آرشیو دروس خارج اصول آیت الله شیخ هادی آل راضی36-35

اشارة

سرشناسه:آل راضی، هادی

عنوان و نام پدیدآور:آرشیو دروس خارج اصول آیت الله شیخ هادی آل راضی36-35/هادی آل راضی.

به همراه صوت دروس

منبع الکترونیکی : سایت مدرسه فقاهت

مشخصات نشر دیجیتالی:اصفهان:مرکز تحقیقات رایانه ای قائمیه اصفهان، 1396.

مشخصات ظاهری:نرم افزار تلفن همراه و رایانه

موضوع: خارج اصول

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی الشبهة غیر المحصورة، وکان الکلام یترکّز عن أنّ العلم الإجمالی فیها یسقط عن المنجّزیة، فلا تجب موافقته القطعیة؛ بل قد لا تحرم مخالفته القطعیة، لو فُرض التمکّن منها. الکلام یقع فی أنّه ما هو الوجه فی سقوط المنجّزیة عن هذا العلم الإجمالی، مع أنّه علم إجمالی حاله حال العلم الإجمالی فی شبهةٍ محصورة ؟ ما هو الدلیل علی سقوط المنجّزیة عن هذا العلم الإجمالی؟

تکلّمنا عن الدلیل الأوّل، وأکملنا الکلام عنه، وللتذکّر فقط کان الدلیل هو ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من أنّ سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی الشبهة غیر المحصورة ناشئ من کون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف وذاک الطرف احتمالاً ضعیفاً جدّاً وغیر معتدٍّ به؛ لکثرة الأطراف التی یتردد المعلوم بالإجمال فی ما بینها، لنفترض أنّ الأطراف ألف طرف، فاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف هو عبارة عن واحد من ألف، وهو احتمال ضعیف یقوم علی خلافه الاطمئنان، یعنی هناک اطمئنان بعدم الانطباق علی هذا الطرف، وهذا الاطمئنان حجّة عقلائیة، وحجّة شرعاً أیضاً، ولو باعتبار أنّه مورد عمل العقلاء ولم یردع عنه الشارع، فهناک اطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، فیکون حاله حال العلم بعدم التکلیف فی هذا الطرف. لو علم بعدم وجود تکلیفٍ فی هذا الطرف، لا إشکال فی أنّه یجوز له ارتکابه، الاطمئنان حاله حال العلم، والاطمئنان ینشأ باعتبار ما قلنا من أنّ احتمال الانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف عندما تکون الأطراف کثیرة یکون احتمالاً ضعیفاً جدّاً؛ ولذا یسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، وبهذا یختلف عن العلم الإجمالی فی الشبهة المحصورة؛ لأنّ احتمال الانطباق فی الشبهة المحصورة احتمال معتدّ به، ولیس هناک اطمئنان بعدم الانطباق علی هذا الطرف، أو ذاک الطرف فی الشبهة المحصورة.

ص: 1

أجیب عن هذا الدلیل بأجوبة ثلاثة، تقدّمت مفصّلاً، وتقدّم ردّها أیضاً، ولا داعی للتکرار، وتبیّن ___________ بحسب النتیجة التی تقدّمت __________ أنّه لا بأس بهذا الدلیل للاستدلال به علی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی الشبهة غیر المحصورة.

الکلام الآن عن الدلیل الثانی، ولعلّنا ذکرنا شیئاً قلیلاً منه فی الدروس السابقة، وهو ما تقدّم سابقاً نقله عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) من جعل المیزان فی الشبهة غیر المحصورة هو عدم التمکّن من المخالفة القطعیة، باعتبار کثرة الأطراف، بمعنی أننا نفترض فی الشبهة غیر المحصورة کثرة الأطراف إلی درجةٍ لا یتمکّن المکلّف من ارتکابها جمیعاً، فلا یکون قادراً علی المخالفة القطعیة. بعد أن ذکر هذا المیزان رتّب علیه سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة بلحاظ أدلّة الأصول الترخیصیة؛ إذ لا مانع حینئذٍ من إجراء الأصول الترخیصیة فی جمیع هذه الأطراف؛ لأنّ جریان الأصول فی جمیع الأطراف لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لعدم تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة بحسب الفرض، إنّما نمنع من جریان الأصول الترخیصیة فی أطراف العلم الإجمالی باعتبار أنّ ذلک یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة للمعلوم بالإجمال، فنمنع من جریان الأصول الترخیصیة فی أطراف العلم الإجمالی، هذا إنّما یتحقق فی الشبهة المحصورة؛ لأنّ جریان الأصول الترخیصیة فی تمام الأطراف یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، لتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، والأصول إذا جرت فی أطراف العلم الإجمالی ترخّص له فی المخالفة القطعیة، لکن فی محل الکلام لا؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف غیر قادر علی المخالفة القطعیة، فأیّ ضیر فی إجراء الأصول فی تمام الأطراف ؟ وهذا هو سبب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة.

ص: 2


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص276.

ذکرنا سابقاً أنّ بعض عبارات المحقق النائینی(قدّس سرّه) قد یُستفاد منها شیء آخر، لکن قلنا أنّ التعویل هو علی هذا الوجه الذی ذکرناه، وحاصله: أنّه لا مانع من جریان الأصول الترخیصیة فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة؛ لأنّ ذلک لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ باعتبار عدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، وکأنّه یری أنّ المانع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف هو فقط وفقط أنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وحیث أننا فرضنا فی الشبهة غیر المحصورة عدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة، فلا مانع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف. هذا هو الدلیل الثانی.

أورد السید الخوئی(قدّس سرّه) علی هذا الدلیل بإیرادین: (1)

الإیراد الأوّل: أنّ عدم التمکّن من المخالفة القطعیة لا یُلازم الشبهة غیر المحصورة، وإنّما قد یتحقق فی الشبهة المحصورة أیضاً، علی ما ذکرنا سابقاً من المثال بأنّه لو فرضنا أنّه علم بحرمة الجلوس فی أحد مکانین فی آنٍ واحدٍ، فهو لا یتمکّن من المخالفة القطعیة، عدم التمکّن من المخالفة القطعیة لا یُلازم کون الشبهة غیر محصورة؛ لأنّه قد یتحقق مع الشبهة المحصورة، فهل نلتزم فی الشبهة المحصورة بجواز إجراء الأصول فی أطرافها ؟ باعتبار أنّ إجراء الأصول فی أطرافها لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لعدم قدرة المکلّف علیها، وهذا أمر یمکن فرضه فی الشبهة المحصورة کما مثّلنا، المکلّف غیر قادر علی أن یجلس فی مکانین فی آنٍ واحدٍ، إذن: هو غیر قادر علی المخالفة القطعیة مع کون الشبهة محصورة، فلازم هذا الکلام أن نجوّز له إجراء الأصول فی الطرفین، والحال أنّه لا أحد یقول بإمکان إجراء الأصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی إذا کانت الشبهة محصورة. هذا الإیراد الأوّل، وهو اشبه بالإیراد النقضی.

ص: 3


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص381.

الإیراد الثانی: المحذور الذی یلزم من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف لا ینحصر فی أنّ إجراء الأصول فی جمیع الأطراف یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، لیس هذا هو المحذور فقط حتّی یقال أنّ المکلّف إذا کان غیر قادر علی المخالفة القطعیة، فلا محذور فی إجراء الأصول فی جمیع الأطراف؛ لأنّ إجراءها لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ بل هناک محذور آخر یلزم من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف وهو ما یسمّیه بالترخیص القطعی بالمخالفة، وإن لم یؤدِّ إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لعدم قدرة المکلّف علیها _________ بحسب الفرض __________ لکنّه ترخیص قطعی بالمخالفة، إجراء الأصول فی جمیع الأطراف، والالتزام بالترخیص فی هذا الطرف وذاک الطرف وذاک الطرف.... الالتزام بالترخیص الشرعی الظاهری الثابت باعتبار الأصول الجاریة فی هذه الأطراف هو ترخیص قطعی بالمخالفة؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف یعلم بثبوت الإلزام فی واحد من هذه الأطراف علی الأقل، فکیف یُرخّص له الشارع فی جمیع الأطراف ؟! وهذا محذور آخر غیر مسألة أنّ إجراء الأصول فی جمیع الأطراف یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ بل، وإن لم یؤدِّ إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لعدم قدرة المکّلف علیها کما فرضه فی الشبهة غیر المحصورة، وفرضه السید الخوئی(قدّس سرّه) فی المثال المتقدّم فی الشبهة المحصورة، وإن لم یؤدِّ إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، لکن نفس الترخیص فی الطرفین مع علم المکلّف بأنّ أحدهما حرام هذا ترخیص قطعی بالمخالفة، ولا یمکن أن یصدر من الشارع ترخیص قطعی بالمخالفة للتکلیف الذی یعلم به المکلّف، وإن لم یکن متمکّناً من المخالفة القطعیة، لکن نفس ترخیص الشارع له فی ارتکاب هذا الطرف فی مثال حرمة الجلوس فی أحد مکانین، ترخیصاً ظاهریاً مستفاداً من أدلّة الأصول العملیة الترخیصیة، ویرخّص له الجلوس فی هذا الطرف مع افتراض أنّ أحدهما حرام شرعاً، یقول: هذا غیر ممکن، ولا یمکن الالتزام به، هذا محذور فی حدّ نفسه وهو یمنع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف حتّی لو فُرض عدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة.

ص: 4

بالنسبة إلی الإیراد الأوّل ________ النقضی ________ لعلّه تقدّم دفعه، وحاصله: أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) عندما ذکر هذا الدلیل ذکر أنّ الشبهة غیر المحصورة یعتبر فیها أمران: عدم التمکّن من المخالفة القطعیة وکثرة الأطراف، یعنی أنّ الشبهة غیر المحصورة عنده هی الشبهة التی تکون أطرافها کثیرة جدّاً بحیث لا یتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة. یعنی کلامه فی عدم التمکّن من المخالفة القطعیة الناشئ من کثرة الأطراف، فلا معنی للإیراد علیه بالشبهة المحصورة فی مثال حرمة الجلوس فی أحد مکانین، هو یقول فی مورد عدم التمکّن من المخالفة القطعیة الناشئ من کثرة الأطراف لا مانع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف. یظهر أنّ الإیراد علیه کأنّه إیراد علیه بموردٍ آخر هو قد لا یلتزم بجواز إجراء الأصول فی جمیع الأطراف فی ذلک المورد؛ لأنّه یری أنّ عدم التمکّن من المخالفة القطعیة الموجب لسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز هو خصوص ما کان ناشئاً من کثرة الأطراف وسعتها، وهذا کلام یختص بالشبهة غیر المحصورة، ولا یشمل الشبهة المحصورة. هکذا یُدفع الإیراد الأوّل للسید الخوئی(قدّس سرّه).

وأمّا إیراده الثانی، فیُدفع بأن یقال: لماذا یکون الترخیص القطعی بالمخالفة محذوراً یمنع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف ؟ بل الترخیص القطعی بالمخالفة لیس محذوراً یمنع من إجراء الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی، والوجه فی ذلک مبنی علی الرأی الذی یری بأنّه لا یوجد هناک قبح ذاتی ومحذور عقلی فی جریان الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی مطلقاً، فضلاً عن إجراءها فی بعض الأطراف، مع افتراض عدم أداء ذلک إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة کما هو المفروض فی محل کلامنا.

ص: 5

توضیح المطلب: باعتبار أنّ القبح والمحذور إنّما هو باعتبار أنّ الترخیص فی تمام الأطراف بعد إجراء الأصول العملیة المؤمّنة فی تمام الأطراف ینافی التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال. قد یقال أنّ إجراء الأصول المؤمّنة فی تمام الأطراف یلزم منه محذور ذاتی، ومحذور عقلی باعتبار هذه المنافاة للتکلیف المعلوم بالإجمال. الجواب یقول لا توجد منافاة بینهما؛ لأنّ المنافاة بینهما کالمنافاة بین الأحکام الظاهریة والأحکام الواقعیة، إمّا أن تکون المنافاة بلحاظ عالم الجعل، وإمّا أن تکون المنافاة بلحاظ عالم المبادئ، وإمّا أن تکون المنافاة بلحاظ عالم ما یترتّب علی هذا التکلیف من أحکامٍ عقلیةٍ من قبیل وجوب الموافقة القطعیة، أو حرمة المخالفة القطعیة، ویدّعی بعدم وجود المنافاة فی جمیع هذه العوالم بین الترخیص فی تمام الأطراف، وبین التکلیف الإلزامی المعلوم بالإجمال.

أمّا بلحاظ عالم الجعل: فقالوا أنّه أمر واضح؛ لأنّ عالم الجعل سهل المئونة ولیس فیه مؤنة زائدة إذا جرّدناه عن کل شیء، عن مبادئه، وعن ما یتطلّبه فی مقام الامتثال، إذا جرّدناه عن کل ذلک، ولاحظناه کجعلٍ هو سهل المئونة، لا توجد منافاة بین جعل الحکم الظاهری الذی هو الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال.

وأمّا بلحاظ عالم المبادئ: أیضاً لا منافاة بینهما، إمّا باعتبار ما هو المعروف عن السید الخوئی(قدّس سرّه) من أنّه یری أنّ مبادئ الأحکام الظاهریة هی فی نفس جعلها لا فی متعلّقاتها، یعنی فی نفس جعلها یوجد مبدأ ومصلحة وملاک، بینما مبادئ الأحکام الواقعیة هی فی المتعلّقات، وهذا معناه أنّ الموضوع متعدد، یعنی مبدأ الحکم الظاهری قائم فی الجعل لا فی المتعلّق، بینما مبدأ الحکم الواقعی قائم فی الفعل، وفی المتعلّق، فلا تضاد؛ لتعدد الموضوع؛ لأنّ التضاد والمنافاة إنّما تکون حینما یجتمع المبدآن المتضادان فی شیءٍ واحدٍ، الحکم الإلزامی ____________ فرضاً ____________ ینشأ من مفسدةٍ هی المبدأ، والحکم الترخیصی ینشأ من مصلحةٍ فی إطلاق العنان، عندما یجتمع هذان المبدآن فی الفعل یحصل التضاد والمنافاة؛ إذ لا یُعقل أن یکون الشیء الواحد فیه مصلحة الإلزام، وفیه مصلحة الترخیص. أمّا إذا قلنا أنّ مبدأ الحکم الظاهری قائم فی نفس جعله لا فی المتعلّق، والمتعلّق یختص بمبدأ الحکم الواقعی فقط؛ فحینئذٍ یتعددّ الموضوع، وترتفع المنافاة، فلا تضاد بینهما. هذا علی رأی السید الخوئی(قدّس سرّه).

ص: 6

ویمکن حلّ المنافاة علی رأی آخر تقدّم سابقاً فی بحث الأحکام الظاهریة، وهو أن یقال: أنّ الأحکام الظاهریة أصلاً لیس لها مبادئ مستقلّة فی قِبال مبادئ الأحکام الواقعیة، وإنّما مبادئها هی نفس مبادئ الأحکام الواقعیة، وذلک لما تقدّم سابقاً من أنّ الأحکام الظاهریة تُعبّر عن أهمیة المبادئ الواقعیة المناسبة لها عندما یقع هناک تزاحم فی مقام الحفظ بینها وبین المبادئ الأخری، الأحکام الظاهریة تعبّر عن اهتمام الشارع بالمبدأ الواقعی المناسب لها عندما یحصل تزاحم حفظی بین نوعین من المبادئ الواقعیة، الحکم الظاهری هو تعبیر، وکاشف عن أهمیة المبادئ الواقعیة المناسبة لها فی قِبال المبادئ الأخری. الترخیص الظاهری هو یعبّر عن اهتمام الشارع بالمباحات الواقعیة، واهتمام الشارع بمصلحة إطلاق العنان الذی هو مبدأ المباحات الواقعیة، عندما تختلط وتشتبه مع مبادئ الأحکام الإلزامیة ویتحیّر المکلّف ولا یعلم ما هو الثابت واقعاً؛ حینئذٍ یحصل تزاحم حفظی، أن کیف تُحفظ هذه المبادئ ؟ إلزام المکلّف بالاحتیاط تُحفظ به مبادئ الأحکام الإلزامیة، لکن علی حساب مبادئ المباحات الواقعیة؛ لأنّه یحصل فیه إلزام للمکلّف؛ وحینئذٍ لا إطلاق للعنان، وسوف ترتفع مصلحة إطلاق العنان وتُقدّم علیها مصلحة الأحکام الواقعیة الإلزامیة. أمّا جعل الترخیص الظاهری فمعناه بالعکس، أنّ مبادئ المباحات الواقعیة أهم فی نظر الشارع؛ ولذا جعل الترخیص حتّی لو أدّی ذلک إلی فوات مبادئ الأحکام الإلزامیة؛ لأنّه یری أنّ مبادئ الأحکام الترخیصیة أهم من مبادئ الأحکام الإلزامیة.

إذن: الترخیص الظاهری هی أحکام ظاهریة لیس لها مبادئ مستقلّة فی قِبال مبادئ الأحکام الواقعیة؛ بل أنّ مبادئها هی نفس مبادئ الأحکام الواقعیة؛ وحینئذٍ یمکن أن یقال فی المقام بأنّه لا محذور فی افتراض الترخیص فی جمیع الأطراف، وإجراء الأصول المؤمّنة فی جمیع الأطراف، ولا مشکلة فی ذلک حتّی بلحاظ عالم المبادئ؛ لأنّ هذا الترخیص یُعبّر عن اهتمام الشارع بمصلحة إطلاق العنان، أنّ الشارع یرید للمکلّف أن لا یقع فی الضیق، وأن یکون مطلق العنان، فی موارد الاشتباه یقدّم هذه المصلحة ولو علی حساب مبدأ الحکم الواقعی الإلزامی؛ لأنّه إذا أجری الأصول فی جمیع الأطراف، سوف یؤدّی هذا إلی فوات مبدأ الحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال، یقول لا محذور فی ذلک؛ لأنّ الشارع یهتم بمبادئ المباحات الواقعیة بالنسبة إلی مبادئ الأحکام الإلزامیة التی تختلط وتشتبه معها.

ص: 7

إذن: لا یوجد هناک منافاة بین علمنا إجمالاً بثبوت التکلیف فی أحد هذه الأطراف، وبین الترخیص الظاهری فی جمیع الأطراف؛ لأنّ هذا یعنی أنّ الشارع لاحظ ووازن فی مقام التزاحم الحفظی، وقدّم مصلحة إطلاق العنان، قال: أنا أری أنّ المصلحة تقتضی أن یکون المکلّف مطلق العنان فی جمیع هذه الأفعال حتّی إذا استلزم ذلک فوات الغرض الإلزامی، فلا یکون هناک أیضاً منافاة بینهما.

وأمّا بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف فی مقام الامتثال: فأیضاً یقال بعدم وجود تنافٍ بین الترخیص الظاهری فی تمام الأطراف، وبین التکلیف الإلزامی المعلوم بالإجمال، لا یوجد تنافٍ بینهما أصلاً؛ وذلک باعتبار أنّ ما یتطلّبه التکلیف عقلاً فی مقام الامتثال هو أحد شیئین: إمّا حرمة المخالفة القطعیة، وإمّا وجوب الموافقة القطعیة، بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة، صحیح التکلیف الإلزامی المعلوم بالإجمال هو بذاته یتطلّب فی مقام الامتثال حرمة المخالفة القطعیة، بمعنی أنّ هناک حکم عقلی یترتب علی هذا التکلیف المعلوم بالإجمال، إذا علم المکلّف بالتکلیف الإلزامی یحکم العقل بحرمة مخالفته، لکن فی محل کلامنا لا معنی لأن یقال أنّ الترخیص الظاهری فی تمام الأطراف ینافی حکم العقل بحرمة مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأننا فرضنا أنّ المکلّف غیر قادر علی المخالفة القطعیة، فی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) فرض أنّ الشبهة غیر المحصورة هی الشبهة التی لا یتمکّن المکلّف فیها من المخالفة القطعیة نتیجة کثرة الأطراف. فإذن: الترخیص فی تمام الأطراف لا یکون منافیاً لهذا الحکم العقلی؛ لعدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة بحسب الفرض، فإذن: لا یوجد تنافٍ.

نعم، فی موردٍ آخر یمکن أن یقال فی موارد العلم الإجمالی فی الشبهة المحصورة، هذا التکلیف المعلوم بالإجمال الدائر بین طرفین یتطلّب حرمة المخالفة القطعیة، وجعل الترخیص فی کلا الطرفین، والأذن للمکلّف فی اقتحام کلا الطرفین ینافی حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، لکن فی محل کلامنا المفروض أنّ المکلّف غیر قادرٍ علی المخالفة القطعیة، فلا یکون الترخیص فی تمام الأطراف منافیاً لهذا الحکم العقلی. هذا بالنسبة إلی هذا الأثر العقلی للتکلیف.

ص: 8

الأثر الثانی العقلی للتکلیف __________ إذا قیل به ____________ وهو وجوب الموافقة القطعیة، أنّ التکلیف المعلوم بالإجمال تجب موافقته القطعیة، هذا أیضاً لا ینافی الترخیص فی تمام الأطراف؛ لأنّ المفروض أننا نتکلّم فی کل هذا الکلام بناءً علی الاقتضاء ولیس بناءً علی العلّیة التامّة بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة الذی هو أیضاً مبنی المحقق النائینی(قدّس سرّه) وکلامه مبنی علیه، والاقتضاء بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة یعنی أنّ العقل یحکم بأنّ التکلیف المعلوم بالإجمال تجب موافقته القطعیة ما لم یُرخّص الشارع فی ترک الموافقة القطعیة، والاقتضاء دائماً هذا معناه، والمفروض أنّ أدلّة الأصول هی ترخیص شرعی فی ترک الموافقة القطعیة. مثل هذا الترخیص لا یکون منافیاً حینئذٍ لحکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة معلّق علی عدم ورود الترخیص، إذا لم یرخّص الشارع تجب الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، لو ورد الترخیص من الشارع لا یکون منافیاً لهذا الحکم المعلّق، وحیث أنّ الترخیص الذی یُراد إثباته فی محل الکلام هو ترخیص مستفاد من الأدلّة الشرعیة، أدلّة الأصول المؤمّنة، فهو ترخیص شرعی فی ترک الموافقة القطعیة، فلا یکون منافیاً لحکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة.

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی الدلیل الثانی للمحقق النائینی(قدّس سرّه) علی سقوط العلم الإجمالی فی موارد الشبهة غیر المحصورة عن المنجّزیة بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة. قلنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) أورد علیه بإیرادین، نقضی وحلّی، ذکرنا الإیراد النقضی، وذکرنا ما دُفع به، وانتهی الکلام إلی الإیراد الثانی الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه)، وما دُفع به هذا الإیراد کان هو أنّ المحذور لیس هو فقط أننا نمنع من إجراء الأصول؛ لأنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، حتّی یُقال أنّه فی فرض عدم القدرة علی المخالفة القطعیة لا مانع من إجراء الأصول؛ لأنّ إجرائها لا یؤدّی بالنتیجة إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لعدم قدرة المکلّف علیها.

ص: 9

والجواب عن هذا الإیراد هو: أصلاً لیس هناک محذور فی الجمع بین الترخیص الظاهری فی تمام الأطراف، فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، لا یوجد محذور ثبوتی، ولا یوجد مانع عقلی یمنع من الجمع بینهما؛ لما ذُکر فی الدرس السابق من أنّ الأحکام الظاهریة إنّما یُدّعی تنافیها مع الأحکام الواقعیة إمّا بلحاظ مرحلة الجعل، أو بلحاظ المبادئ، وإمّا بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف المعلوم بالإجمال من آثار کحرمة المخالفة القطعیة، ووجوب الموافقة القطعیة، وتبیّن ممّا تقدّم بناءً علی هذا الکلام أنّه لا منافاة بین الترخیص الظاهری وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، فضلاً عن عدم المنافاة بین الترخیص الظاهری وبین التکلیف المحتمل والمشکوک، کما فی الشبهات البدویة. أصلاً لا منافاة بینهما، بناءً علی النظریة التی تقول أنّ الأحکام الظاهریة هی تعبیر عن أهمیة الملاکات الواقعیة المناسبة لها عندما یکون هناک تزاحم حفظی بینها وبین المبادئ المقابلة لها. هذا دفع الإیراد الثانی.

بالنسبة إلی دفع الإیراد النقضی الأوّل الذی ذکرناه فی الدرس السابق، الظاهر أنّ هذا الدفع لیس تامّاً، السید الخوئی(قدّس سرّه) کان یقول فی إیراده علی المیرزا النائینی(قدّس سرّه): أنّ عدم التمکّن من المخالفة القطعیة لا یختص بالشبهات غیر المحصورة؛ بل قد یحصل فی الشبهة المحصورة، فی بعض الأحیان قد لا یتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة کما فی مثال حرمة المکث فی أحد مکانین فی آنٍ واحد، فإذا قلنا بأنّ کل علم إجمالی لا یتمکّن المکلّف من مخالفته القطعیة یجوز إجراء الأصول فیه، فلازم ذلک أن نقول بجواز إجراء الأصول فی الشبهة المحصورة عندما یُفترض عدم تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، وهذا ممّا لا یلتزم به المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 10

دفع هذا الإیراد __________ علی ما نقلناه فی الدرس السابق ____________ هو أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یری ذلک إلاّ فی الشبهة غیر المحصورة؛ لأنّه یعتبر فی الشبهة غیر المحصورة أمرین:(أحدهما) عدم التمکّن من المخالفة القطعیة. و(ثانیهما) کثرة الأطراف.

وبعبارةٍ أخری: یعتبر فی الشبهة غیر المحصورة عدم التمکّن الناشئ من کثرة الأطراف، فلا مجال للإیراد والنقض علیه بالشبهة المحصورة.

أقول: هذا الدفع لیس تامّاً؛ بل الظاهر أنّ الإیراد النقضی للسید الخوئی(قدّس سرّه) وارد إلی هنا؛ لأننا لا نتکلّم فعلاً عن مسألة المیزان فی الشبهة غیر المحصورة، ولا نتکلّم عن تسمیّة الشبهة بالشبهة غیر المحصورة حتّی یقال إذا کان المیزان للشبهة غیر المحصورة هو عدم التمکن، فعدم التمکن موجود فی الشبهة المحصورة، فیُجاب عن ذلک بأنّ المیزان عند المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی الشبهة غیر المحصورة لیس هو عدم التمکّن مطلقاً، وإنّما هو عدم التمکّن الناشئ من کثرة الأطراف، وهذا لا یتحقق فی الشبهة المحصورة، حتّی لو لم یتمکن المکلّف من المخالفة القطعیة؛ لأنّ عدم التمکن لم ینشأ من کثرة الأطراف، لو کان الکلام فی ما هو المیزان للشبهة غیر المحصورة؛ فحینئذٍ یکون دفع الإیراد علی المحقق النائینی(قدّس سرّه) تامّاً، لکن الکلام فعلاً لیس فی هذا، الکلام فعلاً فی إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یقول لا مانع من إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، ویُعلل ذلک بأنّ هذا لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، (1) وهذا یرد علیه ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) من أنّه لو کانت العلّة فی جواز إجراء الأصول هو مجرّد أنّ إجرائها لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذا قد یُفترَض فی الشبهة المحصورة فی المثال الذی ذکره، فی الشبهة المحصورة فی المثال الذی ذکره حرمة المکث فی أحد مکانین فی آنٍ واحد لا یتمکن المکلّف من المخالفة القطعیة، بناءً علی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) ینبغی أن نلتزم بجواز إجراء الأصول فیها؛ لأنّ إجراء الأصول فی هذه الشبهة لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لأنّ المکلّف غیر قادر علیها، فهل یلتزم بإجراء الأصول فی الشبهة المحصورة إذا کانت کذلک ؟ طبعاً لا یلتزم بذلک، بقطع النظر عن التسمیة، وبقطع النظر عن المیزان، هذه شبهة محصورة وتلک شبهة غیر محصورة، لکن تعلیل جواز إجراء الأصول فی الشبهة غیر المحصورة بعدم القدرة علی المخالفة القطعیة، وهذه العلّة موجودة فی بعض أمثلة الشبهة المحصورة، هذا یجعل الإیراد النقضی وارداً علیه؛ إذ یقال له بأنّه فی الشبهة المحصورة أیضاً إجراء الأصول فی هذه الأمثلة لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فینبغی أن یلتزم بجواز إجراء الأصول فی أطراف الشبهة المحصورة إذا کانت من هذا القبیل، وهذا ما لا یلتزم به المحقق النائینی(قدّس سرّه)، فالظاهر أنّ الإیراد النقضی یکون وارداً.

ص: 11


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص121.

وأمّا الجواب عن الإیراد الثانی، فهو بهذا الشکل الذی نقلناه فی الحقیقة سیأتی التعرّض له فی الدلیل الثالث الذی یُستدلّ به علی سقوط العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة عن المنجّزیة، لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة.

الدلیل الثالث: أنّ المنافاة بین الترخیص الظاهری وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال: إمّا أن تکون بلحاظ عالم الجعل، أو بلحاظ المبادئ، أو بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف المعلوم بالإجمال فی مقام الامتثال، ویُدّعی فی الدلیل الثالث بأننا لا نجد منافاة بینهما فی شیءٍ من هذه العوالم. یقول الدلیل الثالث: نحن نمنع وجود مانعٍ عقلی من الترخیص الظاهری فی أطراف العلم الإجمالی؛ لما قلناه فی الدرس السابق، ولا حاجة إلی التکرار؛ لأنّه لا یوجد بینهما تنافٍ عقلی، لا بلحاظ عالم الجعل، ولا بلحاظ عالم المبادئ، ولا بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف الواقعی فی مقام الامتثال من حرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة. أمّا بلحاظ عالم الجعل، فواضح، وأمّا بلحاظ المبادئ، فلنلتزم ______________ فرضاً _____________ بما یقوله السید الخوئی(قدّس سرّه) من أنّ مبادئ الأحکام الظاهریة فی نفس جعلها، فیتعددّ الموضوع ویرتفع التنافی؛ لأنّ التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال مبادئه قائمة فی المتعلّق، بینما مبادئ الحکم الظاهری قائمة فی نفس جعله، فیتعدد الموضوع، فیرتفع التنافی. ولا بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف الواصل إلی المکلّف بالعلم الإجمالی من أمور کحرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة، أمّا حرمة المخالفة القطعیة فلا یوجد تنافٍ بین الترخیص الظاهری وبینها؛ لما قلناه من أنّ المفروض فی محل الکلام أنّ المکلّف غیر قادر علی المخالفة القطعیة، هو لا یتمکن من المخالفة القطعیة، فلا معنی لأن نقول أنّ الترخیص یکون محال، وفیه محذور عقلی؛ لأنّه ینافی حرمة المخالفة القطعیة مع أنّ المفروض أنّ المکلّف غیر قادرٍ علی المخالفة القطعیة. ولا بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة أیضاً لما ذکرناه من أننا نتکلّم بناءً علی الاقتضاء، وبناءً علی الاقتضاء یکون وجوب الموافقة القطعیة الذی یحکم به العقل معلّق علی عدم الترخیص الشرعی، فإذن: لا یُعقل أن یکون منافیاً لما عُلّق علیه، أی لا یُعقل أن یکون منافیاً لهذا الترخیص. فلا توجد منافاة عقلیة، ولا مانع عقلی من الجمع بین الترخیص الظاهری فی کل أطراف العلم الإجمالی وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال.

ص: 12

نعم، یوجد هناک محذور عقلائی فی الجمع بین الترخیص الظاهری فی أطراف العلم الإجمالی وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، المحذور لیس عقلیاً، وإنّما المحذور عقلائی، بمعنی أنّ العقلاء لا یرون إمکان الجمع بین الترخیص وبین التکلیف الواقعی الواصل إلی المکلّف بالعلم الإجمالی، لا یقبلون هذا الترخیص؛ باعتبار أنّ العقلاء فی ما بینهم، فی تکالیفهم، فی ما یرونه من تکالیف بین الموالی وبین العبید لا یرون أنّ الغرض الترخیصی یتقدّم علی الغرض الإلزامی الواصل بعلمٍ إجمالی، فی تکالیفهم لا محذور ___________ بحسب نظرهم ____________ فی تقدّم الغرض الترخیصی علی الغرض الإلزامی غیر الواصل، المحتمل کما فی الشبهات البدویة، لا مشکلة فی نظر العقلاء من أنّ الشارع یجعل البراءة، وتقدیمه للغرض الترخیصی علی الغرض الإلزامی المحتمل، فی الشبهات البدویة یحتمل الوجوب ویحتمل الحرمة، لکن الشارع یقدّم الغرض الترخیصی علی الغرض الإلزامی المحتمل، هذا شیء طبیعی ومتعارف فیما بینهم. أمّا عندما یکون الغرض اللّزومی واصلاً إلی المکلّف بعلمٍ، ولو کان إجمالیاً، العقلاء لا یقبلون الترخیص فی الأطراف، ویعتبرونه منافیاً بحسب نظرهم لهذا الغرض اللّزومی الواصل إلی المکلّف؛ لأنّهم فی ما بینهم لا یرون تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة فی صورة وصول الغرض اللّزومی إلی المکلّف، ولو بعلمٍ إجمالی، وإنّما یرون إمکانیة هذا التقدیم وصحّته عندما یکون الغرض اللّزومی محتملاً، ومشکوکاً، لکن مع وصوله بعلمٍ إجمالی لا یرون هذا التقدیم.

لکن، هذا المانع العقلائی یختص بما إذا کان التردد فی الغرض اللّزومی الواصل تردداً بین أطرافٍ کثیرة، یعنی یختص بالشبهة المحصورة، هنا یوجد محذور عقلائی یمنع من الالتزام بالترخیص، وأمّا عندما تکون الأطراف کثیرة جدّاً کما فی محل الکلام، هنا یرتفع حتّی هذا المحذور العقلائی، لا محذور عقلائی فی تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الغرض اللّزومی الواحد المشتبه والمتردد بین أطرافٍ کثیرة جدّاً، هنا لا مانع من تقدیم الأغراض الترخیصیة عندما یقع التزاحم بینها وبین غرض لزومی واحد ____________ مثلاً ___________ مردد بین أطرافٍ کثیرة، کما فی الشبهات غیر المحصورة، فی الشبهات غیر المحصورة إذا قدّمنا الغرض اللّزومی فأننا نلزم المکلّف بالاحتیاط فی جمیع هذه الأطراف الألف، یعنی نلزمه بترک __________ مثلاً ___________ 999 مباح واقعی فی سبیل تحصیل الغرض اللّزومی، هذا عندهم لا یستقیم، لا مانع حینئذٍ من تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الغرض اللّزومی، أغراض ترخیصیة کثیرة تفوت عندما یُقدّم علیها الغرض اللّزومی، هنا لا یرون مانعاً ولا محذوراً فی تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الغرض اللّزومی الواحد الواصل إلی المکلّف والمردد بین الأطراف الکثیرة، فلا یوجد محذور عقلی کما قلنا سابقاً، ولا یوجد محذور عقلائی فی الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی عندما تکون أطرافه کثیرة جدّاً، وإن فات بذلک الغرض اللّزومی الواصل إلی المکلّف بعلمٍ إجمالی من هذا القبیل، ولعلّ السرّ فی التفرقة بنظر العقلاء، کما یُدّعی فی هذا الوجه، بین الشبهة المحصورة والشبهة غیر المحصورة هو أنّ تقدیم الغرض اللّزومی فی الشبهة المحصورة لا یلزم منه إلاّ فوات غرضٍ ترخیصی، أو غرضین ترخیصیین، أو ثلاثة، أو أربعة، أغراض ترخیصیة، وهی أغراض قلیلة، إذا قدّمنا الغرض اللّزومی، وألزمنا المکلّف بالاحتیاط فی الشبهة المحصورة تفوته أغراض ترخیصیة، لکن بالنتیجة هی أغراض ترخیصیة قلیلة؛ ولذا یهتم العقلاء هناک بالغرض اللّزومی، ولا یرون مانعاً من تقدیمه علی الأغراض الترخیصیة، ولا یرون تقدیم الأغراض الترخیصیة فی الشبهات المحصورة علی الغرض اللّزومی الواصل إلیه، بینما فی الشبهات غیر المحصورة، تقدیم الغرض الترخیصی کما قلنا یستلزم فوات ملاکات مبادئ متعددة لمباحات واقعیة، فوات أغراض ترخیصیة کثیرة فی کل أطراف هذا العلم الإجمالی ما عدا طرف واحد.

ص: 13

بعبارةٍ أخری: یلزم منه إلزام المکلّف بالترک فی مباحات واقعیة کثیرة؛ لأجل غرض ترخیصی، هذا لا یرونه العقلاء، ویرون أنّ هنا لا مانع من جعل الترخیص تقدیماً لهذه الأغراض الترخیصیة الواقعیة الکثیرة علی هذا الغرض اللّزومی الواحد الواصل إلی المکلّف بالعلم الإجمالی.

وعلی هذا الأساس؛ حینئذٍ یتّضح أنّ العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة لا یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة؛ فلذا یجوز إجراء الأصل فی هذا الطرف، وارتکابه، وإجراء الأصل فی الطرف الآخر وارتکابه.

الدلیل الرابع: علی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، هو ما ذکروه فی کلماتهم من دعوی أنّ وجوب الموافقة القطعیة التی تتحقق بالاجتناب عن کل الأطراف، یستلزم العسر والحرج علی المکلّف _____________ لنفترض أنّ الشبهة تحریمیة ______________ إلزام المکلّف بالاجتناب بالموافقة القطعیة فیه عسر وحرج، والعسر والحرج منفی بقاعدة نفی العسر والحرج؛ فحینئذٍ یرتفع التکلیف الموجب لوجوب الاحتیاط وموجب لوجوب الموافقة القطعیة، التکلیف المعلوم بالإجمال فی الشبهات غیر المحصورة، إذا نفینا وجوب الموافقة القطعیة من أجله، باعتبار أنّه یستلزم العسر والحرج؛ فحینئذٍ نفس التکلیف یکون مرتفعاً ومنفیّاً کما هو الحال فی سائر الموارد التی یکون التکلیف فیها حرجاً بالنسبة إلی المکلّف، فإنّ التکلیف یکون مرتفعاً، فلا یجب الاحتیاط، ولا تجب الموافقة القطعیة، فبالتالی هذا یکون دلیلاً علی عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهة غیر المحصورة، ویکون دلیلاً علی عدم وجوب الموافقة القطعیة. إذن: العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یستلزم العسر والحرج وهو منفی فی الشریعة المقدّسة.

نوقش فی هذا الدلیل:

ص: 14

أولاً: أنّ الحرج الموجب لرفع التکلیف شرعاً فی قاعدة نفی الحرج؛ بل قالوا حتّی الضرر فی قاعدة نفی الضرر یُراد به الحرج الشخصی والضرر الشخصی، القدر المتیقّن من قاعدة نفی الحرج، هو أنّ الحرج یُراد به الحرج الشخصی، ومن الواضح أنّ الحرج یختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، ویختلف باختلاف الخصوصیات التی یمکن ملاحظتها، قد یکون الشیء حرجیاً بالنسبة إلی شخصٍ، ولا یکون حرجیاً بالنسبة إلی شخصٍ آخر؛ حینئذٍ ما معنی أن نرفع التکلیف فی حق إنسانٍ مکلّف لا حرج علیه فی الاجتناب بقاعدة لا حرج ؟ لمّا کان موضوع قاعدة لا حرج هو الحرج الشخصی فهی تقول أنّ الشخص الذی یلزم من ثبوت التکلیف علیه، وإلزامه بامتثاله أن یقع فی الحرج، هذا یرتفع عنه التکلیف، لکن الشخص الآخر الذی لا یقع فی حرج فی امتثال هذا التکلیف وموافقته، هذا لا موجب لرفع التکلیف عنه؛ لأنّه _____________ بحسب الفرض _____________ لا یقع فی الحرج، إذا فرضنا أنّه علم بنجاسة أناء فی ضمن ألف أناء فی بلدٍ معیّن، اجتناب هذه الآنیة لمن یسکن ذلک البلد قد یکون حرجیاً بالنسبة إلیه، لکن الشخص الذی لا یسکن هذا البلد لا یکون اجتناب تمام تلک الأطراف بالنسبة إلیه حرجیاً؛ لأنّه بإمکانه أن یترک الذهاب إلی ذلک البلد ولا یقع فی الحرج، الموافقة القطعیة لهذا العلم الإجمالی بالنسبة إلی شخصٍ لا یسکن ذلک البلد لیس حرجیاً، وبالنسبة إلی شخصٍ یسکن ذلک البلد یکون حرجیاً. فالتمسّک بالقاعدة لنفی وجوب الاحتیاط، ووجوب الموافقة القطعیة عن ذاک الشخص الذی لا یسکن فی البلد، یکون بلا وجه، فلا یستفاد من القاعدة حکم عام یشمل جمیع المکلّفین کما هو المدّعی فی المقام، أنّ العلم الإجمالی فی الشبهات المحصورة یسقط عن التنجیز بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة عن الکل وبالنسبة إلی الکل، لا بلحاظ شخصٍ دون شخصٍ آخر. التمسّک لإثبات هذا المطلب بقاعدة لا حرج غیر صحیح.

ص: 15

ثانیاً: وهذه المناقشة محل خلاف، وحاصلها: یُدّعی أنّ أدلّة نفی الحرج لا تشمل محل الکلام؛ لأنّ الحرج فی محل الکلام لیس فی متعلّق التکلیف، وإنّما الحرج فی تحصیل الموافقة القطعیة لذلک التکلیف، متعلّق التکلیف فی محل الکلام لیس فیه حرج، وجوب الاجتناب عن ذلک الإناء النجس واقعاً لیس فیه حرج علی المکلّف، وإنّما یقع الحرج فی إلزام المکلّف بتحصیل الموافقة القطعیة لذلک التکلیف.

وبعبارةٍ أخری: إلزام المکلّف بإحراز امتثال ذلک التکلیف، هذا هو الذی یوقعه فی الحرج. إذن: الحرج لیس فی متعلّق التکلیف، وإنّما الحرج فی حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة فی حالات العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، ویُدّعی بأنّ أدلّة نفی الحرج لیست ناظرة إلی الأحکام العقلیة، وإنّما هی ناظرة إلی الأحکام الشرعیة، وتکون موجبة لرفع هذه الأحکام الشرعیة عندما تستلزم الحرج، تکون مخصصّة لأدلّة تلک الأحکام الشرعیة بغیر ما إذا کان یلزم منها الحرج، هی ناظرة إلی الأحکام الشرعیة ولیس لها نظر إلی الأحکام العقلیة حتّی یُستدل بها علی رفع تلک الأحکام العقلیة. ونحن فی المقام نرید أن نتمسّک بقاعدة نفی الحرج لرفع وجوب الاحتیاط، لرفع وجوب الموافقة القطعیة التی هی من الأحکام العقلیة ولیست من الأحکام الشرعیة.

هذا الرأی یتبناه صاحب الکفایة(قدّس سرّه) حیث یقول: أنّ قاعدة نفی الحرج تختص بخصوص الأحکام الشرعیة عندما یکون هناک حرج فی متعلّقها، ولا تشمل الأحکام العقلیة المترتبة علی ذلک؛ فلا یمکن التمسّک بها فی محل الکلام.

الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

ص: 16

کان الکلام فی الاستدلال علی عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهات غیر المحصورة: وکان الدلیل الرابع هو أنّ الاحتیاط ولزوم الاجتناب عن کل الأطراف یستلزم الحرج وهو منفی فی الشریعة؛ فحینئذٍ لا یجب الاحتیاط ولا تجب الموافقة القطعیة.

وانتهی الکلام إلی الجواب الثانی عن هذا الدلیل، وهو دعوی أنّ قاعدة لا حرج لا تشمل هذا الکلام؛ لأنّها ناظرة إلی الأحکام الشرعیة وتدل علی أنّ هذا الحکم الشرعی إذا لزم منه الحرج؛ فحینئذٍ یرتفع، ولیس لها نظر إلی الأحکام العقلیة کما هو الحال فی محل الکلام؛ لأنّ وجوب الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة هو ممّا یحکم به العقل لا الشرع باعتبار العلم الإجمالی، فالقاعدة لیس لها نظر إلی هذه الأحکام حتّی تکون رافعة لها.

قلنا أنّ هذا البحث محل کلام وخلاف، وذُکر هذا البحث بشکلٍ مفصّل فی دلیل الانسداد، حیث یذکر هذا البحث هناک عادّة، عندما یقال هناک أنّه بعد فرض انسداد باب العلم وباب العلمی؛ حینئذٍ قد یصار إلی الاحتیاط، ولا داعی إلی الالتزام بحجّیة الظنّ، وإنّما یجب علی المکلّف الاحتیاط، فهناک صاروا بصدد نفی وجوب الاحتیاط، واستدلوا علی عدم وجوب الاحتیاط بقاعدة لا حرج، باعتبار أنّ الاحتیاط عند انسداد باب العلم والعلمی یلزم منه الحرج. هناک استشکل صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی إمکانیة التمسّک بقاعدة لا حرج لنفی وجوب الاحتیاط بما حاصله هذا الذی ذکرناه من أنّ القاعدة لیس لها نظر إلی الأحکام العقلیة، وإنّما هی ناظرة إلی الأحکام الشرعیة، ووجوب الاحتیاط عند فرض انسداد باب العلم والعلمی لیس حکماً شرعیاً، وإنّما هو ممّا یحکم به العقل، فلا تکون القاعدة ناظرة إلی ذلک، ودالّة علی رفع هذا الحکم العقلی، فصاحب الکفایة(قدّس سرّه) إنّما التزم بذلک بناءً علی مبناه من تفسیر قاعدة لا حرج وقاعدة لا ضرر، صاحب الکفایة(قدّس سرّه) له رأیٌ فی تفسیر هذه القاعدة، حیث یری أنّ المنفی واقعاً وحقیقة فی هذه القواعد هو الحکم، لکنّه نُفی بلسان نفی الموضوع، والمقصود بقاعدة لا ضرر هو أنّ الحکم الشرعی عندما یکون موضوعه ضرریاً، أو حرجیاً یُنفی هذا الموضوع، والغرض الحقیقی هو نفی حکمه، فالمقصود هو نفی الحکم، لکن بلسان نفی الموضوع. الوضوء إذا کان ضرریاً، القاعدة تدلّ علی نفیه، والغرض نفی حکمه .... وهکذا فی سائر الموارد الضرریة، أو الحرجیة.

ص: 17

هذا التفسیر للقاعدة کأنّه یفترض أنّ القاعدة إنّما تشمل المورد إذا فرضنا أنّ موضوع الحکم الشرعی کان ضرریاً، أو حرجیاً، بأن نفترض أنّ هناک حکماً له موضوع، کما فی الوضوء، أو الغسل، فإذا کان الغسل حرجیاً، فالقاعدة تشمله؛ لأنّ هناک حکماً شرعیاً هو الوجوب، وموضوعه الغسل، وهذا الموضوع ضرری، أو حرجی؛ فحینئذٍ القاعدة تنفی الحکم بلسان نفی الموضوع، فلابدّ من افتراض کون موضوع الحکم حرجیّاً حتّی تکون القاعدة نافیة له بلسان نفی الموضوع. إذن: لابدّ من افتراض أن یکون موضوع الحکم حرجیاً، أو ضرریاً کما فی الوضوء، أو الغسل، ویقول أنّ هذا غیر متحقق فی محل الکلام؛ لأنّ موضوع الحکم الشرعی المعلوم بالإجمال فی محل الکلام لیس حرجیاً، ذاک التکلیف المعلوم بالإجمال المتعلّق بموضوعه لیس هناک حرج فی امتثاله، لو علم به المکلّف لجاء به بلا حرجٍ، وهذا معناه أنّ موضوع الحکم الشرعی لیس فیه حرج، وإنّما الحرج فی الاحتیاط من ناحیته، وفی الجمع بین المحتملات لأجله، الاحتیاط حرجی، والموافقة القطعیة فیها حرج، لکنّ الموافقة القطعیة، أو الاحتیاط لیس موضوعاً لحکمٍ شرعی، وإنّما هو موضوع لحکمٍ عقلی، فالقاعدة إنّما یصح تطبیقها فی مثل الوضوء الحرجی، والغسل الحرجی، وأمثال ذلک؛ لأنّ هذا موضوع حرجی له حکم شرعی، فالقاعدة تنفی هذا الحکم الشرعی، لکن بلسان نفی الموضوع الحرجی. أمّا الاحتیاط، فهو وإن کان یلزم منه الحرج، لکنّه لیس موضوعاً لحکمِ شرعی، وإنّما هو موضوع لحکمٍ عقلی، والقاعدة إنّما ترفع الحکم بلسان نفی موضوعه الحرجی إذا کان الحکم شرعیاً.

بقطع النظر عن صحّة هذا التفسیر للقاعدة؛ لأنّ هناک تفاسیر أخری قد لا یعتبر فیها ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، والذی هو التفسیر المشهور الذی اختاره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، واختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، حیث قالوا أنّ القاعدة تنفی الحکم مباشرة، والمنفی فیها هو الحکم، لا أنّ المنفی فیها هو الموضوع الحرجی، أو الضرری لغرض نفی الحکم، وإنّما هی تنفی الحکم مباشرة. بقطع النظر عن هذا، یمکن أن یقال: أنّ ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) مبنی علی عدم شمول القاعدة للأحکام العقلیة، وإنّما هی مختصّة بالأحکام الشرعیة، والقاعدة تدل علی نفی الموضوع الحرجی للحکم الشرعی لغرض نفی نفس الحکم الشرعی؛ فحینئذٍ لا تشمل الأحکام العقلیة. وأمّا إذا قلنا بشمول القاعدة حتّی للأحکام العقلیة؛ حینئذٍ لا یجری هذا الکلام؛ إذ یمکن تطبیق هذا التفسیر للقاعدة الذی اختاره المحقق الخراسانی(قدّس سرّه) بعد فرض الشمول، بأن یقال: أنّ موضوع الحکم العقلی __________ الاحتیاط، والموافقة القطعیة __________ یلزم منه الحرج، والقاعدة تنفی الحکم العقلی بلسان نفی موضوعه الحرجی، کما نطبّق ذلک علی الحکم الشرعی عندما یکون موضوعه حرجیاً، کذلک یمکن تطبیق القاعدة علی الحکم العقلی عندما یکون موضوعه حرجیاً کما فی محل الکلام؛ لأنّ المفروض أنّ الاحتیاط والموافقة القطعیة فیه عسر وحرج علی المکلّف، فالقاعدة حینئذٍ تنفی الحکم العقلی بلسان نفی موضوعه الحرجی، إذا قلنا بالشمول.

ص: 18

إذن: ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) مبنی علی افتراض عدم شمول القاعدة للأحکام العقلیة واختصاصها بخصوص الأحکام الشرعیة، وهذا یمکن المناقشة فیه، فاختصاص القاعدة بالأحکام الشرعیة لیس له وجه واضح، إلاّ دعوی استظهاره من أدلّة هذه القاعدة ﴿ما جعل علیکم فی الدین من حرج﴾. (1) معناه أنّ القضیة ناظرة إلی الدین، وأحکامه، ومن الواضح أنّ الحکم العقلی لیس من أحکام الدین، وإنّما هو من أحکام العقل، فقد یُستظهر من أدلّة القاعدة الاختصاص بخصوص أحکام الدین، أی الأحکام الشرعیة، فهی تنظر إلی هذا وتنفی هذا الحکم الشرعی بلسان نفی موضوعه الحرجی.

لکن یمکن أن یقال: أنّ حکم العقل بوجوب الاحتیاط لیس أجنبیاً عن الدین، وبعبارة أخری: حکم العقل بوجوب الاحتیاط لیس حکماً من قِبل حاکمٍ آخر له أحکامه، وله تشریعاته، وقوانینه فی مقابل الدین، وفی قِبال الشارع، الأمر لیس هکذا، الحکم العقلی بوجوب الاحتیاط، ووجوب الموافقة القطعیة مرجعه إلی وجوب إطاعة تکالیف المولی الصادرة منه بالنسبة إلی العبد، وهذا لیس أمراً أجنبیاً عن الدین، وإنّما هو حکم عقلی بوجوب الطاعة. أو قل __________ التعبیر بالحکم فیه مسامحة؛ لأنّ العقل لا یحکم وإنّما العقل یدرک __________ حکم العقل بوجوب الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة لا یتعدّی هذه المقولة، وهی أنّ العقل یدرک ثبوت حق الطاعة للمولی بالنسبة إلی العبد، فإذا وصل إلی العبد تکلیف المولی، العقل قد یقول قضاءً لحق الطاعة یجب موافقة هذا التکلیف، فإذن: هذا الحکم العقلی بوجوب الاحتیاط مرجعه إلی إدراک العقل أنّ المولی له حق الطاعة علی العبد، حق الطاعة لیس أمراً مجعولاً من قبل العقل، العقل لا یجعل هذا الحق، وإنّما هو أمر واقعی ثابت یُنتزع من نفس التکلیف الصادر من المولی، ولیس مجعولاً من قبل العقل. إذن: منشأ انتزاع هذا الحق، وبالتالی هذا الحکم العقلی، والإدراک العقلی بلزوم الطاعة ولزوم الاحتیاط، هو التکلیف الشرعی، وبهذا التسلسل حینئذٍ یمکن أن نقول أنّ الحکم العقلی بالاحتیاط ووجوب الطاعة هو من الدین ولیس أمراٍ مستقلاً عن الدین وخارجاً عنه؛ لأنّ مرجعه إلی إدراک العقل حق الطاعة للمولی، وهذا الحق منتزع من التکلیف الشرعی، فبالتالی یرجع إلی التکلیف الشرعی، فإذن: هو یرجع إلی الشارع، ویُعتبر من الدین؛ وحینئذٍ بإمکان الشارع یرفع حق الطاعة هذا برفع منشأ انتزاعه الذی هو عبارة عن التکلیف المعلوم الواصل إلی المکلّف بالإجمال بأن یجعل الترخیص، إذا جعل الترخیص معناه أنّه رفع هذا الحق، وبالتالی رفع هذا الحق یعنی رفع منشأ انتزاعه الذی هو عبارة عن التکلیف المعلوم بالإجمال، فیکون هذا من الدین ولیس شیئاً أجنبیاً حتّی یقال أنّ هذا الحاکم له الحق أن یقیّد أحکامه هو بغیر الحرج وغیر الضرر، أمّا أن یقیّد احکام حاکمٍ آخر بغیر الضرر وغیر الحرج، فلیس من حقّه ذلک. هذا إنّما یصح إذا کان هناک حاکمان مستقلان کلٌ منهما له تشریعاته وقوانینه، فیقال: أنّه لا معنی لأن یقیّد هذا أحکام ذاک، ولا معنی لأن یقیّد ذاک أحکام هذا. هذا لا یصح فی محل الکلام عندما یکون الحاکم هو العقل بملاک حق الطاعة للمولی فی أحکامه وتشریعاته؛ لأنّ هذا من الدین ولیس شیئاً أجنبیاً عن الدین، فیمکن أن یقال بشمول القاعدة، یعنی قضیة استظهاریة، یُدّعی بأن کون الآیة الشریفة تقول:﴿ما جعل علیکم فی الدین من حرج﴾ هذا لا یوجب خروج الأحکام العقلیة؛ بل الظاهر أنّ الأحکام العقلیة کوجوب الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة هو مشمول لهذه الآیة، ومشمول للقاعدة، والقاعدة تدلّ علی رفع هذا الحکم العقلی عندما یکون موضوعه حرجیاً. هذا من جهة.

ص: 19


1- حج/سوره22، آیه78.

ومن جهة أخری: أنّ هذا الذی ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لو فرضنا أنّه تم، والتزمنا بأنّ القاعدة لا تشمل الأحکام العقلیة، وإنّما تختص بخصوص الأحکام الشرعیة، لو تنزلنا وسلّمنا ذلک، لماذا لا یمکن تطبیق القاعدة علی وجوب الاحتیاط الشرعی، بأن ننفی وجوب الاحتیاط الشرعی فی محل الکلام، بأن نقول أنّ وجوب الاحتیاط الشرعی منفی بالقاعدة؛ لأنّ موضوع هذا الحکم الشرعی الذی هو الاحتیاط، حرجی، فالاحتیاط علی کل حالٍ هو حرجی، سواء کان موضوع الحکم عقلیاً، أو کان شرعیاً، فإذا کان موضوع هذا الحکم الشرعی حرجیاً، فتشمله القاعدة علی تفسیر صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، فیکون نفیاً للحکم الشرعی بلسان نفی موضوعه الحرجی الذی هو الاحتیاط الشرعی، فیمکن نفی وجوب الاحتیاط الشرعی عملاً بهذه القاعدة، ومن الواضح أنّ معنی نفی وجوب الاحتیاط الشرعی یعنی فی الحقیقة نفی منشأ انتزاع الاحتیاط الشرعی الذی هو عبارة عن اهتمام الشارع بتکلیفه المعلوم بالإجمال، فإذا نفینا الاحتیاط الشرعی، فأنّه یستلزم نفی منشأ انتزاعه الذی هو عبارة عن اهتمام الشارع بالتکلیف المعلوم بالإجمال، فالشارع لا یهتم بهذا التکلیف المعلوم بالإجمال.

علی کل حال، الظاهر، وفاقاً لکثیر من المحققین أنّ القاعدة تشمل الأحکام العقلیة، فیمکن تطبیقها علی وجوب الاحتیاط، ونفیه اعتماداً علی هذه القاعدة. ومن هنا یظهر أنّ الإیراد الثانی علی الدلیل الرابع لیس تامّاً؛ لأنّ الصحیح هو شمول القاعدة للأحکام العقلیة ولوجوب الاحتیاط.

الجواب الثالث: عن الدلیل الرابع، هو ما اشیر إلیه سابقاً من أنّ محل الکلام هو البحث عن وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهة غیر المحصورة المأخوذ فیها فقط وفقط کثرة الأطراف، یعنی أنّ عمدة البحث تنصب علی افتراض کثرة الأطراف فقط، أنّ هذه الکثرة هل تغیّر من الواقع شیئاً ؟ لا أن نضم إلی کثرة الأطراف نکاتاً أخری قد تقتضی عدم وجوب الموافقة القطعیة، هذا خروج عن محل البحث، فلا نضم إلی ذلک نکاتاً أخری قد تتّفق فی الشبهة المحصورة، لزوم العسر والحرج قد یتّفق فی الشبهات المحصورة، وکذلک الاضطرار إلی ارتکاب بعض الأطراف، وأیضاً خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، کل هذه النکات قد تتّفق فی الشبهات المحصورة، کلامنا لیس فی هذا، فنحن نتکلّم عن الشبهة غیر المحصورة من زاویة کثرة الأطراف فقط، وأنّ هذا هل یوجب الفرق بینها وبین العلم الإجمالی فی موارد الشبهات المحصورة، أو لا ؟ فافتراض لزوم العسر والحرج کأنّه خروج عن محل الکلام.

ص: 20

الدلیل الخامس: یُستفاد من کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) المنقول فی تقریراته، المحقق العراقی(قدّس سرّه) یری عدم وجوب الموافقة القطعیة، مع الالتفات إلی أنّه(قدّس سرّه) یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، لکنّه بالرغم من هذا یقول بعدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهات غیر المحصورة، ویستدل علی عدم وجوب الموافقة القطعیة وعدم وجوب الاحتیاط فی الشبهات غیر المحصورة بأننا نجوّز ارتکاب هذا الطرف وذاک الطرف لیس باعتبار سقوط العلم الإجمالی عن تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة کما هو مبنی الوجوه السابقة، وإنّما العلم الإجمالی باقٍ علی منجّزیته لوجوب الموافقة القطعیة، فتجب الموافقة القطعیة بلحاظ العلم الإجمالی ومنجّزیته، لکنّه یربط جواز ارتکاب بعض الأطراف الذی یعنی عدم وجوب الموافقة القطعیة بمسألة جعل البدل، ویقول أنّ الشارع یجعل باقی الأطراف بدلاً عن الحرام المعلوم بالإجمال؛ وحینئذٍ یجوز ارتکابه، وترک طرفٍ واحد، أو طرفین من الأطراف الأخری بمقدار المعلوم بالإجمال کأنّه یحقق الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، فمن هنا یکون العلم الإجمالی باقیاً علی تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة، غایة الأمر أنّ الشارع جعل بدلاً عن الحرام الواقعی، ولا إشکال أنّ المکلف إذا ترک هذا الطرف یکون قد امتثل ووافق قطعاً. المحقق العراقی(قدّس سرّه) یربط جواز ارتکاب هذا الطرف بمسألة جعل البدل، یعنی جعل باقی الأطراف بدلاً عن الحرام الواقعی، وهو(قدّس سرّه) یؤمن بالدلیل الأوّل الذی ذکرناه، یعنی یؤمن بأنّ کثرة الأطراف فی الشبهة غیر المحصورة توجب ضعف الاحتمال الذی عبّرنا عنه سابقاً بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف؛ لأنّ نسبة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف هی واحد من ألف إذا کانت الأطراف ألف طرف، یقول أنّ هذا یوجب ضعف احتمال ثبوت التکلیف فی هذا الطرف الذی یرید الإقدام علیه والذی نرید أن نجوّز له ارتکابه، یقول: أنّ ضعف الاحتمال فی هذا الطرف الذی یرید الإقدام علیه یُلازم قوة احتمال ثبوت التکلیف فی الباقی.

ص: 21

بعبارةٍ أخری: إنّضعف احتمال الانطباق فی هذا الطرف یُلازم قوة انطباق المعلوم بالإجمال علی واحدٍ من باقی الأطراف، ولنعبّر عن قوة الاحتمال بالاطمئنان، ضعف احتمال الانطباق فی هذا الطرف یلازم الاطمئنان بثبوت التکلیف فی الباقی، یقول: أنّ قوة احتمال انطباق التکلیف فی الباقی ___________ هو یذکره بعنوان الاحتمال ___________ من المحتمل أنّ العقلاء الذین یرون أنّ احتمال التکلیف فی هذا الطرف موهوماً ولا یعتنون به، لعلّ بناء العقلاء علی عدم الاعتناء بالتکلیف فی هذا الطرف وإقدامهم علیه هو من باب جعل البدل، یعنی یبنون علی أنّ باقی الأطراف، أو طرفٍ منها، أو طرفین یکون بدلاً عن الحرام الواقعی، وبعد أن یذکر هذا المطلب الذی قلنا بأنّه شیء یشبه ما ذکرناه فی الدلیل الأوّل، یقول:(أمکن دعوی أنّ بناءهم ____________ العقلاء ____________ علی عدم الاعتناء باحتمال التکلیف فی کل طرفٍ إنّما هو لأخذهم بالظنّ القائم بوجوده فی الباقی الراجع إلی بنائهم علی بدلیة أحد الأطراف عن الواقع فی المفرّغیة، ولو تخییراً). (1) یعنی یکفی المکلّف أن یترک واحداً من الأطراف فیکون هو البدل عن الحرام الواقعی. ثمّ یصرّح،(وإلاّ فضعف الاحتمال لا یکون مصححاً لجواز الارتکاب، وإن بلغ ما بلغ) فکأنّ القضیة عنده محصورة بمسألة جعل البدل، وإلاّ مجرّد ضعف الاحتمال فی هذا الطرف لا یسوّغ ارتکابه، فلابدّ من افتراض جعل بدلٍ حتّی یسوّغ له ارتکابه.

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی الدلیل الخامس المستفاد من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه). هذا الدلیل یرید أن یقول: لا فرق بین الشبهة المحصورة وبین الشبهة غیر المحصورة فی أنّ العلم الإجمالی فیهما ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما یفترقان فی أنّ احتمال ثبوت التکلیف فی هذا الطرف فی الشبهة غیر المحصورة احتمال ضعیف، وضعف هذا الاحتمال یلازم قوة احتمال ثبوت التکلیف فی غیر هذا الطرف، وهذا یکون سبباً لبناء العقلاء علی مسألة جعل البدل، بأن یکون ما عدا هذا الطرف، أی، سائر الأطراف الأخری بدلاً عن الحرام الواقعی علی سبیل التخییر، بینما فی الشبهة المحصورة لا یوجد ضعف فی احتمال ثبوت التکلیف فی هذا الطرف؛ ولذا لا مجال لمسألة جعل البدل فی الشبهة المحصورة. هذا خلاصة رأیه علی ما تقدّم.

ص: 22


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج2، ص331.

الذی یمکن أن یُلاحظ علی هذا الدلیل هو، أنّ هذا الدلیل کما أشرنا فی الدرس السابق یشبه الدلیل الأوّل المتقدّم التام ظاهراً، غایة الأمر أنّ کلاً منهما یشترکان فی ضعف احتمال الانطباق فی کل طرفٍ إذا لوحظ وحده. الدلیل الأوّل کان یُلاحظ أنّ ضعف الاحتمال فی ذلک الطرف یلازم الاطمئنان بعدم الانطباق فی ذلک الطرف، إذا کان احتمال الانطباق فی ألف من أطراف العلم الإجمالی ضعیف، ونسبته واحد بالألف ___________ مثلاً __________ بلا شکٍّ یکون احتمال عدم الانطباق احتمالاً قویاً ویصل إلی درجة الاطمئنان، ومن هنا یحصل اطمئنان بعدم الانطباق، وعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف إذا لوحظ وحده، وفی ذاک الطرف إذا لوحظ وحده؛ لأنّ ضعف احتمال الانطباق فی هذا الطرف یلازم قوة احتمال عدم الانطباق فیه بحیث تصل قوة الاحتمال إلی درجة الاطمئنان، ویکون الاطمئنان بعدم الانطباق وعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف هو المستند والمجوّز لارتکابه، فیُستند إلی الاطمئنان باعتباره حجّة عقلائیة وشرعیة ___________ ولو باعتبار عدم الردع کما تقدّم ____________ فی مقام إثبات جواز ارتکابه، وبالتالی عدم وجوب الموافقة القطعیة. فالدلیل الأوّل یستند إلی الاطمئنان بعدم الانطباق فی نفس الطرف، باعتباره لازماً للاطمئنان لضعف احتمال الانطباق فیه. بینما المحقق العراقی(قدّس سرّه) لاحظ ضعف احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ إذا لوحظ وحده، ولاحظ ما یلازم ضعف الاحتمال فیه بالنسبة إلی سائر الأفراد لا بالنسبة إلی نفس الفرد فقط، فقال: أنّ ضعف احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ یُلازم قوة احتمال الانطباق فی الباقی علی سبیل البدل، وجعل قوة احتمال الانطباق فی الباقی منشئاً لبناء العقلاء علی مسألة جعل البدل. فالفرق بینهما هو أنّ الأوّل یقول: أنّ کلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، إذا لوحظ وحده، احتمال ثبوت التکلیف فیه ضعیف، واحتمال عدم ثبوت التکلیف فیه قوی جدّاً بحیث یصل إلی درجة الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فیه، وهذا الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف حجّة بمثابة العلم بعدم ثبوت التکلیف فیه، ویکون هو المبرر والمدرک لجواز الارتکاب. بینما المحقق العراقی(قدّس سرّه) لم یذکر ذلک، وإنّما لاحظ أنّ ضعف احتمال الانطباق فی کل طرفٍ إذا لوحظ وحده، یلازم قوة احتمال الانطباق فی الباقی علی سبیل البدل، وقلنا أنّه جعل هذا منشئاً لبناء العقلاء ____________ ولو علی مستوی الاحتمال _____________ علی مسألة جعل البدل.

ص: 23

توجیه المحقق العراقی(قدّس سرّه) لجواز الارتکاب فی الشبهة غیر المحصورة __________ إذا ثبت ___________ مع أنّ مبناه هو علی العلّیة التامّة، فهو یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، دلیل یدلّ علی جواز الارتکاب کإجماعٍ ___________ مثلاً ___________، من جهةٍ هو یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة التی تمنع من ارتکاب حتّی طرف واحد، توجیه هذا علی هذه المبانی ینحصر بمسألة جعل البدل؛ لأنّه بناءً علی مسألة جعل البدل سوف نحافظ علی کل هذه الأمور، یعنی نلتزم بالعلّیة التامّة، ونقول أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، غایة الأمر أنّ الشارع اکتفی فی مقام الامتثال ببدله، وإذا اکتفی بالبدل؛ فالإتیان بالبدل حینئذٍ یکون موافقة قطعیة للشارع، فإذن، هو لا یخرج عن حدود الموافقة القطعیة، وإنّما وافقه قطعاً، لکن الشارع جعل هذا بدل هذا، فإذا ترک هذا؛ فحینئذٍ یکون قد وافق الشارع قطعاً، لکن انحصار توجیه جواز الارتکاب ______________ إذا ثبت بدلیل ______________ بمسألة جعل البدل، علی مبنی المحقق العراقی (قدّس سرّه) الذی هو العلّیة التامّة، قد یکون مقبولاً، لکن أساس المبنی هو محل مناقشة علی ما تقدّم؛ لأنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة.

المسألة الثانیة، مسألة ثبوت جواز الارتکاب، وعدم وجوب الموافقة القطعیة بإجماعٍ ونحوه، هذه أیضاً مسألة تحتاج إلی إثبات؛ ولذا ذُکر فی کلماتهم أنّ أحد الأدلّة علی عدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهة غیر المحصورة هو الإجماع، قالوا: هناک إجماع علی عدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهة غیر المحصورة، إذا تمّ هذا، لکن کما قلنا أنّ المبنی غیر تام، لا ینحصر توجیه جواز الارتکاب ____________ إذا ثبت ____________ بذلک؛ بل یمکن توجیهه بما تقدّم من الوجوه السابقة؛ بل إذا تمّ ما تقدّم من الوجوه السابقة، أو بعض الوجوه السابقة، یمکن الاستناد إلیها فی إثبات جواز الارتکاب بلا حاجة إلی إجماعٍ . یعنی إذا ناقشنا فی تحقق الإجماع، فیمکن الاستناد إلی بعض الوجوه السابقة لإثبات جواز الارتکاب.

ص: 24

الدلیل السادس: هو عبارة عن روایة، قالوا أنّ فیها دلالة علی عدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهات غیر المحصورة، وهی روایة أبی الجارود، قال:(سألت أبا جعفر "علیه السلام" عن الجبن، فقلت له: أخبرنی من رأی أنّه یُجعل فیه المیتة، فقال: أمن أجل مکانٍ واحد یُجعل فیه المیتة حرُم فی جمیع الأرضین ؟ ........والله، أنّی لأعترض السوق، فأشتری بها اللّحم، والسمن، والجبن، والله، ما أظنّ کلّهم یسمّون، هذه البربر وهذه السودان). (1) [1]

الاستدلال بالروایة بدعوی أنّ الروایة ظاهرة فی عدم تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة فی ما إذا کانت الشبهة غیر محصورة.

اعترض علی الاستدلال بالروایة، وسیأتی فی مناقشة الاعتراضات بیان الوجه الصحیح لتقریب دلالتها علی عدم وجوب الموافقة القطعیة:

أولاً: بضعف السند؛ لأنّ الروایة فیها محمد بن سنان، وهو محل کلام معروف.

ثانیاً: بضعف الدلالة. والمعترض هو الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، (2) ولو ذکره بعنوان الاحتمال، الشیخ کأنّه یرید أن یقول: یُحتمل أن تکون الروایة أجنبیة عن محل الکلام، ولیست ناظرة إلی الشبهة غیر المحصورة، وإنّما هی ناظرة إلی أنّه مع العلم بوجود الحرام فی مکانٍ معیّن، هذا لا یصیر موجباً لترک کل جبنٍ موجود فی العالم لمجرّد احتمال أن یکون فی ذلک الجبن میتة، العلم بوضع المیتة فی الجبن المعیّن غایته أنّه یصیر منشئاً لاحتمال أن یکون الجبن فی موضع آخر أیضاً وضعت فیه المیتة، لکن هذا لیس بابه باب العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة، فالإمام (علیه السلام) یقول له: (أمن أجل مکان واحد یُجعل فی المیتة حرُم جمیع ما فی الأرض)، فلم یفترض شبهة غیر محصورة، ولم یفترض بأنّه یعلم بأنّ بعض الجبن مما یُجعل فیه المیتة، وإنّما هو علم بلا تردد ولا اشتباه کما یتطلّبه العلم الإجمالی، فلم یفترض الاشتباه والتردد والإجمال، هو علم بوضع المیتة فی جبنٍ معیّن، هذا صار منشئاً لاحتمال أنّ جبناً آخر فی مکان آخر أیضاً وضعت فیه المیتة، لکن هذا الاحتمال لا یُعتنی به، ولا معنی للاعتناء بهذا الاحتمال من أجل أنّه رأی جبناً فی موضعٍ معیّن یوضع فیه المیتة، الروایة ناظرة إلی هذا ولیست ناظرة إلی مسألة الاشتباه و العلم الإجمالی، والشبهات غیر المحصورة، فتکون أجنبیة عن محل الکلام.

ص: 25


1- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج25، ص119، کتاب الأطعمة والأشربة، باب61، ح5، ط آل البیت.
2- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج2، ص263.

هذا الاعتراض لعلّه رکّز علی صدر الروایة، إنصافاً، صدر الروایة فیه هذا الظهور(أخبرنی من رأی أنّه یُجعل فیه المیتة)، هذا یصیر منشئاً لاحتمال أن کل جبن فیه المیتة، لکن هذا احتمال مجرّد، فقال:(أمن أجل مکانٍ واحد یُجعل فیه المیتة حرُم جمیع ما فی الأرض)،صدر الروایة لعلّه یؤیّد هذا الفهم، لکن ذیل الروایة لعلّه لا یؤیّد هذا الفهم. یقول(والله، أنی لأعترض السوق، فأشتری اللّحم والسمن والجبن. والله، ما أظنّ کلّهم یسمّون). ظاهر العبارة عرفاً أنّ المراد بها هو الاطمئنان بأنّ بعضهم لا یُسمّی(ما أظنّ کلّهم یسمّون) عرفاً یُفهم منها أنّ بعض هؤلاء السودان، وبعض هؤلاء البربر لا یسمّون، علی الإجمال، ولم یشخّص بعضاً معیّناً لا یسمّی، یعنی أنا أعلم، أو أطمئن أنّ بعضهم، علی الإجمال لا یُسمّی، فصار علماً إجمالیاً، أنّ بعض اللّحم، أو السمن، أو الجبن المُشتری من السوق هو طرف لعلم إجمالی بأنّ هناک علماً بأنّ بعض من یبیعها لا یسمّون، فیکون کل لحم یُشتری من السوق هو طرف لعلم إجمالی، أی، احتمال أن یکون هذا مأخوذ من الشخص الذی لا یُسمّی، المعلوم بالإجمال، أو بالاطمئنان، احتمال أن یکون هذا الشخص الذی نعلم إجمالاً بأنّه لا یُسمّی، لعلّه یکون هو هذا الذی اشتری منه اللّحم، أو السمن، أو الجبن، هذا علم إجمالی، والظاهر أنّ الأفراد کثیرة، فلعلّ الروایة، أو ذیل الروایة علی الأقل، ناظر إلی مسألة العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، والروایة فیها ظهور فی أنّه لا یجب الاجتناب عن الجبن، یعنی لا تجب الموافقة القطعیة. لعلّ من استدل بالروایة استدلّ بها علی هذا الأساس، أی، استدلّ بذیلها علی ذلک، ولعلّه یجعل الذیل مفسّراً للصدر، ویحمل الصدر علی هذا المعنی، ومن یناقش فی الاستدلال بها یلاحظ الصدر، باعتبار أنّ الصدر وحده إذا جُرّد عن الذیل لیس فیه دلالة علی افتراض علمٍ إجمالی واشتباه وتردد حتّی تکون الروایة ناظرة إلی محل الکلام. وعلی کل حال، الروایة فیها مناقشة سندیة.

ص: 26

هذه هی أهم الأدلّة التی استدلّ بها علی عدم وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام، والظاهر أنّ الدلیل الأوّل منها __________ علی الأقل _________ تام، فیمکن الاستناد إلیه لإثبات عدم وجوب الموافقة القطعیة. ویؤیّد هذا الشیء الإجماع، مسألة الإجماع أیضاً ینبغی أن تُذکر باعتبار أنّ هذا الکلام نُقل فی کلمات الفقهاء وکأنّه من الأمور المسلّمة، أنّ الشبهات غیر المحصورة لا تجب فیها الموافقة القطعیة. هذا بالنسبة إلی أصل المطلب.

بعد الفراغ عن عدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهات غیر المحصورة، الذی یعنی جواز ترک الموافقة القطعیة بارتکاب بعض أطراف الشبهة، فیجوز للمکلّف ارتکاب بعض الأطراف. هذا فرغنا منه. الآن یقع الکلام فی جواز المخالفة القطعیة التی تعنی ارتکاب الجمیع. وفرض مسألتنا فی الشبهات التحریمیة، المرحلة الأولی هی جواز ارتکاب البعض، وقلنا أنّ هذا یجوز؛ لعدم وجوب الموافقة القطعیة. الآن نتکلّم عن أنّه هل یجوز ارتکاب جمیع أطراف الشبهة التی ارتکبها، إذا قلنا بالجواز، وأنّ المخالفة القطعیة لیست حراماً؛ لأنّ ارتکاب الجمیع یعنی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال. وإذا قلنا بالحرمة؛ فحینئذٍ تکون المخالفة القطعیة محرّمة.

هذه المسألة إنّما تُطرح حینما یُفترض تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، فإذا کان المکلّف متمکّناً من المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ نبحث، أنّ هذه المخالفة القطعیة بالنسبة له هل هی جائزة، أو حرام علیه ؟ أمّا إذا فرضنا أنّه غیر قادر، کما هو مبنی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، حیث أنّه یعتبر أنّ المیزان فی الشبهة غیر المحصورة هو عدم القدرة علی المخالفة القطعیة، یعنی هو یفترض فی کل شبهة غیر محصورة عدم التمکّن من المخالفة القطعیة، ویستند إلی عدم التمکّن من المخالفة القطعیة لإثبات عدم منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یری أنّ وجوب الموافقة القطعیة تابع لحرمة المخالفة القطعیة. إذا فرضنا ذلک بناءً علی هذا المسلک للمحقق النائینی(قدّس سرّه) حینئذٍ تکون هذه المسألة سالبة بانتفاء الموضوع، نحن نتکلّم عن جواز المخالفة القطعیة وحرمتها عندما یفترض تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، فنقول له یجوز لک ذلک، أو یحرم علیک ذلک. أمّا عندما نفترض فی نفس عنوان المسألة، أی فی نفس افتراض الشبهة غیر المحصورة عدم تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة؛ فحینئذٍ لا معنی للبحث عن أنّ المخالفة القطعیة جائزة، أو حرام؛ ولذا هذه المسألة لا تُطرح بناءً علی مسلک المحقق النائینی(قدّس سرّه) المطروح سابقاً. نعم، علی المسالک الأخری فی المیزان فی الشبهة غیر المحصورة یمکن طرح هذه المسألة، فیقال: بعد الفراغ عن جواز ارتکاب بعض أطراف الشبهة یقع الکلام فی جواز ارتکاب تمام أطراف الشبهة، لو فُرض أنّ المکلّف کان متمکّناً من ارتکاب جمیع أطراف الشبهة، هل المخالفة القطعیة جائزة، أو لا ؟

ص: 27

قالوا: أنّ الجواب عن هذا السؤال یختلف باختلاف المبانی فی المیزان فی الشبهة غیر المحصورة، ویختلف باختلاف ما یُستند إلیه لإثبات عدم وجوب الموافقة القطعیة، فلابدّ من مراجعة هذه المبانی، أو الأدلّة المتقدّمة حتّی نعرف أنّه متی نلتزم بحرمة المخالفة القطعیة، ومتّی نلتزم بجوازها ؟

المبنی الأوّل: وهو المبنی الذی یری أنّه فی کل شبهة غیر محصورة هناک اطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ من أطراف ذلک العلم الإجمالی إذا لوحظ وحده. علی هذا المبنی الجواب العام عن السؤال المطروح فی هذه المسألة هو أنّ کل طرف ما دام هذا الاطمئنان الذی استُند إلیه فی جواز الارتکاب موجوداً فیه، فیجوز ارتکابه؛ لأنّ المدرک لتجویز الارتکاب هو الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف. فإذا ارتکب الطرف الأوّل، فالاطمئنان موجود فیه، وکذلک الطرف الثانی، والثالث...وهکذا، فإذا فُرض وجود الاطمئنان حتّی فی الفرد الأخیر یجوز له ارتکابه؛ لأنّ المدرک علی هذا المبنی هو الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ إذا لوحظ وحده، فما دام الاطمئنان موجوداً یجوز الارتکاب، ولو أدّی ذلک إلی المخالفة القطعیة. هذا بشکلٍ عام.

الکلام فی أنّ هذا الاطمئنان الذی استندنا إلیه لإثبات جواز الارتکاب وعدم وجوب الموافقة القطعیة، هل یزول بالارتکاب التدریجی للأطراف ؟ إذا زال الاطمئنان؛ حینئذٍ یسقط المدرک والمستند لتجویز الارتکاب، فرضاً ارتکب مقداراً لا بأس به من الأطراف، ووصل إلی أطراف أخری، وفرضنا أنّ فی هذه الأطراف الأخری یزول الاطمئنان بعدم الانطباق، فإذا زال الاطمئنان یزول المستند الذی نستند إلیه لإثبات جواز الارتکاب، فلا یجوز الارتکاب، وهذا معناه أنّ المخالفة القطعیة حرام، فلا نجوّز له المخالفة القطعیة. وأمّا إذا فرضنا عدم زوال الاطمئنان بالارتکاب التدریجی للأطراف، وإنّما یبقی علی حاله، فکما أنّ هناک اطمئناناً فی الطرف الأوّل الذی ارتکبه، کذلک الاطمئنان باقٍ فی هذا الطرف الذی یرید ارتکابه بعد اقتحام أطراف أخری، فإذا کان الاطمئنان باقیاً؛ فحینئذٍ یجوز الاستناد إلیه لإثبات جواز الاقتحام. هل الاطمئنان یزول بارتکاب بعض أطراف الشبهة، أو لا یزول ؟

ص: 28

قد یقال: لا یزول، فیجوز الاستناد إلیه فی اقتحام باقی الأطراف، باعتبار أنّ أیّ طرفٍ من أطراف هذا العلم الإجمالی من المقدار الباقی بعد ارتکاب البعض تکون نسبة الانطباق فیه هی نفس نسبة الانطباق فی الفرد الأوّل الذی ارتکبه، إذا کانت نسبة الانطباق فی الفرد الأوّل الذی ارتکبه هی نسبة واحد بالألف، إذا افترضنا أنّ عدد الأطراف ألف طرف، کذلک هذه النسبة نفسها تبقی محفوظة فی هذا الفرد الذی یرید ارتکابه بعد ارتکاب جملة من أطراف العلم الإجمالی، باعتبار أنّ احتمال الانطباق فی هذا الطرف، ولنفترض أنّه الطرف العشرین، بعد ارتکاب الباقی هو واحد بالألف؛ لأنّه یحتمل ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، ویحتمل أیضاً ثبوت التکلیف فی غیره من الأطراف الأعم من الأطراف التی ارتکبها ومن الأطراف الباقیة، فحتّی لو فرضنا أنّه ارتکب الطرف الأوّل، لکن الآن عندما یرید أن یقدم علی الطرف العشرین، ألا یحتمل أنّ المعلوم بالإجمال ینطبق علی ذاک الطرف الذی ارتکبه ؟ بالوجدان یحتمل هذا، وهذا معناه أنّه عند احتمال الانطباق فی هذا الطرف العشرین، هو أیضاً واحد من ألف، بینما احتمال الانطباق فی الباقی الأعم الذی هو عبارة عن مجموع ما ارتکبه وما بقی، احتمال الانطباق فی ما عدا هذه العشرین هو احتمال کبیر جدّاً واصل إلی درجة الاطمئنان، فإذن: یکون هناک ضعف الاحتمال فی هذا الطرف، وضعف الاحتمال فی هذا الطرف یستلزم الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فیه، وهذا معناه بقاء الاطمئنان فی هذا الطرف بالرغم من ارتکاب بعض الأطراف، وهذا معناه أنّ الاطمئنان لا یزول بارتکاب البعض؛ بل یبقی علی حاله، غایة الأمر أنّه فی الطرف الأوّل الذی یرتکبه یکون هناک اطمئنان بثبوت التکلیف فی الباقی الذی لم یرتکبه، بینما فی الطرف العشرین یکون هناک اطمئنان بثبوت التکلیف فی مجموع ما ارتکبه والباقی، هناک اطمئنان بثبوت التکلیف فی هذا، وهذا یلازم الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، وإذا کان هناک اطمئنان یکون حجّة، ویُستند إلیه لإثبات جواز الارتکاب.

ص: 29

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی حرمة المخالفة القطعیة،وذکروا بأنّ هذا یختلف باختلاف الوجوه التی نستند إلیها لإثبات وجوب الموافقة القطعیة. فی الدرس السابق ذکرنا بأنّه إذا کان المستند فی عدم وجوب الموافقة القطعیة وعدم التنجیز للعلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، إذا کان المستند هو الوجه الأوّل، الذی هو عبارة عن الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ إذا لوحظ وحده، بناءً علی هذا ذُکر بأنّ الارتکاب هنا یکون جائزاً لجمیع الأطراف، بمعنی أنّه لا تحرم المخالفة القطعیة، کما لا تحرم المخالفة الاحتمالیة بارتکاب بعض الأطراف، وهو معنی عدم وجوب الموافقة القطعیة، کذلک لا تحرم المخالفة القطعیة بارتکاب جمیع الأطراف، ویُستند فی ذلک إلی الاطمئنان نفسه، بادّعاء أنّ الاطمئنان الذی استُند إلیه لإثبات جواز الارتکاب موجود فی جمیع الأطراف؛ إذ کل طرفٍ إذا لوحظ وحده هناک اطمئنان بعدم الانطباق فیه، سواء کان ذلک قبل ارتکاب أطرافٍ الأخری، أو کان بعد ارتکاب أطرافٍ أخری، علی کلا التقدیرین الطرف إذا لوحظ وحده هناک اطمئنان بعدم الانطباق فیه، فیُستند إلی هذا الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ، حتّی لو ارتکب أطرافاً أخری، کل طرفٍ فیه اطمئنان بعدم الانطباق، فیستند إلی ذلک الاطمئنان لإثبات جواز ارتکابه، ولا داعی لملاحظة خصوص الأفراد المتبقیة بعد ارتکاب بعض الأفراد، وإنّما یُلاحظ مجموع الأفراد التی ارتکبها والأفراد الباقیة، إذا لاحظ هذا الطرف الذی یرید ارتکابه بعد ارتکاب عشرین طرفاً __________ مثلاً __________ فأنّ احتمال الانطباق فیه سوف یکون هو عبارة عن واحد بالألف، وهی نفس النسبة التی کانت موجودة فی الطرف الأوّل الذی أقدم علی ارتکابه، فکما کان هذا الاطمئنان فی الطرف الأوّل الذی أقدم علی ارتکابه مسوّغاً للإقدام علی الارتکاب، کذلک هو موجود فی سائر الأطراف، وإن ارتکب بعضاً منها، وإن ارتکب أغلبها، یبقی هذا الاطمئنان موجوداً إلی آخر طرفٍ، وبناءً علیه تجوز المخالفة القطعیة.

ص: 30

وذکرنا فی الدرس السابق أنّه قد یقال: لا داعی لافتراض زوال الاطمئنان بعد ارتکاب بعض الأطراف، إذا لم نُدخِل فی الحساب الأطراف التی ارتکبها، یمکن أن یقال: فی الأطراف المتبقیّة تختل النسبة، فقد یزول الاطمئنان بعدم الانطباق إذا لاحظنا خصوص الأطراف المتبقیّة، لکن لا داعی لذلک، یلحظ فی هذا الطرف جمیع الأطراف الأخری، أی ما ارتکبه والباقی، وقلنا أنّه سیجد أنّ النسبة هی نفس النسبة، نسبة احتمال الانطباق نفس النسبة، نسبة متدنیّة وضعیفة جدّاً، یوجد علی خلافها اطمئنان بعدم الانطباق، وهذا هو الذی یسوّغ الارتکاب.

وقد یقال فی المقابل: بأنّ الاطمئنان بعدم الانطباق یزول بعد ارتکاب بعض الأطراف؛ لما تقدّم سابقاً من أنّ منشأ الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرف هو الاطمئنان بالانطباق علی مجموع الأطراف الأخری علی سبیل البدل، وهذا هو الذی یکون منشئاً لحصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف.

إذن: الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ هو ناشئ من الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف الأخری ما عداه، لکن علی سبیل البدل؛ حینئذٍ یقال: کیف یحصل الاطمئنان بعدم الانطباق فی الباقی مع أنّا فرضنا الاطمئنان بالانطباق فی الباقی فیها ؟ هذا ألیس فیه تهافت ؟ قد یقال هذا؛ بل ذُکر فی بعض الکلمات.

الجواب عن هذا هو: أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق صحیح أنّه ناشئ من الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأفراد علی سبیل البدل، لکن منشأ هذا الاطمئنان موجود فی جمیع الأطراف ولا یختصّ بخصوص الطرف الأوّل الذی یرتکبه، ولا الثانی، ولا الثالث، لو ارتکب نصف الأطراف یبقی فی الأطراف الأخری أیضاً اطمئنان بعدم الانطباق ناشئ من الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف، لکن الکلام فی أنّ سائر الأطراف ما هی ؟ قلنا بأنّه لا داعی لتخصیص سائر الأطراف بخصوص الأطراف المتبقیّة، وإنّما المقصود بسائر الأطراف هو مجموع ما ارتکبه، وما بقی، إذا جاء إلی هذا الطرف الذی رقمه ____________ فرضاً ____________ خمسمائة، هناک اطمئنان بعدم الانطباق فیه، ولا یزول هذا الاطمئنان، ومنشأ هذا الاطمئنان هو الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف، الأعمّ ممّا ارتکبه وممّا بقی علیه، فلا داعی لزوال هذا الاطمئنان. علی أنّه بقطع النظر عن هذا، اساساً الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف هل ینافی الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ لو لوحظ وحده، أو لا ؟ هو یرید أن یقول أنّ هذا ینافیه، نحن فرضنا الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف، فکیف یُدّعی الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ من الأطراف المتبقیّة ؟ السؤال هو: هل هناک منافاة بینهما ؟ الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف، هل ینافی الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ من هذه الأطراف لو لوحظ وحده ؟ لا ینافیه. والسرّ هو أنّ الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف موجود، لکن علی سبیل البدل، وهذا موجود فی محل الکلام، یعنی یعلم بالانطباق فی سائر الأطراف، لکن مع ما ذکرناه، أنّ المقصود بسائر الأطراف هو مجموع ما ارتکبه والأطراف المتبقیّة، هناک اطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف غیر هذا الطرف الذی رقمه ____________ مثلاً __________ خمسمائة وواحد، هناک اطمئنان بالانطباق فی ما عداه من الأفراد، وهذا یکون منشئاً لحصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، فالاطمئنان بعدم الانطباق موجود فی هذا الطرف حتّی بعد فرض ارتکاب مجموعة کبیرة من الأطراف.

ص: 31

وبعبارةٍ أکثر وضوحاً: أنّ الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأفراد لا یزید عن العلم الإجمالی بالانطباق، فأساس کلامنا هو أنّ هناک علماً إجمالیاً بثبوت التکلیف فی ضمن هذه الأفراد الکثیرة، وهذا علم إجمالی بالانطباق، وقد تقدّم أنّ هذا لا ینافی الاطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ لو لوحظ وحده، بعد ارتکاب بعض الأطراف، الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأفراد لا یزید عن العلم الإجمالی بالانطباق فی مجموع الأفراد، فکما أنّ العلم الإجمالی بالانطباق وثبوت التکلیف لم یکن منافیاً للاطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ لو لوحظ وحده، کذلک الاطمئنان بالانطباق وثبوت التکلیف فی الباقی أیضاً لیس منافیاً لافتراض وجود الاطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ من الباقی لو لوحظ وحده؛ بل بعضهم استدلّ علی عدم حرمة المخالفة القطعیة بدعوی انحلال العلم الإجمالی، أصلاً جواز ارتکاب کل الأطراف لیس استناداً إلی الاطمئنان بعدم الانطباق کما تقدّم سابقاً، وإنّما قد یُدّعی انحلال العلم الإجمالی فی محل الکلام، بمعنی أنّ المکلّف عندما یأتی ببعض الأطراف، قد یکون الإتیان ببعض الأطراف مؤدّیاً إلی انحلال العلم الإجمالی، إذا جاء ببعض الأطراف استناداً إلی الاطمئنان بعدم الانطباق __________ علی ما تقدّم، الذی هو الدلیل الأوّل __________ هذا قد یوجب انحلال العلم الإجمالی فی الباقی، فیجوز ارتکاب الباقی باعتبار أنّها شبهة بدویة غیر مقرونة بالعلم الإجمالی، فجواز ارتکاب الباقی لیس من باب أنّ کل طرفٍ یرید ارتکابه هناک اطمئنان بعدم الانطباق، کلا، نقطع النظر عن هذا، أصلاً ارتکاب بعض الأطراف استناداً إلی الاطمئنان بعدم الانطباق قد یوجب انحلال العلم الإجمالی فی الباقی، وإذا انحل العلم الإجمالی فی الباقی؛ حینئذٍ نتعامل مع الباقی معاملة الشبهة البدویة، فیجوز ارتکابها، فلا تحرم المخالفة القطعیة بدعوی انحلال العلم الإجمالی عند ارتکاب بعض الأطراف.

ص: 32

قد یُشکل علی هذا الکلام: بأنّ ارتکاب بعض الأطراف لا یوجب زوال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة، وهل ارتکاب بعض الأطراف إلاّ کتلف بعضها، أو کخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، ومن الواضح أنّ تلف بعض الأطراف لا یُسقِط العلم الإجمالی عن التنجیز، وخروج بعض الأطراف عن العلم الإجمالی لا یوجب خروج العلم الإجمالی عن التنجیز، وإلاّ سوف تکون القضیة سهلة، فکل شخصٍ لدیه علم إجمالی یُتلِف بعض الأطراف، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز بلحاظ الباقی ! ارتکاب بعض الأطراف فی محل کلامنا حاله حال تلف بعض الأطراف، وحال خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، وهذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز.

إذا أُشکل علیه بهذا الإشکال یجیب: بأنّ هذا الکلام صحیح، لکن عندما یُفترض أنّ التلف والخروج عن محل الابتلاء بعد تشکّل العلم الإجمالی، وتنجیزه لأطرافه؛ حینئذٍ هذا التلف لا یُسقِط العلم الإجمالی عن التنجیز. إذا تشکّل العلم الإجمالی، ونجّز أطرافه، وبعد ذلک تلِفت بعض الأطراف، أو بعد ذلک خرجت بعض الأطراف عن محل الابتلاء، لا إشکال فی أنّ هذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز. وأمّا إذا فرضنا أنّ التلف کان قبل تشکّل العلم الإجمالی، وقبل أنّ ینجّز العلم الإجمالی أطرافه؛ حینئذٍ سوف ینحل هذا العلم الإجمالی، إذا کان العلم الإجمالی حینما حصل کانت بعض أطرافه تالفة، أو حینما حصل کانت بعض الأطراف خارجة عن محل الابتلاء، هذا العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز بلا إشکال، وما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ المکلّف حینما تشکّل عنده العلم الإجمالی کان عنده اطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ من الأطراف لو لوحظ وحده، عندما تشکّل لا أنّه حصل بعد تنجیز العلم الإجمالی لأطرافه، بعد أن نجّز العلم الإجمالی جمیع الأطراف؛ حینئذٍ حصل اطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرف، کلا، وإنّما عندما تشکّل العلم الإجمالی هناک اطمئنان بعدم الانطباق فی هذه الأفراد التی ارتکبها، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً للباقی، وهو معنی انحلال العلم الإجمالی، باعتبار أنّ ارتکاب بعض الأطراف کأنّه بمثابة التلف قبل تنجیز العلم الإجمالی لأطرافه؛ لأنّ المکلّف حین الارتکاب لدیه اطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، یعنی عندما تشکّل عنده العلم الإجمالی هو لدیه اطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، وهذا یمنع من تنجیز العلم الإجمالی بالنسبة إلی الباقی. هکذا قیل.

ص: 33

لکن، الظاهر أنّ العلم الإجمالی فی المقام لا ینحل، والسرّ هو أننّا نستند إلی أنّ الذی یحل العلم الإجمالی فی الحقیقة لیس هو ارتکاب بعض الأطراف، لیس هذا هو المدّعی، وإنّما الذی یُراد ادّعاءه، أو ما ینبغی أن یکون موجباً لانحلال العلم الإجمالی هو الاطمئنان بعدم الانطباق، أو العلم بعدم الانطباق، أو قیام الإمارة المعتبرة علی عدم الانطباق، لو قامت إمارة معتبرة علی عدم الانطباق فی هذا الطرف الذی یرید ارتکابه، هذا یحل العلم الإجمالی، العلم بعدم ثبوت التکلیف فی الطرف الذی یرید ارتکابه یحلّ العلم الإجمالی؛ حینئذٍ لا یبقی علم فی الباقی، الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف الذی یرید ارتکابه من قبیل العلم بعدم الانطباق، ومن قبیل قیام الإمارة علی عدم الانطباق، یعنی قیام الإمارة المعتبرة علی عدم ثبوت التکلیف فیه، لکن نحن لیس لدینا فی المقام اطمئنان بعدم الانطباق فی خصوص هذا الطرف، وإنّما لدینا اطمئنان بعدم الانطباق فی الأطراف علی سبیل البدل، الاطمئنان بثبوت التکلیف، أو الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف لا یختص بطرفٍ معیّن، فهو یختلف عن قیام الإمارة المعتبرة فی طرفٍ معیّنٍ علی عدم ثبوت التکلیف، قیام الإمارة المعتبرة فی طرفٍ معیّنٍ علی عدم ثبوت التکلیف یحلّ العلم الإجمالی، العلم بعدم ثبوت التکلیف فی طرفٍ معیّنٍ یحلّ العلم الإجمالی، ویکون من قبیل الاضطرار إلی المُعیّن الذی یوجب انحلال العلم الإجمالی. فی محل کلامنا الاطمئنان لیس من هذا القبیل، أساس تشکّل الاطمئنان لا یختص بطرفٍ، ونسبته إلی کلّ الأطراف نسبة واحدة، فیکون ما نحن فیه من قبیل الاضطرار إلی غیر المعیّن لا من قبیل الاضطرار إلی طرفٍ بعینه حتّی یوجب انحلال العلم الإجمالی، وإنّما هو من قبیل الاضطرار إلی الفرد غیر المعیّن، وهذا تقدّم الحدیث عنه، والرأی السائد أنّه لا یوجب انحلال العلم الإجمالی. علی کل حال، یبدو أنّه إذا کان المستند هو الدلیل الأوّل، فالظاهر عدم حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 34

وأمّا إذا کان المستند لعدم تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة هو قاعدة لا حرج، فالظاهر أنّ المخالفة القطعیة تبقی محرّمة؛ لأنّ مقتضی قاعدة لا حرج هو تجویز ارتکاب الأطراف بالمقدار الذی یرتفع به الحرج، لماذا نجوّز له ارتکاب جمیع الأطراف الذی یعنی المخالفة القطعیة ؟ وإنّما نجوّز له ارتکاب أطرافٍ بحیث یرتفع بذلک حرجه ولا یقع فی الحرج، ومن الواضح أنّ دفع الحرج بالنسبة للمکلّف لا یتوقّف علی أن نجوّز له ارتکاب جمیع هذه الأطراف الکثیرة، لیس هکذا، یندفع حرجه بأن نجوّز له ارتکاب الأطراف التی هی محل ابتلائه، أمّا أن نجوّز له ارتکاب جمیع الأطراف، حتّی الأطراف الأخری التی عددها ألف __________ مثلاً _________ هذا بلا وجه، ولا تقتضیه القاعدة، القاعدة تقتضی أن نجوّز له ارتکاب الأطراف بالمقدار الذی یرتفع به حرجه، ولا یتوقّف دفع حرجه علی أن نجوّز له ارتکاب جمیع الأطراف، هذا لا داعی له، فتبقی حرمة المخالفة القطعیة علی حالها؛ وحینئذٍ یمکن أیضاً إدخال هذه المسألة فی مسألة الاضطرار إلی بعضٍ غیر معیّن، حرجه یندفع بارتکاب بعض الأطراف بلا تعیین، ولا نقول له هذه الأطراف یرتفع بها الحرج، فتکون هی الجائزة، وإنّما اختیار هذا یُترَک إلی المکلّف نفسه، فهو مضطرٌ إلی ارتکاب بعض الأطراف، لکن لا بعینه، ولیس مضطراً إلی ارتکاب أفرادٍ معیّنةٍ حتّی یندفع حرجه، وإنّما هو من باب الاضطرار إلی ارتکاب أطرافٍ لا بعینها، وقد تقدّم سابقاً أنّه فی هذه الحالة العلم الإجمالی یبقی منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة. هذا بالنسبة إلی ما إذا کان المستند هو قاعدة لا حرج.

أمّا إذا کان المستند فی ذلک هو ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) من جعل البدل؛ حینئذٍ یتعیّن الالتزام بحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ المفروض بناءً علی هذا المسلک هو أنّ الشارع جعل البدل عن الحرام الواقعی فی سائر الأطراف، فبالنتیجة: الحرام الواقعی موجود فی بعض هذه الأطراف لا علی سبیل التعیین، فلا یجوز له ارتکاب الجمیع؛ لأنّ ارتکاب الجمیع یعنی ارتکاب ما جعله الشارع بدلاً عن الحرام الواقعی.

ص: 35

بعبارة أخری: أنّ العلم الإجمالی کما أنّه ینجّز الحرام الواقعی المعلوم بالإجمال، مسألة جعل البدل أیضاً توجب تنجیز حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ الشارع سوّغ للمکلّف ارتکاب هذا الطرف، لکن جعل الباقی علی سبیل البدل بدلاً عن الحرام الواقعی، فالحرام الواقعی موجود فی الباقی، فلا یجوز ارتکاب الباقی بتمام أطرافه.

وإذا کان المستند هو ما تقدّم من الدلیل الثالث، مسألة عدم التنافی بین الترخیص الظاهری المستفاد من أدلّة الأصول، وبین الحکم الواقعی الإلزامی المعلوم بالإجمال؛ حینئذٍ الظاهر أنّه یتعیّن الالتزام بجواز المخالفة القطعیة، وجواز ارتکاب الجمیع، باعتبار أنّ المقتضی الذی سوّغ لنا بناءً علی هذا الدلیل ارتکاب الطرف الأوّل الذی هو دلیل الأصل، الذی هو المقتضی الذی یثبت الترخیص فیه، وأنّ هذا الترخیص لا ینافی الحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال، هذا المقتضی الذی سوّغ لنا ارتکاب الطرف الآخر موجود فی جمیع الأطراف، کل طرفٍ هو مشمول لدلیل الأصل، وهو مقتضٍ لجواز ارتکابه، والمفروض أنّه لا مانع من الالتزام بجواز الارتکاب، وبعبارةٍ أخری: لا مانع من الالتزام بالترخیص وجواز الارتکاب الذی هو مدلول دلیل الأصل؛ لأنّه لا مناقضة ولا منافاة ____________ بحسب هذا الوجه الثالث __________ بینه __________ أی بین الترخیص ____________ وبین الحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال، فإذن: المقتضی للترخیص ولجواز الارتکاب موجود، وهو دلیل الأصل، والمانع منه مفقود؛ لأنّ المانع هو کون الترخیص منافیاً للحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال، وهذا الدلیل الثالث مبتنٍ علی إنکار المنافاة والمناقضة.

هذا تمام الکلام فی حرمة المخالفة القطعیة، وبعد ذلک یقع الکلام فی أمور ترتبط بالبحث، یأتی الحدیث عنها إن شاء الله تعالی.

ص: 36

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

قلنا أنّ الکلام یقع فی أمور بعد الفراغ عن أصل البحث فی الشبهة غیر المحصورة وعدم تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة فی الشبهة غیر المحصورة، یقع الکلام فی أمور ترتبط بذلک:

الأمر الأوّل: أنّ العلم الإجمالی بالوجوب بنحو الشبهة غیر المحصورة هل هو کالعلم الإجمالی بالحرمة مع کون الشبهة غیر محصورة بلحاظ الأحکام السابقة، أو لا ؟

بعبارةٍ أخری: أنّ الشبهة الوجوبیة مع افتراض کون الشبهة غیر محصورة، هل هی کالشبهة التحریمیة فی نفس الفرض بلحاظ الأحکام السابقة، أو لا ؟ __________ مثلاً __________ لو وجب علی الإنسان أن یکرم عالماً، وترددّ العالم بین ألف شخصٍ، أو وجب علیه أن یصلی فی مسجدٍ، وترددّ المسجد بین ألف مسجد، فی هذه الحالة، هل ترد الأحکام السابقة ؟ ما ذکرناه فی الشبهة التحریمیة سابقاً مع کون الشبهة غیر محصورة، هل یسری إلی الشبهة الوجوبیة، أو لا ؟

المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر ما حاصله: (1) أنّ الأحکام التی ذکرناها فی الشبهة غیر المحصورة تختص بالشبهة التحریمیة ولا تشمل الشبهة الوجوبیة، باعتبار أنّه هو یری کما هو واضح أنّ الضابط فی الشبهة غیر المحصورة هو عدم التمکّن من المخالفة القطعیة، وهذا الضابط لا یتحقق إلاّ فی الشبهة التحریمیة، وأمّا فی الشبهة الوجوبیة، مهما کانت أطرافها کثیرة، حتّی لو کانت ألف طرف، فالمکلّف متمکّن من المخالفة القطعیة بترک الجمیع، فی مثال إکرام العالم یترک امتثال أیّ عالمٍ، وفی مثال الصلاة فی المسجد یترک الصلاة فی أیّ مسجدٍ، إذن، هو متمکّن من المخالفة القطعیة، بینما فی الشبهة التحریمیة لم یکن المکلّف متمکّناً من المخالفة القطعیة. فمقتضی القاعدة عند المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی الشبهة الوجوبیة هو حرمة المخالفة القطعیة، باعتبار تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، ولکونه متمکّناً من المخالفة القطعیة تحرم علیه المخالفة القطعیة. نعم هو غیر قادر علی الموافقة القطعیة فی الشبهة الوجوبیة لکثرة الأطراف، فلا تجب علیه الموافقة القطعیة، لکن لا موجب لتجویز المخالفة القطعیة، بینما فی الشبهة التحریمیة یقول المکلّف غیر قادر علی المخالفة القطعیة، فلا تحرم علیه، ویری أنّ وجوب الموافقة القطعیة تابع لحرمة المخالفة القطعیة، فإذا لم تحرم المخالفة القطعیة، فلا تجب الموافقة القطعیة؛ ولذا التزم فی الشبهة التحریمیة بعدم وجوب الموافقة القطعیة، وعدم حرمة المخالفة القطعیة، یقول: أنّ العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة التحریمیة لا ینجّز کلاً منهما، لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة لعدم القدرة علیها، ولا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یری أنّها تابعة لحرمة المخالفة القطعیة، بینما هنا فی الشبهة الوجوبیة یقول العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه قادر علی المخالفة القطعیة، فتحرم علیه المخالفة القطعیة، ولا یجوز له أن یترک الصلاة فی جمیع المساجد. نعم هو غیر قادر علی الموافقة القطعیة، فالذی یرفع بهذا المقدار، لا تجب علیه الموافقة القطعیة لعدم قدرته علیها فی الشبهة الوجوبیة، لکن تحرم علیه المخالفة القطعیة.

ص: 37


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المحقق النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص119.

هذا الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من اختصاص الأحکام السابقة بخصوص الشبهة التحریمیة، وعدم شموله للشبهة الوجوبیة یتمّ علی مسلکه فی عدم تنجّز العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، وأمّا علی بقیة المسالک، وبقیة الوجوه المتقدّمة التی ذُکرت لعدم وجوب الموافقة القطعیة، فالظاهر أنّ الاختصاص الذی ذکره غیر تام؛ بل لابدّ من تعمیم ما ذُکر سابقاً للشبهة الوجوبیة، کما هی شاملة للشبهة التحریمیة، (مثلاً): بناءً علی أنّ المستند لعدم المنجّزیة هو ضعف احتمال الانطباق الذی هو الوجه الأوّل المتقدّم، أو بعبارةٍ أخری الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف لو لوحظ وحده، بناءً علی هذا الوجه لا فرق بین الشبهة الوجوبیة والشبهة التحریمیة، إذا تردد الواجب بین ألف فردٍ، ضعف الاحتمال بالانطباق، أو الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف لو لوحظ وحده موجود کما هو موجود فی الشبهة التحریمیة المتقدّمة، النسبة نفس النسبة، نسبة احتمال ثبوت التکلیف الوجوبی فی هذا الطرف هی واحد من ألف إذا کان الأطراف ألف، نفس النسبة الموجودة فی الشبهة التحریمیة، احتمال ثبوت التکلیف فی کل طرف احتمال ضعیف، موهوم، یوجد علی خلافه اطمئنان بعدم الانطباق، فلا یُفرّق بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة من هذه الجهة، فإذا کان المناط والملاک فی عدم المنجّزیة هو ضعف احتمال ثبوت التکلیف فی هذا الطرف لو لوحظ وحده، فمن الواضح أنّ هذا لا یُفرّق فیه بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة؛ لأنّ هذا الضعف والاطمئنان موجود فی کلٍ منهما. وهکذا لو کان المستند هو قاعدة لا حرج کما هو أحد الوجوه السابقة، أیضاً فی هذه القاعدة فی عدم تنجیز وجوب الموافقة القطعیة المستند إلی قاعدة لا حرج، لا یُفرّق بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة، قاعدة لا حرج تجری کلّما تحقق موضوعها من دون فرقٍ بین الشبهتین، فإذا فرضنا أنّه یلزم من الموافقة القطعیة فی الشبهة الوجوبیة الحرج، یرتفع وجوبها، ونفس الکلام یقال فی الشبهة التحریمیة، إذا لزم من الموافقة القطعیة الحرج یرتفع وجوب الموافقة القطعیة، نفس الکلام الذی قیل فی الشبهة التحریمیة عندما افتُرض أنّ الموافقة القطعیة للتحریم المعلوم بالإجمال یلزم منه الحرج، وهذا یوجب رفع وجوب الموافقة القطعیة، نفس الکلام یقال فی الشبهة الوجوبیة. وهکذا الحال لو فرضنا أنّ المستند هو دعوی عدم التنافی بین الترخیص الظاهری والحکم الواقعی المعلوم بالإجمال عقلائیاً، أیضاً نفس الکلام یقال بأنّه لا فرق بین الشبهة التحریمیة وبین الشبهة الوجوبیة، باعتبار أنّ دلیل الأصل الذی یُتمسّک به لإثبات الترخیص الظاهری المفروض شموله لموارد العلم الإجمالی ثابت حتّی فی الشبهة الوجوبیة، کما هو ثابت فی الشبهة التحریمیة هو ثابت فی الشبهة الوجوبیة، إطلاق دلیل الأصل وعدم المانع؛ لأنّ المانع من شمول الترخیص هو التکلیف المعلوم بالإجمال، فإذا قلنا لا تنافی ولا مناقضة بین الترخیص الظاهری فی الطرف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، ویمکن إثبات الترخیص بإطلاق دلیل الأصل فی کلٍ من الشبهتین التحریمیة والوجوبیة، کل منهما مشکوک التکلیف، غایة الأمر أنّ التکلیف المشکوک مرّةً یکون تحریماً، ومرّة یکون وجوباً، بالنتیجة دلیل الأصل فیه إطلاق یشمل کلتا الشبهتین، فإذا کان المستند هو التمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات الترخیص وعدم وجوب الموافقة القطعیة بضمیمة عدم المانع کما هو المفروض فی هذا الوجه، فهذا لا یُفرّق فیه بین الشبهة التحریمیة وبین الشبهة الوجوبیة. وهکذا الحال بناءً علی مسلک المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی ذکره فی بعض کلماته، وهو مسألة جعل البدل؛ لأنّ جعل البدل عند المحقق العراقی(قدّس سرّه) نشأ من ضعف احتمال الانطباق فی هذا الطرف لو لوحظ وحده، وهذا یستلزم قوة احتمال الانطباق فی الباقی، یقول هنا العقلاء یبنون علی جعل البدل، وضعف احتمال الانطباق کما هو موجود فی الشبهة التحریمیة موجود فی الشبهة الوجوبیة، هذا یستلزم قوة احتمال الانطباق فی ما عدا هذا الطرف، هذا أیضاً موجود فی کلٍ منهما، فکما أنّ ذاک صار منشئاً لبناء العقلاء علی مسألة جعل البدل، هنا أیضاً ینبغی أن یکون منشئاً لبناء العقلاء علی مسألة جعل البدل، فالظاهر أنّه لا ینبغی التفریق بین الشبهة الوجوبیة والشبهة التحریمیة فی ما تقدّم من الکلام.

ص: 38

نعم، علی مبنی المحقق النائینی(قدّس سرّه) تختلف هذه المسألة ویختص الکلام بخصوص الشبهة التحریمیة.

الأمر الثانی: ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) تبعاً لأستاذه المحقق النائینی(قدّس سرّه) ما حاصله: (1) أنّه بناءً علی عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، طُرح هذا البحث: هل مقتضی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، فرض العلم کعدمه ؟ أن نفترض أنّ العلم بحکم العدم، فیجری حینئذٍ حکم الشکّ فی کل واحدٍ من الأطراف ؟ عندما تکون الأطراف محصورة لا یمکن فرض عدم العلم، العلم الإجمالی موجود، لکن عندما تکون الأطراف کثیرة ونلتزم بعدم منجزیة مثل هذا العلم الإجمالی، هذا معناه أنّه یُنزّل العلم منزلة العدم، فیبقی الشکّ فی کل طرفٍ، فلابدّ من إجراء حکم الشکّ فی کل طرفٍ، ومن الواضح أنّ حکم الشکّ یختلف باختلاف الموارد، فی بعض الأحیان یکون حکم الشک هو البراءة، لکن فی بعض الأحیان قد یکون حکم الشک هو الاشتغال، یکون حکم الشکّ هو حکم الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی والتی حکمها الاحتیاط، قد یکون حکم الشک فی الطرف حتّی لو قلنا أنّ العلم الإجمالی بحکم العدم یکون حکمه هو الاشتغال والاحتیاط، هل هذا معناه ؟ أو الاحتمال الآخر ؟ أنّ مقتضی ما تقدّم من سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز هو فرض المعلوم ____________ علی حد تعبیر المحقق النائینی(قدّس سرّه) ____________ کعدمه، ولیس فرض العلم کعدمه، فیکون حینئذٍ کل واحدٍ من أطراف الشبهة کأنّه لا اشتباه ولاشکّ فیه، وتکون الشبهة کعدمها، والشکّ کعدمه، ولیس العلم کعدمه، الذی لا ینافی بقاء الشکّ ولابدّ من إجراء حکم الشکّ، وإنّما الشکّ یکون کعدمه، کأنّک عالم بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف. یقول: قولان. لا تظهر الثمرة عندما یکون حکم الشکّ هو البراءة، یعنی مخالف لحکم الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، لا تظهر الثمرة فی ذلک؛ لأنّه علی کلا التقدیرین النتیجة واحدة، سواء قلنا بأنّ مفاد ما تقدّم هو فرض العلم کعدمه، فیبقی الشکّ، ولابدّ من إجراء حکم الشکّ فی هذا الطرف، وإذا کان حکم الشکّ فی هذا الطرف هو البراءة، أو فرض المعلوم کعدمه، أیضاً بالنتیجة نصل إلی نفس النتیجة، نصل إلی البراءة، الثانی یقول _________ فرضاً _________ أنّ النجاسة المعلومة بالإجمال، عدمها فی هذا الطرف، والنتیجة أننا نحکم بالطهارة، وإذا قلنا بالأوّل، أنّ النتیجة هی فرض العلم کعدمه، یصیر شکاً فی هذا الطرف، وحکمه هو الطهارة، فلا تظهر الثمرة فی ذلک، وإنّما تظهر الثمرة فی ما إذا کان حکم الشکّ فی الطرف فی حدّ نفسه هو نفس حکم الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، حکمها الاشتغال، أو الاحتیاط، هنا تظهر الثمرة بین الاحتمالین، علی الاحتمال الأوّل لابدّ من الالتزام بالاشتغال، الاحتمال الأوّل یقول غایة ما نستفیده ممّا تقدّم هو تنزیل العلم منزلة العدم، کأنّک لیس لدیک علم إجمالی، لکن لا ینفی الشکّ؛ فحینئذٍ یکون المورد مشکوک، والمفروض أنّ حکم الشکّ هو الاشتغال والاحتیاط، بینما علی الثانی یقول الشکّ بمنزلة العدم، أبنِ علی أنّ فی هذا الطرف المعلوم بالإجمال غیر موجود، فالشک هو بحکم العدم؛ وحینئذٍ یُحکم علیه بغیر الاشتغال، ویمثّل لذلک بهذا المثال: کما لو علمنا بوجود مائع مضاف فی ضمن ألف أناء، یقول: هنا تظهر الثمرة، فعلی الأوّل لا یجوز الاکتفاء بالوضوء من أحد الآنیة؛ لأنّه غایة ما یثبت بما تقدّم هو تنزیل العلم منزلة عدمه، لکن یوجد شکّ، وحکم الشکّ إذا شککت فی أنّ هذا المائع مضاف، أو مطلق هو عدم جواز الاکتفاء به فی الوضوء؛ لأنّه لابدّ من إحراز إطلاق الماء، فإذا شکّ فی کونه مضافاً، أو مطلقاً لا یجوز الوضوء به، ویکون حکمه الاشتغال، أو الاحتیاط، وما ذکرناه سابقاً لا یفید إلاّ تنزیل العلم منزلة عدمه لا تنزیل الشکّ منزلة عدمه، فیبقی الطرف مشکوکاً، والمفروض أنّ حکمه هو الاحتیاط، فلا یجوز الاکتفاء بالوضوء من أناءٍ واحدٍ من هذه الآنیة؛ بل لابدّ من الاحتیاط، أن یتوضأ بمقدار یحرز معه أنّه توضأ بماءٍ مطلق. وأمّا علی الاحتمال الثانی الذی یرجع إلی تنزیل الشکّ منزلة العدم، تنزیل المعلوم منزلة العدم، والمعلوم هو أنّ هناک مائعاً مضافاً فی ضمن هذه الآنیة، وکأنّه یقول فی هذا الإناء أبنِ علی عدم وجود ماء مضاف، لا یوجد شکّ، مرجعه إلی کأنّک تعلم أنّ هذا لیس فیه ماء مضاف؛ حینئذٍ یلحقه حکم الماء المطلق، ویجوز الاکتفاء به فی الوضوء.

ص: 39


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص385.

یقول: وجهان؛ بل قولان. وذکر الثمرة العملیة التی تترتب علی ذلک، ثمّ ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّ ظاهر کلمات الفقهاء هو الثانی، وهو أنّ الکلام السابق الذی ذُکر من أحکام الشبهة غیر المحصورة تلازم فرض المعلوم کعدمه وفرض الشکّ کعدمه، ولیس فرض العلم فقط کعدمه، کلا، وإنّما المعلوم کأنّه لیس موجوداً فی هذا الطرف؛ وحینئذٍ یتعامل معه معاملة الماء المطلق.

یقول: (ظاهر کلماتهم هو الثانی)، ثمّ قال(وهو المختار).

الذی یُلاحظ علی هذا الکلام هو أنّ اختیار الثانی، الظاهر أنّه لا یتم علی مسلکه ________ کما أشار إلیه بعض المعلّقین علی کلامه __________ وإنّما یتمّ علی باقی المسالک، باعتبار أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یری أنّ الملاک فی عدم تنجّز حرمة المخالفة القطعیة فی الشبهات غیر المحصورة هو عدم القدرة علیها، وهو یفترض عدم القدرة فی کل شبهة غیر محصورة، ولا یتنجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یری أنّه تابع لحرمة المخالفة القطعیة، فإذا لم تحرم المخالفة القطعیة، فلا تجب الموافقة القطعیة، هذا هو دلیله علی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز بالمرّة فی الشبهات غیر المحصورة. هذا لا یقتضی أکثر من أنّ العلم بحکم العدم، لا اثر لهذا العلم الإجمالی؛ لأنّه اثره هو إمّا حرمة المخالفة القطعیة، وإمّا وجوب الموافقة القطعیة، هذا العلم لا یترتب علیه کل منهما، فلا تحرم مخالفته، ولا تجب موافقته، إذن هو بحکم العدم، ولا نستطیع أن نقول أکثر من هذا، وهذا لا یعنی نفی الشبهة ونفی الشکّ، وتنزیل الشکّ منزلة العدم، لیس فیه هکذا اقتضاء، وإنّما غایة ما نستطیع أن نقوله هو أنّ هذا العلم الإجمالی بحکم عدمه، وکأنّه لیس لدینا علم إجمالی، کأنّه شبهة غیر مقرونة بالعلم الإجمالی؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی لیس له أیّ أثر ولا یترتّب علیه أیّ اثر، فهو بحکم العدم، لکنّ الشبهة تبقی شبهة، والشکّ یبقی شکاً، فیثبت له حکمه، هذا أکثر ما نستطیع أن نقوله، أمّا أن نستفید من کلامه تنزیل الشکّ منزلة العدم، وتنزیل المعلوم منزلة العدم، أو فرض المعلوم بحکم العدم، هذا لا یمکن أن یُستفاد من کلامه، وهذا یقتضی اختیار الأوّل ولیس الثانی، وهو أنّ ما یُستفاد من الکلام السابق هو فرض العلم کعدمه لا أکثر من هذا. نعم، علی المبانی الأخری یمکن أن یقال باختیار الثانی والالتزام به ______________ مثلاً ____________ المبنی الأوّل المبنی علی ضعف احتمال الانطباق، أو الاطمئنان بعدم انطباق التکلیف فی هذا الطرف، هذا یقتضی الثانی؛ لأنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق بمنزلة العلم بعدم الانطباق، کأنّک تعلم بعدم انطباق التکلیف فی هذا الطرف، وهذا نفی للشکّ، ونفی للشبهة وتنزیل للشبهة منزلة عدمها، وفرضها کأنّها لم تکن؛ لأنّ مدرک عدم التنجیز هو أنّک عالم بعدم انطباق التکلیف فی هذا الطرف؛ حینئذٍ هل یبقی شکّ فی هذا الطرف یُرجع فیه إلی حکم الشکّ ؟ أنت عالم بعدم الانطباق، وعالم بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، هذا مرجعه فی الحقیقة إلی فرض الشک کعدمه، أو فرض المعلوم کعدمه، المعلوم الذی هو نجاسة أحد الآنیة، هنا فی هذا الطرف هذا المعلوم غیر موجود، لا توجد نجاسة؛ لأنّک مطمئن __________ بحسب الفرض __________ بعدمها، وهی بمنزلة عالم بعدمها، مع العلم بعدم النجاسة فی هذا الطرف لا تجری علیه أحکام الشکّ. نعم، بناءً علی الوجه الاخر الذی تقدّم وهو مسألة عدم المنافاة بین الترخیص الظاهری والتکلیف الواقعی والتمسّک بإطلاق دلیل الأصل لوجود المقتضی لإثبات الترخیص وعدم المانع، فبالتالی لا تجب الموافقة القطعیة، بناءً علی هذا، لعلّ هذا أیضاً مقتضاه اختیار الأوّل لا الثانی، باعتبار أنّه مع افتراض إطلاق دلیل الأصل بضمیمة عدم المنافاة والمناقضة، لا یمکن التمسّک بالأصل فی محل الکلام؛ لأنّ المفروض فی محل الکلام فی المثال الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی تظهر فیه الثمرة، المفروض فی هذا المثال أنّ الطرف مورد للاشتغال، تشکّ فی أنّ هذا الماء مطلق، أو مضاف، هذا مورد اشتغال؛ لأنّه لابدّ من إحراز کون الماء مطلقاً حتّی یصحّ الوضوء به، فمع الشکّ فی إطلاقه وإضافته لابدّ من الاحتیاط والاشتغال، الطرف هو فی حدّ نفسه مورد للاشتغال، فلا یمکن حینئذٍ التمسّک بإطلاق دلیل الأصل الذی هو الترخیص، إطلاق دلیل الأصل لا یشمل هذا المورد؛ لأنّه لا یشمل موارد قاعدة الاشتغال، فی غیر هذا المورد یمکن التمسّک بإطلاق دلیل الأصل فی هذا الطرف، وإثبات الترخیص فیه، وبالتالی عدم وجوب الموافقة القطعیة بضمیمة عدم المانع؛ لأنّ المقتضی موجود والمانع مفقود من إثبات الترخیص، وعدم وجوب الموافقة القطعیة، لکن عندما یکون الطرف هو فی نفسه مورداً لقاعدة الاشتغال، هذا یمنع من إجراء قاعدة البراءة والاستناد إلی الأصل لإثبات الترخیص.

ص: 40

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

الأمر الثالث: هو ما یُسمّی شبهة الکثیر فی الکثیر، والمقصود بذلک هو ما إذا کانت أطراف الشبهة کثیرة، لکن کان المعلوم بالإجمال أیضاً کثیراً، أطراف الشبهة ألف طرف، والمعلوم بالإجمال لیس واحداً من ألف کما کنّا نتکلّم عنه، وإنّما المعلوم بالإجمال ___________ فرضاً ___________ خمسمائة، بحیث تکون النسبة نسبة النصف، أیّ واحد إلی اثنین، أو کانت الأطراف ألف وخمسمائة، والمعلوم بالإجمال خمسمائة، بحیث تکون النسبة هی نسبة واحد إلی ثلاثة....وهکذا. الأطراف هنا وإن کانت کثیرة، لکن المعلوم بالإجمال أیضاً کثیر، ومن هنا سُمّیت شبهة الکثیر فی الکثیر، الکلام فی أنّه هل یجری علیها حکم الشبهة المحصورة ؟ باعتبار أنّ النسبة هی نسبة واحد من ثلاثة، أو واحد من أثنین، وهی نفس النسبة الموجودة فی الشبهة المحصورة التی کنّا نتکلّم عنها. أو لا أنّ هذا بحکم الشبهة غیر المحصورة، باعتبار کثرة الأطراف ؟

ذکروا أنّ الجواب عن هذا السؤال یختلف أیضاً باختلاف المدارک، وما یُستنَد إلیه فی عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، فإذا کان المستند فی عدم المنجّزیة فی الشبهات غیر المحصورة هو الوجه الأوّل المتقدّم الذی هو عبارة عن ضعف احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ من الأطراف، أو الاطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ من الأطراف لو لوحظ وحده، الظاهر أنّه یجری علی شبهة الکثیر فی الکثیر حکم الشبهة المحصورة، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً؛ لأنّه لا یوجد عندنا ضعف فی احتمال الانطباق علی هذا الطرف؛ بل احتمال انطباق کلّ طرفٍ هو واحد من ثلاثة، فإذا فرضنا أنّ عدد الأطراف ألف، والمعلوم بالإجمال خمسمائة، احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ نأخذه هو بنسبة واحدٍ إلی ثلاثة، أو إذا کانت الأطراف ألف، والمعلوم بالإجمال خمسمائة، فنسبة الانطباق هی واحد إلی أثنین، وهذا لیس احتمالاً موهوماً، أو ضعیفاً بحیث یحصل اطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، فیکون حکم شبهة الکثیر فی الکثیر حکم الشبهة المحصورة، باعتبار أنّه لا یوجد فی کلّ طرفٍ من الأطراف اطمئنان بعدم الانطباق؛ لأنّ احتمال الانطباق لیس احتمالاً ضعیفاً، أو موهوماً، وإنّما هو احتمال قوی، نسبة واحد من أثنین، أو واحد من ثلاثة، أو واحد من أربعة، بالنتیجة لیس احتمالاً موهوماً بحیث یحصل الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف. ومن هنا لا یمکن الاستناد إلی هذا المدرک لإثبات سقوط العلم الإجمالی فی شبهة الکثیر فی الکثیر عن المنجّزیة؛ بل تبقی المنجّزیة علی حالها، وهذا معناه أننّا نُلحق هذه الشبهة بالشبهة المحصورة من جهة منجّزیة العلم الإجمالی.

ص: 41

ونفس الکلام یقال بناءً علی الوجه الثالث المتقدّم الذی یعتمد عقلائیاً علی منع المنافاة بین الترخیص فی الطرف وبین التکلیف الإلزامی المعلوم بالإجمال، لا منافاة بینهما، لا عقلاً کما تقدّم، ولا عقلائیاً باعتبار کثرة الأطراف. نعم، فی الشبهة المحصورة، عقلائیاً ممنوع الترخیص؛ لأنّ العقلاء یرونه منافیاً للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّهم لا یقبلون تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الغرض اللّزومی فی الشبهة المحصورة، لکن عندما تکون الأفراد کثیرة کما فی الشبهة غیر المحصورة المتقدّمة، هنا لا مانع من تقدیم الأغراض اللّزومیة الکثیرة علی الغرض اللّزومی الواحد، إذا کان هذا هو المدرک فی سقوط العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة عن التنجیز؛ فحینئذٍ یقال: فی شبهة الکثیر فی الکثیر لا یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لما اتضح من أنّ تقدیم الأغراض الترخیصیة الکثیرة علی الغرض اللّزومی الواحد یرتبط بما یراه العقلاء من إمکان هذا التقدیم، وهذا مرتبط فی الحقیقة بکمیة الأغراض اللّزومیة وکمیة الأغراض اللّزومیة، فإذا فرضنا أنّ الأغراض الترخیصیة کانت کثیرة جدّاً، وما یلزم من تقدیمها هو فوات غرض لزومی واحد، هنا تقدّم أنّه قد یقال: أنّ العقلاء لا یرون مانعاً من ذلک، فتقدّم الأغراض الترخیصیة ویُحکم بالترخیص وعدم وجوب الموافقة القطعیة الذی معناه سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، لکن عندما یلزم من تقدیم الأغراض الترخیصیة فوات أغراض لزومیة کثیرة، عندما یُلتزم بالترخیص فی محل الکلام سوف تفوت أغراض ترخیصیة عددها خمسمائة کما فی هذا المثال، فی هذه الحالة العقلاء یرون المناقضة بین الترخیص وبین الأحکام الإلزامیة الکثیرة المعلومة بالإجمال، فإذن: مسألة المنافاة بنظر العقلاء، والمناقضة بنظر العقلاء ترتبط بکمیة الأغراض الترخیصیة، و الأغراض اللّزومیة، الشیء الذی یمکن أن نلتزم به ____________ مثلاً ___________ لمنع المنافاة هو فی ما إذا کانت الأغراض الترخیصیة کثیرة بحیث أنّ تقدیم الغرض اللّزومی والتزام المکلّف بالاحتیاط یفوّت علیه أغراض ترخیصیة کثیرة جدّاً فی مقابل الحفاظ علی غرض لزومی واحد ____________ مثلاً ____________ فی هذه الحالة العقلاء یقولون لا مانع من تقدیم الأغراض الترخیصیة وبالتالی لا منافاة بین الترخیص وبین الحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال. أمّا فی شبهة الکثیر فی الکثیر الذی یفوت بتقدیم الأغراض الترخیصیة هو عبارة عن أغراض لزومیة کثیرة، فی هذه الحالة هذا الأمر لا یکون تامّاً. ومن هنا بناءً علی أن یکون المستند هو هذا أیضاً لابدّ من إلحاق شبهة الکثیر فی الکثیر بالشبهة المحصورة، فیکون العلم الإجمالی باقٍ علی تنجیزه.

ص: 42

نعم، بناءً علی مسلک المحقق النائینی(قدّس سرّه) المتقدّم الذی یری أنّ المستند فی عدم وجوب الموافقة القطعیة هو عدم القدرة علی المخالفة القطعیة، هذا هو المیزان عنده، لا معنی حینئذٍ لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة لعدم القدرة علیها، فلا یتنجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یری أنّ وجوب الموافقة القطعیة تابع لحرمة المخالفة القطعیة، فیسقط کلٌ منهما عن التنجیز، لا تحرم المخالفة القطعیة؛ لأنّها غیر مقدورة ___________ بحسب الفرض ____________ لأنّ المیزان عنده فی الشبهة غیر المحصورة هو هذا، ولا تجب الموافقة القطعیة؛ لأنّها تابعة لحرمة المخالفة القطعیة. وهذا المیزان ینبغی تطبیقه فی محل الکلام، ویصح تطبیقه فی محل الکلام، وینتج سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی کلّ موردٍ لا یتمکّن المکلّف فیه من المخالفة القطعیة، ففی کلّ موردٍ من هذا القبیل ینطبق هذا المیزان، فیکون حاله حال الشبهة غیر المحصورة، کما أنّه هناک لا یمکنه المخالفة القطعیة، هنا أیضاً لا یمکنه المخالفة القطعیة، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، وفی کلّ موردٍ یمکنه المخالفة القطعیة، المخالفة القطعیة لیست ممّا لا یتمکّن منه المکلّف، فیمکنه المخالفة القطعیة، وفی هذه الحالة لابدّ من إلحاق هذه الشبهة بالشبهة المحصورة، وأنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً، والظاهر أنّ هذا یختلف باختلاف الأمثلة والموارد، (مثلاً): فی المثال السابق الذی ذکرناه، نفترض أنّ الآنیة ألف وخمسمائة إناء، وهو یعلم بنجاسة خمسمائة إناءٍ منها، المکلّف متّی یخالف قطعاً ؟ المکلّف یخالف قطعاً إذا ارتکب ألف إناء زائداً إناء واحد؛ وعندئذٍ یقطع بالمخالفة، أی قطعاً هو ارتکب النجس. أمّا إذا ارتکب ألف إناء، هناک احتمال أن تکون الخمسمائة النجسة موجودة فی الخمسمائة الباقیة التی لم یرتکبها، فلا قطع بالمخالفة، وإنّما یقطع بالمخالفة إذا أضاف إلی الألف إناء التی ارتکبها أناءً واحداً؛ عندئذٍ یکون قاطعاً بأنّه ارتکب النجس، وخالف قطعاً؛ وحینئذٍ قد یقال: بأنّ المکلّف عادّة غیر قادر علی ارتکاب ألف إناء وإناء، فإذا کان غیر قادر علی ارتکابها؛ عندئذٍ یتحقق المیزان للشبهة غیر المحصورة عنده، وبالتالی لابدّ من الالتزام بعدم التنجیز وسقوط العلم الإجمالی فی المقام عن المنجّزیة، لکن فی مواردٍ أخری قد نفترض إمکان ارتکاب المخالفة القطعیة، کما إذا علم بنجاسة خمسین إناءٍ من مائة إناءٍ، وفرضنا أنّ هذه أیضاً شبهة الکثیر فی الکثیر، فی هذه الحالة المخالفة القطعیة تتحقق بأن یرتکب واحداً وخمسین إناء، فإذا ارتکب واحداً وخمسین إناءٍ یکون قد خالف التکلیف المعلوم بالإجمال قطعاً.

ص: 43

هنا قد یقال بأنّ المکلّف یتمکّن عادّة من ارتکاب واحد وخمسین إناء، فإذا کان متمکّناً، فالمیزان فی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز عنده لا یکون متحققّاً، وتکون الشبهة حینئذٍ ملحقة بالشبهة المحصورة، فیکون العلم الإجمالی فیها منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة. هذا هو ما یرتبط بالأمر الثالث.

إلی هنا یتمّ الکلام عن أصل البحث فی الشبهة غیر المحصورة، وعن لواحق هذا البحث التی ذکرناها ضمن هذه الأمور الثلاثة. بعد ذلک ننتقل إلی بحثٍ مهم من الأبحاث المهمّة جدّاً التی ترتبط بالعلم الإجمالی، وهو بحث انحلال العلم الإجمالی، متی ینحلّ العلم الإجمالی، وهو بحث من الأبحاث المهمّة جدّاً، ولم یُفرد له بحث مستقل فی کلمات الأصولیین من قبلنا.

الکلام یقع فی أنّه إذا علم المکلّف بحکمٍ إلزامیٍ مرددّ بین طرفین وحصل عنده ما یوجب ثبوت التکلیف فی أحد الطرفین بعینه، من قبیل حصول علم تفصیلی، هو علم بنجاسة أحد أناءین، نفترض أنّه علم بعلمٍ تفصیلیٍ بنجاسة هذا الإناء الأیمن، فیقع الکلام أنّ هذا العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء الأیمن من الإناءین الذی علم إجمالاً بنجاسة أحدهما، هل یوجب انحلال العلم الإجمالی، وسقوطه عن التنجیز، وثمرة سقوطه عن التنجیز تظهر فی الطرف الآخر، فیجوز الرجوع إلی الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، بینما إذا بقی العلم الإجمالی علی منجزیته یمنع من إجراء الأصول فی الأطراف. أو أنّه لیس علم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن، وإنّما قامت إمارة شرعیة معتبرة علی نجاسة الإناء الأیمن بعینه، أو اقتضی ثبوت التکلیف فی الإناء الأیمن أصل من الأصول الشرعیة کالاستصحاب، أو العقلیة کالاحتیاط وأمثاله، هذا التکلیف فی أحد الطرفین بعینه، الذی ثبت بعلم تفصیلی، أو بإمارةٍ، أو بأصلٍ شرعیٍ، أو عقلیٍ، وأصبح المکلّف عالماً، أو قامت عنده الحجّة المعتبرة علی ثبوت التکلیف حتماً فی هذا الطرف الأیمن، هل یوجب انحلال العلم الإجمالی، أو لا؟

ص: 44

الکلام هنا تارة یقع فی ما یُسمّی بالانحلال الحقیقی الذی یعنی زوال العلم الإجمالی حقیقة وواقعاً، بحیث لا یبقی علم إجمالی. وأخری یقع فی الانحلال الحکمی الذی یعنی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز بالرغم من بقاء العلم الإجمالی حقیقة وواقعاً، العلم الإجمالی باقٍ ولم ینحل حقیقة، لکنّه یسقط عن التنجیز، ولا یمنع من إجراء الأصول المؤمّنة فی الأطراف الأخری لسببٍ من الأسباب کما سیأتی، عندما یبلغ العلم الإجمالی هذه الحالة، یعنی علم إجمالی باقٍ حقیقة لکنّه لیس منجّزاً، یقال: انحلّ هذا العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً، فالکلام یقع فی مقامین: فی الانحلال الحقیقی، والانحلال الحکمی .

الکلام فعلاً فی المقام الأوّل، أی فی الانحلال الحقیقی، الکلام فی کبری الانحلال الحقیقی. هنا توجد حالتان، أحدی الحالتین، قالوا أنّها خارجة عن محل النزاع، ولا نزاع فیها، وإنّما النزاع یترکّز علی الحالة الثانیة:

الحالة الأولی: هی ما إذا فرضنا أنّ العلم التفصیلی کان ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف الأیمن بعینه، یعنی یقول: أنّ هذه النجاسة التی علمت بها إجمالاً، والمرددّة بین الإناءین هی فی هذا الإناء الأیمن، فیکون ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال. هذه الحالة خارجة عن محل النزاع، بمعنی أنّه لا خلاف ولا نزاع فی تحقق الانحلال الحقیقی فی هذه الحالة، ویزول العلم الإجمالی، ولا یبقی المکلّف عالماً بالنجاسة فی أحد الإناءین، وإنّما هو یعلم أنّ تلک النجاسة التی حصلت هی موجودة فی الإناء الأیمن، هذا یعلم به تفصیلاً، ینحل العلم الإجمالی انحلالاً حقیقیاً إلی علمٍ تفصیلی بوجود النجاسة فی هذا الإناء، وشک بدوی ____________ مثلاً _____________ فی الإناء الآخر، هنا قالوا: هذا خارج عن محل النزاع، والنزاع الآتی لا یجری فی هذه الحالة، وإنّما یجری فی الحالة الثانیة.

ص: 45

الحالة الثانیة: وهی حالة ما إذا کان العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال، عَلِم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء الأیمن، ولیس علم تفصیلاً بأنّ النجاسة التی علم بأنّها مرددّة بین الطرفین هی موجودة فی الإناء الأیمن، لیس ناظراً إلی هذا، وإنّما علم تفصیلاً بأنّ هذا الإناء نجس، هنا قالوا أنّ هذا هو محل الکلام فی أنّه هل یتحققّ بذلک الانحلال الحقیقی، أو لا یتحقق الانحلال الحقیقی بذلک ؟ هنا یوجد احتمال أن تکون النجاسة المعلومة بالتفصیل هی نفس النجاسة المعلومة بالإجمال، لکن هذا احتمال، یعنی فی قبالها احتمال أن لا تکون النجاسة المعلومة بالتفصیل هی نفس النجاسة المعلومة بالإجمال؛ لأنّ العلم التفصیلی لم یکن ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، وإنّما اثبت نجاسة فی هذا الإناء الأیمن، فیُحتمل أن تکون هی نفس النجاسة المعلومة بالإجمال، ویُحتمل أن تکون نجاسة غیر تلک، قالوا: هذا هو محل الکلام، ومحل النزاع الآتی؛ لأنّ هناک نزاعاً فی أنّ الانحلال الحقیقی یتحقق فی هذه الحالة، أو لا یتحققّ ؟

السید الشهید(قدّس سرّه) (1) ذکر بأنّ الحالة الثانیة التی دخلت فی محل النزاع، ینبغی أیضاً تقسیمها إلی نحوین؛ لأنّ هذه الحالة الثانیة تقع علی نحوین، أیضاً یقول أن ّأحد النحوین لیس داخلاً فی محل النزاع:

النحو الأوّل: أن تؤخذ فی المعلوم بالإجمال خصوصیة زائدة غیر مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل، کما إذا فرضنا أنّه علم بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم، فهذه خصوصیة زائدة لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل، کما لو علم بنجاسة هذا الإناء الأیمن، لا أنّه علم بنجاسته الناشئة من سقوط قطرة دم، وإنّما علم بنجاسة هذا الإناء. فإذن: هو علم بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من سبب خاص کسقوط قطرة دم _________ مثلاً ________ ثمّ علم تفصیلاً بنجاسة الإناء الیمن نجاسة مطلقة، غیر مقیدة بتلک الخصوصیة.

ص: 46


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج5، ص239.

ویُلحق به فی خروجه عن محل النزاع کما سنذکر ما إذا کان کلٌ من المعلوم بالإجمال، والمعلوم بالتفصیل مقیّد بخصوصیة غیر الخصوصیة المقیّد بها الآخر، کما إذا علم إجمالاً بسقوط قطرة بول فی أحد الإناءین، وعلم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم، وهذه خصوصیة أخری مباینة للخصوصیة التی أخذت فی المعلوم بالإجمال.

یقول: فی هذین المثالین فی هذا النحو الأوّل الذی یعم کلاً منهما، هذا أیضاً خارج عن محل النزاع؛ إذ لا إشکال فی عدم الانحلال الحقیقی فی هذا النحو، النحو الأوّل المتقدّم أخرجناه لأنّه لا إشکال فی الانحلال الحقیقی عندما یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، هذا أخرجناه عن محل النزاع؛ لأنّه لا إشکال فی الانحلال فیه، قطعاً هناک انحلال، وهذا النحو الأوّل هنا أیضاً نخرجه عن محل النزاع، لکن باعتبار أنّه لا إشکال فی عدم تحقق الانحلال فیه، ولا نزاع فی ذلک؛ لماذا ینحل العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم، بالعلم التفصیلی بنجاسة الإناء الأیمن فقط ؟ یبقی العلم الإجمالی الأوّل علی حاله ولا ینحل حقیقة، یبقی المکلّف عالم بنجاسة أحد الإناءین من جهة سقوط قطرة دم فی أحدهما، بالرغم من أنّه عالم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن، والأمر أوضح فی المثال الثانی، یعنی عندما یکون کل منهما مقیّد بخصوصیة مغایرة للخصوصیة المقیّد بها الآخر، أوضح فی عدم السقوط، وعدم زوال العلم الإجمالی، هو عالم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین من جهة سقوط قطرة دم، وعالم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن من جهة سقوط قطرة بول، لا موجب لانحلال العلم الإجمالی وزواله فی هذه الحالة، فهذا أیضاً خارج عن محل النزاع.

ص: 47

النحو الثانی: هو أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لیست موجودة فی المعلوم بالتفصیل، وأمثلته کثیرة، کما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ علم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن، وهکذا فی أمثلة کثیرة. هذا هو الذی یدخل فی محل النزاع، فکأنّه یعتبر للدخول فی محل النزاع أمران:

الأمر الأوّل: أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال.

الأمر الثانی: أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لیست مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل؛ عندئذٍ یدخل فی محل النزاع.

علی کل حال، هذا هو محل النزاع، والکلام فی الانحلال الحقیقی؛ ولذا فرضنا أنّ المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه هو العلم التفصیلی، ولم نفرضه إمارة، ولم نفرضه اصلاً مثبتاً للتکلیف فی أحد الطرفین؛ لأنّ هذا انحلال حکمی، وإنّما علم تفصیلی، أو علم إجمالی أصغر من العلم الإجمالی الأوّل؛ لما مر علیک من أنّ العلم الإجمالی الکبیر ینحل بالعلم الإجمالی الصغیر، هذا العلم الإجمالی الصغیر أیضاً قد یقال بأنّه یوجب انحلال العلم الإجمالی الکبیر انحلالاً حقیقیاً.

انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

تبیّن فی الدرس السابق أنّه یعتبر فی دخول العلم التفصیلی فی محلّ النزاع أن لا یکون ناظراً إلی تعییین وتشخیص المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، وإلاّ فلا إشکال فی الانحلال، ولا یقع محلاًّ للبحث عن الانحلال وعدمه، هذا الشرط مسلّم، ولا إشکال فیه، لکن هناک شرطاً آخر ذکره السید الشهید(قدّس سرّه)، وهو أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لیست مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل، وهذا یشمل حالتین:

ص: 48

الحالة الأولی: حالة ما إذا کان کلٌ منهما مطلقاً، وغیر مقیّد بخصوصیة، کما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، وعلم تفصیلاً بنجاسة أحدهما المعیّن.

الحالة الثانیة: حالة ما إذا کان کلٌ منهما مقیّداً بنفس الخصوصیة، کما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین الحاصلة من سقوط قطرة دم، وعلم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء المعیّن نجاسة حاصلة من سقوط قطرة دم. وهذا الشرط الثانی للدخول فی محل النزاع یأتی الکلام عنه من خلال البحوث الآتیة. علی کل حال وقع الخلاف فی الانحلال الحقیقی، وعدمه فی محل الکلام.

استُدلّ علی الانحلال الحقیقی بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: دعوی الوجدان. أنّ الوجدان قاضٍ فی محل الکلام بأنّ العلم الإجمالی یزول، ولا یبقی بمجرّد حصول العلم التفصیلی بأحد الطرفین بعینه.

الوجه الثانی: ما أشار إلیه المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی بعض کلماته من قیاس ما نحن فیه علی باب الأقل والأکثر الاستقلالیین، (1) باعتبار أنّ ما نحن فیه هو من صغریات دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین فی الانحلال. فی باب الأقل والأکثر ینبغی أن لا یکون هناک إشکال فی الانحلال فی محل الکلام؛ لأنّه ملحق به، أو من صغریاته. (مثلاً) فی باب الأقل والأکثر إذا علمنا بوجوب قضاء صوم یومٍ من أیام شهر رمضان، علم المکلّف بأنّه فاته صوم الیوم الأوّل من صوم شهر رمضان، وعلم بوجوب قضائه، وشکّ فی أنّه هل فاته الیوم الثانی أیضاً، أو لا ؟ بطبیعة الحال یدور الأمر عنده بین الأقل الذی هو وجوب قضاء صوم الیوم الأوّل، والأکثر الذی هو وجوب قضاء صوم الیوم الأوّل، والیوم الثانی. فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین لا إشکال فی انحلال العلم الإجمالی إلی علمٍ تفصیلی بوجوب قضاء الیوم الأوّل، وشکّ بدوی فی وجوب قضاء الیوم الثانی، ویزول العلم الإجمالی، بالرغم من أنّ هناک علماً إجمالیاً ___________ مثلاً ___________ بانّه یجب علیه القضاء المردّد بین الأقل والأکثر، لکن هذا العلم منحل بلا إشکال إلی علمٍ تفصیلی بوجوب الأقل وشکٍ بدوی بوجوب الزائد عن الأقل. ما نحن فیه، وهو العلم الإجمالی بین المتباینین، هو من هذا القبیل، إذا علم المکلّف بنجاسة أحد الإناءین، وعلم تفصیلاً کما هو محل کلامنا بنجاسة الإناء الأیمن، وهذا فی واقعه دوران الأمر بین الأقل والأکثر، الأقل هو عبارة عن نجاسة الإناء الأیمن، هذا متیقّن قطعاً، الأقل نجس، والأکثر هو عبارة عن نجاسة کلا الإناءین الأیمن والأیسر، فیدور بین ثبوت التکلیف فی خصوص الأقل، وبین ثبوته فی الأقل وما زاد علیه، وهذا هو عبارة عن دوران الأمر بین الأقل والأکثر، وهذا أیضاً یکون منحلاً بلا إشکال، إلی علمٍ تفصیلی بنجاسة الأقل، وشکٍ بدوی فی نجاسة الآخر، علی غرار مثال القضاء الذی ذکرناه، فیکون المقام من صغریات هذا الباب؛ وحینئذٍ لابدّ فیه من الانحلال. دائماً العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی __________ کما هو محل الکلام _________ یوجب انحلال العلم الإجمالی، ویوجب أن یکون هناک علم تفصیلی بثبوت التکلیف فی هذا الطرف قطعاً وعلی کل تقدیر، علی کل تقدیر هذا الطرف فیه تکلیف، سواء ثبت التکلیف فی الطرف الآخر، أو لم یثبت، هذا قطعاً فیه تکلیف، فیکون حاله حال الأقل فی المثال السابق، أی حاله حال وجوب قضاء صوم الیوم الأوّل، وإنّما یکون هناک شکّ فی وجوب قضاء ما زاد علیه، فی محل الکلام یکون هناک شکّ فی نجاسة ما زاد علی هذا المعلوم بالتفصیل، فشکّ بین الأقل والأکثر، التکلیف هل هو ثابت فی الأقل فقط، أو هو ثابت فی مجموع الأقل زائداً الطرف الآخر، وهذا من دوران الأمر بین الأقل والأکثر، ولابدّ فیه من الالتزام بالانحلال کما ذکرنا.

ص: 49


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص250.

هذا الوجه الثانی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وأجاب عن هذا الوجه بأنّه فی باب الأقل والأکثر، هناک لیس عندنا من البدایة، إلاّ علم تفصیلی وشکّ بدوی، ولا یوجد عندنا علم إجمالی من البدایة، وإنّما عندنا علم تفصیلی بوجوب الأقل، وشکّ فی الزائد علیه، ویستدلّ علی عدم وجود علم إجمالی فی باب الأقل والأکثر، وإنّما هناک فقط علم تفصیلی وشکّ بدوی، یستدلّ بأنّ هناک قضیة تعلیقیة لازمة لکل علمٍ إجمالی، وتصدق مع کلّ علمٍ إجمالی، فمتی صدقت هذه القضیة التعلیقیة نستکشف أنّ العلم الإجمالی باقٍ، وأنّ الملزوم موجود، ومتّی لم تصدق هذه القضیة التعلیقیة نستکشف زوال العلم الإجمالی وانحلاله، وهذه القضیة التعلیقیة هی: لو کان الواجب فی باب الأقل والأکثر هو الأکثر، لکان الأقل غیر واجب. فی باب العلم الإجمالی علمت بنجاسة أحد إناءین، من لوازم العلم الإجمالی صدق هذه القضیة التعلیقیة علی کلا الطرفین، أنّه لو کان هذا هو النجس، فالطرف الآخر لیس نجساً، والعکس أیضاً صحیح، لو کان هذا الإناء هو النجس بالنجاسة المعلومة بالإجمال، یعنی لو کانت النجاسة المعلومة بالإجمال موجودة فی هذا الطرف، إذن، هی غیر موجودة فی الطرف الآخر، هذا لابدّ منه فی العلم الإجمالی؛ لأنّ ما یعلمه إجمالاً هی نجاسة واحدة، هذه النجاسة التی علم بها إجمالاً هی إمّا موجودة فی هذا الطرف، أو موجودة فی هذا الطرف، فإذا کانت موجودة فی هذا الطرف، فهی لیست موجودة فی الطرف الآخر، قد تکون نجاسة أخری موجودة فیه، لکن النجاسة المعلومة بالإجمال لیست موجودة فی الطرف الآخر علی تقدیر أنّها موجودة فی هذا الطرف، وهکذا العکس. یقول: کل علم إجمالی لازمه صدق هذه القضیة التعلیقیة دائماً، أعلم إجمالاً بغصبیة أحد الثوبین، أیضاً أقول: لو کان هذا هو المغصوب، لما کان الآخر مغصوباً، یعنی لما کانت الغصبیة المعلومة بالإجمال موجودة فی الآخر، علی تقدیر أن تکون موجودة فی الطرف الآخر، کل علمٍ إجمالی ثابت یکون لازمه صدق هذه القضیة التعلیقیة، ومتی ما رأینا أنّ هذه القضیة لا تصدق نستکشف عدم تحقق الملزوم. یقول: هذه القضیة التعلیقیة غیر صادقة فی باب الأقل والأکثر، وقلنا أنّه استدلّ بذلک علی عدم وجود علم إجمالی فی باب الأقل والأکثر، وإنّما من البدایة هناک علم تفصیلی، وشکّ بدوی، یقول هذه القضیة لا تصدق، فلا یصح أن أقول فی باب الأقل والأکثر، لو کان الواجب هو الأکثر لکان الأقل غیر واجب، هذا لا یصح؛ لأنّ الأقل هو واجب علی کل تقدیر، سواء وجب الأکثر، أو لم یجب الأکثر، فلا یصح لی أن أقول: لوکان الواجب هو الأکثر لما کان الأقل هو الواجب، هذه القضیة التعلیقیة تصدق، فإذا لم تصدق هذه القضیة التعلیقیة، وهی لازمة للعلم الإجمالی یُستکشف من ذلک انحلال العلم الإجمالی وزواله؛ ولذا یقول فی باب الأقل والأکثر من البدایة لا یوجد علم إجمالی بالمرّة، وهذا بخلاف محل الکلام، فی العلم الإجمالی بین المتباینین، الذی هو محل کلامنا تصدق هذه القضیة التعلیقیة بلحاظ کلا الطرفین حتّی بعد العلم التفصیلی، یقول: وهذا دلیل علی بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله، فی محل الکلام هو یعلم بنجاسة أحد الإناءین علماً إجمالیاً، وهناک علم تفصیلی بنجاسة هذا الإناء الأیمن المعیّن، هنا یصح أن أقول، لو کان هذا هو النجس بالنجاسة المعلومة بالإجمال، لما کان هذا نجساً، ولو کان الطرف الآخر نجساً لما کان هذا نجساً، بالرغم من علمی التفصیلی بانّه نجس؛ لأنّی أنظر فی القضیة التعلیقیة إلی المعلوم بالإجمال، إلی العلم الإجمالی، لو کان الطرف الثانی الذی هو غیر مورد العلم التفصیلی، لوکان هذا نجساً، یصح لی أن أقول لما کان هذا نجساً؛ لأنّ المراد هو النجاسة المعلومة بالإجمال، النجاسة المعلومة بالإجمال لو کانت موجودة هنا لما کان هذا نجساً بها، ولو کانت موجودة هنا لما کان ذاک الطرف نجساً بها، هذا صحیح، بالرغم من علمی التفصیلی بأنّ هذا نجس؛ لأنّ القضیة التعلیقیة یُنظر بها إلی العلم الإجمالی، وإلی المعلوم بالإجمال، وبلحاظ ذلک یصحّ أن یقال: لو کان هذا الطرف نجساً لما کان هذا نجساً بالنجاسة المعلومة بالإجمال؛ لأنّک بالعلم الإجمالی تعلم بنجاسة واحدة مرددّة بین هذا وهذا، فإذا کانت ثابتة فی هذا الطرف هی غیر ثابتة فی هذا الطرف، فتصدق القضیة التعلیقیة، وهذا دلیل علی وجود علم إجمالی، فقیاس ما نحن فیه علی باب الأقل والأکثر لیس صحیحاً؛ لأنّه فی باب الأقل والأکثر لا یوجد علم إجمالی من البدایة، بدلیل أنّ هذه القضیة التعلیقیة لا تصدق هناک، بینما فی محل الکلام هناک علم إجمالی وعلم تفصیلی؛ وحینئذٍ لابدّ أن نری أنّ هذا ینحل، أو لا ؟ أمّا أن نقیس ما نحن فیه علی باب الأقل والأکثر، فهذا قیاس مع الفارق وغیر صحیح.

ص: 50

یمکن أن یُلاحظ علی هذا الجواب: کأنّه __________ والله العالم __________ فیه شیء من المصادرة، کأنّه مبنی علی فرض عدم الانحلال فی محل الکلام، یعنی هو یفرغ عن عدم انحلال العلم الإجمالی فی محل الکلام، ویذکر هذا الکلام، وهو کلام صحیح متین علی تقدیر عدم الانحلال فی محل الکلام الذی هو علم إجمالی وعلم تفصیلی، القضیة التعلیقیة صادقة؛ لأنّه لدینا علم إجمالی وعلم تفصیلی، بلحاظ العلم الإجمالی غیر المنحل، القضیة التعلیقیة صادقة، لو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، ولو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، بلحاظ العلم الإجمالی الغیر المنحل، هذا کلام متین وصحیح، لکن کأنّه مبنی علی فرض عدم الانحلال، وأنّ العلم الإجمالی لا ینحل بالعلم التفصیلی، فعلم إجمالی باقٍ ولازمه صدق هذه القضیة التعلیقیة. لکن من یقول بالانحلال کما هو المعروف یُنکر صدق هذه القضیة التعلیقیة. لتوضیح الأمر لنفترض أنّ محل کلامنا هو الفرض الأوّل الذی قلنا أنّه خارج عن محل کلامنا، یعنی ما إذا کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال الذی قلنا أنّه لا إشکال فی الانحلال فیه، القائل بالانحلال فی محل کلامنا یقول هو من قبیل الفرض الأوّل، کما أنّ هناک انحلالاً، هنا أیضاً یوجد انحلال، فی الفرض الأوّل الذی یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، أنّ النجاسة التی علمت بها موجودة فی هذا الطرف؛ وحینئذٍ لا تصدق القضیة التعلیقیة، لا نستطیع أن نقول لو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، أو لو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، لا تصدق حینئذٍ القضیة التعلیقیة؛ لأنّ العلم الإجمالی انحل، ولیس هناک علم إجمالی، وإنّما هناک علم تفصیلی بنجاسة هذا الإناء؛ وحینئذٍ لا یصحّ لی أن أقول لو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، فلا تصدق القضیة التعلیقیة لو قلنا بالانحلال؛ لأنّه کما هو واضح، أنّ صدق القضیة التعلیقیة مرتبط بالعلم الإجمالی، فتصدق بالرغم من العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء؛ لأنّه یوجد علم إجمالی، وبلحاظه یصح لنا أن نقول: لو کان هذا نجساً، لما کان هذا نجساً، لکن عندما نفترض انحلال العلم الإجمالی؛ حینئذٍ لا تصحّ القضیة ولا تصدق، ومن هنا یکون جوابه لا یخلو من مصادرة، بمعنی أنّه یفترض الانحلال ویذکر هذا المطلب ویستدلّ به.

ص: 51

ومن هنا یأتی الجواب الثانی عن هذا الوجه الثانی، ولعلّه أشار إلیه فی جوابه، وحاصله: إنکار وجود علمٍ إجمالی فی باب الأقل والأکثر، بینما هناک علم إجمالی فی محل الکلام، فقیاس محل الکلام علی باب الأقل والأکثر قیاس مع الفارق؛ لأنّ هناک لا یوجد علم إجمالی، وهو أشار إلی هذا فی جوابه، غایة الأمر أنّه استدلّ علیه بمسألة صدق القضیة التعلیقیة، أو عدم صدقها، فی هذا الجواب نقول: أنّ الدلیل علی هذا هو أنّه لو فرضنا عدم وجود علم تفصیلی بوجوب الأقل؛ حینئذٍ لا یبقی لدینا علم إجمالی بوجوب هذا، أو هذا، فإذن: هذا العلم الإجمالی کأنّه صورة علم إجمالی نشأت فی الحقیقة من العلم التفصیلی بوجوب الأقل، والشکّ البدوی فی وجوب الزائد، ولو أخرجنا هذا العلم التفصیلی بوجوب الأقل لا یبقی علم إجمالی، لا وجود لعلمٍ إجمالی، فلا نستطیع أن نقول فی باب الأقل والأکثر لدینا علمان إجمالی وتفصیلی، لیس لدینا علمان إجمالی وتفصیلی؛ بل لیس لدینا إلاّ علم تفصیلی وشکّ بدوی، والعلم الإجمالی الذی صُوّر فی باب الأقل والأکثر هو صورة علم إجمالی ینشأ من العلم التفصیلی بوجوب الأقل، والشکّ فی وجوب الزائد، هذا ننتزع منه علماً إجمالیاً بأنّه یعلم بوجوب القضاء علیه المردّد بین الأقل والأکثر، وهذه صورة علمٍ إجمالی، واقع المطلب لیس هناک علمان، علم إجمالی وعلم تفصیلی، وإنّما هناک علم تفصیلی واحد وشکّ بدوی، بینما فی محل الکلام الأمر یختلف، لدینا علم إجمالی وعلم تفصیلی، هو یعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، ویعلم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء. لو أخرجنا هذا العلم التفصیلی، وافترضنا عدم وجود هذا العلم التفصیلی بنجاسة الإناء الأیمن، سوف یبقی علم إجمالی، العلم الإجمالی المفترض فی محل الکلام یبقی علی حاله، غیر مرتبط بهذا العلم التفصیلی؛ ولذا لو فُرض عدم وجود هذا العلم التفصیلی، هناک علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین.

ص: 52

إذن: قیاس محل الکلام علی باب الأقل والأکثر غیر صحیح؛ لأنّه فی باب الأقل والأکثر لا یوجد علمان، أحدهما علم إجمالی والآخر علم تفصیلی، وإنّما الموجود فقط علم تفصیلی وشکّ بدوی، بینما فی محل الکلام یوجد علمان، أحدهما إجمالی والآخر تفصیلی، والعلم الإجمالی لم یُنتزع من العلم التفصیلی، وإنّما هو موجود علی کلا التقدیرین، سواء وجد علم تفصیلی، أو لم یوجد علم تفصیلی، هناک علم إجمالی، فالقیاس فی غیر محله، والقیاس مع الفارق، فهذا الوجه الثانی لإثبات الانحلال لا یکون تامّاً.

الوجه الثالث: أن یقال أنّ العلم الإجمالی متقوّم برکنین اساسیین، أحدهما العلم بالجامع، والآخر هو شکوک بعدد الأطراف، إذا کان طرفین، فالعلم یتقوّم بالجامع، وبشکّین فی الطرفین، شکّ فی هذا الطرف، وشکّ فی هذا الطرف، وإذا کان ثلاثة، تکون هناک ثلاثة شکوک ....وهکذا.

الوجه الثالث یرید أن یقول: أنّ أحد الرکنین غیر موجود فی محل الکلام، ویجعل هذا دلیلاً علی انحلال العلم الإجمالی، وزواله، والرکن الغیر متحقق فی محل الکلام هو الثانی، أی الشکوک بعدد الأطراف، بالوجدان یشعر الإنسان أنّه هل هناک شکوک بعدد الأطراف فی محل الکلام الذی هو علم إجمالی زائداً علم تفصیلی بنجاسة هذا الإناء الأیمن، لو فرضنا وجود علمٍ بالجامع، لکن هل هناک شکوک بعدد الأطراف ؟ کلا، هذا طرف ولیس فیه شکّ؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف یعلم تفصیلاً بثبوت التکلیف فیه، فیختلّ الرکن الثانی من أرکان العلم الإجمالی ومنجّزیته، وهذا معناه أنّه لا وجود للعلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی کما هو متقوّم بالعلم بالجامع، هو متقوّم بأن تکون هناک شکوک بعدد الأطراف، أمّا إذا زال الشکّ من أحد الأطراف، باعتبار حصول العلم التفصیلی بثبوت التکلیف فیه، فهذا یعنی زوال العلم الإجمالی، وانحلاله.

ص: 53

انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

الوجه الثالث: من الوجوه التی قد یُستدل بها علی الانحلال الحقیقی فی محل الکلام، وهو ما إذا کان هناک علم تفصیلی اقترن بالعلم الإجمالی، وکان هذا العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، وإلاّ فلا إشکال ولا نزاع فی الانحلال. والوجه الثالث هو دعوی أنّ العلم الإجمالی فاقد لرکنٍ من أرکانه المقوّمة له فی محل الکلام؛ ولذا یزول العلم الإجمالی؛ لفقدان هذا الرکن المقوّم له، عندما یحصل علم تفصیلی فی بعض الأطراف المعیّن یفقد العلم الإجمالی رکناً من أرکانه المقوّمة له، وبذلک ینحل.

توضیح المطلب: ذکروا أنّ العلم الإجمالی متقوّم بأمرین: أحدهما العلم بالجامع، والآخر هو احتمالات انطباق ____________ شکوک ____________ بعدد أطراف العلم الإجمالی، ومن الواضح أنّه مع فرض العلم التفصیلی بثبوت التکلیف فی أحد الطرفین المعیّن، ینهدم الرکن الثانی؛ لأنّه سوف یتحوّل احتمال الانطباق فی ذلک الطرف بالعلم بالانطباق؛ لأنّ الرکن الثانی یقول لابدّ من وجود احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی.

إذن: العلم التفصیلی بالفرد یوجب انحلال العلم الإجمالی، وهذا هو المطلوب.

هذا الوجه الثالث:إنّما یتمّ فیما إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فیه خصوصیة زائدة غیر مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل؛ حینئذٍ یکون هذا الوجه تامّاً، وقلنا أنّ (لم تؤخذ) هو محل الکلام بناءً علی ما نقلناه عن السیّد الشهید(قدّس سرّه)؛ لأنّه ذکر أنّه یُشترط فی دخول الشیء فی محل النزاع أمران: الأوّل أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال. والثانی هو أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لیست مأخوذة فی المعلوم بالتفصل. إذا تحقق هذا الشیء کما فی الأمثلة التی ذکرناها، کما لو فرضنا أنّه یعلم إجمالاً بنجاسة أحد إناءین بلا خصوصیة، ویعلم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء المعیّن، أو فرضنا أنّه یعلم إجمالاً بغصبیة أحد الثوبین، ویعلم تفصیلاً بأنّ هذا الثوب الأیمن مغصوب، ولا توجد خصوصیة للثوب المعلوم بالإجمال یحتمل عدم انطباقها علی المعلوم بالتفصیل، إذا فرضنا عدم أخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال؛ حینئذٍ یکون هذا الوجه تامّاً، ویتحقق الانحلال الحقیقی؛ لأنّ العلم التفصیلی بالفرد فی هذه الحالة یستلزم انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وسریان العلم من الجامع إلی الفرد، هذا العلم المتعلق بالجامع، بحدّه الجامعی یسری من الجامع إلی الفرد بحدّه الشخصی.

ص: 54

وبعبارةٍ أخری: أنّ العلم لا یقف علی الجامع بحدّه الجامعی، وإنّما یتعلّق بحدٍّ أخصّ من الحدّ الجامعی الذی هو الفرد؛ وحینئذٍ یزول العلم الإجمالی، ولا یوجد احتمالات بالانطباق بعدد أطراف العلم الإجمالی کما هو واضح؛ لأنّ العلم سری من الجامع إلی الفرد، وإذا سری العلم من الجامع إلی الفرد معناه أنّ العلم الإجمالی قد زال، وما عاد واقفاً علی الجامع بحدّه الجامعی، ولیس لدینا احتمالات انطباق بعدد الأطراف؛ لأنّ هذا الفرد أصبح معلوماً؛ لأنّ العلم بالجامع سری إلی هذا الفرد، فأصبح لدی المکلّف علم بالفرد، وهذا العلم بالفرد یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی کما قیل متقوّم بالعلم بالجامع، یعنی أن یقف العلم علی الجامع بحدّه الجامعی الذی یُحتمل انطباقه علی هذا الطرف، ویُحتمل انطباقه علی ذاک الطرف، وشکوک بعدد الأطراف، وهذا ما عاد موجوداً عندما نفترض السریان والانطباق، إذا سری العلم من الجامع إلی الفرد؛ فحینئذٍ یزول العلم الإجمالی ولم تعد هناک شکوک واحتمالات للانطباق بعدد الأطراف، وإنّما فی هذا الطرف هناک علم بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا، وهناک شکّ بدوی فی الأطراف الأخری، فیتم هذا البرهان إذا فرضنا أنّه لیست هناک خصوصیة زائدة مأخوذة فی المعلوم بالإجمال؛ وحینئذٍ یکون السریان قهریاً، فیسری العلم الإجمالی من الجامع إلی الفرد، وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی بلا إشکال، وانهدام أرکانه. وأمّا إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة زائدة لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل بحیث نحتمل عدم انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل نتیجة أخذ هذه الخصوصیة؛ وحینئذٍ لا وجه للانحلال؛ لأننّا لا نعلم انطباق الجامع علی المعلوم بالتفصیل.

ص: 55

أو بعبارةٍ أخری: سریان العلم من الجامع بحدّه الجامعی إلی الفرد غیر معلوم عندنا؛ لأنّه أُخذت خصوصیة زائدة فی المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل یحتمل علی ضوئها عدم الانطباق وعدم السریان. إذن: لا علم عندنا بانطباق الجامع المعلوم علی الفرد المعلوم بالتفصیل، ولا علم عندنا بسریان العلم من الجامع بحدّه الجامعی إلی الفرد، فیبقی العلم بالجامع علی حاله، وهذا العلم بالجامع یستلزم احتمالات انطباق بعدد الأطراف بما فیها الطرف المعلوم بالتفصیل، وهذا أوضحناه فی الدرس السابق، قلنا أنّ احتمالات الانطباق بلحاظ المعلوم بالإجمال، من المحتمل أن ینطبق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، ویحتمل أن ینطبق علی ذاک الطرف، الاحتمالات موجودة، وعلمٌ بالجامع موجود واقف علی الجامع بحدّه الجامعی، لم یسرِ إلی الفرد؛ لأننا لا نعلم سریانه، ولیس هناک دلیل علی سریان هذا العلم من الجامع إلی الفرد بعد أن أُخذت فیه خصوصیة زائدة لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل. إذن: لا نعلم بسریان العلم من الجامع إلی الفرد، ولا نعلم بالانطباق، وهذا علم إجمالی لا نعلم بسریانه إلی الفرد، یکون علماً بالجامع وواقفاً علی الجامع، وکما قلنا أنّه یستلزم شکوکاً بعدد الأطراف بما فیها الطرف المعلوم بالتفصیل، ولا منافاة بین أن تعلم بالفرد تفصیلاً، وبین أن تحتمل انطباق المعلوم بالإجمال بالخصوصیة علی کلٍ من الطرفین، أنا أعلم بنجاسة أحد الإناءین، ولنفترض انّ الخصوصیة هی کون هذه النجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فیه، وأعلم بنجاسة هذا الإناء الأیمن لم تؤخذ فیه الخصوصیة، ولا مشکلة، فالعلم الإجمالی بسقوط قطرة دم باقٍ علی حاله، بالوجدان باقٍ علی حاله، أنا أعلم بسقوط قطرة دم فی أحد الإناءین، هذا کما یُحتمل انطباقه علی ذاک الطرف، یُحتمل انطباقه علی الطرف المعلوم نجاسته بالتفصیل، یُحتمل أنّه هو الذی سقطت فیه قطرة دم، فالعلم الإجمالی بسقوط قطرة دم باقٍ علی حاله ولا ینحل، والشکوک بعدد الأطراف أیضاً باقیة بلحاظ المعلوم بالإجمال یحتمل فی هذا الطرف، ویُحتمل فی ذاک الطرف_ احتمال الانطباق فی هذا الطرف موجود، واحتمال الانطباق فی ذاک الطرف أیضاً موجود، فأرکان العلم الإجمالی متوفّرة وباقیة موجودة ولا موجب للانحلال؛ أذنّ، الدلیل یتمّ فی غیر هذه الحالة، فی غیر ما إذا فرضنا أخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال غیر مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل، فی هذه الحالة هذا الدلیل لا یکون تامّاً.

ص: 56

وبعبارةٍ أخری:أنّ احتمالات الانطباق فی الأطراف التی هی مقوّمة للعلم الإجمالی ولازمة له، العلم الإجمالی إذا لم یسرِ إلی الفرد ووقف علی الجامع، بلا إشکال لازم هذا العلم الإجمالی احتمالات انطباق بعدد الأطراف، دائماً العلم بالجامع إذا وقف علی الجامع بحدّه الجامعی یستلزم حالات انطباق بعدد الأطراف، فالعلم الإجمالی فی کلامنا إذا لم یسرِ إلی الفرد ووقف علی الجامع، لازمه القهری حالات انطباق بعدد الأطراف، حتّی لو علمت ببعض الأطراف المعیّنة تفصیلاً؛ لأنّ کل فردٍ حتّی المعلوم بالتفصیل یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیه؛ لأنّه فرد للجامع، أیّ فرقٍ بینه وبین الطرف الآخر فی کونه فرداً للجامع یُحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیه؟ عدم السریان، وعدم الانطباق الذی یستلزم بقاء العلم الإجمالی علی حاله وبقاء الانطباق فی کلّ الأفراد علی حالها یتحقق فی حالة ما إذا أُخذت خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل، فی هذه الحالة لیس هناک سریان، العلم الإجمالی لا یسری من الجامع إلی الفرد؛ لأنّه لیس هناک مبررّ لهذا السریان حتّی مع فرض العلم التفصیلی بالفرد، ما دام هناک احتمال عدم انطباق المعلوم بالإجمال علی ذاک الفرد؛ حینئذٍ لا مبررّ ولا موجب لسریان العلم من الجامع إلی الفرد.

وبعبارةٍ أکثر وضوحاً: لا فرق بین حالة ما قبل العلم التفصیلی، وبین حالة ما بعد العلم التفصیلی فی هذه الحالة، فی ما إذا أُخذت خصوصیة فی المعلوم بالإجمال فی أنّه فی کلتا الصورتین لا زال لا یُعلَم انطباق المعلوم بالإجمال علی أحد الطرفین بعینه، کما أنّه قبل العلم التفصیلی لیس لدینا علم بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، وإنّما لدینا احتمال، کذلک بالنسبة إلی الطرف الآخر، أیضاً نفس هذا الکلام نقوله بعد فرض العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء، أیضاً نقول: لا علم بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، وإنّما هناک احتمال الانطباق، وهکذا فی الطرف الآخر، وهذا معناه بقاء العلم الإجمالی علی حاله بکلا رکنیه، علم بالجامع، وشکوک بعدد الأطراف.

ص: 57

نعم، إذا لم تؤخذ الخصوصیة فی المعلوم بالإجمال، أو ألحقنا بها الحالة الثانیة، إذا أُخذت خصوصیة واحدة فی کلٍ منهما، فی هذه الحالة السریان إلی الفرد یکون قهریاً؛ لأنّ الجامع یکون متّحداً مع الفرد، باعتبار أنّ الجامع عارٍ عن الخصوصیة التی یُحتمَل معها عدم الانطباق، فیکون السریان والانطباق قهریاً، فإذا صار سریان صار انطباق، کلام الوجه السابق یکون تامّاً؛ لأنّه حینئذٍ ینحل العلم الإجمالی ولا تبقی شکوک بعدد الأطراف بعد سریان العلم من الجامع بحدّه الجامعی إلی حدٍّ أخصّ منه وهو الفرد؛ حینئذٍ لیس هناک علم بالجامع؛ لأنّه سری إلی الفرد، ولیس هناک شکوک بعدد الأطراف؛ لأنّه حصل علم بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف؛ وحینئذٍ لیس هناک احتمال انطباق فی هذا واحتمال انطباق فی هذا، وإنّما هذا قطعاً انطبق علیه المعلوم بالإجمال، والآخر مشکوک، فالنکتة هی سریان العلم من الجامع، وعدم سریانه، وهی ترتبط بما تقدّم سابقاً من أخذ الخصوصیة، وعدم أخذ الخصوصیة، وهذا المطلب سیأتی مزید توضیحٍ له فی الوجوه، ومناقشة الوجوه الآتیة لإثبات الانحلال.

إذن: هذا الوجه الثالث وجه تام، لکن بشرط أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال.

الوجه الرابع: ما ورد فی تقریرات المحقق العراقی(قدّس سرّه) من دعوی لزوم المحال من عدم انحلال العلم الإجمالی فی محل الکلام، أنّه إذا لم نقل بانحلال العلم الإجمالی فی محل الکلام بالعلم التفصیلی یلزم المحال، والمحال هو اجتماع المثلین، توارد علمین علی شیءٍ واحد وهو اجتماع المثلین وهو محال. (1)

توضیح ذلک: یقول أننا إذا علمنا بنجاسة أحد إناءین، وعلمنا أیضاً بنجاسة أحدهما المعیّن، یلزمه انطباق المعلوم بالإجمال بما هو معلوم علی الإناء المعلوم حرمته تفصیلاً، ومع انطباقه علیه واتّحاده معه خارجاً یستحیل بقاء العلم الإجمالی علی حاله؛ لاستحالة توارد العلمین علی شیءٍ واحد، فلا محیص حینئذٍ من ارتفاع العلم الإجمالی وتبدّله بالعلم التفصیلی بحرمة أحدهما المعیّن، والشکّ البدوی فی الآخر، هذا تقریباً نص کلامه.

ص: 58


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص250.

لکنّه افترض الانطباق وسریان العلم من الجامع إلی الفرد، وانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل فی هذا الوجه، بعد أن فرض السریان والانطباق؛ حینئذٍ ذکر شبهة مسألة اجتماع المثلین؛ لأنّه إذا بقی العلم الإجمالی ولم ینحل سوف یتعلّق بالفرد بحدّه علمان، علم إجمالی وعلم تفصیلی، إذا قلنا بانحلال العلم الإجمالی لم یجتمع علمان فی موردٍ واحد، لکن إذا قلنا ببقاء العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی، والعلم الإجمالی یسری من الجامع إلی الفرد، إذن، هذا الفرد بحدّه تعلّق به علمان، ویستحیل توارد علمین علی شیءٍ واحد للزوم اجتماع المثلین.

إذن: لابدّ من الالتزام بانحلال العلم الإجمالی، وإلاّ یلزم هذا المحذور.

هذا الوجه الرابع ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) وأجاب عنه، وحاصل جوابه هو: أنّ هذا الوجه إنّما یتمّ فی صورة العلم بانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وأمّا إذا لم نفترض الانطباق، ولم نفترض سریان العلم من الجامع إلی الفرد؛ حینئذٍ هذا الوجه لا یکون تامّاً؛ لأنّ مجرّد تعلّق العلم الإجمالی بالجامع لا یقتضی انحلال العلم الإجمالی بقیام العلم التفصیلی، مجرّد افتراض تعلّق العلم الإجمالی بالجامع من دون فرض الانطباق والسریان؛ لأنّه قال فی صورة الانطباق والسریان یکون هذا الکلام تامّاً، لکن إذا لم نفترض الانطباق ولم نفترض السریان لا موجب للانحلال؛ لأننا کما نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، أیضاً نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، فانّه کما یُحتمل انطباقه علی الفرد المعلوم حرمته تفصیلاً، کذلک یُحتمل بالوجدان انطباقه علی الطرف الآخر، لیس لدینا علم بانطباقه علی هذا الفرد المعلوم حرمته تفصیلاً بعد أن فرضنا عدم الانطباق، ومع فرض عدم الانطباق لا یقین بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا المعلوم بالتفصیل.

ص: 59

ویقول بعبارةٍ أخری: أنّ احتمال الانطباق فی الطرف الآخر لیس احتمالاً بدویاً کسائر الشبهات البدویة، وإنّما احتمال الانطباق فیه احتمال مقرون بالعلم الإجمالی، وهذا معناه أنّه کما یُحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا المعلوم بالتفصیل، احتمال انطباقه علی الفرد الآخر؛ بل وجود هذا الاحتمال ___________ یعنی احتمال الانطباق فی الطرف الآخر غیر المعلوم بالتفصیل __________ هو خیر دلیل علی بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله، وإلاّ لو کان العلم الإجمالی منحل لیس هناک مجال لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی الطرف الآخر، العلم الإجمالی انحل بالعلم التفصیلی فی هذا الطرف والشکّ البدوی؛ حینئذٍ ما هو الداعی لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف؛ بل لا احتمال للانطباق علی ذاک الطرف عندما نفترض السریان والانطباق.

هذا الجواب الذی ذکره عن الوجه الرابع هو جواب تامّ ویمکن توضیحه ببیان آخر فی مقام مناقشة أصل الوجه، وحاصل المناقشة: نحن إمّا أن نفترض الانطباق والسریان، وإمّا أن لا نفترض السریان والانطباق، إذا افترضنا السریان والانطباق، هذا هو فی حدّ نفسه یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم حینئذٍ لا یقف علی الجامع، وإنّما سری إلی الفرد، فلا یوجد علم بالجامع، ولا توجد شکوک بعدد الأطراف، فینحل العلم الإجمالی بلا حاجة إلی مسألة اجتماع المثلین، لو قلنا أنّ اجتماع المثلین لیس محالاً، هو افتراض السریان والانطباق یوجب انحلال العلم الإجمالی، وبذلک نصل إلی مقصودنا، وهو إثبات الانحلال بلا أن یتوقّف ذلک علی فرض مسألة اجتماع المثلین. وإن لم یکن الانطباق والسریان ثابتاً؛ فحینئذٍ نقول لا یلزم اجتماع المثلین، یعنی لا یجتمعان علی موردٍ واحد؛ لأنّ العلم وقف علی الجامع بحدّه الجامعی، بینما العلم التفصیلی متعلّق بالفرد، فکیف یجتمع علمان علی موردٍ واحد حتّی یلزم اجتماع المثلین.

ص: 60

انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: انحلال العلم الإجمالی/تنبیهات العلم الإجمالی /الأصول العملیّة

الوجه الخامس والأخیر: الذی یستفاد من کلماتهم لإثبات الانحلال هو ما تقدّمت الإشارة إلیه فی مناقشة الوجه الأوّل، هناک ذکرنا أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) ناقش فی الوجه الأوّل، یستفاد من هذه المناقشة هذا الوجه الخامس، وحاصله ومختصره: هو دعوی أنّ العلم الإجمالی له لازم لا ینفک عنه فی جمیع موارد العلم الإجمالی، وهذا اللّازم لیس موجوداً فی محل الکلام؛ حینئذٍ یُستکشف من عدم وجود اللازم عدم وجود الملزوم الذی هو عبارة عن العلم الإجمالی، وبالتالی فی محل الکلام لا یوجد علم إجمالی؛ لأنّه ینحلّ ولا یبقی، وهذا هو المطلوب، لکنّ عدم العلم الإجمالی فی محل الکلام یُستکشف باعتبار عدم وجود لازمه، وإلاّ لو کان موجوداً لکان لازمه موجوداً، بمقتضی الملازمة. الّلازم الذی یُشیر إلیه هو ما تقدّم من القضیة التی اسماها القضیة التعلیقیة، یقول: أنّ العلم الإجمالی دائماً لابدّ أن تصدق معه قضیة تعلیقیة شرطیة مفادها هو: أنّ المعلوم بالإجمال إن کان فی هذا الطرف، فهو لیس موجوداً فی الطرف الآخر، وهکذا العکس، بلحاظ کلا الطرفین تصدق هذه القضیة التعلیقیة. یقول المستدل: صدق هذه القضیة التعلیقیة من لوازم العلم الإجمالی، وفی محل الکلام هذه القضیة التعلیقیة لا تصدق، فإذا کانت هذه القضیة التعلیقیة لا تصدق فی محل الکلام، فهذا معناه انحلال العلم الإجمالی، وعدم تحقق الّلازم، وعدم صدق القضیة التعلیقیة فی محل الکلام، باعتبار أنّه بعد فرض العلم التفصیلی بنجاسة أحد الإناءین فی المثال السابق کما هو المفروض؛ حینئذٍ لا تصدق القضیة التعلیقیة، ولا یصح أن نقول بأنّ النجاسة إن کانت فی الطرف الآخر، فهی لیست موجودة فی هذا الطرف الذی علمنا تفصیلاً ____________ بحسب الفرض _____________ بنجاسته؛ لأنّ هذا الطرف معلوم النجاسة علی کل تقدیر، سواء کان الآخر نجساً، أو لم یکن نجساً؛ لأننا علمنا بنجاسته تفصیلاً _____________ بحسب الفرض _____________ فأذن: لا یصح لنا أن نقول أنّ النجاسة إن کانت موجودة فی الطرف الآخر، فهی لیست موجودة فی هذا الطرف المعلوم تفصیلاً؛ لأنّ هذا الفرد یُعلم بنجاسته علی کل تقدیر، یعنی سواء کان الآخر نجساً، أو لم یکن نجساً.

ص: 61

إذن: لا تصح هذه القضیة التعلیقیة، وهذا معناه انحلال العلم الإجمالی.

لوحظ علی هذا الوجه: بأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) عندما ذکر هذا الوجه لا یقصد به کما هو واضح أنّ الکلّی الطبیعی لو وجد فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی ذاک الطرف، وهکذا العکس، یعنی أنّ النجاسة التی هی الکلّی الطبیعی، لو کانت موجودة فی هذا الطرف، فهی غیر موجودة فی الطرف الآخر، ولو کانت فی هذا الطرف، فهی غیر موجودة فی ذاک الطرف؛ لأنّ هذا واضح بطلانه، لا نستطیع أن نقول أنّ الکلّی الطبیعی لو کان موجوداً فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی الطرف الآخر، هذا لا یتحقق فی جملة من موارد العلم الإجمالی. (مثلاً): لو احتملنا النجاسة فی الطرف الآخر، أعلم أنّ أحد الإناءین نجس قطعاً، واحتمل نجاسة الآخر، ولا ضیر فی هذا، هنا لا استطیع أن أقول أنّ النجاسة إن کانت موجودة فی هذا الطرف، فهی غیر موجودة فی الطرف الآخر، کلا؛ بل لعلّها موجودة فی هذا الطرف، وموجودة أیضاً فی الطرف الآخر، ولعلّها موجودة فی الطرفین، فی حالات احتمال نجاسة کلا الطرفین، فی هذه الحالة لا یصح أن نقول بأنّ الطبیعی إن کان موجوداً فی أحدهما، فهو لیس موجوداً فی الآخر؛ بل الطبیعی حتّی علی تقدیر وجوده فی هذا الطرف، فلعلّه موجود فی الطرف الآخر، فمن الواضح أنّ هذه القضیة لا تصدق فی جمیع موارد العلم الإجمالی. نعم إذا قطعنا بأنّ الطرف الآخر الذی لم تثبت فیه النجاسة طاهر قطعاً، ولا یُحتمل نجاسته، ولا نعلم هل هو هذا الطرف، أو ذاک؛ حینئذٍ یصح أن یقال بأنّ النجاسة وإن کانت فی هذا الطرف، فهی لیست موجودة فی الطرف الآخر، لکن لیس کل علم إجمالی من هذا القبیل، هذا یُدّعی أنّه من لوازم العلم الإجمالی مطلقاً، وفی جمیع موارد تحققه، بینما هو فی کثیر من موارد تحققه، هذه القضیة التعلیقیة بلحاظ الطبیعی لا تصح ولا تصدق. إذن: لیس هذا هو مراده، وإنّما ما یُراد بهذا الوجه هو أنّ المعلوم بالإجمال المنکشف بالعلم الإجمالی بما هو معلوم ترد فیه هذه القضیة الشرطیة التعلیقیة، المعلوم بالإجمال بما هو معلوم إذا کان موجوداً فی هذا الطرف، فهو لیس موجوداً فی الطرف الآخر، وهکذا العکس، هذا هو المقصود لا أنّ الکلّی الطبیعی(النجاسة) إن کانت فی هذا الإناء، فهی لیست موجودة فی الإناء الآخر، کلا لعلّها موجودة فی الإناء الآخر، وإنّما المقصود هو أنّ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال لو کان موجوداً فی أحد الطرفین، فهو لیس موجوداً فی الطرف الآخر، وسرّه هو أنّ المعلوم بالإجمال واحد ولیس أکثر من واحد، ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة واحدة متحققة فی أحد الإناءین، وأنّ أحد الکتابین مغصوب، فإذن: المعلوم بالإجمال واحد لا أکثر، ولازم ذلک صحّة القضیة التعلیقیة، أنّ هذه النجاسة المعلومة بالإجمال بما هی معلومة بالإجمال إذا کانت موجودة فی هذا الطرف، فهی لیست موجودة فی الطرف الآخر، وإذا کانت موجودة فی الطرف الآخر، فهی لیست موجودة فی هذا الطرف، هذه القضیة التعلیقیة تکون صحیحة وثابتة عندما نلاحظ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال.

ص: 62

بعد أنّ اتضح ما هو المقصود بالقضیة التعلیقیة التی تُدّعی فی محل الکلام، والتی تکون لازمة لکل علمٍ إجمالی حتّی مع احتمال تحقق النجاسة فی الطرف الآخر، لکن القضیة التعلیقیة بلحاظ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال صادقة؛ لأنّ المعلوم بالإجمال واحد، ومن الواضح أنّه علی تقدیر تحققه فی أحد الطرفین لا یکون متحققاً فی الطرف الآخر، وهذه قضیة بدیهیة.

هذا أمر صحیح، والقضیة التعلیقیة کما قلنا صحیحة، لکن یبقی أنّ هذا هل هو منطبق فی محل الکلام ؟ هل یمکن فی محل الکلام أن نقول بأنّ القضیة التعلیقیة غیر موجودة فی محل الکلام ؟ لازم العلم الإجمالی غیر موجود فی محل الکلام ونرید أن نستکشف من عدم وجود الّلازم عدم وجود الملزوم، یعنی عدم وجود العلم الإجمالی، وبالتالی انحلاله، هل هذا یصدق فی محل الکلام ؟ هل بإمکاننا فی محل الکلام _____________ الذی هو علم إجمالی وعلم تفصیلی، وافترضنا أنّ العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال _____________ أن نقول أنّ القضیة التعلیقیة لا تصدق، حتّی نقول علی ضوء عدم صدقها ینتفی الملزوم، وینحل العلم الإجمالی، فیکون هذا دلیل علی انحلال العلم الإجمالی ؟ هو ذکر هذا البرهان علی عدم صدق القضیة التعلیقیة: أنّ القضیة التعلیقیة لا تصدق؛ لأنّه لا یصح أن أقول: لو کانت النجاسة موجودة فی هذا الطرف الآخر، فهی غیر موجودة فی هذا الطرف المعلوم نجاسته بالتفصیل؛ لأنّ هذا الفرد المعلوم نجاسته تفصیلاً معلوم النجاسة علی کل تقدیر، سواء کان الآخر نجساً، أو لم یکن نجساً.

إذن: لا یصح أن أقول لو کان الطرف الآخر نجساً، فهذا _____________ الفرد المتعلّق بالعلم التفصیلی _______________ لیس نجساً؛ لأنّ هذا نجس علی کل تقدیر، فلا تصح القضیة التعلیقیة. هذا ما ذکره. وهذا کأنّه ناظر إلی المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّه یرید أن یطبّقها فی محل الکلام علی ذلک، أنّ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال حیث أنّه واحد غیر متعدد علی تقدیر تحققه فی الطرف الآخر، فلا یکون متحققاً فی هذا الطرف. هذه هی الدعوی، هل هذه الدعوی صحیحة ؟ أنّ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال، هل هو محتمل الانطباق علی هذا الطرف ؟ الصحیح هو أنّه محتمل الانطباق علی هذا الطرف، هذا إنّما یکون غیر محتمل الانطباق علی الطرف الآخر عندما نلحظ المعلوم بالإجمال لوحده من دون أن نفترض أنّه معلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال؛ حینئذٍ یصح أن یقال هذا الکلام، أمّا عندما نفترض أنّ المعلوم بالإجمال انطبق علی الفرد، أو بعبارةٍ أکثر وضوحاً علی ضوء ما تقدّم أنّ العلم الإجمالی سری من الجامع إلی الفرد، فی هذه الحالة لا تصدق القضیة التعلیقیة، ولا یصح أن نقول أنّ المعلوم بالإجمال لو کان فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الفرد الذی علمنا به تفصیلاً؛ لأننّا نعلم _____________ بحسب الفرض ____________ بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الفرد، فلا یصح لنا أن نقول لو کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف، لا تصح هذه القضیة التعلیقیة، ومن عدم صحّة القضیة التعلیقیة یمکن أن نلتزم بالانحلال، ونستکشف عدم وجود العلم الإجمالی من عدم وجود وتحقق لازمه، لکن هذا عندما نفترض سریان العلم من الجامع إلی الفرد، انطباق المعلوم بالإجمال، علی المعلوم بالتفصیل، عندما نفترض ذلک یصحّ کلامه وهو أنّ القضیة التعلیقیة غیر متحققة فی محل الکلام، لا یصحّ لنا أن نقول لو کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف، کلا، هو قطعاً موجود فی هذا الطرف؛ لأنّ المفروض أننا نعلم بالانطباق، ونعلم بأنّ العلم الإجمالی سری من الجامع إلی الفرد، فلا تصح القضیة التعلیقیة، وبالتالی یُستکشف من عدم صدق القضیة التعلیقیة عدم تحقق العلم الإجمالی، والانحلال.

ص: 63

وأمّا إذا فرضنا عدم سریان العلم من الجامع إلی الفرد، بالرغم من العلم التفصیلی بالفرد، فی هذه الحالة حینئذٍ تصدق القضیة التعلیقیة، یصح لنا أن نقول أنّ المعلوم بالإجمال لو کان فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف؛ لأننا لا نعلم بانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، نحتمل أنّ المعلوم بالإجمال ینطبق علی ذاک الطرف، لیس لدینا علم ووضوح فی أنّه ینطبق علی هذا فقط، وإنّما کما نحتمل انطباقه علی هذا نحتمل انطباقه علی الطرف الآخر، وفی هذه الحالة؛ حینئذٍ تکون القضیة التعلیقیة صادقة، لو کان المعلوم بالإجمال موجوداً فی ذاک الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف، ولو کان موجوداً فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی ذاک الطرف، فتکون القضیة التعلیقیة صادقة، وإذا کانت القضیة التعلیقیة صادقة، فالعلم الإجمالی موجود لم ینحل، لا نستطیع أن نقول بشکلٍ عام ومن دون تفصیل أنّه فی کلّ موارد العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی الذی هو محل الکلام، دائماً القضیة التعلیقیة تکون غیر متحققة، وعند انتفاء الّلازم نستکشف انتفاء الملزوم، هذا یصح عندما نحرز انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، عند إحراز الانطباق لا تصدق القضیة التعلیقیة، لا یمکن أن نقول لو کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، لما کان موجوداً فی هذا الفرد الذی نعلم به تفصیلاً؛ لأننا فرضنا الانطباق والسریان، فیصحّ کلامه من أنّه علی کلّ تقدیر، هذا معلوم انطباق المعلوم بالإجمال علیه، فلیس هناک قضیة تعلیقیة، فیُستکشف منها انحلال العلم الإجمالی وعدم بقائه. أمّا إذا فرضنا عدم السریان وعدم العلم بالانطباق، وإنّما کان المعلوم بالإجمال هو الجامع الذی یُحتمل انطباقه علی هذا الطرف ویحتمل انطباقه علی ذاک الطرف، لیس هناک سریان للعلم من الجامع إلی هذا الفرد حتّی نقول لا یُحتمل انطباقه علی ذاک الطرف، لیس هناک علم بالسریان، ولا علم بالانطباق، فی هذه الحالة تکون القضیة التعلیقیة صادقة بلحاظ کلا الطرفین، ولا یمکن حینئذٍ إثبات الانحلال اعتماداً علی الوجه الخامس.

ص: 64

إذن: نکتة الموقف ترتبط بأنّه فی حالة من هذا القبیل التی نتکلّم عنها علم إجمالی وعلم تفصیلی بالفرد مع افتراض أنّ العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، فی هذه الحالة، هل ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أو لا ؟ هل یسری العلم من الجامع إلی الفرد، أو لا ؟ هذا لابدّ من تنقیحه، وتنقیحه یرتبط بالأمر الثانی الذی ذُکر سابقاً وکررّناه مراراً، وسیأتی التعرّض له، وهو الشرط الثانی لدخول المقام فی محل النزاع، وهو مسألة أنّ المعلوم بالإجمال الجامع الذی تعلّق به العلم، هل أُخذت فیه خصوصیة زائدة یُحتمل علی ضوئها أن لا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، ولازمه احتمال أن ینطبق المعلوم بالإجمال علی الطرف الآخر الغیر معلوم بالتفصیل، هل أُخذت خصوصیة، أو لم تؤخذ خصوصیة ؟ إذا أُخذت خصوصیة، فهذا الکلام لیس صحیحاً، القضیة التعلیقیة صادقة لأننا لا نعلم بانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّه أُخذت فی المعلوم بالإجمال خصوصیة یُحتمل علی ضوئها أن لا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، فلا علم لنا بالانطباق، لا علم لنا بسریان العلم من الجامع إلی الفرد.

فإذن: لدینا علمان، علم إجمالی واقف علی الجامع بحدّه الجامعی لم یسرِ إلی الفرد، ولدینا علم تفصیلی بالفرد بحدّه الشخصی، فی مثل هذه الحالة الوجه الخامس لا یکون صحیحاً، بمعنی أنّ القضیة التعلیقیة تصدق، ولیس کما قال من أنّها لا تصدق فی جمیع موارد العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی؛ بل أنّ القضیة التعلیقیة تصدق؛ لأننا قلنا أنّ المراد بالقضیة التعلیقیة هو أنّ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال لو کان فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی ذاک الطرف، وهکذا بالعکس؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعی، وهو کما یُحتمل انطباقه علی هذا الطرف یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر، وهو شیء واحد، فلو کان موجوداً فی هذا الطرف فهو غیر موجود فی ذاک الطرف، ولو کان موجوداً فی ذاک الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف.

ص: 65

نعم، إذا فرضنا السریان، والانطباق، ویتحقق الانطباق إذا لم تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال؛ ولذا نکتة القضیة هی أنّه هل أُخذت خصوصیة فی المعلوم بالإجمال _____________ الجامع ____________ یُحتمل علی ضوئها إباء المعلوم بالإجمال عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، أو لم تؤخذ خصوصیة ؟ إذا أخذت خصوصیة فالکلام لیس تامّاً، والقضیة التعلیقیة صادقة، والعلم الإجمالی موجود. نعم، إذا لم تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال، ولازم ذلک سریان العلم من الجامع إلی الفرد، انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل فی هذه الحالة یتمّ هذا الوجه؛ لأنّه لا نستطیع أن نقول لو کان المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال بعد فرض سریانه إلی الفرد.... لو کان موجوداً فی هذا الطرف، فهو موجود فی هذا الطرف؛ لأنّ المفروض انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، ومع العلم بالانطباق، ومع العلم بسریان العلم من الجامع إلی الفرد؛ حینئذٍ لا یصح لنا أن نقول: فلیس المعلوم بالإجمال موجوداً فی هذا الطرف علی تقدیر وجوده فی الطرف الآخر؛ لأنّه موجود علی کل تقدیر ____________ بحسب الفرض _____________ ، فالعمدة هو تحقیق حال هذه القضیة، وهی أنّ العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی فی محل الکلام هل أُخذ فی معلومه خصوصیة، أو لم تؤخذ خصوصیة ؟ لیس المقصود بالخصوصیة هی الخصوصیة المصرّح بها فی مثالٍ ____________ مثلاً __________، کلا ، نفس افتراض علم إجمالی وافتراض علم تفصیلی، هذا وحده، لا أننا نفترض خصوصیة فی المعلوم بالإجمال، هذا من باب التوضیح، أنّ النجاسة التی نعلم بها إجمالاً کانت نجاسة ناشئة من قطرة بولٍ، أو دم ____________ مثلاً __________ ویُحتمل علی ضوء ذلک أن لا یکون الجامع والمعلوم بالإجمال منطبقاً علی المعلوم نجاسته بالتفصیل، لا نفترضه نحن، وإنّما هی طبیعة افتراض علم إجمالی مع علم تفصیلی، هذا یقتضی أن یکون المعلوم بالإجمال له خصوصیة بهذه المثابة التی قلناها، أو لیس له ذلک ؟ إذا قلنا بأنّ فیه خصوصیة؛ حینئذٍ لا یکون هذا الوجه تامّاً؛ بل الوجوه الأخری أیضاً لا تکون تامّة لإثبات الانحلال، لا انحلال للعلم الإجمالی، وإنّما هو باقٍ وموجود بالرغم من العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء.

ص: 66

هذا الوجه الخامس، وهو آخر الوجوه التی نذکرها فی هذا المقام، وتبیّن أن الانحلال وعدمه یرتبط بتحقیق هذه القضیة المتقدّمة والمشار إلیها مراراً. بعد ذلک نذکر بعض الوجوه التی لعلّها اتضحت من ذکر الوجوه السابقة. بعض الوجوه التی ذکرت لإثبات عدم الانحلال، الوجوه السابقة ذُکرت لإثبات الانحلال، أمّا هذه الوجوه فهی لإثبات عدم الانحلال، وعمدة هذه الوجوه مستفادة من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وتُستفاد هذه الوجوه من مناقشاته للوجوه المتقدّمة التی ذکرت للاستدلال بها علی الانحلال.

الأصول العملیّة بحث الأصول

الموضوع: انحلال العلم الإجمالی/تنبیهات العلم الإجمالی /الأصول العملیّة

قلنا فی الدرس السابق أنّ هناک بعض الوجوه التی تستفاد من خلال المناقشات المتقدّمة للوجوه المستدل بها علی الانحلال، هذه الوجوه قد یستدل بها علی عدم الانحلال؛ بل استُدل بها، أو ببعضها علی عدم الانحلال:

الوجه الأوّل: الاستدلال علی عدم الانحلال وبقاء العلم الإجمالی فی محل الکلام ببقاء لازمه، فإذا کان لازم العلم الإجمالی باقیاً فی محل الکلام، فیُستکشف منه بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله بالرغم من افتراض العلم التفصیلی، والمقصود بالّلازم هو احتمال انطباق الجامع المعلوم بالإجمال علی الطرف الآخر غیر المعلوم تفصیلاً، وهذا الاحتمال لا یمکن إنکاره؛ لأنّه موجود بالوجدان، فیُستکشف عدم الانحلال، وإلاّ لو کان العلم الإجمالی منحلاً لما امکن افتراض احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر، حیث أنّ احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر من لوازم العلم الإجمالی، وحیث أنّ هذا الاحتمال موجود بالوجدان ولا یمکن إنکاره، فیستکشف منه بقاء العلم الإجمالی بالرغم من العلم التفصیلی المفترض فی محل الکلام.

وجواب هذا الوجه هو: أنّه لا ینبغی الشکّ فی أنّ مجرّد احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر، لا ینبغی جعله دلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی، و عدم انحلاله؛ لأنّه لا یکشف عن وجود العلم الإجمالی، مجرّد احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر لا یکشف عن وجود علمٍ إجمالی، فلا یصح لنا أن نستدل علی وجود العلم الإجمالی و عدم الانحلال بمجرّد احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر، والدلیل علی ذلک أنّه فی بعض الأحیان إذا علمنا بوجود(زیدٍ) فی هذا المکان تفصیلاً، معنی ذلک أننا علمنا بوجود الجامع فی ضمنه، فإذا احتملنا فی نفس الوقت وجود (عمرو) فی هذا المکان. أی، بعبارةٍ أخری: علمنا بوجود الجامع فی ضمن(زید)، واحتملنا وجود الجامع فی ضمن(عمرو)؛ حینئذٍ الجامع بلا إشکال یکون محتمل الانطباق علی(عمرو)، لکن بالرغم من هذا لیس لدینا علم إجمالی، احتمال انطباق الطرف الآخر لیس دلیلاً علی وجود علمٍ إجمالی؛ لأنّه فی حالةٍ من هذا القبیل احتمال انطباق الطرف الآخر موجود، لکن لا یوجد علم إجمالی فی هذا المثال، لا یوجد عندنا علم بالجامع واحتمالات بعدد الأطراف حتّی یتشکل لدینا علم إجمالی، وإنّما لدینا علم تفصیلی بوجود(زید) فی المکان وشکّ فی وجود(عمرو) فی هذا المکان، لا یوجد علم إجمالی، لکن بالرغم من هذا احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر موجود .

ص: 67

النتیجة التی نصل إلیها هی: أنّ مجرّد انطباق الجامع علی الطرف الآخر وحدّه لا یُشکّل دلیلاً، ولا یکون کاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی وعدم الانحلال بدلیل أنّه فی هذا المورد احتمال انطباق الجامع علی الطرف الاخر موجود مع أنّه لا یوجد علم إجمالی، السرّ فی هذا هو أنّ ما یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر فی المثال الذی ذکرناه، ما یُحتمل انطباقه علی(عمرو) هو الجامع، لکن بحدّه الجامعی، هذا الذی نحتمل انطباقه علی(عمرو)، حتّی فی هذا المثال نحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعی علی(عمرو)، وهذا الجامع بحدّه الجامعی الذی یُحتمل انطباقه علی (عمرو)، لیس معروضاً للعلم التفصیلی فی المثال المذکور؛ لأنّ ما هو معروض العلم التفصیلی هو الجامع فی ضمن الخصوصیة، هو الجامع لیس بحدّه الجامعی، وإنّما بحدّه الشخصی فی ضمن الخصوصیة التی هی(زی__د)، هذا هو معروض العلم، وهذا الجامع فی ضمن الخصوصیة لا یُحتمل انطباقه علی(عمرو)، لا نحتمل انطباق الجامع المتشخّص فی ضمن(زی__د) علی(عمرو)، الذی احتمل انطباقه علی(عمرو) هو الجامع بحدّه الجامعی لا الجامع بما هو معروض للعلم التفصیلی فی هذا المثال؛ لأنّ الجامع بما هو معروض للعلم التفصیلی هو الجامع المتشخّص فی ضمن الخصوصیة، وهذا ممّا لا یُحتمل انطباقه علی(عمرو).

إذن: ما احتمل انطباقه علی(عمرو)، لیس معروضاً للعلم، وما هو معروض للعلم لا یُحتمل انطباقه علی(عمرو)، ومعنی هذا الکلام أنّ مجرّد انطباق الجامع علی الطرف الآخر لیس دلیلاً علی وجود العلم الإجمالی؛ ولذا فی هذا المثال قطعاً لا یوجد علم إجمالی، بالرغم من هذا هناک احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر. إذن، لکی یکون احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر کاشفاً عن العلم الإجمالی وبقائه وعدم الانحلال لابدّ أن نفترض أن یکون الجامع الذی یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر محدوداً بنفس الحدّ الذی یکون معروضاً للعلم؛ حینئذٍ یکون احتمال الانطباق دلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی وعدم الانحلال، عندما احتمل انطباق المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال علی الطرف الآخر، إذا احتملنا انطباق الجامع بما هو معلوم بالإجمال علی الطرف الآخر، فهذا معناه وجود علمٍ إجمالی، لا أننا نحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعی فقط، کلا، وإنما الجامع بما هو معلوم، وبما هو معروض للعلم، هذا الجامع بما هو معروض للعلم إذا احتُمل انطباقه علی الطرف الآخر، فأنّه بلا إشکال یکون کاشفاً ودلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی، وهذا إنّما یتحقق ویکون احتمال الانطباق کاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی، وعدم الانحلال، إنّما یتحقق فی تلک الحالة التی اشیر إلیها مراراً وهی ما إذا کان للمعلوم بالإجمال حدّ وخصوصیة محتملة الانطباق علی الطرف الآخر، التی هی عبارة أخری عن ما کان یُکررّ سابقاً محتملة الإباء عن الانطباق علی الطرف المعلوم تفصیلاً، أن تؤخذ فی المعلوم بالإجمال خصوصیة یُحتمل علی ضوئها أن لا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل الذی لازمه احتمال انطباقه علی الطرف الآخر، عندما تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال وهذه الخصوصیة یُحتمل أن تجعل المعلوم بالإجمال غیر منطبق علی المعلوم بالتفصیل، فی هذه الحالة حینئذٍ یتحقق هذا الشیء ویقال أنّ احتمال الانطباق علی الطرف الآخر یکشف عن وجود علمٍ إجمالی؛ لأنّه هنا لا نحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعی مع عدم افتراض کونه معروضاً للعلم، کلا هذا الجامع بما هو معروض للعلم نحتمل انطباقه علی الطرف الآخر. إذن، المعلوم بالإجمال الجامع بما هو معروض للعلم الإجمالی یُحتمل انطباقه علی هذا الطرف، ویُحتمل انطباقه علی هذا الطرف، وهذا معناه وجود علم إجمالی، علم بالجامع واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، احتمال أن ینطبق علی ذاک الطرف، واحتمال أن ینطبق علی هذا الطرف التفصیلی؛ لأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة یُحتمل أن تجعله یأبی عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، فیبقی احتمال الانطباق فی هذا الطرف، واحتمال الانطباق فی الطرف الآخر. مثل احتمال الانطباق بهذا الشکل علی الطرف الآخر یکون کاشفاً عن العلم الإجمالی وعن بقائه و عدم انحلاله.

ص: 68

وأمّا إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فیه خصوصیة تجعله محتمل الإباء عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، کما إذا علمنا بموت أحد شخصین، إمّا(زی__د)، أو(عمرو)، المعلوم بالإجمال هو موت أحدهما بلا خصوصیة، ثمّ علمنا بالتفصیل موت(زی__دٍ)، هذا لیس فیه خصوصیة، فی الأوّل افترضنا فیه خصوصیة، من قبیل المثال الذی مثّل به، کما لو علمنا بوجود نجاسة فی أحد الإناءین ناشئة من سقوط قطرة دم، ثمّ علمنا بنجاسة الأوّل، هنا یحتمل عدم انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أو بعبارةٍ أخری: یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی الطرف الآخر. الحالة الثانیة أن لا تؤخذ هذه الخصوصیة، کما لو علمت بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ علمت بنجاسة الأیمن منهما، فی هذه الحالة انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل قهری، سریان العلم من الجامع إلی الفرد قهری، ولیس هناک مجال لاحتمال عدم السریان؛ لأنّ المکلّف الذی کان عالماً بالإجمال بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ علم بالتفصیل بنجاسة الأیمن منهما، لا إشکال فی أنّ هذا ازداد علمه، کان علمه سابقاً واقفاً علی الجامع بحدّه الجامعی، والآن نزل إلی الفرد، وهذا عبارة عن السریان، کان علمه فقط بنجاسة أحد الإناءین، الآن أصبح عالماً بنجاسة هذا الإناء، علمه بنجاسة الإناء الأیمن معناه أنّ علمه لم یعد واقفاً علی الجامع بحدّه الجامعی، وإنّما نزل من الجامع إلی الفرد، وأصبح عالماً بالجامع فی ضمن الفرد؛ ولذا یکون الانطباق والسریان قهریاً، وإذا سری العلم الإجمالی من الجامع إلی الخصوصیة _____________ الفرد ___________ حینئذٍ احتمال الانطباق لا یکون دلیلاً وکاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی؛ لأنّه یرِد الکلام السابق، الذی یُحتمل انطباقه علی الفرد الآخر هو الجامع بحدّه الجامعی، لکن هذا الجامع بحدّه الجامعی لیس معروضاً للعلم التفصیلی، المعروض للعلم التفصیلی هو الجامع فی ضمن الخصوصیة. إذن، الجامع بما هو معروض للعلم لا یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر؛ لأنّ الجامع بما هو معروض للعلم هو الجامع فی ضمن الخصوصیة، ولا إشکال أنّ الجامع فی ضمن الخصوصیة لا یُحتمل انطباقه علی خصوصیة أخری وفرد آخر، ولیس هناک احتمال انطباق حتّی یُستدل به علی بقاء العلم الإجمالی، وما یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر هو الجامع بحدّه الجامعی، وهو لیس معروضاً للعلم التفصیلی؛ ولذا مثل احتمال الانطباق هذا لا یکون کاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی؛ بل یحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعی علی الطرف الآخر، لکن لا یوجد علم إجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی سری من الجامع إلی الفرد، وتحول العلم إلی علم تفصیلی بالخصوصیة وشکّ بدوی فی الطرف الاخر، ولا یوجد علم إجمالی، مع أنّه یُحتمل انطباق الجامع علی الطرف الآخر.

ص: 69

إذن: لیس کل احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر دلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله، وإنّما یکون دلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله فی ما إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال، الجامع الذی علم به إجمالاً کان مقیداً بخصوصیةٍ یُحتمل عدم انطباقه علی ضوء هذه الخصوصیة علی المعلوم بالتفصیل. هنا فی هذه الحالة نستطیع أن نقول أنّ الجامع بما هو معروض للعلم الإجمالی یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر ویکون دلیلاً وکاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله. أمّا إذا لم یکن مقیداً بهذه الخصوصیة، فلا. إذن، بالنتیجة رجعنا إلی نفس النکتة التی ذُکرت مراراً ضمن هذه البحوث، وهی مسألة أنّ المعلوم بالإجمال هل هو مقیّد بخصوصیة یحتمل أن تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أنّ الجامع بهذه الخصوصیة یأبی عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، ویُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر، مقیّد بخصوصیة، أو غیر مقیّد بخصوصیة، فإذا کان مقیّداً بخصوصیةٍ، فلیس هناک انطباق ولا سریان، وبالتالی لا یوجد سریان؛ بل یکون العلم الإجمالی باقیاً. أمّا إذا لم یکن مقیّداً بخصوصیة، فالسریان یکون قهریاً، والانطباق أیضاً یکون قهریاً، ویکون الانحلال قهریاً. هذه النکتة لابدّ من بحثها.

الوجه الثانی: قالوا أنّه لا إشکال فی الانحلال فیما لو کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، علی ما تقدّم فی بدایة هذا البحث، حیث قلنا أنّ هذا خارج عن محل النزاع، وهو ما إذا کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، هذا لا إشکال فیه فی انحلال العلم الإجمالی انحلالاً حقیقیاً، ومثاله هو ما إذا علمنا بموت(ابن زید)، وترددّ(ابن زید) بین (عمرو) وبین(خالد)، ثمّ بعد ذلک علمنا تفصیلاً ان(ابن زید) الذی علمنا إجمالاً بموته هو(عمر)، هذا العلم التفصیلی یکون ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، هنا لا إشکال فی الانحلال، وقلنا أنّ هذا خارج عن محل النزاع. الوجه الثانی یقول: لو قلنا بالانحلال فی محل الکلام الذی فُرض فیه أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، إذن، لم یبقَ فرقٌ بین الحالتین، الحالة الأولی هی ما إذا کان ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، والحالة الثانیة هی ما إذا لم یکن ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال؛ لأنّه فی کلٍ منهما نقول بالانحلال، والحال أنّه من الناحیة النفسیة، الفرق بینهما ثابت بالوجدان، ولا یمکن إنکاره، ومن ثبوت الفرق بینهما بهذا الشکل الواضح والوجدانی نستکشف عدم الانحلال فی محل الکلام، وإلاّ لکان محل الکلام مساویاً للحالة الأولی مع أنّه لیس مساویاً له قطعاً.

ص: 70

الأصول العملیّة بحث الأصول

الموضوع: انحلال العلم الإجمالی/ تنبیهات العلم الإجمالی / الأصول العملیّة

کان الکلام فی الوجه الثانی الذی استُدل به علی عدم الانحلال ، وکان حاصله أنّ الانحلال واضحٌ ومسلّمٌ ولا إشکال فیه فی صورة ما إذا کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال فی طرفٍ معیّنٍ، فلو ثبت الانحلال فی محل کلامنا الذی فُرض فیه أنّ العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، إذا فُرض الانحلال فی محل کلامنا لزم تساوی هاتین الحالتین وعدم الفرق بینهما، والحال أنّ الفرق بینهما أمر محسوس ووجدانی ولا یمکن إنکاره، فمن وضوح الفرق بینهما یُستکشف عدم الانحلال فی محل الکلام حتّی یکون فرق بین الحالتین، فی الحالة الأولی هناک انحلال مسلّم، فلابدّ أن یثبت فی محل الکلام عدم الانحلال.

الوجه الثانی بلحاظ أنّ هناک فرقاً بین الحالتین یکون مسلّماً بلا إشکال، هناک فرق محسوس وجدانی بین الحالتین، لکن هذا لیس دلیلاً علی عدم الانحلال فی محل الکلام، لیس کاشفاً عن عدم الانحلال فی محل الکلام؛ لأنّ هذا الفرق محسوس بالوجدان حتّی إذا قلنا بالانحلال فی محل الکلام، فضلاً عن الحالة الأولی، مع ذلک هناک فرق وجدانی لا یمکن إنکاره بینهما.

وبعبارةٍ أخری: أنّ وضوح الفرق ووجدان الفرق بین الحالتین یمکن أن یُفسّر علی أساس آخر غیر ما حاول المستدل إثباته، یمکن أن یُفسّر لا علی اساس تحقق الانحلال فی الحالة الأولی، وعدم تحققها فی الحالة الثانیة فی محل الکلام حتّی یُقال بثبوت عدم الانحلال فی محل الکلام، وإنّما یمکن أن یُفسّر بتفسیرٍ آخر، وحاصل هذا التفسیر هو: عندما نفترض أنّ العلم التفصیلی ناظر إلی العلم الإجمالی وفی مقام تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، عندما نفترض ذلک، هذا فی الحقیقة یستبطن افتراض أنّ المعلوم بالإجمال له تعیّن واقعی، وأنّ العلم التفصیلی یحاول تشخیص هذا الشیء الذی له تعیّن واقعی فی هذا الطرف. المعلوم بالإجمال له تعیّن واقعی، وإن کان مرددّاً ومجملاً عندنا، والعلم التفصیلی یحاول أن یُبیّن أنّ المعیّن واقعاً هو هذا، وأنّ النجس واقعاً هو هذا. ومن هنا یکون العلم التفصیلی له مدلول سلبی، مدلول إضافی غیر مسألة تعیین المعلوم بالإجمال الذی له تعیّن واقعی، تعیینه فی هذا الطرف، کلا، وإنّما له مدلول آخر وهو نفی المعلوم بالإجمال الذی له تعیّن واقعی عن الطرف الآخر، ومن هنا یکون العلم التفصیلی فی الحالة الأولی یُبدّل احتمال الانطباق فی الطرف المعلوم تفصیلاً إلی العلم بالانطباق، ویبدّل احتمال الانطباق فی الطرف الآخر إلی العلم بعدم الانطباق، فإذن، له مدلولان، هو یثبت العلم بالانطباق فی هذا الطرف، ویثبت به أیضاً العلم بعدم الانطباق فی الطرف الآخر، فی المثال المتقدّم المسألة واضحة جدّاً، عندما أعلم بموت ابن زید، وترددّ ابن زید بین خالد، وعمرو، ثمّ علمت تفصیلاً بأنّ ابن زید هو خالد، فهذا کما یثبت أنّ ابن زید هو خالد، هو ینفی کون عمرو أبناً لزید. إذن: هو علم بالانطباق فی هذا الطرف، وعلم بعدم الانطباق فی الطرف الآخر. هذا فی الحالة الأولی.

ص: 71

فی محل الکلام، حتی لو قلنا بالانحلال وسرایة العلم من الجامع إلی الفرد لا یوجد مثل هذا المدلول، لا یوجد ما یوجب العلم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر، وإنّما یبقی الانطباق علی الطرف الآخر محتملاً ولا یمکن نفیه، حتّی لو علمنا تفصیلاً بثبوت النجاسة بموت زیدٍ، فی مثالٍ آخر غیر المثال السابق؛ لأنّه لابدّ أن نفترض أنّ العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال کما لو علمنا بموت أحد شخصین، إمّا زید، وإمّا عمرو، ثمّ علمنا تفصیلاً بموت زیدٍ، هذا ما نحن فیه، هنا الانحلال یقول بأنّ العلم یسری من الجامع إلی الفرد، وینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ ولذا یتحقق الانحلال، هذا کلّه صحیح، لکن لا علم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر، وإنّما یبقی احتمال الانطباق علی الطرف الآخر موجوداً، یعنی احتمال موت الطرف الآخر موجود وقائم، ولا یمکن نفیه، والمعلوم بالإجمال هو موت أحد شخصین، علمنا تفصیلاً بموت زیدٍ، فسری العلم من الجامع إلی الفرد، انطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، هذا کلّه صحیح؛ لأنّ الانطباق ___________ بحسب الفرض ___________ والانحلال والسریان إنّما یکون حیث لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال یُحتمل إباؤها عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، حیث لا تؤخذ خصوصیة یتحقق السریان والانطباق، فینحل العلم الإجمالی؛ لانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وسریان العلم من الجامع إلی الطرف، لکن هذا لا یعنی العلم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر؛ بل یبقی احتمال الانطباق علی الطرف الآخر قائماً ولا موجب لنفیه، غایة الأمر أنّ مثل هذا الاحتمال لا یستطیع أن یُشکّل علماً إجمالیاً؛ لأنّه بعد سرایة العلم من الجامع إلی الفرد بعد فرض الانحلال؛ حینئذٍ لا یکون لدینا إلاّ علم تفصیلی بموت زید، وشکّ بدوی فی موت غیره، وهذا لا یشکّل علماً إجمالیاً.

ص: 72

الخلاصة : أنّ احساس الفرق بین الحالتین ووجدان الفرق بین الحالتین یمکن أن یُفسّر علی هذا الأساس، أنّه فی الحالة الأولی هناک علم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر، بینما فی محل الکلام لا یوجد مثل هذا العلم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر، وإنما یبقی احتمال الانطباق قائماً وموجوداً وعلی حاله، لکنّه لا یُشکّل علماً إجمالیاً بعد فرض السریان من الجامع إلی الفرد، وانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل.

تبیّن من جمیع ما تقدّم أنّ المسألة التی یجب بحثها وترکیز الکلام علیها فی المقام، والتی یتوقف القول بالانحلال الحقیقی، أو القول بعدم الانحلال علیها وعلی بحثها وتحقیقها هی عبارة عن المسألة التی تکررّت الإشارة إلیها، وهی أنّ المعلوم بالإجمال فی کلّ علم إجمالی، ولیس فی بعض العلوم الإجمالیة، وإنّما فی کل علمٍ إجمالی، المعلوم بالإجمال هل یکون له حدّ وخصوصیة یُحتمل علی ضوئها أنّه یأبی عن الانطباق علی هذا الطرف المعلوم بالتفصیل. أو بعبارة أخری کما قلنا: یُحتمل انطباق المعلوم بالإجمال مع لحاظ هذه الخصوصیة علی الطرف الآخر، هل أُخذ فی المعلوم بالإجمال هذا الحد والخصوصیة بهذا الشکل الذی ذکرناه، أو لا ؟ إذا علمنا بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة دم فی أحد الإناءین، ثمّ علمنا بنجاسة أحدهما المعیّن، لکن هذه النجاسة فی الإناء المعیّن، ولیکن الأیمن منهما، هذه النجاسة التی علمت بها تفصیلاً فی هذا الإناء الأیمن ممکن أن تکون ناشئة من سقوط قطرة الدم تلک، وممکن أن تکون ناشئة من نجاسة أخری، من سقوط قطرة دمٍ أخری، لیس لدینا علم، ما نعلمه فقط أنّ الإناء الیمن نجس قطعاً، لکن لیس لدینا علم بأنّ هذه النجاسة نشأت من تلک القطرة التی هی سبب حصول العلم الإجمالی، لو کان لدینا، فمعناه أنّ العلم التفصیلی یکون ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، وقلنا أنّ هذا خارج عن محل کلامنا، أنا اعلم بنجاسة الإناء الأیمن، إمّا أن تکون هذه النجاسة ناشئة من قطرة الدم السابقة المعلومة بالإجمال، وإمّا أن تکون ناشئة من قطرة دمٍ أخری ونجاسة أخری. هذا معنی أنّ المعلوم بالإجمال له حدّ وخصوصیة یُحتمل أن یمتنع انطباقه علی المعلوم بالتفصیل، بهذه الخصوصیة وبهذا الحدّ یُحتمل أن یکون آبیاً عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّه یوجد احتمال أنّ هذه النجاسة فی المعلوم بالتفصیل ناشئة من نجاسة أخری لا علاقة لها بالمعلوم بالإجمال، فلا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل. هل المعلوم بالإجمال فی کل علمٍ إجمالی یوجد فیه مثل هذا الحد ومثل هذه الخصوصیة التی یُحتمل أن یکون المعلوم بالإجمال آبیاً عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، أو لا ؟ هذه هی المسألة التی یجب بحثها. إذا أمکن إقامة دلیل وبرهان علی وجود هذا الحدّ وهذه الخصوصیة فی کلّ علمٍ إجمالی؛ حینئذٍ لا یوجد انحلال حقیقی؛ لوضوح أنّه لا یُعلم فی هذه الحالة انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ بل احتمال انطباق المعلوم بالإجمال فی هذه الحالة علی الطرف الآخر موجود وقائم کما یُحتمل انطباقه علی المعلوم بالتفصیل، لا یوجد إحراز انطباق علی المعلوم بالتفصیل، وإنّما هنا یوجد احتمال انطباق، وکذلک یوجد احتمال انطباق فی الطرف الآخر، هذا معناه بقاء العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی کما تقدّم سابقاً یتقوّم برکنین اساسیین(الرکن الأوّل) العلم بالجامع. و(الرکن الثانی) احتمالات انطباق بعدد أطراف العلم الإجمالی. هنا علم بالجامع موجود بالوجدان، واحتمالات انطباق بعدد الأطراف ایضاً موجودة، فلا موجب لانحلال العلم الإجمالی؛ بل یبقی العلم الإجمالی علی حاله. وإذا فرضنا قیام الدلیل، أو البرهان علی عدم وجود هذا الحد وهذه الخصوصیة بالنحو المتقدّم، کما إذا علمنا إجمالاً بموت أحد شخصین، وترددّ بین زید وعمرو، ثمّ علمنا بموت زیدٍ منهما، هنا المعلوم بالإجمال فرضناه لا یوجد فیه حدّ، ولا توجد فیه خصوصیة یُحتمل أن یأبی عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، هنا یحصل الانحلال الحقیقی، ینحل العلم الإجمالی حقیقة ویسری العلم من الجامع إلی الفرد، باعتبار أنّ الفرد مصداق حقیقی للجامع؛ لأنّ الجامع المعلوم بالإجمال ___________ بحسب الفرض ___________ لم تؤخذ فیه خصوصیة یُحتمل علی ضوئها أن یأبی عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، فالفرد مصداقٌ حقیقی للجامع، ومع کونه مصداقاً حقیقیاً للجامع؛ فحینئذٍ یسری العلم من الجامع إلی هذا الفرد، وینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل.

ص: 73

وبعبارةٍ أخری: لماذا یقف العلم علی الجامع ؟ لأنّ هناک إجمال فی متعلّق العلم، هناک نقص فی المعلوم والمنکشف بهذا العلم؛ ولذا وقف العلم علی الجامع، فإذا زال هذا النقص وارتفع الترددّ بالعلم التفصیلی بموت زیدٍ، لا إشکال فی أنّ هذا یوجب زیادة فی العلم، وزیادة فی المنکشف بهذا العلم، وفی المعلوم بهذا العلم، وهو معنی سریان العلم من الجامع إلی الفرد، العلم سابقاً کان واقفاً علی الجامع لنقص فی المعلوم، فإذا زال هذا النقص، وعلمت تفصیلاً بموت زیدٍ، فهذا یعنی زیادة وتوسّع فی العلم، وهذه الزیادة فی العلم هی معنی سریان العلم من الجامع إلی الفرد.

وبعبارةٍ أخری: کما قلنا أنّ الجامع عندما لا تؤخذ فیه خصوصیة، الفرد مصداق حقیقی له، وهذا معناه أنّه ینطبق علیه، ویسری العلم من الجامع إلی الفرد، فیتحقق بذلک الانحلال، ولا یعود العلم فی المقام علماً بالجامع مع احتمالات انطباق فی الأطراف، وإنّما یکون علماً تفصیلیاً بهذا الطرف، وشکاً بدویاً فی الطرف الآخر، ولا یکون حینئذٍ علماً إجمالیاً؛ بل ینحلّ هذا العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی والشکّ البدوی.

إذن: لابدّ أن یقع الکلام فی وجود خصوصیةٍ فی المعلوم بالإجمال لکلّ علمٍ إجمالی، وعدم وجود هذه الخصوصیة.

السیّد الشهید(قدّس سرّه) طرح هذا الشیء فی مقام الجواب عن هذا السؤال، ویمکن توضیح ما طرحه بهذا الشکل: (1) وهو أنّه لا إشکال فی أنّ کلّ علمٍ إجمالی یتشکل عند الإنسان لابدّ أن یکون له سبب، العلم الإجمالی بنجاسة أحد إناءین لابدّ أن یکون له سبب، من رؤیة قطرة دم سقطت فی أحدهما، لکن من دون تمییز، ولا نعلم هل سقطت فی هذا، أو سقطت فی هذا، ملاقاة أحدهما علی الإجمال والترددّ للنجاسة لابدّ أن یکون له سبب، علمی بموت أحد شخصین، زید، وعمرو لابدّ أن یکون ناشئاً من رؤیة آثار الموت وعلائم الموت متوجّهة نحو احدهما، لکن اشتبه هذا بهذا، فصار لدّی علم إجمالی بموت أحدهما. أعلم باحتراق أحد الثوبین لابدّ أن یکون له سبب، کما لو أننی رأیت النار بعینی توجّهت نحو أحد الثوبین، لکن لا أعلم هل توجّهت نحو الثوب الأبیض، أو نحو الثوب الأسود، أو رأیت الدخان _____________ مثلاً _____________ یتصاعد من أحدهما، لکن لم استطع أن أمیز الثوب الذی تصاعد منه الدخان.....وهکذا، کلّ علم إجمالی لابدّ أن یکون له سبب، سبب العلم الإجمالی له حالتان:

ص: 74


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج5، ص239.

الحالة الأولی: أن یکون هذا السبب مختصّاً بطرفٍ معین من الأطراف واقعاً، لکن أنا لا أعلم ذلک الطرف الذی اختص به ذلک السبب، فیحصل لدیّ ترددّ بینهما، وإلاّ السبب فی الواقع مختص بأحد الطرفین المعیّن واقعاً، فسبب العلم الإجمالی یکون متوجّهاً نحو طرفٍ بعینه، لکن ترددّ هذا الطرف عندی بین طرفین، فتکوّن لدیّ علم إجمالی، وهذا هو الموجود فی الأمثلة السابقة، نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فی أحد الإناءین، قطرة الدم فی الواقع سقطت فی أحد الإناءین المعیّن واقعاً، لکن أنا صار لدی إجمال وترددّ، فسبب العلم الإجمالی یختصّ بطرفٍ معیّن واقعاً، وهکذا فی مثال الموت، وفی مثال احتراق أحد الثوبین، سبب العلم الإجمالی یختصّ بطرفٍ معیّن فی الواقع.

فی هذه الحالة المعلوم بالإجمال یکون محدوداً بحدّ وخصوصیة خارجیة، وهذه الخصوصیة هی عبارة عن هذا السبب الخاص للعلم الإجمالی، یکون محدوداً بهذا الحد، وبهذه الخصوصیة، ما أعلمه إجمالاً فی هذه الأمثلة هو عبارة عن نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فی طرفٍ معیّنٍ واقعاً، لکن لسببٍ من الأسباب ترددّ هذا الطرف المعیّن واقعاً عندی، ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فی طرفٍ بعینه، سبب العلم الإجمالی هو حدّ وخصوصیة لابدّ أن تؤخذ فی المعلوم بالإجمال، ما أعلمه إجمالاً هو احتراق احد الثوبین المعیّن احتراقاً ناشئاً من توجّه النار إلیها، فهذا هو المعلوم بالإجمال، الاحتراق الناشئ من النار فی طرفٍ معیّن مرددّ بین طرفین، فهذا حدّ وخصوصیة تکون مأخوذة فی المعلوم بالإجمال، وإذا أُخذت قیداً فی المعلوم بالإجمال؛ حینئذٍ نأتی إلی محل الکلام، نقول: إذا حصل العلم التفصیلی بالفرد، هنا یمکن تصوّر ثلاثة صور علی ضوء ما تقدّم فی هذه الحالة الأولی:

ص: 75

الصورة الأولی: أن نفترض أنّ العلم التفصیلی یکون ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، یعنی یرید أن یقول أنّ قطرة الدم التی هی سبب علمک بنجاسة أحد الإناءین سقطت فی الإناء الأیمن، الثوب الذی احترق بالنار هو هذا الثوب الأسود....وهکذا. هنا قلنا أنّه لا إشکال فی الانحلال؛ لأنّ العلم التفصیلی یعیّن المعلوم بالإجمال الذی له تعیّن واقعی، فیزول العلم الإجمالی بلا إشکال.

الصورة الثانیة: أن لا یکون ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، ولکنّه یتعلّق بسببٍ آخر غیر السبب الأوّل، سابقاً أنا علمت بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فی أحدهما، ثمّ علمت تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دمٍ أخری ونجاسة أخری، فی هذه الحالة لا إشکال فی عدم الانحلال؛ لوضوح أنّ المعلوم بالإجمال بعد اخذ الخصوصیة لا ینطبق علی المعلوم بالتفصیل، فلا انحلال ولا سریان، وهذا أیضاً ممّا لا إشکال فیه، وإنّما الکلام فی الصورة الثالثة کما سیأتی إن شاء الله تعالی.

انحلال العلم الإجمالی/ تنبیهات العلم الإجمالی / الأصول العملیّة بحث الأصول

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالی/تنبیهات العلم الإجمالی /الأصول العملیّة

ذکرنا أنّ سبب العلم: تارةً یکون مختصّاً واقعاً بطرفٍ معیّن، لکنّه عندنا مرددّ بین طرفین، لکن مصب هذا السبب وما یتعلّق هذا السبب به هو طرف معیّن فی الواقع، من قبیل سقوط قطرة دم، قطرة دمٍ تسقط فی إناءٍ معیّن فی الواقع، لکنّه مرددّ عندنا بین هذا الطرف وبین ذاک الطرف، وأخری یکون سبب العلم لا یختصّ بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندنا، وإنّما هو أساساً نسبته إلی الأطراف نسبة متساویة واحدة ولا یختصّ بطرفٍ دون طرفٍ. کان الکلام فی الحالة الأولی، حیث قلنا أنّ هذه الحالة یمکن تصوّرها علی عدّة صور، ذکرنا الصورة الأولی، وقلنا أنّه لا إشکال فی خروجها عن محل النزاع، بمعنی أنّه لا نزاع فی تحقق الانحلال فیها، وهی ما إذا کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، وتشخیصه فی طرفٍ معین.

ص: 76

الصورة الثانیة: أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال وتشخیصه فی طرفٍ معیّن، لکّنه یتعلّق بسببٍ آخر، أعلم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء بسببٍ آخر غیر السبب الذی حصل العلم الإجمالی علی أساسه، علمت بسقوط قطرة دمٍ أخری فی هذا الإناء المعیّن. قلنا أنّ هذا أیضاً خارج عن محل النزاع، بمعنی أنّه لا نزاع فی عدم تحقق الانحلال فیه لوضوح أنّ المعلوم بالتفصیل لیس مصداقاً للمعلوم بالإجمال.

الصورة الثالثة: أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، ولا یتعلّق بسببٍ آخر، فقط أعلم بنجاسة هذا الإناء المعیّن، علمت بنجاسة أحد الإناءین باعتبار سقوط قطرة دم فی أحدهما، ثمّ علمت تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن. هذه هی الصور التی یقع الکلام فی أنّ العلم الإجمالی هل ینحل بهذا العلم التفصیلی، أو لا ؟

حینما أعلم بنجاسة هذا الإناء الأیمن تفصیلاً، بطبیعة الحال أنا احتمل أنّ هذه النجاسة حدثت من نفس السبب، بسبب سقوط قطرة الدم المعلومة إجمالاً، ویمکن أن تکون النجاسة حادثة بسببٍ آخر، کل منهما محتمل، محتمل أن تکون النجاسة المعلومة تفصیلاً قد حدثت بسبب سقوط قطرة الدم السابقة، أوجبت العلم الإجمالی سابقاً، هذه قطرة الدم هی أوجبت نجاسة هذا الإناء المعیّن، کما یحتمل أن تکون هذه النجاسة المعلومة تفصیلاً حدثت بسببٍ آخر، لکن علی کلا التقدیرین، ما أعلمه هو نجاسة هذا الإناء الأیمن. فی هذه الحالة من الواضح أنّه لا إحراز لانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، لا یحرز الانطباق؛ لأنّی احتمل أنّ النجاسة الحاصلة فی هذا الإناء المعیّن حدثت بسببٍ آخر لا بنفس السبب السابق، هذا ممکن، لا إحراز لانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وإنّما هناک فقط احتمال الانطباق، احتمال أن یکون السبب واحداً فی العلمین، وبذلک ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، لکن هذا مجرّد احتمال فی قباله احتمال عدم الانطباق، لا إحراز للانطباق؛ لأنّ المعلوم بالإجمال _____________ بحسب الفرض ____________ أُخذت فیه خصوصیة وحدّ یُحتمل أن یکون مانعاً من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وهذا الحد والخصوصیة هی عبارة عن سبب العلم الإجمالی، سبب العلم الإجمالی یکون حدّاً وخصوصیة فی المعلوم بالإجمال یُحتمل أن تکون مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل.

ص: 77

أو قل بعبارةٍ أخری: یُحتمل أن یکون المعلوم بالإجمال منطبقاً علی الطرف الآخر غیر منطبق علی هذا الفرد المعلوم بالتفصیل، والنکتة هی أنّ المعلوم بالإجمال فی هذه الصورة من الحالة الأولی أُخذت فیه خصوصیة یُحتمل أن تکون مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، هذا المفروض فی محل کلامنا؛ لأننا نتکلّم فی الحالة الأولی التی هی ما إذا کان العلم الإجمالی له سبب یختصّ بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندنا، ما تسقط فیه قطرة الدم هو طرف بعینه فی الواقع، لکن أنا صار لدیّ إجمال، فترددّ عندی بین هذا الإناء وبین ذاک الإناء، فی مثل هذه الحالة هذه الخصوصیة زائدة، یعنی سبب العلم إذا کان بهذا النحو، یکون خصوصیة زائدة فی المعلوم بالإجمال بحیث یصحح لی أن أقول أننّی أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة الدم فی طرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندی، وهذه النجاسة تعلّقت بطرفٍ معیّن واقعاً، لکن أنا لا أعلم بهذا الطرف المعیّن واقعاً الذی سقطت فیه قطرة الدم وکان نجساً، هل هو هذا الطرف، أو هذا الطرف ؟ لأنی أحتمل کلاً منهما، احتمل أنّ قطرة الدم سقطت فی هذا الطرف، واحتمل أنّ قطرة الدم سقطت فی ذاک الطرف، لکن ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءین الناشئة من سقوط قطرة الدم، وأحد الإناءین هذا مرددّ عندی بین هذا الطرف وبین ذاک الطرف، من هنا یکون سبب العلم الإجمالی فی هذه الحالة قیداً وخصوصیة فی المعلوم بالإجمال، أنا لا أعلم بنجاسةٍ علی إطلاقها مرددّة بین هذا الطرف وذاک، وإنّما أعلم بنجاسة ناشئة من سقوط قطرة دمٍ فی أحد الإناءین، النجاسة التی أعلمها فی أحد الطرفین هی نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم فی ذاک الطرف المعیّن واقعاً المرددّ عندی، أنا لا أعلم بأنّ ذاک الإناء الواقعی الذی سقطت فیه قطرة الدم، هل هو هذا الإناء الأیمن، أو هو الإناء الأیسر ؟ وإلاّ فی الواقع قطرة الدم سقطت فی إناءٍ معیّنٍ، والنجاسة ثبتت لإناءٍ معیّنٍ نتیجة سقوط قطرة الدم.

ص: 78

إذن: ما أعلمه لیس نجاسة مطلقة، لا أعلم أنها موجودة هنا، أو موجودة هنا، وإنّما أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة الدم فی إناءٍ معیّنٍ فی الواقع من الإناءین، لکنّی لا أعلم هل هو هذا الإناء، أو ذاک الإناء، وهذا معنی أنّ المعلوم بالإجمال یکون قد أُخذت فیه خصوصیة وحدّ یُحتمل أن تکون تلک الخصوصیة مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ لأننّی لا أعلم بوجود هذه الخصوصیة فی المعلوم بالتفصیل، المفروض أنّ المعلوم بالتفصیل فقط أنا علمت بنجاسة الإناء الأیمن، ولیس أننی علمت بنجاسة الإناء الأیمن نجاسةً ناشئة من قطرة الدم المفترضة فی المقام، من المحتمل أن تکون النجاسة ناشئة من قطرة الدم السابقة، لکن یُحتمل أن تکون ناشئة من سببٍ آخر، علی هذا التقدیر لا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة، نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم، ما دمت احتمل فی المعلوم بالتفصیل أنّ نجاسته نشأت من سببٍ آخر؛ حینئذٍ هذا یمنع من احراز انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ ولذا لا انحلال فی هذه الصورة الثالثة، لا یتحقق الانحلال بمجرّد أن نفترض أنّ المعلوم بالإجمال قد أُخذت فیه خصوصیة؛ بل فی الحقیقة الذی یحصل ثانیاً بعد العلم الإجمالی وإن کان هو علماً تفصیلیاً بلحاظ الطرف وبلحاظ الفرد، لکنّه فی واقعه علم إجمالی بلحاظ سبب هذا العلم التفصیلی؛ لأنّ هذا العلم التفصیلی سببه مرددّ فی الواقع بین أن یکون هو عبارة عن نفس قطرة الدم السابقة، أو قطرة دمٍ أخری، فهو فی الواقع علم إجمالی بلحاظ سبب العلم، وإن کان علماً تفصیلیاً بلحاظ الفرد والطرف؛ لأنّی أعلم بنجاسة الطرف الأیمن تفصیلاً، لکن بلحاظ السبب هو مردد بین سببین، فهو علم إجمالی فی واقعه، هذا العلم الإجمالی الثانی بلحاظ السبب لا یحلّ العلم الإجمالی السابق؛ لأنّ العلم الإجمالی السابق لم یکن مرددّاً بلحاظ سببه؛ لأنّ سببه ____________ بحسب الفرض _____________ هو سقوط قطرة دم، وإنّما کان مجملاً ومردداً بلحاظ الأطراف، عکس العلم التفصیلی الذی هو علم إجمالی بلحاظ السبب، ومن هنا هذا العلم الإجمالی الثانی لا یمکن أن یحل العلم الإجمالی السابق، بمعنی أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل لا یحرز انطباقه علی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی، ومن هنا لا انحلال.

ص: 79

هذه هی الصوّر الثلاث للحالة الأولی، وبعد وضوح أنّ الصورة الأولی خارجة عن محل النزاع، والصورة الثانیة أیضاً خارجة عن محل النزاع، الذی یدخل فی محل النزاع هو خصوص الصورة الثالثة من الحالة الأولی، المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة بأن کان سبب العلم الإجمالی مختصّاً بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندنا، قلنا هذا یلازم أن تکون فی المعلوم بالإجمال خصوصیة مأخوذة فیه، لکن العلم التفصیلی تعلّق بالنجاسة فقط من دون معرفة السبب الخاص لهذه النجاسة. فی هذه الحالة ____________ الصورة الثالثة ____________ الصحیح هو عدم الانحلال، أنّ العلم الإجمالی السابق لا ینحلّ حقیقة.

الحالة الثانیة: أن نفترض أنّ سبب العلم الإجمالی لیس مختصّاً ببعض الأطراف واقعاً؛ بل نسبته إلی الأطراف نسبةً متساویة وبدرجةٍ واحدة، هذا لا یحصل فی الأمثلة المتعارفة التی کنّا نمثّل بها، وإنّما یحصل عندما یکون العلم الإجمالی ناشئاً من قیام برهانٍ، أو دلیلٍ یقتضی عدم إمکان اجتماع أمرین، إذا قام برهان ____________ مثلاً ___________ أنّ هذین الأمرین لا یمکن أن یجتمعا، قهراً نعلم إجمالاً بارتفاع أحدهما، طهارة هذا الإناء، وطهارة هذا الإناء قام برهان، أو دلیل علی عدم إمکان اجتماعهما کما سنمثّل، ومعناه أننا نعلم بارتفاع طهارة أحدهما. أو قل بعبارةٍ أخری: نعلم بنجاسة أحدهما؛ إذ لا یمکن أن یکون کلٌ منهما طاهراً، قام برهان علی عدم إمکان اجتماع طهارة هذا الإناء، وطهارة هذا الإناء، وهذا یُسبب علماً إجمالیاً بارتفاع أحدی الطهارتین عن أحد الإناءین، یعنی بنجاسة أحد الإناءین، فیصبح الإنسان عالماً بنجاسة أحد الإناءین، من قبیل الإناءان الّلذان هما فی حوزة الکافر ____________ مثلاً ___________ ونحن نقطع ونطمأن بأنّ هذا الکافر حتماً استعمل أحدهما لفترة طویلة، یعنی نستبعد أن لا یستعمل الإناءین فی هذه الفترة الطویلة. هذا الاطمئنان بأنّه استعمل أحد الإناءین علی الأقل یکون سبباً فی أن یحصل لی علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین، باعتبار أنّ الکافر استعمله فتنجّس، لکن سبب العلم الإجمالی هو هذا الدلیل القائم علی عدم إمکان أن یکون هذا الإناء طاهر، وهذا الإناء أیضاً طاهر؛ لأنّه لابدّ أن یکون قد استعمل أحد الإناءین. سبب العلم الإجمالی هو عدم إمکان اجتماع هذین الأمرین، استبعاد أن لا یستعمل الکافر کلا الإناءین فی هذه الفترة الطویلة.

ص: 80

أو قل بعبارةٍ أخری: الاطمئنان أو القطع بأنّه استعمل أحدهما. هنا سبب العلم الإجمالی هو هذا الاطمئنان، ومن الواضح أنّ هذا السبب لا یختص بأحد الطرفین بعینه مع ترددّه عندی، نسبة سبب العلم الإجمالی إلی کلا الطرفین نسبة واحدة، وبهذا یختلف عن الحالة الأولی، الحالة الأولی کان هناک إناء معیّن فی الواقع أنصب علیه السبب، یعنی هو الذی تعلّق به سبب العلم الإجمالی، سقطت فیه قطرة الدم، إناء معیّن فی الواقع، لکن اشتبه عندی، فترددّ بین إناءین، بینما هنا الاستبعاد لا یختص بأحد الطرفین واقعاً، البرهان علی عدم إمکان اجتماع الأمرین واقعاً لا یختصّ بأحد الطرفین، هو اصلاً نسبته إلی هذا الطرف کنسبته إلی الطرف الآخر، لا یختص بأحد الطرفین إطلاقاً، هذه هی الحالة الثانیة، أن یکون العلم الإجمالی له سبب، لکن سببه لا یختص بأحد الطرفین واقعاً؛ بل تکون نسبته إلی جمیع الأطراف نسبة واحدة ومتساویة.

فی هذه الحالة الثانیة: إذا علمت تفصیلاً بنجاسة أحد الإناءین، هل ینحلّ العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی انحلالاً حقیقیاً، أو لا ؟ هذا یرتبط بأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة، أو لم تؤخذ فیه خصوصیة، فی هذا الفرض فی الحالة الثانیة، لیست هناک خصوصیة مأخوذة فی المعلوم بالإجمال، بخلاف الحالة الأولی الخصوصیة کانت موجودة وهی سبب العلم الإجمالی المختص ____________ بحسب الفرض فی الحالة الأولی ____________ واقعاً بطرفٍ معیّن مردّد عندی؛ ولذا قلنا هو یبیح لی أن أقول: بأنّی أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة دمٍ فی أحد الإناءین، لکنّی لا أعلم أنّ أحد الإناءین هل هو هذا الإناء، أو هو هذا الإناء ؟ فی الحالة الثانیة لا توجد خصوصیة مأخوذة فی المعلوم بالإجمال؛ لأنّ نسبة سبب العلم الإجمالی هنا إلی الأطراف نسبة متساویة، لیس سبب العلم الإجمالی مختصّاً واقعاً بأحد الطرفین حتّی اقول أنّ النجاسة التی أعلمها فی أحد الطرفین هی ناشئة من سقوط قطرة الدم، وإنّما نسبة سبب العلم الإجمالی إلی کلّ الأطراف نسبة واحدة ولیست نسبة مختصّة بأحد الأطراف؛ ولذا لا یصح لی هنا أن أقول بأنّی أعلم بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من الاستبعاد، لکنّی لا أعلم أنّ هذه النجاسة موجودة فی هذا الإناء، أو فی ذاک الإناء، هذا لا یبررّ أن أقول أنی أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ حتّی أأخذ بخصوصیة، نحن نرید أن نثبت أنّ هذه الخصوصیة غیر مأخوذة فی المعلوم بالإجمال؛ لأنّ کونها معلومة بالإجمال معناه أنّ ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة ناشئة من الاستبعاد أنا لا أعلم بأنّها موجودة فی هذا الإناء، أو فی ذاک الإناء، هذا إنّما یصح عندما یکون سبب العلم الإجمالی مختصّاً بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندی؛ وحینئذٍ أقول أنّ ما أعلمه هو نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم فی أحد الإناءین، لکن أنا لا أعلم انّها موجودة فی هذا الإناء، أو ذاک الإناء، هذا کلام صحیح، ویکون المعلوم بالإجمال حینئذٍ مقیّداً بتلک الخصوصیة، أمّا فی الحالة الثانیة هذا الکلام غیر صحیح؛ لأنّ نسبة الاستبعاد إلی هذا الطرف وهذا الطرف نسبة واحدة، ولیس مختصّاً بأحد الطرفین، فلا معنی لأن أقول بأنّی أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من الاستبعاد مرددّة عندی بین هذا الطرف وبین ذاک الطرف؛ لأنّ نسبة الاستبعاد إلی کل الأطراف نسبة واحدة؛ ولذا لا یکون المعلوم بالإجمال مقیّداً بهذه الخصوصیة، وإنّما ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءین، نعم هذا العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین سببه الاستبعاد، لکن من دون أن یؤخذ الاستبعاد کسببٍ للعلم الإجمالی فی المعلوم بالإجمال؛ بل المعلوم بالإجمال هو عبارة عن نجاسة أحد الإناءین؛ وحصل عندی علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین لقیام البرهان، أو الاستبعاد علی عدم إمکان الجمع بین طهارة هذا الإناء وطهارة هذا الإناء لهذه المدّة الطویلة، لکنّ ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءین ولیس نجاسة ناشئة من الاستبعاد المذکور ولا أعلم بتطبیقها علی هذا الفرد، کما هو المفروض فی محل الکلام، أو أنّها موجودة فی هذا الفرد؛ لأنّ الاستبعاد، أو البرهان نسبته متساویة واقعاً إلی کل الأطراف؛ إذ لا خصوصیة لاستبعاد هذا الطرف دون الطرف الآخر، الاستبعاد لا یثبت أکثر من أنّ أحد الإناءین لابدّ أن یکون نجساً، لابدّ أن ترتفع عنه الطهارة، لکنّه لا یختص بأحد الطرفین، ومن هنا یقال: فی الحالة الثانیة لم تؤخذ فی المعلوم بالإجمال خصوصیة زائدة، وبناءً علیه یتحقق الانحلال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال إذا لم تؤخذ فیه خصوصیة زائدة فالمعلوم بالتفصیل مصداق حقیقی له، ومن هنا یکون الانطباق قهریاً، وسریان العلم من الجامع إلی الفرد یکون قهریاً وبذلک یتحققّ الانحلال الحقیقی مع الالتفات إلی ما تقدّم فی الدرس السابق من أنّ هذا الانحلال الحقیقی فی هذه الحالة لا یمنع من احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر ____________ وهذه نکتة مهمّة _____________ لکن الجامع الذی یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر هو الجامع بحدّه الجامعی لا الجامع بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّ الجامع بما هو معلوم بالإجمال سری إلی الفرد، فأصبح الجامع محدوداً بحدٍّ وخصوصیةٍ شخصیةٍ وهی الفرد، ومن الواضح أنّ الجامع الذی حُدّ بحدٍّ شخصیٍ لا یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر، وإنّما یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر بحدّه الجامعی، فاحتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر موجود حتّی فی موارد الانحلال الحقیقی، لکن الذی یُحتمل انطباقه هو الجامع بحدّه الجامعی، لا الجامع بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّ الجامع بما هو معلوم بالإجمال سری إلی الفرد وأصبح جامعاً بحدٍّ شخصیٍ موجود فی ضمن خصوصیة شخصیة، وهذا الجامع لا یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر.

ص: 81

هناک وجه آخر لإثبات الانحلال غیر مسألة انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل تأتی الإشارة إلیه إن شاء الله تعالی .

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

فی الحالة الثانیة: ذکرنا الوجه المتقدّم لإثبات الانحلال فی الحالة الثانیة، وهی الحالة التی لا یکون المعلوم بالإجمال مقیّداً بخصوصیةٍ یُحتمل أن تکون مانعةً من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وتبیّن ممّا تقدّم أنّ هذا یتحقق فیما إذا کان سبب العلم الإجمالی لیس مختصّاً بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندنا؛ بل کانت نسبة سبب العلم الإجمالی إلی الأطراف نسبة متساویة علی حدٍّ سواء، فی هذه الحالة انتساب المعلوم بالإجمال إلی السبب لا یؤخذ کخصوصیة فی المعلوم بالإجمال........ینحلّ العلم الإجمالی بملاک زواله بزوال سببه لا بملاک انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل کما هو مقتضی الوجه المتقدّم، هذا وجه جدید. العلم الإجمالی ینحل بزوال سببه، العلم الإجمالی له سبب، المُدّعی أنّ سبب العلم الإجمالی یزول بالعلم التفصیلی، المفروض فی محل کلامنا أننا نتکلّم عن علم إجمالی وعلم تفصیلی، وبالعلم التفصیلی یزول سبب العلم الإجمالی، وبالتالی یزول العلم الإجمالی لا محالة، ویتحقق الانحلال.

خلاصة الوجه الثانی: أن سبب العلم الإجمالی فی محل الکلام الذی هو الحالة الثانیة التی یکون سبب العلم الإجمالی فیها متساوی النسبة إلی کل الأطراف ولا یختصّ بطرفٍ معیّنٍ دون طرفٍ آخر، متساوی النسبة بالنسبة إلی کلّ الأطراف؛ حینئذٍ یُدّعی أنّ تخصیصه فی طرفٍ معیّنٍ دون الباقی یکون ترجیحاً بلا مرجّح؛ لأنّ نسبته _____________ بحسب الفرض ______________ إلی کلّ الأطراف نسبة واحدة علی حدٍّ سواء، بلا إشکال یکون تخصیص سبب العلم الإجمالی بطرفٍ معیّنٍ دون طرفٍ ترجیحاً بلا مرجّح بعد فرض تساوی نسبته إلی کلٍ منهما علی حدٍّ سواء، فیکون ترجیحاً بلا مرجّح؛ ولذا یحصل العلم الإجمالی نتیجة افتراض أنّ سبب العلم الإجمالی متساوی النسبة إلی جمیع الأطراف، وتخصیصه بإضافة أنّ تخصیصه بأحد الأطراف بعینه ترجیح بلا مرجّح، ومن هنا یحصل العلم الإجمالی، أحد الطرفین نجس، لا استطیع أن أحصر النجاسة بطرفٍ معیّن فیحصل هذا العلم الإجمالی، فإذا حصل العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء المعیّن الأیمن؛ حینئذٍ یقال قد حصل فیه ما یوجب ترجیحه، کان سابقاً قبل حصول العلم التفصیلی ترجیحه واختصاصه بالنجاسة ترجیح بلا مرجّح، اختصاصه بسبب العلم، وبالتالی اختصاصه بالنجاسة هو ترجیح بلا مرجّح، العلم التفصیلی کأنّه یوجد المرجّح؛ وحینئذٍ لا یتم برهان استحالة الترجیح بلا مرجّح مع فرض العلم التفصیلی المتعلّق بطرفٍ معیّنٍ من بین الطرفین، وبذلک یزول العلم الإجمالی بزوال سببه؛ لأنّه یلزم من اختصاص سبب العلم الإجمالی بأحد الأطراف، یلزم الترجیح بلا مرجّح، فإذن: أنا لا أعلم إلاّ بنجاسة أحد الإناءین علی الإجمال، فإذا علمت تفصیلاً بنجاسة أحد الإناءین؛ حینئذٍ لا یکون تخصیص النجاسة به ترجیحاً بلا مرجّح؛ بل وجد فیه ما یوجب الترجیح، وارتفع محذور لزوم الترجیح بلا مرجّح، فإذا زال هذا المحذور؛ حینئذٍ یزول العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی هو اساساً مرتکز علی لزوم الترجیح بلا مرجّح.

ص: 82

وبعبارة أخری: العلم الإجمالی فی محل الکلام یحصل فی الحقیقة نتیجة لمجموع أمرین:

الأمر الأوّل: الأمر الذی یثبت به الجامع الذی نفترضه الاستبعاد فی مثال مساورة الکافر، أو قیام برهان علی عدم اجتماع الأمرین، فیحصل علم بانتفاء أحدهما کما قلنا، أو حساب احتمالات ینفی اجتماع هذین الأمرین، فیحصل العلم الإجمالی بانتفاء واحدٍ منهما. هذا الاستبعاد، أو البرهان، أو حساب الاحتمالات، أو أیّ شیءٍ آخر، یثبت به الجامع، ولا یثبت أکثر من الجامع، استبعاد عدم مساورة الکافر للإناءین فی فترة طویلة من الزمن لا یورث لنا العلم بنجاسة هذا الإناء بعینه، وإنّما یورث لنا العلم بعدم طهارة أحد الإناءین إجمالاً، أو العلم بنجاسة أحد الإناءین إجمالاً.

الأمر الثانی: مسألة عدم المرجّح، لیس هناک مرجّح لأن یتجّه العلم إلی طرفٍ معیّن دون طرفٍ آخر، قبل فرض العلم التفصیلی لیس هناک مرجّح لأن یتجه العلم إلی هذا الطرف دون ذاک الطرف، وهذا هو الذی یمنع من اتجاه العلم نحو الطرف المعیّن. أو بعبارة أخری: یوجب وقوف العلم علی الجامع بحدّه الجامعی.

هذان الأمران: إذا اجتمعا حینئذٍ یتمّ العلم الإجمالی ویقف العلم علی الجامع، ویحصل العلم الإجمالی. أمران إذا اجتمعا __________ فی محل الکلام ___________ البرهان علی عدم إمکان اجتماع طهارة هذا الإناء فی مثالنا، وطهارة هذا الإناء، یوجد برهان قائم علی عدم إمکان اجتماع طهارة کلٍ من الإناءین اللّذین هما فی معرض استعمال الکافر، هذا برهان، بضمیمة استحالة الترجیح بلا مرجّح، بمعنی أنّ اتجاه العلم نحو هذا الفرد بعینه ترجیح بلا مرجّح، ونحو ذاک الفرد بعینه أیضاً ترجیح بلا مرجّح، هذا إذا ضممناه إلی البرهان السابق هو ملاک العلم الإجمالی، أنّ هذا العلم الإجمالی یقف علی الجامع ولا یتعدّی إلی الفرد، هذا هو سبب العلم الإجمالی فی محل الکلام. فإذا زال الأمر الثانی الذی هو لزوم الترجیح بلا مرجّح، وحصل ما یوجب الترجیح فی عالم العلم والانکشاف، بأن حصل علم تفصیلی بنجاسة هذا الإناء المعیّن الأیمن؛ حینئذٍ یزول العلم الإجمالی بزوال سبب الإجمال الذی کان عبارة عن لزوم الترجیح بلا مرجّح؛ لأنّ سبب الإجمال لیس هو فقط ذاک البرهان، ذاک البرهان غایة ما یقول أنّه لا یمکن الجمع بین طهارة کلٍ من الإناءین، لا یمکن أن یکون هذا طاهر، وهذا طاهر، ومن الواضح أنّ هذا لا ینافی أن یکون طرف معیّن نجساً، أن یتجه العلم بنجاسة أحدهما نحو طرفٍ معیّن، هذا لا ینافی البرهان، البرهان یقول: لا یمکن اجتماع طهارتین فی الإناءین، هذا لا ینافی أن نعلم بنجاسة طرفٍ معیّنٍ، الذی یمنع من اتجاه العلم نحو الطرف المعیّن هو الثانی، هو استحالة الترجیح بلا مرجّح، فإذا وجد المرجّح، وهو العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء، ارتفع الإجمال، زال سبب الإجمال؛ لأنّه وجد فیه مرجّح، فزال الأمر الثانی الذی مجموعهما هو السبب فی حصول العلم الإجمالی، وهذا یستلزم قهراً زوال العلم الإجمالی، فیزول العلم الإجمالی بزوال سببه لا بملاک انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وإنّما یزول بزوال سببه. وبهذا ینحلّ العلم الإجمالی بهذا الاعتبار.

ص: 83

هذا هو الوجه الثانی لإثبات الانحلال فی الحالة الثانیة التی نتکلّم فیها. ویُنتهی إلی هذه النتیجة: أنّه بشکلٍ عام لابدّ من التفریق بین نحوین من العلم الإجمالی، هذا هو الملاک، مرّة سبب العلم الإجمالی یختصّ بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع، وأخری لا یختصّ بطرفٍ معینٍ فی الواقع، نسبته إلی الجمیع نسبة واحدة.

فی الحالة الأولی لابدّ من أخذ خصوصیة الانتساب إلی ذلک السبب قیداً فی المعلوم بالإجمال، فیصبح المعلوم بالإجمال ذا خصوصیةٍ زائدةٍ یُحتمل أن تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ ولذا لا یحرز الانطباق، ولا تُحرَز السرایة، فلا موجب للانحلال، بینما فی الحالة الثانیة، خصوصیة الانتساب إلی ذلک السبب لا تؤخذ فی المعلوم بالإجمال، فیبقی المعلوم بالإجمال بلا خصوصیة زائدة، وهذا یُحرز انطباقه علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّه کما تقدّم مراراً مصداق حقیقی للمعلوم بالإجمال، ویسری العلم من الجامع إلی الفرد؛ إذ لا خصوصیة فی الجامع تمیّزه ویُحتمل أنّها تمنع من انطباقه علی المعلوم بالتفصیل. هذا المطلب الذی یمکن أن یقال فی المقام.

إلی هنا یتمّ الکلام عن الانحلال الحقیقی وفیه بعض المباحث الدقیقة ترکناها؛ لأنّه لیس هناک حاجة ملزمة أکثر من هذا. وبعد ذلک ندخل فی الانحلال الحکمی.

المقصود من الانحلال الحکمی هو أن یکون هناک علم إجمالی لکنّه لیس له اثر، فیقال أنّ هذا العلم الإجمالی بالرغم من وجوده، لکنّه لا ینجّز، فیقال بأنّ هذا العلم الإجمالی منحل حکماً لا حقیقةً، وکلامنا فعلاً أیضاً بانحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، لا زلنا نتکلّم فقط عن هذا، أمّا انحلال العلم الإجمالی بالإمارات، أو بالأصول العملیة، فسیأتی الکلام عنه، فعلاً کلامنا عن انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، لکن مرّةً یُطرح هذا البحث أنّه هل هناک انحلال حقیقی، أو لا ؟ فإذا انتهینا إلی أنّه لیس هناک انحلال حقیقی، أو انتهینا إلی نتیجة أنّ هناک انحلال فی بعض الحالات ولیس هناک انحلال فی بعض الحالات الأخری؛ حینئذٍ نقول فی الحالات التی لا یوجد فیها انحلال حقیقی، العلم الإجمالی لا ینحلّ بالعلم التفصیلی حقیقةً، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی یبقی علی حاله، یُطرح هذا السؤال: هل ینحل حکماً ؟ بمعنی أنّه هل یسقط عن المنجّزیة بالرغم من وجوده ؟ هل هناک موجب لسقوطه عن التنجیز بالرغم من وجوده، أو لا ؟ فإذا أثبتنا أنّه یسقط عن التنجیز معناه أنّ هذا العلم الإجمالی، وإن لم ینحل حقیقةً، لکنّه أنحلّ حکماً؛ لأنّه لیس له أثر، أی أنّه لا ینجّز حینئذٍ .

ص: 84

سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی موارد قیام العلم التفصیلی ___________ کلامنا فی العلم التفصیلی __________ أو انحلال العلم الإجمالی حکماً، وبطلان منجّزیته بالعلم التفصیلی، تارةً یقع الکلام عنه بلحاظ الأصول العقلیة وبقطع النظر تماماً عن الأصول الشرعیة المؤمّنة، ونتکلّم عن أنّ هذا العلم الإجمالی هل ینحلّ بالعلم التفصیلی انحلالاً حکمیاً بلحاظ الأصول العقلیة کقاعدة قبح العقاب بلا بیان، وأمثال هذه القواعد العقلیة، هل یسقط عن المنجّزیة، وینحلّ حکماً، أو لا ؟ وأخری نتکلّم عن الانحلال الحکمی، وسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة بلحاظ القواعد والأصول الشرعیة المؤمّنة.

أمّا بالنسبة إلی المقام الأوّل، أی بلحاظ القواعد العقلیة، هل هناک قاعدة عقلیة ____________ مثلاً ____________ یمکن الاستعانة بها لإثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی علی تقدیر عدم تحقق الانحلال الحقیقی، أو لا ؟

قد یقال: یمکن إثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بلحاظ القواعد العقلیة، وذلک بدعوی أنّ الجامع المعلوم بالإجمال الذی فرضنا فی محل الکلام تعلّق العلم التفصیلی بطرفٍ معینٍ من أطرافه، هذا الجامع الذی علمنا به إجمالاً، والذی حصل العلم التفصیلی ببعض أطرافه، هذا الجامع یُدّعی أنّه یستحیل عقلاً أن یتنجّز بالعلم الإجمالی، وذلک باعتبار أنّ الجامع المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعی الذی یعنی أنّه قابل للانطباق علی هذا الطرف، وقابل للانطباق علی ذاک الطرف....وهکذا سائر الأطراف الأخری، هذا هو الذی یکون هو المعلوم بالإجمال، وهذا الجامع بحدّه الجامعی القابل للانطباق علی کلا الطرفین، لو کانت الأطراف لیست أکثر من أثنین، هذا یستحیل أن یتنجّز بالعلم الإجمالی؛ لأنّ معنی تنجّز الجامع بالعلم الإجمالی هو أنّه لابدّ أن یکون قابلاً للتنجّز، وقابلیة الجامع للتنجّز متوقفة علی قابلیة التنجّز لکلا الطرفین؛ لأنّ المفروض أنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعی القابل للانطباق علی الطرفین، هذا الجامع بحدّه الجامعی القابل للانطباق علی الطرفین إنّما یتنجّز إذا کان کلا الطرفین قابلاً للتنجّز؛ حینئذٍ یقال أنّ الجامع قابل لأن یتنجّز بالعلم الإجمالی کما هو الحال فی الأمثلة العادیة من دون افتراض علمٍ تفصیلی بطرفٍ معیّنٍ، فی الأمثلة العادیة للعلم الإجمالی کلا الطرفین قابل للتنجّز، إذن: الجامع المعلوم بالإجمال الذی یقبل الانطباق علی هذا، ویقبل الانطباق علی ذاک أیضاً یکون قابلاً للتنجّز، فلا مشکلة فی تنجیز العلم الإجمالی لهذا الجامع. وأمّا إذا فرضنا أنّ العلم الإجمالی غیر قابلٍ لأن یُنجّز الطرفین، الطرفان غیر قابلین لأن یتنجزا، أو أحد الطرفین غیر قابلٍ لأن یتنجّز کما فی محل الکلام، المعلوم بالتفصیل بعد فرض قیام العلم التفصیلی غیر قابل لأن ینجّزه العلم الإجمالی؛ لقاعدة أنّ المنجّز لا یُنجّز مرةً أخری، هذا الطرف تنجّز بالعلم التفصیلی، فکیف یُعقل أن یکون العلم الإجمالی أیضاً منجّزاً له ؟! إذن: أحد طرفی العلم الإجمالی غیر قابلٍ للتنجّز، وهذا معناه أنّ الجامع غیر قابلٍ للتنجّز، فإذا کان الجامع غیر قابلٍ للتنجّز، فهذا معناه أنّ العلم الإجمالی سقط عن التنجیز، وانحلّ انحلالاً حکمیاً. هذا هو البرهان، وهذا البرهان لم یستعن بأیّ قاعدةٍ شرعیةٍ، ولم یستعن بالأصول الشرعیة المؤمّنة، وإنّما استعان فقط بالأحکام العقلیة، الجامع هو المعلوم بالإجمال، ومعلوم بالإجمال بحدّه الجامعی، الذی یعنی أنّه یقبل الانطباق علی هذا، ویقبل الانطباق علی هذا، هذا الجامع بحدّه الجامعی إنّما یقبل التنجّز عندما یکون کلا طرفیه قابلاً للتنجّز، یُنجّز معلومه علی کلا التقدیرین، سواء کان هنا، أو کان هناک. فإذن: هذا قابل للتنجّز وهذا قابل للتنجّز، فالجامع یکون قابلاً للتنجّز، فینجّزه العلم الإجمالی.

ص: 85

أمّا إذا فرضنا أنّ أحد الطرفین غیر قابلٍ للتنجّز باعتبار کونه منجّزاً بمنجّزٍ آخر، الذی هو العلم التفصیلی، فیکون المعلوم بالتفصیل غیر قابلٍ للتنجّز، وهذا یخلّ بالقاعدة؛ لأنّ الجامع لا یصبح قابلاً للتنجّز بخروج بعض أطرافه عن کونه قابلاً للتنجّز، ومعنی أنّ العلم الإجمالی لا یمکن أن ینجّز الجامع هو أنّ هذا العلم الإجمالی انحلّ انحلالاً حکمیاً. هذا هو الوجه الذی یقال فی محل الکلام.

من الواضح أنّ هذا الوجه یعتمد علی قاعدة أنّ المنجّز لا یقبل التنجیز، وکأنّه قیاس محل الکلام بالأمور التکوینیة الأخری، فیقال أنّ الشیء الذی تنجّز بمنجّز لا یقبل التنجیز مرّة أخری.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

الکلام فی انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی حکماً: من الموارد التی لا ینحل بها حقیقة، وبلحاظ القواعد العقلیة، وبقطع النظر عن الأصول الشرعیة المؤمّنة. قلنا أنّه ذُکر أنّ القواعد العقلیة فی المقام تقتضی الانحلال الحکمی، بمعنی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، وإن کان موجوداً حقیقة؛ لأنّ المفروض عدم الانحلال الحقیقی، لکنّه یسقط عن التأثیر والمنجّزیة؛ وذلک بالدلیل الذی تقدّم فی الدرس السابق، وکان حاصله: أنّ العلم الإجمالی یستحیل أن یُنجّز الجامع فی محل الکلام، یعنی فی موارد وجود العلم التفصیلی؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعی القابل للانطباق علی کلٍ من الطرفین، وقابلیة هذا الجامع بهذا الشکل للتنجیز فرع قابلیة کلا الطرفین لقبول التنجیز، عندما یکون کلا الطرفین قابلاً للتنجیز؛ عندئذٍ یکون الجامع قابلاً للتنجیز، فیمکن للعلم الإجمالی أن ینجّز الجامع. أمّا إذا کان أحد الطرفین غیر قابلٍ للتنجیز، باعتبار أنّه تنجّز بمنجّزٍ آخر وهو العلم التفصیلی؛ حینئذٍ لا یکون کلا الطرفین قابلاً للتنجیز، وبالتالی لا یکون الجامع قابلاً للتنجیز، فمثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً للجامع، وإذا لم یکن منجّزاً للجامع، هذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالی فقد أثره، ولم یکن منجّزاً فی محل الکلام، وإن کان هو باقٍ حقیقةً، لکنّه لا یکون منجّزاً للطرفین فی هذا الفرض.

ص: 86

هذا الدلیل یتوقّف علی تسلیم مقدّمتین:

المقدّمة الأولی : أنّ العلم الإجمالی لو نجّز الجامع، لسری هذا التنجیز إلی کلٍ من الطرفین علی نحو البدل، فی المثال السابق الجامع المعلوم بالإجمال هو نجاسة أحد الإناءین، وانطباق هذا الجامع علی الطرفین یکون بنحو البدلیة، فإذا تنجّز الجامع؛ حینئذٍ سری التنجیز إلی الطرفین بنحو البدلیة، بمعنی أنّه یتنجّز هذا الطرف، لو کان هو النجس واقعاً، وذاک الطرف لو کان هو النجس واقعاً، وهذا هو معنی أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، سواء کان فی هذا الطرف، أو کان فی ذاک الطرف؛ لأنّ العلم الإجمالی إذا نجّز الجامع، قهراّ، هذا التنجیز یسری من الجامع إلی کلا الطرفین، لکن علی نحو البدلیة.

المقدمّة الثانیة: أنّ الطرف لا یقبل التنجّز إذا کان منجّزاً بمنجّزٍ آخر؛ لاستحالة اجتماع منجّزین علی شیءٍ واحد، نظیر اجتماع علّتین علی معلول واحد.

إذا تمّت هاتان المقدّمتان، بمعنی أنّ التنجیز لو ثبت للجامع لسری إلی کلا الطرفین، هذا من لوازم تنجیز الجامع، وأنّ التنجیز یسری إلی کلا الطرفین، لکن علی نحو البدلیة، وثبت أنّ ما یتنجّز بمنجّزٍ لا یقبل التنجیز مرّةً ثانیة، إذا تمّت هاتان المقدّمتان؛ حینئذٍ یثبت أنّ العلم الإجمالی یکون ساقطاً عن المنجّزیة، ویکون غیر مؤثرٍ فی تنجیز الجامع؛ لأنّه لو نجّز الجامع لسری التنجیز إلی کلا الطرفین علی نحو البدلیة، ولکان منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، وحیث أنّ أحد الطرفین قد تنجّز بالعلم التفصیلی، والمقدّمة الثانیة تقول أنّ المنجّز بعلمٍ تفصیلی لا یقبل التنجیز مرّةً ثانیة، وأحد الطرفین قد تنجّز بعلمٍ تفصیلی، فأحد الطرفین لا یقبل التنجیز بالعلم الإجمالی، وهذا یکشف عن أنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً للجامع، وبعد هذا یفقد أثره، وهو معنی الانحلال.

ص: 87

ولکن، کلتا هاتین المقدّمتین محل کلام، لا المقدّمة الأولی مسلّمة، ولا المقدّمة الثانیة مسلّمة. أمّا المقدّمة الأولی؛ فلأن الجامع فی محل الکلام عندما یتعلّق به العلم الإجمالی مفاده مفاد النکرة، یُلحظ بنحو صرف الوجود، ولا یُلحظ بنحو مطلق الوجود والسریان کل عارض یعرض علی الجامع، إنّما یتحتم سریانه إلی أفراده عندما یلحظ الجامع بنحو مطلق الوجود، من قبیل(أکرم کل عالم)، أو (أکرم العالم) إذا لوحظ العالم بنحو مطلق الوجود، هذا الوجوب الذی یعرض علی الجامع هو فی الحقیقة یسری إلی أفراد ذلک الجامع. وأمّا إذا کان الجامع ملحوظاً بنحو صرف الوجود لا مطلق الوجود، هذا أول الکلام بأنّ العارض یسری من الجامع إلی الأطراف علی نحو البدلیة، هذا محل کلامٍ، ولیس واضحاً، إذا قال:(أعتق رقبة)، ثبت وجوب عتق رقبة بنحو صرف الوجود، دعوی أنّ هذا الوجوب یسری من الجامع إلی جمیع أفراد الرقبة علی نحو البدلیة، هو أوّل الکلام ومحل کلامٍ، ولیس واضحاً، وما نحن فیه من هذا القبیل، الجامع عندما یتعلّق به العلم یُلحظ بنحو صرف الوجود لا بنحو مطلق الوجود، فلا وضوح فی أنّ التنجیز الثابت لهذا الجامع والعارض لهذا الجامع، من لوازمه أن یسری إلی أفراد ذلک الجامع علی نحو البدلیة، بحیث إذا لم یسرِ إلی فردٍ من أفراده، واستحال أن یثبت التنجیز لفردٍ من أفراده وطرفاً من أطرافه، نستکشف أنّ الجامع لم یثبت له التنجیز کما هو المُدّعی فی المقام؛ لأنّ هذا فرع الملازمة بین ثبوت التنجیز للجامع وبین سریان الوجوب إلی أفراد وأطراف ذلک الجامع علی نحو البدلیة، فإذا لم یثبت التنجیز لطرفٍ من الأطراف، نستکشف أنّ التنجیز لیس ثابتاً للجامع، هذا غیر تام فی محل الکلام؛ لأنّ الجامع فی محل الکلام یؤخذ بنحو صرف الوجود والسریان لیس تامّاً فی هذه الحالة، وإنّما یکون تامّاً عندما یؤخذ الجامع بنحو مطلق الوجود کما فی(أکرم العالم) وأمثاله، عندما یؤخذ بنحو مطلق الوجود، ما یعرض علی الجامع یعرض علی أفراده، أمّا بنحو صرف الوجود، فهذا لیس تامّاً. هذا بالنسبة إلی المقدّمة الأولی.

ص: 88

أمّا بالنسبة إلی المقدّمة الثانیة التی تقول بأنّ القول بأنّ الطرف إذا تلقّی التنجیز من منجّزٍ یستحیل أنّ یتنجّز بمنجّزٍ آخر، فقد نوقش فیها من جهتین:

الجهة الأولی: لماذا لا نتعامل مع محل الکلام کما نتعامل فی سائر الأمور التکوینیة والظواهر الطبیعیة، حیث أنّهم یلتزمون فی الأمور التکوینیة بأنّه عندما تجتمع علّتان مستقلّتان علی معلولٍ واحد یلتزمون بالتوحّد، بأن تتحوّل کل علّةٍ من هاتین العلّتین المستقلّتین إلی جزء العلّة، ویکوّنان بمجموعها علّة واحدة، وکلّ علّة مستقلّة لو کانت وحدها فی حال اجتماعها مع العلّة الأخری تتحوّل إلی جزء العلّة، فتکون هناک علّة واحدة هی عبارة عن المجموع من هاتین العلّتین المستقلّتین، هکذا یتعاملون مع الظواهر التکوینیة والأسباب الطبیعیة، فلماذا لا نتعامل فی محل الکلام هذه المعاملة ؟ فنقول: لا ضیر فی أن یتلقّی الطرف المعلوم بالتفصیل التنجّز من کلٍ من العلم الإجمالی والعلم التفصیلی ؟ بأنّ یکون کلاً منهما جزء العلّة المؤثرة فی التنجیز؛ لأنّه اجتمع فیه علّتان، العلم الإجمالی ___________ إذا سلّمنا السریان __________ والعلم التفصیلی. إذن: لا مشکلة فی أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، مؤثراً فی التنجیز علی کلّ تقدیر، سواء کان معلومه متحققاً فی هذا الطرف، المعلوم بالتفصیل، أو متحققاً فی الطرف الآخر. إذن: یمکن أن یکون الجامع قابلاً للتنجیز؛ لأنّ کلا طرفیه قابل لأن یتنجّز بالعلم الإجمالی، غایة الأمر أنّ هذا التنجّز بالعلم الإجمالی یکون علی نحو العلّیة المستقلّة بلحاظ الطرف الآخر، وعلی نحو جزء العلّة بلحاظ المعلوم بالتفصیل، لکن یبقی العلم الإجمالی مؤثراً فی التنجیز، سواء کان معلومه متحققاً فی هذا الطرف، أو کان معلومه متحققاً فی الطرف الآخر، وهذا معناه أنّ الجامع قابل للتنجیز، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً للجامع، ولا یفقد هذا التنجیز بمقتضی ما ذُکر. لماذا لا یُتعامَل مع المقام کما تعاملوا مع الأسباب التکوینیة ؟ بل التزموا بذلک فی بعض الموارد کمادّة الاجتماع إذا کان بینهما عموم وخصوص من وجه، فی مادّة الاجتماع یقولون الملاک یتحول إلی جزء العلّة، إذا قال(أکرم عالم)، أو (أکرم هاشمی) وجب إکرام العالم، ووجب إکرام الهاشمی، واجتمعا فی مادّة اجتماع العالم الهاشمی، یحصل توحّد، ویثبت فیه ملاکان، کل ملاکٍ لو کان وحده لکان مستقلاً ومؤثراً فی الوجوب ومبادئ الوجوب من الحب والإرادة......الخ. لکن عندما یجتمعان یتحوّل کلٌ منهما إلی جزء العلّة، بحیث هذا یکون مؤثراً، وذاک أیضاً یکون مؤثراً.

ص: 89

الجهة الثانیة: أنّ الصحیح فی المقام هو أنّ المقام لیس کالأسباب التکوینیة والظواهر الطبیعیة، تنجیز العلم الإجمالی باب مستقل لا یمکن أن نقیسه علی الأسباب الطبیعیة والظواهر التکوینیة بحیث نقول إذا اجتمع سببان علی معلولٍ واحد؛ فحینئذٍ یستحیل بقاء کلّ واحدٍ منهما علی کونه علّة تامّة؛ لأنّه یلزم من ذلک اجتماع سببین علی مسبّب واحد، اجتماع علّتین علی معلولٍ واحد؛ فحینئذٍ لابدّ أن نرفع الید عن تأثیر أحدهما، فنقول أنّ أحدهما لیس مؤثراً، وإلاّ یلزم اجتماع علّتین علی معلول واحد، فیُدّعی فی المقام ____________ مثلاً ____________ بأنّ العلم الإجمالی یصبح فاقداً للتأثیر، فی موارد العلم التفصیلی یفقد تأثیره ولا یکون مؤثراً فی التنجیز، فیثبت الانحلال الحکمی، أو یأتی الجواب السابق وهو أن ندمج أحدهما بالآخر فیکون المجموع هو المؤثر، ویکون کلٌ منهما جزء علّة، فتکون العلّة واحدة هی عبارة عن مجموع الأمرین حتّی یترتّب علیه عدم الانحلال.

هذا کلّه ___________ سلب التأثیر عن العلم الإجمالی، وإبقاء العلم التفصیلی هو المؤثر فی التنجیز فی هذا الطرف، أو دعوی أنّ المجموع هو المؤثر فی تنجیز هذا الطرف، بأن یکون کلٌ منهما جزء العلّة ___________ هذا کلّه فرع قیاس المقام بالأسباب التکوینیة والمظاهر التکوینیة الطبیعیة، لکن الصحیح أنّ المقام لیس من هذا القبیل، باب التنجیز فی محل الکلام باب مستقل، بابه باب لابدّ أن یُراجع فیه العقل العملی المدرک لحق المولویة وحق الطاعة، ماذا یدرک العقل بالنسبة إلی حق المولویة ؟ فنطرح هذه الأسئلة: أنّ العقل العملی هل یدرک أنّ ما یدخل فی حق المولویة، ویدخل فی حق الطاعة هو خصوص التکالیف الواصلة إلی المکلّف بالعلم، او هو یدرک ثبوت حق الطاعة والمولویة للمولی(سبحانه وتعالی) فی کلّ تکلیفٍ، حتّی لو کان محتملاً ؟ علی التقدیر الأوّل، إذا کان یُدرک اختصاص ما یدخل دائرة حق الطاعة هی التکالیف المعلومة للمکلّف، هذا هل یشمل العلم الإجمالی، أو یختص بالعلم التفصیلی، یعنی فقط التکالیف الواصلة بالعلم التفصیلی تدخل فی دائرة حق الطاعة بنظر العقل، أو أنّ هذا یشمل حتّی التکالیف الواصلة بالعلم الإجمالی ؟ علی التقدیر الثانی، إذا کان یشمل التکالیف الواصلة بالعلم الإجمالی، کما هو الظاهر، وهو الصحیح؛ حینئذٍ لابدّ أن نطرح سؤالاً آخر، وهو أنّ هذا التکلیف الواصل بالعلم الإجمالی یبقی فی دائرة حق الطاعة حتّی إذا تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه، أو یخرج عن دائرة حق الطاعة إذا تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه ؟ النتیجة تکون مترتبة علی الجواب علی هذه الأسئلة، إذا قلنا بالأخیر، بلا إشکال ما یدرکه العقل من حق الطاعة لا تختص دائرته بالتکالیف الواصلة بالعلم التفصیلی، وإنّما یشمل التکالیف الواصلة بالعلم الإجمالی، لکن هل التکلیف الواصل بالعلم الإجمالی یبقی فی دائرة حق الطاعة فی نظر العقل حتّی إذا تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه ؟ إذا قلنا أنّه یبقی، فهذا یعنی عدم الانحلال؛ لأنّ العلم الإجمالی یبقی داخلاً فی دائرة حق الطاعة، ویبقی منجزّاً بالرغم من تحقق العلم التفصیلی ببعض أطرافه، وأمّا إذا قلنا أنّ التکلیف الواصل بالعلم الإجمالی یخرج عن دائرة حق الطاعة إذا تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه، وهذا معناه الانحلال، فلابدّ من الرجوع إلی ما یدرکه العقل العملی من حقّ الطاعة، ودائرة حقّ الطاعة، وحدود حقّ المولویة للمولی(سبحانه وتعالی)، لیس لنا علاقة ببعض الأسباب التکوینیة والظواهر الطبیعیة حتّی نقول أنّ هذا یجبرنا علی رفع الید عن تأثیر العلم الإجمالی، ویبقی العلم التفصیلی هو المؤثر فی هذا الطرف، وهذا یساوق الانحلال الحکمی، أو نجمع المجموع ونقول أنّهما علّة واحدة، فیکون کل منهما مؤثراً حتّی نثبت الانحلال، الأمر لا علاقة له بالأسباب والظواهر الطبیعیة، لابدّ أن نرجع إلی العقل لنری ماذا یحکم. بناءً علی هذا الکلام؛ حینئذٍ نقول فی المقام: إن آمنّا بفکرة منجّزیة الاحتمال عقلاً، یعنی آمنّا بمسلک(حق الطاعة)، وأنکرنا قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ فحینئذٍ تُحلّ المسألة وتکون واضحة، والذی لابدّ أن یُلتزم به علی ضوء ذلک هو عدم الانحلال؛ لأنّ الاحتمال منجّز، احتمال التکلیف یکفی فی دخول التکلیف فی دائرة حق الطاعة وفی تنجیزه؛ فحینئذٍ لا إشکال فی عدم الانحلال؛ لأنّ التکلیف فی الطرف الآخر ینجّز، وهو مساوق لعدم الانحلال، الکلام لیس فی ما إذا آمنّا بمنجّزیة الاحتمال، وإنّما إذا آمنّا بقاعدة قبح العقاب بلا بیان کقاعدةٍ عقلیةٍ؛ حینئذٍ فی محل الکلام ما هو الصحیح ؟ هل نؤمن بالانحلال الحکمی ؟ یعنی سقوط العلم الإجمالی عن قابلیة التنجیز فی هذه الحالة ؟ أو نؤمن بعدم الانحلال الحکمی ؟ یعنی یبقی العلم الإجمالی قابلاً للتنجیز ؟ هذا فی الحقیقة یرتبط بما تقدّم بحثه فی العلم الإجمالی من أنّ العلم الإجمالی هل هو علمٌ بالجامع، أو هو علم بالواقع ؟ إذا کان العلم الإجمالی علماً بالواقع، هذا معناه أنّه ینجّز الواقع علی واقعه الذی هو مجهول ومردد لدیّ، لکنّه ینجّز الواقع علیّ؛ ولذا یجب علیّ موافقته قطعاً، یعنی تجب علیّ الموافقة القطعیة بقطع النظر عن تعارض الأصول، حتّی لو لم تتعارض الأصول، العلم الإجمالی ینجّز الواقع علی واقعه، ویُدخل الواقع فی عهدة المکلّف، فتجب علیه موافقته القطعیة، أمّا إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی لیس علماً بالواقع، وإنّما هو علم بالجامع، إذن، هو بما هو علم إجمالی لا ینجّز علیّ وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما غایة ما ینجّز علیّ وجوب الموافقة الاحتمالیة، أو قل ینجّز علیّ حرمة المخالفة القطعیة، ولا ینجّز علیّ وجوب الموافقة القطعیة کعلمٍ إجمالی.

ص: 90

نعم، تجب الموافقة القطعیة باعتبار تعارض الأصول، وتساقطها، فیبقی هذا الطرف بلا مؤمّن؛ فحینئذٍ یجب.

الأمر فی مسألة الانحلال وعدمه یرتبط باختیار أحد هذین المسلکین الّذین تقدّمت الإشارة إلیهما سابقاً، إن بنینا علی أنّ العلم الإجمالی علم بالجامع؛ حینئذٍ یکون الانحلال الحکمی متوجّهاً؛ لأنّ ما ینجّزه العلم الإجمالی هو الجامع، وهذا معناه أنّ ما زاد علی الواحد من الطرفین یکون مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بیان المؤمّنة؛ لأنّ العلم الإجمالی لا ینجّز أکثر من الجامع، والجامع یکفی فیه الإتیان بأحد الطرفین، ولا ینجّز علیّ أکثر من الجامع الذی ینطبق علی هذا الطرف، وینطبق علی هذا الطرف. إذن: ما زاد علی الواحد منهما هو ذاک الذی تحت قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ ولذا لو فرضنا أنّ المکلّف ارتکب کلاً من الطرفین، وصادف أنّ کلاً منهما کان حراماً واقعاً؛ فحینئذٍ لا یستحق المکلّف إلاّ عقاباً واحداً، وهو العقاب علی مخالفة الحرام الواقعی الذی ینطبق علیه الجامع؛ لأنّ العلم الإجمالی لم ینجّز علیه إلاّ الجامع، فلو ارتکبهما معاً وصادف أنّ کلاً منهما کان حراماً واقعاً، لن یستحق إلاّ عقاباً واحداً؛ لأنّ ما تنجّز علیه هو الواحد، وما زاد علیه فهو مشمول لقاعدة قبح العقاب بلا بیان. هذا معنی أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، فإذا فی هذه الحالة افترضنا أنّ العلم التفصیلی جاء ونجّز أحد الطرفین بعینه، ما عدا هذا یبقی مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ ما زاد علی الواحد مشمول للتأمین الثابت بهذه القاعدة، والمفروض أننا نؤمن بهذه القاعدة، ولا موجب لتنجیزه، فیثبت الانحلال الحکمی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

ص: 91

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق أنّه فی مسألة الانحلال الحکمی حیث لا یثبت انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، هذا شیء یرتبط بما یُختار فی ما یدرکه العقل، أنّ العقل هل یدرک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، أو لا یدرکها، وإنّما یدرک منجّزیة الاحتمال، وینکر قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فإذا أنکر قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فعدم الانحلال بلحاظ القواعد العقلیة ینبغی أن یکون واضحاً؛ لأنّ احتمال التکلیف منجّز. نعم بناءً علی الإیمان بقاعدة قبح العقاب بلا بیان قلنا بأنّ الأمر یرتبط بمسألة تقدّمت الإشارة إلیها وهی کیفیة تفسیر العلم الإجمالی ؟ هل هو علم بالجامع فقط، بحیث لا ینجّز أکثر من الجامع بحدّه الجامعی ؟ وهذا معناه أنّه لا ینجّز ابتداءً وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما یتنجّز وجوب الموافقة القطعیة باعتبار تعارض الأصول، أو أنّ العلم الإجمالی ینجّز الواقع علی واقعه ویدخله فی العهدة بحیث تجب الموافقة القطعیة لأجل العلم الإجمالی بقطع النظر عن تعارض الأصول، حتّی إذا لم تتعارض الأصول وکان یمکن إجراء الأصل فی أحد الطرفین بلا معارضٍ مع ذلک لا یمکن إجراء هذا الأصل.

فإن قلنا: أنّالعلم الإجمالی هو علمٌ بالجامع فقط، ذکرنا فی الدرس السابق أنّه حینئذٍ یُلتزَم بالانحلال الحکمی، باعتبار أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز إلاّ الجامع بحدّه الجامعی الذی ینطبق علی کلّ واحد من الطرفین؛ ولذا لا تجب إلاّ الموافقة الاحتمالیة، ولا تجب الموافقة القطعیة، وأمّا ما عدا هذا الواحد الذی ینطبق علیه الجامع فهو مورد للتأمین بقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ العلم الإجمالی هو المنجّز، والمفروض أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز إلاّ الجامع الذی ینطبق علی واحدٍ من الطرفین، ما عدا الواحد من الطرفین هو مورد للأصل المؤمّن العقلی __________ بحسب الفرض ____________، قلنا فی الدرس السابق بحیث أنّه لو ارتکبهما وکانا فی الواقع محرمین، هو لا یستحق إلاّ عقاباً واحداً؛ لأنّ ما زاد علی الواحد هو مؤمّن عنه بقاعدةٍ عقلیةٍ ____________ بحسب الفرض _____________ هو لا یستحق العقاب علیه حتّی لو صادف الحرام الواقعی، وهذا معناه الانحلال الحکمی، هذا معناه أنّ ما زاد علی الواحد مورد للأصل المؤمّن، فیکون العلم الإجمالی منحلاً انحلالاً حکمیاً. هذا بناءً علی تفسیر العلم الإجمالی بأنّه علم بالجامع.

ص: 92

وأمّا إذا قلنا: أنّالعلم الإجمالی هو علمٌ بالواقع، بحیث تجب موافقته القطعیة بقطع النظر عن تعارض الأصول، فالظاهر فی المقام هو عدم الانحلال، یعنی یبقی العلم الإجمالی منجّزاً للطرف الآخر؛ لأنّه إذا نجّز العلم الإجمالی الواقع علی واقعه الذی هو مجمل عندی ____________ بحسب الفرض ____________ أحد محتملات الواقع هو أنّه ینطبق علی الطرف الآخر غیر المعلوم بالتفصیل، بلا إشکال أنا احتمل أنّ الواقع الذی تنجّز علیّ بالعلم الإجمالی یحتمل انطباقه علی الطرف الآخر غیر المعلوم بالتفصیل، فیکون هو المنجّز بالعلم الإجمالی علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال المتحقق فی الطرف الآخر، یکون الطرف الآخر هو المنجّز بالعلم الإجمالی، ما عدا ذلک الطرف الآخر ___________ المنجّز بالعلم الإجمالی علی هذا التقدیر ___________ الذی تعلّق به العلم التفصیلی، لولا العلم التفصیلی لکان مورداً للتأمین، لکنّ العلم التفصیلی نجّزه، لکن من الواضح أنّ تنجّز أحد الطرفین بالعلم التفصیلی لا یُخرِج الطرف الآخر عن کونه منجّزاً؛ إذ لا موجب لخروجه عن کونه منجّزاً، لا موجب لخروجه عن التنجیز بمجرد حصول علمٍ تفصیلیٍ بأحد الطرفین بعینه، وهذا معناه أنّ الطرف الآخر یبقی علی المنجّزیة؛ لأنّ العلم الإجمالی هو علم بالواقع، وهو ینجّز الواقع، وینجّز وجوب الموافقة القطعیة للمعلوم بالإجمال، علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال متحققاً فی الطرف الآخر، والعلم الإجمالی ینجّز الطرف الآخر، وهذا الطرف تنجّز بالعلم الإجمالی، فلو ارتکبهما فی هذه الحالة استحقّ عقابین، عقاب علی مخالفة ما تنجّز بالعلم التفصیلی، وعقاب علی مخالفة ما تنجّز بالعلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی ینجّز الواقع علی واقعه، وأحد محتملات ذلک أنّ المعلوم بالإجمال یتحققّ فی الطرف الآخر، فالطرف الآخر یتلقّی التنجیز من العلم الإجمالی، وهذا الطرف یتلقّی التنجیز من العلم التفصیلی، فیستحق عقابین، ولا موجب لخروج الطرف الآخر عن التنجیز بمجرد أنّ قام العلم التفصیلی علی هذا الطرف، العلم التفصیلی ینجّز هذا الطرف، والطرف الآخر یتنجّز بالعلم الإجمالی، وهذا هو معنی عدم الانحلال.

ص: 93

إذن: القضیة ترتبط بما یُختار من أنّ العلم الإجمالی هل هو علمٌ بالجامع، أو هو علمٌ بالواقع ؟ هذا کلّه بلحاظ الانحلال الحقیقی بالعلم التفصیلی بلحاظ الأصول والقواعد العقلیة، وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعیة، تکلّمنا عن الانحلال الحقیقی، وتکلّمنا بعد ذلک عن الانحلال الحکمی بلحاظ القواعد العقلیة، وبقطع النظر عن الأصول الشرعیة.

الآن نتکلّم عن الانحلال الحکمی بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعیة، هل یتحقق الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی ؟ حیث لا زلنا نتکلّم عن علمٍ إجمالیٍ تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه المعیّن، تکلّمنا أولاً عن انّه هل ینحلّ انحلالاً حقیقیاً، أو لا ؟ ثمّ تکلّمنا فی موارد عدم الانحلال الحقیقی، هل ینحل بالعلم التفصیلی انحلالاً حکمیاً بلحاظ الأصول والقواعد العقلیة ؟ والآن نتکلّم عن انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی انحلالاً حکمیاً بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعیة. هذا الجواب عن السؤال أنّه ینحل حکماً، أو لا ینحل حکماً بلحاظ القواعد المؤمّنة الشرعیة یرتبط بما یُختار فی مسألة أنّ العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة ؟ کما ذهب إلی ذلک المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی ما تقدّم، أو أنّه مقتضٍ لذلک ؟ بمعنی أنّه لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة ابتداءً، وإنّما ینجّزها بتوسّط تعارض الأصول فی الأطراف ؟ هذان المسلکان المعروفان فی هذا الباب، هل العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، أو هو مقتضٍ له ؟

فإذا قلنا بالاقتضاء، فالصحیح هو الانحلال الحکمی، أی ینحلّ العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً بالعلم التفصیلی، باعتبار عدم تعارض الأصول مع افتراض تعلّق العلم التفصیلی بأحد الأطراف المعیّن، وهذا أمر واضح، باعتبار أنّ الأصل المؤمّن لا یجری فی الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی، باعتبار أنّ موضوع الأصل یرتفع مع العلم التفصیلی؛ لأنّ موضوع الأصل هو الشکّ، ومع العلم التفصیلی لاشکّ، فیرتفع موضوع الأصل، فلا یجری الأصل فی الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی.

ص: 94

یُضاف إلی ذلک أنّه لا مانع من جریان الأصل فی الطرف الآخر، هذا الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی لا یجری فیه الأصل لعدم تحقق موضوعه، وفی نفس الوقت لا مانع من جریان الأصل فی الطرف الآخر، لیس هناک مانع فی مقام الإثبات یمنع من ذلک، باعتبار أنّ المفروض أنّ الأصل فی الطرف الآخر لیس له معارض؛ لأنّنا قلنا أنّ الأصل لا یجری فی الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی لارتفاع موضوعه؛ لذا لا یوجد مانع یمنع إثباتاً من جریان الأصل فی الطرف الآخر، ولا یوجد أیضاً قصور فی لسان دلیله یمنع من شموله للطرف الآخر، کما أنّه لا مانع ثبوتی یمنع من جریانه فی الطرف الآخر؛ لأنّ المانع الوحید المتصوّر الذی یمنع من جریانه فی الطرف الآخر هو البناء علی مسلک العلّیة التامّة، إذا بنینا علی مسلک العلّیة التامّة، فأنّه یمنع من جریان الأصل فی الطرف الآخر حتّی لو لم یکن له معارض؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فالمانع الثبوتی المتصوّر من جریان الأصل فی الطرف الآخر هو البناء علی مسلک العلّیة التامّة، والمفروض أننا نتکلّم بناءً علی مسلک الاقتضاء .

إذن: علی مسلک الاقتضاء لابدّ أن نلتزم بالانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، باعتبار جریان الأصل المؤمّن الشرعی فی الطرف الآخر بلا معارضٍ؛ لأنّ الأصل المؤمّن لا یجری فی الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی بلا إشکال؛ لعدم تحقق موضوعه. فإذن، بناءً علی الاقتضاء لابدّ أن نلتزم بالانحلال الحکمی، فیجری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز حکماً.

وأمّا بناءً علی مسلک العلّیة التامّة، فالظاهر؛ بل الصحیح أنّه لا مجال للانحلال الحکمی بالأصل المؤمّن الشرعی؛ وذلک لوضوح أنّه علی هذا المسلک لا یجری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر حتّی لو لم یکن له معارض، هناک مانع ثبوتی یمنع من جریان الأصل فی الطرف الآخر حتّی لو لم یکن له معارض؛ لأنّ هذا هو معنی مسلک العلّیة التامّة، أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فهو یمنع من إجراء الأصل فی کلّ طرفٍ بقطع النظر عن التعارض، والسرّ فیه هو أنّه ما دام یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف هذا یکون منجّزاً علی المکلّف؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فإذن، بناءً علی الاقتضاء لابدّ من الانحلال الحکمی، وبناءً علی القول بالعلّیة التامّة لا مجال للانحلال الحکمی، فالأصل لا یجری فی الطرف الآخر بناءً علی العلّیة التامّة، ویجری فی الطرف الآخر بناءً علی القول بالاقتضاء.

ص: 95

نعم، المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یقول بمسلک العلّیة التامّة حاول إثبات الانحلال الحکمی بناءً علی مسلک العلّیة التامّة بلحاظ القواعد العقلیة ولیس بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعیة، یعنی بقطع النظر عن الأصول المؤّمنة الشرعیة هو حاول إثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بلحاظ القواعد العقلیة، وفی البحث السابق ذکرنا أنّ هناک محاولة لإثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بلحاظ القواعد العقلیة، وحاصل هذه المحاولة تقدّم نقلها مفصلاً، وحاصلها: أنّه یدّعی أنّ من شرائط تنجیز العلم الإجمالی هو أنّه لابدّ أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، سواء کان فی هذا الطرف، أو کان فی ذاک الطرف، فإذا فرضنا أنّ أحد طرفیه کان منجّزاً بالعلم التفصیلی کما هو المفروض ___________ فی محل الکلام ___________ فحینئذٍ لا یمکن للعلم الإجمالی أن ینجّز معلومه فی ذلک الطرف؛ لاستحالة اجتماع منجّزین علی شیءٍ واحد، هذا الطرف تلقّی التنجیز من العلم التفصیلی؛ حینئذٍ لیس للعلم الإجمالی قابلیة تنجیز معلومه فی هذا الطرف؛ لأنّه تلقّی التنجیز من العلم التفصیلی، والمتنجّز بالعلم التفصیلی لا یقبل التنجّز مرّةً أخری.

فإذن: العلم الإجمالی لیس صالحاً لتنجیز معلومه علی کلّ تقدیر، وإنّما هو صالح لتنجیز معلومه علی تقدیر واحدٍ، وهو أن یکون معلومه فی الطرف الآخر. أمّا إذا کان معلومه فی هذا الطرف، فالعلم الإجمالی لیس صالحاً لتنجیز معلومه فیه؛ لأنّه تلقّی التنجیز من العلم التفصیلی، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، فینحلّ انحلالاً حکمیاً، لکن بلحاظ القواعد العقلیة، وقبل الوصول إلی الأصول الشرعیة.

هذه محاولة من المحقق العراقی(قدّس سرّه) لإثبات الانحلال الحکمی بقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعیة عن طریق إثبات قصور فی العلم الإجمالی، أنّ العلم الإجمالی قاصر عن إثبات التنجیز؛ لأنّه لا یصلح لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، بضمیمة أنّ المتنجّز لا یتنجّز مرّة أخری، فحاول إثبات الانحلال الحکمی، لکن بلحاظ القواعد العقلیة. وقد تقدّم مناقشة هذه المحاولة مفصّلاً ولا حاجة إلی الإعادة. قلنا أنّ هذا الدلیل یبتنی علی مقدّمتین، وکلٌ منهما محل کلامٍ. وبناءً علی هذا ینبغی أن نقول: بناءً علی مسلک العلّیة التامّة لا یوجد انحلالٌ حکمی. نعم بناءً علی القول بالاقتضاء یتحقق الانحلال الحکمی.

ص: 96

قبل الانتقال إلی البحث الآخر، وهو فی الانحلال بالإمارات والأصول ولیس انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی الذی کنّا إلی الآن نتکلّم فیه، ننتقل إلی علمٍ إجمالی قامت إمارة علی أحد طرفیه المعیّن، أو أصل شرعی، أو عقلی نجّز التکلیف فی طرفٍ بعینه، فیقع الکلام فی أنّه هل ینحلّ العلم الإجمالی بقیام إمارةٍ، أو أصلٍ عقلی، أو شرعی علی بعض أطرافه، أو لا ینحل ؟ قبل هذا لابدّ من بیان مطلبٍ مهمٍ وله ثمرة عملیة، وهو أنّ هناک فرقاً بین الانحلال الحقیقی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی وبین الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، وحاصل هذا الفرق هو: فی موارد تحقق الانحلال الحقیقی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی یُشترط أن لا یکون المعلوم بالتفصیل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال، وهذا شرط اساسی فی الانحلال الحقیقی، وأمّا إذا کان المعلوم بالتفصیل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال هنا لا یتمّ الانحلال الحقیقی.

(مثلاً): إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد إناءین فی أول النهار، وعلمنا تفصیلاً بنجاسة الإناء المعیّن منهما آخر النهار، هنا یکون المعلوم بالتفصیل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال، فی هذه الحالة لا یتمّ الانحلال الحقیقی؛ بل یبقی العلم الإجمالی علی حاله ولا ینحلّ انحلالاً حقیقیاً لوضوح أنّ المعلوم التفصیلی لیس مصداقاً للمعلوم بالإجمال، فلا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أو قل بعبارةٍ أخری: لا یسری العلم من الجامع إلی الفرد؛ لأنّ شرط الانحلال الحقیقی هو انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أن یکون المعلوم بالتفصیل مصداقاً حقیقیاً للمعلوم بالإجمال، وهذا یُشترط فیه أن لا یتأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال، وإلاّ إذا تأخّر صار شیئاً آخر، ما أعلمه بالإجمال هو نجاسة أحد إناءین فی أول النهار، وما أعلمه بالتفصیل هو نجاسة هذا الإناء بعد ذلک بعشر ساعات، نجاسة هذا الإناء المعلوم بالتفصیل فی آخر النهار لیس مصداقاً حقیقیاً للمعلوم بالإجمال، فلا ینطبق علیه المعلوم بالإجمال، ولا یسری العلم من الجامع إلی الفرد، وهذا معناه عدم تحقق الانحلال الحقیقی، إذا تأخّر عنه. أمّا إذا اتّحدا زماناً ولم یتأخّر عنه؛ حینئذٍ یکون الانحلال ممکناً؛ لأنّه بالشرائط السابقة یکون المعلوم بالتفصیل مصداقاً حقیقیاً للمعلوم بالإجمال. هذا فی الانحلال الحقیقی.

ص: 97

نعم، لا یُشترط فی الانحلال الحقیقی عدم تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی؛ بل یتمّ الانحلال الحقیقی بالعلم التفصیلی حتّی إذا فرضنا أنّ العلم التفصیلی تأخّر عن العلم الإجمالی زماناً ما دام معلومه التفصیلی غیر متأخّر عن المعلوم بالإجمال زماناً. نفس المثال السابق: إذا فرضنا أنّه حصل لنا العلم التفصیلی فی آخر النهار، لکن حصل العلم التفصیلی بنجاسة أحد الإناءین بعینه فی أول النهار، هذا لا یمنع من الانحلال الحقیقی؛ لأنّ الانحلال الحقیقی لا یُشترط فیه تأخّر العلم التفصیلی، أی تأخّر نفس العلم عن العلم الإجمالی زماناً، وإنّما یُشترط فیه عدم تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال زماناً.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة /تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق أنّ الانحلال الحقیقی فی موارد تحققه یعتبّر فیه عدم تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال، وإلاّ إذا تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال، فلا انحلال حقیقی، وبیّنا ما هو الوجه فی ذلک، وقلنا أنّه مع التأخّر لا یکون المعلوم بالتفصیل مصداقاً حقیقیاً للمعلوم بالإجمال، فلا انطباق ولا سریان للعلم من الجامع إلی الطرف، فلا انحلال حقیقی.

نعم، قلنا لا یُشترط عدم تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی، ذلک لیس شرطاً فی الانحلال الحقیقی، فلو تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی مع عدم تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال یتحقق الانحلال، کما إذا علمنا تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء وکان زمان العلم هو آخر النهار، لکن ما علمنا به هو نجاسة هذا الإناء المعیّن أول النهار، یعنی فی زمان المعلوم بالإجمال، یتحقق الانحلال بالرغم من تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی؛ لأنّ الانحلال الحقیقی یتحقق إذا أحرزنا انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، ویکفی فی إحراز الانطباق عدم تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال، فیُحرز انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل فیتحقق الانحلال الحقیقی، سواء کان العلم التفصیلی معاصراً زماناً للعلم الإجمالی، أو کان متأخّراً عنه. هذا کلّه فی الانحلال الحقیقی.

ص: 98

أمّا الانحلال الحکمی فیختلف، حیث یُعتبَر فیه عدم تأخّر زمان العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی، فیُعتبَر فیه تعاصر العلم التفصیلی مع العلم الإجمالی، فلو تأخّر العلم التفصیلی زماناً عن العلم الإجمالی لا یتحقق الانحلال الحکمی، حتّی إذا کان المعلوم بالعلم التفصیلی المتأخّر معاصر زماناً للمعلوم بالعلم الإجمالی المتقدّم زماناً؛ لأنّ المعلوم بالتفصیل بالقیاس إلی فترة ما قبل زمان العلم التفصیلی مع فرض تأخّر المعلوم بالتفصیل، بالنسبة إلی زمان ما قبل تحقق العلم التفصیلی، لا منجّز للمعلوم بالتفصیل؛ لأنّه إنّما یتنجّز بالعلم التفصیلی، ومع تأخّر العلم التفصیلی، إذن: قبله لا منجّز للمعلوم بالتفصیل؛ وحینئذٍ لا مانع من جریان الأصل المؤمّن فی المعلوم بالتفصیل قبل زمان العلم بالتفصیل، ویکون هذا الأصل فی المعلوم بالتفصیل معارَضاً بالأصل فی الطرف الآخر، وهذا معناه عدم الانحلال الحکمی، بخلاف ما إذا کان العلم التفصیلی مقارناً للعلم الإجمالی، فأنّ المعلوم بالتفصیل حینئذٍ قد تنجّز بالعلم التفصیلی، وإذا تنجّز بالعلم التفصیلی، فهذا یمنع من جریان الأصل المؤمّن فیه، مع العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء لا یمکن إجراء الأصل المؤمّن فیه؛ لأنّ مورد العلم التفصیلی یخرج عن موضوع الأصل المؤمّن، فلا یجری الأصل المؤمّن فیه، فیجری فی الطرف الآخر بلا معارض، فینحل العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً.

إذن: یُشترَط فی الانحلال الحکمی عدم تأخّر زمان العلم التفصیلی عن زمان العلم الإجمالی. أمّا إذا تأخّر کما لو فرضنا أننّا علمنا أول النهار _________ کما فی المثال السابق __________ بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ فی آخر النهار علمنا تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء، ولو علمنا بنجاسته فی أوّل النهار، یعنی أنّ(أول النهار) قید للمعلوم بالتفصیل ولیس للعلم، العلم صار وحدث آخر النهار، لکن ما علمناه فی آخر النهار هو نجاسة هذا الإناء الأیمن أوّل النهار، حتّی فی هذه الحالة لا یتحقق الانحلال الحکمی؛ لأنّ المعلوم بالتفصیل وهو نجاسة هذا الإناء المعیّن قبل زمان العلم التفصیلی لیس له منجّز بلحاظ فترة ما قبل زمان حصول العلم الإجمالی، فی أول النهار لا منجّز له؛ لأنّه یتنجّز بالعلم، فإذا لم یکن له منجّز، فلا مانع من جریان الأصل المؤمّن فیه، وإذا جری الأصل المؤمّن فیه سوف یتعارض مع الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، وتتساقط الأصول المؤمّنة، وهذا معناه عدم الانحلال الحکمی. هذا ما یرتبط بالانحلال الحقیقی، والانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی.

ص: 99

الآن ننتقل إلی الانحلال الحکمی بالإمارات والأصول. یوجد لدینا علمٌ إجمالی، ثمّ قامت إمارةٌ فی بعض أطرافه، أو تنجّز بعض أطرافه بمنجّز، أصلٍ شرعیٍ، أو أصلٍ عقلیٍ، فهل یکون قیام الإمارة فی بعض الأطراف، أو الأصل المثبت للتکلیف فی بعض الأطراف، هل یکون موجباً للانحلال الحکمی، أو لا ؟ هذا هو محل الکلام.

هنا لا ینبغی الإشکال فی عدم تحقق الانحلال الحقیقی بالمعنی المتقدّم طرحه سابقاً فی العلم التفصیلی، أصلاً لا ینبغی توهّم الانحلال الحقیقی فی محل الکلام؛ وذلک باعتبار أنّه لا علم بأحد الطرفین تعییناً حتّی یتحقق الانحلال الحقیقی، إنّما یتحقق الانحلال الحقیقی عندما نعلم بنجاسة هذا الطرف بعینه فی ظل شروطٍ معینةٍ تقدّمت، یسری العلم من الجامع إلی الطرف، وینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، فیتحقق الانحلال الحقیقی، لکن هذا حیث یکون الطرف معلوماً بالعلم التفصیلی، أمّا حیث تقوم إمارةٌ علی ثبوت التکلیف فیه، أو یقوم أصلٌ علی إثبات تکلیفٍ فیه، فهنا لا مجال لتوهّم الانحلال الحقیقی؛ بل العلم الإجمالی بالحکم فی أحد الطرفین یبقی علی حاله ولا یزول؛ لتحقق کلا رکنیه المتقدّمین سابقاً، حیث تقدّم أنّ العلم الإجمالی یتقوّم برکنین اساسیین: العلم بالجامع، واحتمالات انطباقٍ بعدد الأطراف، وهذان الرکنان محفوظان فی المقام حتّی إذا قامت إمارةٌ علی ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، أو تنجّز هذا الطرف بأصلٍ عملی شرعی، أو عقلی، یبقی العلم الإجمالی محفوظاً، علم بالجامع، واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، لا نحرز انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّه لا یوجد علم تفصیلی، فلا ینبغی توهّم تحقق الانحلال الحقیقی فی محل الکلام، وإنّما الکلام یقع فی تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً لا حقیقةً، ویقع الکلام أیضاً فی تحقق الانحلال الحکمی، فالکلام یقع فی مقامین:

ص: 100

المقام الأوّل: فی أنّه لا مجال لتحقق الانحلال الحقیقی حقیقةً فی محل الکلام، لکن قد یقال بتحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً.

المقام الثانی: فی الانحلال الحکمی.

الکلام فعلاً فی المقام الأوّل: دعوی تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً یختصّ بما إذا کان الطرف المعیّن تنجّز فیه التکلیف بإمارةٍ، لا بأصلٍ عملی؛ لأنّ مسألة تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً یختصّ بالإمارة وهو من الآثار المترتبة علی دعوی أنّ المجعول فی باب الإمارات هو الطریقیة والعلمیة والمحرزیة وأمثال هذه التعبیرات، یظهر من کلمات متفرّقة للمحقق النائینی(قدّس سرّه) دعوی تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً، علی مبانیه التی یری فیها أنّ المجعول فی باب الإمارات، وأنّ دلیل حجّیة الإمارة مفاده جعل العلمیة وجعل الطریقیة وجعل المحرزیة للإمارة، فالمجعول هو العلمیة، إمّا بأن یُفسّر ذلک بتنزیل الإمارة منزلة العلم، أو اعتبار الإمارة علماً الذی هو أقرب إلی کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) الشارع یعتبر الإمارة علماً، ینزّل الإمارة منزلة العلم، علی کلا التقدیرین یُدّعی فی المقام بأنّ هذا الاعتبار یستوجب ثبوت الانحلال للإمارة، باعتبار أنّ الانحلال من آثار العلم التفصیلی، والشارع یُنزّل الإمارة منزلة العلم، فیثبت للإمارة هذا الأثر وهو الانحلال. لا إشکال أنّ الانحلال الحقیقی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی المتقدّم سابقاً _________ بناءً علی ثبوته ولو فی بعض الموارد __________ هو من آثار العلم التفصیلی، فالعلم الإجمالی أنحلّ بالعلم التفصیلی، یأتی الشارع فیقول: أنا أنزّل الإمارة منزلة العلم التفصیلی، أو أعتبر الإمارة علماً، علی طریقة المجاز العقلی، بمجرّد أن یُنزّل الإمارة منزلة العلم تترتب آثار العلم التفصیلی علی الإمارة بالتنزیل والتعبّد، وهکذا لو قال اعتبر الإمارة علماً، وکل الآثار الثابتة للعلم التفصیلی تترتّب ببرکة التعبّد علی الإمارة، ومن جملة هذه الآثار الانحلال، فکما أنّ العلم التفصیلی یوجب الانحلال الحقیقی للعلم الإجمالی، هذا الانحلال الحقیقی یثبت للإمارة، لکن تعبّداً لا حقیقةً. هذه دعوی الانحلال الحقیقی تعبّداً، لکن قلنا أن هذا یختصّ بالإمارة کما هو واضح؛ لأنّ الأصول العملیة لیس فیها لسان جعل الطریقیة وجعل العلمیة.

ص: 101

ویُلاحظ علی هذا الطرح بالملاحظة المعروفة، وهی: أنّ من الواضح جدّاً أنّ الانحلال لیس أثراً شرعیاً مجعولاً للعلم التفصیلی، وإنّما هو من الآثار العقلیة والتکوینیة للعلم التفصیلی، فمن آثار العلم التفصیلی التکوینیة هو أنّه ینحل به العلم الإجمالی بشروطٍ معیّنة، فهذا اثر تکوینی عقلی للعلم التفصیلی ولیس من الآثار الشرعیة الثابتة للعلم التفصیلی والمجعولة من قِبل الشارع، ومن الواضح أنّ دلیل حجّیة الإمارة، سواء کان مفاده تنزیل الإمارة منزلة العلم، أو کان مفاده اعتبار الشارع الإمارة علماً، علی کلا التقدیرین، ما یترتب علی ذلک هو سرایة الآثار الشرعیة المجعولة من قِبل الشارع الثابتة بالعلم إلی ما یُنزّل منزلة العلم، أو ما یعتبره الشارع علماً، علی غرار ما یقال من(الطواف فی البیت صلاة) وأمثاله، الشارع ینزّل الطواف منزلة الصلاة، لکن لا تثبت للطواف الآثار التکوینیة للصلاة، وإنّما تثبت الآثار واللّوازم الشرعیة ببرکة التنزیل والاعتبار، هذا أیضاً کذلک، بالتنزیل والاعتبار تثبت الآثار الشرعیة المجعولة من قبل الشارع الثابتة للعلم إن وجدت، تثبت للإمارة. وأمّا الآثار التکوینیة الثابتة للشیء _________ بقطع النظر عن الشارع __________ تکویناً لا بجعلٍ شرعیٍ، دلیل التنزیل ولسان الحجّیة، مهما فسّرنا لسان الحجّیة، فهو عاجز عن إثبات هذه اللّوازم للمُنزّل الذی هو الإمارة فی محل الکلام، ولا إشکال کما قلنا أنّ الانحلال لیس من الآثار الشرعیة الثابتة للعلم التفصیلی، وإنّما هی من الاثار العقلیة والتکوینیة الثابتة للعلم التفصیلی، وهذه لا تثبت بالتنزیل، أو الاعتبار للإمارة.

نعم، قد یُدّعی أننا نستفید الانحلال الحقیقی من دلیل التعبّد بالإمارة ببیانٍ آخر علی اساس الملازمة، باعتبار أنّ مفاد دلیل حجّیة الإمارة _________ بناءً علی مسلک أنّ المجعول هو الطریقیة والعلمیة __________ هو جعل العلمیة، والتعبّد بالعلم، والتعبّد بعدم الشکّ، یعنی عندما تقوم عندک إمارة علی نجاسة هذا الإناء، أنا أعبّدک بعدم الشکّ، أی لیس لدیک شکّ، وإنّما لدیک علم تعبّداً، وهذا التعبّد بالعلم وعدم الشکّ بمؤدّی الإمارة هو فی الحقیقة تعبّدٌ بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی، فإذا کان تعبّداً بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی، یکون تعبّداً بزوال العلم الإجمالی، ونحن لا نرید من الانحلال الحقیقی تعبّداً إلاّ أن یثبت زوال العلم الإجمالی تعبّداً، ودلیل حجّیة الإمارة عندما یُعبّد المکلّف بأنّه عالمٌ بمؤدّی الإمارة، وأنّه لیس شاکّاً فیه، هذا معناه أنّه عبّده بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی، وتقدّم ذکر هذین الرکنین وهما: العلم بالجامع، واحتمالات وشکوک بعدد الأطراف، الشارع عندما یُعبّد المکلّف بالعلم بمؤدّی الإمارة فی هذا الطرف، یُعبّده بعدم الشکّ، معناه أنّه یلغی الشکّ فی هذا الطرف، ویُحوّله تعبّداً إلی العلم. إذن: هو تعبّدٌ بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی، وتحویله من الشکّ إلی العلم تعبّداً، والتعبّد بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی هو تعبّدٌ بزوال العلم الإجمالی، فیثبت الانحلال الحقیقی تعبّداً. قد یقال هذا فی مقام توجیه تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً، بناءً علی هذا المسلک.

ص: 102

بقطع النظر عن مبانی هذا الکلام، وعلی فرض تسلیم هذه المبانی، لکن من الواضح أنّ هذا الکلام مبنی علی فکرةٍ لیست تامّة، وهی فکرة أنّ هناک ملازمة بین التعبّد بشیءٍ والتعبّد بمعلوله ولازمه، هل هذه الفکرة صحیحة ؟ أنّ الشارع إذا عبّدنا بشیءٍ، فلابدّ أن یُعبّدنا بمعلول هذا الشیء ولازمه ؟ هذا لا دلیل علیه، هذا بالنسبة إلی العلم ودرجات التصدیق. نعم توجد ملازمة، العلم بالعلّة علم بالمعلول، واحتمال العلّة هو احتمال للمعلول، لکنّ التعبّد الشرعی بشیءٍ هل یلازم التعبّد الشرعی بلازم هذا الشیء، ومعلوله ؟ هذا غیر صحیحٍ، فقد یُعبّدنا الشارع بشیءٍ، لکن لا یُعبّدنا بمعلوله؛ ولذا اختلاف المتلازمین واقعاً وتکویناً فی عالم التعبّد هو أمر لیس غریباً، فقد یُعبّدنی الشارع بطهارة هذا الشیء، لکن لا یُعبّدنی بلازم طهارته کما هو موجود فی أمثلة کثیرة، لیس هناک ملازمة بین التعبّد بالشیء والتعبّد بلازمه ومعلوله. هذا الکلام مبنی علی دعوی الملازمة بینهما؛ لأنّه یقول: مفاد دلیل الإمارة هو تعبّد المکلّف بالعلم بمؤدّی الإمارة، لازم العلم بمؤدّی الإمارة هو انحلال العلم الإجمالی، لکن التعبّد بالعلم وعدم الشکّ بمؤدّی الإمارة لا یلازم التعبّد بالانحلال، هذه قضیة تعبّدیة شرعیة ترتبط بالشارع ومدی دلالة الدلیل علیه، قد یُعبّدنی الشارع بشیءٍ ولا یُعبّدنی بلازمه ومعلوله.

بعبارةٍ أکثر وضوحاً: أنّ العلم الإجمالی فی الواقع والحقیقة یتقوّم بشیءٍ واحدٍ لا بشیئین، یتقوّم بالعلم بالجامع بحدّه الجامعی، لکن لازم العلم بالجامع بحدّه الجامعی شکوک فی الأطراف واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، وإلاّ إذا نزل العلم إلی الفرد ولم یقف علی الجامع بحدّه الجامعی، معناه لم تحصل شکوک فی الأطراف والأفراد، ما دام العلم واقفاً علی الجامع بحدّه الجامعی قهراً تکون هناک شکوک بعدد الأطراف، لکن هذه الشکوک بعدد الأطراف هی لازم للعلم بالجامع بحدّه الجامعی، ذاک هو العلم الإجمالی، فإذا عبّدنی الشارع بزوال الشکّ فی مؤدّی الإمارة، هل هذا یعنی أنّه عبّدنی بزوال العلم الإجمالی، وزوال العلم بالجامع بحدّه الجامعی ؟ کلا، وإن کان بینهما ملازمة، فإذن: لا یمکن إثبات الانحلال الحقیقی تعبّداً بالملازمة المستفادة من دلیل اعتبار الإمارة، هذا لو سلّمنا مبنی هذا الکلام الذی هو جعل العلمیة وجعل الطریقیة وجعل المحرزیة.

ص: 103

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة /تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی الانحلال الحقیقی تعبّداً بالإمارات والأصول: ذکرنا الوجه الذی علی اساسه قیل بالانحلال الحقیقی تعبّداً بالإمارات والأصول، وانتهی الکلام إلی مناقشته.

یُضاف إلی ما ذکرناه فی الدرس السابقأنّ التعبّد بالانحلال الحقیقی المُدّعی فی المقام لعلّه لا فائدة فیه، فیناقش من هذه الزاویة، أنّ التعبّد بالانحلال فی محل الکلام عندما یکون هناک علم إجمالی، وتقوم إمارة فی أحد الطرفین بعینه، فیعبّدنا الشارع بالانحلال الحقیقی، باعتبار أنّه نزّل الإمارة منزلة العلم، أو اعتبر الإمارة علماً.

نقول: هذا لا فائدة فیه، ولا تترتّب علیه ثمرة، التعبّد بالانحلال الحقیقی فی المقام لا تترتّب علیه ثمرة؛ لأنّه إن کان الغرض من التعبّد بالانحلال الحقیقی هو إثبات التأمین فی الطرف الآخر بلا حاجة إلی إجراء الأصل المؤمّن فیه، یثبت التأمین فی الطرف الآخر بمجرّد التعبّد بالانحلال بلا حاجة إلی إجراء الأصل المؤمّن فیه، فإذا کان هذا هو الغرض من التعبّد بالانحلال، فهذا غیر صحیح؛ لأنّ أیّ شبهة وأیّ شک یحتاج إلی مؤمّن، مجرّد التعبّد بانحلال العلم الإجمالی حقیقة لا یغنینا عن إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر.

بعبارةٍ أخری: أنّ الطرف الآخر ما دام شبهةً، فهو یحتاج إلی مؤمّنٍ، عقلی، أو شرعی، بالنتیجة یحتاج إلی مؤمّن، أمّا مجرّد التعبّد بالانحلال الحقیقی لا یرفع الحاجة إلی إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر.

وأمّا إذا کان الغرض من التعبّد بالانحلال الحقیقی هو التمهید لإجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، بمعنی أنّه یساعد علی إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، بحیث أنّ المکلّف لولا التعبّد بالانحلال الحقیقی لا یتمکّن من إجراء الأصل فی الطرف الآخر، إذا کان هذا هو الغرض فهذا فی الحقیقة یحصل تمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر ولا یتوقّف علی إثبات الانحلال الحقیقی تعبّداً، التمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر هو فرع زوال المعارضة، والمکلّف یتمکن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر إذا لم یکن له معارض فی هذا الطرف، وهذا ثابت بقطع النظر عن الانحلال الحقیقی تعبّداً؛ لأنّ مورد الإمارة المثبتة للتکلیف لا یجری فیها الأصل المؤمّن، فیجری الأصل المؤمّن بلا معارضٍ فی الطرف الآخر، ولا یتوقّف التمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر إلاّ علی عدم المعارض فی الطرف الأوّل، والمفروض فی محل کلامنا عدم المعارض؛ لأنّ الطرف الأوّل ____________ بحسب الفرض ____________ هو موردٌ للإمارة المثبتة للتکلیف، ومع وجود الإمارة المثبتة للتکلیف لا تصل النوبة للأصل المؤمّن، فیمکن للمکلّف أن یجری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر بلا أن یتوقف ذلک علی التعبّد بالانحلال الحقیقی، حتّی لو لم یثبت التعبّد بالانحلال الحقیقی، لا إشکال فی أنّ المکلّف یتمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر.

ص: 104

فإذن: ما هی فائدة التعبّد بالانحلال الحقیقی فی محل الکلام ؟ هل یغنینا هذا عن الاحتیاج إلی إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر ؟ کلا، لا یغنینا؛ لأنّ مجرّد انحلال العلم الإجمالی لا یخرج الطرف الآخر عن کونه شبهةً، وکل شبهةٍ بحاجة إلی تأمینٍ، أو یقال: أنّ الانحلال الحقیقی تعبّداً یمکّن المکلّف من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، وهذا أیضاً غیر صحیح؛ لأنّ المکلّف متمکّنٌ من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، سواء کان هناک انحلالٌ حقیقی تعبّداً، أو لم یکن؛ لأنّه یکفی فی التمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر زوال المعارض فی ذلک الأصل، وهذا مفروض فی محل الکلام.

هناک ملاحظة أخری تُضاف إلی ما تقدّم علی دعوی الانحلال الحقیقی تعبّداً فی محل الکلام، وهی: أننا فی الدرس السابق قلنا أنّ العلم الإجمالی یتقوّم بالعلم بالجامع بحدّه الجامعی. نعم، لازم العلم بالجامع بحدّه الجامعی هو تولّد شکوک واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، لکن هذا لازم للعلم الإجمالی، لازم لما هو الرکن الأساسی للعلم الإجمالی، وقلنا أنّ التعبّد بأحد المتلازمین لا یسری إلی ملازمه؛ إذ لیس لدینا قاعدة تقول إذا تعبّدنا الشارع بأحد المتلازمین، فلابدّ أن یعبّدنا بملازمه، التعبّد یتبع دلیله، فإذا کان الدلیل یقتصر علی التعبّد بإلغاء الشکّ، هذا لیس معناه التعبّد بانحلال العلم الإجمالی، هذا کنّا نقوله سابقاً، الآن الملاحظة الجدیدة تقول: لو تنزّلنا وسلّمنا أنّ احتمالات الانطباق هی أرکانٌ للعلم الإجمالی، بمعنی أننا نسلّم بأنّ العلم الإجمالی یتقوّم بالعلم بالجامع بحدّه الجامعی زائداً شکوک واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، وایضاً نفترض أنّ أحد هذه الاحتمالات قد زال تعبّداً فی مورد الإمارة، عندما تقوم الإمارة علی التکلیف، یأتی مبنی الطریقیة، أنّ المجعول فی الإمارات هو العلمیة والطریقیة، وهذا معناه اعتبار الإمارة علماً، أو تنزیل الإمارة منزلة العلم، وهذا فهمنا منه ___________ کما قیل سابقاً _____________ أنّ هذا تعبّد بزوال الشکّ فی هذا الطرف؛ لأنّه یقول اعتبره علماً، معناه التعبّد بکونه علماً، یعنی تعبّد بزوال الشکّ فی هذا الطرف. إذن: الشکّ فی هذا الطرف زال تعبّداً بناءً علی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، وهذا نسلّمه، أنّ رکناً من أرکان العلم الإجمالی زال تعبّداً، لکن تنجّز الطرف الآخر هل هو من آثار هذا الرکن فی مورد الإمارة ؟ هل هو من آثار الشکّ فی مورد الإمارة ؟ حتّی نقول إذا عبّدنا الشارع بزوال الشکّ فی مورد الإمارة، یرتفع التنجّز عن الطرف الآخر، إذا کان التنجّز من آثار الشکّ فی مورد الإمارة، إذن: یصحّ لنا أن نقول بأنّ الشارع عبّدنا بزوال الشکّ فی مورد الإمارة، ویلزم من ذلک زوال التنجّز عن الطرف الآخر. لکن من الواضح أنّ تنجّز الطرف الآخر لیس من آثار الشکّ فی هذا الطرف، التنجّز من آثار الشکّ فی ذاک الطرف، ولیس من آثار الشکّ فی طرفٍ آخر، الشکّ فی هذا الطرف رکنٌ للعلم الإجمالی، والشکّ فی هذا الطرف أیضاً رکنٌ للعلم الإجمالی...وهکذا باقی الأطراف، التعبّد بزوال الشکّ فی هذا الطرف لا یعنی ولا یثبت التعبّد بزوال الشکّ فی الطرف الآخر، قد یکون هناک تلازم بین الشکّ فی هذا الطرف، والشک فی هذا الطرف، لیکن، لیس هناک مشکلة؛ لأنّ العلم الإجمالی علمٌ بالجامع بحدّه الجامعی زائداً شکوک بعدد الأطراف، فالشکّ فی هذا الطرف یلازم الشکّ فی هذا الطرف، ویلازم الشک فی ذاک الطرف، لکن نرجع إلی القضیة السابقة، وهی أنّه من قال بأنّ التعبّد بزوال الشکّ فی هذا الطرف یسری إلی الشکّ فی الطرف الآخر ؟ لأنّ التعبّد بأحد المتلازمین، لیس لدینا قاعدة تقول بأنّه یسری إلی ملازمه، فإذن: لو سلّمنا ما ذُکر، غایة ما یثبت به هو التعبّد بزوال الشکّ فی مورد الإمارة، لکن هذا لا یعنی أنّه یعبّدنی بزوال الشکّ فی الطرف الآخر حتّی یرتفع التنجّز عنه، ویثبت الانحلال، وإن کانت بین الشکّین ملازمة، لکن التعبّد بأحد المتلازمین لا یسری إلی ملازمه الآخر. هذه ملاحظة أخری علی الانحلال الحقیقی تعبّداً.

ص: 105

المقام الثانی: الانحلال الحکمی

هل یثبت الانحلال الحکمی فی العلم الإجمالی بقیام الإمارة، أو الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه ؟ بمعنی أن یفقد العلم الإجمالی تأثیره، ولا یؤثّر فی التنجیز، فیجوز إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر ؟ وهذا من آثار سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز.

الکلام فعلاً لابدّ أن نعزل منه بحثاً سیأتی التعرّض له مستقلاً؛ لأنّه یتمیّز بخصوصیات تختصّ به؛ ولذا أفرد البحث عنه. الکلام فعلاً عن ما إذا کانت الحجّة التی قامت فی أحد الطرفین بعینه، والتی نتکلّم فعلاً عن أنّ قیامها هل یوجب الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، أو لا ؟ هذه الحجّة فی طرفٍ بعینه، المثبتة للتکلیف، کلامنا فی ما إذا کانت هذه الحجّة من قبیل إمارة تتمثّل بإمارة مثبتة للتکلیف فی أحد الطرفین، أو تتمثّل بأصلٍ عملیٍ مثبت للتکلیف منجّز فی أحد الطرفین، أو اصل عقلی منجّز فی أحد الطرفین کأصالة الاشتغال. کلامنا فعلاً فی هذا.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الحجّة التی قامت فی أحد الطرفین هی عبارة عن أصالة الاشتغال الناشئة من وجود علمٍ إجمالیٍ آخر غیر العلم الإجمالی الأوّل المفترض فی محل الکلام، هذا له بحث آخر، فنستثنیه، ولا نتکلّم عنه فعلاً، ومثاله واضح، کما إذا اشترک طرفٌ فی علمین إجمالیین، علم إجمالی بأنّه إمّا الإناء الأیمن نجس، أو الإناء الأیسر نجس ؟ ثمّ حصل علم آخر، إمّا الإناء الأیسر نجس، أو إناء آخر نجس، فالإناء الأیسر وقع طرفاً لعلمین إجمالیین.

هنا قد یقال: أنّ العلم الإجمالی الثانی یسقط عن التنجیز، فیجوز إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الثالث؛ لأنّ الطرف الأوّل فی العلم الإجمالی الثانی الذی هو الإناء الأیسر الذی هو الطرف المشترک. الطرف الأیسر تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل، فالعلم الإجمالی الثانی یجد أحد طرفیه قد تنجّز بمنجّزٍ سابقٍ، فقد یقال علی هذا الأساس أنّ العلم الإجمالی الثانی یسقط عن التنجیز، فلا مانعٍ من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الثالث. هذا لا نتکلّم فیه فعلاً.

ص: 106

کلامنا فعلاً فی ما إذا فرضنا أنّه قامت إمارة علی ثبوت التکلیف فی أحد الطرفین بعینه، أو أصل عملی عقلی، أو شرعی منجّز، ودلّ علی ثبوت التکلیف فی أحد الطرفین بعینه، السؤال الذی یطرح هو أنّه هل یحصل الانحلال الحکمی بقیام الإمارة المثبتة للتکلیف، أو الأصل المنجّز، أو لا یحصل الانحلال الحکمی ؟ هنا یقال: إذا کان المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه هو إمارة، ونحن نعلم بانّ الإمارة فیها خصوصیة، وهی حجّیة مدالیلها الالتزامیة، أنّ مثبتات الإمارة حجّة، والمدلول الالتزامی للإمارة حجّة کالمدلول المطابقی، وفرضنا أنّ المدلول الالتزامی لهذه الإمارة القائمة فی أحد الطرفین بعینه هو عبارة عن نفی التکلیف عن الطرف الآخر، صحیح أنّ مدلول الإمارة المطابقی هو إثبات التکلیف فی هذا الطرف، لکن قد یکون مدلولها الالتزامی نفی التکلیف عن الطرف الآخر، کما إذا فرضنا أنّ التکلیف کان منحصراً فی واحد، وترددّ بین شیئین، وقامت الإمارة علی أنّ التکلیف فی هذا الطرف، ولازمها هو نفی التکلیف عن الطرف الآخر؛ لأنّ المفروض أنّ التکلیف فی الواقع واحد، فإذا دلّت الإمارة علی ثبوته هنا، فلازم ذلک هو نفیه عن الطرف الآخر، فیکون مفادها هو نفی التکلیف عن الطرف الآخر، أو نفترض أنّ الإمارة کانت فی مقام تعیین المعلوم بالإجمال کما فرضناه فی العلم التفصیلی، حیث قلنا أنّ العلم التفصیلی قد یکون ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، هنا نفترض أنّ الإمارة تقوم علی تعیین المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، فإذا قامت علی ذلک، فهذا معناه أنّها تنفی التکلیف عن الطرف الآخر. فی حالةٍ من هذا القبیل ____________ إذا کان المثبت للتکلیف إمارة، وکان مدلولها الالتزامی نفی التکلیف عن الطرف الآخر __________ لا إشکال فی انحلال العلم الإجمالی بلا خلاف؛ لأنّه یمکننا التمسّک بالمدلول الالتزامی لهذه الإمارة الذی هو حجّة بلا إشکال، ونفی التکلیف عن الطرف الآخر، وبهذا ینحل العلم الإجمالی بنفس الإمارة، یعنی یتعیّن التکلیف حینئذٍ بالحجّة المعتبرة بهذا الطرف، ویُنفی التکلیف عن الطرف الآخر أیضاً بحجّةٍ معتبرة، وهذا معناه انحلال العلم الإجمالی، یعنی قامت حجّةٌ علی أنّ التکلیف موجودٌ هنا ولیس موجوداً فی الطرف الآخر، هذا معناه انحلال العلم الإجمالی.

ص: 107

أمّا إذا فرضنا أنّ المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه لم یکن من هذا القبیل، فرضاً کان إمارة، ولکنّه لیس من قبیل الإمارة التی فرضناها سابقاً، لم تکن فی مقام تعیین المعلوم بالإجمال، ولیس لدینا ما یدلّ علی أنّ التکلیف واحد؛ بل یحتمل أن یکون التکلیف متعدداً، لیس للإمارة المثبتة للتکلیف فی أحد الطرفین دلالة التزامیة علی نفی التکلیف فی الطرف الآخر، أو نفترض أنّ المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه کان هو أصل عملی شرعی، أو أصل عقلی منجّز للتکلیف، کلامنا فی هذا. مثل هذه الإمارة، ومثل هذا الأصل العملی الشرعی، أو العقلی، هل یوجب الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، أو لا ؟

الجواب هو: أنّه فی حالةٍ من هذا القبیل یمکن إثباتالانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالإمارات والأصول تمسّکاً ببعض، أو کل الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی، تقدّم البحث أنّ العلم الإجمالی إذا لم ینحل حقیقةً بالعلم التفصیلی، ننقل البحث إلی الانحلال الحکمی، وذُکرت وجوه لإثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بلحاظ القواعد العقلیة، ثمّ بلحاظ الأصول الشرعیة. هذه الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال الحکمی هناک یمکن التمسّک بها لإثبات الانحلال الحکمی فی محل الکلام. (مثلاً): قُرّب الانحلال الحکمی هناک بلحاظ القواعد العقلیة وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعیة، بهذا التقریب المتقدّم الذی التزم به المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یعتمد علی استحالة اجتماع منجّزین علی شیءٍ واحد، بأنّ أحد الطرفین تنجّز بالعلم التفصیلی، فلا یعقل أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً، لاستحالة اجتماع منجّزین علی طرفٍ واحد، فینحل العلم الإجمالی؛ لأنّه یعتبر فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، سواء کان فی هذا الطرف، أو فی هذا الطرف، هذه القضیة تختل عندما یتنجّز هذا الطرف بمنجّزٍ؛ لأنّ العلم الإجمالی لا یعود صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وإنّما یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی التقدیر الآخر، یعنی علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال فی الطرف الآخر، أمّا لو کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، العلم الإجمالی لا یمکنه تنجیزه؛ لأنّ هذا الطرف تنجّز بمنجّز آخر، ویستحیل اجتماع منجّزین علی شیءٍ واحد، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. هذا کان هو الدلیل، ومن الواضح أنّ هذا الدلیل لا یفرّق بین منجّزٍ ومنجّز، لا یُفرّق بین أن یکون المنجّز فی هذا الطرف علم تفصیلی، أو یکون المنجّز إمارة تثبت التکلیف وتنجّز، أو یکون أصلاً یثبت التکلیف، فی کلّ الحالات یجری هذا الدلیل؛ لأنّه أیضاً نقول هذا الطرف مورد الإمارة، أو مورد الأصل العملی تنجّز بالإمارة، أو بالأصل العملی، فیستحیل أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً له؛ لاستحالة اجتماع منجّزین علی طرفٍ واحد، وإذا تحقق هذا وصدق؛ حینئذٍ لا یکون العلم الإجمالی صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر. هذا الدلیل إذا تمّ هناک، فیمکن الاستدلال به علی الانحلال الحکمی فی محل الکلام. وهکذا تقریب الانحلال الحکمی بلحاظ الأصول العملیة الشرعیة لا بلحاظ القواعد العقلیة، هذا التقریب المتقدّم لإثبات الانحلال یجری أیضاً فی محل الکلام، وهذا التقریب کان یقول بأنّ الأصل المؤمّن یجری فی الطرف الآخر؛ لأنّ المانع من وجوده فی الطرف الآخر هو وجود المعارض له، وهو جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الأوّل، هذا یُعارض جریان الأصل فی الطرف الثانی، هذا هو المانع، فإذا کان الأصل المؤمّن لا یجری فی الطرف الأوّل؛ لأنّه مورد للعلم التفصیلی، فیجری فی الطرف الثانی بلا معارض، فیثبت الانحلال الحکمی حینئذٍ بقیام العلم التفصیلی. هذا الدلیل نفسه نستطیع أن نستدلّ به فی محل الکلام؛ إذ لا فرق فی منع جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الأوّل بین أن یکون معلوماً بالتفصیل، أو تقوم إمارة علی إثبات التکلیف فیه، أو یقوم اصل عملی، أو شرعی منجّز للتکلیف فیه؛ لأنّه علی کل هذه التقادیر هذا یمنع من إجراء الأصل المؤمّن فیه، فإذا لم یجرِ فیه الأصل المؤمّن، یجری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر بلا معارضٍ، وهذا هو معنی الانحلال الحکمی.

ص: 108

إذن: لا یُفرّق بین أن یکون هذا الطرف الأوّل مورداً للعلم التفصیلی، أو یکون مورداً للإمارة، أو للأصل المثبت للتکلیف، أو الأصل المنجّز للتکلیف.

نعم، هذا بناءً علی مسلک الاقتضاء، حیث أننا نثبت الانحلال الحکمی بناءًعلی هذا المسلک؛ لأنّه علی مسلک الاقتضاء یقول أنّ الذی یمنع من إجراء الأصل فی الطرف الآخر هو المعارضة، أمّا علی مسلک العلّیة التامّة فالذی یمنع من إجراء الأصل فی الطرف الآخر لیس هو المعارضة، حتّی لو لم یکن له معارض هو لا یجری أصلاً، ذات العلم الإجمالی هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، یمنع من إجراء الأصل فی الطرف الآخر، بناءً علی العلّیة التامّة قلنا سابقاً أنّه یتعیّن القول بعدم الانحلال الحکمی. نعم، المحقق العراقی(قدّس سرّه) ذکر الوجه السابق للانحلال الحکمی قبل الوصول إلی الأصول المؤمّنة الشرعیة، بلحاظ القواعد العقلیة اثبت الانحلال بهذا البرهان السابق الذی هو عدم اجتماع منجّزان علی شیءٍ واحد، ویُعتبر فی العلم الإجمالی أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی کلّ تقدیر، بهذا اثبت الانحلال الحکمی.

أقول: هذا البرهان الذی ذکره بناءً علی مسلک العلّیة التامّة لو تمّ هناک یتمّ أیضاً فی محل الکلام؛ إذ لا فرق بین العلم التفصیلی وبین الإمارة وبین الأصل المثبت للتکلیف، أو الأصل المنجّز للتکلیف، إذن: کل الوجوه التی یستدل بها علی الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی، إذا تمّت هناک فهی تجری هنا فی محل الکلام لإثبات الانحلال الحکمی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی انحلال العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً بالإمارات والأصول: وقد ذکرنا أنّه فی ما یقع الکلام فیه تجری کل الوجوه التی ذُکرت لانحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی انحلالاً حکمیّاً، هذه الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال الحکمی هناک إذا تمّت، فهی تجری فی محل الکلام أیضاً، وبعضها تامّ هناک علی ما تقدّم فی إثبات الانحلال الحکمی بناءً علی ما هو الصحیح کما تقدّم من أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، فأنّ أحد الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال هو أنّ الأصل لا یجری فی مورد العلم التفصیلی؛ لارتفاع موضوعه؛ لأنّ موضوعه الشکّ، ولا شکّ مع العلم التفصیلی، فیجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض، هذا بنفسه یجری فی محل الکلام؛ لأنّ مورد الإمارة أیضاً لا یجری فیه الأصل المؤمّن، مورد الأصل المثبت للتکلیف کالاستصحاب أیضاً لا یجری فیه الأصل المؤمّن، الأصل المنجّز للتکلیف أیضاً لا یجری فیه الأصل المؤمّن، فبالنتیجة یجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارضٍ. فالانحلال الحکمی فی محل الکلام واضح.

ص: 109

بعد ذلک نقول: أنّ الانحلال الحکمی فی محل الکلام یُشترط فیه نفس ما اشترط فی الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی، حیث ذکرنا سابقاً أنّ الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی یُشترط فیه عدم تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی، فإذا لم یتأخّر یثبت الانحلال الحکمی، وأمّا إذا فرضنا أنّ زمان العلم التفصیلی کان متأخّراً عن زمان العلم الإجمالی، قلنا لا انحلال؛ لأنّه قبل زمان العلم التفصیلی، لا منجّز للطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی؛ لأنّه فی فترة ما قبل حصول العلم التفصیلی، الذی ینجّز التکلیف فی هذا الطرف هو العلم التفصیلی، أمّا قبل العلم التفصیلی، فلا منجّز للتکلیف فی هذا الطرف، فیجری فیه الأصل المؤمّن بلحاظ فترة ما قبل حصول العلم التفصیلی، ویُعارض هذا الأصل المؤمّن بالأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی، وعدم انحلاله انحلالاً حکمیّاً؛ لأنّ الأصل فی الطرف الآخر له معارض، فلا یتحقق الانحلال الحکمی إلاّ إذا کان العلم التفصیلی معاصراً للعلم الإجمالی. هذا الشرط بنفسه یجری فی محل الکلام، غایة الأمر نُبدّل العلم التفصیلی بالإمارة، أو الأصل المثبت للتکلیف، هنا أیضاً نقول یُشترط فی الانحلال الحکمی أن لا یتأخّر هذا المثبت للتکلیف کالإمارة، أو الأصل، عن العلم الإجمالی زماناً، وإلاّ إذا تأخّر المثبت للتکلیف کالإمارة فی أحد الطرفین بعینه، أو المنجّز للتکلیف بعینه، إذا تأخّر زماناً عن العلم التفصیلی، فلا انحلال حکماً لنفس السبب السابق، وهو أنّه قبل قیام الإمارة، وقبل قیام الأصل المثبت للتکلیف، لا منجّز لهذا الطرف، احتمال التکلیف فیه لم یتنجّز بمنجّز فی تلک الفترة، فإذا لم یتنجّز بمنجّز فی تلک الفترة، فیمکن أن یکون مورداً للأصل المؤمّن، فیُعارَض هذا الأصل المؤمّن بالأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، فالأصل المؤمّن فی الطرف الآخر له معارض، وهذا معنی عدم الانحلال الحکمی بنفس السبب السابق، فإذن: یُشترط فی محل الکلام أیضاً عدم تأخّر زمان الإمارة، أو الأصل المثبت للتکلیف، أنّ لا یتأخّر عن العلم التفصیلی. هذا شرط أساسی فی محل الکلام وفی کل انحلالٍ حکمیٍ.

ص: 110

هذا الشرط الذی لا إشکال فی الانحلال الحکمی معه، قد یثار علیه إشکال، وحاصله: أنّ الغرض الأساسی من بحث انحلال العلم الإجمالی بالإمارات والأصول المثبتة للتکلیف فی بعض الأطراف بعینه، الغرض الأساسی هو الرد علی علمائنا الأخباریین إلی وجوب الاحتیاط فی الشبهات باعتبار وجود علمٍ إجمالی بثبوت جملةٍ من التکالیف فی الشریعة المقدّسة، یوجد علم إجمالی بثبوت تکالیفٍ إلزامیةٍ فی الشریعة المقدّسة، قالوا أنّ مقتضی هذا العلم الإجمالی هو وجوب الاحتیاط فی کل شیءٍ إلی أن یدلّ دلیل علی عدم وجوب الاحتیاط، لکن مقتضی العلم الإجمالی، کما هو الحال فی کلّ علمٍ إجمالی، أنّه ینجّز وجوب الاحتیاط وینجّز وجوب الموافقة القطعیة، فلابدّ من الاحتیاط، فکل شبهةٍ تعرض لک ولا تجد علیها دلیلاً یجب علیک الاحتیاط، فی الشبهات الوجوبیة بأن تأتی بها، وفی التحریمیة بأن تترکها، ودلیلهم علی ذلک هو العلم الإجمالی بوجود تکالیفٍ إلزامیةٍ فی الشریعة المقدّسة، وکل شبهةٍ آخذها هی طرف من أطراف هذا العلم الإجمالی، فیجب فیه الاحتیاط، لاحتمال أن یکون التکلیف المعلوم بالإجمال موجوداً فی هذه الشبهة، فیُحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذه الشبهة، فیجب فیها الاحتیاط؛ لأنّها طرف من أطراف العلم الإجمالی بالنتیجة.

وقع الکلام فی مقام الردّ علیهم، أنّ هذا العلم الإجمالی هل هو منحل، أو غیر منحل ؟ فذُکر هذا الکلام للرد علی هذه الشبهة، فقالوا: أنّ هذا العلم الإجمالی بوجود تکالیفٍ إلزامیةٍ فی الشریعة المقدّسة ینحلّ بعد الفحص والعثور علی جملة من الإمارات تثبت تکالیفاً فی بعض الشبهات المُعیّنة، فینحلّ العلم الإجمالی بالإمارات، وهذا هو محل کلامنا، یوجد علم إجمالی بأنّه إمّا هذا نجس، أو هذا نجس، قامت إمارة علی أنّ هذا الطرف نجس، فینحلّ العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً بهذه الإمارة، فی هذا العلم الإجمالی الذی إدّعاه الأخباریون أُجیب عنه بأنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ بعد قیام الإمارات المعتبرة علی إثبات جملةٍ من التکالیف فی جملةٍ من الشبهات لا تقلّ عن عدد المعلوم بالإجمال _____________ وهذا الشرط الآخر للسید سیأتی الحدیث فیه ___________ فینحلّ العلم الإجمالی، فلا یجب الاحتیاط فی ما عدا ما قامت علیه الإمارات المعتبرة من تکالیف؛ لأنّ العلم الإجمالی أنحلّ انحلالاً حکمیّاً، فلا مانع من إجراء الأصل المؤمّن فی الشبهات الأخری غیر مورد الإمارات المعتبرة؛ لانحلال العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً، فإذا وردت إلینا شبهة لیس فیها إمارة معتبرة تثبت التکلیف فیها، لا مانع من الرجوع إلی اصالة البراءة، لانحلال العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً، هکذا أجابوا.

ص: 111

الإشکال یقول: أنّ هذا الجواب غیر صحیحٍ؛ لأنّکم تشترطون فی انحلال العلم الإجمالی أن لا تتأخّر الإمارة زماناً عن العلم الإجمالی، هذا الذی یثبت التکلیف فی بعض الأطراف بعینه یجب أن لا یتأخّر عن العلم الإجمالی زماناً، وإلاّ إذا تأخّر عن العلم الإجمالی زماناً، فلا انحلال حکمی حینئذٍ بالبیان السابق الذی تقدّم؛ لأنّ مورد الإمارة قبل قیام الإمارة لا منجّز له، فیکون مورداً للأصل المؤمّن، ویُعارَض بالأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، فلا انحلال حکمی.

إذن: شرط الانحلال الحکمی أن لا یتأخّر زمان العلم التفصیلی فی موارد العلم التفصیلی، زمان الإمارة، أو الأصل المثبت للتکلیف، لا یتأخّر عن زمان العلم الإجمالی. هذا الشرط غیر متحقق فی فرض الأخباریین؛ لأنّ الإمارة تحصل عند المکلّف بعد الفحص، تدریجیاً تحصل له الإمارات المعتبرة الدالة علی ثبوت التکلیف فی جملةٍ من الشبهات، یعنی تحصل بعد زمان العلم الإجمالی، کلّ مکلّف عندما یبلغ یحصل عنده علم إجمالی بثبوت تکالیفٍ إلزامیةٍ فی الشریعة المقدّسة، بلا إشکال، لکن تقوم عنده الإمارات فی زمانٍ متأخّرٍ، فهو یفحص وحینئذٍ یعثر علی جملةٍ من الإمارات تثبت تکالیفاً فی شبهاتٍ معیّنةٍ، فمعناه أنّ زمان الإمارة متأخّر عن زمان العلم الإجمالی، والمفروض أنّ هذا لا یحقق الانحلال الحکمی؛ لأنّ شرط الانحلال الحکمی عدم تأخّر زمان قیام الإمارة عن زمان العلم الإجمالی، وهنا تأخّر، فلا انحلال، فیبقی العلم الإجمالی علی حاله یُنجّز ویمنع من الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی سائر الشبهات؛ حینئذٍ لا یتحقق الغرض من هذا البحث؛ لأنّ الغرض من هذا البحث هو ردّ شبهة الأخباریین والجواب عن هذا الإشکال، بینما إذا اشترطنا فی الانحلال عدم التأخّر، هذا سوف لن یکون جواباً عن الإشکال.

ص: 112

من هنا تصدّی جملة من المحققین، وذکر هذا السید الخوئی(قدّس سرّه) فی تقریراته، (1) إلی الجواب عن هذا الإشکال، وحاصل ما ذکروه هو: أنّ تنجیز الإمارة لمؤدّاها غیر منوطٍ وغیر مرتبط بالوصول، کون الإمارة منجّزة لمؤدّاها، هذا الشیء یتحقق قبل وصولها إلی المکلّف، یکفی فی منجّزیة الإمارة لمتعلّقها کونها فی معرض الوصول إلی المکلّف بحیث لو فحص المکلّف عنها لوجدها، ولو لم تصل إلیه، ما دام هی فی معرض الوصول، ما دام الإمارة لو فحص عنها المکلّف لوصل إلیها هی تکون منجّزة لمؤدّاها، ویثبت لها التنجیز. إذا آمنا بهذه الفکرة؛ حینئذٍ، قالوا فی مقام الجواب بأنّه لیکن قیام الإمارة عند المکلّف متأخّراً عن زمان العلم الإجمالی، لکن الإمارة بوجودها الواقعی ولیس بوجودها الواصل، الإمارة بوجودها الواقعی هی منجّزة لمؤدّاها بشرط أن تکون فی معرض الوصول، بشرط أن تکون لو فحص عنها المکلّف لوصل إلیها، فهی بوجودها الواقعی تکون منجّزة.

إذن: المنجّز للتکلیف لیس هو الإمارة بوجودها الواصل حتّی یقال أنّ الإمارة بوجودها الواصل متأخّر عن زمان العلم الإجمالی، فلا یتحقق شرط الانحلال الحکمی، وإنّما المنجّز هو الإمارة بوجودها الواقعی، إذا کانت فی معرض الوصول، وهذا المنجّز معاصر لزمان العلم الإجمالی، المکلّف الذی یعیش فی هذه الأزمنة، أو فی الأزمنة الأخری عندما یعلم إجمالاً بوجود تکالیف فی الشریعة ویحتمل وجود إمارات تدلّ علی جملةٍ من هذه التکالیف، وهذه الإمارات لو فحص عنها لعثر علیها. إذن: الإمارات المثبتة للتکلیف هی فی معرض الوصول، فتکون مقارنة للعلم الإجمالی، وبذلک یتحقق شرط الانحلال الحکمی. دفعوا الإشکال بهذا الشکل.

ص: 113


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص286.

من الواضح أنّ هذا الجواب عن الإشکال الذی ذکروه یتوقف علی الإیمان بالفکرة التی طرحوها، وهی أنّ منجّزیة الإمارة لمؤدّاها لا تتوقف علی وصول الإمارة، غیر منوطة، أو مشروطة بالوصول؛ بل الإمارة بوجودها الواقعی تکون منجّزة لمؤدّاها إذا کانت فی معرض الوصول، وإن لم تصل فعلاً. وأمّا إذا أنکرنا هذا کما أنکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وقال أنّ التنجیز فی الإمارة منوط بالوصول الفعلی، قبل ذلک لا تکون الإمارة منجّزة بشیء، إذا آمنا بما یقوله صاحب الکفایة(قدّس سرّه) حینئذٍ لا یتم هذا الجواب.

من جهةٍ أخری أنّ هذا الجواب، الظاهر أنّه لا یتم فی موارد العلم التفصیلی؛ لأنّه فی بعض الأحیان قد نفترض أنّ المکلّف یعلم ببعض الأحکام الشرعیة علماً تفصیلیاً، ولیس باعتبار قیام الإمارة، وإنّما یحصل عنده علم وجدانی ببعض التکالیف الإلزامیة، مثل وجوب الصلاة ووجوب الحج، أمور ثابتة بالعلم الوجدانی التفصیلی، هذا الجواب لا یتم فی ما لو کان المثبت للتکلیف فی بعض الشبهات علماً تفصیلیاً؛ لأنّه العلم التفصیلی لا یردفیه هذا الحدیث، المنجّز لهذا الطرف الذی قام علیه العلم التفصیلی هو العلم التفصیلی، قبل ذلک لیس هناک منجّز له، ولیس مثل الإمارة، الإمارة موجودة فی معرض الوصول، قد یقال أنّ کون الإمارة فی معرض الوصول تنجّز هذا الطرف، وإن لم تصل إلی المکلّف، العلم التفصیلی لیس هکذا، إذا وجد العلم التفصیلی فأنّه ینجّز معلومه، وإذا لم یوجد العلم فلا منجّز لهذا المعلوم، ولیس هناک شیء قبل العلم التفصیلی حتّی نشیر إلیه ونقول أنّ هذا الشیء هو الذی ینجّز المعلوم، بعکس الإمارة، فهذا الکلام قد یتم فی الإمارة، لکّنه لا یتم فی جمیع الموارد، لا یتمّ فی العلم التفصیلی إذا کان المثبت للتکلیف فی بعض الشبهات هو العلم التفصیلی، ومن هنا قد یکون ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) هو الجواب الأصح فی المقام عن الإشکال، وحاصل هذا الجواب هو أن نقول: أنّ هذا الإشکال اساساً لا موضوع له بناءً علی ما هو الصحیح فی تفسیر الأحکام الظاهریة. نعم، هذا الإشکال یتوجّه بناءً علی التفسیر الآخر للأحکام الظاهریة. (1)

ص: 114


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج3، ص385.

توضیح المطلب: تارة تُفسّر الأحکام الظاهریة علی أنّها أحکام ناشئة من ملاکٍ فی نفس جعلها وإنشائها، لا فی المتعلّق، وهناک مبنی یلتزم بهذا، ویترتّب علی هذا الرأی عدم وجود تضاد بین حکمین ظاهریین، ولا یوجد تنافٍ بین حکمین ظاهرین؛ لأنّ ملاک هذا الحکم قائم فی نفس جعله، وملاک ذاک الحکم قائم فی نفس جعله، والجعل متعدد، وأیّ ضیرٍ فی أن یکون ملاک هذا الحکم فی هذا الجعل، وملاک ذاک الحکم فی ذاک الجعل ؟ لا مشکلة فی هذا، الملاک لیس فی المتعلّق، لا مانع من أن یکون شیء واحد محکوماً علیه بالاحتیاط کحکم ظاهری، ومحکوماً علیه بالبراءة، لیس هناک تضاد، لو کان ملاک البراءة موجوداً فی متعلّقه، فی الفعل، وملاک الاحتیاط فی الفعل یلزم التضاد؛ لأنّ الفعل الواحد لا یمکن أن یکون فیه ملاک الاحتیاط وملاک البراءة، لکن علی هذا المبنی یقول أنّ ملاک الحکم الظاهری قائم فی نفس جعله وإنشائه لا فی المتعلّق، جعل هذا الحکم غیر جعل هذا الحکم، فملاک الاحتیاط قائم فی جعل هذا، وملاک البراءة قائم فی جعل البراءة، والجعل متعدد، فلا منافاة ولا تضاد بین الحکمین الظاهریین.

الرأی الآخر هو الذی تقدّم ذکره سابقاً، والذی یلتزم به السید الشهید(قدّس سرّه)، أنّ الأحکام الظاهریة هی عبارة عن إبراز الاهتمام بالأحکام الواقعیة، أو إبراز عدم الاهتمام بالأحکام الواقعیة، الاحتیاط یعنی إبراز الاهتمام بالأحکام الواقعیة الإلزامیة، والبراءة یعنی إبراز عدم الاهتمام بالأحکام الواقعیة الإلزامیة عندما یحصل اختلاط فی ما بینها فی مقام الحفظ، فالشارع یجعل البراءة؛ لأنّه لا یهتم بالأحکام الالزامیة الواقعیة، فحتّی لو فاتت الأحکام الواقعیة الالزامیة، مصلحة إطلاق العنان عنده أهم، إذا جعل الاحتیاط معناه أنّه یهتم بملاکات الأحکام الواقعیة المتزاحمة تزاحماً حفظیاً، فیُلزمه بالاحتیاط، وإن فاتته مصلحة إطلاق العنان، فالأحکام الظاهریة هی عبارة عن إبراز الاهتمام بالأحکام الواقعیة وملاکاتها، أو إبراز عدم الاهتمام بها. یترتب علی هذا الرأی أنّ الأحکام الظاهریة متضادّة بأنفسها کما هو الحال فی الأحکام الواقعیة، فکما أنّ الأحکام الواقعیة متضادّة، ولا یمکن أن یکون الشیء الواحد واجباً وحراماً فی آنٍ واحدٍ، الأحکام الظاهریة أیضاً متضادّة؛ لأنّ هذا الحکم یُعبّر عن شدّة اهتمام المولی بالإحکام الواقعیة الإلزامیة، بینما البراءة یُعبّر عن عدم اهتمامه بملاکات الأحکام الالزامیة الواقعیة، فلا یمکن الجمع بینهما؛ لأنّهما متضادان، أو متناقضان، لا یمکن أن یکون بلحاظ الشیء الواحد الشارع یهتمّ به اهتماماً شدیداً، وفی نفس الوقت لا یهتم، فلا یجتمع(یهتم)، و(لا یهتم)، یُبرز اهتمامه، ویبرز عدم اهتمامه لا یمکن الجمع بینهما، ومن هنا یحصل التضاد بین الأحکام الظاهریة فی أنفسها، بقطع النظر عن عالم المحرّکیة؛ لأنّه علی الرأی الأوّل، القول بعدم وجود تضاد بین الأحکام الظاهریة فی حدّ أنفسها، لکن هذا لا یمنع أن نقول بینها تضاد فی عالم المحرّکیة، حتّی علی الرأی الأوّل، بالنتیجة الاحتیاط یمنع المکلّف من الإقدام فی عالم المحرّکیة، والبراءة تطلق له العنان، وهذان متنافیان، لکن کلامنا لیس فی عالم المحرّکیة، الأحکام الظاهریة بلا إشکال بعد وصولها تکون متضادّة ومتنافیة، کلامنا بلحاظ أنفسها، هذا حکم ظاهری بالاحتیاط، وهذا براءة، هل بینهما تنافٍ، أو لا ؟ علی الرأی الأوّل لیس بینها تنافٍ، وعلی الرأی الثانی یثبت التنافی فی ما بینها.

ص: 115

إذا أصبحت هذه المقدّمة واضحة؛ حینئذٍ نأتی إلی الجواب، یقال فی مقام الجواب: عندما یکون هناک تضاد واقعی حقیقی بین الأحکام الظاهریة؛ حینئذٍ بقیام الإمارة المثبتة للتکلیف فی بعض الشبهات، نستکشف عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر؛ لأنّهما متضادان، والدلیل الذی یدلّ علی أحد المتضادّین نکشف منه عدم ثبوت الآخر من البدایة، لیس عدم ثبوت البراءة من الآن، وإنّما عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر، إذا کانت هناک إمارة مثبتة للتکلیف، وهذه الإمارة حجّة ومعتبرة تمثل حکماً ظاهریاً اعتبارها، وهی إمارة أیضاً، هذا یکشف عن عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر، وإذا کشف عن عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر لا مانع من إجراء البراءة فی الطرف الآخر بلا معارضٍ، فینحلّ العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً، بخلاف ما إذا قلنا بالمبنی الأوّل؛ لأنّه لا یوجد تضاد بینهما، فقیام الإمارة علی إثبات التکلیف، وکون الإمارة حجّة لا یکشف إطلاقاً عن عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر، فتثبت البراءة فی مورد قیام الإمارة، وتُعارض هذه البراءة بالبراءة فی الطرف الآخر، وبهذا لا ینحل العلم الإجمالی حکماً، فتثبت الشبهة، فجواب الشبهة مبنی علی هذا.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العملیّة /تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، وشرائط هذا الانحلال. ذکرنا الشرط الأوّل وهو شرطٌ فی کل انحلالٍ حکمیٍ، وهو عدم تأخّر المنجّز للتکلیف فی بعض الأطراف عن العلم الإجمالی، أنّ المنجّز للتکلیف فی بعض الأطراف بعینه لابدّ أن لا یکون متأخّراً زماناً عن العلم الإجمالی، سواء کان هذا المنجّز علماً تفصیلیاً کما تقدّم، أو إمارةً، أو اصلاً منجّزاً للتکلیف. وأمّا إذا کان متأخّراً عن زمان العلم الإجمالی هنا لا یوجد انحلالٌ حکمی. وقلنا أنّه علی ضوء هذا الشرط قد تُثار مشکلة بالنسبة إلی دعوی الأخباریین أنّه یجب الاحتیاط فی الشبهات اعتماداً علی العلم الإجمالی بوجود تکالیف إلزامیة فی الشریعة المقدّسة.

ص: 116

وجواب الجماعة عن هذا الکلام بأنّ هذا العلم الإجمالی وإن کان موجوداً، لکنّه منحلٌ انحلالاً حکمیاً بقیام الإمارات علی ثبوت التکلیف فی بعض تلک الشبهات، فینحل انحلالاً حکمیاً. الإشکال یقول: شرط الانحلال الحکمی هو تعاصر زمانی الإمارة المثبتة للتکلیف فی بعض الشبهات المعیّنة وزمان العلم الإجمالی، والحال أنّ الإمارات المثبتة للتکلیف فی بعض الشبهات المعینّة تحصل بالتدریج بعد الفحص، فزمانها لیس هو زمان العلم الإجمالی؛ بل هی متأخّرة زماناً عن العلم الإجمالی، فلا یتحقق شرط الانحلال الحکمی، فلا یصحّ هذا الجواب عن ما ذکره الأخباریون.

أجابوا عن ذلک بجوابٍ تقدم سابقاً، وتقدّم سابقاً أنّ فیه بعض الملاحظات، وانتهی الکلام إلی الجواب الثانی، وکان حاصله، هو أن یقال: أنّ الإشکال اساساً غیر واردٍ، وذلک لأنّه إنّما یرد هذا الإشکال ونحتاج إلی جوابه بناءً علی عدم وجود تنافٍ وتضادٍ واقعیٍ بین الأحکام الظاهریة، وإنّما یکون التنافی بینها بعد فرض الوصول بلحاظ عالم المحرکیة؛ حینئذٍ یقع التنافی بین البراءة من جهة __________ مثلاً ___________ والاحتیاط من جهةٍ أخری، بعد فرض الوصول یتنافیان؛ لأنّه لا یُعقل بلحاظ المحرکیة أن یکون فی الشیء براءة، وأن یکون فیه احتیاط؛ لأنّ الاحتیاط یحرّک نحو الفعل، أو الترک، بینما البراءة لا تحرّک؛ بل تطلق العنان، فیتنافیان بعد فرض الوصول وبلحاظ عالم المحرّکیة. أمّا بقطع النظر عن ذلک لا یوجد بینهما تنافٍ واقعی؛ لأنّ ملاک الحکم الظاهری قائم فی نفس إنشائه وجعله، وحیث أنّ جعل الاحتیاط غیر جعل البراءة، الجعل متعددّ؛ وحینئذٍ لا یوجد تنافٍ بین البراءة والاحتیاط بلحاظ الملاک والمبادئ؛ لأنّ ملاک البراءة قائمٌ فی نفس جعلها وملاک الاحتیاط قائمٌ فی نفس جعله، فلم یجتمعا فی موضوعٍ واحدٍ حتّی یحصل بینهما التنافی؛ حینئذٍ یکون لهذا الإشکال صورة؛ لأنّه یقال بأنّه بقیام الإمارة علی ثبوت التکلیف فی بعض الأطراف المعیّن، علی ثبوت المنجّز فی هذا الطرف وذاک، هذه الإمارة لا تستطیع أن تکشف عن عدم جریان البراءة فی موردها من بدایة الأمر؛ لأنّه لا یوجد بینهما تضاد حقیقی حتّی یکون الدلیل الدال علی أحد المتضادّین کاشفاً ودالاً علی عدم ثبوت الآخر واقعاً، هذا شأن الأمور المتضادة حقیقةً وواقعاً، الدلیل الدال علی أحد الضدّین یکشف عن عدم الآخر واقعاً وفی نفس الأمر، بینما علی هذا الرأی لا یوجد تضاد بین البراءة وبین الاحتیاط، بین البراءة وبین التنجیز الظاهری، باعتبار قیام الإمارة؛ لأنّ التنجیز الظاهری بقیام الإمارة لا یکشف عن ثبوت البراءة من أوّل الأمر.

ص: 117

إذن: لا مانع من جریان البراءة فی هذا الطرف قبل قیام الإمارة، فإذا جرت فیه البراءة تُعارَض بالبراءة فی الطرف الآخر، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی وعدم الانحلال، فلا یصحّ جوابکم عن شبهة الأخباریین.

وأمّا بناءً علی الرأی الآخر الذی یقول أنّ الأحکام الظاهریة کالأحکام الواقعیة متضادّة فیما بینها تضادّاً واقعیاً حقیقیاً، الاحتیاط کحکمٍ ظاهری هو مضاد للبراءة کحکمٍ ظاهری، فهما متضادان واقعاً وحقیقةً؛ لأنّ أحدهما یکشف عن شدّة اهتمام المولی بالأحکام الإلزامیة الواقعیة، بینما الآخر یکشف عن عدم اهتمامه بالأحکام الإلزامیة الواقعیة. هذان الأمران لا یمکن أن یجتمعا، إبراز الاهتمام وإبراز عدم الاهتمام لا یمکن أن یجتمعا، فهما متضادّان واقعاً، فإذا کانا متضادّین واقعاً وفی نفس الأمر، فالدلیل الدال علی أحدهما یکشف عن عدم الآخر من أول الأمر، فبقیام الإمارة علی تنجیز التکلیف فی بعض الشبهات المعیّنة یکشف عن أنّ هذه الشبهات التی قامت فیها الإمارة لا تثبت فیها البراءة من أوّل الأمر؛ لأنّه بقیام الإمارة فی هذه الشبهات تکشف عن اهتمام المولی بالأحکام الالزامیة المحتملة فی هذه الشبهات؛ ولذا لم یجعل البراءة، وإنّما أمر بسلوک طریق الإمارة، جَعَل الحجّیة للإمارة، وجَعْل الإمارة منجّزةً للتکلیف یکشف عن اهتمامه بالأحکام الإلزامیة المحتملة، فإذا کشف عن اهتمامه بالأحکام الإلزامیة فی هذه الموارد، فهذا یعنی أنّه لیس هناک براءة من أوّل الأمر؛ لأنّ البراءة فی هذه الموارد تعنی عدم اهتمامه بالأحکام الإلزامیة فی تلک الموارد، فالدلیل الدال علی الاهتمام بالأحکام الإلزامیة فی تلک الموارد لا إشکال فی أنّه یکشف عن عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر. إذن: هذه الموارد لا تجری فیها البراءة من أوّل الأمر، فتجری البراءة فی الطرف الآخر، أو الأطراف الأخری بلا معارض، فیتحقق الانحلال الحکمی ویتمّ الجواب عن شبهة الأخباریین، فیقال لهم: وإنّ کنّا نعلم علماً إجمالیاً بوجود تکالیف إلزامیة فی ضمن الشبهات فی الشریعة المقدّسة، لکن هذا العلم الإجمالی منحلٌ انحلالاً حکمیاً بعد قیام الإمارات علی إثبات إحکامٍ إلزامیة فی جملةٍ من الشبهات بالشروط الآتیة الأخری . افترض أنّ قیام الإمارة متأخّر، لکنّه _________ بناءً علی هذا الکلام __________ یکشف عن عدم ثبوت البراءة والأصل المؤمّن فی موارد قیام الإمارات من أوّل الأمر، من البدایة البراءة لا تجری فی هذه الموارد؛ لأنّ الحجّیة الثابتة للإمارة فی هذه الموارد تکشف عن اهتمام المولی بالأحکام الإلزامیة المحتملة فی تلک الموارد، وهذا لا یمکن أن یجتمع مع عدم اهتمامه بالأحکام الإلزامیة فی نفس تلک الموارد، فیکون کاشفاً عن عدم جریان البراءة من أوّل الأمر، وإذا لم تجرِ البراءة فی هذه الموارد من أوّل الأمر، جرت البراءة فی الموارد الأخری بلا معارض، وانحلّ العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً. هذا بالنسبة إلی الشرط الأوّل فی الانحلال، وهو أن یکون المنجّز للتکلیف معاصراً للعلم الإجمالی،

ص: 118

قد یقال: فی هذا المورد لیس هناک معاصرة، وبالنتیجة لم یتوفر هذا الشرط؛ لأنّ الإمارة بالنتیجة متأخّرة زماناً عن العلم الإجمالی بحسب الفرض.

نقول: لا مشکلة، لم یکن معاصراً، لکن بالنتیجة قیام الإمارة یکشف __________ بناءً علی هذا المبنی __________ عن عدم جریان البراءة فی المورد الذی قامت فیه الإمارة من أوّل الأمر، وهذا یکفی لإثبات الانحلال. المهم أنّ الموارد التی قامت فیها الإمارة لا تجری فیها البراءة من أوّل الأمر لا من حین قیام الإمارة، وهذه هی نکتة البحث. لماذا لا یوجد انحلال إذا تأخّرت الإمارة، أو العلم التفصیلی ؟ لأنّه بلحاظ فترة ما قبل قیام العلم التفصیلی، أو الإمارة، تجری البراءة فی هذا الطرف، وتُعارَض بالبراءة فی الطرف الآخر، فیتنجّز العلم الإجمالی ولا انحلال. هذه هی المشکلة، المشکلة تنشأ من جریان البراءة فی هذا المورد الذی قام فیه العلم التفصیلی قبل قیام العلم التفصیلی؛ لأنّ هذا المورد تنجّز بالعلم التفصیلی، فقبل قیام العلم التفصیلی لیس له منجّز، فإذا لم یکن له منجّز تجری فیه البراءة، وإذا جرت فیه البراءة تُعارَض بالبراءة فی الطرف الآخر، فیتنجّز العلم الإجمالی، ولا یوجد انحلال حکمی. فإذا استطعنا أن نثبت أنّ هذا المورد الذی قامت فیه الإمارة هو من أوّل الأمر لا تجری فیه البراءة، أصلاً لیس مورداً للبراءة، انحلّ العلم الإجمالی؛ لأنّ البراءة تجری فی الطرف الآخر بلا معارض. المهم هو إثبات أنّ مورد الإمارة لیس مورداً للبراءة، وهذا یمکن إثباته بنحوین:

النحو الأوّل: هو الشرط السابق، الذی هو أن یکون قیام الإمارة معاصراً زماناً للعلم الإجمالی، فیمنع من جریان البراءة فی هذا المورد من البدایة، فتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارض.

ص: 119

النحو الثانی: أن نفترض أنّ الإمارة متأخّرة زماناً عن العلم الإجمالی، لکنّها تکشف عن أنّ موردها لیس مورداً للبراءة من أوّل الأمر، بناءً علی التضادّ الواقعی والحقیقی بین الأحکام الظاهریة، وهذا أیضاً یحقق الانحلال؛ لأنّ هذا المورد من بدایة الأمر لیس مورداً للبراءة، فتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارض، ویتحقق الانحلال الحکمی.

الشرط الثانی: أن لا یقل ما تنجّز بالإمارة عن المعلوم بالإجمال، أی أن لا یکون ما تنجّزه الإمارة، أو الأصل أقل من المعلوم بالإجمال. وأمّا إذا کان ما تنجّزه الإمارة أقل من المعلوم بالإجمال؛ فحینئذٍ لا یکون هناک انحلال حکمی؛ لأنّ ما ینجّزه العلم الإجمالی ___________ فرضاً ___________ هو عشرة، وما تنجّزه الإمارة أثنان، هذا المقدار الزائد علی ما تنجّزه الإمارة یکون العلم الإجمالی منجّزاً بلحاظه، وتتعارض فیه الأصول العملیة؛ لأنّ المقدار الزائد لا مانع من أن تجری فیه البراءة، وتُعارض بالبراءة فی الأطراف الأخری، إنّما ینحل العلم الإجمالی إذا کان ما تنجّزه الإمارة بمقدار أقل من المعلوم بالإجمال. أنا أعلم بنجاسة إناء من بین عشرة آنیة، وما قامت علیه الإمارة نجاسة إناءٍ واحدٍ معیّن، فی هذه الحالة ینحلّ العلم الإجمالی؛ لأنّ هذا الإناء المعیّن لا تجری فیه البراءة، لا یجری فیه الأصل المؤمّن بعد فرض قیام الإمارة علی ثبوت التکلیف فیه، فتجری البراءة فی الأطراف الأخری بلا معارضٍ، فینحل العلم الإجمالی. أمّا إذا کان ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة إناءین من عشرة وما قامت علیه الإمارة هو نجاسة إناء واحدٍ معیّن، بلحاظ الزائد عن هذا الواحد یکون العلم الإجمالی منجّزاً، والأصول تکون متعارضة بلحاظه، فیتنجّز العلم الإجمالی ولا یثبت الانحلال الحکمی.

ص: 120

الشرط الثالث: أن لا تثبت الإمارة، أو الأصل المنجّز للتکلیف، تکلیفاً مغایراً للتکلیف المعلوم بالإجمال ___________ مثلاً ___________ إذا فرضنا أنّه یعلم إجمالاً بحرمة الشرب من أحد الإناءین من جهة نجاسته، وقامت الإمارة علی حرمة الشرب من أحدهما المعین من جهة غصبیته، فی هذه الحالة أیضاً لا یکون العلم الإجمالی منحلاً انحلالاً حکمیاً؛ لأنّ ما تنجّزه الإمارة غیر ما ینجّزه العلم الإجمالی. ما تنجّزه الإمارة هو حرمة من جهة الغصبیة، بینما ما ینجّزه العلم الإجمالی هو التکلیف من جهة النجاسة، وفی هذه الحالة لا یوجد انحلال حکمی؛ لأنّ غیر ما تنجّزه الإمارة تکون الأصول بلحاظه متعارضة، الإمارة فی هذا الطرف المعیّن تنجّز حرمة من جهة الغصبیة، لکنّها لا تنجّز حرمة من جهة النجاسة. العلم الإجمالی ینجّز حرمة من جهة النجاسة، والأصول بلحاظ هذه الحرمة من جهة النجاسة متعارضة، یعنی أنّ أصالة البراءة فی الطرف الآخر معارَضة بأصالة البراءة فی هذا الطرف الذی قامت الإمارة علی أنّه بعینه حرام، لکن من جهة الغصبیة، هذا لا مانع منه، وإن کان هذا الطرف المعیّن هو حرام علی کلّ حال؛ لأنّه قامت الإمارة علی حرمته من جهة الغصبیة، أو من جهة النجاسة، بالنتیجة هو حرام علی کل حال.

قد یُستشکل ویقال: کیف تجری فیه البراءة حتّی تُعارَض بالبراءة فی الطرف الآخر، وبالتالی یتنجّز العلم الإجمالی ولا یثبت الانحلال الحکمی ؟

الجواب هو: لا مشکلة، هذه الحرمة من جهة النجاسة لا تنجّزها الإمارة، فتکون الأصول متعارضة بلحاظ الحرمة من جهة النجاسة.

وبعبارةٍ أخری: إنّ البراءة تجری فی هذا الطرف المعیّن الذی قامت الإمارة علی حرمته، لنفی العقاب الزائد؛ لأنّ هذا حرام من جهة الغصبیة، ونشکّ فی أنّه هل هو حرام من جهة النجاسة، أو لا ؟ فکأنّ الذی یرتکبه، علی تقدیر أن یکون حراماً من جهة النجاسة، کأنّه یرتکب حرامین، ویخالف حرمتین، حرمة من جهة الغصبیة، وحرمة من جهة النجاسة. نحن نرید أن نؤمّن بإجراء البراءة فی هذا الطرف الذی نعلم بحرمته __________ نعلم باعتبار الإمارة _________ نرید أن نؤمّن من ناحیة العقاب الزائد علی الحرمة من جهة النجاسة، فتجری فیه البراءة وتُعارض بالبراءة فی الطرف الآخر، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی وعدم الانحلال، یتحقق الانحلال إذا کان المنجّز بالإمارة لیس تکلیفاً غیر التکلیف الثابت بالعلم الإجمالی.

ص: 121

هذه هی الشروط المعتبرة فی الانحلال الحکمی، إذا تمّت هذه الشروط تحقق الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالإمارة، أو الأصل المنجّز للتکلیف. لکن تبقی مسألة أنّ هذا الانحلال الحکمی بالشرائط السابقة، فی ما لو توفّرت الشرائط السابقة، هذا الانحلال الحکمی لا إشکال فی أنّه ثابت بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة، بمعنی أنّ مثل هذا العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، وهذا معناه بحسب النتیجة أنّه یجوز للمکلّف أن یرتکب الطرف الآخر، وتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارضٍ، فیجوز أن یرتکب الطرف الآخر استناداً إلی البراءة الجاریة فی الطرف الآخر بلا معارضٍ، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعیة، فیجوز له ارتکاب الطرف الآخر. جواز ارتکاب الطرف الآخر لا إشکال أنّه ثابت لو اجتنب الطرف الذی قامت الإمارة علی ثبوت التکلیف فیه _________ ولنسمّه الطرف الأوّل _________، لکن هل جواز ارتکاب الطرف الآخر ثابت حتّی مع ارتکاب الطرف الأوّل ؟ هذا البحث یعتمد علی أنّ انحلال العلم الإجمالی بالشرائط السابقة، هل هو فقط بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، أو هو کما یثبت بلحاظ الموافقة القطعیة یثبت أیضاً بلحاظ المخالفة القطعیة ؟ لا بمعنی أننا نجوّز للمکلّف أن یرتکب الطرفین، وإنّما بمعنی أن نقول للمکلّف: یجوز لک ارتکاب الطرف الآخر مطلقاً، یعنی سواءً اجتنبت الطرف الأوّل وعملت بالإمارة الحجّة المعتبرة، أو ارتکبت الطرف الأوّل ولم تجتنبه، حتّی إذا ارتکبت الطرف الأوّل یجوز لک ارتکاب الطرف الثانی. أن الانحلال هل هو بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة فقط، أو أنّ الانحلال الحکمی یثبت مطلقاً بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة وبلحاظ حرمة المخالفة القطعیة ؟

ص: 122

بعبارةٍ أخری: بعد الانحلال الحکمی المفروض فی محل کلامنا یجوز ارتکاب الطرف الآخر، بلا إشکال، لکن الکلام فی أنّه هل یجوز ارتکابه مع ارتکاب الطرف الأوّل، أو أنّ جواز ارتکابه مقیّد باجتناب الطرف الأوّل ؟

هذا السؤال فی الحقیقة یرتبط بالدلیل الدال علی جواز ارتکاب الطرف الآخر. ما هو الدلیل الذی نستند إلیه لتجویز ارتکاب الطرف الآخر ؟ لابدّ من ملاحظة هذا الدلیل، هل یدلّ علی جواز ارتکاب الطرف الآخر مقیّداً باجتناب الطرف الأوّل، أو یدلّ علی جواز ارتکابه مطلقاً، سواء ارتکب الطرف الأوّل، أو اجتنبه ؟ إذا کان یدلّ علیه مقیّداً باجتناب الطرف الأوّل، هذا معناه أنّه إذا ارتکب الطرف الأوّل لا یوجد جواز بالنسبة إلی الطرف الآخر؛ لأنّ الدلیل الدال علی جواز ارتکاب الطرف الآخر مقیّد باجتناب الطرف الأوّل، فلو ارتکب الطرف الأوّل، الدلیل لا یدلّ علی جواز ارتکاب الطرف الآخر.

وبعبارةٍ أخری: إذا ارتکبهما معاً، مخالفته وعصیانه یکون أشد ممّا إذا ارتکب الطرف الأوّل بخصوصه، إذا ارتکب الطرف الأوّل بخصوصه هو خالف المولی؛ لأنّ الإمارة حجّة معتبرة قامت علی ثبوت التکلیف فیه، فهناک عصیان ومخالفة، لکن إذا ارتکب کلاً منهما تکون المخالفة أشد والعصیان أشد، ویکون القبح أوضح ممّا إذا ارتکب الطرف الأوّل بخصوصه، کلٌ منهما فیه عصیان، وکلٌ منهما فیه مخالفة وتمرّد وقبح، لکن ارتکابهما معاً أشد؛ لأنّ جواز الطرف الآخر ____________ بحسب الفرض ___________ مقیّد بعدم ارتکاب الطرف الأوّل، فإذا ارتکب الطرف الأوّل، فکأنّه لا یوجد جواز فی الطرف الآخر. أو یقال بأنّ الدلیل الدال علی جواز ارتکاب الطرف الآخر مطلق، أی یجوز ارتکاب الطرف الآخر مطلقاً، سواء ارتکبت الطرف الأوّل، أو لم ترتکبه.

ص: 123

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق بأنّ الشروط المتقدّمة للانحلال الحکمی إذا تمّت تحقق الانحلال بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة الذی یعنی جواز ارتکاب الطرف الآخر، لکن جواز ارتکاب الطرف الآخر هل هو جائزٌ مطلقاً، بمعنی أنّه سواء اجتنب الطرف الأوّل، أو لا ؟ ومقصودنا من الطرف الأوّل هو الطرف الذی تنجّز فیه التکلیف، لقیام الإمارة علی ثبوت التکلیف فیه، أو الأصل. هل یجوز ارتکاب الطرف الآخر حتّی إذا ارتکب الطرف الأوّل ؟ أو أنّ جواز ارتکاب الطرف الآخر منوط باجتناب الطرف الأوّل ؟ فإذا قلنا بأنّ جواز ارتکاب الطرف الآخر منوط باجتناب الطرف الأوّل بحیث لا جواز بارتکابه مع ارتکاب الطرف الأوّل، هذا معناه أنّ العلم الإجمالی لیس منحلاً بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة. وأمّا إذا قلنا بأنّ جواز ارتکاب الطرف الآخر ثابت مطلقاً، سواء اجتنب الطرف الأوّل، أو ارتکبه، فإذا ارتکب الطرفین هو لم یعصِ ولم یخالف إلاّ بمقدار مخالفة الطرف الذی تنجّز فیه التکلیف؛ لأنّ ارتکاب الطرف الآخر جائز ____________ بحسب الفرض _____________ مطلقاً، أی حتّی إذا ارتکب الطرف الأوّل، فإذا ارتکبهما هو یعصی بمقدار مخالفة التکلیف المنجّز فی الطرف الأوّل، بینما علی الوجه الأوّل ارتکاب الطرف الآخر منوط باجتناب ارتکاب الطرف الأوّل، فإذا ارتکبهما هو فی الحقیقة یرتکب مخالفة أکثر وأشدّ. والمقصود من عدم الانحلال بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة، أو بعبارة أحری: المقصود من بقاء العلم الإجمالی علی تنجیزه لحرمة المخالفة القطعیة هو أنّ من یرتکب الطرفین یخالف ویعصی أکثر ممّا لو ارتکب الطرف الأوّل الذی تنجّز التکلیف فیه، ومعنی أنّ العلم الإجمالی منحلٌ حتّی بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة، بمعنی أنّ هذا العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة ولا حرمة المخالفة القطعیة بهذا المعنی، فإذا ارتکب الطرفین هو لا یخالف ولا یعصی إلاّ بمقدار مخالفة التکلیف المنجّز فی هذا الطرف، فأیّهما هو الصحیح ؟ هل الانحلال الذی توفرّت شروطه یثبت بلحاظ کلٍ منهما، أو یثبت فقط بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة ؟

ص: 124

الظاهر أنّ هذا یختلف باختلاف الدلیل الذی یُستدَل به علی جواز ارتکاب الطرف الآخر من حیث کونه أصلاً شرعیاً، أو کونه أصلاً عقلیاً، من حیث کونه براءةً شرعیة، أو من حیث کونه براءةً عقلیة، قاعدة قبح العقاب بلا بیان، إذا کان الأصل الذی یُستند إلیه لإثبات جواز ارتکاب الطرف الآخر أصلاً شرعیاً مؤمّناً، حدیث الرفع وأمثاله یجری فی الطرف الآخر بلا معارض، وهو معنی الانحلال الحکمی، هذه القاعدة لیس فیها ما یقتضی تقییدها، جریانها فی الطرف الآخر لیس مقیّداً باجتناب الطرف الأوّل؛ بل هی تثبت التأمین والسعة فی الطرف الآخر مطلقاً بلا معارض، یعنی سواء ارتکب الطرف الأوّل، أو اجتنبه، حتّی إذا ارتکب الطرف الأوّل هی تجوّز له ارتکاب الطرف الآخر، هذا معنی إطلاقها، فإذا ارتکبهما هو لم یخالف إلاّ بمقدار مخالفة التکلیف المنجّز فی الطرف الأوّل. الأصل المؤمّن الشرعی، أی البراءة الشرعیة تجری فی الطرف الآخر مطلقاً، لیس فیه ما یقتضی التقیید، مطلقاً، تحقق موضوعه فی الطرف الآخر، کما هو المفروض، ولیس له معارض _________ بحسب الفرض _________ فیثبت التأمین فی الطرف الآخر مطلقاً حتّی إذا ارتکب الطرف الأوّل.

وأمّا إذا کان الأصل الذی یُستند إلیه لإثبات الجواز فی الطرف الآخر هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان، قاعدة عقلیة، أصل البراءة العقلی، هنا العقل یتدخّل، هنا یمکن أن یقال بأنّ العقل یری أنّ ارتکاب الطرفین أشد حالاً ممّا إذا ارتکب الطرف الأوّل فقط، إذا ارتکب الطرف الأوّل وقع فی مخالفةٍ وعصی وارتکب قبیحاً، لکن العقل یری أنّه إذا ارتکبهما معاً فقد وقع فی مخالفةٍ أشد وفی عصیان أشد، والقبح یکون أکبر ممّا إذا اقتصر علی مخالفة الطرف الأوّل فقط؛ لأنّ العقل یری أنّ مخالفة العلم غیر مخالفة الحجّة، الحجّة فیها احتمال عدم المصادفة للواقع، مخالفة الحجّة غیر العلم، هی أخف بنظر العقل من مخالفة العلم بالتکلیف، هذا عندما یرتکبهما معاً هو قد خالف العلم بثبوت التکلیف فیهما، لکن عندما یخالف الطرف الأوّل فقط هو قد خالف الإمارة والحجّة، ومخالفة الحجّة بنظر العقل أخفّ من مخالفة العلم، یعنی مخالفة العلم أقبح بنظر العقل من مخالفة الحجّة التی یحتمل فیها عدم المصادفة للواقع، بینما فی العلم، العالم لا یحتمل مخالفته للواقع، وعدم مصادفته للواقع؛ ولذا یقول له: أنت الذی لا تحتمل مخالفة العلم للواقع، مخالفتک للعلم أشد من مخالفة الإمارة والحجّة، فیمکن هنا أن یتدخّل العقل ویحکم بالتأمین ویکون حکمه بالتأمین فی الطرف الآخر منوطاً بعدم ارتکاب الطرف الأوّل، أمّا إذا ارتکب الطرف الأوّل العقل لا یضع تأمیناً، یعنی لا یقول له: أنت لم ترتکب مخالفة إلاّ بمقدار مخالفة التکلیف الثابت فی الطرف الأوّل؛ بل یری أنّه قد خالف مخالفةً أشد وعصی عصیاناً أشد، وارتکب قبیحاً أکثر ممّا یرتکبه لو اقتصر علی مخالفة الطرف الأوّل.

ص: 125

إلی هنا یتمّ الکلام عن کبری انحلال العلم الإجمالی، یبقی هناک مطلبٌ یرتبط بما نقلناه عن السید الشهید(قدّس سرّه) إن شاء الله نبیّنه ونلحقه بعد ذلک.

الآن ندخل فی بحثٍ آخر وهو فی بحث اشتراک علمین إجمالیین فی طرفٍ واحدٍ، فی بعض الأحیان نری أنّ هناک طرفاً واحداً یشترک فی علمین إجمالیین، علم بنجاسة أحد إناءین، أحدهما نفترض أنّه أبیض، والآخر أسود، وعلم أیضاً بنجاسة أحد إناءین، أحدهما الإناء الأسود الذی هو الطرف فی العلم الإجمالی الأوّل، أو الإناء الأحمر الذی هو إناء آخر ثالث، فیکون الإناء الأسود طرفاً لعلمین إجمالیین. الکلام فی أنّ اشتراک العلمیین الإجمالیین فی طرفٍ واحدٍ هل یوجب انحلال العلم الإجمالی الثانی، بحیث أنّ العلم الإجمالی الثانی ینحل، ولا ینجّز معلومه، ویظهر الأثر فی الإناء الأحمر الذی هو الطرف الخاص بالعلم الإجمالی الثانی، إذا أنحل العلم الإجمالی الثانی وسقط عن المنجّزیة؛ فحینئذٍ یجوز إجراء الأصل فی الإناء الثالث __________ الأحمر __________ وإذا قلنا أنّ العلم الإجمالی الثانی لا ینحل، ویبقی علی منجّزیته؛ حینئذٍ یکون العلم الإجمالی الثانی منجّزاً، فینجّز کلا طرفیه، ویمنع من إجراء الأصل فی کلٍ من الطرفین .

هنا تارةً یُفترض أنّ العلمین الإجمالیین الّذین یشترکان فی طرفٍ، متقارنان زماناً من ناحیة العلم، وکذا من ناحیة المعلوم، لا یوجد تقدّم وتأخّر بینهما، لا بلحاظ العلم، ولا بلحاظ المعلوم للعلمین، فالعلم الإجمالی الأوّل مقارن زماناً للعلم الإجمالی الثانی، کما أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل مقارن زماناً للمعلوم بالعلم الإجمالی الثانی، کما إذا فرضنا أنّه علِم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین الأبیض أو الأسود، وفی نفس الوقت علم بنجاسة أحد إناءین، إمّا الأسود الذی هو الطرف المشترک، أو الإناء الأحمر، فی نفس زمان المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، یعنی النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی هی فی نفس زمان النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل، فلیس هناک تقدّم وتأخّر بلحاظ العلم، ولا تقدّم وتأخّر بلحاظ المعلوم، ففی العلم الإجمالی الثانی یعلم بنجاسة فی أحد إناءین، إمّا الأسود، أو الأحمر فی نفس الوقت الذی علم فیه بنجاسةٍ مرددّة بین الإناء الأبیض، أو الإناء الأسود. النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل هی فی نفس وقت النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی، کما أنّ العلم الإجمالی الثانی حدث فی نفس الوقت الذی حدث فیه العلم الإجمالی الأوّل، فلا یوجد تقدّم وتأخّر لا بلحاظ العلم، ولا بلحاظ المعلوم.

ص: 126

هذه الصورة خارجة عن محل الکلام، بمعنی أنّه لا إشکال فی عدم الانحلال فیها، ولا مجال لأن یقال بأنّ العلم الإجمالی الأوّل ینحل بالعلم الإجمالی الثانی، أو أنّ العلم الإجمالی الثانی ینحل بالعلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ العلمین حینئذٍ یکونان فی عرضٍ واحدٍ، ونسبتهما إلی الأطراف نسبة واحدة؛ حینئذٍ لا مجال لأن یقال بانحلال الأوّل بالثانی، أو انحلال الثانی بالأوّل مع أنّهما فی عرضٍ واحد، ولا موجب لترجیح تحقق انحلال الأوّل بالثانی، أو الثانی بالأوّل؛ بل یبقی کلٌ منهما علی منجّزیته، وبذلک تتنجّز کل الأطراف الثلاثة.

وبعبارةٍ أخری: أنّ هذین العلمین الإجمالیین مع افتراض التقارن فی الزمان بلحاظ العلم وبلحاظ المعلوم یرجعان إلی علمٍ إجمالی واحدٍ بنجاسة إمّا الإناء المشترک، أو نجاسة الإناءین الآخرین، النجاسة المعلومة بالإجمال فی هذین العلمین إن کانت موجودة فی الإناء الأسود، فهی غیر موجودة فی الإناءین الآخرین، وإن کانت النجاسة غیر موجودة فی الإناء الأسود، فهی موجودة فی الإناءین الآخرین، وهذا معناه أنّه علم إجمالی واحد، إمّا بنجاسة الإناء الأسود، أو نجاسة الإناءین الآخرین، ومن الواضح أنّ مثل هذا العلم الإجمالی ینجّز أطرافه کما لو حدث ابتداءً بلا فرض علمین إجمالیین، لو فرضنا أنّه علِم من البدایة بأنّه إمّا الإناء الأسود نجس، أو أنّ هذین الإناءین نجسان، فکم أنّ هذا العلم الإجمالی بلا إشکال ینجّز الإناء الأسود، وینجّز الإناءین الآخرین؛ لأنّ الإناءین الآخرین هما طرفٌ لهذا العلم الإجمالی، هذا مثل ذاک؛ لأنّ مردّ العلمین الإجمالیین مع فرض التقارن بلحاظ العلم، وبلحاظ المعلوم إلی هذا العلم الإجمالی بنجاسة أحد الأمرین، إمّا الإناء الأسود، أو الإناءین الآخرین، فهنا لا إشکال فی التنجیز، ولا إشکال فی عدم الانحلال، فینبغی عزل هذه الصورة عن محل الکلام.

ص: 127

ومن هنا یظهر أنّ الکلام یقع فی ما إذا لم یحصل تقارن بین العلمین الإجمالیین، إمّا من ناحیة العلم نفسه لا یوجد تقارن زمانی، وإن کان هناک تقارن زمانی بلحاظ المعلوم، أو لم یکن هناک تقارن بلحاظ المعلوم بالعلمین الإجمالیین، بأن کانت النجاسة المعلومة بأحد العلمین متقدّمة زماناً علی النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی، وإن کان هناک تقارن بلحاظ نفس العلمین، ومرّة نفترض أنّ عدم التقارن بلحاظ کلتا الناحیتین، یعنی عدم تقارن فی العلم، وعدم تقارن من ناحیة المعلوم، أحد العلمین الإجمالیین کعلمٍ هو متقدّم زماناً علی العلم الإجمالی الثانی، النجاسة المعلومة بأحد العلمین متقدّمة زماناً علی النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی، فهنا لا یوجد تقارن بلحاظ کلتا الناحیتین.

الکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالی الثانی بنکتة کون أحد أطرافه طرفاً لعلم إجمالی آخر، هذا هل یوجب انحلال العلم الإجمالی الثانی المتأخّر زماناً من ناحیة العلم، أو المتأخّر زماناً من ناحیة المعلوم، أو المتأخّر زماناً من کلتا الناحیتین، هل ینحل هذا العلم الإجمالی بالعلم الإجمالی الأوّل فی جمیع هذه الفروض، أو لا ینحل فی جمیع هذه الفروض، أو یُفصّل بین هذه الفروض ؟

فی هذا المقام یُذکر رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه): (1) (2) حیث نُسب إلیه القول بأنّ العلم الإجمالی المتأخّر من ناحیة المعلوم ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم من ناحیة المعلوم، سواء کان نفس العلم متقدّماً، أو متأخّراً، أو مقارناً، هذا لا یضر، المیزان لیس هو ملاحظة زمان حصول العلم، وإنّما المیزان فی الانحلال هو ملاحظة التقارن وعدم التقارن بلحاظ المعلوم بالعلمین الإجمالیین، فإذا فرضنا أنّ المعلوم بأحد العلمین کان متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی یتحقق الانحلال فی هذه الحالة من دون فرقٍ بین أن یکون زمان العلم بأحدهما متقدّماً علی زمان العلم بالآخر، أو لم یکن متقدّماً علیه، المیزان هو أن یکون المعلوم بأحدهما سابقاً، أو متأخّراً علی المعلوم بالآخر. ما یذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) حسب(أجود التقریرات)، وکذا(فوائد الأصول)، یذکر مطلباً کلّیاً، یقول: أنّ العلم الإجمالی ینحل إذا قام ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطرافه المعیّنة، ولا یُفرّق فیه بین أن یکون علماً تفصیلیاً، أو یکون إمارةً مثبتة للتکلیف فی طرفٍ معیّن، أو أصلاً شرعیاً، أو أصلاً عقلیاً، المهم أن یقوم ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطراف العلم الإجمالی المعیّن، ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطراف العلم الإجمالی المعیّن عقلاً یجعل ما نحن فیه مثلاً له، نحن لا نتکلّم عن ما یوجب ثبوت التکلیف فی هذا الطرف المعیّن ویکون إمارةً، أو یکون أصلاً عملیاً شرعیاً، أو یکون علماً تفصیلیاً، کلامنا فعلاً لیس هذا، وإنّما الذی یثبت التکلیف فی بعض أطراف العلم الإجمالی الثانی، الذی هو الإناء الأسود هو العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ الإناء الأسود هو طرف للعلم الإجمالی الأوّل، وإذا کان طرفاً للعلم الإجمالی الأوّل العقل یحکم بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالی الأوّل بما فیها الإناء الأسود، إذن: الإناء الأسود الذی هو طرف للعلم الإجمالی الثانی قام ما یوجب ثبوت التکلیف فیه، لکن عقلاً، وهو العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّه نجّز التکلیف فی الأطراف، یعنی نجّز وجوب الاجتناب عن الطرفین بحکم العقل، العقل یحکم بلزوم الاجتناب عن الإناء الأسود، والإناء الأبیض الذی هو الطرف الثانی فی العلم الإجمالی الأوّل، إذن: العقل حکم بوجوب اجتناب الإناء الأسود، ثمّ جاء العلم الإجمالی الثانی. هذا یمثّل له بما نحن فیه، ویقول: بأنّ هذا العلم الإجمالی الثانی ما دام قام ما یوجب تنجّز التکلیف فیه، وهو بعضٌ معیّن من أطراف العلم الإجمالی الثانی، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی الثانی. کل علمٍ إجمالی عندما یقوم ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطرافه ینحل، سواء کان ما یوجب الثبوت علماً تفصیلیاً، أو إمارة، أو اصلاً شرعیاً، أو أصلاً عقلیاً، ما نحن فیه من هذا القبیل، ثمّ ذکر بأنّه لا یُفرّق فی ذلک بأن یکون الموجب لثبوت التکلیف حاصلاً قبل العلم الإجمالی، أو بعد العلم الإجمالی، غایة الأمر أنّه إذا کان الموجب لثبوت التکلیف فی بعض الأطراف المعیّن حاصلاً قبل العلم الإجمالی، فهو یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی التنجیز من البدایة، اساساً هو یمنع من کون هذا العلم الإجمالی موجباً للمنجّزیة، وإذا قام بعد العلم الإجمالی، فهو یوجب انحلال العلم الإجمالی. یعنی یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی المنجّزیة فی مرحلة البقاء الذی هو معنی الانحلال، بمعنی أنّ العلم الإجمالی انعقد وفی مرحلة الحدوث أثّر فی المنجّزیة، لکنّه ینحل فی مرحلة البقاء ویسقط عن التنجیز فی مرحلة البقاء فیوجب انحلاله بعد انعقاده.

ص: 128


1- فوائد الأصول، تقریر بحث النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص87.
2- وأجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص119.

الوجه فی الانحلال الذی یذکره، لماذا ینحل العلم الإجمالی بقیام ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطرافه المعیّنة ؟ الوجه فی الانحلال بشکلٍ عام الذی یجری فی جمیع الحالات، سواء کان علماً تفصیلیاً، أو إمارة، أو أصلاً عقلیاً الذی هو محل کلامنا، الوجه فی ذلک _________ حسب ما یستفاد من کلامه __________ هو أنّه یدّعی أنّ العلم الإجمالی إنّما یوجب التنجیز إذا کان یستوجب علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر؛ حینئذٍ یکون موجباً للمنجّزیة، وأمّا إذا کان علماً بتکلیفٍ علی تقدیرٍ، ولکنّه علی تقدیرٍ آخر لا یستوجب العلم بتکلیف، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، شرط منجّزیة العلم الإجمالی أنّه یستوجب العلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، یعنی سواء کان فی هذا الطرف، هو ینجّز، ویستوجب تکلیفاً، أو کان فی الطرف الآخر أیضاً هو یستوجب تکلیفاً، هذا الشرط الأساسی المهم فی تنجیز العلم الإجمالی، کل علمٍ إجمالی یستوجب العلم بتکلیفٍ علی کل تقدیر یکون منجّزاً، وکل علمٍ إجمالی لا یستوجب العلم بتکلیفٍ علی کل تقدیر وإنّما یستوجب العلم بتکلیفٍ علی تقدیرٍ دون تقدیرٍ آخر، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون موجباً للتنجیز، فینحل.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة /تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

الکلام فی انحلال أحد العلمین الإجمالیین بعلمٍ إجمالیٍ آخر فی ما إذا کانا یشترکان فی طرفٍ واحد، ذکرنا بأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذهب إلی الانحلال، لکن فی صورةٍ خاصّةٍ، وهی ما إذا کان العلم الإجمالی متأخّراً من حیث المعلوم، فأنّه ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم من حیث المعلوم ولا اعتبار بتقدّم وتأخّر نفس العلمین، وإنّما المناط علی تأخّر أحد العلمین الإجمالیین من حیث المعلوم عن المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر، فی هذه الحالة ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی المتأخّر من حیث المعلوم بالعلم الإجمالی المتقدّم من حیث المعلوم، سواء تقارن نفس العلمین الإجمالیین من حیث الزمان، أو لم یتقارنا، المهم أنّ المعلوم بأحد العلمین الإجمالیین یتقدّم علی المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر، فینحل الثانی، یعنی الذی یکون معلومه متأخّراً بالأوّل، الذی یکون معلومه متقدّماً.

ص: 129

ذکرنا أنّه استدل علی ذلک بقاعدةٍ أسسها فی المقام، وهی أنّ العلم الإجمالی إنّما یکون منجّزاً إذا کان علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر. کل علمٍ إجمالی یکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر یکون منجّزاً، وکل علمٍ إجمالی لا یکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، وإنّما یکون علماً بتکلیفٍ علی تقدیر دون تقدیر آخر لا یکون منجّزاً، هذه قاعدة أسسها؛ وحینئذٍ طبّقها فی محل الکلام، یقول: حینما نحتمل انطباق المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل علی أحد طرفی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی؛ حینئذٍ العلم الإجمالی الثانی لا یکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه علی تقدیر الانطباق لا یکون هناک تکلیف، وإنّما یکون هناک تکلیف علی تقدیر عدم الانطباق، المثال السابق، العلم الإجمالی بأنّ أحد الإناءین نجس، إمّا الأسود ، أو الأحمر، هذا العلم إنّما یکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر فی ما إذا فرضنا أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل کان متحققاً بالإناء الأبیض ___________ فی العلم الإجمالی الأوّل ___________ وأمّا إذا کان المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل متحققاً بالإناء الأسود؛ حینئذٍ هذا العلم الإجمالی الثانی، الإناء الأسود هو نجس سابقاً علی هذا التقدیر، فالعلم الإجمالی بسقوط قطرة الدم فیه، أو فی الإناء الأحمر لا یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیرٍ؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون هذه القطرة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی ساقطة فی الإناء الأسود سوف لن تحدث تکلیفاً؛ لأنّ الإناء الأسود هو نجس سابقاً _________ بحسب الفرض _________ علی تقدیر أن تکون النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل موجودة فی الإناء الأسود، العلم الإجمالی بسقوط قطرة دم إمّا فی الأسود، أو فی الأحمر لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، وإنّما هو علم بتکلیفٍ علی أحد تقدیرین، علی تقدیر الانطباق هو لیس علماً بتکلیفٍ، أمّا علی تقدیر عدم الانطباق علی الإناء الأسود؛ حینئذٍ قد یکون علماً بتکلیف. إذن: هو لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، وشرط المنجّزیة أن یکون العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر. وهذا لا یختص بمحل الکلام، فی موارد العلم التفصیلی وفی موارد قیام الإمارة، وقیام الأصل الشرعی المثبت للتکلیف، فی کل هذه الحالات یرد هذا الکلام، أنّ العلم الإجمالی لیس علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه علی أحد التقادیر هذا العلم الإجمالی لا یثبت تکلیف، علی تقدیر أن تکون قطرة الدم ساقطة فی هذا الإناء الذی فرضنا کونه نجساً سابقاً من البدایة، سقوط قطرة الدم فیه لا توجب علماً بتکلیفٍ. نعم لو سقطت قطرة الدم فی الإناء الآخر سوف تحدث تکلیفاً. إذن: العلم الإجمالی فی حالاتٍ من هذا القبیل هو لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ ولذا لا یکون منجّزاً.

ص: 130

هذا الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر بأنّه یتمّ فی موارد، ذکر موردین:

المورد الأوّل: ما إذا لم یکن هناک تقارن لا من ناحیة العلم ولا من ناحیة المعلوم، بمعنی أنّ أحد العلمین الإجمالیین متأخّر من حیث العلم عن العلم الإجمالی الثانی، ومن حیث المعلوم أیضاً هو متأخّر عن العلم الإجمالی الأوّل، فهما غیر متقارنین، لا من حیث العلم، ولا من حیث المعلوم، کما إذا فرضنا أنّه علم إجمالاً بنجاسة أحد إناءین الأبیض والأسود، ثمّ بعد ذلک علم بحدوث نجاسةٍ أخری، إمّا فی الإناء الأسود، أو فی الإناء الأحمر. (ثمّ علِم) إشارة إلی التقارن من حیث العلم، علم أول متقدّم زماناً علی العلم الثانی، علِم بنجاسةٍ أخری فی العلم الإجمالی الثانی، معناه أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی هو غیر المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل ومتأخّر عنه زماناً. فی هذه الحالة، قال: هذا الذی ذکرناه لإثبات الانحلال یکون تامّاً فی هذه الحالة، وتمامیة ما ذکره من القاعدة لإثبات الانحلال یکون واضحاً فی هذا المثال فی هذا المورد، باعتبار أنّ المکلّف وإن کان یعلم بالعلم الإجمالی الثانی المتأخّر زماناً ___________ بحسب الفرض _____________ بأنّ النجاسة وقعت فی أحد الإناءین، الأسود، أو الأحمر، إلاّ أنّ هذا لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّ هذه النجاسة إذا کانت واقعة فی الإناء الأسود، وکان هو النجس المعلوم سابقاً؛ حینئذٍ لا تستوجب هذه النجاسة تکلیفاً له؛ لأننا فرضنا أنّ الإناء الأسود هو النجس سابقاً، وعلی تقدیر أن تقع النجاسة فی هذا الإناء النجس سابقاً سوف لا تستوجب تکلیفاً، باعتبار أنّ الإناء الأسود کان یجب الاجتناب عنه من البدایة، فسقوط النجاسة فیه لا تستوجب تکلیفاً. نعم سقوط هذه النجاسة فی العلم الإجمالی الثانی تستوجب تکلیفاً إذا وقعت فی الإناء الأحمر؛ لأننا لم نفرض أنّ الإناء الأحمر کان نجساً سابقاً؛ بل حتّی إذا سقطت فی الإناء الأسود، لکن لم نفترض أنّ الإناء الأسود هو النجس فی العلم الإجمالی الأوّل، بأنّ فرضنا أنّ النجس فی العلم الإجمالی الأوّل هو الأبیض، هنا أیضاً قطرة الدم تستوجب حدوث تکلیفٍ، لکن عندما نفترض أنّها تسقط فی الإناء الأسود، ونفترض أنّ الإناء الأسود هو النجس سابقاً، هذه لا تستوجب تکلیفاً.

ص: 131

إذن: العلم الإجمالی الثانی لا یستوجب تکلیفاً فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما یستوجب تکلیفاً علی تقدیر دون تقدیرٍ آخر، مثل هذا العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة.

المورد الثانی: ما إذا کان أحد العلمین الإجمالیین متأخّراً عن الآخر، فلا یوجد تقارن من ناحیة نفس العلم، وکان المعلوم بالعلم المتأخّر زماناً من حیث العلم کان المعلوم به متقدّماً زماناً علی المعلوم بالعلم الأوّل المتقدّم من حیث العلم، مثلاً: إذا علِم بوقوع نجاسةٍ الآن، إمّا بالإناء الأسود، أو الإناء الأبیض، ثمّ علِم بعد ذلک ___________ (بعد ذلک) معناها أنّ العلم الإجمالی الثانی متأخّر من حیث العلم عن العلم الإجمالی الأوّل __________ بأنّ الإناء الأسود، أو الأحمر سقطت فیه النجاسة من الصباح، ولنفترض أنّ الآن السابق کان العصر __________ مثلاً ___________ فالعلم الإجمالی الثانی متأخّر زماناً عن العلم الإجمالی الأوّل من حیث العلم، لکنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی متقدّم زماناً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل. هنا أیضاً لا یوجد تقارن، لا من حیث العلم، ولا من حیث المعلوم، لکن فرقه عن السابق هو أنّنا نفترض أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی متقدّم زماناً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، هنا قال أیضاً یجری ما ذکرناه، وتنطبق القاعدة السابقة فی المقام، ویثبت الانحلال؛ لأنّ العلم الإجمالی الأوّل، یعنی العلم بنجاسة الإناء الأسود، أو الأبیض عندما حصل العلم الإجمالی الأوّل کان منجّزاً للطرفین؛ لأنّه علمٌ بالتکلیف علی کل تقدیر، فیکون منجّزاً، لکن بعد حصول العلم الإجمالی الثانی، یعنی العلم بنجاسة إمّا الإناء الأسود، أو الإناء الأبیض من الصباح بحیث یکون معلومه متقدّم زماناً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، من الصباح حصل لدیّ علم بعد العلم الإجمالی الأوّل بأنّ أحد الإناءین إمّا الأسود، أو الأحمر من الصباح کان نجساً، بعد حصول هذا العلم الإجمالی الثانی ینکشف بأنّ النجاسة التی علم إجمالاً بوقوعها فی أحد الإناءین، الأسود، أو الأبیض لا تستوجب تکلیفاً علی کل تقدیر. هذا العلم الإجمالی المتقدّم زماناً من حیث العلم یسقط عن التنجیز؛ لأنّه الآن أنا علمت بأنّ النجاسة التی سقطت فی أحد الإناءین، الأبیض، أو الأسود لا تستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّ هذه النجاسة لو کانت ساقطة فی الإناء الأسود، وکانت النجاسة المعلومة منذ الصباح هی أیضاً فی الأسود، إذن: هذا العلم الإجمالی لیس علماً إجمالیاً بتکلیفٍ؛ لأنّه سوف لن یحدث تکلیفاً؛ لأننا فرضنا نجاسة الإناء الأسود منذ الصباح، فحینما تسقط النجاسة فیه لا تحدث تکلیفاً.

ص: 132

نعم، قبلالعلم الإجمالی الثانی علم إجمالی ینجّز کلا الطرفین، ویکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیرٍ، لکن بعد حصول العلم الإجمالی الثانی الذی یقول أنّ الإناء الأسود، أو الأحمر نجس منذ الصباح، أحد المحتملات هو أن تکون هذه النجاسة منذ الصباح فی الأسود، إذا فرضنا أنّ النجاسة التی علمت بسقوطها فی أحد الإناءین الأسود والأبیض، نفترض أنّها سقطت فی الأسود، مع کون الأسود هو النجس منذ الصباح، هذه لا تحدث تکلیفا. نعم، لو أصابت النجاسة الإناء الأحمر؛ حینئذٍ یکون هذا العلم الإجمالی موجباً لإحداث تکلیفٍ؛ لأنّ الأسود کان نجساً منذ الصباح، والأحمر لم یکن نجساً منذ الصباح، فیکون هذا العلم علی هذا التقدیر علم بتکلیف، لکن هذا علم بتکلیفٍ علی تقدیرٍ، لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیرٍ؛ ولذا لا یکون هذا العلم الإجمالی منجّزاً، ویسقط مثل هذا العلم الإجمالی المتقدّم زماناً من حیث العلم، هذا العلم الإجمالی ینحل بالعلم الإجمالی الثانی المتأخّر زماناً من حیث العلم، لکنّه متقدّم زماناً من حیث المعلوم.

ومن هنا یظهر أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یری أنّ العلم الإجمالی المتأخّر من ناحیة المعلوم، وإن کانا متقدّماً زماناً من حیث العلم، ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم زماناً من ناحیة المعلوم، وإن کان متأخّراً من ناحیة العلم؛ حینئذٍ لیس هناک اثر للتقارن بین زمان العلمین، أو عدم التقارن بین زمان العلمین، المناط علی تقدّم المعلوم بأحد العلمین علی المعلوم بالعلم الآخر، فینحل المتأخّر من حیث المعلوم بالمتقدّم من حیث المعلوم، سواء تقارن العلمان، أو تقدّم أحدهما علی الآخر، هذا کله لا أثر له، وإنّما الأثر فقط للتقدّم والتأخّر من حیث المعلوم، فإذا کان أحد العلمین معلومه متقدّماً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر، العلم الإجمالی المتأخّر من حیث المعلوم ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم من حیث المعلوم. هذا هو ملاک الانحلال عنده. وهذا معناه أنّه بنظره الشریف لا یتحقق الانحلال فیما لو کانا متقارنین من حیث المعلوم؛ لأنّ شرط الانحلال عنده أن یکون التقدّم والتأخّر بلحاظ المعلوم، فلو تقارنا من حیث المعلوم لا یتحقق الانحلال کما إذا علمنا ____________ مثلاً ____________ فی العصر وقت الزوال بنجاسة أحد الإناءین الأسود، أو الأبیض، العصر وقتٌ للعلم، والزوال وقتٌ للمعلوم، ثمّ علمنا المغرب بنجاسة أحد الإناءین الأسود، أو الأحمر وقت الزوال أیضاً، هنا حصل تقارن بالنسبة إلی المعلوم بالعلمین الإجمالین، فکلاهما وقت الزوال، فی هذه الحالة لا یتحقق الشرط الذی ذکره، فینبغی أن لا یکون هناک انحلال، وسرّه هو أنّ کلاً من العلمین یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، ولا موجب للقول بأنّ العلم الإجمالی الأوّل لا یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، والثانی یستوجب، أو بالعکس، کلٌ منهما یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه لیس هناک تقدّم وتأخّر من حیث المعلوم، حدثا فی زمان واحد؛ فحینئذٍ هذا العلم الإجمالی یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، هذا أیضاً یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، وهذا نظیر ما تقدّم سابقاً الذی قلنا بأنّ هذا فی الحقیقة یرجع إلی علمٍ إجمالی واحد بنجاسة إمّا الإناء الأسود، أو نجاسة الإناءین الآخرین، هذا کان منوطاً بتقارن زمان المعلومین بالعلمین الإجمالیین، حتّی إذا کان أحد المعلومین متأخّر زماناً عن العلم الآخر.

ص: 133

کما أنّه یظهر ممّا ذکرناه فی بیان مقصوده(قدّس سرّه) أنّ هناک حالةً خارجةً عن محل کلامه، هو لا ینظر إلیها إطلاقاً، ولا یدّعی فیها الانحلال المتقدّم، وهی حالة ما إذا کان العلم الإجمالی الثانی متعلّقاً بتکلیفٍ آخر من غیر سنخ التکلیف الحاصل بالعلم الإجمالی الأوّل، کما إذا علِم بنجاسة أحد الإناءین، إمّا الأبیض، أو الأسود، ثمّ علِم بغصبیة أحد الإناءین، إمّا الأسود، أو الأحمر، هذه الغصبیة حرمة أخری غیر حرمة النجاسة، العلم الثانی لا ینحل بالعلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّه علم بتکلیفٍ جدیدٍ، حرمة الغصب غیر حرمة استعمال النجس، العلم الإجمالی الثانی أوجب علماً بحرمةٍ جدیدة، وهذا العلم الإجمالی بغصبیة أحد الإناءین هو علم بتکلیفٍ علی کل تقدیر، حتّی علی تقدیر أن یکون الإناء الأسود هو النجس بالعلم الإجمالی الأوّل، العلم الإجمالی الثانی سوف یحدث تکلیفاً جدیداً علی کل تقدیر، حتّی علی تقدیر أن یکون الإناء الأسود نجساً؛ لأنّ حرمة الغصب غیر حرمة شرب النجس، فیصح أن یقال بأنّ العلم الإجمالی الثانی هو علم بتکلیفٍ علی کل تقدیر، سواء کان الإناء المغصوب هو الإناء الأسود، أو کان الإناء المغصوب هو الإناء الأحمر، مثل هذا العلم الإجمالی لا یسقط عن التنجیز، ولا ینحل؛ بل یبقی علی منجّزیته. هذا لیس ناظراً له فی کلامه(قدّس سرّه)، وإنّما هو خارج عن محل کلامه.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

الذی یظهر من الکلام المتقدّم الذی ذکرناه فی مقام توضیح ما یریده المحققّ النائینی(قدّس سرّه) من دعوی انحلال العلم الإجمالی المتأخّر من جهة المعلوم بالعلم الإجمالی المتقدّم من جهة المعلوم، الذی یظهر من الکلام المتقدّم هو أنّه یرید بالحکم والتکلیف الذی اشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، الظاهر من خلال کلامه أنّ مقصوده من التکلیف هو التکلیف الحادث الجدید، التکلیف المُسبَّب عن ___________ فرضاً _________ سقوط قطرة دم فی العلم الإجمالی الثانی، یعنی یرید أن یقول بالعلم الإجمالی الثانی، والمقصود به هو العلم الإجمالی المتأخّر من حیث المعلوم، هذا العلم الإجمالی لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه علی بعض التقادیر لیس علماً بتکلیفٍ، علی تقدیر أن تکون النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل موجودة فی الإناء الأسود __________ الإناء المشترک ____________ فالعلم الإجمالی لا یُحدث فیه تکلیفاً، وإنّما یحدث تکلیفاً علی تقدیر أن تکون النجاسة واقعة فی الإناء الأحمر ___________ مثلاً ___________ حینئذٍ یحدث تکلیفاً، لکن علی هذا التقدیر لا یحدث تکلیفاً، فمقصوده بالتکلیف هو التکلیف الجدید، التکلیف الحادث الذی لم یکن موجوداً سابقاً، فیقول: یُعتبّر فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون علماً بتکلیفٍ حادثٍ علی کل تقدیرٍ، أن تکون قطرة الدم الساقطة فی أحد الإناءین فی العلم الإجمالی الثانی إمّا الأسود، أو الأحمر ....أن تکون قطرة الدم سبباً فی تکلیفٍ، وفی المقام لا یوجد عندنا علمٌ بتکلیفٍ علی کل تقدیر، لیس لدینا علم بأنّ قطرة الدم التی سقطت هی سببٌ فی تکلیفٍ؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون قطرة الدم التی سقطت فی الإناء الأسود، وکان الإناء الأسود نجساً فی العلم الإجمالی الأوّل، سقوط قطرة الدم فیه لا تُحدث تکلیفاً، ولا تکون سبباً فی تکلیفٍ، بینما یُعتبَر فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون علماً بحدوث تکلیفٍ جدیدٍ لم یکن موجوداً فی السابق، وإذا سلّمنا الکبری یکون هذا الکلام صحیحاً؛ لأنّه فی هذه الأمثلة التی ذکرها لیس لدیّ علم بحدوث تکلیفٍ بالعلم الإجمالی الثانی. نعم، لدیّ علم بأصل التکلیف، لکن هذا التکلیف الذی یحصل لدیّ علم به هو أعمّ من یکون حدوث تکلیفٍ، أو بقاء تکلیفٍ کان موجوداً من السابق، علی تقدیرٍ یکون حدوث تکلیفٍ، وعلی تقدیرٍ آخر لا یکون حدوث تکلیفٍ، وإنّما هو بقاء لتکلیفٍ کان موجوداً سابقاً، فکلامه صحیح، لکن الکلام فی اصل الکبری، أنّه هل صحیح أنّ منجّزیة العلم الإجمالی مشروطة بأن یکون هذا العلم علماً بتکلیفٍ جدیدٍ علی کل تقدیرٍ ؟ بحیث إذا علمنا کان العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ، لکن هذا التکلیف أعمّ من أن یکون حدوثیاً، أو بقائیاً، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، هل هذا صحیح ؟ أن نشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون علماً بحدوث تکلیفٍ، ولا یکفی فی منجّزیته أن یکون علماً بأصل التکلیف الذی یحتمل أن یکون علی بعض التقادیر تکلیفاً بقائیاً لا تکلیفاً حدوثیاً، هذا هل یمنع من منجّزیة العلم الإجمالی، أو لا ؟

ص: 134

الظاهر أنّه لا یمنع من منجّزیة العلم الإجمالی، لیس شرطاً فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون علماً بحدوث تکلیفٍ علی کل تقدیر، کلا، وإنّما المهم أن یکون علماً بأصل التکلیف، لیکن علی بعض التقادیر یحتمل أن یکون هذا التکلیف تکلیفاً بقائیاً لا حدوثیاً، هذا لا یضر فی منجّزیته، بدلیل أنّه لا إشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی بلحاظ طرفین فیما لو کان بعض أطرافه مسبوقاً بالشکّ البدوی، نشک فی أنّ الإناء الأسود نجس، أو لا ؟ ثمّ حصل علم إجمالی بسقوط قطرة دمٍ إمّا فی الإناء الأسود، أو فی الإناء الأبیض فی موردٍ آخر غیر محل کلامنا، هذا العلم الإجمالی بلا إشکال ینجّز کلا الطرفین مع أنّه لیس علماً بتکلیفٍ جدیدٍ علی کل تقدیر، علی بعض التقادیر یکون التکلیف بقائیاً لا حدوثیاً، علی تقدیر أن یکون الإناء الأسود المشکوک نجاسته بالشکّ البدوی، علی تقدیر أن یکون نجساً، فسقوط قطرة الدم فیه لا تحدث تکلیفاً جدیداً، مع أنّه لا إشکال فی منجّزیته مع أنّه لیس علماً بتکلیفٍ جدیدٍ حادثٍ علی کل تقدیر، وإنّما علی تقدیر یکون هناک تکلیف حادث، وعلی تقدیرٍ آخر یکون التکلیف بقائیاً لا حدوثیاً، مع أنّه لا إشکال فی منجّزیته، المهم هو أن یعلم بأصل التکلیف أعمّ من أن یکون التکلیف حدوثیاً، أو یکون التکلیف بقائیاً، النتیجة هو علم بتکلیفٍ، قطرة الدم سقطت فی أحد الإناءین، إمّا الإناء الأحمر، أو الإناء الأسود، لماذا لا یکون هذا العلم الإجمالی منجّزاً لکلا الطرفین ؟ هذا علم بتکلیفٍ، هذا التکلیف فی بعض الأحیان علی بعض التقادیر یکون تکلیفاً بقائیاً، وفی تقدیر آخر یکون تکلیفاً حدوثیاً، لا یُشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون علماً بتکلیفٍ جدیدٍ، حادثٍ لم یکن موجوداً سابقاً. وهذه هی المناقشة المهمّة فی الدعوی السابقة؛ لأنّ الدعوی السابقة ترتکز علی هذه الکبری التی هی دعوی أنّ تنجیز العلم الإجمالی مشروط بهذا الشرط، والذی یُفهم من کلامه کما قلنا أنّه یشترط حدوث تکلیفٍ، أن یکون التکلیف الحاصل بالعلم الإجمالی تکلیفاً جدیداً، وقلنا أنّ هذا صحیح، لا علم بتکلیفٍ جدیدٍ فی محل الکلام، علی بعض التقادیر لیس تکلیفاً جدیداً، لکنّ هذا لیس شرطاً فی منجّزیة العلم الإجمالی. هذا بالنسبة إلی الرأی الأوّل، وتبیّن أنّه لیس تامّاً.

ص: 135

الرأی الثانی فی المسألة: نسب السید الشهید(قدّس سرّه) هذا الرأی إلی السید الخوئی(قدّس سرّه)، قال(قدّس سرّه):(وأظنّ قویاً أنّ هذا ما قال به السید الاستاذ، وإن کان فی الموجود فی الدراسات هی النظریة الأولی). (1) الظاهر أنّ الرأی الثانی هو النظریة التی یختارها السید الخوئی(قدّس سرّه)، ولکنّه فی تقریراته لم یعقد بحثاً خاصّاً لبحث قضیة ما إذا کان هناک طرف مشترک بین علمین إجمالیین، المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکره، والمحقق العراقی (قدّس سرّه) ذکره بعنوان خاصٍ به، لکن السید الخوئی(قدّس سرّه) لم أجد فی تقریراته أنّه یذکره بهذا العنوان، لکنّه یذکره فی بحث(ملاقی أحد أطراف الشبهة) هناک یذکره فی(مصباح الأصول) ویختار الرأی الثانی الذی سنبینه لا الرأی الأوّل.

علی کل حال، الرأی الثانی فی المسألة هو: دعوی انحلال العلم الإجمالی المتأخّر بالعلم الإجمالی المتقدّم، سواء کان المعلوم بالعلم الإجمالی المتأخّر متأخّراً أیضاً عن المعلوم بالعلم الإجمالی المتقدّم، أو لم یکن متأخّراً، المعلوم لیس مهمّاً عنده، المهم هو نفس العلم الإجمالی، أن یکون أحد العلمین من حیث العلم متأخّراً عن العلم الآخر، فالمیزان فی الانحلال عنده هو تقدّم أحد العلمین علی العلم الآخر، بینما المیزان فی الرأی الأوّل کان هو تقدّم أحد المعلومین بأحد العلمین علی المعلوم بالعلم الآخر، یقول: إذا تقدّم أحد العلمین علی العلم الآخر، العلم الثانی المتأخّر ینحل بالعلم الإجمالی الأوّل، الرأی الأوّل کان یقول إذا تقدّم المعلوم بأحد العلمین الإجمالیین علی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی ینحل العلم الإجمالی المتأخّر معلومه بالعلم الإجمالی المتقدّم معلومه، فالمیزان یختلف بینهما. والمثال الذی نوضّح به هذا الرأی هو : أنّه علِم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، الأسود، أو الأبیض، لکن العلم حصل له صباحاً، ثمّ الظهر علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین الأسود، أو الأحمر، هنا یوجد تقدّم وتأخّر فی العلم؛ حینئذٍ المعلوم لیس مهمّاً علی هذا الرأی، هذه النجاسة التی علمها بالعلم الإجمالی الثانی، سواء کانت متأخّرة عن النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل، أو لم تکن متأخّرة، زمان المعلوم لیس مهمّاً، وإنّما المهم زمان العلم. هنا یقول: العلم الإجمالی المتأخّر ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم؛ لأنّ العلم الإجمالی المتقدّم قد نجّز الطرف المشترک بین العلمین والذی هو الإناء الأسود، ومعه لا یکون العلم الإجمالی الثانی صالحاً للتنجیز؛ لأنّ أحد أطرافه تنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل، فلا یکون هذا العلم الإجمالی المتأخّر صالحاً للتنجیز، وهنا یُذکر تقریبان لإثبات هذا المُدّعی، أحدهما مبنی علی مسلک العلّیة الذی یقول به المحقق العراقی (قدّس سرّه)، والآخر مبنی علی مسلک الاقتضاء:

ص: 136


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص155.

التقریب الأوّل: علی مسلک العلّیة، عدم منجّزیة هذا العلم الإجمالی المتأخّر لابدّ أن تُصاغ بهذا الشکل، بأن یقال: أنّ المتنجّز لا یتنجّز مرّة أخری، فالإناء الأسود الذی تنجّز بالعلم الإجمالی السابق لا یقبل التنجیز مرّة أخری بالعلم الإجمالی الثانی، وهذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالی الثانی لا ینجّز معلومه علی کل تقدیر، وإنّما ینجّزه علی تقدیرٍ دون تقدیر، یُنجّز معلومه إذا کان موجوداً فی الطرف الآخر، أی فی الإناء الأحمر، أمّا إذا کان فی الإناء الأسود، فالإناء الأسود قد تنجّز بالعلم الإجمالی السابق، فهو غیر قابل لأن یتنجّز مرّة أخری. إذن: العلم الإجمالی الثانی لا ینجّز معلومه علی کل تقدیر، فلا یکون صالحاً للتنجیز.

التقریب الثانی: علی القول بالاقتضاء، أنّ عدم منجّزیة العلم الإجمالی الثانی باعتبار عدم وجود تعارض بین الأصول فی الأطراف، وعلی مسلک الاقتضاء الذی یوجب التنجیز هو تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها، فی هذا العلم الإجمالی الثانی لیس هناک تعارض فی الأصول فی الأطراف؛ باعتبار أنّ الأصل فی الطرف المشترک قد سقط بالمعارضة مع الطرف الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل، بالعلم الإجمالی الأوّل إناء أسود وإناء أبیض، الأصل فی الإناء الأسود معارض بالأصل فی الإناء الأبیض، تعارضا، فتساقطا، فتنجّز العلم الإجمالی الأوّل. کلامنا لیس فی العلم الإجمالی الأوّل، وإنّما کلامنا فی العلم الإجمالی الثانی المتأخّر، هذا الذی نرید أن نحلّه، الأصل فی الإناء الأسود سقط عن الإناء الأسود بالمعارضة مع الأصل فی الإناء الأبیض. إذن: الإناء الأسود قد سقط الأصل فیه، فیجری الأصل فی الإناء الأحمر بلا معارض، فإذا لم تتعارض الأصول؛ فحینئذٍ لا تنجیز لهذا العلم الإجمالی؛ لأنّ منجّزیة العلم الإجمالی فرع تعارض الأصول وتساقطها، فإذا لم یکن هناک تعارض، فیجری الأصل فی الطرف الآخر، یعنی فی الإناء الأحمر بلا معارض، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً.

ص: 137

أجیب عن هذا الرأی الثانی: المحقق العراقی (قدّس سرّه) اشار إلی هذا الجواب فی (نهایة الأفکار) (1) بشکلٍ واضحٍ جدّاً، وحاصل هذا الجواب: أنّ التنجیز فی کل آنٍ منوط بوجود العلم الإجمالی فی ذلک الآن، ولا یکفی فی التنجیز فی آنٍ وجود العلم الإجمالی فی آنٍ قبله، فی هذا الآن التنجیز منوط بوجود علمٍ إجمالی فی هذا الآن، أمّا وجود علمٍ إجمالیٍ قبل یومین، أو قبل ساعتین مع عدم وجوده الآن هذا لا یکفی فی إثبات التنجیز الآن. هذه قاعدة، هذا الکلام یعنی فی الحقیقة أنّه فی الآن الثانی الذی هو فی المثال الذی ذکرناه یعنی فی الظهر؛ لأننا افترضنا أنّ العلم الإجمالی حصل صباحاً، والعلم الإجمالی الثانی حصل ظهراً، هذا الکلام معناه أنّه فی وقت الظهر اجتمع منجّزان علی الإناء الأسود، وهذان المنجّزان فی عرضٍ واحد ولا یوجد بینهما تقدّم وتأخّر، التقدّم والتأخّر إنّما یکون بین هذین المنجّزین الذین هما العلم الإجمالی الأوّل والعلم الإجمالی الثانی عندما نفترض أنّ العلم الإجمالی بحدوثه صباحاً أوجب تنجّز الإناء الأسود ظهراً، بینما تنجّز الإناء الأسود منوط بوجود ما ینجّزه ظهراً فی ذاک الآن، فإذن: الإناء الأسود ظهراً یتلقّی التنجیز من سببین فی عرضٍ واحدٍ وفی زمانٍ واحدٍ بلا تقدّمٍ وتأخّرٍ، أحدهما العلم الإجمالی الأوّل فی مرحلة البقاء، والثانی هو العلم الإجمالی الثانی فی مرحلة الحدوث، العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی ینجّز الإناء الأسود، والعلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی ینجّز الإناء الأسود أیضاً، فهو یتلقّی التنجیز من أمرین، العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی، والعلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی، ومن الواضح بأنّ هذین السببین للتنجیز لیس أحدهما قبل الآخر کی یقال أنّ التنجیز یختص بالمتقدّم دون المتأخّر؛ بل بناءً علی هذا الکلام تخصیص التنجیز بأحدهما دون الآخر ترجیح بلا مرجّح؛ لأنّهما فی عرضٍ واحدٍ، وفی زمانٍ واحدٍ، وبالتالی، النتیجة هی أنّ سبب التنجیز واحدٌ، وهو عبارة عن مجموع السببین، دائماً هکذا، عندما تجتمع علّتان مستقلّتان علی معلولٍ واحدٍ یندمجان ویکوّنان علّة واحدة مؤثرة فی هذا المعلول الواحد، هنا سببان کلٌ منهما له تأثیر مستقل فی التنجیز، لکن عندما یجتمعان بنحوٍ لا یمکننا أن نثبت التنجیز إلی أحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح، یکون المؤثر هو مجموعها، وکل واحدٍ منهما هو جزء العلّة المؤثرة فی التنجیز، وبناءً علی هذا؛ حینئذٍ لا معنی لهذا الکلام الذی قیل لإثبات الانحلال وعدم التنجیز من أنّ الإناء الأسود تلقّی التنجیز سابقاً، والمتنجّز لا یتنجّز مرّة أخری، هذا الکلام معناه أننا نثبت التأثیر والتنجیز فی الإناء الأسود إلی العلم الإجمالی السابق، والحال أنّ هذا بلا وجه. نعم، هذا یکون له وجه إذا رفعنا الیدّ عمّا قلناه، إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالی الأوّل بوجوده الحدوثی یؤثر فی التنجیز فی مرحلة البقاء حتّی إذا زال، بینما الأمر لیس هکذا؛ حینئذٍ نستطیع أن نقول بوجود تقدّم وتأخّر بین العلمین؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی الأوّل اثر فی المنجّزیة فی الإناء الأسود ظهراً بحدوثه صباحاً، فإذن: هو فی التنجیز متقدّم علی العلم الإجمالی الثانی، نجّز الإناء الأسود بوجوده المتقدّم، فیکون متقدّماً، فنقول أنّ الإناء الأسود لا یقبل التنجیز مرّة أخری، فنعطی التأثیر للعلم الإجمالی الأوّل، لکن إذا أنکرنا هذا، وقلنا أنّ العلم الإجمالی الأوّل بوجوده الحدوثی لیس هو السبب فی تنجیز الإناء الأسود ظهراً، وإنّما تنجیز الإناء الأسود ظهراً یحتاج إلی افتراض علم موجود فی الظهر، ولو بقاءً، وهذا صحیح، العلم الإجمالی الأوّل بقاءً یکون موجوداً ظهراً ویؤثر فی تنجیز الإناء الأسود، لکن هذا الوجود البقائی للعلم الإجمالی الأوّل لیس متقدّماً علی العلم الإجمالی الثانی، فلیس هناک تقدّم وتأخّر، وإنّما هما فی عرضٍ واحد وفی زمانٍ واحد، ولا موجب لتخصیص أحدهما بالتأثیر دون الآخر، فأنّ هذا ترجیح بلا مرجّح، وعلیه: الإناء الأسود یتلقّی التنجیز من کلٍ منهما، ویکون کلٌ منهما جزء السبب. إذن: هذا الوجه لإثبات الانحلال أیضاً لا یکون تامّاً.

ص: 138


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص337.

وممّا ذکرناه یظهر الجواب عن التقریب الثانی للانحلال المبنی علی مسلک الاقتضاء الذی یقول بناءً علی مسلک الاقتضاء الذی یوجب التنجیز هو تعارض الأصول فی الأطراف، وفی المقام لا تتعارض الأصول بالعلم الإجمالی الثانی؛ لأنّ الأصل فی الإناء المشترک سقط بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر بالعلم الإجمالی الأوّل، فیجری الأصل فی الإناء الأحمر بلا معارض، فلا یکون هذا العلم الإجمالی منجّزاً. هذا هو التقریب الثانی لتقریب الانحلال.

جوابه یظهر ممّا تقدّم، باعتبار أنّ تعارض الأصول وتساقطها هو من نتائج تنجّز حرمة المخالفة القطعیة، وهو فرع وجود العلم الإجمالی، علم إجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، إذا تنجّزت حرمة المخالفة القطعیة تتعارض الأصول فی الأطراف؛ لأنّه لا یمکن إجراء کلا الأصلین فی الطرفین؛ لأنّه ینافی حرمة المخالفة القطعیة، وإجراء الأصل فی أحدهما دون الاخر ترجیح بلا مرجّح، فتتعارض الأصول وتتساقط، والدلیل علی أنّ تعارض الأصول وتساقطها منوط بالنتیجة بوجود العلم الإجمالی هو أنّه فی کل حالةٍ نفترض فیها زوال العلم الإجمالی یرتفع التنجیز، وهذا معناه أنّه لا یکفی فی التنجیز حدوث العلم الإجمالی سابقاً، وإنّما لابدّ من فرض بقائه واستمراره فی کل آنٍ، الأصول إنّما تتعارض وتتساقط إذا تنجّزت حرمة المخالفة القطعیة فی ذاک الآن، وإنّما تتنجّز حرمة المخالفة القطعیة فی ذلک الآن إذا کان العلم الإجمالی موجوداً فی ذلک الآن، ولا یکفی وجوده السابق، العلم الإجمالی بوجوده السابق لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فی الآن الآخر، وإنّما الذی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فی الآن الثانی، وبالتالی یوجب تعارض الأصول وتساقطها هو وجود العلم الإجمالی فی الآن الثانی، وهذا معناه أنّ الذی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فی العلم الإجمالی الثانی وبالتالی یوجب تعارض الأصول وتساقطها هو العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی، هذا یوجب تعارض الأصول فی الأطراف، ومن الواضح أنّ العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی هو فی عرض العلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی ولیس متقدّماً علیه. نتیجة هذا أنّ الإناء الأسود المشترک الأصل فیه کان له معارض واحد فی فترة ما قبل الظهر فی المثال السابق، وهو الأصل فی الإناء الأبیض، لکن فی فترة ما بعد الظهر الأصل فی الإناء الأسود له معارضان، وهما عبارة عن الأصل فی الإناء الأبیض، والأصل فی الإناء الأحمر، هذه الأصول متعارضة، فتتساقط، فیتنجّز العلم الإجمالی، وهذا هو الرأی الثالث، أنّه فی المقام لا انحلال، العلم الإجمالی الأوّل لا ینحل بالعلم الإجمالی الثانی فی کل هذه الحالات المتقدّمة؛ بل یکون العلم الإجمالی الثانی منجّزاً لکلا طرفیه کما هو الحال فی العلم الإجمالی الأوّل، وهذا معناه أنّ الأطراف الثلاثة تتنجّز بهذین العلمین.

ص: 139

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

انتهی الکلام عن أحد التنبیهات المرتبطة بأصل المسألة، وهو اشتراک العلمین الإجمالیین فی طرفٍ واحد.

قبل أن ننتقل إلی البحث الآخر الذی هو فی ما إذا کان هناک أثر مشترک للطرفین وکان أحد الطرفین یختص باثرٍ زائد، والکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالی هل ینجّز هذا الأثر الزائد کما ینجّز الأثر المشترک، أو لا ؟ قبل ذلک بقیت مسألة ترتبط ببحثٍ تقدّم، لابدّ من الإشارة إلیها، وهذه المسألة ترتبط بالبحث عن انحلال العلم الإجمالی بقیام الإمارة أو الأصل، أنّ الإمارة المثبتة للتکلیف، والأصل المثبت للتکلیف یوجب انحلال العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً، وهذا تقدّم سابقاً، لکن اشترط فی الانحلال أن لا تتأخّر الإمارة عن العلم الإجمالی.

أو بعبارةٍ أخری: یُشترط معاصرة الإمارة للعلم الإجمالی حتّی تکون موجبة لانحلاله حکماً، وأمّا إذا فرضنا أنّ الإمارة کانت متأخّرة زماناً عن العلم الإجمالی، فمثل هذا العلم الإجمالی لا ینحل، وإنّما یبقی علی منجّزیته؛ لأنّه فی فترة ما قبل قیام الإمارة لیس هناک ما یوجب تنجّز التکلیف فی أحد الأطراف؛ لأنّ الإمارة متأخّرة عن العلم الإجمالی، وهذا معناه أنّ الأصول تجری فی جمیع الأطراف وتتعارض وتتساقط فیکون العلم الإجمالی منجّزاً، بخلاف ما إذا کانت الإمارة المثبتة للتکلیف فی أحد الأطراف معاصرة للعلم الإجمالی، فی هذه الحالة لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً؛ لأنّ الأصل الترخیصی یجری فی الطرف الآخر الذی لم تقم علیه الإمارة بلا معارض، فلا یکون العلم الإجمالی منجّزاً، یعنی ینحل العلم الإجمالی، وهذا هو الذی یُسمّی بالانحلال الحکمی.

ص: 140

قلنا أنّ هذا الشرط یرِد علیه إشکال: بأنّه کیف نجیب عن دعوی الإخباریین بأنّ هناک علماً إجمالیاً یوجب الاحتیاط؛ لأنّنا نعلم إجمالاً بثبوت تکالیف واقعیة فی ضمن هذه الشبهات، وقالوا بأنّ هذاالعلم الإجمالی منجّز، فیجب الاحتیاط فی جمیع أطرافه، وبالنتیجة یجب الاحتیاط فی کلّ شبهة؛ لأنّ کل شبهة هی طرف لهذا العلم الإجمالی، فیجب الاحتیاط ولا تجری البراءة فی الشبهة.

أجیب عن هذا الرأی للإخباریین بأنّ العلم الإجمالی هنا منحل، فالعلم الإجمالی بثبوت تکالیف فی ضمن الشبهات ینحل بقیام الإمارات المثبتة للتکلیف، عندما تقوم إمارات مثبتة للتکلیف فی بعض الشبهات، هذا یحل العلم الإجمالی، وأجابوا عنه بأنّ: هذا العلم الإجمالی یقتضی التنجیز والاحتیاط لو لم تکن هناک إمارات مثبتة للتکلیف، لکن عندما تقوم الإمارات المثبتة للتکلیف هذا یوجب انحلال هذا العلم الإجمالی، فلا یجب الاحتیاط.

الإشکال الذی یطرح هو: أنّ هذا الجواب لیس تامّاً؛ لأنکم تشترطون فی تنجیز العلم الإجمالی معاصرة الإمارة المثبتة للتکلیف للعلم الإجمالی، والحال أنّ الإمارات التی قامت علی ثبوت التکلیف فی بعض الشبهات لیست معاصرة للعلم الإجمالی، المکلّف من حین بلوغه یحصل له علم إجمالی بوجود تکالیف واقعیة فی عددٍ من الشبهات، لکن حصول الإمارات له یکون بالتدریج، بعد مدّة یعثر علی إمارة تثبت التکلیف فی هذه الشبهة، وبعد مدّة أخری یعثر علی إمارة تثبت التکلیف فی شبهةٍ أخری.....وهکذا. إذن: الإمارات المثبتة للتکلیف التی یُدّعی أنّها تحل العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً متأخّرة عن العلم الإجمالی، والمفروض أنّ الشرط فی انحلال العلم الإجمالی حکماً بالإمارة هو معاصرة الإمارة للعلم الإجمالی بینما الإمارات التی تدّعون أنّها توجب انحلال العلم الإجمالی المُدّعی فی کلمات الإخباریین متأخّرة عن العلم الإجمالی، فلا یتحقق فیها شرط الانحلال، فتبقی دعوی الإخباریین علی حالها، أنّ هذا العلم الإجمالی بوجود تکالیف عدیدة فی ضمن الشبهات هو علم إجمالی منجّز، فیجب الاحتیاط، وقیام الإمارات بعد ذلک لا یوجب انحلال هذا العلم الإجمالی، فکل شبهة تقوم الإمارة فیها علی ثبوت التکلیف نلتزم به، وفی الباقی نلتزم بالاحتیاط ولا نرجع إلی البراءة. هذا هو الإشکال الذی ینشأ من هذا الشرط.

ص: 141

قلنا أنّهم أجابوا عن هذا الإشکال بأجوبةٍ طرحناها سابقاً ولا داعی لتکرارها، لکن الکلام فی جواب السید الشهید(قدّس سرّه)، وخلاصة ما ذکرناه هو: (1) أنّه(قدّس سرّه) یقول أنّ أساس الإشکال مبنی علی افتراض أنّ الأحکام الظاهریة لیست متنافیة ومتضادّة فی أنفسها، فلا تنافٍ بین حکمٍ ظاهری وحکمٍ ظاهریٍ آخر، لا تنافی بین براءة واحتیاط، ولا بین براءةٍ وبین حجّیة خبر یدل علی ثبوت التکلیف، وإنّما یکون بینهما تنافٍ بلحاظ عالم المحرّکیة، إذا وصل أحد الحکمین الظاهریین؛ حینئذٍ یکون منافٍ لحکمٍ ظاهریٍ آخر فی عالم المحرّکیة بعد فرض الوصول، أمّا قبل الوصول، بلحاظ الواقع، وفی نفس الأمر لا یوجد تنافٍ بین الأحکام الظاهریة، وبهذا تختلف عن الأحکام الواقعیة، فالأحکام الواقعیة یوجد بینها تنافٍ واقعی؛ إذ لا یمکن اجتماع حکمین واقعیین قبل فرض الوصول، بأن یکون الشیء واجباً وحراماً، هذا محال وغیر ممکن، بینما لا مانع من اجتماع الأحکام الظاهریة. یقول: الإشکال مبنی علی هذا الرأی، ومن هنا یقال: أنّ الإمارة التی تکون بعد العلم الإجمالی علی ثبوت التکلیف فی شبهة معیّنة، والإمارة تکون حجّة شرعاً، هذه لا تکون کاشفة عن عدم جریان الترخیص فی تلک الشبهة من أوّل الأمر، لا منافاة بین أن تکون هذه الشبهة مورداً للترخیص فی بدایة الأمر وبین قیام الإمارة بعد ذلک علی ثبوت التکلیف فیها، الحجّیة الثابتة للإمارة الدالة علی ثبوت التکلیف فی شبهة لا تنافی الترخیص الظاهری الثابت فی تلک الشبهة فی بدایة الأمر، فإذن: لا تکون کاشفة عن عدمه، فإذا لم تکن کاشفة عن عدمه، فالترخیص الظاهری فی هذه الشبهة من أوّل الأمر، ولیس من بعد وصول الإمارة، یکون ثابتاً فی هذه الشبهة التی هی مورد للإمارة بعد ذلک، وهذا الترخیص یُعارض بالترخیص فی الطرف الآخر، وإذا تعارضت الترخیصات تساقطت، فیتنجّز العلم الإجمالی.

ص: 142


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج3، ص385.

السیّد الشهید(قدّس سرّه) یقول: نحن نستطیع أن نثبت أنّ الشبهة التی هی مورد الإمارة المتأخّرة من أول الأمر لیست مورداً للترخیص الظاهری، والشبهة التی هی مورد الإمارة إذا لم تکن مورداً للترخیص الظاهری، یجری الترخیص الظاهری فی الشبهة الأخری التی هی غیر مورد الإمارة بلا معارض، وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی، وبه یکون الجواب عن الإشکال المتقدّم. یقول: والدلیل علی ذلک هو مسلکنا فی تفسیر الأحکام الظاهریة، أنّ الأحکام الظاهریة هی أحکام تبرز اهتمام المولی وعدم اهتمامه، الاحتیاط یبرز تقدیم الأغراض اللّزومیة علی الأغراض الترخیصیة، والبراءة تبرز اهتمام المولی بالأغراض الترخیصیة، الإباحة وإطلاق العنان وتقدیمها علی الأغراض اللّزومیة. هذا واقع الأحکام الظاهریة، الأحکام الظاهریة لیست لها ملاکات خاصّة بها غیر ملاکات الواقع، لکن فی مرحلة الاختلاط یقدّم الشارع الأغراض الترخیصیة فیجعل البراءة، أو یقدّم الأغراض اللّزومیة فیجعل الحجّیة للخبر المثبت للتکلیف.

إذن: الحکمان الظاهریان متنافیان، الاحتیاط _________ مثلاً _________ یعنی اهتمام الشارع بالأغراض اللّزومیة، وتقدیمها علی الأغراض الترخیصیة، بینما البراءة تعنی العکس، تعنی تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة، ومن الواضح عدم إمکان الجمع بینهما، لا یمکن للشارع فی نفس الوقت أن یقدّم الأغراض الترخیصیة، وفی نفس الوقت یقدّم الأغراض اللّزومیة؛ لأنّهما متضادان ومتنافیان فی أنفسهما بقطع النظر عن الوصول، سواء وصلا، أم لم یصلا، الشارع عندما یجعل الاحتیاط، فهذا یعنی أنّه قدّم الأغراض اللّزومیة، وعندما یجعل البراءة، فهذا یعنی أنّه قدّم الأغراض الترخیصیة، وصل الترخیص إلی المکلف، أو لم یصل، وصلت الحجّیة إلی المکلّف أو لم تصل، لا علاقة له بمرحلة وصول الحکم إلی المکلّف، فی نفس الأمر والواقع یوجد تنافی بین الحکمین الظاهریین. إذن: یکون حال الحکمین الظاهریین بلحاظ نفس الأمر والواقع حال الحکمین الواقعیین، هناک بینهما تنافٍ واقعی، فقهراً یکون الدلیل الدال علی أحدهما نافیاً للآخر فی الواقع وفی نفس الأمر، فإذا دلّ دلیل علی وجوب شیءٍ، قهراً هو ینفی حرمته، وإباحته؛ لأنّه لا یمکن أن یکون الشیء الواحد فی الواقع وفی نفس الأمر، واجباً وحراماً. نفس الکلام یقال فی الأحکام الظاهریة، الدلیل الدال علی حجّیة الإمارة المثبتة للتکلیف فی شبهةٍ ینفی البراءة؛ لأنّ البراءة تعنی تقدیم الأغراض الترخیصیة والاهتمام بها، بینما جعل الحجّیة للإمارة المثبتة للتکلیف تعنی الاهتمام بالأغراض اللّزومیة وتقدیمها علی الأغراض الترخیصیة، هذان أمران متنافیان، فإذا قامت الإمارة بعد العلم الإجمالی، وکانت دالة علی ثبوت التکلیف فی شبهة؛ حینئذٍ هی تنفی جریان البراءة فی تلک الشبهة من أول الأمر. إذن: هذه الشبهة التی هی مورد الإمارة المتأخّرة هی لیست مورداً للبراءة من البدایة، إذا ثبت هذا؛ حینئذٍ ینحل العلم الإجمالی؛ لأنّ هذا معناه أنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً؛ لأنّ الأصل الترخیصی المؤمّن یجری فی الشبهة الأخری غیر مورد البراءة بلا معارض؛ لأنّ الشبهة التی هی مورد البراءة لا یجری فیها الأصل الترخیصی؛ لأنّ الدلیل دل علی حجّیة الإمارة المثبتة للتکلیف فیها، وهذا حکم ظاهری منافٍ للترخیص الظاهری، فلا یمکن أن یجتمعا. وهذا لا علاقة له بوصول الأمر إلی المکلّف. یقول(قدّس سرّه): بناءً علی هذا المبنی، الإشکال لا أساس له أصلاً؛ لأنّه بناءً علی هذا المبنی ینحل العلم الإجمالی بشکلٍ واضح؛ لأنّ الأصل الترخیصی یجری فی الشبهات غیر مورد الإمارات بلا معارض، فبالنتیجة لا یتم کلام الإخباریین، یعنی بالإمکان أن نجری البراءة فی الشبهة التی لیس فیها إمارة مثبتة للتکلیف، ولا یجب فیها الاحتیاط.

ص: 143

قد یقال: أنّ معنی هذا الجواب هو أنّه عندما تواجهنا شبهة، وفعلاً لا نعلم بوجود إمارة مثبتة للتکلیف فیها، هنا هل یجوز إجراء البراءة فی هذه الشبهة، أو لا یجوز إجراء البراءة ؟ بناءً علی هذا الکلام مقتضی القاعدة أن یکون جریان البراءة فیها منوطاً بعدم قیام إمارة علی ثبوت التکلیف فیها ولو بعد ذلک، والآن نحن لا نحرز ذلک، فلعلّه بعد ذلک تقوم إمارة تثبت التکلیف فی الشبهة، فکیف یجوز لنا إجراء البراءة فی هذه الشبهة، والحال أنّه لا إشکال علی نطاق الأصولیین أنّ هذه الشبهة یجوز إجراء البراءة فیها، ولا أحد یقول بعدم جواز إجراء البراءة؛ بل یجوز إجراء البراءة فی هذه الشبهة، بالرغم من أننا نحتمل قیام إمارة مثبتة للتکلیف فیها، إذا کان قیام الإمارة المثبتة للتکلیف فی وقتٍ لاحقٍ کاشف عن عدم جریان البراءة فی هذه الشبهة من البدایة، فکأنّ جریان البراءة فی هذه الشبهة من البدایة منوط بعدم قیام إمارة علی التکلیف فیها، وهذا معناه أنّه لابدّ أن نلتزم بأنّ المکلّف الذی یحرِز عدم قیام إمارة فی هذه الشبهة یجوز له إجراء البراءة، أمّا المکلّف الذی لا یحرز ذلک، ویحتمل قیام إمارة مثبتة للتکلیف فی هذه الشبهة، فکأنّه لا یحرز شرط جریان البراءة.

بعبارةٍ أخری: إنّ موضوع البراءة لیس هو الشکّ فی التکلیف فقط، وإنّما الشکّ فی التکلیف مع عدم قیام إمارة علی الخلاف؛ لأنّ قیام إمارة مثبتة للتکلیف ینافی جریان البراءة. إذن: لا یکفی فی جریان البراءة الشکّ فقط، وإنّما الشکّ مع عدم قیام إمارة،کما لابدّ من إحراز الشکّ، کذلک لابدّ من إحراز الجزء الآخر من الموضوع وهو عدم قیام إمارة علی التکلیف فی تلک الشبهة، لکن بعض الأحیان لا یستطیع المکلّف أن یحرز عدم قیام إمارة، أو فی معظم الحالات _________ علی الأقل _________ لا یمکنه إحراز عدم قیام إمارة لإثبات التکلیف فی تلک الشبهة، وهذا معناه یؤدّی إلی عدم إمکان إجراء البراءة، فهل یمکن الالتزام بذلک ؟ من الواضح أنّه لا یمکن الالتزام بذلک، بلا إشکال یجوز إجراء البراءة، علی الأقل فی نطاق علمائنا الأصولیین، فکیف نتخلّص من هذا السؤال ؟

ص: 144

هناک توضیح ذکره بعض تلامذة المرحوم السید الشهید(قدّس سرّه)، نذکره لکی تنحل هذه الشبهة، وحاصله: یوجد عند المکلّف نوعان من الشکّ بینهما طولیة، الشکّ الأوّل: هو الشک فی أنّ هذا واجب، أو حرام ؟ واجب، أو مباح ؟ فی الشبهة الوجوبیة. أو أنّ هذا حرام، أو مباح فی الشبهة التحریمیة ؟ هذا شکّ فی الحکم الإلزامی. فیشکّ _____________ مثلاً ____________ فی أنّ لحم الأرنب حرام، أو حلال ؟ أو یشکّ فی أنّ جلسة الاستراحة واجبة، أو لیست واجبة ؟ . فی نفس الوقت یمکن فرض أنّ هذا المکلّف یشکّ فی أنّه هل هناک إمارة مثبتة للحرمة فی هذه الشبهة التحریمیة، أو لا ؟ هل هناک إمارة مثبتة للوجوب فی الشبهة الوجوبیة، أو لا ؟ لا منافاة بین الشکّین، المکلّف یشکّ فی أنّ لحم الأرنب حرام، أو حلال، وفی نفس الوقت یشکّ فی أنّه هل هناک إمارة تدلّ علی حرمة أکل لحم الأرنب، أو لا توجد إمارة ؟ لا إشکال فی أنّ الشکّ الأوّل الذی یعرض علی المکلّف، نؤمن بأنّ الشارع جعل الترخیص ظاهری فی هذه الشبهة التی هی مورد هذا الشک إذا لم تقم إمارة علی ثبوت التکلیف فیها، إذا قامت إمارة علی ثبوت التکلیف فی هذه الشبهة وأنّ لحم الأرنب حرام، الشارع لا یجعل الترخیص. نعم، فی غیر مورد الإمارة الشارع جعل الترخیص. إذنک جعل الترخیص بلحاظ الشکّ الأوّل، یکون کأنّه منوط بعدم قیام إمارة علی ثبوت التکلیف فی تلک الشبهة، وإلاّ فالشارع لا یجعل هذا الترخیص الظاهری.

إذن: جعل الترخیص الظاهری من قِبل الشارع إنّما هو فی مورد عدم قیام إمارة علی ثبوت التکلیف فی تلک الشبهة. وأمّا فی موارد قیام الإمارة علی ثبوت التکلیف فی تلک الشبهة، الشارع لا یجعل ترخیصاً ظاهریاً فی تلک الشبهة.

ص: 145

أمّا الشکّ الثانی، الذی هو الشکّ فی أنّ الشارع هل جعل إمارة علی الحرمة، أو لا ؟ فی هذا الشک لا مانع أیضاً من أن یجعل الشارع الترخیص الظاهری فیه؛ لأنّ هذا الشک یعنی الاشتباه بین أغراضٍ یهتم بها الشارع، وبین أغراضٍ لیست مهمّة عند الشارع، یعنی أنّ هناک أغراضاً یهتم بها الشارع بأنّ جعل فیها الحجّیة للإمارات المثبتة للتکلیف، ولدینا شبهات لم یجعل الشارع فیها الحجّیة للإمارات القائمة فی تلک الموارد. هذه الشبة التی یواجهها المکلّف بلحاظ الشکّ الثانی هو لا یعلم أنّ الأغراض هنا هل هی من الأغراض المهمّة التی تستدعی جعل الحجّیة للإمارة، وجعل الإمارة حجّة فیها، أو هی لیست من الأغراض المهمّة ولا یهتم بها الشارع، فالاشتباه یکون فی أنّه هل هی من الأغراض المهمّة أو لا ؟ فلا مانع من أن نفترض أنّ الشارع یجعل ترخیصاً ظاهریاً. هذا الترخیص الثانی هو فی طول الترخیص الأوّل، یعنی فی طول اهتمام الشارع بالأغراض الترخیصیة؛ ولذا جعل الترخیص، وعدم اهتمامه بالأغراض اللّزومیة بلحاظ الشک الأوّل، أی الشک فی أنّ هذا حرام، أو حلال، الشارع یجعل الترخیص الظاهری، ومعنی هذا الترخیص الظاهری أنّه یقدّم الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة . فی طول هذا ینشأ هذا الاشتباه والشکّ، بعد أن قدم الشارع الأغراض الترخیصیة واهتم بها ولم یهتم بالأغراض اللّزومیة یحصل عند المکلّف شکّ فی أنّ الشارع جعل إمارة حجّة مثبتة للتکیف، أو لا ؟ یعنی یحصل له شکّ فی أنّ هذه الأغراض الموجودة فی المقام مهمّة بنظر الشارع، أو لیست مهمّة. هذا الشکّ الترخیصی الثانی موضوعه فقط وفقط هو الشکّ فی أنّه هل هناک إمارة، أو لا ؟ إذا کان هذا هو موضوعه؛ حینئذٍ یقال بأنّ العلم الإجمالی بلحاظ هذا الترخیص یکون منجّزاً؛ لأنّ موضوع هذا الترخیص هو الشکّ فی أنّ الشارع جعل إمارة فی هذه الشبهة، أو لم یجعل إمارة، ومن الواضح أنّ هذا الشک کما هو موجود فی هذه الشبهة التی قامت الإمارة بعد ذلک علی ثبوت التکلیف فیها، وموجود أیضاً فی الشبهة التی لم تقم الإمارة علی ثبوت التکلیف فیها بعد ذلک، فی کلٍ منهما یوجد شکّ، هنا فی الشبهة الأولی أشک فی أنّ الشارع جعل إمارة علی ثبوت التکلیف، أو لا ؟ الشبهة التی قامت الإمارة یعد ذلک علی ثبوت التکلیف فیها، لکن الآن أنا أشک فی أنّه جعل إمارة علی ثبوت التکلیف فیها، أو لا ؟ وقلنا أنّ موضوع الترخیص الظاهری فی هذه المرحلة هو الشک فقط، وهذا الشک بنفسه موجود فی الشبهة الأخری التی لم تقم الامارة علی ثبوت التکلیف فیها، أیضاً یشکّ المکلف فیها، بأنّ الشارع هل جعل إمارة مثبتة للتکلف فیها, أو لا ؟ إذن: الشک هنا موجود فی الشبهات التی هی مورد الإمارات المتأخّرة، وموجود أیضاً فی الشبهات التی هی لیست مورداً للإمارات المتأخّرة، الشکّ فیهما موجود، موضوع الترخیص فی کلٍ منهما متحقق. إذن: یجری الترخیص هنا ویجری هنا، تتعارض الترخیصات، وتتساقط، فیتنجّز العلم الإجمالی.

ص: 146

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق الجواب عن الإشکال المذکور فی کلمات السید الشهید(قدّس سرّه)، وذکرنا بأنّه یمکن أن یُفسّر کلامه بأنّ المقصود به هو دعوی أنّ الإمارة الحجّة لو کانت ثابتة فی الواقع علی التکلیف، فلا یُعقل جعل الترخیص فی مورد الإمارة، یعنی فی الشبهة التی هی مورد الإمارة حتّی تثار الإشکالات، لیس هذا هو المقصود، أنّ الإمارة بوجودها الواقعی، الإمارة المثبتة للتکلیف لو کانت موجودة فی الواقع، فیستحیل جعل الترخیص الظاهری فی الشبهة التی هی مورد الإمارة، لیس هذا هو المقصود حتّی یقال أنّ هذا یؤدّی إلی عدم إمکان إثبات الترخیص فی کل شبهةٍ نحتمل فیها ورود إمارة مثبتة للتکلیف فیها، وإنما المقصود هو أنّه بالرغم ممّا قلناه سابقاً یمکن جعل الترخیص الظاهری فی تلک الشبهة التی هی مورد الإمارة، الذی قلناه فی الدرس السابق هو أنّه بین الحجّیة وبین الترخیص تنافٍ واقعی ذاتی، فیستحیل الجمع بینهما، أی یستحیل الجمع بین حکمین ظاهریین کما هو الحال فی الأحکام الواقعیة. إذن: عندما یثبت أحد الحکمین الظاهریین لا محالة لا یثبت الآخر، بالرغم من هذا یقول یمکن جعل الترخیص الظاهری فی الشبهة مورد الإمارة بالرغم من افتراض وجود إمارة حجّة دالة علی التکلیف فی تلک الشبهة، کیف یمکن ذلک مع أنّه یوجد بینهما تنافٍ ؟ الحل هو ما ذکرنا مقدّماته فی الدرس السابق، وهو أن نقول أنّ الترخیص الذی یمکن فرضه فی الشبهة مورد الإمارة هو الترخیص الظاهری بلحاظ المرحلة الثانیة من الشک کما تقدّم، والتی هی الشکّ فی وجود الإمارة وعدم وجودها، حیث قلنا أنّ هناک نوعین من الشک، شکّ فی أنّ هذا حلال، أو حرام، وهناک شکّ فی أنّه هل هناک إمارة علی الحرمة، أو لیس هناک إمارة علی الحرمة، وقلنا أنّه لا مانع من جعل الترخیص فی الشکّ فی المرحلة الثانیة کما یمکن جعله فی الشک فی المرحلة الأولی. هذا الشک فی المرحلة الثانیة یمکن فیه جعل الترخیص فی الشبهة التی هی مورد الإمارة، هذه الشبهة التی تشک فی أنّ لحم الأرنب حلال، أو حرام، ولنفترض أنّ هناک إمارة حجّة موجودة فی الواقع ستظهر فی ما بعد تدلّ علی حرمته، یقول لا مانع من جعل الترخیص الظاهری فی هذه الشبهة، لکن بلحاظ أنّک تشکّ فی وجود إمارةٍ أو عدم وجود إمارة، یمکن جعل الترخیص بهذا اللّحاظ عندما تشکّ فی أنّه هل هناک إمارة مثبتة للحرمة، أو لا ؟ الشارع یقول ابنِ علی التأمین، أنت غیر ملزم بالاحتیاط من ناحیة هذا الشک. نحن لا نتکلّم عن الترخیص الظاهری بلحاظ هذه المرحلة، وإنّما الکلام عن الترخیص الظاهری بلحاظ المرحلة الأولی، وبلحاظ المرحلة الأولی لا یُعقل جعل الترخیص الظاهری فی الشبهة التی هی مورد الإمارة الحجّة المثبتة للتکلیف للتضاد بین الحجّیة للإمارة المثبتة للتکلیف، وبین الترخیص الظاهری، لکن هذا لا ینافی الالتزام بإمکان جعل الترخیص الظاهری فی تلک الشبهة بلحاظ المرحلة الثانیة، وبناءً علی هذا الکلام، فالترخیص الظاهری فی الشبهة مورد الإمارة بلحاظ المرحلة الثانیة یعارض بالترخیص الظاهری فی الشبهة غیر مورد الإمارة التی لا یوجد فیها إمارة، فتتعارض الترخیصات الظاهریة المجعولة بلحاظ الشکّ فی المرحلة الثانیة وتتساقط. وأمّا الترخیص الظاهری المجعول بلحاظ المرحلة الأولی من الشک، فهذا یستحیل افتراضه فی الشبهة التی هی مورد للإمارة؛ لأنّ هذا الترخیص الظاهری المجعول فی الشبهة یضاد وینافی الحجّیة للإمارة المثبتة للتکلیف. لا یمکن أن یقول أنّ هذه الإمارة المثبتة للتکلیف حجّة فی هذه الشبهة، وفی نفس الوقت یجعل له ترخیص؛ لأنّ الترخیص کما تقدّم یعنی تقدیم الأغراض الترخیصیة علی اللّزومیة، بناءً علی هذا المسلک، بینما الحجّیة للإمارة المثبتة للتکلیف، یعنی الاهتمام بالأغراض اللّزومیة وتقدیمها علی الأغراض الترخیصیة، وهذان لا یمکن الجمع بینهما، فالدلیل الدال علی قیام الإمارة الحجّة علی ثبوت التکلیف فی تلک الشبهة یکشف لا محالة عن عدم جریان الترخیص الظاهری فی تلک الشبهة، فإذا لم تکن الشبهة من أوّل الأمر مورداً للترخیص الظاهری؛ حینئذٍ یجری الترخیص الظاهری فی الشبهة الأخری فی الشبهة غیر مورد الإمارة بلا معارض، وبهذا یکون الجواب عن شبهة الإخباریین، وهو أنّه صحیح، أنّ المکلّف تعرض علیه شبهات کثیرة ویعلم علماً إجمالیاً بأنّ فی هذه الشبهات توجد جملة من الإمارات مثبتة لجملة من التکالیف اللّزومیة، لکن هذا العلم الإجمالی منحل بقیام جملة من الإمارات المثبتة لجملة من التکالیف فی جملة من تلک الشبهات، وهذه الإمارات وإن کان قیامها متأخّراً زماناً عن زمان العلم الإجمالی، لکن هذا لا یمنع من الالتزام بانحلال هذا العلم الإجمالی وعدم وجوب الاحتیاط بلحاظه؛ لأنّ الإمارة المثبتة للتکلیف القائمة فی ما بعد تکشف عن أنّ موردها لیس مورداً للترخیص الظاهری لاستحالة الجمع بینها وبین الترخیص الظاهری فی موردها، فإذا لم تکن هذه الشبهة التی هی مورد الإمارة مورداً للبراءة والترخیص الظاهری فیجری الترخیص الظاهری فی الشبهة التی هی لیست مورداً للإمارة بلا معارضٍ، وهذا هو معنی الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی. هذا ما یرتبط بالدرس السابق.

ص: 147

الآن ندخل فی البحث الجدید: ویقع فی ما إذا کان أحد الطرفین للعلم الإجمالی له اثر زائد بأن فرضنا أنّ هناک أثراً مشترکاً بین الطرفین، وهناک أثر مختص بأحد الطرفین، فیکون لأحد الطرفین اثر زائد علی الأثر الموجود فی الطرف الآخر، ویُمثّل له بما إذا علم إجمالاً بوقوع نجاسةٍ إمّا فی الإناء الذی فیه ماء مطلق، أو فی الإناء الذی فیه ماء مضاف. هنا یوجد اثر مشترک وهو حرمة الشرب، سواء وقعت النجاسة فی الماء المطلق، أو وقعت فی الماء المضاف، فإذا وقعت فی الماء المطلق یحرم شربه، وإذا وقعت فی الماء المضاف أیضاً یحرم شربه، لکنّ وقوع النجاسة فی الماء المطلق له أثر مختص وهو عدم جواز الغُسل والوضوء به، حرمة الوضوء به حرمةً وضعیّةً، هذا أثر لوقوع النجاسة فی الماء المطلق، وهذا الأثر لیس من آثار نجاسة الماء المضاف؛ لأنّ الماء المضاف اساساً لا یجوز الوضوء به.

إذن: هناک أثر مختص بأحد الطرفین، وهناک أثر مشترک یشترک فیه کلا الطرفین، بمعنی أنّ النجاسة فی أیّ طرفٍ وقعت یثبت لها هذا الأثر المشترک، لکنّ الأثر المختص لیس من آثار وقوع النجاسة فی أیّ طرف، وإنّما هو من آثار وقوع النجاسة فی الماء المطلق دون الماء المضاف.

الکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالی هل ینجّز جمیع الآثار ؟ أی هل ینجز حرمة الشرب وعدم جواز الوضوء، أو أنّه ینجّز خصوص الأثر المشترک ؟ وأمّا الأثر المختص، فالعلم الإجمالی لا ینجّزه؛ بل الشک بلحاظه یکون شکّاً بدویاً، فیمکن الرجوع فیه إلی الأصول المؤمّنة.

اختلفوا فی هذه المسألة، فذهب المحقق النائینی(قدّس سرّه) إلی الثانی، (1) یعنی إلی أنّ العلم الإجمالی ینجّز خصوص الأثر المشترک، وأمّا الأثر المختص، فالعلم الإجمالی لا ینجّزه؛ بل یمکن الرجوع فیه إلی الأصول المؤمّنة، واستدل علی ذلک بأنّ الأصل فی کل طرف یُعارض بمثله فی الطرف الآخر بالنسبة إلی الأثر المشترک، قاعدة الطهارة، أو استصحاب الطهارة فی الماء المطلق مُعارض بقاعدة الطهارة، أو استصحاب الطهارة فی الماء المضاف، کلٌ منهما یستحق هذا الأصل، کلٌ منهما یُشکّ فی نجاسته وطهارته، فیستحق قاعدة الطهارة، ولا یمکن إجراء قاعدة الطهارة فی کلٍ منهما؛ لأنّ هذه مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّه یعلم بثبوت النجاسة فی أحدهما، کما لا یمکن تخصیص قاعدة الطهارة بأحدهما دون الآخر؛ لأنّ هذا ترجیح بلا مرجّح، وهذه هی القاعدة التی توجب تعارض الأصول وتساقطها، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لهذا الأثر المشترک الذی هو حرمة الشرب، فیُحکم علیه بأنّه یحرم علیه شرب هذا الإناء وشرب هذا الإناء الآخر تطبیقاً لقاعدة منجّزیة العلم الإجمالی.

ص: 148


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج2، ص250.

وأمّا بالنسبة إلی الأثر المختص الذی هو عدم جواز الوضوء بالماء المطلق، فهذا یجری فیه الأصل بلا معارضٍ، تجری فیه قاعدة الطهارة ولا تُعارَض قاعدة الطهارة فی الماء المطلق بقاعدة الطهارة فی الماء المضاف لما قلناه من أنّ عدم جواز الوضوء بالماء المضاف لیس من آثار نجاسة الماء المضاف، فتجری قاعدة الطهارة فی الماء المطلق من دون أنّ تعارض بأصلٍ مماثل فی الطرف الآخر بالنسبة إلی الأثر المختص، بخلافه بلحاظ الأثر المشترک، فأنّ القاعدة تُعارَض بمثلها فی الطرف الآخر، فتتساقط ویتنجّز العلم الإجمالی بلحاظ الأثر المشترک دون الأثر المختص. وبناءً علیه: لا یجوز له شرب الماء المطلق ولا الماء المضاف، لکنّه یجوز له الوضوء بالماء المطلق تمسّکاً بالأصل المؤمّن الذی هو قاعدة الطهارة التی لا معارض لها فی الطرف الآخر.

السید الخوئی (قدّس سرّه) ذهب إلی الرأی الأوّل وخالف استاذه، (1) وذهب إلی أنّ العلم الإجمالی ینجّز جمیع الآثار، واستدلّ علی ذلک بأنّ جواز الوضوء بالماء المطلق متفرّع علی جریان قاعدة الطهارة فیه، کیف یمکن أن نثبت أنّ هذا الماء المطلق الذی نشکّ فی طهارته ونجاسته یجوز الوضوء به ؟ لا یمکن إثبات جواز الوضوء بهذا الماء المشکوک الطهارة والنجاسة إلاّ بعد إجراء قاعدة الطهارة فیه، فإذن: جواز الوضوء به متفرّع علی جریان قاعدة الطهارة فیه، فإذا فرضنا أنّ قاعدة الطهارة لا تجری فی الماء المطلق؛ لأنّها معارضة بقاعدة الطهارة فی الماء المضاف، فلا تجری قاعدة الطهارة فی الماء المطلق بسبب المعارضة؛ فحینئذٍ لا طریق لنا لإحراز طهارة الماء المطلق حتّی نلتزم بجواز الوضوء به.

ص: 149


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص374.

بعبارةٍ أخری: إنّ جواز الوضوء بالماء موقوف علی إثبات طهارته، إمّا واقعاً، أو ظاهراً، ولا یمکننا إثبات طهارة الماء المطلق فی المقام واقعاً، ویتعذّر علینا إثبات طهارته ظاهراً استناداً إلی قاعدة الطهارة؛ لأنّ قاعدة الطهارة التی تجری فیه مُعارَضة بقاعدة الطهارة الجاریة فی الماء المضاف، فیتعذّر إثبات طهارة الماء المطلق فی المقام، وبالتالی لا یمکن الالتزام بجواز الوضوء به خلافاً لما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه).

کلام السید الخوئی (قدّس سرّه) کأنّه یفترض أنّ الأثر المختص الذی هو عدم جواز الوضوء بالماء المطلق، النافی لهذا الأثر هو نفس الأصل النافی للأثر المشترک الذی هو قاعدة الطهارة. الأثر المشترک هو حرمة الشرب، النافی لحرمة الشرب والمثبت لجواز الشرب هو قاعدة الطهارة، إذا أثبتنا قاعدة الطهارة ینتفی هذا الأثر وهو حرمة الشرب، هذا الأصل النافی للأثر المشترک هو نفسه نافٍ للأثر المختص، والمفروض أنّ هذا الأصل سقط بالمعارضة مع قاعدة الطهارة فی الماء المضاف، وبهذا نفقد دلیلاً علی إثبات طهارة الماء المطلق، فلا یمکن أن نلتزم بجواز الوضوء به؛ لأنّ الدلیل هو قاعدة الطهارة التی تنفی حرمة الشرب أیضاً لو جرت بلا معارضة، وقاعدة الطهارة فی الماء المطلق معارضة بمثلها فی الماء المضاف، فنفقد الدلیل علی طهارة الماء، وبهذا نصل إلی نتیجة عدم جواز الوضوء بهذا الماء المطلق؛ لأنّه یکفینا لإثبات عدم جواز الوضوء بالماء الشکّ فی أنّ هذا الماء نجس، أو طاهر.

بعبارة أخری: إنّ جواز الوضوء لابدّ فیه من إحراز طهارة الماء، إمّا واقعاً، أو ظاهراً، فإذا شککنا فی ماء أنّه طاهر أو نجس لا یمکن الحکم بجواز الوضوء به إلاّ إذا أحرزنا طهارته، وفی المقام لا یمکن إحراز طهارته، لا واقعاً ولا ظاهراً، فإذن: بالنتیجة لا یجوز الوضوء به.

ص: 150

السید الشهید(قدّس سرّه) علّق علی کلام السید الخوئی(قدّس سرّه) بقوله بأنّ ظاهر هذا الکلام هو أنّه یعترف بخروج الأثر المختص عن دائرة العلم الإجمالی، وإنّما لا یُنفی هذا الأثر، أی لا یمکن إثبات جواز الوضوء بهذا الماء لیس علی أساس منجّزیة العلم الإجمالی، فهو خارج عن دائرة العلم الإجمالی، وإنّما لا یمکن إثبات جواز الوضوء به باعتبار عدم وجود أصلٍ ترخیصی مؤمّن بعد سقوط الأصل بالمعارضة، أی أنّ الأصل المؤمّن الذی یمکن الاعتماد علیه فی إثبات جواز الوضوء غیر موجود، فنلتزم بعدم جواز الوضوء به، لیس من جهة أنّ العلم الإجمالی کما ینجّز حرمة الشرب فی کلٍ من الطرفین، کذلک ینجّز عدم جواز الوضوء بالماء المطلق، وإنّما هو یعترف بأنّه لو بقینا نحن والعلم الإجمالی، العلم الإجمالی لا ینجّز أکثر من حرمة الشرب فی کلٍ منهما ولا ینجّز حرمة الوضوء، وإنّما التزمنا بعدم جواز الوضوء باعتبار عدم وجود دلیلٍ یدلّ علی طهارة الماء؛ لأنّ الدلیل علی طهارة الماء المثبت لجواز الوضوء به هو عبارة عن قاعدة الطهارة، وقاعدة الطهارة قد سقطت بالمعارضة، فیقول أنّ الذی یُفهم من کلامه هو الاعتراف بخروج الأثر المختص عن دائرة العلم الإجمالی، وبناءً علی هذا الفهم من کلام السید الخوئی (قدّس سرّه)؛ حینئذٍ لابدّ أن نفصّل بین ما لو کان الأثر المختص منفیّاً ینفس الأصل الذی ینفی الأثر المشترک وبین ما إذا کان الأثر المختص یستقل بأصلٍ یمکن الاعتماد علیه لنفیه غیر الأصل الذی ینفی به الأثر المشترک، فأن کان الأصل واحداً، ولیس لدینا إلاّ أصل واحد ننفی به الأثر المشترک والأثر المختص؛ حینئذٍ یتم کلام السید الخوئی (قدّس سرّه)؛ لأنّ هذا الأصل سقط بالمعارضة، فلا یبقی دلیل علی جواز الوضوء بالماء المطلق؛ لأنّ الدلیل منحصر بهذا الأصل، والمفروض أنّ هذا الأصل سقط بالمعارضة. وبین حالة أخری یختص الأثر المختص بأصلٍ مستقلٍ، ولیس هو نفس الأصل الذی ننفی به الأثر المشترک، بناءً علی کلام السید الخوئی (قدّس سرّه) لابدّ أن نلتزم بإمکان جریان هذا الأصل کما یُمثل بما إذا فرضنا أنّه علم إجمالاً أنّه استقرض من زید خمسة دنانیر، أو من عمرو عشرة دنانیر، هنا یوجد أثر مشترک وهو أنّه مدین بخمسة دنانیر لزید إن کان هو الذی استقرض منه، ولعمرو إن کان هو الذی استقرض منه، بالضبط مثل حرمة الشرب فی المثال السابق، یحرم شرب الماء المطلق إن وقعت فیه النجاسة، ویحرم شرب الماء المضاف إن وقعت فیه النجاسة، هذا أثر مشترک، وهنا نقول إن کان قد استقرض من زید، فهو مدین له بخمسة دنانیر، وإن کان قد استقرض من عمرو، فهو أیضاً مدین له بخمسة دنانیر قطعاً، هذا أثر مشترک. وهناک أثر زائد یختص به عمرو علی تقدیر أن یکون قد استقرض من عمرو تثبت خمسة دنانیر أخری فی ذمّته، لکن علی تقدیر أن یکون قد استقرض من زید لا تثبت فی ذمته خمسة دنانیر أخری، وإنّما یثبت فقط الأثر المشترک. الأصل الذی ننفی به الأثر المشترک غیر الأصل الذی ننفی به الأثر المختص، أصالة البراءة هنا تجری لإثبات براءة الذمّة من أنه مدین بخمسة دنانیر، أصالة البراءة هذه سقطت بالمعارضة، یعنی أنّ أصالة البراءة من کون ذمته مشغولة لزید معارضة بأصالة البراة من کون ذمّته مشغولة لعمرو بخمسة دنانیر، تتساقطان، لکن تبقی أصالة البراءة جاریة فی الأثر المختص وهو الخمسة الزائدة، أصالة البراءة هذه مستقلّة ولا علاقة لها بأصالة البراءة الساقطة بالمعارضة، هذا موضوع جدید وهو خمسة دنانیر نشکّ فی أنّه مدین بها لعمرو، أو غیر مدین بها لعمرو، فتجری أصالة البراءة بناء علی الکلام الذی یذکره، وهو التفصیل، یعنی لازم کلامه هو التفصیل بین ما إذا کان هناک أصل واحد لهما، وبین ما إذا کان الأثر المختص یختص بأصلٍ یختص به ویمکن إجراءه فیه، فینبغی التفصیل بین الحالتین. (1)

ص: 151


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص163.

الذی یمکن أن یقال فی المقام: الإنصاف أنّ کلام السید الخوئی (قدّس سرّه) لیس ظاهراً ظهوراً واضحاً فی ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) من أنّه یعترف بخروج الأثر المختص عن دائرة العلم الإجمالی، هو غایة ما ذکر هذا المعنی الذی نقلناه عنه قبل قلیل، ما یقوله هو أنّ جواز الوضوء بالماء المطلق متفرّع علی جریان قاعدة الطهارة فیه، وهذا کلام صحیح. ثمّ یقول: أنّ قاعدة الطهارة فی الماء المطلق معارضة بقاعدة الطهارة فی الماء المضاف، فتسقط قاعدة الطهارة فی کلٍ منهما، فلا یبقی ما نثبت به طهارة الماء المطلق حتّی نلتزم بجواز الوضوء به. هذا الکلام یمکن أن یُفسّر بدخول الأثر المختص فی دائرة العلم الإجمالی، باعتبار أنّ تنجیز العلم الإجمالی هو فرع جریان الأصول فی الأطراف وتعارضها وتساقطها، فیتنجّز العلم الإجمالی، والعلم الإجمالی یتنجّز عندما تتعارض الأصول فی الأطراف وتتساقط؛ فحینئذٍ العلم الإجمالی ینجّز الطرفین، کلامه لا ینافی أنّ العلم الإجمالی ینجّز الأثر المختص کما ینجّز الأثر المشترک؛ لأنّه یرید أن یقول أنّ قاعدة الطهارة فی الأطراف الذی هو فی هذا المثال الذی طرحه الذی هو العلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، أحدهما فیه ماء مطلق، والآخر فیه ماء مضاف، جواز الوضوء بالماء المطلق متوقّف علی جریان قاعدة الطهارة، وقاعدة الطهارة تسقط بالمعارضة، وبذلک یتنجّز العلم الإجمالی، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لحرمة الشرب، ومنجّزاً أیضاً لعدم جواز الوضوء به. کلامه لیس واضحاً، یمکن أن یُفسّر بهذا التفسیر، لکن یمکن أن یُفسّر بأنّه لا یرید الاعتراف بأنّ الأثر المختص خارج عن دائرة العلم الإجمالی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

ص: 152

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی ما إذا کان هناک أثر زائد لأحد الطرفین وأثر مشترک لکلا الطرفین، فهل ینجّز العلم الإجمالی کل الآثار، أو ینجّز فقط الأثر المشترک ؟

ما یُفهم من عبارة السید الخوئی(قدّس سرّه) أنّ الأثر الزائد، علی الأقل فی مثل المثال المطروح فی البحث الذی هو مثال الماء المطلق والماء المضاف، الظاهر أنّ الأثر الزائد داخل فی دائرة العلم الإجمالی ویتنجّز بالعلم الإجمالیکما یتنجّز به الأثر المشترک، والسرّ فی ذلک هو أنّ العلم الإجمالی فی المقام لم یتعلّق بالتکلیف بحرمة شرب هذا الإناء، أو هذا الإناء، حرمة شرب الماء المطلق، أو حرمة شرب الماء المضاف حتّی یمکن أن نتصوّر أنّ ذاک الأثر الزائد لیس داخلاً فی دائرة العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی دائر بین حرمة شرب هذا وحرمة شرب هذا، أمّا عدم جواز الوضوء بهذا لیس مشمولاً لهذا العلم الإجمالی، الأمر فی المقام لیس هکذا، العلم الإجمالی تعلّق بنجاسة أحد الإناءین، ما نعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد المائعین، المائع المضاف، أو المائع المطلق، بمعنی أنّ متعلّق العلم الإجمالی هو موضوع الأثر الشرعی الذی هو عبارة عن النجاسة، ومن الواضح أنّ العلم بالموضوع هو علم بآثار الموضوع، یعنی العلم الإجمالی بالموضوع هو علم إجمالی بآثار الموضوع، هذا الموضوع الذی هو النجاسة، علی تقدیر أن تکون متحققة بالماء المضاف لها اثر واحد، وأثرها هو حرمة الشرب، لکن علی تقدیر أن تکون متحققة فی الماء المطلق لها أثران ولیس أثراً واحداً، الأوّل هو حرمة الشرب، والثانی هو عدم جواز الوضوء بذلک الماء، ما نعلمه هو نجاسة أحد المائعین؛ حینئذٍ علی تقدیر أن تکون النجاسة فی الماء المطلق یترتب کلا الأثرین، وعلی تقدیر أن تکون النجاسة موجودة فی الماء المضاف یترتب أثر واحد؛ حینئذٍ العلم الإجمالی ینجّز کل هذه الآثار؛ لأنّ العلم الإجمالی بنجاسة الماء المطلق یعنی العلم الإجمالی بکلا الأثرین، یعنی العلم الإجمالی بحرمة شربه، والعلم الإجمالی بعدم جواز الوضوء به، التفکیک بین هذین الأثرین بلحاظ العلم الإجمالی ودعوی أنّ العلم الإجمالی ینجّز الأوّل دون الثانی لا وجه له بعد الالتفات إلی أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بنجاسة أحد المائعین لا بحرمة شرب هذا وبحرمة شرب هذا، والعلم الإجمالی بنجاسة الماء المطلق یعنی العلم الإجمالی بحرمة شربه وعدم جواز الوضوء به، والتفکیک بین هذین الأثرین بلا موجب، فیکون العلم الإجمالی شاملاً للأثر الزائد، ویکون الأثر الزائد داخلاً فی دائرة العلم الإجمالی، ویتنجّز بالعلم الإجمالی؛ بل أکثر من هذا؛ إذ یمکن أن یقال بوجود علمین إجمالیین لا علم إجمالی واحد، هناک علمان إجمالیان فی محل الکلام یشترکان فی طرف وهما عبارة عن العلم الإجمالی بأنّه إمّا یحرم شرب المضاف، أو یحرم شرب الماء المطلق، فی نفس الوقت هناک علم إجمالی آخر ناشئ من العلم بسقوط النجاسة فی أحد المائعین، وهو عبارة عن العلم الإجمالی بأنّه إمّا یحرم شرب الماء المضاف، أو لا یجوز الوضوء بالماء المطلق، هذان علمان إجمالیان، طرفا العلم الإجمالی الأوّل هما حرمة شرب الماء المضاف، وحرمة شرب الماء المطلق، وطرفا العلم الإجمالی الثانی هما حرمة شرب الماء المضاف وعدم جواز الوضوء بالماء المطلق، فحرمة شرب الماء المضاف تکون طرفاً مشترکاً بین هذین العلمین الإجمالیین، وهذان علمان إجمالیان، وقد تقدّم سابقاً أنّ اشتراک العلمین الإجمالیین فی طرف لا یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ بل یبقی العلمان الإجمالیان غیر منحلّین؛ وحینئذٍ ینجّزان کلا الطرفین، کل منهما ینجّز کلا طرفیه، فالعلم الإجمالی الأوّل ینجّز طرفیه، والعلم الإجمالی الثانی ینجّز طرفیه أیضاً، وهذا معناه أنّ کل الآثار بما فیها الأثر الزائد، الأثر المختص، یکون منجّزاً بالعلم الإجمالی لا أنّه یکون خارجاً عن دائرة العلم الإجمالی.

ص: 153

لکن هذا الکلام کلّه نقوله عندما نفترض أنّ الأثر المشترک والأثر المختص فی موضوعین، کما هو الحال فی المثال المطروح، هناک موضوعان، هناک ماء مطلق وماء مضاف، وأحد الأثرین یختص بأحد الموضوعین دون الموضوع الآخر. إذن: هناک موضوعان ثبت فیهما هذان الأثران، الأثر المشترک والأثر المختص، وهکذا فی مثال آخر تقدّم سابقاً، وهو ما إذا علم بأنّه إماّ أن یکون مدیناً لزید بخمسة دراهم، أو مدیناً لعمرو بعشرة دراهم، موضوعان مختلفان.

وأمّا إذا فرضنا أنّهما کانا فی موضوعٍ واحدٍ، کما لو فرضنا أنّه علم بأنّه إمّا استدان من زید خمسة دنانیر، أو نذر أن یعطیه عشرة دنانیر. الظاهر أنّ هذه الحالة خارجة عن محل الکلام، لا إشکال هنا فی هذه الحالة فی عدم تنجیز هذا الأثر بهذا العلم الإجمالی، والسر فی ذلک هو أنّه إذا لاحظنا سبب اشتغال الذمّة یوجد فیه علم إجمالی؛ لأنّ الأمر مردد بین الدَین وبین النذر، السبب غیر واضح، هل هو النذر، أو هو الدَین، فیوجد علم إجمالی بلحاظ السبب، لکن عندما نلحظ المسبّب(المدیونیة) عندما نلحظ اشتغال الذمّة فسنجد أنّه لا یوجد علم إجمالی، وإنّما الأمر یدور بین الأقل والأکثر، ما اشتغلت به الذمة، وما کُلِّف بدفعه، فی الواقع یدور بین الأقل والأکثر، الموضوع واحد إما أنه یجب علیه أن یدفع إلی زید خمسة دنانیر، وإمّا أن یجب علیه أن یدفع له عشرة دنانیر، فالأمر یدور بین الأقل والأکثر، وهنا تجری البراءة لنفی الزائد من دون فرقٍ بین أن یکون الأقل والأکثر استقلالیین، أو أن یکونا ارتباطیین، حتّی لو کانا ارتباطیین أیضاً تجری البراءة لنفی الزائد کما لو فرضنا أنّ الدَین کان علی نحو العام المجموعی والنذر أیضاً کان علی نحو العام المجموع، ولیس فیه انحلال حتّی یکون أقل وأکثر استقلالیاً، وإنّما هو اقل وأکثر ارتباطی، الدَین علی نحو العام المجموعی، والنذر نذر أن یعطیه عشرة دنانیر علی نحو العام المجموعی، هنا یکون الأقل والأکثر ارتباطیین، وعلی کلا التقدیرین تجری البراءة لنفی الزائد، بلا أن یجری فیه الخلاف السابق، والسر فی أنّه لا خلاف فی جریان البراءة فی المقام وعدم تنجّز الأثر الزائد فی هذا المثال _________ فیما لو کانا فی موضوعٍ واحد ____________ وجریان الکلام فیما لو کانا فی موضوعین، السر هو أنّه فیما لو کانا فی موضوعین استطعنا أن نتصوّر علماً إجمالیاً یکون الأثر الزائد طرفاً من أطرافه، فینجّزه؛ بل استطعنا أن نتصوّر علمین إجمالیین یکون الأثر الزائد طرفاً فی أحدهما، وقلنا أنّ العلمین الإجمالیین اللّذین یشترکان فی طرفٍ واحد لا ینحلّ أحدهما بالآخر؛ بل یبقی کلٌ منهما علی حاله، فینجّز أطرافه، فیتنجّز الأثر الزائد، هذا استطعنا أن نتصوّره هناک، أمّا هنا، عندما یکون الموضوع واحداً، هنا لا یوجد علم إجمالی فی الحقیقة والواقع، وإنّما الموجود هو دوران الأمر بین الأقل والأکثر، فهو إمّا أن یکون مدیناً لزید بخمسة دراهم، أو یکون مدیناً له بعشرة دراهم، هذا دوران الأمر بین الأقل والأکثر ولیس علماً إجمالیاً، وإن کان هناک علم إجمالی بلحاظ السبب، لکن بلحاظ ما یدخل فی العهدة، وما یکلّف به المکلّف الأمر یدور بین الأقل والأکثر، فتجری البراءة لنفیه ویخرج عن محل الکلام.

ص: 154

خلاصة الکلام المتقدّم: فی محل الکلام فی ما إذا کان الأثر المشترک والأثر المختص فی موضوعین، الظاهر أنّ العلم الإجمالی ینجّز تمام الآثار بما فیها الأثر المختص والزائد، ولا تجری البراءة لنفی الأثر الزائد، لکن هذا الکلام نقوله بشرط أن یکون الأثر المختص لیس له أصل مستقل یختص به بحیث یکون هذا الأصل المختص به غیر مسانخ للأصل الذی یُراد أن ینفی به الأثر المشترک، الأثر المشترک له أصل یُنفی به، والأثر المختص له أصل آخر غیر مسانخ له، هنا نقول تجری البراءة، کلامنا السابق عندما لا یکون هناک أصل مستقل للأثر الزائد غیر مسانخ للأصل الذی یجری فی الأثر المشترک کما هو الحال فی المثال السابق فی الماء المضاف والماء المطلق، الأصل الموجود هو عبارة عن أصالة الطهارة، هذا أصل واحد یُراد أن ینفی به الأثر المشترک الذی هو حرمة الشرب، ویُراد أن یُنفی به عدم جواز الوضوء، أی إثبات جواز الوضوء استناداً إلی قاعدة الطهارة التی هی نفسها التی یُستنَد إلیها لنفی حرمة الشرب. إذن: الأثر الزائد لیس له أصل مستقل غیر مسانخ للأصل الجاری فی الأثر المشترک. هذا یأتی فیه الکلام السابق ونلتزم فیه بأنّ العلم الإجمالی ینجّز الأثر الزائد کما ینجّز الأثر المشترک.

أمّا إذا فرضنا أنّ الأثر الزائد یختصّ بأصلٍ غیر مسانخ لذلک الأصل کما لو فرضنا أنّ الماء المطلق کانت له حالة سابقة وهی الطهارة بحیث یجری فیه استصحاب الطهارة، مع افتراض عدم وجود حکومة بین الاستصحاب وبین الأصل فی حالات التوافق کما هو أحد الآراء فی المسألة، أنّ الأصلین اللّذین یکون أحدهما حاکماً علی الآخر فی صورة التخالف لا حکومة بینهما فی صورة التوافق، استصحاب طهارة وأصالة طهارة لا تخالف بینهما، متوافقان، فلا حکومة بینهما، فإذا لم تکن هناک حکومة بینهما، کل هذه الأصول تکون أصولاً عرضیة تجری فی عرضٍ واحد، یعنی قاعدة الطهارة فی الماء المضاف، قاعدة الطهارة فی الماء المطلق، واستصحاب الطهارة فی الماء المطلق، کلّها تکون فی عرضٍ واحد ولا طولیة بینهما، وإلاّ إذا قلنا أنّ الحکومة ثابتة بین الاستصحاب والأصل مطلقاً، یعنی حتّی فی حالة التوافق؛ حینئذٍ أصالة الطهارة فی الماء المطلق واستصحاب الطهارة فیه لا یکونان فی عرضٍ واحدٍ؛ لأنّ استصحاب الطهارة یکون حاکماً علی قاعدة الطهارة فی الماء المطلق، ومع هذه الحکومة یکون الاستصحاب الجاری فی الماء المطلق معارضاً لقاعدة الطهارة فی الماء المضاف، کلا نحن نفترض عدم الحکومة، فتکون فی عرضٍ واحدٍ؛ حینئذٍ نقول: فی هذه الحالة لا مانع من جریان استصحاب الطهارة فی الماء المطلق؛ لأنّه أصل مختص بهذا الطرف، مختص بالماء المطلق وغیر مسانخ للأصل الآخر، غیر مسانخ لقاعدة الطهارة، غیر مسانخ لأصالة الطهارة، کلٌ منهما له دلیل مستقل، قاعدة الطهارة لها دلیل وتثبت أمراً، واستصحاب الطهارة له دلیل آخر، کلٌ منهما له دلیل ولا توجد بینهما سنخیة، هذا قاعدة، وهذا استصحاب، فی هذه الحالة یمکن نفی الأثر الزائد استناداً إلی استصحاب الطهارة؛ بل بناءً علی جریان استصحاب الطهارة فی المقام بعد تساقط الأصلین، أو القاعدتین فی الطرفین؛ حینئذٍ یمکن لیس فقط أن ننفی الأثر الزائد، وإنّما ننفی حتّی الأثر المشترک بالنسبة إلی الماء المطلق، هذا یمکن أن یقال به. علی کل حال، یمکن إجراء استصحاب الطهارة لنفی الأثر الزائد فی المقام، والسر فی ذلک هو أنّ دلیل الاستصحاب لا یُبتلی بالإجمال الذی هو السبب فی تساقط الأصلین فی الطرفین، قاعدة الطهارة فی هذا الطرف، وأصالة الطهارة فی هذا الطرف، من الواضح جداً أنّه لا یمکن إجراؤهما معاً؛ لأنّ هذا یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، ولا یمکن إجراء الأصل فی أحد الطرفین دون الآخر؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح؛ حینئذٍ یُبتلی الدلیل بالإجمال، بمعنی __________ وقد تقدّم هذا سابقاً ___________ أنّ دلیل الأصل لا نعلم أنّه هل یشمل هذا الطرف دون ذاک، أو یشمل ذاک الطرف دون هذا ؟ بعد فرض عدم إمکان شموله لکلٍ منهما، فیکون مجملاً من هذه الناحیة، فإذا کان دلیل الأصل مجملاً؛ فحینئذٍ لا یمکن التمسّک به لإثبات الطهارة فی هذا الطرف، ولا لإثبات الطهارة فی هذا الطرف، هذا معنی الإجمال فی دلیل الأصل الموجب للتساقط، ولعدم إمکان التمسّک بالدلیل لإثبات مضمونه فی هذا الطرف ولا فی ذاک الطرف، فتتساقط الأصول، وعندما تتساقط الأصول؛ حینئذٍ لا مشکلة فی الرجوع إلی الاستصحاب؛ إذ أنّ الاستصحاب لیس فیه هذه المشکلة، فلا یُبتلی بالإجمال؛ لأنّه لیس له معارض فی الطرف الآخر، استصحاب الطهارة فی الماء المطلق لیس له معارض فی الطرف الآخر، فیمکن الرجوع إلیه لإثبات الطهارة فی الماء المطلق، أو قل: لنفی الأثر الزائد فی الماء المطلق، وهذا بخلاف ما إذا کان الأصل واحداً، بمعنی أنّ الأصل الذی نرید أن ننفی به الأثر الزائد هو نفس الأصل الذی نرید أن ننفی به الأثر المشترک، هو نفسه هو قاعدة الطهارة، کما إذا فرضنا أنّ الماء المطلق لیس له حالة سابقة، نحن نرید أن ننفی الأثر المختص وهو عدم جواز الوضوء تمسّکاً بأصالة الطهارة، کما أننا نرید أن ننفی حرمة الشرب استناد إلی أصالة الطهارة أیضاً، فإذا فرضنا أنّ دلیل أصالة الطهارة أبتُلی بالإجمال، بمعنی أنّ دلیل أصالة الطهارة مجمل من حیث شموله لهذا الطرف، أو شموله لذاک الطرف، هذا الإجمال یمنع من التمسّک بهذا الدلیل لنفی الأثر الزائد؛ لأنّ قاعدة الطهارة دلیلها ابتُلی بالإجمال، والإجمال مانع من التمسّک به لإثبات مضمونه فی هذا الطرف، ولو بلحاظ الأثر الزائد.

ص: 155

إذن: ما تقدّم سابقاً من تنجیز العلم الإجمالی للأمر الزائد، إنّما هو مشروط بشرطین:

الشرط الأوّل: أن نفترض أنّ الأثر الزائد والأثر المشترک فی موضوعین مستقلّین.

الشرط الثانی: أن لا یکون الأصل الذی یراد أن یُنفی به الأصل الزائد مستقلاً وغیر مسانخ للأصل الذی یُراد أن یُنفی به الأثر المشترک؛ حینئذٍ یکون العلم الإجمالی منجّزاً لکل الآثار، وإلاّ لا مانع من إجراء البراءة لنفی الأثر الزائد.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

من جملة المباحث التی لم تذکر فی الکتب الرجالیة المعروفة، لکن تطرّق إلیها السید الشهید(قدّس سرّه) نذکرها علی نحو الاختصار هوالعلم الإجمالی فی الأحکام الظاهریة.

سابقاً کنّا نتکلّم عن العلم الإجمالی الوجدانی فی الأحکام الواقعیة، الآن نتکلّم عن العلم الإجمالی الوجدانی فی الأحکام الظاهریة. تارةّ نفترض أنّ المکلّف یعلم بوقوع النجاسة فی أحد الإناءین، هذا ما کنّا نتکلّم عنه سابقاً، نفترض علماً وجدانیاً إجمالیاً بحکمٍ واقعی، لکن مردد بین الطرفین، الآن نتکلّم عن ما إذا فرضنا أنّ الإمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین، هنا یوجد علم لا بالحکم الواقعی، فی کلٍ منهما یوجد علم وجدانی إجمالی، لکن فی ما تقدّم کان متعلّقه هو الحکم الواقعی، وأمّا فی المقام فهو یتعلّق بالحکم الظاهری، ونستطیع أن نعبّر عن هذا العلم الوجدانی الإجمالی بالحکم الظاهری بأنّه علم تعبّدی بالحکم الواقعی، فنفرّق بین ما تقدّم بأنّه علم وجدانی بالحکم الواقعی وبین ما نرید الکلام عنه بأنّه علم تعبّدی بالحکم الواقعی، هذا العلم التعبّدی بالحکم الواقعی یکون علماً وجدانیاً بالحکم الظاهری؛ لأنّه عندما تقوم الإمارة المکلّف یعلم بالحکم الظاهری علماً وجدانیاً. نعم، هو لا یعلم وجداناً بالحکم الواقعی، وإنّما یکون علمه هذا بعد فرض الحجّیة علماً تعبّدیاً بالحکم الواقعی.

ص: 156

الکلام یقع فی أنّ ما ثبت بالعلم الإجمالی الوجدانی بالحکم الواقعی فی ما تقدّم من وجوب الموافقة القطعیة، ومن حرمة المخالفة القطعیة وأنّ تنجیز هذا العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة هو علی نحو العلّیة التامّة، وتنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة هو علی نحو الاقتضاء، هذا هل یثبت فی محل الکلام ؟ هل یثبت فی العلم التعبّدی بالحکم الواقعی کما یثبت بالعلم الوجدانی بالحکم الواقعی ؟ فإذا قامت إمارة علی نجاسة أحد إناءین، أو دلّ خبر الثقة علی وجوب أحدی الصلاتین إمّا الإتمام، أو القصر، فهل تحرم المخالفة القطعیة بنحو العلّیة التامّة ؟ هل تجب الموافقة القطعیة ؟ بحیث یجب علیه الاحتیاط وترک الإناءین فی المثال الأوّل، والإتیان بصلاتین فی المثال الثانی، أو أنّ هذا یختلف عمّا تقدّم ؟ الکلام یقع فی هذا.

الظاهر أنّه لا ینبغی أن یقع الکلام والإشکال فی عدم الفرق بین العلمین من حیث التنجیز لحرمة المخالفة القطعیة ولوجوب الموافقة القطعیة، کما تحرم المخالفة القطعیة للعلم الإجمالی هناک تحرم هنا أیضاً، وکما یجب الاحتیاط والموافقة القطعیة هناک، هنا أیضاً یجب الاحتیاط والموافقة القطعیة، والسر فی ذلک هو أنّ البرهان الذی تقدّم لإثبات هذا التنجیز بلحاظ کلتا المرحلتین، مرحلة حرمة المخالفة القطعیة، ومرحلة وجوب الموافقة القطعیة، هذا البرهان بنفسه یجری فی العلم التعبّدی بالحکم الواقعی، نفس البرهان السابق یجری فی محل الکلام، البرهان السابق کان عبارة عن أنّه لا یمکن إجراء الأصول المؤمّنة فی أطراف هذا العلم الإجمالی؛ لأنّ ذلک یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، کما أنّ إجراء الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین بخصوصه دون الآخر ترجیح بلا مرجّح، وإجراءه فی أحدهما المردد لا معنی له؛ لأنّه لا وجود للفرد المردد، وهذا یوجب تساقط الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، ومع تساقط الأصول فی أطراف العلم الإجمالی یکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، فیجب الاحتیاط. نفس البرهان یأتی فی محل الکلام بعد الالتفات إلی أنّ الحکم الظاهری کالحکم الواقعی حکم شرعی حقیقی تام صادر من الشارع، لا فرق بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری فی أنّها أحکام إلهیة شرعیة، ومن الواضح أنّ العقل کما یحکم بقبح معصیة الحکم الواقعی کذلک یحکم بقبح معصیة الحکم الظاهری بنظر العقل لا فرق بینهما من هذه الجهة، وأنّ المولی له حق الطاعة فی کلا الحکمین، وله حق الطاعة فی کل ما یصدر منه من أحکام سواء صدرت کأحکام واقعیة، أو صدرت منه کأحکام ظاهریة، فمخالفة الحکم الظاهری کمخالفة الحکم الواقعی ممّا یحکم العقل بقبحها، وکما یکون جریان الأصول فی أطراف العلم الإجمالی فی البحث السابق مستلزماً للترخیص فی المخالفة القطعیة للمولی، کذلک إجراء الأصول فی محل الکلام فی أطراف العلم الإجمالی یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة للمولی، وکلتا المخالفتین قبیحة بنظر العقل، لا ینبغی صدورها من العبد؛ لأنّها خروج عن حق الطاعة وتمرّد علی المولی(سبحانه وتعالی)، کلٌ منهما کذلک، فإذا کان إجراء الأصول فی الأطراف یستلزم الترخیص فی هذه المخالفة القطعیة القبیحة؛ حینئذٍ یکون الترخیص محالاً، فالترخیص فی المخالفة القطعیة محال، وحیث أنّ إجراء الأصول فی جمیع الأطراف یستلزم هذا الترخیص فیکون محالاً، فإذن: لا یمکن إجراء الأصول المؤمّنة فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی البحث السابق وفی محل الکلام؛ لأنّ کلاً منهما ترخیص فی المخالفة القبیحة بنظر العقل، فیکون هذا الترخیص غیر ممکن، فإذا استحال جریان الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی محل الکلام وبضمیمة أنّ إجراءها فی بعض الأطراف دون البعض الآخر یکون ترجیحاً بلا مرجّح؛ حینئذٍ هذا یؤدّی إلی تعارض الأصول وتساقطها، وبذلک یکون العلم الإجمالی منجّزاً لجمیع الأطراف. فنفس البرهان المتقدّم الذی استُدلّ به علی التنجیز یجری فی محل الکلام بعد الالتفات إلی نکتة أنّه لا فرق بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی فی کونهما حکمین إلهیین صادرین من الشارع المقدّس، والعقل لا یفرّق بین هذین الحکمین فی حکمه بقبح المعصیة ووجوب الطاعة، یحکم بذلک فی کلٍ منهما بلا فرقٍ بینهما، فنفس البرهان السابق یجری فی محل الکلام.

ص: 157

علی کلّ حال، هذه القضیة ینبغی أن تکون واضحة إذا قسناها علی الإمارة التی تقوم علی نجاسة شیءٍ معیّن، لو قامت إمارة علی نجاسة هذا الإناء، أو قام خبر الثقة المعتبر شرعاً علی وجوب الإتمام فی حالة معیّنة، ألیس العقل یحکم بوجوب العمل بهذه الإمارة ؟ بلا إشکال العقل یحکم بوجوب العمل بهذه الإمارة، ویحکم بقبح معصیة هذه الإمارة. إذن: الإمارة باعتبارها حجّة شرعاً والحکم الظاهری الذی هو عبارة عن جعل الحجّیة لها هو حکم إلهی یحکم العقل بوجوب طاعته وبقبح معصیته، وکذلک الأمر لو قامت الإمارة علی حکمٍ مرددٍ بین شیئین، کما لو قامت الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین، أو قام خبر الثقة علی وجوب أحدی الصلاتین إمّا التمام، أو القصر، هنا أیضاً العقل یحکم بوجوب الطاعة وقبح المعصیة، فیجری البرهان السابق لإثبات التنجیز، ولا ینبغی توهّم أنّ هناک فرقاً بین العلمین، العلم الإجمالی الوجدانی بالحکم الواقعی الذی هو المتقدّم، وبین العلم التعبّدی الإجمالی بالحکم الواقعی، أو ما سمّیناه بالعلم الوجدانی الإجمالی بالحکم الظاهری.

قد یقال: أنّ هناک فرقاً بینهما، وحاصله هو أنّ العلم الإجمالی فی المقام علم تعبّدی ولا یوجد علم وجدانی، بلحاظ الواقع فی المقام لا یوجد إلاّ علم تعبّدی؛ لأنّ المکلّف واقعاً لا یعلم بالواقع، الإمارة دلّت علی أنّ هذا واجب، وأنّ النجاسة واقعة فی أحد الإناءین، هو لا یعلم وجداناً بنجاسة أحد الإناءین، وإنّما یعلم بذلک تعبّداً، هو علم تعبّدی ولیس علماً وجدانیاً، بخلاف العلم الإجمالی السابق، فأنّه علم وجدانی بالحکم الواقعی وفی محل الکلام علم تعبّدی بنجاسة أحد الإناءین، هذا الفرق بینهما قد یُتخیَل أنّه یترتب علیه أنّه فی العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین هناک یستحیل جریان الأصول المؤمّنة فی جمیع الأطراف؛ لما تقدّم من أنّ ذلک یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة للحکم الواقعی، وهذا واضح هناک؛ ولذا استحالة الترخیص فی جمیع الأطراف تؤدّی إلی تساقط الأصول، وبالتالی إلی تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة.

ص: 158

وأمّا فی محل الکلام، حیث أنّ العلم لیس علماً وجدانیاً، وإنّما هو علم تعبّدی، فیمکن جریان الأصول المؤمّنة فی الأطراف، وذلک لأنّه یقال لا یلزم من جریان الأصول فی جمیع الأطراف الترخیص فی المخالفة القطعیة للواقع، باعتبار أنّ العلم فی المقام علم تعبّدی ناشئ من الإمارة وجعل الحجّیّة للإمارة، ومن الواضح أنّ الإمارة قد تکون مخالفة للواقع، فالإمارة قد تخطئ وقد تشتبه، لیس هنا قطع بمطابقة الإمارة للواقع، فلا یوجد مخالفة قطعیة للواقع عندما یرتکب المکلّف کلا الإناءین الذین قامت الإمارة علی نجاسة أحدهما، إذا ارتکب کلا الإناءین لیست هنالک مخالفة قطعیة، لاحتمال أن تکون الإمارة مشتبهة، أو مخطئة، وإنّما غایة الأمر هناک مخالفة احتمالیة، إذا ارتکب کلا الإناءین فی المثال الأوّل، أو ترک کلتا الصلاتین فی المثال الثانی هو لم یرتکب إلاّ مخالفة احتمالیة؛ لاحتمال خطأ الإمارة، فلیس هناک مخالفة قطعیة حتّی یکون جریان الأصول فی جمیع الأطراف مستلزماً للترخیص فی المخالفة القطعیة، وإنّما هناک مخالفة احتمالیة؛ لأن من یرتکب کلا الإناءین فی المثال لا یخالف الواقع قطعاً؛ لاحتمال أن لا تکون هناک نجاسة أصلاً، لا فی هذا الإناء، ولا فی هذا الإناء، وأن تکون الإمارة مشتبهة ومخطئة، فإذن: لا یلزم من جریان الأصول فی جمیع الأطراف الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة، بخلافه فی المقام السابق؛ وحینئذٍ، ننتهی إلی نتیجة أن العلم الإجمالی فی البحث السابق ینجّز وجوب الموافقة القطعیة والاحتیاط، بینما العلم الإجمالی فی محل الکلام لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة والاحتیاط؛ لإمکان جریان الأصول فی الأطراف.

أقول: هذا لا یُتوهّم، لا یمکن أن یقال هذا الکلام؛ لأنّ هذا ناظر إلی الواقع، ویهمل الحکم الظاهری. صحیح، أنّه بلحاظ الواقع العلم فی محل الکلام لیس علماً وجدانیاً، وإنّما هو علم تعبّدی، لکن بلحاظ الحکم الظاهری هو علم وجدانی بالحکم الظاهری ولیس علماً تعبّدیاً. هو علم تعبّدی بالواقع، ولکنّه علم وجدانی بالحکم الظاهری، وبضمیمة ما ذکرنا من أنّه لا فرق بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی بنظر العقل فی وجوب الطاعة وفی حرمة المعصیة، لا فرق بینهما إطلاقاً؛ لکون کل منهما تشریعاً إلهیاً نازل من السماء؛ حینئذٍ یتبین أنّه کما یحکم العقل، کما یستحیل جریان الأصول المؤمّنة فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی البحث السابق، کذلک یستحیل جریان الأصول فی جمیع الأطراف فی محل الکلام؛ لأنّ جریان الأصول فی کلا الطرفین فی المثال یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة للحکم الظاهری، ولیس الاحتمالیة، هو مخالفة احتمالیة للواقع، احتمال أن تکون الإمارة غیر مصیبة للواقع، لکنّه مخالفة قطعیة للحکم الظاهری؛ لأنّ المکلّف ___________ بحسب الفرض __________ یقطع بحجّیة الإمارة، ویعلم بأنّ الشارع جعل الحجّیة للإمارة، لکن کون الإمارة مصیبة للواقع هذا شیء لا یقطع به، هو یقطع بالحکم الظاهری، وقلنا أنّ العقل لا یُفرّق بین الحکم الظاهری وبین الحکم الواقعی، فإذن: الحکم الظاهری فی المقام حیث یقطع به المکلّف ویعلم به علماً وجدانیاً یکون منجّزاً؛ لاستحالة جریان الأصول فی جمیع أطرافه؛ لأنّ جریان الأصول فی جمیع أطرافه یعنی الترخیص فی المخالفة القطعیة للحکم الظاهری وهذا محال بنظر العقل کالترخیص فی المخالفة القطعیة للحکم الواقعی.

ص: 159

نعم، هناک فوارق بین العلمین، أغلبها فوارق فنیّة لیس لها ثمرات عملیة، ورأینا عدم التعرّض لها بعد وضوح عدم الفرق بین العلمین بلحاظ ما هو المهم عندنا وهو مسألة التنجیز ووجوب الموافقة القطعیة، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعیة.

السید الشهید(قدّس سرّه) الذی ذکر هذا البحث، (1) وقلنا أنّه غیر موجود فی کلمات القوم إلاّ بشکل متفرّق وفی أماکن متفرّقة، ذکر ما حاصله: أنّ هذا الذی تقدم من أنّ العلم الإجمالی الوجدانی بالحکم الظاهری، أو التعبّدی بالحکم الواقعی لا فرق بینهما، أنّ هذا العلم فی محل الکلام یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعیة یکون واضحاً جدّاً ولا کلام فیه، ولا ینبغی الشکّ فیه فی ما إذا کان الإجمال __________ کما یُعبّر ___________ فی طول قیام الإمارة؛ لأنّ قیام الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین یمکن تصورّه بنحوین:

النحو الأوّل: أنّ تقوم الإمارة علی نجاسة إناءٍ معیّن، لکنّه اشتبه وترددّ عندنا بین إناءین، فأصبحنا لا نعرف أنّ ما قامت الإمارة علی نجاسته هل هو هذا الإناء، أو ذاک الإناء ؟ هنا الاشتباه والإجمال یکون فی طول العلم الإجمالی، بأن یکون العلم الإجمالی متعلّقاً بإناء معیّن، لکنّه اشتبه عندنا بعد ذلک، فالاشتباه والإجمال فی طول العلم الإجمالی.

النحو الثانی: أنّ الإمارة أساساً تقوم علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، بحیث لو سألنا الإمارة: أیّهما نجس ؟ لقالت لا أدری. فالإمارة لا تقوم إلاّ علی الجامع، ولا تشهد إلاّ بالجامع، فهی تقول: أحد الإناءین نجس، لا أکثر من ذلک، بینما فی النحو الأوّل الإمارة شهدت بنجاسة إناءٍ معیّن، ولکن لسببٍ من الأسباب ترددّ وأُجمل عندنا، بینما فی الثانی هی تقوم علی نجاسة الجامع بین الإناءین لا أکثر من ذلک.

ص: 160


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص167.

یقول(قدّس سرّه): فی النحو الأوّل النتیجة المتقدّمة لاشکّ فیها، ولا ینبغی أن یقع الکلام فیها. وأمّا فی النحو الثانی، فی هذه الحالة ذکر أنّ وجوب الموافقة والکلام السابق الذی ذکرناه یتمّ فی القسم الثانی بناءً علی مبانیه هو(قدّس سرّه) فی تفسیر الحکم الظاهری، علمنا من خلال البحوث السابقة أنّ له مبنیً فی تفسیر الحکم الظاهری، وحاصل مبناه أنّه یقول: أنّ الحکم الظاهری فی واقعه هو عبارة عن إبراز اهتمام المولی بالواقع علی تقدیر المصادفة بالرغم من أنّ المکلّف یشک فی ثبوت الواقع، لکنّه یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة والثبوت، کما یهتم به فی حالة العلم، فی محل الکلام هو یهتم بالواقع مع التردد کذلک یهتم بالواقع فی حالة العلم، الحکم الظاهری الذی هو عبارة عن جعل الحجّیة لهذه الإمارة التی تشهد بنجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، الشارع یجعل لها الحجّیة، یقول هذه الإمارة حجّة یجب علیک العمل بها والعقل یقول لا یجوز لک معصیتها. هذه الحجّیة معناها أنّ الشارع یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة بالرغم من شکّ المکلّف، المکلّف کما قلنا شاکٌ فی ثبوت النجاسة فی أحد الإناءین؛ لأنّ الإمارة قد تکون مخالفة للواقع، فهو بالرغم من شکّه، وبالرغم من احتماله عدم نجاسة کلا الإناءین الشارع یقول له: أنا أجعل الحجّیة لهذه الإمارة وآمرک أن تعمل بهذه الإمارة؛ لأنّی اهتم بالنجاسة علی تقدیر أن تکون ثابتة فی الواقع، وطریق الحفاظ علی هذه النجاسة وامتثالها هو عبارة عن جعل الاحتیاط فی هذه الموارد. هذا هو معنی الحکم الظاهری عنده؛ فحینئذٍ یقول: کما لو قامت الإمارة علی نجاسة إناء معیّن، کیف هناک نقول بأنّ دلیل حجّیة تلک الإمارة القائمة علی نجاسة إناء معیّن، وإن کان یوجد فیها احتمال الخلاف کما قلنا لاحتمال مخالفة البیّنة للواقع، لکن المولی بجعله الحجّیة لتلک الإمارة الدالّة علی نجاسة هذا بعینه فی غیر محل الکلام، فهو یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة حتّی مع وجود احتمال المخالفة هو یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة کما إذا لم یوجد هناک هذا الاحتمال، کیف یهتم الشارع بالواقع، هنا أیضاً یهتم الشارع بالواقع بالرغم من وجود احتمال المخالفة، کما نقول بهذا عندما تقوم الإمارة علی نجاسة إناء معیّن، کذلک نقول بنفس هذا الکلام فی محل الکلام، یعنی عندما تقوم الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، فیقال بأنّ دلیل حجّیة هذه الإمارة التی نحن فارغین عن کونها حجّة یدلّ علی أنّه وإن کان یوجد احتمال خطأ هذه الإمارة وعدم إصابتها للواقع، لکن المولی یهتم بالواقع علی تقدیر المصادفة حتّی مع وجود هذا الاحتمال، حتی مع وجود احتمال عدم مصادفة الإمارة للواقع الشارع أبرز اهتمامه بالواقع.

ص: 161

فإذن: فی کلا البحثین الشارع بجعله الحجّیة للإمارة هو یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة، یرید من المکلّف الواقع، والمحافظة علی الواقع بالرغم من احتمال عدم مصادفة الإمارة للواقع، الشارع أبرز اهتمامه بالواقع، سواء کانت الإمارة تقوم علی نجاسة معیّن، أو کانت تقوم علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، الشارع بمجرد أن یجعل الحجّیة للإمارة یکون قد أبرز اهتمامه بالنجاسة الواقعیة علی تقدیر أن تکون ثابتة، ویقول له: أیّها المکلّف، بالرغم من أنّک تحتمل الخلاف، لکن أنا اهتم بالنجاسة الواقعیة علی تقدیر المصادفة. إذا فرضنا ذلک وفسّرنا الحکم الظاهری علی هذا الأساس؛ حینئذٍ یکون وجوب الموافقة القطعیة لهذا العلم الوجدانی بالاهتمام الشرعی بالواقع علی تقدیر المصادفة یکون مستلزماً لوجوب الموافقة القطعیة بنظر العقل؛ إذ لا فرق بین قیام الإمارة علی نجاسة إناء معیّن، وبین قیام الإمارة علی نجاسة أحد إناءین، فی کلٍ منهما الشارع یبرز اهتمامه الذی هو روح الحکم الظاهری، کما أنّه هناک حینما أبرز اهتمامه حکم العقل بقبح المعصیة ووجوب الطاعة، هنا أیضاً عندما یعلم العقل بأنّ الشارع أبرز اهتمامه بالنجاسة الواقعیة، یقول للمکلّف لا یجوز لک مخالفتها، یجب علیک المحافظة علیها، ومن الواضح أنّ المحافظة علی هذه النجاسة التی یهتم بها الشارع لا یکون إلاّ عن طریق الاحتیاط وعن طریق وجوب الموافقة القطعیة. یقول: لا توجد مشکلة فی الالتزام بما تقدّم؛ وحینئذٍ لا فرق بین النحو الأول والنحو الثانی، علی کل حال قیام الإمارة علی نجاسة أحد إناءین، قیام خبر الثقة علی وجوب أحدی الصلاتین یکون موجباً لحکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة من دون فرقٍ بین أن یکون الإجمال فی طول العلم الإجمالی کما فی النحو الأول، أو لا یکون فی طوله، وإنّما یکون مفاد الإمارة هو الحکم بأحد الشیئین علی نحو التردید من البدایة.

ص: 162

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی العلم الإجمالی فی الأحکام الظاهریةبعد الفراغ عن العلم الإجمالی فی الأحکام الواقعیة کما إذا قامت البیّنة علی نجاسة أحد الإناءین. تکلّمنا عن ذلک فی ما تقدّم، وانتهی الکلام إلی ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه)، حیث أنّه ذکر بأننّا تارةً نفترض أنّ العلم الإجمالی یکون فی طول البیّنة، بأن یُفترض قیام البیّنة علی نجاسة إناءٍ بعینه، ثمّ یترددّ عندنا، فیکون العلم الإجمالی فی طول البیّنة. فی هذه الصورة ذکر أنّه لا ینبغی الإشکال أنّ حاله حال العلم الإجمالی بالحکم الواقعی من حیث تنجیز هذا العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة ولوجوب الموافقة القطعیة، وذکرنا ما یتعلّق بهذا الأمر وهذا هو الصحیح.

وأمّا إذا فرضنا قیام البیّنة علی نجاسة أحد الإناءین، من البدایة مفاد البیّنة هو نجاسة أحد الإناءین، لا أنّ مفادها من البدایة هو نجاسة إناءٍ بعینه ثمّ یتردد عندنا، وإنّما هی من البدایة مفادها نجاسة أحد الإناءین بحیث لو فرضنا أننا سألنا البیّنة، هی لا تعلم أیّ الإناءین هو النجس، هی لا تشهد أکثر من نجاسة أحد الإناءین. هنا ذکر أنّ وجوب الموافقة القطعیة لیس بذاک الوضوح کما هو الحال فی الفرض الأوّل، وجوب الموافقة القطعیة فی الفرض الأوّل، وهو ما إذا کان العلم الإجمالی فی طول البینّة واضح ولا ینبغی الإشکال فیه، لکن فی الفرض الثانی الأمر لیس هکذا. نعم قال أنّه یکون واضحاً ولابدّ من الالتزام به بناءً علی مبانینا فی الحکم الظاهری أیضاً یکون الأمر واضحاً، فتجب الموافقة القطعیة کما تحرم المخالفة القطعیة. (1)

ص: 163


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص171.

وأمّا بناءً علی المبانی الأخری فی تفسیر الحکم الظاهری، قال: قد یُستشکل فی تنجیز مثل هذا العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، ثمّ ذکر أمثلة، قال: مثلاً رأی صاحب الکفایة (قدّس سرّه) الذی یُفسّر الحکم الظاهری، بأنّه عبارة عن التنجیز والتعذیر، یقول: بناءً علی هذا الرأی قد یُستشکل فی وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام؛ وذلک بأن یقال: أنّ دلیل حجّیة البیّنة ینجّز ماذا ؟ الشارع بجعل الحکم الظاهری هو یجعل تنجیز ویدلّ علی هذا التنجیز دلیل حجّیة الإمارة؛ حینئذٍ نسأل : دلیل حجّیة الإمارة ینجّز ماذا ؟ هل ینجّز هذا الطرف بخصوصه، أو ذاک الطرف بخصوصه ؟ أو ینجّز الجامع بینهما ؟ إن قیل أنّه ینجّز هذا الطرف بخصوصه، فهذا ترجیح بلا مرجّح، أو أنّه ینجّز ذاک الطرف بخصوصه، أیضاً هو ترجیح بلا مرجّح، فلا یمکن الالتزام بأنّ دلیل حجّیة الإمارة الذی یُفترض أنّ نسبة کلا الطرفین إلیه نسبة واحدة، أنّه یختص بأحد الطرفین دون الآخر، هذا ترجیح بلا مرجّح لا یمکن أن یُلتزم به.

إن قیل: أنّ دلیل حجّیة الإمارة ینجّز أحدهما المرددّ.

جوابه: أن الفرد المردد لا وجود له أصلاً حتّی یکون دلیل حجّیة الإمارة منجّزاً للفرد المردد.

وإن قیل: أنّه ینجّز الجامع بینهما، أیّ أنّ الإمارة شهدت علی نجاسة أحد الأمرین، التنجیز الذی یُجعل من قِبل الشارع کحکم ظاهری هو عبارة عن تنجیز الجامع بینهما.

والإشکال فیه، هو: أنّ هذا لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة؛ بل یقتضی التخییر وإمکان الاکتفاء بأحد الطرفین؛ لأنّ الجامع یتحقق فی ضمن أحد الطرفین، فإذا تنجّز الجامع، یعنی وجب علیه ترک أحد الإناءین، هذا یکفی فیه ترک واحدٍ منهما، وهذا یعنی التخییر، یعنی بعبارةٍ أخری: عدم وجوب الموافقة القطعیة. فإذا ترک أحد الإناءین یجوز له شرب الآخر، تمسّکاً بقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ ما تنجّز علیه هو الجامع، من قبیل أن یجب علیه الإتیان بإحدی الصلاتین، ولا یجب علیه الجمع بینهما، ما تنجّز علیه فی المقام هو أحد الإناءین، فیجب علیه ترک أحدهما، فإذا ترک أحدهما؛ حینئذٍ لا یجب علیه شیء؛ وحینئذٍ یمکنه أن یشرب الطرف الآخر اعتماداً علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فکیف یمکن إثبات وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام بناءً علی هذا التفسیر للحکم الظاهری؛ لأنّ الحکم الظاهری عبارة عن جعل التنجیز والتعذیر. السؤال هنا هو: أنّ الشارع یجعل التنجیز لمن ؟ وما الذی ینجّزه دلیل حجّیة الإمارة ؟ هل ینجّز أحد الطرفین بخصوصه ؟ ترجیح بلا مرجّح، والمردد لا وجود له، والجامع لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة.

ص: 164

أشکل (قدّس سرّه) علی نفسه: بأنّ هذا الکلام نفسه یأتی فی ما إذا علمنا علماً إجمالیاً ولیس قامت الإمارة، فی مواردالعلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، نفس هذا الکلام ایضاً یقال، علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، أیضاً یمکن أن یستشکل بهذا الإشکال، أنّ هذا العلم ینجّز ماذا؟ هل ینجّز أحد الطرفین بخصوصه ؟ هذا ترجیح بلا مرجّح، وإن قیل أنّه ینجّز الفرد المردد ؟ الفرد المردد لا وجود له، وإن قیل أنّه ینجّز الجامع، فهذا یعنی عدم وجوب الموافقة القطعیة؛ بل یثبت التخییر وجواز ترک أحد الطرفین فی محل الکلام فی المثال الذی نتکلّم عنه، فإذن: ینبغی أن نلتزم فی المورد السابق بعدم وجوب الموافقة القطعیة، والمفروض أننا فرغنا عن وجوب الموافقة القطعیة فی موارد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، فالإشکال نفسه یرد علیه.

أجاب عن هذا الإشکال: بأنّ العلم الإجمالی فی البحث السابق وإن تعلّق بالجامع، لکن حیث أنّ منجّزیة العلم عقلیة ولیست شرعیة، أمکن حینئذٍ أن یقال أنّ العلم بالرغم من تعلّقه بالجامع هو ممّا یحکم العقل بکونه منجّزاً للواقع؛ فحینئذٍ تجب الموافقة القطعیة؛ لأنّه عندما یکون العلم منجّزاً للجامع، العقل هنا یتدخل ویقول بالرغم من تعلّق العلم بالجامع، هو یکون منجّزاً للواقع، وإذا تنجّز الواقع علی المکلّف تجب الموافقة القطعیة بلا إشکال؛ لأنّ الواقع تنجّز علیه، فیجب علیه الإتیان بالواقع، وهو لا یحرز الإتیان بالواقع إلاّ إذا أتی بکلا الطرفین، أی إلاّ إذا احتاط؛ لأنّ التنجیز فی باب العلم عقلی، فیمکن أن یُدّعی أنّ العلم الإجمالی بالرغم من تعلّقه بالجامع، العقل یحکم بکونه منجّزاً للواقع. هذا فی ما تقدّم، فی موارد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین.

ص: 165

وأمّا فی محل الکلام، المنجزیة لیست عقلیة، فی محل کلامنا عندنا إمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین، لا یوجد عندنا علم، وإنّما یوجد عندنا إمارة، ومنجزیة الإمارة لیست عقلیة، العقل لا یقول بمنجزیة الإمارة، وإنّما استفدناها من الدلیل الشرعی؛ فحینئذٍ لا مجال لأن یُدّعی بأنّ العقل یحکم بمنجّزیة الإمارة للواقع؛ لأنّ المنجزیة لیست عقلیة، وإنّما هی شرعیة، والمنجّز الشرعی لا ینجّز أکثر من مؤدّی الإمارة، ومّا تشهد علیه البیّنة، والمفروض أنّ مؤدّی الإمارة ومّا تشهد علیه البیّنة هو الجامع، فالمنجزیة الشرعیة تثبت للجامع ولا مجال لدعوی أنّ العقل یحکم أنّه بالرغم من تعلّق الإمارة بالجامع؛ فحینئذٍ یتنجز الواقع علی المکلّف حتّی تجب الموافقة القطعیة، ففرّق بینهما علی هذا الأساس.

هذا الکلام فیما یرتبط برأی صاحب الکفایة (قدّس سرّه)، والرأی الذی یُفسّر الحکم الظاهری بالتنجیز والتعذیر، یمکن أن یقال فیه أنّ دلیل حجّیة الإمارة ینجّز الجامع، والمشکلة فی هذا أنّه لا ینتج وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ تنجیز الجامع یُکتفی فیه بالإتیان بأحد الطرفین لتحقق الجامع فی ضمن الفرد، فیکفی الإتیان بأحد الطرفین ویجوز ارتکاب الطرف الآخر، لکن یمکن أن یقال بسریان التنجیز من الجامع الذی هو مؤدّی الإمارة، ونحن فارغین عن أنّ الإمارة تنجّز الجامع؛ لقیام الدلیل علی حجّیة الإمارة، ومعنی حجّیة الإمارة أنّها تنجّز مفادها، ومفاد الإمارة بحسب الفرض هو الجامع.

یمکن أن یقال: أنّ هذا التنجیز الثابت للإمارة یسری إلی الواقع استناداً إلی نفس البرهان الذی استُدل به علی السرایة فی موارد العلم الإجمالی فی البحث السابق، نفس البرهان الذی استُدل به علی سرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع، نفس هذا البرهان یمکن الاستدلال به فی محل الکلام، وبهذا یثبت التنجیز للواقع، فتجب الموافقة القطعیة. وذلک البرهان تقدّم سابقاً وذکره المحقق العراقی (قدّس سرّه)، وحاصله: العنوان المعلوم بالإجمال فیما تقدّم __________ کلامنا فی ما تقدّم نرید أن نقول أنّ البرهان الذی یثبت به السرایة هناک بنفسه یجری فی محل الکلام ___________ له واقع محفوظ بنظر القاطع، وإن کان مردداً عنده بین طرفین، لکن بالرغم من هذا له واقع، وذکر أنّ هذا الجامع فی موارد العلم الإجمالی یختلف عن الجامع الذی یتعلّق به التکلیف، متعلّقات التکلیف قد یکون یتعلّق بالجامع، لکن الجامع الذی یتعلّق به التکلیف غیر الجامع فی موارد العلم الإجمالی، وذلک لأنّ الجامع الذی یتعلّق به التکلیف هو عبارة عن الطبیعی قبل الانطباق لا بوصف تعیّنه ووجوده فی الخارج، الطبیعی الذی لم یُفرغ عن تعیّنه وتشخّصه فی الخارج.

ص: 166

وبعبارةٍ أخری: الجامع الذی یتعلّق به التکلیف هو الطبیعی قبل فرض وجوده وتحققه فی الخارج، ویُطلب من المکلّف إیجاده وتحقیقه فی الخارج. إذن: الجامع فی باب التکالیف یختلف عن الجامع فی محل الکلام، الجامع فی محل الکلام عبارة عن الجامع المتحقق فی الخارج المنطبق علی شیءٍ ما، التردد بنظر القاطع والعالم بالإجمال إنّما هو فی ما ینطبق علیه هذا الجامع، هل ینطبق علی هذا الفرد، أو لا ینطبق علی هذا الفرد ؟ وإلاّ أصل الانطباق، اصل الوجود فی الخارج مفروغ عنه بنظر القاطع، وبهذا یختلف الجامع فی موارد العلم الإجمالی عن الجامع الذی یتعلّق به التکلیف بهذا الفرق، وهو أنّ الجامع فی محل الکلام یُنظر إلیه کأنّه مفروغ عن تحققه وعن وجوده فی الخارج. فإذا فرضنا أنّ الجامع فی موارد العلم الإجمالی کان جامعاً یُنظر إلیه علی أنّه أمر متحقق ومنطبق فی الخارج ومتشخّص؛ حینئذٍ یمکن دعوی أنّ هذا الجامع المنظور إلیه بهذه النظرة، الذی فُرغ عن تشخّصه ووجوده فی الخارج یکون هو المنجَّز، هذا الجامع المفروغ عن تحققه فی الخارج یتنجّز علی المکلّف، هذا هو عبارة عن تنجّز الواقع علی المکلّف، فکم فرق بین هذا الجامع وبین الجامع الذی یتعلّق به التکلیف، الجامع الذی یتعلّق به التکلیف یخیّر المکلّف، أنت تختار فی تطبیق هذا الطبیعی الذی أُمر به علی أی فردٍ من أفراده، لا مجال لتوهّم الاحتیاط حینئذٍ؛ لأنّ التکلیف تعلّق بالجامع، والجامع هناک هو الطبیعی لا الطبیعی الذی یُنظر إلیه علی أنّه قد فُرغ عن تحققّه وتشخّصه حتّی یکون المکلّف به هو الطبیعی الذی فُرض تشخّصه فی الخارج، لا لیس هکذا، هو الطبیعی لا بهذا الوصف، لا بهذا العنوان. یعنی یُطلب من المکلّف إیجاد هذا الطبیعی فی الخارج، ومن الواضح أنّ الطبیعی کما یتحقق فی هذا الفرد یتحقق فی هذا الفرد، فیکفی فی الامتثال الإتیان بأحد الأفراد، فیثبت التخییر.

ص: 167

وأمّا فی العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، أو وجوب أحدی الصلاتین، فی هذا المورد، المعلوم بالإجمال بنظر القاطع مفروغ عن تعیّنه وتشخّصه، وإن کان هو یتردد فی أنّه هل هو ثابت فی هذا الطرف، أو هو ثابت فی ذاک الطرف ؟ هذا شیء لا یعلمه، لکنّه فارغ عن تشخّصه وتعیّنه، هذا الجامع بهذا الوصف إذا تنجّز؛ حینئذٍ یکون هذا التنجیز ساریاً إلی الواقع، فیتنجّز الواقع، وإذا تنجّز الواقع تجب الموافقة القطعیة.

أقول: هذا البرهان الذی یجری فی موارد العلم الإجمالی بنفسه یمکن تطبیقه فی محل الکلام، فیقال بأنّ الإمارة تشهد بالجامع بالنحو الثانی ولیس بالجامع کما هو الحال فی الجامع الذی یتعلّق به التکلیف، الإمارة تشهد بالجامع المفروغ عن تشخصه وتعیّنه فی الخارج، غایة الأمر أنّها لا تعلم بأنّ ما ینطبق علیه هل هو هذا الفرد، أو ذاک الفرد، وإلاّ أصل أنّ الجامع مفروغ عن تحققه وتشخّصه هذا أمر موجود حتّی فی باب الإمارة.

بعبارة أخری: أنّ الإمارة تشهد بنجاسة متحققة منطبقة فی الخارج، لکن غایة الأمر أنّ هذه النجاسة التی یعلم بها والموجودة والمتحققة فی الخارج هل هی فی هذا الإناء، أو فی هذا الإناء؟ هذا معناه أنّ ما تشهد به الإمارة هو الجامع بهذا المعنی وهذا یوجب سرایة التنجیز من الجامع الذی تشهد به الإمارة إلی الواقع؛ وحینئذٍ یمکن أن یُستدل بذلک علی وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام.

هناک برهان آخر یذکره المحقق العراقی (قدّس سرّه) أیضاً لإثبات سرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع فی محل الکلام وهو أساساً نحن نقول یکفی فی وجوب الموافقة القطعیة مجرّد تنجیز الجامع حتّی إذا لم نقل بسرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع، نکتفی بتنجیز الجامع، باعتبار أننا بعد أن نفترض تنجیز الجامع بالإمارة، العقل یحکم بلزوم تحصیل الجزم بفراغ الذمة عمّا اشتغلت به، وعن ما تنجّز علیه، العقل یحکم بلزوم تفریغ الذمة من ذلک، ومن الواضح أنّه لا یمکن الجزم بتفریغ الذمّة ممّا اشتغلت به ودخل فی العهدة بواسطة الإمارة إلاّ بالإتیان بکلا الطرفین؛ لأنّ المکلّف لو اقتصر علی أحد الطرفین هو لا یعلم بفراغ ذمته ممّا اشتغلت به وممّا تنجّز علیه؛ لأنّ المفروض أنّنا سلّمنا أنّ ما یتنجّز بالإمارة هو الجامع، لکن الجامع تنجّز علی المکلّف، دخل الجامع فی عهدته، فلابدّ أن یقطع بفراغ ذمّته ممّا اشتغلت ولا یقین بفراغ الذمّة إلاّ بالإتیان بکلا الطرفین، یعنی ترک کلا الطرفین فی المثال. وأمّا إذا ترک أحد الطرفین وارتکب الطرف الآخر لا یقین عنده بفراغ الذمّة ممّا تنجّزت به. هذا وجه آخر یذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) غیر الوجه الأوّل الذی هو عبارة عن سرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع لإثبات وجوب الموافقة القطعیة، فعلی کل حال لا ننتهی إلی نتیجة، أنّه لو قلنا أنّ الحکم الظاهری معناه التنجیز والتعذیر فهذا لا یؤدّی إلی وجوب الموافقة القطعیة.

ص: 168

ثمّ ذکر (قدّس سرّه): أنّ الإشکال أیضاً یرد علی تفسیر الحکم الظاهری بالتفسیر الذی یُقال أنّه کان معروف سابقاً والذی هو عبارة عن جعل الحکم المماثل، الحکم الظاهری هو عبارة عن جعل حکمٍ مماثلٍ لمؤدّی الإمارة، أی أنّ الشارع فی موارد الإمارات یجعل حکماً مماثلاً لمؤدّی الإمارة، فإن کان مؤدّی الإمارة هو الجامع، فالشارع یحکم بالجامع حکماً ظاهریاً، هذا الحکم الظاهری المماثل لمؤدّی الإمارة هو الذی یُسمّی ب_____(مسلک جعل الحکم المماثل). نعم هذا المسلک فی جعل الحکم المماثل یشترط احتمال المطابقة للواقع، احتمال أن یکون هذا الحکم الظاهری المجعول المماثل لمؤدّی الإمارة مطابقاً للواقع، أمّا فی حال عدم احتمال مطابقته للواقع لا یمکن أن نلتزم بجعله.

بناءً علی هذا المسلک: یذکر نفس الإشکال السابق، وهو أنّ هذا الحکم المماثل یُجعل فی ذاک الطرف، أو فی هذا الطرف ؟ هذه النجاسة الظاهریة التی تُجعل من قِبل الشارع، تُجعل فی هذا الطرف، أو تُجعل فی هذا الطرف ؟ وهذا إشکاله واضح، وهو أنّ هذا غیر مماثل للمؤدّی؛ لأنّ المفروض أنّ مؤدّی الإمارة هو الجامع لا هذا الطرف بعینه ولا هذا الطرف بعینه، الفرد بعینه لیس هو مؤدّی الإمارة، والمفروض أنّ هذا المسلک یقول أنّ الشارع یجعل حکماً مماثلاً للمؤدّی، جعل النجاسة فی هذا الطرف بعینه لیس مماثلاً للمؤدّی، فإذن لابدّ من استبعاد جعل الحکم الظاهری فی هذا الطرف بعینه وفی هذا الطرف بعینه. الاحتمال الآخر هو أنّ الحکم الظاهری أنّه یجعل حکماً بالجامع، الحکم الظاهری فی المقام هو الحکم بالجامع، وهذا مماثل للمؤدّی بلا إشکال. ومشکلة هذا الاحتمال هی نفس المشکلة السابقة، وهی أنّ هذا ینجّز الجامع علی المکلّف، ما یجب علی المکلّف هو أن یمتثل هذا الحکم الظاهری، وهذا الحکم الظاهری متعلّق بالجامع، ویکفی فی امتثال الجامع الإتیان ب_أحد فردیه، فلا تجب الموافقة القطعیة؛ بل یتخیّر المکلّف فی تطبیق الجامع علی هذا الفرد، أو تطبیقه علی الفرد الآخر؛ فحینئذٍ لا تجب الموافقة القطعیة، فهذا الإشکال یرِد بناءً علی تفسیر الأحکام الظاهریة بجعل الحکم المماثل لمؤدّی الإمارة.

ص: 169

نفس الملاحظة السابق تأتی علی هذا الإشکال أیضاً، وهی أنّ مؤدّی الإمارة هو الجامع، مسلک جعل الحکم المماثل یقول أنّ الشارع یحکم بالجامع حکماً ظاهریاً مماثلاً لمؤدّی الإمارة، إذا حکم الشارع حکماً ظاهریاً بالجامع، فهذا معناه أنّ الجامع یتنجّز علی المکلّف، یعنی یجب علی المکلّف امتثال ما حکم به الشارع حکماً ظاهریاً، أی امتثال الجامع، فیرِد الکلام السابق بأنّ تنجیز الجامع یسری من الجامع إلی الواقع، بالبیان المتقدّم، بنفس البرهان الذی ذُکر لسرایة التنجیز من الجامع فی موارد العلم الإجمالی إلی الواقع، بنفسه یأتی فی موارد قیام الإمارة حتّی بناءً علی هذا المسلک الذی یقول بجعل الحکم المماثل؛ لأنه بالنتیجة یتنجّز الجامع علی المکلّف، لکن هذا الجامع لیس هو الجامع علی النحو الموجود فی متعلّقات التکالیف، فی متعلّق التکلیف الجامع هو عبارة عن الطبیعة التی لا یُنظر إلیها علی أنّها مفروغ عن تشخّصها وتعیّنها فی الخارج، هو لیس هکذا، وإنّما الإمارة تشهد علی الجامع باعتباره متحققاً فی الخارج، الجامع الذی هو منطبق فی الخارج، وإن کان لا یُعلم علی أیٍّ من الطرفین قد انطبق، هذا یجهله المکلّف، لکن بالنتیجة هذا الجامع الذی یُنظر إلیه علی أنّه مفروغ عن تحققه فی الخارج، هذه النکتة توجب سرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع. الوجه الثانی الذی یذکره أیضاً المحقق العراقی (قدّس سرّه) إذا تمّ، أیضاً یسری فی المقام؛ لأنّه إذا تنجّز الجامع، ولو من دون افتراض السرایة، لا یسری التنجیز من الجامع إلی الواقع، هذا الجامع الذی تنجّز لابدّ من الجزم بالفراغ عن عهدة هذا التکلیف الذی هو التکلیف بالجامع، ومن الواضح أنّه لا جزم إلاّ عن طریق الاحتیاط والموافقة القطعیة، فتجب الموافقة القطعیة هنا أیضاً.

ص: 170

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

فی الدرس السابق ذکرنا أنّه یمکن أن یُلاحظ علی ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) من أنّه بناء علی تفسیر الحکم الظاهری بالتنجیز والتعذیر، أو بناءً علی تفسیره بأنّه جعل الحکم المماثل؛ حینئذ قد یستشکل فی اقتضاء العلم الإجمالی بالحکم الظاهری ___________ یعنی قیام الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین ___________ وجوب الموافقة القطعیة بالبیان الذی ذکره، وکانت علیه ملاحظتان، الملاحظة الأولی تقدمت وهی منقولة عن المحقق العراقی(قدّس سرّه).

الملاحظة الثانیة: أیضاً منقولة عن المحقق العراقی(قدّس سرّه)، لکن یبدو أنّها من دون تطعیمها بالنکتة التی ذکرت فی الملاحظة الأولی، یبدو أنّها غیر تامّة، وحاصل الملاحظة هو: لنقل أنّ الإمارة تنجّز الجامع والتنجیز لا یسری من الجامع إلی الواقع کما هو مقتضی الملاحظة الأولی، باعتبار أنّ الجامع منظور إلیه کأنّه متحقق ومتعیّن فی الخارج، کلا، نفترض أنّ التنجیز یقف علی الجامع ولا یسری إلی الواقع، بالرغم من هذا فی الملاحظة الثانیة قد قیل نلتزم بوجوب الموافقة القطعیة وتنجیز الطرفین علی أساس التمسّک بقاعدة الاشتغال؛ لأنّ الجامع تنجّز ویحکم العقل بلزوم تفریغ الذمّة عمّا اشتغلت به، ولا یقین بفراغ الذمّة إلاّ بالاحتیاط.

أقول: هذا من دون تطعیمه بفکرة أنّ الجامع منظور إلیه کأنّه متعیّن ومتشخّص فی الخارج مفروغ عن تعیّنه وتشخّصه خارجاً، من دون هذه النکتة قاعدة الاشتغال لوحدها لا تستطیع أن تثبت وجوب الاحتیاط، ووجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ قاعدة الاشتغال تقول یجب إفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به، والذمّة اشتغلت بالجامع لا أکثر، ویکفی فی إبراء الذمّة من جهة الجامع الإتیان بأحد الطرفین، لو فرضنا أنّ الجامع فی المقام کالجامع فی باب التکالیف، عندما یتعلّق به التکلیف، والجامع عندما یتعلّق به التکلیف ینجّز الجامع، لکن لا إشکال فی أنّه یکفی الإتیان بأحد الطرفین ولا تجری قاعدة الاشتغال لإثبات لزوم الإتیان بجمیع الافراد، یکفی الإتیان بطرفٍ واحد، فلو کان الجامع فی محل الکلام من هذا القبیل، قاعدة الاشتغال لا یمکنها إثبات لزوم الإتیان بالطرفین، لزوم الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة، إلاّ إذا طعّمنا ذلک بالنکتة الموجودة فی الطرف الآخر، فیکون هناک وجه آخر بعد فرض أنّ الجامع هو من هذا القبیل، الجامع المفروغ عن تحققه وتشخصه فی الخارج؛ حینئذٍ کأنّ هذا ما یتنجّز هو الواقع کما قلنا فی الملاحظة الأولی؛ وحینئذٍ لابدّ من الاحتیاط.

ص: 171

علی کل حال، یبدو أنّه لا ینبغی الإشکال فی المنجّزیة فی المقام ووجوب الموافقة القطعیة، سواء کان الإجمال فی طول الإمارة، کما فی الفرض الأوّل، أو کان الإجمال فی نفس الإمارة کما فی الفرض الثانی، علی کلا التقدیرین الإمارة تنجّز وجوب الموافقة القطعیة.

نعم، هناک بحث اثاره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وهو أنّه علی تقدیر کون الإجمال فی نفس الإمارة بأن تشهد الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید. قلنا فی ما تقدّم بأنّ هذه الإمارة حجّة فی نفسها وتقتضی وجوب الموافقة القطعیة، أی تمنع من إجراء البراءة فی الطرفین، والمقصود بالبراءة التی فرغنا عن عدم جریانها فی الطرفین هی البراءة العقلیة، لا تجری البراءة فی الطرفین، العلم الإجمالی التعبدّی، العلم الإجمالی بالحکم الظاهری یمنع من إجراء البراءة فی هذا الطرف ویمنع من إجرائها فی هذا الطرف، والمقصود بالبراءة البراءة العقلیة.

الکلام یقع فی أنّ هذه الإمارة فی محل الکلام، هل تقدّم علی الأصول الشرعیة الجاریة فی الأطراف؟ کما قدّمناها علی البراءة العقلیة تقدّم علی البراءة الشرعیة، أو لا ؟ إذا قامت البیّنة علی نجاسة إناءٍ معیّن، لا إشکال فی أنّها تقدّم علی الأصل الشرعی الجاری فی ذلک الإناء، باعتبار أنّ الإمارة حاکمة، أو واردة علی الأصل الشرعی الجاری فی ذلک الطرف بعد فرض اتحاد الموضوع، بمعنی أنّ موضوع البیّنة وموضوع الأصل واحد، وهو هذا الإناء المعیّن، قامت الإمارة علی نجاسته؛ حینئذٍ لا مجال لجریان أصالة الطهارة فیه؛ لأنّ الإمارة تکون حاکمة علی الأصل ورافعة لموضوعه، أمّا أنّه بالحکومة، أو بالورود، فهذه مسألة أخری، لکن عندما تقوم الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین کما فی محل الکلام، فهل هذه الإمارة أیضاً تمنع من جریان الأصل الشرعی فی هذا الطرف ؟ والأصل الشرعی فی الطرف الآخر، أو لا ؟ هذا محل الکلام.

ص: 172

الإشکال فی ذلک صاغه المحقق العراقی(قدّس سرّه) بهذا البیان: أنّ موضوع الأصل الشرعی فی کلٍ من الطرفین محفوظ، موضوع الأصل هو الشکّ فی النجاسة، ما دمت تشک فی نجاسة هذا الطرف هو موضوع لأصالة الطهارة، وتشک أیضاً فی ذلک الطرف هو موضوع لأصالة الطهارة، وهذا الشکّ فی النجاسة موجود فی الطرفین بالوجدان؛ إذ لا رافع لهذا الشک، لا بالوجدان هو مرتفع کما هو واضح، ولا هو مرفوع بالتعبد؛ لأنّ الشک إنّما یرتفع بالتعبّد عندما یتعلّق التعبّد بنفس ذاک المورد، فیکون التعبّد حاکماً علی الأصل ورافعاً لموضوعه، کما قلنا عندما تقوم الإمارة علی نجاسة إناء معیّن؛ حینئذٍ تکون رافعة للشکّ فی نجاسته الذی هو موضوع أصالة الطهارة فیه، فیکون الشکّ مرتفعاً فی هذا الطرف بالحکومة، أو بالورود، فإذا ارتفع الشکّ الذی هو موضوع الأصل، فلا یجری الأصل فیه، لکن عندما یکون الموضوع واحداً لهما، للإمارة وللأصل، لکن عندما یتعدد الموضوع کما فی محل الکلام، الإمارة تدلّ علی نجاسة أحد الإناءین، وموضوعها الجامع، بینما موضوع أصالة الطهارة هو هذا الفرد بخصوصه وهذا الفرد بخصوصه، أصالة الطهارة موضوعها هذا الطرف بعینه تجری فیه للشک فی نجاسته، وذاک الطرف بعینه؛ حینئذٍ لا معنی لأن نقول أنّ الشک فی النجاسة فی هذا الطرف یرتفع بالتعبد؛ لأنّه أیّ تعبّد یرفع هذا الشک ؟ لیس لدینا غیر الإمارة، والمفروض أنّ الإمارة لا تدل علی نجاسة هذا بعینه حتّی تکون رافعة للشک فی النجاسة، وتنقّح موضوع أصالة الطهارة وتمنع من جریانها، إنّما الإمارة تدل علی نجاسة أحدهما، أی نجاسة الجامع، والجامع غیر الفرد، ومن هنا یکون موضوع الأصل الشرعی فی کل طرفٍ محفوظاً؛ لأنّ موضوعه الشک فی النجاسة، والشک فی النجاسة غیر مرتفع لا وجداناً، کما هو واضح، ولا بالتعبّد، لهذه النکتة التی ذکرناها، وهی أنّ الحکومة والورود الذی هو معنی الرفع التعبّدی إنّما یُعقل فیما إذا کانا فی موضوعٍ واحد، یتواردان علی موضوعٍ واحد، أمّا إذا کان الموضوع متعددّ لهما، فلا مجال للحکومة ولا للورود، وهذا معناه أنّ موضوع الأصل محفوظ فی هذا الطرف، ومحفوظ أیضاً فی الطرف الآخر؛ وحینئذ الإشکال یقول لا مجال لدعوی أنّ دلیل حجّیة البینة، أو الإمارة یکون مقدّماً علی دلیل الأصل بالحکومة أو الورود، لا وجه لهذا التقدیم، فإذا لم یکن هناک وجه لتقدیم دلیل حجّیة الإمارة ؛ لأنّ حجّیة الإمارة هی حکم ظاهری شرعی، یعنی حالها حال الأصل العملی، کما أنّ الأصل العملی حکم شرعی ظاهری، حجّیة الإمارة أیضاً دلیل شرعی ظاهری، فیکون تعارض بین دلیلین شرعیین من دون أن یکون أحدهما حاکماً، أو وارداً علی الآخر، وهذا معناه وقوع التعارض بین دلیل حجّیة البینة وبین دلیل الأصل فی کلا الطرفین، فیسقط الجمیع؛ وحینئذٍ یرجع بعد ذلک إلی الأصول المؤمّنة الطولیة الموجودة فی المقام، إذا کانت هناک أصول شرعیة طولیة فی طول أصالة الطهارة، وبالتالی لا یثبت عندنا وجوب الموافقة القطعیة؛ لأننا رجعنا إلی الأصول المؤمّنة الطولیة بعد تساقط الجمیع، ومعنی التساقط هو أنّ دلیل حجّیة البینة لا یشمل هذه البینة، ودلیل الأصل العملی لا یشمل کلا الطرفین، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعیة.

ص: 173

هذا الإشکال أورده فی ما إذا کانت الإمارة تدلّ علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، والإشکال یقول: الإمارة حینئذٍ لا تقتضی وجوب الموافقة القطعیة بهذا البیان، باعتبار أنّها معارضة بدلیل الأصل العملی الذی یجری فی کلا الطرفین، وقلنا أنّ الأصل العملی فی الطرفین موضوعه محفوظ، ولا رافع لموضوعه کما ذکر.

وذکر المحقق العراقی(قدّس سرّه) نفسه فی مقام تتمیم الإشکال، بأنّه لا یُقاس ما نحن فیه علی العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین، وقال بأنّ هذا الکلام لا یمکن أن نسرّیه إلی العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین بحیث ینتج عدم وجوب الموافقة القطعیة فی موارد العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین، لا یمکن تسریته إلی ذلک، وهذا الإشکال یختص بقیام الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین، ولا یسری إلی موارد العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین، وذلک باعتبار أنّ العلم الإجمالی حجّیته ذاتیة وکاشفیته ذاتیة، هو یکون کاشفاً تامّاً عن الواقع ذاتاً بلا حاجة إلی تعبّدٍ من قبل الشارع، ویکون حجّة علی ثبوت التکلیف؛ حینئذٍ بحکم العقل یکون هذا مانعاً من ورود الترخیص علی خلافه؛ لأن هذا العلم الوجدانی طریق إلی الواقع بذاته، ویکون حجّة ذاتیة لإثبات التکلیف؛ حینئذٍ العقل یقول یمتنع الترخیص علی خلافه، وهذا معناه استحالة جریان الأصول فی الأطراف؛ لأنّ العلم حجّة علی التکلیف، وحجّة بذاته، وحجّة عقلاً والعقل هنا یحکم باستحالة جعل الترخیص المخالف له. وهذا بخلاف البیّنة التی نتکلّم عنها، من الواضح أنّ حجّیتها لیست ذاتیة، طریقیتها وکشفها عن التکلیف الذی تخبر عنه لیست ذاتیة کما هو واضح، وإنّما هی شرعیة، أی بالتعبّد الشرعی صارت حجّة، وصارت طریقاً لإثبات التکلیف بالتعبّد الشرعی لا أنّها تکون کاشفة ذاتاً، کیف تکون کاشفة ذاتاً والحال أنّه یحتمل فیها الخلاف، ویحتمل عدم المصادفة للواقع ؟! هذا معناه أنّ حجّیتها لیست ذاتیة وهذا واضح، وإنّما تکون حجّیتها بمعونة الجعل الشرعی والتعبّد الشرعی بها، تکون طریقاً کاشفاً مثبتاً للتکلیف علی اساس التعبّد الشرعی والجعل الشرعی؛ وحینئذٍ إذا فرضنا ذلک، یقول: حینئذٍ لا فرق فی الحقیقة بین الإمارة والأصل فی أنّ کلاً منهما مجعول شرعی ظاهری حصل التعارض بینهما من دون أن یکون أحدهما حاکماً علی الآخر کما أثبت سابقاً أنّ الإمارة لیست حاکمة علی الأصل فی الطرفین؛ لأنّ موضوع الأصل فی الطرفین هو غیر موضوع الإمارة، موضوع الإمارة هو الجامع ___________ بحسب الفرض، ونحن نتکلّم فی الفرض الثانی ____________ بینما موضوع الأصل هو هذا الطرف بعینه، وذاک الطرف بعینه، فالحکومة لا وجه لها، والورود لا وجه له، فیکون موضوع الشکّ محفوظاً فی کلٍ من الطرفین؛ وحینئذٍ یجری الأصل فی کلٍ من الطرفین، هذا تعبّد شرعی، والإمارة أیضاً تعبّد شرعی، الإمارة التی تثبت التکلیف والنجاسة فی أحد الطرفین تعبّد شرعی، الأصل الذی یثبت الطهارة فی هذا الطرف باعتبار تحقق موضوعه أیضاً تعبّد شرعی، وقع التعارض بینهما ولا موجب لتقدیم أحدهما علی الآخر، فتتساقط، هذه کلّها تسقط؛ وحینئذٍ نرجع إلی الأصول المؤمّنة، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعیة. یقول: لا یمکن إجراء هذا الکلام فی موارد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین؛ لأن العلم حجّیته ذاتیة وطریقیته ذاتیة، والعقل هنا یحکم بأنّ هذا یمنع من جریان الأصول فی الأطراف لاستحالة الترخیص فی مخالفة التکلیف الذی کشف عنه ما هو حجّة بذاته وحجّة عقلاً، بینما فی المقام لیس هناک أحکام ظاهریة تتعارض فی ما بینها من دون أن یکون واحد منها مقدّماً علی الآخر بحکومةٍ، أو ورود. هذا هو الإشکال الذی أورده المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی الالتزام بوجوب الموافقة القطعیة فی الفرض الثانی.

ص: 174

ثمّ أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) أجاب عن هذا الإشکال، بیان جوابه عنه: فی محل الکلام یوجد عندنا نوعان من الاحتمال،

النوع الأوّل: احتمال طهارة کل طرفٍ من الطرفین مطلقاً، ای احتمال الطهارة المطلقة، احتمال طهارة هذا الإناء حتّی علی تقدیر طهارة الإناء الآخر، وکذا العکس احتمال طهارة الإناء الآخر مطلقاً، أی حتّی علی احتمال طهارة الإناء الأوّل. هنا عندما نرید أن نجری أصالة الطهارة بلحاظ هذا الاحتمال لغرض إثبات الطهارة فی هذا الطرف، والطهارة المطلقة فی الطرف الآخر. هذا الأصل الذی یُراد إجراءه فی الطرفین لإثبات الطهارة المطلقة، هذا بلا إشکال لا یمکن، هذا یکون محکوماً للبینة؛ لأنّ البینة هی صحیح بمدلولها المطابقی قامت علی نجاسة أحد الإناءین، لکن مدلولها الالتزامی الذی هو حجّة أیضاً فی باب الإمارات، مدلولها الالتزامی هی تشهد بنجاسة هذا الطرف علی تقدیر طهارة الطرف الاخر، ونجاسة الطرف الآخر علی تقدیر طهارة الطرف الأوّل، هذا مدلول التزامی للبینة التی تقول بنجاسة أحد الإناءین، فعلی تقدیر أن یکون ذاک الإناء طاهراً لابدّ أن یکون هذا الإناء نجساً، فکیف یمکن أن نثبت طهارة هذا الإناء حتّی علی تقدیر طهارة الإناء الأخر؟! إثبات طهارة هذا الإناء حتّی علی تقدیر طهارة الإناء الآخر، وهکذا العکس، یعنی إثبات طهارة کلٍ من الطرفین حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، لا یمکن الالتزام به؛ لأنّ دلیل حجّیة الإمارة یدل علی أنّه علی تقدیر طهارة أحد الإناءین لابدّ أن یکون الآخر نجساً. إذن، هی تشهد بنجاسة هذا الطرف علی تقدیر طهارة الثانی، وهکذا تشهد بنجاسة الثانی علی تقدیر طهارة الأول، وهذا معناه أنّ إجراء أصالة الطهارة بلحاظ الاحتمال الأوّل الذی ذکرناه، یعنی إثبات الطهارة المطلقة فی کلٍ من الطرفین یکون محکوماً بدلیل حجّیة البیّنة، ویمنع من إجراء الأصل فی الطرفین لإثبات الطهارة المطلقة فیها، فلا مجال لجریان الأصل وهذا ینبغی أن یکون واضحاً، ویقول هذا نظیر قیام الإمارة علی نجاسة إناء معین، فأنّ هذا أیضا یمنع من جریان أصالة الطهارة فی ذاک الطرف؛ لأنّه منافٍ للإمارة، وبعبارة أخری: لأنّ الإمارة تعبّدنا بأنّ هذا نجس، إذا عبّدتنا بأنّ هذا نجس؛ فحینئذٍ لا مجال لجریان البراءة، فیرتفع موضوع قاعدة الطهارة، ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ الإمارة عندما جعل الشارع الحجّیة لها، عبّدنا بمدالیلها المطابقییة والالتزامیة بنجاسة هذا الطرف علی تقدیر أن یکون الآخر طاهراً، وعبّدنا بنجاسة ذاک علی تقدیر أن یکون الأوّل طاهراً، عبّدنا بنجاسته علی تقدیر طهارة ذاک، فکیف نلتزم بأنّ الأصل یجری ؟ لیس لدینا هکذا شک حینئذٍ، الشکّ الذی یجری الأصل بلحاظه یکون مرتفعاً باعتبار الإمارة، فتکون الإمارة حاکمة علی هذا الأصل فی الطرفین، فتکون رافعة للشکّ والاحتمال الذی هو موضوع هذا الأصل فی الطرفین.

ص: 175

النحو الثانی من الاحتمال: هو احتمال الطهارة فی کل واحدٍ منهما بدلاً عن الآخر، ولیس حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، وإنّما احتمل طهارة هذا الإناء بدلاً عن الآخر، وطهارة هذا بدلاً عن هذا، یعنی احتمل طهارة کلٍ منهما علی تقدیر أن لا تکون الطهارة ثابتة فی الطرف الآخر. وهذا الاحتمال لا مشکلة فیه، هذا لیس محکوماً بدلیل حجّیة البینّة؛ لأنّ البیّنة تشهد بالجامع، هی تقول أحد الإناءین نجس، نجاسة أحد الإناءین لا تنفی وجود هذا الاحتمال فی کلٍ من الطرفین، فإذن: لا یکون دلیل حجّیة الإمارة حاکماً علی الأصل فی الطرفین بهذا اللحاظ، إجراء الأصل فی الطرفین لإثبات الطهارة المشروطة والمقیدة بعدم ثبوتها فی الطرف الآخر، إجراء الأصل فی الطهارة علی تقدیر عدم ثبوت الطهارة فی الآخر؛ حینئذٍ هذا لا یکون مانعاً منه، فیمکن أن یجری الأصل فی الطرفین من دون یکون محکوماً لدلیل حجّیة البیّنة، یقول: هذا الاحتمال الثانی هو مورد الإشکال، الإشکال یقول: لماذا نقدم دلیل حجّیة الإمارة علی دلیل الأصل ؟ موضوع الأصل العملی محفوظ فی کلٍ من الطرفین؛ لأنّ موضوع الأصل العملی هو الشکّ فی النجاسة، أو قل بعبارةٍ أخری: احتمال الطهارة، لکن احتمال الطهارة الذی هو موضوع الأصل العملی فی الإشکال لیس هو احتمال الطهارة حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، وإنّما هو احتمال الطهارة علی نحو البدل، هذا هو موضوعه، وهذا هو الذی توجّه علیه الإشکال، فقیل: أنّ موضوع الأصل محفوظ فی کل من الطرفین من دون حکومة؛ فحینئذٍ یکون معارضاً لدلیل حجّیة البیّنة، وبعد التعارض من دون افتراض تقدیم یسقط الجمیع. هذا هو الإشکال.

ص: 176

المحقق العراقی(قدّس سرّه) جاوب عن هذا الإشکال، یقول هنا یستحیل أن یکون دلیل الأصل معارضاً لدلیل الإمارة؛ لأنّه یقول: أنّ هذا الاحتمال الذی هو الاحتمال الثانی إنّما تولّد نتیجةً لقیام البیّنة، هو فی طول قیام البیّنة، یعنی نحن فی البدایة بقطع النظر عن البیّنة کان عندنا الشک من النحو الأوّل، إذا لم تکن هناک بینة نحتمل طهارة هذا علی کل تقدیر، حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، واحتمال طهارة الآخر. هذا الاحتمال الأوّل.

إذن: بقطع النظر عن البینة کان الاحتمال الأوّل هو الموجود، جاءت البینة رفعت هذا الاحتمال وتولد نتیجة لذلک الاحتمال الثانی، وهو احتمال الطهارة علی نحو البدل فی هذا، واحتمال الطهارة علی نحو البدل فی الآخر. إذن، هذا الاحتمال الثانی الذی هو موضوع الأصل العملی هو فی طول قیام البیّنة، فیستحیل أن یکون معارضاً لها. إذا هو فی طولها ومترتّب علیها، ومترتّب علی قیام البینّة وحجیّة البینة، إذن، کیف یکون معارضاً لها ؟! فلا یُعقل أن یعارض دلیل حجّیة البیّنة وبالتالی الذی یجری هو دلیل حجّیة البینة ویقدّم علی دلیل الأصل، وبذلک نثبت المنجّزیة ووجوب الموافقة القطعیة.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی مقام الجواب عن الإشکال الذی طرحه هو، وکان حاصل الجواب هو: أنّ تقدیم الإمارة فی محل الکلام علی مجموع الأصلین الشرعیین فی الطرفین، وإن کان کلٌ منهما داخل فی الأحکام الظاهریة، وثابت بالتعبّد الشرعی، هذا التقدیم سرّه هو أنّ مجموع الأصلین فی الطرفین موضوعهما هو احتمال الطهارة فی هذا الطرف، واحتمال الطهارة فی ذاک الطرف، وهو یقول أنّ هذا الاحتمال الذی هو موضوع الأصلین تولّد من حجّیة البینة، بمعنی أنّ حجّیة البینة وقیام البینة الحجّة المعتبرة علی نجاسة أحد الإناءین أوجبت تبدّل الاحتمال الأول، أو النوع الأوّل من الاحتمال الذی هو احتمال الطهارة فی کلٍ منهما مطلقاً حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، هذا کان موجوداً فی الطرفین بقطع النظر عن البیّنة، لکن عندما تقوم البیّنة المعتبرة التی تشهد بنجاسة أحد الإناءین، یعنی بعبارة أخری تشهد بأنّه لا مجال لاحتمال الطهارة فی کلٍ منهما حتّی علی تقدیر طهارة الآخر. هذا لا مجال له حینئذٍ بعد قیام الإمارة؛ لأننا نعلم بنجاسة احد الإناءین، فإذن: لا یمکن أن نحتمل فی هذا الطرف الطهارة مطلقاً، وفی ذاک الطرف الطهارة مطلقاً. هذا الاحتمال الذی کان موجوداً بقطع النظر عن قیام الإمارة یتبدّل بسبب قیام الإمارة إلی احتمال الطهارة فی هذا الطرف واحتمال الطهارة فی هذا الطرف، احتمال الطهارة فی هذا الطرف لا علی تقدیر طهارة الطرف الآخر، واحتمال الطهارة فی الطرف الآخر لا علی تقدیر الطهارة فی الطرف الأوّل، یتبدّل إلی الاحتمال الثانی. یقول: هذا النوع الثانی من الاحتمال هو موضوع الأصول الجاریة فی الأطراف. أصالة الطهارة تجری فی هذا الطرف لأنّه یحتمل طهارته، لکن لا یُحتمل طهارته حتّی علی تقدیر طهارة الطرف الآخر؛ لأنّ هذا الاحتمال ارتفع بقیام البیّنة، وإنّما احتمال الطهارة فی هذا الطرف یجری الأصل بلحاظه، واحتمال الطهارة فی الطرف الآخر أیضاً یجری الأصل بلحاظه. إذن: موضوع مجموع الأصلین هو وجود الاحتمال من النوع الثانی فی کلٍ منهما. هذا النوع الثانی من الاحتمال فی الطرفین تولّد بعد فرض حجّیة البیّنة، یعنی أنّه فی طول حجّیة البیّنة، وکأنّه لا وجود له لولا حجّیة البیّنة، إذا کان کذلک؛ حینئذٍ لا یمکن لمجموع الأصلین أن یعارض البیّنة؛ لأنّه متفرّع علی وجود البیّنة وحجّیة البیّنة، أساساً وجوده مستمد من حجّیة البیّنة، فکیف یمکن أن یکون معارضاً لها. ومن هنا یقول: إطلاق دلیل حجّیة البیّنة یکون خارج دائرة المعارضة، المعارضة تقع فقط بین الأصل الجاری فی هذا الطرف، والأصل الجاری فی الطرف الآخر، یتعارضان؛ لأنّه لا یمکن إجراءهما معاً، ولا یمکن ترجیح أحدهما علی الآخر؛ لأنّه بلا مرجّح، فیتعارضان، ویتساقطان، ویسلم لنا دلیل حجّیة البیّنة، وهذا هو السرّ فی تقدیم البیّنة علی مجموع الأصلین فی الطرفین. هذا ما یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 177

هذا البیان یحتاج إلی إثبات الطولیة؛ لأنّ نکتة هذا الجواب تعتمد علی فرض الطولیة بین موضوع الأصلین فی الطرفین وبینحجّیة البیّنة، وعلی اساس هذه الطولیة قال أنّه لا یمکن لمجموع الأصلین أن یُعارض دلیل حجّیة البیّنة، فیُعمل بدلیل حجّیة البیّنة ویرتفع الإشکال.

إذن: علیه إثبات هذه الطولیة، أنّ الشکّ من النوع الثانی الذی هو موضوع الأصلین فی الطرفین هو فی طولحجّیة البیّنة، وهذا ممّا لم یبرهن علیه، ولم یذکر شاهداً علیه؛ بل لعلّ الشاهد علی خلافه؛ لأننا بالوجدان ندرک أنّ احتمال الطهارة فی هذا الطرف ____________ الاحتمال الساذج __________ واحتمال الطهارة فی هذا الطرف موجود من البدایة ومن أوّل الأمر، لا یمکن أن نقول لا وجود له قبل وجود البیّنة، وأنّه نشأ وتولّد بعد فرض قیام البیّنة، کلا لیس هکذا. نعم، غایة ما هناک أنّ البیّنة توجب تبدّل الاحتمال من النوع الأوّل إلی العلم بالنجاسة علی تقدیر طهارة الآخر، الاحتمال الأوّل هو احتمال طهارة هذا الإناء علی تقدیر طهارة الآخر، واحتمال طهارة الآخر علی تقدیر طهارة هذا الإناء، هذا یتبدّل بقیام البیّنة إلی العلم بنجاسة هذا الإناء علی تقدیر طهارة الآخر؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون الآخر طاهراً لابدّ أن یکون هذا نجساً، وهکذا العکس. هذا صحیح، لکن هذا لا یعنی أنّ احتمال الطهارة فی هذا الطرف بالفعل، واحتمال الطهارة فی ذاک الطرف بالفعل الذی هو النوع الثانی من الشک والاحتمال، والذی هو موضوع جریان الأصلین فی الطرفین، أنّ هذا لم یکن له وجود قبل قیام البیّنة، کلا، قبل قیام البیّنة، انظر إلی هذا الطرف اشک فی طهارته، وإلی هذا الطرف، اشک فی طهارته بالفعل، وعندنا نوع آخر من الشک، وهو أنّی اشک فی طهارة هذا علی تقدیر طهارة هذا. هذا هو الذی یزول بقیام الإمارة، أمّا الشک فی طهارة هذا الإناء بالفعل، والشکّ فی طهارة ذاک الإناء بالفعل، هذا موجود من بدایة الأمر، ولیس بینه وبین حجّیة البیّنة طولیة، فإذا لم یکن بینه وبین حجّیة البیّنة طولیة، إذن هو فی عرض دلیل حجّیة البیّنة؛ وحینئذٍ یعود الإشکال السابق، وهو أنّ هذه احکام ظاهریة ولا موجب لتقدیم بعضها علی بعض، فلا موجب لتقدیم دلیل حجّیة البیّنة، أو إطلاق دلیل حجّیة البیّنة علی إطلاق دلیل حجّیة الأصل العملی. فیعود الإشکال کما کان. تمام النکتة فی کلامه هی الطولیة، وهی لیست واضحة.

ص: 178

السید الشهید(قدّس سرّه) أجاب عن أصل الإشکال بجوابین، أو أکثر:

الجواب الأوّل: جواب مبنائی، (1) یقول أنّ هذا الإشکال اساساً مبنی علی المبنی المطروح من قِبل مدرسة المحقق النائینی(قدّس سرّه) التی تقول أنّ المجعول فی باب الإمارات هو العلمیة والطریقیة، وأنّ تقدیم الإمارة علی الأصول العملیة إنّما هو بملاک الحکومة والورود؛ حینئذٍ یرد الإشکال السابق بأن یقال: فی المقام لا توجد حکومة ولا ورود حتّی نقدّم الإمارة علی مجموع الأصلین، الإمارة إنّما تقدم علی الأصل بالحکومة والورود، وهذا إنّما یتم فی ما إذا کان موضوعهما واحداً، کما إذا کانت الإمارة تجری فی نفس مورد الأصل العملی، الإمارة قامت علی نجاسة هذا الإناء بعینه وهو مورد للأصل العملی هنا تکون الإمارة مقدّمة علی الأصل العملی وحاکمة علیه؛ لأنّ المجعول فیها هو العلمیة والطریقیة، فتکون الإمارة رافعة لموضوع الأصل العملی الذی هو عبارة عن الشکّ وعدم العلم، یتبدّل الشک وعدم العلم إلی العلم بالتعبّد؛ لأنّ معنی حجّیة الإمارة هو جعل العلمیة والطریقیة، فیکون من قامت عنده الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین عالماً بالنجاسة تعبّداً، وهذا یوجب ارتفاع الشک الذی هو موضوع الأصل العملی ارتفاعاً تعبّدیاً فتثبت الحکومة، أو ارتفاعاً حقیقیاً فیثبت الورود.

علی کل حال لابدّ من فرض وحدة الموضوع، حتّی بناءً علی هذا المبنی القائل بجعل العلمیة والطریقیة؛ حینئذٍ یکون دلیل حجّیة الإمارة حاکماً علی الأصل العملی ورافعاً لموضوعه بالتعبّد، حاکماً علیه، أو وارداً علیه؛ فحینئذٍ یقال ____________ الإشکال یقول ___________ وهذا غیر متحقق فی محل الکلام؛ لتعدد الموضوع فی محل الکلام؛ لأنّ المفروض أنّ الإمارة لم تقم علی نجاسة الفرد المعیّن، وإنّما قامت الإمارة علی نجاسة الجامع، علی نجاسة أحد إناءین. إذن: ما قامت علیه الإمارة غیر ما یجری فیه الأصل، الأصل لا یجری فی الجامع؛ لأننا لا نرید إجراء الأصل فی الجامع، وإنّما نجری أصالة الطهارة فی هذا الطرف بعینه، ونجری أصالة الطهارة فی هذا الطرف بعینه، بینما الإمارة قامت علی ثبوت النجاسة فی الجامع، علی نجاسة أحد الإناءین، ومع تعدد الموضوع لا حکومة ولا ورود؛ لأنّ دلیل حجّیة الإمارة لا یوجب العلم التعبّدی بنجاسة هذا الإناء حتّی یوجب رفع موضوع الأصل العملی، لا یوجب رفع العلم التعبّدی بنجاسة هذا الإناء بعینه حتّی یقال لا یجری فیه الأصل لأنّ موضوعه ارتفع بالتعبّد؛ لأنّ الإمارة حاکمة علیه، لا یمکننا قول هذا، هذا إنّما یصح عندما یکون الموضوع واحداً، هو یجری فی نفس الطرف الذی نرید إجراء الأصل فیه، وفی هذا الطرف لدینا علم تعبّدی، فیرتفع الشک الذی هو موضوع الأصل العملی، فتتحقق الحکومة، وأمّا عندما یتعدد الموضوع کما فی محل الکلام، فلا مجال للحکومة ولا الورود لتعدد الموضوع؛ وحینئذٍ لا معنی لأن یقال أنّه فی هذا الطرف بعینه ارتفع موضوع الأصل العملی، کلا لم یرتفع موضوع الأصل العملی، فموضوع الأصل العملی موجود فی هذا الطرف بالوجدان، وبالوجدان موضوع الأصل العملی موجود فی الطرف الآخر، فإذن: لا توجد فی المقام حکومة، فإذا لم تکن الحکومة موجودة؛ حینئذٍ یرد الإشکال: لماذا تقدّمون الإمارة علی الأصول العملیة الجاریة فی الأطراف ؟ کلّها أحکام ظاهریة ثبت التعبّد بها من قِبل الشارع ولا مرجّح لدلیل حجّیة الإمارة علی دلیل حجّیة الأصل العملی، المرجّح إنّما هو التقدیم بالحکومة، باعتبار أنّ دلیل حجّیة الإمارة یرفع موضوع الأصل العملی، وهذا فی غیر محل الکلام، وأمّا فی محل الکلام فلا یمکن الالتزام بذلک، وعلیه یعود الإشکال کما تقدّم. علی هذا المبنی یتوجّه الإشکال.

ص: 179


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص178.

یقول(قدّس سرّه): وأمّا علی المبنی الآخر الذی یری أنّ تقدیم الإمارة علی الأصل العملی لیس بملاک الحکومة والورود، وإنّما هو بملاک الأظهریة، أو الأخصّیة، بناءً علی هذا المبنی؛ حینئذٍ یرتفع الإشکال؛ لأنّه فی تقدیم الدلیل الأظهر والأخص لا یعتبر وحدة الموضوع، حتّی إذا لم یکن الموضوع واحداً ما دام هناک تعارض وتنافٍ بین الدلیلین، إذا کان أحدهما أخص من الآخر یقدّم الأخص حتّی إذا کانا فی موضوعین، وإذا کان أحدهما أظهر من الآخر یقدّم الأظهر حتّی إذا کانا فی موضوعین، لا یُشترط فی تقدیم الأظهر علی الظاهر، أو الأخص علی العام، لا یشترط وحدة الموضوع، المهم أن یکون بینهما تنافٍ وتعارض، فإذا کان أحدهما أظهر یقدّم الأظهر، وإذا کان أحدهما أخص یقدّم الأخص، ملاک تقدیم الإمارة علی الأصل العملی هو کون الإمارة أظهر، أو کونها أخصّ من دلیل الأصل العملی. بناءً علی هذا المبنی الذی یُذکر فی بحث التعادل والتراجیح حینئذٍ یرتفع الإشکال؛ لأنّه غایة ما یمکن أن یقال فی المقام أنّ الموضوع متعدد، أنّ الإمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین، قامت علی الجامع، بینما الأصل نجریه فی أحد الطرفین بعینه، وهذا غیر ذاک، هذا صحیح، لکن بینهما تعارض، بین إجراء الأصل فی هذا الطرف، وإجراء الأصل فی ذاک الطرف، أی بین مجموع الأصلین ___________ کما سمّیناه __________ وبین دلیل الإمارة یوجد تعارض؛ إذ لا یمکن الالتزام بجریان الجمیع، بحیث تکون الإمارة موجودة والأصول العملیة تجری فی الطرفین؛ لأنّ بینهما تنافٍ، وإذا کان بینهما تنافٍ وفرضنا أنّ دلیل الإمارة أخصّ أو أظهر من دلیل الأصل العملی، فیقدّم علیه بالأظهریة، أو بالأخصّیة؛ وحینئذٍ یرتفع الإشکال؛ لأنّ الإشکال أساساً مبنی علی ذلک الرأی الذی یری أنّ التقدیم إنّما یکون بملاک الحکومة، أو الورود.

ص: 180

بعد أن قدّمنا دلیل حجّیة الإمارة علی مجموع الأصلین؛حینئذٍ لابدّ من سقوط أحد الأصلین عن الاعتبار؛ لأنّه لا یمکن الالتزام بجریان الأصلین فی الطرفین مع الإمارة المعتبرة الحجّة، فإذا قدّمنا دلیل حجّیة الإمارة بالأخصّیة، أو بالأظهریة لابدّ من فرض سقوط أحد الأصلین وحیث لا مرجّح لأحد الأصلین فی أحد الطرفین علی الآخر، فلابدّ من سقوط کلا الأصلین، ویُعمل حینئذٍ بدلیل حجّیة البیّنة.

الجواب الثانی: وهو جواب لیس مبنائیاً؛ بل یقال به حتّی علی تقدیر الالتزام بالمبنی الآخر الذی یری أنّ الملاک هو الحکومة والورود، حاصل هذا الجواب هو: أن یُدّعی أنّ مجموع الأصلین مقیّد عقلاً، أو عقلائیاً بعدم العلم بالحکم؛ لأنّه مع العلم بالحکم لا مجال لجعل الأصل العملی، فیکون مقیّداً بعدم العلم بالحکم. نحن علمنا بالحکم الواقعی بواسطة الإمارة المعتبرة الحجّة بناءً علی مسلک جعل العلمیة والطریقیة، علمنا بالحکم الواقعی بالنجاسة ببرکة الإمارة المعتبرة، هذا العلم التعبّدی بالنجاسة یکون حاکماً علی مجموع الأصلین، ورافعاً لموضوع مجموع الأصلین؛ لأننا افترضنا فی البدایة أنّ مجموع الأصلین مقیّد عقلاً، أو عقلائیاً بعدم العلم بالحکم، الآن أصبحنا ببرکة البیّنة عالمین بالحکم، فیرتفع عدم العلم الذی هو موضوع مجموع الأصلین وقید فیه، فیقدّم دلیل حجّیة الإمارة علی مجموع الأصلین بالحکومة؛ لأنّ دلیل حجّیة البیّنة یرفع موضوع مجموع الأصلین؛ لأننا فرضنا أنّ مجموع الأصلین مقیّد بعدم العلم بالخلاف عقلاً، أو عقلائیاً، والبینّة تورث العلم بالخلاف، وهو مقیّد بعدم العلم بالخلاف؛ فحینئذٍ یرتفع موضوع الأصلین فی الطرفین؛ وحینئذٍ یقدّم دلیل حجّیة البیّنة علی اساس الحکومة، وبعد تقدیم دلیل حجّیة البیّنة علی مجموع الأصلین لابدّ من فرض سقوط أحد الأصلین عن الاعتبار، وحیث لا مرجّح، فلابدّ من سقوط کلا الأصلین، ویُعمل حینئذٍ بدلیل حجّیة البیّنة، ویرتفع الإشکال.

ص: 181

ذکر(قدّس سرّه): ملاحظة علی هذا الجواب، حاصلها: أنّها تبتنی علی أنّ هذا القول الموجود فی هذا الجواب وهو أننا علمنا بالحکم الواقعی ببرکة قیام الإمارة، لابدّ أن یکون المقصود بالعلم بالحکم هو العلم التعبّدی بالحکم الواقعی، وهذا حصل ببرکة الإمارة بناءً علی مسلک جعل الطریقیة والعلمیة، فنصبح عالمین تعبّداً بنجاسة أحدهما. لماذا لابدّ أن یکون هذا هو المقصود بالجواب ؟ لأنّه لابدّ من فرض ذلک حتّی یتوجّه الجواب؛ لأنّه حینئذٍ یقال أنّ المجعول هو العلمیة والطریقیة؛ حینئذٍ یحصل ببرکة هذه الإمارة التی جُعلت لها العلمیة والطریقیة، یحصل علم تعبّدی بالواقع، یعنی یحصل علم تعبّدی بنجاسة أحد الإناءین؛ وحینئذٍ یکون هذا العلم التعبّدی بنجاسة أحد الإناءین حاکماً علی مجموع الأصلین؛ لأننا فرضنا أنّ مجموع الأصلین قُیّد بعدم العلم بالحکم الواقعی، فیرتفع موضوع الأصل فی الطرفین، وبذلک تثبت الحکومة ویتم هذا الجواب السابق. لابدّ أن یکون هذا هو المراد.

أمّا إذا فرضنا أنّ المراد بالعلم فی المقام(اصبحنا عالمین بالحکم ببرکة الإمارة) المقصود به هو العلم الوجدانی بالحکم الظاهری، فهذا لا یتمّ به الجواب؛ لأنّمجموع الأصلین لا ینفی هذا الحکم الظاهری المعلوم فی محل الکلام، وإنّما یکون فی عرضه، ولیس حاله حال ما إذا قامت بینة علی نجاسة إناءٍ بعینه، هنا الأصل الذی یجری فی ذاک الطرف یکون منافیاً للإمارة الدالة علی ثبوت النجاسة فی ذاک الطرف، أمّا فی المقام فالإمارة قامت وهی حجّة، لکنّها توجب العلم الوجدانی بالحکم الظاهری، أنا أعلم بأنّ الشارع جعل الحجّیة لهذه الإمارة، وأنّ معنی الحجّیة هو جعل العلمیة والطریقیة، أعلم بالحکم الظاهری، هذا حکم ظاهری والمجعول فی الأصول أیضاً حکم ظاهری، الذی یوجب الحکومة والتقدیم هو العلم بالواقع تعبّداً، فأنّه هو الذی یوجب رفع موضوع الأصل العملی، أمّا العلم الوجدانی بالحکم الظاهری، فهذا لا یوجب رفع موضوع الأصل العملی، أنا أعلم تعبّداً بنجاسة أحد الإناءین، هذا لا یوجب رفع الشکّ المتحقق فی هذا الطرف، أو الشک المتحقق فی هذا الطرف.

ص: 182

وبعبارة أخری: أنّ هذه الأحکام هی أحکام ظاهریة تجری فی عرضٍ واحد، ولا یترتب علیها ما ذُکر من الحکومة أو الورود. علی کل حال، المقصود فی الجواب هو العلم التعبّدی بالحکم الواقعی، هذا یحصل نتیجة قیام الإمارة؛ وحینئذٍ تُقدّم الإمارة علی الأصل العملی.

بناءً علی أنّ المقصود هو العلم التعبّدی بالحکم الواقعی؛ حینئذٍ ذکر فی مقام الخدشة فی هذا الجواب أنّ الحکومة المُدّعاة فی الجواب الثانی إنّما تتمّ فی ما إذا کان دلیل الأصل مقیّداً بعدم العلم لفظاً، بأن یکون دلیل الأصل مقیّداً بحسب لسان دلیله، فی هذه الحالة تتمّ الحکومة کما هو الحال فی الأصل الذی یجری فی مورد قیام البیّنة؛ فحینئذٍ یقال أنّ البیّنة حاکمة علی دلیل الأصل العملی؛ لأنّ الأصل الذی یجری فی هذا الطرف المعیّن الذی هو مورد الإمارة قُیّد بحسب لسان دلیله بعدم العلم، أدلّة البراءة، أدلّة أصالة الطهارة، وغیرها من الأصول المؤمّنة، کلّها مقیّدة بعدم العلم فی لسان دلیلها(حتّی تعلم أنّه قذر) ؛ حینئذٍ تتمّ الحکومة، فیقال: أنّ دلیل حجّیة البیّنة بناءً علی مسلک جعل العلمیة والطریقیة یکون رافعاً لموضوع دلیل الأصل وحاکماً علیه. وأمّا فی محل الکلام، یُستشکل فی تمامیة الحکومة، وذلک باعتبار أنّه فی محل الکلام لا نجری الأصل _________ أصالة الطهارة __________ فی أحد الطرفین المعیّن حتّی نقول أنّ اصالة الطهارة فی هذا الطرف هو مفاد أدلّة أصالة الطهارة، ودلیل أصالة الطهارة مأخوذ فیه عدم العلم لفظاً، فتثبت الحکومة، فی محل الکلام نحن نجعل المعارض للبینّة هو مجموع الأصلین، مجموع الأصلین لیس مقیّداً بعدم العلم لفظاً وإنّما هو مقیّد به لبّاً وروحاً وواقعاً، باعتبار أنّه مع العلم بالواقع لا مجال لإجراء الأصول، أیّ أصولٍ کانت، لا مجال لإجرائها، فقهراً یکون مجموع الأصلین مقیّداً بعدم العلم بالخلاف لبّاً ولیس لفظاً، إذا وصلنا إلی هذه النتیجة، أنّ محل الکلام غیر ما إذا أردنا إجراء الأصل فی نفس الطرف الذی قامت علیه البیّنة، هناک الأصل یجری فی ذاک الطرف بأدلّة أصالة الطهارة، وهی مقیّدة بحسب لسان دلیلها بعدم العلم بالخلاف، وأمّا فی محل الکلام مجموع الأصلین لیس هکذا. مجموع الأصلین مقید بلا إشکال بعدم العلم بالخلاف، کل أصلٍ هو مقیّد بعدم العلم بالخلاف؛ بل سیأتی أنّه حتّی الإمارة مقیّدة بعدم العلم بالخلاف، لکن هذا القید لم یؤخذ فی لسان الدلیل، وإنّما مقیّد به لباً، إذا وصلنا إلی هذه النتیجة؛ حینئذٍ یقال: أنّ المشهور یفرّق بین ما إذا کان عدم العلم بالخلاف أُخذ قیداً فی لسان الدلیل، وبین ما أُخذ قیداً لبّاً وواقعاً ویلتزم بالحکومة فی الأوّل دون الثانی، وعلی هذا الأساس أجابوا عن الإشکال الذی یتوجّه علیهم بأنّه لماذا تقدّمون الإمارة علی الاستصحاب ؟ مع أنّ کلاً منهم حکم ظاهری جُعلت فیه الطریقیة والعلمیة.

ص: 183

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی أنّه ما هو الوجه فی تقدیم دلیل الإمارة علی دلیل الأصل الجاری فی الطرفین فی محل الکلام مع کون کل منهما مجعولاً ظاهریاً وتعبّداً شرعیاً، فلماذا نقدّم الإمارة علی مجموع الأصلین ؟

کانت هناک أجوبة عن هذا،وانتهی الکلام إلی الجواب الثانی، وکان حاصله إثبات الحکومة، أنّ التقدیم من جهة الحکومة بناءً علی مسلک جعل الطریقیة والعلمیة، وذلک بافتراضأنّ مجموع الأصلین مقیّد بعدم العلم بالحکم بالخلاف، والإمارة الدالّة علی الحکم الواقعی تکون علماً تعبّدیاً بالخلاف، أی بالنجاسة، فیرتفع موضوع الأصل فی الطرفین؛ لأنّه موضوعه مقیّد بعدم العلم بالخلاف، وبواسطة قیام الإمارة یصبح المکلّف عالماً بالخلاف؛ وحینئذٍ یرتفع موضوع الأصل.

وذکرنا أنّ السید الشهید (قدّس سرّه) (1) اعترض علی هذا الجواب وکان الاعتراض یتلخّص فی ما یلی: أنّ حکومة الإمارة علی الأصل إنّما تتم حینما یؤخذ فی لسان دلیل الأصل قید عدم العلم بالخلاف، وأمّا إذا لم یؤخذ فی لسان دلیل الأصل عدم العلم بالخلاف، فالمشهور بنا علی أنّه لا توجد حکومة، وفی محل الکلام لم یؤخذ فی مجموع الأصلین عدم العلم بالخلاف فی لسان الدلیل؛ لأنّ دلیل الأصلین الجاریین فی الطرفین هو عبارة عن دلیل الأصل المتعارف(کل شیء لک طاهر) مثلاً، وأمّا مجموع الأصلین لم یؤخذ فی لسانه قید عدم العلم بالخلاف، دلیل أصالة الطهارة یجری فی الطرف بعینه، الإناء الذی تشک فی نجاسته وطهارته هو لک طاهر حتّی تعلم بقذارته؛ حینئذٍ یکون هذا مأخوذاً فی لسان الدلیل، لکن هذا الدلیل لا یدل علی أنّ مجموع الأصلین منوط ومشروط بعدم العلم بالخلاف. نعم، لا إشکال فی أنّ هذا قید فی مجموع الأصلین المعارض لدلیل الإمارة، لکنّه قید لبّی وواقعی ولیس مأخوذاً فی لسان الدلیل. هذا هو الإشکال. وبناءً علی هذا؛ حینئذٍ کیف تجری الحکومة فی محل الکلام ؟ ثمّ ذکر بأنّ هذا هو الوجه الذی أجاب به القوم عن إشکال تقدیم الإمارة علی الاستصحاب، لماذا تقدّم الإمارة علی الاستصحاب ؟ مع أنّ کلاً منهما المجعول فیه هو العلمیة والطریقیة، وکل منهما أیضاً مقیّد بعدم العلم بالخلاف. الإمارة مقیّدة بعدم العلم بالخلاف، بلا إشکال، وأنّ الإمارة لا تکون حجّة مع العلم بالواقع، الاستصحاب أیضاً مقیّد بعدم العلم بالخلاف، فلماذا تقدّم الإمارة علی الاستصحاب ؟

ص: 184


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص179.

أجابوا عن هذا بأنّ الإمارة وإن کانت مقیّدة بعدم العلم بالخلاف، لکنّ القید فیها لبّی، لم یؤخذ فی لسان دلیلها، لسان دلیل الإمارة خبر الثقة حجّة، لم یؤخذ فی لسان دلیلها قید عدم العلم بالخلاف، بینما الاستصحاب أخذ فی لسان دلیله عدم الیقین وعدم العلم بالخلاف والشکّ، ومن هنا تکون الإمارة حاکمة علی الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب أُخذ فی لسان دلیله عدم العلم بالخلاف، ولا یکون الاستصحاب حاکماً علی الإمارة؛ لأنّ الإمارة لم یؤخذ فی لسان دلیلها عدم العلم بالخلاف، وإن کانت مقیّدة به واقعاً. نفس هذا الکلام یقال فی المقام، عندنا إمارة وفی مقابلها أصل، هذا الأصل إن جری فی أحد الطرفین کما لو فرضنا أنّ الإمارة أخبرت بنجاسة أحدهما المعیّن، لا مشکلة، هنا یقال بأنّ هذا الأصل أُخذ فی لسان دلیله عدم العلم بالخلاف، بینما الإمارة لم یؤخذ فی لسان دلیلها عدم العلم بالخلاف، فتقدّم الإمارة علی الأصل، لکن الکلام لیس فی الأصل الجاری فی أحد الطرفین، وإنّما الکلام فی مجموع الأصلین، ومجموع الأصلین مقیّد بعدم العلم بالخلاف بلا إشکال، لکنّ القید فیه قید لبّی وواقعی لا فی لسان دلیل؛ لأنّه لیس لدینا دلیل یقول أنّ مجموع الأصلین مقیّد بعدم العلم بالخلاف، وإن کان هو کذلک واقعاً ولبّاً، ومن هنا یشکل تقدیم الإمارة علی مجموع الأصلین. وبعبارةٍ أخری: من هنا یشکل تحقق الحکومة فی المقام؛ لأنّ کلاً من المتعارضین لم یؤخذ فی لسان دلیله عدم العلم بالخلاف، لا الإمارة أخذ فی لسان دلیلها عدم العلم بالخلاف، ولا مجموع الأصلین أخذ فیه عدم العلم بالخلاف. نعم، مجموع الأصلین أخذ فیه عدم العلم بالخلاف لبّاً وواقعاً کما هو الحال فی الإمارة، فلا وجه لحکومة الإمارة علی مجموع الأصلین. هذا إشکال السید الشهید (قدّس سرّه) علی الجواب الثانی.

ص: 185

هذا الإشکال مبنی علی أنّ هناک فرقاً،ولو بنظر العرف، بین أخذعدم العلم بالخلاف فی لسان الدلیل وبین أخذه لبّاً وواقعاً بحیث أنّ العرف یری أنّ الحکومة تصدق فی الأوّل ولا تصدق فی الثانی. والالتزام بهذا صعب، فالعرف لا یُفرّق بینهما؛ لأنّه بعد فرض أنّ المجعول هو العلمیة والطریقیة، وبعد فرض أنّ المکلّف عندما قامت عنده الإمارة یصبح عالماً بالواقع تعبّداً، العرف یری أنّ هذا العلم التعبّدی بالواقع یکون رافعاً لمجموع الأصلین، وإن کان مجموع الأصلین لم یؤخذ فی دلیله عدم العلم بالخلاف، لکن بالنتیجة واقعاً هو مقیّد بعدم العلم بالخلاف، العرف عندما تطرح علیه القضیة یقول أنّ من قامت عنده القضیة أصبح عالماً بالنجاسة تعبّداً، ویعتبر هذا حاکماً علی مجموع الأصلین، ورافعاً لموضوعه؛ لأنّ موضوعه الشک وعدم العلم، وإن لم یؤخذ فی لسان دلیله، العرف یری أنّ العلم التعبّدی بالنجاسة نتیجة قیام الإمارة یکون حاکماً علی مجموع الأصلین ویکون رافعاً لموضوعه، لا یبقی لدی المکلّف شکّ فی ثبوت الطهارة فی کلٍ منهما، وإنّما یصبح عالماً بأنّ أحدهما نجس. إذن، لاشک فی المجموع، وإنّما هو یعلم بأنّ أحدهما نجس، فیرتفع الشکّ فی مجموع الأصلین باعتبار الإمارة القائمة علی نجاسة أحد الإناءین والتی هی علم تعبّدی بنجاسة أحد الإناءین. هذا بنظر العرف یمنع من جریان الأصل فی کلا الطرفین ویکون حاکماً علی ذلک ورافعاً لموضوعه، بنظر العرف هکذا، قد یکون صناعةً یصح ما ذکره، لکن بالنظر العرفی الظاهر أنّه لیس کذلک.

الجواب الثالث: أن یقال أنّه فی المقام یوجد عندنا علم إجمالی ولیس فقط إمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین حتّی یرد الإشکال السابق، حیث الإشکال کان أننا فی المقام لیس لدینا علم، وإنّما إمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین، فلماذا نقدّم الإمارة علی مجموع الأصلین مع أنّ کلاً منهما من الأحکام الظاهریة، وکل منهما تعبّد شرعی. فی الجواب الثالث ندّعی أنّ هنا یوجد علم وجدانی بثبوت النجاسة فی أحد الطرفین الأعم من النجاسة الواقعیة والنجاسة الظاهریة؛ لأنّه إن کانت الإمارة مصیبة للواقع، فالنجاسة واقعیة، وإن کانت النجاسة غیر مصیبة للواقع، فالنجاسة ظاهریة بدلیل الحجّیة. وقد تقدّم سابقاً أنّ الإمارة الدالّة علی نجاسة أحد الإناءین لها مدلول التزامی، مدلولها الالتزامی أنّها تحکم بنجاسة هذا الطرف علی تقدیر طهارة الطرف الآخر، وتحکم بنجاسة الطرف الآخر علی تقدیر طهارة الطرف الأوّل، هذا یوجب علماً إجمالیاً بأنّ هناک نجاسة متحققة فی أحد الإناءین قطعاً، غایة الأمر أنا لا أدری أنّ هذه النجاسة المتحققة هل هی نجاسة واقعیة، أو هی نجاسة ظاهریة ؟ إذن، أنا أعلم إجمالاً بنجاسة متحققة فی أحد الإناءین أعم من أن تکون نجاسة ظاهریة، أو واقعیة، وهذا بلا إشکال یکون مقدّماً علی مجموع الأصلین، ویکون بالضبط حاله مع الأصلین الجاریین فی الطرفین مع العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما، ولا مشکلة فی هذا، عندما نعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما، لا إشکال فی أنّ العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما یمنع من جریان الأصلین فی الطرفین، فی ما نحن فیه سوف یکون حاله من هذا القبیل، بمعنی أنّ نسبة الأصلین إلی هذا العلم الإجمالی بالنجاسة الأعم من الظاهریة والواقعیة کنسبة الأصلین فی أصل البحث بالنسبة إلی العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما کما أنّ العلم الإجمالی هناک یمنع من جریان الأصلین فی الطرفین ویقدّم علیهما، کذلک الحال فی محل الکلام بعد أن انتزعنا واستفدنا من قیام الإمارة علی نجاسة أحد الطرفین حصول علم إجمالی بنجاسة موجودة فی البین ومتحققة قطعاً. نعم، هی أعمّ من أن تکون نجاسة ظاهریة أو تکون نجاسة واقعیة، وتقدیم هذا علی مجموع الأصلین وعلی الأصلین فی الطرفین واضح جدّاً کما هو الحال فی البحث السابق. هذا الجواب الثالث عن أصل الإشکال، وبهذا یتمّ الکلام عن هذا التنبیه.

ص: 186

التنبیه الآخر الذی یقع فیه الکلام: هو العلم الإجمالی فی التدریجیات.

الکلام یقع فی ما إذا کان أحد طرفی العلم الإجمالی تکلیفاً فعلیاً، لکنّ الطرف الآخر کان تکلیفاً استقبالیاً، تکلیفاً منوطاً بزمانٍ متأخرٍ.

بعبارةٍ أخری: إذا کانت المشتبهات ____________ حسب تعبیر الشیخ الأنصاری (قدّس سرّه) ___________ تدریجیة، هذا طرف لعلم إجمالی مشتبه الآن یتحقق، الطرف الثانی یتحقق فی المستقبل، فهناک تدریجیة فی أطراف العلم الإجمالی، أو فی المشتبهات، یمثّل لذلک بالمرأة المضطربة العادة التی تنسی وقت العادّة وإن کانت تحفظ العدد، هی تعلم أنّ عادتها ثلاثة ایام فی الشهر، لکنّها لا تعلم هل أنّها فی أول الشهر، أو فی وسطه، أو فی آخره ؟ أو المرأة التی یستمر معها الدم طیلة الشهر، فهی تعلم إجمالاً بأنّ هناک ثلاثة ایام واقعة فی هذا الشهر هی أیام حیضها، لکنّها لا تعلم أیّ الثلاثة هی أیام الحیض، هل هی الثلاثة الأولی، أو الثلاثة الثانیة، أو الثالثة.......وهکذا ؟ مثال آخر یُذکر فی المقام هو التاجر الذی یعلم أنّه سوف یبتلی فی یومه، أو فی شهره بمعاملة ربویة، لکنّه لا یعلم أنّ هذه المعاملة التی سوف یبتلی بها فی شهره هل هی المعاملة التی یجریها فی الیوم الأوّل، أو فی الیوم الثانی، أو الثالث.........وهکذا ؟ هذا علم إجمالی بمعاملة ربویة متحققة فی الشهر فی ضمن المعاملات التی یجریها فی الشهر، لکن الأطراف تدریجیة، المشتبهات تدریجیة، الأمر یدور بین تکلیفٍ فعلی، إذا کانت المعاملة الربویة هی هذه المعاملة التی یجریها الیوم، وبین تکلیفٍ منوطٍ بزمانٍ متأخّر، علی تقدیر أن تکون المعاملة الربویة هی المتحققة فی المعاملة التی یجریها فی وقتٍ لاحقٍ، الکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالیهذا هل ینجّز کلا الطرفین، فیحرم علی المرأة ________ مثلاً _________ دخول المساجد طیلة الشهر ؟ أو یحرم علی التاجر الإقدام علی المعاملة طیلة الشهر؛ لأنّه یعلم إجمالاً بوجود معاملة ربویة فی ضمن المعاملات الطولیة التی یجریها خلال الشهر ؟ أو أنّ هذا العلم الإجمالی لا اعتبار به ولا یکون منجّزاً.

ص: 187

فی مقام تنقیح محل الکلام السید الخوئی (قدّس سرّه) ذکر شیئاً لا بأس بعرضه، وحاصل ما ذکره: أنّ تدریجیة الأطراف والمشتبهات یمکن تصوّرها علی أنحاء تدریجیة: (1)

النحو الأوّل: أن نفترض أنّ التدریجیة هی تدریجیة اختیاریة للمکلّف بأن یکون المکلّف متمکنّاً من الجمع بین الأطراف، ولکنّه أرتأی أن یأتی بأحد الأطراف الآن، ثمّ یأتی بالطرف الآخر فی الیوم الآخر، ویمثّل له بما إذا علم بغصبیة أحد الثوبین، هو الآن متمکن من لبس کلٍ منهما، لیس هناک تدریجیة قهریة علیه، یمکنه لبس هذا الثوب کما یمکنه لبس الثوب الآخر، لکن هو أرتأی أن یلبس هذا الثوب الیوم وأن یلبس الثوب الآخر فی الیوم الآخر، هنا حصلت تدریجیة بین الأطراف، لکنّها تدریجیة اختیاریة، هنا قال لا إشکال فی خروج هذا النحو عن محل الکلام؛ لوضوح أنّ العلم الإجمالی هنا یکون منجّزاً باعتبار أنّ المکلف عالم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، هو یعلم بأنّه مکلّف بالاجتناب عن أحد الثوبین فعلاً، سواء کانت الغصبیة موجودة فی هذا الثوب، أو موجودة فی هذا الثوب، مع فرض تمکّن المکلّف من الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة، فیتنجّز علیه العلم الإجمالی بلا إشکال، وهذا خارج عن محل الکلام؛ لأننا لا نتکلّم فی ما إذا کانت التدریجیة اختیاریة للمکلّف.

النحو الثانی: أن تکون التدریجیة مستندة إلی عدم تمکّن المکلّف منها، یعنی عدم التمکّن من الجمع بین الأطراف، فقهراً تکون الأطراف تدریجیة، لکنّ المکلّف یتمکّن من ارتکاب کل واحد منهما بالفعل، التدریجیة قهریة ولیست اختیاریة له، لکن یُفترض أنّه متمکّن من ارتکاب هذا الطرف بالفعل، ومتمکّن من ارتکاب الطرف الآخر بالفعل، من قبیل ما إذا علم إجمالاً بوجوب أحدی الصلاتین، إمّا صلاة الجمعة، أو صلاة الظهر، هو لا یمکنه أن یجمع فی آنٍ واحد بینهما، فی مثال الثیاب الغصبیة کان یمکنه أن یجمع بینهما فی آنٍ واحد، فیلبس الثوبین، أمّا فی صلاة الظهر وصلاة الجمعة لا یمکنه أن یصلی الظهر والجمعة فی زمان واحد، هو فی زمانٍ واحد إمّا أن یصلی الظهر، أو یصلی الجمعة، هنا لا یمکنه الجمع بینهما، فالتدریجیة مفروضة علیه، لکنّه یتمکّن من أن یأتی بصلاة الظهر کما یتمکّن أن یأتی بصلاة الجمعة. فی هذه الحالة أیضاً ذکر أنّ هذا خارج عن محل الکلام، أیضاً لوضوح أنّ العلم الإجمالی فی هذه الحالة یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، هو یعلم فعلاً أنّه مکلّف تکلیفاً فعلیاً علی کل تقدیر، یعنی سواء کان الواجب علیه صلاة الجمعة، فهو مکلّف بها، أو کان الواجب علیه صلاة الظهر فهو مکلّف بها، فیکون حاله حال نجاسة أحد الإناءین، أو خمریة أحد المائعین......وهکذا، التکلیف فعلی علی کل تقدیر، سواء کان فی هذا الطرف هو مکلّف، أو کان فی هذا الطرف فهو مکلّف، وهذا هو الملاک فی منجّزیة العلم الإجمالی، وهذا متحقق فی المقام؛ لأنّه یعلم أنّه مکلّف فعلاً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، سواء کان الواجب الواقعی هو صلاة الظهر هو مکلّف بها، أو کان الواجب الواقعی هو صلاة الجمعة هو أیضاً مکلّف بها، والمفروض أنّه قادر علی الإتیان بکل واحدٍ منهما، غیر قادر علی الجمع بینهما فی زمان واحد، إلاّ أنه قادر علی الإتیان بهذا، وقادر علی الإتیان بهذا، فیتنجّز علیه العلم الإجمالی بلا إشکال، وهذا أیضاً خارج عن محل الکلام.

ص: 188


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد سرور الواعظ البهسودی، ج2، ص269.

النحو الثالث: أن تکون التدریجیة مستندة إلی عدم تمکّن المکلّف، أی أنّ التدریجیة مفروضة علی المکلّف، فهو لا یتمکّن من الجمع بین الطرفین فی زمانٍ واحد بسبب تقیّد أحد الطرفین بزمانٍ متأخّر، أو بقیدٍ زمانی متأخّر، یعنی قید زمانی یحصل فی الزمان، لکنّه متأخّر، فهنا لا یتمکّن المکلّف من الجمع بینهما فی زمانٍ واحد، التدریجیة مفروضة علی المکلّف، لکن هنا یفترض عدم قدرة المکلّف علی ارتکاب کل واحدٍ منهما کما فرضناه فی النحو الثانی حیث کان یمکنه أن یصلی الجمعة کما یمکنه أن یصلی الظهر، أمّا فی النحو الثالث فنفترض أنّه غیر قادر علی کلٍ من الطرفین، وإنّما قدرته فقط تتعلّق بأحد الطرفین بعینه، أمّا الطرف الآخر فهو غیر قادر علیه بالفعل، وهذا هو العلم الإجمالی فی التدریجیات، المکلّف غیر قادرٍ إلاّ علی أحد الطرفین بعینه، وأمّا الطرف الآخر، فهو غیر قادرٍ علیه؛ لأنّ الطرف الآخر یکون منوطاً ومقیّداً بزمانٍ متأخّرٍ، أو بقیّدٍ متأخّر الحصول.

إذن: المأخوذ فی محل الکلام أن تکون هناک تدریجیة فی الأطراف، وأنّ هذه التدریجیة لیست اختیاریة، وأن یکون المکلّف غیر قادرٍ علی اختیار کلٍ من الطرفین، أمّا کونه غیر قادرٍ علی الجمع، فهذا فرضناه فی نفس افتراض التدریجیة، لکن هو غیر قادرٍ علی هذا الطرف مع قدرته علی الطرف الآخر کما هو الحال فی صلاتین، وإنّما هو قادر علی طرفٍ واحدٍ کما هو الحال فی الأمثلة السابقة، التاجر غیر قادرٍ إلاّ علی إجراء معاملةٍ فی هذا الیوم؛ لأنّ المعاملة الثانیة منوطة بزمانٍ متأخّرٍ ولا تتحقق إلاّ فی زمانٍ متأخّر. إذن، هو الیوم قادر علی طرفٍ واحدٍ، وغیر قادر علی الطرف الآخر، وإنّما هذه تدریجیة وهو لا یکون قادراً إلاّ علی أحد الطرفین دون الطرف الآخر، وقال: أنّ هذا هو محل الکلام، وهذا هو الذی یجری فیه الکلام.

ص: 189

ثمّ ذکر بأنّ هذا النحو الثالث ینقسم إلی قسمین، وأنّه تارةً نفترض أنّ التکلیف یکون فعلیاً علی کل تقدیرٍ وأخری لا یکون کذلک؛ بل یکون فعلیاً علی تقدیر ولا یکون فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ.

أمّا الأوّل: وهو أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، ذکر بأنّه لا ینبغی الإشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی فیه، مادام التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ، وإن کان أحد الطرفین منوطاً بزمانٍ متأخّرٍ، وإن کان هناک تدریجیة فی أطراف العلم الإجمالی بحسب تحققها فی عمود الزمان، لکن ما دام التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، سواء کانت المعاملة الربویة فی هذا الیوم، أو کانت بعد خمسة أیام، لکن التکلیف بحرمة تلک المعاملة یکون فعلیاً. إذن، هو یعلم بتکلیفٍ فعلیٍ سواء کانت المعاملة الربویة فی هذا الیوم، أو کانت بعد خمسة أیام، لکن التکلیف فعلی، إذا کان التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، فهذا لا ینبغی الإشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی فیه، وکأنّه یرید أن یقول أنّ هذا أیضاً خارج عن محل الکلام، والسرّ فیه هو أننا نفترض العلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وحیث أنّ الملاک فی التکلیف هو أن یکون المکلّف عالماً بتکلیفٍ فعلیٍ متوجّه إلیه، سواء کانت النجاسة فی هذا الطرف، أو کانت النجاسة فی الطرف الآخر، وفرضنا هذا العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، فلابدّ من الالتزام بالتنجیز، ومثّل لذلک بمسألة النذر، إذا نذر المکلّف أن یقرأ سورة معینة، لکنّه لا یعلم هل أنّه نذر فی هذا الیوم أن یقرأ سورة معینة، أو نذر أن یقرأ سورة معینة فی الیوم الآتی، قطعاً هو نذر أن یقرأ سورة معینة، لکنّه لا یعلم أنّه نذرها فی هذا الیوم، أو فی الیوم الآتی، هذا علم إجمالی بالتدریجیة، فی هذه الحالة بناءً علی إمکان الواجب المعلّق؛ حینئذٍ لا مشکلة فی الفصل بین التکلیف وبین المکلّف به، بأن یکون الزمان المکلّف به استقبالیاً، لکن التکلیف به فعلیاً، فیکون واجباً معلّقاً ____________ بناءً علی إمکان الواجب المعلّق ___________ حینئذٍ هنا یکون مثالاً لهذا القسم الأوّل، وهو أنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر، سواء هو نذر أن یقرا سورة فی هذا الیوم، فیجب علیه قراءتها، أو نذر أن یقرأ السورة فی الیوم الآتی أیضاً یجب علیه قراءتها، التکلیف فعلی والقید والزمان إنّما هو قید للواجب المکلّف به ولیس للتکلیف، فالتکلیف فعلی، هو فعلاً مکلّف بأن یقرأ السورة أمّا الیوم، أو غداً، یقول: فی هذه الحالة لا ینبغی الإشکال فی تنجیز العلم الإجمالی، فینجّز العلم الإجمالی کلا الطرفین علیه، فیجب علیه الاحتیاط بأن یقرأ السورة فی هذا الیوم ویقرأها فی الیوم الآتی؛ لأنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیرٍ.

ص: 190

وأمّا الثانی: یعنی علم إجمالی بالتدریجیات لکن التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما هو فعلی علی تقدیر، ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ، علی تقدیر أن یکون التکلیف فی هذا الطرف المتحقق الآن، فهو تکلیف فعلی، وأمّا علی تقدیر أن یکون متحققاً فی الطرف الموجود فی المستقبل فهو لیس فعلیاً الآن، وإنّما سیکون فعلیاً فی وقته وزمانه، فإذن، التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما هو فعلی علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، یقول: هذا هو محل الکلام، وهو الذی وقع فیه النزاع والخلاف، أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز الطرفین، أو لا ینجّزهما ؟ أو نقول بالتفصیل کما سیأتی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

الکلام فی العلم الإجمالی فی التدریجیات: أی فی تنجیزالعلم الإجمالی للأطراف إذا کانت الأطراف تدریجیة الوجود. نقلنا کلاماً للسیّد الخوئی(قدّس سرّه) فی الدرس السابق، حیث أنّه ذکر أقساماً وذکر أنّ هذه الأقسام خارجة عن محل الکلام، وانتهی إلی نتیجة أنّ القسم الداخل فی محل الکلام هو ما إذا کانت التدریجیة مستندة إلی عدم تمکّن المکلّف من الجمع بین الأطراف بسبب تقیّد أحد الأطراف بزمانٍ متأخّرٍ، أو بزمانی متأخّر کالزوال، قبل الزوال یکون الوجوب متأخّراً بزمانٍ، یکون أحد الأطراف متأخّراً بزمانیٍ متأخّرٍ وهو ___________ فرضاً ___________ شیء آخر لا یقع الآن، وإنّما یقع بعد ذلک، مع فرض کون المکلّف غیر قادرٍ علی الإتیان بکل واحدٍ منهما الآن، الآن هو غیر قادر علی الإتیان بهذا وغیر قادرٍ علی الإتیان بالآخر؛ بل هو قادر علی الإتیان بأحدهما فقط، وبهذا یختلف عن مثال العلم الإجمالی بوجوب إحدی الصلاتین، الجمعة، أو الظهر، هو قادر علی الإتیان بالظهر وقادر علی الإتیان بصلاة الجمعة، بینما فی محل الکلام نفترض أنّه غیر قادر علی الإتیان بأحد الطرفین؛ لأنّ أحد الطرفین مشروط بزمانٍ متأخّرٍ، فهو قادر علی طرفٍ بعینه. وهذا هو محل الکلام الذی یقع فی أنّ العلم الإجمالی هل ینجّز کلا الطرفین بما فیه الطرف المتأخّر وجوداً المنوط بزمانٍ متأخّرٍ، أو لا ؟

ص: 191

ثمّ ذکر السیّد الخوئی(قدّس سرّه) أنّ هذا القسم الثالث (1) الذی هو محل الکلام تارةً یکون الحکم المعلوم بالإجمال فیه فعلیاً علی کل تقدیرٍ بأن یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال هو هذا الطرف، وأیضاً یکون فعلیاً علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال هو الطرف الآخر، فالتکلیف یکون فعلیاً علی کل تقدیرٍ، وأخری لا یکون کذلک، وإنّما یکون فعلیاً علی تقدیرٍ، ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، فقسّمه إلی نحوین. ثمّ ذکر أنّه فی هذا النحو الأوّل من القسم الثالث وهو أن نفترض أن التکلیف فعلی علی کل تقدیرٍ، هنا ّذکر أنّه لا ینبغی الإشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی، باعتبار أنّ المفروض هنا أنّ المکلّف یعلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وهذا هو الملاک فی تنجیز العلم الإجمالی لأطرافه، أن یکون المکلّف عالماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، فی مثال الإناءین سواء کانت النجاسة فی هذا الإناء، فالتکلیف فعلی، أو کانت فی الإناء الآخر، فالتکلیف فعلی، إذا فرضنا فی محل الکلام بالرغم من أنّ الأطراف تدریجیة الوجود، یعنی أحد الأطراف منوطٌ بزمانٍ متأخّرٍ ___________ مثلاً __________ الإتیان به غیر ممکنٍ الآن، فی هذا الفرض بالرغم من ذلک هو فرض أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، سواء کان المعلوم بالإجمال متحققاً فی هذا الطرف الذی یمکن الإتیان به فعلاً، فالتکلیف فعلی، أو کان المعلوم بالإجمال متحققاً فی ذاک الطرف الذی یقع فی المستقبل أیضاً یکون التکلیف به فعلیاً، یقول: علی هذا التقدیر لا ینبغی الإِشکال فی المنجّزیة؛ لأنّ الملاک والمناط فی تنجیز العلم الإجمالی هو أن یکون علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کلا التقدیرین، وهذا حاصل بالفرض فی هذا النحو الأوّل؛ ولذا لا ینبغی الإشکال فی تنجیز العلم الإجمالی لکلا الطرفین، ویمثّل لذلک بما إذا نذر أن یقرأ سورة معیّنة، وتردد المنذور بین أن یکون قراءة سورة معیّنة فی هذا الیوم، أو قراءة سورة معیّنة فی یوم غدٍ، هذه أطراف تدریجیة الوجود، فی هذه الحالة یقول هناک تکلیف فعلی علی کل تقدیر، سواء کان المنذور هو أن یقرأ سورة فی هذا الیوم، فالتکلیف بوجوب قراءتها فعلی، أو کان المنذور هو قراءة السورة فی یوم غدٍ، أیضاً التکلیف بوجوب قراءتها فعلی، هو فعلاً مکلّفٌ بأن یقرأ السورة فی یوم غدٍ، فالتکلیف یکون فعلیاً.

ص: 192


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص376.

مسألة أنّ التکلیف فعلی الآن بالرغم من أنّ المکلّف به الواجب استقبالی هذه مبنیة علی النزاع المعروف فی الواجب المعلّق، فإذا قلنا بإمکان الواجب المعلّق؛ حینئذٍ یکون هذا الفرض مقبولاً ومعقولاً، وهو أن نفترض أنّ التکلیف فعلیٌ علی کل تقدیر، المنذور قراءة سورة الآن تکلیفٌ فعلیٌ، والمنذور قراءة سورة یوم غدٍ أیضاً التکلیف فعلی، یقول: علی هذا التقدیر لا ینبغی الإشکال فی تنجیز العلم الإجمالی. هذا النحو الأوّل من القسم الثالث.

وأمّا النحو الثانی من القسم الثالث: هو الذی جعله محل الإشکال والخلاف، وهو أن یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیر، ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ من قبیل المرأة التی ضاع علیها وقت حیضها، هی تعلم أنّها تحیض ثلاثة أیام فی الشهر، لکنّها لا تعلم هل هی الثلاثة الأولی، أو الثلاثة فی منتصف الشهر ___________ مثلاً ____________ أو الثلاثة فی آخر الشهر، أو أنّها عشرة أیام، لکن هل هی العشرة الأولی، أو العشرة الثانیة، أو العشرة الثالثة. هنا یقول: علی تقدیر أن یکون حیضها فی العشرة الثالثة، هی فعلاً التکلیف لیس فعلیاً فی حقها، إذن: التکلیف فعلی، التکلیف بحرمة دخول المساجد وحرمة قراءة سور العزائم، وحرمة المقاربة وأمثالها، علی تقدیر أن تکون أیام حیضها العشرة الأولی، فالتکلیف فعلی فی حقّها، أما علی تقدر أن تکون أیام حیضها هی العشرة الأخیرة، الآن فی أوّل الشهر لا یکون التکلیف فعلیاً. إذن: التکلیف فعلی علی تقدیرٍ، ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، یقول: هذا هو محل الکلام.

الذی یبدو أنّ النحو الأوّل من القسم الثالث مرجعه فی الحقیقة إلی أنّ الزمان المتأخّر لیس قیداً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً؛ ولذا یصیر التکلیف فعلیاً حتّی فی الطرف التدریجی الوجود، التکلیف به یکون فعلیاً؛ لأنّ الزمان المتأخّر لیس قیداً، أو دخیلاً فی التکلیف، لا فی الخطاب، ولا فی الملاک، الخطاب لیس مقیّداً بالزمان المتأخّر، فیکون فعلیاً، والملاک أیضاً لیس مقیداً بالزمان المتأخّر، فیکون فعلیاً؛ ولذا صار التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر: أمّا علی التقدیر الأوّل، فواضح، بأن یکون المعلوم بالإجمال فی الطرف الآخر الذی زمانه متأخّر، لا مشکلة حتّی إذا کان زمانه متأخّراً، لکنّ هذا الزمان المتأخّر قید فی الواجب ولیس قیداً ولا دخیلاً فی التکلیف، وإنّما یکون قیداً فی الواجب، یکون قیداً فی متعلّق التکلیف ولیس قیداً فی نفس التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، ومن هنا یصیر التکلیف فعلیاً بالرغم من أنّ المکلّف به استقبالی. النحو الأوّل الذی ذکره أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر مرجعه إلی افتراض أنّ الزمان المتأخّر لیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، وإنّما یکون دخیلاً فی متعلّق التکلیف. وسواء کانت دخالته فی متعلّق التکلیف علی نحو الظرفیة، أو علی نحو القیدیة، هذا لا یؤثّر، فبالنتیجة هو لیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً. ومن هنا یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر من زمان حصول العلم الإجمالی کما فی مثال النذر الذی ذکره، وکما فی مثال الربا الذی ذکره، لکن هذا کلّه بناءً علی إمکان الواجب المعلّق یکون هذا مثالاً لذلک، فی باب الربا یعلم التاجر بأنّ هناک معاملةً ربویة سیبتلی بها خلال یومه، لکنّه لا یعلم هل أنّه سیبتلی بها صباحاً، أو ظهراً، أو مساءً ؟ علی کل تقدیر؛ لأنّ الزمان المتأخّر لیس قیداً للتکلیف، وإنّما هو قید لمتعلّق التکلیف، فالتکلیف یکون فعلیاً علی کل تقدیر منذ الصباح، فیکون منجّزاً کما ذکره.

ص: 193

فی هذا النحو الأوّل من القسم الثالث الکل ذهب إلی المنجّزیة؛ بل جعلوه خارجاً عن محل الکلام کما یظهر من عبارة السیّد الخوئی(قدّس سرّه)، علی فرض أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، یکون خارجاً عن محل الکلام؛ لأنّه لا إشکال أنّ العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین، ففی مثال النذر یجب علیه أن یقرأ السورة الخاصّة فی هذا الیوم وفی الیوم الآتی، وفی مثال الربا یجب علیه أن یترک المعاملات فی تمام یومه......وهکذا، لا إشکال فی أنّ العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین، والأصول تکون متعارضة فی کلا الطرفین، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی.

نعم، فی النحو الثانی خالف بعض المحققین فی ذلک وذهب إلی عدم المنجّزیة بالرغم من افتراض أنّ التکلیف فعلیٌعلی کل تقدیر، فبالرغم من ذلک هو ذهب إلی عدم المنجّزیة، وقال أنّ العلم الإجمالی فی المقام لا ینجّز الطرفین، فإذا کان قد ذهب إلی عدم المنجّزیة فی هذه الصورة، فمن باب أولی أن یذهب إلی عدم المنجّزیة فی النحو الثانی الذی یکون التکلیف فیه لیس فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیر ولیس فعلیا علی تقدیرٍ آخر، من باب أولی أن یذهب إلی عدم منجّزیة العلم الإجمالی؛ لأنّه فی صورة کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر هو یری عدم المنجّزیة, واستدلّ هذا المحقق علی عدم المنجّزیة فی ما إذا فُرض أنّ التکلیف فعلیٌ علی کل تقدیر، أو بعبارةٍ أخری: فی ما إذا کان الزمان المتأخّر لیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، وإنّما هو دخیل فی متعلّق التکلیف فی الفعل الواجب، استدل علی ذلک بأنّ التکلیف اللاحق لا یقبل أن یتنجّز بواسطة العلم التفصیلی الفعلی، ویمثّل لذلک أولاً بالعلم التفصیلی، ثمّ یقول: یثبت هذا فی العلم الإجمالی من بابٍ أولی. إذا فرضنا أنّه علم تفصیلاً فی هذا الیوم بأنّه یجب علیه فی یوم غدٍ أن یقرأ سورة من القرآن، أو علم تفصیلاً فی شهر شعبان بأنّه سیجب علیه أن یصوم فی شهر رمضان الآتی، یقول: إذا علم بذلک، هذا العلم التفصیلی فی هذا الیوم لا یکون منجّزاً للتکلیف فی غدٍ ولا یکون موجباً لترتّب العقاب علیه؛ بل التنجیز إنّما یکون للعلم عندما یکون العلم مقارناً للتکلیف، عندما یکون العلم متقدّماً علی التکلیف فهذا العلم ولو کان تفصیلیاً، هو لا ینجّز ذلک التکلیف، وإنّما ینجّز التکلیف العلم به فی ظرفه، أی العلم المقارن له ینجّزه، أمّا العلم المتقدّم علیه فلا ینجّزه.

ص: 194

ما یرید أن یقوله هو: أننا نعلم إجمالاً الآن بوجوب قراءة سورة إمّا الآن، أو غداً، ویقول: أنّ العلم بالتکلیف فعلاً لا ینجّز التکلیف فی یوم غدٍ، لا ینجّزه من الآن. هو یرید أن ینفذ إلی هذه النکتة لإثبات عدم المنجّزیة، وهی أنّ العلم الإجمالی لیس علماً بتکلیفٍ قابل للتنجیز علی کل تقدیر، وإنّما هو قابل للتنجیز علی تقدیرٍ ولیس قابلاً للتنجیز علی تقدیرٍ آخر، علی تقدیر أن یکون ما نذره هو قراءة سورة فی یوم غدٍ، العلم حتّی لو کان تفصیلیاً لا ینجّز التکلیف فی ظرفه، العلم الآن لا ینجّز التکلیف فی ظرفه، وإنّما الذی ینجّز التکلیف فی ظرفه هو العلم المقارن له، العلم بالتکلیف ینجّز التکلیف یوم غد، أمّا العلم بالتکلیف الآن فلا ینجّز التکلیف فی ظرفه. إذن: الآن هو لا یعلم بتکلیفٍ قابلٍ للتنجیز علی کل تقدیر، وإنّما هو یعلم بتکلیفٍ قابلٍ للتنجیز علی تقدیر أن یکون المنذور __________ مثلاً __________ هو قراءة سورة الآن فی هذا الیوم، وأمّا علی تقدیر أن یکون المنذور هو قراءة سورة یوم غدٍ، فهذا التکلیف لیس قابلاً للتنجیز؛ لأنّ العلم، وإن کان تفصیلیاً إنّما ینجّز التکلیف فی ظرفه لا قبل ذلک، قبل ذلک العلم التفصیلی المتقدّم لا ینجّز التکلیف المتأخّر، وإنّما الذی ینجّزه هو العلم فی ظرفه، إذن: یکون العلم الإجمالی فی المقام غیر قابلٍ لتنجیز التکلیف علی کل تقدیر، والمعتبر فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون العلم الإجمالی قابلاً للتنجیز علی کل تقدیرٍ، وهذا العلم فی المقام لیس قابلاً للتنجیز علی کل تقدیرٍ، ولا یستطیع أن ینجّز علی المکلّف قراءة سورة فی یوم غد، وإنّما الذی ینجزه هو وجود هذا العلم فی یوم غد لا أنّه یتنجّز من الآن، الآن لا یستطیع الإنسان أن یحکم بمنجّزیة هذا العلم الإجمالی؛ لأنّه لیس علماً إجمالیاً بتکلیفٍ قابلٍ للتنجیز علی کل تقدیر، واستدلّ علی عدم المنجّزیة بأنّ هذا العلم التفصیلی تبدّل إلی شکٍّ، هذا الفعل فی یوم غدٍ لا یجب علی المکلّف الإتیان به؛ لأنّ العلم تبدّل إلی شکّ، فلا شیء ینجّز التکلیف فی یوم غدٍ؛ لأنّ المنجّز هو العلم، فإذا فرضنا أنّ العلم تبدّل إلی شکٍّ، فلا تتنجّز علی المکلّف قراءة سورة فی یوم غد، ولا تکون مخالفتها موجبة لاستحقاق العقاب الذی هو معنی التنجیز، ولا تکون المخالفة قبیحة؛ لأنّه لا علم بحسب الفرض، مع أنّه لو کان العلم الإجمالی الآن ینجّز التکلیف فی یوم غد فلابد من الالتزام بالتنجیز حتّی لو تبدّل العلم إلی شکٍّ؛ لأنّ العلم نجّز ذلک التکلیف، والشیء إذا وقع لا ینقلب عمّا وقع علیه، العلم الآن نجّز التکلیف علی المکلّف فی یوم غد، وأدخل الفعل علی عهدة المکلّف، وحکم العقل بقبح ترکه ومخالفته، واستحقاق العقاب علی مخالفته، فحتّی لو زال هذا العلم وتبدّل إلی شکٍّ، بناءً علی هذا الکلام؛ حینئذٍ ینبغی أن یکون التنجیز باقیاً، بینما لا إشکال فی عدم بقاءه إذا تحوّل العلم إلی شکٍّ، وهذا یکشف عن ما قلناه من أنّ المنجّز للتکلیف فی یوم غدٍ هو العلم المقارن، عندما یکون العلم مقارناً فی یوم غدٍ یکون منجّزاً للتکلیف فیه، أمّا العلم المتقدّم، فلا ینجّز التکلیف فی ظرفه، فإذن، فی الوقت المتقدّم حین حصول العلم الإجمالی لا نستطیع أن نقول أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین؛ لأنّه لیس صالحاً للتنجیز علی کل تقدیر، وصالح للتنجیز علی تقدیرٍ ولیس صالحاً للتنجیز علی تقدیرٍ آخرٍ.

ص: 195

الذی نقوله هو: نحن فی المقام نتکلّم عن افتراض أنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر، والسیّد الخوئی(قدّس سرّه) عندما قسّم القسم الثالث إلی نحوین، النحو الأوّل هو ما إذا کان التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، وقلنا أنّ هذا مبنی علی إمکان الواجب المعلّق، فی فرض کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ حتّی إذا کان المنذور هو قراءة سورة خاصّة فی یوم غدٍ، التکلیف به فعلی، باعتبار أنّ الزمان لیس دخیلاً فی التکلیف، لا خطاباً ولا ملاکاً؛ حینئذٍ هل هناک مجال لأن نقول أنّ هذا العلم الإجمالی لا ینجّز الطرفین ؟ وأی فرقٍ بینه وبین ما إذا کان الطرفین عرضیین لا طولیین ؟ ملاک العلم الإجمالی هو أن یکون العلم علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، وهذا علم بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، فإذا کان هذا هو الملاک، فینبغی أن یکون منجّزاً؛ لأننا افترضنا فعلیة التکلیف علی کل تقدیرٍ، وإذا کان التکلیف فعلیاً یکون منجّزاً علی کل تقدیر، نحن لا نفترض أنّ التکلیف علی أحد التقدیرین یوم غدٍ حتّی نتکلّم عن أن العلم الإجمالی، أو العلم التفصیلی الآن هل ینجّز التکلیف یوم غدٍ، أو لا ینجّزه فی یوم غدٍ، وإنّما افترضنا أنّ التکلیف فعلیٌ ولیس التکلیف علی أحد التقدیرین استقبالیاً، الاستقبالی هو المکلّف به. إذن: التکلیف فعلیٌ علی کل تقدیرٍ، وإذا کان فعلیاً علی کل تقدیرٍ؛ حینئذٍ یکون قابلاً للتنجیز علی کل تقدیرٍ. هذا هو محل کلامنا، فی هذه الصورة هل یمکن أن نلتزم بعدم المنجّزیة ؟ قلنا أنّ ظاهرهم الاتفاق علی المنجّزیة فی هذه الصورة؛ بل خروجها عن محل النزاع، فإذا کان المقصود من الکلام السابق هو إثبات عدم المنجّزیة فی هذه الصورة التی نتکلّم عنها کما هو ظاهر الکلام، فهذا لیس صحیحاً؛ لأننا فرضنا فعلیة التکلیف علی کل تقدیرٍ، وفرضنا إمکان الواجب المعلّق، ولم نفترض أنّ التکلیف یکون فی المستقبل، فیدور الأمر بین تکلیفٍ فعلیٍ وتکلیفٍ لیس فعلیاً، هذا النحو الثانی الذی سیأتی فیه الکلام.

ص: 196

إذن: الظاهر هو المنجّزیة فی هذا النحو الأوّل من القسم الثالث، وإنّما یقع الکلام فی النحو الثانی الذی هو أن یکون التکلیف المعلوم بالإجمال فعلیاً علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ کما إذا قلنا باستحالة الواجب المعلّق، فإذا قلنا باستحالة الواجب المعلّق، فالتکلیف حینئذٍ لا یکون فعلیاً، الزمان کما یکون قیداً فی المتعلّق یکون قیداً فی التکلیف، فالتکلیف لا یکون فعلیاً؛ لأنّ الزمان لا یتمحّض فی کونه قیداً فی المتعلّق ودخیلاً فیه، وإنّما هو دخیلٌ فی شیءٍ أزید من المتعلّق، هو دخیلٌ فی التکلیف؛ ولذا لا یکون التکلیف فعلیاً علی أحد التقدیرین، وإن کان فعلیاً علی التقدیر الآخر. هذا هو محل الکلام وهو محل الخلاف فی ما بینهم کما سیأتی، ومثاله هو مثال الحیض، حیث ذکروا بأنّ التکلیف هنا لیس فعلیاً الآن؛ لأنّ الزمان دخیلٌ فی التکلیف، وبهذا یختلف مثال الحیض عن مثال النذر، فی مثال النذر یمکن للإنسان أن یقول أنّ التکلیف خطاباً وملاکاً یتحقق بالنذر. الزمان المتأخّر هو قیدٌ للمنذور، بمجرّد أن ینذر الإنسان وجب علیه، الوجوب یتحقق کما أنّ ملاک الوجوب أیضاً یتحقق بالنذر، فیصبح المنذور ذا مصلحةٍ ملزمةٍ من حین النذر، وهذه المصلحة الملزمة تقتضی وجوب الوفاء، فیکون وجوب الوفاء فعلیاً، ویکون الملاک أیضاً فعلیاً؛ لأنّ هذا کلّه مرتبطٌ بالنذر، والمفروض أنّ النذر تحقق الآن، فحتّی لو فرضنا أنّ المنذور متأخّر زماناً، یمکن فرض أنّ الزمان قیدٌ فی المتعلّق ولیس قیداً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، لکن فی مثال الحیض یختلف الأمر، التکلیف فی باب الحیض منوطٌ بالحیض وقد فرضنا تأخّر زمان الحیض، علی أحد التقدیرین تأخّر زمان الحیض، هی إمّا حائض الآن أو حائض بعد عشرة أیام، علی تقدیر أنّها حائض بعد عشرة أیام، التکلیف بحرمة دخول المساجد وحرمة قراءة سور العزائم لیس فعلیاً؛ لأنّ التکلیف خطاباً وملاکاً، ظاهر الأدلّة أنّه منوط بالحیض، والمفروض أنّها لیست حائضاً فعلاً. نعم، هی علی أحد التقدیرین حائض فعلاً، فیکون التکلیف فعلیاً، لکن علی التقدیر الآخر هی لیست حائضاً فعلاً، فلا یکون التکلیف فعلیاً، وإنّما سیتحقق فی المستقبل، ومن هنا هذا النحو الثانی هو أن یکون التکلیف علی أحد التقدیرین فعلیاً، بینما علی التقدیر الآخر لیس فعلیاً.

ص: 197

هذا النحو الثانی من القسم الثالث یمکن تصوّره علی نحوین:

النحو الأوّل: أن یکون الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً.

النحو الثانی: أن یکون الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً لا ملاکاً، بحیث یکون الملاک فعلیاً قبل الوقت، لکن التکلیف لا یکون فعلیاً، فهاتان صورتان من النحو الثانی من القسم الثالث.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

الصورة التی استثناها السید الخوئی(قدّس سرّه) عن محل الکلام کانت هی ما إذا کان التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، وهو الذی فُسّر بأنّ معناه أنّ زمان المتأخّر لیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، فیکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر حتّی لو کان الواجب ومتعلّق التکلیف استقبالیاً، التکلیف بحسب الفرض أنّ المکلّف به استقبالی علی أحد التقدیرین، لکن بالرغم من ذلک التکلیف یکون فعلیاً کالتکلیف بالآخر، کما أنّ التکلیف الآخر فعلی، التکلیف بهذا الواجب الاستقبالی أیضاً یکون فعلیاً، فإذن: فُرض فی ذلک کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، وهذا یکون بناءً علی إمکان الواجب المعلّق، فی هذه الصورة نقلنا عن بعض المحققین أنّه یستشکل ویری أنّ العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً خلافاً للکل ___________ تقریباً ___________ الذین یرون التنجیز فی هذه الصورة، علم فعلی علی کل تقدیر، فیکون قابلاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، فینجّز العلم الإجمالی کلا الطرفین. هذا المحقق خالف فی هذه الصورة، فضلاً عن الصوّر الآتیة التی سیقع فیها الکلام، وهی ما إذا کان التکلیف علی أحد التقدیرین لیس فعلیاً، وإنّما هو علی تقدیرٍ فعلی وعلی تقدیرٍ آخر لیس فعلیاً، فضلاً عن تلک الصورة هو فی هذه الصورة التی فُرض فیها کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر وناقش فی المنجّزیة، والمناقشة هی: أنّ العلم بالتکلیف لا یصلح لتنجیز التکلیف إلاّ إذا کان متحققاً فی ظرف العمل نفسه، إذا کان متحققاً فی ظرف الامتثال والطاعة، أمّا أنّ العلم بالتکلیف ینجّز التکلیف قبل ظرف العمل، فهذا غیر صحیح، العلم التفصیلی بالتکلیف، فضلاً عن العلم الإجمالی، لا ینجّز التکلیف إلاّ فی ظرف الامتثال والطاعة وظرف العمل، أمّا قبل ذلک، العلم التفصیلی بالتکلیف لا ینجّز التکلیف، واستدل علی ذلک بأنّه: إذا فرضنا أنّ المکلّف علم تفصیلاً بالتکلیف، وکان زمان المکلّف به استقبالیاً، أی زمان العمل بالتکلیف کان فی المستقبل الذی هو معنی أنّ الواجب استقبالی، فی هذه الحالة إذا زال العلم بالتکلیف وتبدّل إلی شکٍ قبل حلول ظرف العمل بالتکلیف، هل یبقی التنجیز، أو لا یبقی ؟ یقول: لا إشکال فی أنّ التکلیف لا یکون منجّزاً حینئذٍ؛ لعدم وجود علم فی ظرف العمل، الذی ینجّز التکلیف هو العلم به فی ظرف العمل، وحیث أنّه فی هذا المثال زال العلم بظرف العمل، وتحول العلم إلی شکّ، فإذن، لا یتنجّز، إذن، إنّما یتنجّز بالعلم به فی ظرف العمل، أمّا مجرّد العلم به سابقاً، فهذا لا ینجّز التکلیف؛ لأنّ العلم إنّما ینجّز التکلیف فی ظرف العمل، وبالتالی لا تثبت المنجّزیة للعلم الإجمالی فی محل الکلام؛ لأنّه لیس علماً بتکلیفٍ فعلیٍ قابلاً للتنجیز علی کل تقدیر؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی علی أحد التقدیرین قابل للتنجیز، والتکلیف قابل لأن یکون منجّزاً علی أحد التقدیرین، وهو ما إذا نذر أن یقرأ سورة خاصّة فی هذا الیوم، هذا قابل للتنجیز، هذا علم فی ظرف العمل، فینجّز التکلیف، لکن علی تقدیر أن یکون المنذور هو قراءة سورة فی یوم غدٍ، الآن هذا التکلیف لا یکون منجّزاً والعلم به لا ینجّزه، إذن: هو یعلم بتکلیفٍ قابلٍ للتنجیز علی تقدیر ولیس قابلاً للتنجیز علی تقدیرٍ آخر، یعنی یعلم بجامع التکلیف الأعم من المنجّز وغیر المنجّز، ومن المعلوم أنّ الجامع الأعمّ من المنجّز وغیر المنجّز لا یکون منجّزاً؛ ولذا لا تثبت المنجّزیة لهذا العلم الإجمالی. هذا ما ذکره.

ص: 198

أقول: الظاهر أنّ مرجع هذا الکلام إلی إنکار الواجب المعلّق، لا یبعُد هذا، بأن یقال أنّ الواجب المعلّق محال؛ لأنّه لا یمکن أن یکونالتکلیف فعلیاً قابلاً للتنجیز فعلاً مع کون زمان الواجب استقبالیاً؛ لأنّ العلم لا ینجّز هذا التکلیف ما دام الواجب ومتعلّق التکلیف استقبالیاً، فإذا فرضنا أنّه یرجع إلی إنکار الواجب المعلّق واستحالته، فهذا الکلام لا معنی له فی المقام؛ لأننا فرضنا فی هذه السورة إمکان الواجب المعلّق، حیث افترضنا أنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیرٍ بالرغم من أنّ المکلّف به علی أحد التقدیرین استقبالی، إذن، یمکن افتراض فعلیة التکلیف مع کون الواجب استقبالیاً، هذ هو فرض المسألة، فالمناقشة فی أن الواجب المعلّق محال ولیس ممکناً، تکون حینئذٍ مناقشة مبنائیة، ومناقشة فی تصوّر اصل الفرض، أنّ أصل الفرض غیر ممکن، وهذه لیست مناقشة منهجیة؛ لأننا کما قلنا نتکلّم بناءً علی إمکان الواجب المعلّق، نتکلّم بناءً علی فعلیة التکلیف علی کل تقدیر، وبناءً علی أنّ زمان المتأخّر لیس قیداً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، کلامنا فی هذا، فالجواب بأنّ هذا محال لیس جواباً منهجیاً. هذا إذا کان هذا هو مقصوده.

أمّا إذا کان مقصوده لیس له علاقة بالواجب المعلّق، وأنّ العلم ولو کان تفصیلاً لا ینجّزالتکلیف الذی یتعلّق به إلاّ فی ظرف العمل، المنجّز للتکلیف هو العلم به فی ظرف العمل، أمّا العلم به قبل ظرف العمل، فلا ینجّز التکلیف ولا یُدخله فی العهدة، هذه الدعوی أیضاً غیر مقبولة؛ بل الصحیح هو أنّ العلم حتّی لو کان إجمالیاً ینجّز التکلیف الذی یتعلّق به حال حصول العلم لا أن نقول أنّ العلم حال حصوله لا ینجّز التکلیف، وإنّما ینجّزه فی ظرف العمل، کلا، ما ندّعیه هو أنّه ینجّز التکلیف حال حصوله، والسرّ فی ذلک هو أنّ المنجّزیة حکم عقلی، ومعناها هو إدراک العقل لقبح المخالفة واستحقاق العقاب علی المخالفة.

ص: 199

وبعبارةٍ أکثر دقّة: هی إدراک عقلی لقبح مخالفة التکلیف، العقل لیس منشئاً للحکم، هذا الإدراک العقلی، أو قل ولو من باب المسامحة، هذا الحکم العقلی بقبح المخالفة واستحقاق العقاب علی المخالفة له موضوع، وموضوعه هو التکلیف الداخل فی دائرة مولویة المولی، التکلیف الذی یری العقل أنّ للمولی فیه حق الطاعة، العقل یری أنّ کل تکلیفٍ دخل فی دائرة حق المولی ثبت للمولی فیه حق الطاعة یکون منجّزاً، ومن الواضح أنّ أحد أهم الأمور التی تُدخل التکلیف فی دائرة حق الطاعة، وفی دائرة المولویة هو العلم بالتکلیف، إذا علم بالتکلیف العقل یقول أنّ هذا التکلیف تقبح مخالفته ویستحق المکلّف العقاب علی مخالفته، حکم العقل بالقبح الذی هو معنی المنجّزیة، وحکم العقل باستحقاق العقاب علی المخالفة الذی هو معنی المنجّزیة، هذا حکم فعلی، حکم یتحقق عندما یتحقق موضوعه، وموضوعه هو التکلیف الداخل فی دائرة حق الطاعة. أو بعبارة أکثر وضوحاً: موضوعه هو التکلیف المعلوم؛ لأنّ العقل یری أنّ العلم ینجّز التکلیف ویدخله فی دائرة حق الطاعة، والعقل یری أنّ کل تکلیفٍ للمولی حق الطاعة فیه تقبح مخالفته، والمخالف یستحق العقاب، هذا هو الحکم العقلی ومعنی المنجّزیة، هذا لماذا لا نقول أنّه یتحقق فی ظرف العلم بالتکلیف ؟ هو یتحقق بتحقق موضوعه، وموضوعه هو التکلیف المعلوم، والمفروض أنّ المکلّف علم بالتکلیف خصوصاً فی المثال الذی هو یتکلّم به وهو العلم التفصیلی بالتکلیف الفعلی، کلامنا فی الصورة التی افترضوا أنّها خارجة عن محل النزاع؛ إذ لا إشکال فی المنجّزیة فیها بأن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر بالرغم من أنّ الواجب استقبالی علی هذا التقدیر، کلامنا فی هذا إذا علم تفصیلاً بالتکلیف، فدخل التکلیف فی دائرة المولویة للمولی(سبحانه وتعالی) العقل فوراً یحکم بقبح مخالفته، واستحقاق العقاب علی مخالفته، غایة الأمر أنّ زمان المخالفة متأخّر، تأخّر زمان المخالفة لا یعنی أنّ الحکم بالقبح أیضاً متأخّر، الحکم بالقبح فعلی، والعقل یری أنّ کل من یعلم بالتکلیف یقبح علیه مخالفته، یری أنّ هذا التکلیف یحکم العقل علیه بقبح المخالفة، فعلاً یحکم علیه بهذا القبح، وإن کانت المخالفة فی التکلیف الذی یکون الواجب فیه استقبالیاً لا تقع فعلاً، وإنّما تقع فی ظرف العمل، هذا صحیح، لکن هذا لا یعنی أنّ الحکم العقلی أیضاً متأخّر ولیس موجوداً فعلاً، الحکم العقلی بالقبح موجود فعلاً، العقل فعلاً یحکم بقبح مخالفة التکلیف المعلوم، فالحکم فعلی ولیس منوطاً بحلول ظرف العمل بالتکلیف، وإنّما یکون فعلیاً وبناءً علی هذا؛ حینئذٍ یصح ما ذهب إلیه الکل من منجّزیة العلم الإجمالی فی محل الکلام؛ لأنّه علم بتکلیفٍ فعلی قابلٍ للتنجیز علی کل تقدیر، حتّی علی ذاک التقدیر الذی یکون به التکلیف واجباً استقبالیاً التکلیف قابل للتنجیز؛ لأنّ التنجیز یعنی إدراک العقل لقبح المخالفة، والعقل یدرک قبح مخالفة کل تکلیفٍ یدخل فی دائرة حق الطاعة، والتکلیف یدخل فی هذه الدائرة بمجرّد العلم به، والعقل یقول أنّ هذا التکلیف الذی للمولی حق الطاعة فیه تقبح مخالفته، یحکم حکماً فعلیاً لا منوطاً بحلول ظرف العمل.

ص: 200

وأمّا الدلیل الذی ذکره وهو مسألة إذا تبدّل العلم إلی شکٍّ، وهنا لا نحکم بالمنجّزیة، عندما یتبدّل العلم إلی الشک بحیث یکون المکلّف فی ظرف العمل شاکاً فی ثبوت التکلیف، واضح أنّه لا یتنجّز علیه التکلیف، المستدل یقول: أنّ هذا یکشف عن أنّ المنجّز هو العلم فی ظرف العمل، وحیث فی هذا المقام لا علم فی ظرف العمل فلا یتنجّز التکلیف؛ لأنّه لا علم فی ظرف العمل؛ لأنّه تحوّل إلی شکٍّ بحسب الفرض. إذن: المنجّز هو العلم فی ظرف العمل لا العلم الموجود سابقاً، وإلاّ لو کان المنجّز هو العلم الموجود سابقاً لنجّز هذا التکلیف بالرغم من تحوّله إلی شکٍّ؛ لأنّ المنجّز هو العلم حین حصوله، والعلم حین حصوله فی هذا الفرض موجود، فلابدّ أن یکون منجزاً للتکلیف فی ظرفه، والحال أنّه قطعاً لیس منجزاً، هذا یکشف عن أنّ المنجّز هو العلم فی ظرف العمل لا العلم المتقدّم علی ظرف العمل.

أقول: هذا الدلیل لا یصلح أن یکون دلیلاً علی أنّ العلم فی ظرف العمل لیس منجّزاً؛ لأننا ذکرنا أنّ المنجّزیة إدراک عقلی موضوعه هو التکلیف الداخل فی دائرة المولویة للمولی، الذی ثبت للمولی فیه حق الطاعة، هذا موضوع المنجّزیة، وفی المقام یکون التکلیف کذلک بافتراض تعلّق العلم به. إذن: موضوعه هو العلم، ما یدخل التکلیف فی حق الطاعة، هذا موضوع حکم العقل بالقبح وإدراک العقل للقبح، إذا تحوّل العلم إلی شکٍّ یرتفع هذا الحکم العقلی من باب ارتفاع الحکم بارتفاع موضوعه؛ لأنّ موضوع هذا القبح العقلی هو التکلیف المعلوم، موضوع هذا القبح العقلی هو التکلیف الداخل فی دائرة المولویة، والذی هو موضوع المنجّزیة، فإذا ارتفع هذا الموضوع وتبدّل العلم إلی الشک، وخرج التکلیف عن دائرة المولویة، فحینئذٍ لا یحکم العقل بقبحه، لکن هذا لیس معناه أنّ العلم بالتکلیف الموجود سابقاً لا ینجّز التکلیف؛ بل العلم بالتکلیف من حین حصوله ینجّز التکلیف ویحکم العقل بقبح مخالفته واستحقاق العقاب علی مخالفته، غایة الأمر أنّه بطبیعة الأشیاء أنّ هذا منوطٌ ببقاء هذا العلم إلی ظرف العمل، وإلاّ یرتفع القبح بارتفاع موضوعه، لکن هذا لا یعنی إطلاقاً أنّ العلم لا یکون منجّزاً للتکلیف إلاّ فی ظرف العمل؛ بل العلم عند حصوله ینجّز التکلیف؛ لأنّ المنجّزیة لا یراد بها إلاّ إدراک العقل. هذا ما یمکن أن یُناقش به ما ذکره بعض المحققین. ونفس هذا الکلام ذکره فی الصورة الثانیة التی سیأتی الحدیث عنها، وهی ما إذا کان التکلیف فعلیاً علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ، بعد هذا الکلام فی هذا الفرض یکون کلامه أوضح __________ مثلاً __________ لأنّه هو یقول التکلیف فعلی علی کل تقدیر، وهو یقول أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز التکلیف فعلاً وإنّما ینجّزه فی ظرف العمل، فإذن: ما ظنّک بما إذا کان التکلیف لیس فعلیاً علی أحد التقدیرین ؟ من باب أولی أن لا تثبت المنجّزیة لهذا العلم الإجمالی.

ص: 201

علی کل حال، الظاهر الاتفاق علی المنجّزیة فی هذه الصورة، وخروجها عن محل الکلام، باعتبار أنّ ملاک المنجّزیة موجود فی هذه الصورة، ملاک المنجّزیة هو أن یکون العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وهذا مفروض فی هذه الصورة، ملاک المنجّزیة أن یکون التکلیف قابلاً للتنجیز علی کل تقدیر، هنا أیضاً قلنا أنّ التکلیف المعلوم قابل للتنجیز علی کل تقدیر؛ فحینئذٍ لا مجال للتشکیک فی المنجّزیة فی هذه الصورة؛ ولذا هذه تخرج عن محل الکلام.

وأمّا النحو الثانی من القسم الثالث الذی هو محل الکلام، وهو أن یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، وهذا النحو اختلفت فیه الأنظار، ومثاله المرأة الحائض المتقدّم، ویمکن أن نجعل مثال النذر مثالاً له بناءٍ علی استحالة الواجب المعلّق؛ لأنّ المنذور إن کان قراءة سورة فی هذا الیوم فهو فعلی، أمّا إذا کان المنذور هو قراءة سورةٍ فی یوم غدٍ، فالتکلیف لا یکون فعلیاً لاستحالة الواجب المعلّق، وإنّما یکون استقبالیاً. إذن، التکلیف علی تقدیرٍ یکون فعلیاً، وعلی تقدیرٍ آخرٍ لیس فعلیاً. هذا النحو مرجعه ___________ کما ذکرنا فی الصورة المستثناة ___________ إلی أنّ الزمان المتأخّر فی أحد الطرفین دخیل فی التکلیف ولیس دخیلاً فی متعلّق التکلیف فقط کما فی الصورة المتقدّمة، فی الصورة المتقدّمة کان الزمان متأخّراً دخیلاً فی الواجب ولیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً، ولا ملاکاً. هذا النحو الذی نتکلّم عنه الآن مرجعه إلی أنّ الزمان دخیل فی التکلیف؛ ولذا لا یکون التکلیف فعلیاً علی ذاک تقدیر، معناه أنّه علی ذاک التقدیر الزمان المتأخّر دخیل فی التکلیف. هذا یمکن تصوّره علی شکلین:

ص: 202

الشکل الأوّل: أن نفترض أنّ الزمان دخیل فی التکلیف خطاباً وملاکاً، یعنی لا الخطاب وأصل التکلیف موجود قبل الزمان المتأخّر، ولا الملاک أیضاً موجود قبل الزمان المتأخّر، فالتکلیف خطاباً وملاکاً غیر موجود الآن، وإنّما موجود بعد حلول الزمان المتأخّر. وذُکر مثال الحیض مثالاً لهذا، باعتبار أنّه قبل حلول الحیض لیس فقط لا یوجد تکلیف؛ بل الملاک للتکلیف أیضاً لیس موجوداً، وإنّما یکون الملاک عندما تصبح المرأة حائضاً، فیحرم علیها دخول المساجد ویحرم مقاربتها.......الخ، فیکون حلول الحیض دخیلاً فی التکلیف، خطاباً وملاکاً.

الشکل الثانی: أن نفترض أنّ الزمان المتأخّر دخیل فی التکلیف خطاباً لا ملاکاً، بمعنی أنّ الملاک موجود قبله، لکن الزمان المتأخّر یکون دخیلاً فی الخطاب لا فی الملاک؛ حینئذٍ یکون التکلیف غیر متحقق فعلاً، استقبالی، لکن ملاک التکلیف موجود قبل ذاک الزمان المتأخّر، فالتکلیف موجود قبل الزمان المتأخّر، لکن ملاکاً لا خطاباً، فرضاً لأننا نری استحالة الواجب المعلّق، فالتکلیف حینئذٍ لا یمکن أن یکون فعلیاً قبل زمان الواجب، لکن لنفترض أننا استکشفنا أنّ الملاک موجود، الخطاب متأخّر لاستحالة الواجب المعلّق، لعلّه من هذا القبیل النذر، موضوع التکلیف خطاباً وملاکاً هو النذر، بمجرّد أن ینذر الإنسان؛ حینئذٍ یکون التکلیف بوجوب الوفاء فعلیاً، وملاکه أیضاً یکون فعلیاً، فإذا نذر أن یقرأ سورة فی الیوم القادم، وقلنا باستحالة الواجب المعلّق، استحالة الواجب المعلّق تقتضی أنّ التکلیف بوجوب الوفاء محال أن یکون فعلیاً، وإنّما یکون متأخّراً، لکن ملاک هذا التکلیف فعلی ولا داعی لتأخّره؛ لأنّه منوط بالنذر، ولولا استحالة الواجب المعلّق لقلنا التکلیف أیضاً فعلی، لکن حیث قلنا باستحالة الواجب المعلّق، فالتکلیف یکون متأخّراً، لکن ملاکه یکون فعلیاً؛ لأنّه بمجرّد حصول النذر هو یحدث فی التکلیف، أی فی الفعل المنذور مصلحة تقتضی الحکم بوجوب الوفاء به، فإذن: مرّة نفترض أنّ الزمان دخیل فی التکلیف خطاباً وملاکاً، ومرّة نفترض أنّه دخیل فیه خطاباً لا ملاکاً.

ص: 203

الأقوال فی المسألة ثلاثة:

القول الأوّل: عدم المنجّزیة مطلقاً وجواز الرجوع إلی الأصل فی کلا الطرفین فی هذا النحو وهو فی ما إذا کان التکلیف فعلیاً علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیر آخر، وهذا هو ظاهر کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وهو الذی اختاره بعض المحققین المتأخرین؛ بل هو اختار عدم المنجّزیة حتّی فی الصورة السابقة.

القول الثانی: المنجّزیة مطلقاً وعدم جواز الرجوع إلی الأصول فی الطرفین، والإطلاق بلحاظ الشکلین المتقدّمین کما سیأتی فی التفصیل، وهذا هو مختار المحقق النائینی والمحقق العراقی(قدّس سرّهما) وتبعهما جماعة ممن تأخّر عنهما کالسید الخوئی(قدّس سرّه).

القول الثالث: التفصیل بین الشکلین السابقین، بأن یُلتزَم بالمنجّزیة عندما یفترض الملاک فعلیاً وإن کان التکلیف استقبالیاً ولیس فعلیاً، الذی هو الشکل الثانی وعدم المنجّزیة عندما یکون التکلیف خطاباً وملاکاً متأخّراً لیس فعلیاً. هذا التفصیل هو المنسوب إلی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه).

الأنسب فی البحث من ناحیة منهجیة أن نتکلّم فی الشکل الأوّل، یعنی أن نتکلّم فی صورة ما إذا کان الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً، لا تکلیف فعلی موجود قبل ذاک الزمان، ولا ملاک موجود، فعلم المکلّف بتکلیف مرددٍ بین أن یکون فعلیاً علی تقدیر، وبین أن یکون لیس فعلیاً لا خطاباً ولا ملاکاً علی تقدیرٍ آخر؛ حینئذٍ إذا انتهینا إلی القول بالمنجّزیة فی هذا الشکل؛ فحینئذٍ لا إشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی فی الشکل الثانی؛ لأنّ الشکل الثانی یتمیّز عن الأوّل فی أنّ الملاک فیه فعلی، نحن عندما قلنا أنّ فی الشکل الأوّل الملاک لیس فعلیاً، والتکلیف لیس فعلیاً مع ذلک قلنا بالمنجّزیة، فإذن: من بابٍ أولی أن نلتزم بالمنجّزیة عندما نفترض أنّ ملاک التکلیف فعلی، فیتضح الأمر فی الشکل الثانی إذا قلنا بالمنجّزیة فی الشکل الأوّل.

ص: 204

نعم، إذا انتهینا إلی عدم المنجّزیة فی الشکل الأوّل؛ حینئذٍ یمکن البحث فی الشکل الثانی؛ لأنّ الشکل الثانی فیه خصوصیة لیست موجودة فی الشکل الأوّل وهی أنّ الملاک فیه فعلی، فعلیة الملاک ولو مع عدم فعلیة التکلیف، هل تؤثر فی الحکم بالمنجّزیة کما یقول الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) ؟ یمکن أن یقع الکلام فی الشکل الثانی بناءً علی عدم المنجّزیة فی الشکل الأوّل؛ ولذا یقع البحث أوّلاً فی الشکل الأوّل وهو ما إذا فرضنا أنّ التکلیف وملاک التکلیف لیس فعلیاً علی أحد التقدیرین، مثل هذا العلم الإجمالی هل یکون منجّزاً، أو لا ؟

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

الکلام فی ما إذا کان التکلیف علی أحد التقدیرین فعلیاً، ولیس فعلیاً علی التقدیر الآخر، ونفترض هنا أنّ التکلیف خطاباً وملاکاً لیس فعلیاً علی أحد التقدیرین، لا التکلیف فعلی علی أحد التقدیرین، ولا ملاک التکلیف فعلی علی أحد التقدیرین کما هو الحال علی ما ذکرو فی مثال الحائض، فأنّ التکلیف خطاباً وملاکاً منوط بتحقق الحیض فیکون متأخّراً، إذن، هذه المرأة علی تقدیر أن تکون حائضاً الآن یکون التکلیف فعلیاً فی حقّها خطاباً وملاکاً، لکن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی آخر الشهر، فالتکلیف لیس فعلیاً لا خطاباً ولا ملاکاً.

أستُدلّ علی عدم المنجّزیة فی هذا الفرض بوجوه:

الوجه الأوّل: ما یظهر من الکفایة الذی قلنا أنّه ذهب إلی عدم المنجّزیة مطلقاً، وحاصل ما یُفهم من کلامه أنّ المعتبر فی منجّزیة العلم الإجمالی هو کونه متعلّقاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، أمّا إذا تعلّق بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، فهذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، وفی المقام ___________ بحسب الفرض ___________ التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما هو فعلی علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر کما فی مثال المرأة الحائض، فأنّ حرمة الدخول فی المساجد علیها، وحرمة قراءة سوّر العزائم علیها إنّما تکون فعلیة إذا کانت حائضاً بالفعل، وأمّا إذا کانت حائضاً فی آخر الشهر فعلاً، فالحرمة لا تکون فعلیة فی حقّها، فإذن: التکلیف فعلی علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ. أمّا أنّه لیس فعلیاً علی التقدیر الآخر، باعتبار أنّه فعلاً لا یحرم علیها الدخول فی المساجد، علی تقدیر أن تکون حائضاً فی نهایة الشهر، قبل ذلک لا یحرم علیها الدخول إلی المساجد، فالتکلیف لیس فعلیاً فی حقها. نعم إن کانت حائضاً فعلاً یکون التکلیف فعلیاً وتثبت فی حقهّا هذه الحرمة، وفی هذه الحالة لا یکون شرط المنجّزیة متحققّاً، فلا یکون هذا العلم الإجمالی منجّزاً للطرفین؛ بل یمکن بناءً علی عدم المنجّزیة إجراء الأصول المؤمّنة فی کلا الطرفین. تشکّ المرأة الآن فی أنّه یحرم علیها الدخول فی المساجد، أو لا ؟ لا یوجد عندها علم بفعلیة الحرمة؛ لأنّ الحرمة الفعلیة منوطة بفرضٍ وتقدیرٍ غیر معلوم، إن کانت حائضاً فعلاً، فالحرمة فعلیة، لکنّها تشک فی کونها حائضاً بالفعل، لکنّها تشک فی الحرمة، فی التکلیف، فتجری البراءة، یجری الأصل المؤمّن لنفی هذا التکلیف، کما أنّها فی المستقبل فی نهایة الشهر أیضاً تشک فی الحرمة، فبإمکانها أن تجری الأصل المؤمّن، وهذا من آثار عدم منجّزیة هذا العلم الإجمالی.

ص: 205

أجیب عن هذا الوجه فی تقریب عدم المنجّزیة: بإنکار ما ذُکر من أنّ منجّزیة العلم الإجمالی یُشترط فیها أن یکون التکلیف المعلوم بالإجمال فعلیاً علی کل تقدیر، إنکار هذا الشرط بالمعنی الذی فهمه المستدل بهذا الوجه، المستدل بهذا الوجه کأنّه یفهم من هذا الشرط اشتراط أن یکون التکلیف فعلیاً الآن علی کل تقدیرٍ حتّی یکون العلم الإجمالی منجّزاً کما هو الحال فی مثال الإناءین، علی کل تقدیرٍ التکلیف فعلیٌ الآن، إن کانت النجاسة فی هذا الإناء یحرم شربه الآن، وإن کانت فی ذاک الإناء یحرم شربه الآن، فیکون منجّزاً. أمّا إذا لم یکن کذلک، بأن کان فعلیاً الآن علی تقدیرٍ، ولیس فعلیاً الآن علی تقدیرٍ آخر. یدّعی صاحب هذا الوجه بأنّ هذا لا یحقق شرط منجّزیة العلم الإجمالی.

الجواب یقول: أنّ کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر شرط ولابدّ منه، لکن لیس معناه اشتراط أن یکون فعلیاً الآن علی کل تقدیر؛ بل یکفی فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ فی عمود الزمان، لا نشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون التکلیف فیه فعلیاً الآن علی کل تقدیر، وإنّما لو کان فعلیاً الآن علی تقدیرٍ، وفعلی فی المستقبل علی تقدیرٍ آخر هذا یحقق شرط المنجّزیة؛ لأنّ شرط المنجّزیة هو أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر فی عمود الزمان، المهم أن یعلم بتکلیف فعلی علی کل تقدیر، سواء کان فعلیاً الآن، أو کان فعلیاً فی المستقبل، هذا هو شرط المنجّزیة، ننکر تفسیر هذا الشرط بالتفسیر السابق الذی ینتج أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام لیس منجّزاً، وهذا مرجعه إلی دعوی أنّ العقل یحکم بمنجّزیة العلم الإجمالی بمجرّد أن یکون علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر أعمّ من أن یکون تکلیفاً فعلیاً الآن، أو یکون تکلیفاً فعلیاً فی المستقبل.

ص: 206

بعبارةٍ أخری: أنّ العقل فی حکمه بالمنجّزیة، أو فی إدراکه لقبح المخالفة علی ما تقدّم أنّ معنی المنجّزیة هو عبارة عن إدراک العقل لقبح مخالفة التکلیف، وبالتالی لا یُفرق فی التکلیف الذی یحکم بقبح مخالفته بین أن یکون فعلیاً الآن، وبین أن یکون فی المستقبل، العقل الآن یحکم علیه بقبح المخالفة حتّی إذا فرضنا أنّ هذا التکلیف فعلی فی المستقبل، فی حکم العقل بالقبح یکفی دخول التکلیف ___________ کما تقدّم __________ فی دائرة مولویة المولی، یکفی أن یثبت أنّ للمولی حق الطاعة فی هذا التکلیف، ولا إشکال أنّ التکلیف بالعلم به یدخل فی حق الطاعة ویثبت للمولی حق الطاعة فیه، سواء کان فعلیاً، أو سیکون فعلیاً فی المستقبل، کل منهما یحکم العقل بقبح مخالفته، کلٌ منهما یحکم العقل باستحقاق العقاب علی مخالفته، سواء کان فعلیاً الآن، أو کان فعلیاً فی الزمان الآتی، علی کل حال هو تکلیفٌ مولوی علم به المکلّف، ولو علماً إجمالیاً، هذا العلم یدخله فی دائرة المولویة، ویثبت للمولی فیه حق الطاعة، ولو کان متأخّراً، ولو کانت فعلیة التکلیف متأخّرة، لتکن فعلیة التکلیف متأخّرة، ولتکن المخالفة لا یتمکن المکلّف منها فعلاً، وإنّما سیتمکن منها فی المستقبل، لکن هذا لا ینافی أن یکون الحکم العقلی فعلیاً، بمعنی أنّ العقل یحکم بقبح هذه المخالفة، حکم العقل بالقبح لا یتوقّف علی فعلیة التکلیف الآن، وإنّما یکفی فیه أن یکون التکلیف فعلیاً ولو فی المستقبل، والمفروض فی محل الکلام أنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر. غایة الأمر أنّه فعلی الآن علی تقدیر، وفعلی فی المستقبل علی تقدیرٍ آخر، وبذلک یتحقق شرط المنجّزیة ویکون العلم الإجمالی منجّزاً؛ لأنّ الشرط لیس هو ما ذُکر، وإنّما الشرط هو أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ فی عمود الزمان لا أنّ یکون التکلیف فعلیاً الآن علی کل تقدیرٍ حتّی یقال أنّ هذا غیر متحققٍ فی محل الکلام، وبالتالی یکون العلم الإجمالی فاقداً لشرط منجّزیته، فلا یکون منجّزاً؛ بل هو منجّز ولا فرق بینه وبین العلم الإجمالی بتکلیفٍ فعلی الآن علی کل تقدیر. ما نحن فیه لا یُفرّق فیه بین هذا وبین ذاک، کلٌ من التکلیفین، الفعلی الآن والفعلی فی المستقبل إذا علم به المکلّف حکم العقل بتنجّزه علی المکلّف، والعقل یحکم بتنجّزه فعلاً یری بأنّه یقبح مخالفته والحکم العقلی یثبت فعلاً فی أنّه یقبح مخالفة التکلیف، ولو کان التکلیف فعلیاً فی المستقبل، لا أنّ الحکم بالقبح یکون منوطاً بالزمان المتأخّر، بمعنی أنّ العقل هنا بالرغم من علم المکلّف بالتکلیف الاستقبالی، العقل هنا لیس له حکم، ولا یحکم بقبح مخالفة هذا التکلیف مع أنّ المکلّف علم به، لمجرّد أنّ هذا التکلیف لیس فعلیاً الآن، عدم کونه فعلیاً الآن لا یعنی أنّ العقل لا یحکم بقبح مخالفته؛ بل یحکم بقبح مخالفة کل تکلیف یدخل فی دائرة المولویة، کل تکلیفٍ یدخل فی دائرة المولویة یحکم العقل بقبح مخالفته، واستحقاق العقاب علی مخالفته حکماً فعلیاً، وإن کانت المخالفة ستکون فی الزمان الآتی، وإن کانت المخالفة لا یتمکن المکلّف منها فعلاً، لکن حکم العقل بالقبح فعلی؛ لأنّ موضوعه هو التکلیف الذی للمولی حق الطاعة فیه، والعلم به یدخله فی حق الطاعة، ویکون من أظهر مصادیق ثبوت حق الطاعة فی التکلیف عندما یتعلّق العلم به، یعلم به المکلّف ودخل فی حق الطاعة، العقل یحکم بقبح مخالفته، ولو کان هذا التکلیف سیکون فعلیاً فی المستقبل.

ص: 207

نعم، النکتة السابقة التی ذکرناها أیضاً تجری هنا، وهی أنّ الحکم العقلی الذی قلنا أنّه یکون فعلیاً من حین العلم، موضوعه التکلیف المعلوم الداخل فی دائرة المولویة، العقل إنّما یحکم بتنجّز التکلیف باعتبار تعلّق العلم به، فموضوع الحکم العقلی بالقبح هو التکلیف المعلوم، فإذا زال العلم قبل زمان فعلیة التکلیف بطبیعة الحال یزول الحکم العقلی، لکن قلنا أنّ ارتفاع الحکم العقلی من باب ارتفاع موضوعه؛ لأنّ موضوعه هو عبارة عن التکلیف المعلوم، فإذا زال العلم؛ حینئذٍ یرتفع الحکم العقلی بلا إشکال، لکن قلنا أنّ هذا لا یعنی أنّ العلم المتقدّم لا ینجّز التکلیف المتأخّر، لا یعنی أنّ المنجّز للتکلیف المتأخّر هو العلم فی ظرف العمل به وفی ظرف الإطاعة والامتثال، والعصیان والمخالفة، لا یعنی ذلک، العلم بمجرّد تحققه یحکم العقل بقبح مخالف التکلیف المعلوم، واستحقاق العقاب علی مخالفته، لکن هذا یزول إذا تبدّل العلم إلی شکٍّ، فأصبح المکلّف شاکّاً فی التکلیف فی آخر الشهر، العقل لا یحکم بمنجّزیة التکلیف المشکوک؛ لأنّ التکلیف المشکوک لا یدخل فی دائرة المولویة، التکلیف المشکوک لا یری العقل أنّ للمولی حق الطاعة فیه، بناءً علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فإذا کان لا یری ذلک؛ فحینئذٍ بطبیعة الحال لا یحکم بقبح مخالفته، یرتفع الحکم العقلی لارتفاع موضوعه، لکن هذا لا یعنی أنّ المنجّزیة غیر ثابتة من زمان العلم، المنجّزیة ثابتة من زمان العلم والتکلیف فعلی علی کل تقدیرٍ، بالمعنی المطروح للشرط، الشرط لیس هو أن یکون التکلیف فعلیاً الآن علی کل تقدیر حتّی یکون العلم الإجمالی منجّزاً لأطرافه، الشرط هو أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ ولو فی عمود الزمان، وهذا متحقق فی المقام، وهذا یجعل العلم الإجمالی منجّزاً ولا یتمّ هذا الدلیل الذی ذکر.

ص: 208

هذا هو الجواب عن الدلیل الذی ذُکر. ومن هنا یظهر أنّ هناک تفاوتاً فی تفسیر ما هو المعتبر فی منجّزیة العلم الإجمالی، صاحب الکفایة کما یظهر من عبارته یری أنّ المعتبر هو أن یکون هناک علم بتکلیفٍ فعلی الآن علی کل تقدیر، وهذا غیر متحققٍ فی محل الکلام؛ فلذا یری عدم المنجّزیة فی المقام. المجیب یری أنّ شرط المنجّزیة لیس هو هذا، الشرط هو أن یعلم المکلّف بالتکلیف، وصول التکلیف إلی المکلّف یکفی فی حکم العقل بمنجّزیته، فالشرط ینبغی تعدیله؛ إذ لیس هذا هو الشرط، وإنّما الشرط هو أن یکون العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ فعلیٍ لیس الآن علی کل تقدیر، وإنّما یکون علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، ولو فی عمود الزمان، وهذا متحققٌ فی محل الکلام؛ وحینئذٍ یکون العلم الإجمالی منجّزاً.

إذن: هناک اختلاف فی تفسیر ما هو المعتبر فیمنجّزیة العلم الإجمالی، والصحیح هو الثانی، یعنی الصحیح هو أنّ المعتبر هو ما ذُکر فی الجواب باعتبار أننا ندرک أنّ العقل یحکم بمنجّزیة التکلیف المعلوم، العقل یحکم بقبح مخالفة کل تکلیفٍ معلوم ودخل فی دائرة المولویة وثبت للمولی فیه حق الطاعة، وهناک اتفاق علی أنّه بالعلم یدخل التکلیف فی دائرة حق الطاعة، العقل یحکم بمنجّزیته، بمعنی أنّه یدرک قبح مخالفته، هذا الحکم العقلی یقول القبح فعلی، بمجرّد العلم هو یحکم بقبح مخالفة التکلیف المعلوم لا أنّ الحکم بالقبح یکون منوطاً بحلول ظرف العمل بالتکلیف، أو ظرف فعلیة التکلیف، لا لیس کذلک، وإنّما العلم هو الموضوع التام لحکم العقل بالقبح، فإذا علم المکلّف بالتکلیف علماً إجمالیاً، أو علماً تفصیلیاً کان ذلک کافیاً فی تحقق الشرط وکون التکلیف فی باب العلم الإجمالی فعلیاً علی کل تقدیر؛ لأنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر، علی التقدیر الأوّل هو فعلی کما هو واضح، وعلی التقدیر الثانی، وهو أن تکون حائضاً فی آخر الشهر أیضاً التکلیف فعلی فی آخر الشهر، وکما قلنا أنّ هذا لا یضر بحکم العقل بالمنجّزیة؛ لأنّ الشرط هو أن یعلم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر ولو فی عمود الزمان لا أن یعلم بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر الآن.

ص: 209

الوجه الثانی لعدم المنجّزیة: هو ما ذُکر فی کلماتهممن أنّه یشترط مضافاً إلی ما تقدّم فی منجّزیة العلم الإجمالی، یُشترط أن یکون کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی مورداً للأصل المؤمّن بناءً علی مسلک الاقتضاء، باعتبار أنّ صاحب هذا المسلک یری أنّ المنجّزیة هی من توابع تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها؛ لأنّه لا یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة للتنجیز، وإنّما یتنجّز العلم الإجمالی باعتبار جریان الأصول فی الأطراف وتعارضها وتساقطها وبقاء الأطراف بلا مؤمّن، فتتنجّز. إذن، المنجّزیة هی من توابع تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها، فإذا جرت الأصول فی الأطراف بأن یکون کل طرفٍ هو مورداً للأصل المؤمّن فی نفسه وبقطع النظر عن المعارضة؛ حینئذٍ تجری الأصول فی الأطراف وتتعارض وتتساقط. لماذا تتعارض الأصول فی الأطراف؟ باعتبار أنّ جریان الأصول فی الأطراف جمیعاً یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهو محال عقلاً، عقلائیاً، جریانها فی بعض الأطراف المعین دون البعض الآخر ترجیح بلا مرجّح، وجریانها فی الفرد المردد غیر معقول؛ لأنّ الفرد المردد غیر معقول؛ فحینئذٍ تتساقط الأصول فی الأطراف، فإذا تساقطت الأصول فی الأطراف تبقی الأطراف بلا مؤّمنٍ، فتتنجّز جمیع الأطراف، فتثبت المنجّزیة بالعلم الإجمالی، لکن ببرکة وتوسّط تعارض الأصول فی الأطراف.

إذن: یُشترط فی صیرورة العلم الإجمالی منجّزاً لأطرافه أن یکون کل طرفٍ من أطرافه مجری للأصل المؤمّن، إذن، هذا الطرف فی حدّ نفسه هو مورد للأصل المؤمّن، وهذا الطرف أیضاً فی حدّ نفسه مورد للأصل المؤمّن، فتأتی مسألة أنّ جریان الأصول فی الأطراف یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة ......الخ، وهذا لازمه تساقط الأصول وبقاء الأطراف بلا مؤمّن، فیثبت التنجیز. هذا هو شرط تنجیز العلم الإجمالی علی القول بالاقتضاء. یقال حینئذٍ: أنّ هذا الشرط غیر متحققٍ فی محل الکلام؛ لأنّ الأصل یجری فی أحد الطرفین بلا معارضٍ. وبعبارةٍ أخری: أنّ الأصل لا یجری فی أحد الطرفین، فیجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض. الطرف الذی یجری فیه الأصل هو التکلیف علی تقدیر أن تکون المرأة حائضاً الآن، هذا یجری فیه الأصل المؤمّن، ولیس فیه مشکلة؛ لأنّه علی هذا التقدیر یکون التکلیف فعلیاً، وإذا کان التکلیف فعلیاً ومحتملاً یکون مورداً للأصل المؤمّن، فیجری فیه الأصل المؤمّن، بینما التکلیف علی التقدیر الآخر، أی علی تقدیر أن تکون حائضاً فی آخر الشهر، المفروض أنّ هذا التکلیف لیس فعلیاً __________ بحسب الفرض ___________؛ لأنّ التکلیف علی أحد التقدیرین لیس فعلیاً، فالتکلیف بحرمة الدخول فی المساجد علی هذه المرأة علی تقدیر أن تکون حائضاً لیس فعلیاً، هذا التکلیف لیس مورداً للأصل؛ لأنّ موضوع الأصل غیر متحققٍ فیه، موضوع الأصل هو الشک فی التکلیف، المرأة الآن لا تشک فی حرمة دخول المساجد علیها علی تقدیر أن تکون حائضاً فی آخر الشهر. نعم هی تعلم بحرمة دخول المساجد علیها علی تقدیر أن تکون حائضاً الآن، لکن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، فعلاً لا یوجد عندها شک فی حرمة الدخول، فإذا کان لا یوجد عندها شکّ فی حرمة الدخول الآن؛ حینئذٍ ما معنی جریان الأصل بلحاظه ؟ ما معنی أن یجری الأصل مع عدم تحققّ موضوعه؛ لأنّ موضوعه هو الشکّ فی التکلیف، الشک فی فعلیة الحرمة علیها، وهی لا تشک فی حرمة الدخول فی المساجد علیها الآن، وهذا معناه أنّ الأصل یجری فی التکلیف علی تقدیر ولا یجری فی التکلیف علی تقدیرٍ آخر. إذن، أحد الطرفین للعلم الإجمالی، وهو التکلیف علی التقدیر الآخر لیس مورداً للأصل المؤمّن، فیجری الأصل المؤمّن فی التکلیف علی التقدیر الأوّل بلا معارض، وبذلک لا یتحقق شرط المنجّزیة الذی هو عبارة عن أن یکون کل من الطرفین فی حدّ نفسه مورداً للأصل المؤمّن، هذا الشرط غیر متحقق فی المقام؛ لأنّ التکلیف علی تقدیر أن تکون المرأة حائضاً فی المستقبل لا یجری فیه الأصل، الآن لا یجری فیه الأصل؛ لأنّ موضوعه غیر متحقق الآن، موضوعه الشکّ وهی لا تشک فی حرمة الدخول فی المساجد علیها الآن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، بینما التکلیف الآخر الشک متحقق فیه، فیجری فیه الأصل بلا معارض ومثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجزاً. هذا علی القول بالاقتضاء، وأنّ المنجّزیة من آثار تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها.

ص: 210

وأمّا علی القول بالعلّیة __________ بناءً علی رأی المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة ___________ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یری أنّ الشرط فی تنجیز العلم الإجمالی هو أن یکون العلم الإجمالی صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، سواء کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، العلم الإجمالی صالح لتنجیزه، أو فی ذاک الطرف أیضاً العلم الإجمالی صالح لتنجیزه؛ حینئذٍ یقال فی مقام الاستدلال علی عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی المقام، یقال أن هذا الشرط غیر متحقق فی المقام، باعتبار أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام فی التدریجیات لیس صالحاً لتنجز معلومه علی کل تقدیر، وإنّما هو صالح لتنجیز معلومه علی تقدیر، ولیس صالحاً لتنجیز معلومه علی تقدیرٍ آخر، علی تقدیر أن تکون المرأة حائضاً الآن، فلا مانع من أن یکون هذا التکلیف منجّزاً علیها الآن، لکن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل العلم الإجمالی لا یصلح لتنجیز هذا التکلیف الآن. نعم التکلیف صالح لأن یکون منجّزاً فی المستقبل، لکن الآن هو لیس صالحاً لأن یکون منجّزاً بالعلم، الآن لا یحرم علیها قطعاً الدخول فی المساجد، ما معنی أن یکون العلم منجّزاً للتکلیف علی التقدیر الآخر الآن ؟ لأنّ الآن هی قطعاً لا یحرم علیها الدخول فی المساجد الآن. إذن: العلم صالح لتنجیز معلومه، أی تنجیز التکلیف علی تقدیرٍ ولیس صالحاً لتنجیز معلومه علی التقدیر الآخر الذی یعنی أنّ الحکم سیکون فعلیاً فی المستقبل، الآن هو لیس صالحاً للتنجیز، فإذن، لا یتحقق شرط المنجّزیة الذی هو عبارة عن أن یکون العلم صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، فلا یکون منجّزاً. هذا هو الوجه الثانی علی کلا المسلکین.

ص: 211

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

الوجه الثانی لعدم منجّزیة العلم الإجمالی فی التدریجیات: هو ما ذکرناه فی الدرس السابق، وهو اختلال شرط من شرائط المنجّزیة، علی مسلک الاقتضاء الشرط هو تعارض الأصول فی الأطراف، بمعنی أن یجری الأصل فی کلٍ من الطرفین، فیقع التعارض والتساقط، فیتنجّز العلم الإجمالی، فالشرط هو أن یکون کل طرفٍ قابلٍ لجریان الأصل فیه، والوجه یقول أنّ هذا الشرط غیر متحقق فی محل الکلام؛ لأنّ التکلیف علی التقدیر الثانی، یعنی علی تقدیر ان یکون لیس فعلیاً الآن، وإنّما یکون فعلیاً فی المستقبل، هذا لیس مورداً للأصل المؤمّن، وذلک لعدم تحقق موضوعه الذی هو الشکّ؛ لأنّ المکلّف لا یشک فعلاً فی ذاک التکلیف، المرأة تعلم أنّه لا یحرم علیها الدخول فی المساجد، علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، فهی لا تشک فعلاً، فإذن: علی ذاک التقدیر لا شک فعلاً، فلا یجری الأصل، فیجری الأصل فی الطرف الأوّل بلا معارض، وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی حکماً علی ما تقدّم، وعدم منجّزیة هذا العلم الإجمالی . هذا علی القول بالاقتضاء.

علی القول بالعلّیة الشرط فی تنجیز العلم الإجمالی هو أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وفی المقام العلم الإجمالی لیس صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وإنّما یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی التقدیر الأوّل، وأمّا علی التقدیر الثانی، فهو لیس صالحاً لتنجیز معلومه فعلاً؛ لأنّ کل تنجیز تکلیف متوقف علی ثبوته وفعلیته حتّی یکون منجّزاً، أما قبل ثبوته فلا معنی لافتراض التنجیز.

ص: 212

إذن: العلم الإجمالی علی أحد التقدیرین صالح لتنجیز معلومه، لکن علی التقدیر الآخر لیس صالحاً لتنجیز معلومه؛ لأنّ المنجّزیة إنّما تثبت لتکلیف بعد فرض ثبوته وفعلیته، وأمّا قبل ذلک، فلا. هذا بناءً علی مسلک العلّیة.

الجواب عن هذا الوجه الثانی: أمّا علی مسلک العلّیة، فالجواب هو أننا ندّعی أنّ العلم الإجمالی صالح لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وذلک لما تقدّم من أنّ العلم یصلح لأن ینجّز معلومه ولو کان معلومه استقبالیاً، ولا یتوقّف تنجیز العلم لمعلومه علی أن یکون فعلیاً وثابتاً الآن، حتّی إذا کان التکلیف لیس فعلیاً ولیس ثابتاً الآن، العلم به ینجّزه ولا یشترط فی منجّزیة العلم للتکلیف بنظر العقل أن یکون التکلیف فعلیاً وثابتاً الآن.

بعبارةٍ أخری: أنّ قیاس ما نحن فیه علی سائر الأحکام بلحاظ موضوعاتها، فیقال لا معنی لثبوت الحکم قبل تحقق موضوعه، الحکم إنّما یثبت بعد فرض تحقق موضوعه، کأنّه تقاس المنجّزیة بالنسبة إلی التکلیف کما هو الحال فی الحکم بالنسبة إلی موضوعه فی سائر الأحکام بالنسبة إلی موضوعها، لا یُشترط فعلیة التکلیف حتّی تثبت له المنجّزیة؛ لما قلناه فی الدرس السابق من أن التنجیز هو حکم عقلی، والمراد به إدراک العقل قبح المخالفة، وهذا یکفی فیه العلم بالتکلیف، سواء کان التکلیف فعلیاً، أو استقبالیاً، حتّی إذا کان التکلیف استقبالیاً ولیس فعلیاً الآن إذا علم به المکلّف العقل یحکم بکونه منجّزاً علی المکلّف، بمعنی یحکم بقبح مخالفته واستحقاق العقاب علی مخالفته حتّی إذا کانت المخالفة استقبالیة ولیست فعلیة، لکن العقل یحکم فعلاً بقبح مخالفته، وهذا علی ضوء ما تقدم معناه أنّ العلم الإجمالی فی المقام صالح لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، علی التقدیر الأوّل هو صالح لتنجیز معلومه، وعلی التقدیر الثانی هذا العلم أیضاً صالح لتنجیز معلومه؛ لأنّ التنجیز یُراد به هذا المعنی، وهذا المعنی فعلی وموجود منذ البدایة ولا یتوقف وجود هذا الحکم العقلی وإدراک العقل لقبح المخالفة علی فعلیة التکلیف، إذا علم بالتکلیف الفعلی ولو بالمستقبل یحکم العقل بقبح مخالفته؛ لما قلناه من ان التکلیف یدخل فی دائرة المولویة ویثبت للمولی فیه حق الطاعة بمجرّد العلم به، والعقل یحکم بقبح مخالفة کل تکلیف یثبت للمولی فیه حق الطاعة. بناءً علی القول بالعلّیة، اشتراط أن یکون العلم الإجمالی صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، لابدّ أن یُقصد به أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه فی عمود الزمان لا أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه فعلاً، حتّی لو فرضنا أنّه لیس صالحاً لتنجیز معلومه فعلاً، لکنّه صالح لتنجیز معلومه فی عمود الزمان، بمعنی أننا ندخل فی التنجیز التکلیف الغیر الفعلی والذی سیکون فعلیاً فی المستقبل، هذا العلم الإجمالی صالح لتنجیز معلومه، سواء کان معلومه فعلیاً، أو کان معلومه استقبالیاً.

ص: 213

وأمّا علی مسلک الاقتضاء: فالمدّعی فی هذا الدلیل أنّ الصل الجاری فی الطرف الأوّل لا یعارض بالأصل الجاری فی الطرف الثانی؛ لأنّ الطرف الثانی لیس مورداً للأصل، باعتبار ما ذُکر من النکتة، وهی أن الشکّ فیه لیس فعلیاً، فإذن، هو لیس مورداً للأصل فعلاً، فإذا لم یکن مورداً للأصل فعلاً، فیجری الأصل فی الطرف الأوّل بلا معارض؛ لأنّه لا معارض للأصل فی الطرف الثانی؛ لأنّ الأصل لا یجری فی الطرف الثانی.

الجواب عن ذلک: أننا نقول أنّ الأصل فی الطرف الأوّل معارض بالأصل فی الطرف الثانی، والسرّ فی ذلک هو أنّ التعارض فی المقام، یعنی الأصل الجاری فی الطرف الأوّل معارض بالأصل فی الطرف الثانی. هذا التعارض بین الأصلین الجاریین فی الطرفین ماذا یُراد به ؟ المراد بذلک فی الحقیقة هو منع شمول إطلاق شمول الأصل فی کلٍ من الطرفین، أنّ دلیل الأصل لا یشمل کلا الطرفین، فیقع التعارض بینهما، لیس التعارض من قبیل التضاد بین البیاض والسواد حتّی نقول یُشترط فی التضاد أن یکون الزمان واحداً، وإلاّ لا تضاد بین الشیئین، التعارض هو عبارة عن أنّ شمول دلیل الأصل لهذا الطرف ینافیه شموله للطرف الآخر، هذه المنافاة فی شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین توقع المعارضة بین الأصلین.

وبعبارةٍ أخری: یکون شمول دلیل الأصل لهذا الطرف معارضاً بشمول دلیل الأصل فی الطرف الآخر، فالمعارضة فی المقام هی عبارة عن منع وعدم التمکّن من شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین، والسرّ فی هذا المنع وعدم إمکان شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین، السرّ فیه هو أنّ شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة. هذا هو الذی یوقع التعارض بین الطرفین بناءً علی مسلک الاقتضاء، أنّ شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین معاً یستلزم المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم والواصل للمکلّف ولو بالإجمال، وشموله لأحدهما المعیّن ترجیح بلا مرجّح، أو شموله لأحدهما المردد، لا وجود له. إذن: بالنتیجة دلیل الأصل لا یمکن أن یشمل کلا الطرفین، فیقع التعارض بین شمول دلیل الأصل لهذا الطرف وشموله لهذا الطرف. صحیح أنّ کل طرف هو موضوع للأصل المؤمّن، کل طرف یتحقق فیه موضوع الأصل المؤمّن وهو الشک، لکن شمول دلیل الأصل لهذا الطرف مع شموله للطرف الآخر لا یمکن؛ لأنّه یستلزم الترخیص المخالفة القطعیة، فیقع التعارض بین شمول الأصل لهذا وبین شموله لذاک، فیُبتلی دلیل الأصل بالإجمال المانع من شموله لکلٍ منهما، فیُلتزَم بالتساقط، یعنی أنّ دلیل الأصل لا یشمل هذا ولا یشمل ذاک. هذا هو المقصود بالتعارض فی محل الکلام. إذن: نکتة التعارض هی أنّ جعل ترخیصین فی الطرفین مستفادین من الأصلین یستلزم المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، هو یعلم إجمالاً بثبوت الحرام فی أحد الطرفین، والدلیل یقول له أنا أرخّص لک فی هذا وأرخّص لک فی هذا. فکأنّ الشارع یخاطب المکلّف ویجعل له الترخیص فی هذا الطرف وفی نفس الوقت یجعل له الترخیص فی الطرف الآخر، هذا یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا لا یمکن الالتزام به، هذه هی النکتة فی التعارض بین الأصلین فی محل الکلام. هل یُفرّق فی هذه النکتة بین أن یکون الطرفان عرضیین وبین أن یکونا طولیین ؟ نحن نقول: لا یُفرّق فیها فی ذلک، لا فرق بین الفرضین فی مثال الإناءین، هذه النکتة موجودة فی کلٍ من الطرفین، وشمول دلیل الأصل لکلٍ من الطرفین یقع المکلّف فی المخالفة القطعیة، أو قل هو ترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا محال. شمول دلیل الأصل لکلٍ من الطرفین أیضاً کذلک؛ لأنّه لا یُفرّق بینه وبین الحالة الأولی من هذه الناحیة فی أنّ الترخیص فی مخالفة التکلیف الفعلی والترخیص فی مخالفة التکلیف یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، بالنتیجة هذه المرأة تعلم بثبوت حرمة دخول المساجد علیها، إمّا الآن، أو فی المستقبل. إذن: هی تعلم بثبوت الحرمة، وصلت إلیها الحرمة، الشارع یرخّص لها فی مخالفة الحرمة الواصلة بأن یجعل ترخیصین فی الطرفین، بأن یجعل دلیل الأصل شاملاً لهذا الطرف، وشاملاً للطرف الآخر، ولو کان استقبالیاً، کون أحد الطرفین استقبالیاً لا یعنی أنّ شمول دلیل الأصل للطرفین لا یوجب الترخیص فی المخالفة القطعیة، بالنتیجة هو ترخیص فی المخالفة القطعیة، عندما یقول الشارع لو خاطب المکلّف فی محل الکلام أجرِ البراءة عن التکلیف الفعلی، وأجرِ البراءة فی التکلیف الاستقبالی، بالنتیجة هو رخّص له فی مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال، هذه هی النکتة التی توجب التعارض ولیس هناک نکتة أخری، ولیس هناک تضاد حتّی نقول یشترط فی التعارض أن یکونا فی زمانٍ واحد، جریان الأصل عن هذا الطرف فعلاً، وجریان الأصل عن الطرف الآخر فی المستقبل یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا هو النکتة فی وقوع التعارض بین الأصلین فی الطرفین، فیکون التعارض فی المقام متحققاً، ویکون کل منهما صالحاً لجریان الأصل فیه، لکن یقع التعارض بین الأصلین ویتساقطان، فتبقی الأطراف بلا مؤمّن، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی.

ص: 214

وأمّا ما ذُکر فی نفس الدلیل من أنّ الأصل لا یجری فی الطرف الاستقبالی لعدم تحقق موضوعه وهو الشک الآن، هذا کلام صحیح، لا أحد یقول أنّ الشک فی التکلیف علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل موجود الآن، الشک لیس موجوداً الآن، وإنّما هو موجود فی ظرفه، لکن المقصود فی المقام إجراء الأصل فی الطرف الاستقبالی بلحاظ ظرفه، وبلحاظ وقته، لا أن نجری الأصل فی الطرف الاستقبالی الآن؛ لوضوح أنّ موضوع هذا الأصل الآن غیر متحقق؛ إذ لاشکّ فی حرمة الدخول فی المساجد علیها الآن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، المدّعی هو إجراء الأصل فی الطرف الاستقبالی بلحاظ ظرفه ولا إشکال فی أنّه بلحاظ ظرفه موضوع الأصل متحقق، الشک متحقق، فی المستقبل الشک متحقق بلحاظ ظرفه ولیس الآن، وندّعی أنّ إجراء الأصل بهذا النحو یعارض إجراء الأصل فی الطرف الفعلی، إجراء الأصلین فی الطرفین بهذا النحو، بأن یجری الأصل فی الطرف الفعلی، ویجری الأصل فی الطرف الاستقبالی بلحاظ ظرفه، ندّعی أنّ هذا غیر ممکن، لنفس النکتة التی ندّعی فیها عدم إمکان ذلک فی ما إذا کان کل منهما فعلیاً، وهی نکتة أنّ إجراء الترخیص فی کلا الطرفین یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل للمکلّف بالإجمال؛ لأنّ المکلّف یعلم بثبوت التکلیف فی ذمّته، غایة الأمر أنّه مردد بین طرفین، أحدهما استقبالی، فإذا رخّص الشارع له فی مخالفة کلا التکلیفین، فهذا ترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، فلیس الغرض من هذا الکلام هو أننا ندّعی جریان الأصل فی الطرف الاستقبالی الآن کما یجری فی الطرف الفعلی حتّی یقال أنّ الأصل الآن غیر متحقق موضوعه فی الطرف الاستقبالی، فکیف یجری فیه الأصل، وإنّما المقصود هو إجراء الأصل فی الطرف الاستقبال بلحاظ ظرفه، وهذا الأصل موضوعه محفوظ ومتحقق بلحاظ ظرفه، والمدّعی هو أنّ إجراء الأصل فی الطرف الاستقبالی بهذا اللّحاظ، مع الأصل فی الطرف الفعلی یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فإذن: لا یمکن أن یکون دلیل الأصل بناءً علی هذا الکلام شاملاً لکلا الطرفین؛ لأنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، کما لا یمکن أن یکون ثابتاً لأحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح بعد فرض تساوی نسبة کل من الطرفین إلی دلیل الأصل، ولا فرق بینهما بلحاظ دلیل الأصل، کل منهما یوجد فیه شک وهذا هو موضوع دلیل الأصل؛ وحینئذٍ یقع التعارض بین شمول الأصل لهذا الطرف وشمول الأصل لذاک الطرف، فیتساقطان؛ وحینئذٍ تبقی الأطراف بلا مؤّمن، فیتنجّز العلم الإجمالی. هذا هو المدّعی فی المقام.

ص: 215

یُستشکل علی هذا الکلام: أننّا سلّمنا شمولدلیل الأصل لکلا الطرفین یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة، لکنّ شمول دلیل الأصل لأحدهما لا یلزم منه المخالفة القطعیة، وإنّما یلزم منه محذور الترجیح بلا مرجّح، لکنّ محذور الترجیح بلا مرجّح إنّما یلزم من شمول دلیل الأصل لأحد الطرفین فی صورة ما إذا تساوت نسبة هذا الطرف للأصل ونسبة ذاک الطرف للأصل، وکانت نسبة واحدة بلا مائز ولا أولویة فی الشمول، بعد تساوی نسبة الطرفین إلی دلیل الأصل، یقال أنّ اختصاص دلیل الأصل بأحدهما ترجیح بلا مرجّح. وأمّا إذا فرضنا عدم تساوی نسبة الطرفین إلی دلیل الأصل؛ حینئذٍ شمول دلیل الأصل لأحدهما لا یلزم منه محذور الترجیح بلا مرجّح، ویُدّعی بأنّ هذا متحقق فی المقام، وذلک لأنّ دلیل الأصل الآن لا یشمل إلاّ أحد الطرفین؛ لأنّ الطرف الآخر الاستقبالی غیر مشمول لدلیل الأصل الآن، إمّا لعدم تحقق موضوعه أو لعدم ترتب أثر علی جریان الأصل، أو لشیءٍ آخر، فهو غیر مشمول لدلیل الأصل الآن، بینما الطرف الآخر الفعلی مشمول لدلیل الأصل الآن. بناءً علی هذا لا مانع من شمول دلیل الأصل لهذا الطرف؛ لأنّه الآن هو غیر معارض بشمول دلیل الأصل للطرف الآخر؛ لأنّ الطرف الآخر لا یشمله دلیل الأصل الآن، فیجری الأصل فی الطرف الأوّل بلا معارض، ولا یلزم من ذلک الترجیح بلا مرجح، ولا یلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة. أمّا الأوّل فواضح، أمّا الثانی، فباعتبار أننا فرضنا أنّ دلیل الأصل الآن لا یشمل الطرف الآخر، فیشمل الطرف الأوّل، فیکون هذا هو المرجّح له، فیتعیّن دخوله فی دلیل الأصل دون الطرف الثانی.

ص: 216

إذن: الآن یمکن للمکلّف أن یجری الأصل فی هذا الطرف الفعلی الحالی ولا یُعارَض بشمول دلیل الأصل للطرف الأوّل. هذا الآن، وفی المستقبل أیضاً نفس الکلام یقال، یقال: فی المستقبل یجری الأصل فی ذاک الطرف ولا یُعارَض بالأصل فی الطرف الأوّل، باعتبار أنّه فی المستقبل یخرج الطرف الأوّل عن کونه محل الابتلاء، فلا یجری فیه الأصل لذلک، وبالتالی نجوّز للمکلّف أن یرتکب کلا الطرفین استناداً إلی الأصل الجاری فیه، لکن بلحاظ ظرفین، فی الزمان الأوّل الأصل یجری فی الطرف الأوّل، فیؤمّن من ناحیته، وفی الزمان الثانی یجری الأصل فی الطرف الثانی الاستقبالی ویؤمّن من ناحیته، من دون أن یکون شمول دلیل الأصل للأوّل فی الزمان الأوّل، ولا الثانی فی الزمان الثانی ترجیحاً بلا مرجح.

الجواب عن هذا الکلام هو: ما یُفهم من الکلام السابق وهو أنّ المحذور الذی یمنع من إجراء الأصل فی الطرفین یشمل حتّی هذه الحالة. بعبارة أخری: لا یختص بخصوص ما إذا کان إجراؤهما مؤدّیاً إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحدٍ کما فی مثال الإناءین، صحیح أنّ هذا الذی ذُکر لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد؛ لأنّه یُجری الأصل فی ظرفین وفی زمانین، فی الزمان الأوّل یجری الأصل الأوّل فقط، فلا مخالفة قطعیة، وفی الزمان الثانی یجری الأصل فی الطرف الثانی فقط، وأیضاً لا تلزم المخالفة القطعیة. إذن: إجراء الأصلین بهذا الشکل صحیح لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد، لکن الذی نقوله أنّ المانع لا ینحصر بذلک، المانع من إجراء الأصلین فی الطرفین لا یختص بما إذا کان مؤدّیاً إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد؛ بل أنّ مدّعانا أوسع من هذا، نقول أنّ جریان الأصلین فی الطرفین إذا کان مؤدّیاً إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة ولو فی زمانین، ولو فی عمود الزمان إذا کان یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال هذا أیضاً نمنع منه، وأیضاً یکون محالاً؛ لما قلناه قبل قلیل من أنّ التعارض بین الأصلین لا یختص بخصوص ما إذا کان جریان الأصلین مؤدّیاً إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد؛ بل هو یشمل حتّی الصورة الثانیة؛ لأنّ التعارض هو عبارة عن عدم شمول دلیل الأصل للطرفین باعتبار وبنکتة أنّ شمول الأصل لکلا الطرفین یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة القبیحة بنظر العقل، وما یراه العقل قبیحاً لیس هو الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد، بالنتیجة هو مخالفة قطعیة علی کل حالٍ للشارع، سواء کان فی زمانٍ واحد، أو کان فی زمانین، فإذا کان إجراء الأصلین فی الطرفین بهذا الشکل المقترح یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانین هذا أیضاً یراه العقل مانعاً من إجراء الأصل فی کلا الطرفین، وبهذا یتحقق التعارض ویکون الأصل الجاری فی الطرف الفعلی معارضاً بالأصل الجاری فی الطرف الاستقبالی؛ لأنّ المحذور لیس هو أداء إجراء الأصلین فی الطرفین إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد، لیس هذا هو المحذور فقط؛ بل المحذور هو الأعم، کل ما کان إجراء الأصل فی الطرفین یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذا العقل یمنع منه ویراه محالاً سواء کان فی زمانٍ واحد، أو کان فی زمانین، بالنکتة المشار إلیها وهی أنّه بنظر العقل لا فرق بینهما، کل منهما مخالفة للتکلیف، کلٌ منهما ترخیص فی مخالفة التکلیف الواصل والمعلوم، ویستحیل أن یرخّص الدلیل فی مخالفة التکلیف المعلوم، وهذا معناه أنّ الأصل فی هذا الطرف معارض بالأصل فی الطرف الآخر فی ظرفه، یتعارضان؛ لأنّ نکتة التعارض محفوظة فیه، التعارض هو عبارة عن أداء جریان الأصلین فی الطرفین إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهی متحققة فی المقام. ومنه یتبین أنّ ما ذُکر فی الدلیل من أن دلیل الأصل لا یشمل الطرف الاستقبالی هذا صحیح، لکن الآن لا یشمل الطرف الاستقبالی، إمّا بنکتة أنّ موضوعه غیر متحقق، وإمّا أنه لا یترتب علیه الأثر، فدلیل الأصل لا یشمل الطرف الاستقبالی الآن، لکن لا مانع من شموله له بإطلاقه بلحاظ ظرفه؛ لتحقق موضوعه فی ظرفه، فإطلاق دلیل الأصل یشمل الطرف الآخر بإطلاقه باعتبار تحقق موضوعه فی ظرفه، وباعتبار ترتب الأثر علیه فی ظرفه، فإذا کان دلیل الأصل یشمل الطرف الآخر، وفرضنا أنّ شمول دلیل الأصل للطرف الآخر مع شموله للطرف الفعلی یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لا محالة یتحقق التعارض ویُبتلی دلیل الأصل بالتعارض الداخلی المانع من شموله لکلا الطرفین. فما نثبته أمران:

ص: 217

الأمر الأوّل: أنّ العقل لا یُفرّق فی قبح المخالفة، وفی استحالة الترخیص فی المخالفة القطعیة بین أن تکون بالنحو الأوّل أو بالنحو المقترح فی المقام، لا یُفرّق بینهما، کلٌ منهما یؤدّی إلی الترخیص فی مخالفة الشارع، وهذا محال بنظر العقل.

الأمر الثانی: أنّ دلیل الأصل لا مانع من شموله للطرف الاستقبالی بالرغم من عدم تحقق موضوعه الآن وعدم ترتب أثر علیه الآن، لا مانع من شموله للتکلیف الذی سیکون فعلیاً فی المستقبل؛ لأنّه سیتحقق موضوعه فی المستقبل ویترتب علیه الأثر، فإذا لا مانع من شموله له بإطلاقه یتحقق التعارض بین شموله لهذا الطرف وشموله لذاک الطرف.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

تقدّم فی الدرس السابق أنّ ما استدلّ بهعلی عدم المنجّزیة بالعلم الإجمالی فی التدریجیات غیر تام، بعد ذلک ننتقل إلی أنّ الظاهر من کلمات الأعلام کالشیخ الأنصاری وصاحب الکفایة والمحقق النائینی وغیرهم(قدّست أسرارهم)، ظاهرهم تسلیم أنّ العلم الإجمالی بتکلیفٍ فعلی علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر لیس منجّزاً. نعم اختلفوا فی تعلیل عدم المنجّزیة، فصاحب الکفایة(قدّس سرّه) عللّه بأن العلم الإجمالی لیس علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه یشترط فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وهذا غیر متحقق فی المقام.

الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) عللّه بجریان الأصول النافیة فی الأطراف بلا تعارض، فیمکن إجراء الأصل النافی الآن ولیس له معارض، ویمکن إجراء الأصل النافی فی الزمان المتأخّر بلا معارض؛ لما تقدّم سابقاً من أنّ الأصل لا یجری فی کلا الطرفین فی آنٍ واحد، وإنّما کل أصل له ظرفه، فی الزمان الأول لا یجری إلاّ أصل واحد لنفی التکلیف الفعلی، وفی الزمان المتأخّر أیضاً یجری اصل واحد فی خصوص التکلیف الاستقبالی، فإذن، فی زمانٍ واحد لا یوجد تعارض، فإذن، یجری الأصل فی الأطراف بلا معارض، ویشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی التعارض، أن تکون الأصول الجاریة فی الأطراف متعارضة حتّی یثبت القول بالمنجّزیة علی ما تقدّم؛ لأنّ المنجّزیة عندهم من آثار تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها. المحقق النائینی(قدّس سرّه) أیضاً وافق الشیخ الأنصاری (قدّس سرّه) علی ما ذکره، وذکر أنّ هذا هو مقتضی الصناعة العلمیة، أنّ مقتضی الصناعة العلمیة هو عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی محل الکلام. المحقق العراقی (قدّس سرّه) أیضاً ینبغی أن یعلل عدم المنجّزیة بأنّ العلم لیس صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر؛ لأنّه یری أنّ شرط منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وهذا العلم لیس صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، فیظهر منهم الاتفاق علی أنّ هذا العلم الإجمالی لا یؤثّر فی المنجّزیة، یعنی العلم الإجمالی بتکلیفٍ فعلی علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر لا یؤثّر فی المنجّزیة. غایة الأمر أنّ الشیخ الأنصاری وصاحب الکفایة(قدّس سرّهما) انتهوا إلی عدم المنجّزیة فی المقام، وأقصد فی المقام النحو الأوّل الذی نتکلّم فیه، یعنی ما إذا کان الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف ملاکاً وخطاباً، فلا الخطاب فعلی، ولا الملاک فعلی، کلٌ منهما متأخّر، الکلام فی هذا، الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) انتهی إلی عدم المنجّزیة، وصاحب الکفایة(قدّس سرّه) أیضاً ظاهره الانتهاء إلی عدم المنجّزیة فی هذا الفرض، لا یوجد ما ینجّز التکلیف؛ ولذا لازم عدم المنجّزیة فی المقام أنّه فی مثال الحائض الذی هو مثال لما نحن فیه، قالوا بأنّه یجوز للزوج والزوجة ترتیب آثار الطهر فی أوّل الشهر وفی آخره، تجری أصالة عدم الحیض فی أوّل الشهر، وتجری أصالة عدم الحیض فی آخر الشهر؛ لأنّها تشک فی أنّها حائض، أو لا فی کلٍ منهما. غایة الأمر أنّه بعد انقضاء الشهر یُعلم بمخالفة الواقع، ووقوع الحرام فی أیام الحیض، لو فرضنا أنّهما رتّبا آثار الطهر بأن وطئها فی أوّل الشهر وفی آخر الشهر، وبعد انتهاء الشهر یعلم بأنّه وطئها، هو خالف الواقع، وطئها فی أیام حیضها، وإن کان لا یعلم هو فی أوّل الشهر، أو فی آخر الشهر، بالنتیجة هو فعل الحرام، بعد انتهاء الشهر یعلم بانّه قد صدر منه الحرام، لکن قالوا العلم بالمخالفة فی الزمان الماضی لا یمنع من جریان الأصول فی ظرف احتمال التکلیف، ولو بعد ذلک یعلم بصدور المخالفة منه فی أحد الزمانین هو یعلم بذلک، ما دامت شرائط الأصل موجودة فی کلٍ من الظرفین الأصل یجری فی أوّل الشهر، وفی آخر الشهر، ولا دلیل علی حرمة العلم بحصول المخالفة فی زمانٍ ماضی. علی کل حالٍ انتهوا إلی هذه النتیجة: أنّه لا منجّز فی التدریجیات، فتجری الأصول المؤمّنة فی کلٍ من الطرفین.

ص: 218

لکن المحقق النائینی(قدّس سرّه) بالرغم من أنّه یشترک معهما فی أنّ هذا العلم الإجمالی لیس منجّزاً، لکنّه بالرغم من اعترافه بأنّ مقتضی الصناعة هو ذلک، هو التزم بعدم المنجّزیة فی المقام، لکنّه استدل علی المنجّزیة فی المقام لیس بالعلم الإجمالی المطروح المفروض فی محل الکلام؛ لأنّه یراه غیر منجّزٍ للتکلیف، لکنّه استدلّ علی المنجّزیة فی المقام وعدم جواز ترتیب آثار الطهر فی أوّل الشهر وآخره فی مثال الحیض، وهکذا فی سائر الأمثلة، استدل علی ذلک باستقلال العقل بقبح الإقدام علی ما یؤدّی إلی المخالفة، ولا إشکال فی أنّ الإقدام علی ارتکاب الشبهة فی أوّل الشهر وارتکاب الشبهة فی آخر الشهر، هذا یؤدّی إلی تفویت مراد المولی، وهذا قبیح، والعقل یحکم بقبحه، والعقل یمنع من إثبات الترخیص فی أوّل الشهر وفی آخره، لیس من باب أنّ العلم الإجمالی نجّز التکلیف فی المقام، وإنّما لأنّ العقل یحکم بقبح الإقدام علی ما یؤدّی إلی المخالفة وما یؤدّی إلی تفویت مراد المولی؛ حینئذٍ یمنع المکلّف من إجراء الترخیص ومن إثبات الترخیص فی کلٍ منهما، ویقول أنّ هذا نظیر المقدّمات المفوّتة، فهو لا یقصر عن المقدّمات المفوّته التی یستقل العقل فیها بوجوب حفظ القدرة علیها فی ظرف عدم تحقق الخطاب والملاک، المقدّمة المفوّتة لا خطاب فعلی ولا الملاک فعلی، الملاک سیکون فی المستقبل والخطاب سیکون فی المستقبل، لکن حیث أنّ ترک هذه المقدّمة الآن فی ظرف عدم فعلیة الخطاب والملاک یؤدّی إلی فوات الواجب فی وقته ویؤدّی إلی الوقوع فی المخالفة، وإلی تفویت مطلوب المولی ومراده، العقل یستقل بلزوم الإتیان بها. الملاک واحد فی کلٍ منهما، العقل یحکم بقبح فعل ما یؤدّی إلی المخالفة، وقبح تفویت مراد المولی، فی باب المقدّمة المفوّتة یکون ذلک بترک المقدّمة، إذا ترک المقدّمة سوف یقع فی القبیح العقلی، فی ما نحن فیه یقع فی القبیح العقلی إذا أثبت الترخیص فی کلا الوقتین فی کلا الطرفین، إذا أجری الأصل المؤمّن فی أوّل الشهر، والأصل المؤمّن فی آخر الشهر فی محل کلامنا فی المثال المطروح فی مثال الحیض هذا یؤدّی إلی المخالفة قطعاً ویوجب تفویت مراد ومطلوب المولی وهذا ممّا یستقل العقل بقبحه. ثمّ یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّ العقل یستقل بقبح الإقدام علی ما یوجب فوات مطلوب المولی مع العلم بأنّ له حکم إلزامی ذا مصلحةٍ تامّة، کما فی محل الکلام، نعلم بأنّ هناک حکماً واقعیاً تامّاً وله مصلحة تامّة، غایة الأمر أننا لا نعلم هل هی فی أوّل الشهر، أو آخر الشهر، فلابدّ بحکم العقل من ترک الاقتحام فی کل واحدٍ من أطراف الشبهة مقدّمة لحصول مراد المولی ومطلوبه، فیجب ترک الاقتحام فی الطرف الأوّل، وترک الاقتحام فی الطرف الثانی مقدّمة لتحصیل مراد المولی ومطلوبه، فمن هنا حکم بالمنجّزیة فی باب العلم الإجمالی فی التدریجیات من هذا الباب.

ص: 219

یظهر من المحقق العراقی (قدّس سرّه) ارتضاء هذا الکلام، هو یرضی بأصل هذا الدلیل الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وإن اعترض علیه بأنّه: مع وجود الحکم العقلی المذکور، کیف تقول بأنّ مقتضی الصناعة هو ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من جریان الأصل فی الطرفین، وإن اعترض علیه بذلک، لکنّه تقریباً ذهب إلی نفس ما ذهب إلیه المحقق النائینی(قدّس سرّه) من أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً اعتماداً علی استقلال العقل بقبح الإقدام علی المخالفة وتفویت مراد ومطلوب المولی، لکنّه قرّبه بشکلٍ صناعی وبحسب ما یُفهم من کلماته قرّبه بهذا الشکل، یقول: أنّ المنجّز للطرفین فی محل الکلام لیس هو العلم الإجمالی المطروح والمفروض الذی هو علم إجمالی بتکلیفٍ فعلی علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، وإنّما الذی ینجّز الطرفین هو علم إجمالی آخر، وهو فعلی علی کل تقدیر، هذا هو الذی ینجز الطرفین، فلابدّ أن نتصوّر علماً إجمالیاً علی کل تقدیر یکون هو المنجّز للطرفین، فنتخلّص من المشکلة، وذلک بأنّ العقل یستقل بقبح الإقدام علی ما یوجب فوات مطلوب المولی ویستقل بوجوب حفظ القدرة علی أداء مطلوبه قبل مجیء ظرفه، أی علی أداء مطلوب المولی قبل وقته، ومطلوب المولی فی المستقبل، فی الزمان المتأخّر، لکن العقل یقول أیّها العبد یجب علیک حفظ القدرة لامتثال مطلوب المولی فی ظرفه.

وبعبارةٍ أخری: یحرم علیک تفویت القدرة علی امتثال المطلوب، الواجب فی ظرفه، العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة، فعلاً یحکم بوجوب حفظ القدرة، ویحکم بحرمة تفویت القدرة وتضییعها. علی اساس هذا الحکم العقلی حلّوا مشکلة المقدّمات المفوّتة، أحد الحلول لمشکلة المقدّمات المفوّتة هو هذا، نقول تجب المقدّمة؛ لأنّه یجب علی المکلّف بحکم العقل حفظ قدرته علی امتثال التکلیف فی وقته، وإذا ترک المقدّمة المفوّتة سوف تذهب قدرته علی امتثال التکلیف فی وقته؛ لأنّ المقدّمة مفوّتة، یعنی إذا ترکها یفوته الواجب؛ ولذا تجب علیه المقدّمة المفوّتة من باب وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه، علی امتثال مطلوب المولی فی ظرفه وفی وقته، وهذا التکلیف، یعنی وجوب حفظ القدرة، یعنی حرمة تضییع القدرة، هذا التکلیف تکلیف فعلی، وبهذا یتشکّل علم إجمالی بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیرٍ، علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال الآن، فالتکلیف فعلی، إن کانت حائضاً الآن فالتکلیف فعلی، وعلی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال فی المستقبل وجوب حفظ القدرة علی امتثاله فعلی الأن، وجوب حفظ القدرة لیس استقبالیاً، التکلیف استقبالی، لکن وجوب حفظ القدرة علی امتثال ذلک التکلیف الاستقبالی هو فعلی، وبهذا یکون المکلّف عالماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر مردّد بین هذا التکلیف الآن، بین حرمة الدخول فی المساجد الآن وبین وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف الاستقبالی علی التقدیر الآخر، علی تقدیر نفس التکلیف یکون فعلیاً، علی التقدیر الآخر یکون تکلیفاً آخر وهو وجوب حفظ القدرة علی التکلیف الاستقبالی، وهذا علم إجمالی بجامع التکلیف الفعلی علی کل تقدیر، غایة الأمر هذا الجامع مردد بین أمرین، بین حرمة الدخول فی المساجد الآن، وبین وجوب حفظ القدرة، فهو یعلم بأحدهما، بجامع التکلیف الإلزامی المردد بین حرمة الدخول فی المساجد وبین حرمة تضییع القدرة علی امتثال التکلیف الاستقبالی علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، وبهذا یتشکّل علم إجمالی أطرافه فعلیة، علم إجمالی بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، ویکون هذا هو المنجّز؛ وحینئذٍ ننتهی إلی أنّه لابدّ من الاحتیاط فی موارد العلم الإجمالی فی التدریجیات، ولا یجوز إجراء الأصول فی أوّل الشهر وفی آخره کما قال الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، لکن استناداً إلی هذا العلم الإجمالی الثانی ولیس استناداً إلی العلم الإجمالی الأوّل، وهذا العلم الإجمالی الثانی موجود فی کل موارد العلم الإجمالی فی التدریجیات، أصلاً هذا العلم الإجمالی الثانی یتولّد من العلم الإجمالی الأوّل، فیکون هو المنجّز، وبذلک وصل کل من المحقق النائینی(قدّس سرّه)، والمحقق العراقی (قدّس سرّه) وهکذا السید الخوئی(قدّس سرّه) إلی المنجّزیة فی باب العلم الإجمالی فی التدریجیات، لکن اعتماداً علی ذلک.

ص: 220

هذا الکلام الذی أساسه المحقق النائینی(قدّس سرّه) والمحقق العراقی(قدّس سرّه)، والسید الخوئی(قدّس سرّه) أیضاً ذکره لوحظت علیه عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأولی: مسألة وجوب حفظ القدرة، واضح أنّ وجوب حفظ القدرة لا یمکن أن نقول أنّه وجوب شرعی، فهو لیس وجوباً شرعیاً، وإنّما هو وجوب عقلی، وجوب حفظ القدرة علی الإتیان بمراد المولی فی ظرفه وحرمة تفویت وتضییع القدرة هو وجوب عقلی یحکم به العقل ولیس وجویاً شرعیاً، العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة وحرمة تضییع القدرة علی امتثال التکلیف، صحیح، یحکم بذلک، لکن لا یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف إلاّ إذا فُرض أنّ ذاک التکلیف کان منجّزاً فی مرحلة سابقة، التکلیف المنجّز بنظر العقل یحکم علیه بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله؛ لأنّه تنجّز علی المکلّف، وإلاّ العقل لا یحکم بوجوب حفظ القدرة علی کل تکلیف، التکلیف المشکوک بالشک البدوی غیر المقرون بالعلم الإجمالی لا یحکم العقل بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله، وإنّما یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف عندما یکون ذاک التکلیف منجّزاً، فالتنجیز شرط أساسی فی حکم العقل بوجوب حفظ القدرة علی امتثال ذاک التکلیف، وفی محل الکلام التکلیف الاستقبالی علی أحد التقدیرین لا منجّز له سوی العلم الإجمالی المفروض فی محل الکلام، بمَّ یتنجّز هذا التکلیف الاستقبالی ؟ إذا رفعنا العلم الإجمالی یکون الشکّ بدویاً، ویکون احتماله احتمالاً بدویاً، لیس المنجّز سوی العلم الإجمالی فی محل الکلام، فإن فرضنا أنّ العلم الإجمالی هو الذی ینجّز التکلیف الاستقبالی؛ فحینئذٍ تنتهی المشکلة، ولا داعی لهذا الدوران، هذا یغنینا عن افتراض علمٍ إجمالیٍ ثانی یتولّد من العلم الإجمالی الأوّل، هو العلم الإجمالی الأوّل ینجّز کلا التکلیفین، نجّز التکلیف الفعلی ونجّز التکلیف الاستقبالی. وإن قلنا أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز التکلیف الاستقبالی کما تقدّم، فالعقل لا یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله؛ لأنّ العقل إنّما یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثال تکلیف عندما یکون ذاک التکلیف داخلاً فی المنجّزیة، عندما یکون منجّزاً بأیّ منجزٍ کان، عندما یکون منجّزاً یحکم العقل بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله، وإن لم یکن منجّزاً؛ فحینئذٍ لا یحکم العقل بوجوب حفظ القدرة اتجاه کل تکلیفٍ حتّی نستدل بذلک فی محل الکلام علی تشکیل علمٍ إجمالی ثانی یکون کلا طرفیه فعلیین.

ص: 221

الملاحظة الثانیة: فی محل الکلام، محل الکلام هو النحو الأوّل المتقدّم، وهو ما إذا کان الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً، وهذا معناه أنّ الملاک للتکلیف الاستقبالی لیس فعلیاً، فالتکلیف فعلاً لا فعلی ولا ملاکه أیضاً فعلی، هذا مرجعه فی الحقیقة إلی أنّ الدخیل فی ملاک ذاک التکلیف هی القدرة فی زمان التکلیف لا القدرة مطلقاً تکون دخیلة فی الملاک، وإنّما القدرة علی الفعل فی زمانه تکون دخیلة فی الملاک؛ ولذا القدرة علیه قبل زمانه لم تحرز لنا تحقق الملاک بحسب الفرض؛ لأنّ المفروض أنّ الملاک متأخّر، إذن: القدرة المطلقة لا تحرز لنا تحقق الملاک؛ لأنّه لیس منوطاً بالقدرة المطلقة، وإنّما الملاک لا یتحقق إلاّ عند تحقق القدرة علی الفعل فی ظرفه، إذا کان المکلّف قادراً علی الفعل یصبح الفعل ذا ملاک، أمّا القدرة علیه قبل زمانه، لا تجعل الفعل متصفاً بأنّه ذو ملاک، القدرة علی الفعل فی ظرفه هی التی تکون محققة لکونه ذا ملاکٍ، فی مثل ذلک من قال بأنّ العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة ؟ من قال بأنّ العقل یحکم حکماً فعلیاً الآن بوجوب حفظ القدرة علی امتثال تکلیفٍ لیس فعلیاً حتّی ملاکاً، علی امتثال تکلیفٍ فعلیٍ لا یتصف الواجب فیه المکلّف به بکونه ذا مصلحة إلاّ عند مجیء ظرفه ؟ إلاّ عند القدرة علیه فی زمانه، نفترض أنّ المکلّف الآن قادر علی ذاک الفعل، لکن لیس هذا هو الدخیل فی الملاک بحسب الفرض، لیس هذا دخیلاً فی اتّصاف الفعل فی کونه ذا ملاک، وإنّما الفعل یکون ذا ملاک عند تحقق القدرة علیه فی ظرفه، أمّا قبل ذلک فلا یتصف بکونه ذا ملاک، فإذا لم یکن له ملاک هذا فعلٌ الآن لا یوجد خطاب فیه، ولا هو متّصف بکونه ذا ملاک، العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله، یحکم بأنّه یحرم علی المکلّف تفویت قدرته علی امتثاله، هذا غیر واضح. من هذا الباب مسألة تعجیز الإنسان نفسه عن الوضوء قبل الزوال بإراقة الماء، بمجرّد أن یریق الماء هو لم یحفظ قدرته علی امتثال التکلیف فی زمانه، لکن یجوز له ذلک، ولا یجب علیه حفظ القدرة؛ لأنّ هذا التکلیف لیس فعلیاً خطاباً قبل الزوال، ولیس فعلیاً ملاکاً أیضاً؛ لأنّ الفعل وهو الوضوء إنّما یتصف بکونه ذا مصلحةٍ ملزمةٍ موجبةٍ لوجوبه بعد الزوال، بعد حلول الوقت، أمّا إذا قلنا قبل حلول الوقت لا یتصف بکونه ذا ملاکٍ، العقل لا یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله وحرمة تضییع القدرة علی امتثاله، المفروض فی ما نحن فیه هو ذلک بحسب الفرض أننا نتکلّم عن ما إذا کان الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً. نعم فی النحو الثانی الذی سیأتی الکلام فیه عندما یکون الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً فقط لا ملاکاً الذی معناه أنّ المعتبر فی الملاک هو مطلق القدرة ولیس القدرة الخاصّة، لیس القدرة فی ظرف التکلیف، وإنّما مطلق القدرة هی تکفی فی اتصاف الفعل بکونه ذا ملاک؛ حینئذٍ یمکن أن نقول أنّ العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثال تکلیف فی ظرفه ملاکه تام الآن، والفعل متصف بکونه ذا ملاکٍ ملزمٍ یمکن أن یحکم العقل بوجوب حفظ القدرة علی امتثال هذا التکلیف، وأمّا فی محل کلامنا، فهذا غیر ثابت.

ص: 222

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

ذکرنا فی الدرس السابق أنّ بعض من لم یقبل منجّزیة العلم الإجمالی المطروح فی محل الکلام فی التدریجیات باعتبار أنّه علم بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر؛ ولذا لا یکون منجّزاً، حاول أنّ یثبت المنجّزیة بتشکیل علمٍ إجمالیٍ آخرٍ کلا طرفیه فعلی، فیکون علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیرٍ، وبذلک یکون منجّزاً، وهذا العلم الإجمالی هو عبارة عن العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی علی تقدیر الفعل الحالی، والطرف الآخر له هو وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی وقته علی التقدیر الآخر، هذه المرأة إن کانت حائضاً فعلاً، فالتکلیف فعلی، وإن کانت حائضاً فی المستقبل، فیجب علیها حفظ القدرة لامتثال هذا التکلیف فی ظرفه. إذن: هی تعلم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیرٍ دائراً بین هذا الفعل، بین حرمة الدخول فی المساجد، حرمة المقاربة فعلاً وبین وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف الذی سیکون فعلیاً فی المستقبل، ووجوب حفظ القدرة فعلی ولیس استقبالیاً، فبالتالی یکون کلا الطرفین فعلیاً، فهی تعلم بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر مردد بین هذا التکلیف الفعلی وبین وجوب حفظ القدرة الفعلی أیضاً، وهذا یکون منجّزاً حینئذٍ ویترتّب علیه نفس ما یترتب علی العلم الإجمالی المطروح فی محل الکلام علی تقدیر کونه منجّزاً. قلنا أنّ هذا علیه ملاحظات، ذکرنا الملاحظة الأولی، والثانیة، انتهی الکلام إلی الملاحظة الثالثة.

الملاحظة الثالثة: غایة ما یثبت بهذا العلم الإجمالی الذی شُکّل علی هذا الأساس هو أنّه ینجّز کلا طرفیه، ومعنی ذلک أنّه ینجّز وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه، ینجّز حرمة تفویت القدرة علی امتثال التکلیف فی وقته، هذا یتنجّز بهذا العلم الإجمالی، باعتبار أنّ وجوب حفظ القدرة وقع طرفاً للعلم الإجمالی الذی شُکّل فی المقام، فالعلم الإجمالی ینجّز وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه. هذا غایة ما یثبت بذلک. وأمّا تفویت الواجب فی وقته عصیاناً بعد فرض حفظ القدرة علی امتثاله، هو حفظ القدرة علی امتثاله، لکن ترکه عصیاناً فی ظرفه، هذا العلم الإجمالی لا یمنع منه؛ لأنّه لیس طرفاً للعلم الإجمالی، تفویت الواجب فی ظرفه لیس طرفاً للعلم الإجمالی؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز التکلیف الفعلی والتکلیف الاستقبالی، وإنّما ینجّز التکلیف الفعلی هو وجوب حفظ القدرة، فإذا حفظ القدرة علی امتثال التکلیف الاستقبالی یکون قد جاء بما تنجّز علیه، لکن عندما یجیء ظرف التکلیف الاستقبالی تفویت هذا التکلیف، ولو عصیاناً لا یمنع منه العلم الإجمالی الذی أقتُرح، العلم الإجمالی ینجّز طرفیه، یمنع من تفویت القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه ویمنع من الدخول فی المسجد فعلاً وهو قد حافظ علی القدرة ___________ بحسب الفرض ____________ وامتثل هذا الطرف الثانی، لکنّه ترک التکلیف فی وقته، ترک الفعل فی المستقبل، فی ظرف فعلیة التکلیف، ما الذی یمنعه من هذا الترک ؟ ما الذی یمنعه من تفویت الواجب فی ظرفه ؟ هذا العلم الإجمالی لا یمنعه؛ لأنّ التکلیف فی ظرفه لیس طرفاً لهذا العلم الإجمالی ___________ بحسب الفرض ____________ فهذا التکلیف لا یمنعه، ولیس هناک شیء یمنعه سوی العلم الإجمالی الأوّل الذی قلنا سابقاً أنّه ینجّز کلا الطرفین ولو کان أحد الطرفین لیس فعلیاً.

ص: 223

یمکن أن یقال: أنّ وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه إذا ثبت وتنجّز بهذا العلم المقترح، فالظاهر أنّه یستلزم حرمة تفویت الواجب فی ظرفه، باعتبار أنّ ملاک وجوب حفظ القدرة لیس إلاّ هو التمکن من الإتیان بالواجب فی ظرفه، فلا یُعقل أن یُسمح للمکلّف بتفویت الواجب فی ظرفه مع إیجاب حفظ القدرة علی امتثاله فی ظرفه، لا یُعقل هذا، أنّ الشارع یوجب علی المکلّف أن یحفظ قدرته علی امتثال التکلیف فی ظرفه، لکن عندما یأتی ظرفه یسمح له بمخالفة نفس التکلیف، أو یسمح له بتفویت نفس الواجب الذی أمره سابقاً بأن یحفظ قدرته علی امتثاله، هذا غیر معقول.

بعبارة أخری: أنّ الظاهر أنّ هناک ملازمة بین وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه وبین عدم السماح، والمنع من تفویت الواجب فی ظرفه، یُفهم هذا باعتبار الملازمة بینهما، فنستطیع أنّ نقول بأنّ العلم الإجمالی هو بنفسه إذا نجّز وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه؛ حینئذٍ هو ینجّز المنع من تفویت الواجب فی ظرفه، یعنی ینجّز نفس الواجب علی المکلّف؛ ولذا طُرح هذا العلم الإجمالی کبدلٍ عن العلم الإجمالی المفروض فی محل الکلام لتنجیز کلا الطرفین، أصل اقتراح هذا العلم الإجمالی حتّی ینجّز التکلیف الفعلی، ویکون منجّزاً للتکلیف الاستقبالی، لکن حیث أنّ التکلیف الاستقبالی تکلیفاً لیس فعلیاً والعلم الإجمالی إنّما ینجّز التکلیف إذا کان فعلیاً علی کل تقدیر، وهذا التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، اقتُرحت هذه الصیغة لسدّ هذا الفراغ، فقیل بأنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر إذا لاحظنا أنّ الطرف الآخر هو وجوب حفظ القدرة، لکن هذا الذی یقول بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه یری أنّ المکلّف ممنوع من تفویت الواجب فی ظرفه، وما ذلک إلاّ لما قلناه من أنّ هناک ملازمة عقلیة بین وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه وبین المنع من تفویت الواجب فی ظرفه، وإلاّ لماذا أمره بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه ؟ مع السماح له بتفویت الواجب فی ظرفه؛ حینئذٍ غیر معقول أنّ یأمره بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه.

ص: 224

علی کل حال: یبدو أنّ الصحیح هو ما تقدّم من أنّ العلم الإجمالی فی النحو الأوّل المطروح فی البحث فعلاً، وهو ما إذا کان التکلیف خطاباً وملاکاً لیس فعلیاً الآن، بأن یکون الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً. الصحیح فی هذا النحو هو أنّ العلم الإجمالی ینجّز التکلیف کما هو فی العلم الإجمالی العادی عندما تکون أطرافه لیس تدریجیة، لا فرق بین العلم الإجمالی العادی الذی تکون أطرافه لیست تدریجیة، وبین العلم الإجمالی فی التدریجیات، کلٌ منهما یکون منجّزاً من دون أیّ فرقٍ بینهما.

ومنه یظهر الحال فی النحو الثانی، وهو ما إذا فرضنا أنّ الزمان المتأخّر دخیل فی التکلیف خطاباً لا ملاکاً، بأن نفترض أنّ التکلیف ثابت وفعلی الآن قبل الزمان المتأخّر، لکنّ الزمان المتأخّر دخیل فی الخطاب فی التکلیف الفعلی، فعلاً التکلیف لیس فعلیاً؛ لأنّ الزمان المتأخّر دخیل فیه، لکنّ الملاک ثابت الآن وفعلی والزمان المتأخّر لیس دخیلاً فیه، ممّا ذُکر فی النحو الأوّل یتبین الحال فی هذا النحو حیث تثبت المنجّزیة للعلم الإجمالی من بابٍ أولی؛ لأننا فرغنا عن المنجّزیة للعلم الإجمالی حیث یکون التکلیف خطاباً وملاکاً متأخّراً زماناً، التکلیف عندما یکون خطاباً وملاکاً متأخّراً زماناً قلنا بأنّ العلم الإجمالی ینجّز هذا التکلیف، فما ظنّک عندما یکون المتأخّر هو الخطاب فقط مع فعلیة الملاک، فیثبت التنجیز فیه من بابٍ أولی، ومثاله ما إذا نذر صوم یومٍ معیّن وتردد بین أوّل الشهر وبین وسط الشهر، قالوا أنّ التکلیف وجوب الوفاء بالنذر یکون ملاکه تاماً من البدایة، حتّی علی تقدیر أن یکون المنذور هو وسط الشهر، لکنّه من حین النذر یتم فیه الملاک، ملاکه یکون تامّاً. نعم، الخطاب، التکلیف بوجوب الصوم وفاءً للنذر لا یکون فعلیاً، فرضاً لاستحالة الواجب المعلّق، وإنّما یکون استقبالیاً، فالخطاب یکون متأخّراً، لکن الملاک یکون فعلیاً. هذا تثبت فیه المنجّزیة کما قلنا من بابٍ أولی.

ص: 225

وأمّا بناءً علی عدم المنجّزیة فی النحو الأوّل، لو قلنا بأنّ العلم الإجمالی فی النحو الأوّل لا ینجّز التکلیف؛ حینئذٍ یقع الکلام فی أنّ العلم الإجمالی فی النحو الثانی هل یکون منجّزاً بنکتة فعلیة الملاک، بنکتة أنّ الملاک فی النحو الثانی فعلی، وهذا ما لم نکن نفرضه فی النحو الأوّل، حیث لم نفرض فی النحو الأوّل أنّ الملاک فعلی، کلا الملاک لیس فعلیاً، والخطاب أیضاً لیس فعلیاً. الآن نضیف فی النحو الثانی عنصراً لیس موجوداً فی النحو الأوّل وهو أنّ الملاک فعلی، هذا هل یؤثّر فی منجّزیة العلم الإجمالی إذا لم نقل بالمنجّزیة فی النحو الأوّل، أو لا یؤثّر فی المنجّزیة ؟ فیقع البحث بهذا الشکل.

نُسب إلی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) القول بالمنجّزیة فی النحو الثانی؛ ولذا نُسب إلیه أنّه أختار التفصیل بین النحوین، الأوّل والثانی، وأنّه قال بالمنجّزیة فی النحو الثانی دون النحو الأوّل، ففصّل بینهما. هذا التفصیل لا یُفهم صراحةً من عبارة الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الرسائل، وإنّما قد یُفهم من ظاهر کلامه؛ لأنّه ذکر فی البدایة مثال المرأة الحائض کمثالٍ للعلم الإجمالی فی التدریجیات، ومنع من فعلیة الخطاب قبل الابتلاء بالحیض، قال أنّ الخطاب لا یکون فعلیاً قبل الابتلاء بالحیض، فالخطاب لیس فعلیاً، ثمّ قال:(ویشکل الفرق بین هذا وبین ما إذا نذر، أو حلف فی ترک الوطء فی لیلةٍ خاصّة، ثمّ اشتبهت بین لیلیتین، أو أزید). (1) کأنّه بنا علی عدم المنجّزیة فی مثال الحائض، ثمّ قال یشکل الفرق بینه وبین مثال النذر، ثمّ قال:(لکنّ الأظهر هنا __________ یعنی فی مثال النذر ___________ وجوب الاحتیاط، وکذا فی المثال الثانی من المثالین المتقدّمین). وجوب الاحتیاط یعنی منجّزیة العلم الإجمالی، فکأنّه فرّق بین مثال النذر ومثال التاجر من جهة، وبین مثال المرأة الحائض، استظهر فی الثانی وجوب الاحتیاط. من هنا فُهم التفصیل، أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) لا یقول بالمنجّزیة مطلقاً، ولا یقول بعدم المنجّزیة مطلقاً، وإنّما له تفصیل، والتفصیل بین مثال الحائض وبین مثال النذر، ما هو الفرق بینهما ؟ الظاهر أنّ الفرق بینهما هو أنّه فی مثال الحائض کما أنّ التکلیف لیس فعلیاً الملاک أیضاً لیس فعلیاً، وهذا هو النحو الأوّل، بینما فی مثال النذر ومثال التاجر التکلیف لیس فعلیاً؛ لأنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) یری استحالة الواجب المعلّق، لکنّ الملاک یکون فعلیاً، اتّصاف المعاملة بأنّها ربویة وفیها مفسدة تقتضی التحریم، هذا لا یتوقف علی حلول زمان المعاملة الربویة؛ لأنّ المعاملة الربویة تتصف بأنّها فیها مفسدة تقتضی التحریم من البدایة، فالملاک موجود فی المعاملة الربویة قبل حلول وقتها، کما أنّ ملاک وجوب الوفاء بالنذر موجود من حین النذر قبل حلول وقت المنذور، فالفرق بینهما هو أنّ الملاک فی مثال الحائض لیس فعلیاً کما هو الخطاب، بینما الملاک فی مثال النذر فعلی، فعندما یقول الأظهر وجوب الاحتیاط فی مثال النذر، بینما لم یقل فی مثال الحائض الأظهر وجوب الاحتیاط، هذا معناه أنّه یُفصّل بینهما، یعنی یُفصّل بین النحو الأوّل کما قلنا وبین النحو الثانی.

ص: 226


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج2، ص249.

أمّا احتمال أنّه یُفصّل بینهما علی اساس فعلیة الخطاب فی مثال النذر وعدم فعلیته فی مثال المرأة الحائض، هذا بعید؛ لأنّه هو یری استحالة الواجب المعلّق، هذا معناه أنّ التکلیف فی کلٍ منهما لیس فعلیاً، التکلیف لیس فعلیاً فی مثال الحائض، ولیس فعلیاً فی مثال النذر؛ لأنّه یری استحالة الواجب المعلّق.

إذن: المائز بینهما هو فعلیة الملاک فی الثانی وعدم فعلیته فی مثال الحائض؛ ولذا فی مثال الحائض قال بعدم المنجّزیة، وفی مثال النذر استظهر وجوب الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة.

الوجه فی المنجّزیة بنکتة فعلیة الملاک؛ لأننا قلنا أنّ هذا الکلام إنّما یجری عندما نفترض القول بعدم المنجّزیة فی النحو الأوّل، فیقع الکلام فی النحو الثانی لأنّه تمیّز عن النحو الأوّل بفعلیة الملاک، هذه نکتة فعلیة الملاک کیف تقتضی تنجیز العلم الإجمالی ؟ استُدلّ علی هذا بدعوی أنّ العقل یستقلّ بقبح الإقدام علی ما یؤدّی إلی تفویت الملاک والغرض المُلزِم، عندما یکون الملاک مُلزِماً والغرض مُلزِماً العقل یستقل بقبح تفویته، من جهة العقل لا فرق فی القبح بین مخالفة التکلیف الفعلی وبین مخالفة الملاک الفعلی المُلزِم، الملاک المُلزِم بنظر المولی، تفویته وحکم العقل بقبح تفویته کما هو الحال فی التکلیف الفعلی، تفویت التکلیف الفعلی قبیح بنظر العقل، تفویت الملاک الفعلی أیضاً قبیح بنظر العقل، العقل یری أنّ الترخیص فی تفویت الملاک والغرض المُلزِم للمولی کالترخیص فی مخالفة التکلیف الفعلی للمولی، کلٌ منهما قبیح وکلٌ منهما غیر جائز باعتبار أنّ عدم التکلیف لیس لعدم المقتضی، فی مثال النذر لماذا لا یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیر أن یکون المنذور فی المستقبل ؟ لیس لعدم المقتضی، وإنّما لوجود المانع، لاستحالة الواجب المعلّق، هذا هو الذی منع من فعلیة التکلیف، وإلاّ التکلیف تام الاقتضاء، المقتضی تام، وملاکه تام، وإنّما منع منه شبهة استحالة الواجب المعلّق، فإذن، عدم التکلیف إنّما هو لوجود المانع ولیس من جهة عدم المقتضی. إذن: المقتضی للتکلیف تام، وإنّما منع منه المانع، عدم التکلیف هذا لوجود المانع مع تمامیة المقتضی لا یفرّق العقل بینه وبین التکلیف الفعلی فی أنّ مخالفة کلٍ منهما قبیحة والترخیص فی مخالفة کلٍ منهما بنظر العقل أیضاً یکون قبیحاً. هذا هو الوجه فی المنجّزیة فی النحو الثانی إذا لم نقل بالمنجّزیة فی النحو الأوّل.

ص: 227

ثمّ أنّه علی تقدیر القول بعدم منجّزیة العلم الإجمالی للتکلیف فی باب التدریجیات، یقع الکلام فی أنّه هل یثبت بذلک عدم وجوب الموافقة القطعیة فقط ؟ أی لا یجب علی المکلّف أن یأتی بکلا الطرفین إذا کانت شبهة وجوبیة تدریجیة، ولا یجب علیه ترک کلا الطرفین إذا کانت الشبهة تحریمیة تدریجیة، هل الذی یثبت بذلک هو فقط عدم وجوب الموافقة القطعیة، أو یثبت مضافاً إلی ذلک جواز المخالفة القطعیة ؟ علم إجمالی غیر منجّز، فکما لا تجب موافقته القطعیة، کذلک لا تحرم مخالفته القطعیة، فیجوز للمرأة الحائض الدخول فی المسجد فی کلا الیومین، ویجوز لزوجها المقاربة فی کلا الیومین. وفی مثال التاجر یجوز له ارتکاب کل المعاملات خلال یومه مع علمه بأنّ فیها معاملة ربویة؛ لأنّ العلم الإجمالی غیر منجّز، فکما لا تجب الموافقة القطعیة کذلک لا تحرم المخالفة القطعیة. ما یترتب علی عدم التنجیز هل هو فقط عدم وجوب الموافقة القطعیة، أو یترتب علیه مضافاً إلی ذلک عدم حرمة المخالفة القطعیة ؟

الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) التزم بالثانی، یعنی التزم بعدم حرمة المخالفة القطعیة، أی لا تجب الموافقة القطعیة؛ بل تجوز المخالفة القطعیة، وعللّ ذلک بأنّ المفروض عدم تنجّز التکلیف الواقعی بالنسبة إلیه؛ فحینئذٍ إذا لم یتنجّز التکلیف الواقعی بالنسبة إلیه، فکما لا تجب موافقته القطعیة، کذلک لا تحرم مخالفته القطعیة. بعبارة أخری: یکون حال التکلیف فی المقام حال الشبهات البدویة، ففی الشبهات البدویة کما لا تجب موافقتها القطعیة لا تحرم مخالفتها القطعیة، مجرّد شبهةٍ تجری فیها الأصول المؤمّنة، فلا تحرم المخالفة القطعیة کما لا تجب الموافقة القطعیة؛ لأنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً للتکلیف، هذا التکلیف الواقعی عندما لا یتنجّز علی المکلّف؛ حینئذٍ لا یکون المکلّف مسئولاً تجاهه، لا بوجوب موافقته القطعیة ولا بحرمة مخالفته القطعیة. عللّ بهذا التعلیل.

ص: 228

المحقق النائینی(قدّس سرّه) عللّه بعدم تعارض الأصول، قال بأنّه کما لا تجب الموافقة القطعیة إذا لم نقل بالمنجّزیة، لا تحرم المخالفة القطعیة؛ لعدم تعارض الأصول فی المقام علی مبناه هو الذی هو مسلک الاقتضاء؛ وعدم تعارض الأصول لأنّه لا یلزم من جریانها الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المنجّز؛ لأننا فرضنا أنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً؛ فحینئذٍ لا تتعارض الأصول، فیمکن إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الأوّل وإجراء الأصل فی الطرف الثانی ممّا یؤدی إلی المخالفة القطعیة، وهذا لا مشکلة فیه؛ لأنّ الأصول لا تتعارض. (1)

هذا التعلیل بعدم تعارض الأصول یصح بالنسبة إلی عدم وجوب الموافقة القطعیة ___________ علی رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه) ____________ لأنّه یری أنّ وجوب الموافقة القطعیة من آثار تعارض الأصول، إنّما یجب الاحتیاط لیس لأنّ العلم الإجمالی علّة لوجوب الاحتیاط، وإنّما وجوب الموافقة القطعیة من آثار تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها، فتبقی الأطراف بلا مؤمّن، فیجب فیها الاحتیاط، فإذا کان وجوب الموافقة القطعیة من آثار تعارض الأصول یمکننا أن نعللّ عدم وجوب الموافقة القطعیة بعدم تعارض الأصول، فنقول أنّ الأصول فی المقام غیر متعارضة، فتکون علّة لعدم وجوب الموافقة القطعیة. هذا صحیح.

وأمّا حرمة المخالفة القطعیة، فهی علی رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه) لیست من آثار تعارض الأصول، وإنّما هی من لوازم العلم الإجمالی؛ ولذا هو یری کغیره أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، وإنّما الاختلاف بین مسلک الاقتضاء وبین مسلک العلّیة التامّة، إنّما هو بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، هو یری أنّ وجوب الموافقة القطعیة من نتائج تعارض الأصول وغیره یری أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه علّة تامّة لها، وأمّا حرمة المخالفة القطعیة، فالظاهر أنّه هو أیضاً یقول بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لها، أی لحرمة المخالفة القطعیة؛ فحینئذٍ تعلیل عدم حرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام بعدم تعارض الأصول لیس فنّیاً؛ لأنّ حرمة المخالفة القطعیة لیست من آثار تعارض الأصول حتّی نعللّ عدم الحرمة فی المقام بعدم التعارض، وإنّما ینحصر التعلیل بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، العلم الإجمالی حینئذٍ لیس منجّزاً، فإذا لم یکن منجّزاً لا تحرم المخالفة القطعیة.

ص: 229


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج2، ص273.

هذا تمام الکلام فی هذا التنبیه وهوالعلم الإجمالی فی التدریجیات، بعد ذلک ننتقل إلی بحثٍ آخر، وهو البحث عن الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف

الکلام فی الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی، وأنّه هل یسقطالعلم الإجمالی عن التنجیز، أو لا ؟

لو اضطر المکلّف إلی ترک أحد الطرفین فی الشبهة الوجوبیة، أو اضطر إلی فعل أحد الطرفین فی الشبهة التحریمیة، هذا هل یؤثّر فی العلم الإجمالی ویسقطه عن المنجّزیة، أو لا ؟ والثمرة تظهر فی الطرف الآخر إذا سقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة؛ فحینئذٍ لا یجب الإتیان بالفرد الآخر فی الشبهة الوجوبیة، ولا یجب ترک الفرد الآخر فی الشبهة التحریمیة، وإلاّ لا إشکال فی ارتفاع التکلیف عن الطرف الذی اضطر إلیه بسبب الاضطرار. فإن قلنا ببقاء العلم الإجمالی علی المنجّزیة؛ حینئذٍ یجب الاحتیاط فی الطرف الآخر، وإنّ قلنا بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، فلا یجب الاحتیاط فی الطرف الآخر.

التقسیم المتعارف فی هذه المسألة: هو تقسیم الاضطرار إلی قسمین؛ لأنّ الاضطرار تارةً یکون إلی طرفٍ معیّنٍ، وأخری یکون الاضطرار إلی طرفٍ غیر معیّنٍ، أی اضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه؛ ولذا ینعقد الکلام فی مقامین أساسیین، وکلامنا فعلاً فی:

المقام الأوّل: وهو ما إذا کان الاضطرار إلی طرفٍ معیّنٍ، من قبیل ما إذا علم بسقوط نجاسةٍ، إمّا فی هذا الماء الموجود فی هذا الإناء، أو فی الثوب، واضطر إلی شرب الماء لعطشٍ ونحوه، هذا اضطرار إلی أحد الطرفین بعینه؛ لأنّ الطرف الآخر لا یرفع اضطراره، وإنّما هذا هو الذی یرفع اضطراره. هنا ذکروا بأنّ هذا النحو من الاضطرار له ثلاثة صوّر، وتکلّموا عن هذه الصوّر:

ص: 230

الصورة الأولی: افتراض أنّ الاضطرار یکون حادثاً قبل التکلیف وقبل العلم به، هو مضطر إلی شرب هذا الماء لعطشٍ ونحوه، ثمّ بعد ذلک سقطت قطرة دم فی أحد الأمرین، إمّا هذا الماء الذی اضطر إلیه سابقاً، أو هذا الثوب ___________ مثلاً ___________ وعلم بنجاسة أحدهما، إمّا الماء، أو الثوب، فیکون الاضطرار سابقاً ومتقدّماً علی التکلیف وعلی العلم به إجمالاً. ونفس الکلام یقال فی ما إذا اقترن الاضطرار بالعلم بالتکلیف، یعنی هذان النحوان یُتکلّم عنهما فی هذه الصورة، لا فرق بین أن یکون الاضطرار متقدّماً، أو یکون الاضطرار مقارناً للعلم، المهم هو أنّه عندما یعلم بالتکلیف هناک اضطرار إلی طرفٍ بعینه، سواء کان هذا الاضطرار سابقاً، أو کان مقارناً للعلم بالتکلیف، کلٌ منهما من وادٍ واحدٍ.

فی هذه الصورة ذکروا بأنّه لا إشکال ولا ینبغی أن یقع الخلاف فی عدم منجّزیة العلم الإجمالی، وذلک لعدم العلم بالتکلیف ولو إجمالاً، باعتبار أنّ أحد الطرفین، وهو الماء لا یحرم شربه حتّی علی تقدیر سقوط النجاسة فیه؛ لأنّه مضطر إلیه، والمفروض أنّ الاضطرار ثابتٌ قبل سقوط النجاسة، أو مقارن للعلم الإجمالی بها، حتّی علی تقدیر سقوط النجاسة فی الماء، هذا لا یوجب حدوث تکلیفٍ بالنسبة إلی هذا المکلّف، باعتبار الاضطرار. نعم، علی تقدیر سقوط النجاسة فی الطرف الآخر، یعنی فی الثوب، سوف یکون موجباً لحدوث تکلیفٍ بالنسبة إلیه، لکن علی تقدیر سقوط النجاسة فی الماء الذی هو مضطر إلی شربه فعلاً، واضح أنّ سقوط النجاسة فی هذا الماء لا یحدث له تکلیفاً، فإذا فرضنا أنّه علی أحد التقدیرین سقوط النجاسة یُحدث تکلیفاً، وعلی التقدیر الآخر سقوط النجاسة لا یُحدث تکلیفاً. إذن: لا علم بالتکلیف علی کلا التقدیرین، وإنّما یکون عالماً بالتکلیف علی أحد التقدیرین، وهذا التقدیر مشکوک، فلا علم بالتکلیف، وإنّما یکون هناک شکّ فی التکلیف، ویُنفی بأصالة البراءة وتجری فیه الأصول المؤمّنة. هذا هو الوجه فی عدم منجّزیة العلم الإجمالی. وفی الحقیقة کأنّه یُراد أن یقال: لا علم إجمالی بالتکلیف فی المقام، لیس هناک علم بالتکلیف، وإنّما یکون هناک علم بالتکلیف عندما یکون التکلیف ثابتاً علی کلا التقدیرین، علی تقدیر أن تکون النجاسة فی هذا الإناء، یوجد تکلیف، وعلی تقدیر أن تکون فی ذاک الإناء یوجد تکلیف. إذن: المکلّف عالم بالتکلیف علی کل حال، لکن عندما لا یکون سقوط النجاسة فی أحد الطرفین موجباً لحدوث تکلیفٍ؛ لأنّه _____________ بحسب الفرض ___________ حین سقوط النجاسة هو مضطر إلی شرب ذلک الماء، هذا لا یحدث فیه تکلیفاً حتّی علی تقدیر سقوط النجاسة فیه، وإنّما یحدث تکلیفاً علی تقدیر سقوط النجاسة فی الطرف الآخر. إذن: لا علم بالتکلیف، هناک شکّ فی التکلیف، فتجری فیه الأصول المؤمّنة، وبهذا یکون الحکم فی هذه الصورة واضحاً ولا إشکال فیه؛ وحینئذٍ ینبغی الالتزام بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، فیجوز الرجوع إلی الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، یعنی فی الثوب فی المثال السابق.

ص: 231

واضح من هذا الکلام أنّ النکتة فی عدم المنجّزیة فی المقام هی عبارة عن عدم حدوث تکلیفٍ فی الطرف المضطر إلیه حتّی مع افتراض سقوط النجاسة فیه، هذه هی النکتة، أنّه لا یحدث تکلیف فی الطرف المضطرّ إلیه حتّی علی تقدیر سقوط النجاسة فیه، وعدم حدوث تکلیفٍ فی هذا الطرف حتّی لو سقطت النجاسة فیه هو الذی یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ إذ لا علم حینئذٍ بالتکلیف علی کل حال، وإنّما یکون التکلیف مشکوکاً، فتجری الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، فالنکتة هی أنّه علی تقدیر سقوط النجاسة فی هذا الطرف المعیّن المضطر إلیه لا یحدث تکلیفاً للمکلّف، فیکون التکلیف حینئذٍ مشکوکاً. هذه النکتة تکون موجودة ومتحققة فی ما إذا فرضنا استمرار الاضطرار وبقاءه وامتداد أمده مع أمد التکلیف، أو أزید منه؛ حینئذٍ تکون هذه النکتة محفوظة، الاضطرار ممتد بامتداد التکلیف؛ بل لعلّه یستمر حتّی بعد انتهاء مدّة التکلیف، فی هذه الحالة یقال: أنّ سقوط قطرة الدم فی هذا الإناء المعیّن فی الماء فی المثال لا یحدث تکلیفاً؛ لأنّ المفروض استمرار الاضطرار إلی ما بعد التکلیف، أو أنّه یستمر باستمرار التکلیف، دائماً الاضطرار موجود، فی هذه الحالة سقوط قطرة الدم فی الماء لا یُحدث تکلیفاً؛ لمکان الاضطرار.

وأمّا إذا فرضنا عدم استمرار الاضطرار والعلم بارتفاعه وانتهاء أمده قبل انتهاء أمد التکلیف، الاضطرار له وقت مخصوص، هو مضطر إلی ارتکاب هذا الطرف، لکن فی وقتٍ مخصوصٍ، بعد ذلک یرتفع اضطراره، لکنّ أمد التکلیف ووقته مستمر وباقٍ حتّی بعد ارتفاع الاضطرار، کما إذا فرضنا فی المثال السابق أنّه اضطر إلی شرب الماء فی وقتٍ محدودٍ، کما لو کان فی صحراءٍ فاضطر إلی شرب الماء، وکان الماء الذی وقع طرفاً للعلم الإجمالی کثیراً، واضطر إلی شربه فی وقتٍ محدودٍ ویرتفع الاضطرار بعد هذا الوقت المحدود، لکنّ التکلیف یبقی مستمراً وثابتاً علی تقدیر أن تکون النجاسة واقعة فی هذا الماء، ماء موجود، علی تقدیر سقوط النجاسة فیه یرتفع هذا التکلیف ما دام الاضطرار موجوداً، أمّا بعد ارتفاع الاضطرار فالتکلیف ثابت فی ذلک الماء، فیحرم شربه علی تقدیر سقوط النجاسة فیه، فی هذه الحالة لماذا نقول بأنّ سقوط النجاسة فی هذا الطرف لا یُحدث تکلیفاً حتّی یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز ؟ بل یحدث تکلیفاً، غایة الأمر أنّ هذا التکلیف الذی یحدث بسبب سقوط النجاسة فی الماء هو تکلیف معلّق علی زوال الاضطرار، یحرم علیک شرب هذا الماء إذا زال عنک الاضطرار؛ إذ لا مانع من افتراض تکلیفٍ من هذا القبیل، لا مانع ثبوتاً ولا إثباتاً من افتراض تکلیفٍ معلّق ٍ علی زوال الاضطرار، فإذا فرضنا أنّ سقوط النجاسة فی الماء یُحدث تکلیفاً من هذا القبیل، یُحدث تکلیفاً معلّقاً علی زوال الاضطرار؛ إذ لا محذور فی افتراض تکلیفٍ من هذا القبیل؛ حینئذٍ یبقی العلم الإجمالی علی منجّزیته؛ لأنّ المکلّف حینئذٍ یعلم بتکلیفٍ علی کل تقدیر، غایة الأمر أنّ أحد التکلیفین یبدأ من الآن علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الثوب، من الآن یحرم علیک استعماله، بینما علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الماء، فهو یُحدث تکلیفاً، لکن لا یبدأ من الآن، وإنّما یبدأ من حین زوال الاضطرار، هذا تکلیف لا مانع من کونه منجّزاً بالعلم الإجمالی، وحیث أنّ الطرف الآخر هو الطرف الثانی للعلم الإجمالی، فالعلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین، فهو ینجّز التکلیف فی الماء بعد زوال الاضطرار، وینجّز التکلیف فی الثوب من الآن، وهذا معناه أنّه لا یجوز الرجوع إلی الأصول المؤمّنة فی الثوب، وهذا یعنی أنّ العلم الإجمالی منجّز، وأنّ الغرض من التنجیز یظهر فی الطرف الآخر، فی الطرف الآخر لا یجوز الرجوع إلی الأصول المؤمّنة؛ لأنّ الطرف الآخر وقع کعلمٍ إجمالیٍ بالتکلیف علی کل تقدیر، غایة الأمر أنّ التکلیف علی أحد التقدیرین لا یبدأ من الآن، وإنّما یبدأ فی ما بعد، ولا مانع من افتراض تکلیفٍ من هذا القبیل معلّق علی زوال الاضطرار، (مثال): إذا فرضنا أنّ المکلّف اضطر إلی استعمال إناءٍ معیّنٍ، ثمّ علم بعد ذلک أنّه: إمّا هذا الإناء المعیّن الذی اضطر إلی استعماله مغصوب، أو إناء آخر مغصوب، هذا یکون ممّا نحن فیه، الاضطرار متقدّم علی العلم الإجمالی وعلی التکلیف، ونفترض أنّ الغصبیة حدثت بعد ذلک وعلم بها إجمالاً بعد الاضطرار، مع افتراض أنّ اضطراره إلی استعمال هذا الإناء المعیّن هو فی هذا الیوم، أمّا فی یوم غدٍ هو غیر مضطر إلی استعمال هذا الإناء، اضطراره مؤقت بوقتٍ معیّن وهو هذا الیوم، فی هذه الحالة العلم الإجمالی موجود، علمٌ بتکلیفٍ علی کل تقدیر، علی تقدیر أن یکون المغصوب هو الإناء الآخر، فالتکلیف ثابت من الآن، من الآن یحرم استعماله، وعلی تقدیر أن یکون الإناء المغصوب هو الإناء الذی اضطر إلی استعماله، فالتکلیف فیه موجود، لکن بعد زوال الاضطرار.

ص: 232

بعبارةٍ أخری: هو یعلم الآن بأنّه إمّا أن یحرم علیه استعمال الإناء الأبیض یوم غدٍ فصاعداً، وإمّا أن یحرم علیه استعمال الإناء الآخر من الآن، هذا علم إجمالی بالتکلیف علی کل تقدیر یکون منجّزاً ولا مجال إلی الرجوع إلیالأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر. فالکلام الذی ذُکر فی أنّ الصورة الأولی لا إشکال فی عدم المنجّزیة فیها إنّما یتم عندما یُفترض استمرار الاضطرار وبقاؤه، فی هذه الحالة سقوط قطرة النجاسة فی الماء فی الإناء المعیّن فی المثال السابق لا یحدث تکلیفاً؛ لأنّ المفروض أنّ الاضطرار یستمر باستمرار التکلیف؛ بل لعلّه یبقی حتّی إلی ما بعد انتهاء التکلیف. إذن: لا تکلیف، باعتبار بقاء الاضطرار واستمراره، فعلی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال هو هذا الطرف هذا لا یحدث تکلیفاً، فلا یبقی إلاّ احتمال التکلیف فی الطرف الآخر علی تقدیر سقوط قطرة الدم فیه، وهذا احتمال التکلیف یُرجع فیه إلی الأصول المؤمّنة، ویصحّ ما ذُکر من أنّه یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. أمّا عندما نفترض هذا المثال، اضطرار مؤقت فی ساعةٍ معیّنةٍ هو اضطر إلی استعمال إناءٍ معیّنٍ، ولنفترضه مغصوباً، هو یُکلّف بحرمة استعماله بعد زوال الاضطرار، یُکلّف تکلیفاً مُعلّقاً علی زوال الاضطرار، وفی موارد العلم الإجمالی المکلّف یعلم إجمالاً بأنّه إمّا أن یحرم علیه استعمال هذا الإناء الأبیض المضطر إلی استعماله خلال ساعة، إمّا أن یحرم علیه استعماله بعد الساعة، أو یحرم علیه استعمال الإناء الآخر من الآن، وهذا علم إجمالی ینجّز الطرف الآخر، فلابدّ من تقیید هذه الصورة، ولعلّ مقصودهم هو ما إذا فُرض استمرار الاضطرار باستمرار التکلیف، أو بقاء الاضطرار حتّی أزید من مدّة التکلیف. هذا الکلام فی الصورة الأولی.

ص: 233

وأمّا فی الصورة الثانیة: أن نفترض أنّ الاضطرار یکون حادثاً بعد التکلیف وبعد العلم به، تماماً عکس الصورة الأولی، فی الصورة الأولی کان الاضطرار قبل التکلیف وقبل العلم به، کما إذا فرضنا أنّ النجاسة سقطت فی أحد الإناءین، وعلم المکلف بها إجمالاً، لکن تردد أنّها سقطت فی هذا الإناء، أو فی هذا الإناء، فالتکلیف حدث وعلْم المکلّف إجمالاً بالنجاسة أیضاً حدث، بعد ذلک اضطرّ إلی أحد الطرفین بعینه کما فی مثال الثوب. هذه الصورة هی محل الخلاف فیما بینهم حیث نُسب إلی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) أنّه اختار التنجیز فی هذه الصورة، وعدم انحلال العلم الإجمالی وتبعه جملة من المحققین المتأخّرین کالمحقق النائینی والسید الخوئی(قدّس سرهما). صاحب الکفایة(قدّس سرّه) له رأیان فی هذه المسألة، رأی ذکره فی متن الکفایة، ورأی ذکره فی الحاشیة التی ذکرها علی الکفایة. فی المتن اختار عدم المنجّزیة، (1) وانحلال العلم الإجمالی فی ما إذا کان الاضطرار متأخّراً عن التکلیف وعن العلم بالتکلیف، قال لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً، لکنّه فی الحاشیة عدل عن ذلک وذهب إلی بقاء التنجیز بالنسبة إلی الطرف الآخر. ما یظهر من صاحب الکفایة (قدّس سرّه) فی مقام الاستدلال علی ما ذکره فی المتن من عدم المنجّزیة فی هذه الصورة الثانیة، هو أنّه رکّز علی مسألّة أنّ التنجیز من توابع وجود المنجّز ویدور مداره وجوداً وعدماً، والمنجّز فی محل کلامنا لیس هو إلاّ العلم الإجمالی، فهو الذی یُدّعی کونه منجّزاً للتکلیف، وهذا معناه بناءً علی ما ذکره من أنّ التنجیز یدور مدار المنجّز وجوداً وعدماً، فهذا معناه أنّه إذا کان العلم الإجمالی باقیاً فالتنجیز باقٍ، لکن إذا ارتفع العلم الإجمالی قهراً یرتفع التنجیز.

ص: 234


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص359.

الآن هو یرید أن یثبت فی هذه الصورة أنّ العلم الإجمالی مرتفع، وبالتالی یرتفع التنجیز، یقول لا وجود للعلم الإجمالی فی المقام؛ فحینئذٍ یرتفع التنجیز، لماذا العلم الإجمالی غیر موجود فی محل الکلام ؟ یقول: بعد فرض الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه لا یبقی علم بالتکلیف؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون سبب التکلیف الطرف المضطرّ إلیه، فلا یوجد تکلیف؛ لأننا فرضنا حدوث الاضطرار، اضطرّ إلی ارتکاب هذا الإناء، فعلی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی هذا الإناء، فلا تکلیف. نعم، علی تقدیر أن تکون ساقطة فی الثوب یکون هناک تکلیف. إذن: لا یوجد علم بالتکلیف، کما أنّه فی الصورة الأوّلی قیل لا علم بالتکلیف، هنا أیضاً یقول فی المقام لا یوجد علم بالتکلیف، لا فرق فی زوال العلم الإجمالی بالتکلیف بین تقدّم الاضطرار وبین تأخّره، بمجرّد حدوث الاضطرار یرتفع التکلیف. إذن: علی أحد التقدیرین التکلیف مرتفع. نعم، علی التقدیر الآخر یکون التکلیف موجوداً. إذن، هناک شکّ فی التکلیف ولیس هناک علم بالتکلیف، فإذا ارتفع العلم الإجمالی، یعنی ارتفع العلم بالتکلیف، یعنی ارتفع المنجّز، إذن، لا تنجیز، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. هذا ما ذکر فی المتن فی مقام الاستدلال علی عدم المنجّزیة.

قبل التعرّض إلی مناقشته، هو نقض علی نفسه نقضاً وأجاب عنه، حاصل النقض: إذا کان العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز بارتفاع التکلیف باعتبار الاضطرار، فینبغی أن نلتزم بذلک بفقدان بعض الأطراف؛ بل ینبغی ___________ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذکر النقض بالفقدان فقط ___________ تعمیم النقض کما یقول السیّد الخوئی(قدّس سرّه) (1) إلی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ولا یختص بالفقدان، ویشمل حتّی الامتثال والعصیان؛ لأنّه فی جمیع هذه الموارد یسقط التکلیف، کما أنّ التکلیف یسقط بالاضطرار کذلک یسقط بفقدان الموضوع، إذا فُقد الموضوع یسقط التکلیف، إذا خرج الموضوع عن محل الابتلاء یسقط التکلیف، وإذا امتثل یسقط التکلیف، وإذا کان علم إجمالی صلاة واجبة دائرة بین الظهر والجمعة، هو صلّی صلاة الجمعة، فهذا التکلیف یسقط بالنسبة إلی صلاة الجمعة علی تقدیر أن تکون هی الواجبة، فیکون التکلیف بالنسبة إلی صلاة الظهر مشکوکاً؛ إذ لا علم بالتکلیف بعد الامتثال، فُقد أحد الطرفین یسقط التکلیف بالنسبة إلیه حتّی لو کان هو الواجب واقعاً، أو کان هو النجس واقعاً، لا معنی للتکلیف بموضوع مفقود لاوجود له فی الخارج، أو خرج عن محل الابتلاء، یسقط عنه التکلیف. إذا کانت النکتة فی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز فی محل کلامنا وهو الاضطرار هی أنّه حین حدوث الاضطرار یسقط التکلیف، وبالتالی فلا علم بالتکلیف، فلا منجّز، فلا تنجیز، إذا کانت هذه هی النکتة، فسقوط التکلیف لا یختص بالاضطرار؛ بل یثبت حتّی فی موارد فقدان الموضوع، إذا فُقد أحد الطرفین یسقط التکلیف بالنسبة له، ویکون هناک شکّ فی التکلیف فقط بالنسبة للطرف الموجود، فلا علم بالتکلیف، وإذا خرج عن محل الابتلاء أیضاً کذلک، وإذا امتثل أیضاً یسقط التکلیف بالنسبة إلیه، فینبغی تعمیم عدم المنجّزیة إلی کل هذه الموارد، والحال أنّه لا یلتزم بذلک، لا یلتزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة بفقدان بعض أطرافه، وإنّما یبقی علی منجّزیته، ولا یلتزم بسقوطه عن المنجّزیة بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء بعد تشکیل العلم الإجمالی؛ فلذا سجّل نقضاً علی نفسه.

ص: 235


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص387.

أجاب عن هذا النقض: بأنّ الاضطرار من حدود التکلیف، باعتبار أنّ التکلیف من أوّل حدوثه یکون مقیّداً بعدم الاضطرار، بخلاف الفقدان، فأنّه لیس من حدود التکلیف، وإنّما یکون ارتفاع التکلیف بفقدان بعض الأطراف من قبیل انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه، بخلاف الاضطرار، فهو من قیود التکلیف، فیرتفع التکلیف عند انتفاء قیده، التکلیف محدود بالاضطرار، أو قل بعبارة أخری لغرض التوضیح لیس إلاّ، التکلیف مقیّد بعدم الاضطرار، فإذا حصل الاضطرار یرتفع التکلیف؛ لأنّه مقیّد بعدمه، بینما الفقدان لیس کذلک، التکلیف لیس محدوداً بالفقدان، ولیس مقیّداً بعدم الفقدان. نعم، بفقدان بعض الأطراف یرتفع التکلیف، لکن یکون ارتفاعاً من باب ارتفاع التکلیف بارتفاع موضوعه. هذا جوابه فی المتن عن هذا النقض، ففرّق بین الاضطرار وبین فقدان الطرف.

الذی یُلاحظ علی کلامه هذا کلّه، أصل الاستدلال وجواب النقض: أمّا بالنسبة لجواب النقض الذی ذکره، یبدو أنّ الخصوصیات والقیود المأخوذة فی الموضوع حالها حال الموضوع ولا فرق بینهما، الخصوصیات والقیود المأخوذة فی موضوع التکلیف دخیلة فی التکلیف، ودخیلة فی فعلیة التکلیف، کما هو الحال بالنسبة إلی نفس الموضوع، کما أنّ الموضوع دخیل فی التکلیف، وهذا واضح جدّاً، الخصوصیات التی تؤخذ فی موضوع التکلیف أیضاً تکون دخیلة فی التکلیف، کما أنّ الحکم ینتفی بانتفاء موضوعه کذلک ینتفی الحکم بانتفاء خصوصیة مأخوذة فی موضوعه، وفی جمیع هذه الحالات یکون انتفاء الحکم من باب انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه، الخصوصیة المأخوذة فی الموضوع هی جزء من الموضوع، معناه أنّ موضوع الحکم لیس هو الموضوع المطلق، وإنّما هو الموضوع زائداً هذه الخصوصیة، فعندما تنتفی الخصوصیة، فهذا معناه انتفاء الموضوع فی الحقیقة؛ لأنّ الموضوع بلا خصوصیة لیس هو الموضوع للتکلیف، وإنّما الموضوع للتکلیف هو الموضوع بتلک الخصوصیة، بذلک القید، ولا فرق بینهما فی أنّ انتفاء الحکم بانتفاء الخصوصیة، أو بانتفاء أصل الموضوع مثل فقدان الموضوع، أو إعدام الموضوع یکون من باب انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه، ولا فرق بینهما، هو یمیّز کأنّه فی باب الاضطرار یکون الانتفاء لیس من باب انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه، کلا، هو من باب انتفاء الحکم من باب انتفاء موضوعه؛ لأنّه هو یقول بأنّ التکلیف محدود بالاضطرار، یعنی بأنّ الفعل المقیّد بعدم الاضطرار یتعلّق به التکلیف، عدم الاضطرار خصوصیة أُخذت فی موضوع التکلیف، فما یُکلّف به المکلّف هو الموضوع المقدور علیه، الموضوع الذی لا یضطر إلی ترکه.....وهکذا، هی خصوصیة فی الموضوع، فعندما یحدث الاضطرار، إذا کان القید هو عدم الاضطرار ینتفی الحکم بانتفاء موضوعه کما هو الحال لو انتفی الموضوع أساساً، فقدان الموضوع، هنا أیضاً کما ینتفی الحکم بانتفاء موضوعه، انتفاء القید الذی هو عدم الاضطرار وتبدّله بحصول الاضطرار أیضاً ینتفی الحکم بانتفاء موضوعه؛ لأنّ موضوع الحکم بعد افتراض أنّ هناک تحدیداً وتقییداً یکون موضوع الحکم هو الفعل المقدور علیه، أو هو الفعل الذی لا یضطر المکلّف إلی فعله أو إلی ترکه، هذا هو موضوع الحکم، فإذا حصل الاضطرار ینتفی موضوع الحکم، وإذا انتفی موضوع الحکم ینتفی التکلیف بلا إشکال، فلا فرق بینهما من هذه الجهة.

ص: 236

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف

کان الکلام فی ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی المتنوذهب فیه إلی عدم المنجّزیة، یُلاحظ علی ما ذکره من النقض ما ذکرناه فی الدرس السابق وکان حاصله أنّ التکلیف کما یرتفع بالاضطرار کذلک یرتفع بفقدان الموضوع، ویرتفع بخروج الطرف عن محل الابتلاء، ویرتفع أیضاً بامتثال أحد الطرفین، فی کل هذه الحالات لا علم بالتکلیف، بعد امتثال أحد الطرفین لا یبقی علم بالتکلیف، وبعد خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء لا یبقی علم بالتکلیف؛ حینئذٍ السؤال هو: إذا کان الکل یشترکون فی هذه الجهة، فلماذا لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً فی موارد الاضطرار، ویکون منجّزاً فی موارد فقدان بعض الأطراف، ویکون منجّزاً فی موارد خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بعد العلم ؟ کلامنا فی الاضطرار بعد العلم الإجمالی، فإذا خرج أحد الأطراف عن محل الابتلاء بعد العلم الإجمالی، أو فُقد أحد الطرفین بعد العلم الإجمالی، هنا لا یلتزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، وإنّما یلتزم ببقاء العلم الإجمالی علی تنجیزه، ویؤثّر تنجیزه فی الطرف الآخر، فلماذا یقال هنا ببقاء العلم علی التنجیز، بینما یقول فی موارد الاضطرار المتأخّر عن العلم الإجمالی بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز مع أنّه لا ینبغی التفریق بینهما؛ لما قلناه من أنّه لا علم بالتکلیف فی جمیع هذه الموارد، کما لا علم بالتکلیف بعد الاضطرار إلی بعض الأطراف المعیّن، کذلک لا علم بالتکلیف بعد خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فالتفریق بینهما یبدو أنّه لیس تامّاً.

ص: 237

الملاحظة الثانیة: علی أصل الاستدلال الذی ذکره، وکان یعتمد علی نکتة أنّه بعد الاضطرار ___________ کلامنا فی ما إذا کان الاضطرار متأخّراً عن العلم الإجمالی ____________ لا علم بالتکلیف؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة ___________ مثلاً ____________ ساقطة فی الطرف الذی اضطر إلیه لا تکلیف فیه، وإنّما هناک شکٌ فی التکلیف علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الطرف الآخر. إذن: حال الاضطرار لا یوجد علم بالتکلیف، یزول العلم الإجمالی بالتکلیف الذی کان موجوداً سابقاً، وحیث أنّه ذکر أنّ التنجیز إنّما یکون حیث یکون هناک منجّز، أیّ أنّ التنجیز تابعٌ لوجود منجّزٍ کما هو واضح، فإذا ارتفع المنجّز ارتفع التنجیز، والمنجّز فی المقام هو العلم الإجمالی وبعد الاضطرار یرتفع العلم الإجمالی؛ لأنّه لا علم بالتکلیف، لا یستطیع أن یقول بعد الاضطرار أنا أعلم بوجود تکلیفٍ، ویُقسِم علی ذلک، وإنّما یحتمل التکلیف، فبعد ارتفاع العلم الإجمالی؛ حینئذٍ لا منجّز، فإذا لم یکن هناک منجّز، لا یکون هناک تنجیز، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. هذا هو دلیله(قدّس سرّه).

والجواب عنه هو: لا یمکن إنکار سقوط التکلیف عن الطرف المضطر إلیه بسبب الاضطرار، علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الطرف الذی اضطر إلیه، التکلیف فی هذا الطرف یسقط بلا إشکال، لکن الکلام فی أنّ سقوط التکلیف بسبب الاضطرار هل یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، أو لا ؟ هو کأنّه یفترض أنّ هذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ ولذا ذهب إلی عدم المنجّزیة، بینما الصحیح أنّ هذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، والسرّ هو أنّ هذا العلم الإجمالی حین حدوثه حدث منجّزاً للتکلیف؛ لأنّه عندما حدث هذا العلم الإجمالی لم یکن هناک اضطرار ____________ بحسب الفرض _____________ لأنّ الاضطرار متأخّرٌ عن العلم الإجمالی، حینما حدث العلم الإجمالی لم یکن هناک اضطرار، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی حینما حدث، حدث منجّزاً للتکلیف، العلم الإجمالی نجّز التکلیف فی وقته وحین حدوثه، والعلم الإجمالی حینما یحدث منجّزاً للتکلیف لا یخرج عن صفة المنجّزیة بمجرّد سقوط التکلیف بسبب الاضطرار؛ بل یبقی علی تنجیزه؛ لأنّه حینما حدث، حدث منجّزاً، وسقوط التکلیف بسبب الاضطرار، أو بسبب خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو بسبب فقدان بعض الأطراف، وانعدام الموضوع فی بعض الأطراف، هذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز بعد أن حدث منجِّزاً للتکلیف کما قلنا؛ بل یبقی العلم الإجمالی علی تنجیزه، والاضطرار المتأخّر عنه لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، وهذا الأمر طبیعی جدّاً، لو فرضنا أنّ شخصاً نذر أن یصوم أحد یومین ترددّ بینهما، إمّا الخمیس، أو الجمعة، فصام الخمیس، بعد صومه للخمیس لا علم بالتکلیف، لیس عنده علم بالتکلیف بالصوم؛ لأنّه یحتمل أنّ ما ألزم به نفسه هو صوم یوم الخمیس، وقد أدّاه، بعد یوم الخمیس لا علم بالتکلیف بالصوم، لکن مع ذلک العلم الإجمالی یبقی علی تنجیزه؛ لأنّ العلم الإجمالی حینما حدث، حدث منجّزاً، عندما حدث هو نجّز التکلیف فی کلا الطرفین، وسقوط التکلیف فی أحدهما بسبب الامتثال، أو العصیان، أو خروجه عن محل الابتلاء، أو بسبب الاضطرار إلیه، هذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة؛ بل قالوا أنّ هذا ثابت حتّی فی العلم التفصیلی بالتکلیف، عندما یعلم بأنّ شیئاً معیّناً وجب علیه، بعد ذلک شکّ فی امتثاله، أی أنّه شکّ فی أنّ هذا الشیء الصادر منه هل یعتبر امتثالاً للتکلیف، أو لا یُعدّ امتثالاُ ؟ ومع الشکّ فی الامتثال لا یکون هناک علم ببقاء التکلیف، إذن، لا علم ببقاء التکلیف، لکن بالرغم من هذا العلم التفصیلی یبقی منجّزاً، یعنی یطلب من المکلّف الإتیان بذلک الفعل؛ لأنّ العلم عندما حدث نجّز متعلّقه، فتجری قاعدة الاشتغال، هذا التکلیف دخل فی العُهدة، فلابدّ من التیقن بخروجه عن عهدته، ومن الواضح أنّه إذا ترک الفعل واکتفی باحتمال الامتثال، لا یکون قد تیقّن بالفراغ والخروج عن العهدة مع أنّه لا یقین بالتکلیف عند الشکّ فی تحقق امتثاله، فالقضیة لا تختص بالعلم الإجمالی؛ بل حتّی فی موارد العلم التفصیلی، العلم مطلقاً، إجمالیاً کان، أو تفصیلیاً إذا حدث ونجّز التکلیف، فقد تنجّز التکلیف فی العهدة، فلابدّ من الاحتیاط، ولابدّ من الخروج عن عهدته یقیناً، سقوط التکلیف بعد ذلک لا یعنی زوال المنجّزیة عن ذلک العلم الإجمالی.

ص: 238

وبعبارةٍ أخری: کما ذکر صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی حاشیته؛ (1) لأننا قلنا أنّه فی حاشیته علی الکفایة عدل عن ما ذکره فی المتن، وذهب إلی المنجّزیة، أدخل المقام فی باب العلم الإجمالی المرددّ بین الفرد الطویل والفرد القصیر؛ حینئذٍ هذا العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین، بمعنی أنّ هذا المکلّف فی محل الکلام یعلم إجمالاً بوجوب الاجتناب عن هذا إلی زمان الاضطرار؛ لأنّ المفروض فی محل الکلام أنّ الاضطرار متأخّر عن العلم الإجمالی. فهو یعلم إجمالاً: إمّا بوجوب الاجتناب عن هذا قبل زمان الاضطرار، أو وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر من الآن إلی ما بعد زمان الاضطرار، فالفرد الطویل هو عبارة عن التکلیف فی الثوب علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الثوب، هذا تکلیف بالاجتناب عنه من الآن إلی ما بعد زمان الاضطرار إلی الطرف الآخر. والفرد القصیر هو أنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الماء فهو یعلم بوجوب الاجتناب عنه إلی حین حدوث الاضطرار، هو من البدایة یعلم إجمالاً بأنّه یجب علیه الاجتناب عن أحد الطرفین، غایة الأمر أنّ أحد الطرفین فردٌ طویلٌ یستمر وجوب الاجتناب عنه من الآن إلی ما بعد الاضطرار، لکن الفرد الآخر وجوب الاجتناب عنه قصیر؛ لأنّه یجب الاجتناب عنه إلی ما قبل حصول الاضطرار، أمّا إذا حصل الاضطرار یرتفع وجوب الاجتناب بلا إشکال، هذا علمٌ إجمالی منجّزٌ لکلا طرفیه، والثوب هو أحد الطرفین، وهذا العلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عن الثوب مطلقاً قبل الاضطرار، وبعد الاضطرار، وهذا هو معنی أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً، أثر التنجیز وبقاء التنجیز یظهر فی الطرف الآخر، أنّ الطرف الآخر یجب الاجتناب عنه؛ لأنّ العلم الإجمالی نجّز کلا الطرفین، وکان الثوب هو أحد طرفی العلم الإجمالی، والتکلیف الذی یتنجّز فیه هو عبارة عن وجوب الاجتناب من حین العلم الإجمالی إلی ما بعد الاضطرار، فیجب الاجتناب عنه، وهذا هو معنی المنجّزیة.

ص: 239


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص360، حاشیة رقم(1).

قد یقال فی مقام تقریب عدم المنجّزیة: بأنّ العلم الإجمالی هذا الذی ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی الحاشیة المردد بین القصیر وبین الطویل، هذا العلم الإجمالی منحلّ بعلمٍ إجمالیٍ بوجوب الاجتناب إمّا عن هذا الطرف، أو عن هذا الطرف قبل الاضطرار، هذا علم إجمالی لیس فیه شکّ، قطعاً قبل الاضطرار یجب علیه الاجتناب إمّا عن الماء، أو عن الثوب؛ لأنّ النجاسة التی علم بها هی إمّا ساقطة فی الماء، أو ساقطة فی الثوب، فإن کانت ساقطة فی الماء فیجب الاجتناب عنها قبل الاضطرار، وإن کانت ساقطة فی الثوب أیضاً یجب علیه الاجتناب عنها، وما زاد علی ذلک مشکوک، لا یوجد عنده علم إجمالی به، وجوب الاجتناب بعد الاضطرار لا یقین به، وإنّما هو مشکوک؛ لأنّ هذا وجوب الاجتناب إنّما یثبت علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الثوب، وهذا تقدیر مشکوک وغیر معلوم، فیکون وجوب الاجتناب فی مرحلة ما بعد الاضطرار مشکوکاً لا علم به، فإذن، یکون عندنا علم إجمالی بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین قبل الاضطرار، وشکّ فی وجوب الاجتناب بعد الاضطرار، مثل هذا العلم الإجمالی بهذا الشکل یوجب انحلال العلم الإجمالی المُدّعی فی المقام وهو العلم الإجمالی المردد بین الفرد القصیر والفرد الطویل، یقال بأنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ بعلمٍ إجمالیٍ بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین فی ما قبل الاضطرار، وشکّ فی ما زاد علی ذلک، وبالنتیجة بعد الانحلال الذی ینجّز هو العلم الإجمالی الذی صوّرناه قبل الاضطرار، ینجّز علی المکلّف وجوب الاجتناب عن هذا الطرف قبل الاضطرار، وهذا الطرف قبل الاضطرار، هذا صحیح، لکن بعد الاضطرار لا شیء ینجّز وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، لا شیء ینجّز وجوب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّه لا علم، وإنّما هناک شکٌ فی التکلیف، فتجری فیه الأصول المؤمّنة، وبذلک انتهینا إلی عدم التنجیز بالمعنی الدقیق؛ لأننا قلنا أنّ التنجیز الذی نتکلّم عنه یظهر أثره فی الطرف، العلم الإجمالی الذی صوّره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لو تمّ ولم ینحل، فهو یمنع من استعمال الطرف الآخر؛ لأنّه صوّر علماً إجمالیاً دائراً بین الفرد القصیر وبین الفرد الطویل المستمر حتّی بعد الاضطرار، إذن، هو یمنع من استعمال الثوب حتّی بعد الاضطرار. هذا الاعتراض یقول أنّ هذا العلم الإجمالی منحلٌ بعلمٍ إجمالیٍ بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین قبل الاضطرار، وشکٌ فی وجوب الاجتناب بعد ذلک، فنلتزم بهذا العلم الإجمالی، ونلتزم بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین قبل الاضطرار، هذا صحیح، لکن بعد الاضطرار لا شیء ینجّز وجوب الاجتناب عن الثوب بعد الاضطرار، وهذا معناه عملیاً انحلال العلم الإجمالی وعدم بقائه علی التنجیز.

ص: 240

جوابه یکون بهذا الشکل: صحیح أنّ المکلّف یعلم بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین قبل الاضطرار، لکن یدّعی صاحب الکفایة (قدّس سرّه) لإثبات التنجیز أنّ المکلّف فی نفس الوقت یعلم بأنّه یجب علیه الاجتناب إمّا عن هذا الطرف قبل الاضطرار، وإمّا عن ذاک الطرف بعد الاضطرار، فکأنّه صار عنده علمان إجمالیان، علم بوجوب الاجتناب عن هذا قبل الاضطرار، وعن هذا قبل الاضطرار، لکن فی نفس الوقت عنده علم إجمالی آخر بوجوب الاجتناب عن هذا الماء قبل الاضطرار وعن الثوب بعد الاضطرار؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الثوب، فوجوب الاجتناب لا یختص بفترة ما قبل الاضطرار، وإنّما یستمر من حین العلم الإجمالی إلی ما بعد الاضطرار، علی تقدیر سقوط النجاسة فی الثوب لیس تکلیفاً ثابتاً فی الثوب فقط فی مرحلة ما قبل الاضطرار حتّی نقتصر علی العلم الإجمالی الذی أبرزه، وإنّما وجوب الاجتناب کما یثبت فی الثوب قبل الاضطرار، کذلک یثبت فی الثوب بعد الاضطرار. إذن، یصحّ للمکلّف أن یقول أنّی أعلم إمّا بوجوب الاجتناب عن الماء قبل الاضطرار الذی هو الفرد القصیر الذی صوّره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، وإمّا بوجوب الاجتناب عن الثوب بعد الاضطرار، هذا علم إجمالی صحیح، ینشأ من علمٍ إجمالی بسقوط النجاسة فی أحد الأمرین، إمّا الماء أو الثوب، فعزل مرحلة ما بعد الاضطرار بالنسبة إلی الطرف الآخر لیس صحیحاً، والادعاء بأنّها خالیة من العلم، وأنّها مجرّد شکّ. کلا، هی لیست شک، وإنّما هی طرف للعلم الإجمالی؛ لأنّه إن کانت النجاسة ساقطة فی الثوب کما قلنا، فهی تقتضی وجوب الاجتناب عنه قبل الاضطرار وبعده، فالمکلّف علی أحد التقدیرین یعلم بوجوب الاجتناب عن الثوب بعد الاضطرار کما یعلم بوجوب الاجتناب عنه قبل الاضطرار، وعلی التقدیر الآخر یعلم بوجوب الاجتناب عن الماء قبل الاضطرار، وهذا هو نفس العلم الإجمالی الذی صوّره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، وهو الجواب الصحیح عن أصل الاستدلال، وهو أنّ هناک علماً إجمالیاً مردداً بین الفرد القصیر وبین الفرد الطویل، وهو ینجّز الفرد الطویل علی امتداده، وبذلک یثبت التنجیز. هذه هی الصورة الثانیة من الصوّر المتصوّرة فی المقام التی کان الاضطرار فیها متأخّراً عن التکلیف وعن العلم الإجمالی.

ص: 241

الصورة الثالثة: وهی حالة وسطیة بین الصورتین السابقتین، وهی أن یُفترض أنّ الاضطرار حادثٌ بعد التکلیف وبعد سبب التکلیف، ولکنّه قبل العلم الإجمالی کما إذا فرضنا سقوط نجاسة إمّا فی الماء، أو فی الثوب، فحدث التکلیف، لکنّ المکلّف لم یکن عالماً بسقوط قطرة البول فی أحدهما، یعنی لم یکن عالماً بحدوث التکلیف، ثمّ اضطر المکلّف إلی شرب الماء، ثمّ علم بنجاسة أحدهما: إمّا الماء الذی اضطر إلی شربه، وإمّا الثوب، فیکون العلم الإجمالی بالتکلیف متأخّراً زماناً عن الاضطرار المتأخّر زماناً عن أصل التکلیف وحدوث سبب التکلیف، وهو سقوط قطرة البول.

الکلام یقع فی أنّ هذه الصورة الوسطیة هل تلحق بالصورة الأولی؛ لکی یثبت فیها عدم التنجیز ؟ أو تُلحق بالصورة الثانیة؛ لکی یثبت فیها التنجیز ؟ ذهب بعضهم، ویُنسب إلی المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی دورته الأولی أنّه ذهب إلی التنجیز، أنّ العلم الإجمالی هنا یکون منجّزاً کما هو الحال فی الصورة الثانیة المتقدّمة، واستُدلّ علی التنجیز فی الصورة الثالثة بدلیلین، أو أکثر:

الأوّل: ما نُقل عن المحقق النائینی(قدّس سرّه)، وحاصله: أنّ المکلّف یعلم بحدوث تکلیفٍ فعلی من البدایة؛ لأنّ المفروض فی هذه الصورة أنّ المکلّف بعد الاضطرار علم بسقوط النجاسة فی أحدهما سابقاً، إذن، المکلّف علم بالنجاسة الحادثة سابقاً المرددة بین الماء والثوب، إذن، المکلّف یعلم بتکلیفٍ فعلیٍ من أوّل الأمر، قطعاً من البدایة هو مکلّف بالاجتناب عن أحد الطرفین؛ لأنّ قطرة الدم، أو البول سقطت فی أحدهما، غایة الأمر أنّه لم یکن یعلم بذلک وبعد ذلک علم. هذا العلم بالتکلیف الفعلی من أوّل الأمر الذی یحصل فی المقام هو أنّه یشکّ فی سقوطه بالاضطرار، وهذا الشک بالسقوط ینشأ من أنّ النجاسة إن سقطت فی الماء فهذا التکلیف یسقط بالاضطرار، وإمّا إن سقطت فی الثوب، فهو لا یسقط بالاضطرار. هذا التکلیف الذی علم به من البدایة بحصول الاضطرار هو یشکّ فی سقوطه، إذا لم یحصل الاضطرار لا یحصل الشک، فهذا التکلیف موجود وینجّز علیه کلا الطرفین، لکن حیث أنّه اضطر إلی أحدهما المعیّن وهو شرب الماء، فهو یشکّ فی سقوط التکلیف الفعلی من البدایة، ومن الواضح أنّ الشک فی سقوط التکلیف هو مجری لأصالة الاشتغال ولیس مجری لأصالة البراءة، هذا لیس شکّاً فی التکلیف حتّی نجری فیه البراءة، ونقول بعد الاضطرار هناک شک فی التکلیف، فتجری الأصول المؤمّنة لنفیه، وإنّما هذا شک فی سقوط التکلیف المعلوم؛ لأنّه علم بالتکلیف الفعلی فی وقته ومن أوّل الأمر، وشکّ فی سقوطه وهو مورد لأصالة الاشتغال؛ وحینئذٍ لابدّ من البناء علی الاشتغال، ولابدّ من الاحتیاط فی الطرف الآخر، وهذا یعنی المنجّزیة، وهذا یعنی أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز الطرف الآخر، فیجب الاجتناب عنه، وإلاّ إذا لم یجتنب عن الطرف الآخر هو لم یخرج یقیناً عن عهدة التکلیف المعلوم. هذا التقریب الأوّل للمنجّزیة فی الصورة الثالثة.

ص: 242

هذا التقریب مبنی علی افتراض أنّ العلم المتأخّر ینجّز التکلیف المتقدّم، کما أنّ العلم المقارن للتکلیف ینجّز التکلیف کذلک العلم المتأخّر زماناً عن التکلیف ینجّز التکلیف من أوّل الأمر. هذا الکلام لیس واضحاً؛ لأنّه تقدّم سابقاً أنّ التنجیز حکمٌ عقلیٌ ولیس حکماً شرعیاً، وإنّما العقل یستقل بتنجیز التکلیف عندما یتعلّق الحکم به، وقد تقدّم سابقاً أنّ معنی حکم العقل بتنجیز التکلیف هو قبح المخالفة والعصیان ولزوم الإطاعة والامتثال، العقل یستقل بأنّ التکلیف عندما یتنجّز بالعلم یحکم بلزوم امتثاله ولزوم إطاعته وقبح مخالفته، هذا معنی التنجیز، ومن الواضح أنّ هذا لا معنی له بالنسبة إلی التکلیف المتقدّم؛ لأنّ التکلیف المتقدّم لا مجال لإطاعته، أو مخالفته الآن حتّی یحکم العقل بقبح مخالفته، هو انتهی فی زمانه، والآن لا وجود له، لا معنی لأن یحکم العقل من الآن بقبح مخالفته ولزوم إطاعته وامتثاله، فافتراض أنّ العلم الإجمالی ینجّز التکلیف فی وقته بحیث یکون التکلیف من أوّل الأمر منجّزاً هذا لا وجه له؛ لأنّه مبنی علی فکرة أنّ العلم الإجمالی المتأخّر ینجّز التکلیف المتقدّم، هذا نقوله فیما إذا فرضنا أنّ التکلیف السابق انقطع عن الزمان المتأخّر ولیس له ذیول باقیة فی الزمان المتأخّر، أمّا إذا کانت له ذیول؛ فحینئذٍ یمکن افتراض التنجیز، لکن لیس له ذیول، التکلیف انتهی فی وقته، الآن لیس له تبعات ومتعلّقات فی الزمان الحاضر؛ حینئذٍ نقول لا معنی لأن یحکم العقل بمنجّزیته وبلزوم إطاعته وامتثاله، وقبح مخالفته وعصیانه؛ لأنّه لا مجال لذلک فی التکلیف المتقدّم، وإنّما یکون هذا معقولاً عندما یکون العلم والتنجیز مقارناً للتکلیف زماناً. هذا التقریب الأوّل وجوابه.

ص: 243

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطر