبار الطریقیة لخبر الثقة بالنسبة إلی المدلول الالتزامی معلولا لاعتبار الطریقیة لخبر الثقة بالنسبة إلی المدلول المطابقی.

وإن أرید بذلک أن جعل الطریقیة لخبر الثقة بالنسبة إلی المدلول المطابقی ملازم لجعل طریقیته بالنسبة المدلول الالتزامی أی أن کلا الجعلین صادر من المولی.

فیرد علیه أن الملازمة بین الجعلین بحاجة إلی دلیل ومبرر ولا دلیل علی ذلک فإن الجعل الثانی لا بد له من ملاک ومع وجود الملاک فلا محالة یکون الجعل الثانی جعل مستقلا عن الجعل الأول ولیس تبعا له وإن لم یوجد ملاک له فلا مبرر لهذه الملازمة.

فالنتیجة: ان ما ذکرته مدرسة المحقق النائینی(قده) غیر تام فلا یمکن أن تکون حجیة مثبتات الأمارات مبنیة علی أن المجعول فی باب الأمارات العلم التعبدی، بل هی مبنیة علی دلالة الدلیل فی مقام الإثبات.

ومن هنا ذکر السید الاستاذ(قده) (1) ان مجرد جعل الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی لخبر الثقة ولظواهر الالفاظ لا یستلزم جعل هذه الطریقیة والکاشفیة بالنسبة إلی مدلوله الالتزامی.

ص: 270


1- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج3، ص155.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

إلی هنا قد تبین أن ملاک حجیة مثبتات الأمارات وعدم حجیة مثبتات الأصول العملیة لیس هو أن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی والمجعول فی الأصول العملیة هو الجری العملی علی طبقها خارجا فی ظرف الجهل والشک فی الواقع بدون النظر إلیه لأنه - علی تقدیر القول بأن المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والعلم التعبدی – لا یکون العلم التعبدی علما حقیقة وإنما هو علم اعتبارا ولا وجود له فی عالم الذهن وإنما الموجود فی عالم الذهن والاعتبار هو نفس الاعتبار واما العلم فلا وجود له أصلا، ولهذا لا یکون العلم التعبدی بالملزوم مستلزما للعلم التعبدی بلازمه وهذه الملازمة إنما هی موجودة فی العلم الوجدانی؛ إذ العلم الوجدانی بشیء یستلزم العلم الوجدانی بلوازمه وملزوماته جمیعا دون العلم التعبدی.

وعلی هذا لا أثر لکون المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والعلم التعبدی فإنه لا یصلح لأن یکون ملاکا لحجیة مثبتات الأمارات، ومنه تعرف ان ملاک حجیة مثبتات الأمارات هو دلیل الحجیة فی مقام الإثبات فقط لأن دلیل الحجیة إن دل علی أن الأمارات الخاصة إذا کانت حجة فی مدلولها المطابقی فهی حجة فی مدلولها الالتزامی لجریان السیرة العقلائیة الممضاة شرعا علی حجیة أخبار الثقة وظواهر الالفاظ فی مدالیلها الالتزامیة کما هی حجة فی مدالیلها المطابقیة فتثبت حجیة مثبتات الأمارة بنفس دلیل حجیة الامارة.

ومن هنا ذکر سیدنا الأستاذ(قده) – رغم أنه بنی علی ان المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والعلم التعبدی – أن هذا لا یصلح لأن یکون ملاکا لحجیة مثبتات الأمارات لأن العلم التعبدی لیس بعلم فی الواقع ومن هنا خص حجیة مثبتات الأمارات بالأمارات المتضمنة لمزیة حکایة لسانها عن الواقع والإخبار عنه کأخبار الثقة وظواهر الالفاظ فإن الملازمة ثابتة فی الإخبار عن شیء والإخبار عن لوازمه وهذا یعنی ان دلیل حجیتها یدل علی أنها کما تکون حجة فی مدلولها المطابقی کذلک هی حجة فی مدلولها الالتزامی ومن هنا بنی (1) (قده) علی أن الاستصحاب أمارة ومع ذلک لا تکون مثبتاته حجة والظن الحجة أمارة ولا تکون مثبتاته حجة کالظن فی عدد الرکعات فی الصلاة فرغم انه حجة إلا أن مثبتاته لا تکون حجة. ومن هنا یکون حال الأمارة التی لسانها لیس لسان الحکایة عن الواقع کحال الأصول العملیة.

ص: 271


1- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج3، ص154.

إلی هنا قد تبین: أن هذا الرأی - مضافا إلی أنه لا یصلح لأن یکون ملاکا لحجیة مثبتات الأمارات - غیر صحیح.

الرأی الثانی: أن الفرق بین الأمارات والأصول العملیة إنما هو فی مقام الإثبات لأن عدم العلم بالواقع مأخوذ فی موضوع أدلة الأصول العملیة بینما لا یکون الشک مأخوذا فی موضوع أدلة حجیة الأمارات.

ولکن هذا الفرق لا أثر له، ولا یترتب علیه ما هو المطلوب من حجیة مثبتات الأمارات وعدم حجیة مثبتات الأصول العملیة.

والوجه فی ذلک: هو أن الشک وإن لم یأخذ فی موضوع أدلة حجیة الأمارات فی مقام الإثبات ولکنه مأخوذ فی موضوع أدلة حجیة الأمارات فی مقام الثبوت ولا یعقل ان تکون الأمارة حجة للعالم بالواقع لأنه من تحصیل الحاصل بل هو من أردأ أنحاء تحصیل الحاصل لأن ما هو ثابت بالوجدان لا یمکن إثباته بالتعبد للزوم اللغویة التی لا یمکن صدورها من المولی الحکیم ومن هنا تکون الأمارة حجة علی الجاهل بالواقع والشاک فیه، لأن المکلف بحسب الواقع لا یخلو إما انه جاهل بالواقع وغیر عالم به أو انه عالم بالواقع وحیث أنه لا یعقل جعل الحجیة للعالم بالواقع فلا محالة یختص جعل حجیة الأمارة للجاهل بالواقع وعدم العلم به.

وعلیه یکون الشک مأخوذ فی موضوع الحجیة فی مقام الثبوت.

ویترتب علیه: أنه لا أثر للفرق المذکور فی مقام الإثبات لأنه لا فرق بین الأمارات والأصول العملیة فی مقام الثبوت فکما أن الشک والجهل بالواقع مأخوذ فی موضوع أدلة حجیة الأمارات کذلک یکون الشک والجهل بالواقع مأخوذ فی موضوع أدلة الأصول العملیة فلا یوجد أی فرق بین الأمارات والأصول العلمیة من هذ الناحیة.

قد یقال کما قیل: إن الشک مأخوذ فی مورد حجیة الأمارات لا فی موضوعها بینما الشک مأخوذا فی موضوع ادلة حجیة الأصول العملیة الشرعیة.

ص: 272

ولکن هذا القیل: لا یرجع إلی معنی محصل إذ لا فرق بین المورد والموضوع لأن مورد حجیة الأمارات هو الموضوع والموضوع هو المورد ولیس المورد شیء والموضوع شیء آخر ذلک لأن موضوع حجیة الأمارات إما الجاهل بالواقع وعدم العلم به أو موضوعها الأعم منه ومن العالم بالواقع والثانی غیر معقول فلا یمکن ان یکون العالم بالواقع موضوعا لحجیة أدلة الأمارات ولا یعقل جعل الحجیة له لأنه لغو وتحصیل للحاصل بل هو من أردأ أنحاء تحصیل الحاصل فیتعین الأول، وهو ان موضوع ادلة حجیة الأمارات هو الجاهل بالواقع وغیر العالم به وهو ایضا مورد الحجیة.

قد یقال کما قیل: إن الفرق - وهو أن الشک مأخوذ فی لسان أدلة حجیة الأصول العملیة الشرعیة بینما هو غیر مأخوذ فی لسان أدلة حجیة الأمارات - له أثر وهو ان الأمارات تتقدم علی الأصول العملیة فطالما یمکن العمل بالأمارات والاستدلال بها فلا تصل النوبة إلی الأصول العملیة الشرعیة لتقدمها علیها حتی فی مثل الأصل العملی الذی یکون المجعول فیه الطریقیة کالاستصحاب لا بملاک أن الشک مأخوذ فی لسان أدلة حجیة هذه الأصول ولم یکن مأخوذا فی لسان ادلة حجیة الأمارات بل من ناحیة ان الأمارات علم تعبدا وطریق إلی الواقع.

ولکن هذا القیل: أیضا غیر صحیح، وذلک:

أولاً: أن المجعول فی باب الاستصحاب لیس هو الطریقیة بل هو الجری العملی علی طبق الحالة السابقة فی ظرف الشک فیها والجهل بها ومن هنا قلنا: إنه لا یوجد فی مورد الاستصحاب ما یصلح لأن یکون طریقا فإن الیقین بالحالة السابقة قد زال ولا یقین فعلا والموجود هو الشک ببقاء الحالة السابقة والشک لا یصلح للطریقیة وکاشفا عن الواقع واما أدلة حجیة الاستصحاب فمفادها التعبد بالیقین ولیس مفادها جعل الحالة السابقة طریقا فإن الحالة السابقة إنما تصلح أن تکون طریقا إذا ثبتت الملازمة بین حدوث شیء واستمراره وحینئذ یمکن القول بأن الیقین بالحدوث مستمر استنادا إلی هذه الملازمة فتکون أمارة علی البقاء، ولکن الأمر لیس کذلک لأن الشیء قد یحدث ولا یبقی وقد یحدث ویبقی بلحاظ اختلاف الأشیاء فی الخارج لأن البقاء بحاجة إلی علة کالحدوث لأنه أیضا وجود غایة الأمر أنه وجود ثان مسبوق بوجود آخر فهو إذاً بحاجة إلی علة مقارنة له ومن هنا یحصل الاختلاف بین الأشیاء فقد یحدث ویبقی وقد یحدث ولا یبقی من جهة بقاء علته، ومن هنا قلنا: إن المجعول فی باب الاستصحاب هو الجری العملی علی طبق الحالة السابقة أی العمل علی طبقها فی ظرف الجهل والشک بالواقع ولهذا بنینا علی ان الاستصحاب لیس من الأصول المحرزة بل هو من الأصول غیر المحرزة ولا فرق بینه وبین أصالة البراءة والطهارة فکما أن المجعول فی أصالة البراءة هو الجری العملی علی طبق الحالة السابقة فی ظرف الشک والجهل بالواقع کذلک فی الاستصحاب.

ص: 273

وثانیاً: أن الشک المأخوذ فی لسان روایات الاستصحاب یراد به عدم الیقین الوجدانی لا الأعم منه ومن عدم الیقین التعبدی لأن الیقین التعبدی لیس بیقین حقیقة بل هو مجرد اعتبار من الشارع ولا واقع موضوعی له فی عالم الخارج وفی عالم النفس، ومن هنا لا یصلح الیقین التعبدی لأن یکون رافعا لموضوع الاستصحاب وجدانا ولا تعبدا، إما وجدانا فهو ظاهر وإما تعبدا فلأنه لیس بعلم حتی یکون رافعا لموضوع الاستصحاب تعبدا.

نعم لو کان المأخوذ فی موضوع الاستصحاب عدم الیقین الأعم من عدم الیقین الوجدانی وعدم الیقین التعبدی لکانت الأمارات رافعة لموضوع الاستصحاب وجدانا فیکون تقدیمها علیها من باب الورود لا من باب الحکومة، وقد عرفت أن الأمر لیس کذلک لأن المأخوذ فی موضوع الاستصحاب هو عدم الیقین الوجدانی.

وبهذا یتبین عدم تمامیة هذا الرأی ایضاً.

اصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: اصالة البراءة

الرأی الثالث: ما اختاره بعض المحققین (1) (قده) من ان منشأ جعل الحکم الظاهری فی موارد الأمارات وموارد الأصول العملیة هو علاج التزاحم الحفظی علی أساس المرجح الکمی أو الکیفی فی مقابل التزاحم الملاکی والتزاحم الامتثالی.

وبیان ذلک: أن التزاحم علی ثلاثة أنواع:

النوع الأول: التزاحم الملاکی وهو التزاحم بین ملاکین: ملاک الوجوب وملاک الإباحة او ملاک الوجوب وملاک الحرمة فی فعل واحد فی الخارج وحیث لا یمکن الجمع بینهما فی فعل واحد فلا یعقل أن یکون فعل واحد مشتملا علی مصلحة ملزمة وعلی مفسدة ملزمة أو مشتملا علی مصلحة ملزمة وعلی مصلحة ترخیصیة، فلا بد من الرجوع إلی المرجحات وترجیح أحد الملاکین علی الملاک الآخر، وهذا الترجیح فی موارد هذا التزاحم بید الشارع لأنه لا طریق للمکلف إلی ملاکات الأحکام ومبادئها لا کما وکیفا حتی یقوم بالترجیح فلو فرض علم المکلف بوجود الملاک ولکن لا یعلم کیفیته ولا کمیته فمن أجل ذلک یکون الترجیح بید الشارع لا بید المکلف فإذا رأی الشارع أن احد الملاکین أقوی من ملاک الآخر وأهم فبطبیعة الحال یجعل الحکم علی طبقه.

ص: 274


1- بحوث فی علم الاصول، تقریر بحث السید الشهید للسید الشاهروی، ج5، ص12.

النوع الثانی: التزاحم فی مقام الامتثال ومنشأ هذا التزاحم هو عدم قدرة المکلف علی الجمع بین الفعلین فی مقام الامتثال فإن للمکلف قدرة واحدة فإن صَرَفها فی امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر وبالعکس فلهذا یقع التزاحم بینهما کالتزاحم بین وجوب الصلاة فی آخر الوقت وبین وجوب إزالة النجاسة عن المسجد فإن المکلف غیر قادر علی الجمع بینهما فإنْ صَرَف قدرته علی الاتیان بالصلاة عجز عن إزالة النجاسة عن المسجد وإن عکس فبالعکس ولهذا تقع المزاحمة بینهما فلا بد من الرجوع إلی مرجحات باب المزاحمة فإن کان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الاهمیة فلا بد من تقدیمه علی الآخر علی تفصیل تقدم ویأتی فی البحوث الاتیة ولا سیما فی مبحث التعادل والترجیح.

النوع الثالث: التزاحم الحفظی وهذا التزاحم ناشئ من جعل الأحکام الظاهریة فی موارد الأمارات والأصول العملیة فی موارد الاشتباه والالتباس لأن منشأ هذا التزاحم اقتضاء الوجوب الحفاظ علی الواجب حتی فی موارد الاشتباه والالتباس واقتضاء الإباحة الحفاظ علی المباح حتی فی موارد الاشتباه والالتباس ولا یمکن الجمع بین حفظ کلیهما معا فی موارد الاشتباه والالتباس وموارد الشک والتردد فحفظ کلیهما لا یمکن ولا یکون فی هذا النوع تزاحم بین الملاکین فإن ملاک الوجوب قائم بالواجب وملاک الإباحة قائم بالمباح ولا تزاحم بینهما کما لا تزاحم بینهما فی مرحلة الامتثال لأن المکلف قادر علی امتثال کلا الحکمین، بل التزاحم إنما هو فی توسعة دائرة المحرکیة والباعثیة والداعویة للتکالیف الواقعیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس فإن وجوب الواجب یقتضی تحریک المکلف نحو الاتیان به حتی فی موارد الاشتباه والالتباس وموارد الشک والاختلاط وإباحة المباح تقتضی الحفاظ عل المباح حتی فی موارد الاشتباه والشک والتردد فمن أجل ذلک فلا یمکن الجمع بین حفظ کلیهما معا فتقع المزاحمة بینهما، باعتبار ان کل فعل مردد بین کونه واجبا او مباحا فلا یمکن الحفاظ علی الواجب والمباح معا فمن أجل ذلک تقع المزاحمة فی مقام الحفظ فی موارد الاشتباه والتردد.

ص: 275

ثم إن علاج مشکلة التزاحم الحفظی إما بقوة الاحتمال والکاشفیة والطریقیة وإما بأهمیة المحتمل وحیث إن الحجیة المجعولة فی موارد الأمارات کأخبار الثقة وظواهر الالفاظ ونحوهما إنما هی علی أساس قوة الاحتمال وقوة الکاشفیة عن الواقع وقوة الطریقیة فمن أجل ذلک تکون حقیقة الأمارة وروحها قوة الاحتمال والکاشفیة عن الواقع، وأما فی موارد الأصول العملیة الشرعیة کالاستصحاب واصالة البراءة والطهارة ونحوها فجعل الحجیة لها فی موارد الاشتباه والالتباس إنما هو علی أساس أهمیة المحتمل فلهذا تکون حقیقة الأصول العملیة الشرعیة وروحها أهمیة المحتمل.

وعلی هذا تکون حجیة مثبتات الأمارات علی القاعدة فإن الأمارة علی أساس کاشفیتها تدل علی مدلولها المطابقی وبنفس هذه الکاشفیة تدل علی مدلولها الالتزامی فتکون حجیة مثبتات الأمارات علی القاعدة لأن الأمارة إذا کانت کاشفة عن مدلولها المطابقی فهی کاشفة بنفس الدرجة عن مدلولها الالتزامی.

وبکلمة: ان الجمع بین الاقتضاءین لا یمکن: اقتضاء الوجوب الحفاظ علی الواجب حتی فی موارد الاشتباه والالتباس وموارد الشک والتردد واقتضاء الإباحة الحفاظ علی المباح حتی فی هذه الموارد واما رفع هذه المشکلة برفع الجهل والشک والتردد إما أنه لا یمکن او أنه ممکن ولکن الشارع لا یری مصلحة فیه فمن أجل ذلک قام بعلاج هذه المشکلة بجعل الحکم الظاهری فی موارد الأمارات وموارد الأصول العملیة وحیث إن جعل الحکم الظاهری فی موارد الأمارات والأصول العملیة لیس جزافا وبلا نکتة مبررة لذلک فإن صدور الجزاف من المولی الحکیم مستحیل، والنکتة المبررة لذلک متمثلة فی أمرین:

الأمر الأول: قوة الاحتمال والکاشفیة عن الواقع والطریقیة إلیه.

الأمر الثانی: أهمیة المحتمل.

وهذا الترجیح أیضا بید الشارع حیث لا طریق للمکلف إلی ملاکات الأحکام وخصوصیاتها الکیفیة والکمیة وبما أن کاشفیة الأمارات کأخبار الثقة أقوی من کاشفیة أخبار غیر الثقة وکاشفیة ظواهر الالفاظ أقوی من کاشفیة ظواهر الافعال فلأجل ذلک جعل الشارع الحجیة لأخبار الثقة وظواهر الالفاظ علی أساس قوة الکاشفیة والطریقیة.

ص: 276

واما فی موارد الأصول العملیة فإذا رأی الشارع أن أحد الملاکین أهم من ملاک آخر فیجعل الحجیة للأصول العملیة علی طبق أهمیة المحتمل.

فإذاً کما ان حقیقة حجیة الأمارة وروحها قوة الکاشفیة کذلک حقیقة حجیة الأصول العملیة وروحهما أهمیة المحتمل.

فالنتیجة أن حجیة مثبتات الأمارات علی هذا تکون علی القاعدة.

هذا ملخص ما ذکره(قده).

اصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: اصالة البراءة

کان کلامنا فیما ذکره بعض المحققین(قده) من أن منشأ جعل الحکم الظاهری فی موارد الأمارات والأصول العملیة التزاحم الحفظی علی أساس المرجحات الکمیة والمرجحات الکیفیة فی مقابل التزاحم الملاکی والتزاحم الامتثالی فهنا أقسام ثلاثة من التزاحم:

القسم الأول: التزاحم الملاکی وهو التزاحم بین الملاکین فی مرحلة المبادئ وفی مرحلة المبادئ قد یقع التزاحم بین المصلحة والمفسدة فیکون الترجیح فی هذه المرحلة بید المولی لا بید المکلف.

القسم الثانی: التزاحم فی مرحلة الامتثال فلا یکون المکلف قادرا علی امتثال کلا الواجبین معا لأن له قدرة واحدة فإن صرفها فی امتثال أحدهما عجز عن امتثال الآخر فمن أجل ذلک یقع التزاحم بینهما.

القسم الثالث: التزاحم الحفظی وهو لیس من قبیل التزاحم الملاکی لأن ملاک الإباحة قائم بالمباح وملاک الوجوب قائم بالواجب فی موارد الاشتباه بین الواجب والمباح فلا تزاحم بین الملاکین أصلا فإن موضوع کل منهما غیر موضوع الآخر وهو أیضا لیس من قبیل التزاحم فی مرحلة الامتثال لأن المکلف متمکن من امتثال الواجب وامتثال المباح إما فعلا أو ترکا وکذلک متمکن من امتثال الحرام مع امتثال المباح ولا تزاحم بینهما فی هذه المرحلة وإنما التزاحم فی مقام الحفظ فی موارد الاشتباه والالتباس فإن الوجوب فی هذه الموارد یقتضی الحفاظ علی الواجب والإباحة فی هذه الموارد تقتضی الحفاظ علی المباح والمکلف لا یقدر فی موارد الاشتباه والالتباس من الجمع بین حفظ الواجب والمباح معا او حفظ الحرام وحفظ المباح معا فلا بد من الرجوع إلی المرجحات والترجیح إنما هو بید المولی فإن المولی لأجل علاج مشکلة هذا التزاحم الحفظی یستعین بأحد أمرین: إما بالترجیح من خلال قوة الاحتمال الکاشفة عن الواقع او بالترجیح من خلال أهمیة المحتمل.

ص: 277

هذا ملخص ما ذکره(قده) علی تفصیل ذکرناه سابقا.

وهذه النظریة ترجع الی نقطتین أساسیتین:

النقطة الأولی: ان منشأ جعل الأحکام الظاهریة فی موارد الأمارات والأصول العملیة إنما هو التزاحم الحفظی فی موارد الاشتباه والالتباس والاختلاط وعلاج مشکلة هذا التزاحم إما بقوة الاحتمال بدرجة الکشف او بأهمیة المحتمل.

النقطة الثانیة: ان قوة الاحتمال بدرجة الکشف فی المدلول المطابقی هی ملاک حجیة الأمارات وحینئذ لا محالة تکون حجة فی لوازمها وملزوماتها بنفس درجة الکشف ومن هنا تکون حجیة مثبتات الأمارات علی القاعدة فلا تحتاج إلی أی مؤونة ومقدمة خارجیة.

واما جعل الحکم الظاهری فی موارد الأصول العملیة فیکون بملاک أهمیة المحتمل ومن الواضح أنه لا ملازمة بین أهمیة المدلول المطابقی وأهمیة المدلول الالتزامی ومن هنا لا تکون مثبتات الأصول العملیة حجة.

ولنا تعلیق علی کلتا النقطتین:

اما النقطة الأولی: فقد ذکرنا فی مستهل بحث الظن ان الأحکام الظاهریة الشرعیة علی قسمین:

القسم الأول: الأحکام الظاهریة اللزومیة وهی أحکام طریقیة وجعلها إنما هو بغرض الحفاظ علی الأحکام الواقعیة بما لها من الملاکات والمبادئ حتی فی موارد الاشتباه والالتباس فإن اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة الالزامیة بما لها من المبادئ والملاکات اللزومیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس هو السبب والملاک لجعل الأحکام الظاهریة اللزومیة الطریقیة وهذه الأحکام الظاهریة فی طول الأحکام الواقعیة فهی ناشئة عن نفس ملاکات الأحکام الواقعیة ولیست لها ملاکات أخری إذ لو کان لها ملاکات أخری لکانت فی عرض الأحکام الواقعیة لا فی طولها ولکانت أحکام مستقلة مع أن الأمر لیس کذلک فإن الأحکام الظاهریة اللزومیة أحکام طریقیة ناشئة من اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة اللزومیة بما لها من الملاکات والمبادئ حتی فی موارد الاشتباه والالتباس وهذا الاهتمام کما أنه منشأ لجعل الأحکام الواقعیة کذلک هو منشأ لجعل الأحکام الظاهریة اللزومیة ولهذا تکون هذه الأحکام الظاهریة اللزومیة طریق إلی الأحکام الواقعیة وفی طولها لأنها ناشئة من اهتمام المولی بالحفاظ علی مبادئ الأحکام الواقعیة وملاکاتها اللزومیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس.

ص: 278

فإذاً جعل الأحکام الظاهریة اللزومیة بما انها احکام طریقیة ولا شأن لها إلا تنجیز الأحکام الواقعیة عند الإصابة وتعذیرها عند الخطأ فلا عقوبة علی مخالفتها والعقوبة إنما هی علی مخالفة الأحکام الواقعیة ولا مثوبة علی موافقتها والمثوبة إنما هی علی الأحکام الواقعیة.

وعلی هذا فمنشأ جعل الأحکام الظاهریة اللزومیة هو اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة اللزومیة بما لها من الملاکات والمبادئ حتی فی موارد الاشتباه والالتباس لا منشأ جعلها التزاحم الحفظی فإن التزاحم بین الملاکات الترخیصیة وبین الملاکات اللزومیة غیر متصور باعتبار أن إباحة الأشیاء ذاتیة ولیست مجعولة فی الشریعة المقدسة والمجعول هو الأحکام اللزومیة أو الاستحباب والکراهة وأما الإباحة فهی ثابتة قبل وجود الشرع والشریعة وهذا مما یظهر من الروایات أیضا کقوله(ع): (کل شیء مطلق حتی یرد فیه نهی) (1) فإنه یدل علی أن کل شیء مباح طالما لم یرد فیه نهی وهذا یعنی ان الإباحة لشیء ذاتیة ولیست مجعولة وإذا لم تکن مجعولة فلا ملاک لها لأن الجعل لا بد له من ملاک یدعو الجاعل إلی الجعل وإلا کان لغوا فالوجوب والحرمة والطهارة والنجاسة والشرطیة والجزئیة وهکذا باقی الأحکام الوضعیة فإن جعل مثل هذه لا یمکن ان یکون جزافا فلا محالة یکون من أجل مبادئ وملاکات واقعیة هی التی تدعو الجاعل إلی جعلها.

ومع الإغماض عن ذلک وتسلیم أن إباحة المباح مجعولة فی الشریعة المقدسة ولکن لا یتصور التزاحم بین الملاک الترخیصی والملاک اللزومی فإن الملاک الترخیصی معناه أن المکلف مرخص فی فعله وترکه معا ومن الواضح انه لا یصلح أن یزاحم الملاک اللزومی سواء کان اللزوم من ناحیة الوجوب أو من ناحیة الحرمة فإن هذا الملاک اللزومی یؤثر فی المبغوضیة والکراهة ویؤثر فی المحبوبیة والاستحباب ولا تزاحم بینهما فی مرحلة الامتثال فإن الملاک الترخیصی لا یقتضی الامتثال فالمکلف مخیر بین الفعل والترک وما یقتضی الامتثال هو الملاک اللزومی اعم من الوجوب والحرمة.

ص: 279


1- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج27، ص173، ک القضاء، ابواب صفات القاضی، باب12، ح67، ط آل البیت.

فإذاً لا یمکن ان یکون جعل الأحکام الظاهریة اللزومیة ناشئ من التزاحم الحفظی لعدم تصور التزاحم بین الملاک اللزومی والملاک الترخیصی لا فی مرحلة المبادئ والملاکات ولا فی مرحلة الامتثال، بل هو ناشئ من اهتمام المولی بالحفاظ علی الأحکام الواقعیة اللزومیة بما لها من المبادئ والملاکات حتی فی موارد الاشتباه والالتباس فهذا هو مقتضی جعل الأحکام الظهاریة اللزومیة.

واما القسم الثانی: وهو الأحکام الظهاریة الترخیصیة کما هو مفاد أصالة الإباحة الشرعیة ومفاد أصالة الطهارة ومفاد الأمارات المتکفلة للأحکام الترخیصیة ومفاد استصحاب عدم الوجوب او عدم الحرمة أو استصحاب إباحة شیء فإن هذه الأمارات والأصول العملیة متکفلة للأحکام الظاهریة الترخیصیة ومن الواضح أن جعل الأحکام الظاهریة الترخیصیة لم ینشأ عن المبادئ والملاکات الواقعیة لأن منشئها إنما هو مصلحة عامة وهی مصلحة التسهیل النوعیة بالنسبة إلی نوع المکلفین فهذه المصلحة تدعو المولی إلی جعل الأحکام الظاهریة وهذه المصلحة مترتبة علی جعل الأحکام الظاهریة لا أن الأحکام الظاهریة الترخیصیة ناشئة من هذه المصلحة فی المرتبة السابقة بل هذه المصلحة العامة النوعیة مترتبة علی جعل هذه الأحکام الترخیصیة الظاهریة.

وعلی هذا لا یکون جعل الأحکام الظاهریة الترخیصیة ناشئا من التزاحم الحفظی أیضا.

فما ذکره(قده) لا یمکن المساعدة علیه.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

انتهینا إلی أن منشأ جعل الأحکام الظاهریة الإلزامیة الطریقیة کوجوب الاحتیاط والاستصحاب المثبت للتکلیف والأمارات المتکفلة للأحکام الالزامیة هو اهتمام المولی بالحفاظ علی ملاکات الأحکام الواقعیة الالزامیة حتی فی موارد الشک والاشتباه والالتباس بحیث أن الشارع لا یرضی بتفویت هذه الملاکات حتی فی هذه الموارد وهذا یوجب توسعة دائرة محرکیة هذه الملاکات من دائرة العلم إلی دائرة الشک والاشتباه والالتباس ولیس منشأ جعل هذه الأحکام الالزامیة علاج مشکلة التزاحم الحفظی إذ لا تزاحم فی ملاکات الأحکام الواقعیة الالزامیة فی موارد الاشتباه والالتباس لأن منشأ التزاحم الحفظی هو جعل الأحکام الترخیصیة والمباحات الواقعیة فی الشریعة المقدسة لأنها لو کانت مجعولة فلا محالة یکون لها ملاک وملاکها یصلح ان یزاحم ملاکات الأحکام الإلزامیة الواقعیة فی مقام الحفظ.

ص: 280

ولکن یرد علی هذا القول:

أولاً: ان المباحات الأصلیة لم تکن مجعولة فی الشریعة المقدسة بل هی ثابتة من الأزل وذاتیة بمعنی ذاتی باب البرهان لأن الإنسان مطلق العنان یفعل ما یشاء ویترک ما یشاء والشریعة قد جاءت لتحدید هذا الاطلاق وتقییده بحدود معینة وبقیود مخصوصة لا تضر بحریة الإنسان أیضا إذ هو حر فی تکلمه شریطة أن لا یکون کذبا أو غیبة للمؤمنین وهو حر فی عمله شریطة أن لا یکون محرما وأن لا یضر بالناس وما شاکل ذلک ولکن الشریعة جاءت لتحدید هذا الاطلاق باعتبار أن هذا الإطلاق ربما أدی إلی الهرج والمرج واختلال النظام فی الکرة الأرضیة فجاءت الشریعة لحفظ العدالة الاجتماعیة والتساوی فی الحقوق ولحفظ الأمن.

فإذاً لیست المباحات الأصلیة مجعولة حتی یکون لها منشأ وملاک.

وثانیاً: لو سلم أن المباحات الأصلیة مجعولة فی الشریعة المقدسة ولکن منشأ جعلها عدم المقتضی للحکم اللزومی ( التکلیفی والوضعی) فی الفعل وعدم الملاک وعلیه لا یکون هناک ملاک للأحکام الترخیصیة حتی یکون مزاحما لملاک الأحکام الالزامیة فی مقام الحفظ.

وثالثاً: ولو تنزلنا عن ذلک وسلم أن جعل الإباحة الشرعیة ناشئ عن وجود مقتضی له کما هو الحال فی جعل الوجوب والحرمة وغیرها من الأحکام الإلزامیة التکلیفیة والوضعیة ولکن مقتضی الترخیص یقتضی ترخیص المکلف بین الفعل والترک فیکون المکلف مخیر بین الفعل والترک ومن الواضح أن هذا المقتضی لا یصلح ان یزاحم مقتضی الوجوب باعتبار ان مقتضی الوجوب یلزم المکلف بالإتیان بالواجب بحیث لو لم یأتی به لاستحق الإدانة والعقوبة ومن الواضح أن مقتضی الحکم الترخیصی لا یصلح لمزاحمة مقتضی الحکم الإلزامی فی مقام الحفظ.

فالنتیجة: ان جعل الحکم الظاهری الالزامی هو بملاک اهتمام المولی بالحفاظ علی ملاکات الأحکام الواقعیة الالزامیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس بحیث لا یرضی الشارع بتفویت تلک الملاکات فی هذه الموارد أیضا ولا مزاحم للملاکات والمبادئ للأحکام الالزامیة وإن قلنا بأن المباحات مجعولة فی الشریعة المقدسة.

ص: 281

واما النوع الثانی: ____ من الأحکام الظاهریة وهی الأحکام الترخیصیة کأصالة البراءة الشرعیة واستصحاب الحکم الترخیصی أو استصحاب عدم الوجوب او عدم الحرمة وکأصالة الطهارة ___ فإنها مجعولة فی الشریعة المقدسة لمصلحة عامة وهی المصلحة التسهیلیة بالنسبة الی نوع المکلفین فهی نوع إرفاق بهم وتسهیل علیهم فإن هذه المصلحة تدعو الشارع إلی جعل هذه الأحکام الترخیصیة وتترتب هذه المصلحة علی هذه الأحکام فی مقام الفعلیة فإذا جعل الشارع الأحکام الترخیصیة الظاهریة وصارت فعلیة فبطبیعة الحال تترب تلک المصلحة العامة علیها.

ولکن تلک المصلحة العامة قد تؤدی إلی تفویت الواجب أو ارتکاب الحرام لأن هذه الاحکام الترخیصیة لا تکون موافقة للواقع دائما ولکن مثل هذا لا یضر:

أولاً: لتقدم المصلحة العامة علی المصالح الشخصیة لأن المصالح الشخصیة لا تصلح لمزاحمة المصالح العامة بالنسبة الی نوع الکلفین.

وثانیاً: أنه لا أثر لترک الواجب الواقعی غیر المنجز ولا أثر للوقوع فی الحرام غیر المنجز باعتبار أن هذه الأحکام الظاهریة الترخیصیة مانعة عن تنجیز الأحکام الواقعیة فهی معذرة.

فالنتیجة: أن منشأ جعل الحکام الظاهریة الالزامیة اهتمام المولی بالحفاظ علی ملاکات الأحکام الواقعیة اللزومیة حتی فی موارد الاشتباه والالتباس واما جعل الأحکام الظاهریة الترخیصیة فمنشؤها المصلحة العامة وهی المصلحة التسهیلیة بالنسبة الی نوع المکلفین.

هذا کله فی النقطة الأولی.

واما النقطة الثانیة: فقد ذکر(قده) ان قوة الاحتمال بدرجة الکشف هی الملاک لحجیة الأمارات فإذا کانت الأمارات حجة فی مدلولها المطابقی کانت حجة فی مدلولها الالتزامی بنفس هذه الدرجة ومن هنا تکون حجیة مثبتات الأمارات علی القاعدة ولا تحتاج إلی أی مقدمة خارجیة وأی دلیل واما ملاک حجیة الأصول العملیة فأهمیة المحتمل من دون النظر علی الاحتمال بدرجة الکشف فلذلک لا تکون مثبتاتها حجة وإنما هی حجة فی مدلولها المطابقی فقط.

ص: 282

وما أفاده(قده) لا یمکن المساعدة علیه:

أما ما ذکره من ان ملاک حجیة الأمارات هو بقوة الاحتمال بدرجة الکشف:

فإن أرید: من هذا الکشف هو ان الأمارة کاشفة عن مدلولها المطابقی کشفا شخصیا ولو کان بدرجة الظن وحینئذ تکون کاشفة کشفا شخصیا عن مدلولها الالتزامی بنفس هذه الدرجة باعتبار أن الکشف الظنی عن المدلول المطابقی یستلزم الکشف الظنی عن المدلول الالتزامی.

فیرد علیه: ان حجیة الأمارات کظواهر الالفاظ واخبار الثقة لیست مبنیة علی الکشف الشخصی بل هی مبنیة علی الکشف النوعی فإذا کانت حجیة أخبار الثقة مبنیة علی درجة الاحتمال بالکشف النوعی فلا ملازمة بین حجیتها فی مدلولها المطابقی وحجیتها فی مدلولها الالتزامی.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

إلی هنا قد تبین أن الأحکام الظاهریة اللزومیة منشؤها اهتمام المولی بالحفاظ علی الملاکات الواقعیة للأحکام الواقعیة الالزامیة وأما الأحکام الظاهریة الترخیصیة فإن ملاکها المصلحة العامة المترتبة علی جعل الأحکام الظاهریة الترخیصیة وهی الإرفاق بنوع المکلفین والمصلحة التسهیلیة بالنسبة الی نوع المکلفین، ولیس جعل الأحکام الظاهریة لحل مشکلة التزاحم الحفظی.

واما ما ذکره(قده) فی النقطة الثانیة من أن مثبتات الأمارات تکون حجة علی هذا القول باعتبار ان ملاک حجیة الأمارات قوة الاحتمال بدرجة الکشف فتدل علی ثبوت مدلولها المطابقی علی أساس الاحتمال بدرجة الکشف وبنفس الدرجة تدل علی مدلولها الالتزامی فلا یحتاج إثبات حجیة مثبتات الأمارات إلی أی دلیل خارجی فللمناقشة فیه مجال.

فإن درجة من الکشف وإن کانت ملاکا لحجیة الأمارات کأخبار الثقة وظواهر الالفاظ فإن بناء العقلاء علی العمل بأخبار الثقة إنما هو لنکتة ولا یمکن ان یکون جزافا وتعبدیا لأن التعبد إنما یتصور فی الأحکام الشرعیة لا فی الأحکام العقلائیة فسیرة العقلاء قد جرت علی العمل بأخبار الثقة من جهة أقوائیة کشفها عن الواقع نوعا عن أخبار غیر الثقة وکذلک ظواهر الالفاظ فإن سیرة العقلاء قد جرت علی العمل بظواهر الالفاظ من جهة أقوائیة کشفها عن الواقع نوعا من ظواهر الافعال. ولکن المراد من الکشف إذا کان هو الکشف النوعی فإن أخبار الثقة أقوی کشفا نوعا من أخبار غیر الثقة لا من جهة ان کل فرد منها کذلک فإنه قد یکون هناک أفرادا من اخبار غیر الثقة أقوی کشفا عن الواقع من خبر الثقة نعم بحسب النوع خبر الثقة أقوی کشفا من خبر غیر الثقة فالکاشفیة النوعیة صفة للخبر لا صفة للمدلول المطابقی للخبر فإن خبر الثقة إذا قام علی وجوب شیء فالوجوب هو المدلول المطابقی وهذا الخبر حجة سواء أفاد الاطمئنان والوثق بالوجوب أو أفاد الظن بالوجوب او لم یفد ذلک بل حتی لو کان الظن علی خلافه فعلی جمیع التقادیر یکون خبر الثقة حجة باعتبار أن حجیته بملاک الوثوق النوعی لا بملاک الوثوق الشخصی فالوثوق النوعی لم یوجد فی مرحلة التطبیق والخارج وإنما هو مفهوم فی عالم الذهن وربما ینطبق علی الاطمئنان أو الظن وقد لا یکون هنا لا اطمئنان ولا ظن بل الموجود شک بل وهم أی الظن بالخلاف ولکن مع ذلک یکون خبر الثقة حجة لأن ملاک حجیته الوثوق النوعی لا الوثوق الشخصی. فإذا قام خبر الثقة علی وجوب شیء فدلیل حجیته سواء کانت سیرة العقلاء أم کان الآیات الکریمة ام الروایات أم الاجماعات المنقولة أو السیرة المتشرعیة علی جمیع التقادیر تدل جمیع أدلة حجیة اخبار الثقة علی حجیته بملاک الوثوق النوعی وإن لم یحصل وثوق فی الخارج بمدلوله المطابقی بل هو حجة حتی لو حصل ظن علی خلاف المدلول المطابقی.

ص: 283

وعلی هذا فلا ملازمة بین حجیة خبر الثقة فی المدلول المطابقی وبین حجیته فی المدلول الالتزامی فإن خبر الثقة حجة فی مدلوله المطابقی حتی مع الظن علی الخلاف بأن یکون موهوما ومن الواضح أنه لا ملازمة بین حجیة خبر الثقة بملاک الوثوق النوعی فی مدلوله المطابقی وبین حجیته بنفس هذا الملاک فی مدلوله الالتزامی فإن خبر الثقة قد قام علی وجوب شیء مثلا ودلیل الحجیة إنما یدل علی حجیته بالنسبة إلی مدلوله المطابقی أی الوجوب بملاک الوثوق النوعی وإن لم یکن موجودا فی الخارج بل لعل الموجود فی الخارج هو الوهم فقط.

وعلی هذا لا یمکن إثبات حجیة مثبتات الأمارات بهذا الطریق، هذا من جانب.

ومن جانب آخر ما هو الفرق بین الأمارات والأصول العملیة أی ما هو الفارق بین خبر الثقة الذی هو أمارة وبین الاستصحاب الذی هو أصل عملی؟

یمکن أن یکون الفرق بینهما هو فی مصب جعل الحکم الظاهری کالحجیة فإن کان مصب جعل الحکم الظاهری هو قوة الاحتمال بدرجة الکشف النوعی فهو أمارة ولیس من الأصول العملیة وإن کان مصب جعل الحکم الظاهری هو قوة المحتمل من دون النظر إلی قوة الاحتمال وضعفه فهو من الأصول العملیة ویکون المأخوذ فی موضوع هذه الأصول الشرعیة هو الشک والمراد منه هو الشک بمعناه اللغوی والعرفی وهو عدم العلم ولا یراد منه تساوی الطرفین فی الاحتمال لأن هذا مجرد اصطلاح من المناطقة لم یقم علیه دلیل لا عرفا ولا لغة باعتبار ان معنی الشک لغة وعرفا هو عدم العلم فیقال لمن لم یعلم بالشیء أنه شاک فیه فیشمل الظن أیضا فلا مانع من کون الأصل العملی مفیدا للظن ولکن مع ذلک هو من الأصول العملیة لا من الأمارات وحینئذ لا تکون مثبتاته حجة.

ص: 284

وأما أماریة الأمارات فهی متقومة بالطرف الراجح سواء کان بمرتبة الظن او أقوی منه وأما المرجوح وکذلک الشک المتساوی الطرفین فلا یصلح لأن یکون امارة.

وعلی هذا إذا کان ملاک حجیة الظن هو بقوة الاحتمال فهو أمارة واما إذا کان ملاک حجیته هو أهمیة المحتمل فهو من الأصول العملیة الشرعیة.

والحاصل انه لا یمکن إثبات حجیة مثبتات الأمارات بذلک.

والصحیح فی المقام ان یقال: إن حجیة مثبتات الأمارات تتوقف علی تمامیة عناصر ثلاث:

العنصر الأول: ان یکون لسان الأمارة لسان الحکایة والإخبار عن الواقع باعتبار أن الإخبار عن الشیء إخبار عن لوازمه بالارتکاز القطعی العرفی کما هو الحال فی أخبار الثقة فإن لسانها لسان الحکایة والإخبار عن الواقع وکذلک ظواهر الالفاظ واما الظن وکذلک السیرة والإجماع وما شاکل ذلک فلیس لسانها الحکایة والإخبار عن الشیء فلا تکون مثبتاتها حجة فحجیة مثبتات الأمارات مختصة بالأمارات التی یکون لسانها لسان الحکایة والإخبار عن الواقع.

العنصر الثانی: ثبوت الملازمة بین الإخبار عن شیء والإخبار عن لوازمه والحکایة عن شیء والحکایة عن لوازمه، فإن اللزوم المعتبر فی الدلالة الالتزامیة هو خصوص اللزوم البیّن بالمعنی الأخص لأنه هو الذی یستطیع تشکیل الدلالة الالتزامیة فی مقام الإثبات.

العنصر الثالث: ان یدل دلیل حجیة الأمارات علی حجیتها بعنوانیها الخاصة وبأسمائها المخصوصة بدون دخل خصوصیة داخلیة او خارجیة فی حجیتها فخبر الثقة حجة بعنوانه المخصوص وظواهر الالفاظ حجة باسمها المخصوص وعنوانها الخاص بدون دخل أی جهة فی موضوع هذه الحجیة لا الجهة الداخلیة ولا الجهة الخارجیة.

فإذا توفرت هذه العناصر الثلاثة تمت حجیة مثبتات الأمارات ومع الإخلال بأحدها فهو إخلال بدلالة الأمارة علی إثبات مدالیلها الالتزامیة فیکون إخلال فی حجیة مثبتات الأمارات.

اصالة البراءة بحث الأصول

ص: 285

الموضوع: اصالة البراءة

إلی هنا قد تبین أن حجیة مثبتات الأمارات تبتنی علی توفر ثلاثة عناصر فیها:

العنصر الأول: ان یکون لسانها لسان الحکایة عن الواقع والإخبار عنه کما هو الحال فی أخبار الثقات وظواهر الالفاظ وما شاکلهما.

العنصر الثانی: أن تکون الملازمة العرفیة بین الإخبار عن شیء والإخبار عن ملازمه وبین الحکایة عن شیء والحکایة عن لوازمه ثابتة.

العنصر الثالث: أن یکون مصب الحجیة وموضوعها الأمارة بعنوانها الخاص واسمها المخصوص والا احتمل دخل خصوصیة المورد فی الحجیة.

فإذا توفرت هذه العناصر الثلاث کانت مثبتات الأمارات حجة ومع عدم توفر ولو بعضها فلا تکون مثبتات الأمارات حجة.

أما العنصر الأول: فهو متوفر فی اخبار الثقة وظواهر الالفاظ فإن من أخبر عن شیء أخبر عن لوازمه أیضا ومن حکی عن شیء حکی عن لوازمه أیضا.

وأما العنصر الثانی: فلا شبهة فی ان الملازمة بین الإخبار عن شیء والإخبار عن لوازمه ثابتة ومرتکزة فی أذهان العرف والعقلاء بحیث لو أخبر ثقة عن شیء ینتقل الذهن إلی لوازمه بدون ادنی منبه وهذا معنی ان الملازمة بینهما بنحو اللزوم البین بالمعنی الأخص الذی یشکل الدلالة الالتزامیة فی مقام الإثبات. وعلی هذا یوجد لدینا إخباران طولیان: أحدهما إخبار عن المدلول المطابقی وهو الملزوم او الملازم. والآخر إخبار عن لوازمه، ولکن الخبر الثانی فی طول الخبر الأول ودلالة الأمارة علی حجیة الخبر الأول دلالة مطابقیة أصلیة ودلالتها علی حجیة الخبر الثانی دلالة فرعیة فإن الدلالة الالتزامیة تتبع الدلالة المطابقیة فی الحدوث والبقاء فحدوثها بحدوث الدلالة المطابقیة وبقائها ببقاء الدلالة المطابقیة فلو سقطت الدلالة المطابقیة بسبب المعارض مثلا فتتبعها الدلالة الالتزامیة فی السقوط أیضا.

والحاصل: ان الإخبار عن شیء أخبار عن لوازمه فهنا خبران طولیان فدلالة الدلیل علی الأول بالمطابقة وعلی الثانی بالالتزام.

ص: 286

واما العنصر الثالث: فلأن دلیل الحجیة إذا کان مصبه الأمارة بعنوانها الخاص واسمها المخصوص فالدلیل یدل علی حجیة خبر الثقة بما هو خبر الثقة بقطع النظر عن خصوصیة مورد خبر الثقة فلا یحتمل دخل خصوصیة المورد فی حجیته. وهذا بخلاف الظن مثلا فإنه وإن کان من الأمارات إلا أن لسانه لیس لسان الحکایة والإخبار عن الواقع، فإذا کان حجة فی مورد ما مثلا کاشتباه القبلة وعدد الرکعات إلا أنه لا یکون مثبتا للوازمه؛ لعدم توفر عنصرین من العناصر الثلاثة المتقدمة:

العنصر الأول: ان لسانه لیس لسان الإخبار والحکایة عن الواقع.

العنصر الثانی: احتمال دخل خصوصیة المورد فی حجیة الظن أی أن الظن بالقبلة وبعدد الرکعات حجة لا مطلقا فاحتمال خصوصیة المورد ودخلها فی حجیة الظن موجود فلا تکون مثبتاته حجة.

وأما إذا قام خبر ثقة علی ثبوت الهلال وفرضنا أنه حجة فی هذا المورد فبما ان لسانه لسان الحکایة والإخبار عن ثبوت الهلال فی الواقع فقد یظن أن مثبتاته حجة إلا انه لا یمکن الجزم بذلک لأنه لا یمکن التعدی عن مورده إلی سائر الموارد لاحتمال خصوصیة المورد فی ثبوت الحجیة لخبر الثقة عند رؤیة الهلال فإذا فرض أنه لا دلیل علی حجیة أخبار الثقة مطلقا وإنما الدلیل یدل علی حجیته فی خصوص مورد ثبوت الهلال فعندئذ احتمال ان للمورد خصوصیة وهی دخیلة فی حجیته وارد جدا ومعه لا یمکن التعدی إلی سائر الموارد وأن خبر الثقة حجة مطلقا.

فالنتیجة: ان حجیة مثبتات الأمارات منوطة بتوفر هذه العناصر الثلاثة فمع توفرها فی أمارة فهی کما تکون حجة فی إثبات مدلولها المطابقی کذلک هی حجة فی إثبات مدلولها الالتزامی.

ثم إن الفرق المزبور بین الأمارات وبین الأصول العملیة ذاتی لا اعتباری لأن الأمارات طریق إلی الواقع بطریقیة ناقصة وهذه الطریقیة الناقصة ذاتیة للأمارات وتکوینیة وغیر قابلة للجعل بل لا یمکن تعلق الجعل التشریعی بها إذ لا یمکن تکوین الشیء بالجعل التشریعی الاعتباری واما الأصول العملیة فلا تکون بنفسها طریقا ناقصا إلی الواقع.

ص: 287

وهذا الفراق بینهما هو السبب فی جعل الحجیة للأمارات بملاک أنها طریق الی الواقع سواء کانت الحجیة بمعنی الطریقیة والکاشفیة کما هو مبنی مدرسة المحقق النائینی أو کانت بمعنی ان المجعول فیها هو الحکم الظاهری المماثل للحکم الواقعی فی صورة المطابقة والمخالف له فی صورة عدم المطابقة وقد نسب هذا القول إلی شیخنا الأنصاریأ وربما ینسب إلیه أن معنی حجیة الأمارات تنزیلها منزلة القطع فمن أجل ذلک تقوم مقام القطع الطریقی ومقام القطع الموضوعی باعتبار انها بمنزلة القطع فی إثبات الأحکام الواقعیة وإثبات الأحکام المترتبة علی نفس القطع کما هو الحال فی القطع الموضوعی أو کانت الحجیة المجعولة فی الامارات بمعنی ان المجعول فیها هو المنجزیة والمعذریة کما هو مختار صاحب الکفایة(قده) أو انه لا مجعول فی باب الأمارات لا الطریقیة والکاشفیة ولا الحکم الظاهری ولا المنجزیة والمعذریة فإن الحاکم فی المنجزیة والمعذریة إنما هو العقل فلا تکون قابلة للجعل باعتبار أن المنجزیة أثر لتنجیز العلم التفصیلی والعلم الإجمالی والأثر لا یمکن انفکاکه عن المؤثر وإلا لزم انفکاک المعلول عن العلة فکیف تکون المنجزیة مجعولة والجعل اعتبار وأمره بید الجاعل نفیا وإثباتا. وأیضا لا یمکن أن یکون المجعول الحکم الظاهری إذ لا دلیل علی ذلک فلم یرد فی شیء من الأدلة جعل الحکم الظاهری أو تنزیل الأمارة منزلة القطع فإن عمدة الدلیل علی حجیة الأمارات کأخبار الثقة سیرة العقلاء ولا جعل فیها لأنها عبارة عن عمل العقلاء بأخبار الثقة وبظواهر الالفاظ. نعم إذا جرت سیرة العقلاء علی العمل بأخبار الثقة وأمضاها الشارع بسکوته وعدم الردع عنها فالعقل یحکم بتنجیزها للواقع عند الإصابة وتعذیرها عند الخطأ ولکن الحاکم بالمنجزیة والمعذریة حینئذ هو العقل فلا تکون المنجزیة والمعذریة مجعولة بحکم الشارع ولا الحکم الظاهری ولا الطریقیة والکاشفیة بل العقل حاکم بعد امضاء الشارع لهذه السیرة.

ص: 288

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

إلی هنا قد تبین أن الفرق بین الأمارات الشرعیة وبین الأصول العملیة الشرعیة إنما هو بالذات فإن کاشفیة الأمارات ذاتیة بدرجة الکاشفیة الناقصة وطریقیتها تکوینیة وغیر قابلة للجعل وأما الأصول العملیة فلیست بکاشفة ولو بدرجة قلیلة وما هو المعروف بین الأصولیین من أن الاستصحاب من الأصول المحرزة وله درجة من الکاشفیة غیر تام لأنا ذکرنا فی محله وسوف یأتی الکلام فیه من أنه کباقی الاصول العملیة ولیس هو من الأصول المحرزة بل هو من الأصول غیر المحرزة کأصالة البراءة وأصالة الطهارة وما شاکل ذلک، وأما الأصول العملیة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة کقاعدة الفراغ والتجاوز وما شاکلهما فقد ذکرنا ان قاعدة الفراغ قاعدة عقلائیة وهی من الأمارات وکذلک التجاوز وأما الأصول العملیة الجاریة فی الشبهات الحکمیة کأصالة البراءة وأصالة الطهارة والاستصحاب فلیس فیها أی درجة من الکشف.

ولیس الفرق بینهما بالجعل والاعتبار کما هو المعروف بین الأصولیین، وذلک حیث تبنت مدرسة المحقق النائینی(قده) علی أن الفرق بینهما فی سنخ المجعول إذ المجعول فی باب الأمارات هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی وأما المجعول فی باب الأصول العملیة فهو الجری العملی علی طبقها خارجا، وأما الفرق بینهما استنادا إلی ما نسب إلی الشیخ الأنصاری(قده) من أن المجعول فی باب الأمارات هو الأحکام الظاهریة المماثلة للأحکام الواقعیة فی صورة المطابقة والمخالفة فی صورة عدم المطابقة فهو أن المجعول فی باب الأمارات هو الأحکام الطریقیة بینما المجعول فی باب الأصول العملیة فهو الأحکام الظاهریة التی لا تکون طریقا إلی الواقع لأن الشارع فی الأصول العملیة یعین وظیفة المکلف فی مقام العمل فلیس المجعول فیها الأحکام الظاهریة الطریقیة، وأما علی ضوء مختار المحقق الخراسانی(قده) یکون الفرق بینهما إنما هو فی مصب الحجیة ذلک لأنه(قده) قد فسر حجیة الأمارات بالمنجزیة والمعذریة ومصبها طریقیة الأمارات وقوة الاحتمال بدرجة الکشف وأما الأصول العملیة فهی أیضا منجزة ومعذرة کما فی الاشتغال والاستصحاب المثبت للتکلیف والبراءة والاستصحاب المثبت لعدم التکلیف ولکن هذه المنجزیة والمعذریة کائنة فی ظرف الجهل بالواقع وتحیّر المکلف.

ص: 289

ولکن ذکرنا أنه لا جعل فی باب الأمارات أصلا لا جعل الطریقیة والکاشفیة ولا جعل الحکم الظاهری ولا جعل المنجزیة والمعذریة، نعم المنجزیة والمعذریة إنما هی بحکم العقل فإن سیرة العقلاء إذا جرت علی العمل بأخبار الثقة وظواهر الالفاظ والشارع أمضاها فهذا الامضاء لیس جعلا منه لأنه قلنا إنه یکفی فی تحصیل الامضاء سکوت الشارع عن الردع عن هذه السیرة ومع امضاء الشارع لهذه السیرة یحکم العقل بأن الأمارة منجزة عند الاصابة وعند المخالفة للواقع معذرة، وأما فی باب الأصول العملیة الشرعیة فإنه یوجد فیها جعل من قبل الشارع لأنها مجعولة شرعا لتعیین وظیفة المکلف فی مقام التحیّر.

وعلی هذا یکون الفرق بین نظریتنا وبین سائر النظریات حاصل فی التفصیل التالی:

أما الفرق بین نظریتنا وبین نظریة مدرسة المحقق النائینی(قده) فهو من وجوه:

الأول: أنه علی ضوء نظریة مدرسة المحقق النائینی(قده) یکون الفرق بین الأمارات وبین الأصول العملیة کائن فی سنخ المجعول وعلی ضوء نظریتنا یکون الفرق بینهما ذاتی لا بالجعل لتقوم الأمارات بقوة الاحتمال بدرجة من الکشف الذاتی التکوینی وإلا فلا یصدق علیها عنوان الأمارة ولیس کذلک الأصول العملیة فلا یوجد فیها أی کشف لأنه المنظور فیها قوة المحتمل واهمیته بدون النظر إلی قوة الاحتمال.

الثانی: وفق نظریة مدرسة المحقق النائینی تکون مثبتات الأمارات حجة مطلقا أی سواء کان لسان الأمارة لسان الحاکیة والإخبار عن الواقع أم لم یکن کذلک، واما مثبتات الأصول العملیة فلا تکون حجیة مطلقا. ولکن وفق نظریتنا إنما تکون مثبتات الأمارات حجة فی خصوص الأمارات التی یکون لسانها لسان الحاکیة والإخبار عن الواقع دون غیرها ومنه یتضح ان مثبتات الأصول العملیة لا تکون حجة مطلقا.

الثالث: الملازمة بین المدلول المطابقی والمدلول الالتزامی فی موارد الأمارات إنما هی بالتعبد علی ضوء نظریة مدرسة المحقق النائینی ولکن الملازمة بینهما علی ضوء نظریتنا تکوینی لأن الإخبار والحکایة عن الشیء إخبار وحکایة عن لوازمه تکوینا.

ص: 290

وأما الفرق بین نظریتنا ونظریة المحقق الخراسانی(قده) فهو فی ان المجعول فی باب الأمارات علی ضوء نظریته(قده) هو المنجزیة والمعذریة وقد قلنا إنه لا یمکن جعل المنجزیة والمعذریة لأنها معلولة للمنجز سواء کان المنجز هو العلم التفصیلی ام العلم الإجمالی او احتمال التکلیف کما فی الشبهات قبل الفحص ولا یمکن التفکیک بین العلة ومعلولها لأنه تفکیک بین الأثر والمؤثر وهو مستحیل وعلیه لا یمکن أن تکون المنجزیة والمعذریة مجعولة بل هی بحکم العقل.

وأما ما نسب إلی شیخنا الأنصاری(قده) - من أن المجعول فی باب الأمارات هو الأحکام الظاهریة – فهو مما لا أصل له ولذا لا نهتم ببیان الفرق بینه وبین نظریتنا.

هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری إذا بنی علی عدم حجیة مثبتات الأمارات فهل یوجد فرق بین الأمارات والأصول العملیة او لا یوجد فرق بینهما؟

قد یقال کما قیل: إنه لا فرق بینهما فإن الفرق بینهما فی أن مثبتات الأمارات حجة ومثبتات الأصول العملیة لا تکون حجة وأما مع الإغماض عن ذلک وتسلیم ان مثبتات الأمارات لا تکون حجة فلا یوجد فرق بینهما.

ولکن هذا القیل: غیر صحیح إذ الفرق بینهما موجود ذاتا فإن الأمارات مبنیة علی قوة الاحتمال بدرجة الکاشفیة وإن قلنا إنها لا تکون حجة إلا فی إثبات مدلولها المطابقی ولا تکون حجة فی إثبات مدلولها الالتزامی وأما الأصول العملیة فهی مبنیة علی قوة المحتمل وعلی أهمیته من دون النظر إلی قوة الاحتمال وهذا الفرق بینهما موجود تکوینا سواء قلنا بحجیة مثبتات الأمارات أم لم نقل، نعم حجیة مثبتات الأمارات بحاجة إلی نکات أخری. کما ان القول بتقدیم الأمارات علی الأصول العملیة بالتخصیص او بالحکومة او بالورود بحاجة إلی نکات أخری.

ص: 291

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

تحصل مما ذکرنا أن الفرق بین الأمارات والأصول العملیة الشرعیة إنما هو فی مقام الثبوت وفی المرتبة السابقة علی الجعل وإن قلنا بأن مثبتات الأمارات لا تکون حجة ولکن مع ذلک تختلف الأمارات عن الأصول العملیة فی مقام الثبوت لأن أماریة الأمارة مقومة ذاتیة للأمارات فهی بمثابة الفصل المقوم لها فلا یعقل صدق الأمارة علی الاحتمال أو علی الوهم او علی الاحتمالین المتساویین تکوینا فأماریة الأمارات مقومة ذاتیة لها وهی بمثابة الفصل المقوم.

فمصب وموضوع حجیة الأمارة قوة الاحتمال بدرجة الکشف وأما الأصول العملیة الشرعیة فموضوعها حقیقة وواقعا تحیّر المکلف وعدم علمه بالوظیفة لا کما وکیفا من جهة جهله بالواقع وکونه شاکا فیه فمن اجل ذلک یکون متحیرا فتحیره هو موضوع حجیة الأصول العملیة الشرعیة.

هذا هو الفرق ثبوتا بین الأصول العملیة الشرعیة وبین الأمارات بقطع النظر عن أن المجعول الطریقیة والکاشفیة أو أن المجعول هو الحکم الظاهریة أو المنجزیة والمعذریة وسواء قلنا بحجیة مثبتات الأمارات أو لم نقل لأن حجیة مثبتات الأمارات من جهة اخری وهی أن لسان الأمارة ان کان لسان الحکایة والإخبار عن الواقع فمثبتات الأمارة حجة للملازمة العرفیة بین الإخبار عن شیء والإخبار عن لوازمه وهذه الملازمة العرفیة تشکل الدلالة الالتزامیة وأما الأمارات التی لا یکون لسانها لسان الإخبار عن الواقع والحکایة عنه فلا تکون مثبتاتها حجة کالظن بالقبلة فإنه حجة ولکن لا تکون مثبتاته حجة وکذلک الظن فی عدد الرکعات.

وأما تقدیم الأمارات علی الأصول العملیة فهی من جهة أخری وهی أن التقدیم من باب التخصیص أی أن الأمارات مخصصة لأدلة الأصول العملیة باعتبار أن نسبتها إلی أدلة الأصول العملیة نسبة الخاص إلی العام ونسبة المقید إلی المطلق أو تقدیمها علیها بملاک الحکومة وأن الأمارات حاکمة علی أدلة الأصول العملیة الشرعیة أو أن تقدیمها علیها من باب الورود أی أنها رافعة لموضوع الأصول العملیة وجدانا فهی واردة علیها فهذا یختلف باختلاف النظریات والآراء.

ص: 292

فعلی المسلک المنسوب إلی الشیخ الأنصاری(قده) من ان المجعول فی باب الأمارات الحکم الظاهری المماثل للحکم الواقعی فی صورة المطابقة والمخالف له فی صورة عدم المطابقة ومسلک المحقق الخراسانی من أن المجعول فی باب الأمارات هو المنجزیة والمعذریة یکون تقدیم الأمارات علی الأصول العملیة الشرعیة من باب التخصیص لا من باب الحکومة ولا الورود لأن المجعول فی باب الأصول العملیة هو حکم ظاهری او هو المنجزیة والمعذریة.

وأما علی ضوء مدرسة المحقق النائینی(قده) من أن المجعول فی باب الأمارات الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی فیکون تقدیمها علی أدلة الأصول العملیة من باب الحکومة لأن المأخوذ فی موضوع الأصول العملیة عدم العلم بالواقع والجهل به والمفروض أن الأمارات علم بحکم الشرع غایة الأمر لم یکن علما وجدانیا بل هو علم تعبدا وعلیه یکون رافعا لموضوع الأصول العملیة وهو عدم العلم وهذا هو معنی الحکومة.

واما بناءً علی ما هو الصحیح من ان موضوع الأصول العملیة الشرعیة هو التحیّر ولکن منشأ هذا التحیّر عدم العلم بالواقع وعدم قیام الحجة علیه والجهل به والشک فیه فالمکلف متحیّر ولا یعلم بوظیفته لا کما ولا کیفا وعلیه تکون الأمارات الشرعیة واردة علی الأصول العملیة الشرعیة لأن الأمارات الشرعیة بعد حجیتها رافعة للتحیّر وجدانا لأن المکلف بعد قیام الأمارة یعلم بوظیفته کما وکیفا فلا یکون متحیّرا. وتفصیل ذلک یأتی فی باب التعادل والترجیح ویمکن أن یأتی فی ضمن البحوث القادمة أیضا.

إلی هنا قد تبین أن الفرق بین الأمارات الشرعیة والأصول العملیة الشرعیة فی مقام الثبوت والمرتبة السابقة لا فی مقام الإثبات وما ذکره الأصحاب من الفروق هی فروق فی مقام الإثبات ولا یمکن المساعدة علی شیء منها.

وبعد ذلک یقع الکلام فی تقسیم الأصول العملیة الشرعیة.

ص: 293

فقد قسّم الأصولیون الأصول العملیة الشرعیة إلی قسمین ونوعین:

النوع الأول: الأصول غیر المحرزة.

النوع الثانی: الأصول العملیة المحرزة.

والنوع الأول: فهو من قبیل أصالة البراءة الشرعیة وأصالة الطهارة الشرعیة وأصالة الاحتیاط الشرعیة وغیرها.

والنوع الثانی: فهی من قبیل الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة واما فی الشبهات الموضوعیة فالأصول المحرزة کثیرة کقاعدة الفراغ والتجاوز والحیلولة وما شاکل ذلک فإنها من الأصول المحرزة علی المشهور بین الأصحاب.

ثم إن الفرق بین الأصول المحرزة وبین الأصول غیر المحرزة یوجد له تفسیران:

التفسیر الأول: ما ذکرته مدرسة المحقق النائینی (1) (قده) فقد ذکرت أن للقطع اربع حیثیات:

الحیثیة الأولی: حیثیة الاستقرار والثبات الجزمی المترتب علی الیقین، لأن الإنسان إذا تیقن بشیء استقرت نفسه.

الحیثیة الثانیة: الطریقیة والکاشفیة فهی من لوازم القطع، بل هی عین القطع لأنه عبارة عن الکاشفیة الیقینیة للواقع.

الحیثیة الثالثة: التنجیز والتعذیر.

الحیثیة الرابعة: البناء علیه والجری العملی علی طبقه.

فهذه الحیثیات الأربعة مترتبة علی القطع والیقین الوجدانی.

أما الحیثیة الأولی: فهی مختصة بالقطع ولا یمکن ترتب هذه الحیثیة علی الیقین التعبدی لأن استقرار النفس وثباتها امر تکوینی فلا یعقل ترتبه علی أمر تعبدی لاستحالة تأثیر الأمر التعبدی فی الأمر التکوینی فلا یمکن ان یکون الیقین التعبدی مؤثرا فی الثبات والاستقرار النفسی.

واما الحیثیة الثانیة: فهی مجعولة فی الأمارات لأن المجعول فی الأمارات هی الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی غایة الأمر أن هذه الحیثیة تکوینیة فی القطع الوجدانی لاستحالة جعل الطریقیة له وتعبدیة فی الأمارات الشرعیة.

واما الحیثیة الثالثة: فهی مجعولة للأصول العملیة غیر المحرزة لأن أصالة البراءة الشرعیة معذرة بجعل الشارع وأصالة الاحتیاط الشرعیة منجزة بجعل الشارع.

ص: 294


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المحقق النائینی للشیخ الکاظمی، ج4، ص482.

واما الحیثیة الرابعة: وهی الجری العملی علی طبق القطع فهی مجعولة فی الاصول العملیة المحرزة کالاستصحاب لأن الشارع حکم بالجری العملی علی طبق الحالة السابقة لا بالطریقیة والکاشفیة ونحوهما.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

إلی هنا قد تبین أن ما ذکره المحقق النائینی(قده) من أن للقطع أربع حیثیات:

الأولی: حیثیة الاستقرار والثبات المترتب علی القطع بشیء وهذا أمر تکوینی ولا شبهة فیه وغیر قابل للجعل.

الثانیة: حیثیة طریقیة القطع وکاشفیته وهی ذاتیة للقطع بل هی عین القطع فإن القطع عبارة عن الکشف عن الواقع ولیس له معنی أخر غیر الکشف والطریقیة، وهذه الطریقیة قابلة للجعل.

ولکن تقدم الکلام فی هذا الجعل وقلنا أن الطریقیة التکوینیة غیر قابلة للجعل فلا یمکن ان یتعلق الجعل التشریعی بالأمر التکوینی ولا یعقل أن یکون المجعول أمرا تکوینیا والجعل أمرا تشریعیا اعتباریا لأن الجعل عین المجعول فلو کان المجعول أمرا تکوینیا فلا بد أن یکون الجعل أیضا کذلک کالإیجاد والوجود فإن الإیجاد عین الوجود وهما أمران تکوینیان أحدهما عین الآخر والاختلاف بینهما بالاعتبار فلا یعقل ان یکون الجعل أمرا اعتباریا والمجعول أمرا تکوینیا.

واما جعل الطریقیة الاعتباریة فقد ذکرنا أنه لا قیمة له إذ لا وجود له فی الخارج غیر وجوده فی عالم الاعتبار والذهن فلا أثر له وهو لا یعدو عن کونه مجرد لقلقة لسان فلا تأثیر لهذا الجعل فی الخارج أصلا علی تفصیل تقدم الکلام فیه.

الثالثة: وهی حیثیة التنجیز والتعذیر الموجود فی الأصول غیر المحرزة باعتبار أنها معذرة ومنجزة کأصالة البراءة أصالة الاحتیاط.

الرابعة: وهی الجری العملی علی طبق الأصل وهذه الحیثیة موجودة فی الأصول المحرزة کأصالة الاستصحاب.

فیقع الکلام فی هاتین الحیثیتین، فیقع:

ص: 295

أولا: فی الفرق بین الأصول المحرزة والأصول العملیة غیر المحرزة.

وثانیا: النظر إلی ما هو المجعول فی الأصول المحرزة وما هو المجعول فی الأصول غیر المحرزة.

أما الأمر الأول: فتارة یقع الکلام فی مقام الثبوت وأخری فی مقام الإثبات.

أما الکلام فی مقام الثبوت

فتارة یقع فی الأصل المحرز کالاستصحاب وأخری فی سائر الأصول.

أما الاستصحاب: فمورده الحالة السابقة وإذا حللنا هذه الحالة لا نجد فیها ما یبرر کون الاستصحاب من الأصول المحرزة لأن الحالة السابقة مشتملة علی نقطتین:

النقطة الأولی: الیقین بحدوث الحالة السابقة.

النقطة الثانیة: نفس حدوث الحالة السابقة بقطع النظر عن تعلق الیقین به.

أما النقطة الأولی: فالیقین بحدوث الحالة السابقة لا یمکن بقاؤه فی ظرف الشک لأن شأن الیقین الکشف عن الواقع علی ما هو علیه ولا تأثیر للیقین علی الواقع بما هو علیه کما لو علم الإنسان بأن زیدا عادل أو عالم أو فاسق فإن علمه بأحد هذه الأمور لا یؤثر فی وجوده فی الواقع بعد ان لم یکن موجودا فإن العلم مجرد الکشف عن الواقع علی ما هو علیه بما له من المبادئ وبما له من العلة ولا تأثیر للقطع أصلا.

ومن هنا لا یقتضی الیقین بالحالة السبقة بقاؤه فی ظرف الشک لأنه مجرد کشف ولا تأثیر له فی الواقع. ولو تنزل وسلم ذلک وفرضنا أن الیقین مؤثر فی الواقع ولکن مع ذلک یستحیل ان یکون الیقین بالحالة السابقة مقتضیا لبقائها فی ظرف الشک وذلک لمحذورین:

المحذور الأول: انفکاک المعلول عن العلة فإن الیقین بالحدوث قد زال فی ظرف الشک فی البقاء ففی هذا الظرف لا یوجد یقین للمکلف فلو کان مؤثرا فی بقاء الحالة السابقة فی ظرف الشک لزم انفکاک الأثر عن المؤثر والمعلول عن العلة وهو مستحیل لأن مبدأ التعاصر بین العلة والمعلول من الأولیات البدیهیة.

ص: 296

وعلیه لا بد أن یکون المعلول معاصر للعلة زمنا ولا یمکن ان یکون متأخرا عنها کذلک فمن أجل ذلک لا یمکن ان یکون الیقین بحدوث الحالة السابقة مؤثرا ومقتضیا لبقائها فی ظرف الشک.

المحذور الثانی: أن الیقین فی ظرف الشک غیر موجود فالیقین بالحدوث لا یمکن ان یکون مؤثرا فی البقاء فی ظرف الشک لاستحالة تأثیر المتقدم زمنا بالمتأخر کذلک، فالمتحقق فی ظرف الشک هو عدم الیقین ولازم ذلک أن یکون عدم الیقین بالحدوث فی ظرف الشک هو المؤثر فی بقاء الحالة السابقة فی هذا الظرف وهذا أیضا مستحیل فإنه لا یعقل أن یکون العدم مؤثرا وعلة لأن السنخیة بین العلة والمعلول أمر ضروری ومن القضایا الأولیة البدیهیة باعتبار خروج المعلول من نفس العلة ووجوده وجود لنفس العلة ولکن بمرتبة نازلة فهو إذاً لیس شیئا أجنبیا عن العلة فلا یعقل أن یکون العدم مؤثرا.

وعلی هذا فالیقین بالحدوث لا یقتضی بقاء الحالة السباقة فی ظرف الشک أصلا.

واما النقطة الثانیة: وهی حدوث الحالة السابقة فحدوث الحالة السابقة هو وجودها الأول ویعبر عنه بالحدوث والبقاء عبارة عن الوجود الثانی، فکما أن الوجود الأول بحاجة إلی العلة کذلک الوجود الثانی بحاجة إلی العلة لأن سر حاجة الأشیاء إلی العلة کامن فی وجودها الإمکانی فهو الذی یجعلها محتاجة إلی العلة ولا فرق فی هذا الأمر بین الوجود الأول والوجود الثانی فکما ان الوجود الأول وجود إمکانی فکذلک الوجود الثانی.

وعلیه: فکما أن حدوث الحالة السابقة بحاجة إلی العلة کذلک بقائها – الذی هو الوجود الثانی – بحاجة إلی العلة ولا نعلم ان علته موجودة او غیر موجودة فکیف یکون الحدوث أمارة علی البقاء مع انه بحاجة إلی العلة والبقاء بحاجة إلی علة أخری فکلا من الوجودین بحاجة إلی علة؟!

ص: 297

ودعوی أن الشیء إذا حدث دام واستمر لا أصل لها لأن الشیء إذا حدث فقد یدوم وقد لا یدوم فدوامه بحاجة إلی علة کما أن حدوثه بحاجة إلی علة ولا یمکن ان یکون بقاؤه جزافا وبدون علة.

نعم علی القول المنسوب إلی المتکلمین والمعتزلة من ان سر حاجة الأشیاء إلی العلة هو حدوثها لا وجودها الإمکانی یمکن القول بان حاجة الأشیاء إلی العلة هو فی حدوثها - وهو الوجود الأول - فقط وأما فی البقاء الذی هو الوجود الثانی للأشیاء فلا تحتاج إلی العلة.

ولکن لا یمکن الالتزام به لأن لازم هذا القول أن بقاء الأشیاء یکون لازم الوجود لأنه علی الفرض لیس بحاجة إلی العلة وکل ما یکون کذلک فهو واجب الوجود، وهو ما لا یمکن الأخذ به لأن مبدأ العلیة مبدأأأ عام سارٍ فی جمیع الأشیاء.

ومن هنا قلنا فی بحث الجبر والتفویض أن المعتزلة قد أسرفت فی تحدید مبدأ العلیة بتخصیصه بحدوث الأشیاء فقط تبعا للمتکلمین، وهو خلاف الضرورة کما أن الأشاعرة اسرفت فی تعمیم مبدا العلیة حتی جری هذا المبدأ فی أفعال المکلفین.

فإذاً هو مبدأ عام ولا یمکن تخصیصه بالحدوث فقط لأن الأشیاء بحاجة إلی العلة فی وجودها الإمکانی ولا فرق بین الوجود الأول والوجود الثانی فکما ان الوجود الأول وجود ممکن فکذلک الوجود الثانی وجود محتاج إلی العلة.

فالنتیجة انه لا یوجد فی الحالة السابقة فی مورد الاستصحاب نکتة تبرر کون الاستصحاب من الأصول المحرزة.

وعلیه لا یکون الاستصحاب من الأصول المحرزة إذ لا یوجد فی مورده ما یبرر کونه أمارة وطریقا وکاشفا عن الواقع.

هذا کله بحسب مقام الثبوت.

واما فی مقام الإثبات

فأن النهی الوارد فی أدلة الاستصحاب کقوله(ع): (لا تنقض الیقین بالشک) (1) أو (لیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک) (2) لا شبهة فی أنه لیس نهیا مولویا تکلیفیا لأن نقض الیقین بالشک امر قهری وغیر قابل لتعلق النهی المولوی به، وعلیه فیرجع النهی فی أدلة الاستصحاب إلی أحد أمرین:

ص: 298


1- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج1، ص245، ابواب نواقض الوضوء، باب1، ح1(ط: آل البیت).
2- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج3، ص466، ابواب النجاسات والآوانی والجلود، باب37، ح1(ط: آل البیت).

الأمر الأول: أن یکون النهی فیها نهیا إرشادیا إلی تعیین وظیفة المکلف فی موارد الاستصحاب وهی العمل علی طبق الحالة السابقة ولیس الإرشاد إلی طریقیة الاستصحاب لما تقدم من أنه لا یوجد فی مورد الاستصحاب ما یصلح للطریقیة، ولیس فی هذا ما یبرر جعل الاستصحاب طریقا، وحاله فی هذا حال الاحتمال والوهم فی عدم الطریقیة، وما هو صالح للطریقیة هو قوة الاحتمال بدرجة الکشف ومع تساوی الاحتمالین فلا یصلح کلا منهما للطریقیة.

فالنتیجة: ان مفاد النهی فی روایات الاستصحاب هو الإرشاد إلی تعین وظیفة المکلف وهی العمل علی طبق الحالة السابقة.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

تحصل مما ذکرنا أن النهی الوارد فی روایات الاستصحاب لا یمکن ان یکون نهیا مولویا تکلیفیا لأن نقض الیقین بالشک أمر قهری وغیر اختیاری فلا یمکن أن یکون متعلقا للنهی المولوی التکلیفی فلا محالة یحتمل فیه أمران:

الأول: ان یکون مفاد هذا النهی الإرشاد إلی تعیین وظیفة المکلف فی حالة الشک فی البقاء وهی الجری العملی علی طبق الحالة السابقة لا جعل الطریقیة والکاشفیة لما تقدم من أنه لا یوجد فی الحالة السابقة ما یصلح أن یکون أمارة فلا معنی لجعل الأماریة والطریقیة ولا یعقل جعل الشک المتساوی الطرفین أمارة وطریقا إلی الواقع فالشیء فی نفسه إذا کان أمارة وطریقا إلی الواقع یمکن جعله شرعا طریقا - علی إشکال تقدم ذکره من أن هذا الجعل لا یمکن أیضا ولکن مع الإغماض عن هذا الإشکال - إذ أن جعل الطریقیة لشیء لا بد أن یکون لما هو فی نفسه طریقا تکوینیا إلی الواقع وأمارة علیه وأما إذا لم یکن الشیء فی نفسه طریقا الی الواقع وأمارة فلا یمکن جعل الطریقیة له وکونه کاشفا عن الواقع شرعا.

ص: 299

فإذاً لا یمکن أن یکون هذا النهی إرشادا إلی جعل الطریقیة والکاشفیة للحالة السابقة فی ظرف الشک.

الثانی: ان یکون مفاد هذا النهی تنزیل الشک منزلة الیقین ومرجع هذا التنزیل ومرده إلی جعل الحکم الظاهری للمنزل المماثل للحکم الواقعی للمنزل علیه وهو الیقین لا جعل الطریقیة والکاشفیة فإن مرجع التنزیل هو جعل الحکم الظاهری للمنزل المماثل للحکم الواقعی للمنزل علیه فی مقام الجری العملی علی طبق الحالة السابقة ولیس مرجع التنزیل إلی جعل الطریقیة والکاشفیة للحالة السابقة لما تقدم من أنه لا یوجد فی الحالة السابقة ما یصلح أن یکون أمارة إذ لیس احتمال بقاء الحالة السابقة فی ظرف الشک أرجح من احتمال عدم بقائها حتی یکون هذا الرجحان قابلا لجعل الشارع له طریقا الی الواقع وکاشفا عنه - مع غض النظر عن الإشکال المتقدم -.

فمفاد أدلة الاستصحاب لا یخلو من هذین الأمرین. وکلاهما لا یتکفل جعل الطریقیة والکاشفیة.

وعلی هذا:

فإن أراد المحقق النائینی(قده) بالجری العملی هو الجری العملی علی طبق الحالة السابقة بجعل الطریقیة والکاشفیة.

فیرد علیه: أنه مبنی علی أن تکون الحالة السابقة قابلة لأن تکون أمارة علی البقاء وقد تقدم أنه لا یوجد فیها ما یصلح لذلک حتی یجعل الشارع الطریقیة له والکاشفیة.

وإن أراد بالجری العملی الجری العملی علی طبق الحالة السابقة تعبدا بلا نظر إلی الواقع.

فیرد علیه: أن معنی هذا هو أن الاستصحاب من الأصول العملیة غیر المحرزة ولیس المجعول فیها الطریقیة والکاشفیة.

وبکلمة: إن أراد بالجری العملی علی طبق الحالة السابقة تنزیل الشک منزلة الیقین بالکشف فیرد علیه أن الشک بما هو شک لا یصلح للأماریة ولا یصلح للطریقیة فلا یمکن جعل الکاشفیة والطریقیة له هذا مضافا إلی أن ادلة الاستصحاب لا تدل علی هذا التنزیل. وإن أراد بالجری العملی تنزیل الشک منزلة الیقین فی الجری العملی علی طبق الحالة السابقة فیرد علیه:

ص: 300

أولا: ان دلیل الاستصحاب لا یدل علی ذلک.

وثانیا: أن لازم ذلک کون الاستصحاب من الأصول غیر المحرزة لا من الأصول المحرزة.

فالنتیجة ان ما ذکره المحقق النائینی(قده) علی جمیع الاحتمالات لا یمکن معه جعل الاستصحاب من الأصول المحرزة فضلا عن کونه أمارة. هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری: ذکر بعض المحققین(قده) (1) علی ما فی تقریر بحثه أن مصب حجیة الاستصحاب وموضوعها قوة الاحتمال بدرجة الکشف من جهة واهمیة المحتمل من جهة أخری فالاستصحاب أمارة من الجهة الأولی لما تقدم من ان مصب حجیة الأمارة قوة الاحتمال بدرجة الکشف فهو ملحق بالأمارات من هذه الناحیة وبلحاظ الناحیة الثانیة یکون ملحق بالأصول العملیة لأن مصب حجیته أهمیة المحتمل وأما الأصول العملیة غیر المحرزة فمصب حجیتها وموضوعها اهمیة المحتمل فقط بدون النظر إلی الواقع هذا هو الفارق بینهما ثبوتا.

والمراد من قوة الاحتمال بدرجة الکشف قوة الاحتمال النوعی لا الشخصی وإلا فلا شبهة فی أن الاستصحاب لا یفید الظن والوثوق فی کل مورد وقوة وهذا امارة اخری علی ان حجیة أخبار الثقة مجعولة من باب الوثوق النوعی لا من باب الوثوق الشخصی ولهذا یکون خبر الثقة حجة حتی فی ما إذا لم یفد الظن بل حتی لو کان الظن علی خلافه وکذلک اهمیة المحتمل فإن المراد منها أهمیة المحتمل النوعیة لا الشخصیة.

ولکن تقدم الإشکال فی ذلک؛ فإن قوة الاحتمال بدرجة الکشف لا توجد فی مورد الاستصحاب لأن الیقین بحدوث الحالة السابقة بعد زواله وانعدامه لا یقتضی بقاءها فی ظرف الشک وإلا لزم ما ذکرناه من محذور انفکاک المعلول عن العلة او تأثیر المعدوم فی الموجود ولا یوجد فی مورد الاستصحاب ما یصلح ان یکون أمارة ولا یکون البقاء للحالة السابقة راجحا علی عدم بقائها فإذاً لا یمکن ان یکون مصب حجیة الاستصحاب قوة الاحتمال بدرجة الکشف فإن قوة الاحتمال تعنی رجحان احتمال البقاء ولکن احتمال بقاء الحالة السابقة فی ظرف الشک لیس أرجح من احتمال عدم بقائها فی ظرف الشک فیه.

ص: 301


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید الشهید للسید الشاهرودی، ج5، ص17.

فإذاً لا یمکن المساعدة علی ما ذکره(قده).

أما ما ذکره فی الأصول العملیة غیر المحرزة من ان مصب حجیتها اهمیة المحتمل فقد تقدم الإشکال فی ذلک:

أولا: ان المحتمل فی مورد الاصول العملیة الشرعیة الترخیصیة هو الحکم الترخیصی أی الملاک الترخیصی وذکرنا أن الأحکام الترخیصیة والمباحات الأصلیة غیر مجعولة فی الشریعة المقدسة حتی یکون لها مصالح ومبادئ کالأحکام اللزومیة.

وثانیا: أنا ذکرنا ان الأحکام الظاهریة الالزامیة فی الأصول العملیة الالزامیة غیر المحرزة کإیجاب الاحتیاط والاستصحاب المثبت للتکلیف مجعولة من جهة اهتمام المولی بالحفاظ علی ملاکات الأحکام الواقعیة ومبادئها حتی فی ظرف الشک والجهل والالتباس ولهذا جعل الاحتیاط والاستصحاب المثبت للتکلیف علی تفصیل تقدم.

ثم إن ما ذکره المحقق النائینی(قده) من ان الاستصحاب حاکم علی الأصول العملیة غیر المحرزة لأن المجعول فیه الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی وهو رافع لموضوعها الذی هو الجهل وعدم العلم بالواقع والاستصحاب بناءً علی هذا یکون علما غایة الأمر أنه علم تعبدا فمن أجل ذلک یکون حاکما علی ادلة الأصول العملیة الشرعیة غیر المحرزة، واما الأمارات فهی حاکمة علی الاستصحاب.

ولکن الجمع بین کلا الأمرین لا یمکن؛ لأنه لا یمکن الجمع بین التسلیم بأن المجعول فی الاستصحاب هو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی فیکون حاکما علی أدلة الأصول العملیة الشرعیة غیر المحرزة لأنه حینئذ علم تعبدی ورافع لموضوع ادلة هذه الأصول باعتبار أن موضوعها عدم العلم وبین التسلیم بأن الأمارات حاکمة علی الاستصحاب إذ کما أن المجعول فی الاستصحاب الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی فالمجعول فی الأمارات أیضا کذلک فکیف تکون الأمارات حاکمة علی الاسصحاب طالما أن المجعول فی کلیهما واحد؟! إذ معنی حکومة الأمارات علی الاستصحاب هو أن المجعول فی باب الاستصحاب هو غیر الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی حتی تکون الأمارات بدلیل حجیتها حاکمة علی الاستصحاب ورافعة لموضوعه تعبدا ومع کون المجعول فی الاستصحاب نفس المجعول فی باب الأمارات وهو الطریقیة والکاشفیة والعلم التعبدی فلا محالة یؤدی ذلک إلی قوع المعارضة بینهما فلا حکومة للأمارات بدلیل حجیتها علی الاستصحاب.

ص: 302

وعلی هذا لا یمکن الجمع بین الأمرین اللذین ذکرهما(قده) من حکومة الاستصحاب علی باقی الأصول العملیة وحکومة الأمارات علی الاستصحاب.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

تقدم الکلام فی التفسیر الأول للأمارات.

التفسیر الثانی: ما ذکره بعض المحققین (1) (قده) وحاصله: ان الحکم الظاهری إذا کان مجعولا علی أساس الترجیح بقوة المحتمل بدون النظر إلی قوة الاحتمال فهو أصل عملی غیر محرز کأصالة البراءة الشرعیة وأصالة الطهارة ونحوهما وإن کان مجعولا علی أساسا الترجیح بقوة المحتمل من جانب وقوة الاحتمال بدرجة الکشف من جانب آخر فهو أصل عملی محرز کالاستصحاب فإن الاستصحاب من الأصل العملی المحرز وهو مجعول علی أساسا الترجیح بقوة المحتمل من جانب وقوة الاحتمال من جانب آخر، هکذا ذکره(قده) علی تفصیل تقدم.

وذکرنا أن هذا غیر صحیح لأن الحکم الظاهری إن کان مجعولا علی نحو الإلزام - سواء کان مفادا بالأصل العملی غیر المحرز أو مفادا بالأصل العملی المحرز کالاستصحاب - علی المشهور - أو مفادا بالأمارة - فملاکه ومبادیه اهتمام المولی بالحفاظ علی ملاکات الأحکام الواقعیة اللزومیة فی موارد الاشتباه والالتباس وموارد الشک وموارد الجهل بالواقع فإن الشارع لا یرضی بتفویت هذه المبادئ حتی فی هذه الموارد ولهذا أوجب الاحتیاط فی بعض الموارد وفی بعضها الآخر أقام الأمارة المتکفلة للأحکام الالزامیة او الاستصحاب المثبت للتکلیف الالزامی من الوجوب أو الحرمة او نحوهما فمبدأ هذا الحکم وملاکه هو اهتمام المولی، نعم.. فی بعض الأحکام الظاهریة کالأحکام الظاهریة فی موارد الأمارات کأخبار الثقة وظواهر الالفاظ توجد هناک خصوصیة أخری ملحوظة فی موارد الجعل وهی أن اخبار الثقة أقوی کشفا عن الواقع نوعا من أخبار غیر الثقة وظواهر الالفاظ اقوی کشفا وأقرب الی الواقع نوعا من ظواهر الافعال فهذه الخصوصیة ملحوظة فی موارد جعل هذه الأمارات مضافا إلی اهتمام المولی بالحفاظ علی ملاکات الأحکام الواقعیة اللزومیة.

ص: 303


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید الشهید للسید الهاشمی الشاهرودی، ج5، ص17.

واما الأحکام الظاهریة الترخیصیة فملاکها المصالح العامة بالنسبة إلی نوع المکلفین والإرفاق بهم والتسهیل بالنسبة إلی نوعهم وهذه المصلحة العامة - وهی المصلحة التسهیلیة - مترتبة علی جعل الأحکام الظاهریة الترخیصیة فهی غایة لها لأن المولی یتصور هذه المصالح العامة بالنسبة إلی نوع المکلفین فتدعوه هذه المصالح إلی جعل الأحکام الظاهریة الترخیصیة التی تترتب تلک المصالح علیها بلا فرق بین أن تکون تلک الأحکام الظاهریة الترخیصیة فی موارد الأصول العملیة أو فی موارد الأمارات علی تفصیل تقدم. هذا من جانب.

ومن جانب آخر لا یمکن الالتزام بما ذکره(قده) من أن قوة الظن بدرجة الکشف الموجودة بین الأمارة وبین مدلولها الالتزامی إذا کانت بنفس درجة الکشف الموجودة بین الأمارة وبین مدلولها المطابقی فهذا یعنی حجیة مثبتات الأمارات، لأن قوة الظن بدرجة الکشف نوعیة ولا یمکن ان تکون شخصیة إذ لا شبهة فی أن أخبار الثقة وإن لم تفد الظن بل کان الظن علی خلافها ومع ذلک تکون حجة لأن حجیتها من باب الوثوق النوعی لا الشخصی ومن الواضح انه لا ملازمة بین الأمارة والوثوق النوعی فی مدلولها المطابقی وبینها وبین الوثوق النوعی فی مدلولها الالتزامی فإنه قد لا یکون الوثوق النوعی موجودا بین الأمارة وبین مدلولها المطابقی بل لا یوجد حتی الظن والموجود هو الوهم او الشک المتساوی الطرفین ومن الواضح انه لا ملازمة بین الأمارة وبین المدلول المطابقی وبینها وبین المدلول الالتزامی مطلقا حتی فی موارد الوهم والشک المتساوی الطرفین وقد تقدم تفصیل ذلک أیضا.

واما الکلام فی المرحلة الثالثة فیقع فی أقسام الأصول العملیة الشرعیة والعقلیة ووظیفة المکلف أمام هذه الأصول العملیة.

ویقع الکلام فی مقامین:

المقام الأول: فی أقسام هذه الأصول العملیة الشرعیة والعقلیة.

ص: 304

المقام الثانی: فی وظیفة المکلف أمام هذه الأصول العملیة.

اما الکلام فی المقام الأول: فهذه الأصول العملیة أربعة:

1: أصالة البراءة العقلیة والنقلیة.

2: أصالة الاحتیاط الشرعیة والعقلیة.

3: أصالة التخییر الشرعیة والعقلیة.

4: الاستصحاب.

أما الکلام فی المقام الأول: فتارة یقع فی وجه حصر هذه الأصول فی أربعة واخری یقع فی الأصول العملیة الشرعیة غیر هذه الأصول الأربعة.

أما الکلام فی الأول: وهو حصر الأصول العملیة الشرعیة بأربعة فالنکتة فی ذلک ان أصولیة المسألة متوقفة علی جریانها فی الشبهات الحکمیة ووقوعها حد أوسط فی القیاس وهی کبری کلیة فإن انطباق هذه الکبری الکلیة علی عناصرها الخاصة یتولد منه النتیجة والنتیجة هی جعل الحکم الشرعی فالأصول العملیة المنحصرة فی الأربعة هی التی تجری فی الشبهات الحکمیة وتقع فی موارد عملیة الاستنباط والاجتهاد وهی الحد الأوسط فی القیاس ومن تطبیق الکبری علی الصغری تتولد النتیجة والنتیجة هی جعل الحکم الشرعی الفقهی فمن أجل ذلک تنحصر الأصول فی أربعة من جهة أنها من المسائل الأصولیة.

وأما غیرها من الأصول العملیة کأصالة الطهارة وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز وقاعدة الحیلولة وقاعدة ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده وما شاکل ذلک من القواعد والأصول العملیة فهی علی قسمین:

القسم الأول: مختص بالشبهات الموضوعیة ولا یجری فی الشبهات الحکمیة کقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز وقاعدة الید وقاعدة ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده ونحوها من القواعد والأصول العملیة فإنها مختصة بالشبهات الموضوعیة ولا تجری فی الشبهات الحکمیة فمن أجل ذلک لا تکون من المسائل الأصولیة ولا تقع فی طریق عملیة الاستنباط والاجتهاد لان المسألة الأصولیة هی التی تقع فی طریق علمیة الاستنباط والاجتهاد ویتولد من تطبیق الکبری علی الصغری النتیجة وهی جعل الحکم الشرعی واما القواعد التی تختص بالشبهات الموضوعیة فإن استفادة الحکم منها لیس من باب عملیة الاستنباط بل استفادة الحکم منها من باب التطبیق فإن القواعد الفقهیة التی هی مختصة بالشبهات الموضوعیة یکون استفادة الحکم منها بتطبیق مضامینها علی مصادیقها ولیس هذا من باب الاستنباط لأن فی الاستنباط یکون الحکم المستنبط مغایر للصغری والکبری معا واما فی التطبیق فمضمون هذه القواعد العامة منطبق علی مصداقه وفرده فی الخارج من باب انطباق الکلی علی الفرد وانطباق الطبیعی علی مصداقه ولا یکون من باب الاستنباط فی شیء. فمن أجل ذلک لا تکون القواعد الفقهیة التی تجری فی الشبهات الموضوعیة من القواعد الأصولیة ولا تقع فی طریق علمیة الاستنباط والاجتهاد فلا تکون حدا اوسطا فی القیاس.

ص: 305

القسم الثانی: ما لا یختص بالشبهات الموضوعیة کقاعدة الطهارة فإنها وإن کانت تجری فی الشبهات الحکمیة أیضا ولیست کقاعدة التجاوز والفراغ ولکن مع ذلک ذهب جماعة کصاحب الکفایة (1) والسید الاستاذ (2) وبعض المحققین (3) (قدهم) إلی أنها لیست من القواعد الأصولیة.

اما السید الاستاذ(قده) فقد ذکر فی وجه ذلک ان قاعدة الطهارة قاعدة مسلمة عند الکل ولا خلاف فیها بین اثنین لا بین الأصولیین ولا بین الإخباریین وحالها فی ذلک حال حجیة الظواهر فإنها متسالم علیها بین الأصحاب ولا خلاف فی أصل حجیة الظواهر ومن اجل ذلک لا تکون من المسائل الأصولیة لأن المسالة الأصولیة مرهونة بوجود خلاف فیها فی الجملة باعتبار أنها مسائل نظریة فبطبیعة الحال تختلف الأنظار فیها واما إذا کانت المسألة مسلمة عند الکل کقاعدة الطهارة أو حجیة الظواهر فهی لیست من المسائل الأصولیة.

ولکن هناک مجال للمناقشة فیما ذکره(قده) فإن القاعدة الأصولیة هی التی تقع حدا اوسطا فی القیاس وهی عبارة عن الکبری الکلیة وبانطباقها علی مصادیقها وعناصرها الخاصة تتولد نتیجة فقهیة وهی المسالة الفقهیة وهی جعل الحکم الشرعی فالمسألة الفقهیة هی التی یحتاج إثباتها إلی عملیة الاستنباط والاجتهاد وأما إذا کانت المسألة ضروریة او کانت قطعیة فثبوتها لا یحتاج إلی عملیة الاجتهاد لأنها قد وصلت إلی المکلف مباشرة بدون التوقف علی مسألة أصولیة کعملیة الاجتهاد بل هی واصلة إلی المکلف مباشرة بلا فرق بین المجتهد والعامی فلا یرجع العامی إلی المجتهد فی المسائل الضروریة والمسائل القطعیة کوجوب الصلاة والصیام والحج وما شاکل ذلک فإن هذه الوجوبات ضروریة وواصلة إلی المکلف مباشرة ولا یتوقف إثباتها علی عملیة الاجتهاد والاستنباط أی تطبیق الکبری علی الصغری حتی تتولد النتیجة وهی المسألة الشرعیة.

ص: 306


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ج1، ص337.
2- مصباح الاصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ، ج2، ص249.
3- بحوث فی علم الاصول، تقریر بحث السید الشهید للسید الشاهرودی، ج5، ص20.

واما إذا لم تکن المسالة ضروریة او قطعیة وإثباتها بحاجة إلی عملیة الاستنباط والاجتهاد ولا یمکن إثباتها بدون هذه العملیة فلا بد هنا من تنقیح الکبری فی علم الأصول حتی تنطبق هذه الکبری علی عناصرها الخاصة فی الفقه وتکون النتیجة هی الحکم الشرعی فکون هذه النتیجة حکما شرعیا بحاجة إلی عملیة الاستنباط وتطبیق الکبری علی الصغری وإلا فلا یمکن الوصول إلیه، فوصول المجتهد إلی الحکم الشرعی فیها یتوقف علی عملیة الاستنباط والاجتهاد وأما وصول العامی إلیه فبحاجة إلی التقلید وإلا فلا یتمکن العامی من الوصول إلی هذا الحکم بدون عملیة التقلید لعدم قدرته علی الاجتهاد.

وعلیه فإذا لم تکن المسألة ضروریة فإثباتها بحاجة إلی عملیة الاستنباط والاجتهاد لکی تکون النتیجة مسألة فقهیة.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

إلی هنا قد تبین أن الأحکام الشرعیة إذا کانت قطعیة او ضروریة فهی واصلة علی المکلف بالوجدان والقطع مباشرة فلا یحتاج وصولها إلی المکلف إلی واسطة فإنه إذا علم بوجوب شیء فلا یحتاج إلی أی مقدمة اخری فإنه عالم بالوجوب مباشرة أو عالم بالحرمة مباشرة فلهذا لا یتوقف إثبات الأحکام القطعیة والضروریة علی عملیة الاستنباط بل لا تعقل هذه العملیة فی الأحکام القطعیة لأن هذه العملیة بحاجة إلی تطبیق الکبری علی الصغری وهو غیر متصور فی الأحکام القطعیة لقطع المکلف بالحکم الشرعی فلا یحتاج إلی أی مؤونة ومقدمة زائدة ولهذا تکون نسبة العامی والمجتهد إلی هذه الأحکام القطعیة علی حد سواء فلا یرجع العامی إلی المجتهد ولا معنی للتقلید فیها.

وأما الأحکام النظریة فلا محالة یتوقف إثباتها علی عملیة الاستنباط والاجتهاد وهی بحاجة إلی تطبیق الکبری الکلیة والقواعد العامة علی مصادیقها فی الفقه وعناصرها الخاصة فیه، والقواعد العامة تتکون فی علم الأصول لأنه هو الموضوع لتکوین القواعد العامة والکبریات الکلیة والفقه موضوع لتطبیق هذه القواعد العامة علی عناصرها الخاصة ومصادیقها فإذا قام خبر الثقة علی وجوب السورة فی الصلاة فلا یمکن إثبات وجوب السورة بهذا الخبر ولا بد من تطبیق قاعدة عامة قد ثبتت فی علم الأصول وهی حجیة خبر الثقة علیه فإذا انطبقت هذه القاعدة علی هذا الخبر الذی هو عنصر خاص تکون النتیجة هی وجوب السورة فی الصلاة، وهذا التطبیق هو عملیة الاستنباط ونتیجة هذا التطبیق إثبات مسألة فقهیة کالوجوب أو الحرمة او الجزئیة او الشرطیة ومن هنا کانت المسألة الأصولیة وهی حجیة خبر الثقة علة لوجوب السورة والحد الأوسط فی القیاس ولذا إذا قیل بأن هذا الشیء واجب علل ذلک بالدلیل فالتعلیل بالدلیل تعلیل بالمسألة الأصولیة والعلة هی الحد الأوسط فی القیاس وهی مطویة فی المقام.

ص: 307

فأصولیة المسألة منوطة بتنقیح الکبری الکلیة فی الأصول وتنقیح القواعد العامة فیه وتطبیقها علی مصایدقها فی الفقه والنتیجة هی المسألة الفقهیة.

ولا فرق فی ذلک بین أن تکون المسألة متسالم علیها او تکون مورد النزاع والخلاف فإن أصولیة المسألة متقومة بحجیتها والحجیة متقومة بکون المسألة ظنیة ونظریة فی مقابل کونها معلومة بالوجدان فإذا کانت الحجیة ثابتة للقاعدة العامة ولو کان ثبوتها مورد الاتفاق والتسالم فهی مع ذلک مسألة أصولیة فمثلا إذا فرضنا ان خبر الثقة قطعی السند والدلالة والجهة فهذا الخبر لیس فیه مسألة أصولیة لأن المکلف قد وصل إلی الحکم مباشرة بالقطع والوجدان ولا یتوقف وصوله إلی الحکم علی مسالة أصولیة وأما إذا فرضنا ان خبر الثقة قطعی السند والدلالة وظنی الجهة فلا بد من إثبات حجیة جهة هذا الخبر فعندئذ تکون هذه المسألة مسألة أصولیة لأن النتیجة تابعة لأخس المقدمتین ولا یمکن ان تکون هذه المسألة مفیدة للعلم الوجدانی بالحکم طالما تکون جهة هذه المسألة ظنیة فاحتمال التقیة موجود فیها. فلا محالة تکون هذه المسألة أصولیة من جهة أصولیة جهتها. وربما کانت المسألة قطعیة سندا وجهة وظنیة دلالة فهذه المسألة أصولیة أیضا فاستنباط الحکم منها یتوقف علی تطبیق الکبری علی الصغری والکبری هی حجیة هذه المسألة ولو باعتبار حجیة دلالتها لأن النتیجة تابعة لأخس المقدمتین فتکون النتیجة ظنیة لا قطعیة. ومن هنا إذا کان الدلیل مرکبا من عشر مقدمات وفرض ان تسع منها قطعی وکان واحد منها فقط ظنی فالنتیجة بطبیعة الحال تکون ظنیة ولا یمکن ان تکون قطعیة لأن النتیجة تابعة لأخس المقدمتین.

فإذا لا فرق بین أن یکون خبر الثقة ظنیا سندا ودلالة وجهة وبین أن یکون ظنیا من احد هذه الجهات فعلی جمیع التقادیر تکون هذه المسألة مسألة أصولیة یتوقف إثبات الحکم الفقهی منها علی عملیة الاستنباط من تطبیق الکبری وهی القواعد العامة علی الصغری وهی مصادیق تلک الکبری لتکون النتیجة مسالة فقهیة کوجوب شیء أو حرمة شیء آخر.

ص: 308

ولما کانت الآیات المبارکة قطعیة السند والجهة إذ لا یتصور صدور الآیة تقیة ولکنها ظنیة الدلالة فاستنادا إلی ما ذکرنا تکون من المسائل الأصولیة فیکون استنباط الحکم الشرعی منها بحاجة إلی عملیة الاجتهاد والاستنباط من تطبیق القواعد العامة علی عناصرها الخاصة حتی تکون نتیجة هذا التطبیق ثبوت مسألة فقهیة کالوجوب والحرمة والجزئیة والشرطیة ونحو ذلک من الأحکام الشرعیة التکلیفیة والوضعیة.

ومن هنا یظهر أن قاعدة الطهارة وإن کانت مسلمة لدی الکل من الأصولیین والإخباریین ولکن مع ذلک تبقی هی قاعدة ظنیة لأن روایات هذ القاعدة ظنیة سندا وان فرض أنها قطعیة دلالة وجهة فمن أجل ذلک یکون استنباط الحکم من هذه القاعدة یتوقف علی عملیة الاستنباط والاجتهاد بتطبیق القواعد العامة علی مصادیقها الخاصة فلا یمکن أن تکون المسألة غیر أصولیة لأن المیزان فی أصولیة المسألة کونها حدا أوسط فی قیاس من الشکل الأول فی المنطق ولیس أصولیة المسالة مرهونة بعدم جود الخلاف فیها لأن أصولیة المسالة منوطة بوقوعها فی طریق الاستنباط کونها الحد الأوسط فی القیاس سواء کانت من المسائل المتسالم علیها او لم تکن هذا مضافا إلی ان بعض الأصحاب قد ناقش فی دلالة روایات قاعدة الطهارة.

وکیف ما کان فأصولیة المسألة مرهونة بوقوعها فی طرق عملیة الاستنباط کونها الحد الأوسط فی القیاس سواء کانت موردا للخلاف أم کانت متسالم علیها. فحجیة الظواهر ککبری وإن کانت متسالم علیها بین الأصحاب إلا انه لا شبهة فی أنها من المسائل الأصولیة لأنا إذا فرضنا ان الدلالة قطعیة فضلا عن کونها متسالم علیها ولکن مع کون السند ظنیا او الجهة ظنیة لا محالة مع ذلک تکون المسألة مسألة أصولیة ولیست خارجة عن ذلک لأنا قلنا ان أحدی هذه الجهات اذا کانت ظنیة فلا محالة یکون استفادة الحکم الشرعی منها بحاجة إلی عملیة الاستنباط بتطبیق الکبری علی الصغری.

ص: 309

والنتیجة انه لا شبهة فی أن قاعدة الطهارة وحجیة الظواهر من القواعد الأصولیة.

الوجه الثانی: ما ذکره صاحب الکفایة (1) (قده) واختاره بعض المحققین (2) (قده) أیضا من کون أصولیة المسألة مرهونة بکونها مشترکة بین معظم الأبواب الفقهیة، واما إذا کانت مختصة بباب دون باب آخر فهی لیست من المسائل الأصولیة لأن نسبة الأصول إلی الفقه نسبة العلم النظری إلی العلم التطبیقی کنسبة سائر العلوم إلی علم المنطق لأن المنطق علم نظری وهو متمثل فی الشکل الأول وجمیع العلوم ترجع إلیه فهو بمثابة الکبری الکلیة لجمیع العلوم ولهذا تکون نسبته إلی سائر العلوم نسبة العلم النظری الی العلم التطبیقی، وکذلک نسبة علم الأصول إلی علم الفقه نسبة العلم النظری إلی العلم التطبیقی وهذا یقتضی کون المسألة الأصولیة مشترکة بین معظم أبواب الفقه أو جمیعها وحیث ان قاعدة الطهارة مختصة بباب الطهارة ولا تجری فی سائر الأبواب فمن أجل ذلک لا تکون من القواعد الأصولیة.

وهذا الوجه أیضا غیر تام؛ فإن طبیعة المسألة الأصولیة وإن کانت مقتضیة لاشتراکها بین معظم الأبواب الفقهیة ولکن أصولیة المسألة لیست مرهونة بذلک کما تقدم بل هی مرهونة بوقوعها فی طریق عملیة الاستنباط وتطبیق الکبری علی الصغری وحیث ان هذه الخاصیة موجودة فی قاعدة الطهارة لأنها تقع فی طریق عملیة الاستنباط فی الشبهات الحکمیة وهی وإن کانت مختصة بباب الطهارة ولکنها قاعدة عامة تنطبق علی جمیع مصادیقها فی هذا الباب سواء کانت الشبهة حکمیة ام کانت موضوعیة فإذا کانت حکمیة فهی مسألة أصولیة لأن بتطبیقها علی مصادیقها تکون النتیجة هی المسالة الفقهیة کما هو الحال فی سائر المسائل الفقهیة.

ص: 310


1- کفایة الاصول، المحقق الخراسانی، ص337.
2- بحوث فی علم الاصول، تقریر بحث السید الصدر للسید الشاهرودی، ج1، ص31

وعلی هذا فالأصول العملیة الأصولیة خمسة: أصالة البراءة الشرعیة، أصالة الاحتیاط الشرعی، أصالة التخییر الشرعی، الاستصحاب وقاعدة الطهارة. فهذه القواعد جمیعها یقع فی طریق استنباط الحکم الشرعی.

واما الأصول العقلیة فهی علی قسمین:

القسم الأول: قاعدة الاشتغال.

القسم الثانی: قاعدة البراءة العقلیة وهی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

وأما القسم الثانی – وهو الأصول العملیة العقلیة – فهو علی صنفین:

الصنف الأول: قاعدة الاشتغال والاحتیاط وقد یعبر عنها بقاعدة حق الطاعة.

الصنف الثانی: قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

أما الصنف الأول: فلا شبهة فی أن الحاکم به هو العقل العملی واما صغریاته فی الخارج فتتمثل فی ثلاث مسائل:

المسألة الأولی: أطراف العلم الإجمالی للحکم الالزامی فإن المعلوم بالإجمال إذا کان حکما إلزامیا کالوجوب او الحرمة أو ما شاکلهما فهو منجز ولا یمکن الرجوع فی أطرافه إلی الأصول العملیة المؤمنة والمرخصة کأصالة البراءة الشرعیة واستصحاب عدم التکلیف او استصحاب الحکم الترخیصی لأن جریان الأصول العملیة المؤمنة فی تمام أطراف العلم الإجمالی یستلزم المخالفة القطعیة العملیة وهی غیر جائزة ولا شبهة فی استحقاق العقوبة علیها وأما جریانها فی بعضها المعین دون الآخر فهو ترجیح من غیر مرجح لأن نسبة الأصول العملیة إلی جمیع الأطراف نسبة واحدة فترجیحها بالنسبة إلی بعض دون بعض ترجیح من غیر مرجح وهو لا یمکن. واما جریانها فی بعضها غیر المعین فهو لا یمکن لأنه إن أرید منه البعض غیر المعین المفهومی فلا واقع موضوعی له فی الخارج ولیس هو حینذاک طرفا للعلم الإجمالی بل هو مجرد مفهوم فی عالم الذهن ولا یتعدی منه الی الخارج وإن أرید منه البعض غیر المعین المصداقی فهو من الفرد المردد فی الخارج وهو غیر معقول، ولأجل ذلک لا تشمل أدلة الأصول العملیة المؤمنة أطراف العلم الإجمالی فلا مناص من التمسک بقاعدة الاشتغال والاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی.

ص: 311

المسألة الثانیة: موارد الشک فی الامتثال بعد الیقین بثبوت التکلیف کما إذا شک فی اثناء الوقت أنه صلی او لم یصلی فلا بد له ان یصلی لأن الاشتغال الیقینی یقتضی الفراغ الیقینی وهو یعلم بان ذمته مشغولة بالصلاة ویشک فی فراغ ذمته وعلیه تحصیل الیقین بفراغ الذمة.

المسألة الثالثة: الشبهات الحکمیة قبل الفحص لأن احتمال التکلیف فی الشبهات الحکمیة قبل الفحص منجز ولا تجری فیها الأصول المؤمنة فلا مناص من الرجوع إلی قاعدة الاشتغال والاحتیاط.

ولا فرق فی الرجوع إلی قاعدة الاشتغال فی هذه المسائل الثلاث فی أن تکون مولویة الحکم المشکوک ذاتیة أو عرضیة فعلی کلا التقدیرین لا بد من الرجوع إلی قاعدة الاشتغال فیها.

واما الصنف الثانی: وهو قاعدة قبح العقاب بلا بیان فإن الحاکم فیها أیضا هو العقل العملی ولکن موردها الشک فی ثبوت التکلیف مشروطا بشروط:

الشرط الأول: أن یکون الشک فی التکلیف شکا بدویا فی مقابل الشک المقرون بالعلم الإجمالی.

الشرط الثانی: ان تکون الشبهة بعد الفحص لأن المجتهد إذا قام بالفحص فی الموارد التی یحتمل وجود الدلیل فیها ولم یجده فلا بد ان یکون المرجع هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان لا قاعدة الاشتغال والاحتیاط.

الشرط الثالث: أن تکون مولویته عرضیة لا ذاتیة.

فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة فی مورد کان من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بیان فالعقل یحکم بها لأن العقاب بلا بیان فی هذه الموارد ظلم فهذه القاعدة قاعدة ارتکازیة وثابتة فی أعماق نفوس البشر وموافقة للجبلة والفطرة.

وأما إذا کانت مولویة هذا الحکم المشکوک ذاتیة کمولویة الله تعالی وتقدس فهل المرجع قاعدة قبح العقاب بلا بیان أو المرجع قاعدة الاشتغال وحق الطاعة؟

فیه قولان:

القول الأول: وهو المعروف والمشهور بین الأصولیین من أن المرجع فیه قاعدة قبح العقاب بلا بیان وعلی هذا القول لا یفرق بین ان تکون مولویة الحکم المشکوک ذاتیة أم عرضیة.

ص: 312

القول الثانی: وقد اختاره بعض المحققین (1) (قده) علی ما فی تقریر بحثه من ان المرجع فیه هو قاعدة الاشتغال وحق الطاعة وسوف یأتی الکلام فی بیان کلا القولین وما هو الحق منهما.

ثم إن الاختلاف بین قاعدة قبح العقاب بلا بیان وبین قاعدة الاشتغال والاحتیاط لیس بمعنی التعارض بینهما لأنه لا یتصور التعارض بین الأحکام العقلیة القطعیة والمفروض ان الحکم العقلی فی کلتا القاعدتین قطعی فالتعارض بین الحکمین القطعیین غیر متصور بل لا فرق فی عدم تصور التعارض بین الحکمین القطعیین بین أن یکون الحکمان شرعیین او عقلیین فإن معنی التعارض ان کلا منهما یمنع عن حکم الآخر وهو خلف فرض انه قطعی فإذا کان قطعیا فلا یتصور ان یکون له مانع ومعارض وإنما الاختلاف بین القاعدتین من جهة الموضوع والحکم.

أما من جهة الموضوع فمورد قاعدة قبح العقاب بلا بیان هو الحکم غیر المنجز واما مورد قاعدة الاشتغال والاحتیاط فهو الحکم المنجز فلا یجتمع مورد احدهما مع مورد الأخری بل مورد کل منهما متباین مع مورد الأخری.

وأما من جهة الحکم فإن العقل یدرک أن عقاب المکلف بلا بیان ظلم وقبیح واما فی قاعدة الاشتغال وقاعدة حق الطاعة فالعقل یدرک أن عقاب المکلف علی مخالفته حسن لا انه قبیح فهما مختلفان حکما أیضا.

فقاعدة قبح العقاب مختلفة موردا وحکما عن قاعدة الاشتغال. هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری الفرق بین الأصول العملیة الشرعیة وبین الأصول العملیة العقلیة فی نقطتین:

النقطة الأولی: أن سعة دائرة الأصول العملیة الشرعیة وضیقها کما وکیفا تتبع سعة دائرة ادلتها فإن أدلة الأصول العملیة الشرعیة إذا کانت دائرتها متسعة تشمل الشبهات الحکمیة والموضوعیة معا فبطبیعة الحال تکون الأصول العملیة الشرعیة جاریة فی الشبهات الحکمیة والموضوعیة واما إذا کانت دائرة ادلتها مضیقة ومختصة بالشبهات الموضوعیة فبطبیعة الحال لا تجری الأصول العملیة الشرعیة إلا فی الشبهات الموضوعیة ولا تجری فی الشبهات الحکمیة فإذا قیل أن دائرة أدلة الاستصحاب متسعة فلا محالة یتبع الاستصحاب دلیله فی السعة والضیق کما وکیفا فیجری فی الشبهات الحکمیة والموضوعیة معا واما لو قیل بان دائرة دلیل الاستصحاب مضیقة ومختصة بالشبهات الموضوعیة ولا یعم الشبهات الحکمیة فالاستصحاب لا یجری إلا فی الشبهات الموضوعیة ولا یجری فی الشبهات الحکمیة.

ص: 313


1- بحوث فی علم الاصول، تقریر بحث السید الصدر للسید الشاهرودی، ج5، ص28

وهذا بخلاف الأصول العملیة العقلیة فإنه لا یمکن تحدید دائرة الأصول العملیة العقلیة بشروط معینة سعة وضیقا وکما وکیفا وبحدود محدودة کذلک لأن هذه الأصول تختلف باختلاف آراء الناس وظروفه وتقالیدهم وبیئتهم إذ الشیء قد یکون قبیحا فی مجتمع ولا یکون قبیحا فی مجتمع آخر ویکون حسنا فی بلد بحسب تقالیده ولا یکون کذلک فی بلد آخر ومن هنا لا بد من ملاحظة الأصول العملیة العقلیة فی کل مورد وفی کل مجتمع فی نفسها لأن کل فرد یعمل علی طبق ما أدرکه عقله العملی فإن أدرک عقله قبح شیء فإنه یترکه وإن أدرک حسن شیء قام بفعله.

فکل فرد وشخص یعمل علی طبق ما أدرکه عقله العملی ومن الواضح ان العقل العملی یختلف باختلاف الاشخاص والظروف والمجتمع والتقالید وما شاکل ذلک.

ومن هنا یری جماعة جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان بلا فرق بین أن تکون مولویة الحکم المشکوک ذاتیة أو عرضیة بینما یری آخرون جریان قاعدة حق الطاعة فیه بلا فرق بین المولویة الذاتیة والمولویة العرضیة. فمن هذه الناحیة تختلف الأصول العملیة العقلیة عن الأصول العملیة الشرعیة فإن الثانیة تتبع دلیلها سعة وضیقا کما وکیفا واما الأولی فتختلف باختلاف آراء الناس وأفکارهم وظروفهم وتقالیدهم وبیئتهم وبلدانهم.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

ذکرنا أن الفرق بین الأصول العملیة الشرعیة والأصول العملیة العقلیة فی نقطتین تقدم الکلام فی النقطة الأولی.

وأما الکلام فی النقطة الثانیة: فالأصول العملیة العقلیة لا تصلح أن تعارض الأصول العملیة الشرعیة لأن أصالة البراءة العقلیة موضوعها عدم البیان ولا شبهة فی ان الاستصحاب بدلیل حجیته بیان شرعا فهو رافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان وجدانا فیکون تقدیم الاستصحاب علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان من باب الورود وکذلک تقدیم أصالة الاحتیاط الشرعی لأنها أیضا بیان علی تنجیز التکلیف فی الواقع وجدانا فإذا کانت بیانا فهی رافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان وجدانا فیکون تقدیمها علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان من باب الورود.

ص: 314

وأما قاعدة الاشتغال فالأمر فیها أیضا کذلک لأن موضوعها احتمال العقوبة ولا شبهة فی ان الاستصحاب بدلیل حجیته رافع لهذا الاحتمال ومع الاستصحاب لا یحتمل العقاب وإن کان مخالفا للواقع لأنه مؤمن من العقاب جزما فمن هذه الناحیة یکون الاستصحاب بدلیل حجیته واردا علی قاعدة الاشتغال العقلیة.

وکذلک أصالة البراءة الشرعیة فإنها واردة علی قاعدة الاشتغال والاحتیاط العقلیة لأنها مؤمنة من العقوبة علی مخالفة الواقع کانت مطابقة للواقع أم مخالفة له فإنه فی صورة المخالفة معذرة وعلی کلا التقدیرین لا یکون احتمال العقوبة موجودا فتکون أصالة البراءة الشرعیة رافعة لاحتمال العقوبة علی مخالفة الواقع الذی هو موضوع قاعدة الاشتغال العقلیة وحینئذ یکون تقدیمها علیها من باب الورود.

فالنتیجة ان الأصول العملیة العقلیة سواء کانت قاعدة قبح العقاب بلا بیان ام کانت قاعدة الاشتغال والاحتیاط العقلیة لا تصلح ان تکون معارضة للأصول العملیة الشرعیة لأن الأصول العملیة الشرعیة واردة علیها برفعها لموضوعها وجدانا.

نعم.. قد یقع التعارض بین الأصول العملیة الشرعیة بعضها مع البعض الآخر کالتعارض بین الاستصحابین وقد یقع التعارض بین الاستصحاب وأصالة البراءة الشرعیة.

وعلی الثانی یکون تقدیم الاستصحاب علی البراءة الشرعیة من باب الحکومة علی المشهور لأنه رافع لموضوعها تعبدا وأما بناء علی ما ذکرناه من ان الاستصحاب لیس أصلا محرزا بل هو أصل غیر محرز فیکون تقدیم الاستصحاب علیها بملاک الجمع الدلالی العرفی بینهما لأن الاستصحاب قد ورد فی مورد البراءة الشرعیة وهو أخص منها فلا بد من تقدمیه علیها وإلا کان الاستصحاب لغوا.

واما إذا کان التعارض بین الاستصحابین فهما یتساقطان معا من جهة المعارضة فلا یمکن الأخذ بشیء منهما فلا بد من الرجوع إلی الأصول المؤمنة فی موردهما وسیأتی تفصیل ذلک فی محله عن شاء الله تعالی.

ص: 315

هذا تمام الکلام فی المقام الاول وهو ذکر اقسام الاصول العملیة العقلیة والشرعیة.

واما الکلام فی المقام الثانی: فالبحث فعلا فی وظیفة المکلف تارة أمام الأصول العملیة العقلیة کأصالة البراءة العقلیة وهی قاعدة قبح العقاب بلا بیان وقاعدة الاشتغال وحق الطاعة، وأخری یقع الکلام فی وظیفة المکلف أما الأصول العملیة لشرعیة کالبراءة الشرعیة والاحتیاط الشرعی، فهنا مسألتان:

المسألة الأولی: فی تعیین وظیفة المکلف أمام الأصول العملیة العقلیة سعة وضیقا کما وکیفا کقاعدة البراءة العقلیة.

المسألة الثانیة: فی تعیین وظیفة المکلف أمام الأصول العملیة الشرعیة سعة وضیقا.

أما الکلام فی المسألة الأولی: فالتکلیف إذا شک فیه شکا بدویا واستقر هذا الشک من جهة عدم العثور علی الدلیل فی مظان الفحص فهل المرجع فیه قاعدة البراءة العقلیة وهی قاعدة قبح العقاب بلا بیان إذا کانت مولویة الحکم المشکوک ذاتیة أو ان المرجع قاعدة الاشتغال وحق الطاعة؟

المعروف والمشهور بین الأصولیین هو الأول أی المرجع فیه هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان ولکن ذهب البعض إلی أن المرجع فیه هو قاعدة الاشتغال وحق الطاعة.

وقد استدل عل المعروف والمشهور بوجوه:

الوجه الأول: ما ذکره المحقق النائینی (1) (قده) من ان التکالیف الالزامیة الواقعیة لیست محرکة للمکلف طالما لم تصل إلیه فلا تدعو المکلف إلی الطاعة والامتثال لأن هذه التکالیف بما لها من المبادئ إنما تکون محرکة للمکلف بوجودها العلمی الواصل إلی المکلف فی مقام الإثبات لا بوجودها الواقعی سواء کان وصولها بالعلم الوجدانی أم کان بالعلم التعبدی أم کان بالمجموع منهما کما إذا کان بعض جهات المسألة واصلة الی المکلف بالعلم الوجدانی وبعضها الآخر واصل إلیه بالعلم التعبدی وغالب المسائل الأصولیة کذلک فالآیات الکریمة واصلة الی المکلف بالعلم الوجدانی سندا وجهة ولکنها واصلة إلی المکلف إلا بالعلم التعبدی وهی حجیة الظواهر وحجیة دلالتها، وکذلک الروایات فإنها قد تکون قطعیة السند فتکون واصلة الی المکلف بالعلم الوجدانی ولکنها واصلة الی المکلف بالعلم التعبدی دلالة أو جهة واما لو کانت واصلة الی المکلف بالوجدان من جمیع الجهات فهی لیست مسألة أصولیة باعتبار أنها تفید القطع بالأحکام الواقعیة مباشرة فلا تحتاج إلی واسطة کعملیة الاستنباط لأن الحاجة إلی هذ العملیة فیما إذا کانت هذه الجهات تماما ظنیة او بعضها کذلک.

ص: 316


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص186.

إذاً کلما کانت الأحکام الواقعیة الالزامیة واصلة إلی المکلف بالعلم الوجدانی أو بالعلم التعبدی أو بموجوع الأمرین فلا شبهة فی أنها منجزة ومحرکة للمکلف نحو امتثالها وإطاعتها واما إذا لم تصل إلی المکلف لا بالعلم الوجدانی ولا بالعلم التعبدی فلا یکون هناک محرک فإن احتمال التکلیف لا یصلح أن یکون بیانا فلا یحکم العقل بتحریک المکلف نحو الامتثال والطاعة وحینئذ یکون احتمال التکلیف مصداقا إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان ولا شبهة فی ان العقل العملی یحکم آنذاک بقبح العقاب علی المخالفة التی لا تکون مع البیان لأنه ظلم.

والحاصل مما ذکره(قده) ان المرجع هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی موارد الشک البدوی فی التکلیف بعد الفحص اللازم.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

ملخص ما ذکره المحقق النائینی(قده) ان التکلیف بوجوده الواقعی لا یکون مؤثرا ومحرکا للمکلف نحو الطاعة والعبودیة وإنما یکون محرکا بوجوده العلمی أی التکلیف الواصل الی المکلف بالعلم الوجدانی أو بالعلم التعبدی أو بالمرکب منهما فالتکلیف الواصل الی المکلف کذلک هو الملزم له بالتحرک نحو الطاعة والعبودیة وأما إذا لم یکن واصلا إلیه لا بالعلم الوجدانی ولا بالعلم التعبدی ولا بالمرکب منهما بل الواصل إلیه مجرد احتمال التکلیف من الوجوب او الحرمة فی الشبهة الحکمیة البدویة بعد الفحص فلا مقتضی لحکم العقل بالتحرک نحو امتثاله علی أساسا ان العقل العملی یدرک أن العقاب علیه عقاب بلا بیان واما الاحتمال فلا یصلح لأن یکون بیانا ومحرکا للمکلف نحو الطاعة والعبودیة فإذا لم یکن احتمال التکلیف فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص دلیلا وبیانا ومحرکا فبطبیعة الحال یحکم العقل بأن العقاب علیه عقاب بلا بیان ولا شبهة فی أنه قبیح وظلم.

ص: 317

هکذا ذکره المحقق النائینی(قده).

وقد علق علیه بعض المحققین (1) (قده) بتقریب أن المحرک تارة یکون تکوینیا ناشئا من الغرض التکوینی الخارجی وأخری یکون تشریعیا وهو حکم العقل بلزوم التحرک نحو الطاعة والعبودیة أما الأول فلا شبهة فی أن الشیء التکوینی بوجوده الواقعی لا یکون محرکا وله أمثلة کثیرة والمثال المعروف فی الألسنة هو من یموت من العطش والماء موجود فی أطرافه وهو لا یعلم به أو یموت من الجوع والطعام موجود فی أطرافه وهو جاهل به فالشیء بوجوده الواقعی التکوینی لا یکون محرکا للمکلف وداعیا وإنما یکون محرکا وداعیا بوجوده العلمی والوجود العلمی الواصل الی المکلف ذات مراتب متعددة ومتفاوتة:

المرتبة الأولی: العلم الوجدانی.

المرتبة الثانیة: الاطمئنان.

المرتبة الثالثة: الظن.

المرتبة الرابعة: الاحتمال.

أما فی المرتبة الأولی والمرتبة الثانیة: - وهما العلم والاطمئنان - فلا شبهة فی أنهما محرکان للمکلف علی نحو الغرض الخارجی التکوینی والأغراض الخارجیة ذات مراتب متعددة فإن الغرض تارة یکون ذات اهمیة واخری لا یکون ذات اهمیة وعلی هذا فالظن قد یکون محرکا إذا کان متعلقا بغرض خارجی ذات أهمیة فهو محرک للإنسان نحو الوصول الیه وقد لا یکون محرکا إذا لم یکن الغرض ذات أهمیة وکذلک الحال فی الاحتمال فإنه إذا تعلق بغرض ذات اهمیة فهو محرک کما إذا احتمل المریض أن رجوعه إلی الطبیب الفلانی یوجب إعادة صحته وعافیته فهذا الاحتمال محرکا له نحو الرجوع إلی الطبیب لأن الغرض ذات أهمیة عند المریض واما إذا لم یکن الغرض الخارجی ذات أهمیة فلا یکون الاحتمال محرکا.

إذاً الأغراض الخارجیة تختلف باختلاف مراتبها فبعضها ذات اهمیة وبعضها لا یکون ذات اهمیة فمن أجل ذلک یکون الاحتمال تارة محرکا واخری لا یکون کذلک.

ص: 318


1- بحوث فی علم الاصول، تقریر بحث السید الصدر للسید الشاهرودی، ج5، ص27.

واما المحرک التشریعی فهو متمثل فی حق الطاعة والعبودیة فإن العقل مستقل بأن تفویت هذا الحق یوجب الإدانة والعقوبة وهو المحرک الأساسی نحو الإتیان بما أمر به الله تعالی به ونهی عنه.

وهذا المقدار مما لا إشکال فیه وإنما الکلام فی حدود حق الطاعة سعة وضیقا فهل هذا الحق ثابت مطلقا حتی فی موارد احتمال التکلیف أو انه غیر ثابت مطلقا ویظهر من مجموع کلمات بعض المحققین(قده) وجوه لإثبات هذا الحق:

الوجه الأول: الفرق بین المولویة الذاتیة والمولویة الجعلیة فإن المولویة إذا کانت جعلیة فهی تتبع الجعل فی السعة والضیق ولا یعقل ان یکون المجعول اوسع من الجعل او یکون الجعل أوسع من المجعول لأن المجعول عین الجعل والجعل عین المجعول کالإیجاد والوجود فلا یعقل ان یکون الوجود أوسع من الإیجاد وبالعکس لأنهما شیء واحد والاختلاف بینهما إنما هو بالاعتبار.

وما نحن فیه أیضا کذلک: فإن المولویة إذا کانت مجعولة فهی تتبع الجعل فی السعة والضیق. والقدر المتیقن من ثبوت هذه المولویة هی فی موارد العلم الوجدانی والعلم التعبدی واما فی موارد الاحتمال فلا نعلم بثبوتها ولهذا لا مانع من التمسک بقاعدة قبح العقاب بلا بیان فی موارد احتمال التکلیف والشک فیه بالشک البدوی فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص. واما المولویة الذاتیة فلا یعقل أن تکون محددة بحدود بل هی مولویة مطلقة من جمیع الجهات تکوینا وتشریعا وهی محصورة بولایة الباری عزّ وجلّ.

وعلی هذا فولایته تعالی کما انها ثابتة فی موارد العلم الوجدانی بالأحکام الشرعیة الصادرة منه تعالی کذلک هی ثابتة فی موارد العلم التعبدی او فی موارد المرکب منهما وکذلک فی موارد الاحتمال لما قلنا من أن مولویته لا تکون محددة بحدود فمن أجل ذلک لا مجال للتمسک بقاعدة قبح العقاب بلا بیان فی موارد الاحتمال بل فی هذه الموارد یتمسک بقاعدة الاشتغال لا قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ص: 319

ومن اجل ذلک لا بد من التفریق بین المولویة الذاتیة والمولویة الجعلیة کمولویة الأنبیاء والأئمة والعلماء علی تقدیر ثبوت الولایة لهم.

الوجه الثانی: ما ذکره(قده) من ان قاعدة قبح العقاب بلا بیان لیست قاعدة ارتکازیة ثابتة فی أعماق النفوس بل هی قاعدة مستحدثة بین متأخری المتأخرین من الأصولیین وهی غیر ثابتة عند الفقهاء المتقدمین ولا عند أوائل المتأخرین بل هی قاعدة مستحدثة ولیست ارتکازیة.

الوجه الثالث: ما تسالم علیه الجمیع من أن احتمال التکلیف وإن کان فی الشبهة الحکمیة بعد الفحص مساوق لاحتمال العقوبة طالما لم یکون هنا أصل مؤمن فی البین. وعلی هذا فمن یدعی لزوم التحرک نحو الطاعة والعبودیة ویدعی قاعدة حق الطاعة والعبودیة وقاعدة الاشتغال غیر ملزم بإثبات هذه الدعوی وإقامة البرهان علیها لأنها علی القاعدة من ان احتمال التکلیف مساوق لاحتمال العقوبة فیکفی لإثباتها عدم ثبوت الدلیل علی خلافها فإذا لم یثبت دلیل علی الخلاف فهذه الدعوی ثابتة.

الوجه الرابع: أن ما ذکره المحقق النائینی(قده) مصادرة ولیس دلیلا لأن المدعی عین الدلیل باعتبار ان المدعی هو ان احتمال التکلیف لا یصلح أن یکون بیانا ودلیلا، وجعل من هذا دلیلا علی إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بیان فالمدعی دلیل علی جریان هذه القاعدة فیکون المدعی عین الدلیل. وعلیه لا یمکن الالتزام بما ذکره المحقق النائینی من الدلیل علی إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ولکن للمناقشة فی هذه الوجوه مجال.

أما الوجه الأول: فلا شبهة فی أن المولویة المجعولة تختلف عن المولویة الذاتیة فإن المولویة المجعولة محدودة بحدود الجعل فهی تتبع فی سعتها وضیقها الجعل فی السعة والضیق واما المولویة الذاتیة فلا حدود لها وهی مولویة مطلقة من کل الجهات. وهذا الفرق بین المولویتین واضح لأن مولویة الباری عز وجل مطلقة فی التشریعیات والتکوینیات ولا یتصور لها حد فیهما إلا أن الکلام فی صدور الأمر من المولی لأن الأمر الصادر من المولی اتصافه بانه مولوی ذاتی بالعرض وألا فحق الأمر أن لا یتصف بالمولویة الذاتیة لأنه امر اعتباری لا وجود له إلا فی عالم الاعتبار فقط فکل أمر صدر من المولی فهو أمر مولوی إذا کان صدوره بإعمال المولویة ولا فرق من هذه الناحیة بین المولویة الذاتیة وبین المولویة الجعلیة فالأمر الصادر من الله تعالی أمر مولوی وکذلک الأمر الصادر من النبی الأکرم(ص) هو أمر مولوی ومحرک فی صورة العلم الوجدانی والعلم التعبدی به و صورة العلم المرکب منهما وهذا لا کلام فیه وإنما الکلام فی أن هذا الأمر هل هو محرک فی صورة احتمال صدوره من المولی سواء کان المولی ذاتیا ام جعلیا أو لا بد من التفصیل بین المولی الذاتی فإن احتمال التکلیف فیه محرک وبین المولی الجعلی فلا یکون احتمال التکلیف محرکا. یضا کذلک

ص: 320

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

ذکرنا أن المستفاد من مجموع کلمات بعض المحققین(قده) فی أن المورد من موارد تطبیق قاعدة حق الطاعة لا قاعدة قبح العقاب بلا بیان وجوه:

الوجه الأول: ان الفرق بین المولویة الجعلیة والمولویة الذاتیة أن المولویة إذا کانت مجعولة فهی تتبع فی سعتها وضیقها وکمها وکیفها الجعل سعة وضیقا ولا یعقل أن تکون أوسع من الجعل لأن المجعول عین الجعل فلا یتصور ان یکون المجعول أوسع من الجعل. وأما المولویة إذا کانت ذاتیة کمولویة الباری تعالی فلا حدود لها وهی مولویة مطلقة تکوینا وتشریعا.

الوجه الثانی: أن قاعدة قبح العقاب بلا بیان معروفة بین متأخری المتأخرین ولا وجود لها بین المتقدمین بل حتی بین أوائل المتأخرین أیضا بینما قاعدة حق الطاعة ثابتة.

الوجه الثالث: أن قاعدة حق الطاعة مطابقة للأصل ومن یدعی خلاف هذه القاعدة فلا یکون المدعی ملزما بإقامة البرهان علیها بینما من یدعی خلاف هذه القاعدة لا بد له من إقامة البرهان علی مدعاه.

الوجه الرابع: أن ما ذکره المحقق النائینی لیس دلیلا علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان بل مجرد مصادرة لأنه ذکر أن احتمال التکلیف لا یصلح أن یکون بیانا فمن أجل ذلک تنطبق قاعدة قبح العقاب بلا بیان وعلل ذلک بان احتمال التکلیف لا یصلح أن یکون بیانا فالمدعی عین الدلیل وهو مصادرة ولا یصح مثل هذا الاستدلال.

وللمناقشة فی مثل هذه الوجوه مجال.

أما الوجه الأول: فلا شبهة فی أن المولویة الذاتیة لا حدود لها تکوینا وتشریعا واما المولویة الجعلیة فهی محدودة فإنها تتبع فی سعتها وضیقها الجعل سعة وضیقا فمن أجل ذلک تکون محدودة ولکن الکلام لیس فی ذلک بل الکلام إنما هو فی الحکم الصادر من المولی بما هو مولی هذا الحکم یتصف بالمولویة - وإلا فالحکم بما هو اعتبار لا یتصف بالمولویة - سواء صدر من المولی الذی تکون مولویته ذاتیة أو صدر من المولی الذی تکون مولویته جعلیة فالکلام فی هذا الحکم هل تجب طاعته مطلقا وان لم یصل بدرجة القطع الی المکلف او لا؟ ولا شبهة فی ان الأحکام التکلیفیة الإلهیة إذا کانت واصلة إلی المکلف بالعلم الوجدانی أو بالعلم التعبدی فهو مورد لتطبیق قاعدة حق الطاعة ولا مجال لتطبیق قاعدة قبح العقاب بلا بیان وإنما الکلام فی الأحکام التکلیفیة المحتملة والمشکوکة والموهومة فهل هی مورد لقاعدة حق الطاعة او مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بیان کما فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص لأن التکلیف محتمل فیها او موهوم أو مشکوک فهل هذه الأحکام المشکوکة أو المحتملة أو الموهومة مورد لقاعدة حق الطاعة والعبودیة او مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بیان؟

ص: 321

لا شبهة فی ان احتمال التکلیف لا یکون بیانا بحکم العقل سواء کان التکلیف واقعا صادرا من المولی الذاتی او من المولی الجعلی کما ان هذا الاحتمال لیس بیانا عقلاءً ولم یثبت من الشارع أن احتمال التکلیف بیان وحجة ومحل الکلام إنما هو فی تطبیق قاعدة حق الطاعة وقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

واما البراءة الشرعیة فلا شبهة فی جریانها لأن قاعدة حق الطاعة لا تزاحم قاعدة البراءة الشرعیة وکذا الاستصحاب المثبت للتکلیف أو النافی له وإنما الکلام فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان التی هی قاعدة عقلیة فإذا لم یکن الاحتمال بیانا فلا شبهة فی ان انطباق قاعدة قبح العقاب بلا بیان أمر قهری وضروری لأن الموضوع إذا تحقق فثبوت الحکم قهری لهذا الموضوع ولا یمکن التفکیک بینهما فإنه کالتفکیک بین المعلول والعلة وهو غیر معقول وقاعدة قبح العقاب بلا بیان تنطبق علی المقام ولا شبهة فی أن العقل لا یحکم بتطبیق قاعدة حق الطاعة والعبودیة لأن حکم العقل بحاجة إلی دلیل وإلی برهان وسوف نبین أن قاعدة حق الطاعة قاعدة قبح العقاب بلا بیان لیسا علی وزان واحد لأن قاعدة قبح العقاب بلا بیان قاعدة فطریة ومن القضایا الأولیة التی هی مبدأ لجمیع العلوم فثبوتها لا یحتاج إلی أی مقدمة لأن کل ما بالغیر لا بد أن ینتهی إلی ما بالذات فالقضایا الأولیة - التی هی بمثابة الشکل الأول فی القیاس المنطقی – تنتهی الیها جمیع القضایا العلمیة فی نهایة المطاف وأما ثبوت هذه القواعد فهو بالذات ولا یحتاج ثبوتها إلی مقدمة أخری وإلا لزم التسلسل.

فإذاً قاعدة قبح العقاب بلا بیان قضیة أولیة فطریة واما قاعدة حق الطاعة والعبودیة فلیست کذلک فإنها بحاجة إلی مؤونة وصول تکلیف من الله تعالی.

ص: 322

واما ما ذکره(قده) فی الوجه الثانی: من أن قاعدة قبح العقاب بلا بیان قاعدة مستحدثة فهذا غریب لأن متقدمی الأصولیین لم یتعرضوا لکثیر من المسائل الأصولیة لعدم تدوینها بینهم إلا ما ذکره الشیخ الطوسی(قده) فی العدة بل کثیر من المسائل الأصولیة لم تکن موجودة أصلا أو غیر منقحة بین اوائل المتأخرین من الأصولیین، فاستیعاب المسائل الأصولیة وتنقیحها بهذا الشکل الذی هی علیه الیوم إنما کان فی زمن متأخر، فمثلا لم یفرقوا بین الأصل المثبت وبین الأصل غیر المثبت فی الحجیة إلی زمان الشیخ الأنصاری(قده) بل کان رأیهم علی حجیة الأصل مطلقا وإنما ظهر الفرق بینهما وان الأصل المثبت لا یکون حجة بعد الشیخ الأنصاری.

وکیف ما کان فهذه القاعدة إنما لم تکن مدونة فی الأصول فلم یتعرض لها الأصولیون المتقدمون بل أوائل المتأخرین وإنما أصبحت معروفة بین المتأخرین واما نفس القاعدة فلا شبهة فی أنها قاعدة ارتکازیة ثابتة فی أعماق نفوس الإنسان کالجبلة والفطرة ولهذا تکون من القضایا الأولیة الفطریة وهی ترجع إلی قاعدة قبح الظلم وهی من القضایا الأولیة الفطریة فإن الحسن والقبح فی جمیع الأشیاء یرجع إلی حسن العدل وقبح الظلم لأن الحسن والقبح فی هاتین القاعدتین ذاتی ولا شبهة فی أن العقاب بلا بیان من أظهر مصادیق الظلم.

وعلی هذا فقاعدة قبح العقاب بلا بیان قاعدة فطریة أولیة وإثباتها لا یحتاج إلی برهان فما ذکره(قده) لا یمکن المساعدة علیه.

واما ما ذکره(قده) من أن من یدعی تطبیق قاعدة حق الطاعة علی الأحکام المشکوکة والمحتملة بل الموهومة غیر ملزم بإثباتها لأن إثباتها علی القاعدة فلا یحتاج إلی إقامة برهان بل من یدعی الخلاف هو الملزم بإقامة البرهان فإن احتمال التکلیف فی الشبهات الحکمیة ولو بعد الفحص مساوق لاحتمال العقوبة وعلیه یکون تطبیق قاعدة حق الطاعة علی القاعدة.

ص: 323

فهذا الکلام وإن کان صحیحا ولکنه لیس مطلقا لأن احتمال التکلیف فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص مساوق لاحتمال العقوبة بشرط ان لا یکون هناک أصل مؤمن ومع وجود الأصل المؤمن فی البین لا یکون احتمال التکلیف فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص محرکا فلا یکون مساوقا لاحتمال العقوبة إذ مع وجود الأصل المؤمن کقاعدة قبح العقاب بلا بیان لا یکون احتمال التکلیف بیان لا عقلا ولا عقلاءً ولا شرعا وحینئذ یکون تطبیق قاعدة قبح العقاب بلا بیان ذاتی ولا یتوقف علی أی مقدمة وبرهان لأن ثبوت الحکم إلی موضوعه أمر قهری فلا یمکن التفکیک بینهما.

وعلی هذا فمن یدعی تطبیق قاعدة قبح العقاب بلا بیان غیر ملزم بإثباتها وإقامة البرهان علی ذلک بل من یدعی الخلاف وتطبیق قاعدة حق الطاعة والعبودیة هو الملزم بإقامة البرهان علیها وان احتمال التکلیف محرک ومنجز وإلا فلا یمکن تطبیق قاعدة حق الطاعة والعبودیة.

واما ما ذکره فی الوجه الرابع من ان ما ذکره المحقق النائینی(قده) مصادرة فالظاهر ان الأمر لیس کذلک لأن المحقق النائینی کان فی مقام بیان موضوع القاعدة وان موضوعها فی المقام ان احتمال التکلیف لا یکون محرکا ولا بیانا فإذا لم یکن بیانا فالقاعدة تنطبق علی المقام قهرا ولا یمکن رفع الید عن هذه القاعدة إذا لم یکن احتمال التکلیف بیانا فهو إذاً فی مقام بیان الصغری لا فی مقام بیان الاستدلال بهذه القاعدة. وإلا فالقاعدة من القضایا الواضحة الفطریة وثبوتها بالذات فلا تحتاج إلی أی دلیل.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

إلی هنا قد وصلنا إلی أن قاعدة قبح العقاب بلا بیان من القضایا الأولیة الفطریة وثبوتها لا یحتاج إلی دلیل بل هی ثابتة بنفسها ولکن لا بد من إثبات موضوعها فی الخارج فإن احتمال التکلیف إذا کان بیانا ومحرکا للمکلف ومنجزا للواقع فلا تجری هذه القاعدة وتنتفی بانتفاء موضوعها واما إذا قلنا إن احتمال التکلیف لیس بیانا لا عقلا ولا شرعا ولا عند العقلاء فعندئذ تطبیق قاعدة قبح العقاب بلا بیان ضروری وقهری فهی تنطبق علی صغراها وانطباق الکبری علی الصغری ضروری فلا یحتاج إلی أی مؤونة زائدة وعلی هذا فلا یبقی مجال لقاعدة حق الطاعة.

ص: 324

واما قاعدة حق الطاعة فهی متوقفة علی ان یکون احتمال التکلیف بیانا ومحرکا ومنجزا وبیّنا للمکلف فإذا کان احتمال التکلیف دلیلا فالمرجع قاعدة حق الطاعة وحق العبودیة لا قاعدة قبح العقاب بلا بیان وهذا ما یحتاج إلی إثبات أی إثبات ان احتمال التکلیف بیان أو لیس ببیان حجة او لیس بحجة.

بقی علینا ان نذکر مستند الفرق بین القاعدتین ویمکن ان یکون مستندا الی احدی النکات الاتیة:

النکتة الاولی: أن السیرة العقلائیة بین الموالی والعبید فی موارد الشک فی التکلیف أی الشک فی أمر الموالی الی العبید واحتماله قد جرت علی التمسک بقاعدة قبح العقاب بلا بیان وان أمر المولی إلی العبد إنما یکون نافذا إذا کان وصوله إلیه بالعلم الوجدانی أو بالعلم التعبدی ومع عدم وصوله إلیه کذلک بل کان مجرد احتمال وشک فی الواقع فهو لا یصلح أن یکون بیانا لأن الاحتمال عند العقلاء لا یصلح أن یکون بیانا ومحرکا ومنجزا للتکلیف فی الواقع ولهذا یتمسک العقلاء بقاعدة قبح العقاب بلا بیان عند احتمال التکلیف.

ولعل المحقق النائینی قد اعتمد علی هذه السیرة فیما ذکره من التمسک بقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ودعوی اختصاص هذه السیرة بالموالی العرفیة والجعلیة وعدم عمومها الموالی الذاتیة صحیحة ولکن المحقق النائینی لم یفرق بین ان تکون مولویة المولی ذاتیة وبین أن تکون جعلیة فعلی کلا التقدیرین یرجع إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی موارد الشک والاحتمال بلا فرق بین أن یکون احتمال التکلیف من المولی الذاتی أو من المولی الجعلی فلا یفرق بینهما.

فکل من یدعی أن المورد من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بیان لا بد من إثبات ان احتمال التکلیف لا یصلح أن یکون بیانا ومن یدعی أن المورد من موارد قاعدة حق الطاعة والعبودیة لا بد من إثبات أن احتمال التکلیف بیان ومنجز ومحرک.

ص: 325

هذه نکتة الفرق بین المولویة الذاتیة والمولویة الجعلیة.

النکتة الثانیة: أن مولویة المولی إذا کانت ذاتیة فلا حدود لها فهی مطلقة تکوینا وتشریعا أی کما انها ثابتة فی موارد العلم بالتکلیف سواء کان العلم وجدانیا او تعبدیا فکذلک هی ثابتة فی موارد الشک فی التکلیف بل هی کذلک حتی فی موارد کون التکلیف موهوما لأن هذا مقتضی عدم محدودیتها.

وأما المولویة الجعلیة فقد تقدم انها تتبع فی السعة والضیق الجعل وعلی هذا فنحن نعلم بجعل المولویة فی موارد العلم بالتکلیف الوجدانی او التعبدی ولا نعلم بجعل المولویة فی موارد الشک فی التکلیف وموارد احتماله فالقدر المتیقن هو موارد العلم بجعل المولویة وهی موارد العلم بالتکلیف وجدانا او تعبدا ولا نعلم بجعلها فی موارد احتمال التکلیف والشک فیه فضلا عن کونه موهوما. هذا هو الفرق بین المولویة الذاتیة والمولیة الجعلیة.

والجواب عن ذلک: أنا ذکرنا غیر مرة أن أخذ العلم بالحکم فی مرتبة الجعل فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول ممکن ثبوتا ولا محذور فیه کمحذور الدور وتوقف الشیء علی نفسه فهذا المحذور غیر لازم وفی المقام إذا کانت مولویة المولی المجعولة مختصة بصورة العلم بالأحکام الشرعیة وجدانا او تعبدا فلازم ذلک أن العلم بالمولویة قد أخذ فی مرتبة الجعل فی موضوعها فی مرتبة المجعول وهذا لا محذور فیه ثبوتا فلا یلزم الدور لأن العلم یتوقف علی الجعل والجعل لا یتوقف علی العلم بل المجعول یتوقف علی العلم فإذاً لا دور فی البین ولا یلزم توقف الشیء علی نفسه.

فإذاً أخذ المولیة الجعلیة فی مرتبة الجعل فی موضوع نفسها فی مرتبة المجعول ممکن ثبوتا ولکن بحاجة إلی دلیل فی مقام الإثبات فهل الدلیل یدل علی ذلک فی مقام الإثبات او لا؟

ص: 326

الجواب علی ذلک: أن أدلة ولایة النبی الأکرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) مطلقة ومقتضی إطلاقها أن جعل الولایة لهم لا یختص بصورة العلم بها بل یعم صورة الشک والاحتمال أیضا فولایتهم کما انها ثابتة فی موارد العلم بالتکلیف فکذلک ثابتة فی موارد الشک والاحتمال أیضا وعلی هذا فلا فرق بین المولویة الذاتیة والمولویة الجعلیة من هذه الجهة فکما ان المولیة الذاتیة ثابتة فی موارد الشک والاحتمال فکذلک المولویة الجعلیة ثابتة فی هذه الموارد. فإذا کانت الأدلة مطلقة فی مقام الإثبات فهی تکشف عن الإطلاق فی مقام الثبوت وان الولایة مجعولة لهم مطلقا لا مقیدة بصورة العلم بها لأن الإطلاق فی مقام الإثبات کاشف عن الإطلاق فی مقام الثبوت.

والعمدة إثبات أن احتمال التکلیف محرک للمکلف وبیان له أولا؟ فإن أثبتنا انه بیان ولو کان فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص لأن احتماله مساوق لاحتمال العقوبة فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان واما إذا قلنا أنه لا یصلح أن یکون بیانا فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص فالمورد مورد لقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

النکتة الثالثة: أن المولویة إذا کانت ذاتیة فهی أقوی وأشد من المولویة الجعلیة لأنها کما قلنا مطلقة فی التکوینیات والتشریعیات واما المولویة الجعلیة فهی خاصة فی التشریعیات لا فی التکوینیات فمولویة الباری تعالی ثابتة فی التکوینیات والتشریعیات بنحو الإطلاق واما مولویة النبی الأکرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) فهی ثابتة فی التشریعیات فقط، وعلی هذا تکون المولویة الذاتیة أشد وأقوی بمراتب من المولویة الجعلیة، فإذا کان احتمال التکلیف مستندا إلی المولویة الذاتیة فالمرجع فیه قاعدة حق الطاعة دون قاعدة قبح العقاب بلا بیان واما إذا کان احتمال التکلیف مستندا إلی المولویة الجعلیة فالمرجع فیه قاعدة قبح العقاب بلا بیان فلا بد من هذا التفصیل.

ص: 327

والجواب عن ذلک: أنه لا شبهة فی أن مولویة الباری تعالی أقوی من مولویة غیره فإن له الولایة المطلقة علی جمیع التکوینیات والتشریعیات واما ولایة النبی الأکرم(ص) والأئمة الأطهار(ع) فهی مختصة بالتشریعیات فقط. وهذا لا کلام فیه. وإنما الکلام فی الحکم الصادر من المولی الذاتی من جهة مولویته التشریعیة لا من جهة مولویته التکوینیة والمفروض ان الحکم الصادر من النبی الأکرم(ص) أنه صادر منه بمولویته التشریعیة فإذا کان هذا الحکم حکم مولوی فإن وصل علی المکلف بالعلم الوجدانی او التعبدی فلا مناص من تطبیق قاعدة حق الطاعة والعبودیة واما إذا لم یصل بالعلم الوجدانی او بالعلم التعبدی بل کان مجرد احتمال وشک فعندئذ لا بد من إثبات ان احتمال التکلیف بیان أو لیس ببیان فإن أثبتتنا انه بیان فلا بد من الرجوع إلی قاعدة حق الطاعة والعبودیة وان أثبتنا انه لیس ببیان فالمرجع فیه قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

هذا ملخص ما ذکرناه فی بیان الوجه الذی أفاده المحقق النائینی(قده) وقد فصلنا الحدیث عنه کثیرا.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

الوجه الثانی: ما ذکره المحقق الأصفهانی (1) (قده) وحاصله: ان قضیة حسن العدل وقبح الظلم من القضایا الأولیة الفطریة ومن مدرکات العقل العملی الأولی وجمیع قضایا التحسین والتقبیح ترجع الی هاتین القضیتین بقاعدة ان کل ما بالغیر لا بد أن ینتهی إلی ما بالذات وإلا لزم التسلسل فهاتان القضیتان هما الأساس لحکم العقل العملی فضرب الیتیم للتأدیب حسن لأنه عدل وضربه للإیذاء او لامتحان العصا قبیح لأنه ظلم.

وعلی هذا فإن قامت حجة علی وجوب شیء أو حرمة شیء آخر فلا شبهة فی أن مخالفته خروج عن طریق العبودیة وتفویت لحق الطاعة الذاتی للمولی وأنه ظلم بل هو من اظهر أفراد الظلم وتفویت شکر أنعام الخالق من أظهر أفراد مصادیق الظلم فإذا قامت الحجة علی وجوب شیء او حرمة شیء أخر یکون الوجوب او الحرمة واصل الی المکلف بوصول تعبدی ومخالفته خروج عن طریق العبودیة وتفویت لحق الطاعة وتعد علی المولی وهتاک لحرمته وهو من أظهر مصادیق الظلم واما إذا لم تقم حجة علی وجوب شیء أو حرمة شیء آخر ولم یکن إلا مجرد احتمال التکلیف فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص فقد ذکر(قده) انه لا أثر لهذا الاحتمال ولا تکون مخالفته خروج عن طریق العبودیة وتفویت لحق الطاعة وتعد علی المولی لأنه لیس مخالفة للمولی باعتبار أن الواقع غیر منجز ولم تقم حجة علیه لمکان احتمال التکلیف والشک فیه والاحتمال لا أثر له ومخالفته لا تعد مخالفة للمولی حتی تکون خروجا عن زی العبودیة وتفویتا لحق الطاعة وتعد علی المولی.

ص: 328


1- نهایة الدرایة فی شرح الکفایة، المحقق الاصفهانی، ج4، ص84

فترک الإطاعة والامتثال للحکم المحتمل والمشکوک لیس فیه استحقاق العقوبة بل العقاب علی مخالفته عقاب بلا بیان وبلا حجة فمخالفة الأحکام التی یکون وصولها الی المکلف محتملا ومشکوکا لیست مخالفة للمولی بل هی من صغریات قاعدة قبح العقاب بلا بیان والعقاب علیها عقاب بلا بیان وهو قبیح.

هذا ما ذکره المحقق الأصفهانی من الفرق بین ما قامت الحجة فیه علی التکلیف من الوجوب او التحریم وما لم تقم الحجة علیه.

وقد علق علیه بعض المحققین (1) (قده) علی ما فی تقریر بحثه بان قضیة قبح الظلم وقضیة حسن العدل لیستا من القضایا الأولیة فلیست هی من مدرکات العقل العملی الأولیة بل هی من مدرکات العقل العملی الثانویة.

وقد أفاد فی وجه ذلک: ان معنی الظلم هو سلب ذی الحق عن حقه ومعنی العدل وضع الحق فی موضوعه فالمنع عن وصول الحق إلیه ظلم واما إیصال ذی الحق الی حقه فهو عدل وعلی هذا فلا بد من إثبات حق للغیر فی المرتبة السابقة لکی یکون تفویته ظلم، وهذا من مدرکات العقل العملی، فقضیة قبح الظلم تتوقف علی ثبوت هذه القضیة وهی إثبات حق للغیر فی المرتبة السابقة وهذا یعنی انها لیست من القضایا الأولیة فإذا أثبتنا ان للغیر حق فی المرتبة السابقة فیکون تفویته ظلما.

وعلی هذا فمصب البحث ومحل النزاع إنما هو فی أن حق الطاعة هل هو ثابت فی حالات الشک فی التکلیف واحتماله وعدم العلم بوصوله إلیه او الثابت فی هذه الحالة قاعدة قبح العقاب بلا بیان وان قاعدة حق الطاعة لم تثبت فیها فإن ثبتت قاعدة حق الطاعة فی هذه الحالات فمخالفة التکلیف المحتمل تفویت لحق الطاعة فیکون ظلم وتعد علی المولی وخروج عن طریق العبودیة وإن لم تثبت قاعدة حق الطاعة فی حالة الشک فی التکلیف فلا ظلم لأن الظلم ینتفی بانتفاء موضوعه.

ص: 329


1- بحوث فی علم الاصول، تقریر بحث السید الصدر للسید الشاهرودی، ج5، ص27

وعلی هذا فیکون محل النزاع فی ان حق الطاعة ثابت فی هذه الحالة او انه غیر ثابت؟ ولا یصح أن یجعل مصب النزاع ومحل البحث فی ان ترک الطاعة فی هذه الحالات ظلم او لیس بظلم لأن ترک الطاعة ظلم إذا ثبت حق الطاعة فیها واما إذا لم یثبت حق الطاعة فیها فترک حق الطاعة فیها لیس بظلم فلا یصح ان یکون ذلک مصب النزاع لأنه أعم من محل النزاع.

وعلی هذا فإن أراد(قده) من الحجة ما یصحح العقاب فیرد علیه:

أولا: فالقضیة حینئذ تکون بشرط المحمول لأن معنی القضیة حینئذ أنه إذا قام ما یصحح العقاب یصح العقاب علیه وهذه قضیة بشرط المحمول وهو غیر صحیح لأن المحمول لغوا.

وثانیا: أن موضع النزاع لیس فی أن ما یراد من الحجة ما یصحح العقاب فإنه علی هذا تکون القضیة بشرط المحمول وهو غیر صحیح وإن أراد من الحجة العلم التعبدی فهو أول الکلام وبحاجة إلی الإثبات.

هذا ملخص ما أفاده بعض المحققین من الإشکال علی المحقق الأصفهانی(قده).

وما ذکره یرجع إلی أمرین:

الأمر الأول: أن قضیة حسن العدل قبح الظلم لیستا من القضایا الأولیة بل هی فی طول القضیة الأخری التی تکون مدرکة بالعقل العملی وهی ثبوت حق للغیر فی المرتبة السابقة حتی یکون تفویته ظلما.

الأمر الثانی: أن المراد من الحجة ما یصحح العقاب.

أما الأمر الأول: فهو ان قضیة حسن العدل وقبح الظلم فی طول قضیة أخری وهی ثبوت حق للغیر فالظاهر ان الأمر لیس کذلک فإن ثبوت هذه القضیة بمثابة احراز موضوع قضیة حسن العدل وقبح الظلم فإنه لا بد لإحراز موضوع قضیة قبح الظلم من احراز ان العمل الفلانی ظلم فی المرتبة السابقة حتی یحکم بقحه فإذاً إثبات حق للغیر فی المرتبة السابقة هو عبارة عن إحراز الموضوع لقضیة قبح الظلم فإذا أحرزنا أن هناک حق للغیر فی المرتبة السابقة فإن تفویته ظلم وبإحرازنا الظلم نکون قد حققنا موضوع قضیة قبح الظلم فیکون الحکم ثابت له وهو القبح وهذا لیس عبارة عن قضیة مستقلة غیر قضیة قبح الظلم فلیس هنا قضیتان مستقلتان موضوعا ومحمولا بل القضیة الثانیة محققة لموضوع القضیة الأولی فهی إذاً لیست قضیة مستقلة فی عرض قضیة قبح الظلم، ومن الواضح ان أی قضیة متوقفة علی إحراز موضوعها فی الخارج فطالما لم یحرز موضوعها فلا یمکن ترتیب الحکم علیه فثبوت الحکم فی أی قضیة یتوقف علی ثبوت موضوع هذه القضیة وما نحن فیه کذلک، فقبح الظلم وحسن العدل یتوقف علی ثبوت موضوعه فی الخارج وهو ثبوت حق للغیر فی المرتبة السابقة ومع إحراز ذلک یکون موضوع قبح الظلم متحققا وعندئذ یحکم بقبح الظلم.

ص: 330

وعلی هذا تکون قضیة حسن العدل وقبح الظلم من القضایا الأولیة الفطریة وجمیع القضایا ترجع إلیها بقاعدة أن کل ما بالغیر ینتهی إلی ما بالذات.

وأما انکار الأشاعرة لقضیة التحسین والتقبیح العقلیین فهو مکابرة وجزاف ولطالما کابروا فی کثیر من الأخطاء المخالفة للوجدان والضرورة:

فمنها: انهم یقولون بقدم القرآن حتی جلده قدیم وهو مخالف للضرورة والوجدان فکیف یمکن القول بذلک.

ومنها: انهم یقولون بالجبر وان الأفعال الصادرة من العبید صادرة بغیر إرادتهم وهم فی ذلک بمثابة الآلة فلا اختیار ولا إرادة لهم ولعلهم إنما انکروا التحسین والتقبیح العقلیین من هذه الجهة، لأن المتصف بالحسن والقبح هو الفعل الاختیاری واما الفعل الصادر عن غیر اختیار فلا یتصف بالحسن والقبح وبما ان الأفعال الصادرة من الناس أفعال غیر اختیاریة وغیر إرادیة فمن أجل ذلک لا تتصف بالحسن والقبح.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

إلی هنا قد تبین أن ما ذکره بعض المحققین من النقض علی ما ذکره المحقق الأصفهانی مردود وکان ذکرنا لهذه الأمور بنحو الإجمال، وأما تفصیل ما فی هذه الأمور من المناقشة فهو کالتالی:

الأمر الأول: ذکر(قده) أن محل النزاع فی حالات احتمال التکلیف والشک فیه هو قاعدة حق الطاعة فإن ثبت حق الطاعة فی هذه الحالات فتفویته ظلم وتعد علی المولی وإن لم یثبت حق الطاعة فیها فلا ظلم فی تفویت حق الطاعة ولیس مصب النزاع ومحله فی أن ترک الطاعة فی هذه الحالات ظلم أو لیس بظلم فإن هذا لیس محل النزاع ومصبه.

والظاهر أنه لا فرق بینهما إلا فی التعبیر واللفظ واما روحهما فواحدة فسواء کان محل النزاع فی حالات الشک فی ثبوت التکلیف واحتماله حق الطاعة أو عدم حق الطاعة أو کان محل النزاع هو ترک الطاعة فإن مآل کلیهما إلی واحد فإن ترک الطاعة ظلم إذا کان حق الطاعة ثابتا ولیس بظلم إذا لم یکن ثابتا وکذلک حق الطاعة فی هذه الحالات إن کان ثابتا فترکه ظلم وإن لم یکن ثابتا فترکه لا یعد ظلما، فلا فرق بینهما فی اللب والواقع وإنما الاختلاف بینهما فی صیغة النزاع.

ص: 331

الأمر الثانی: ما ذکره(قده) من أن مراد المحقق الأصفهانی من الحجة إن کان المنجزیة والمعذریة فتکون الحجة بمعنی مصححة العقاب لأن الحجة منجزة للوجوب فهی مصححة للعقاب علی مخالفته وذکر(قده) ان الإشکال علی ذلک هو أن لازم کون الحجة بمعنی المنجزیة والمعذریة وما یصحح العقاب أن تکون القضیة ضروریة بشرط المحمول لأن معناه حینئذ انه إذا قام ما یصحح العقاب یصح عقابه وهی قضیة ضروریة بشرط المحمول.

والظاهر ان هذا الإشکال أیضا غیر وارد فإن مراد المحقق الأصفهانی(قده) من الحجة هی المنجزة للوجوب فیصح العقاب علی مخالفته واما ان الحجة ما یصحح العقاب فهو أمر انتزاعی لا واقع موضوعی له فی الخارج وما هو فی الخارج هو الحجة والمنجزیة والمعذریة للوجوب ومنجزیة الوجوب أو الحرمة موجبة لصحة العقاب علی المخالفة فما یصحح العقاب امر انتزاعی لا واقع موضوعی له فی الخارج فهذا الإشکال أیضا غیر وارد.

الأمر الثالث: ذکر(قده) أن ما ذکره المحقق الأصفهانی من عدم صلوح احتمال التکلیف لأن یکون بیانا ومحرکا ورتب علیه جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان دون قاعدة حق الطاعة هو مصادرة علی المطلوب لأنه جعل المدعی عین الدلیل والدلیل عین المدعی فإن المدعی هو ان احتمال التکلیف لا یصلح أن یکون بیانا ومحرکا ورتب علیه جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان ولکن علل جریان القاعدة بأن احتمال التکلیف لا یصلح أن یکون بیانا فجعل المدعی عین الدلیل.

وهذا الإشکال أیضا غیر وارد لأن المراد من عدم صلاحیة احتمال التکلیف لأن یکون بیانا ومحرکا هو احراز موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان إذ موضوعها هو عدم صلاحیة احتمال التکلیف لأن یکون بیانا وحجة ویترتب علیه ان موضوع القاعدة محقق وحینذاک یکون انطباق القاعدة علی موضوعها امر قهری فلا یحتاج إلی دلیل وعلة حتی یقال ان الدلیل عین المدعی فلا موضوع للمصادرة فی المقام.

ص: 332

الأمر الرابع: ان ما ذکره(قده) من أن قضیة قبح الظلم وحسن العدل قضیة ثانویة بحکم العقل العملی وهی فی طول قضیة أخری فی المرتبة السابقة وهی ثبوت الحق للغیر فی المرتبة السابقة بحکم العقل العملی وعلیه فلا تکون قضیة حسن العدل وقبح الظلم من القضایا الفطریة الأولیة کما ذکرها المحقق الأصفهانی.

وهذا الإشکال أیضا غیر وارد لأن لکل قضیة حقیقیة مرتبتین: مرتبة الإنشاء والجعل ومرتبة الفعلیة، ومرتبة الإنشاء یجعل فیها الحکم للموضوع المقدر وجوده فی الخارج سواء کان موجودا ام لم یکن موجودا فالشارع جعل وجوب الحج عل المستطیع وإن لم یکن المستطیع موجودا فی الخارج فالجعل ثابت فی عالم الجعل ولکنه لا أثر له لأنه لیس بفعلی ولا یکون محرکا للمکلف وداعیا فی نفس المکلف نعم إذا صار فعلیا بفعلیة موضوعه فی الخارج کأن وجد الشخص المستطیع فی الخارج فیصیر وجوب الحج علیه فعلی ومحرک للمکلف وداعیا فی نفسه علی الإتیان به.

وما نحن فیه أیضا کذلک فإن العقل یحکم بقبح الظلم والظلم فی مرحلة الإنشاء وفی مرحلة الحکم مفروض الوجود فی الخارج أی فرض سلب ذی الحق عن حقه فی الخارج وحکم بقبحه وإن لم یکن الحق موجودا فی الخارج واما إذا صار هذا الحق فعلیا بان ثبت لشخص موجود صار القبح أیضا فعلیا لأن تفویت هذا الحق فی الخارج ظلم وهو قبیح فکما ان ثبوت هذا الحق وتفویته فعلی فکذلک قبح الظلم فعلی لأن الظلم فعلی بفعلیة موضوعه فی الخارج فإذا صار الحق فعلیا فبطبیعة الحال یکون الظلم فعلیا لأن الظلم معناه سلب هذا الحق عن صاحبه وبما ان هذا الحق ثابت فیکون تفویته ظلم.

وما ذکره(قده) من أن الحاکم بثبوت حق للغیر فی المرتبة السابقة إنما هو بحکم العقل العملی فالأمر لیس کذلک؛ فإن ثبوت الحق تابع لأسبابه ولا صلة له بحکم العقل العملی کثبوت الملک لأحدٍ فإن ثبوت الملک للمالک تابع لأسبابه ولا صلة له بحکم العقل العملی فالعقل لا یحکم بثبوت حق لزید او عدم ثبوته له فإن ثبوت الحق لزید یتبع أسبابه ولیس بحکم العقل وعلیه لا یمکن المساعدة علی ما ذکره من ان ثبوت هذا الحق بحکم العقل العملی.

ص: 333

فالنتیجة: ان قضیة قبح الظلم وقضیة حسن العدل من القضایا الأولیة الفطریة بحکم العقل العملی وجمیع القضایا ترجع إلیه والظلم علة تامة للقبح فلا یعقل صدق الظلم علی فعل ولا یکون قبیحا وکذلک حسن العدل، بینما سائر الأشیاء لیس کذلک لأن الصدق مثلا حسن ولا شبهة فی حسنه ولکن قد یکون مبغوضا وقبیحا کما إذا ترتب علیه قتل مؤمن أو اتلاف ماله او تعدٍ علی عرضه فإن مثل هذا الصدق یکون قبیحا رغم أنه صدق والکذب فی نفسه قبیح ولکن قد یکون حسنا کما إذا کان لإنقاض مؤمن أو ماله او عرضه فإن هذا الکذب یحکم بحسنه مع أنه کذب وهذا لا یتصور فی الظلم فلا یمکن ان یقال عن فعل ما أنه ظلم ولا یکون قبیحا.

وعلی هذا فجمیع القضایا ترجع علی قضیتی التحسین والتقبیح العقلیین وما ذکره الأشعری من الإنکار مبنی علی مذهبه من ان الأفعال الصادرة من الناس لیست أفعالا اختیاریة فالإنسان کالآلة غیر الواعیة بالنسبة إلی صدور الأفعال.

واما ما ذکره بن سینا من ان حکم العقل بالحسن او القبح إنما هو ببناء العقلاء علی ذلک وان سیرة العقلاء قد جرت علی حسن العدل وقبح الظلم فیحکم العقل بحسن العدل وقبح الظلم لبناء العقلاء علی ذلک ولولا بناء العقلاء لا یحکم العقل فهو أیضا مما لا یمکن المساعدة علیه بل هو خلاف الضرورة والوجدان؛ لأنا إذا فرضنا عدم وجود عاقل علی سطح الکرة الأرضیة فالمفروض علی هذه القول ان لا یدرک العقل قبح الظلم وهو کما تری إذ إدراک قبح الظلم أمر فطری وجبلّی کان هنا بناء للعقلاء أم لم یکن.

هذا تمام کلامنا فی الوجه الثانی.

أصالة البراءة بحث الأصول

ص: 334

الموضوع: أصالة البراءة

الوجه الثالث: ما ذکره المحقق الأصفهانی (1) (قده) وحاصل هذا الوجه أن التکلیف علی نوعین:

النوع الأول: التکلیف الإنشائی وهو التکلیف فی مرحلة الجعل والاعتبار فإن المولی یجعل التکلیف للموضوع المقدر وجوده فی الخارج سواء کان الموضوع موجودا فی الخارج او لم یکن موجودا کما إذا جعل وجوب الحج علی المستطیع وإن لم یکن المستطیع موجودا فی الخارج فالحکم فی مرحلة الجعل والإنشاء موجود ولکن لا أثر له ولا یکون محرکا للمکلف ولا داعیا له للإتیان بالمأمور به فإنْ لم یکن الشخص مستطیعا فی الخارج فلا أثر لوجوب الحج المجعول علی المستطیع فی عالم الاعتبار والجعل ولا یکون وجوده فی هذا العالم محرکا وداعیا فی نفس المکلف.

النوع الثانی: التکلیف الحقیقی ویقصد به التکلیف الفعلی وفعلیة التکلیف إنما هی بفعلیة موضوعه فی الخارج فإذا تحقق موضوعه فی الخارج تحقق الحکم وصار فعلیا فزید اذا صار مستطیعا صار وجوب الحج علیه فعلیا وإذا دخل علی المکلف الوقت صار وجوب الصلاة علیه فعلیا وکذا إذا بلغ فإن فعلیة التکلیف إنما هی بفعلیة موضوعه فی الخارج وإذا علم بهذا الحکم صار الحکم منجزا أی موجبا لاستحقاق العقوبة علی مخالفته والمثوبة علی موافقته ومن هنا ذکر(قده) أن التکلیف الحقیقی متقوم بالوصول بنحو من انحاء الوصول سواء کان وصوله بالوجدان أو بالتعبد وهو محرک للمکلف وداعیا فی نفس المکلف إلی الطاعة والعبودیة فمورد الطاعة والعبودیة هو التکلیف الواصل.

فإذاً فرق بین عدم العقاب وعدم التکلیف الحقیقی فإن عدم العقاب حینئذ سالبة بانتفاء الموضوع لأنه لا تکلیف حتی یعاقب علی مخالفته والتکلیف فی مرحلة الجعل لا أثر له فوجوده وعدمه سیان وأما عدم العقاب من جهة عدم وصول التکلیف بالعلم الوجدانی او بالعلم التعبدی فهو الموضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بیان فإذا لم یقم بیان لا وجدانا ولا تعبدا فالمرجع هو هذه القاعدة.

ص: 335


1- نهایة الدرایة، المحقق الاصفهانی، ج4، ص85.

فالنتیجة أن ما ذکره المحقق الأصفهانی أن التکلیف الواصل الی المکلف بالعلم الوجدانی او بالعلم التعبدی هو المحرک للمکلف واما التکلیف الواصل بالاحتمال فهو غیر محرک وغیر منجز والمرجع فیه قاعدة قبح العقاب بلا بیان لا قاعدة حق الطاعة.

وقد اشکل علیه بعض المحققین (1) (قده) ان التکلیف الحقیقی وإن کان متقوما بنحو من انحاء الوصول ولکن لا ینحصر الوصول بالعلم الوجدانی او بالعلم التعبدی بناء علی سعة دائرة حق الطاعة بل الوصول بجمیع انحائه مقوم للتکلیف الحقیقی وإن کان الوصول بالاحتمال فهو أیضا محرک للمکلف والمرجع فیه حینئذ قاعدة حق الطاعة والعبودیة.

نعم بناء علی ما ذکره المحقق الأصفهانی من ضیق دائرة حق الطاعة والعبودیة فالوصول الاحتمالی لا یکون محرکا ولا یکون منجزا إلا انه قد اشکل علیه انه مصادرة علی المطلوب فإنه علل جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان بان الوصول الاحتمالی للتکلیف لا یکون بیانا ومحرکا ومنجزا وجعل نفس هذا مدعاه فیکون المدعی عین الدلیل ولکن تقدم الجواب عن ذلک وقلنا عن المحقق الأصفهانی لیس فی مقام الاستدلال علی تطبیق قاعدة قبح العقاب بلا بیان بل هو فی مقام بیان تحقق موضوع القاعدة وأن موضوعها قد تحقق فی المقام ومع تحقق موضوعها فی المقام فانطباقها علی موضوعها قهری ولا یحتاج معه إلی دلیل کی یلزم ان یکون المدعی عین الدلیل.

وهنا مسألتان لا بأس بالإشارة إلیهما:

المسألة الأولی: انه یظهر من کلام المحقق الأصفهانی(قده) وکذلک من کلام بعض المحققین(قده) من ان الحکم الحقیقی متقوم بالوصول یظهر من هذا التعبیر أنهم یرون ان للحکم مراتب ثلاث:

المرتبة الأولی: مرتبة الإنشاء ومرتبة الجعل.

ص: 336


1- بحوث فی علم الاصول، تقریر بحث السید الصدر للسید الشاهرودی، ج5، ص28.

المرتبة الثانیة: مرتبة الفعلیة وهی فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه.

ولکن ذکرنا غیر مرة ان المراد من فعلیة الحکم فعلیة محرکیته وفعلیة داعویته لا فعلیة نفسه إذ یستحیل ان یوجد الحکم فی الخارج وإلا لکان من الموجودات الخارجیة مع أنه من الأمور الاعتباریة التی لا وجود لها فی الخارج وإنما هو موجود فی عالم الاعتبار والذهن فقط ویستحیل ان یوجد فی الخارج وإلا کان خلف فرض انه أمر اعتباری. فالمراد من فعلیة الحکم فعلیة فاعلیته فإنه إذا دخل الوقت یکون وجوب الصلاة فعلی أی ان فاعلیته ومحرکیته للمکلف صارت فعلیة وقبل دخول الوقت لا یکون محرکا وداعیا.

والمرتبة الثالثة: مرتبة التنجز وهی التی یکون التکلیف الفعلی فیها واصلا الی المکلف بالعلم ومعه یکون الحکم منجزا علی المکلف فیوجب استحقاق العقوبة علی مخالفته والمثوبة علی موافقته وهذا بخلاف فعلیة الحکم فإنها لا تتقوم بالوصول الی المکلف وإنما تتقوم بفعلیة موضوع التکلیف فی الخارج علم به المکلف أو لم یعلم ولکن تنجز الحکم الفعلی متقوم بالوصول فإذا علم بالحکم الفعلی وجدانا او تعبدا فهو منجز. وهل الوصول الاحتمالی منجز ایضا او لا یکون منجزا؟ فیه کلام.

ولکن قلنا غیر مرة ان للحکم مرتبة واحدة وهی مرتبة الجعل فإن الجعل سعة وضیقا هو الأمر الذی یکون بید الشارع اما فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فهی أمر قهری خارج عن اختیار الشارع فإن فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فی الخارج کفعلیة المعلول بفعلیة علته فهو امر قهری خارج عن الإرادة والاختیار فلا یمکن ان یکون فعلیة الحکم من مراتب الحکم وکذلک الأمر فی مرتبة تنجزه فإن التنجز إنما هو بحکم العقل فإذا وصل الحکم إلی المکلف بالعلم الوجدانی او بالعلم التعبدی فهو منجز بحکم العقل العملی فالتنجز إنما هو بحکم العقل ولا صلة له بالشارع والذی هو بید الشارع هو جعل الحکم وإنشائه وعلیه فالصحیح ان للحکم مرتبة واحدة لا أربع مراتب کما ذکره المحقق الخراسانی ولا ثلاث مراتب ولا مرتبتین بل مرتبة واحدة.

ص: 337

المسألة الثانیة: تقدم أن الوصول الاحتمالی لا یکون حجة ولا یکون بیانا ومحرکا ومنجزا لا شرعا کما هو واضح فإن الأدلة قائمة علی حجیة أخبار الثقة وحجیة الظواهر ولا دلیل علی حجیة احتمال التکلیف فلا دلیل علی ان الوصول الاحتمالی حجة علی المکلف ولا عقلا ولا عقلاءً اذ العقلاء لا یحکمون بذلک ایضا فإنهم فی موارد الشک فی التکلیف واحتمال ثوبته یتمسکون بقاعدة قبح العقاب بلا بیان لا بقاعدة حق الطاعة.

فالصحیح: ان الوصول الاحتمالی لا یصلح ان یکون بیانا وعلیه یکون المرجع قاعدة قبح العقاب بلا بیان التی هی قاعدة مرتکزة فی أذهان الناس وثابتة فی أعماق نفوسهم وموافقة للفطرة والجبلة لأنها من القضایا الأولیة الفطریة.

قد یقال کما قیل: انا لو سلمنا ان الوصول الاحتمالی للتکلیف لا یکون منجزا للتکلیف ومحرکا له إلا أنه لا مانع من أن یکون محرکا ومنجزا لملاکه فی مرحلة المبادئ لأن حقیقة الحکم وروحه هو ملاکه وملاک الحکم عبارة عن المصلحة والمفسدة والحب والبغض والإرادة والکراهة وهی من الأمور التکوینیة المحفوظة فی جمیع حالات وصول التکلیف وعلی هذا فالوصول الاحتمالی یکون محرکا ومنجزا لمبادئ الحکم وملاکه التی هی حقیقة الحکم وروحه.

ولکن الجواب عن ذلک واضح: فإنه لا طریق لنا إلی ملاکات الأحکام إلا من طریق نفس الأحکام فإذا حکم الشارع بوجوب شیء فوجوبه طریق إلی أن هذا الشیء مشتمل علی الملاک التی هی المصلحة الملزمة ومع قطع النظر عن الوجوب لا یکون لنا طریق إلی معرفة اشتمال الفعل علی المصلحة.

وعلی هذا لا یعقل ان یکون الوصول الاحتمالی منجزا لملاک الحکم ومبادئه دون نفس الحکم لأن وصول المبادئ إنما هو بوصول الحکم وتنجزها إنما هی بتنجز الحکم ولا یمکن ان تکون مبادئ الحکم منجزة بدون تنجز الحکم.

ص: 338

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

إلی هنا قد وصلنا إلی هذه النتیجة وهی أن فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص وعدم وجدان الدلیل علی الحکم الشرعی فیها المرجع فیها قاعدة قبح العقاب بلا بیان لأن موضوع هذه القاعدة متحقق وهو عدم وجدان الدلیل وعدم وجدان البیان.

ودعوی ان احتمال التکلیف فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص مساوق لاحتمال العقاب وحینئذ یکون بیانا وکافیا فی المنع عن جریان هذه القاعدة فیکون المورد من موارد قاعدة حق الطاعة.

هذه الدعوی وإن کانت صحیحة من جهة ان احتمال التکلیف مساوق لاحتمال العقاب إلا أن هذا الاحتمال إذا کان فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص فهو مشروط بعدم وجود أصل مؤمن فیها ومع وجود الأصل المؤمن لا یکون احتمال التکلیف مساوقا لاحتمال العقاب والمفروض أن قاعدة قبح العقاب بلا بیان مؤمنة من العقاب فلا یمکن العقاب مع جریان هذه القاعدة فمن أجل ذلک لا یکون احتمال التکلیف مساوقا لاحتمال العقاب فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص لجریان الأصل المؤمن فیها وهو قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

وذکرنا أن الأظهر هو جریان هذه القاعدة فإن الأصل الأولی بحکم العقل العملی فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان لا قاعدة الاشتغال وحق الطاعة وذلک لأن الاحتمال لا یکون بیانا شرعا لأن الشارع لم یجعل احتمال التکلیف حجة فالشارع جعل أخبار الثقة حجة وظواهر الالفاظ ونحوهما حجة وأما احتمال الوجوب او الحرمة فلا دلیل علی ان الشارع جعله حجة فلا یکون الاحتمال بیانا شرعا ولا بیانا بحکم العقل العملی فإن العقل العملی لا یحکم بانه بیان ومحرک ومنجز للتکلیف، کما انه لیس ببیان عقلائی، فمن أجل ذلک کله یکون المرجع هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان. هذا من ناحیة.

ص: 339

ومن ناحیة أخری أن الإنشاء علی قسمین:

القسم الأول: ما یکون الغرض منه یترتب علی نفس الإنشاء فإذا تحقق الإنشاء ترتب علیه غرضه وانتهی مفعوله کالأوامر الصادرة من المولی امتحانا فإن هذه الأوامر الغرض منها وهو الامتحان مترتب علی إنشائها ولا یترتب علی المنشأ وإذا ترتب علیه الغرض انتهی مفعوله فلا حکم بعد ذلک، ولا کلام فی ذلک فإن هذا الإنشاء أثره الامتحان فقط.

القسم الثانی: إنشاء الأحکام الشرعیة وهو جعل الأحکام الشرعیة من الوجوبات والتحریمات وغیرهما ومن الواضح ان الأحکام الشرعیة مجعولة بنحو القضایا الحقیقیة للموضوعات المقدر وجودها فی الخارج سواء کانت موجودة فیه ام لم تکن موجودة فیه مثلا المولی جعل وجوب الحج علی المستطیع فقد فرض وجود المستطیع فی الخارج وجعل وجوب الحج علیه وإن لم یکن المستطیع موجودا فی الخارج ولکن وجوب الحج موجود فی مرحلة الجعل حقیقة وکذلک الشارع جعل وجوب الصلاة للمکلف البالغ العاقل القادر الداخل علیه الوقت وفرض وجوده فی الخارج بنحو القضیة الحقیقیة سواء کان البالغ والعاقل موجودا فی الخارج أم لا ولکن وجوب الصلاة موجودا حقیقة فی مرحلة الجعل.

وعلی هذا فإن کانت موضوعات الأحکام الشرعیة الأمور التکوینیة الموجودة فی الخارج کالبلوغ والعقل والقدرة والوقت والاستطاعة وما شاکل ذلک فلا محالة تکون فعلیة هذه الأحکام بفعلیة موضوعاتها فی الخارج فإذا تحقق موضوعها فی الخارج تحقق الحکم وصار فعلیا.

وذکرنا غیر مرة ان المراد من فعلیة الحکم فعلیة فاعلیته لا فعلیة وجوده إذ یستحیل أن یکون الحکم موجودا فی الخارج بوجود موضوعه وإلا لزم أن یکون الحکم أمرا خارجیا وهو مستحیل لأنه امر اعتباری وهو لا وجود له إلا فی عالم الاعتبار بل المراد من فعلیة الحکم فعلیة فاعلیته فإذا صار المکلف مستطیعا صار وجوب الحج فاعل ومحرک وداع واما قبل أن یکون مستطیعا فلا یکون داعیا ومحرکا مع انه موجود فی عالم الجعل والتشریع . هذا هو معنی فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فی الخارج فبدخول الوقت وکینونة المکلف بالغا وعاقلا یکون وجوب الصلاة فعلیا أی فاعلیته فوجوب الصلاة یکون محرک وداع إلی الإتیان بها وفاعل ومحرک للمکلف الی الامتثال للصلاة، فالمراد من الفعلیة هو فعلیة فاعلیته.

ص: 340

واما تنجز الحکم فإنما هو بوصوله الی المکلف وجدانا او تعبدا والمراد من التنجز هو حکم العقل باستحقاق العقوبة علی مخالفته واستحقاق المثوبة علی موافقته ولیس التنجز صفة للحکم بل هو حکم العقل. واما إذا کان موضوع الحکم وصول التکلیف والعلم به بناء علی ان العلم بالحکم فی مرحلة الجعل مأخوذ فی موضوع نفسه فی مرحلة المجعول فالعلم بالحکم مأخوذ فی موضوع الحکم فعندئذ یکون الحکم منجزا وفعلیا معا بوصوله إلی المکلف فعلیا بفعلیة موضوعه وهو تحقق العلم به ومنجزا من جهة وصوله الی المکلف ومن هنا لا یکون بین التنجیز والفعلیة مباینة کما إذا کان الموضوع أمرا خارجیا فإن فعلیة الحکم تنفک عن تنجزه لأن فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فی الخارج سواء علم المکلف به أو لم یعلم وأما تنجز هذا الحکم فإنما هو بوصوله الی المکلف بالعلم الوجدانی او العلم التعبدی.

وأما إذا کان وصول الحکم فی مرتبة الجعل مأخوذ فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول وهی مرتبة الفعلیة فعندئذ فعلیة الحکم وتنجزه فی آن واحد فإذا وصل الحکم إلی المکلف وجدانا او تعبدا صار الحکم فعلیا ومنجزا معا اما کونه فعلیا فبفعلیة موضوعه فی الخارج واما کونه منجزا فبوصول الحکم الی المکلف.

وحیث إن المحقق الأصفهانی(قده) یری استحالة أخذ العلم بالحکم فی موضوع نفسه کما هو المعروف والمشهور بین الأصولیین فیکون قوله: إن الحکم الحقیقی متقوم بالوصول الی المکلف مبنی علی التسامح فإن الحکم الحقیقی هو الحکم الفعلی أی فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه فهو حکم حقیقی سواء وصل الی المکلف أو لم یصل إلیه.

فإذاً الحکم الحقیقی الذی هو عبارة عن فعلیة الحکم بفعلیة موضوعه لیس متقومة بالوصول فإن الوصول هو العلم وشأن العلم الکشف عن الواقع ولا یؤثر فی الواقع لا کما وکیفا، فلا یکون الوصول مقوما للحکم ولهذا لا بد ان یراد من الحکم الحقیقی الحکم المنجز باعتبار ان الوصول له دخل فی تنجیز الحکم ومعنی دخله فی تنجیز الحکم هو انه إذا وصل الحکم إلی المکلف حکم العقل العملی باستحقاق العقوبة علی مخالفته والمثوبة علی موافقته وهذا معنی دخل الوصول والعلم فی الحکم أی فی تنجیزه.

ص: 341

وعلی هذا یکون ما ذکره المحقق الأصفهانی من تقوم الحکم الحقیقی بالوصول مبنی علی نوع من التسامح لأن الوصول یقوّم تنجز الحکم فیکون موضوعا لحکم العقل باستحقاق العقوبة علی مخالفته واستحقاق المثوبة علی موافقته.

واما بناء علی ما هو الصحیح من انه لا مانع من أخذ الوصول بالحکم فی مرتبة الجعل فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول ولا یلزم أی محذور فی مقام الثبوت غایة الأمر انه فی مقام الإثبات بحاجة إلی دلیل یدل علی ان العلم بالحکم فی مرتبة الجعل مأخوذ فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول وهی مرتبة الفعلیة والدلیل علی ذلک مفقود فإن الأدلة العامة ظاهرة فی عدم أخذ العلم فی موضوع الحکم فی مرتبة الجعل.

فإذاً ما ذکره المحقق الأصفهانی لا یمکن المساعدة علیه.

فالصحیح أنه لا مانع من أخذ العلم بالحکم فی مرتبة الجعل فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول. ولکن فی مقام الإثبات بحاجة إلی دلیل ولا دلیل علی ذلک.

هذا من جانب ومن جانب آخر أنه علی القول بان الأصل الأولی العملی فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص هو حق الطاعة فلا بد من ان یقال أن وصول الحکم فی مرتبة الجعل مأخوذ فی موضوع نفسه فی مرتبة المجعول مطلقا سواء کان وصولا وجدانیا ام وصولا تعبدیا ام کان وصولا احتمالیا واما علی مسلک من یقول بأن الأصل الأولی العملی فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان فالمأخوذ فی موضوع الحکم هو الوصول الوجدانی والوصول التعبدی دون الوصول الاحتمالی.

هذا تمام کلامنا فی المقام الأول وهو أن الأصل الأولی فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص بحکم العقل العملی هل هو حق الطاعة وقاعدة الاشتغال أو أن الأصل الأولی فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ص: 342

و أل

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

یقع الکلام فی مقامین:

المقام الأول: فی أصالة البراءة الشرعیة.

المقام الثانی: فی أصالة الاحتیاط الشرعیة.

أما الکلام فی المقام الأول: فیقع فی جهتین:

الجهة الأولی: فی مفاد أدلة البراءة الشرعیة سعة وضیقا کما وکیفا.

الجهة الثانیة: فی نسبة أدلة أصالة البراءة الشرعیة إلی أدلة أصالة الاحتیاط الشرعیة.

أما الکلام فی الجهة الأولی: فقد استدل علی أصالة البراءة الشرعیة تارة بالکتاب وأخری بالسنة وثالثا بالإجماع ورابعا بالاستصحاب.

أما الکتاب فقد استدل بجملة من الآیات:

منها: قوله تعالی: (وَمَا کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّی نَبْعَثَ رَسُولًا) (1) بتقریب أن المراد من بعث الرسل بیان الأحکام الشرعیة وهو المقدمة الأخیرة من رسالة النبی الأکرم(ص) فإن رسالته مرکبة من إرسال الرسل وإنزال الکتب وبیان ما فی الکتب من الأحکام الشرعیة والمراد من بعث الرسل فی الآیة الکریمة هو بیان الأحکام الشرعیة من الوجوبات والتحریمات وغیرهما.

فالآیة تدل علی أن ما بُین من الأحکام الشرعیة للناس وللعباد ووصل إلیهم یعاقب علی مخالفته ولا یمکن رفع استحقاق العقوبة عنهم واما إذا لم یصل إلیهم ولم یتم الحجة علیهم فعندئذ لا عقاب فالمقصود بالآیة الکریمة هو أنه الله تعالی لا یعذبهم حتی یتم الحجة علیهم ببیان الأحکام الشرعیة بوصولها للناس بالعلم الوجدانی او بالعلم التعبدی فلا یجوز لهم مخالفتها، ومع عدم وصولها إلیهم لا بالعلم الوجدانی ولا بالعلم التعبدی بل کانت واصلة بمجرد الاحتمال فهو مشمول للآیة المبارکة لأنه لم تصل إلیهم الأحکام الشرعیة فلا عقاب علیهم فالآیة المبارکة بهذا التقریب تدل علی أصالة البراءة الشرعیة.

وقد نوقش بدلالة الآیة الکریمة بوجوه:

الوجه الأول: أن مفاد الآیة نفی العذاب عن الأمم السابقة فإن الله تعالی لم یعذبهم إلا بعد إتمام الحجة علیهم من بعث الرسل وإنزال الکتب وبیان الأحکام الشرعیة فیکون مفادها إخبار عن نفی العذاب عن الأمم السابقة قبل البیان وإتمام الحجة ولیس مفادها نفی استحقاق العقوبة فی الآخرة فهی أجنبیة عن الدلالة علی أصالة البراءة الشرعیة باعتبار أن مفاد البراءة الشرعیة نفی استحقاق العقوبة والمؤاخذة فی الآخرة والآیة لا تدل علی ذلک.

ص: 343


1- سورة الاسراء، آیة15.

والجواب عن ذلک:

أولا: أنه لا وجه لتقیید العذاب فی الآیة المبارکة بالعذاب الدنیوی فإن هذا التقیید بحاجة إلی قرینة ولا قرینة فی المقام لا فی نفس الآیة الکریمة ولا من خارجها.

ودعوی القرینة علی ذلک من نفس الآیة الکریمة وهی قوله تعالی: ( کنا ) الذی هو فعل ماض یفید الإخبار عن نفی العذاب عن الأمم السابقة قبل إتمام الحجة وبیان الأحکام الشرعیة.

مدفوعة بأن المتفاهم العرفی من الآیة الکریمة بمناسبة الحکم والموضوع الارتکازیة ان هذه الجملة تدل علی أنه لا یلیق به تعالی عذاب شخص قبل بیان الحجة علیه بل لیس من شأنه تعالی ذلک فیستحیل أن یصدر من الله تعالی عقاب علی العباد قبل إتمام الحجة علیهم ببیان الأحکام الشرعیة.

فالآیة المبارکة تدل بوضوح علی أن عقاب شخص أو أمة لا یمکن أن یصدر من الله تعالی قبل إتمام الحجة علیهم بلا فرق بین العقاب الدنیوی والعقاب الأخروی من هذه الناحیة.

هذا مضافا إلی أن الآیة الکریمة قد وردت فی سیاق الآیات المتکفلة للعذاب الآخروی:

منها: قوله تعالی: (وَکُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِی عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ یَوْمَ الْقِیَامَةِ کِتَابًا یَلْقَاهُ مَنشُورًا) (1) فإنها دالة علی العقاب الأخروی.

ومنها: قوله تعالی: (مَّنِ اهْتَدَی فَإِنَّمَا یَهْتَدی لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا یَضِلُّ عَلَیْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَی) (2)

فإن الآیة المبحوث عنها قد وردت فی سیاق هذه الآیات فقرینة السیاق تدل علی شمول هذه الآیة الکریمة للعقوبة الأخرویة أیضا ولا تختص بالعقوبة الدنیویة.

وثانیا: لو سلم ظهور الآیة فی العذاب الدنیوی ولکن بما أنه مورد الآیة الکریمة لا أنه مفادها فإن مفاد الآیة المبارکة نفی العقاب قبل إتمام الحجة وهو عام ومطلق یشمل العقاب الدنیوی والعقاب الأخروی ومن الواضح ان المورد لا یصلح أن یکون مقیدا ومخصصا لا سیما ان المتفاهم العرفی من الآیة المبارکة أنه لا یلیق بالله تعالی أن یعاقب شخصا قبل إتمام حجیته علیه ومن الواضح أنه لا فرق فیه بین العقاب الدنیوی والعقاب الأخروی. بل یمکن ان یقال أن دلالة الآیة علی نفی العقاب الأخروی أولی وآکد من نفی العقاب الدنیوی لأنه لیس من شأنه ان یعاقب عباده قبل إتمام الحجة علیهم فی الدنیا ولا فی الآخرة ولا شبهة أن العقاب الأخروی أشد بمراتب من العقاب الدنیوی فإذا لم یصدر من الله تعالی ولم یلق به العقاب الدنیوی فلا محالة لا یلیق به العقاب الأخروی قبل إتمام الحجة علیه.

ص: 344


1- سورة الاسراء، آیة 13.
2- سورة الاسراء، آیة 15.

فالنتیجة أن هذا الوجه من الإشکال لا أساس له.

الوجه الثانی: ان الآیة الکریمة ظاهرة فی نفی العذاب الفعلی ومفاد أصالة البراءة نفی استحقاق العقاب ومن الواضح انه لا ملازمة بین استحقاق العقاب وبین العقاب الفعلی إذ یمکن ان یکون الشخص مستحقا للعقاب ومع ذلک لا یعاقب فعلا لسبب من الأسباب ولمانع من الموانع. وعلیه فالآیة الکریمة لا تدل علی أصالة البراءة الشرعیة.

ولکن قد ظهر الجواب عن ذلک مما تقدم وهو أن الآیة ظاهرة علی انه لیس من شأنه تعالی ولا یلیق بمقامه عقوبة عبده قبل إتمام الحجة علیه فالآیة دالة علی نفی العقاب الدنیوی والأخروی ولا فرق بینهما ومن الواضح ان الشخص إذا کان مستحقا للعقوبة فإنه یلیق به تعالی معقابته.

فهذا الوجه أیضا لا أصل له ولا یمکن المساعدة علیه.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

الوجه الثالث: أن بعث الرسالة کنایة عن صدور البیان من الشارع فی الواقع لا عن وصوله فعلا.

ولکن هذا المعنی مما لا یمکن المساعدة علیه إذ لا یمکن حمل بعث الرسل فی الآیة علی البیان الصادر من الشارع وإن لم یکن واصلا الی المکلف لأمرین:

الأمر الأول: أنه علی هذا التفسیر لا تدل الآیة المبارکة علی أصالة البراءة الشرعیة لأن دلالة الآیة المبارکة علی البراءة الشرعیة منوطة بوصول البیان إلی المکلف إما بالعلم الوجدانی او بالعلم التعبدی فإذا وصل البیان إلی المکلف وجدانا او تعبدا فقد وصلت الیه الحجة فی الواقع وحینئذ یکون منجزا ومخالفته موجبة لاستحقاق العقوبة وأما إذا لم یصل الواقع الی المکلف بل الواصل الیه هو مجرد الاحتمال ومجرد الشک فالمکلف یکون شاکا فی الوصول ومحتملا له والاحتمال لا یکون منجزا ولا حجة والشک موضوع فی أصالة البراءة الشرعیة.

ص: 345

وعلی هذا یکون موضوع أصالة البراءة الشرعیة محقق فتجری لا محالة وتکون رافعة لاحتمال العقوبة وجدانا لأن احتمال التکلیف فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص اللازم وعدم وجدان الدلیل موجود واحتمال التکلیف مساوق لاحتمال العقوبة ولکن هذا الاحتمال مرفوع بجریان أصالة البراءة الشرعیة وجدانا ومن هنا تکون أصالة البراءة الشرعیة واردة علی قاعدة الاشتغال وحق الطاعة فإن موضوع قاعدة الاشتغال احتمال العقوبة والمفروض أن أصالة البراءة الشرعیة رافعة لهذا الاحتمال وجدانا فلهذا یکون تقدیمها علی قاعدة الاشتغال وحق الطاعة من بابا الورود لأنها رافعة لموضوعها وجدانا.

واما إذا کان بعث الرسول فی الآیة الکریمة کنایة عن صدور البیان من الشارع فی الواقع وإن لم یصل الی المکلف فعندئذ لا تدل الآیة علی أصالة البراءة الشرعیة فإن البیان إذا صدر من الشارع فی الواقع ولم یصل الی المکلف فلا أثر له ولا یکون حجة ولا یکون منجزا للواقع فلا أثر للبیان فضلا عن أن البیان لم یصدر من الشارع فی الواقع فعندئذ لا معنی لنفی العقاب قبل البیان فإن البیان فی الواقع إذا لم یصل الی المکلف لا یوجب العقوبة فضلا عن عدم البیان لهذا یکون هذا التفسیر فی نفسه مما لا معنی له وخلاف الضرورة. والمراد من الآیة الکریمة أن بعث الرسل کنایة عن البیان الواصل الی المکلف إما وجدانا او تعبدا فإذا وصل الی المکلف فهو حجة ومخالفته موجبة لاستحقاق العقوبة واما إذا لم یصل الی المکلف بل المکلف شاک فی الوصول ومحتملا له فعندئذ یتحقق موضوع أصالة البراءة فتجری لرفع احتمال العقوبة لأن احتمال التکلیف فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص وإن کان موجودا وهو مساوق لاحتمال العقوبة ولکن هذا الاحتمال مرفوع وجدانا بجریان أصالة البراءة.

ص: 346

فالصحیح فی المقام هو ان بعث الرسل کنایة عن بیان الشارع الواصل الی المکلف ویکون حجة ومنجزا للواقع.

فإذاً هذا الإشکال لا أساس له بل لا یرجع الی معنی معقول.

الوجه الرابع: ان مفاد الآیة الکریمة هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بیان ولیس مفادها أصالة البراءة الشرعیة إذ مفاد البراءة الشرعیة جعل الترخیص الظاهری فی الفعل او الترک ومفاد الآیة لیس جعل الترخیص بل مفادها نفی العقوبة بدون بیان وحجة وهو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بیان فالآیة المبارکة تؤکد هذه القاعدة وإرشاد إلیها ولا تدل علی أصالة البراءة الشرعیة.

وعلی هذا لو قلنا إن الأصل الأولی بحکم العقل العملی فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص وعدم وجدان الدلیل علی الحکم هو قاعدة الاشتغال وحق الطاعة فالآیة المبارکة واردة علی هذه القاعدة ورافعة لموضوعها وجدانا فإن المراد من الرسول فی الآیة المبارکة هو البیان الشرعی لا العقلی فیکون البیان الشرعی رافع لاحتمال العقوبة وجدانا الذی هو موضوع قاعدة الاشتغال وحق الطاعة.

وأما إذا کان المراد من الرسول فی الآیة البیان أعم من الشرعی والعقلی فهل یمکن الجمع بینهما بأن یراد من البیان أعم من البیان الشرعی والبیان العقلی؟

فالظاهر أنه لا مانع منه فإن البیان الشرعی غیر البیان العقلی باعتبار أن البیان العقلی فی المرتبة السابقة لأن النزاع فی أن الأصل الأولی بحکم العقل العملی فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص وعدم وجدان الدلیل هل هو قبح العقاب بلا بیان او قاعدة الاشتغال وحق الطاعة؟ وأما جریان أصالة البراءة الشرعیة او الاحتیاط الشرعی فهو فی مرتبة متأخرة أی بعد ورود الشرع والشریعة مع ان الأصل الأولی فهو بحکم العقل العملی بقطع النظر عن الشرع والشریعة وأصالة البراءة الشرعیة فهی بعد ورود الشرع والشریعة فلا مانع من أن یکون بعث الرسول کنایة عن البیان الأعم من البیان الشرعی وهو أصالة البراءة والبیان العقلی وهو قاعدة قبح العقاب بلا بیان فإن أرید قاعدة قبح العقاب بلا بیان فهی غیر واردة علی قاعدة الاشتغال وحق الطاعة بل هی فی عرضها واما إن أخذنا بالبیان الشرعی وهو أصالة البراءة الشرعیة فهی واردة علی قاعدة الاشتغال ورافعة لموضوعها وجدانا لأن موضوع القاعدة احتمال العقوبة وأصالة البراءة رافعة لهذا الاحتمال وجدانا فیکون تقدیمها علی قاعدة الاشتغال وحق الطاعة من باب الورود.

ص: 347

إلی هنا قد تبین أن شیء من هذه الإشکالات غیر وارد علی الاستدلال بالآیة المبارکة علی أصالة البراءة الشرعیة.

ولکن مع ذلک فإن دلالة الآیة المبارکة علی أصالة البراءة الشرعیة محل نظر؛ لأن الظاهر من الآیة المبارکة أنها إرشاد إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان وتأکید لها.

فلا یمکن الاستدلال بهذه الآیة المبارکة علی البراءة الشرعیة.

الآیة الثانیة: قوله تعالی: (لِیُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَیْهِ رِزْقُهُ فَلْیُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا یُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَیَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ یُسْرًا) (1) وکلمة الموصول موضوعة للمعنی المبهم من جمیع الجهات مثل یا أیها الذین آمنوا وتعیین معنی الموصول إنما یکون بصلته فلو لم تذکر الصلة لا یفهم منه إلا الشیء المبهم من جمیع الجهات.

وعلی هذا یکون تعیین معنی الموصول فی مصادیقه وأفراده إنما هو بصلته او بقرینة أخری تدل علی أن المراد من الموصول فرد خصا معین لا أنه استعمل فیها لأن الموصول لم یستعمل فی الفرد وإلا لکان استعماله مجازا لأنه لم یوضع بإزاء الفرد وإنما وضع بإزاء المعنی المبهم وهو مستعمل فیه وإرادة الفرد المعین من أفراد مفهومه ومصادق معین من مصادیق مفهومه فیکون المقام من باب تعدد الدال والمدلول.

أصالة البراءة بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة

ذکرنا أن الموصول مستعمل فی معناه الموضوع له وهو الشیء المبهم من جمیع الجهات وتعیینه إنما یکون بصلته أو بقرینة أخری کقرینة السیاق او ما شاکل ذلک، فالموصول فی الآیة المبارکة مبهم وتعیینه فی مصادیقه وأفراده بحاجة إلی قرینة.

وعلی هذا فالقرینة تدل علی التعیین واما الموصول فهو مستعمل فی معناه الموضوع له فیکون المقام من باب تعدد الدال والمدلول.

ص: 348


1- سورة الطلاق، آیة7

ثم إن المراد من الموصول فی الآیة المبارکة هو المال بقرینة وقوع هذه الآیة فی سیاق قوله تعالی: (لِیُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَیْهِ رِزْقُهُ فَلْیُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا یُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) (1) فالسیاق قرینة علی ان المراد منه المال ویمکن ان یراد منه الفعل مع وجود القرینة علی ذلک کما یمکن أن یراد منه التکلیف.

وعلی هذا فإن کان المراد من الموصول المال أو الفعل فالمراد من (آتاه) هو القدرة واما إذا کان المراد منه التکلیف فیکون المراد من آتاه هو الإیصال.

وعلیه فلا مانع من الاستدلال بالآیة الکریمة علی اصالة البراءة الشرعیة لأن معنی الآیة علی هذا هو أن الله تعالی لا یکلف نفسا بکلفة التکلیف إلا بعد إیصاله إلیه فإن کان التکلیف واصلا إلی المکلف بالعلم الوجدانی او بالعلم التعبدی فهو حجة ویکون المکلف مسؤول عن امتثال هذا التکلیف وإطاعته فلو خرج عن طاعته فهو معاقب واما إذا لم یصل التکلیف الی المکلف وکان مجرد احتمال وشکٍ فهو موضوع لأصالة البراءة الشرعیة فلا مانع من التمسک بأصالة البراءة الشرعیة لنفی احتمال العقوبة باعتبار ان احتمال التکلیف ولو کان فی الشبهة الحکمیة بعد الفحص فهو مساوق لاحتمال العقوبة إذا لم یکن هنا أصل مؤمن وأصالة البراءة من الأصول المؤمنة وهی واردة عل هذا الاحتمال ورافعة له وجدانا ومع جریان أصالة البراءة یکون احتمال العقاب مفقود وعلی هذا فلا یلزم استعمال اللفظ فی أکثر من معنی لأن الموصول مستعمل فی معناه الموضوع له ولکن تطبیقه تارة علی التکلیف وأخری علی المال أو الفعل فهو بدال آخر فیکون من باب تعدد الدال والمدلول.

قد یقال کما قیل: أن لازم ما ذکر هو استعمال اللفظ فی أکثر من واحد بالنسبة إلی لفظ آتاه فإن کان المراد من الموصول التکلیف فآتاه مستعمل فی الإیصال وإن کان المراد من الموصول المال أو الفعل فآتاه مستعمل فی القدرة فیلزم استعمال لفظ أتاه فی أکثر من معنی واحد وهو مستحیل.

ص: 349


1- سورة الطلاق، آیة 7.

ویمکن الجواب عن ذلک: ان لفظ آتاه مستعمل فی الجامع بینهما وهو عنوان أحدهما وتطبیقه علی کل من الإیصال والقدرة بحاجة الی قرینة والقرینة علی ذلک إن کان المراد من الموصول المال أو الفعل فهو قرینة علی أن المراد من آتاه هوة القدرة وإن کان المراد منه التکلیف فهو قرینة علی أن المراد من آتاه هو الإیصال فلا یلزم محذور استعمال اللفظ فی أکثر من واحد.

وثانیا: مع الإغماض عن ذلک فقد ذکرنا فی مستهل بحث الأصول أنه لا مانع ثبوتا من استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد وذکرنا هناک تفصیلا غایة الأمر أنه فی مقام الإثبات بحاجة إلی قرینة تدل علی أنه مستعمل فی أکثر من معنی واحد واما ثبوتا فلا مانع من استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد، وعلیه لا مانع من أن یکون لفظ أتی مستعمل فی أکثر من معنی واحد ولکن فی مقام الإثبات تعیین کل من المعنیین بحاجة إلی قرینة والقرینة فی المقام موجودة فإن کان المراد من الموصول التکلیف فهو قرینة علی أن المراد من آتاه هو الإیصال وإن کان المراد من الموصول الفعل او المال فهو قرینة علی ان المراد من آتاه هو القدرة والتمکن.

فالنتیجة انه لا مانع من الاستدلال بهذه الآیة الکریمة علی أصالة البراءة الشرعیة إذا کانت هناک قرینة علی ان المراد من الموصول التکلیف.

ثم ان شیخنا الأنصاری(قده) (1) قد أورد علی دلالة هذه الآیة علی أصالة البراءة الشرعیة وحاصل ما ذکره(قده): أن کان المراد من الموصول فی الآیة المبارکة التکلیف فنسبة الفعل(آتاها) إلی المفعول المطلق وإن کان المراد من الموصول المال او الفعل فنسبة الفعل نسبة الی المفعول به وهما نسبتان متباینتان فلا یمکن اجتماعهما فی جملة واحدة ولا یمکن اسنادا الفعل الی المفعول المطلق واسناده الی المفعول به معا فی جملة واحدة لأنهما نسبتان متباینتان فلا بد أن یکون المراد من الموصول إما التکلیف او المراد منه الفعل والمال ولا یمکن الجمع بینهما وإلا لزم ان تشتمل الجملة علی نسبتین متباینتین وهو مما لا یمکن الالتزام به.

ص: 350


1- فرائد الاصول، ج2، ص21.

وقد أجیب عن ذلک بوجوه:

الوجه الأول: ما ذکره المحقق العراقی(قده) (1) وهو ان النسبة فی هذه الجملة مستعملة فی الجامع بین النسبة الی المفعول المطلق والنسبة الی المفعول به وعندئذ لا یلزم ما ذکر لاشتمال الجملة علی نسبة واحدة وهو الجامع وتعیین کل واحدة من النسبتین بحاجة علی قرینة.

وللمناقشة فیه مجال واسع: فقد ذکرنا فی بحث الحروف أن الجامع الذاتی بین انحاء النسب والروابط غیر معقول لأن انحاء النسب والروابط متباینات بالذات فلا یعقل وجود جامع حقیقی بینها لأنه لیس للنسبة ماهیة متقررة فی المرتبة السابقة علی الوجود کما هو الحال فی المعنی الاسمی الذی یکون لماهیته تقرر قبل الوجود فقد یوجد فی الخارج وقد یوجد فی الذهن، ولیس النسبة کذلک فلیس لها تقرر لا فی الخارج ولا فی الذهن حتی یمکن أن توجد فی الخارج ویمکن ان توجد فی الذهن وهذه الماهیة هی الجامعة بینهما. لیس الأمر کذلک فی انحاء النسب لأن النسبة متقومة ذاتا وحقیقة بشخص وجود طرفیها ولا ذات للنسبة إلا بذات طرفیها ولا وجود لها الا بوجود طرفیها فکل نسبة فی کل جملة مباینة للنسبة فی الجملة الأخری فإذا قیل ضرب زید وضرب عمرو فهما نسبتان متباینتان فالنسبة الأولی متقومة بشخص وجود طرفیها والنسبة الثانیة أیضا کذلک وشخص وجود طرفیها من المقومات الذاتیة للنسبة وبمثابة الجنس والفصل للنوع.

وعلی هذا تکون النسبة متقومة ذاتا ووجودا بشخص وجود طرفیها فإن کان طرفیها فی الذهن فالنسبة ذهنیة وإن کان طرفاها فی الخارج فالنسبة خارجیة ولا شان لها إلا بشان طرفیها ولا وجود لها إلا بوجود طرفیها. ولیس للنسبة مقومات ذاتیة فإن المقومات الذاتیة للنسبة شخص وجود طرفیها فإذا قیل: (ضرب زید) وبعد ذلک قیل: (ضرب زید) فهما نسبتان فالنسبة الأولی متقومة بشخص وجود طرفیها وکذلک النسبة الثانیة.

ص: 351


1- نهایة الافکار، تقریر بحث المحقق العراقی للشیخ البروجردی، ج3، ص203.

ولیس انحاء النسب کأفراد الإنسان فإن أفراد الإنسان مشترکة فی المقومات الذاتیة التی هی فی المرتبة السابقة علی وجود هذه الأفراد وهی الحیوانیة والناطقیة وإلغاء جمیع خصوصیات الأفراد لا یوجب إلغاء المقومات الذاتیة لها فإذا فرضنا ان جمیع أفراد الإنسان بتمام خصوصیاتها ملغیة ولکن المقومات الذاتیة وهی الحیوانیة والناطقیة باقیة فلا یعقل إلغاؤها بینما انحاء النسب لیست کذلک فإنها لا تکون مشترکة فی المقومات الذاتیة بل کل نسبة متقومة بشخص وجود طرفیها ومن الواضح أن شخص وجود طرفیها مباین لشخص وجود طرفی نسبة أخری ولهذا تکون کل نسبة مباینة لنسبة اخری وجودا.

وما ذکره المحقق العراقی(قده) من تصویر الجامع لا یرجع الی معنی محصل.

أصالة البراءة – الاستدلال علی البراءة بالکتاب. بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة – الاستدلال علی البراءة بالکتاب.

ذکرنا ان الجامع الحقیقی الذاتی لا یتصور بین انحاء النسب والروابط إذ لیس للمعنی الحرفی تقرر ماهوی فی المرتبة السابقة علی الوجود کما هو الحال فی المعنی الاسمی إذ له تقرر ماهوی فی المرتبة السابقة قبل وجوده فی الذهن او الخارج ولهذا یکون الذهن ظرف لوجود المعنی الاسمی والخارج ظرف لوجوده ایضا وأما بالنسبة الی المعنی الحرفی فالذهن ظرف لنفس النسبة أی ظرف لنفس المعنی الحرفی لا لوجوده إذ لیس له ماهیة فی المرتبة السابقة وکذلک الخارج ظرف لنفس المعنی الحرفی لا وجوده إذ لو کان ظرف لوجوده فلازمه ان یکون له تقرر ماهوی فی المرتبة السابقة مع أن الأمر لیس کذلک، فالنسبة نفسها فی الذهن ونفسها فی الخارج لأن کل نسبة متقومة بشخص وجود طرفیها وهما من المقومات الذاتیة للنسبة وبمثابة الجنس والفصل بالنسبة للنوع فلا وجود للنسبة إلا بوجود طرفیها ولا ذات لها إلا بذات طرفیها فإذا قیل: (زید قائم) ثم قیل: (زید قائم) فذات النسبة فی الجملة الأولی مباینة للنسبة فی الثانیة لأن شخص وجود طرفیها مباین لشخص وجود طرفیها فی النسبة الثانیة ولیس کذلک المعنی الاسمی لأن له مقومات ذاتیة بقطع النظر عن خصوصیاته وأفراده کأفراد الإنسان فإنها مشترکة فی المقومات الذاتیة وهی الحیوانیة والناطقیة وبقطع النظر عن خصوصیات هذه الأفراد لا یمکن قطع النظر عن مقوماتها وبانعدام هذه الأفراد لا تنعدم مقوماتها وهی الحیوانیة والناطقیة فهی ثابتة فی عالم اللوح وفی المرتبة السابقة علی وجودها فی الخارج او الذهن فمن أجل ذلک یمتاز المعنی الاسمی عن المعنی الحرفی بالتباین فلا یمکن ان یشترک المعنی الحرفی مع المعنی الاسمی. هذا إذا أراد المحقق العراقی من الجامع بین النسبتین الجامع الحقیقی الذاتی.

ص: 352

وإن أراد من الجامع بینهما الجامع العنوانی الانتزاعی وهو مفهوم النسبة فیرد علیه: ان الجامع العنوانی الذاتی مفهوم اسمی ولیس معنی حرفیا ولفظ النسبة موضوع بإزاء مفهوم النسبة الموجود فی الذهن کمفهوم اسمی مستقل فی اللحاظ ولیس معنی حرفیا بالحمل الشایع الصناعی وإن کان مفهوما اسمیا بالحمل الأولی وهو فی الحقیقة لیس معنی حرفیا بل هو مفهوم اسمی.

وإن أراد من الجامع بینهما النسبة الثالثة المباینة للنسبتین الأولیتین لأن المراد من الموصول إذا کان هو المال فنسبة الفعل إلیه نسبة الفعل الی المفعول به وإن کان المراد من الموصول التکلیف فنسبة الفعل إلیه نسبة الفعل الی المفعول المطلق وهاتان النسبتان متباینتان فلا یمکن اجتماعهما فی جملة واحدة.

وهنا نسبة ثالثة مباینة لهما وهی نسبة الفعل الی معنی الموصول وهو الشیء المبهم فإنها نسبة أخری مباینة للنسبتین الأولیتین فإن أراد ذلک فهی وإن کانت مباینة للنسبتین الأولیین لأنه إن أرید من الموصول التکلیف فتکون النسبة نسبة الفعل الی المفعول المطلق وإن أرید من الموصول المال او الفعل فنسبة الفعل إلیه نسبة الی المفعول به.

وإن أرید منه معناه الموضوع له وهو الشیء المبهم فنسبته إلیه نسبة الفعل الی المفعول به ولکن نسبة مباینة للنسبتین الأولیتین إن أراد ذلک فیرد علیه أنه إن أراد أن النسبة الثالثة نسبة جامعة بین النسبتین الأولیین فقد تقدم ان الجامع الذاتی الحقیقی غیر متصور بین انحاء النسب والروابط فلا یعقل وجود جامع ذاتی حقیقی بین النسبتین المتباینتین.

وإن أراد أنها نسبة ثالثة غیر نسبة الفعل الی التکلیف وغیر نسبة الفعل الی المال بل هی نسبة الفعل الی مدلول الموصول وهو الشیء المبهم إن أراد به النسبة بنحو الموضوعیة فلا مانع من تصورها وإن أراد من هذه النسبة بنحو المعرفیة والمشیریة الی هاتین النسبتین فیرد علیه أنها لیس نسبة ثالثة فإنها ملحوظة بنحو المعرفیة والمشیریة الی هاتین النسبتین وهی نسبة الفعل الی التکلیف ونسبة الفعل الی المال فلا توجد نسبة ثالثة حینئذ لأن النسبة الثالثة مجرد عنوان مشیر الی هاتین النسبتین الواقعیتین.

ص: 353

فالنتیجة: ما ذکره المحقق العراقی(قده) لا یمکن المساعدة علیه.

هذا کله بحسب مقام الثبوت.

واما فی مقام الإثبات: فنسبة الفعل الی الموصول بما له من المعنی المبهم وإن کانت ممکنة إلا أنه لا یمکن فی مقام الإثبات فإنه فی مقام الإثبات بحاجة إلی قرینة وهی تمامیة مقدمات الحکمة وهی غیر تامة فإن من مقدمات الحکمة عدم نصب قرینة علی الخلاف إذ المقدمة الأولی هی أن یکون المتکلم فی مقام البیان والثانیة ان یجعل الحکم علی الطبیعی بدون التقیید بقید والثالثة أن لا ینصب قرینة علی التقیید والمقدمتان الأولیتان وإن کانتا متوفرتان إلا ان المقدمة الثالثة غیر متوفرة فی المقام لما تقدم من ان وقوع هذه الآیة المبارکة فی سیاق آیات أخری قرینة علی أن المراد من الموصول هو المال. وعلی هذا یکون السیاق قرینة علی تقیید الموصول بما له من المعنی بالمال فمن أجل ذلک لا تتم مقدمات الحکمة لإثبات إطلاق الموصول بما له من المعنی المطلق والمبهم.

فإذن إرادة المال من الآیة المبارکة متیقنة إما من جهة قرینة السیاق أو من جهة الاجمال ولا ندری أن المراد من الموصول فی الآیة المبارکة هل هو المال أو التکلیف فالقدر المتیقن منه المال وعلی کلا التقدیرین فلا إطلاق للآیة المبارکة والقدر المتیقن من الموصول المال فالآیة لا تدل علی أصالة البراءة الشرعیة لأنها إنما تدل علیها إذا أرید من الموصول التکلیف والمفروض انه لا یمکن إرادة التکلیف منه لأن قرینة السیاق تدل علی أن المراد منه هو المال.

هذا کله فیما ذکره المحقق العراقی(قده).

الإشکال الثانی: ما ذکره المحقق النائینی(قده) (1) وحاصله: أن کون نسبة الفعل الی التکلیف نسبة الی المفعول المطلق إنما یصح فیما إذا أرید من التکلیف المعنی المصدری وأما إذا أرید التکلیف بمعنی اسم المصدر فعندئذ تکون نسبة الفعل إلیه نسبة الی المفعول به.

ص: 354


1- اجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص169.

والوجه فی ذلک: هو أنه إن کان الملحوظ فی المصدر (التکلیف) بما انه مشتمل علی النسبة فی الجملة فهو معنی حرفی یراد به الحدث وإن لوحظ المصدر بما هو هو لا بما هو مشتمل عل النسبة فهو ذات ولیس بحدث، وعلیه فإذا لوحظ التکلیف فی المقام بما هو مشتمل علی نسبة ما فهو مصدر وحدث وحینئذ تکون نسبة الفعل الیه نسبة الی المفعول المطلق ولا یمکن ان تکون نسبة الفعل الیه نسبة الفعل الی المفعول به واما إذا لوحظ التکلیف بما هو هو فیکون عبارة عن ذات وغیر مشتمل علی النسبة ولیس حدثا فإذاً بطبیعة حال تکون نسبة الفعل إلیه نسبة الی المفعول المطلق.

وعلی هذا فإن أرید من التکلیف فی الآیة المبارکة التکلیف بمعنی اسم المصدر الذی هو ذات لا المصدر الذی هو حدث فعندئذ تکون نسبة الفعل الیه نسبة الی المفعول به وحینئذ لا مانع من نسبة الفعل الی المال والی التکلیف فکلتا النسبتین نسبة الی المفعول المطلق .

وعلیه یکون هذا الإشکال وارد علی الشیخ.

وللمناقشة فی هذا الإشکال أیضا مجال واسع.

أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب

ذکر المحقق النائینی(قده) أنه إن کان المراد من الموصول فی الآیة المبارکة المصدر فلا یصح إلا أن یکون مفعولا مطلقا واما إذا کان المراد منه اسم المصدر فیصح جعله مفعولا به والفرق بینهما هو أن المصدر إذا لوحظ بما هوهو فهو ذات ولیس بحدث فإذا کان ذاتا فهی موجودة فی المرتبة السابقة علی الفعل فیصلح أن یکون الموصول مفعولا به واما إذا لوحظ بما هو مشتمل علی نسبة ما فهو مصدر فلا یصلح إلا ان یقع مفعولا مطلقا لأنه لا وجود له إلا بوجود الفعل فلیس له وجود سابق علی وجود الفعل لأن المفعول المطلق یتولد من نفس الفعل مثل (علمت علما) أو (ضربت ضربا) وما شاکل ذلک.

ص: 355

فإذاً إذا لوحظ الموصول بما هو هو وهو عبارة عن التکلیف فهو ذات ولیس بحدث ویصلح أن یجعله مفعولا به وأما إذا لوحظ بما هو مشتمل علی نسبة ما فهو مصدر فلا یصلح إلا أن یقع مفعولا مطلقا.

وعلی هذا فلا تنافی بین النسبتین فیمکن أن یجعل التکلیف مفعولا به فإذا صح جعل التکلیف مفعولا به من جهة انه اسم مصدر فلا تنافی حینئذ لأن الجملة عندئذ مشتملة علی نسبة واحدة وهی نسبة الفعل الی المفعول به سواء کان المراد من الموصول التکلیف أم کان المراد منه الفعل او المراد منه المال فعلی جمیع التقادیر نسبة الفعل إلیه نسبة الفعل الی المفعول به فعندئذ تکون الجملة مشتملة علی نسبة واحدة لا علی نسبتین متنافیتین.

هکذا ذکره المحقق النائینی(قده)

والجواب عن ذلک: أنه لا شبهة فی ان اسم المصدر والمصدر واحد فی الواقع وفی عالم الخارج کما ذکره السید الاستاذ(قده) وإنما الفرق بینهما فی عالم اللحاظ والذهن فإن لوحظ الحدث بما هو هو فهو حدث ویعبر عنه باسم المصدر وإن لوحظ بما هو مشتمل علی نسبة ما فهو ما یعبر عنه بالمصدر. فهذا الفرق بینهما فی مقام اللحاظ وعالم الذهن واما فی عالم الواقع فلا فرق بینهما لأن لهما وجود واحد قد یعبر عنه باسم المصدر وقد یعبر عنه بالمصدر فالعلم قد یعبر عنه باسم المصدر إذا لوحظ بما هوهو وقد یعبر عنه بالمصدر ولکن فی مقام الواقع والثبوت شیء واحد ولا فرق بینهما أصلا وإنما الفرق بینهما فی عالم اللحاظ وعالم الذهن لا فی عالم الواقع والخارج وإلا فالموجود فی الخارج حدث واحد.

واما تعبیره(قده) إذا لوحظ الحدث بما هو هو فهو ذات فهو غریب؛ لأن الحدث إذا لوحظ بما هو هو فهو حدث ولیس له تقرر ما هوی قبل وجود الفعل فی الخارج حتی یصلح أن یکون مفعولا به وهذا لیس ذاتا فإن اللحاظ لشیء لا یغیر من ذلک الشیء فلا یجعل الحدث ذاتا، فما ذکره من أن الحدث إذا لوحظ بما هو هو فهو ذات یصلح ان یجعله مفعولا به وإذا لوحظ بما هو نسبة الی شیء ما فهو یصلح أن یکون مفعولا مطلقا هذا الذی ذکره لا یرجع الی معنی محصل فإنه علی کلا اللحاظین فهو حدث غایة الأمر ان الحدث قد یلاحظ بما هو هو وقد یلاحظ بما هو مشتمل علی نسبة ما وفی الخارج شیء واحد فإن العلم یطلق علیه اسم المصدر تارة ویطلق علیه المصدر تارة أخری فلا فرق بینهما من هذه الناحیة.

ص: 356

فالنتیجة أن ما ذکره(قده) لا یعالج المشکلة فإن ظاهر الآیة المبارکة أن الموصول إذا کان عبارة عن التکلیف فهو مفعول مطلقا أی لا یکلف الله نفسا إلا تکلیفا أتاها فیکون عبارة عن مفعول مطلق من جنس الفعل ولا یصلح أن یکون مفعولا به فإن المفعول به له تقرر ماهوی فی المرتبة السابقة علی الفعل مثل ضرب زید عمرا فعمرو موجود فی الخارج سواء وقع علیه الضرب أم لم یقع أو علّم عمرو زیدا فزید موجود فی الخارج سواء علّمه عمرا ام لم یعلّمه فللمفعول به تقرر ماهوی فی المرتبة السابقة علی وجود الفعل فنسبة الفعل الی المفعول به مغایرة لنسبة الفعل الی المفعول المطلق فإن المفعول المطلق من جنس الفعل مثل (علمت علما) و(ضربت ضربا) و(درست درسا) و(فکرت فکرا) وما شاکل ذلک.

فالنتیجة ان ما ذکره المحقق النائینی(قده) لا یمکن المساعدة علیه.

الوجه الثالث: ما ذکره بعض المحققین (1) (قده) من ان إشکال نسبة الفعل الی المفعول به ونسبته الی المفعول المطلق مبنیة علی ان المراد من الموصول التکلیف ولکن الأمر لیس کذلک. فإن المراد من الموصول هو الحکم فالحکم موضوع للتکلیف ومعنی الآیة المبارکة لا یکلف الله نفسا کلفة إلا حکما أتاها فالحکم هو موضوع الکلفة فالکلفة تترتب علی الحکم من الوجوب أو الحرمة او نحوهما والحکم یصلح أن یقع مفعولا به لأن للحکم ثبوت فی المرتبة السابقة علی الفعل فالفعل إنما یقع علی المفعول وهو موجود فی المرتبة السابقة.

وعلی هذا فإن کان المراد من الموصول الحکم فلا إشکال عندئذ لأنه سواء أرید من الموصول الحکم او المال او الفعل فهو یصلح أن یکون مفعولا به علی جمیع التقادیر وعندئذ لا إشکال فی البین فلا تجتمع فی هذه الجملة نسبتان متباینتان نسبة الفعل الی المفعول به ونسبة الفعل الی المفعول المطلق فی حین لو کان المراد من الموصول هو التکلیف فسوف تکون نسبة الفعل الیه نسبة المفعول المطلق الی الفعل ولکن الأمر لیس کذلک فمعنی الآیة المبارکة علی هذا لا یکلف الله نفسا کلفة إلا حکما أتاها فالحکم هو موضوع الکلفة لترتب الکلفة علی الحکم لأنها عبارة عن العقوبة علی مخالفة الحکم.

ص: 357


1- بحوث فی علم الاصول، تقریر بحث السید الصدر للسید الشاهرودی، ج5، ص32.

وما ذکره(قده) یمکنه ان یعالج المشکلة ثبوتا ولکنه خلاف ظاهر الآیة المبارکة فی مقام الإثبات؛ فإن تفسیر الآیة المبارکة بذلک معناه أنه یکون معنی الآیة لا یکلف الله نفسا کلفة إلا حکما أتاها خلاف ظاهر الآیة لأن ظاهرها بحسب المتفاهم العرفی لا یکلف الله نفسا إلا تکلیفا أتاها وتقدیر الکلفة خلاف الظاهر وأیضا إرادة الحکم من الموصول بحاجة الی قرینة فالموصول ظاهر فی التکلیف فمعنی لا یکلف الله نفسا إلا ما اتاها أی تکلیفا أتاها.

فالنتیجة ان ما ذکره بعض المحققین وإن کان ممکنا ثبوتا وبه یعالج المشکلة ویرفع الاشکال حینئذ إلا انه لا یمکن الالتزام به فی مقام الإثبات لأنه علی خلاف ظهور الآیة المبارکة فی ان المعنی لا یکلف الله نفسا إلا تکلیفا.

أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب

الوجه الرابع: ان الموصول فی الآیة المبارکة مفعول مطلق لا مفعول به علی جمیع التقادیر بقرینة ان الموصول لو کان مفعولا به للزم ان یتعدی إلیه الفعل بالباء لأن مادة التکلیف تتعدی بالباء الی المفعول الثانی وبما أن حرف الجر غیر موجود فی الآیة المبارکة فیکون المراد من الموصول المفعول المطلق علی جمیع التقادیر سواء کان المراد منه المال أو التکلیف أو الحکم الشرعی أو الفعل وحینئذ یکون معنی الآیة المبارکة لا یکلف الله نفسا إلا کلفة والکلفة تارة تعرض علی الحکم الشرعی من الوجوب والتحریم وأخری تعرض علی المال وثالثة علی الفعل الخارجی. فیکون الموصول علی جمیع التقادیر مفعول مطلق.

وعلی هذا فلا یلزم محذور اشتمال الآیة عل نسبتین متباینتین نسبة الفعل الی المفعول به ونسبة الفعل الی المفعول المطلق.

هکذا ذکر فی هذا الوجه

ص: 358

وتوضیح ذلک بأکثر من هذا: انه لا شبهة فی أن الموصول فی الآیة المبارکة مستعمل فی معناه الموضوع له وهو الشیء المبهم من جمیع الجهات وانطباقه علی فرده المعین فی الخارج بحاجة إلی قرینة تدل علی ذلک وفی المقام الموصول فی الآیة المبارکة إما أن ینطبق علی الحکم الشرعی کالوجوب أو الحرمة او نحوهما أو ینطبق علی المال او ینطبق علی الفعل فهو قابل للانطباق علی جمیع هذه الأمور وکل واحدة منها مصداق للموصول وفرد من أفراده.

واما الإیتاء الوارد فی الآیة المبارکة فهو بمعنی الاقتدار علی جمیع التقادیر سواء کان المراد من الموصول الحکم ام کان المراد منه المال او الفعل فإن کان المراد منه التکلیف والحکم الشرعی فهو مما تعرض علیه الکلفة من جهة الإدانة والعقوبة علی المخالفة أو الکلفة من جهة امتثاله لأن المکلف معنی بامتثال التکلیف وهو نحو من الکلفة وإن کان المراد من الموصول المال فعروض الکلفة علیه من جهة الانفاق فیجب علیه الانفاق وإن کان المراد من الموصول الفعل فعروض الکلفة علیه من جهة الاتیان به فی الخارج.

ومن هنا لا مانع من أن یراد من الإیتاء معنی الاقتدار بأن یکون المکلف قادرا علی امتثال التکلیف وقادرا علی الانفاق إذا کان الموصول منطبقا علی المال وقادرا علی الاتیان بالفعل إذا کان الموصول منطبقا علی الفعل، وعلی هذا لا یکون الإیتاء مرددا بین الاقتدار والإیصال کما لا یکون المراد منه الإیصال لأن الآیة المبارکة فی مقام بیان الحکم الواقعی لا فی مقام بیان حکم الشبهات فإن الإیصال مناسب لبیان حکم الشبهات.

فإذا کان الموصول منطبقا علی الحکم الشرعی تعرض علیه الکلفة وهو امتثاله فلا بد ان یکون قادرا علی الامتثال وإذا کان منطبقا علی المال فلا بد أن یکون المکلف قادرا علی الانفاق واما إذا کان الموصول منطبقا علی الفعل فلا بد ان یکون المکلف قادرا علی الاتیان به.

ص: 359

هذا بحسب مقام الثبوت.

واما فی مقام الإثبات فهل یمکن إرادة هذا الإطلاق من الموصول أو لا یمکن؟

والجواب: ان إرادة هذا الإطلاق من الموصول تتوقف علی قرینة الحکمة وهی مقدمات الحکمة فإن تمت فلا مانع من إرادة الإطلاق من الموصول بالنسبة الی جمیع هذه الأمور من التکلیف والمال والفعل إلا أن قرینة السیاق تمنع من ذلک فإنها تدل علی أن المراد من الموصول فی الآیة المبارکة هو المال لأن الموصول متصف بوصف الإیتاء من الله تعالی لکل عبد وعندئذ لا یکون له إطلاق یشمل الفعل والتکلیف.

وعلی هذا فلا یمکن الاستدلال بالآیة الکریمة علی أصالة البراءة الشرعیة فالآیة أجنبیة عن الدلالة علی البراءة الشرعیة.

ولو سلم ان الآیة دالة علی البراءة وأن الموصول فی الآیة مطلق فیشمل التکلیف والمال والفعل فالتکلیف إذا کان متصفا بوصف الإیتاء من الله تعالی للعبد فمن المعلوم ان اتصاف التکلیف بهذا الوصف یکون فی المرتبة السابقة فیکون مفعولا به ولا یصلح لأن یکون مفعولا مطلقا لأن المفعول المطلق من مشتقات الفعل فلا یعقل أن یکون أجنبیا عن الفعل فالموصول المتصف بوصف الإیتاء من الله تعالی للعبد أجنبی عن التکلیف فلا یصلح أن یقع مفعولا مطلقا بل هو مفعول به کما لو کان المراد منه المال او الفعل. فعلی تقدیر تسلیم ان الآیة مطلقة فلا مانع من الاستدلال بالآیة الکریمة علی أصالة البراءة الشرعیة وإنما الکلام فی مفاد الآیة الکریمة فهل مفادها البراءة الشرعیة ولکن بنحو قاعدة قبح العقاب بلا بیان بنحو تکون أصالة الاحتیاط الشرعیة واردة علیها ورافعة لموضوعها کما إذا فرضنا أن مفاد الآیة المبارکة نفی الکلفة عن التکلیف الواقعی غیر الواصل الی المکلف فلا شبهة عندئذ أن دلیل الاحتیاط یدل علی إیصال التکلیف الواقعی بإیجاب الاحتیاط لأن إیجاب الاحتیاط طریق الی إثبات الواقع وإیصاله وإحرازه فتکون أصالة الاحتیاط الشرعیة واردة علی البراءة الشرعیة کما انها واردة علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان لأن الاحتیاط الشرعی بیان جزما.

ص: 360

وإن کان مفاد الآیة الکریمة نفی الکلفة فی مورد الجهل بالأحکام الواقعیة والشک فیه ففی مثل ذلک لا یکون دلیل إیجاب الاحتیاط الشرعی واردا علیه بل هو معارض له لأن دلیل إیجاب الاحتیاط الشرعی یدل علی انه فی مورد الجهل بالأحکام الواقعیة الشرعیة هو مورد لوجوب الاحتیاط وهذه الآیة تدل علی أن هذا المورد موردا لأصالة البراءة الشرعیة فعندئذ تقع المعارضة بین أصالة البراءة الشرعیة وأصالة الاحتیاط.

هذا هو الفرق بین مفاد الآیة الکریمة.

ومن هنا یظهر الفرق بین مفاد هذه الآیة ومفاد الآیة الأولی؛ فإن مفاد هذ الآیة نفی الکلفة عن التکلیف مباشرة واما مفاد الآیة الأولی فهو نفی العقوبة والعذاب علی مخالفة التکلیف الواقعی.

فالنتیجة ان هذه الآیة فی مقام الإثبات لا تدل علی أصالة البراءة الشرعیة ولو سلم دلالتها فمدخولها مردد بین فرضین: الفرض الأول والفرض الثانی وهل الصحیح الأول منهما أو الصحیح الثانی سوف نتکلم فیها فی مورد المعارضة بین أصالة الاحتیاط واصالة البراءة الشرعیة.

هذا تمام کلامنا فی هذه الآیة المبارکة.

أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب

الآیة الثالثة: وهی قوله تعالی: (قُل لاَّ أَجِدُ فِی مَا أُوْحِیَ إِلَیَّ مُحَرَّمًا عَلَی طَاعِمٍ یَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن یَکُونَ مَیْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِیرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَیْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّکَ غَفُورٌ رَّحِیمٌ) (1)

والاستدلال بالآیة الکریمة ان الله تعالی علم نبیه الأکرم(ص) کیفیة المحاجة مع الیهود الذین یدعون محرمات أخری فی الشریعة المقدسة غیر ما هو موجود فی الآیة الکریمة فإن الله تعالی علم طریق المحاجة معهم فقال الله: قل لهم لا أجد فیما أوحی إلی محرما.

ص: 361


1- سورة الانعام، آیة145.

ویمکن تصویر ذلک علی مجموعة من النکات:

النکتة الأولی: أن الله تعالی حینما علّم نبیه الأکرم بهذه الکیفیة من المحاجة مع الیهود وهی العدول من التعبیر بعدم الوجود إلی التعبیر بعدم الوجدان مع ان عدم الوجدان لا یدل علی عدم الوجود ولکن مع ذلک قال النبی(ص): لا أجد فیما اوحی إلی محرما أی ما اوحی الله تعالی إلی غیر ما هو موجود فی الآیة المبارکة وبطبیعة حال هناک محرمات فی الشریعة المقدسة ما اوحی الله تعالی لنبیه بها وفی رسالته موجودة تلک المحرمات ولکن ما أوحی الله تعالی بهذه المحرمات الی حین صدور هذه الآیة المبارکة وإلا فمن الواضح ان جمیع الشریعة مما اوحی الله تعالی بها علی نبیه فلا محالة یکون الوحی بالتدریج ولیس بالدفعة وکذا فی رسالة النبی الأکرم المشتملة علی جمیع الأحکام الشرعیة ما أوحی الله تعالی جمیع ما فی الرسالة الی النبی الأکرم(ص) مرة واحدة فإنه غیر معقول ومن هنا یکون الوحی بالتدریج علی طول عشرین سنة إلی تمام الدین بما له من الأحکام.

فنکتة قول النبی الأکرم(ص) بذلک بعد تعلیم الله له هی أنه لا اجد فیما أوحی إلی محرما إلا هذه المحرمات الموجودة فی الآیة الکریمة لأن نزول الوحی کان تدریجیا وإلا فهناک محرمات موجودة فی الشریعة المقدسة وفی أم الکتاب وفی الرسالة. هذه هی النکتة من العدول بالتعبیر عن عدم الوجود الی عدم الوجدان.

النکتة الثانیة: ان الیهود لا یصدقون بالنبی الأکرم(ص) سواء علمه بکیفیة المحاجة معهم بعدم الوجود او کیفیة المحاجة معهم بعدم الوجدان ولکن حیث إن عدم الوجدان أفصح وأوقع فی النفوس فی مقام المحاجة ولهذا عدل عن عدم الوجود الی عدم الوجدان ولعل النکتة فی العدول هو هذا وإلا فی النبی الأکرم(ص) لا فرق بین التعبیر بعدم الوجدان والتعبیر بعدم الوجود لأن عدم وجدانه مساوق لعدم الوجود.

ص: 362

النکتة الثالثة: ان الظاهر من الروایات أن الآیة الکریمة لا تختص بموردها فإن مورد الآیة المحاجة مع الیهود بل الآیة فی مقام بیان کبری کلیة وتطبیق تلک الکبری علی المقام فالعدول من عدم الوجود إلی عدم الوجدان لنکتة عامة وهی أن عدم الوجدان فی الشبهات الحکمیة إذا کان من النبی الأکرم(ص) او من الأئمة الأطهار(ع) فهو یدل علی الترخیص الواقعی أی إطلاق العنان واقعا واما إذا کان عدم الوجدان من غیر المعصوم کالفقهاء والمجتهدین إذا قاموا بالفحص فی الشبهات الحکمیة عن وجود الدلیل علی الحکم الشرعی من الوجوب او التحریم ولم یجدوا الدلیل فعدم الوجدان لا یدل علی عدم الوجود.

فعدم وجدانه یفید الترخیص الظاهری ویفید إطلاق العنان الظاهری وهو مفاد أصالة البراءة الشرعیة.

وعلی ضوء هذه النکتة العامة یمکن الاستدلال بالآیة الکریمة علی أصالة البراءة الشرعیة أی إذا قام الفقهاء والمجتهدین بالفحص فی الشبهات الحکمیة عن الدلیل ولم یجدوا الدلیل علی الوجوب أو الحرمة فیها مع احتمال وجوده فعندئذ لا مانع من التمسک بأصالة البراءة لإثبات الترخیص فی هذه الشبهات فیجوز الإتیان فی الشبهة التحریمیة ویجوز الترک فی الشبهة الوجوبیة ظاهرا بمقتضی أصالة البراءة الشرعیة.

واما علی ضوء النکتتین الأولیین فالآیة أجنبیة عن الدلالة علی أصالة البراءة الشرعیة.

وهنا تعلیقان علی دلالة الآیة المبارکة علی أصالة البراءة الشرعیة:

التعلیق الأول: ان المذکور فی الآیة الکریمة عدم وجدان النبی الأکرم(ص) ومن الواضح ان عدم وجدانه مساوق لعدم الوجود فی الواقع فإذاً لا شک فی المقام فی ثبوت الواقع وعدم ثبوته حتی یتمسک بأصالة البراءة.

ولکن هذا التعلیق غیر صحیح؛ فإن هذا التعلیق مبنی علی الغفلة عن النکتة العامة وهی أن العدول من عدم الوجود الی عدم الوجدان مبنی علی نکتة عامة ولا یمکن ان یکون جزافا وهی ان عدم الوجدان إذا کان من المعصومین فهو مساوق لعدم الوجود وأما إذا کان من غیر المعصومین فهو غیر مساوق لعدم الوجود فاحتمال الوجود موجود وعندئذ لا مانع من التمسک بأصالة البراءة الشرعیة.

ص: 363

هذا مضافا إلی أن فی هذا التعلیق تخیل اختصاص الآیة الکریمة بموردها وهو عدم وجدان النبی الأکرم(ص) ومن الواضح ان المورد لا یکون مخصصا ولا مقیدا.

فالنتیجة ان هذا التعلیق غیر وارد، فلو فرضنا ان النکتة العامة هی الأظهر من الآیة الکریمة فلا مانع من التمسک بأصالة البراءة الشرعیة فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص وعدم وجدان الدلیل علی الحکم الشرعی، واما إذا قلنا أن الأظهر هو النکتة الأولی دون النکتة الثالثة العامة فتکون الآیة أجنبیة عن المقام.

التعلیق الثانی: ما ذکره بعض المحققین (1) (قده) علی ما فی تقریر بحثه من ان عدم وجدان النبی الأکرم(ص) بالنسبة الی ما وصل إلیه بالوحی ( لا أجد فیما أوحی إلی) ولم ینف ما شرع من قبله وإنما نفی ما اوحی الله تعالی به واما ما شرعه فهو لم ینف ذلک.

ولکن لا یمکن الاعتماد علی ذلک أیضا فإن النبی الأکرم(ص) إنما یکون مشرعا بالوحی او بنزول جبریل علیه لا مستقلا بدون وصول الوحی من الله تعالی إلیه أو بدون نزول جبریل.

فالنتیجة: أن الآیة لو لم تکن ظاهرة فی النکتة الأولی فلا مانع من حملها علی النکتة الثالثة وهی أن تعلیم الله تعالی لنبیه الأکرم بکیفیة مخاطبة الیهود بعدم الوجدان بعد العدول من المخاطبة بعدم الوجود لا یمکن أن یکون جزافا وبلا نکتة والنکتة هی نکتة عامة عرفیة وهی ان عدم الوجدان إذا کان من المعصومین فهو مساوق لعدم الوجود ولا موضوع حینئذ لأصالة البراءة الشرعیة واما عدم الوجدان إذا کان من غیر المعصومین کالفقهاء والمجتهدین فلا یساوق عدم الوجود ولا یدل علی عدم الوجود فهو منشأ للشک فی ثبوت الحکم الشرعی وعدم ثبوته فلا مانع من التمسک بأصالة البراءة.

ص: 364


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید الصدر للسید الشاهرودی، ج5، ص34.

أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب

إلی هنا قد تبین أن معنی الآیة الکریمة هو المحاجة بعدم الوجدان ولکن یطبق فی مورده الخاص وهو المحاجة مع الیهود وقد علّم الله تعالی نبیه الأکرم(ص) طریقة المحاجة مع الیهود وهی عدم الوجدان لا عدم الوجود مع ان الأنسب هو المحاجة بعدم الوجود فإن الیهود أدعوا محرمات أخری غیر المحرمات المذکورة فی الآیة الکریمة فیکون الأنسب التعبیر بعدم وجود محرمات أخری غیر المحرمات المذکورة فی الآیة الکریمة.

وعلیه یکون العدول من المحاجة بعدم الوجود إلی المحاجة بعدم الوجدان لا محالة لنکتة ولا یمکن أن یکون جزافا واما تطبیقه فی مورد الآیة فلعله لنکتة إفهام الیهود أن عدم وجدان النبی الأکرم(ص) یکفی فی عدم الوجود أو أن نکتته ان عدم الوجدان فی مقام الاحتجاج أفصح وأوقع فی النفوس من عدم الوجود.

واما نکتته العامة باعتبار أن عدم الوجدان معنی عام جامع بین العلم بالعدم وبین عدم العلم فالعدول من عدم الوجود الی عدم الوجدان إنما هو لنکتة عامة تشمل جمیع الشبهات الحکمیة سواء کانت فی زمن المعصومین اوفی عصر الغیبة فإن عدم الوجدان یختلف باختلاف الموارد والأشخاص فإن کان من المعصوم فهو مساوق للعلم بعدم الوجود فی الواقع فی الشبهات الحکمیة بعد الفحص وعدم وجدان الدلیل وإن کان من غیره فیکون مساوق لعدم العلم فإذا فحص فی الشبهات الحکمیة ولم یجد دلیلا علی الوجوب أو الحرمة فیکون عدم وجدانه مساوقا لعدم العلم بالواقع فاحتمال وجود الدلیل فی الواقع موجود ولکنه غیر واصل الیه.

وعلی هذا یدل عدم الوجدان من المعصوم علی الترخیص الواقعی وإطلاق العنان واقعا وأما عدم الوجدان من غیر المعصوم فهو یدل علی الترخیص الظاهری وعلیه فلا مانع من الاستدلال بالآیة الکریمة علی أصالة البراءة.

ص: 365

واما العلیق الذی ذکره بعض المحققین علی الاستدلال بهذه الآیة وحاصله: أن مورد الآیة الکریمة هو عدم وجدان النبی الأکرم وهو مساوق لعدم صدور الوحی ولعدم صدور التشریع وعدم صدور الدلیل، ومن الواضح ان موضوع أصالة البراءة لیس عدم صدور التشریع وعدم صدور الدلیل بل موضوعها عدم وصول الدلیل لا عدم صدوره والآیة لا تدل علی ذلک.

هذا التعلیق مبنی علی تطبیق مفاد الآیة علی موردها فإن مفادها إذا طبق علی موردها تکون أجنبیة علی الدلالة علی أصالة البراءة الشرعیة إذ لا شک فی عدم صدور تشریع آخر فی مورد الآیة ولهذا لا مورد لأصالة البراءة الشرعیة لأن دلالة الآیة علی أصالة البراءة الشرعیة مبنیة علی نکتة عامة وهی ان عدم الوجدان فی نفسه لا یدل علی عدم الوجود وهذا معنی عام کما هو واضح جامع بین العلم بالعدم وبین عدم العلم فالعدول من عدم الوجود إلی عدم الوجدان معنی عام مبنی علی نکتة عامة وهی أن الفحص إذا کان من المعصوم کان مساوق للعلم بالعدم فلا مجال لأصالة البراءة الشرعیة واما إن کان الفحص من غیر المعصوم کما فی عصر الغیبة فهو مساوق لعدم العلم وعدم الوصول وهو موضوع لأصالة البراءة الشرعیة.

فالنتیجة: أنه علی ضوء هذه النکتة العامة لا مانع من الاستدلال بها علی أصالة البراءة الشرعیة.

ولکن هل الأخبار الدالة علی إیجاب الاحتیاط فی الشبهات التحریمیة وفی الشبهات الوجوبیة صالحة لمعارضة الآیة المبارکة او غیر صالحة لذلک؟ باعتبار أن الآیة المبارکة تدل علی الترخیص الظاهری فی الشبهات الحکمیة الوجوبیة والتحریمیة وروایات الاحتیاط تدل علی وجوب الاحتیاط فیها فعندئذ هل تصلح هذه الروایات لمعارضة الآیة الکریمة أم لا؟

قد یقال کما قیل: بعدم صلاحیة هذه الروایات لمعارضة الآیة الکریمة لأنها مخالفة للکتاب والروایات المخالفة للکتاب لا تکون حجة فی نفسها وداخلة فی الروایات التی تنص علی ان ما خالف الکتاب زخرف او باطل او لم أقله وهی روایات متعددة وصحیحة وبما أن روایات الاحتیاط مخالفة للآیة الکریمة فتدخل فی تلک ا لروایات فلا تکون روایات الاحتیاط حجة فی نفسها لأنها مخالفة للکتاب وباطلة وزخرف ولم تصدر من الأئمة الأطهار(ع).

ص: 366

والجواب عن ذلک: ان الروایات المخالفة للکتاب التی لم تصدر منهم(ع) موضوعها المخالفة للکتاب والسنة والمراد من المخالفة إما بنحو التباین کما لو دل الکتاب علی حرمة شیء والروایة دلت علی عدم حرمته فلا محالة تکون مثل هذه الروایة مطروحة لعدم صدورها منهم(ع) وقد تکون المخالفة بنحو العموم والخصوص من وجه فأیضا لا تکون هذه الروایات صادرة منهم(ع) فی مورد الاجتماع بمقتضی هذه الروایات الناصة علی أن ما خالف الکتاب والسنة فهو زخرف وباطل ولم یصدر منّا.

فموضوع الروایات هو المخالفة بأی نحو من هذین النحوین.

وأما إذا کانت المخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق او بنحو المطلق والمقید فلا مانع من صدورها بل قد صدرت جزما روایات مخالفة لعموم الکتاب وإطلاقه ومن هنا یجوز تخصیص الکتاب بخبر الواحد وتقیید إطلاقه به.

وما نحن فیه کذلک فإن روایات الاحتیاط أخص من الکتاب والکتاب یدل علی أصالة البراءة مطلقا فی الشبهات الحکمیة من الوجوب والتحریم وغیرهما وأما روایات الاحتیاط فهی مختصة بالشبهات الحکمیة التحریمیة فقط ولا تشمل الشبهات الوجوبیة ولهذا تکون نسبتها إلی الآیة نسبة المقید إلی المطلق والخاص الی العام ومثل هذه المخالفة غیر مشمولة لتلک الروایات کما ذکرنا.

إلی هنا قد تبین أنه لا مانع من الاستدلال علی أصالة البراءة الشرعیة بهذه الآیة إلا ان روایات الاحتیاط تقید إطلاقها بغیر الشبهات التحریمیة لأن وظیفة المکلف فی الشبهات التحریمیة الاحتیاط.

هذا تمام کلامنا فی هذه الآیة.

الآیة الرابعة: قوله تعالی : (وَمَا کَانَ اللّهُ لِیُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّی یُبَیِّنَ لَهُم مَّا یَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ) (1) فإنها تدل علی انه لیس من شانه تعالی إضلال قوما قبل هدایتهم وبیان الحجة علیهم فإن المراد من الموصول فی الآیة (ما یتقون) الأحکام الشرعیة من الوجوبات والتحریمات فقبل بیان تلک الأحکام الشرعیة وإتمام الحجة لا یکون من شانه اتعالی الإدانة والعقوبة لأن الإضلال عبارة عن العقوبة والمضل هو المتمرد والعاصی فالمعنی أنه لیس من شانه تعالی العقوبة علی فعل واجب وترک محرم ما لم یبین ذلک الوجوب أو الحرمة وإتمام الحجة علیهما.

ص: 367


1- سورة التوبة، آیة 115.

ولکن هل أن مفاد الآیة أصالة البراءة الشرعیة او ان مفادها أصالة البراءة العقلیة وهی قاعدة قبح العقاب بلا بیان؟

أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب بحث الأصول

الموضوع: أصالة البراءة – الاستدلال بالکتاب

کان کلامنا فی قوله تعالی: ﴿ وَمَا کَانَ اللّهُ لِیُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّی یُبَیِّنَ لَهُم مَّا یَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِکُلِّ شَیْءٍ عَلِیمٌ ﴾ (1) وتقریب الاستدلال بهذه الآیة انها دالة علی ان الله تعالی لا یقوم بإضلال قوم وإدانتهم وعقوبتهم قبل إتمام البیان والحجة علیهم، وعلی هذا تکون الآیة دالة علی أصالة البراءة وحیث إن البیان فی الشبهات الحکمیة سواء کانت وجوبیة ام تحریمیة إذا لم یتم بعد الفحص ولم یجد الدلیل والحجة علی الحکم من الوجوب أو الحرمة فلا یعاقب الله تعالی علی الفعل أو الترک لأنه عقاب قبل إتمام الحجة والبیان علیه وهو لا یصدر من الله تعالی.

ودعوی ان مفاد الآیة الکریمة رفض الإضلال عن الأمم السابقة ولا صلة لها بنفی العقوبة الأخرویة وذلک بقرینة الفعل الماضی فی الآیة ﴿ وما کان ﴾ فإنه قرینة علی أنه الله تعالی لا یضل قوما من الأمم السابقة قبل البیان علیهم فلا صلة لها بأصالة البراءة الشرعیة فی الشبهات الحکیمة من الوجوب او الحرمة.

هذه الدعوی مدفوعة: بأنه لا توجد قرینة لا فی الآیة الکریمة ولا من خارجها علی نظر الآیة إلی الأمم السابقة بل جملة ﴿ ما کان ﴾ شاهدة علی عدم اختصاص نفی الإضلال والعقوبة بالأمم السابقة لأن المتفاهم العرفی من هذه الجملة کما تقدم هو أنه لیس من شانه تعالی ولا یلیق به ان یضل قوما ویعاقبهم قبل إتمام الحجة علیهم وقبل البیان فهی إذاً دالة علی نفی الشأنیة وحینئذ لا فرق فیه بین نفی العقوبة عن الأمم السابقة ونفی العقوبة عن الأمم اللاحقة ولا بین نفی العقوبة الدنیویة ونفی العقوبة الأخرویة لأن کلا منهما لا یلیق بشأنه تعالی وتقدس معاقبة قوما أو طائفة او شخصا بدون بیان وحجة.

ص: 368


1- التوبة/السورة9، الآیة115.

ودعوی اختصاص الآیة ببعض العقوبة دون جمیعها لأن الآیة مختصة بالإضلال وهو الانحراف إما فی العقیدة أو فی العمل الخارجی ولا تعم العقوبات الأخرویة وما شاکل ذلک من العقوبات الأخری.

هذه الدعوی مدفوعة: فإن هذه الجملة تدل عل أنه لیس من شأنه تعالی ذلک وحینئذ لا فرق بین أن یکون المذکور فی الآیة عقوبة خاصة او لا یکون ذلک مذکورا طالما أن الآیة تدل علی أنه لیس من شان الله تعالی أن یعاقب من دون إتمام الحجة بلا فرق بین العقوبة الدنیویة والعقوبة الأخرویة فهذه الجملة تدل علی عدم الفرق وإن کان المذکور فی الآیة عقوبة خاصة.

فالنتیجة: أنه لا إشکال من هذه الناحیة فی الآیة الکریمة.

هذا من ناحیة.

ومن ناحیة أخری أن المراد من الموصول فی قوله تعالی: ﴿ وما یتقون ﴾ هو الأحکام الشرعیة ولکن هل المراد منه خصوص الأحکام الشرعیة الواقعیة أو المراد منه ما هو الأعم من الحکم الواقعی والظاهری کإیجاب الاحتیاط؟ فهنا وجهان:

الوجه الأول: ان المراد منه فی الآیة خصوص الأحکام الواقعیة لا الأعم منه ومن الأحکام الظاهریة وذلک بقرینة أن ظاهر الآیة المبارکة إنما هو العقوبة علی مخالفة الموصول نفسه بعد البیان وهذا یشکل قرینة علی أن المراد من الموصول هو الحکم الواقعی فإن مخالفة الحکم الواقعی بنفسه توجب استحقاق العقوبة وإما وجوب الاحتیاط الذی هو حکم ظاهری فقد ذکرنا غیر مرة أنه وجوب طریقی ولیس له شأن غیر تنجیز الواقع عند الإصابة والتعذیر عند الخطأ ولهذا لا عقوبة علی مخالفته بنفسه إلا علی مخالفة الواقع ولا مثوبة علی موافقته بنفسه إلا علی موافقة الواقع فمن أجل ذلک الموصول لا یشمل الحکم الظاهری کوجوب الاحتیاط وحجیة الأمارات وما شاکلهما لأنها احکام طریقیة لا شان لها إلا تنجیز الواقع عند الإصابة والتعذیر عند الخطأ وهذا قرینة علی ان المراد من الموصول هو الحکم الواقعی لأن ظاهر الآیة هو أن العقاب إنما هو علی مخالفة الموصول بنفسه بعد البیان وإتمام الحجة مع أنه لا عقوبة علی مخالفة نفس وجوب الاحتیاط ولا مثوبة علی موافقة نفس وجوب الاحتیاط کما هو الحال فی حجیة الأمارات فإنه لا عقوبة علی مخالفة نفس الأمارة إلا العقوبة علی التسبب بضیاع مصلحة الواقع عند عدم الإصابة ولا مثوبة علی موافقة نفس الأمارة إلا المثوبة علی تحصیل مصلحة الواقع عند الإصابة.

ص: 369

وعلی هذا یکون المراد من الموصول فی الآیة المبارکة هو الحکم الواقعی لا الأعم منه ومن الحکم الظاهری.

الوجه الثانی: ان المراد منه ما هو أعم من الحکم الواقعی والظاهری فإن الحکم هو المعنون بعنوان التقوی والسبب لحصول التقوی ولا فرق من هذه الناحیة بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری فکما ان الحکم الواقعی سبب للتقوی فکذلک الحکم الظاهری فإن إیجاب الاحتیاط أیضا سبب للتقوی لأن الاحتیاط من اظهر وأرقی مراتب العبودیة ولهذا یکون سببا للتقوی فکما ان امتثال الحکم الواقعی سبب للتقوی کذلک موافقة الاحتیاط سبب للتقوی وظاهر الآیة الکریمة أن نفی العقوبة ونفی الإدانة والإضلال إنما هو بعد البیان فما لم یبین سبب التقوی فلا عقوبة ولا إدانة ولا إضلال وسبب التقوی یشمل الحکم الواقعی والحکم الظاهری معا.

وعلی هذا فالآیة الکریمة تدل بنفسها علی إیجاب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة الوجوبیة والتحریمیة وروایات الاحتیاط رغم اختصاصها بالشبهات التحریمیة ولکن مع ذلک لا تصلح أن تکون مقیدة للإطلاق الآیة المبارکة لما ذکرناه فی بحث المطلق والمقید من أن حمل المطلق علی المقید إنما هو فی موردین:

أحدهما: فیما إذا کان الحکم المجعول فیهما واحدا وهو إما ثابت للمطلق أو ثابت للمقید کما إذا قال المولی: (صل) وبعد ذلک قال: (صل مستقبل القبلة) فإنه لا بد من تقید المطلق بالمقید فإن الحکم المجعول فیهما واحدا وهو إما ثابت للمطلق او للمقید فلو کان ثابت للمطلق لکان القید لغوا وجزافا وهذا لا یمکن صدوره من المولی الحکیم ولهذا لا بد من التقیید وأن الحکم ثابت لحصة خاصة وهی الحصة المقیدة.

ثانیهما: فیما إذا کان التنافی بینهما بالإیجاب والسلب وإن کان الحکم المجعول فیهما انحلالیا کما إذا قال المولی أکرم العلماء ثم قال لا تکرم الفساق منهم فإنه لا بد من حمل المطلق علی المقید، فإن کان المطلق والمقید کلاهما مثبتین والحکم المجعول فیهما انحلالیا فلا وجه لحمل المطلق علی المقید کما إذا قال المولی أکرم العلماء ثم قال أکرم العلماء العدول فالمقید أیضا مثبت کالمطلق فلا وجه لحمل المطلق علی المقید والحکم المجعول فیهما انحلالی ثابت لکل فرد من أفراد العلماء بل یحمل المقید فی مثل هذه الموارد علی أفضل الافراد ویبقی المطلق علی حاله غایة الأمر ان إکرام العلماء العدول أظهر من إکرام مطلق العلماء.

ص: 370

وما نحن فیه کذلک فإن الآیة المبارکة تدل علی إیجاب الاحتیاط فی مطلق الشبهات أعم من أن تکون وجوبیة أو تحریمیة وروایات الاحتیاط تدل علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات التحریمیة فقط فعندئذ لا وجه لحمل الطلق علی المقید باعتبار أن الحکم المجعول فیهما وهو إیجاب الاحتیاط انحلالی وثابت لکل فرد من أفراد الشبهة غایة الأمر یحمل المقید علی أفضل الأفراد ویبقی المطلق علی حاله.

وعلی هذا تکون الآیة دالة علی إیجاب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیة ولا تدل علی أصالة البراءة الشرعیة بل یکون مفادها أصالة البراءة العقلیة أی قاعدة قبح العقاب بلا بیان ولکن هذه القاعدة مرفوعة بقاعدة الاحتیاط لأن أصالة الاحتیاط واردة علی هذه القاعدة ورافعة لموضوعها وجدانا لأن موضوع هذه القاعدة عدم البیان ولا شبهة فی أن إیجاب الاحتیاط بیان فأصالة الاحتیاط واردة علی هذه القاعدة.

إلی هنا قد تبین عدم تمامیة دلالة شیء من الآیات علی أصالة البراءة الشرعیة إلا فی بعض الفروض.

هذا تمام الکلام فی الاستدلال بالآیات الکریمة.

وبعد ذلک یقع الکلام فی الاستدلال بالروایات علی أصالة البراءة الشرعیة.

ص: 371

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.