آرشیو دروس خارج اصول آیت الله شیخ هادی آل راضی36-35

اشارة

سرشناسه:آل راضی، هادی

عنوان و نام پدیدآور:آرشیو دروس خارج اصول آیت الله شیخ هادی آل راضی36-35/هادی آل راضی.

به همراه صوت دروس

منبع الکترونیکی : سایت مدرسه فقاهت

مشخصات نشر دیجیتالی:اصفهان:مرکز تحقیقات رایانه ای قائمیه اصفهان، 1396.

مشخصات ظاهری:نرم افزار تلفن همراه و رایانه

موضوع: خارج اصول

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی الشبهة غیر المحصورة، وکان الکلام یترکّز عن أنّ العلم الإجمالی فیها یسقط عن المنجّزیة، فلا تجب موافقته القطعیة؛ بل قد لا تحرم مخالفته القطعیة، لو فُرض التمکّن منها. الکلام یقع فی أنّه ما هو الوجه فی سقوط المنجّزیة عن هذا العلم الإجمالی، مع أنّه علم إجمالی حاله حال العلم الإجمالی فی شبهةٍ محصورة ؟ ما هو الدلیل علی سقوط المنجّزیة عن هذا العلم الإجمالی؟

تکلّمنا عن الدلیل الأوّل، وأکملنا الکلام عنه، وللتذکّر فقط کان الدلیل هو ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من أنّ سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی الشبهة غیر المحصورة ناشئ من کون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف وذاک الطرف احتمالاً ضعیفاً جدّاً وغیر معتدٍّ به؛ لکثرة الأطراف التی یتردد المعلوم بالإجمال فی ما بینها، لنفترض أنّ الأطراف ألف طرف، فاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف هو عبارة عن واحد من ألف، وهو احتمال ضعیف یقوم علی خلافه الاطمئنان، یعنی هناک اطمئنان بعدم الانطباق علی هذا الطرف، وهذا الاطمئنان حجّة عقلائیة، وحجّة شرعاً أیضاً، ولو باعتبار أنّه مورد عمل العقلاء ولم یردع عنه الشارع، فهناک اطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، فیکون حاله حال العلم بعدم التکلیف فی هذا الطرف. لو علم بعدم وجود تکلیفٍ فی هذا الطرف، لا إشکال فی أنّه یجوز له ارتکابه، الاطمئنان حاله حال العلم، والاطمئنان ینشأ باعتبار ما قلنا من أنّ احتمال الانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف عندما تکون الأطراف کثیرة یکون احتمالاً ضعیفاً جدّاً؛ ولذا یسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، وبهذا یختلف عن العلم الإجمالی فی الشبهة المحصورة؛ لأنّ احتمال الانطباق فی الشبهة المحصورة احتمال معتدّ به، ولیس هناک اطمئنان بعدم الانطباق علی هذا الطرف، أو ذاک الطرف فی الشبهة المحصورة.

ص: 1

أجیب عن هذا الدلیل بأجوبة ثلاثة، تقدّمت مفصّلاً، وتقدّم ردّها أیضاً، ولا داعی للتکرار، وتبیّن ___________ بحسب النتیجة التی تقدّمت __________ أنّه لا بأس بهذا الدلیل للاستدلال به علی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی الشبهة غیر المحصورة.

الکلام الآن عن الدلیل الثانی، ولعلّنا ذکرنا شیئاً قلیلاً منه فی الدروس السابقة، وهو ما تقدّم سابقاً نقله عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) من جعل المیزان فی الشبهة غیر المحصورة هو عدم التمکّن من المخالفة القطعیة، باعتبار کثرة الأطراف، بمعنی أننا نفترض فی الشبهة غیر المحصورة کثرة الأطراف إلی درجةٍ لا یتمکّن المکلّف من ارتکابها جمیعاً، فلا یکون قادراً علی المخالفة القطعیة. بعد أن ذکر هذا المیزان رتّب علیه سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة بلحاظ أدلّة الأصول الترخیصیة؛ إذ لا مانع حینئذٍ من إجراء الأصول الترخیصیة فی جمیع هذه الأطراف؛ لأنّ جریان الأصول فی جمیع الأطراف لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لعدم تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة بحسب الفرض، إنّما نمنع من جریان الأصول الترخیصیة فی أطراف العلم الإجمالی باعتبار أنّ ذلک یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة للمعلوم بالإجمال، فنمنع من جریان الأصول الترخیصیة فی أطراف العلم الإجمالی، هذا إنّما یتحقق فی الشبهة المحصورة؛ لأنّ جریان الأصول الترخیصیة فی تمام الأطراف یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، لتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، والأصول إذا جرت فی أطراف العلم الإجمالی ترخّص له فی المخالفة القطعیة، لکن فی محل الکلام لا؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف غیر قادر علی المخالفة القطعیة، فأیّ ضیر فی إجراء الأصول فی تمام الأطراف ؟ وهذا هو سبب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة.

ص: 2


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص276.

ذکرنا سابقاً أنّ بعض عبارات المحقق النائینی(قدّس سرّه) قد یُستفاد منها شیء آخر، لکن قلنا أنّ التعویل هو علی هذا الوجه الذی ذکرناه، وحاصله: أنّه لا مانع من جریان الأصول الترخیصیة فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة؛ لأنّ ذلک لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ باعتبار عدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، وکأنّه یری أنّ المانع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف هو فقط وفقط أنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وحیث أننا فرضنا فی الشبهة غیر المحصورة عدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة، فلا مانع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف. هذا هو الدلیل الثانی.

أورد السید الخوئی(قدّس سرّه) علی هذا الدلیل بإیرادین: (1)

الإیراد الأوّل: أنّ عدم التمکّن من المخالفة القطعیة لا یُلازم الشبهة غیر المحصورة، وإنّما قد یتحقق فی الشبهة المحصورة أیضاً، علی ما ذکرنا سابقاً من المثال بأنّه لو فرضنا أنّه علم بحرمة الجلوس فی أحد مکانین فی آنٍ واحدٍ، فهو لا یتمکّن من المخالفة القطعیة، عدم التمکّن من المخالفة القطعیة لا یُلازم کون الشبهة غیر محصورة؛ لأنّه قد یتحقق مع الشبهة المحصورة، فهل نلتزم فی الشبهة المحصورة بجواز إجراء الأصول فی أطرافها ؟ باعتبار أنّ إجراء الأصول فی أطرافها لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لعدم قدرة المکلّف علیها، وهذا أمر یمکن فرضه فی الشبهة المحصورة کما مثّلنا، المکلّف غیر قادر علی أن یجلس فی مکانین فی آنٍ واحدٍ، إذن: هو غیر قادر علی المخالفة القطعیة مع کون الشبهة محصورة، فلازم هذا الکلام أن نجوّز له إجراء الأصول فی الطرفین، والحال أنّه لا أحد یقول بإمکان إجراء الأصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی إذا کانت الشبهة محصورة. هذا الإیراد الأوّل، وهو اشبه بالإیراد النقضی.

ص: 3


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص381.

الإیراد الثانی: المحذور الذی یلزم من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف لا ینحصر فی أنّ إجراء الأصول فی جمیع الأطراف یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، لیس هذا هو المحذور فقط حتّی یقال أنّ المکلّف إذا کان غیر قادر علی المخالفة القطعیة، فلا محذور فی إجراء الأصول فی جمیع الأطراف؛ لأنّ إجراءها لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ بل هناک محذور آخر یلزم من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف وهو ما یسمّیه بالترخیص القطعی بالمخالفة، وإن لم یؤدِّ إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لعدم قدرة المکلّف علیها _________ بحسب الفرض __________ لکنّه ترخیص قطعی بالمخالفة، إجراء الأصول فی جمیع الأطراف، والالتزام بالترخیص فی هذا الطرف وذاک الطرف وذاک الطرف.... الالتزام بالترخیص الشرعی الظاهری الثابت باعتبار الأصول الجاریة فی هذه الأطراف هو ترخیص قطعی بالمخالفة؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف یعلم بثبوت الإلزام فی واحد من هذه الأطراف علی الأقل، فکیف یُرخّص له الشارع فی جمیع الأطراف ؟! وهذا محذور آخر غیر مسألة أنّ إجراء الأصول فی جمیع الأطراف یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ بل، وإن لم یؤدِّ إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لعدم قدرة المکّلف علیها کما فرضه فی الشبهة غیر المحصورة، وفرضه السید الخوئی(قدّس سرّه) فی المثال المتقدّم فی الشبهة المحصورة، وإن لم یؤدِّ إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، لکن نفس الترخیص فی الطرفین مع علم المکلّف بأنّ أحدهما حرام هذا ترخیص قطعی بالمخالفة، ولا یمکن أن یصدر من الشارع ترخیص قطعی بالمخالفة للتکلیف الذی یعلم به المکلّف، وإن لم یکن متمکّناً من المخالفة القطعیة، لکن نفس ترخیص الشارع له فی ارتکاب هذا الطرف فی مثال حرمة الجلوس فی أحد مکانین، ترخیصاً ظاهریاً مستفاداً من أدلّة الأصول العملیة الترخیصیة، ویرخّص له الجلوس فی هذا الطرف مع افتراض أنّ أحدهما حرام شرعاً، یقول: هذا غیر ممکن، ولا یمکن الالتزام به، هذا محذور فی حدّ نفسه وهو یمنع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف حتّی لو فُرض عدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة.

ص: 4

بالنسبة إلی الإیراد الأوّل ________ النقضی ________ لعلّه تقدّم دفعه، وحاصله: أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) عندما ذکر هذا الدلیل ذکر أنّ الشبهة غیر المحصورة یعتبر فیها أمران: عدم التمکّن من المخالفة القطعیة وکثرة الأطراف، یعنی أنّ الشبهة غیر المحصورة عنده هی الشبهة التی تکون أطرافها کثیرة جدّاً بحیث لا یتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة. یعنی کلامه فی عدم التمکّن من المخالفة القطعیة الناشئ من کثرة الأطراف، فلا معنی للإیراد علیه بالشبهة المحصورة فی مثال حرمة الجلوس فی أحد مکانین، هو یقول فی مورد عدم التمکّن من المخالفة القطعیة الناشئ من کثرة الأطراف لا مانع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف. یظهر أنّ الإیراد علیه کأنّه إیراد علیه بموردٍ آخر هو قد لا یلتزم بجواز إجراء الأصول فی جمیع الأطراف فی ذلک المورد؛ لأنّه یری أنّ عدم التمکّن من المخالفة القطعیة الموجب لسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز هو خصوص ما کان ناشئاً من کثرة الأطراف وسعتها، وهذا کلام یختص بالشبهة غیر المحصورة، ولا یشمل الشبهة المحصورة. هکذا یُدفع الإیراد الأوّل للسید الخوئی(قدّس سرّه).

وأمّا إیراده الثانی، فیُدفع بأن یقال: لماذا یکون الترخیص القطعی بالمخالفة محذوراً یمنع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف ؟ بل الترخیص القطعی بالمخالفة لیس محذوراً یمنع من إجراء الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی، والوجه فی ذلک مبنی علی الرأی الذی یری بأنّه لا یوجد هناک قبح ذاتی ومحذور عقلی فی جریان الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی مطلقاً، فضلاً عن إجراءها فی بعض الأطراف، مع افتراض عدم أداء ذلک إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة کما هو المفروض فی محل کلامنا.

ص: 5

توضیح المطلب: باعتبار أنّ القبح والمحذور إنّما هو باعتبار أنّ الترخیص فی تمام الأطراف بعد إجراء الأصول العملیة المؤمّنة فی تمام الأطراف ینافی التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال. قد یقال أنّ إجراء الأصول المؤمّنة فی تمام الأطراف یلزم منه محذور ذاتی، ومحذور عقلی باعتبار هذه المنافاة للتکلیف المعلوم بالإجمال. الجواب یقول لا توجد منافاة بینهما؛ لأنّ المنافاة بینهما کالمنافاة بین الأحکام الظاهریة والأحکام الواقعیة، إمّا أن تکون المنافاة بلحاظ عالم الجعل، وإمّا أن تکون المنافاة بلحاظ عالم المبادئ، وإمّا أن تکون المنافاة بلحاظ عالم ما یترتّب علی هذا التکلیف من أحکامٍ عقلیةٍ من قبیل وجوب الموافقة القطعیة، أو حرمة المخالفة القطعیة، ویدّعی بعدم وجود المنافاة فی جمیع هذه العوالم بین الترخیص فی تمام الأطراف، وبین التکلیف الإلزامی المعلوم بالإجمال.

أمّا بلحاظ عالم الجعل: فقالوا أنّه أمر واضح؛ لأنّ عالم الجعل سهل المئونة ولیس فیه مؤنة زائدة إذا جرّدناه عن کل شیء، عن مبادئه، وعن ما یتطلّبه فی مقام الامتثال، إذا جرّدناه عن کل ذلک، ولاحظناه کجعلٍ هو سهل المئونة، لا توجد منافاة بین جعل الحکم الظاهری الذی هو الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال.

وأمّا بلحاظ عالم المبادئ: أیضاً لا منافاة بینهما، إمّا باعتبار ما هو المعروف عن السید الخوئی(قدّس سرّه) من أنّه یری أنّ مبادئ الأحکام الظاهریة هی فی نفس جعلها لا فی متعلّقاتها، یعنی فی نفس جعلها یوجد مبدأ ومصلحة وملاک، بینما مبادئ الأحکام الواقعیة هی فی المتعلّقات، وهذا معناه أنّ الموضوع متعدد، یعنی مبدأ الحکم الظاهری قائم فی الجعل لا فی المتعلّق، بینما مبدأ الحکم الواقعی قائم فی الفعل، وفی المتعلّق، فلا تضاد؛ لتعدد الموضوع؛ لأنّ التضاد والمنافاة إنّما تکون حینما یجتمع المبدآن المتضادان فی شیءٍ واحدٍ، الحکم الإلزامی ____________ فرضاً ____________ ینشأ من مفسدةٍ هی المبدأ، والحکم الترخیصی ینشأ من مصلحةٍ فی إطلاق العنان، عندما یجتمع هذان المبدآن فی الفعل یحصل التضاد والمنافاة؛ إذ لا یُعقل أن یکون الشیء الواحد فیه مصلحة الإلزام، وفیه مصلحة الترخیص. أمّا إذا قلنا أنّ مبدأ الحکم الظاهری قائم فی نفس جعله لا فی المتعلّق، والمتعلّق یختص بمبدأ الحکم الواقعی فقط؛ فحینئذٍ یتعددّ الموضوع، وترتفع المنافاة، فلا تضاد بینهما. هذا علی رأی السید الخوئی(قدّس سرّه).

ص: 6

ویمکن حلّ المنافاة علی رأی آخر تقدّم سابقاً فی بحث الأحکام الظاهریة، وهو أن یقال: أنّ الأحکام الظاهریة أصلاً لیس لها مبادئ مستقلّة فی قِبال مبادئ الأحکام الواقعیة، وإنّما مبادئها هی نفس مبادئ الأحکام الواقعیة، وذلک لما تقدّم سابقاً من أنّ الأحکام الظاهریة تُعبّر عن أهمیة المبادئ الواقعیة المناسبة لها عندما یقع هناک تزاحم فی مقام الحفظ بینها وبین المبادئ الأخری، الأحکام الظاهریة تعبّر عن اهتمام الشارع بالمبدأ الواقعی المناسب لها عندما یحصل تزاحم حفظی بین نوعین من المبادئ الواقعیة، الحکم الظاهری هو تعبیر، وکاشف عن أهمیة المبادئ الواقعیة المناسبة لها فی قِبال المبادئ الأخری. الترخیص الظاهری هو یعبّر عن اهتمام الشارع بالمباحات الواقعیة، واهتمام الشارع بمصلحة إطلاق العنان الذی هو مبدأ المباحات الواقعیة، عندما تختلط وتشتبه مع مبادئ الأحکام الإلزامیة ویتحیّر المکلّف ولا یعلم ما هو الثابت واقعاً؛ حینئذٍ یحصل تزاحم حفظی، أن کیف تُحفظ هذه المبادئ ؟ إلزام المکلّف بالاحتیاط تُحفظ به مبادئ الأحکام الإلزامیة، لکن علی حساب مبادئ المباحات الواقعیة؛ لأنّه یحصل فیه إلزام للمکلّف؛ وحینئذٍ لا إطلاق للعنان، وسوف ترتفع مصلحة إطلاق العنان وتُقدّم علیها مصلحة الأحکام الواقعیة الإلزامیة. أمّا جعل الترخیص الظاهری فمعناه بالعکس، أنّ مبادئ المباحات الواقعیة أهم فی نظر الشارع؛ ولذا جعل الترخیص حتّی لو أدّی ذلک إلی فوات مبادئ الأحکام الإلزامیة؛ لأنّه یری أنّ مبادئ الأحکام الترخیصیة أهم من مبادئ الأحکام الإلزامیة.

إذن: الترخیص الظاهری هی أحکام ظاهریة لیس لها مبادئ مستقلّة فی قِبال مبادئ الأحکام الواقعیة؛ بل أنّ مبادئها هی نفس مبادئ الأحکام الواقعیة؛ وحینئذٍ یمکن أن یقال فی المقام بأنّه لا محذور فی افتراض الترخیص فی جمیع الأطراف، وإجراء الأصول المؤمّنة فی جمیع الأطراف، ولا مشکلة فی ذلک حتّی بلحاظ عالم المبادئ؛ لأنّ هذا الترخیص یُعبّر عن اهتمام الشارع بمصلحة إطلاق العنان، أنّ الشارع یرید للمکلّف أن لا یقع فی الضیق، وأن یکون مطلق العنان، فی موارد الاشتباه یقدّم هذه المصلحة ولو علی حساب مبدأ الحکم الواقعی الإلزامی؛ لأنّه إذا أجری الأصول فی جمیع الأطراف، سوف یؤدّی هذا إلی فوات مبدأ الحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال، یقول لا محذور فی ذلک؛ لأنّ الشارع یهتم بمبادئ المباحات الواقعیة بالنسبة إلی مبادئ الأحکام الإلزامیة التی تختلط وتشتبه معها.

ص: 7

إذن: لا یوجد هناک منافاة بین علمنا إجمالاً بثبوت التکلیف فی أحد هذه الأطراف، وبین الترخیص الظاهری فی جمیع الأطراف؛ لأنّ هذا یعنی أنّ الشارع لاحظ ووازن فی مقام التزاحم الحفظی، وقدّم مصلحة إطلاق العنان، قال: أنا أری أنّ المصلحة تقتضی أن یکون المکلّف مطلق العنان فی جمیع هذه الأفعال حتّی إذا استلزم ذلک فوات الغرض الإلزامی، فلا یکون هناک أیضاً منافاة بینهما.

وأمّا بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف فی مقام الامتثال: فأیضاً یقال بعدم وجود تنافٍ بین الترخیص الظاهری فی تمام الأطراف، وبین التکلیف الإلزامی المعلوم بالإجمال، لا یوجد تنافٍ بینهما أصلاً؛ وذلک باعتبار أنّ ما یتطلّبه التکلیف عقلاً فی مقام الامتثال هو أحد شیئین: إمّا حرمة المخالفة القطعیة، وإمّا وجوب الموافقة القطعیة، بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة، صحیح التکلیف الإلزامی المعلوم بالإجمال هو بذاته یتطلّب فی مقام الامتثال حرمة المخالفة القطعیة، بمعنی أنّ هناک حکم عقلی یترتب علی هذا التکلیف المعلوم بالإجمال، إذا علم المکلّف بالتکلیف الإلزامی یحکم العقل بحرمة مخالفته، لکن فی محل کلامنا لا معنی لأن یقال أنّ الترخیص الظاهری فی تمام الأطراف ینافی حکم العقل بحرمة مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأننا فرضنا أنّ المکلّف غیر قادر علی المخالفة القطعیة، فی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) فرض أنّ الشبهة غیر المحصورة هی الشبهة التی لا یتمکّن المکلّف فیها من المخالفة القطعیة نتیجة کثرة الأطراف. فإذن: الترخیص فی تمام الأطراف لا یکون منافیاً لهذا الحکم العقلی؛ لعدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة بحسب الفرض، فإذن: لا یوجد تنافٍ.

نعم، فی موردٍ آخر یمکن أن یقال فی موارد العلم الإجمالی فی الشبهة المحصورة، هذا التکلیف المعلوم بالإجمال الدائر بین طرفین یتطلّب حرمة المخالفة القطعیة، وجعل الترخیص فی کلا الطرفین، والأذن للمکلّف فی اقتحام کلا الطرفین ینافی حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، لکن فی محل کلامنا المفروض أنّ المکلّف غیر قادرٍ علی المخالفة القطعیة، فلا یکون الترخیص فی تمام الأطراف منافیاً لهذا الحکم العقلی. هذا بالنسبة إلی هذا الأثر العقلی للتکلیف.

ص: 8

الأثر الثانی العقلی للتکلیف __________ إذا قیل به ____________ وهو وجوب الموافقة القطعیة، أنّ التکلیف المعلوم بالإجمال تجب موافقته القطعیة، هذا أیضاً لا ینافی الترخیص فی تمام الأطراف؛ لأنّ المفروض أننا نتکلّم فی کل هذا الکلام بناءً علی الاقتضاء ولیس بناءً علی العلّیة التامّة بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة الذی هو أیضاً مبنی المحقق النائینی(قدّس سرّه) وکلامه مبنی علیه، والاقتضاء بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة یعنی أنّ العقل یحکم بأنّ التکلیف المعلوم بالإجمال تجب موافقته القطعیة ما لم یُرخّص الشارع فی ترک الموافقة القطعیة، والاقتضاء دائماً هذا معناه، والمفروض أنّ أدلّة الأصول هی ترخیص شرعی فی ترک الموافقة القطعیة. مثل هذا الترخیص لا یکون منافیاً حینئذٍ لحکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة معلّق علی عدم ورود الترخیص، إذا لم یرخّص الشارع تجب الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، لو ورد الترخیص من الشارع لا یکون منافیاً لهذا الحکم المعلّق، وحیث أنّ الترخیص الذی یُراد إثباته فی محل الکلام هو ترخیص مستفاد من الأدلّة الشرعیة، أدلّة الأصول المؤمّنة، فهو ترخیص شرعی فی ترک الموافقة القطعیة، فلا یکون منافیاً لحکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة.

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی الدلیل الثانی للمحقق النائینی(قدّس سرّه) علی سقوط العلم الإجمالی فی موارد الشبهة غیر المحصورة عن المنجّزیة بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة. قلنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) أورد علیه بإیرادین، نقضی وحلّی، ذکرنا الإیراد النقضی، وذکرنا ما دُفع به، وانتهی الکلام إلی الإیراد الثانی الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه)، وما دُفع به هذا الإیراد کان هو أنّ المحذور لیس هو فقط أننا نمنع من إجراء الأصول؛ لأنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، حتّی یُقال أنّه فی فرض عدم القدرة علی المخالفة القطعیة لا مانع من إجراء الأصول؛ لأنّ إجرائها لا یؤدّی بالنتیجة إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لعدم قدرة المکلّف علیها.

ص: 9

والجواب عن هذا الإیراد هو: أصلاً لیس هناک محذور فی الجمع بین الترخیص الظاهری فی تمام الأطراف، فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، لا یوجد محذور ثبوتی، ولا یوجد مانع عقلی یمنع من الجمع بینهما؛ لما ذُکر فی الدرس السابق من أنّ الأحکام الظاهریة إنّما یُدّعی تنافیها مع الأحکام الواقعیة إمّا بلحاظ مرحلة الجعل، أو بلحاظ المبادئ، وإمّا بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف المعلوم بالإجمال من آثار کحرمة المخالفة القطعیة، ووجوب الموافقة القطعیة، وتبیّن ممّا تقدّم بناءً علی هذا الکلام أنّه لا منافاة بین الترخیص الظاهری وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، فضلاً عن عدم المنافاة بین الترخیص الظاهری وبین التکلیف المحتمل والمشکوک، کما فی الشبهات البدویة. أصلاً لا منافاة بینهما، بناءً علی النظریة التی تقول أنّ الأحکام الظاهریة هی تعبیر عن أهمیة الملاکات الواقعیة المناسبة لها عندما یکون هناک تزاحم حفظی بینها وبین المبادئ المقابلة لها. هذا دفع الإیراد الثانی.

بالنسبة إلی دفع الإیراد النقضی الأوّل الذی ذکرناه فی الدرس السابق، الظاهر أنّ هذا الدفع لیس تامّاً، السید الخوئی(قدّس سرّه) کان یقول فی إیراده علی المیرزا النائینی(قدّس سرّه): أنّ عدم التمکّن من المخالفة القطعیة لا یختص بالشبهات غیر المحصورة؛ بل قد یحصل فی الشبهة المحصورة، فی بعض الأحیان قد لا یتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة کما فی مثال حرمة المکث فی أحد مکانین فی آنٍ واحد، فإذا قلنا بأنّ کل علم إجمالی لا یتمکّن المکلّف من مخالفته القطعیة یجوز إجراء الأصول فیه، فلازم ذلک أن نقول بجواز إجراء الأصول فی الشبهة المحصورة عندما یُفترض عدم تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، وهذا ممّا لا یلتزم به المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 10

دفع هذا الإیراد __________ علی ما نقلناه فی الدرس السابق ____________ هو أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یری ذلک إلاّ فی الشبهة غیر المحصورة؛ لأنّه یعتبر فی الشبهة غیر المحصورة أمرین:(أحدهما) عدم التمکّن من المخالفة القطعیة. و(ثانیهما) کثرة الأطراف.

وبعبارةٍ أخری: یعتبر فی الشبهة غیر المحصورة عدم التمکّن الناشئ من کثرة الأطراف، فلا مجال للإیراد والنقض علیه بالشبهة المحصورة.

أقول: هذا الدفع لیس تامّاً؛ بل الظاهر أنّ الإیراد النقضی للسید الخوئی(قدّس سرّه) وارد إلی هنا؛ لأننا لا نتکلّم فعلاً عن مسألة المیزان فی الشبهة غیر المحصورة، ولا نتکلّم عن تسمیّة الشبهة بالشبهة غیر المحصورة حتّی یقال إذا کان المیزان للشبهة غیر المحصورة هو عدم التمکن، فعدم التمکن موجود فی الشبهة المحصورة، فیُجاب عن ذلک بأنّ المیزان عند المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی الشبهة غیر المحصورة لیس هو عدم التمکّن مطلقاً، وإنّما هو عدم التمکّن الناشئ من کثرة الأطراف، وهذا لا یتحقق فی الشبهة المحصورة، حتّی لو لم یتمکن المکلّف من المخالفة القطعیة؛ لأنّ عدم التمکن لم ینشأ من کثرة الأطراف، لو کان الکلام فی ما هو المیزان للشبهة غیر المحصورة؛ فحینئذٍ یکون دفع الإیراد علی المحقق النائینی(قدّس سرّه) تامّاً، لکن الکلام فعلاً لیس فی هذا، الکلام فعلاً فی إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یقول لا مانع من إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، ویُعلل ذلک بأنّ هذا لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، (1) وهذا یرد علیه ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) من أنّه لو کانت العلّة فی جواز إجراء الأصول هو مجرّد أنّ إجرائها لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذا قد یُفترَض فی الشبهة المحصورة فی المثال الذی ذکره، فی الشبهة المحصورة فی المثال الذی ذکره حرمة المکث فی أحد مکانین فی آنٍ واحد لا یتمکن المکلّف من المخالفة القطعیة، بناءً علی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) ینبغی أن نلتزم بجواز إجراء الأصول فیها؛ لأنّ إجراء الأصول فی هذه الشبهة لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لأنّ المکلّف غیر قادر علیها، فهل یلتزم بإجراء الأصول فی الشبهة المحصورة إذا کانت کذلک ؟ طبعاً لا یلتزم بذلک، بقطع النظر عن التسمیة، وبقطع النظر عن المیزان، هذه شبهة محصورة وتلک شبهة غیر محصورة، لکن تعلیل جواز إجراء الأصول فی الشبهة غیر المحصورة بعدم القدرة علی المخالفة القطعیة، وهذه العلّة موجودة فی بعض أمثلة الشبهة المحصورة، هذا یجعل الإیراد النقضی وارداً علیه؛ إذ یقال له بأنّه فی الشبهة المحصورة أیضاً إجراء الأصول فی هذه الأمثلة لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فینبغی أن یلتزم بجواز إجراء الأصول فی أطراف الشبهة المحصورة إذا کانت من هذا القبیل، وهذا ما لا یلتزم به المحقق النائینی(قدّس سرّه)، فالظاهر أنّ الإیراد النقضی یکون وارداً.

ص: 11


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص121.

وأمّا الجواب عن الإیراد الثانی، فهو بهذا الشکل الذی نقلناه فی الحقیقة سیأتی التعرّض له فی الدلیل الثالث الذی یُستدلّ به علی سقوط العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة عن المنجّزیة، لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة.

الدلیل الثالث: أنّ المنافاة بین الترخیص الظاهری وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال: إمّا أن تکون بلحاظ عالم الجعل، أو بلحاظ المبادئ، أو بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف المعلوم بالإجمال فی مقام الامتثال، ویُدّعی فی الدلیل الثالث بأننا لا نجد منافاة بینهما فی شیءٍ من هذه العوالم. یقول الدلیل الثالث: نحن نمنع وجود مانعٍ عقلی من الترخیص الظاهری فی أطراف العلم الإجمالی؛ لما قلناه فی الدرس السابق، ولا حاجة إلی التکرار؛ لأنّه لا یوجد بینهما تنافٍ عقلی، لا بلحاظ عالم الجعل، ولا بلحاظ عالم المبادئ، ولا بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف الواقعی فی مقام الامتثال من حرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة. أمّا بلحاظ عالم الجعل، فواضح، وأمّا بلحاظ المبادئ، فلنلتزم ______________ فرضاً _____________ بما یقوله السید الخوئی(قدّس سرّه) من أنّ مبادئ الأحکام الظاهریة فی نفس جعلها، فیتعددّ الموضوع ویرتفع التنافی؛ لأنّ التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال مبادئه قائمة فی المتعلّق، بینما مبادئ الحکم الظاهری قائمة فی نفس جعله، فیتعدد الموضوع، فیرتفع التنافی. ولا بلحاظ ما یتطلّبه التکلیف الواصل إلی المکلّف بالعلم الإجمالی من أمور کحرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة، أمّا حرمة المخالفة القطعیة فلا یوجد تنافٍ بین الترخیص الظاهری وبینها؛ لما قلناه من أنّ المفروض فی محل الکلام أنّ المکلّف غیر قادر علی المخالفة القطعیة، هو لا یتمکن من المخالفة القطعیة، فلا معنی لأن نقول أنّ الترخیص یکون محال، وفیه محذور عقلی؛ لأنّه ینافی حرمة المخالفة القطعیة مع أنّ المفروض أنّ المکلّف غیر قادرٍ علی المخالفة القطعیة. ولا بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة أیضاً لما ذکرناه من أننا نتکلّم بناءً علی الاقتضاء، وبناءً علی الاقتضاء یکون وجوب الموافقة القطعیة الذی یحکم به العقل معلّق علی عدم الترخیص الشرعی، فإذن: لا یُعقل أن یکون منافیاً لما عُلّق علیه، أی لا یُعقل أن یکون منافیاً لهذا الترخیص. فلا توجد منافاة عقلیة، ولا مانع عقلی من الجمع بین الترخیص الظاهری فی کل أطراف العلم الإجمالی وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال.

ص: 12

نعم، یوجد هناک محذور عقلائی فی الجمع بین الترخیص الظاهری فی أطراف العلم الإجمالی وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، المحذور لیس عقلیاً، وإنّما المحذور عقلائی، بمعنی أنّ العقلاء لا یرون إمکان الجمع بین الترخیص وبین التکلیف الواقعی الواصل إلی المکلّف بالعلم الإجمالی، لا یقبلون هذا الترخیص؛ باعتبار أنّ العقلاء فی ما بینهم، فی تکالیفهم، فی ما یرونه من تکالیف بین الموالی وبین العبید لا یرون أنّ الغرض الترخیصی یتقدّم علی الغرض الإلزامی الواصل بعلمٍ إجمالی، فی تکالیفهم لا محذور ___________ بحسب نظرهم ____________ فی تقدّم الغرض الترخیصی علی الغرض الإلزامی غیر الواصل، المحتمل کما فی الشبهات البدویة، لا مشکلة فی نظر العقلاء من أنّ الشارع یجعل البراءة، وتقدیمه للغرض الترخیصی علی الغرض الإلزامی المحتمل، فی الشبهات البدویة یحتمل الوجوب ویحتمل الحرمة، لکن الشارع یقدّم الغرض الترخیصی علی الغرض الإلزامی المحتمل، هذا شیء طبیعی ومتعارف فیما بینهم. أمّا عندما یکون الغرض اللّزومی واصلاً إلی المکلّف بعلمٍ، ولو کان إجمالیاً، العقلاء لا یقبلون الترخیص فی الأطراف، ویعتبرونه منافیاً بحسب نظرهم لهذا الغرض اللّزومی الواصل إلی المکلّف؛ لأنّهم فی ما بینهم لا یرون تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة فی صورة وصول الغرض اللّزومی إلی المکلّف، ولو بعلمٍ إجمالی، وإنّما یرون إمکانیة هذا التقدیم وصحّته عندما یکون الغرض اللّزومی محتملاً، ومشکوکاً، لکن مع وصوله بعلمٍ إجمالی لا یرون هذا التقدیم.

لکن، هذا المانع العقلائی یختص بما إذا کان التردد فی الغرض اللّزومی الواصل تردداً بین أطرافٍ کثیرة، یعنی یختص بالشبهة المحصورة، هنا یوجد محذور عقلائی یمنع من الالتزام بالترخیص، وأمّا عندما تکون الأطراف کثیرة جدّاً کما فی محل الکلام، هنا یرتفع حتّی هذا المحذور العقلائی، لا محذور عقلائی فی تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الغرض اللّزومی الواحد المشتبه والمتردد بین أطرافٍ کثیرة جدّاً، هنا لا مانع من تقدیم الأغراض الترخیصیة عندما یقع التزاحم بینها وبین غرض لزومی واحد ____________ مثلاً ___________ مردد بین أطرافٍ کثیرة، کما فی الشبهات غیر المحصورة، فی الشبهات غیر المحصورة إذا قدّمنا الغرض اللّزومی فأننا نلزم المکلّف بالاحتیاط فی جمیع هذه الأطراف الألف، یعنی نلزمه بترک __________ مثلاً ___________ 999 مباح واقعی فی سبیل تحصیل الغرض اللّزومی، هذا عندهم لا یستقیم، لا مانع حینئذٍ من تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الغرض اللّزومی، أغراض ترخیصیة کثیرة تفوت عندما یُقدّم علیها الغرض اللّزومی، هنا لا یرون مانعاً ولا محذوراً فی تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الغرض اللّزومی الواحد الواصل إلی المکلّف والمردد بین الأطراف الکثیرة، فلا یوجد محذور عقلی کما قلنا سابقاً، ولا یوجد محذور عقلائی فی الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی عندما تکون أطرافه کثیرة جدّاً، وإن فات بذلک الغرض اللّزومی الواصل إلی المکلّف بعلمٍ إجمالی من هذا القبیل، ولعلّ السرّ فی التفرقة بنظر العقلاء، کما یُدّعی فی هذا الوجه، بین الشبهة المحصورة والشبهة غیر المحصورة هو أنّ تقدیم الغرض اللّزومی فی الشبهة المحصورة لا یلزم منه إلاّ فوات غرضٍ ترخیصی، أو غرضین ترخیصیین، أو ثلاثة، أو أربعة، أغراض ترخیصیة، وهی أغراض قلیلة، إذا قدّمنا الغرض اللّزومی، وألزمنا المکلّف بالاحتیاط فی الشبهة المحصورة تفوته أغراض ترخیصیة، لکن بالنتیجة هی أغراض ترخیصیة قلیلة؛ ولذا یهتم العقلاء هناک بالغرض اللّزومی، ولا یرون مانعاً من تقدیمه علی الأغراض الترخیصیة، ولا یرون تقدیم الأغراض الترخیصیة فی الشبهات المحصورة علی الغرض اللّزومی الواصل إلیه، بینما فی الشبهات غیر المحصورة، تقدیم الغرض الترخیصی کما قلنا یستلزم فوات ملاکات مبادئ متعددة لمباحات واقعیة، فوات أغراض ترخیصیة کثیرة فی کل أطراف هذا العلم الإجمالی ما عدا طرف واحد.

ص: 13

بعبارةٍ أخری: یلزم منه إلزام المکلّف بالترک فی مباحات واقعیة کثیرة؛ لأجل غرض ترخیصی، هذا لا یرونه العقلاء، ویرون أنّ هنا لا مانع من جعل الترخیص تقدیماً لهذه الأغراض الترخیصیة الواقعیة الکثیرة علی هذا الغرض اللّزومی الواحد الواصل إلی المکلّف بالعلم الإجمالی.

وعلی هذا الأساس؛ حینئذٍ یتّضح أنّ العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة لا یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة؛ فلذا یجوز إجراء الأصل فی هذا الطرف، وارتکابه، وإجراء الأصل فی الطرف الآخر وارتکابه.

الدلیل الرابع: علی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، هو ما ذکروه فی کلماتهم من دعوی أنّ وجوب الموافقة القطعیة التی تتحقق بالاجتناب عن کل الأطراف، یستلزم العسر والحرج علی المکلّف _____________ لنفترض أنّ الشبهة تحریمیة ______________ إلزام المکلّف بالاجتناب بالموافقة القطعیة فیه عسر وحرج، والعسر والحرج منفی بقاعدة نفی العسر والحرج؛ فحینئذٍ یرتفع التکلیف الموجب لوجوب الاحتیاط وموجب لوجوب الموافقة القطعیة، التکلیف المعلوم بالإجمال فی الشبهات غیر المحصورة، إذا نفینا وجوب الموافقة القطعیة من أجله، باعتبار أنّه یستلزم العسر والحرج؛ فحینئذٍ نفس التکلیف یکون مرتفعاً ومنفیّاً کما هو الحال فی سائر الموارد التی یکون التکلیف فیها حرجاً بالنسبة إلی المکلّف، فإنّ التکلیف یکون مرتفعاً، فلا یجب الاحتیاط، ولا تجب الموافقة القطعیة، فبالتالی هذا یکون دلیلاً علی عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهة غیر المحصورة، ویکون دلیلاً علی عدم وجوب الموافقة القطعیة. إذن: العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یستلزم العسر والحرج وهو منفی فی الشریعة المقدّسة.

نوقش فی هذا الدلیل:

ص: 14

أولاً: أنّ الحرج الموجب لرفع التکلیف شرعاً فی قاعدة نفی الحرج؛ بل قالوا حتّی الضرر فی قاعدة نفی الضرر یُراد به الحرج الشخصی والضرر الشخصی، القدر المتیقّن من قاعدة نفی الحرج، هو أنّ الحرج یُراد به الحرج الشخصی، ومن الواضح أنّ الحرج یختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، ویختلف باختلاف الخصوصیات التی یمکن ملاحظتها، قد یکون الشیء حرجیاً بالنسبة إلی شخصٍ، ولا یکون حرجیاً بالنسبة إلی شخصٍ آخر؛ حینئذٍ ما معنی أن نرفع التکلیف فی حق إنسانٍ مکلّف لا حرج علیه فی الاجتناب بقاعدة لا حرج ؟ لمّا کان موضوع قاعدة لا حرج هو الحرج الشخصی فهی تقول أنّ الشخص الذی یلزم من ثبوت التکلیف علیه، وإلزامه بامتثاله أن یقع فی الحرج، هذا یرتفع عنه التکلیف، لکن الشخص الآخر الذی لا یقع فی حرج فی امتثال هذا التکلیف وموافقته، هذا لا موجب لرفع التکلیف عنه؛ لأنّه _____________ بحسب الفرض _____________ لا یقع فی الحرج، إذا فرضنا أنّه علم بنجاسة أناء فی ضمن ألف أناء فی بلدٍ معیّن، اجتناب هذه الآنیة لمن یسکن ذلک البلد قد یکون حرجیاً بالنسبة إلیه، لکن الشخص الذی لا یسکن هذا البلد لا یکون اجتناب تمام تلک الأطراف بالنسبة إلیه حرجیاً؛ لأنّه بإمکانه أن یترک الذهاب إلی ذلک البلد ولا یقع فی الحرج، الموافقة القطعیة لهذا العلم الإجمالی بالنسبة إلی شخصٍ لا یسکن ذلک البلد لیس حرجیاً، وبالنسبة إلی شخصٍ یسکن ذلک البلد یکون حرجیاً. فالتمسّک بالقاعدة لنفی وجوب الاحتیاط، ووجوب الموافقة القطعیة عن ذاک الشخص الذی لا یسکن فی البلد، یکون بلا وجه، فلا یستفاد من القاعدة حکم عام یشمل جمیع المکلّفین کما هو المدّعی فی المقام، أنّ العلم الإجمالی فی الشبهات المحصورة یسقط عن التنجیز بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة عن الکل وبالنسبة إلی الکل، لا بلحاظ شخصٍ دون شخصٍ آخر. التمسّک لإثبات هذا المطلب بقاعدة لا حرج غیر صحیح.

ص: 15

ثانیاً: وهذه المناقشة محل خلاف، وحاصلها: یُدّعی أنّ أدلّة نفی الحرج لا تشمل محل الکلام؛ لأنّ الحرج فی محل الکلام لیس فی متعلّق التکلیف، وإنّما الحرج فی تحصیل الموافقة القطعیة لذلک التکلیف، متعلّق التکلیف فی محل الکلام لیس فیه حرج، وجوب الاجتناب عن ذلک الإناء النجس واقعاً لیس فیه حرج علی المکلّف، وإنّما یقع الحرج فی إلزام المکلّف بتحصیل الموافقة القطعیة لذلک التکلیف.

وبعبارةٍ أخری: إلزام المکلّف بإحراز امتثال ذلک التکلیف، هذا هو الذی یوقعه فی الحرج. إذن: الحرج لیس فی متعلّق التکلیف، وإنّما الحرج فی حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة فی حالات العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، ویُدّعی بأنّ أدلّة نفی الحرج لیست ناظرة إلی الأحکام العقلیة، وإنّما هی ناظرة إلی الأحکام الشرعیة، وتکون موجبة لرفع هذه الأحکام الشرعیة عندما تستلزم الحرج، تکون مخصصّة لأدلّة تلک الأحکام الشرعیة بغیر ما إذا کان یلزم منها الحرج، هی ناظرة إلی الأحکام الشرعیة ولیس لها نظر إلی الأحکام العقلیة حتّی یُستدل بها علی رفع تلک الأحکام العقلیة. ونحن فی المقام نرید أن نتمسّک بقاعدة نفی الحرج لرفع وجوب الاحتیاط، لرفع وجوب الموافقة القطعیة التی هی من الأحکام العقلیة ولیست من الأحکام الشرعیة.

هذا الرأی یتبناه صاحب الکفایة(قدّس سرّه) حیث یقول: أنّ قاعدة نفی الحرج تختص بخصوص الأحکام الشرعیة عندما یکون هناک حرج فی متعلّقها، ولا تشمل الأحکام العقلیة المترتبة علی ذلک؛ فلا یمکن التمسّک بها فی محل الکلام.

الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

ص: 16

کان الکلام فی الاستدلال علی عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهات غیر المحصورة: وکان الدلیل الرابع هو أنّ الاحتیاط ولزوم الاجتناب عن کل الأطراف یستلزم الحرج وهو منفی فی الشریعة؛ فحینئذٍ لا یجب الاحتیاط ولا تجب الموافقة القطعیة.

وانتهی الکلام إلی الجواب الثانی عن هذا الدلیل، وهو دعوی أنّ قاعدة لا حرج لا تشمل هذا الکلام؛ لأنّها ناظرة إلی الأحکام الشرعیة وتدل علی أنّ هذا الحکم الشرعی إذا لزم منه الحرج؛ فحینئذٍ یرتفع، ولیس لها نظر إلی الأحکام العقلیة کما هو الحال فی محل الکلام؛ لأنّ وجوب الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة هو ممّا یحکم به العقل لا الشرع باعتبار العلم الإجمالی، فالقاعدة لیس لها نظر إلی هذه الأحکام حتّی تکون رافعة لها.

قلنا أنّ هذا البحث محل کلام وخلاف، وذُکر هذا البحث بشکلٍ مفصّل فی دلیل الانسداد، حیث یذکر هذا البحث هناک عادّة، عندما یقال هناک أنّه بعد فرض انسداد باب العلم وباب العلمی؛ حینئذٍ قد یصار إلی الاحتیاط، ولا داعی إلی الالتزام بحجّیة الظنّ، وإنّما یجب علی المکلّف الاحتیاط، فهناک صاروا بصدد نفی وجوب الاحتیاط، واستدلوا علی عدم وجوب الاحتیاط بقاعدة لا حرج، باعتبار أنّ الاحتیاط عند انسداد باب العلم والعلمی یلزم منه الحرج. هناک استشکل صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی إمکانیة التمسّک بقاعدة لا حرج لنفی وجوب الاحتیاط بما حاصله هذا الذی ذکرناه من أنّ القاعدة لیس لها نظر إلی الأحکام العقلیة، وإنّما هی ناظرة إلی الأحکام الشرعیة، ووجوب الاحتیاط عند فرض انسداد باب العلم والعلمی لیس حکماً شرعیاً، وإنّما هو ممّا یحکم به العقل، فلا تکون القاعدة ناظرة إلی ذلک، ودالّة علی رفع هذا الحکم العقلی، فصاحب الکفایة(قدّس سرّه) إنّما التزم بذلک بناءً علی مبناه من تفسیر قاعدة لا حرج وقاعدة لا ضرر، صاحب الکفایة(قدّس سرّه) له رأیٌ فی تفسیر هذه القاعدة، حیث یری أنّ المنفی واقعاً وحقیقة فی هذه القواعد هو الحکم، لکنّه نُفی بلسان نفی الموضوع، والمقصود بقاعدة لا ضرر هو أنّ الحکم الشرعی عندما یکون موضوعه ضرریاً، أو حرجیاً یُنفی هذا الموضوع، والغرض الحقیقی هو نفی حکمه، فالمقصود هو نفی الحکم، لکن بلسان نفی الموضوع. الوضوء إذا کان ضرریاً، القاعدة تدلّ علی نفیه، والغرض نفی حکمه .... وهکذا فی سائر الموارد الضرریة، أو الحرجیة.

ص: 17

هذا التفسیر للقاعدة کأنّه یفترض أنّ القاعدة إنّما تشمل المورد إذا فرضنا أنّ موضوع الحکم الشرعی کان ضرریاً، أو حرجیاً، بأن نفترض أنّ هناک حکماً له موضوع، کما فی الوضوء، أو الغسل، فإذا کان الغسل حرجیاً، فالقاعدة تشمله؛ لأنّ هناک حکماً شرعیاً هو الوجوب، وموضوعه الغسل، وهذا الموضوع ضرری، أو حرجی؛ فحینئذٍ القاعدة تنفی الحکم بلسان نفی الموضوع، فلابدّ من افتراض کون موضوع الحکم حرجیّاً حتّی تکون القاعدة نافیة له بلسان نفی الموضوع. إذن: لابدّ من افتراض أن یکون موضوع الحکم حرجیاً، أو ضرریاً کما فی الوضوء، أو الغسل، ویقول أنّ هذا غیر متحقق فی محل الکلام؛ لأنّ موضوع الحکم الشرعی المعلوم بالإجمال فی محل الکلام لیس حرجیاً، ذاک التکلیف المعلوم بالإجمال المتعلّق بموضوعه لیس هناک حرج فی امتثاله، لو علم به المکلّف لجاء به بلا حرجٍ، وهذا معناه أنّ موضوع الحکم الشرعی لیس فیه حرج، وإنّما الحرج فی الاحتیاط من ناحیته، وفی الجمع بین المحتملات لأجله، الاحتیاط حرجی، والموافقة القطعیة فیها حرج، لکنّ الموافقة القطعیة، أو الاحتیاط لیس موضوعاً لحکمٍ شرعی، وإنّما هو موضوع لحکمٍ عقلی، فالقاعدة إنّما یصح تطبیقها فی مثل الوضوء الحرجی، والغسل الحرجی، وأمثال ذلک؛ لأنّ هذا موضوع حرجی له حکم شرعی، فالقاعدة تنفی هذا الحکم الشرعی، لکن بلسان نفی الموضوع الحرجی. أمّا الاحتیاط، فهو وإن کان یلزم منه الحرج، لکنّه لیس موضوعاً لحکمِ شرعی، وإنّما هو موضوع لحکمٍ عقلی، والقاعدة إنّما ترفع الحکم بلسان نفی موضوعه الحرجی إذا کان الحکم شرعیاً.

بقطع النظر عن صحّة هذا التفسیر للقاعدة؛ لأنّ هناک تفاسیر أخری قد لا یعتبر فیها ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، والذی هو التفسیر المشهور الذی اختاره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، واختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، حیث قالوا أنّ القاعدة تنفی الحکم مباشرة، والمنفی فیها هو الحکم، لا أنّ المنفی فیها هو الموضوع الحرجی، أو الضرری لغرض نفی الحکم، وإنّما هی تنفی الحکم مباشرة. بقطع النظر عن هذا، یمکن أن یقال: أنّ ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) مبنی علی عدم شمول القاعدة للأحکام العقلیة، وإنّما هی مختصّة بالأحکام الشرعیة، والقاعدة تدل علی نفی الموضوع الحرجی للحکم الشرعی لغرض نفی نفس الحکم الشرعی؛ فحینئذٍ لا تشمل الأحکام العقلیة. وأمّا إذا قلنا بشمول القاعدة حتّی للأحکام العقلیة؛ حینئذٍ لا یجری هذا الکلام؛ إذ یمکن تطبیق هذا التفسیر للقاعدة الذی اختاره المحقق الخراسانی(قدّس سرّه) بعد فرض الشمول، بأن یقال: أنّ موضوع الحکم العقلی __________ الاحتیاط، والموافقة القطعیة __________ یلزم منه الحرج، والقاعدة تنفی الحکم العقلی بلسان نفی موضوعه الحرجی، کما نطبّق ذلک علی الحکم الشرعی عندما یکون موضوعه حرجیاً، کذلک یمکن تطبیق القاعدة علی الحکم العقلی عندما یکون موضوعه حرجیاً کما فی محل الکلام؛ لأنّ المفروض أنّ الاحتیاط والموافقة القطعیة فیه عسر وحرج علی المکلّف، فالقاعدة حینئذٍ تنفی الحکم العقلی بلسان نفی موضوعه الحرجی، إذا قلنا بالشمول.

ص: 18

إذن: ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) مبنی علی افتراض عدم شمول القاعدة للأحکام العقلیة واختصاصها بخصوص الأحکام الشرعیة، وهذا یمکن المناقشة فیه، فاختصاص القاعدة بالأحکام الشرعیة لیس له وجه واضح، إلاّ دعوی استظهاره من أدلّة هذه القاعدة ﴿ما جعل علیکم فی الدین من حرج﴾. (1) معناه أنّ القضیة ناظرة إلی الدین، وأحکامه، ومن الواضح أنّ الحکم العقلی لیس من أحکام الدین، وإنّما هو من أحکام العقل، فقد یُستظهر من أدلّة القاعدة الاختصاص بخصوص أحکام الدین، أی الأحکام الشرعیة، فهی تنظر إلی هذا وتنفی هذا الحکم الشرعی بلسان نفی موضوعه الحرجی.

لکن یمکن أن یقال: أنّ حکم العقل بوجوب الاحتیاط لیس أجنبیاً عن الدین، وبعبارة أخری: حکم العقل بوجوب الاحتیاط لیس حکماً من قِبل حاکمٍ آخر له أحکامه، وله تشریعاته، وقوانینه فی مقابل الدین، وفی قِبال الشارع، الأمر لیس هکذا، الحکم العقلی بوجوب الاحتیاط، ووجوب الموافقة القطعیة مرجعه إلی وجوب إطاعة تکالیف المولی الصادرة منه بالنسبة إلی العبد، وهذا لیس أمراً أجنبیاً عن الدین، وإنّما هو حکم عقلی بوجوب الطاعة. أو قل __________ التعبیر بالحکم فیه مسامحة؛ لأنّ العقل لا یحکم وإنّما العقل یدرک __________ حکم العقل بوجوب الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة لا یتعدّی هذه المقولة، وهی أنّ العقل یدرک ثبوت حق الطاعة للمولی بالنسبة إلی العبد، فإذا وصل إلی العبد تکلیف المولی، العقل قد یقول قضاءً لحق الطاعة یجب موافقة هذا التکلیف، فإذن: هذا الحکم العقلی بوجوب الاحتیاط مرجعه إلی إدراک العقل أنّ المولی له حق الطاعة علی العبد، حق الطاعة لیس أمراً مجعولاً من قبل العقل، العقل لا یجعل هذا الحق، وإنّما هو أمر واقعی ثابت یُنتزع من نفس التکلیف الصادر من المولی، ولیس مجعولاً من قبل العقل. إذن: منشأ انتزاع هذا الحق، وبالتالی هذا الحکم العقلی، والإدراک العقلی بلزوم الطاعة ولزوم الاحتیاط، هو التکلیف الشرعی، وبهذا التسلسل حینئذٍ یمکن أن نقول أنّ الحکم العقلی بالاحتیاط ووجوب الطاعة هو من الدین ولیس أمراٍ مستقلاً عن الدین وخارجاً عنه؛ لأنّ مرجعه إلی إدراک العقل حق الطاعة للمولی، وهذا الحق منتزع من التکلیف الشرعی، فبالتالی یرجع إلی التکلیف الشرعی، فإذن: هو یرجع إلی الشارع، ویُعتبر من الدین؛ وحینئذٍ بإمکان الشارع یرفع حق الطاعة هذا برفع منشأ انتزاعه الذی هو عبارة عن التکلیف المعلوم الواصل إلی المکلّف بالإجمال بأن یجعل الترخیص، إذا جعل الترخیص معناه أنّه رفع هذا الحق، وبالتالی رفع هذا الحق یعنی رفع منشأ انتزاعه الذی هو عبارة عن التکلیف المعلوم بالإجمال، فیکون هذا من الدین ولیس شیئاً أجنبیاً حتّی یقال أنّ هذا الحاکم له الحق أن یقیّد أحکامه هو بغیر الحرج وغیر الضرر، أمّا أن یقیّد احکام حاکمٍ آخر بغیر الضرر وغیر الحرج، فلیس من حقّه ذلک. هذا إنّما یصح إذا کان هناک حاکمان مستقلان کلٌ منهما له تشریعاته وقوانینه، فیقال: أنّه لا معنی لأن یقیّد هذا أحکام ذاک، ولا معنی لأن یقیّد ذاک أحکام هذا. هذا لا یصح فی محل الکلام عندما یکون الحاکم هو العقل بملاک حق الطاعة للمولی فی أحکامه وتشریعاته؛ لأنّ هذا من الدین ولیس شیئاً أجنبیاً عن الدین، فیمکن أن یقال بشمول القاعدة، یعنی قضیة استظهاریة، یُدّعی بأن کون الآیة الشریفة تقول:﴿ما جعل علیکم فی الدین من حرج﴾ هذا لا یوجب خروج الأحکام العقلیة؛ بل الظاهر أنّ الأحکام العقلیة کوجوب الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة هو مشمول لهذه الآیة، ومشمول للقاعدة، والقاعدة تدلّ علی رفع هذا الحکم العقلی عندما یکون موضوعه حرجیاً. هذا من جهة.

ص: 19


1- حج/سوره22، آیه78.

ومن جهة أخری: أنّ هذا الذی ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لو فرضنا أنّه تم، والتزمنا بأنّ القاعدة لا تشمل الأحکام العقلیة، وإنّما تختص بخصوص الأحکام الشرعیة، لو تنزلنا وسلّمنا ذلک، لماذا لا یمکن تطبیق القاعدة علی وجوب الاحتیاط الشرعی، بأن ننفی وجوب الاحتیاط الشرعی فی محل الکلام، بأن نقول أنّ وجوب الاحتیاط الشرعی منفی بالقاعدة؛ لأنّ موضوع هذا الحکم الشرعی الذی هو الاحتیاط، حرجی، فالاحتیاط علی کل حالٍ هو حرجی، سواء کان موضوع الحکم عقلیاً، أو کان شرعیاً، فإذا کان موضوع هذا الحکم الشرعی حرجیاً، فتشمله القاعدة علی تفسیر صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، فیکون نفیاً للحکم الشرعی بلسان نفی موضوعه الحرجی الذی هو الاحتیاط الشرعی، فیمکن نفی وجوب الاحتیاط الشرعی عملاً بهذه القاعدة، ومن الواضح أنّ معنی نفی وجوب الاحتیاط الشرعی یعنی فی الحقیقة نفی منشأ انتزاع الاحتیاط الشرعی الذی هو عبارة عن اهتمام الشارع بتکلیفه المعلوم بالإجمال، فإذا نفینا الاحتیاط الشرعی، فأنّه یستلزم نفی منشأ انتزاعه الذی هو عبارة عن اهتمام الشارع بالتکلیف المعلوم بالإجمال، فالشارع لا یهتم بهذا التکلیف المعلوم بالإجمال.

علی کل حال، الظاهر، وفاقاً لکثیر من المحققین أنّ القاعدة تشمل الأحکام العقلیة، فیمکن تطبیقها علی وجوب الاحتیاط، ونفیه اعتماداً علی هذه القاعدة. ومن هنا یظهر أنّ الإیراد الثانی علی الدلیل الرابع لیس تامّاً؛ لأنّ الصحیح هو شمول القاعدة للأحکام العقلیة ولوجوب الاحتیاط.

الجواب الثالث: عن الدلیل الرابع، هو ما اشیر إلیه سابقاً من أنّ محل الکلام هو البحث عن وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهة غیر المحصورة المأخوذ فیها فقط وفقط کثرة الأطراف، یعنی أنّ عمدة البحث تنصب علی افتراض کثرة الأطراف فقط، أنّ هذه الکثرة هل تغیّر من الواقع شیئاً ؟ لا أن نضم إلی کثرة الأطراف نکاتاً أخری قد تقتضی عدم وجوب الموافقة القطعیة، هذا خروج عن محل البحث، فلا نضم إلی ذلک نکاتاً أخری قد تتّفق فی الشبهة المحصورة، لزوم العسر والحرج قد یتّفق فی الشبهات المحصورة، وکذلک الاضطرار إلی ارتکاب بعض الأطراف، وأیضاً خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، کل هذه النکات قد تتّفق فی الشبهات المحصورة، کلامنا لیس فی هذا، فنحن نتکلّم عن الشبهة غیر المحصورة من زاویة کثرة الأطراف فقط، وأنّ هذا هل یوجب الفرق بینها وبین العلم الإجمالی فی موارد الشبهات المحصورة، أو لا ؟ فافتراض لزوم العسر والحرج کأنّه خروج عن محل الکلام.

ص: 20

الدلیل الخامس: یُستفاد من کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) المنقول فی تقریراته، المحقق العراقی(قدّس سرّه) یری عدم وجوب الموافقة القطعیة، مع الالتفات إلی أنّه(قدّس سرّه) یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، لکنّه بالرغم من هذا یقول بعدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهات غیر المحصورة، ویستدل علی عدم وجوب الموافقة القطعیة وعدم وجوب الاحتیاط فی الشبهات غیر المحصورة بأننا نجوّز ارتکاب هذا الطرف وذاک الطرف لیس باعتبار سقوط العلم الإجمالی عن تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة کما هو مبنی الوجوه السابقة، وإنّما العلم الإجمالی باقٍ علی منجّزیته لوجوب الموافقة القطعیة، فتجب الموافقة القطعیة بلحاظ العلم الإجمالی ومنجّزیته، لکنّه یربط جواز ارتکاب بعض الأطراف الذی یعنی عدم وجوب الموافقة القطعیة بمسألة جعل البدل، ویقول أنّ الشارع یجعل باقی الأطراف بدلاً عن الحرام المعلوم بالإجمال؛ وحینئذٍ یجوز ارتکابه، وترک طرفٍ واحد، أو طرفین من الأطراف الأخری بمقدار المعلوم بالإجمال کأنّه یحقق الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، فمن هنا یکون العلم الإجمالی باقیاً علی تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة، غایة الأمر أنّ الشارع جعل بدلاً عن الحرام الواقعی، ولا إشکال أنّ المکلف إذا ترک هذا الطرف یکون قد امتثل ووافق قطعاً. المحقق العراقی(قدّس سرّه) یربط جواز ارتکاب هذا الطرف بمسألة جعل البدل، یعنی جعل باقی الأطراف بدلاً عن الحرام الواقعی، وهو(قدّس سرّه) یؤمن بالدلیل الأوّل الذی ذکرناه، یعنی یؤمن بأنّ کثرة الأطراف فی الشبهة غیر المحصورة توجب ضعف الاحتمال الذی عبّرنا عنه سابقاً بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف؛ لأنّ نسبة احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف هی واحد من ألف إذا کانت الأطراف ألف طرف، یقول أنّ هذا یوجب ضعف احتمال ثبوت التکلیف فی هذا الطرف الذی یرید الإقدام علیه والذی نرید أن نجوّز له ارتکابه، یقول: أنّ ضعف الاحتمال فی هذا الطرف الذی یرید الإقدام علیه یُلازم قوة احتمال ثبوت التکلیف فی الباقی.

ص: 21

بعبارةٍ أخری: إنّضعف احتمال الانطباق فی هذا الطرف یُلازم قوة انطباق المعلوم بالإجمال علی واحدٍ من باقی الأطراف، ولنعبّر عن قوة الاحتمال بالاطمئنان، ضعف احتمال الانطباق فی هذا الطرف یلازم الاطمئنان بثبوت التکلیف فی الباقی، یقول: أنّ قوة احتمال انطباق التکلیف فی الباقی ___________ هو یذکره بعنوان الاحتمال ___________ من المحتمل أنّ العقلاء الذین یرون أنّ احتمال التکلیف فی هذا الطرف موهوماً ولا یعتنون به، لعلّ بناء العقلاء علی عدم الاعتناء بالتکلیف فی هذا الطرف وإقدامهم علیه هو من باب جعل البدل، یعنی یبنون علی أنّ باقی الأطراف، أو طرفٍ منها، أو طرفین یکون بدلاً عن الحرام الواقعی، وبعد أن یذکر هذا المطلب الذی قلنا بأنّه شیء یشبه ما ذکرناه فی الدلیل الأوّل، یقول:(أمکن دعوی أنّ بناءهم ____________ العقلاء ____________ علی عدم الاعتناء باحتمال التکلیف فی کل طرفٍ إنّما هو لأخذهم بالظنّ القائم بوجوده فی الباقی الراجع إلی بنائهم علی بدلیة أحد الأطراف عن الواقع فی المفرّغیة، ولو تخییراً). (1) یعنی یکفی المکلّف أن یترک واحداً من الأطراف فیکون هو البدل عن الحرام الواقعی. ثمّ یصرّح،(وإلاّ فضعف الاحتمال لا یکون مصححاً لجواز الارتکاب، وإن بلغ ما بلغ) فکأنّ القضیة عنده محصورة بمسألة جعل البدل، وإلاّ مجرّد ضعف الاحتمال فی هذا الطرف لا یسوّغ ارتکابه، فلابدّ من افتراض جعل بدلٍ حتّی یسوّغ له ارتکابه.

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی الدلیل الخامس المستفاد من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه). هذا الدلیل یرید أن یقول: لا فرق بین الشبهة المحصورة وبین الشبهة غیر المحصورة فی أنّ العلم الإجمالی فیهما ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما یفترقان فی أنّ احتمال ثبوت التکلیف فی هذا الطرف فی الشبهة غیر المحصورة احتمال ضعیف، وضعف هذا الاحتمال یلازم قوة احتمال ثبوت التکلیف فی غیر هذا الطرف، وهذا یکون سبباً لبناء العقلاء علی مسألة جعل البدل، بأن یکون ما عدا هذا الطرف، أی، سائر الأطراف الأخری بدلاً عن الحرام الواقعی علی سبیل التخییر، بینما فی الشبهة المحصورة لا یوجد ضعف فی احتمال ثبوت التکلیف فی هذا الطرف؛ ولذا لا مجال لمسألة جعل البدل فی الشبهة المحصورة. هذا خلاصة رأیه علی ما تقدّم.

ص: 22


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج2، ص331.

الذی یمکن أن یُلاحظ علی هذا الدلیل هو، أنّ هذا الدلیل کما أشرنا فی الدرس السابق یشبه الدلیل الأوّل المتقدّم التام ظاهراً، غایة الأمر أنّ کلاً منهما یشترکان فی ضعف احتمال الانطباق فی کل طرفٍ إذا لوحظ وحده. الدلیل الأوّل کان یُلاحظ أنّ ضعف الاحتمال فی ذلک الطرف یلازم الاطمئنان بعدم الانطباق فی ذلک الطرف، إذا کان احتمال الانطباق فی ألف من أطراف العلم الإجمالی ضعیف، ونسبته واحد بالألف ___________ مثلاً __________ بلا شکٍّ یکون احتمال عدم الانطباق احتمالاً قویاً ویصل إلی درجة الاطمئنان، ومن هنا یحصل اطمئنان بعدم الانطباق، وعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف إذا لوحظ وحده، وفی ذاک الطرف إذا لوحظ وحده؛ لأنّ ضعف احتمال الانطباق فی هذا الطرف یلازم قوة احتمال عدم الانطباق فیه بحیث تصل قوة الاحتمال إلی درجة الاطمئنان، ویکون الاطمئنان بعدم الانطباق وعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف هو المستند والمجوّز لارتکابه، فیُستند إلی الاطمئنان باعتباره حجّة عقلائیة وشرعیة ___________ ولو باعتبار عدم الردع کما تقدّم ____________ فی مقام إثبات جواز ارتکابه، وبالتالی عدم وجوب الموافقة القطعیة. فالدلیل الأوّل یستند إلی الاطمئنان بعدم الانطباق فی نفس الطرف، باعتباره لازماً للاطمئنان لضعف احتمال الانطباق فیه. بینما المحقق العراقی(قدّس سرّه) لاحظ ضعف احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ إذا لوحظ وحده، ولاحظ ما یلازم ضعف الاحتمال فیه بالنسبة إلی سائر الأفراد لا بالنسبة إلی نفس الفرد فقط، فقال: أنّ ضعف احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ یُلازم قوة احتمال الانطباق فی الباقی علی سبیل البدل، وجعل قوة احتمال الانطباق فی الباقی منشئاً لبناء العقلاء علی مسألة جعل البدل. فالفرق بینهما هو أنّ الأوّل یقول: أنّ کلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، إذا لوحظ وحده، احتمال ثبوت التکلیف فیه ضعیف، واحتمال عدم ثبوت التکلیف فیه قوی جدّاً بحیث یصل إلی درجة الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فیه، وهذا الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف حجّة بمثابة العلم بعدم ثبوت التکلیف فیه، ویکون هو المبرر والمدرک لجواز الارتکاب. بینما المحقق العراقی(قدّس سرّه) لم یذکر ذلک، وإنّما لاحظ أنّ ضعف احتمال الانطباق فی کل طرفٍ إذا لوحظ وحده، یلازم قوة احتمال الانطباق فی الباقی علی سبیل البدل، وقلنا أنّه جعل هذا منشئاً لبناء العقلاء ____________ ولو علی مستوی الاحتمال _____________ علی مسألة جعل البدل.

ص: 23

توجیه المحقق العراقی(قدّس سرّه) لجواز الارتکاب فی الشبهة غیر المحصورة __________ إذا ثبت ___________ مع أنّ مبناه هو علی العلّیة التامّة، فهو یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، دلیل یدلّ علی جواز الارتکاب کإجماعٍ ___________ مثلاً ___________، من جهةٍ هو یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة التی تمنع من ارتکاب حتّی طرف واحد، توجیه هذا علی هذه المبانی ینحصر بمسألة جعل البدل؛ لأنّه بناءً علی مسألة جعل البدل سوف نحافظ علی کل هذه الأمور، یعنی نلتزم بالعلّیة التامّة، ونقول أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، غایة الأمر أنّ الشارع اکتفی فی مقام الامتثال ببدله، وإذا اکتفی بالبدل؛ فالإتیان بالبدل حینئذٍ یکون موافقة قطعیة للشارع، فإذن، هو لا یخرج عن حدود الموافقة القطعیة، وإنّما وافقه قطعاً، لکن الشارع جعل هذا بدل هذا، فإذا ترک هذا؛ فحینئذٍ یکون قد وافق الشارع قطعاً، لکن انحصار توجیه جواز الارتکاب ______________ إذا ثبت بدلیل ______________ بمسألة جعل البدل، علی مبنی المحقق العراقی (قدّس سرّه) الذی هو العلّیة التامّة، قد یکون مقبولاً، لکن أساس المبنی هو محل مناقشة علی ما تقدّم؛ لأنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة.

المسألة الثانیة، مسألة ثبوت جواز الارتکاب، وعدم وجوب الموافقة القطعیة بإجماعٍ ونحوه، هذه أیضاً مسألة تحتاج إلی إثبات؛ ولذا ذُکر فی کلماتهم أنّ أحد الأدلّة علی عدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهة غیر المحصورة هو الإجماع، قالوا: هناک إجماع علی عدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهة غیر المحصورة، إذا تمّ هذا، لکن کما قلنا أنّ المبنی غیر تام، لا ینحصر توجیه جواز الارتکاب ____________ إذا ثبت ____________ بذلک؛ بل یمکن توجیهه بما تقدّم من الوجوه السابقة؛ بل إذا تمّ ما تقدّم من الوجوه السابقة، أو بعض الوجوه السابقة، یمکن الاستناد إلیها فی إثبات جواز الارتکاب بلا حاجة إلی إجماعٍ . یعنی إذا ناقشنا فی تحقق الإجماع، فیمکن الاستناد إلی بعض الوجوه السابقة لإثبات جواز الارتکاب.

ص: 24

الدلیل السادس: هو عبارة عن روایة، قالوا أنّ فیها دلالة علی عدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهات غیر المحصورة، وهی روایة أبی الجارود، قال:(سألت أبا جعفر "علیه السلام" عن الجبن، فقلت له: أخبرنی من رأی أنّه یُجعل فیه المیتة، فقال: أمن أجل مکانٍ واحد یُجعل فیه المیتة حرُم فی جمیع الأرضین ؟ ........والله، أنّی لأعترض السوق، فأشتری بها اللّحم، والسمن، والجبن، والله، ما أظنّ کلّهم یسمّون، هذه البربر وهذه السودان). (1) [1]

الاستدلال بالروایة بدعوی أنّ الروایة ظاهرة فی عدم تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة فی ما إذا کانت الشبهة غیر محصورة.

اعترض علی الاستدلال بالروایة، وسیأتی فی مناقشة الاعتراضات بیان الوجه الصحیح لتقریب دلالتها علی عدم وجوب الموافقة القطعیة:

أولاً: بضعف السند؛ لأنّ الروایة فیها محمد بن سنان، وهو محل کلام معروف.

ثانیاً: بضعف الدلالة. والمعترض هو الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، (2) ولو ذکره بعنوان الاحتمال، الشیخ کأنّه یرید أن یقول: یُحتمل أن تکون الروایة أجنبیة عن محل الکلام، ولیست ناظرة إلی الشبهة غیر المحصورة، وإنّما هی ناظرة إلی أنّه مع العلم بوجود الحرام فی مکانٍ معیّن، هذا لا یصیر موجباً لترک کل جبنٍ موجود فی العالم لمجرّد احتمال أن یکون فی ذلک الجبن میتة، العلم بوضع المیتة فی الجبن المعیّن غایته أنّه یصیر منشئاً لاحتمال أن یکون الجبن فی موضع آخر أیضاً وضعت فیه المیتة، لکن هذا لیس بابه باب العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة، فالإمام (علیه السلام) یقول له: (أمن أجل مکان واحد یُجعل فی المیتة حرُم جمیع ما فی الأرض)، فلم یفترض شبهة غیر محصورة، ولم یفترض بأنّه یعلم بأنّ بعض الجبن مما یُجعل فیه المیتة، وإنّما هو علم بلا تردد ولا اشتباه کما یتطلّبه العلم الإجمالی، فلم یفترض الاشتباه والتردد والإجمال، هو علم بوضع المیتة فی جبنٍ معیّن، هذا صار منشئاً لاحتمال أنّ جبناً آخر فی مکان آخر أیضاً وضعت فیه المیتة، لکن هذا الاحتمال لا یُعتنی به، ولا معنی للاعتناء بهذا الاحتمال من أجل أنّه رأی جبناً فی موضعٍ معیّن یوضع فیه المیتة، الروایة ناظرة إلی هذا ولیست ناظرة إلی مسألة الاشتباه و العلم الإجمالی، والشبهات غیر المحصورة، فتکون أجنبیة عن محل الکلام.

ص: 25


1- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج25، ص119، کتاب الأطعمة والأشربة، باب61، ح5، ط آل البیت.
2- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج2، ص263.

هذا الاعتراض لعلّه رکّز علی صدر الروایة، إنصافاً، صدر الروایة فیه هذا الظهور(أخبرنی من رأی أنّه یُجعل فیه المیتة)، هذا یصیر منشئاً لاحتمال أن کل جبن فیه المیتة، لکن هذا احتمال مجرّد، فقال:(أمن أجل مکانٍ واحد یُجعل فیه المیتة حرُم جمیع ما فی الأرض)،صدر الروایة لعلّه یؤیّد هذا الفهم، لکن ذیل الروایة لعلّه لا یؤیّد هذا الفهم. یقول(والله، أنی لأعترض السوق، فأشتری اللّحم والسمن والجبن. والله، ما أظنّ کلّهم یسمّون). ظاهر العبارة عرفاً أنّ المراد بها هو الاطمئنان بأنّ بعضهم لا یُسمّی(ما أظنّ کلّهم یسمّون) عرفاً یُفهم منها أنّ بعض هؤلاء السودان، وبعض هؤلاء البربر لا یسمّون، علی الإجمال، ولم یشخّص بعضاً معیّناً لا یسمّی، یعنی أنا أعلم، أو أطمئن أنّ بعضهم، علی الإجمال لا یُسمّی، فصار علماً إجمالیاً، أنّ بعض اللّحم، أو السمن، أو الجبن المُشتری من السوق هو طرف لعلم إجمالی بأنّ هناک علماً بأنّ بعض من یبیعها لا یسمّون، فیکون کل لحم یُشتری من السوق هو طرف لعلم إجمالی، أی، احتمال أن یکون هذا مأخوذ من الشخص الذی لا یُسمّی، المعلوم بالإجمال، أو بالاطمئنان، احتمال أن یکون هذا الشخص الذی نعلم إجمالاً بأنّه لا یُسمّی، لعلّه یکون هو هذا الذی اشتری منه اللّحم، أو السمن، أو الجبن، هذا علم إجمالی، والظاهر أنّ الأفراد کثیرة، فلعلّ الروایة، أو ذیل الروایة علی الأقل، ناظر إلی مسألة العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، والروایة فیها ظهور فی أنّه لا یجب الاجتناب عن الجبن، یعنی لا تجب الموافقة القطعیة. لعلّ من استدل بالروایة استدلّ بها علی هذا الأساس، أی، استدلّ بذیلها علی ذلک، ولعلّه یجعل الذیل مفسّراً للصدر، ویحمل الصدر علی هذا المعنی، ومن یناقش فی الاستدلال بها یلاحظ الصدر، باعتبار أنّ الصدر وحده إذا جُرّد عن الذیل لیس فیه دلالة علی افتراض علمٍ إجمالی واشتباه وتردد حتّی تکون الروایة ناظرة إلی محل الکلام. وعلی کل حال، الروایة فیها مناقشة سندیة.

ص: 26

هذه هی أهم الأدلّة التی استدلّ بها علی عدم وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام، والظاهر أنّ الدلیل الأوّل منها __________ علی الأقل _________ تام، فیمکن الاستناد إلیه لإثبات عدم وجوب الموافقة القطعیة. ویؤیّد هذا الشیء الإجماع، مسألة الإجماع أیضاً ینبغی أن تُذکر باعتبار أنّ هذا الکلام نُقل فی کلمات الفقهاء وکأنّه من الأمور المسلّمة، أنّ الشبهات غیر المحصورة لا تجب فیها الموافقة القطعیة. هذا بالنسبة إلی أصل المطلب.

بعد الفراغ عن عدم وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهات غیر المحصورة، الذی یعنی جواز ترک الموافقة القطعیة بارتکاب بعض أطراف الشبهة، فیجوز للمکلّف ارتکاب بعض الأطراف. هذا فرغنا منه. الآن یقع الکلام فی جواز المخالفة القطعیة التی تعنی ارتکاب الجمیع. وفرض مسألتنا فی الشبهات التحریمیة، المرحلة الأولی هی جواز ارتکاب البعض، وقلنا أنّ هذا یجوز؛ لعدم وجوب الموافقة القطعیة. الآن نتکلّم عن أنّه هل یجوز ارتکاب جمیع أطراف الشبهة التی ارتکبها، إذا قلنا بالجواز، وأنّ المخالفة القطعیة لیست حراماً؛ لأنّ ارتکاب الجمیع یعنی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال. وإذا قلنا بالحرمة؛ فحینئذٍ تکون المخالفة القطعیة محرّمة.

هذه المسألة إنّما تُطرح حینما یُفترض تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، فإذا کان المکلّف متمکّناً من المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ نبحث، أنّ هذه المخالفة القطعیة بالنسبة له هل هی جائزة، أو حرام علیه ؟ أمّا إذا فرضنا أنّه غیر قادر، کما هو مبنی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، حیث أنّه یعتبر أنّ المیزان فی الشبهة غیر المحصورة هو عدم القدرة علی المخالفة القطعیة، یعنی هو یفترض فی کل شبهة غیر محصورة عدم التمکّن من المخالفة القطعیة، ویستند إلی عدم التمکّن من المخالفة القطعیة لإثبات عدم منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یری أنّ وجوب الموافقة القطعیة تابع لحرمة المخالفة القطعیة. إذا فرضنا ذلک بناءً علی هذا المسلک للمحقق النائینی(قدّس سرّه) حینئذٍ تکون هذه المسألة سالبة بانتفاء الموضوع، نحن نتکلّم عن جواز المخالفة القطعیة وحرمتها عندما یفترض تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، فنقول له یجوز لک ذلک، أو یحرم علیک ذلک. أمّا عندما نفترض فی نفس عنوان المسألة، أی فی نفس افتراض الشبهة غیر المحصورة عدم تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة؛ فحینئذٍ لا معنی للبحث عن أنّ المخالفة القطعیة جائزة، أو حرام؛ ولذا هذه المسألة لا تُطرح بناءً علی مسلک المحقق النائینی(قدّس سرّه) المطروح سابقاً. نعم، علی المسالک الأخری فی المیزان فی الشبهة غیر المحصورة یمکن طرح هذه المسألة، فیقال: بعد الفراغ عن جواز ارتکاب بعض أطراف الشبهة یقع الکلام فی جواز ارتکاب تمام أطراف الشبهة، لو فُرض أنّ المکلّف کان متمکّناً من ارتکاب جمیع أطراف الشبهة، هل المخالفة القطعیة جائزة، أو لا ؟

ص: 27

قالوا: أنّ الجواب عن هذا السؤال یختلف باختلاف المبانی فی المیزان فی الشبهة غیر المحصورة، ویختلف باختلاف ما یُستند إلیه لإثبات عدم وجوب الموافقة القطعیة، فلابدّ من مراجعة هذه المبانی، أو الأدلّة المتقدّمة حتّی نعرف أنّه متی نلتزم بحرمة المخالفة القطعیة، ومتّی نلتزم بجوازها ؟

المبنی الأوّل: وهو المبنی الذی یری أنّه فی کل شبهة غیر محصورة هناک اطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ من أطراف ذلک العلم الإجمالی إذا لوحظ وحده. علی هذا المبنی الجواب العام عن السؤال المطروح فی هذه المسألة هو أنّ کل طرف ما دام هذا الاطمئنان الذی استُند إلیه فی جواز الارتکاب موجوداً فیه، فیجوز ارتکابه؛ لأنّ المدرک لتجویز الارتکاب هو الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف. فإذا ارتکب الطرف الأوّل، فالاطمئنان موجود فیه، وکذلک الطرف الثانی، والثالث...وهکذا، فإذا فُرض وجود الاطمئنان حتّی فی الفرد الأخیر یجوز له ارتکابه؛ لأنّ المدرک علی هذا المبنی هو الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ إذا لوحظ وحده، فما دام الاطمئنان موجوداً یجوز الارتکاب، ولو أدّی ذلک إلی المخالفة القطعیة. هذا بشکلٍ عام.

الکلام فی أنّ هذا الاطمئنان الذی استندنا إلیه لإثبات جواز الارتکاب وعدم وجوب الموافقة القطعیة، هل یزول بالارتکاب التدریجی للأطراف ؟ إذا زال الاطمئنان؛ حینئذٍ یسقط المدرک والمستند لتجویز الارتکاب، فرضاً ارتکب مقداراً لا بأس به من الأطراف، ووصل إلی أطراف أخری، وفرضنا أنّ فی هذه الأطراف الأخری یزول الاطمئنان بعدم الانطباق، فإذا زال الاطمئنان یزول المستند الذی نستند إلیه لإثبات جواز الارتکاب، فلا یجوز الارتکاب، وهذا معناه أنّ المخالفة القطعیة حرام، فلا نجوّز له المخالفة القطعیة. وأمّا إذا فرضنا عدم زوال الاطمئنان بالارتکاب التدریجی للأطراف، وإنّما یبقی علی حاله، فکما أنّ هناک اطمئناناً فی الطرف الأوّل الذی ارتکبه، کذلک الاطمئنان باقٍ فی هذا الطرف الذی یرید ارتکابه بعد اقتحام أطراف أخری، فإذا کان الاطمئنان باقیاً؛ فحینئذٍ یجوز الاستناد إلیه لإثبات جواز الاقتحام. هل الاطمئنان یزول بارتکاب بعض أطراف الشبهة، أو لا یزول ؟

ص: 28

قد یقال: لا یزول، فیجوز الاستناد إلیه فی اقتحام باقی الأطراف، باعتبار أنّ أیّ طرفٍ من أطراف هذا العلم الإجمالی من المقدار الباقی بعد ارتکاب البعض تکون نسبة الانطباق فیه هی نفس نسبة الانطباق فی الفرد الأوّل الذی ارتکبه، إذا کانت نسبة الانطباق فی الفرد الأوّل الذی ارتکبه هی نسبة واحد بالألف، إذا افترضنا أنّ عدد الأطراف ألف طرف، کذلک هذه النسبة نفسها تبقی محفوظة فی هذا الفرد الذی یرید ارتکابه بعد ارتکاب جملة من أطراف العلم الإجمالی، باعتبار أنّ احتمال الانطباق فی هذا الطرف، ولنفترض أنّه الطرف العشرین، بعد ارتکاب الباقی هو واحد بالألف؛ لأنّه یحتمل ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، ویحتمل أیضاً ثبوت التکلیف فی غیره من الأطراف الأعم من الأطراف التی ارتکبها ومن الأطراف الباقیة، فحتّی لو فرضنا أنّه ارتکب الطرف الأوّل، لکن الآن عندما یرید أن یقدم علی الطرف العشرین، ألا یحتمل أنّ المعلوم بالإجمال ینطبق علی ذاک الطرف الذی ارتکبه ؟ بالوجدان یحتمل هذا، وهذا معناه أنّه عند احتمال الانطباق فی هذا الطرف العشرین، هو أیضاً واحد من ألف، بینما احتمال الانطباق فی الباقی الأعم الذی هو عبارة عن مجموع ما ارتکبه وما بقی، احتمال الانطباق فی ما عدا هذه العشرین هو احتمال کبیر جدّاً واصل إلی درجة الاطمئنان، فإذن: یکون هناک ضعف الاحتمال فی هذا الطرف، وضعف الاحتمال فی هذا الطرف یستلزم الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فیه، وهذا معناه بقاء الاطمئنان فی هذا الطرف بالرغم من ارتکاب بعض الأطراف، وهذا معناه أنّ الاطمئنان لا یزول بارتکاب البعض؛ بل یبقی علی حاله، غایة الأمر أنّه فی الطرف الأوّل الذی یرتکبه یکون هناک اطمئنان بثبوت التکلیف فی الباقی الذی لم یرتکبه، بینما فی الطرف العشرین یکون هناک اطمئنان بثبوت التکلیف فی مجموع ما ارتکبه والباقی، هناک اطمئنان بثبوت التکلیف فی هذا، وهذا یلازم الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، وإذا کان هناک اطمئنان یکون حجّة، ویُستند إلیه لإثبات جواز الارتکاب.

ص: 29

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی حرمة المخالفة القطعیة،وذکروا بأنّ هذا یختلف باختلاف الوجوه التی نستند إلیها لإثبات وجوب الموافقة القطعیة. فی الدرس السابق ذکرنا بأنّه إذا کان المستند فی عدم وجوب الموافقة القطعیة وعدم التنجیز للعلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، إذا کان المستند هو الوجه الأوّل، الذی هو عبارة عن الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ إذا لوحظ وحده، بناءً علی هذا ذُکر بأنّ الارتکاب هنا یکون جائزاً لجمیع الأطراف، بمعنی أنّه لا تحرم المخالفة القطعیة، کما لا تحرم المخالفة الاحتمالیة بارتکاب بعض الأطراف، وهو معنی عدم وجوب الموافقة القطعیة، کذلک لا تحرم المخالفة القطعیة بارتکاب جمیع الأطراف، ویُستند فی ذلک إلی الاطمئنان نفسه، بادّعاء أنّ الاطمئنان الذی استُند إلیه لإثبات جواز الارتکاب موجود فی جمیع الأطراف؛ إذ کل طرفٍ إذا لوحظ وحده هناک اطمئنان بعدم الانطباق فیه، سواء کان ذلک قبل ارتکاب أطرافٍ الأخری، أو کان بعد ارتکاب أطرافٍ أخری، علی کلا التقدیرین الطرف إذا لوحظ وحده هناک اطمئنان بعدم الانطباق فیه، فیُستند إلی هذا الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ، حتّی لو ارتکب أطرافاً أخری، کل طرفٍ فیه اطمئنان بعدم الانطباق، فیستند إلی ذلک الاطمئنان لإثبات جواز ارتکابه، ولا داعی لملاحظة خصوص الأفراد المتبقیة بعد ارتکاب بعض الأفراد، وإنّما یُلاحظ مجموع الأفراد التی ارتکبها والأفراد الباقیة، إذا لاحظ هذا الطرف الذی یرید ارتکابه بعد ارتکاب عشرین طرفاً __________ مثلاً __________ فأنّ احتمال الانطباق فیه سوف یکون هو عبارة عن واحد بالألف، وهی نفس النسبة التی کانت موجودة فی الطرف الأوّل الذی أقدم علی ارتکابه، فکما کان هذا الاطمئنان فی الطرف الأوّل الذی أقدم علی ارتکابه مسوّغاً للإقدام علی الارتکاب، کذلک هو موجود فی سائر الأطراف، وإن ارتکب بعضاً منها، وإن ارتکب أغلبها، یبقی هذا الاطمئنان موجوداً إلی آخر طرفٍ، وبناءً علیه تجوز المخالفة القطعیة.

ص: 30

وذکرنا فی الدرس السابق أنّه قد یقال: لا داعی لافتراض زوال الاطمئنان بعد ارتکاب بعض الأطراف، إذا لم نُدخِل فی الحساب الأطراف التی ارتکبها، یمکن أن یقال: فی الأطراف المتبقیّة تختل النسبة، فقد یزول الاطمئنان بعدم الانطباق إذا لاحظنا خصوص الأطراف المتبقیّة، لکن لا داعی لذلک، یلحظ فی هذا الطرف جمیع الأطراف الأخری، أی ما ارتکبه والباقی، وقلنا أنّه سیجد أنّ النسبة هی نفس النسبة، نسبة احتمال الانطباق نفس النسبة، نسبة متدنیّة وضعیفة جدّاً، یوجد علی خلافها اطمئنان بعدم الانطباق، وهذا هو الذی یسوّغ الارتکاب.

وقد یقال فی المقابل: بأنّ الاطمئنان بعدم الانطباق یزول بعد ارتکاب بعض الأطراف؛ لما تقدّم سابقاً من أنّ منشأ الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرف هو الاطمئنان بالانطباق علی مجموع الأطراف الأخری علی سبیل البدل، وهذا هو الذی یکون منشئاً لحصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف.

إذن: الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ هو ناشئ من الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف الأخری ما عداه، لکن علی سبیل البدل؛ حینئذٍ یقال: کیف یحصل الاطمئنان بعدم الانطباق فی الباقی مع أنّا فرضنا الاطمئنان بالانطباق فی الباقی فیها ؟ هذا ألیس فیه تهافت ؟ قد یقال هذا؛ بل ذُکر فی بعض الکلمات.

الجواب عن هذا هو: أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق صحیح أنّه ناشئ من الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأفراد علی سبیل البدل، لکن منشأ هذا الاطمئنان موجود فی جمیع الأطراف ولا یختصّ بخصوص الطرف الأوّل الذی یرتکبه، ولا الثانی، ولا الثالث، لو ارتکب نصف الأطراف یبقی فی الأطراف الأخری أیضاً اطمئنان بعدم الانطباق ناشئ من الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف، لکن الکلام فی أنّ سائر الأطراف ما هی ؟ قلنا بأنّه لا داعی لتخصیص سائر الأطراف بخصوص الأطراف المتبقیّة، وإنّما المقصود بسائر الأطراف هو مجموع ما ارتکبه، وما بقی، إذا جاء إلی هذا الطرف الذی رقمه ____________ فرضاً ____________ خمسمائة، هناک اطمئنان بعدم الانطباق فیه، ولا یزول هذا الاطمئنان، ومنشأ هذا الاطمئنان هو الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف، الأعمّ ممّا ارتکبه وممّا بقی علیه، فلا داعی لزوال هذا الاطمئنان. علی أنّه بقطع النظر عن هذا، اساساً الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف هل ینافی الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ لو لوحظ وحده، أو لا ؟ هو یرید أن یقول أنّ هذا ینافیه، نحن فرضنا الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف، فکیف یُدّعی الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ من الأطراف المتبقیّة ؟ السؤال هو: هل هناک منافاة بینهما ؟ الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف، هل ینافی الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ من هذه الأطراف لو لوحظ وحده ؟ لا ینافیه. والسرّ هو أنّ الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف موجود، لکن علی سبیل البدل، وهذا موجود فی محل الکلام، یعنی یعلم بالانطباق فی سائر الأطراف، لکن مع ما ذکرناه، أنّ المقصود بسائر الأطراف هو مجموع ما ارتکبه والأطراف المتبقیّة، هناک اطمئنان بالانطباق فی سائر الأطراف غیر هذا الطرف الذی رقمه ____________ مثلاً __________ خمسمائة وواحد، هناک اطمئنان بالانطباق فی ما عداه من الأفراد، وهذا یکون منشئاً لحصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، فالاطمئنان بعدم الانطباق موجود فی هذا الطرف حتّی بعد فرض ارتکاب مجموعة کبیرة من الأطراف.

ص: 31

وبعبارةٍ أکثر وضوحاً: أنّ الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأفراد لا یزید عن العلم الإجمالی بالانطباق، فأساس کلامنا هو أنّ هناک علماً إجمالیاً بثبوت التکلیف فی ضمن هذه الأفراد الکثیرة، وهذا علم إجمالی بالانطباق، وقد تقدّم أنّ هذا لا ینافی الاطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ لو لوحظ وحده، بعد ارتکاب بعض الأطراف، الاطمئنان بالانطباق فی سائر الأفراد لا یزید عن العلم الإجمالی بالانطباق فی مجموع الأفراد، فکما أنّ العلم الإجمالی بالانطباق وثبوت التکلیف لم یکن منافیاً للاطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ لو لوحظ وحده، کذلک الاطمئنان بالانطباق وثبوت التکلیف فی الباقی أیضاً لیس منافیاً لافتراض وجود الاطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ من الباقی لو لوحظ وحده؛ بل بعضهم استدلّ علی عدم حرمة المخالفة القطعیة بدعوی انحلال العلم الإجمالی، أصلاً جواز ارتکاب کل الأطراف لیس استناداً إلی الاطمئنان بعدم الانطباق کما تقدّم سابقاً، وإنّما قد یُدّعی انحلال العلم الإجمالی فی محل الکلام، بمعنی أنّ المکلّف عندما یأتی ببعض الأطراف، قد یکون الإتیان ببعض الأطراف مؤدّیاً إلی انحلال العلم الإجمالی، إذا جاء ببعض الأطراف استناداً إلی الاطمئنان بعدم الانطباق __________ علی ما تقدّم، الذی هو الدلیل الأوّل __________ هذا قد یوجب انحلال العلم الإجمالی فی الباقی، فیجوز ارتکاب الباقی باعتبار أنّها شبهة بدویة غیر مقرونة بالعلم الإجمالی، فجواز ارتکاب الباقی لیس من باب أنّ کل طرفٍ یرید ارتکابه هناک اطمئنان بعدم الانطباق، کلا، نقطع النظر عن هذا، أصلاً ارتکاب بعض الأطراف استناداً إلی الاطمئنان بعدم الانطباق قد یوجب انحلال العلم الإجمالی فی الباقی، وإذا انحل العلم الإجمالی فی الباقی؛ حینئذٍ نتعامل مع الباقی معاملة الشبهة البدویة، فیجوز ارتکابها، فلا تحرم المخالفة القطعیة بدعوی انحلال العلم الإجمالی عند ارتکاب بعض الأطراف.

ص: 32

قد یُشکل علی هذا الکلام: بأنّ ارتکاب بعض الأطراف لا یوجب زوال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة، وهل ارتکاب بعض الأطراف إلاّ کتلف بعضها، أو کخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، ومن الواضح أنّ تلف بعض الأطراف لا یُسقِط العلم الإجمالی عن التنجیز، وخروج بعض الأطراف عن العلم الإجمالی لا یوجب خروج العلم الإجمالی عن التنجیز، وإلاّ سوف تکون القضیة سهلة، فکل شخصٍ لدیه علم إجمالی یُتلِف بعض الأطراف، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز بلحاظ الباقی ! ارتکاب بعض الأطراف فی محل کلامنا حاله حال تلف بعض الأطراف، وحال خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، وهذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز.

إذا أُشکل علیه بهذا الإشکال یجیب: بأنّ هذا الکلام صحیح، لکن عندما یُفترض أنّ التلف والخروج عن محل الابتلاء بعد تشکّل العلم الإجمالی، وتنجیزه لأطرافه؛ حینئذٍ هذا التلف لا یُسقِط العلم الإجمالی عن التنجیز. إذا تشکّل العلم الإجمالی، ونجّز أطرافه، وبعد ذلک تلِفت بعض الأطراف، أو بعد ذلک خرجت بعض الأطراف عن محل الابتلاء، لا إشکال فی أنّ هذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز. وأمّا إذا فرضنا أنّ التلف کان قبل تشکّل العلم الإجمالی، وقبل أنّ ینجّز العلم الإجمالی أطرافه؛ حینئذٍ سوف ینحل هذا العلم الإجمالی، إذا کان العلم الإجمالی حینما حصل کانت بعض أطرافه تالفة، أو حینما حصل کانت بعض الأطراف خارجة عن محل الابتلاء، هذا العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز بلا إشکال، وما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ المکلّف حینما تشکّل عنده العلم الإجمالی کان عنده اطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ من الأطراف لو لوحظ وحده، عندما تشکّل لا أنّه حصل بعد تنجیز العلم الإجمالی لأطرافه، بعد أن نجّز العلم الإجمالی جمیع الأطراف؛ حینئذٍ حصل اطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرف، کلا، وإنّما عندما تشکّل العلم الإجمالی هناک اطمئنان بعدم الانطباق فی هذه الأفراد التی ارتکبها، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً للباقی، وهو معنی انحلال العلم الإجمالی، باعتبار أنّ ارتکاب بعض الأطراف کأنّه بمثابة التلف قبل تنجیز العلم الإجمالی لأطرافه؛ لأنّ المکلّف حین الارتکاب لدیه اطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، یعنی عندما تشکّل عنده العلم الإجمالی هو لدیه اطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، وهذا یمنع من تنجیز العلم الإجمالی بالنسبة إلی الباقی. هکذا قیل.

ص: 33

لکن، الظاهر أنّ العلم الإجمالی فی المقام لا ینحل، والسرّ هو أننّا نستند إلی أنّ الذی یحل العلم الإجمالی فی الحقیقة لیس هو ارتکاب بعض الأطراف، لیس هذا هو المدّعی، وإنّما الذی یُراد ادّعاءه، أو ما ینبغی أن یکون موجباً لانحلال العلم الإجمالی هو الاطمئنان بعدم الانطباق، أو العلم بعدم الانطباق، أو قیام الإمارة المعتبرة علی عدم الانطباق، لو قامت إمارة معتبرة علی عدم الانطباق فی هذا الطرف الذی یرید ارتکابه، هذا یحل العلم الإجمالی، العلم بعدم ثبوت التکلیف فی الطرف الذی یرید ارتکابه یحلّ العلم الإجمالی؛ حینئذٍ لا یبقی علم فی الباقی، الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف الذی یرید ارتکابه من قبیل العلم بعدم الانطباق، ومن قبیل قیام الإمارة علی عدم الانطباق، یعنی قیام الإمارة المعتبرة علی عدم ثبوت التکلیف فیه، لکن نحن لیس لدینا فی المقام اطمئنان بعدم الانطباق فی خصوص هذا الطرف، وإنّما لدینا اطمئنان بعدم الانطباق فی الأطراف علی سبیل البدل، الاطمئنان بثبوت التکلیف، أو الاطمئنان بعدم ثبوت التکلیف لا یختص بطرفٍ معیّن، فهو یختلف عن قیام الإمارة المعتبرة فی طرفٍ معیّنٍ علی عدم ثبوت التکلیف، قیام الإمارة المعتبرة فی طرفٍ معیّنٍ علی عدم ثبوت التکلیف یحلّ العلم الإجمالی، العلم بعدم ثبوت التکلیف فی طرفٍ معیّنٍ یحلّ العلم الإجمالی، ویکون من قبیل الاضطرار إلی المُعیّن الذی یوجب انحلال العلم الإجمالی. فی محل کلامنا الاطمئنان لیس من هذا القبیل، أساس تشکّل الاطمئنان لا یختص بطرفٍ، ونسبته إلی کلّ الأطراف نسبة واحدة، فیکون ما نحن فیه من قبیل الاضطرار إلی غیر المعیّن لا من قبیل الاضطرار إلی طرفٍ بعینه حتّی یوجب انحلال العلم الإجمالی، وإنّما هو من قبیل الاضطرار إلی الفرد غیر المعیّن، وهذا تقدّم الحدیث عنه، والرأی السائد أنّه لا یوجب انحلال العلم الإجمالی. علی کل حال، یبدو أنّه إذا کان المستند هو الدلیل الأوّل، فالظاهر عدم حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 34

وأمّا إذا کان المستند لعدم تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة هو قاعدة لا حرج، فالظاهر أنّ المخالفة القطعیة تبقی محرّمة؛ لأنّ مقتضی قاعدة لا حرج هو تجویز ارتکاب الأطراف بالمقدار الذی یرتفع به الحرج، لماذا نجوّز له ارتکاب جمیع الأطراف الذی یعنی المخالفة القطعیة ؟ وإنّما نجوّز له ارتکاب أطرافٍ بحیث یرتفع بذلک حرجه ولا یقع فی الحرج، ومن الواضح أنّ دفع الحرج بالنسبة للمکلّف لا یتوقّف علی أن نجوّز له ارتکاب جمیع هذه الأطراف الکثیرة، لیس هکذا، یندفع حرجه بأن نجوّز له ارتکاب الأطراف التی هی محل ابتلائه، أمّا أن نجوّز له ارتکاب جمیع الأطراف، حتّی الأطراف الأخری التی عددها ألف __________ مثلاً _________ هذا بلا وجه، ولا تقتضیه القاعدة، القاعدة تقتضی أن نجوّز له ارتکاب الأطراف بالمقدار الذی یرتفع به حرجه، ولا یتوقّف دفع حرجه علی أن نجوّز له ارتکاب جمیع الأطراف، هذا لا داعی له، فتبقی حرمة المخالفة القطعیة علی حالها؛ وحینئذٍ یمکن أیضاً إدخال هذه المسألة فی مسألة الاضطرار إلی بعضٍ غیر معیّن، حرجه یندفع بارتکاب بعض الأطراف بلا تعیین، ولا نقول له هذه الأطراف یرتفع بها الحرج، فتکون هی الجائزة، وإنّما اختیار هذا یُترَک إلی المکلّف نفسه، فهو مضطرٌ إلی ارتکاب بعض الأطراف، لکن لا بعینه، ولیس مضطراً إلی ارتکاب أفرادٍ معیّنةٍ حتّی یندفع حرجه، وإنّما هو من باب الاضطرار إلی ارتکاب أطرافٍ لا بعینها، وقد تقدّم سابقاً أنّه فی هذه الحالة العلم الإجمالی یبقی منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة. هذا بالنسبة إلی ما إذا کان المستند هو قاعدة لا حرج.

أمّا إذا کان المستند فی ذلک هو ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) من جعل البدل؛ حینئذٍ یتعیّن الالتزام بحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ المفروض بناءً علی هذا المسلک هو أنّ الشارع جعل البدل عن الحرام الواقعی فی سائر الأطراف، فبالنتیجة: الحرام الواقعی موجود فی بعض هذه الأطراف لا علی سبیل التعیین، فلا یجوز له ارتکاب الجمیع؛ لأنّ ارتکاب الجمیع یعنی ارتکاب ما جعله الشارع بدلاً عن الحرام الواقعی.

ص: 35

بعبارة أخری: أنّ العلم الإجمالی کما أنّه ینجّز الحرام الواقعی المعلوم بالإجمال، مسألة جعل البدل أیضاً توجب تنجیز حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ الشارع سوّغ للمکلّف ارتکاب هذا الطرف، لکن جعل الباقی علی سبیل البدل بدلاً عن الحرام الواقعی، فالحرام الواقعی موجود فی الباقی، فلا یجوز ارتکاب الباقی بتمام أطرافه.

وإذا کان المستند هو ما تقدّم من الدلیل الثالث، مسألة عدم التنافی بین الترخیص الظاهری المستفاد من أدلّة الأصول، وبین الحکم الواقعی الإلزامی المعلوم بالإجمال؛ حینئذٍ الظاهر أنّه یتعیّن الالتزام بجواز المخالفة القطعیة، وجواز ارتکاب الجمیع، باعتبار أنّ المقتضی الذی سوّغ لنا بناءً علی هذا الدلیل ارتکاب الطرف الأوّل الذی هو دلیل الأصل، الذی هو المقتضی الذی یثبت الترخیص فیه، وأنّ هذا الترخیص لا ینافی الحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال، هذا المقتضی الذی سوّغ لنا ارتکاب الطرف الآخر موجود فی جمیع الأطراف، کل طرفٍ هو مشمول لدلیل الأصل، وهو مقتضٍ لجواز ارتکابه، والمفروض أنّه لا مانع من الالتزام بجواز الارتکاب، وبعبارةٍ أخری: لا مانع من الالتزام بالترخیص وجواز الارتکاب الذی هو مدلول دلیل الأصل؛ لأنّه لا مناقضة ولا منافاة ____________ بحسب هذا الوجه الثالث __________ بینه __________ أی بین الترخیص ____________ وبین الحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال، فإذن: المقتضی للترخیص ولجواز الارتکاب موجود، وهو دلیل الأصل، والمانع منه مفقود؛ لأنّ المانع هو کون الترخیص منافیاً للحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال، وهذا الدلیل الثالث مبتنٍ علی إنکار المنافاة والمناقضة.

هذا تمام الکلام فی حرمة المخالفة القطعیة، وبعد ذلک یقع الکلام فی أمور ترتبط بالبحث، یأتی الحدیث عنها إن شاء الله تعالی.

ص: 36

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

قلنا أنّ الکلام یقع فی أمور بعد الفراغ عن أصل البحث فی الشبهة غیر المحصورة وعدم تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة فی الشبهة غیر المحصورة، یقع الکلام فی أمور ترتبط بذلک:

الأمر الأوّل: أنّ العلم الإجمالی بالوجوب بنحو الشبهة غیر المحصورة هل هو کالعلم الإجمالی بالحرمة مع کون الشبهة غیر محصورة بلحاظ الأحکام السابقة، أو لا ؟

بعبارةٍ أخری: أنّ الشبهة الوجوبیة مع افتراض کون الشبهة غیر محصورة، هل هی کالشبهة التحریمیة فی نفس الفرض بلحاظ الأحکام السابقة، أو لا ؟ __________ مثلاً __________ لو وجب علی الإنسان أن یکرم عالماً، وترددّ العالم بین ألف شخصٍ، أو وجب علیه أن یصلی فی مسجدٍ، وترددّ المسجد بین ألف مسجد، فی هذه الحالة، هل ترد الأحکام السابقة ؟ ما ذکرناه فی الشبهة التحریمیة سابقاً مع کون الشبهة غیر محصورة، هل یسری إلی الشبهة الوجوبیة، أو لا ؟

المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر ما حاصله: (1) أنّ الأحکام التی ذکرناها فی الشبهة غیر المحصورة تختص بالشبهة التحریمیة ولا تشمل الشبهة الوجوبیة، باعتبار أنّه هو یری کما هو واضح أنّ الضابط فی الشبهة غیر المحصورة هو عدم التمکّن من المخالفة القطعیة، وهذا الضابط لا یتحقق إلاّ فی الشبهة التحریمیة، وأمّا فی الشبهة الوجوبیة، مهما کانت أطرافها کثیرة، حتّی لو کانت ألف طرف، فالمکلّف متمکّن من المخالفة القطعیة بترک الجمیع، فی مثال إکرام العالم یترک امتثال أیّ عالمٍ، وفی مثال الصلاة فی المسجد یترک الصلاة فی أیّ مسجدٍ، إذن، هو متمکّن من المخالفة القطعیة، بینما فی الشبهة التحریمیة لم یکن المکلّف متمکّناً من المخالفة القطعیة. فمقتضی القاعدة عند المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی الشبهة الوجوبیة هو حرمة المخالفة القطعیة، باعتبار تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، ولکونه متمکّناً من المخالفة القطعیة تحرم علیه المخالفة القطعیة. نعم هو غیر قادر علی الموافقة القطعیة فی الشبهة الوجوبیة لکثرة الأطراف، فلا تجب علیه الموافقة القطعیة، لکن لا موجب لتجویز المخالفة القطعیة، بینما فی الشبهة التحریمیة یقول المکلّف غیر قادر علی المخالفة القطعیة، فلا تحرم علیه، ویری أنّ وجوب الموافقة القطعیة تابع لحرمة المخالفة القطعیة، فإذا لم تحرم المخالفة القطعیة، فلا تجب الموافقة القطعیة؛ ولذا التزم فی الشبهة التحریمیة بعدم وجوب الموافقة القطعیة، وعدم حرمة المخالفة القطعیة، یقول: أنّ العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة التحریمیة لا ینجّز کلاً منهما، لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة لعدم القدرة علیها، ولا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یری أنّها تابعة لحرمة المخالفة القطعیة، بینما هنا فی الشبهة الوجوبیة یقول العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه قادر علی المخالفة القطعیة، فتحرم علیه المخالفة القطعیة، ولا یجوز له أن یترک الصلاة فی جمیع المساجد. نعم هو غیر قادر علی الموافقة القطعیة، فالذی یرفع بهذا المقدار، لا تجب علیه الموافقة القطعیة لعدم قدرته علیها فی الشبهة الوجوبیة، لکن تحرم علیه المخالفة القطعیة.

ص: 37


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المحقق النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص119.

هذا الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من اختصاص الأحکام السابقة بخصوص الشبهة التحریمیة، وعدم شموله للشبهة الوجوبیة یتمّ علی مسلکه فی عدم تنجّز العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، وأمّا علی بقیة المسالک، وبقیة الوجوه المتقدّمة التی ذُکرت لعدم وجوب الموافقة القطعیة، فالظاهر أنّ الاختصاص الذی ذکره غیر تام؛ بل لابدّ من تعمیم ما ذُکر سابقاً للشبهة الوجوبیة، کما هی شاملة للشبهة التحریمیة، (مثلاً): بناءً علی أنّ المستند لعدم المنجّزیة هو ضعف احتمال الانطباق الذی هو الوجه الأوّل المتقدّم، أو بعبارةٍ أخری الاطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف لو لوحظ وحده، بناءً علی هذا الوجه لا فرق بین الشبهة الوجوبیة والشبهة التحریمیة، إذا تردد الواجب بین ألف فردٍ، ضعف الاحتمال بالانطباق، أو الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف لو لوحظ وحده موجود کما هو موجود فی الشبهة التحریمیة المتقدّمة، النسبة نفس النسبة، نسبة احتمال ثبوت التکلیف الوجوبی فی هذا الطرف هی واحد من ألف إذا کان الأطراف ألف، نفس النسبة الموجودة فی الشبهة التحریمیة، احتمال ثبوت التکلیف فی کل طرف احتمال ضعیف، موهوم، یوجد علی خلافه اطمئنان بعدم الانطباق، فلا یُفرّق بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة من هذه الجهة، فإذا کان المناط والملاک فی عدم المنجّزیة هو ضعف احتمال ثبوت التکلیف فی هذا الطرف لو لوحظ وحده، فمن الواضح أنّ هذا لا یُفرّق فیه بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة؛ لأنّ هذا الضعف والاطمئنان موجود فی کلٍ منهما. وهکذا لو کان المستند هو قاعدة لا حرج کما هو أحد الوجوه السابقة، أیضاً فی هذه القاعدة فی عدم تنجیز وجوب الموافقة القطعیة المستند إلی قاعدة لا حرج، لا یُفرّق بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة، قاعدة لا حرج تجری کلّما تحقق موضوعها من دون فرقٍ بین الشبهتین، فإذا فرضنا أنّه یلزم من الموافقة القطعیة فی الشبهة الوجوبیة الحرج، یرتفع وجوبها، ونفس الکلام یقال فی الشبهة التحریمیة، إذا لزم من الموافقة القطعیة الحرج یرتفع وجوب الموافقة القطعیة، نفس الکلام الذی قیل فی الشبهة التحریمیة عندما افتُرض أنّ الموافقة القطعیة للتحریم المعلوم بالإجمال یلزم منه الحرج، وهذا یوجب رفع وجوب الموافقة القطعیة، نفس الکلام یقال فی الشبهة الوجوبیة. وهکذا الحال لو فرضنا أنّ المستند هو دعوی عدم التنافی بین الترخیص الظاهری والحکم الواقعی المعلوم بالإجمال عقلائیاً، أیضاً نفس الکلام یقال بأنّه لا فرق بین الشبهة التحریمیة وبین الشبهة الوجوبیة، باعتبار أنّ دلیل الأصل الذی یُتمسّک به لإثبات الترخیص الظاهری المفروض شموله لموارد العلم الإجمالی ثابت حتّی فی الشبهة الوجوبیة، کما هو ثابت فی الشبهة التحریمیة هو ثابت فی الشبهة الوجوبیة، إطلاق دلیل الأصل وعدم المانع؛ لأنّ المانع من شمول الترخیص هو التکلیف المعلوم بالإجمال، فإذا قلنا لا تنافی ولا مناقضة بین الترخیص الظاهری فی الطرف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، ویمکن إثبات الترخیص بإطلاق دلیل الأصل فی کلٍ من الشبهتین التحریمیة والوجوبیة، کل منهما مشکوک التکلیف، غایة الأمر أنّ التکلیف المشکوک مرّةً یکون تحریماً، ومرّة یکون وجوباً، بالنتیجة دلیل الأصل فیه إطلاق یشمل کلتا الشبهتین، فإذا کان المستند هو التمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات الترخیص وعدم وجوب الموافقة القطعیة بضمیمة عدم المانع کما هو المفروض فی هذا الوجه، فهذا لا یُفرّق فیه بین الشبهة التحریمیة وبین الشبهة الوجوبیة. وهکذا الحال بناءً علی مسلک المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی ذکره فی بعض کلماته، وهو مسألة جعل البدل؛ لأنّ جعل البدل عند المحقق العراقی(قدّس سرّه) نشأ من ضعف احتمال الانطباق فی هذا الطرف لو لوحظ وحده، وهذا یستلزم قوة احتمال الانطباق فی الباقی، یقول هنا العقلاء یبنون علی جعل البدل، وضعف احتمال الانطباق کما هو موجود فی الشبهة التحریمیة موجود فی الشبهة الوجوبیة، هذا یستلزم قوة احتمال الانطباق فی ما عدا هذا الطرف، هذا أیضاً موجود فی کلٍ منهما، فکما أنّ ذاک صار منشئاً لبناء العقلاء علی مسألة جعل البدل، هنا أیضاً ینبغی أن یکون منشئاً لبناء العقلاء علی مسألة جعل البدل، فالظاهر أنّه لا ینبغی التفریق بین الشبهة الوجوبیة والشبهة التحریمیة فی ما تقدّم من الکلام.

ص: 38

نعم، علی مبنی المحقق النائینی(قدّس سرّه) تختلف هذه المسألة ویختص الکلام بخصوص الشبهة التحریمیة.

الأمر الثانی: ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) تبعاً لأستاذه المحقق النائینی(قدّس سرّه) ما حاصله: (1) أنّه بناءً علی عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، طُرح هذا البحث: هل مقتضی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، فرض العلم کعدمه ؟ أن نفترض أنّ العلم بحکم العدم، فیجری حینئذٍ حکم الشکّ فی کل واحدٍ من الأطراف ؟ عندما تکون الأطراف محصورة لا یمکن فرض عدم العلم، العلم الإجمالی موجود، لکن عندما تکون الأطراف کثیرة ونلتزم بعدم منجزیة مثل هذا العلم الإجمالی، هذا معناه أنّه یُنزّل العلم منزلة العدم، فیبقی الشکّ فی کل طرفٍ، فلابدّ من إجراء حکم الشکّ فی کل طرفٍ، ومن الواضح أنّ حکم الشکّ یختلف باختلاف الموارد، فی بعض الأحیان یکون حکم الشک هو البراءة، لکن فی بعض الأحیان قد یکون حکم الشک هو الاشتغال، یکون حکم الشکّ هو حکم الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی والتی حکمها الاحتیاط، قد یکون حکم الشک فی الطرف حتّی لو قلنا أنّ العلم الإجمالی بحکم العدم یکون حکمه هو الاشتغال والاحتیاط، هل هذا معناه ؟ أو الاحتمال الآخر ؟ أنّ مقتضی ما تقدّم من سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز هو فرض المعلوم ____________ علی حد تعبیر المحقق النائینی(قدّس سرّه) ____________ کعدمه، ولیس فرض العلم کعدمه، فیکون حینئذٍ کل واحدٍ من أطراف الشبهة کأنّه لا اشتباه ولاشکّ فیه، وتکون الشبهة کعدمها، والشکّ کعدمه، ولیس العلم کعدمه، الذی لا ینافی بقاء الشکّ ولابدّ من إجراء حکم الشکّ، وإنّما الشکّ یکون کعدمه، کأنّک عالم بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف. یقول: قولان. لا تظهر الثمرة عندما یکون حکم الشکّ هو البراءة، یعنی مخالف لحکم الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، لا تظهر الثمرة فی ذلک؛ لأنّه علی کلا التقدیرین النتیجة واحدة، سواء قلنا بأنّ مفاد ما تقدّم هو فرض العلم کعدمه، فیبقی الشکّ، ولابدّ من إجراء حکم الشکّ فی هذا الطرف، وإذا کان حکم الشکّ فی هذا الطرف هو البراءة، أو فرض المعلوم کعدمه، أیضاً بالنتیجة نصل إلی نفس النتیجة، نصل إلی البراءة، الثانی یقول _________ فرضاً _________ أنّ النجاسة المعلومة بالإجمال، عدمها فی هذا الطرف، والنتیجة أننا نحکم بالطهارة، وإذا قلنا بالأوّل، أنّ النتیجة هی فرض العلم کعدمه، یصیر شکاً فی هذا الطرف، وحکمه هو الطهارة، فلا تظهر الثمرة فی ذلک، وإنّما تظهر الثمرة فی ما إذا کان حکم الشکّ فی الطرف فی حدّ نفسه هو نفس حکم الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، حکمها الاشتغال، أو الاحتیاط، هنا تظهر الثمرة بین الاحتمالین، علی الاحتمال الأوّل لابدّ من الالتزام بالاشتغال، الاحتمال الأوّل یقول غایة ما نستفیده ممّا تقدّم هو تنزیل العلم منزلة العدم، کأنّک لیس لدیک علم إجمالی، لکن لا ینفی الشکّ؛ فحینئذٍ یکون المورد مشکوک، والمفروض أنّ حکم الشکّ هو الاشتغال والاحتیاط، بینما علی الثانی یقول الشکّ بمنزلة العدم، أبنِ علی أنّ فی هذا الطرف المعلوم بالإجمال غیر موجود، فالشک هو بحکم العدم؛ وحینئذٍ یُحکم علیه بغیر الاشتغال، ویمثّل لذلک بهذا المثال: کما لو علمنا بوجود مائع مضاف فی ضمن ألف أناء، یقول: هنا تظهر الثمرة، فعلی الأوّل لا یجوز الاکتفاء بالوضوء من أحد الآنیة؛ لأنّه غایة ما یثبت بما تقدّم هو تنزیل العلم منزلة عدمه، لکن یوجد شکّ، وحکم الشکّ إذا شککت فی أنّ هذا المائع مضاف، أو مطلق هو عدم جواز الاکتفاء به فی الوضوء؛ لأنّه لابدّ من إحراز إطلاق الماء، فإذا شکّ فی کونه مضافاً، أو مطلقاً لا یجوز الوضوء به، ویکون حکمه الاشتغال، أو الاحتیاط، وما ذکرناه سابقاً لا یفید إلاّ تنزیل العلم منزلة عدمه لا تنزیل الشکّ منزلة عدمه، فیبقی الطرف مشکوکاً، والمفروض أنّ حکمه هو الاحتیاط، فلا یجوز الاکتفاء بالوضوء من أناءٍ واحدٍ من هذه الآنیة؛ بل لابدّ من الاحتیاط، أن یتوضأ بمقدار یحرز معه أنّه توضأ بماءٍ مطلق. وأمّا علی الاحتمال الثانی الذی یرجع إلی تنزیل الشکّ منزلة العدم، تنزیل المعلوم منزلة العدم، والمعلوم هو أنّ هناک مائعاً مضافاً فی ضمن هذه الآنیة، وکأنّه یقول فی هذا الإناء أبنِ علی عدم وجود ماء مضاف، لا یوجد شکّ، مرجعه إلی کأنّک تعلم أنّ هذا لیس فیه ماء مضاف؛ حینئذٍ یلحقه حکم الماء المطلق، ویجوز الاکتفاء به فی الوضوء.

ص: 39


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص385.

یقول: وجهان؛ بل قولان. وذکر الثمرة العملیة التی تترتب علی ذلک، ثمّ ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّ ظاهر کلمات الفقهاء هو الثانی، وهو أنّ الکلام السابق الذی ذُکر من أحکام الشبهة غیر المحصورة تلازم فرض المعلوم کعدمه وفرض الشکّ کعدمه، ولیس فرض العلم فقط کعدمه، کلا، وإنّما المعلوم کأنّه لیس موجوداً فی هذا الطرف؛ وحینئذٍ یتعامل معه معاملة الماء المطلق.

یقول: (ظاهر کلماتهم هو الثانی)، ثمّ قال(وهو المختار).

الذی یُلاحظ علی هذا الکلام هو أنّ اختیار الثانی، الظاهر أنّه لا یتم علی مسلکه ________ کما أشار إلیه بعض المعلّقین علی کلامه __________ وإنّما یتمّ علی باقی المسالک، باعتبار أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یری أنّ الملاک فی عدم تنجّز حرمة المخالفة القطعیة فی الشبهات غیر المحصورة هو عدم القدرة علیها، وهو یفترض عدم القدرة فی کل شبهة غیر محصورة، ولا یتنجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یری أنّه تابع لحرمة المخالفة القطعیة، فإذا لم تحرم المخالفة القطعیة، فلا تجب الموافقة القطعیة، هذا هو دلیله علی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز بالمرّة فی الشبهات غیر المحصورة. هذا لا یقتضی أکثر من أنّ العلم بحکم العدم، لا اثر لهذا العلم الإجمالی؛ لأنّه اثره هو إمّا حرمة المخالفة القطعیة، وإمّا وجوب الموافقة القطعیة، هذا العلم لا یترتب علیه کل منهما، فلا تحرم مخالفته، ولا تجب موافقته، إذن هو بحکم العدم، ولا نستطیع أن نقول أکثر من هذا، وهذا لا یعنی نفی الشبهة ونفی الشکّ، وتنزیل الشکّ منزلة العدم، لیس فیه هکذا اقتضاء، وإنّما غایة ما نستطیع أن نقوله هو أنّ هذا العلم الإجمالی بحکم عدمه، وکأنّه لیس لدینا علم إجمالی، کأنّه شبهة غیر مقرونة بالعلم الإجمالی؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی لیس له أیّ أثر ولا یترتّب علیه أیّ اثر، فهو بحکم العدم، لکنّ الشبهة تبقی شبهة، والشکّ یبقی شکاً، فیثبت له حکمه، هذا أکثر ما نستطیع أن نقوله، أمّا أن نستفید من کلامه تنزیل الشکّ منزلة العدم، وتنزیل المعلوم منزلة العدم، أو فرض المعلوم بحکم العدم، هذا لا یمکن أن یُستفاد من کلامه، وهذا یقتضی اختیار الأوّل ولیس الثانی، وهو أنّ ما یُستفاد من الکلام السابق هو فرض العلم کعدمه لا أکثر من هذا. نعم، علی المبانی الأخری یمکن أن یقال باختیار الثانی والالتزام به ______________ مثلاً ____________ المبنی الأوّل المبنی علی ضعف احتمال الانطباق، أو الاطمئنان بعدم انطباق التکلیف فی هذا الطرف، هذا یقتضی الثانی؛ لأنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق بمنزلة العلم بعدم الانطباق، کأنّک تعلم بعدم انطباق التکلیف فی هذا الطرف، وهذا نفی للشکّ، ونفی للشبهة وتنزیل للشبهة منزلة عدمها، وفرضها کأنّها لم تکن؛ لأنّ مدرک عدم التنجیز هو أنّک عالم بعدم انطباق التکلیف فی هذا الطرف؛ حینئذٍ هل یبقی شکّ فی هذا الطرف یُرجع فیه إلی حکم الشکّ ؟ أنت عالم بعدم الانطباق، وعالم بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، هذا مرجعه فی الحقیقة إلی فرض الشک کعدمه، أو فرض المعلوم کعدمه، المعلوم الذی هو نجاسة أحد الآنیة، هنا فی هذا الطرف هذا المعلوم غیر موجود، لا توجد نجاسة؛ لأنّک مطمئن __________ بحسب الفرض __________ بعدمها، وهی بمنزلة عالم بعدمها، مع العلم بعدم النجاسة فی هذا الطرف لا تجری علیه أحکام الشکّ. نعم، بناءً علی الوجه الاخر الذی تقدّم وهو مسألة عدم المنافاة بین الترخیص الظاهری والتکلیف الواقعی والتمسّک بإطلاق دلیل الأصل لوجود المقتضی لإثبات الترخیص وعدم المانع، فبالتالی لا تجب الموافقة القطعیة، بناءً علی هذا، لعلّ هذا أیضاً مقتضاه اختیار الأوّل لا الثانی، باعتبار أنّه مع افتراض إطلاق دلیل الأصل بضمیمة عدم المنافاة والمناقضة، لا یمکن التمسّک بالأصل فی محل الکلام؛ لأنّ المفروض فی محل الکلام فی المثال الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی تظهر فیه الثمرة، المفروض فی هذا المثال أنّ الطرف مورد للاشتغال، تشکّ فی أنّ هذا الماء مطلق، أو مضاف، هذا مورد اشتغال؛ لأنّه لابدّ من إحراز کون الماء مطلقاً حتّی یصحّ الوضوء به، فمع الشکّ فی إطلاقه وإضافته لابدّ من الاحتیاط والاشتغال، الطرف هو فی حدّ نفسه مورد للاشتغال، فلا یمکن حینئذٍ التمسّک بإطلاق دلیل الأصل الذی هو الترخیص، إطلاق دلیل الأصل لا یشمل هذا المورد؛ لأنّه لا یشمل موارد قاعدة الاشتغال، فی غیر هذا المورد یمکن التمسّک بإطلاق دلیل الأصل فی هذا الطرف، وإثبات الترخیص فیه، وبالتالی عدم وجوب الموافقة القطعیة بضمیمة عدم المانع؛ لأنّ المقتضی موجود والمانع مفقود من إثبات الترخیص، وعدم وجوب الموافقة القطعیة، لکن عندما یکون الطرف هو فی نفسه مورداً لقاعدة الاشتغال، هذا یمنع من إجراء قاعدة البراءة والاستناد إلی الأصل لإثبات الترخیص.

ص: 40

الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

الأمر الثالث: هو ما یُسمّی شبهة الکثیر فی الکثیر، والمقصود بذلک هو ما إذا کانت أطراف الشبهة کثیرة، لکن کان المعلوم بالإجمال أیضاً کثیراً، أطراف الشبهة ألف طرف، والمعلوم بالإجمال لیس واحداً من ألف کما کنّا نتکلّم عنه، وإنّما المعلوم بالإجمال ___________ فرضاً ___________ خمسمائة، بحیث تکون النسبة نسبة النصف، أیّ واحد إلی اثنین، أو کانت الأطراف ألف وخمسمائة، والمعلوم بالإجمال خمسمائة، بحیث تکون النسبة هی نسبة واحد إلی ثلاثة....وهکذا. الأطراف هنا وإن کانت کثیرة، لکن المعلوم بالإجمال أیضاً کثیر، ومن هنا سُمّیت شبهة الکثیر فی الکثیر، الکلام فی أنّه هل یجری علیها حکم الشبهة المحصورة ؟ باعتبار أنّ النسبة هی نسبة واحد من ثلاثة، أو واحد من أثنین، وهی نفس النسبة الموجودة فی الشبهة المحصورة التی کنّا نتکلّم عنها. أو لا أنّ هذا بحکم الشبهة غیر المحصورة، باعتبار کثرة الأطراف ؟

ذکروا أنّ الجواب عن هذا السؤال یختلف أیضاً باختلاف المدارک، وما یُستنَد إلیه فی عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة، فإذا کان المستند فی عدم المنجّزیة فی الشبهات غیر المحصورة هو الوجه الأوّل المتقدّم الذی هو عبارة عن ضعف احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ من الأطراف، أو الاطمئنان بعدم الانطباق فی کلّ طرفٍ من الأطراف لو لوحظ وحده، الظاهر أنّه یجری علی شبهة الکثیر فی الکثیر حکم الشبهة المحصورة، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً؛ لأنّه لا یوجد عندنا ضعف فی احتمال الانطباق علی هذا الطرف؛ بل احتمال انطباق کلّ طرفٍ هو واحد من ثلاثة، فإذا فرضنا أنّ عدد الأطراف ألف، والمعلوم بالإجمال خمسمائة، احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ نأخذه هو بنسبة واحدٍ إلی ثلاثة، أو إذا کانت الأطراف ألف، والمعلوم بالإجمال خمسمائة، فنسبة الانطباق هی واحد إلی أثنین، وهذا لیس احتمالاً موهوماً، أو ضعیفاً بحیث یحصل اطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، فیکون حکم شبهة الکثیر فی الکثیر حکم الشبهة المحصورة، باعتبار أنّه لا یوجد فی کلّ طرفٍ من الأطراف اطمئنان بعدم الانطباق؛ لأنّ احتمال الانطباق لیس احتمالاً ضعیفاً، أو موهوماً، وإنّما هو احتمال قوی، نسبة واحد من أثنین، أو واحد من ثلاثة، أو واحد من أربعة، بالنتیجة لیس احتمالاً موهوماً بحیث یحصل الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف. ومن هنا لا یمکن الاستناد إلی هذا المدرک لإثبات سقوط العلم الإجمالی فی شبهة الکثیر فی الکثیر عن المنجّزیة؛ بل تبقی المنجّزیة علی حالها، وهذا معناه أننّا نُلحق هذه الشبهة بالشبهة المحصورة من جهة منجّزیة العلم الإجمالی.

ص: 41

ونفس الکلام یقال بناءً علی الوجه الثالث المتقدّم الذی یعتمد عقلائیاً علی منع المنافاة بین الترخیص فی الطرف وبین التکلیف الإلزامی المعلوم بالإجمال، لا منافاة بینهما، لا عقلاً کما تقدّم، ولا عقلائیاً باعتبار کثرة الأطراف. نعم، فی الشبهة المحصورة، عقلائیاً ممنوع الترخیص؛ لأنّ العقلاء یرونه منافیاً للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّهم لا یقبلون تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الغرض اللّزومی فی الشبهة المحصورة، لکن عندما تکون الأفراد کثیرة کما فی الشبهة غیر المحصورة المتقدّمة، هنا لا مانع من تقدیم الأغراض اللّزومیة الکثیرة علی الغرض اللّزومی الواحد، إذا کان هذا هو المدرک فی سقوط العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة عن التنجیز؛ فحینئذٍ یقال: فی شبهة الکثیر فی الکثیر لا یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لما اتضح من أنّ تقدیم الأغراض الترخیصیة الکثیرة علی الغرض اللّزومی الواحد یرتبط بما یراه العقلاء من إمکان هذا التقدیم، وهذا مرتبط فی الحقیقة بکمیة الأغراض اللّزومیة وکمیة الأغراض اللّزومیة، فإذا فرضنا أنّ الأغراض الترخیصیة کانت کثیرة جدّاً، وما یلزم من تقدیمها هو فوات غرض لزومی واحد، هنا تقدّم أنّه قد یقال: أنّ العقلاء لا یرون مانعاً من ذلک، فتقدّم الأغراض الترخیصیة ویُحکم بالترخیص وعدم وجوب الموافقة القطعیة الذی معناه سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، لکن عندما یلزم من تقدیم الأغراض الترخیصیة فوات أغراض لزومیة کثیرة، عندما یُلتزم بالترخیص فی محل الکلام سوف تفوت أغراض ترخیصیة عددها خمسمائة کما فی هذا المثال، فی هذه الحالة العقلاء یرون المناقضة بین الترخیص وبین الأحکام الإلزامیة الکثیرة المعلومة بالإجمال، فإذن: مسألة المنافاة بنظر العقلاء، والمناقضة بنظر العقلاء ترتبط بکمیة الأغراض الترخیصیة، و الأغراض اللّزومیة، الشیء الذی یمکن أن نلتزم به ____________ مثلاً ___________ لمنع المنافاة هو فی ما إذا کانت الأغراض الترخیصیة کثیرة بحیث أنّ تقدیم الغرض اللّزومی والتزام المکلّف بالاحتیاط یفوّت علیه أغراض ترخیصیة کثیرة جدّاً فی مقابل الحفاظ علی غرض لزومی واحد ____________ مثلاً ____________ فی هذه الحالة العقلاء یقولون لا مانع من تقدیم الأغراض الترخیصیة وبالتالی لا منافاة بین الترخیص وبین الحکم الإلزامی المعلوم بالإجمال. أمّا فی شبهة الکثیر فی الکثیر الذی یفوت بتقدیم الأغراض الترخیصیة هو عبارة عن أغراض لزومیة کثیرة، فی هذه الحالة هذا الأمر لا یکون تامّاً. ومن هنا بناءً علی أن یکون المستند هو هذا أیضاً لابدّ من إلحاق شبهة الکثیر فی الکثیر بالشبهة المحصورة، فیکون العلم الإجمالی باقٍ علی تنجیزه.

ص: 42

نعم، بناءً علی مسلک المحقق النائینی(قدّس سرّه) المتقدّم الذی یری أنّ المستند فی عدم وجوب الموافقة القطعیة هو عدم القدرة علی المخالفة القطعیة، هذا هو المیزان عنده، لا معنی حینئذٍ لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة لعدم القدرة علیها، فلا یتنجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه یری أنّ وجوب الموافقة القطعیة تابع لحرمة المخالفة القطعیة، فیسقط کلٌ منهما عن التنجیز، لا تحرم المخالفة القطعیة؛ لأنّها غیر مقدورة ___________ بحسب الفرض ____________ لأنّ المیزان عنده فی الشبهة غیر المحصورة هو هذا، ولا تجب الموافقة القطعیة؛ لأنّها تابعة لحرمة المخالفة القطعیة. وهذا المیزان ینبغی تطبیقه فی محل الکلام، ویصح تطبیقه فی محل الکلام، وینتج سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی کلّ موردٍ لا یتمکّن المکلّف فیه من المخالفة القطعیة، ففی کلّ موردٍ من هذا القبیل ینطبق هذا المیزان، فیکون حاله حال الشبهة غیر المحصورة، کما أنّه هناک لا یمکنه المخالفة القطعیة، هنا أیضاً لا یمکنه المخالفة القطعیة، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، وفی کلّ موردٍ یمکنه المخالفة القطعیة، المخالفة القطعیة لیست ممّا لا یتمکّن منه المکلّف، فیمکنه المخالفة القطعیة، وفی هذه الحالة لابدّ من إلحاق هذه الشبهة بالشبهة المحصورة، وأنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً، والظاهر أنّ هذا یختلف باختلاف الأمثلة والموارد، (مثلاً): فی المثال السابق الذی ذکرناه، نفترض أنّ الآنیة ألف وخمسمائة إناء، وهو یعلم بنجاسة خمسمائة إناءٍ منها، المکلّف متّی یخالف قطعاً ؟ المکلّف یخالف قطعاً إذا ارتکب ألف إناء زائداً إناء واحد؛ وعندئذٍ یقطع بالمخالفة، أی قطعاً هو ارتکب النجس. أمّا إذا ارتکب ألف إناء، هناک احتمال أن تکون الخمسمائة النجسة موجودة فی الخمسمائة الباقیة التی لم یرتکبها، فلا قطع بالمخالفة، وإنّما یقطع بالمخالفة إذا أضاف إلی الألف إناء التی ارتکبها أناءً واحداً؛ عندئذٍ یکون قاطعاً بأنّه ارتکب النجس، وخالف قطعاً؛ وحینئذٍ قد یقال: بأنّ المکلّف عادّة غیر قادر علی ارتکاب ألف إناء وإناء، فإذا کان غیر قادر علی ارتکابها؛ عندئذٍ یتحقق المیزان للشبهة غیر المحصورة عنده، وبالتالی لابدّ من الالتزام بعدم التنجیز وسقوط العلم الإجمالی فی المقام عن المنجّزیة، لکن فی مواردٍ أخری قد نفترض إمکان ارتکاب المخالفة القطعیة، کما إذا علم بنجاسة خمسین إناءٍ من مائة إناءٍ، وفرضنا أنّ هذه أیضاً شبهة الکثیر فی الکثیر، فی هذه الحالة المخالفة القطعیة تتحقق بأن یرتکب واحداً وخمسین إناء، فإذا ارتکب واحداً وخمسین إناءٍ یکون قد خالف التکلیف المعلوم بالإجمال قطعاً.

ص: 43

هنا قد یقال بأنّ المکلّف یتمکّن عادّة من ارتکاب واحد وخمسین إناء، فإذا کان متمکّناً، فالمیزان فی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز عنده لا یکون متحققّاً، وتکون الشبهة حینئذٍ ملحقة بالشبهة المحصورة، فیکون العلم الإجمالی فیها منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة. هذا هو ما یرتبط بالأمر الثالث.

إلی هنا یتمّ الکلام عن أصل البحث فی الشبهة غیر المحصورة، وعن لواحق هذا البحث التی ذکرناها ضمن هذه الأمور الثلاثة. بعد ذلک ننتقل إلی بحثٍ مهم من الأبحاث المهمّة جدّاً التی ترتبط بالعلم الإجمالی، وهو بحث انحلال العلم الإجمالی، متی ینحلّ العلم الإجمالی، وهو بحث من الأبحاث المهمّة جدّاً، ولم یُفرد له بحث مستقل فی کلمات الأصولیین من قبلنا.

الکلام یقع فی أنّه إذا علم المکلّف بحکمٍ إلزامیٍ مرددّ بین طرفین وحصل عنده ما یوجب ثبوت التکلیف فی أحد الطرفین بعینه، من قبیل حصول علم تفصیلی، هو علم بنجاسة أحد أناءین، نفترض أنّه علم بعلمٍ تفصیلیٍ بنجاسة هذا الإناء الأیمن، فیقع الکلام أنّ هذا العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء الأیمن من الإناءین الذی علم إجمالاً بنجاسة أحدهما، هل یوجب انحلال العلم الإجمالی، وسقوطه عن التنجیز، وثمرة سقوطه عن التنجیز تظهر فی الطرف الآخر، فیجوز الرجوع إلی الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، بینما إذا بقی العلم الإجمالی علی منجزیته یمنع من إجراء الأصول فی الأطراف. أو أنّه لیس علم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن، وإنّما قامت إمارة شرعیة معتبرة علی نجاسة الإناء الأیمن بعینه، أو اقتضی ثبوت التکلیف فی الإناء الأیمن أصل من الأصول الشرعیة کالاستصحاب، أو العقلیة کالاحتیاط وأمثاله، هذا التکلیف فی أحد الطرفین بعینه، الذی ثبت بعلم تفصیلی، أو بإمارةٍ، أو بأصلٍ شرعیٍ، أو عقلیٍ، وأصبح المکلّف عالماً، أو قامت عنده الحجّة المعتبرة علی ثبوت التکلیف حتماً فی هذا الطرف الأیمن، هل یوجب انحلال العلم الإجمالی، أو لا؟

ص: 44

الکلام هنا تارة یقع فی ما یُسمّی بالانحلال الحقیقی الذی یعنی زوال العلم الإجمالی حقیقة وواقعاً، بحیث لا یبقی علم إجمالی. وأخری یقع فی الانحلال الحکمی الذی یعنی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز بالرغم من بقاء العلم الإجمالی حقیقة وواقعاً، العلم الإجمالی باقٍ ولم ینحل حقیقة، لکنّه یسقط عن التنجیز، ولا یمنع من إجراء الأصول المؤمّنة فی الأطراف الأخری لسببٍ من الأسباب کما سیأتی، عندما یبلغ العلم الإجمالی هذه الحالة، یعنی علم إجمالی باقٍ حقیقة لکنّه لیس منجّزاً، یقال: انحلّ هذا العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً، فالکلام یقع فی مقامین: فی الانحلال الحقیقی، والانحلال الحکمی .

الکلام فعلاً فی المقام الأوّل، أی فی الانحلال الحقیقی، الکلام فی کبری الانحلال الحقیقی. هنا توجد حالتان، أحدی الحالتین، قالوا أنّها خارجة عن محل النزاع، ولا نزاع فیها، وإنّما النزاع یترکّز علی الحالة الثانیة:

الحالة الأولی: هی ما إذا فرضنا أنّ العلم التفصیلی کان ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف الأیمن بعینه، یعنی یقول: أنّ هذه النجاسة التی علمت بها إجمالاً، والمرددّة بین الإناءین هی فی هذا الإناء الأیمن، فیکون ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال. هذه الحالة خارجة عن محل النزاع، بمعنی أنّه لا خلاف ولا نزاع فی تحقق الانحلال الحقیقی فی هذه الحالة، ویزول العلم الإجمالی، ولا یبقی المکلّف عالماً بالنجاسة فی أحد الإناءین، وإنّما هو یعلم أنّ تلک النجاسة التی حصلت هی موجودة فی الإناء الأیمن، هذا یعلم به تفصیلاً، ینحل العلم الإجمالی انحلالاً حقیقیاً إلی علمٍ تفصیلی بوجود النجاسة فی هذا الإناء، وشک بدوی ____________ مثلاً _____________ فی الإناء الآخر، هنا قالوا: هذا خارج عن محل النزاع، والنزاع الآتی لا یجری فی هذه الحالة، وإنّما یجری فی الحالة الثانیة.

ص: 45

الحالة الثانیة: وهی حالة ما إذا کان العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال، عَلِم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء الأیمن، ولیس علم تفصیلاً بأنّ النجاسة التی علم بأنّها مرددّة بین الطرفین هی موجودة فی الإناء الأیمن، لیس ناظراً إلی هذا، وإنّما علم تفصیلاً بأنّ هذا الإناء نجس، هنا قالوا أنّ هذا هو محل الکلام فی أنّه هل یتحققّ بذلک الانحلال الحقیقی، أو لا یتحقق الانحلال الحقیقی بذلک ؟ هنا یوجد احتمال أن تکون النجاسة المعلومة بالتفصیل هی نفس النجاسة المعلومة بالإجمال، لکن هذا احتمال، یعنی فی قبالها احتمال أن لا تکون النجاسة المعلومة بالتفصیل هی نفس النجاسة المعلومة بالإجمال؛ لأنّ العلم التفصیلی لم یکن ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، وإنّما اثبت نجاسة فی هذا الإناء الأیمن، فیُحتمل أن تکون هی نفس النجاسة المعلومة بالإجمال، ویُحتمل أن تکون نجاسة غیر تلک، قالوا: هذا هو محل الکلام، ومحل النزاع الآتی؛ لأنّ هناک نزاعاً فی أنّ الانحلال الحقیقی یتحقق فی هذه الحالة، أو لا یتحققّ ؟

السید الشهید(قدّس سرّه) (1) ذکر بأنّ الحالة الثانیة التی دخلت فی محل النزاع، ینبغی أیضاً تقسیمها إلی نحوین؛ لأنّ هذه الحالة الثانیة تقع علی نحوین، أیضاً یقول أن ّأحد النحوین لیس داخلاً فی محل النزاع:

النحو الأوّل: أن تؤخذ فی المعلوم بالإجمال خصوصیة زائدة غیر مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل، کما إذا فرضنا أنّه علم بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم، فهذه خصوصیة زائدة لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل، کما لو علم بنجاسة هذا الإناء الأیمن، لا أنّه علم بنجاسته الناشئة من سقوط قطرة دم، وإنّما علم بنجاسة هذا الإناء. فإذن: هو علم بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من سبب خاص کسقوط قطرة دم _________ مثلاً ________ ثمّ علم تفصیلاً بنجاسة الإناء الیمن نجاسة مطلقة، غیر مقیدة بتلک الخصوصیة.

ص: 46


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج5، ص239.

ویُلحق به فی خروجه عن محل النزاع کما سنذکر ما إذا کان کلٌ من المعلوم بالإجمال، والمعلوم بالتفصیل مقیّد بخصوصیة غیر الخصوصیة المقیّد بها الآخر، کما إذا علم إجمالاً بسقوط قطرة بول فی أحد الإناءین، وعلم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم، وهذه خصوصیة أخری مباینة للخصوصیة التی أخذت فی المعلوم بالإجمال.

یقول: فی هذین المثالین فی هذا النحو الأوّل الذی یعم کلاً منهما، هذا أیضاً خارج عن محل النزاع؛ إذ لا إشکال فی عدم الانحلال الحقیقی فی هذا النحو، النحو الأوّل المتقدّم أخرجناه لأنّه لا إشکال فی الانحلال الحقیقی عندما یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، هذا أخرجناه عن محل النزاع؛ لأنّه لا إشکال فی الانحلال فیه، قطعاً هناک انحلال، وهذا النحو الأوّل هنا أیضاً نخرجه عن محل النزاع، لکن باعتبار أنّه لا إشکال فی عدم تحقق الانحلال فیه، ولا نزاع فی ذلک؛ لماذا ینحل العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم، بالعلم التفصیلی بنجاسة الإناء الأیمن فقط ؟ یبقی العلم الإجمالی الأوّل علی حاله ولا ینحل حقیقة، یبقی المکلّف عالم بنجاسة أحد الإناءین من جهة سقوط قطرة دم فی أحدهما، بالرغم من أنّه عالم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن، والأمر أوضح فی المثال الثانی، یعنی عندما یکون کل منهما مقیّد بخصوصیة مغایرة للخصوصیة المقیّد بها الآخر، أوضح فی عدم السقوط، وعدم زوال العلم الإجمالی، هو عالم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین من جهة سقوط قطرة دم، وعالم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن من جهة سقوط قطرة بول، لا موجب لانحلال العلم الإجمالی وزواله فی هذه الحالة، فهذا أیضاً خارج عن محل النزاع.

ص: 47

النحو الثانی: هو أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لیست موجودة فی المعلوم بالتفصیل، وأمثلته کثیرة، کما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ علم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن، وهکذا فی أمثلة کثیرة. هذا هو الذی یدخل فی محل النزاع، فکأنّه یعتبر للدخول فی محل النزاع أمران:

الأمر الأوّل: أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال.

الأمر الثانی: أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لیست مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل؛ عندئذٍ یدخل فی محل النزاع.

علی کل حال، هذا هو محل النزاع، والکلام فی الانحلال الحقیقی؛ ولذا فرضنا أنّ المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه هو العلم التفصیلی، ولم نفرضه إمارة، ولم نفرضه اصلاً مثبتاً للتکلیف فی أحد الطرفین؛ لأنّ هذا انحلال حکمی، وإنّما علم تفصیلی، أو علم إجمالی أصغر من العلم الإجمالی الأوّل؛ لما مر علیک من أنّ العلم الإجمالی الکبیر ینحل بالعلم الإجمالی الصغیر، هذا العلم الإجمالی الصغیر أیضاً قد یقال بأنّه یوجب انحلال العلم الإجمالی الکبیر انحلالاً حقیقیاً.

انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

تبیّن فی الدرس السابق أنّه یعتبر فی دخول العلم التفصیلی فی محلّ النزاع أن لا یکون ناظراً إلی تعییین وتشخیص المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، وإلاّ فلا إشکال فی الانحلال، ولا یقع محلاًّ للبحث عن الانحلال وعدمه، هذا الشرط مسلّم، ولا إشکال فیه، لکن هناک شرطاً آخر ذکره السید الشهید(قدّس سرّه)، وهو أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لیست مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل، وهذا یشمل حالتین:

ص: 48

الحالة الأولی: حالة ما إذا کان کلٌ منهما مطلقاً، وغیر مقیّد بخصوصیة، کما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، وعلم تفصیلاً بنجاسة أحدهما المعیّن.

الحالة الثانیة: حالة ما إذا کان کلٌ منهما مقیّداً بنفس الخصوصیة، کما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین الحاصلة من سقوط قطرة دم، وعلم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء المعیّن نجاسة حاصلة من سقوط قطرة دم. وهذا الشرط الثانی للدخول فی محل النزاع یأتی الکلام عنه من خلال البحوث الآتیة. علی کل حال وقع الخلاف فی الانحلال الحقیقی، وعدمه فی محل الکلام.

استُدلّ علی الانحلال الحقیقی بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: دعوی الوجدان. أنّ الوجدان قاضٍ فی محل الکلام بأنّ العلم الإجمالی یزول، ولا یبقی بمجرّد حصول العلم التفصیلی بأحد الطرفین بعینه.

الوجه الثانی: ما أشار إلیه المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی بعض کلماته من قیاس ما نحن فیه علی باب الأقل والأکثر الاستقلالیین، (1) باعتبار أنّ ما نحن فیه هو من صغریات دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین فی الانحلال. فی باب الأقل والأکثر ینبغی أن لا یکون هناک إشکال فی الانحلال فی محل الکلام؛ لأنّه ملحق به، أو من صغریاته. (مثلاً) فی باب الأقل والأکثر إذا علمنا بوجوب قضاء صوم یومٍ من أیام شهر رمضان، علم المکلّف بأنّه فاته صوم الیوم الأوّل من صوم شهر رمضان، وعلم بوجوب قضائه، وشکّ فی أنّه هل فاته الیوم الثانی أیضاً، أو لا ؟ بطبیعة الحال یدور الأمر عنده بین الأقل الذی هو وجوب قضاء صوم الیوم الأوّل، والأکثر الذی هو وجوب قضاء صوم الیوم الأوّل، والیوم الثانی. فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین لا إشکال فی انحلال العلم الإجمالی إلی علمٍ تفصیلی بوجوب قضاء الیوم الأوّل، وشکّ بدوی فی وجوب قضاء الیوم الثانی، ویزول العلم الإجمالی، بالرغم من أنّ هناک علماً إجمالیاً ___________ مثلاً ___________ بانّه یجب علیه القضاء المردّد بین الأقل والأکثر، لکن هذا العلم منحل بلا إشکال إلی علمٍ تفصیلی بوجوب الأقل وشکٍ بدوی بوجوب الزائد عن الأقل. ما نحن فیه، وهو العلم الإجمالی بین المتباینین، هو من هذا القبیل، إذا علم المکلّف بنجاسة أحد الإناءین، وعلم تفصیلاً کما هو محل کلامنا بنجاسة الإناء الأیمن، وهذا فی واقعه دوران الأمر بین الأقل والأکثر، الأقل هو عبارة عن نجاسة الإناء الأیمن، هذا متیقّن قطعاً، الأقل نجس، والأکثر هو عبارة عن نجاسة کلا الإناءین الأیمن والأیسر، فیدور بین ثبوت التکلیف فی خصوص الأقل، وبین ثبوته فی الأقل وما زاد علیه، وهذا هو عبارة عن دوران الأمر بین الأقل والأکثر، وهذا أیضاً یکون منحلاً بلا إشکال، إلی علمٍ تفصیلی بنجاسة الأقل، وشکٍ بدوی فی نجاسة الآخر، علی غرار مثال القضاء الذی ذکرناه، فیکون المقام من صغریات هذا الباب؛ وحینئذٍ لابدّ فیه من الانحلال. دائماً العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی __________ کما هو محل الکلام _________ یوجب انحلال العلم الإجمالی، ویوجب أن یکون هناک علم تفصیلی بثبوت التکلیف فی هذا الطرف قطعاً وعلی کل تقدیر، علی کل تقدیر هذا الطرف فیه تکلیف، سواء ثبت التکلیف فی الطرف الآخر، أو لم یثبت، هذا قطعاً فیه تکلیف، فیکون حاله حال الأقل فی المثال السابق، أی حاله حال وجوب قضاء صوم الیوم الأوّل، وإنّما یکون هناک شکّ فی وجوب قضاء ما زاد علیه، فی محل الکلام یکون هناک شکّ فی نجاسة ما زاد علی هذا المعلوم بالتفصیل، فشکّ بین الأقل والأکثر، التکلیف هل هو ثابت فی الأقل فقط، أو هو ثابت فی مجموع الأقل زائداً الطرف الآخر، وهذا من دوران الأمر بین الأقل والأکثر، ولابدّ فیه من الالتزام بالانحلال کما ذکرنا.

ص: 49


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص250.

هذا الوجه الثانی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وأجاب عن هذا الوجه بأنّه فی باب الأقل والأکثر، هناک لیس عندنا من البدایة، إلاّ علم تفصیلی وشکّ بدوی، ولا یوجد عندنا علم إجمالی من البدایة، وإنّما عندنا علم تفصیلی بوجوب الأقل، وشکّ فی الزائد علیه، ویستدلّ علی عدم وجود علم إجمالی فی باب الأقل والأکثر، وإنّما هناک فقط علم تفصیلی وشکّ بدوی، یستدلّ بأنّ هناک قضیة تعلیقیة لازمة لکل علمٍ إجمالی، وتصدق مع کلّ علمٍ إجمالی، فمتی صدقت هذه القضیة التعلیقیة نستکشف أنّ العلم الإجمالی باقٍ، وأنّ الملزوم موجود، ومتّی لم تصدق هذه القضیة التعلیقیة نستکشف زوال العلم الإجمالی وانحلاله، وهذه القضیة التعلیقیة هی: لو کان الواجب فی باب الأقل والأکثر هو الأکثر، لکان الأقل غیر واجب. فی باب العلم الإجمالی علمت بنجاسة أحد إناءین، من لوازم العلم الإجمالی صدق هذه القضیة التعلیقیة علی کلا الطرفین، أنّه لو کان هذا هو النجس، فالطرف الآخر لیس نجساً، والعکس أیضاً صحیح، لو کان هذا الإناء هو النجس بالنجاسة المعلومة بالإجمال، یعنی لو کانت النجاسة المعلومة بالإجمال موجودة فی هذا الطرف، إذن، هی غیر موجودة فی الطرف الآخر، هذا لابدّ منه فی العلم الإجمالی؛ لأنّ ما یعلمه إجمالاً هی نجاسة واحدة، هذه النجاسة التی علم بها إجمالاً هی إمّا موجودة فی هذا الطرف، أو موجودة فی هذا الطرف، فإذا کانت موجودة فی هذا الطرف، فهی لیست موجودة فی الطرف الآخر، قد تکون نجاسة أخری موجودة فیه، لکن النجاسة المعلومة بالإجمال لیست موجودة فی الطرف الآخر علی تقدیر أنّها موجودة فی هذا الطرف، وهکذا العکس. یقول: کل علم إجمالی لازمه صدق هذه القضیة التعلیقیة دائماً، أعلم إجمالاً بغصبیة أحد الثوبین، أیضاً أقول: لو کان هذا هو المغصوب، لما کان الآخر مغصوباً، یعنی لما کانت الغصبیة المعلومة بالإجمال موجودة فی الآخر، علی تقدیر أن تکون موجودة فی الطرف الآخر، کل علمٍ إجمالی ثابت یکون لازمه صدق هذه القضیة التعلیقیة، ومتی ما رأینا أنّ هذه القضیة لا تصدق نستکشف عدم تحقق الملزوم. یقول: هذه القضیة التعلیقیة غیر صادقة فی باب الأقل والأکثر، وقلنا أنّه استدلّ بذلک علی عدم وجود علم إجمالی فی باب الأقل والأکثر، وإنّما من البدایة هناک علم تفصیلی، وشکّ بدوی، یقول هذه القضیة لا تصدق، فلا یصح أن أقول فی باب الأقل والأکثر، لو کان الواجب هو الأکثر لکان الأقل غیر واجب، هذا لا یصح؛ لأنّ الأقل هو واجب علی کل تقدیر، سواء وجب الأکثر، أو لم یجب الأکثر، فلا یصح لی أن أقول: لوکان الواجب هو الأکثر لما کان الأقل هو الواجب، هذه القضیة التعلیقیة تصدق، فإذا لم تصدق هذه القضیة التعلیقیة، وهی لازمة للعلم الإجمالی یُستکشف من ذلک انحلال العلم الإجمالی وزواله؛ ولذا یقول فی باب الأقل والأکثر من البدایة لا یوجد علم إجمالی بالمرّة، وهذا بخلاف محل الکلام، فی العلم الإجمالی بین المتباینین، الذی هو محل کلامنا تصدق هذه القضیة التعلیقیة بلحاظ کلا الطرفین حتّی بعد العلم التفصیلی، یقول: وهذا دلیل علی بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله، فی محل الکلام هو یعلم بنجاسة أحد الإناءین علماً إجمالیاً، وهناک علم تفصیلی بنجاسة هذا الإناء الأیمن المعیّن، هنا یصح أن أقول، لو کان هذا هو النجس بالنجاسة المعلومة بالإجمال، لما کان هذا نجساً، ولو کان الطرف الآخر نجساً لما کان هذا نجساً، بالرغم من علمی التفصیلی بانّه نجس؛ لأنّی أنظر فی القضیة التعلیقیة إلی المعلوم بالإجمال، إلی العلم الإجمالی، لو کان الطرف الثانی الذی هو غیر مورد العلم التفصیلی، لوکان هذا نجساً، یصح لی أن أقول لما کان هذا نجساً؛ لأنّ المراد هو النجاسة المعلومة بالإجمال، النجاسة المعلومة بالإجمال لو کانت موجودة هنا لما کان هذا نجساً بها، ولو کانت موجودة هنا لما کان ذاک الطرف نجساً بها، هذا صحیح، بالرغم من علمی التفصیلی بأنّ هذا نجس؛ لأنّ القضیة التعلیقیة یُنظر بها إلی العلم الإجمالی، وإلی المعلوم بالإجمال، وبلحاظ ذلک یصحّ أن یقال: لو کان هذا الطرف نجساً لما کان هذا نجساً بالنجاسة المعلومة بالإجمال؛ لأنّک بالعلم الإجمالی تعلم بنجاسة واحدة مرددّة بین هذا وهذا، فإذا کانت ثابتة فی هذا الطرف هی غیر ثابتة فی هذا الطرف، فتصدق القضیة التعلیقیة، وهذا دلیل علی وجود علم إجمالی، فقیاس ما نحن فیه علی باب الأقل والأکثر لیس صحیحاً؛ لأنّه فی باب الأقل والأکثر لا یوجد علم إجمالی من البدایة، بدلیل أنّ هذه القضیة التعلیقیة لا تصدق هناک، بینما فی محل الکلام هناک علم إجمالی وعلم تفصیلی؛ وحینئذٍ لابدّ أن نری أنّ هذا ینحل، أو لا ؟ أمّا أن نقیس ما نحن فیه علی باب الأقل والأکثر، فهذا قیاس مع الفارق وغیر صحیح.

ص: 50

یمکن أن یُلاحظ علی هذا الجواب: کأنّه __________ والله العالم __________ فیه شیء من المصادرة، کأنّه مبنی علی فرض عدم الانحلال فی محل الکلام، یعنی هو یفرغ عن عدم انحلال العلم الإجمالی فی محل الکلام، ویذکر هذا الکلام، وهو کلام صحیح متین علی تقدیر عدم الانحلال فی محل الکلام الذی هو علم إجمالی وعلم تفصیلی، القضیة التعلیقیة صادقة؛ لأنّه لدینا علم إجمالی وعلم تفصیلی، بلحاظ العلم الإجمالی غیر المنحل، القضیة التعلیقیة صادقة، لو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، ولو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، بلحاظ العلم الإجمالی الغیر المنحل، هذا کلام متین وصحیح، لکن کأنّه مبنی علی فرض عدم الانحلال، وأنّ العلم الإجمالی لا ینحل بالعلم التفصیلی، فعلم إجمالی باقٍ ولازمه صدق هذه القضیة التعلیقیة. لکن من یقول بالانحلال کما هو المعروف یُنکر صدق هذه القضیة التعلیقیة. لتوضیح الأمر لنفترض أنّ محل کلامنا هو الفرض الأوّل الذی قلنا أنّه خارج عن محل کلامنا، یعنی ما إذا کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال الذی قلنا أنّه لا إشکال فی الانحلال فیه، القائل بالانحلال فی محل کلامنا یقول هو من قبیل الفرض الأوّل، کما أنّ هناک انحلالاً، هنا أیضاً یوجد انحلال، فی الفرض الأوّل الذی یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، أنّ النجاسة التی علمت بها موجودة فی هذا الطرف؛ وحینئذٍ لا تصدق القضیة التعلیقیة، لا نستطیع أن نقول لو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، أو لو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، لا تصدق حینئذٍ القضیة التعلیقیة؛ لأنّ العلم الإجمالی انحل، ولیس هناک علم إجمالی، وإنّما هناک علم تفصیلی بنجاسة هذا الإناء؛ وحینئذٍ لا یصحّ لی أن أقول لو کان هذا نجساً لما کان هذا نجساً، فلا تصدق القضیة التعلیقیة لو قلنا بالانحلال؛ لأنّه کما هو واضح، أنّ صدق القضیة التعلیقیة مرتبط بالعلم الإجمالی، فتصدق بالرغم من العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء؛ لأنّه یوجد علم إجمالی، وبلحاظه یصح لنا أن نقول: لو کان هذا نجساً، لما کان هذا نجساً، لکن عندما نفترض انحلال العلم الإجمالی؛ حینئذٍ لا تصحّ القضیة ولا تصدق، ومن هنا یکون جوابه لا یخلو من مصادرة، بمعنی أنّه یفترض الانحلال ویذکر هذا المطلب ویستدلّ به.

ص: 51

ومن هنا یأتی الجواب الثانی عن هذا الوجه الثانی، ولعلّه أشار إلیه فی جوابه، وحاصله: إنکار وجود علمٍ إجمالی فی باب الأقل والأکثر، بینما هناک علم إجمالی فی محل الکلام، فقیاس محل الکلام علی باب الأقل والأکثر قیاس مع الفارق؛ لأنّ هناک لا یوجد علم إجمالی، وهو أشار إلی هذا فی جوابه، غایة الأمر أنّه استدلّ علیه بمسألة صدق القضیة التعلیقیة، أو عدم صدقها، فی هذا الجواب نقول: أنّ الدلیل علی هذا هو أنّه لو فرضنا عدم وجود علم تفصیلی بوجوب الأقل؛ حینئذٍ لا یبقی لدینا علم إجمالی بوجوب هذا، أو هذا، فإذن: هذا العلم الإجمالی کأنّه صورة علم إجمالی نشأت فی الحقیقة من العلم التفصیلی بوجوب الأقل، والشکّ البدوی فی وجوب الزائد، ولو أخرجنا هذا العلم التفصیلی بوجوب الأقل لا یبقی علم إجمالی، لا وجود لعلمٍ إجمالی، فلا نستطیع أن نقول فی باب الأقل والأکثر لدینا علمان إجمالی وتفصیلی، لیس لدینا علمان إجمالی وتفصیلی؛ بل لیس لدینا إلاّ علم تفصیلی وشکّ بدوی، والعلم الإجمالی الذی صُوّر فی باب الأقل والأکثر هو صورة علم إجمالی ینشأ من العلم التفصیلی بوجوب الأقل، والشکّ فی وجوب الزائد، هذا ننتزع منه علماً إجمالیاً بأنّه یعلم بوجوب القضاء علیه المردّد بین الأقل والأکثر، وهذه صورة علمٍ إجمالی، واقع المطلب لیس هناک علمان، علم إجمالی وعلم تفصیلی، وإنّما هناک علم تفصیلی واحد وشکّ بدوی، بینما فی محل الکلام الأمر یختلف، لدینا علم إجمالی وعلم تفصیلی، هو یعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، ویعلم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء. لو أخرجنا هذا العلم التفصیلی، وافترضنا عدم وجود هذا العلم التفصیلی بنجاسة الإناء الأیمن، سوف یبقی علم إجمالی، العلم الإجمالی المفترض فی محل الکلام یبقی علی حاله، غیر مرتبط بهذا العلم التفصیلی؛ ولذا لو فُرض عدم وجود هذا العلم التفصیلی، هناک علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین.

ص: 52

إذن: قیاس محل الکلام علی باب الأقل والأکثر غیر صحیح؛ لأنّه فی باب الأقل والأکثر لا یوجد علمان، أحدهما علم إجمالی والآخر علم تفصیلی، وإنّما الموجود فقط علم تفصیلی وشکّ بدوی، بینما فی محل الکلام یوجد علمان، أحدهما إجمالی والآخر تفصیلی، والعلم الإجمالی لم یُنتزع من العلم التفصیلی، وإنّما هو موجود علی کلا التقدیرین، سواء وجد علم تفصیلی، أو لم یوجد علم تفصیلی، هناک علم إجمالی، فالقیاس فی غیر محله، والقیاس مع الفارق، فهذا الوجه الثانی لإثبات الانحلال لا یکون تامّاً.

الوجه الثالث: أن یقال أنّ العلم الإجمالی متقوّم برکنین اساسیین، أحدهما العلم بالجامع، والآخر هو شکوک بعدد الأطراف، إذا کان طرفین، فالعلم یتقوّم بالجامع، وبشکّین فی الطرفین، شکّ فی هذا الطرف، وشکّ فی هذا الطرف، وإذا کان ثلاثة، تکون هناک ثلاثة شکوک ....وهکذا.

الوجه الثالث یرید أن یقول: أنّ أحد الرکنین غیر موجود فی محل الکلام، ویجعل هذا دلیلاً علی انحلال العلم الإجمالی، وزواله، والرکن الغیر متحقق فی محل الکلام هو الثانی، أی الشکوک بعدد الأطراف، بالوجدان یشعر الإنسان أنّه هل هناک شکوک بعدد الأطراف فی محل الکلام الذی هو علم إجمالی زائداً علم تفصیلی بنجاسة هذا الإناء الأیمن، لو فرضنا وجود علمٍ بالجامع، لکن هل هناک شکوک بعدد الأطراف ؟ کلا، هذا طرف ولیس فیه شکّ؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف یعلم تفصیلاً بثبوت التکلیف فیه، فیختلّ الرکن الثانی من أرکان العلم الإجمالی ومنجّزیته، وهذا معناه أنّه لا وجود للعلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی کما هو متقوّم بالعلم بالجامع، هو متقوّم بأن تکون هناک شکوک بعدد الأطراف، أمّا إذا زال الشکّ من أحد الأطراف، باعتبار حصول العلم التفصیلی بثبوت التکلیف فیه، فهذا یعنی زوال العلم الإجمالی، وانحلاله.

ص: 53

انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

الوجه الثالث: من الوجوه التی قد یُستدل بها علی الانحلال الحقیقی فی محل الکلام، وهو ما إذا کان هناک علم تفصیلی اقترن بالعلم الإجمالی، وکان هذا العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، وإلاّ فلا إشکال ولا نزاع فی الانحلال. والوجه الثالث هو دعوی أنّ العلم الإجمالی فاقد لرکنٍ من أرکانه المقوّمة له فی محل الکلام؛ ولذا یزول العلم الإجمالی؛ لفقدان هذا الرکن المقوّم له، عندما یحصل علم تفصیلی فی بعض الأطراف المعیّن یفقد العلم الإجمالی رکناً من أرکانه المقوّمة له، وبذلک ینحل.

توضیح المطلب: ذکروا أنّ العلم الإجمالی متقوّم بأمرین: أحدهما العلم بالجامع، والآخر هو احتمالات انطباق ____________ شکوک ____________ بعدد أطراف العلم الإجمالی، ومن الواضح أنّه مع فرض العلم التفصیلی بثبوت التکلیف فی أحد الطرفین المعیّن، ینهدم الرکن الثانی؛ لأنّه سوف یتحوّل احتمال الانطباق فی ذلک الطرف بالعلم بالانطباق؛ لأنّ الرکن الثانی یقول لابدّ من وجود احتمال الانطباق فی کلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی.

إذن: العلم التفصیلی بالفرد یوجب انحلال العلم الإجمالی، وهذا هو المطلوب.

هذا الوجه الثالث:إنّما یتمّ فیما إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فیه خصوصیة زائدة غیر مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل؛ حینئذٍ یکون هذا الوجه تامّاً، وقلنا أنّ (لم تؤخذ) هو محل الکلام بناءً علی ما نقلناه عن السیّد الشهید(قدّس سرّه)؛ لأنّه ذکر أنّه یُشترط فی دخول الشیء فی محل النزاع أمران: الأوّل أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال. والثانی هو أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لیست مأخوذة فی المعلوم بالتفصل. إذا تحقق هذا الشیء کما فی الأمثلة التی ذکرناها، کما لو فرضنا أنّه یعلم إجمالاً بنجاسة أحد إناءین بلا خصوصیة، ویعلم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء المعیّن، أو فرضنا أنّه یعلم إجمالاً بغصبیة أحد الثوبین، ویعلم تفصیلاً بأنّ هذا الثوب الأیمن مغصوب، ولا توجد خصوصیة للثوب المعلوم بالإجمال یحتمل عدم انطباقها علی المعلوم بالتفصیل، إذا فرضنا عدم أخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال؛ حینئذٍ یکون هذا الوجه تامّاً، ویتحقق الانحلال الحقیقی؛ لأنّ العلم التفصیلی بالفرد فی هذه الحالة یستلزم انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وسریان العلم من الجامع إلی الفرد، هذا العلم المتعلق بالجامع، بحدّه الجامعی یسری من الجامع إلی الفرد بحدّه الشخصی.

ص: 54

وبعبارةٍ أخری: أنّ العلم لا یقف علی الجامع بحدّه الجامعی، وإنّما یتعلّق بحدٍّ أخصّ من الحدّ الجامعی الذی هو الفرد؛ وحینئذٍ یزول العلم الإجمالی، ولا یوجد احتمالات بالانطباق بعدد أطراف العلم الإجمالی کما هو واضح؛ لأنّ العلم سری من الجامع إلی الفرد، وإذا سری العلم من الجامع إلی الفرد معناه أنّ العلم الإجمالی قد زال، وما عاد واقفاً علی الجامع بحدّه الجامعی، ولیس لدینا احتمالات انطباق بعدد الأطراف؛ لأنّ هذا الفرد أصبح معلوماً؛ لأنّ العلم بالجامع سری إلی هذا الفرد، فأصبح لدی المکلّف علم بالفرد، وهذا العلم بالفرد یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی کما قیل متقوّم بالعلم بالجامع، یعنی أن یقف العلم علی الجامع بحدّه الجامعی الذی یُحتمل انطباقه علی هذا الطرف، ویُحتمل انطباقه علی ذاک الطرف، وشکوک بعدد الأطراف، وهذا ما عاد موجوداً عندما نفترض السریان والانطباق، إذا سری العلم من الجامع إلی الفرد؛ فحینئذٍ یزول العلم الإجمالی ولم تعد هناک شکوک واحتمالات للانطباق بعدد الأطراف، وإنّما فی هذا الطرف هناک علم بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا، وهناک شکّ بدوی فی الأطراف الأخری، فیتم هذا البرهان إذا فرضنا أنّه لیست هناک خصوصیة زائدة مأخوذة فی المعلوم بالإجمال؛ وحینئذٍ یکون السریان قهریاً، فیسری العلم الإجمالی من الجامع إلی الفرد، وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی بلا إشکال، وانهدام أرکانه. وأمّا إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة زائدة لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل بحیث نحتمل عدم انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل نتیجة أخذ هذه الخصوصیة؛ وحینئذٍ لا وجه للانحلال؛ لأننّا لا نعلم انطباق الجامع علی المعلوم بالتفصیل.

ص: 55

أو بعبارةٍ أخری: سریان العلم من الجامع بحدّه الجامعی إلی الفرد غیر معلوم عندنا؛ لأنّه أُخذت خصوصیة زائدة فی المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل یحتمل علی ضوئها عدم الانطباق وعدم السریان. إذن: لا علم عندنا بانطباق الجامع المعلوم علی الفرد المعلوم بالتفصیل، ولا علم عندنا بسریان العلم من الجامع بحدّه الجامعی إلی الفرد، فیبقی العلم بالجامع علی حاله، وهذا العلم بالجامع یستلزم احتمالات انطباق بعدد الأطراف بما فیها الطرف المعلوم بالتفصیل، وهذا أوضحناه فی الدرس السابق، قلنا أنّ احتمالات الانطباق بلحاظ المعلوم بالإجمال، من المحتمل أن ینطبق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، ویحتمل أن ینطبق علی ذاک الطرف، الاحتمالات موجودة، وعلمٌ بالجامع موجود واقف علی الجامع بحدّه الجامعی، لم یسرِ إلی الفرد؛ لأننا لا نعلم سریانه، ولیس هناک دلیل علی سریان هذا العلم من الجامع إلی الفرد بعد أن أُخذت فیه خصوصیة زائدة لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل. إذن: لا نعلم بسریان العلم من الجامع إلی الفرد، ولا نعلم بالانطباق، وهذا علم إجمالی لا نعلم بسریانه إلی الفرد، یکون علماً بالجامع وواقفاً علی الجامع، وکما قلنا أنّه یستلزم شکوکاً بعدد الأطراف بما فیها الطرف المعلوم بالتفصیل، ولا منافاة بین أن تعلم بالفرد تفصیلاً، وبین أن تحتمل انطباق المعلوم بالإجمال بالخصوصیة علی کلٍ من الطرفین، أنا أعلم بنجاسة أحد الإناءین، ولنفترض انّ الخصوصیة هی کون هذه النجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فیه، وأعلم بنجاسة هذا الإناء الأیمن لم تؤخذ فیه الخصوصیة، ولا مشکلة، فالعلم الإجمالی بسقوط قطرة دم باقٍ علی حاله، بالوجدان باقٍ علی حاله، أنا أعلم بسقوط قطرة دم فی أحد الإناءین، هذا کما یُحتمل انطباقه علی ذاک الطرف، یُحتمل انطباقه علی الطرف المعلوم نجاسته بالتفصیل، یُحتمل أنّه هو الذی سقطت فیه قطرة دم، فالعلم الإجمالی بسقوط قطرة دم باقٍ علی حاله ولا ینحل، والشکوک بعدد الأطراف أیضاً باقیة بلحاظ المعلوم بالإجمال یحتمل فی هذا الطرف، ویُحتمل فی ذاک الطرف_ احتمال الانطباق فی هذا الطرف موجود، واحتمال الانطباق فی ذاک الطرف أیضاً موجود، فأرکان العلم الإجمالی متوفّرة وباقیة موجودة ولا موجب للانحلال؛ أذنّ، الدلیل یتمّ فی غیر هذه الحالة، فی غیر ما إذا فرضنا أخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال غیر مأخوذة فی المعلوم بالتفصیل، فی هذه الحالة هذا الدلیل لا یکون تامّاً.

ص: 56

وبعبارةٍ أخری:أنّ احتمالات الانطباق فی الأطراف التی هی مقوّمة للعلم الإجمالی ولازمة له، العلم الإجمالی إذا لم یسرِ إلی الفرد ووقف علی الجامع، بلا إشکال لازم هذا العلم الإجمالی احتمالات انطباق بعدد الأطراف، دائماً العلم بالجامع إذا وقف علی الجامع بحدّه الجامعی یستلزم حالات انطباق بعدد الأطراف، فالعلم الإجمالی فی کلامنا إذا لم یسرِ إلی الفرد ووقف علی الجامع، لازمه القهری حالات انطباق بعدد الأطراف، حتّی لو علمت ببعض الأطراف المعیّنة تفصیلاً؛ لأنّ کل فردٍ حتّی المعلوم بالتفصیل یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیه؛ لأنّه فرد للجامع، أیّ فرقٍ بینه وبین الطرف الآخر فی کونه فرداً للجامع یُحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیه؟ عدم السریان، وعدم الانطباق الذی یستلزم بقاء العلم الإجمالی علی حاله وبقاء الانطباق فی کلّ الأفراد علی حالها یتحقق فی حالة ما إذا أُخذت خصوصیة فی المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فی المعلوم بالتفصیل، فی هذه الحالة لیس هناک سریان، العلم الإجمالی لا یسری من الجامع إلی الفرد؛ لأنّه لیس هناک مبررّ لهذا السریان حتّی مع فرض العلم التفصیلی بالفرد، ما دام هناک احتمال عدم انطباق المعلوم بالإجمال علی ذاک الفرد؛ حینئذٍ لا مبررّ ولا موجب لسریان العلم من الجامع إلی الفرد.

وبعبارةٍ أکثر وضوحاً: لا فرق بین حالة ما قبل العلم التفصیلی، وبین حالة ما بعد العلم التفصیلی فی هذه الحالة، فی ما إذا أُخذت خصوصیة فی المعلوم بالإجمال فی أنّه فی کلتا الصورتین لا زال لا یُعلَم انطباق المعلوم بالإجمال علی أحد الطرفین بعینه، کما أنّه قبل العلم التفصیلی لیس لدینا علم بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، وإنّما لدینا احتمال، کذلک بالنسبة إلی الطرف الآخر، أیضاً نفس هذا الکلام نقوله بعد فرض العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء، أیضاً نقول: لا علم بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، وإنّما هناک احتمال الانطباق، وهکذا فی الطرف الآخر، وهذا معناه بقاء العلم الإجمالی علی حاله بکلا رکنیه، علم بالجامع، وشکوک بعدد الأطراف.

ص: 57

نعم، إذا لم تؤخذ الخصوصیة فی المعلوم بالإجمال، أو ألحقنا بها الحالة الثانیة، إذا أُخذت خصوصیة واحدة فی کلٍ منهما، فی هذه الحالة السریان إلی الفرد یکون قهریاً؛ لأنّ الجامع یکون متّحداً مع الفرد، باعتبار أنّ الجامع عارٍ عن الخصوصیة التی یُحتمَل معها عدم الانطباق، فیکون السریان والانطباق قهریاً، فإذا صار سریان صار انطباق، کلام الوجه السابق یکون تامّاً؛ لأنّه حینئذٍ ینحل العلم الإجمالی ولا تبقی شکوک بعدد الأطراف بعد سریان العلم من الجامع بحدّه الجامعی إلی حدٍّ أخصّ منه وهو الفرد؛ حینئذٍ لیس هناک علم بالجامع؛ لأنّه سری إلی الفرد، ولیس هناک شکوک بعدد الأطراف؛ لأنّه حصل علم بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف؛ وحینئذٍ لیس هناک احتمال انطباق فی هذا واحتمال انطباق فی هذا، وإنّما هذا قطعاً انطبق علیه المعلوم بالإجمال، والآخر مشکوک، فالنکتة هی سریان العلم من الجامع، وعدم سریانه، وهی ترتبط بما تقدّم سابقاً من أخذ الخصوصیة، وعدم أخذ الخصوصیة، وهذا المطلب سیأتی مزید توضیحٍ له فی الوجوه، ومناقشة الوجوه الآتیة لإثبات الانحلال.

إذن: هذا الوجه الثالث وجه تام، لکن بشرط أن لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال.

الوجه الرابع: ما ورد فی تقریرات المحقق العراقی(قدّس سرّه) من دعوی لزوم المحال من عدم انحلال العلم الإجمالی فی محل الکلام، أنّه إذا لم نقل بانحلال العلم الإجمالی فی محل الکلام بالعلم التفصیلی یلزم المحال، والمحال هو اجتماع المثلین، توارد علمین علی شیءٍ واحد وهو اجتماع المثلین وهو محال. (1)

توضیح ذلک: یقول أننا إذا علمنا بنجاسة أحد إناءین، وعلمنا أیضاً بنجاسة أحدهما المعیّن، یلزمه انطباق المعلوم بالإجمال بما هو معلوم علی الإناء المعلوم حرمته تفصیلاً، ومع انطباقه علیه واتّحاده معه خارجاً یستحیل بقاء العلم الإجمالی علی حاله؛ لاستحالة توارد العلمین علی شیءٍ واحد، فلا محیص حینئذٍ من ارتفاع العلم الإجمالی وتبدّله بالعلم التفصیلی بحرمة أحدهما المعیّن، والشکّ البدوی فی الآخر، هذا تقریباً نص کلامه.

ص: 58


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص250.

لکنّه افترض الانطباق وسریان العلم من الجامع إلی الفرد، وانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل فی هذا الوجه، بعد أن فرض السریان والانطباق؛ حینئذٍ ذکر شبهة مسألة اجتماع المثلین؛ لأنّه إذا بقی العلم الإجمالی ولم ینحل سوف یتعلّق بالفرد بحدّه علمان، علم إجمالی وعلم تفصیلی، إذا قلنا بانحلال العلم الإجمالی لم یجتمع علمان فی موردٍ واحد، لکن إذا قلنا ببقاء العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی، والعلم الإجمالی یسری من الجامع إلی الفرد، إذن، هذا الفرد بحدّه تعلّق به علمان، ویستحیل توارد علمین علی شیءٍ واحد للزوم اجتماع المثلین.

إذن: لابدّ من الالتزام بانحلال العلم الإجمالی، وإلاّ یلزم هذا المحذور.

هذا الوجه الرابع ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) وأجاب عنه، وحاصل جوابه هو: أنّ هذا الوجه إنّما یتمّ فی صورة العلم بانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وأمّا إذا لم نفترض الانطباق، ولم نفترض سریان العلم من الجامع إلی الفرد؛ حینئذٍ هذا الوجه لا یکون تامّاً؛ لأنّ مجرّد تعلّق العلم الإجمالی بالجامع لا یقتضی انحلال العلم الإجمالی بقیام العلم التفصیلی، مجرّد افتراض تعلّق العلم الإجمالی بالجامع من دون فرض الانطباق والسریان؛ لأنّه قال فی صورة الانطباق والسریان یکون هذا الکلام تامّاً، لکن إذا لم نفترض الانطباق ولم نفترض السریان لا موجب للانحلال؛ لأننا کما نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، أیضاً نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، فانّه کما یُحتمل انطباقه علی الفرد المعلوم حرمته تفصیلاً، کذلک یُحتمل بالوجدان انطباقه علی الطرف الآخر، لیس لدینا علم بانطباقه علی هذا الفرد المعلوم حرمته تفصیلاً بعد أن فرضنا عدم الانطباق، ومع فرض عدم الانطباق لا یقین بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا المعلوم بالتفصیل.

ص: 59

ویقول بعبارةٍ أخری: أنّ احتمال الانطباق فی الطرف الآخر لیس احتمالاً بدویاً کسائر الشبهات البدویة، وإنّما احتمال الانطباق فیه احتمال مقرون بالعلم الإجمالی، وهذا معناه أنّه کما یُحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا المعلوم بالتفصیل، احتمال انطباقه علی الفرد الآخر؛ بل وجود هذا الاحتمال ___________ یعنی احتمال الانطباق فی الطرف الآخر غیر المعلوم بالتفصیل __________ هو خیر دلیل علی بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله، وإلاّ لو کان العلم الإجمالی منحل لیس هناک مجال لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی الطرف الآخر، العلم الإجمالی انحل بالعلم التفصیلی فی هذا الطرف والشکّ البدوی؛ حینئذٍ ما هو الداعی لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف؛ بل لا احتمال للانطباق علی ذاک الطرف عندما نفترض السریان والانطباق.

هذا الجواب الذی ذکره عن الوجه الرابع هو جواب تامّ ویمکن توضیحه ببیان آخر فی مقام مناقشة أصل الوجه، وحاصل المناقشة: نحن إمّا أن نفترض الانطباق والسریان، وإمّا أن لا نفترض السریان والانطباق، إذا افترضنا السریان والانطباق، هذا هو فی حدّ نفسه یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم حینئذٍ لا یقف علی الجامع، وإنّما سری إلی الفرد، فلا یوجد علم بالجامع، ولا توجد شکوک بعدد الأطراف، فینحل العلم الإجمالی بلا حاجة إلی مسألة اجتماع المثلین، لو قلنا أنّ اجتماع المثلین لیس محالاً، هو افتراض السریان والانطباق یوجب انحلال العلم الإجمالی، وبذلک نصل إلی مقصودنا، وهو إثبات الانحلال بلا أن یتوقّف ذلک علی فرض مسألة اجتماع المثلین. وإن لم یکن الانطباق والسریان ثابتاً؛ فحینئذٍ نقول لا یلزم اجتماع المثلین، یعنی لا یجتمعان علی موردٍ واحد؛ لأنّ العلم وقف علی الجامع بحدّه الجامعی، بینما العلم التفصیلی متعلّق بالفرد، فکیف یجتمع علمان علی موردٍ واحد حتّی یلزم اجتماع المثلین.

ص: 60

انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: انحلال العلم الإجمالی/تنبیهات العلم الإجمالی /الأصول العملیّة

الوجه الخامس والأخیر: الذی یستفاد من کلماتهم لإثبات الانحلال هو ما تقدّمت الإشارة إلیه فی مناقشة الوجه الأوّل، هناک ذکرنا أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) ناقش فی الوجه الأوّل، یستفاد من هذه المناقشة هذا الوجه الخامس، وحاصله ومختصره: هو دعوی أنّ العلم الإجمالی له لازم لا ینفک عنه فی جمیع موارد العلم الإجمالی، وهذا اللّازم لیس موجوداً فی محل الکلام؛ حینئذٍ یُستکشف من عدم وجود اللازم عدم وجود الملزوم الذی هو عبارة عن العلم الإجمالی، وبالتالی فی محل الکلام لا یوجد علم إجمالی؛ لأنّه ینحلّ ولا یبقی، وهذا هو المطلوب، لکنّ عدم العلم الإجمالی فی محل الکلام یُستکشف باعتبار عدم وجود لازمه، وإلاّ لو کان موجوداً لکان لازمه موجوداً، بمقتضی الملازمة. الّلازم الذی یُشیر إلیه هو ما تقدّم من القضیة التی اسماها القضیة التعلیقیة، یقول: أنّ العلم الإجمالی دائماً لابدّ أن تصدق معه قضیة تعلیقیة شرطیة مفادها هو: أنّ المعلوم بالإجمال إن کان فی هذا الطرف، فهو لیس موجوداً فی الطرف الآخر، وهکذا العکس، بلحاظ کلا الطرفین تصدق هذه القضیة التعلیقیة. یقول المستدل: صدق هذه القضیة التعلیقیة من لوازم العلم الإجمالی، وفی محل الکلام هذه القضیة التعلیقیة لا تصدق، فإذا کانت هذه القضیة التعلیقیة لا تصدق فی محل الکلام، فهذا معناه انحلال العلم الإجمالی، وعدم تحقق الّلازم، وعدم صدق القضیة التعلیقیة فی محل الکلام، باعتبار أنّه بعد فرض العلم التفصیلی بنجاسة أحد الإناءین فی المثال السابق کما هو المفروض؛ حینئذٍ لا تصدق القضیة التعلیقیة، ولا یصح أن نقول بأنّ النجاسة إن کانت فی الطرف الآخر، فهی لیست موجودة فی هذا الطرف الذی علمنا تفصیلاً ____________ بحسب الفرض _____________ بنجاسته؛ لأنّ هذا الطرف معلوم النجاسة علی کل تقدیر، سواء کان الآخر نجساً، أو لم یکن نجساً؛ لأننا علمنا بنجاسته تفصیلاً _____________ بحسب الفرض _____________ فأذن: لا یصح لنا أن نقول أنّ النجاسة إن کانت موجودة فی الطرف الآخر، فهی لیست موجودة فی هذا الطرف المعلوم تفصیلاً؛ لأنّ هذا الفرد یُعلم بنجاسته علی کل تقدیر، یعنی سواء کان الآخر نجساً، أو لم یکن نجساً.

ص: 61

إذن: لا تصح هذه القضیة التعلیقیة، وهذا معناه انحلال العلم الإجمالی.

لوحظ علی هذا الوجه: بأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) عندما ذکر هذا الوجه لا یقصد به کما هو واضح أنّ الکلّی الطبیعی لو وجد فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی ذاک الطرف، وهکذا العکس، یعنی أنّ النجاسة التی هی الکلّی الطبیعی، لو کانت موجودة فی هذا الطرف، فهی غیر موجودة فی الطرف الآخر، ولو کانت فی هذا الطرف، فهی غیر موجودة فی ذاک الطرف؛ لأنّ هذا واضح بطلانه، لا نستطیع أن نقول أنّ الکلّی الطبیعی لو کان موجوداً فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی الطرف الآخر، هذا لا یتحقق فی جملة من موارد العلم الإجمالی. (مثلاً): لو احتملنا النجاسة فی الطرف الآخر، أعلم أنّ أحد الإناءین نجس قطعاً، واحتمل نجاسة الآخر، ولا ضیر فی هذا، هنا لا استطیع أن أقول أنّ النجاسة إن کانت موجودة فی هذا الطرف، فهی غیر موجودة فی الطرف الآخر، کلا؛ بل لعلّها موجودة فی هذا الطرف، وموجودة أیضاً فی الطرف الآخر، ولعلّها موجودة فی الطرفین، فی حالات احتمال نجاسة کلا الطرفین، فی هذه الحالة لا یصح أن نقول بأنّ الطبیعی إن کان موجوداً فی أحدهما، فهو لیس موجوداً فی الآخر؛ بل الطبیعی حتّی علی تقدیر وجوده فی هذا الطرف، فلعلّه موجود فی الطرف الآخر، فمن الواضح أنّ هذه القضیة لا تصدق فی جمیع موارد العلم الإجمالی. نعم إذا قطعنا بأنّ الطرف الآخر الذی لم تثبت فیه النجاسة طاهر قطعاً، ولا یُحتمل نجاسته، ولا نعلم هل هو هذا الطرف، أو ذاک؛ حینئذٍ یصح أن یقال بأنّ النجاسة وإن کانت فی هذا الطرف، فهی لیست موجودة فی الطرف الآخر، لکن لیس کل علم إجمالی من هذا القبیل، هذا یُدّعی أنّه من لوازم العلم الإجمالی مطلقاً، وفی جمیع موارد تحققه، بینما هو فی کثیر من موارد تحققه، هذه القضیة التعلیقیة بلحاظ الطبیعی لا تصح ولا تصدق. إذن: لیس هذا هو مراده، وإنّما ما یُراد بهذا الوجه هو أنّ المعلوم بالإجمال المنکشف بالعلم الإجمالی بما هو معلوم ترد فیه هذه القضیة الشرطیة التعلیقیة، المعلوم بالإجمال بما هو معلوم إذا کان موجوداً فی هذا الطرف، فهو لیس موجوداً فی الطرف الآخر، وهکذا العکس، هذا هو المقصود لا أنّ الکلّی الطبیعی(النجاسة) إن کانت فی هذا الإناء، فهی لیست موجودة فی الإناء الآخر، کلا لعلّها موجودة فی الإناء الآخر، وإنّما المقصود هو أنّ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال لو کان موجوداً فی أحد الطرفین، فهو لیس موجوداً فی الطرف الآخر، وسرّه هو أنّ المعلوم بالإجمال واحد ولیس أکثر من واحد، ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة واحدة متحققة فی أحد الإناءین، وأنّ أحد الکتابین مغصوب، فإذن: المعلوم بالإجمال واحد لا أکثر، ولازم ذلک صحّة القضیة التعلیقیة، أنّ هذه النجاسة المعلومة بالإجمال بما هی معلومة بالإجمال إذا کانت موجودة فی هذا الطرف، فهی لیست موجودة فی الطرف الآخر، وإذا کانت موجودة فی الطرف الآخر، فهی لیست موجودة فی هذا الطرف، هذه القضیة التعلیقیة تکون صحیحة وثابتة عندما نلاحظ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال.

ص: 62

بعد أنّ اتضح ما هو المقصود بالقضیة التعلیقیة التی تُدّعی فی محل الکلام، والتی تکون لازمة لکل علمٍ إجمالی حتّی مع احتمال تحقق النجاسة فی الطرف الآخر، لکن القضیة التعلیقیة بلحاظ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال صادقة؛ لأنّ المعلوم بالإجمال واحد، ومن الواضح أنّه علی تقدیر تحققه فی أحد الطرفین لا یکون متحققاً فی الطرف الآخر، وهذه قضیة بدیهیة.

هذا أمر صحیح، والقضیة التعلیقیة کما قلنا صحیحة، لکن یبقی أنّ هذا هل هو منطبق فی محل الکلام ؟ هل یمکن فی محل الکلام أن نقول بأنّ القضیة التعلیقیة غیر موجودة فی محل الکلام ؟ لازم العلم الإجمالی غیر موجود فی محل الکلام ونرید أن نستکشف من عدم وجود الّلازم عدم وجود الملزوم، یعنی عدم وجود العلم الإجمالی، وبالتالی انحلاله، هل هذا یصدق فی محل الکلام ؟ هل بإمکاننا فی محل الکلام _____________ الذی هو علم إجمالی وعلم تفصیلی، وافترضنا أنّ العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال _____________ أن نقول أنّ القضیة التعلیقیة لا تصدق، حتّی نقول علی ضوء عدم صدقها ینتفی الملزوم، وینحل العلم الإجمالی، فیکون هذا دلیل علی انحلال العلم الإجمالی ؟ هو ذکر هذا البرهان علی عدم صدق القضیة التعلیقیة: أنّ القضیة التعلیقیة لا تصدق؛ لأنّه لا یصح أن أقول: لو کانت النجاسة موجودة فی هذا الطرف الآخر، فهی غیر موجودة فی هذا الطرف المعلوم نجاسته بالتفصیل؛ لأنّ هذا الفرد المعلوم نجاسته تفصیلاً معلوم النجاسة علی کل تقدیر، سواء کان الآخر نجساً، أو لم یکن نجساً.

إذن: لا یصح أن أقول لو کان الطرف الآخر نجساً، فهذا _____________ الفرد المتعلّق بالعلم التفصیلی _______________ لیس نجساً؛ لأنّ هذا نجس علی کل تقدیر، فلا تصح القضیة التعلیقیة. هذا ما ذکره. وهذا کأنّه ناظر إلی المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّه یرید أن یطبّقها فی محل الکلام علی ذلک، أنّ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال حیث أنّه واحد غیر متعدد علی تقدیر تحققه فی الطرف الآخر، فلا یکون متحققاً فی هذا الطرف. هذه هی الدعوی، هل هذه الدعوی صحیحة ؟ أنّ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال، هل هو محتمل الانطباق علی هذا الطرف ؟ الصحیح هو أنّه محتمل الانطباق علی هذا الطرف، هذا إنّما یکون غیر محتمل الانطباق علی الطرف الآخر عندما نلحظ المعلوم بالإجمال لوحده من دون أن نفترض أنّه معلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال؛ حینئذٍ یصح أن یقال هذا الکلام، أمّا عندما نفترض أنّ المعلوم بالإجمال انطبق علی الفرد، أو بعبارةٍ أکثر وضوحاً علی ضوء ما تقدّم أنّ العلم الإجمالی سری من الجامع إلی الفرد، فی هذه الحالة لا تصدق القضیة التعلیقیة، ولا یصح أن نقول أنّ المعلوم بالإجمال لو کان فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الفرد الذی علمنا به تفصیلاً؛ لأننّا نعلم _____________ بحسب الفرض ____________ بانطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الفرد، فلا یصح لنا أن نقول لو کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف، لا تصح هذه القضیة التعلیقیة، ومن عدم صحّة القضیة التعلیقیة یمکن أن نلتزم بالانحلال، ونستکشف عدم وجود العلم الإجمالی من عدم وجود وتحقق لازمه، لکن هذا عندما نفترض سریان العلم من الجامع إلی الفرد، انطباق المعلوم بالإجمال، علی المعلوم بالتفصیل، عندما نفترض ذلک یصحّ کلامه وهو أنّ القضیة التعلیقیة غیر متحققة فی محل الکلام، لا یصحّ لنا أن نقول لو کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف، کلا، هو قطعاً موجود فی هذا الطرف؛ لأنّ المفروض أننا نعلم بالانطباق، ونعلم بأنّ العلم الإجمالی سری من الجامع إلی الفرد، فلا تصح القضیة التعلیقیة، وبالتالی یُستکشف من عدم صدق القضیة التعلیقیة عدم تحقق العلم الإجمالی، والانحلال.

ص: 63

وأمّا إذا فرضنا عدم سریان العلم من الجامع إلی الفرد، بالرغم من العلم التفصیلی بالفرد، فی هذه الحالة حینئذٍ تصدق القضیة التعلیقیة، یصح لنا أن نقول أنّ المعلوم بالإجمال لو کان فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف؛ لأننا لا نعلم بانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، نحتمل أنّ المعلوم بالإجمال ینطبق علی ذاک الطرف، لیس لدینا علم ووضوح فی أنّه ینطبق علی هذا فقط، وإنّما کما نحتمل انطباقه علی هذا نحتمل انطباقه علی الطرف الآخر، وفی هذه الحالة؛ حینئذٍ تکون القضیة التعلیقیة صادقة، لو کان المعلوم بالإجمال موجوداً فی ذاک الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف، ولو کان موجوداً فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی ذاک الطرف، فتکون القضیة التعلیقیة صادقة، وإذا کانت القضیة التعلیقیة صادقة، فالعلم الإجمالی موجود لم ینحل، لا نستطیع أن نقول بشکلٍ عام ومن دون تفصیل أنّه فی کلّ موارد العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی الذی هو محل الکلام، دائماً القضیة التعلیقیة تکون غیر متحققة، وعند انتفاء الّلازم نستکشف انتفاء الملزوم، هذا یصح عندما نحرز انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، عند إحراز الانطباق لا تصدق القضیة التعلیقیة، لا یمکن أن نقول لو کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، لما کان موجوداً فی هذا الفرد الذی نعلم به تفصیلاً؛ لأننا فرضنا الانطباق والسریان، فیصحّ کلامه من أنّه علی کلّ تقدیر، هذا معلوم انطباق المعلوم بالإجمال علیه، فلیس هناک قضیة تعلیقیة، فیُستکشف منها انحلال العلم الإجمالی وعدم بقائه. أمّا إذا فرضنا عدم السریان وعدم العلم بالانطباق، وإنّما کان المعلوم بالإجمال هو الجامع الذی یُحتمل انطباقه علی هذا الطرف ویحتمل انطباقه علی ذاک الطرف، لیس هناک سریان للعلم من الجامع إلی هذا الفرد حتّی نقول لا یُحتمل انطباقه علی ذاک الطرف، لیس هناک علم بالسریان، ولا علم بالانطباق، فی هذه الحالة تکون القضیة التعلیقیة صادقة بلحاظ کلا الطرفین، ولا یمکن حینئذٍ إثبات الانحلال اعتماداً علی الوجه الخامس.

ص: 64

إذن: نکتة الموقف ترتبط بأنّه فی حالة من هذا القبیل التی نتکلّم عنها علم إجمالی وعلم تفصیلی بالفرد مع افتراض أنّ العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، فی هذه الحالة، هل ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أو لا ؟ هل یسری العلم من الجامع إلی الفرد، أو لا ؟ هذا لابدّ من تنقیحه، وتنقیحه یرتبط بالأمر الثانی الذی ذُکر سابقاً وکررّناه مراراً، وسیأتی التعرّض له، وهو الشرط الثانی لدخول المقام فی محل النزاع، وهو مسألة أنّ المعلوم بالإجمال الجامع الذی تعلّق به العلم، هل أُخذت فیه خصوصیة زائدة یُحتمل علی ضوئها أن لا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، ولازمه احتمال أن ینطبق المعلوم بالإجمال علی الطرف الآخر الغیر معلوم بالتفصیل، هل أُخذت خصوصیة، أو لم تؤخذ خصوصیة ؟ إذا أُخذت خصوصیة، فهذا الکلام لیس صحیحاً، القضیة التعلیقیة صادقة لأننا لا نعلم بانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّه أُخذت فی المعلوم بالإجمال خصوصیة یُحتمل علی ضوئها أن لا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، فلا علم لنا بالانطباق، لا علم لنا بسریان العلم من الجامع إلی الفرد.

فإذن: لدینا علمان، علم إجمالی واقف علی الجامع بحدّه الجامعی لم یسرِ إلی الفرد، ولدینا علم تفصیلی بالفرد بحدّه الشخصی، فی مثل هذه الحالة الوجه الخامس لا یکون صحیحاً، بمعنی أنّ القضیة التعلیقیة تصدق، ولیس کما قال من أنّها لا تصدق فی جمیع موارد العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی؛ بل أنّ القضیة التعلیقیة تصدق؛ لأننا قلنا أنّ المراد بالقضیة التعلیقیة هو أنّ المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال لو کان فی هذا الطرف، فهو غیر موجود فی ذاک الطرف، وهکذا بالعکس؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعی، وهو کما یُحتمل انطباقه علی هذا الطرف یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر، وهو شیء واحد، فلو کان موجوداً فی هذا الطرف فهو غیر موجود فی ذاک الطرف، ولو کان موجوداً فی ذاک الطرف، فهو غیر موجود فی هذا الطرف.

ص: 65

نعم، إذا فرضنا السریان، والانطباق، ویتحقق الانطباق إذا لم تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال؛ ولذا نکتة القضیة هی أنّه هل أُخذت خصوصیة فی المعلوم بالإجمال _____________ الجامع ____________ یُحتمل علی ضوئها إباء المعلوم بالإجمال عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، أو لم تؤخذ خصوصیة ؟ إذا أخذت خصوصیة فالکلام لیس تامّاً، والقضیة التعلیقیة صادقة، والعلم الإجمالی موجود. نعم، إذا لم تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال، ولازم ذلک سریان العلم من الجامع إلی الفرد، انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل فی هذه الحالة یتمّ هذا الوجه؛ لأنّه لا نستطیع أن نقول لو کان المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال بعد فرض سریانه إلی الفرد.... لو کان موجوداً فی هذا الطرف، فهو موجود فی هذا الطرف؛ لأنّ المفروض انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، ومع العلم بالانطباق، ومع العلم بسریان العلم من الجامع إلی الفرد؛ حینئذٍ لا یصح لنا أن نقول: فلیس المعلوم بالإجمال موجوداً فی هذا الطرف علی تقدیر وجوده فی الطرف الآخر؛ لأنّه موجود علی کل تقدیر ____________ بحسب الفرض _____________ ، فالعمدة هو تحقیق حال هذه القضیة، وهی أنّ العلم الإجمالی مع العلم التفصیلی فی محل الکلام هل أُخذ فی معلومه خصوصیة، أو لم تؤخذ خصوصیة ؟ لیس المقصود بالخصوصیة هی الخصوصیة المصرّح بها فی مثالٍ ____________ مثلاً __________، کلا ، نفس افتراض علم إجمالی وافتراض علم تفصیلی، هذا وحده، لا أننا نفترض خصوصیة فی المعلوم بالإجمال، هذا من باب التوضیح، أنّ النجاسة التی نعلم بها إجمالاً کانت نجاسة ناشئة من قطرة بولٍ، أو دم ____________ مثلاً __________ ویُحتمل علی ضوء ذلک أن لا یکون الجامع والمعلوم بالإجمال منطبقاً علی المعلوم نجاسته بالتفصیل، لا نفترضه نحن، وإنّما هی طبیعة افتراض علم إجمالی مع علم تفصیلی، هذا یقتضی أن یکون المعلوم بالإجمال له خصوصیة بهذه المثابة التی قلناها، أو لیس له ذلک ؟ إذا قلنا بأنّ فیه خصوصیة؛ حینئذٍ لا یکون هذا الوجه تامّاً؛ بل الوجوه الأخری أیضاً لا تکون تامّة لإثبات الانحلال، لا انحلال للعلم الإجمالی، وإنّما هو باقٍ وموجود بالرغم من العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء.

ص: 66

هذا الوجه الخامس، وهو آخر الوجوه التی نذکرها فی هذا المقام، وتبیّن أن الانحلال وعدمه یرتبط بتحقیق هذه القضیة المتقدّمة والمشار إلیها مراراً. بعد ذلک نذکر بعض الوجوه التی لعلّها اتضحت من ذکر الوجوه السابقة. بعض الوجوه التی ذکرت لإثبات عدم الانحلال، الوجوه السابقة ذُکرت لإثبات الانحلال، أمّا هذه الوجوه فهی لإثبات عدم الانحلال، وعمدة هذه الوجوه مستفادة من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وتُستفاد هذه الوجوه من مناقشاته للوجوه المتقدّمة التی ذکرت للاستدلال بها علی الانحلال.

الأصول العملیّة بحث الأصول

الموضوع: انحلال العلم الإجمالی/تنبیهات العلم الإجمالی /الأصول العملیّة

قلنا فی الدرس السابق أنّ هناک بعض الوجوه التی تستفاد من خلال المناقشات المتقدّمة للوجوه المستدل بها علی الانحلال، هذه الوجوه قد یستدل بها علی عدم الانحلال؛ بل استُدل بها، أو ببعضها علی عدم الانحلال:

الوجه الأوّل: الاستدلال علی عدم الانحلال وبقاء العلم الإجمالی فی محل الکلام ببقاء لازمه، فإذا کان لازم العلم الإجمالی باقیاً فی محل الکلام، فیُستکشف منه بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله بالرغم من افتراض العلم التفصیلی، والمقصود بالّلازم هو احتمال انطباق الجامع المعلوم بالإجمال علی الطرف الآخر غیر المعلوم تفصیلاً، وهذا الاحتمال لا یمکن إنکاره؛ لأنّه موجود بالوجدان، فیُستکشف عدم الانحلال، وإلاّ لو کان العلم الإجمالی منحلاً لما امکن افتراض احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر، حیث أنّ احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر من لوازم العلم الإجمالی، وحیث أنّ هذا الاحتمال موجود بالوجدان ولا یمکن إنکاره، فیستکشف منه بقاء العلم الإجمالی بالرغم من العلم التفصیلی المفترض فی محل الکلام.

وجواب هذا الوجه هو: أنّه لا ینبغی الشکّ فی أنّ مجرّد احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر، لا ینبغی جعله دلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی، و عدم انحلاله؛ لأنّه لا یکشف عن وجود العلم الإجمالی، مجرّد احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر لا یکشف عن وجود علمٍ إجمالی، فلا یصح لنا أن نستدل علی وجود العلم الإجمالی و عدم الانحلال بمجرّد احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر، والدلیل علی ذلک أنّه فی بعض الأحیان إذا علمنا بوجود(زیدٍ) فی هذا المکان تفصیلاً، معنی ذلک أننا علمنا بوجود الجامع فی ضمنه، فإذا احتملنا فی نفس الوقت وجود (عمرو) فی هذا المکان. أی، بعبارةٍ أخری: علمنا بوجود الجامع فی ضمن(زید)، واحتملنا وجود الجامع فی ضمن(عمرو)؛ حینئذٍ الجامع بلا إشکال یکون محتمل الانطباق علی(عمرو)، لکن بالرغم من هذا لیس لدینا علم إجمالی، احتمال انطباق الطرف الآخر لیس دلیلاً علی وجود علمٍ إجمالی؛ لأنّه فی حالةٍ من هذا القبیل احتمال انطباق الطرف الآخر موجود، لکن لا یوجد علم إجمالی فی هذا المثال، لا یوجد عندنا علم بالجامع واحتمالات بعدد الأطراف حتّی یتشکل لدینا علم إجمالی، وإنّما لدینا علم تفصیلی بوجود(زید) فی المکان وشکّ فی وجود(عمرو) فی هذا المکان، لا یوجد علم إجمالی، لکن بالرغم من هذا احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر موجود .

ص: 67

النتیجة التی نصل إلیها هی: أنّ مجرّد انطباق الجامع علی الطرف الآخر وحدّه لا یُشکّل دلیلاً، ولا یکون کاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی وعدم الانحلال بدلیل أنّه فی هذا المورد احتمال انطباق الجامع علی الطرف الاخر موجود مع أنّه لا یوجد علم إجمالی، السرّ فی هذا هو أنّ ما یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر فی المثال الذی ذکرناه، ما یُحتمل انطباقه علی(عمرو) هو الجامع، لکن بحدّه الجامعی، هذا الذی نحتمل انطباقه علی(عمرو)، حتّی فی هذا المثال نحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعی علی(عمرو)، وهذا الجامع بحدّه الجامعی الذی یُحتمل انطباقه علی (عمرو)، لیس معروضاً للعلم التفصیلی فی المثال المذکور؛ لأنّ ما هو معروض العلم التفصیلی هو الجامع فی ضمن الخصوصیة، هو الجامع لیس بحدّه الجامعی، وإنّما بحدّه الشخصی فی ضمن الخصوصیة التی هی(زی__د)، هذا هو معروض العلم، وهذا الجامع فی ضمن الخصوصیة لا یُحتمل انطباقه علی(عمرو)، لا نحتمل انطباق الجامع المتشخّص فی ضمن(زی__د) علی(عمرو)، الذی احتمل انطباقه علی(عمرو) هو الجامع بحدّه الجامعی لا الجامع بما هو معروض للعلم التفصیلی فی هذا المثال؛ لأنّ الجامع بما هو معروض للعلم التفصیلی هو الجامع المتشخّص فی ضمن الخصوصیة، وهذا ممّا لا یُحتمل انطباقه علی(عمرو).

إذن: ما احتمل انطباقه علی(عمرو)، لیس معروضاً للعلم، وما هو معروض للعلم لا یُحتمل انطباقه علی(عمرو)، ومعنی هذا الکلام أنّ مجرّد انطباق الجامع علی الطرف الآخر لیس دلیلاً علی وجود العلم الإجمالی؛ ولذا فی هذا المثال قطعاً لا یوجد علم إجمالی، بالرغم من هذا هناک احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر. إذن، لکی یکون احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر کاشفاً عن العلم الإجمالی وبقائه وعدم الانحلال لابدّ أن نفترض أن یکون الجامع الذی یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر محدوداً بنفس الحدّ الذی یکون معروضاً للعلم؛ حینئذٍ یکون احتمال الانطباق دلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی وعدم الانحلال، عندما احتمل انطباق المعلوم بالإجمال بما هو معلوم بالإجمال علی الطرف الآخر، إذا احتملنا انطباق الجامع بما هو معلوم بالإجمال علی الطرف الآخر، فهذا معناه وجود علمٍ إجمالی، لا أننا نحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعی فقط، کلا، وإنما الجامع بما هو معلوم، وبما هو معروض للعلم، هذا الجامع بما هو معروض للعلم إذا احتُمل انطباقه علی الطرف الآخر، فأنّه بلا إشکال یکون کاشفاً ودلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی، وهذا إنّما یتحقق ویکون احتمال الانطباق کاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی، وعدم الانحلال، إنّما یتحقق فی تلک الحالة التی اشیر إلیها مراراً وهی ما إذا کان للمعلوم بالإجمال حدّ وخصوصیة محتملة الانطباق علی الطرف الآخر، التی هی عبارة أخری عن ما کان یُکررّ سابقاً محتملة الإباء عن الانطباق علی الطرف المعلوم تفصیلاً، أن تؤخذ فی المعلوم بالإجمال خصوصیة یُحتمل علی ضوئها أن لا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل الذی لازمه احتمال انطباقه علی الطرف الآخر، عندما تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال وهذه الخصوصیة یُحتمل أن تجعل المعلوم بالإجمال غیر منطبق علی المعلوم بالتفصیل، فی هذه الحالة حینئذٍ یتحقق هذا الشیء ویقال أنّ احتمال الانطباق علی الطرف الآخر یکشف عن وجود علمٍ إجمالی؛ لأنّه هنا لا نحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعی مع عدم افتراض کونه معروضاً للعلم، کلا هذا الجامع بما هو معروض للعلم نحتمل انطباقه علی الطرف الآخر. إذن، المعلوم بالإجمال الجامع بما هو معروض للعلم الإجمالی یُحتمل انطباقه علی هذا الطرف، ویُحتمل انطباقه علی هذا الطرف، وهذا معناه وجود علم إجمالی، علم بالجامع واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، احتمال أن ینطبق علی ذاک الطرف، واحتمال أن ینطبق علی هذا الطرف التفصیلی؛ لأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة یُحتمل أن تجعله یأبی عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، فیبقی احتمال الانطباق فی هذا الطرف، واحتمال الانطباق فی الطرف الآخر. مثل احتمال الانطباق بهذا الشکل علی الطرف الآخر یکون کاشفاً عن العلم الإجمالی وعن بقائه و عدم انحلاله.

ص: 68

وأمّا إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال لم تؤخذ فیه خصوصیة تجعله محتمل الإباء عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، کما إذا علمنا بموت أحد شخصین، إمّا(زی__د)، أو(عمرو)، المعلوم بالإجمال هو موت أحدهما بلا خصوصیة، ثمّ علمنا بالتفصیل موت(زی__دٍ)، هذا لیس فیه خصوصیة، فی الأوّل افترضنا فیه خصوصیة، من قبیل المثال الذی مثّل به، کما لو علمنا بوجود نجاسة فی أحد الإناءین ناشئة من سقوط قطرة دم، ثمّ علمنا بنجاسة الأوّل، هنا یحتمل عدم انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أو بعبارةٍ أخری: یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی الطرف الآخر. الحالة الثانیة أن لا تؤخذ هذه الخصوصیة، کما لو علمت بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ علمت بنجاسة الأیمن منهما، فی هذه الحالة انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل قهری، سریان العلم من الجامع إلی الفرد قهری، ولیس هناک مجال لاحتمال عدم السریان؛ لأنّ المکلّف الذی کان عالماً بالإجمال بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ علم بالتفصیل بنجاسة الأیمن منهما، لا إشکال فی أنّ هذا ازداد علمه، کان علمه سابقاً واقفاً علی الجامع بحدّه الجامعی، والآن نزل إلی الفرد، وهذا عبارة عن السریان، کان علمه فقط بنجاسة أحد الإناءین، الآن أصبح عالماً بنجاسة هذا الإناء، علمه بنجاسة الإناء الأیمن معناه أنّ علمه لم یعد واقفاً علی الجامع بحدّه الجامعی، وإنّما نزل من الجامع إلی الفرد، وأصبح عالماً بالجامع فی ضمن الفرد؛ ولذا یکون الانطباق والسریان قهریاً، وإذا سری العلم الإجمالی من الجامع إلی الخصوصیة _____________ الفرد ___________ حینئذٍ احتمال الانطباق لا یکون دلیلاً وکاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی؛ لأنّه یرِد الکلام السابق، الذی یُحتمل انطباقه علی الفرد الآخر هو الجامع بحدّه الجامعی، لکن هذا الجامع بحدّه الجامعی لیس معروضاً للعلم التفصیلی، المعروض للعلم التفصیلی هو الجامع فی ضمن الخصوصیة. إذن، الجامع بما هو معروض للعلم لا یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر؛ لأنّ الجامع بما هو معروض للعلم هو الجامع فی ضمن الخصوصیة، ولا إشکال أنّ الجامع فی ضمن الخصوصیة لا یُحتمل انطباقه علی خصوصیة أخری وفرد آخر، ولیس هناک احتمال انطباق حتّی یُستدل به علی بقاء العلم الإجمالی، وما یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر هو الجامع بحدّه الجامعی، وهو لیس معروضاً للعلم التفصیلی؛ ولذا مثل احتمال الانطباق هذا لا یکون کاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی؛ بل یحتمل انطباق الجامع بحدّه الجامعی علی الطرف الآخر، لکن لا یوجد علم إجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی سری من الجامع إلی الفرد، وتحول العلم إلی علم تفصیلی بالخصوصیة وشکّ بدوی فی الطرف الاخر، ولا یوجد علم إجمالی، مع أنّه یُحتمل انطباق الجامع علی الطرف الآخر.

ص: 69

إذن: لیس کل احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر دلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله، وإنّما یکون دلیلاً علی بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله فی ما إذا فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال، الجامع الذی علم به إجمالاً کان مقیداً بخصوصیةٍ یُحتمل عدم انطباقه علی ضوء هذه الخصوصیة علی المعلوم بالتفصیل. هنا فی هذه الحالة نستطیع أن نقول أنّ الجامع بما هو معروض للعلم الإجمالی یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر ویکون دلیلاً وکاشفاً عن بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله. أمّا إذا لم یکن مقیداً بهذه الخصوصیة، فلا. إذن، بالنتیجة رجعنا إلی نفس النکتة التی ذُکرت مراراً ضمن هذه البحوث، وهی مسألة أنّ المعلوم بالإجمال هل هو مقیّد بخصوصیة یحتمل أن تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أنّ الجامع بهذه الخصوصیة یأبی عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، ویُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر، مقیّد بخصوصیة، أو غیر مقیّد بخصوصیة، فإذا کان مقیّداً بخصوصیةٍ، فلیس هناک انطباق ولا سریان، وبالتالی لا یوجد سریان؛ بل یکون العلم الإجمالی باقیاً. أمّا إذا لم یکن مقیّداً بخصوصیة، فالسریان یکون قهریاً، والانطباق أیضاً یکون قهریاً، ویکون الانحلال قهریاً. هذه النکتة لابدّ من بحثها.

الوجه الثانی: قالوا أنّه لا إشکال فی الانحلال فیما لو کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، علی ما تقدّم فی بدایة هذا البحث، حیث قلنا أنّ هذا خارج عن محل النزاع، وهو ما إذا کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، هذا لا إشکال فیه فی انحلال العلم الإجمالی انحلالاً حقیقیاً، ومثاله هو ما إذا علمنا بموت(ابن زید)، وترددّ(ابن زید) بین (عمرو) وبین(خالد)، ثمّ بعد ذلک علمنا تفصیلاً ان(ابن زید) الذی علمنا إجمالاً بموته هو(عمر)، هذا العلم التفصیلی یکون ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، هنا لا إشکال فی الانحلال، وقلنا أنّ هذا خارج عن محل النزاع. الوجه الثانی یقول: لو قلنا بالانحلال فی محل الکلام الذی فُرض فیه أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، إذن، لم یبقَ فرقٌ بین الحالتین، الحالة الأولی هی ما إذا کان ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، والحالة الثانیة هی ما إذا لم یکن ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال؛ لأنّه فی کلٍ منهما نقول بالانحلال، والحال أنّه من الناحیة النفسیة، الفرق بینهما ثابت بالوجدان، ولا یمکن إنکاره، ومن ثبوت الفرق بینهما بهذا الشکل الواضح والوجدانی نستکشف عدم الانحلال فی محل الکلام، وإلاّ لکان محل الکلام مساویاً للحالة الأولی مع أنّه لیس مساویاً له قطعاً.

ص: 70

الأصول العملیّة بحث الأصول

الموضوع: انحلال العلم الإجمالی/ تنبیهات العلم الإجمالی / الأصول العملیّة

کان الکلام فی الوجه الثانی الذی استُدل به علی عدم الانحلال ، وکان حاصله أنّ الانحلال واضحٌ ومسلّمٌ ولا إشکال فیه فی صورة ما إذا کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال فی طرفٍ معیّنٍ، فلو ثبت الانحلال فی محل کلامنا الذی فُرض فیه أنّ العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، إذا فُرض الانحلال فی محل کلامنا لزم تساوی هاتین الحالتین وعدم الفرق بینهما، والحال أنّ الفرق بینهما أمر محسوس ووجدانی ولا یمکن إنکاره، فمن وضوح الفرق بینهما یُستکشف عدم الانحلال فی محل الکلام حتّی یکون فرق بین الحالتین، فی الحالة الأولی هناک انحلال مسلّم، فلابدّ أن یثبت فی محل الکلام عدم الانحلال.

الوجه الثانی بلحاظ أنّ هناک فرقاً بین الحالتین یکون مسلّماً بلا إشکال، هناک فرق محسوس وجدانی بین الحالتین، لکن هذا لیس دلیلاً علی عدم الانحلال فی محل الکلام، لیس کاشفاً عن عدم الانحلال فی محل الکلام؛ لأنّ هذا الفرق محسوس بالوجدان حتّی إذا قلنا بالانحلال فی محل الکلام، فضلاً عن الحالة الأولی، مع ذلک هناک فرق وجدانی لا یمکن إنکاره بینهما.

وبعبارةٍ أخری: أنّ وضوح الفرق ووجدان الفرق بین الحالتین یمکن أن یُفسّر علی أساس آخر غیر ما حاول المستدل إثباته، یمکن أن یُفسّر لا علی اساس تحقق الانحلال فی الحالة الأولی، وعدم تحققها فی الحالة الثانیة فی محل الکلام حتّی یُقال بثبوت عدم الانحلال فی محل الکلام، وإنّما یمکن أن یُفسّر بتفسیرٍ آخر، وحاصل هذا التفسیر هو: عندما نفترض أنّ العلم التفصیلی ناظر إلی العلم الإجمالی وفی مقام تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، عندما نفترض ذلک، هذا فی الحقیقة یستبطن افتراض أنّ المعلوم بالإجمال له تعیّن واقعی، وأنّ العلم التفصیلی یحاول تشخیص هذا الشیء الذی له تعیّن واقعی فی هذا الطرف. المعلوم بالإجمال له تعیّن واقعی، وإن کان مرددّاً ومجملاً عندنا، والعلم التفصیلی یحاول أن یُبیّن أنّ المعیّن واقعاً هو هذا، وأنّ النجس واقعاً هو هذا. ومن هنا یکون العلم التفصیلی له مدلول سلبی، مدلول إضافی غیر مسألة تعیین المعلوم بالإجمال الذی له تعیّن واقعی، تعیینه فی هذا الطرف، کلا، وإنّما له مدلول آخر وهو نفی المعلوم بالإجمال الذی له تعیّن واقعی عن الطرف الآخر، ومن هنا یکون العلم التفصیلی فی الحالة الأولی یُبدّل احتمال الانطباق فی الطرف المعلوم تفصیلاً إلی العلم بالانطباق، ویبدّل احتمال الانطباق فی الطرف الآخر إلی العلم بعدم الانطباق، فإذن، له مدلولان، هو یثبت العلم بالانطباق فی هذا الطرف، ویثبت به أیضاً العلم بعدم الانطباق فی الطرف الآخر، فی المثال المتقدّم المسألة واضحة جدّاً، عندما أعلم بموت ابن زید، وترددّ ابن زید بین خالد، وعمرو، ثمّ علمت تفصیلاً بأنّ ابن زید هو خالد، فهذا کما یثبت أنّ ابن زید هو خالد، هو ینفی کون عمرو أبناً لزید. إذن: هو علم بالانطباق فی هذا الطرف، وعلم بعدم الانطباق فی الطرف الآخر. هذا فی الحالة الأولی.

ص: 71

فی محل الکلام، حتی لو قلنا بالانحلال وسرایة العلم من الجامع إلی الفرد لا یوجد مثل هذا المدلول، لا یوجد ما یوجب العلم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر، وإنّما یبقی الانطباق علی الطرف الآخر محتملاً ولا یمکن نفیه، حتّی لو علمنا تفصیلاً بثبوت النجاسة بموت زیدٍ، فی مثالٍ آخر غیر المثال السابق؛ لأنّه لابدّ أن نفترض أنّ العلم التفصیلی لیس ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال کما لو علمنا بموت أحد شخصین، إمّا زید، وإمّا عمرو، ثمّ علمنا تفصیلاً بموت زیدٍ، هذا ما نحن فیه، هنا الانحلال یقول بأنّ العلم یسری من الجامع إلی الفرد، وینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ ولذا یتحقق الانحلال، هذا کلّه صحیح، لکن لا علم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر، وإنّما یبقی احتمال الانطباق علی الطرف الآخر موجوداً، یعنی احتمال موت الطرف الآخر موجود وقائم، ولا یمکن نفیه، والمعلوم بالإجمال هو موت أحد شخصین، علمنا تفصیلاً بموت زیدٍ، فسری العلم من الجامع إلی الفرد، انطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، هذا کلّه صحیح؛ لأنّ الانطباق ___________ بحسب الفرض ___________ والانحلال والسریان إنّما یکون حیث لا تؤخذ خصوصیة فی المعلوم بالإجمال یُحتمل إباؤها عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، حیث لا تؤخذ خصوصیة یتحقق السریان والانطباق، فینحل العلم الإجمالی؛ لانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وسریان العلم من الجامع إلی الطرف، لکن هذا لا یعنی العلم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر؛ بل یبقی احتمال الانطباق علی الطرف الآخر قائماً ولا موجب لنفیه، غایة الأمر أنّ مثل هذا الاحتمال لا یستطیع أن یُشکّل علماً إجمالیاً؛ لأنّه بعد سرایة العلم من الجامع إلی الفرد بعد فرض الانحلال؛ حینئذٍ لا یکون لدینا إلاّ علم تفصیلی بموت زید، وشکّ بدوی فی موت غیره، وهذا لا یشکّل علماً إجمالیاً.

ص: 72

الخلاصة : أنّ احساس الفرق بین الحالتین ووجدان الفرق بین الحالتین یمکن أن یُفسّر علی هذا الأساس، أنّه فی الحالة الأولی هناک علم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر، بینما فی محل الکلام لا یوجد مثل هذا العلم بعدم الانطباق علی الطرف الآخر، وإنما یبقی احتمال الانطباق قائماً وموجوداً وعلی حاله، لکنّه لا یُشکّل علماً إجمالیاً بعد فرض السریان من الجامع إلی الفرد، وانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل.

تبیّن من جمیع ما تقدّم أنّ المسألة التی یجب بحثها وترکیز الکلام علیها فی المقام، والتی یتوقف القول بالانحلال الحقیقی، أو القول بعدم الانحلال علیها وعلی بحثها وتحقیقها هی عبارة عن المسألة التی تکررّت الإشارة إلیها، وهی أنّ المعلوم بالإجمال فی کلّ علم إجمالی، ولیس فی بعض العلوم الإجمالیة، وإنّما فی کل علمٍ إجمالی، المعلوم بالإجمال هل یکون له حدّ وخصوصیة یُحتمل علی ضوئها أنّه یأبی عن الانطباق علی هذا الطرف المعلوم بالتفصیل. أو بعبارة أخری کما قلنا: یُحتمل انطباق المعلوم بالإجمال مع لحاظ هذه الخصوصیة علی الطرف الآخر، هل أُخذ فی المعلوم بالإجمال هذا الحد والخصوصیة بهذا الشکل الذی ذکرناه، أو لا ؟ إذا علمنا بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة دم فی أحد الإناءین، ثمّ علمنا بنجاسة أحدهما المعیّن، لکن هذه النجاسة فی الإناء المعیّن، ولیکن الأیمن منهما، هذه النجاسة التی علمت بها تفصیلاً فی هذا الإناء الأیمن ممکن أن تکون ناشئة من سقوط قطرة الدم تلک، وممکن أن تکون ناشئة من نجاسة أخری، من سقوط قطرة دمٍ أخری، لیس لدینا علم، ما نعلمه فقط أنّ الإناء الیمن نجس قطعاً، لکن لیس لدینا علم بأنّ هذه النجاسة نشأت من تلک القطرة التی هی سبب حصول العلم الإجمالی، لو کان لدینا، فمعناه أنّ العلم التفصیلی یکون ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، وقلنا أنّ هذا خارج عن محل کلامنا، أنا اعلم بنجاسة الإناء الأیمن، إمّا أن تکون هذه النجاسة ناشئة من قطرة الدم السابقة المعلومة بالإجمال، وإمّا أن تکون ناشئة من قطرة دمٍ أخری ونجاسة أخری. هذا معنی أنّ المعلوم بالإجمال له حدّ وخصوصیة یُحتمل أن یمتنع انطباقه علی المعلوم بالتفصیل، بهذه الخصوصیة وبهذا الحدّ یُحتمل أن یکون آبیاً عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّه یوجد احتمال أنّ هذه النجاسة فی المعلوم بالتفصیل ناشئة من نجاسة أخری لا علاقة لها بالمعلوم بالإجمال، فلا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل. هل المعلوم بالإجمال فی کل علمٍ إجمالی یوجد فیه مثل هذا الحد ومثل هذه الخصوصیة التی یُحتمل أن یکون المعلوم بالإجمال آبیاً عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، أو لا ؟ هذه هی المسألة التی یجب بحثها. إذا أمکن إقامة دلیل وبرهان علی وجود هذا الحدّ وهذه الخصوصیة فی کلّ علمٍ إجمالی؛ حینئذٍ لا یوجد انحلال حقیقی؛ لوضوح أنّه لا یُعلم فی هذه الحالة انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ بل احتمال انطباق المعلوم بالإجمال فی هذه الحالة علی الطرف الآخر موجود وقائم کما یُحتمل انطباقه علی المعلوم بالتفصیل، لا یوجد إحراز انطباق علی المعلوم بالتفصیل، وإنّما هنا یوجد احتمال انطباق، وکذلک یوجد احتمال انطباق فی الطرف الآخر، هذا معناه بقاء العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی کما تقدّم سابقاً یتقوّم برکنین اساسیین(الرکن الأوّل) العلم بالجامع. و(الرکن الثانی) احتمالات انطباق بعدد أطراف العلم الإجمالی. هنا علم بالجامع موجود بالوجدان، واحتمالات انطباق بعدد الأطراف ایضاً موجودة، فلا موجب لانحلال العلم الإجمالی؛ بل یبقی العلم الإجمالی علی حاله. وإذا فرضنا قیام الدلیل، أو البرهان علی عدم وجود هذا الحد وهذه الخصوصیة بالنحو المتقدّم، کما إذا علمنا إجمالاً بموت أحد شخصین، وترددّ بین زید وعمرو، ثمّ علمنا بموت زیدٍ منهما، هنا المعلوم بالإجمال فرضناه لا یوجد فیه حدّ، ولا توجد فیه خصوصیة یُحتمل أن یأبی عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، هنا یحصل الانحلال الحقیقی، ینحل العلم الإجمالی حقیقة ویسری العلم من الجامع إلی الفرد، باعتبار أنّ الفرد مصداق حقیقی للجامع؛ لأنّ الجامع المعلوم بالإجمال ___________ بحسب الفرض ___________ لم تؤخذ فیه خصوصیة یُحتمل علی ضوئها أن یأبی عن الانطباق علی المعلوم بالتفصیل، فالفرد مصداقٌ حقیقی للجامع، ومع کونه مصداقاً حقیقیاً للجامع؛ فحینئذٍ یسری العلم من الجامع إلی هذا الفرد، وینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل.

ص: 73

وبعبارةٍ أخری: لماذا یقف العلم علی الجامع ؟ لأنّ هناک إجمال فی متعلّق العلم، هناک نقص فی المعلوم والمنکشف بهذا العلم؛ ولذا وقف العلم علی الجامع، فإذا زال هذا النقص وارتفع الترددّ بالعلم التفصیلی بموت زیدٍ، لا إشکال فی أنّ هذا یوجب زیادة فی العلم، وزیادة فی المنکشف بهذا العلم، وفی المعلوم بهذا العلم، وهو معنی سریان العلم من الجامع إلی الفرد، العلم سابقاً کان واقفاً علی الجامع لنقص فی المعلوم، فإذا زال هذا النقص، وعلمت تفصیلاً بموت زیدٍ، فهذا یعنی زیادة وتوسّع فی العلم، وهذه الزیادة فی العلم هی معنی سریان العلم من الجامع إلی الفرد.

وبعبارةٍ أخری: کما قلنا أنّ الجامع عندما لا تؤخذ فیه خصوصیة، الفرد مصداق حقیقی له، وهذا معناه أنّه ینطبق علیه، ویسری العلم من الجامع إلی الفرد، فیتحقق بذلک الانحلال، ولا یعود العلم فی المقام علماً بالجامع مع احتمالات انطباق فی الأطراف، وإنّما یکون علماً تفصیلیاً بهذا الطرف، وشکاً بدویاً فی الطرف الآخر، ولا یکون حینئذٍ علماً إجمالیاً؛ بل ینحلّ هذا العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی والشکّ البدوی.

إذن: لابدّ أن یقع الکلام فی وجود خصوصیةٍ فی المعلوم بالإجمال لکلّ علمٍ إجمالی، وعدم وجود هذه الخصوصیة.

السیّد الشهید(قدّس سرّه) طرح هذا الشیء فی مقام الجواب عن هذا السؤال، ویمکن توضیح ما طرحه بهذا الشکل: (1) وهو أنّه لا إشکال فی أنّ کلّ علمٍ إجمالی یتشکل عند الإنسان لابدّ أن یکون له سبب، العلم الإجمالی بنجاسة أحد إناءین لابدّ أن یکون له سبب، من رؤیة قطرة دم سقطت فی أحدهما، لکن من دون تمییز، ولا نعلم هل سقطت فی هذا، أو سقطت فی هذا، ملاقاة أحدهما علی الإجمال والترددّ للنجاسة لابدّ أن یکون له سبب، علمی بموت أحد شخصین، زید، وعمرو لابدّ أن یکون ناشئاً من رؤیة آثار الموت وعلائم الموت متوجّهة نحو احدهما، لکن اشتبه هذا بهذا، فصار لدّی علم إجمالی بموت أحدهما. أعلم باحتراق أحد الثوبین لابدّ أن یکون له سبب، کما لو أننی رأیت النار بعینی توجّهت نحو أحد الثوبین، لکن لا أعلم هل توجّهت نحو الثوب الأبیض، أو نحو الثوب الأسود، أو رأیت الدخان _____________ مثلاً _____________ یتصاعد من أحدهما، لکن لم استطع أن أمیز الثوب الذی تصاعد منه الدخان.....وهکذا، کلّ علم إجمالی لابدّ أن یکون له سبب، سبب العلم الإجمالی له حالتان:

ص: 74


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج5، ص239.

الحالة الأولی: أن یکون هذا السبب مختصّاً بطرفٍ معین من الأطراف واقعاً، لکن أنا لا أعلم ذلک الطرف الذی اختص به ذلک السبب، فیحصل لدیّ ترددّ بینهما، وإلاّ السبب فی الواقع مختص بأحد الطرفین المعیّن واقعاً، فسبب العلم الإجمالی یکون متوجّهاً نحو طرفٍ بعینه، لکن ترددّ هذا الطرف عندی بین طرفین، فتکوّن لدیّ علم إجمالی، وهذا هو الموجود فی الأمثلة السابقة، نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فی أحد الإناءین، قطرة الدم فی الواقع سقطت فی أحد الإناءین المعیّن واقعاً، لکن أنا صار لدی إجمال وترددّ، فسبب العلم الإجمالی یختصّ بطرفٍ معیّن واقعاً، وهکذا فی مثال الموت، وفی مثال احتراق أحد الثوبین، سبب العلم الإجمالی یختصّ بطرفٍ معیّن فی الواقع.

فی هذه الحالة المعلوم بالإجمال یکون محدوداً بحدّ وخصوصیة خارجیة، وهذه الخصوصیة هی عبارة عن هذا السبب الخاص للعلم الإجمالی، یکون محدوداً بهذا الحد، وبهذه الخصوصیة، ما أعلمه إجمالاً فی هذه الأمثلة هو عبارة عن نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فی طرفٍ معیّنٍ واقعاً، لکن لسببٍ من الأسباب ترددّ هذا الطرف المعیّن واقعاً عندی، ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فی طرفٍ بعینه، سبب العلم الإجمالی هو حدّ وخصوصیة لابدّ أن تؤخذ فی المعلوم بالإجمال، ما أعلمه إجمالاً هو احتراق احد الثوبین المعیّن احتراقاً ناشئاً من توجّه النار إلیها، فهذا هو المعلوم بالإجمال، الاحتراق الناشئ من النار فی طرفٍ معیّن مرددّ بین طرفین، فهذا حدّ وخصوصیة تکون مأخوذة فی المعلوم بالإجمال، وإذا أُخذت قیداً فی المعلوم بالإجمال؛ حینئذٍ نأتی إلی محل الکلام، نقول: إذا حصل العلم التفصیلی بالفرد، هنا یمکن تصوّر ثلاثة صور علی ضوء ما تقدّم فی هذه الحالة الأولی:

ص: 75

الصورة الأولی: أن نفترض أنّ العلم التفصیلی یکون ناظراً إلی تعیین وتشخیص المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، یعنی یرید أن یقول أنّ قطرة الدم التی هی سبب علمک بنجاسة أحد الإناءین سقطت فی الإناء الأیمن، الثوب الذی احترق بالنار هو هذا الثوب الأسود....وهکذا. هنا قلنا أنّه لا إشکال فی الانحلال؛ لأنّ العلم التفصیلی یعیّن المعلوم بالإجمال الذی له تعیّن واقعی، فیزول العلم الإجمالی بلا إشکال.

الصورة الثانیة: أن لا یکون ناظراً إلی تشخیص المعلوم بالإجمال، ولکنّه یتعلّق بسببٍ آخر غیر السبب الأوّل، سابقاً أنا علمت بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم فی أحدهما، ثمّ علمت تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء نجاسة ناشئة من سقوط قطرة دمٍ أخری ونجاسة أخری، فی هذه الحالة لا إشکال فی عدم الانحلال؛ لوضوح أنّ المعلوم بالإجمال بعد اخذ الخصوصیة لا ینطبق علی المعلوم بالتفصیل، فلا انحلال ولا سریان، وهذا أیضاً ممّا لا إشکال فیه، وإنّما الکلام فی الصورة الثالثة کما سیأتی إن شاء الله تعالی.

انحلال العلم الإجمالی/ تنبیهات العلم الإجمالی / الأصول العملیّة بحث الأصول

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: انحلال العلم الإجمالی/تنبیهات العلم الإجمالی /الأصول العملیّة

ذکرنا أنّ سبب العلم: تارةً یکون مختصّاً واقعاً بطرفٍ معیّن، لکنّه عندنا مرددّ بین طرفین، لکن مصب هذا السبب وما یتعلّق هذا السبب به هو طرف معیّن فی الواقع، من قبیل سقوط قطرة دم، قطرة دمٍ تسقط فی إناءٍ معیّن فی الواقع، لکنّه مرددّ عندنا بین هذا الطرف وبین ذاک الطرف، وأخری یکون سبب العلم لا یختصّ بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندنا، وإنّما هو أساساً نسبته إلی الأطراف نسبة متساویة واحدة ولا یختصّ بطرفٍ دون طرفٍ. کان الکلام فی الحالة الأولی، حیث قلنا أنّ هذه الحالة یمکن تصوّرها علی عدّة صور، ذکرنا الصورة الأولی، وقلنا أنّه لا إشکال فی خروجها عن محل النزاع، بمعنی أنّه لا نزاع فی تحقق الانحلال فیها، وهی ما إذا کان العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، وتشخیصه فی طرفٍ معین.

ص: 76

الصورة الثانیة: أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال وتشخیصه فی طرفٍ معیّن، لکّنه یتعلّق بسببٍ آخر، أعلم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء بسببٍ آخر غیر السبب الذی حصل العلم الإجمالی علی أساسه، علمت بسقوط قطرة دمٍ أخری فی هذا الإناء المعیّن. قلنا أنّ هذا أیضاً خارج عن محل النزاع، بمعنی أنّه لا نزاع فی عدم تحقق الانحلال فیه لوضوح أنّ المعلوم بالتفصیل لیس مصداقاً للمعلوم بالإجمال.

الصورة الثالثة: أن لا یکون العلم التفصیلی ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال، ولا یتعلّق بسببٍ آخر، فقط أعلم بنجاسة هذا الإناء المعیّن، علمت بنجاسة أحد الإناءین باعتبار سقوط قطرة دم فی أحدهما، ثمّ علمت تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن. هذه هی الصور التی یقع الکلام فی أنّ العلم الإجمالی هل ینحل بهذا العلم التفصیلی، أو لا ؟

حینما أعلم بنجاسة هذا الإناء الأیمن تفصیلاً، بطبیعة الحال أنا احتمل أنّ هذه النجاسة حدثت من نفس السبب، بسبب سقوط قطرة الدم المعلومة إجمالاً، ویمکن أن تکون النجاسة حادثة بسببٍ آخر، کل منهما محتمل، محتمل أن تکون النجاسة المعلومة تفصیلاً قد حدثت بسبب سقوط قطرة الدم السابقة، أوجبت العلم الإجمالی سابقاً، هذه قطرة الدم هی أوجبت نجاسة هذا الإناء المعیّن، کما یحتمل أن تکون هذه النجاسة المعلومة تفصیلاً حدثت بسببٍ آخر، لکن علی کلا التقدیرین، ما أعلمه هو نجاسة هذا الإناء الأیمن. فی هذه الحالة من الواضح أنّه لا إحراز لانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، لا یحرز الانطباق؛ لأنّی احتمل أنّ النجاسة الحاصلة فی هذا الإناء المعیّن حدثت بسببٍ آخر لا بنفس السبب السابق، هذا ممکن، لا إحراز لانطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وإنّما هناک فقط احتمال الانطباق، احتمال أن یکون السبب واحداً فی العلمین، وبذلک ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، لکن هذا مجرّد احتمال فی قباله احتمال عدم الانطباق، لا إحراز للانطباق؛ لأنّ المعلوم بالإجمال _____________ بحسب الفرض ____________ أُخذت فیه خصوصیة وحدّ یُحتمل أن یکون مانعاً من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وهذا الحد والخصوصیة هی عبارة عن سبب العلم الإجمالی، سبب العلم الإجمالی یکون حدّاً وخصوصیة فی المعلوم بالإجمال یُحتمل أن تکون مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل.

ص: 77

أو قل بعبارةٍ أخری: یُحتمل أن یکون المعلوم بالإجمال منطبقاً علی الطرف الآخر غیر منطبق علی هذا الفرد المعلوم بالتفصیل، والنکتة هی أنّ المعلوم بالإجمال فی هذه الصورة من الحالة الأولی أُخذت فیه خصوصیة یُحتمل أن تکون مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، هذا المفروض فی محل کلامنا؛ لأننا نتکلّم فی الحالة الأولی التی هی ما إذا کان العلم الإجمالی له سبب یختصّ بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندنا، ما تسقط فیه قطرة الدم هو طرف بعینه فی الواقع، لکن أنا صار لدیّ إجمال، فترددّ عندی بین هذا الإناء وبین ذاک الإناء، فی مثل هذه الحالة هذه الخصوصیة زائدة، یعنی سبب العلم إذا کان بهذا النحو، یکون خصوصیة زائدة فی المعلوم بالإجمال بحیث یصحح لی أن أقول أننّی أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة الدم فی طرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندی، وهذه النجاسة تعلّقت بطرفٍ معیّن واقعاً، لکن أنا لا أعلم بهذا الطرف المعیّن واقعاً الذی سقطت فیه قطرة الدم وکان نجساً، هل هو هذا الطرف، أو هذا الطرف ؟ لأنی أحتمل کلاً منهما، احتمل أنّ قطرة الدم سقطت فی هذا الطرف، واحتمل أنّ قطرة الدم سقطت فی ذاک الطرف، لکن ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءین الناشئة من سقوط قطرة الدم، وأحد الإناءین هذا مرددّ عندی بین هذا الطرف وبین ذاک الطرف، من هنا یکون سبب العلم الإجمالی فی هذه الحالة قیداً وخصوصیة فی المعلوم بالإجمال، أنا لا أعلم بنجاسةٍ علی إطلاقها مرددّة بین هذا الطرف وذاک، وإنّما أعلم بنجاسة ناشئة من سقوط قطرة دمٍ فی أحد الإناءین، النجاسة التی أعلمها فی أحد الطرفین هی نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم فی ذاک الطرف المعیّن واقعاً المرددّ عندی، أنا لا أعلم بأنّ ذاک الإناء الواقعی الذی سقطت فیه قطرة الدم، هل هو هذا الإناء الأیمن، أو هو الإناء الأیسر ؟ وإلاّ فی الواقع قطرة الدم سقطت فی إناءٍ معیّنٍ، والنجاسة ثبتت لإناءٍ معیّنٍ نتیجة سقوط قطرة الدم.

ص: 78

إذن: ما أعلمه لیس نجاسة مطلقة، لا أعلم أنها موجودة هنا، أو موجودة هنا، وإنّما أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة الدم فی إناءٍ معیّنٍ فی الواقع من الإناءین، لکنّی لا أعلم هل هو هذا الإناء، أو ذاک الإناء، وهذا معنی أنّ المعلوم بالإجمال یکون قد أُخذت فیه خصوصیة وحدّ یُحتمل أن تکون تلک الخصوصیة مانعة من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ لأننّی لا أعلم بوجود هذه الخصوصیة فی المعلوم بالتفصیل، المفروض أنّ المعلوم بالتفصیل فقط أنا علمت بنجاسة الإناء الأیمن، ولیس أننی علمت بنجاسة الإناء الأیمن نجاسةً ناشئة من قطرة الدم المفترضة فی المقام، من المحتمل أن تکون النجاسة ناشئة من قطرة الدم السابقة، لکن یُحتمل أن تکون ناشئة من سببٍ آخر، علی هذا التقدیر لا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة، نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم، ما دمت احتمل فی المعلوم بالتفصیل أنّ نجاسته نشأت من سببٍ آخر؛ حینئذٍ هذا یمنع من احراز انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ ولذا لا انحلال فی هذه الصورة الثالثة، لا یتحقق الانحلال بمجرّد أن نفترض أنّ المعلوم بالإجمال قد أُخذت فیه خصوصیة؛ بل فی الحقیقة الذی یحصل ثانیاً بعد العلم الإجمالی وإن کان هو علماً تفصیلیاً بلحاظ الطرف وبلحاظ الفرد، لکنّه فی واقعه علم إجمالی بلحاظ سبب هذا العلم التفصیلی؛ لأنّ هذا العلم التفصیلی سببه مرددّ فی الواقع بین أن یکون هو عبارة عن نفس قطرة الدم السابقة، أو قطرة دمٍ أخری، فهو فی الواقع علم إجمالی بلحاظ سبب العلم، وإن کان علماً تفصیلیاً بلحاظ الفرد والطرف؛ لأنّی أعلم بنجاسة الطرف الأیمن تفصیلاً، لکن بلحاظ السبب هو مردد بین سببین، فهو علم إجمالی فی واقعه، هذا العلم الإجمالی الثانی بلحاظ السبب لا یحلّ العلم الإجمالی السابق؛ لأنّ العلم الإجمالی السابق لم یکن مرددّاً بلحاظ سببه؛ لأنّ سببه ____________ بحسب الفرض _____________ هو سقوط قطرة دم، وإنّما کان مجملاً ومردداً بلحاظ الأطراف، عکس العلم التفصیلی الذی هو علم إجمالی بلحاظ السبب، ومن هنا هذا العلم الإجمالی الثانی لا یمکن أن یحل العلم الإجمالی السابق، بمعنی أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل لا یحرز انطباقه علی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی، ومن هنا لا انحلال.

ص: 79

هذه هی الصوّر الثلاث للحالة الأولی، وبعد وضوح أنّ الصورة الأولی خارجة عن محل النزاع، والصورة الثانیة أیضاً خارجة عن محل النزاع، الذی یدخل فی محل النزاع هو خصوص الصورة الثالثة من الحالة الأولی، المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة بأن کان سبب العلم الإجمالی مختصّاً بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندنا، قلنا هذا یلازم أن تکون فی المعلوم بالإجمال خصوصیة مأخوذة فیه، لکن العلم التفصیلی تعلّق بالنجاسة فقط من دون معرفة السبب الخاص لهذه النجاسة. فی هذه الحالة ____________ الصورة الثالثة ____________ الصحیح هو عدم الانحلال، أنّ العلم الإجمالی السابق لا ینحلّ حقیقة.

الحالة الثانیة: أن نفترض أنّ سبب العلم الإجمالی لیس مختصّاً ببعض الأطراف واقعاً؛ بل نسبته إلی الأطراف نسبةً متساویة وبدرجةٍ واحدة، هذا لا یحصل فی الأمثلة المتعارفة التی کنّا نمثّل بها، وإنّما یحصل عندما یکون العلم الإجمالی ناشئاً من قیام برهانٍ، أو دلیلٍ یقتضی عدم إمکان اجتماع أمرین، إذا قام برهان ____________ مثلاً ___________ أنّ هذین الأمرین لا یمکن أن یجتمعا، قهراً نعلم إجمالاً بارتفاع أحدهما، طهارة هذا الإناء، وطهارة هذا الإناء قام برهان، أو دلیل علی عدم إمکان اجتماعهما کما سنمثّل، ومعناه أننا نعلم بارتفاع طهارة أحدهما. أو قل بعبارةٍ أخری: نعلم بنجاسة أحدهما؛ إذ لا یمکن أن یکون کلٌ منهما طاهراً، قام برهان علی عدم إمکان اجتماع طهارة هذا الإناء، وطهارة هذا الإناء، وهذا یُسبب علماً إجمالیاً بارتفاع أحدی الطهارتین عن أحد الإناءین، یعنی بنجاسة أحد الإناءین، فیصبح الإنسان عالماً بنجاسة أحد الإناءین، من قبیل الإناءان الّلذان هما فی حوزة الکافر ____________ مثلاً ___________ ونحن نقطع ونطمأن بأنّ هذا الکافر حتماً استعمل أحدهما لفترة طویلة، یعنی نستبعد أن لا یستعمل الإناءین فی هذه الفترة الطویلة. هذا الاطمئنان بأنّه استعمل أحد الإناءین علی الأقل یکون سبباً فی أن یحصل لی علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین، باعتبار أنّ الکافر استعمله فتنجّس، لکن سبب العلم الإجمالی هو هذا الدلیل القائم علی عدم إمکان أن یکون هذا الإناء طاهر، وهذا الإناء أیضاً طاهر؛ لأنّه لابدّ أن یکون قد استعمل أحد الإناءین. سبب العلم الإجمالی هو عدم إمکان اجتماع هذین الأمرین، استبعاد أن لا یستعمل الکافر کلا الإناءین فی هذه الفترة الطویلة.

ص: 80

أو قل بعبارةٍ أخری: الاطمئنان أو القطع بأنّه استعمل أحدهما. هنا سبب العلم الإجمالی هو هذا الاطمئنان، ومن الواضح أنّ هذا السبب لا یختص بأحد الطرفین بعینه مع ترددّه عندی، نسبة سبب العلم الإجمالی إلی کلا الطرفین نسبة واحدة، وبهذا یختلف عن الحالة الأولی، الحالة الأولی کان هناک إناء معیّن فی الواقع أنصب علیه السبب، یعنی هو الذی تعلّق به سبب العلم الإجمالی، سقطت فیه قطرة الدم، إناء معیّن فی الواقع، لکن اشتبه عندی، فترددّ بین إناءین، بینما هنا الاستبعاد لا یختص بأحد الطرفین واقعاً، البرهان علی عدم إمکان اجتماع الأمرین واقعاً لا یختصّ بأحد الطرفین، هو اصلاً نسبته إلی هذا الطرف کنسبته إلی الطرف الآخر، لا یختص بأحد الطرفین إطلاقاً، هذه هی الحالة الثانیة، أن یکون العلم الإجمالی له سبب، لکن سببه لا یختص بأحد الطرفین واقعاً؛ بل تکون نسبته إلی جمیع الأطراف نسبة واحدة ومتساویة.

فی هذه الحالة الثانیة: إذا علمت تفصیلاً بنجاسة أحد الإناءین، هل ینحلّ العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی انحلالاً حقیقیاً، أو لا ؟ هذا یرتبط بأنّ المعلوم بالإجمال أُخذت فیه خصوصیة، أو لم تؤخذ فیه خصوصیة، فی هذا الفرض فی الحالة الثانیة، لیست هناک خصوصیة مأخوذة فی المعلوم بالإجمال، بخلاف الحالة الأولی الخصوصیة کانت موجودة وهی سبب العلم الإجمالی المختص ____________ بحسب الفرض فی الحالة الأولی ____________ واقعاً بطرفٍ معیّن مردّد عندی؛ ولذا قلنا هو یبیح لی أن أقول: بأنّی أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من سقوط قطرة دمٍ فی أحد الإناءین، لکنّی لا أعلم أنّ أحد الإناءین هل هو هذا الإناء، أو هو هذا الإناء ؟ فی الحالة الثانیة لا توجد خصوصیة مأخوذة فی المعلوم بالإجمال؛ لأنّ نسبة سبب العلم الإجمالی هنا إلی الأطراف نسبة متساویة، لیس سبب العلم الإجمالی مختصّاً واقعاً بأحد الطرفین حتّی اقول أنّ النجاسة التی أعلمها فی أحد الطرفین هی ناشئة من سقوط قطرة الدم، وإنّما نسبة سبب العلم الإجمالی إلی کلّ الأطراف نسبة واحدة ولیست نسبة مختصّة بأحد الأطراف؛ ولذا لا یصح لی هنا أن أقول بأنّی أعلم بنجاسة أحد الإناءین نجاسة ناشئة من الاستبعاد، لکنّی لا أعلم أنّ هذه النجاسة موجودة فی هذا الإناء، أو فی ذاک الإناء، هذا لا یبررّ أن أقول أنی أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ حتّی أأخذ بخصوصیة، نحن نرید أن نثبت أنّ هذه الخصوصیة غیر مأخوذة فی المعلوم بالإجمال؛ لأنّ کونها معلومة بالإجمال معناه أنّ ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة ناشئة من الاستبعاد أنا لا أعلم بأنّها موجودة فی هذا الإناء، أو فی ذاک الإناء، هذا إنّما یصح عندما یکون سبب العلم الإجمالی مختصّاً بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندی؛ وحینئذٍ أقول أنّ ما أعلمه هو نجاسة ناشئة من سقوط قطرة الدم فی أحد الإناءین، لکن أنا لا أعلم انّها موجودة فی هذا الإناء، أو ذاک الإناء، هذا کلام صحیح، ویکون المعلوم بالإجمال حینئذٍ مقیّداً بتلک الخصوصیة، أمّا فی الحالة الثانیة هذا الکلام غیر صحیح؛ لأنّ نسبة الاستبعاد إلی هذا الطرف وهذا الطرف نسبة واحدة، ولیس مختصّاً بأحد الطرفین، فلا معنی لأن أقول بأنّی أعلم بنجاسةٍ ناشئةٍ من الاستبعاد مرددّة عندی بین هذا الطرف وبین ذاک الطرف؛ لأنّ نسبة الاستبعاد إلی کل الأطراف نسبة واحدة؛ ولذا لا یکون المعلوم بالإجمال مقیّداً بهذه الخصوصیة، وإنّما ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءین، نعم هذا العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین سببه الاستبعاد، لکن من دون أن یؤخذ الاستبعاد کسببٍ للعلم الإجمالی فی المعلوم بالإجمال؛ بل المعلوم بالإجمال هو عبارة عن نجاسة أحد الإناءین؛ وحصل عندی علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین لقیام البرهان، أو الاستبعاد علی عدم إمکان الجمع بین طهارة هذا الإناء وطهارة هذا الإناء لهذه المدّة الطویلة، لکنّ ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد الإناءین ولیس نجاسة ناشئة من الاستبعاد المذکور ولا أعلم بتطبیقها علی هذا الفرد، کما هو المفروض فی محل الکلام، أو أنّها موجودة فی هذا الفرد؛ لأنّ الاستبعاد، أو البرهان نسبته متساویة واقعاً إلی کل الأطراف؛ إذ لا خصوصیة لاستبعاد هذا الطرف دون الطرف الآخر، الاستبعاد لا یثبت أکثر من أنّ أحد الإناءین لابدّ أن یکون نجساً، لابدّ أن ترتفع عنه الطهارة، لکنّه لا یختص بأحد الطرفین، ومن هنا یقال: فی الحالة الثانیة لم تؤخذ فی المعلوم بالإجمال خصوصیة زائدة، وبناءً علیه یتحقق الانحلال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال إذا لم تؤخذ فیه خصوصیة زائدة فالمعلوم بالتفصیل مصداق حقیقی له، ومن هنا یکون الانطباق قهریاً، وسریان العلم من الجامع إلی الفرد یکون قهریاً وبذلک یتحققّ الانحلال الحقیقی مع الالتفات إلی ما تقدّم فی الدرس السابق من أنّ هذا الانحلال الحقیقی فی هذه الحالة لا یمنع من احتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر ____________ وهذه نکتة مهمّة _____________ لکن الجامع الذی یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر هو الجامع بحدّه الجامعی لا الجامع بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّ الجامع بما هو معلوم بالإجمال سری إلی الفرد، فأصبح الجامع محدوداً بحدٍّ وخصوصیةٍ شخصیةٍ وهی الفرد، ومن الواضح أنّ الجامع الذی حُدّ بحدٍّ شخصیٍ لا یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر، وإنّما یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر بحدّه الجامعی، فاحتمال انطباق الجامع علی الطرف الآخر موجود حتّی فی موارد الانحلال الحقیقی، لکن الذی یُحتمل انطباقه هو الجامع بحدّه الجامعی، لا الجامع بما هو معلوم بالإجمال؛ لأنّ الجامع بما هو معلوم بالإجمال سری إلی الفرد وأصبح جامعاً بحدٍّ شخصیٍ موجود فی ضمن خصوصیة شخصیة، وهذا الجامع لا یُحتمل انطباقه علی الطرف الآخر.

ص: 81

هناک وجه آخر لإثبات الانحلال غیر مسألة انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل تأتی الإشارة إلیه إن شاء الله تعالی .

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

فی الحالة الثانیة: ذکرنا الوجه المتقدّم لإثبات الانحلال فی الحالة الثانیة، وهی الحالة التی لا یکون المعلوم بالإجمال مقیّداً بخصوصیةٍ یُحتمل أن تکون مانعةً من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وتبیّن ممّا تقدّم أنّ هذا یتحقق فیما إذا کان سبب العلم الإجمالی لیس مختصّاً بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع مرددّ عندنا؛ بل کانت نسبة سبب العلم الإجمالی إلی الأطراف نسبة متساویة علی حدٍّ سواء، فی هذه الحالة انتساب المعلوم بالإجمال إلی السبب لا یؤخذ کخصوصیة فی المعلوم بالإجمال........ینحلّ العلم الإجمالی بملاک زواله بزوال سببه لا بملاک انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل کما هو مقتضی الوجه المتقدّم، هذا وجه جدید. العلم الإجمالی ینحل بزوال سببه، العلم الإجمالی له سبب، المُدّعی أنّ سبب العلم الإجمالی یزول بالعلم التفصیلی، المفروض فی محل کلامنا أننا نتکلّم عن علم إجمالی وعلم تفصیلی، وبالعلم التفصیلی یزول سبب العلم الإجمالی، وبالتالی یزول العلم الإجمالی لا محالة، ویتحقق الانحلال.

خلاصة الوجه الثانی: أن سبب العلم الإجمالی فی محل الکلام الذی هو الحالة الثانیة التی یکون سبب العلم الإجمالی فیها متساوی النسبة إلی کل الأطراف ولا یختصّ بطرفٍ معیّنٍ دون طرفٍ آخر، متساوی النسبة بالنسبة إلی کلّ الأطراف؛ حینئذٍ یُدّعی أنّ تخصیصه فی طرفٍ معیّنٍ دون الباقی یکون ترجیحاً بلا مرجّح؛ لأنّ نسبته _____________ بحسب الفرض ______________ إلی کلّ الأطراف نسبة واحدة علی حدٍّ سواء، بلا إشکال یکون تخصیص سبب العلم الإجمالی بطرفٍ معیّنٍ دون طرفٍ ترجیحاً بلا مرجّح بعد فرض تساوی نسبته إلی کلٍ منهما علی حدٍّ سواء، فیکون ترجیحاً بلا مرجّح؛ ولذا یحصل العلم الإجمالی نتیجة افتراض أنّ سبب العلم الإجمالی متساوی النسبة إلی جمیع الأطراف، وتخصیصه بإضافة أنّ تخصیصه بأحد الأطراف بعینه ترجیح بلا مرجّح، ومن هنا یحصل العلم الإجمالی، أحد الطرفین نجس، لا استطیع أن أحصر النجاسة بطرفٍ معیّن فیحصل هذا العلم الإجمالی، فإذا حصل العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء المعیّن الأیمن؛ حینئذٍ یقال قد حصل فیه ما یوجب ترجیحه، کان سابقاً قبل حصول العلم التفصیلی ترجیحه واختصاصه بالنجاسة ترجیح بلا مرجّح، اختصاصه بسبب العلم، وبالتالی اختصاصه بالنجاسة هو ترجیح بلا مرجّح، العلم التفصیلی کأنّه یوجد المرجّح؛ وحینئذٍ لا یتم برهان استحالة الترجیح بلا مرجّح مع فرض العلم التفصیلی المتعلّق بطرفٍ معیّنٍ من بین الطرفین، وبذلک یزول العلم الإجمالی بزوال سببه؛ لأنّه یلزم من اختصاص سبب العلم الإجمالی بأحد الأطراف، یلزم الترجیح بلا مرجّح، فإذن: أنا لا أعلم إلاّ بنجاسة أحد الإناءین علی الإجمال، فإذا علمت تفصیلاً بنجاسة أحد الإناءین؛ حینئذٍ لا یکون تخصیص النجاسة به ترجیحاً بلا مرجّح؛ بل وجد فیه ما یوجب الترجیح، وارتفع محذور لزوم الترجیح بلا مرجّح، فإذا زال هذا المحذور؛ حینئذٍ یزول العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی هو اساساً مرتکز علی لزوم الترجیح بلا مرجّح.

ص: 82

وبعبارة أخری: العلم الإجمالی فی محل الکلام یحصل فی الحقیقة نتیجة لمجموع أمرین:

الأمر الأوّل: الأمر الذی یثبت به الجامع الذی نفترضه الاستبعاد فی مثال مساورة الکافر، أو قیام برهان علی عدم اجتماع الأمرین، فیحصل علم بانتفاء أحدهما کما قلنا، أو حساب احتمالات ینفی اجتماع هذین الأمرین، فیحصل العلم الإجمالی بانتفاء واحدٍ منهما. هذا الاستبعاد، أو البرهان، أو حساب الاحتمالات، أو أیّ شیءٍ آخر، یثبت به الجامع، ولا یثبت أکثر من الجامع، استبعاد عدم مساورة الکافر للإناءین فی فترة طویلة من الزمن لا یورث لنا العلم بنجاسة هذا الإناء بعینه، وإنّما یورث لنا العلم بعدم طهارة أحد الإناءین إجمالاً، أو العلم بنجاسة أحد الإناءین إجمالاً.

الأمر الثانی: مسألة عدم المرجّح، لیس هناک مرجّح لأن یتجّه العلم إلی طرفٍ معیّن دون طرفٍ آخر، قبل فرض العلم التفصیلی لیس هناک مرجّح لأن یتجه العلم إلی هذا الطرف دون ذاک الطرف، وهذا هو الذی یمنع من اتجاه العلم نحو الطرف المعیّن. أو بعبارة أخری: یوجب وقوف العلم علی الجامع بحدّه الجامعی.

هذان الأمران: إذا اجتمعا حینئذٍ یتمّ العلم الإجمالی ویقف العلم علی الجامع، ویحصل العلم الإجمالی. أمران إذا اجتمعا __________ فی محل الکلام ___________ البرهان علی عدم إمکان اجتماع طهارة هذا الإناء فی مثالنا، وطهارة هذا الإناء، یوجد برهان قائم علی عدم إمکان اجتماع طهارة کلٍ من الإناءین اللّذین هما فی معرض استعمال الکافر، هذا برهان، بضمیمة استحالة الترجیح بلا مرجّح، بمعنی أنّ اتجاه العلم نحو هذا الفرد بعینه ترجیح بلا مرجّح، ونحو ذاک الفرد بعینه أیضاً ترجیح بلا مرجّح، هذا إذا ضممناه إلی البرهان السابق هو ملاک العلم الإجمالی، أنّ هذا العلم الإجمالی یقف علی الجامع ولا یتعدّی إلی الفرد، هذا هو سبب العلم الإجمالی فی محل الکلام. فإذا زال الأمر الثانی الذی هو لزوم الترجیح بلا مرجّح، وحصل ما یوجب الترجیح فی عالم العلم والانکشاف، بأن حصل علم تفصیلی بنجاسة هذا الإناء المعیّن الأیمن؛ حینئذٍ یزول العلم الإجمالی بزوال سبب الإجمال الذی کان عبارة عن لزوم الترجیح بلا مرجّح؛ لأنّ سبب الإجمال لیس هو فقط ذاک البرهان، ذاک البرهان غایة ما یقول أنّه لا یمکن الجمع بین طهارة کلٍ من الإناءین، لا یمکن أن یکون هذا طاهر، وهذا طاهر، ومن الواضح أنّ هذا لا ینافی أن یکون طرف معیّن نجساً، أن یتجه العلم بنجاسة أحدهما نحو طرفٍ معیّن، هذا لا ینافی البرهان، البرهان یقول: لا یمکن اجتماع طهارتین فی الإناءین، هذا لا ینافی أن نعلم بنجاسة طرفٍ معیّنٍ، الذی یمنع من اتجاه العلم نحو الطرف المعیّن هو الثانی، هو استحالة الترجیح بلا مرجّح، فإذا وجد المرجّح، وهو العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء، ارتفع الإجمال، زال سبب الإجمال؛ لأنّه وجد فیه مرجّح، فزال الأمر الثانی الذی مجموعهما هو السبب فی حصول العلم الإجمالی، وهذا یستلزم قهراً زوال العلم الإجمالی، فیزول العلم الإجمالی بزوال سببه لا بملاک انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، وإنّما یزول بزوال سببه. وبهذا ینحلّ العلم الإجمالی بهذا الاعتبار.

ص: 83

هذا هو الوجه الثانی لإثبات الانحلال فی الحالة الثانیة التی نتکلّم فیها. ویُنتهی إلی هذه النتیجة: أنّه بشکلٍ عام لابدّ من التفریق بین نحوین من العلم الإجمالی، هذا هو الملاک، مرّة سبب العلم الإجمالی یختصّ بطرفٍ معیّنٍ فی الواقع، وأخری لا یختصّ بطرفٍ معینٍ فی الواقع، نسبته إلی الجمیع نسبة واحدة.

فی الحالة الأولی لابدّ من أخذ خصوصیة الانتساب إلی ذلک السبب قیداً فی المعلوم بالإجمال، فیصبح المعلوم بالإجمال ذا خصوصیةٍ زائدةٍ یُحتمل أن تمنع من انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ ولذا لا یحرز الانطباق، ولا تُحرَز السرایة، فلا موجب للانحلال، بینما فی الحالة الثانیة، خصوصیة الانتساب إلی ذلک السبب لا تؤخذ فی المعلوم بالإجمال، فیبقی المعلوم بالإجمال بلا خصوصیة زائدة، وهذا یُحرز انطباقه علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّه کما تقدّم مراراً مصداق حقیقی للمعلوم بالإجمال، ویسری العلم من الجامع إلی الفرد؛ إذ لا خصوصیة فی الجامع تمیّزه ویُحتمل أنّها تمنع من انطباقه علی المعلوم بالتفصیل. هذا المطلب الذی یمکن أن یقال فی المقام.

إلی هنا یتمّ الکلام عن الانحلال الحقیقی وفیه بعض المباحث الدقیقة ترکناها؛ لأنّه لیس هناک حاجة ملزمة أکثر من هذا. وبعد ذلک ندخل فی الانحلال الحکمی.

المقصود من الانحلال الحکمی هو أن یکون هناک علم إجمالی لکنّه لیس له اثر، فیقال أنّ هذا العلم الإجمالی بالرغم من وجوده، لکنّه لا ینجّز، فیقال بأنّ هذا العلم الإجمالی منحل حکماً لا حقیقةً، وکلامنا فعلاً أیضاً بانحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، لا زلنا نتکلّم فقط عن هذا، أمّا انحلال العلم الإجمالی بالإمارات، أو بالأصول العملیة، فسیأتی الکلام عنه، فعلاً کلامنا عن انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، لکن مرّةً یُطرح هذا البحث أنّه هل هناک انحلال حقیقی، أو لا ؟ فإذا انتهینا إلی أنّه لیس هناک انحلال حقیقی، أو انتهینا إلی نتیجة أنّ هناک انحلال فی بعض الحالات ولیس هناک انحلال فی بعض الحالات الأخری؛ حینئذٍ نقول فی الحالات التی لا یوجد فیها انحلال حقیقی، العلم الإجمالی لا ینحلّ بالعلم التفصیلی حقیقةً، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی یبقی علی حاله، یُطرح هذا السؤال: هل ینحل حکماً ؟ بمعنی أنّه هل یسقط عن المنجّزیة بالرغم من وجوده ؟ هل هناک موجب لسقوطه عن التنجیز بالرغم من وجوده، أو لا ؟ فإذا أثبتنا أنّه یسقط عن التنجیز معناه أنّ هذا العلم الإجمالی، وإن لم ینحل حقیقةً، لکنّه أنحلّ حکماً؛ لأنّه لیس له أثر، أی أنّه لا ینجّز حینئذٍ .

ص: 84

سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی موارد قیام العلم التفصیلی ___________ کلامنا فی العلم التفصیلی __________ أو انحلال العلم الإجمالی حکماً، وبطلان منجّزیته بالعلم التفصیلی، تارةً یقع الکلام عنه بلحاظ الأصول العقلیة وبقطع النظر تماماً عن الأصول الشرعیة المؤمّنة، ونتکلّم عن أنّ هذا العلم الإجمالی هل ینحلّ بالعلم التفصیلی انحلالاً حکمیاً بلحاظ الأصول العقلیة کقاعدة قبح العقاب بلا بیان، وأمثال هذه القواعد العقلیة، هل یسقط عن المنجّزیة، وینحلّ حکماً، أو لا ؟ وأخری نتکلّم عن الانحلال الحکمی، وسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة بلحاظ القواعد والأصول الشرعیة المؤمّنة.

أمّا بالنسبة إلی المقام الأوّل، أی بلحاظ القواعد العقلیة، هل هناک قاعدة عقلیة ____________ مثلاً ____________ یمکن الاستعانة بها لإثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی علی تقدیر عدم تحقق الانحلال الحقیقی، أو لا ؟

قد یقال: یمکن إثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بلحاظ القواعد العقلیة، وذلک بدعوی أنّ الجامع المعلوم بالإجمال الذی فرضنا فی محل الکلام تعلّق العلم التفصیلی بطرفٍ معینٍ من أطرافه، هذا الجامع الذی علمنا به إجمالاً، والذی حصل العلم التفصیلی ببعض أطرافه، هذا الجامع یُدّعی أنّه یستحیل عقلاً أن یتنجّز بالعلم الإجمالی، وذلک باعتبار أنّ الجامع المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعی الذی یعنی أنّه قابل للانطباق علی هذا الطرف، وقابل للانطباق علی ذاک الطرف....وهکذا سائر الأطراف الأخری، هذا هو الذی یکون هو المعلوم بالإجمال، وهذا الجامع بحدّه الجامعی القابل للانطباق علی کلا الطرفین، لو کانت الأطراف لیست أکثر من أثنین، هذا یستحیل أن یتنجّز بالعلم الإجمالی؛ لأنّ معنی تنجّز الجامع بالعلم الإجمالی هو أنّه لابدّ أن یکون قابلاً للتنجّز، وقابلیة الجامع للتنجّز متوقفة علی قابلیة التنجّز لکلا الطرفین؛ لأنّ المفروض أنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعی القابل للانطباق علی الطرفین، هذا الجامع بحدّه الجامعی القابل للانطباق علی الطرفین إنّما یتنجّز إذا کان کلا الطرفین قابلاً للتنجّز؛ حینئذٍ یقال أنّ الجامع قابل لأن یتنجّز بالعلم الإجمالی کما هو الحال فی الأمثلة العادیة من دون افتراض علمٍ تفصیلی بطرفٍ معیّنٍ، فی الأمثلة العادیة للعلم الإجمالی کلا الطرفین قابل للتنجّز، إذن: الجامع المعلوم بالإجمال الذی یقبل الانطباق علی هذا، ویقبل الانطباق علی ذاک أیضاً یکون قابلاً للتنجّز، فلا مشکلة فی تنجیز العلم الإجمالی لهذا الجامع. وأمّا إذا فرضنا أنّ العلم الإجمالی غیر قابلٍ لأن یُنجّز الطرفین، الطرفان غیر قابلین لأن یتنجزا، أو أحد الطرفین غیر قابلٍ لأن یتنجّز کما فی محل الکلام، المعلوم بالتفصیل بعد فرض قیام العلم التفصیلی غیر قابل لأن ینجّزه العلم الإجمالی؛ لقاعدة أنّ المنجّز لا یُنجّز مرةً أخری، هذا الطرف تنجّز بالعلم التفصیلی، فکیف یُعقل أن یکون العلم الإجمالی أیضاً منجّزاً له ؟! إذن: أحد طرفی العلم الإجمالی غیر قابلٍ للتنجّز، وهذا معناه أنّ الجامع غیر قابلٍ للتنجّز، فإذا کان الجامع غیر قابلٍ للتنجّز، فهذا معناه أنّ العلم الإجمالی سقط عن التنجیز، وانحلّ انحلالاً حکمیاً. هذا هو البرهان، وهذا البرهان لم یستعن بأیّ قاعدةٍ شرعیةٍ، ولم یستعن بالأصول الشرعیة المؤمّنة، وإنّما استعان فقط بالأحکام العقلیة، الجامع هو المعلوم بالإجمال، ومعلوم بالإجمال بحدّه الجامعی، الذی یعنی أنّه یقبل الانطباق علی هذا، ویقبل الانطباق علی هذا، هذا الجامع بحدّه الجامعی إنّما یقبل التنجّز عندما یکون کلا طرفیه قابلاً للتنجّز، یُنجّز معلومه علی کلا التقدیرین، سواء کان هنا، أو کان هناک. فإذن: هذا قابل للتنجّز وهذا قابل للتنجّز، فالجامع یکون قابلاً للتنجّز، فینجّزه العلم الإجمالی.

ص: 85

أمّا إذا فرضنا أنّ أحد الطرفین غیر قابلٍ للتنجّز باعتبار کونه منجّزاً بمنجّزٍ آخر، الذی هو العلم التفصیلی، فیکون المعلوم بالتفصیل غیر قابلٍ للتنجّز، وهذا یخلّ بالقاعدة؛ لأنّ الجامع لا یصبح قابلاً للتنجّز بخروج بعض أطرافه عن کونه قابلاً للتنجّز، ومعنی أنّ العلم الإجمالی لا یمکن أن ینجّز الجامع هو أنّ هذا العلم الإجمالی انحلّ انحلالاً حکمیاً. هذا هو الوجه الذی یقال فی محل الکلام.

من الواضح أنّ هذا الوجه یعتمد علی قاعدة أنّ المنجّز لا یقبل التنجیز، وکأنّه قیاس محل الکلام بالأمور التکوینیة الأخری، فیقال أنّ الشیء الذی تنجّز بمنجّز لا یقبل التنجیز مرّة أخری.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

الکلام فی انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی حکماً: من الموارد التی لا ینحل بها حقیقة، وبلحاظ القواعد العقلیة، وبقطع النظر عن الأصول الشرعیة المؤمّنة. قلنا أنّه ذُکر أنّ القواعد العقلیة فی المقام تقتضی الانحلال الحکمی، بمعنی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، وإن کان موجوداً حقیقة؛ لأنّ المفروض عدم الانحلال الحقیقی، لکنّه یسقط عن التأثیر والمنجّزیة؛ وذلک بالدلیل الذی تقدّم فی الدرس السابق، وکان حاصله: أنّ العلم الإجمالی یستحیل أن یُنجّز الجامع فی محل الکلام، یعنی فی موارد وجود العلم التفصیلی؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع بحدّه الجامعی القابل للانطباق علی کلٍ من الطرفین، وقابلیة هذا الجامع بهذا الشکل للتنجیز فرع قابلیة کلا الطرفین لقبول التنجیز، عندما یکون کلا الطرفین قابلاً للتنجیز؛ عندئذٍ یکون الجامع قابلاً للتنجیز، فیمکن للعلم الإجمالی أن ینجّز الجامع. أمّا إذا کان أحد الطرفین غیر قابلٍ للتنجیز، باعتبار أنّه تنجّز بمنجّزٍ آخر وهو العلم التفصیلی؛ حینئذٍ لا یکون کلا الطرفین قابلاً للتنجیز، وبالتالی لا یکون الجامع قابلاً للتنجیز، فمثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً للجامع، وإذا لم یکن منجّزاً للجامع، هذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالی فقد أثره، ولم یکن منجّزاً فی محل الکلام، وإن کان هو باقٍ حقیقةً، لکنّه لا یکون منجّزاً للطرفین فی هذا الفرض.

ص: 86

هذا الدلیل یتوقّف علی تسلیم مقدّمتین:

المقدّمة الأولی : أنّ العلم الإجمالی لو نجّز الجامع، لسری هذا التنجیز إلی کلٍ من الطرفین علی نحو البدل، فی المثال السابق الجامع المعلوم بالإجمال هو نجاسة أحد الإناءین، وانطباق هذا الجامع علی الطرفین یکون بنحو البدلیة، فإذا تنجّز الجامع؛ حینئذٍ سری التنجیز إلی الطرفین بنحو البدلیة، بمعنی أنّه یتنجّز هذا الطرف، لو کان هو النجس واقعاً، وذاک الطرف لو کان هو النجس واقعاً، وهذا هو معنی أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، سواء کان فی هذا الطرف، أو کان فی ذاک الطرف؛ لأنّ العلم الإجمالی إذا نجّز الجامع، قهراّ، هذا التنجیز یسری من الجامع إلی کلا الطرفین، لکن علی نحو البدلیة.

المقدمّة الثانیة: أنّ الطرف لا یقبل التنجّز إذا کان منجّزاً بمنجّزٍ آخر؛ لاستحالة اجتماع منجّزین علی شیءٍ واحد، نظیر اجتماع علّتین علی معلول واحد.

إذا تمّت هاتان المقدّمتان، بمعنی أنّ التنجیز لو ثبت للجامع لسری إلی کلا الطرفین، هذا من لوازم تنجیز الجامع، وأنّ التنجیز یسری إلی کلا الطرفین، لکن علی نحو البدلیة، وثبت أنّ ما یتنجّز بمنجّزٍ لا یقبل التنجیز مرّةً ثانیة، إذا تمّت هاتان المقدّمتان؛ حینئذٍ یثبت أنّ العلم الإجمالی یکون ساقطاً عن المنجّزیة، ویکون غیر مؤثرٍ فی تنجیز الجامع؛ لأنّه لو نجّز الجامع لسری التنجیز إلی کلا الطرفین علی نحو البدلیة، ولکان منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، وحیث أنّ أحد الطرفین قد تنجّز بالعلم التفصیلی، والمقدّمة الثانیة تقول أنّ المنجّز بعلمٍ تفصیلی لا یقبل التنجیز مرّةً ثانیة، وأحد الطرفین قد تنجّز بعلمٍ تفصیلی، فأحد الطرفین لا یقبل التنجیز بالعلم الإجمالی، وهذا یکشف عن أنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً للجامع، وبعد هذا یفقد أثره، وهو معنی الانحلال.

ص: 87

ولکن، کلتا هاتین المقدّمتین محل کلام، لا المقدّمة الأولی مسلّمة، ولا المقدّمة الثانیة مسلّمة. أمّا المقدّمة الأولی؛ فلأن الجامع فی محل الکلام عندما یتعلّق به العلم الإجمالی مفاده مفاد النکرة، یُلحظ بنحو صرف الوجود، ولا یُلحظ بنحو مطلق الوجود والسریان کل عارض یعرض علی الجامع، إنّما یتحتم سریانه إلی أفراده عندما یلحظ الجامع بنحو مطلق الوجود، من قبیل(أکرم کل عالم)، أو (أکرم العالم) إذا لوحظ العالم بنحو مطلق الوجود، هذا الوجوب الذی یعرض علی الجامع هو فی الحقیقة یسری إلی أفراد ذلک الجامع. وأمّا إذا کان الجامع ملحوظاً بنحو صرف الوجود لا مطلق الوجود، هذا أول الکلام بأنّ العارض یسری من الجامع إلی الأطراف علی نحو البدلیة، هذا محل کلامٍ، ولیس واضحاً، إذا قال:(أعتق رقبة)، ثبت وجوب عتق رقبة بنحو صرف الوجود، دعوی أنّ هذا الوجوب یسری من الجامع إلی جمیع أفراد الرقبة علی نحو البدلیة، هو أوّل الکلام ومحل کلامٍ، ولیس واضحاً، وما نحن فیه من هذا القبیل، الجامع عندما یتعلّق به العلم یُلحظ بنحو صرف الوجود لا بنحو مطلق الوجود، فلا وضوح فی أنّ التنجیز الثابت لهذا الجامع والعارض لهذا الجامع، من لوازمه أن یسری إلی أفراد ذلک الجامع علی نحو البدلیة، بحیث إذا لم یسرِ إلی فردٍ من أفراده، واستحال أن یثبت التنجیز لفردٍ من أفراده وطرفاً من أطرافه، نستکشف أنّ الجامع لم یثبت له التنجیز کما هو المُدّعی فی المقام؛ لأنّ هذا فرع الملازمة بین ثبوت التنجیز للجامع وبین سریان الوجوب إلی أفراد وأطراف ذلک الجامع علی نحو البدلیة، فإذا لم یثبت التنجیز لطرفٍ من الأطراف، نستکشف أنّ التنجیز لیس ثابتاً للجامع، هذا غیر تام فی محل الکلام؛ لأنّ الجامع فی محل الکلام یؤخذ بنحو صرف الوجود والسریان لیس تامّاً فی هذه الحالة، وإنّما یکون تامّاً عندما یؤخذ الجامع بنحو مطلق الوجود کما فی(أکرم العالم) وأمثاله، عندما یؤخذ بنحو مطلق الوجود، ما یعرض علی الجامع یعرض علی أفراده، أمّا بنحو صرف الوجود، فهذا لیس تامّاً. هذا بالنسبة إلی المقدّمة الأولی.

ص: 88

أمّا بالنسبة إلی المقدّمة الثانیة التی تقول بأنّ القول بأنّ الطرف إذا تلقّی التنجیز من منجّزٍ یستحیل أنّ یتنجّز بمنجّزٍ آخر، فقد نوقش فیها من جهتین:

الجهة الأولی: لماذا لا نتعامل مع محل الکلام کما نتعامل فی سائر الأمور التکوینیة والظواهر الطبیعیة، حیث أنّهم یلتزمون فی الأمور التکوینیة بأنّه عندما تجتمع علّتان مستقلّتان علی معلولٍ واحد یلتزمون بالتوحّد، بأن تتحوّل کل علّةٍ من هاتین العلّتین المستقلّتین إلی جزء العلّة، ویکوّنان بمجموعها علّة واحدة، وکلّ علّة مستقلّة لو کانت وحدها فی حال اجتماعها مع العلّة الأخری تتحوّل إلی جزء العلّة، فتکون هناک علّة واحدة هی عبارة عن المجموع من هاتین العلّتین المستقلّتین، هکذا یتعاملون مع الظواهر التکوینیة والأسباب الطبیعیة، فلماذا لا نتعامل فی محل الکلام هذه المعاملة ؟ فنقول: لا ضیر فی أن یتلقّی الطرف المعلوم بالتفصیل التنجّز من کلٍ من العلم الإجمالی والعلم التفصیلی ؟ بأنّ یکون کلاً منهما جزء العلّة المؤثرة فی التنجیز؛ لأنّه اجتمع فیه علّتان، العلم الإجمالی ___________ إذا سلّمنا السریان __________ والعلم التفصیلی. إذن: لا مشکلة فی أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، مؤثراً فی التنجیز علی کلّ تقدیر، سواء کان معلومه متحققاً فی هذا الطرف، المعلوم بالتفصیل، أو متحققاً فی الطرف الآخر. إذن: یمکن أن یکون الجامع قابلاً للتنجیز؛ لأنّ کلا طرفیه قابل لأن یتنجّز بالعلم الإجمالی، غایة الأمر أنّ هذا التنجّز بالعلم الإجمالی یکون علی نحو العلّیة المستقلّة بلحاظ الطرف الآخر، وعلی نحو جزء العلّة بلحاظ المعلوم بالتفصیل، لکن یبقی العلم الإجمالی مؤثراً فی التنجیز، سواء کان معلومه متحققاً فی هذا الطرف، أو کان معلومه متحققاً فی الطرف الآخر، وهذا معناه أنّ الجامع قابل للتنجیز، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً للجامع، ولا یفقد هذا التنجیز بمقتضی ما ذُکر. لماذا لا یُتعامَل مع المقام کما تعاملوا مع الأسباب التکوینیة ؟ بل التزموا بذلک فی بعض الموارد کمادّة الاجتماع إذا کان بینهما عموم وخصوص من وجه، فی مادّة الاجتماع یقولون الملاک یتحول إلی جزء العلّة، إذا قال(أکرم عالم)، أو (أکرم هاشمی) وجب إکرام العالم، ووجب إکرام الهاشمی، واجتمعا فی مادّة اجتماع العالم الهاشمی، یحصل توحّد، ویثبت فیه ملاکان، کل ملاکٍ لو کان وحده لکان مستقلاً ومؤثراً فی الوجوب ومبادئ الوجوب من الحب والإرادة......الخ. لکن عندما یجتمعان یتحوّل کلٌ منهما إلی جزء العلّة، بحیث هذا یکون مؤثراً، وذاک أیضاً یکون مؤثراً.

ص: 89

الجهة الثانیة: أنّ الصحیح فی المقام هو أنّ المقام لیس کالأسباب التکوینیة والظواهر الطبیعیة، تنجیز العلم الإجمالی باب مستقل لا یمکن أن نقیسه علی الأسباب الطبیعیة والظواهر التکوینیة بحیث نقول إذا اجتمع سببان علی معلولٍ واحد؛ فحینئذٍ یستحیل بقاء کلّ واحدٍ منهما علی کونه علّة تامّة؛ لأنّه یلزم من ذلک اجتماع سببین علی مسبّب واحد، اجتماع علّتین علی معلولٍ واحد؛ فحینئذٍ لابدّ أن نرفع الید عن تأثیر أحدهما، فنقول أنّ أحدهما لیس مؤثراً، وإلاّ یلزم اجتماع علّتین علی معلول واحد، فیُدّعی فی المقام ____________ مثلاً ____________ بأنّ العلم الإجمالی یصبح فاقداً للتأثیر، فی موارد العلم التفصیلی یفقد تأثیره ولا یکون مؤثراً فی التنجیز، فیثبت الانحلال الحکمی، أو یأتی الجواب السابق وهو أن ندمج أحدهما بالآخر فیکون المجموع هو المؤثر، ویکون کلٌ منهما جزء علّة، فتکون العلّة واحدة هی عبارة عن مجموع الأمرین حتّی یترتّب علیه عدم الانحلال.

هذا کلّه ___________ سلب التأثیر عن العلم الإجمالی، وإبقاء العلم التفصیلی هو المؤثر فی التنجیز فی هذا الطرف، أو دعوی أنّ المجموع هو المؤثر فی تنجیز هذا الطرف، بأن یکون کلٌ منهما جزء العلّة ___________ هذا کلّه فرع قیاس المقام بالأسباب التکوینیة والمظاهر التکوینیة الطبیعیة، لکن الصحیح أنّ المقام لیس من هذا القبیل، باب التنجیز فی محل الکلام باب مستقل، بابه باب لابدّ أن یُراجع فیه العقل العملی المدرک لحق المولویة وحق الطاعة، ماذا یدرک العقل بالنسبة إلی حق المولویة ؟ فنطرح هذه الأسئلة: أنّ العقل العملی هل یدرک أنّ ما یدخل فی حق المولویة، ویدخل فی حق الطاعة هو خصوص التکالیف الواصلة إلی المکلّف بالعلم، او هو یدرک ثبوت حق الطاعة والمولویة للمولی(سبحانه وتعالی) فی کلّ تکلیفٍ، حتّی لو کان محتملاً ؟ علی التقدیر الأوّل، إذا کان یُدرک اختصاص ما یدخل دائرة حق الطاعة هی التکالیف المعلومة للمکلّف، هذا هل یشمل العلم الإجمالی، أو یختص بالعلم التفصیلی، یعنی فقط التکالیف الواصلة بالعلم التفصیلی تدخل فی دائرة حق الطاعة بنظر العقل، أو أنّ هذا یشمل حتّی التکالیف الواصلة بالعلم الإجمالی ؟ علی التقدیر الثانی، إذا کان یشمل التکالیف الواصلة بالعلم الإجمالی، کما هو الظاهر، وهو الصحیح؛ حینئذٍ لابدّ أن نطرح سؤالاً آخر، وهو أنّ هذا التکلیف الواصل بالعلم الإجمالی یبقی فی دائرة حق الطاعة حتّی إذا تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه، أو یخرج عن دائرة حق الطاعة إذا تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه ؟ النتیجة تکون مترتبة علی الجواب علی هذه الأسئلة، إذا قلنا بالأخیر، بلا إشکال ما یدرکه العقل من حق الطاعة لا تختص دائرته بالتکالیف الواصلة بالعلم التفصیلی، وإنّما یشمل التکالیف الواصلة بالعلم الإجمالی، لکن هل التکلیف الواصل بالعلم الإجمالی یبقی فی دائرة حق الطاعة فی نظر العقل حتّی إذا تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه ؟ إذا قلنا أنّه یبقی، فهذا یعنی عدم الانحلال؛ لأنّ العلم الإجمالی یبقی داخلاً فی دائرة حق الطاعة، ویبقی منجزّاً بالرغم من تحقق العلم التفصیلی ببعض أطرافه، وأمّا إذا قلنا أنّ التکلیف الواصل بالعلم الإجمالی یخرج عن دائرة حق الطاعة إذا تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه، وهذا معناه الانحلال، فلابدّ من الرجوع إلی ما یدرکه العقل العملی من حقّ الطاعة، ودائرة حقّ الطاعة، وحدود حقّ المولویة للمولی(سبحانه وتعالی)، لیس لنا علاقة ببعض الأسباب التکوینیة والظواهر الطبیعیة حتّی نقول أنّ هذا یجبرنا علی رفع الید عن تأثیر العلم الإجمالی، ویبقی العلم التفصیلی هو المؤثر فی هذا الطرف، وهذا یساوق الانحلال الحکمی، أو نجمع المجموع ونقول أنّهما علّة واحدة، فیکون کل منهما مؤثراً حتّی نثبت الانحلال، الأمر لا علاقة له بالأسباب والظواهر الطبیعیة، لابدّ أن نرجع إلی العقل لنری ماذا یحکم. بناءً علی هذا الکلام؛ حینئذٍ نقول فی المقام: إن آمنّا بفکرة منجّزیة الاحتمال عقلاً، یعنی آمنّا بمسلک(حق الطاعة)، وأنکرنا قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ فحینئذٍ تُحلّ المسألة وتکون واضحة، والذی لابدّ أن یُلتزم به علی ضوء ذلک هو عدم الانحلال؛ لأنّ الاحتمال منجّز، احتمال التکلیف یکفی فی دخول التکلیف فی دائرة حق الطاعة وفی تنجیزه؛ فحینئذٍ لا إشکال فی عدم الانحلال؛ لأنّ التکلیف فی الطرف الآخر ینجّز، وهو مساوق لعدم الانحلال، الکلام لیس فی ما إذا آمنّا بمنجّزیة الاحتمال، وإنّما إذا آمنّا بقاعدة قبح العقاب بلا بیان کقاعدةٍ عقلیةٍ؛ حینئذٍ فی محل الکلام ما هو الصحیح ؟ هل نؤمن بالانحلال الحکمی ؟ یعنی سقوط العلم الإجمالی عن قابلیة التنجیز فی هذه الحالة ؟ أو نؤمن بعدم الانحلال الحکمی ؟ یعنی یبقی العلم الإجمالی قابلاً للتنجیز ؟ هذا فی الحقیقة یرتبط بما تقدّم بحثه فی العلم الإجمالی من أنّ العلم الإجمالی هل هو علمٌ بالجامع، أو هو علم بالواقع ؟ إذا کان العلم الإجمالی علماً بالواقع، هذا معناه أنّه ینجّز الواقع علی واقعه الذی هو مجهول ومردد لدیّ، لکنّه ینجّز الواقع علیّ؛ ولذا یجب علیّ موافقته قطعاً، یعنی تجب علیّ الموافقة القطعیة بقطع النظر عن تعارض الأصول، حتّی لو لم تتعارض الأصول، العلم الإجمالی ینجّز الواقع علی واقعه، ویُدخل الواقع فی عهدة المکلّف، فتجب علیه موافقته القطعیة، أمّا إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی لیس علماً بالواقع، وإنّما هو علم بالجامع، إذن، هو بما هو علم إجمالی لا ینجّز علیّ وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما غایة ما ینجّز علیّ وجوب الموافقة الاحتمالیة، أو قل ینجّز علیّ حرمة المخالفة القطعیة، ولا ینجّز علیّ وجوب الموافقة القطعیة کعلمٍ إجمالی.

ص: 90

نعم، تجب الموافقة القطعیة باعتبار تعارض الأصول، وتساقطها، فیبقی هذا الطرف بلا مؤمّن؛ فحینئذٍ یجب.

الأمر فی مسألة الانحلال وعدمه یرتبط باختیار أحد هذین المسلکین الّذین تقدّمت الإشارة إلیهما سابقاً، إن بنینا علی أنّ العلم الإجمالی علم بالجامع؛ حینئذٍ یکون الانحلال الحکمی متوجّهاً؛ لأنّ ما ینجّزه العلم الإجمالی هو الجامع، وهذا معناه أنّ ما زاد علی الواحد من الطرفین یکون مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بیان المؤمّنة؛ لأنّ العلم الإجمالی لا ینجّز أکثر من الجامع، والجامع یکفی فیه الإتیان بأحد الطرفین، ولا ینجّز علیّ أکثر من الجامع الذی ینطبق علی هذا الطرف، وینطبق علی هذا الطرف. إذن: ما زاد علی الواحد منهما هو ذاک الذی تحت قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ ولذا لو فرضنا أنّ المکلّف ارتکب کلاً من الطرفین، وصادف أنّ کلاً منهما کان حراماً واقعاً؛ فحینئذٍ لا یستحق المکلّف إلاّ عقاباً واحداً، وهو العقاب علی مخالفة الحرام الواقعی الذی ینطبق علیه الجامع؛ لأنّ العلم الإجمالی لم ینجّز علیه إلاّ الجامع، فلو ارتکبهما معاً وصادف أنّ کلاً منهما کان حراماً واقعاً، لن یستحق إلاّ عقاباً واحداً؛ لأنّ ما تنجّز علیه هو الواحد، وما زاد علیه فهو مشمول لقاعدة قبح العقاب بلا بیان. هذا معنی أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، فإذا فی هذه الحالة افترضنا أنّ العلم التفصیلی جاء ونجّز أحد الطرفین بعینه، ما عدا هذا یبقی مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ ما زاد علی الواحد مشمول للتأمین الثابت بهذه القاعدة، والمفروض أننا نؤمن بهذه القاعدة، ولا موجب لتنجیزه، فیثبت الانحلال الحکمی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

ص: 91

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق أنّه فی مسألة الانحلال الحکمی حیث لا یثبت انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، هذا شیء یرتبط بما یُختار فی ما یدرکه العقل، أنّ العقل هل یدرک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، أو لا یدرکها، وإنّما یدرک منجّزیة الاحتمال، وینکر قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فإذا أنکر قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فعدم الانحلال بلحاظ القواعد العقلیة ینبغی أن یکون واضحاً؛ لأنّ احتمال التکلیف منجّز. نعم بناءً علی الإیمان بقاعدة قبح العقاب بلا بیان قلنا بأنّ الأمر یرتبط بمسألة تقدّمت الإشارة إلیها وهی کیفیة تفسیر العلم الإجمالی ؟ هل هو علم بالجامع فقط، بحیث لا ینجّز أکثر من الجامع بحدّه الجامعی ؟ وهذا معناه أنّه لا ینجّز ابتداءً وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما یتنجّز وجوب الموافقة القطعیة باعتبار تعارض الأصول، أو أنّ العلم الإجمالی ینجّز الواقع علی واقعه ویدخله فی العهدة بحیث تجب الموافقة القطعیة لأجل العلم الإجمالی بقطع النظر عن تعارض الأصول، حتّی إذا لم تتعارض الأصول وکان یمکن إجراء الأصل فی أحد الطرفین بلا معارضٍ مع ذلک لا یمکن إجراء هذا الأصل.

فإن قلنا: أنّالعلم الإجمالی هو علمٌ بالجامع فقط، ذکرنا فی الدرس السابق أنّه حینئذٍ یُلتزَم بالانحلال الحکمی، باعتبار أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز إلاّ الجامع بحدّه الجامعی الذی ینطبق علی کلّ واحد من الطرفین؛ ولذا لا تجب إلاّ الموافقة الاحتمالیة، ولا تجب الموافقة القطعیة، وأمّا ما عدا هذا الواحد الذی ینطبق علیه الجامع فهو مورد للتأمین بقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ العلم الإجمالی هو المنجّز، والمفروض أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز إلاّ الجامع الذی ینطبق علی واحدٍ من الطرفین، ما عدا الواحد من الطرفین هو مورد للأصل المؤمّن العقلی __________ بحسب الفرض ____________، قلنا فی الدرس السابق بحیث أنّه لو ارتکبهما وکانا فی الواقع محرمین، هو لا یستحق إلاّ عقاباً واحداً؛ لأنّ ما زاد علی الواحد هو مؤمّن عنه بقاعدةٍ عقلیةٍ ____________ بحسب الفرض _____________ هو لا یستحق العقاب علیه حتّی لو صادف الحرام الواقعی، وهذا معناه الانحلال الحکمی، هذا معناه أنّ ما زاد علی الواحد مورد للأصل المؤمّن، فیکون العلم الإجمالی منحلاً انحلالاً حکمیاً. هذا بناءً علی تفسیر العلم الإجمالی بأنّه علم بالجامع.

ص: 92

وأمّا إذا قلنا: أنّالعلم الإجمالی هو علمٌ بالواقع، بحیث تجب موافقته القطعیة بقطع النظر عن تعارض الأصول، فالظاهر فی المقام هو عدم الانحلال، یعنی یبقی العلم الإجمالی منجّزاً للطرف الآخر؛ لأنّه إذا نجّز العلم الإجمالی الواقع علی واقعه الذی هو مجمل عندی ____________ بحسب الفرض ____________ أحد محتملات الواقع هو أنّه ینطبق علی الطرف الآخر غیر المعلوم بالتفصیل، بلا إشکال أنا احتمل أنّ الواقع الذی تنجّز علیّ بالعلم الإجمالی یحتمل انطباقه علی الطرف الآخر غیر المعلوم بالتفصیل، فیکون هو المنجّز بالعلم الإجمالی علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال المتحقق فی الطرف الآخر، یکون الطرف الآخر هو المنجّز بالعلم الإجمالی، ما عدا ذلک الطرف الآخر ___________ المنجّز بالعلم الإجمالی علی هذا التقدیر ___________ الذی تعلّق به العلم التفصیلی، لولا العلم التفصیلی لکان مورداً للتأمین، لکنّ العلم التفصیلی نجّزه، لکن من الواضح أنّ تنجّز أحد الطرفین بالعلم التفصیلی لا یُخرِج الطرف الآخر عن کونه منجّزاً؛ إذ لا موجب لخروجه عن کونه منجّزاً، لا موجب لخروجه عن التنجیز بمجرد حصول علمٍ تفصیلیٍ بأحد الطرفین بعینه، وهذا معناه أنّ الطرف الآخر یبقی علی المنجّزیة؛ لأنّ العلم الإجمالی هو علم بالواقع، وهو ینجّز الواقع، وینجّز وجوب الموافقة القطعیة للمعلوم بالإجمال، علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال متحققاً فی الطرف الآخر، والعلم الإجمالی ینجّز الطرف الآخر، وهذا الطرف تنجّز بالعلم الإجمالی، فلو ارتکبهما فی هذه الحالة استحقّ عقابین، عقاب علی مخالفة ما تنجّز بالعلم التفصیلی، وعقاب علی مخالفة ما تنجّز بالعلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی ینجّز الواقع علی واقعه، وأحد محتملات ذلک أنّ المعلوم بالإجمال یتحققّ فی الطرف الآخر، فالطرف الآخر یتلقّی التنجیز من العلم الإجمالی، وهذا الطرف یتلقّی التنجیز من العلم التفصیلی، فیستحق عقابین، ولا موجب لخروج الطرف الآخر عن التنجیز بمجرد أنّ قام العلم التفصیلی علی هذا الطرف، العلم التفصیلی ینجّز هذا الطرف، والطرف الآخر یتنجّز بالعلم الإجمالی، وهذا هو معنی عدم الانحلال.

ص: 93

إذن: القضیة ترتبط بما یُختار من أنّ العلم الإجمالی هل هو علمٌ بالجامع، أو هو علمٌ بالواقع ؟ هذا کلّه بلحاظ الانحلال الحقیقی بالعلم التفصیلی بلحاظ الأصول والقواعد العقلیة، وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعیة، تکلّمنا عن الانحلال الحقیقی، وتکلّمنا بعد ذلک عن الانحلال الحکمی بلحاظ القواعد العقلیة، وبقطع النظر عن الأصول الشرعیة.

الآن نتکلّم عن الانحلال الحکمی بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعیة، هل یتحقق الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی ؟ حیث لا زلنا نتکلّم عن علمٍ إجمالیٍ تعلّق العلم التفصیلی ببعض أطرافه المعیّن، تکلّمنا أولاً عن انّه هل ینحلّ انحلالاً حقیقیاً، أو لا ؟ ثمّ تکلّمنا فی موارد عدم الانحلال الحقیقی، هل ینحل بالعلم التفصیلی انحلالاً حکمیاً بلحاظ الأصول والقواعد العقلیة ؟ والآن نتکلّم عن انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی انحلالاً حکمیاً بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعیة. هذا الجواب عن السؤال أنّه ینحل حکماً، أو لا ینحل حکماً بلحاظ القواعد المؤمّنة الشرعیة یرتبط بما یُختار فی مسألة أنّ العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة ؟ کما ذهب إلی ذلک المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی ما تقدّم، أو أنّه مقتضٍ لذلک ؟ بمعنی أنّه لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة ابتداءً، وإنّما ینجّزها بتوسّط تعارض الأصول فی الأطراف ؟ هذان المسلکان المعروفان فی هذا الباب، هل العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، أو هو مقتضٍ له ؟

فإذا قلنا بالاقتضاء، فالصحیح هو الانحلال الحکمی، أی ینحلّ العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً بالعلم التفصیلی، باعتبار عدم تعارض الأصول مع افتراض تعلّق العلم التفصیلی بأحد الأطراف المعیّن، وهذا أمر واضح، باعتبار أنّ الأصل المؤمّن لا یجری فی الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی، باعتبار أنّ موضوع الأصل یرتفع مع العلم التفصیلی؛ لأنّ موضوع الأصل هو الشکّ، ومع العلم التفصیلی لاشکّ، فیرتفع موضوع الأصل، فلا یجری الأصل فی الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی.

ص: 94

یُضاف إلی ذلک أنّه لا مانع من جریان الأصل فی الطرف الآخر، هذا الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی لا یجری فیه الأصل لعدم تحقق موضوعه، وفی نفس الوقت لا مانع من جریان الأصل فی الطرف الآخر، لیس هناک مانع فی مقام الإثبات یمنع من ذلک، باعتبار أنّ المفروض أنّ الأصل فی الطرف الآخر لیس له معارض؛ لأنّنا قلنا أنّ الأصل لا یجری فی الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی لارتفاع موضوعه؛ لذا لا یوجد مانع یمنع إثباتاً من جریان الأصل فی الطرف الآخر، ولا یوجد أیضاً قصور فی لسان دلیله یمنع من شموله للطرف الآخر، کما أنّه لا مانع ثبوتی یمنع من جریانه فی الطرف الآخر؛ لأنّ المانع الوحید المتصوّر الذی یمنع من جریانه فی الطرف الآخر هو البناء علی مسلک العلّیة التامّة، إذا بنینا علی مسلک العلّیة التامّة، فأنّه یمنع من جریان الأصل فی الطرف الآخر حتّی لو لم یکن له معارض؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فالمانع الثبوتی المتصوّر من جریان الأصل فی الطرف الآخر هو البناء علی مسلک العلّیة التامّة، والمفروض أننا نتکلّم بناءً علی مسلک الاقتضاء .

إذن: علی مسلک الاقتضاء لابدّ أن نلتزم بالانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، باعتبار جریان الأصل المؤمّن الشرعی فی الطرف الآخر بلا معارضٍ؛ لأنّ الأصل المؤمّن لا یجری فی الطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی بلا إشکال؛ لعدم تحقق موضوعه. فإذن، بناءً علی الاقتضاء لابدّ أن نلتزم بالانحلال الحکمی، فیجری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز حکماً.

وأمّا بناءً علی مسلک العلّیة التامّة، فالظاهر؛ بل الصحیح أنّه لا مجال للانحلال الحکمی بالأصل المؤمّن الشرعی؛ وذلک لوضوح أنّه علی هذا المسلک لا یجری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر حتّی لو لم یکن له معارض، هناک مانع ثبوتی یمنع من جریان الأصل فی الطرف الآخر حتّی لو لم یکن له معارض؛ لأنّ هذا هو معنی مسلک العلّیة التامّة، أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فهو یمنع من إجراء الأصل فی کلّ طرفٍ بقطع النظر عن التعارض، والسرّ فیه هو أنّه ما دام یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف هذا یکون منجّزاً علی المکلّف؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فإذن، بناءً علی الاقتضاء لابدّ من الانحلال الحکمی، وبناءً علی القول بالعلّیة التامّة لا مجال للانحلال الحکمی، فالأصل لا یجری فی الطرف الآخر بناءً علی العلّیة التامّة، ویجری فی الطرف الآخر بناءً علی القول بالاقتضاء.

ص: 95

نعم، المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یقول بمسلک العلّیة التامّة حاول إثبات الانحلال الحکمی بناءً علی مسلک العلّیة التامّة بلحاظ القواعد العقلیة ولیس بلحاظ الأصول المؤمّنة الشرعیة، یعنی بقطع النظر عن الأصول المؤّمنة الشرعیة هو حاول إثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بلحاظ القواعد العقلیة، وفی البحث السابق ذکرنا أنّ هناک محاولة لإثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بلحاظ القواعد العقلیة، وحاصل هذه المحاولة تقدّم نقلها مفصلاً، وحاصلها: أنّه یدّعی أنّ من شرائط تنجیز العلم الإجمالی هو أنّه لابدّ أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، سواء کان فی هذا الطرف، أو کان فی ذاک الطرف، فإذا فرضنا أنّ أحد طرفیه کان منجّزاً بالعلم التفصیلی کما هو المفروض ___________ فی محل الکلام ___________ فحینئذٍ لا یمکن للعلم الإجمالی أن ینجّز معلومه فی ذلک الطرف؛ لاستحالة اجتماع منجّزین علی شیءٍ واحد، هذا الطرف تلقّی التنجیز من العلم التفصیلی؛ حینئذٍ لیس للعلم الإجمالی قابلیة تنجیز معلومه فی هذا الطرف؛ لأنّه تلقّی التنجیز من العلم التفصیلی، والمتنجّز بالعلم التفصیلی لا یقبل التنجّز مرّةً أخری.

فإذن: العلم الإجمالی لیس صالحاً لتنجیز معلومه علی کلّ تقدیر، وإنّما هو صالح لتنجیز معلومه علی تقدیر واحدٍ، وهو أن یکون معلومه فی الطرف الآخر. أمّا إذا کان معلومه فی هذا الطرف، فالعلم الإجمالی لیس صالحاً لتنجیز معلومه فیه؛ لأنّه تلقّی التنجیز من العلم التفصیلی، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، فینحلّ انحلالاً حکمیاً، لکن بلحاظ القواعد العقلیة، وقبل الوصول إلی الأصول الشرعیة.

هذه محاولة من المحقق العراقی(قدّس سرّه) لإثبات الانحلال الحکمی بقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعیة عن طریق إثبات قصور فی العلم الإجمالی، أنّ العلم الإجمالی قاصر عن إثبات التنجیز؛ لأنّه لا یصلح لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، بضمیمة أنّ المتنجّز لا یتنجّز مرّة أخری، فحاول إثبات الانحلال الحکمی، لکن بلحاظ القواعد العقلیة. وقد تقدّم مناقشة هذه المحاولة مفصّلاً ولا حاجة إلی الإعادة. قلنا أنّ هذا الدلیل یبتنی علی مقدّمتین، وکلٌ منهما محل کلامٍ. وبناءً علی هذا ینبغی أن نقول: بناءً علی مسلک العلّیة التامّة لا یوجد انحلالٌ حکمی. نعم بناءً علی القول بالاقتضاء یتحقق الانحلال الحکمی.

ص: 96

قبل الانتقال إلی البحث الآخر، وهو فی الانحلال بالإمارات والأصول ولیس انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی الذی کنّا إلی الآن نتکلّم فیه، ننتقل إلی علمٍ إجمالی قامت إمارة علی أحد طرفیه المعیّن، أو أصل شرعی، أو عقلی نجّز التکلیف فی طرفٍ بعینه، فیقع الکلام فی أنّه هل ینحلّ العلم الإجمالی بقیام إمارةٍ، أو أصلٍ عقلی، أو شرعی علی بعض أطرافه، أو لا ینحل ؟ قبل هذا لابدّ من بیان مطلبٍ مهمٍ وله ثمرة عملیة، وهو أنّ هناک فرقاً بین الانحلال الحقیقی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی وبین الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، وحاصل هذا الفرق هو: فی موارد تحقق الانحلال الحقیقی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی یُشترط أن لا یکون المعلوم بالتفصیل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال، وهذا شرط اساسی فی الانحلال الحقیقی، وأمّا إذا کان المعلوم بالتفصیل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال هنا لا یتمّ الانحلال الحقیقی.

(مثلاً): إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد إناءین فی أول النهار، وعلمنا تفصیلاً بنجاسة الإناء المعیّن منهما آخر النهار، هنا یکون المعلوم بالتفصیل متأخّراً زماناً عن المعلوم بالإجمال، فی هذه الحالة لا یتمّ الانحلال الحقیقی؛ بل یبقی العلم الإجمالی علی حاله ولا ینحلّ انحلالاً حقیقیاً لوضوح أنّ المعلوم التفصیلی لیس مصداقاً للمعلوم بالإجمال، فلا ینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أو قل بعبارةٍ أخری: لا یسری العلم من الجامع إلی الفرد؛ لأنّ شرط الانحلال الحقیقی هو انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، أن یکون المعلوم بالتفصیل مصداقاً حقیقیاً للمعلوم بالإجمال، وهذا یُشترط فیه أن لا یتأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال، وإلاّ إذا تأخّر صار شیئاً آخر، ما أعلمه بالإجمال هو نجاسة أحد إناءین فی أول النهار، وما أعلمه بالتفصیل هو نجاسة هذا الإناء بعد ذلک بعشر ساعات، نجاسة هذا الإناء المعلوم بالتفصیل فی آخر النهار لیس مصداقاً حقیقیاً للمعلوم بالإجمال، فلا ینطبق علیه المعلوم بالإجمال، ولا یسری العلم من الجامع إلی الفرد، وهذا معناه عدم تحقق الانحلال الحقیقی، إذا تأخّر عنه. أمّا إذا اتّحدا زماناً ولم یتأخّر عنه؛ حینئذٍ یکون الانحلال ممکناً؛ لأنّه بالشرائط السابقة یکون المعلوم بالتفصیل مصداقاً حقیقیاً للمعلوم بالإجمال. هذا فی الانحلال الحقیقی.

ص: 97

نعم، لا یُشترط فی الانحلال الحقیقی عدم تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی؛ بل یتمّ الانحلال الحقیقی بالعلم التفصیلی حتّی إذا فرضنا أنّ العلم التفصیلی تأخّر عن العلم الإجمالی زماناً ما دام معلومه التفصیلی غیر متأخّر عن المعلوم بالإجمال زماناً. نفس المثال السابق: إذا فرضنا أنّه حصل لنا العلم التفصیلی فی آخر النهار، لکن حصل العلم التفصیلی بنجاسة أحد الإناءین بعینه فی أول النهار، هذا لا یمنع من الانحلال الحقیقی؛ لأنّ الانحلال الحقیقی لا یُشترط فیه تأخّر العلم التفصیلی، أی تأخّر نفس العلم عن العلم الإجمالی زماناً، وإنّما یُشترط فیه عدم تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال زماناً.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة /تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق أنّ الانحلال الحقیقی فی موارد تحققه یعتبّر فیه عدم تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال، وإلاّ إذا تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال، فلا انحلال حقیقی، وبیّنا ما هو الوجه فی ذلک، وقلنا أنّه مع التأخّر لا یکون المعلوم بالتفصیل مصداقاً حقیقیاً للمعلوم بالإجمال، فلا انطباق ولا سریان للعلم من الجامع إلی الطرف، فلا انحلال حقیقی.

نعم، قلنا لا یُشترط عدم تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی، ذلک لیس شرطاً فی الانحلال الحقیقی، فلو تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی مع عدم تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال یتحقق الانحلال، کما إذا علمنا تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء وکان زمان العلم هو آخر النهار، لکن ما علمنا به هو نجاسة هذا الإناء المعیّن أول النهار، یعنی فی زمان المعلوم بالإجمال، یتحقق الانحلال بالرغم من تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی؛ لأنّ الانحلال الحقیقی یتحقق إذا أحرزنا انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، ویکفی فی إحراز الانطباق عدم تأخّر المعلوم بالتفصیل عن المعلوم بالإجمال، فیُحرز انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل فیتحقق الانحلال الحقیقی، سواء کان العلم التفصیلی معاصراً زماناً للعلم الإجمالی، أو کان متأخّراً عنه. هذا کلّه فی الانحلال الحقیقی.

ص: 98

أمّا الانحلال الحکمی فیختلف، حیث یُعتبَر فیه عدم تأخّر زمان العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی، فیُعتبَر فیه تعاصر العلم التفصیلی مع العلم الإجمالی، فلو تأخّر العلم التفصیلی زماناً عن العلم الإجمالی لا یتحقق الانحلال الحکمی، حتّی إذا کان المعلوم بالعلم التفصیلی المتأخّر معاصر زماناً للمعلوم بالعلم الإجمالی المتقدّم زماناً؛ لأنّ المعلوم بالتفصیل بالقیاس إلی فترة ما قبل زمان العلم التفصیلی مع فرض تأخّر المعلوم بالتفصیل، بالنسبة إلی زمان ما قبل تحقق العلم التفصیلی، لا منجّز للمعلوم بالتفصیل؛ لأنّه إنّما یتنجّز بالعلم التفصیلی، ومع تأخّر العلم التفصیلی، إذن: قبله لا منجّز للمعلوم بالتفصیل؛ وحینئذٍ لا مانع من جریان الأصل المؤمّن فی المعلوم بالتفصیل قبل زمان العلم بالتفصیل، ویکون هذا الأصل فی المعلوم بالتفصیل معارَضاً بالأصل فی الطرف الآخر، وهذا معناه عدم الانحلال الحکمی، بخلاف ما إذا کان العلم التفصیلی مقارناً للعلم الإجمالی، فأنّ المعلوم بالتفصیل حینئذٍ قد تنجّز بالعلم التفصیلی، وإذا تنجّز بالعلم التفصیلی، فهذا یمنع من جریان الأصل المؤمّن فیه، مع العلم التفصیلی بنجاسة هذا الإناء لا یمکن إجراء الأصل المؤمّن فیه؛ لأنّ مورد العلم التفصیلی یخرج عن موضوع الأصل المؤمّن، فلا یجری الأصل المؤمّن فیه، فیجری فی الطرف الآخر بلا معارض، فینحل العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً.

إذن: یُشترَط فی الانحلال الحکمی عدم تأخّر زمان العلم التفصیلی عن زمان العلم الإجمالی. أمّا إذا تأخّر کما لو فرضنا أننّا علمنا أول النهار _________ کما فی المثال السابق __________ بنجاسة أحد الإناءین، ثمّ فی آخر النهار علمنا تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء، ولو علمنا بنجاسته فی أوّل النهار، یعنی أنّ(أول النهار) قید للمعلوم بالتفصیل ولیس للعلم، العلم صار وحدث آخر النهار، لکن ما علمناه فی آخر النهار هو نجاسة هذا الإناء الأیمن أوّل النهار، حتّی فی هذه الحالة لا یتحقق الانحلال الحکمی؛ لأنّ المعلوم بالتفصیل وهو نجاسة هذا الإناء المعیّن قبل زمان العلم التفصیلی لیس له منجّز بلحاظ فترة ما قبل زمان حصول العلم الإجمالی، فی أول النهار لا منجّز له؛ لأنّه یتنجّز بالعلم، فإذا لم یکن له منجّز، فلا مانع من جریان الأصل المؤمّن فیه، وإذا جری الأصل المؤمّن فیه سوف یتعارض مع الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، وتتساقط الأصول المؤمّنة، وهذا معناه عدم الانحلال الحکمی. هذا ما یرتبط بالانحلال الحقیقی، والانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی.

ص: 99

الآن ننتقل إلی الانحلال الحکمی بالإمارات والأصول. یوجد لدینا علمٌ إجمالی، ثمّ قامت إمارةٌ فی بعض أطرافه، أو تنجّز بعض أطرافه بمنجّز، أصلٍ شرعیٍ، أو أصلٍ عقلیٍ، فهل یکون قیام الإمارة فی بعض الأطراف، أو الأصل المثبت للتکلیف فی بعض الأطراف، هل یکون موجباً للانحلال الحکمی، أو لا ؟ هذا هو محل الکلام.

هنا لا ینبغی الإشکال فی عدم تحقق الانحلال الحقیقی بالمعنی المتقدّم طرحه سابقاً فی العلم التفصیلی، أصلاً لا ینبغی توهّم الانحلال الحقیقی فی محل الکلام؛ وذلک باعتبار أنّه لا علم بأحد الطرفین تعییناً حتّی یتحقق الانحلال الحقیقی، إنّما یتحقق الانحلال الحقیقی عندما نعلم بنجاسة هذا الطرف بعینه فی ظل شروطٍ معینةٍ تقدّمت، یسری العلم من الجامع إلی الطرف، وینطبق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل، فیتحقق الانحلال الحقیقی، لکن هذا حیث یکون الطرف معلوماً بالعلم التفصیلی، أمّا حیث تقوم إمارةٌ علی ثبوت التکلیف فیه، أو یقوم أصلٌ علی إثبات تکلیفٍ فیه، فهنا لا مجال لتوهّم الانحلال الحقیقی؛ بل العلم الإجمالی بالحکم فی أحد الطرفین یبقی علی حاله ولا یزول؛ لتحقق کلا رکنیه المتقدّمین سابقاً، حیث تقدّم أنّ العلم الإجمالی یتقوّم برکنین اساسیین: العلم بالجامع، واحتمالات انطباقٍ بعدد الأطراف، وهذان الرکنان محفوظان فی المقام حتّی إذا قامت إمارةٌ علی ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، أو تنجّز هذا الطرف بأصلٍ عملی شرعی، أو عقلی، یبقی العلم الإجمالی محفوظاً، علم بالجامع، واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، لا نحرز انطباق المعلوم بالإجمال علی المعلوم بالتفصیل؛ لأنّه لا یوجد علم تفصیلی، فلا ینبغی توهّم تحقق الانحلال الحقیقی فی محل الکلام، وإنّما الکلام یقع فی تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً لا حقیقةً، ویقع الکلام أیضاً فی تحقق الانحلال الحکمی، فالکلام یقع فی مقامین:

ص: 100

المقام الأوّل: فی أنّه لا مجال لتحقق الانحلال الحقیقی حقیقةً فی محل الکلام، لکن قد یقال بتحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً.

المقام الثانی: فی الانحلال الحکمی.

الکلام فعلاً فی المقام الأوّل: دعوی تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً یختصّ بما إذا کان الطرف المعیّن تنجّز فیه التکلیف بإمارةٍ، لا بأصلٍ عملی؛ لأنّ مسألة تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً یختصّ بالإمارة وهو من الآثار المترتبة علی دعوی أنّ المجعول فی باب الإمارات هو الطریقیة والعلمیة والمحرزیة وأمثال هذه التعبیرات، یظهر من کلمات متفرّقة للمحقق النائینی(قدّس سرّه) دعوی تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً، علی مبانیه التی یری فیها أنّ المجعول فی باب الإمارات، وأنّ دلیل حجّیة الإمارة مفاده جعل العلمیة وجعل الطریقیة وجعل المحرزیة للإمارة، فالمجعول هو العلمیة، إمّا بأن یُفسّر ذلک بتنزیل الإمارة منزلة العلم، أو اعتبار الإمارة علماً الذی هو أقرب إلی کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) الشارع یعتبر الإمارة علماً، ینزّل الإمارة منزلة العلم، علی کلا التقدیرین یُدّعی فی المقام بأنّ هذا الاعتبار یستوجب ثبوت الانحلال للإمارة، باعتبار أنّ الانحلال من آثار العلم التفصیلی، والشارع یُنزّل الإمارة منزلة العلم، فیثبت للإمارة هذا الأثر وهو الانحلال. لا إشکال أنّ الانحلال الحقیقی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی المتقدّم سابقاً _________ بناءً علی ثبوته ولو فی بعض الموارد __________ هو من آثار العلم التفصیلی، فالعلم الإجمالی أنحلّ بالعلم التفصیلی، یأتی الشارع فیقول: أنا أنزّل الإمارة منزلة العلم التفصیلی، أو أعتبر الإمارة علماً، علی طریقة المجاز العقلی، بمجرّد أن یُنزّل الإمارة منزلة العلم تترتب آثار العلم التفصیلی علی الإمارة بالتنزیل والتعبّد، وهکذا لو قال اعتبر الإمارة علماً، وکل الآثار الثابتة للعلم التفصیلی تترتّب ببرکة التعبّد علی الإمارة، ومن جملة هذه الآثار الانحلال، فکما أنّ العلم التفصیلی یوجب الانحلال الحقیقی للعلم الإجمالی، هذا الانحلال الحقیقی یثبت للإمارة، لکن تعبّداً لا حقیقةً. هذه دعوی الانحلال الحقیقی تعبّداً، لکن قلنا أن هذا یختصّ بالإمارة کما هو واضح؛ لأنّ الأصول العملیة لیس فیها لسان جعل الطریقیة وجعل العلمیة.

ص: 101

ویُلاحظ علی هذا الطرح بالملاحظة المعروفة، وهی: أنّ من الواضح جدّاً أنّ الانحلال لیس أثراً شرعیاً مجعولاً للعلم التفصیلی، وإنّما هو من الآثار العقلیة والتکوینیة للعلم التفصیلی، فمن آثار العلم التفصیلی التکوینیة هو أنّه ینحل به العلم الإجمالی بشروطٍ معیّنة، فهذا اثر تکوینی عقلی للعلم التفصیلی ولیس من الآثار الشرعیة الثابتة للعلم التفصیلی والمجعولة من قِبل الشارع، ومن الواضح أنّ دلیل حجّیة الإمارة، سواء کان مفاده تنزیل الإمارة منزلة العلم، أو کان مفاده اعتبار الشارع الإمارة علماً، علی کلا التقدیرین، ما یترتب علی ذلک هو سرایة الآثار الشرعیة المجعولة من قِبل الشارع الثابتة بالعلم إلی ما یُنزّل منزلة العلم، أو ما یعتبره الشارع علماً، علی غرار ما یقال من(الطواف فی البیت صلاة) وأمثاله، الشارع ینزّل الطواف منزلة الصلاة، لکن لا تثبت للطواف الآثار التکوینیة للصلاة، وإنّما تثبت الآثار واللّوازم الشرعیة ببرکة التنزیل والاعتبار، هذا أیضاً کذلک، بالتنزیل والاعتبار تثبت الآثار الشرعیة المجعولة من قبل الشارع الثابتة للعلم إن وجدت، تثبت للإمارة. وأمّا الآثار التکوینیة الثابتة للشیء _________ بقطع النظر عن الشارع __________ تکویناً لا بجعلٍ شرعیٍ، دلیل التنزیل ولسان الحجّیة، مهما فسّرنا لسان الحجّیة، فهو عاجز عن إثبات هذه اللّوازم للمُنزّل الذی هو الإمارة فی محل الکلام، ولا إشکال کما قلنا أنّ الانحلال لیس من الآثار الشرعیة الثابتة للعلم التفصیلی، وإنّما هی من الاثار العقلیة والتکوینیة الثابتة للعلم التفصیلی، وهذه لا تثبت بالتنزیل، أو الاعتبار للإمارة.

نعم، قد یُدّعی أننا نستفید الانحلال الحقیقی من دلیل التعبّد بالإمارة ببیانٍ آخر علی اساس الملازمة، باعتبار أنّ مفاد دلیل حجّیة الإمارة _________ بناءً علی مسلک أنّ المجعول هو الطریقیة والعلمیة __________ هو جعل العلمیة، والتعبّد بالعلم، والتعبّد بعدم الشکّ، یعنی عندما تقوم عندک إمارة علی نجاسة هذا الإناء، أنا أعبّدک بعدم الشکّ، أی لیس لدیک شکّ، وإنّما لدیک علم تعبّداً، وهذا التعبّد بالعلم وعدم الشکّ بمؤدّی الإمارة هو فی الحقیقة تعبّدٌ بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی، فإذا کان تعبّداً بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی، یکون تعبّداً بزوال العلم الإجمالی، ونحن لا نرید من الانحلال الحقیقی تعبّداً إلاّ أن یثبت زوال العلم الإجمالی تعبّداً، ودلیل حجّیة الإمارة عندما یُعبّد المکلّف بأنّه عالمٌ بمؤدّی الإمارة، وأنّه لیس شاکّاً فیه، هذا معناه أنّه عبّده بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی، وتقدّم ذکر هذین الرکنین وهما: العلم بالجامع، واحتمالات وشکوک بعدد الأطراف، الشارع عندما یُعبّد المکلّف بالعلم بمؤدّی الإمارة فی هذا الطرف، یُعبّده بعدم الشکّ، معناه أنّه یلغی الشکّ فی هذا الطرف، ویُحوّله تعبّداً إلی العلم. إذن: هو تعبّدٌ بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی، وتحویله من الشکّ إلی العلم تعبّداً، والتعبّد بزوال أحد رکنی العلم الإجمالی هو تعبّدٌ بزوال العلم الإجمالی، فیثبت الانحلال الحقیقی تعبّداً. قد یقال هذا فی مقام توجیه تحقق الانحلال الحقیقی تعبّداً، بناءً علی هذا المسلک.

ص: 102

بقطع النظر عن مبانی هذا الکلام، وعلی فرض تسلیم هذه المبانی، لکن من الواضح أنّ هذا الکلام مبنی علی فکرةٍ لیست تامّة، وهی فکرة أنّ هناک ملازمة بین التعبّد بشیءٍ والتعبّد بمعلوله ولازمه، هل هذه الفکرة صحیحة ؟ أنّ الشارع إذا عبّدنا بشیءٍ، فلابدّ أن یُعبّدنا بمعلول هذا الشیء ولازمه ؟ هذا لا دلیل علیه، هذا بالنسبة إلی العلم ودرجات التصدیق. نعم توجد ملازمة، العلم بالعلّة علم بالمعلول، واحتمال العلّة هو احتمال للمعلول، لکنّ التعبّد الشرعی بشیءٍ هل یلازم التعبّد الشرعی بلازم هذا الشیء، ومعلوله ؟ هذا غیر صحیحٍ، فقد یُعبّدنا الشارع بشیءٍ، لکن لا یُعبّدنا بمعلوله؛ ولذا اختلاف المتلازمین واقعاً وتکویناً فی عالم التعبّد هو أمر لیس غریباً، فقد یُعبّدنی الشارع بطهارة هذا الشیء، لکن لا یُعبّدنی بلازم طهارته کما هو موجود فی أمثلة کثیرة، لیس هناک ملازمة بین التعبّد بالشیء والتعبّد بلازمه ومعلوله. هذا الکلام مبنی علی دعوی الملازمة بینهما؛ لأنّه یقول: مفاد دلیل الإمارة هو تعبّد المکلّف بالعلم بمؤدّی الإمارة، لازم العلم بمؤدّی الإمارة هو انحلال العلم الإجمالی، لکن التعبّد بالعلم وعدم الشکّ بمؤدّی الإمارة لا یلازم التعبّد بالانحلال، هذه قضیة تعبّدیة شرعیة ترتبط بالشارع ومدی دلالة الدلیل علیه، قد یُعبّدنی الشارع بشیءٍ ولا یُعبّدنی بلازمه ومعلوله.

بعبارةٍ أکثر وضوحاً: أنّ العلم الإجمالی فی الواقع والحقیقة یتقوّم بشیءٍ واحدٍ لا بشیئین، یتقوّم بالعلم بالجامع بحدّه الجامعی، لکن لازم العلم بالجامع بحدّه الجامعی شکوک فی الأطراف واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، وإلاّ إذا نزل العلم إلی الفرد ولم یقف علی الجامع بحدّه الجامعی، معناه لم تحصل شکوک فی الأطراف والأفراد، ما دام العلم واقفاً علی الجامع بحدّه الجامعی قهراً تکون هناک شکوک بعدد الأطراف، لکن هذه الشکوک بعدد الأطراف هی لازم للعلم بالجامع بحدّه الجامعی، ذاک هو العلم الإجمالی، فإذا عبّدنی الشارع بزوال الشکّ فی مؤدّی الإمارة، هل هذا یعنی أنّه عبّدنی بزوال العلم الإجمالی، وزوال العلم بالجامع بحدّه الجامعی ؟ کلا، وإن کان بینهما ملازمة، فإذن: لا یمکن إثبات الانحلال الحقیقی تعبّداً بالملازمة المستفادة من دلیل اعتبار الإمارة، هذا لو سلّمنا مبنی هذا الکلام الذی هو جعل العلمیة وجعل الطریقیة وجعل المحرزیة.

ص: 103

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة /تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی الانحلال الحقیقی تعبّداً بالإمارات والأصول: ذکرنا الوجه الذی علی اساسه قیل بالانحلال الحقیقی تعبّداً بالإمارات والأصول، وانتهی الکلام إلی مناقشته.

یُضاف إلی ما ذکرناه فی الدرس السابقأنّ التعبّد بالانحلال الحقیقی المُدّعی فی المقام لعلّه لا فائدة فیه، فیناقش من هذه الزاویة، أنّ التعبّد بالانحلال فی محل الکلام عندما یکون هناک علم إجمالی، وتقوم إمارة فی أحد الطرفین بعینه، فیعبّدنا الشارع بالانحلال الحقیقی، باعتبار أنّه نزّل الإمارة منزلة العلم، أو اعتبر الإمارة علماً.

نقول: هذا لا فائدة فیه، ولا تترتّب علیه ثمرة، التعبّد بالانحلال الحقیقی فی المقام لا تترتّب علیه ثمرة؛ لأنّه إن کان الغرض من التعبّد بالانحلال الحقیقی هو إثبات التأمین فی الطرف الآخر بلا حاجة إلی إجراء الأصل المؤمّن فیه، یثبت التأمین فی الطرف الآخر بمجرّد التعبّد بالانحلال بلا حاجة إلی إجراء الأصل المؤمّن فیه، فإذا کان هذا هو الغرض من التعبّد بالانحلال، فهذا غیر صحیح؛ لأنّ أیّ شبهة وأیّ شک یحتاج إلی مؤمّن، مجرّد التعبّد بانحلال العلم الإجمالی حقیقة لا یغنینا عن إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر.

بعبارةٍ أخری: أنّ الطرف الآخر ما دام شبهةً، فهو یحتاج إلی مؤمّنٍ، عقلی، أو شرعی، بالنتیجة یحتاج إلی مؤمّن، أمّا مجرّد التعبّد بالانحلال الحقیقی لا یرفع الحاجة إلی إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر.

وأمّا إذا کان الغرض من التعبّد بالانحلال الحقیقی هو التمهید لإجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، بمعنی أنّه یساعد علی إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، بحیث أنّ المکلّف لولا التعبّد بالانحلال الحقیقی لا یتمکّن من إجراء الأصل فی الطرف الآخر، إذا کان هذا هو الغرض فهذا فی الحقیقة یحصل تمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر ولا یتوقّف علی إثبات الانحلال الحقیقی تعبّداً، التمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر هو فرع زوال المعارضة، والمکلّف یتمکن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر إذا لم یکن له معارض فی هذا الطرف، وهذا ثابت بقطع النظر عن الانحلال الحقیقی تعبّداً؛ لأنّ مورد الإمارة المثبتة للتکلیف لا یجری فیها الأصل المؤمّن، فیجری الأصل المؤمّن بلا معارضٍ فی الطرف الآخر، ولا یتوقّف التمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر إلاّ علی عدم المعارض فی الطرف الأوّل، والمفروض فی محل کلامنا عدم المعارض؛ لأنّ الطرف الأوّل ____________ بحسب الفرض ____________ هو موردٌ للإمارة المثبتة للتکلیف، ومع وجود الإمارة المثبتة للتکلیف لا تصل النوبة للأصل المؤمّن، فیمکن للمکلّف أن یجری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر بلا أن یتوقف ذلک علی التعبّد بالانحلال الحقیقی، حتّی لو لم یثبت التعبّد بالانحلال الحقیقی، لا إشکال فی أنّ المکلّف یتمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر.

ص: 104

فإذن: ما هی فائدة التعبّد بالانحلال الحقیقی فی محل الکلام ؟ هل یغنینا هذا عن الاحتیاج إلی إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر ؟ کلا، لا یغنینا؛ لأنّ مجرّد انحلال العلم الإجمالی لا یخرج الطرف الآخر عن کونه شبهةً، وکل شبهةٍ بحاجة إلی تأمینٍ، أو یقال: أنّ الانحلال الحقیقی تعبّداً یمکّن المکلّف من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، وهذا أیضاً غیر صحیح؛ لأنّ المکلّف متمکّنٌ من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، سواء کان هناک انحلالٌ حقیقی تعبّداً، أو لم یکن؛ لأنّه یکفی فی التمکّن من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر زوال المعارض فی ذلک الأصل، وهذا مفروض فی محل الکلام.

هناک ملاحظة أخری تُضاف إلی ما تقدّم علی دعوی الانحلال الحقیقی تعبّداً فی محل الکلام، وهی: أننا فی الدرس السابق قلنا أنّ العلم الإجمالی یتقوّم بالعلم بالجامع بحدّه الجامعی. نعم، لازم العلم بالجامع بحدّه الجامعی هو تولّد شکوک واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، لکن هذا لازم للعلم الإجمالی، لازم لما هو الرکن الأساسی للعلم الإجمالی، وقلنا أنّ التعبّد بأحد المتلازمین لا یسری إلی ملازمه؛ إذ لیس لدینا قاعدة تقول إذا تعبّدنا الشارع بأحد المتلازمین، فلابدّ أن یعبّدنا بملازمه، التعبّد یتبع دلیله، فإذا کان الدلیل یقتصر علی التعبّد بإلغاء الشکّ، هذا لیس معناه التعبّد بانحلال العلم الإجمالی، هذا کنّا نقوله سابقاً، الآن الملاحظة الجدیدة تقول: لو تنزّلنا وسلّمنا أنّ احتمالات الانطباق هی أرکانٌ للعلم الإجمالی، بمعنی أننا نسلّم بأنّ العلم الإجمالی یتقوّم بالعلم بالجامع بحدّه الجامعی زائداً شکوک واحتمالات انطباق بعدد الأطراف، وایضاً نفترض أنّ أحد هذه الاحتمالات قد زال تعبّداً فی مورد الإمارة، عندما تقوم الإمارة علی التکلیف، یأتی مبنی الطریقیة، أنّ المجعول فی الإمارات هو العلمیة والطریقیة، وهذا معناه اعتبار الإمارة علماً، أو تنزیل الإمارة منزلة العلم، وهذا فهمنا منه ___________ کما قیل سابقاً _____________ أنّ هذا تعبّد بزوال الشکّ فی هذا الطرف؛ لأنّه یقول اعتبره علماً، معناه التعبّد بکونه علماً، یعنی تعبّد بزوال الشکّ فی هذا الطرف. إذن: الشکّ فی هذا الطرف زال تعبّداً بناءً علی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، وهذا نسلّمه، أنّ رکناً من أرکان العلم الإجمالی زال تعبّداً، لکن تنجّز الطرف الآخر هل هو من آثار هذا الرکن فی مورد الإمارة ؟ هل هو من آثار الشکّ فی مورد الإمارة ؟ حتّی نقول إذا عبّدنا الشارع بزوال الشکّ فی مورد الإمارة، یرتفع التنجّز عن الطرف الآخر، إذا کان التنجّز من آثار الشکّ فی مورد الإمارة، إذن: یصحّ لنا أن نقول بأنّ الشارع عبّدنا بزوال الشکّ فی مورد الإمارة، ویلزم من ذلک زوال التنجّز عن الطرف الآخر. لکن من الواضح أنّ تنجّز الطرف الآخر لیس من آثار الشکّ فی هذا الطرف، التنجّز من آثار الشکّ فی ذاک الطرف، ولیس من آثار الشکّ فی طرفٍ آخر، الشکّ فی هذا الطرف رکنٌ للعلم الإجمالی، والشکّ فی هذا الطرف أیضاً رکنٌ للعلم الإجمالی...وهکذا باقی الأطراف، التعبّد بزوال الشکّ فی هذا الطرف لا یعنی ولا یثبت التعبّد بزوال الشکّ فی الطرف الآخر، قد یکون هناک تلازم بین الشکّ فی هذا الطرف، والشک فی هذا الطرف، لیکن، لیس هناک مشکلة؛ لأنّ العلم الإجمالی علمٌ بالجامع بحدّه الجامعی زائداً شکوک بعدد الأطراف، فالشکّ فی هذا الطرف یلازم الشکّ فی هذا الطرف، ویلازم الشک فی ذاک الطرف، لکن نرجع إلی القضیة السابقة، وهی أنّه من قال بأنّ التعبّد بزوال الشکّ فی هذا الطرف یسری إلی الشکّ فی الطرف الآخر ؟ لأنّ التعبّد بأحد المتلازمین، لیس لدینا قاعدة تقول بأنّه یسری إلی ملازمه، فإذن: لو سلّمنا ما ذُکر، غایة ما یثبت به هو التعبّد بزوال الشکّ فی مورد الإمارة، لکن هذا لا یعنی أنّه یعبّدنی بزوال الشکّ فی الطرف الآخر حتّی یرتفع التنجّز عنه، ویثبت الانحلال، وإن کانت بین الشکّین ملازمة، لکن التعبّد بأحد المتلازمین لا یسری إلی ملازمه الآخر. هذه ملاحظة أخری علی الانحلال الحقیقی تعبّداً.

ص: 105

المقام الثانی: الانحلال الحکمی

هل یثبت الانحلال الحکمی فی العلم الإجمالی بقیام الإمارة، أو الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه ؟ بمعنی أن یفقد العلم الإجمالی تأثیره، ولا یؤثّر فی التنجیز، فیجوز إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر ؟ وهذا من آثار سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز.

الکلام فعلاً لابدّ أن نعزل منه بحثاً سیأتی التعرّض له مستقلاً؛ لأنّه یتمیّز بخصوصیات تختصّ به؛ ولذا أفرد البحث عنه. الکلام فعلاً عن ما إذا کانت الحجّة التی قامت فی أحد الطرفین بعینه، والتی نتکلّم فعلاً عن أنّ قیامها هل یوجب الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، أو لا ؟ هذه الحجّة فی طرفٍ بعینه، المثبتة للتکلیف، کلامنا فی ما إذا کانت هذه الحجّة من قبیل إمارة تتمثّل بإمارة مثبتة للتکلیف فی أحد الطرفین، أو تتمثّل بأصلٍ عملیٍ مثبت للتکلیف منجّز فی أحد الطرفین، أو اصل عقلی منجّز فی أحد الطرفین کأصالة الاشتغال. کلامنا فعلاً فی هذا.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الحجّة التی قامت فی أحد الطرفین هی عبارة عن أصالة الاشتغال الناشئة من وجود علمٍ إجمالیٍ آخر غیر العلم الإجمالی الأوّل المفترض فی محل الکلام، هذا له بحث آخر، فنستثنیه، ولا نتکلّم عنه فعلاً، ومثاله واضح، کما إذا اشترک طرفٌ فی علمین إجمالیین، علم إجمالی بأنّه إمّا الإناء الأیمن نجس، أو الإناء الأیسر نجس ؟ ثمّ حصل علم آخر، إمّا الإناء الأیسر نجس، أو إناء آخر نجس، فالإناء الأیسر وقع طرفاً لعلمین إجمالیین.

هنا قد یقال: أنّ العلم الإجمالی الثانی یسقط عن التنجیز، فیجوز إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الثالث؛ لأنّ الطرف الأوّل فی العلم الإجمالی الثانی الذی هو الإناء الأیسر الذی هو الطرف المشترک. الطرف الأیسر تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل، فالعلم الإجمالی الثانی یجد أحد طرفیه قد تنجّز بمنجّزٍ سابقٍ، فقد یقال علی هذا الأساس أنّ العلم الإجمالی الثانی یسقط عن التنجیز، فلا مانعٍ من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الثالث. هذا لا نتکلّم فیه فعلاً.

ص: 106

کلامنا فعلاً فی ما إذا فرضنا أنّه قامت إمارة علی ثبوت التکلیف فی أحد الطرفین بعینه، أو أصل عملی عقلی، أو شرعی منجّز، ودلّ علی ثبوت التکلیف فی أحد الطرفین بعینه، السؤال الذی یطرح هو أنّه هل یحصل الانحلال الحکمی بقیام الإمارة المثبتة للتکلیف، أو الأصل المنجّز، أو لا یحصل الانحلال الحکمی ؟ هنا یقال: إذا کان المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه هو إمارة، ونحن نعلم بانّ الإمارة فیها خصوصیة، وهی حجّیة مدالیلها الالتزامیة، أنّ مثبتات الإمارة حجّة، والمدلول الالتزامی للإمارة حجّة کالمدلول المطابقی، وفرضنا أنّ المدلول الالتزامی لهذه الإمارة القائمة فی أحد الطرفین بعینه هو عبارة عن نفی التکلیف عن الطرف الآخر، صحیح أنّ مدلول الإمارة المطابقی هو إثبات التکلیف فی هذا الطرف، لکن قد یکون مدلولها الالتزامی نفی التکلیف عن الطرف الآخر، کما إذا فرضنا أنّ التکلیف کان منحصراً فی واحد، وترددّ بین شیئین، وقامت الإمارة علی أنّ التکلیف فی هذا الطرف، ولازمها هو نفی التکلیف عن الطرف الآخر؛ لأنّ المفروض أنّ التکلیف فی الواقع واحد، فإذا دلّت الإمارة علی ثبوته هنا، فلازم ذلک هو نفیه عن الطرف الآخر، فیکون مفادها هو نفی التکلیف عن الطرف الآخر، أو نفترض أنّ الإمارة کانت فی مقام تعیین المعلوم بالإجمال کما فرضناه فی العلم التفصیلی، حیث قلنا أنّ العلم التفصیلی قد یکون ناظراً إلی تعیین المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، هنا نفترض أنّ الإمارة تقوم علی تعیین المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، فإذا قامت علی ذلک، فهذا معناه أنّها تنفی التکلیف عن الطرف الآخر. فی حالةٍ من هذا القبیل ____________ إذا کان المثبت للتکلیف إمارة، وکان مدلولها الالتزامی نفی التکلیف عن الطرف الآخر __________ لا إشکال فی انحلال العلم الإجمالی بلا خلاف؛ لأنّه یمکننا التمسّک بالمدلول الالتزامی لهذه الإمارة الذی هو حجّة بلا إشکال، ونفی التکلیف عن الطرف الآخر، وبهذا ینحل العلم الإجمالی بنفس الإمارة، یعنی یتعیّن التکلیف حینئذٍ بالحجّة المعتبرة بهذا الطرف، ویُنفی التکلیف عن الطرف الآخر أیضاً بحجّةٍ معتبرة، وهذا معناه انحلال العلم الإجمالی، یعنی قامت حجّةٌ علی أنّ التکلیف موجودٌ هنا ولیس موجوداً فی الطرف الآخر، هذا معناه انحلال العلم الإجمالی.

ص: 107

أمّا إذا فرضنا أنّ المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه لم یکن من هذا القبیل، فرضاً کان إمارة، ولکنّه لیس من قبیل الإمارة التی فرضناها سابقاً، لم تکن فی مقام تعیین المعلوم بالإجمال، ولیس لدینا ما یدلّ علی أنّ التکلیف واحد؛ بل یحتمل أن یکون التکلیف متعدداً، لیس للإمارة المثبتة للتکلیف فی أحد الطرفین دلالة التزامیة علی نفی التکلیف فی الطرف الآخر، أو نفترض أنّ المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین بعینه کان هو أصل عملی شرعی، أو أصل عقلی منجّز للتکلیف، کلامنا فی هذا. مثل هذه الإمارة، ومثل هذا الأصل العملی الشرعی، أو العقلی، هل یوجب الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، أو لا ؟

الجواب هو: أنّه فی حالةٍ من هذا القبیل یمکن إثباتالانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالإمارات والأصول تمسّکاً ببعض، أو کل الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی، تقدّم البحث أنّ العلم الإجمالی إذا لم ینحل حقیقةً بالعلم التفصیلی، ننقل البحث إلی الانحلال الحکمی، وذُکرت وجوه لإثبات الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بلحاظ القواعد العقلیة، ثمّ بلحاظ الأصول الشرعیة. هذه الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال الحکمی هناک یمکن التمسّک بها لإثبات الانحلال الحکمی فی محل الکلام. (مثلاً): قُرّب الانحلال الحکمی هناک بلحاظ القواعد العقلیة وبقطع النظر عن الأصول المؤمّنة الشرعیة، بهذا التقریب المتقدّم الذی التزم به المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یعتمد علی استحالة اجتماع منجّزین علی شیءٍ واحد، بأنّ أحد الطرفین تنجّز بالعلم التفصیلی، فلا یعقل أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً، لاستحالة اجتماع منجّزین علی طرفٍ واحد، فینحل العلم الإجمالی؛ لأنّه یعتبر فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، سواء کان فی هذا الطرف، أو فی هذا الطرف، هذه القضیة تختل عندما یتنجّز هذا الطرف بمنجّزٍ؛ لأنّ العلم الإجمالی لا یعود صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وإنّما یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی التقدیر الآخر، یعنی علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال فی الطرف الآخر، أمّا لو کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، العلم الإجمالی لا یمکنه تنجیزه؛ لأنّ هذا الطرف تنجّز بمنجّز آخر، ویستحیل اجتماع منجّزین علی شیءٍ واحد، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. هذا کان هو الدلیل، ومن الواضح أنّ هذا الدلیل لا یفرّق بین منجّزٍ ومنجّز، لا یُفرّق بین أن یکون المنجّز فی هذا الطرف علم تفصیلی، أو یکون المنجّز إمارة تثبت التکلیف وتنجّز، أو یکون أصلاً یثبت التکلیف، فی کلّ الحالات یجری هذا الدلیل؛ لأنّه أیضاً نقول هذا الطرف مورد الإمارة، أو مورد الأصل العملی تنجّز بالإمارة، أو بالأصل العملی، فیستحیل أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً له؛ لاستحالة اجتماع منجّزین علی طرفٍ واحد، وإذا تحقق هذا وصدق؛ حینئذٍ لا یکون العلم الإجمالی صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر. هذا الدلیل إذا تمّ هناک، فیمکن الاستدلال به علی الانحلال الحکمی فی محل الکلام. وهکذا تقریب الانحلال الحکمی بلحاظ الأصول العملیة الشرعیة لا بلحاظ القواعد العقلیة، هذا التقریب المتقدّم لإثبات الانحلال یجری أیضاً فی محل الکلام، وهذا التقریب کان یقول بأنّ الأصل المؤمّن یجری فی الطرف الآخر؛ لأنّ المانع من وجوده فی الطرف الآخر هو وجود المعارض له، وهو جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الأوّل، هذا یُعارض جریان الأصل فی الطرف الثانی، هذا هو المانع، فإذا کان الأصل المؤمّن لا یجری فی الطرف الأوّل؛ لأنّه مورد للعلم التفصیلی، فیجری فی الطرف الثانی بلا معارض، فیثبت الانحلال الحکمی حینئذٍ بقیام العلم التفصیلی. هذا الدلیل نفسه نستطیع أن نستدلّ به فی محل الکلام؛ إذ لا فرق فی منع جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الأوّل بین أن یکون معلوماً بالتفصیل، أو تقوم إمارة علی إثبات التکلیف فیه، أو یقوم اصل عملی، أو شرعی منجّز للتکلیف فیه؛ لأنّه علی کل هذه التقادیر هذا یمنع من إجراء الأصل المؤمّن فیه، فإذا لم یجرِ فیه الأصل المؤمّن، یجری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر بلا معارضٍ، وهذا هو معنی الانحلال الحکمی.

ص: 108

إذن: لا یُفرّق بین أن یکون هذا الطرف الأوّل مورداً للعلم التفصیلی، أو یکون مورداً للإمارة، أو للأصل المثبت للتکلیف، أو الأصل المنجّز للتکلیف.

نعم، هذا بناءً علی مسلک الاقتضاء، حیث أننا نثبت الانحلال الحکمی بناءًعلی هذا المسلک؛ لأنّه علی مسلک الاقتضاء یقول أنّ الذی یمنع من إجراء الأصل فی الطرف الآخر هو المعارضة، أمّا علی مسلک العلّیة التامّة فالذی یمنع من إجراء الأصل فی الطرف الآخر لیس هو المعارضة، حتّی لو لم یکن له معارض هو لا یجری أصلاً، ذات العلم الإجمالی هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، یمنع من إجراء الأصل فی الطرف الآخر، بناءً علی العلّیة التامّة قلنا سابقاً أنّه یتعیّن القول بعدم الانحلال الحکمی. نعم، المحقق العراقی(قدّس سرّه) ذکر الوجه السابق للانحلال الحکمی قبل الوصول إلی الأصول المؤمّنة الشرعیة، بلحاظ القواعد العقلیة اثبت الانحلال بهذا البرهان السابق الذی هو عدم اجتماع منجّزان علی شیءٍ واحد، ویُعتبر فی العلم الإجمالی أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی کلّ تقدیر، بهذا اثبت الانحلال الحکمی.

أقول: هذا البرهان الذی ذکره بناءً علی مسلک العلّیة التامّة لو تمّ هناک یتمّ أیضاً فی محل الکلام؛ إذ لا فرق بین العلم التفصیلی وبین الإمارة وبین الأصل المثبت للتکلیف، أو الأصل المنجّز للتکلیف، إذن: کل الوجوه التی یستدل بها علی الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی، إذا تمّت هناک فهی تجری هنا فی محل الکلام لإثبات الانحلال الحکمی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی انحلال العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً بالإمارات والأصول: وقد ذکرنا أنّه فی ما یقع الکلام فیه تجری کل الوجوه التی ذُکرت لانحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی انحلالاً حکمیّاً، هذه الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال الحکمی هناک إذا تمّت، فهی تجری فی محل الکلام أیضاً، وبعضها تامّ هناک علی ما تقدّم فی إثبات الانحلال الحکمی بناءً علی ما هو الصحیح کما تقدّم من أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، فأنّ أحد الوجوه المتقدّمة لإثبات الانحلال هو أنّ الأصل لا یجری فی مورد العلم التفصیلی؛ لارتفاع موضوعه؛ لأنّ موضوعه الشکّ، ولا شکّ مع العلم التفصیلی، فیجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض، هذا بنفسه یجری فی محل الکلام؛ لأنّ مورد الإمارة أیضاً لا یجری فیه الأصل المؤمّن، مورد الأصل المثبت للتکلیف کالاستصحاب أیضاً لا یجری فیه الأصل المؤمّن، الأصل المنجّز للتکلیف أیضاً لا یجری فیه الأصل المؤمّن، فبالنتیجة یجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارضٍ. فالانحلال الحکمی فی محل الکلام واضح.

ص: 109

بعد ذلک نقول: أنّ الانحلال الحکمی فی محل الکلام یُشترط فیه نفس ما اشترط فی الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی، حیث ذکرنا سابقاً أنّ الانحلال الحکمی بالعلم التفصیلی یُشترط فیه عدم تأخّر العلم التفصیلی عن العلم الإجمالی، فإذا لم یتأخّر یثبت الانحلال الحکمی، وأمّا إذا فرضنا أنّ زمان العلم التفصیلی کان متأخّراً عن زمان العلم الإجمالی، قلنا لا انحلال؛ لأنّه قبل زمان العلم التفصیلی، لا منجّز للطرف الذی تعلّق به العلم التفصیلی؛ لأنّه فی فترة ما قبل حصول العلم التفصیلی، الذی ینجّز التکلیف فی هذا الطرف هو العلم التفصیلی، أمّا قبل العلم التفصیلی، فلا منجّز للتکلیف فی هذا الطرف، فیجری فیه الأصل المؤمّن بلحاظ فترة ما قبل حصول العلم التفصیلی، ویُعارض هذا الأصل المؤمّن بالأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی، وعدم انحلاله انحلالاً حکمیّاً؛ لأنّ الأصل فی الطرف الآخر له معارض، فلا یتحقق الانحلال الحکمی إلاّ إذا کان العلم التفصیلی معاصراً للعلم الإجمالی. هذا الشرط بنفسه یجری فی محل الکلام، غایة الأمر نُبدّل العلم التفصیلی بالإمارة، أو الأصل المثبت للتکلیف، هنا أیضاً نقول یُشترط فی الانحلال الحکمی أن لا یتأخّر هذا المثبت للتکلیف کالإمارة، أو الأصل، عن العلم الإجمالی زماناً، وإلاّ إذا تأخّر المثبت للتکلیف کالإمارة فی أحد الطرفین بعینه، أو المنجّز للتکلیف بعینه، إذا تأخّر زماناً عن العلم التفصیلی، فلا انحلال حکماً لنفس السبب السابق، وهو أنّه قبل قیام الإمارة، وقبل قیام الأصل المثبت للتکلیف، لا منجّز لهذا الطرف، احتمال التکلیف فیه لم یتنجّز بمنجّز فی تلک الفترة، فإذا لم یتنجّز بمنجّز فی تلک الفترة، فیمکن أن یکون مورداً للأصل المؤمّن، فیُعارَض هذا الأصل المؤمّن بالأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، فالأصل المؤمّن فی الطرف الآخر له معارض، وهذا معنی عدم الانحلال الحکمی بنفس السبب السابق، فإذن: یُشترط فی محل الکلام أیضاً عدم تأخّر زمان الإمارة، أو الأصل المثبت للتکلیف، أنّ لا یتأخّر عن العلم التفصیلی. هذا شرط أساسی فی محل الکلام وفی کل انحلالٍ حکمیٍ.

ص: 110

هذا الشرط الذی لا إشکال فی الانحلال الحکمی معه، قد یثار علیه إشکال، وحاصله: أنّ الغرض الأساسی من بحث انحلال العلم الإجمالی بالإمارات والأصول المثبتة للتکلیف فی بعض الأطراف بعینه، الغرض الأساسی هو الرد علی علمائنا الأخباریین إلی وجوب الاحتیاط فی الشبهات باعتبار وجود علمٍ إجمالی بثبوت جملةٍ من التکالیف فی الشریعة المقدّسة، یوجد علم إجمالی بثبوت تکالیفٍ إلزامیةٍ فی الشریعة المقدّسة، قالوا أنّ مقتضی هذا العلم الإجمالی هو وجوب الاحتیاط فی کل شیءٍ إلی أن یدلّ دلیل علی عدم وجوب الاحتیاط، لکن مقتضی العلم الإجمالی، کما هو الحال فی کلّ علمٍ إجمالی، أنّه ینجّز وجوب الاحتیاط وینجّز وجوب الموافقة القطعیة، فلابدّ من الاحتیاط، فکل شبهةٍ تعرض لک ولا تجد علیها دلیلاً یجب علیک الاحتیاط، فی الشبهات الوجوبیة بأن تأتی بها، وفی التحریمیة بأن تترکها، ودلیلهم علی ذلک هو العلم الإجمالی بوجود تکالیفٍ إلزامیةٍ فی الشریعة المقدّسة، وکل شبهةٍ آخذها هی طرف من أطراف هذا العلم الإجمالی، فیجب فیه الاحتیاط، لاحتمال أن یکون التکلیف المعلوم بالإجمال موجوداً فی هذه الشبهة، فیُحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علی هذه الشبهة، فیجب فیها الاحتیاط؛ لأنّها طرف من أطراف العلم الإجمالی بالنتیجة.

وقع الکلام فی مقام الردّ علیهم، أنّ هذا العلم الإجمالی هل هو منحل، أو غیر منحل ؟ فذُکر هذا الکلام للرد علی هذه الشبهة، فقالوا: أنّ هذا العلم الإجمالی بوجود تکالیفٍ إلزامیةٍ فی الشریعة المقدّسة ینحلّ بعد الفحص والعثور علی جملة من الإمارات تثبت تکالیفاً فی بعض الشبهات المُعیّنة، فینحلّ العلم الإجمالی بالإمارات، وهذا هو محل کلامنا، یوجد علم إجمالی بأنّه إمّا هذا نجس، أو هذا نجس، قامت إمارة علی أنّ هذا الطرف نجس، فینحلّ العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً بهذه الإمارة، فی هذا العلم الإجمالی الذی إدّعاه الأخباریون أُجیب عنه بأنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ بعد قیام الإمارات المعتبرة علی إثبات جملةٍ من التکالیف فی جملةٍ من الشبهات لا تقلّ عن عدد المعلوم بالإجمال _____________ وهذا الشرط الآخر للسید سیأتی الحدیث فیه ___________ فینحلّ العلم الإجمالی، فلا یجب الاحتیاط فی ما عدا ما قامت علیه الإمارات المعتبرة من تکالیف؛ لأنّ العلم الإجمالی أنحلّ انحلالاً حکمیّاً، فلا مانع من إجراء الأصل المؤمّن فی الشبهات الأخری غیر مورد الإمارات المعتبرة؛ لانحلال العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً، فإذا وردت إلینا شبهة لیس فیها إمارة معتبرة تثبت التکلیف فیها، لا مانع من الرجوع إلی اصالة البراءة، لانحلال العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً، هکذا أجابوا.

ص: 111

الإشکال یقول: أنّ هذا الجواب غیر صحیحٍ؛ لأنّکم تشترطون فی انحلال العلم الإجمالی أن لا تتأخّر الإمارة زماناً عن العلم الإجمالی، هذا الذی یثبت التکلیف فی بعض الأطراف بعینه یجب أن لا یتأخّر عن العلم الإجمالی زماناً، وإلاّ إذا تأخّر عن العلم الإجمالی زماناً، فلا انحلال حکمی حینئذٍ بالبیان السابق الذی تقدّم؛ لأنّ مورد الإمارة قبل قیام الإمارة لا منجّز له، فیکون مورداً للأصل المؤمّن، ویُعارَض بالأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، فلا انحلال حکمی.

إذن: شرط الانحلال الحکمی أن لا یتأخّر زمان العلم التفصیلی فی موارد العلم التفصیلی، زمان الإمارة، أو الأصل المثبت للتکلیف، لا یتأخّر عن زمان العلم الإجمالی. هذا الشرط غیر متحقق فی فرض الأخباریین؛ لأنّ الإمارة تحصل عند المکلّف بعد الفحص، تدریجیاً تحصل له الإمارات المعتبرة الدالة علی ثبوت التکلیف فی جملةٍ من الشبهات، یعنی تحصل بعد زمان العلم الإجمالی، کلّ مکلّف عندما یبلغ یحصل عنده علم إجمالی بثبوت تکالیفٍ إلزامیةٍ فی الشریعة المقدّسة، بلا إشکال، لکن تقوم عنده الإمارات فی زمانٍ متأخّرٍ، فهو یفحص وحینئذٍ یعثر علی جملةٍ من الإمارات تثبت تکالیفاً فی شبهاتٍ معیّنةٍ، فمعناه أنّ زمان الإمارة متأخّر عن زمان العلم الإجمالی، والمفروض أنّ هذا لا یحقق الانحلال الحکمی؛ لأنّ شرط الانحلال الحکمی عدم تأخّر زمان قیام الإمارة عن زمان العلم الإجمالی، وهنا تأخّر، فلا انحلال، فیبقی العلم الإجمالی علی حاله یُنجّز ویمنع من الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی سائر الشبهات؛ حینئذٍ لا یتحقق الغرض من هذا البحث؛ لأنّ الغرض من هذا البحث هو ردّ شبهة الأخباریین والجواب عن هذا الإشکال، بینما إذا اشترطنا فی الانحلال عدم التأخّر، هذا سوف لن یکون جواباً عن الإشکال.

ص: 112

من هنا تصدّی جملة من المحققین، وذکر هذا السید الخوئی(قدّس سرّه) فی تقریراته، (1) إلی الجواب عن هذا الإشکال، وحاصل ما ذکروه هو: أنّ تنجیز الإمارة لمؤدّاها غیر منوطٍ وغیر مرتبط بالوصول، کون الإمارة منجّزة لمؤدّاها، هذا الشیء یتحقق قبل وصولها إلی المکلّف، یکفی فی منجّزیة الإمارة لمتعلّقها کونها فی معرض الوصول إلی المکلّف بحیث لو فحص المکلّف عنها لوجدها، ولو لم تصل إلیه، ما دام هی فی معرض الوصول، ما دام الإمارة لو فحص عنها المکلّف لوصل إلیها هی تکون منجّزة لمؤدّاها، ویثبت لها التنجیز. إذا آمنا بهذه الفکرة؛ حینئذٍ، قالوا فی مقام الجواب بأنّه لیکن قیام الإمارة عند المکلّف متأخّراً عن زمان العلم الإجمالی، لکن الإمارة بوجودها الواقعی ولیس بوجودها الواصل، الإمارة بوجودها الواقعی هی منجّزة لمؤدّاها بشرط أن تکون فی معرض الوصول، بشرط أن تکون لو فحص عنها المکلّف لوصل إلیها، فهی بوجودها الواقعی تکون منجّزة.

إذن: المنجّز للتکلیف لیس هو الإمارة بوجودها الواصل حتّی یقال أنّ الإمارة بوجودها الواصل متأخّر عن زمان العلم الإجمالی، فلا یتحقق شرط الانحلال الحکمی، وإنّما المنجّز هو الإمارة بوجودها الواقعی، إذا کانت فی معرض الوصول، وهذا المنجّز معاصر لزمان العلم الإجمالی، المکلّف الذی یعیش فی هذه الأزمنة، أو فی الأزمنة الأخری عندما یعلم إجمالاً بوجود تکالیف فی الشریعة ویحتمل وجود إمارات تدلّ علی جملةٍ من هذه التکالیف، وهذه الإمارات لو فحص عنها لعثر علیها. إذن: الإمارات المثبتة للتکلیف هی فی معرض الوصول، فتکون مقارنة للعلم الإجمالی، وبذلک یتحقق شرط الانحلال الحکمی. دفعوا الإشکال بهذا الشکل.

ص: 113


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص286.

من الواضح أنّ هذا الجواب عن الإشکال الذی ذکروه یتوقف علی الإیمان بالفکرة التی طرحوها، وهی أنّ منجّزیة الإمارة لمؤدّاها لا تتوقف علی وصول الإمارة، غیر منوطة، أو مشروطة بالوصول؛ بل الإمارة بوجودها الواقعی تکون منجّزة لمؤدّاها إذا کانت فی معرض الوصول، وإن لم تصل فعلاً. وأمّا إذا أنکرنا هذا کما أنکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وقال أنّ التنجیز فی الإمارة منوط بالوصول الفعلی، قبل ذلک لا تکون الإمارة منجّزة بشیء، إذا آمنا بما یقوله صاحب الکفایة(قدّس سرّه) حینئذٍ لا یتم هذا الجواب.

من جهةٍ أخری أنّ هذا الجواب، الظاهر أنّه لا یتم فی موارد العلم التفصیلی؛ لأنّه فی بعض الأحیان قد نفترض أنّ المکلّف یعلم ببعض الأحکام الشرعیة علماً تفصیلیاً، ولیس باعتبار قیام الإمارة، وإنّما یحصل عنده علم وجدانی ببعض التکالیف الإلزامیة، مثل وجوب الصلاة ووجوب الحج، أمور ثابتة بالعلم الوجدانی التفصیلی، هذا الجواب لا یتم فی ما لو کان المثبت للتکلیف فی بعض الشبهات علماً تفصیلیاً؛ لأنّه العلم التفصیلی لا یردفیه هذا الحدیث، المنجّز لهذا الطرف الذی قام علیه العلم التفصیلی هو العلم التفصیلی، قبل ذلک لیس هناک منجّز له، ولیس مثل الإمارة، الإمارة موجودة فی معرض الوصول، قد یقال أنّ کون الإمارة فی معرض الوصول تنجّز هذا الطرف، وإن لم تصل إلی المکلّف، العلم التفصیلی لیس هکذا، إذا وجد العلم التفصیلی فأنّه ینجّز معلومه، وإذا لم یوجد العلم فلا منجّز لهذا المعلوم، ولیس هناک شیء قبل العلم التفصیلی حتّی نشیر إلیه ونقول أنّ هذا الشیء هو الذی ینجّز المعلوم، بعکس الإمارة، فهذا الکلام قد یتم فی الإمارة، لکّنه لا یتم فی جمیع الموارد، لا یتمّ فی العلم التفصیلی إذا کان المثبت للتکلیف فی بعض الشبهات هو العلم التفصیلی، ومن هنا قد یکون ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) هو الجواب الأصح فی المقام عن الإشکال، وحاصل هذا الجواب هو أن نقول: أنّ هذا الإشکال اساساً لا موضوع له بناءً علی ما هو الصحیح فی تفسیر الأحکام الظاهریة. نعم، هذا الإشکال یتوجّه بناءً علی التفسیر الآخر للأحکام الظاهریة. (1)

ص: 114


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج3، ص385.

توضیح المطلب: تارة تُفسّر الأحکام الظاهریة علی أنّها أحکام ناشئة من ملاکٍ فی نفس جعلها وإنشائها، لا فی المتعلّق، وهناک مبنی یلتزم بهذا، ویترتّب علی هذا الرأی عدم وجود تضاد بین حکمین ظاهریین، ولا یوجد تنافٍ بین حکمین ظاهرین؛ لأنّ ملاک هذا الحکم قائم فی نفس جعله، وملاک ذاک الحکم قائم فی نفس جعله، والجعل متعدد، وأیّ ضیرٍ فی أن یکون ملاک هذا الحکم فی هذا الجعل، وملاک ذاک الحکم فی ذاک الجعل ؟ لا مشکلة فی هذا، الملاک لیس فی المتعلّق، لا مانع من أن یکون شیء واحد محکوماً علیه بالاحتیاط کحکم ظاهری، ومحکوماً علیه بالبراءة، لیس هناک تضاد، لو کان ملاک البراءة موجوداً فی متعلّقه، فی الفعل، وملاک الاحتیاط فی الفعل یلزم التضاد؛ لأنّ الفعل الواحد لا یمکن أن یکون فیه ملاک الاحتیاط وملاک البراءة، لکن علی هذا المبنی یقول أنّ ملاک الحکم الظاهری قائم فی نفس جعله وإنشائه لا فی المتعلّق، جعل هذا الحکم غیر جعل هذا الحکم، فملاک الاحتیاط قائم فی جعل هذا، وملاک البراءة قائم فی جعل البراءة، والجعل متعدد، فلا منافاة ولا تضاد بین الحکمین الظاهریین.

الرأی الآخر هو الذی تقدّم ذکره سابقاً، والذی یلتزم به السید الشهید(قدّس سرّه)، أنّ الأحکام الظاهریة هی عبارة عن إبراز الاهتمام بالأحکام الواقعیة، أو إبراز عدم الاهتمام بالأحکام الواقعیة، الاحتیاط یعنی إبراز الاهتمام بالأحکام الواقعیة الإلزامیة، والبراءة یعنی إبراز عدم الاهتمام بالأحکام الواقعیة الإلزامیة عندما یحصل اختلاط فی ما بینها فی مقام الحفظ، فالشارع یجعل البراءة؛ لأنّه لا یهتم بالأحکام الالزامیة الواقعیة، فحتّی لو فاتت الأحکام الواقعیة الالزامیة، مصلحة إطلاق العنان عنده أهم، إذا جعل الاحتیاط معناه أنّه یهتم بملاکات الأحکام الواقعیة المتزاحمة تزاحماً حفظیاً، فیُلزمه بالاحتیاط، وإن فاتته مصلحة إطلاق العنان، فالأحکام الظاهریة هی عبارة عن إبراز الاهتمام بالأحکام الواقعیة وملاکاتها، أو إبراز عدم الاهتمام بها. یترتب علی هذا الرأی أنّ الأحکام الظاهریة متضادّة بأنفسها کما هو الحال فی الأحکام الواقعیة، فکما أنّ الأحکام الواقعیة متضادّة، ولا یمکن أن یکون الشیء الواحد واجباً وحراماً فی آنٍ واحدٍ، الأحکام الظاهریة أیضاً متضادّة؛ لأنّ هذا الحکم یُعبّر عن شدّة اهتمام المولی بالإحکام الواقعیة الإلزامیة، بینما البراءة یُعبّر عن عدم اهتمامه بملاکات الأحکام الالزامیة الواقعیة، فلا یمکن الجمع بینهما؛ لأنّهما متضادان، أو متناقضان، لا یمکن أن یکون بلحاظ الشیء الواحد الشارع یهتمّ به اهتماماً شدیداً، وفی نفس الوقت لا یهتم، فلا یجتمع(یهتم)، و(لا یهتم)، یُبرز اهتمامه، ویبرز عدم اهتمامه لا یمکن الجمع بینهما، ومن هنا یحصل التضاد بین الأحکام الظاهریة فی أنفسها، بقطع النظر عن عالم المحرّکیة؛ لأنّه علی الرأی الأوّل، القول بعدم وجود تضاد بین الأحکام الظاهریة فی حدّ أنفسها، لکن هذا لا یمنع أن نقول بینها تضاد فی عالم المحرّکیة، حتّی علی الرأی الأوّل، بالنتیجة الاحتیاط یمنع المکلّف من الإقدام فی عالم المحرّکیة، والبراءة تطلق له العنان، وهذان متنافیان، لکن کلامنا لیس فی عالم المحرّکیة، الأحکام الظاهریة بلا إشکال بعد وصولها تکون متضادّة ومتنافیة، کلامنا بلحاظ أنفسها، هذا حکم ظاهری بالاحتیاط، وهذا براءة، هل بینهما تنافٍ، أو لا ؟ علی الرأی الأوّل لیس بینها تنافٍ، وعلی الرأی الثانی یثبت التنافی فی ما بینها.

ص: 115

إذا أصبحت هذه المقدّمة واضحة؛ حینئذٍ نأتی إلی الجواب، یقال فی مقام الجواب: عندما یکون هناک تضاد واقعی حقیقی بین الأحکام الظاهریة؛ حینئذٍ بقیام الإمارة المثبتة للتکلیف فی بعض الشبهات، نستکشف عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر؛ لأنّهما متضادان، والدلیل الذی یدلّ علی أحد المتضادّین نکشف منه عدم ثبوت الآخر من البدایة، لیس عدم ثبوت البراءة من الآن، وإنّما عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر، إذا کانت هناک إمارة مثبتة للتکلیف، وهذه الإمارة حجّة ومعتبرة تمثل حکماً ظاهریاً اعتبارها، وهی إمارة أیضاً، هذا یکشف عن عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر، وإذا کشف عن عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر لا مانع من إجراء البراءة فی الطرف الآخر بلا معارضٍ، فینحلّ العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً، بخلاف ما إذا قلنا بالمبنی الأوّل؛ لأنّه لا یوجد تضاد بینهما، فقیام الإمارة علی إثبات التکلیف، وکون الإمارة حجّة لا یکشف إطلاقاً عن عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر، فتثبت البراءة فی مورد قیام الإمارة، وتُعارض هذه البراءة بالبراءة فی الطرف الآخر، وبهذا لا ینحل العلم الإجمالی حکماً، فتثبت الشبهة، فجواب الشبهة مبنی علی هذا.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع: الأصول العملیّة /تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، وشرائط هذا الانحلال. ذکرنا الشرط الأوّل وهو شرطٌ فی کل انحلالٍ حکمیٍ، وهو عدم تأخّر المنجّز للتکلیف فی بعض الأطراف عن العلم الإجمالی، أنّ المنجّز للتکلیف فی بعض الأطراف بعینه لابدّ أن لا یکون متأخّراً زماناً عن العلم الإجمالی، سواء کان هذا المنجّز علماً تفصیلیاً کما تقدّم، أو إمارةً، أو اصلاً منجّزاً للتکلیف. وأمّا إذا کان متأخّراً عن زمان العلم الإجمالی هنا لا یوجد انحلالٌ حکمی. وقلنا أنّه علی ضوء هذا الشرط قد تُثار مشکلة بالنسبة إلی دعوی الأخباریین أنّه یجب الاحتیاط فی الشبهات اعتماداً علی العلم الإجمالی بوجود تکالیف إلزامیة فی الشریعة المقدّسة.

ص: 116

وجواب الجماعة عن هذا الکلام بأنّ هذا العلم الإجمالی وإن کان موجوداً، لکنّه منحلٌ انحلالاً حکمیاً بقیام الإمارات علی ثبوت التکلیف فی بعض تلک الشبهات، فینحل انحلالاً حکمیاً. الإشکال یقول: شرط الانحلال الحکمی هو تعاصر زمانی الإمارة المثبتة للتکلیف فی بعض الشبهات المعیّنة وزمان العلم الإجمالی، والحال أنّ الإمارات المثبتة للتکلیف فی بعض الشبهات المعینّة تحصل بالتدریج بعد الفحص، فزمانها لیس هو زمان العلم الإجمالی؛ بل هی متأخّرة زماناً عن العلم الإجمالی، فلا یتحقق شرط الانحلال الحکمی، فلا یصحّ هذا الجواب عن ما ذکره الأخباریون.

أجابوا عن ذلک بجوابٍ تقدم سابقاً، وتقدّم سابقاً أنّ فیه بعض الملاحظات، وانتهی الکلام إلی الجواب الثانی، وکان حاصله، هو أن یقال: أنّ الإشکال اساساً غیر واردٍ، وذلک لأنّه إنّما یرد هذا الإشکال ونحتاج إلی جوابه بناءً علی عدم وجود تنافٍ وتضادٍ واقعیٍ بین الأحکام الظاهریة، وإنّما یکون التنافی بینها بعد فرض الوصول بلحاظ عالم المحرکیة؛ حینئذٍ یقع التنافی بین البراءة من جهة __________ مثلاً ___________ والاحتیاط من جهةٍ أخری، بعد فرض الوصول یتنافیان؛ لأنّه لا یُعقل بلحاظ المحرکیة أن یکون فی الشیء براءة، وأن یکون فیه احتیاط؛ لأنّ الاحتیاط یحرّک نحو الفعل، أو الترک، بینما البراءة لا تحرّک؛ بل تطلق العنان، فیتنافیان بعد فرض الوصول وبلحاظ عالم المحرّکیة. أمّا بقطع النظر عن ذلک لا یوجد بینهما تنافٍ واقعی؛ لأنّ ملاک الحکم الظاهری قائم فی نفس إنشائه وجعله، وحیث أنّ جعل الاحتیاط غیر جعل البراءة، الجعل متعددّ؛ وحینئذٍ لا یوجد تنافٍ بین البراءة والاحتیاط بلحاظ الملاک والمبادئ؛ لأنّ ملاک البراءة قائمٌ فی نفس جعلها وملاک الاحتیاط قائمٌ فی نفس جعله، فلم یجتمعا فی موضوعٍ واحدٍ حتّی یحصل بینهما التنافی؛ حینئذٍ یکون لهذا الإشکال صورة؛ لأنّه یقال بأنّه بقیام الإمارة علی ثبوت التکلیف فی بعض الأطراف المعیّن، علی ثبوت المنجّز فی هذا الطرف وذاک، هذه الإمارة لا تستطیع أن تکشف عن عدم جریان البراءة فی موردها من بدایة الأمر؛ لأنّه لا یوجد بینهما تضاد حقیقی حتّی یکون الدلیل الدال علی أحد المتضادّین کاشفاً ودالاً علی عدم ثبوت الآخر واقعاً، هذا شأن الأمور المتضادة حقیقةً وواقعاً، الدلیل الدال علی أحد الضدّین یکشف عن عدم الآخر واقعاً وفی نفس الأمر، بینما علی هذا الرأی لا یوجد تضاد بین البراءة وبین الاحتیاط، بین البراءة وبین التنجیز الظاهری، باعتبار قیام الإمارة؛ لأنّ التنجیز الظاهری بقیام الإمارة لا یکشف عن ثبوت البراءة من أوّل الأمر.

ص: 117

إذن: لا مانع من جریان البراءة فی هذا الطرف قبل قیام الإمارة، فإذا جرت فیه البراءة تُعارَض بالبراءة فی الطرف الآخر، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی وعدم الانحلال، فلا یصحّ جوابکم عن شبهة الأخباریین.

وأمّا بناءً علی الرأی الآخر الذی یقول أنّ الأحکام الظاهریة کالأحکام الواقعیة متضادّة فیما بینها تضادّاً واقعیاً حقیقیاً، الاحتیاط کحکمٍ ظاهری هو مضاد للبراءة کحکمٍ ظاهری، فهما متضادان واقعاً وحقیقةً؛ لأنّ أحدهما یکشف عن شدّة اهتمام المولی بالأحکام الإلزامیة الواقعیة، بینما الآخر یکشف عن عدم اهتمامه بالأحکام الإلزامیة الواقعیة. هذان الأمران لا یمکن أن یجتمعا، إبراز الاهتمام وإبراز عدم الاهتمام لا یمکن أن یجتمعا، فهما متضادّان واقعاً، فإذا کانا متضادّین واقعاً وفی نفس الأمر، فالدلیل الدال علی أحدهما یکشف عن عدم الآخر من أول الأمر، فبقیام الإمارة علی تنجیز التکلیف فی بعض الشبهات المعیّنة یکشف عن أنّ هذه الشبهات التی قامت فیها الإمارة لا تثبت فیها البراءة من أوّل الأمر؛ لأنّه بقیام الإمارة فی هذه الشبهات تکشف عن اهتمام المولی بالأحکام الالزامیة المحتملة فی هذه الشبهات؛ ولذا لم یجعل البراءة، وإنّما أمر بسلوک طریق الإمارة، جَعَل الحجّیة للإمارة، وجَعْل الإمارة منجّزةً للتکلیف یکشف عن اهتمامه بالأحکام الإلزامیة المحتملة، فإذا کشف عن اهتمامه بالأحکام الإلزامیة فی هذه الموارد، فهذا یعنی أنّه لیس هناک براءة من أوّل الأمر؛ لأنّ البراءة فی هذه الموارد تعنی عدم اهتمامه بالأحکام الإلزامیة فی تلک الموارد، فالدلیل الدال علی الاهتمام بالأحکام الإلزامیة فی تلک الموارد لا إشکال فی أنّه یکشف عن عدم ثبوت البراءة من أوّل الأمر. إذن: هذه الموارد لا تجری فیها البراءة من أوّل الأمر، فتجری البراءة فی الطرف الآخر، أو الأطراف الأخری بلا معارض، فیتحقق الانحلال الحکمی ویتمّ الجواب عن شبهة الأخباریین، فیقال لهم: وإنّ کنّا نعلم علماً إجمالیاً بوجود تکالیف إلزامیة فی ضمن الشبهات فی الشریعة المقدّسة، لکن هذا العلم الإجمالی منحلٌ انحلالاً حکمیاً بعد قیام الإمارات علی إثبات إحکامٍ إلزامیة فی جملةٍ من الشبهات بالشروط الآتیة الأخری . افترض أنّ قیام الإمارة متأخّر، لکنّه _________ بناءً علی هذا الکلام __________ یکشف عن عدم ثبوت البراءة والأصل المؤمّن فی موارد قیام الإمارات من أوّل الأمر، من البدایة البراءة لا تجری فی هذه الموارد؛ لأنّ الحجّیة الثابتة للإمارة فی هذه الموارد تکشف عن اهتمام المولی بالأحکام الإلزامیة المحتملة فی تلک الموارد، وهذا لا یمکن أن یجتمع مع عدم اهتمامه بالأحکام الإلزامیة فی نفس تلک الموارد، فیکون کاشفاً عن عدم جریان البراءة من أوّل الأمر، وإذا لم تجرِ البراءة فی هذه الموارد من أوّل الأمر، جرت البراءة فی الموارد الأخری بلا معارض، وانحلّ العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً. هذا بالنسبة إلی الشرط الأوّل فی الانحلال، وهو أن یکون المنجّز للتکلیف معاصراً للعلم الإجمالی،

ص: 118

قد یقال: فی هذا المورد لیس هناک معاصرة، وبالنتیجة لم یتوفر هذا الشرط؛ لأنّ الإمارة بالنتیجة متأخّرة زماناً عن العلم الإجمالی بحسب الفرض.

نقول: لا مشکلة، لم یکن معاصراً، لکن بالنتیجة قیام الإمارة یکشف __________ بناءً علی هذا المبنی __________ عن عدم جریان البراءة فی المورد الذی قامت فیه الإمارة من أوّل الأمر، وهذا یکفی لإثبات الانحلال. المهم أنّ الموارد التی قامت فیها الإمارة لا تجری فیها البراءة من أوّل الأمر لا من حین قیام الإمارة، وهذه هی نکتة البحث. لماذا لا یوجد انحلال إذا تأخّرت الإمارة، أو العلم التفصیلی ؟ لأنّه بلحاظ فترة ما قبل قیام العلم التفصیلی، أو الإمارة، تجری البراءة فی هذا الطرف، وتُعارَض بالبراءة فی الطرف الآخر، فیتنجّز العلم الإجمالی ولا انحلال. هذه هی المشکلة، المشکلة تنشأ من جریان البراءة فی هذا المورد الذی قام فیه العلم التفصیلی قبل قیام العلم التفصیلی؛ لأنّ هذا المورد تنجّز بالعلم التفصیلی، فقبل قیام العلم التفصیلی لیس له منجّز، فإذا لم یکن له منجّز تجری فیه البراءة، وإذا جرت فیه البراءة تُعارَض بالبراءة فی الطرف الآخر، فیتنجّز العلم الإجمالی، ولا یوجد انحلال حکمی. فإذا استطعنا أن نثبت أنّ هذا المورد الذی قامت فیه الإمارة هو من أوّل الأمر لا تجری فیه البراءة، أصلاً لیس مورداً للبراءة، انحلّ العلم الإجمالی؛ لأنّ البراءة تجری فی الطرف الآخر بلا معارض. المهم هو إثبات أنّ مورد الإمارة لیس مورداً للبراءة، وهذا یمکن إثباته بنحوین:

النحو الأوّل: هو الشرط السابق، الذی هو أن یکون قیام الإمارة معاصراً زماناً للعلم الإجمالی، فیمنع من جریان البراءة فی هذا المورد من البدایة، فتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارض.

ص: 119

النحو الثانی: أن نفترض أنّ الإمارة متأخّرة زماناً عن العلم الإجمالی، لکنّها تکشف عن أنّ موردها لیس مورداً للبراءة من أوّل الأمر، بناءً علی التضادّ الواقعی والحقیقی بین الأحکام الظاهریة، وهذا أیضاً یحقق الانحلال؛ لأنّ هذا المورد من بدایة الأمر لیس مورداً للبراءة، فتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارض، ویتحقق الانحلال الحکمی.

الشرط الثانی: أن لا یقل ما تنجّز بالإمارة عن المعلوم بالإجمال، أی أن لا یکون ما تنجّزه الإمارة، أو الأصل أقل من المعلوم بالإجمال. وأمّا إذا کان ما تنجّزه الإمارة أقل من المعلوم بالإجمال؛ فحینئذٍ لا یکون هناک انحلال حکمی؛ لأنّ ما ینجّزه العلم الإجمالی ___________ فرضاً ___________ هو عشرة، وما تنجّزه الإمارة أثنان، هذا المقدار الزائد علی ما تنجّزه الإمارة یکون العلم الإجمالی منجّزاً بلحاظه، وتتعارض فیه الأصول العملیة؛ لأنّ المقدار الزائد لا مانع من أن تجری فیه البراءة، وتُعارض بالبراءة فی الأطراف الأخری، إنّما ینحل العلم الإجمالی إذا کان ما تنجّزه الإمارة بمقدار أقل من المعلوم بالإجمال. أنا أعلم بنجاسة إناء من بین عشرة آنیة، وما قامت علیه الإمارة نجاسة إناءٍ واحدٍ معیّن، فی هذه الحالة ینحلّ العلم الإجمالی؛ لأنّ هذا الإناء المعیّن لا تجری فیه البراءة، لا یجری فیه الأصل المؤمّن بعد فرض قیام الإمارة علی ثبوت التکلیف فیه، فتجری البراءة فی الأطراف الأخری بلا معارضٍ، فینحل العلم الإجمالی. أمّا إذا کان ما أعلمه إجمالاً هو نجاسة إناءین من عشرة وما قامت علیه الإمارة هو نجاسة إناء واحدٍ معیّن، بلحاظ الزائد عن هذا الواحد یکون العلم الإجمالی منجّزاً، والأصول تکون متعارضة بلحاظه، فیتنجّز العلم الإجمالی ولا یثبت الانحلال الحکمی.

ص: 120

الشرط الثالث: أن لا تثبت الإمارة، أو الأصل المنجّز للتکلیف، تکلیفاً مغایراً للتکلیف المعلوم بالإجمال ___________ مثلاً ___________ إذا فرضنا أنّه یعلم إجمالاً بحرمة الشرب من أحد الإناءین من جهة نجاسته، وقامت الإمارة علی حرمة الشرب من أحدهما المعین من جهة غصبیته، فی هذه الحالة أیضاً لا یکون العلم الإجمالی منحلاً انحلالاً حکمیاً؛ لأنّ ما تنجّزه الإمارة غیر ما ینجّزه العلم الإجمالی. ما تنجّزه الإمارة هو حرمة من جهة الغصبیة، بینما ما ینجّزه العلم الإجمالی هو التکلیف من جهة النجاسة، وفی هذه الحالة لا یوجد انحلال حکمی؛ لأنّ غیر ما تنجّزه الإمارة تکون الأصول بلحاظه متعارضة، الإمارة فی هذا الطرف المعیّن تنجّز حرمة من جهة الغصبیة، لکنّها لا تنجّز حرمة من جهة النجاسة. العلم الإجمالی ینجّز حرمة من جهة النجاسة، والأصول بلحاظ هذه الحرمة من جهة النجاسة متعارضة، یعنی أنّ أصالة البراءة فی الطرف الآخر معارَضة بأصالة البراءة فی هذا الطرف الذی قامت الإمارة علی أنّه بعینه حرام، لکن من جهة الغصبیة، هذا لا مانع منه، وإن کان هذا الطرف المعیّن هو حرام علی کلّ حال؛ لأنّه قامت الإمارة علی حرمته من جهة الغصبیة، أو من جهة النجاسة، بالنتیجة هو حرام علی کل حال.

قد یُستشکل ویقال: کیف تجری فیه البراءة حتّی تُعارَض بالبراءة فی الطرف الآخر، وبالتالی یتنجّز العلم الإجمالی ولا یثبت الانحلال الحکمی ؟

الجواب هو: لا مشکلة، هذه الحرمة من جهة النجاسة لا تنجّزها الإمارة، فتکون الأصول متعارضة بلحاظ الحرمة من جهة النجاسة.

وبعبارةٍ أخری: إنّ البراءة تجری فی هذا الطرف المعیّن الذی قامت الإمارة علی حرمته، لنفی العقاب الزائد؛ لأنّ هذا حرام من جهة الغصبیة، ونشکّ فی أنّه هل هو حرام من جهة النجاسة، أو لا ؟ فکأنّ الذی یرتکبه، علی تقدیر أن یکون حراماً من جهة النجاسة، کأنّه یرتکب حرامین، ویخالف حرمتین، حرمة من جهة الغصبیة، وحرمة من جهة النجاسة. نحن نرید أن نؤمّن بإجراء البراءة فی هذا الطرف الذی نعلم بحرمته __________ نعلم باعتبار الإمارة _________ نرید أن نؤمّن من ناحیة العقاب الزائد علی الحرمة من جهة النجاسة، فتجری فیه البراءة وتُعارض بالبراءة فی الطرف الآخر، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی وعدم الانحلال، یتحقق الانحلال إذا کان المنجّز بالإمارة لیس تکلیفاً غیر التکلیف الثابت بالعلم الإجمالی.

ص: 121

هذه هی الشروط المعتبرة فی الانحلال الحکمی، إذا تمّت هذه الشروط تحقق الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی بالإمارة، أو الأصل المنجّز للتکلیف. لکن تبقی مسألة أنّ هذا الانحلال الحکمی بالشرائط السابقة، فی ما لو توفّرت الشرائط السابقة، هذا الانحلال الحکمی لا إشکال فی أنّه ثابت بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة، بمعنی أنّ مثل هذا العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، وهذا معناه بحسب النتیجة أنّه یجوز للمکلّف أن یرتکب الطرف الآخر، وتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارضٍ، فیجوز أن یرتکب الطرف الآخر استناداً إلی البراءة الجاریة فی الطرف الآخر بلا معارضٍ، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعیة، فیجوز له ارتکاب الطرف الآخر. جواز ارتکاب الطرف الآخر لا إشکال أنّه ثابت لو اجتنب الطرف الذی قامت الإمارة علی ثبوت التکلیف فیه _________ ولنسمّه الطرف الأوّل _________، لکن هل جواز ارتکاب الطرف الآخر ثابت حتّی مع ارتکاب الطرف الأوّل ؟ هذا البحث یعتمد علی أنّ انحلال العلم الإجمالی بالشرائط السابقة، هل هو فقط بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، أو هو کما یثبت بلحاظ الموافقة القطعیة یثبت أیضاً بلحاظ المخالفة القطعیة ؟ لا بمعنی أننا نجوّز للمکلّف أن یرتکب الطرفین، وإنّما بمعنی أن نقول للمکلّف: یجوز لک ارتکاب الطرف الآخر مطلقاً، یعنی سواءً اجتنبت الطرف الأوّل وعملت بالإمارة الحجّة المعتبرة، أو ارتکبت الطرف الأوّل ولم تجتنبه، حتّی إذا ارتکبت الطرف الأوّل یجوز لک ارتکاب الطرف الثانی. أن الانحلال هل هو بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة فقط، أو أنّ الانحلال الحکمی یثبت مطلقاً بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة وبلحاظ حرمة المخالفة القطعیة ؟

ص: 122

بعبارةٍ أخری: بعد الانحلال الحکمی المفروض فی محل کلامنا یجوز ارتکاب الطرف الآخر، بلا إشکال، لکن الکلام فی أنّه هل یجوز ارتکابه مع ارتکاب الطرف الأوّل، أو أنّ جواز ارتکابه مقیّد باجتناب الطرف الأوّل ؟

هذا السؤال فی الحقیقة یرتبط بالدلیل الدال علی جواز ارتکاب الطرف الآخر. ما هو الدلیل الذی نستند إلیه لتجویز ارتکاب الطرف الآخر ؟ لابدّ من ملاحظة هذا الدلیل، هل یدلّ علی جواز ارتکاب الطرف الآخر مقیّداً باجتناب الطرف الأوّل، أو یدلّ علی جواز ارتکابه مطلقاً، سواء ارتکب الطرف الأوّل، أو اجتنبه ؟ إذا کان یدلّ علیه مقیّداً باجتناب الطرف الأوّل، هذا معناه أنّه إذا ارتکب الطرف الأوّل لا یوجد جواز بالنسبة إلی الطرف الآخر؛ لأنّ الدلیل الدال علی جواز ارتکاب الطرف الآخر مقیّد باجتناب الطرف الأوّل، فلو ارتکب الطرف الأوّل، الدلیل لا یدلّ علی جواز ارتکاب الطرف الآخر.

وبعبارةٍ أخری: إذا ارتکبهما معاً، مخالفته وعصیانه یکون أشد ممّا إذا ارتکب الطرف الأوّل بخصوصه، إذا ارتکب الطرف الأوّل بخصوصه هو خالف المولی؛ لأنّ الإمارة حجّة معتبرة قامت علی ثبوت التکلیف فیه، فهناک عصیان ومخالفة، لکن إذا ارتکب کلاً منهما تکون المخالفة أشد والعصیان أشد، ویکون القبح أوضح ممّا إذا ارتکب الطرف الأوّل بخصوصه، کلٌ منهما فیه عصیان، وکلٌ منهما فیه مخالفة وتمرّد وقبح، لکن ارتکابهما معاً أشد؛ لأنّ جواز الطرف الآخر ____________ بحسب الفرض ___________ مقیّد بعدم ارتکاب الطرف الأوّل، فإذا ارتکب الطرف الأوّل، فکأنّه لا یوجد جواز فی الطرف الآخر. أو یقال بأنّ الدلیل الدال علی جواز ارتکاب الطرف الآخر مطلق، أی یجوز ارتکاب الطرف الآخر مطلقاً، سواء ارتکبت الطرف الأوّل، أو لم ترتکبه.

ص: 123

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق بأنّ الشروط المتقدّمة للانحلال الحکمی إذا تمّت تحقق الانحلال بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة الذی یعنی جواز ارتکاب الطرف الآخر، لکن جواز ارتکاب الطرف الآخر هل هو جائزٌ مطلقاً، بمعنی أنّه سواء اجتنب الطرف الأوّل، أو لا ؟ ومقصودنا من الطرف الأوّل هو الطرف الذی تنجّز فیه التکلیف، لقیام الإمارة علی ثبوت التکلیف فیه، أو الأصل. هل یجوز ارتکاب الطرف الآخر حتّی إذا ارتکب الطرف الأوّل ؟ أو أنّ جواز ارتکاب الطرف الآخر منوط باجتناب الطرف الأوّل ؟ فإذا قلنا بأنّ جواز ارتکاب الطرف الآخر منوط باجتناب الطرف الأوّل بحیث لا جواز بارتکابه مع ارتکاب الطرف الأوّل، هذا معناه أنّ العلم الإجمالی لیس منحلاً بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة. وأمّا إذا قلنا بأنّ جواز ارتکاب الطرف الآخر ثابت مطلقاً، سواء اجتنب الطرف الأوّل، أو ارتکبه، فإذا ارتکب الطرفین هو لم یعصِ ولم یخالف إلاّ بمقدار مخالفة الطرف الذی تنجّز فیه التکلیف؛ لأنّ ارتکاب الطرف الآخر جائز ____________ بحسب الفرض _____________ مطلقاً، أی حتّی إذا ارتکب الطرف الأوّل، فإذا ارتکبهما هو یعصی بمقدار مخالفة التکلیف المنجّز فی الطرف الأوّل، بینما علی الوجه الأوّل ارتکاب الطرف الآخر منوط باجتناب ارتکاب الطرف الأوّل، فإذا ارتکبهما هو فی الحقیقة یرتکب مخالفة أکثر وأشدّ. والمقصود من عدم الانحلال بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة، أو بعبارة أحری: المقصود من بقاء العلم الإجمالی علی تنجیزه لحرمة المخالفة القطعیة هو أنّ من یرتکب الطرفین یخالف ویعصی أکثر ممّا لو ارتکب الطرف الأوّل الذی تنجّز التکلیف فیه، ومعنی أنّ العلم الإجمالی منحلٌ حتّی بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة، بمعنی أنّ هذا العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة ولا حرمة المخالفة القطعیة بهذا المعنی، فإذا ارتکب الطرفین هو لا یخالف ولا یعصی إلاّ بمقدار مخالفة التکلیف المنجّز فی هذا الطرف، فأیّهما هو الصحیح ؟ هل الانحلال الذی توفرّت شروطه یثبت بلحاظ کلٍ منهما، أو یثبت فقط بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة ؟

ص: 124

الظاهر أنّ هذا یختلف باختلاف الدلیل الذی یُستدَل به علی جواز ارتکاب الطرف الآخر من حیث کونه أصلاً شرعیاً، أو کونه أصلاً عقلیاً، من حیث کونه براءةً شرعیة، أو من حیث کونه براءةً عقلیة، قاعدة قبح العقاب بلا بیان، إذا کان الأصل الذی یُستند إلیه لإثبات جواز ارتکاب الطرف الآخر أصلاً شرعیاً مؤمّناً، حدیث الرفع وأمثاله یجری فی الطرف الآخر بلا معارض، وهو معنی الانحلال الحکمی، هذه القاعدة لیس فیها ما یقتضی تقییدها، جریانها فی الطرف الآخر لیس مقیّداً باجتناب الطرف الأوّل؛ بل هی تثبت التأمین والسعة فی الطرف الآخر مطلقاً بلا معارض، یعنی سواء ارتکب الطرف الأوّل، أو اجتنبه، حتّی إذا ارتکب الطرف الأوّل هی تجوّز له ارتکاب الطرف الآخر، هذا معنی إطلاقها، فإذا ارتکبهما هو لم یخالف إلاّ بمقدار مخالفة التکلیف المنجّز فی الطرف الأوّل. الأصل المؤمّن الشرعی، أی البراءة الشرعیة تجری فی الطرف الآخر مطلقاً، لیس فیه ما یقتضی التقیید، مطلقاً، تحقق موضوعه فی الطرف الآخر، کما هو المفروض، ولیس له معارض _________ بحسب الفرض _________ فیثبت التأمین فی الطرف الآخر مطلقاً حتّی إذا ارتکب الطرف الأوّل.

وأمّا إذا کان الأصل الذی یُستند إلیه لإثبات الجواز فی الطرف الآخر هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان، قاعدة عقلیة، أصل البراءة العقلی، هنا العقل یتدخّل، هنا یمکن أن یقال بأنّ العقل یری أنّ ارتکاب الطرفین أشد حالاً ممّا إذا ارتکب الطرف الأوّل فقط، إذا ارتکب الطرف الأوّل وقع فی مخالفةٍ وعصی وارتکب قبیحاً، لکن العقل یری أنّه إذا ارتکبهما معاً فقد وقع فی مخالفةٍ أشد وفی عصیان أشد، والقبح یکون أکبر ممّا إذا اقتصر علی مخالفة الطرف الأوّل فقط؛ لأنّ العقل یری أنّ مخالفة العلم غیر مخالفة الحجّة، الحجّة فیها احتمال عدم المصادفة للواقع، مخالفة الحجّة غیر العلم، هی أخف بنظر العقل من مخالفة العلم بالتکلیف، هذا عندما یرتکبهما معاً هو قد خالف العلم بثبوت التکلیف فیهما، لکن عندما یخالف الطرف الأوّل فقط هو قد خالف الإمارة والحجّة، ومخالفة الحجّة بنظر العقل أخفّ من مخالفة العلم، یعنی مخالفة العلم أقبح بنظر العقل من مخالفة الحجّة التی یحتمل فیها عدم المصادفة للواقع، بینما فی العلم، العالم لا یحتمل مخالفته للواقع، وعدم مصادفته للواقع؛ ولذا یقول له: أنت الذی لا تحتمل مخالفة العلم للواقع، مخالفتک للعلم أشد من مخالفة الإمارة والحجّة، فیمکن هنا أن یتدخّل العقل ویحکم بالتأمین ویکون حکمه بالتأمین فی الطرف الآخر منوطاً بعدم ارتکاب الطرف الأوّل، أمّا إذا ارتکب الطرف الأوّل العقل لا یضع تأمیناً، یعنی لا یقول له: أنت لم ترتکب مخالفة إلاّ بمقدار مخالفة التکلیف الثابت فی الطرف الأوّل؛ بل یری أنّه قد خالف مخالفةً أشد وعصی عصیاناً أشد، وارتکب قبیحاً أکثر ممّا یرتکبه لو اقتصر علی مخالفة الطرف الأوّل.

ص: 125

إلی هنا یتمّ الکلام عن کبری انحلال العلم الإجمالی، یبقی هناک مطلبٌ یرتبط بما نقلناه عن السید الشهید(قدّس سرّه) إن شاء الله نبیّنه ونلحقه بعد ذلک.

الآن ندخل فی بحثٍ آخر وهو فی بحث اشتراک علمین إجمالیین فی طرفٍ واحدٍ، فی بعض الأحیان نری أنّ هناک طرفاً واحداً یشترک فی علمین إجمالیین، علم بنجاسة أحد إناءین، أحدهما نفترض أنّه أبیض، والآخر أسود، وعلم أیضاً بنجاسة أحد إناءین، أحدهما الإناء الأسود الذی هو الطرف فی العلم الإجمالی الأوّل، أو الإناء الأحمر الذی هو إناء آخر ثالث، فیکون الإناء الأسود طرفاً لعلمین إجمالیین. الکلام فی أنّ اشتراک العلمیین الإجمالیین فی طرفٍ واحدٍ هل یوجب انحلال العلم الإجمالی الثانی، بحیث أنّ العلم الإجمالی الثانی ینحل، ولا ینجّز معلومه، ویظهر الأثر فی الإناء الأحمر الذی هو الطرف الخاص بالعلم الإجمالی الثانی، إذا أنحل العلم الإجمالی الثانی وسقط عن المنجّزیة؛ فحینئذٍ یجوز إجراء الأصل فی الإناء الثالث __________ الأحمر __________ وإذا قلنا أنّ العلم الإجمالی الثانی لا ینحل، ویبقی علی منجّزیته؛ حینئذٍ یکون العلم الإجمالی الثانی منجّزاً، فینجّز کلا طرفیه، ویمنع من إجراء الأصل فی کلٍ من الطرفین .

هنا تارةً یُفترض أنّ العلمین الإجمالیین الّذین یشترکان فی طرفٍ، متقارنان زماناً من ناحیة العلم، وکذا من ناحیة المعلوم، لا یوجد تقدّم وتأخّر بینهما، لا بلحاظ العلم، ولا بلحاظ المعلوم للعلمین، فالعلم الإجمالی الأوّل مقارن زماناً للعلم الإجمالی الثانی، کما أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل مقارن زماناً للمعلوم بالعلم الإجمالی الثانی، کما إذا فرضنا أنّه علِم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین الأبیض أو الأسود، وفی نفس الوقت علم بنجاسة أحد إناءین، إمّا الأسود الذی هو الطرف المشترک، أو الإناء الأحمر، فی نفس زمان المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، یعنی النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی هی فی نفس زمان النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل، فلیس هناک تقدّم وتأخّر بلحاظ العلم، ولا تقدّم وتأخّر بلحاظ المعلوم، ففی العلم الإجمالی الثانی یعلم بنجاسة فی أحد إناءین، إمّا الأسود، أو الأحمر فی نفس الوقت الذی علم فیه بنجاسةٍ مرددّة بین الإناء الأبیض، أو الإناء الأسود. النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل هی فی نفس وقت النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی، کما أنّ العلم الإجمالی الثانی حدث فی نفس الوقت الذی حدث فیه العلم الإجمالی الأوّل، فلا یوجد تقدّم وتأخّر لا بلحاظ العلم، ولا بلحاظ المعلوم.

ص: 126

هذه الصورة خارجة عن محل الکلام، بمعنی أنّه لا إشکال فی عدم الانحلال فیها، ولا مجال لأن یقال بأنّ العلم الإجمالی الأوّل ینحل بالعلم الإجمالی الثانی، أو أنّ العلم الإجمالی الثانی ینحل بالعلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ العلمین حینئذٍ یکونان فی عرضٍ واحدٍ، ونسبتهما إلی الأطراف نسبة واحدة؛ حینئذٍ لا مجال لأن یقال بانحلال الأوّل بالثانی، أو انحلال الثانی بالأوّل مع أنّهما فی عرضٍ واحد، ولا موجب لترجیح تحقق انحلال الأوّل بالثانی، أو الثانی بالأوّل؛ بل یبقی کلٌ منهما علی منجّزیته، وبذلک تتنجّز کل الأطراف الثلاثة.

وبعبارةٍ أخری: أنّ هذین العلمین الإجمالیین مع افتراض التقارن فی الزمان بلحاظ العلم وبلحاظ المعلوم یرجعان إلی علمٍ إجمالی واحدٍ بنجاسة إمّا الإناء المشترک، أو نجاسة الإناءین الآخرین، النجاسة المعلومة بالإجمال فی هذین العلمین إن کانت موجودة فی الإناء الأسود، فهی غیر موجودة فی الإناءین الآخرین، وإن کانت النجاسة غیر موجودة فی الإناء الأسود، فهی موجودة فی الإناءین الآخرین، وهذا معناه أنّه علم إجمالی واحد، إمّا بنجاسة الإناء الأسود، أو نجاسة الإناءین الآخرین، ومن الواضح أنّ مثل هذا العلم الإجمالی ینجّز أطرافه کما لو حدث ابتداءً بلا فرض علمین إجمالیین، لو فرضنا أنّه علِم من البدایة بأنّه إمّا الإناء الأسود نجس، أو أنّ هذین الإناءین نجسان، فکم أنّ هذا العلم الإجمالی بلا إشکال ینجّز الإناء الأسود، وینجّز الإناءین الآخرین؛ لأنّ الإناءین الآخرین هما طرفٌ لهذا العلم الإجمالی، هذا مثل ذاک؛ لأنّ مردّ العلمین الإجمالیین مع فرض التقارن بلحاظ العلم، وبلحاظ المعلوم إلی هذا العلم الإجمالی بنجاسة أحد الأمرین، إمّا الإناء الأسود، أو الإناءین الآخرین، فهنا لا إشکال فی التنجیز، ولا إشکال فی عدم الانحلال، فینبغی عزل هذه الصورة عن محل الکلام.

ص: 127

ومن هنا یظهر أنّ الکلام یقع فی ما إذا لم یحصل تقارن بین العلمین الإجمالیین، إمّا من ناحیة العلم نفسه لا یوجد تقارن زمانی، وإن کان هناک تقارن زمانی بلحاظ المعلوم، أو لم یکن هناک تقارن بلحاظ المعلوم بالعلمین الإجمالیین، بأن کانت النجاسة المعلومة بأحد العلمین متقدّمة زماناً علی النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی، وإن کان هناک تقارن بلحاظ نفس العلمین، ومرّة نفترض أنّ عدم التقارن بلحاظ کلتا الناحیتین، یعنی عدم تقارن فی العلم، وعدم تقارن من ناحیة المعلوم، أحد العلمین الإجمالیین کعلمٍ هو متقدّم زماناً علی العلم الإجمالی الثانی، النجاسة المعلومة بأحد العلمین متقدّمة زماناً علی النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی، فهنا لا یوجد تقارن بلحاظ کلتا الناحیتین.

الکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالی الثانی بنکتة کون أحد أطرافه طرفاً لعلم إجمالی آخر، هذا هل یوجب انحلال العلم الإجمالی الثانی المتأخّر زماناً من ناحیة العلم، أو المتأخّر زماناً من ناحیة المعلوم، أو المتأخّر زماناً من کلتا الناحیتین، هل ینحل هذا العلم الإجمالی بالعلم الإجمالی الأوّل فی جمیع هذه الفروض، أو لا ینحل فی جمیع هذه الفروض، أو یُفصّل بین هذه الفروض ؟

فی هذا المقام یُذکر رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه): (1) (2) حیث نُسب إلیه القول بأنّ العلم الإجمالی المتأخّر من ناحیة المعلوم ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم من ناحیة المعلوم، سواء کان نفس العلم متقدّماً، أو متأخّراً، أو مقارناً، هذا لا یضر، المیزان لیس هو ملاحظة زمان حصول العلم، وإنّما المیزان فی الانحلال هو ملاحظة التقارن وعدم التقارن بلحاظ المعلوم بالعلمین الإجمالیین، فإذا فرضنا أنّ المعلوم بأحد العلمین کان متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی یتحقق الانحلال فی هذه الحالة من دون فرقٍ بین أن یکون زمان العلم بأحدهما متقدّماً علی زمان العلم بالآخر، أو لم یکن متقدّماً علیه، المیزان هو أن یکون المعلوم بأحدهما سابقاً، أو متأخّراً علی المعلوم بالآخر. ما یذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) حسب(أجود التقریرات)، وکذا(فوائد الأصول)، یذکر مطلباً کلّیاً، یقول: أنّ العلم الإجمالی ینحل إذا قام ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطرافه المعیّنة، ولا یُفرّق فیه بین أن یکون علماً تفصیلیاً، أو یکون إمارةً مثبتة للتکلیف فی طرفٍ معیّن، أو أصلاً شرعیاً، أو أصلاً عقلیاً، المهم أن یقوم ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطراف العلم الإجمالی المعیّن، ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطراف العلم الإجمالی المعیّن عقلاً یجعل ما نحن فیه مثلاً له، نحن لا نتکلّم عن ما یوجب ثبوت التکلیف فی هذا الطرف المعیّن ویکون إمارةً، أو یکون أصلاً عملیاً شرعیاً، أو یکون علماً تفصیلیاً، کلامنا فعلاً لیس هذا، وإنّما الذی یثبت التکلیف فی بعض أطراف العلم الإجمالی الثانی، الذی هو الإناء الأسود هو العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ الإناء الأسود هو طرف للعلم الإجمالی الأوّل، وإذا کان طرفاً للعلم الإجمالی الأوّل العقل یحکم بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالی الأوّل بما فیها الإناء الأسود، إذن: الإناء الأسود الذی هو طرف للعلم الإجمالی الثانی قام ما یوجب ثبوت التکلیف فیه، لکن عقلاً، وهو العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّه نجّز التکلیف فی الأطراف، یعنی نجّز وجوب الاجتناب عن الطرفین بحکم العقل، العقل یحکم بلزوم الاجتناب عن الإناء الأسود، والإناء الأبیض الذی هو الطرف الثانی فی العلم الإجمالی الأوّل، إذن: العقل حکم بوجوب اجتناب الإناء الأسود، ثمّ جاء العلم الإجمالی الثانی. هذا یمثّل له بما نحن فیه، ویقول: بأنّ هذا العلم الإجمالی الثانی ما دام قام ما یوجب تنجّز التکلیف فیه، وهو بعضٌ معیّن من أطراف العلم الإجمالی الثانی، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی الثانی. کل علمٍ إجمالی عندما یقوم ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطرافه ینحل، سواء کان ما یوجب الثبوت علماً تفصیلیاً، أو إمارة، أو اصلاً شرعیاً، أو أصلاً عقلیاً، ما نحن فیه من هذا القبیل، ثمّ ذکر بأنّه لا یُفرّق فی ذلک بأن یکون الموجب لثبوت التکلیف حاصلاً قبل العلم الإجمالی، أو بعد العلم الإجمالی، غایة الأمر أنّه إذا کان الموجب لثبوت التکلیف فی بعض الأطراف المعیّن حاصلاً قبل العلم الإجمالی، فهو یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی التنجیز من البدایة، اساساً هو یمنع من کون هذا العلم الإجمالی موجباً للمنجّزیة، وإذا قام بعد العلم الإجمالی، فهو یوجب انحلال العلم الإجمالی. یعنی یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی المنجّزیة فی مرحلة البقاء الذی هو معنی الانحلال، بمعنی أنّ العلم الإجمالی انعقد وفی مرحلة الحدوث أثّر فی المنجّزیة، لکنّه ینحل فی مرحلة البقاء ویسقط عن التنجیز فی مرحلة البقاء فیوجب انحلاله بعد انعقاده.

ص: 128


1- فوائد الأصول، تقریر بحث النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص87.
2- وأجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج2، ص119.

الوجه فی الانحلال الذی یذکره، لماذا ینحل العلم الإجمالی بقیام ما یوجب ثبوت التکلیف فی بعض أطرافه المعیّنة ؟ الوجه فی الانحلال بشکلٍ عام الذی یجری فی جمیع الحالات، سواء کان علماً تفصیلیاً، أو إمارة، أو أصلاً عقلیاً الذی هو محل کلامنا، الوجه فی ذلک _________ حسب ما یستفاد من کلامه __________ هو أنّه یدّعی أنّ العلم الإجمالی إنّما یوجب التنجیز إذا کان یستوجب علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر؛ حینئذٍ یکون موجباً للمنجّزیة، وأمّا إذا کان علماً بتکلیفٍ علی تقدیرٍ، ولکنّه علی تقدیرٍ آخر لا یستوجب العلم بتکلیف، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، شرط منجّزیة العلم الإجمالی أنّه یستوجب العلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، یعنی سواء کان فی هذا الطرف، هو ینجّز، ویستوجب تکلیفاً، أو کان فی الطرف الآخر أیضاً هو یستوجب تکلیفاً، هذا الشرط الأساسی المهم فی تنجیز العلم الإجمالی، کل علمٍ إجمالی یستوجب العلم بتکلیفٍ علی کل تقدیر یکون منجّزاً، وکل علمٍ إجمالی لا یستوجب العلم بتکلیفٍ علی کل تقدیر وإنّما یستوجب العلم بتکلیفٍ علی تقدیرٍ دون تقدیرٍ آخر، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون موجباً للتنجیز، فینحل.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة /تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

الکلام فی انحلال أحد العلمین الإجمالیین بعلمٍ إجمالیٍ آخر فی ما إذا کانا یشترکان فی طرفٍ واحد، ذکرنا بأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذهب إلی الانحلال، لکن فی صورةٍ خاصّةٍ، وهی ما إذا کان العلم الإجمالی متأخّراً من حیث المعلوم، فأنّه ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم من حیث المعلوم ولا اعتبار بتقدّم وتأخّر نفس العلمین، وإنّما المناط علی تأخّر أحد العلمین الإجمالیین من حیث المعلوم عن المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر، فی هذه الحالة ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی المتأخّر من حیث المعلوم بالعلم الإجمالی المتقدّم من حیث المعلوم، سواء تقارن نفس العلمین الإجمالیین من حیث الزمان، أو لم یتقارنا، المهم أنّ المعلوم بأحد العلمین الإجمالیین یتقدّم علی المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر، فینحل الثانی، یعنی الذی یکون معلومه متأخّراً بالأوّل، الذی یکون معلومه متقدّماً.

ص: 129

ذکرنا أنّه استدل علی ذلک بقاعدةٍ أسسها فی المقام، وهی أنّ العلم الإجمالی إنّما یکون منجّزاً إذا کان علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر. کل علمٍ إجمالی یکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر یکون منجّزاً، وکل علمٍ إجمالی لا یکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، وإنّما یکون علماً بتکلیفٍ علی تقدیر دون تقدیر آخر لا یکون منجّزاً، هذه قاعدة أسسها؛ وحینئذٍ طبّقها فی محل الکلام، یقول: حینما نحتمل انطباق المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل علی أحد طرفی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی؛ حینئذٍ العلم الإجمالی الثانی لا یکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه علی تقدیر الانطباق لا یکون هناک تکلیف، وإنّما یکون هناک تکلیف علی تقدیر عدم الانطباق، المثال السابق، العلم الإجمالی بأنّ أحد الإناءین نجس، إمّا الأسود ، أو الأحمر، هذا العلم إنّما یکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر فی ما إذا فرضنا أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل کان متحققاً بالإناء الأبیض ___________ فی العلم الإجمالی الأوّل ___________ وأمّا إذا کان المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل متحققاً بالإناء الأسود؛ حینئذٍ هذا العلم الإجمالی الثانی، الإناء الأسود هو نجس سابقاً علی هذا التقدیر، فالعلم الإجمالی بسقوط قطرة الدم فیه، أو فی الإناء الأحمر لا یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیرٍ؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون هذه القطرة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی ساقطة فی الإناء الأسود سوف لن تحدث تکلیفاً؛ لأنّ الإناء الأسود هو نجس سابقاً _________ بحسب الفرض _________ علی تقدیر أن تکون النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل موجودة فی الإناء الأسود، العلم الإجمالی بسقوط قطرة دم إمّا فی الأسود، أو فی الأحمر لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، وإنّما هو علم بتکلیفٍ علی أحد تقدیرین، علی تقدیر الانطباق هو لیس علماً بتکلیفٍ، أمّا علی تقدیر عدم الانطباق علی الإناء الأسود؛ حینئذٍ قد یکون علماً بتکلیف. إذن: هو لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، وشرط المنجّزیة أن یکون العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر. وهذا لا یختص بمحل الکلام، فی موارد العلم التفصیلی وفی موارد قیام الإمارة، وقیام الأصل الشرعی المثبت للتکلیف، فی کل هذه الحالات یرد هذا الکلام، أنّ العلم الإجمالی لیس علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه علی أحد التقادیر هذا العلم الإجمالی لا یثبت تکلیف، علی تقدیر أن تکون قطرة الدم ساقطة فی هذا الإناء الذی فرضنا کونه نجساً سابقاً من البدایة، سقوط قطرة الدم فیه لا توجب علماً بتکلیفٍ. نعم لو سقطت قطرة الدم فی الإناء الآخر سوف تحدث تکلیفاً. إذن: العلم الإجمالی فی حالاتٍ من هذا القبیل هو لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ ولذا لا یکون منجّزاً.

ص: 130

هذا الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر بأنّه یتمّ فی موارد، ذکر موردین:

المورد الأوّل: ما إذا لم یکن هناک تقارن لا من ناحیة العلم ولا من ناحیة المعلوم، بمعنی أنّ أحد العلمین الإجمالیین متأخّر من حیث العلم عن العلم الإجمالی الثانی، ومن حیث المعلوم أیضاً هو متأخّر عن العلم الإجمالی الأوّل، فهما غیر متقارنین، لا من حیث العلم، ولا من حیث المعلوم، کما إذا فرضنا أنّه علم إجمالاً بنجاسة أحد إناءین الأبیض والأسود، ثمّ بعد ذلک علم بحدوث نجاسةٍ أخری، إمّا فی الإناء الأسود، أو فی الإناء الأحمر. (ثمّ علِم) إشارة إلی التقارن من حیث العلم، علم أول متقدّم زماناً علی العلم الثانی، علِم بنجاسةٍ أخری فی العلم الإجمالی الثانی، معناه أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی هو غیر المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل ومتأخّر عنه زماناً. فی هذه الحالة، قال: هذا الذی ذکرناه لإثبات الانحلال یکون تامّاً فی هذه الحالة، وتمامیة ما ذکره من القاعدة لإثبات الانحلال یکون واضحاً فی هذا المثال فی هذا المورد، باعتبار أنّ المکلّف وإن کان یعلم بالعلم الإجمالی الثانی المتأخّر زماناً ___________ بحسب الفرض _____________ بأنّ النجاسة وقعت فی أحد الإناءین، الأسود، أو الأحمر، إلاّ أنّ هذا لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّ هذه النجاسة إذا کانت واقعة فی الإناء الأسود، وکان هو النجس المعلوم سابقاً؛ حینئذٍ لا تستوجب هذه النجاسة تکلیفاً له؛ لأننا فرضنا أنّ الإناء الأسود هو النجس سابقاً، وعلی تقدیر أن تقع النجاسة فی هذا الإناء النجس سابقاً سوف لا تستوجب تکلیفاً، باعتبار أنّ الإناء الأسود کان یجب الاجتناب عنه من البدایة، فسقوط النجاسة فیه لا تستوجب تکلیفاً. نعم سقوط هذه النجاسة فی العلم الإجمالی الثانی تستوجب تکلیفاً إذا وقعت فی الإناء الأحمر؛ لأننا لم نفرض أنّ الإناء الأحمر کان نجساً سابقاً؛ بل حتّی إذا سقطت فی الإناء الأسود، لکن لم نفترض أنّ الإناء الأسود هو النجس فی العلم الإجمالی الأوّل، بأنّ فرضنا أنّ النجس فی العلم الإجمالی الأوّل هو الأبیض، هنا أیضاً قطرة الدم تستوجب حدوث تکلیفٍ، لکن عندما نفترض أنّها تسقط فی الإناء الأسود، ونفترض أنّ الإناء الأسود هو النجس سابقاً، هذه لا تستوجب تکلیفاً.

ص: 131

إذن: العلم الإجمالی الثانی لا یستوجب تکلیفاً فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما یستوجب تکلیفاً علی تقدیر دون تقدیرٍ آخر، مثل هذا العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة.

المورد الثانی: ما إذا کان أحد العلمین الإجمالیین متأخّراً عن الآخر، فلا یوجد تقارن من ناحیة نفس العلم، وکان المعلوم بالعلم المتأخّر زماناً من حیث العلم کان المعلوم به متقدّماً زماناً علی المعلوم بالعلم الأوّل المتقدّم من حیث العلم، مثلاً: إذا علِم بوقوع نجاسةٍ الآن، إمّا بالإناء الأسود، أو الإناء الأبیض، ثمّ علِم بعد ذلک ___________ (بعد ذلک) معناها أنّ العلم الإجمالی الثانی متأخّر من حیث العلم عن العلم الإجمالی الأوّل __________ بأنّ الإناء الأسود، أو الأحمر سقطت فیه النجاسة من الصباح، ولنفترض أنّ الآن السابق کان العصر __________ مثلاً ___________ فالعلم الإجمالی الثانی متأخّر زماناً عن العلم الإجمالی الأوّل من حیث العلم، لکنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی متقدّم زماناً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل. هنا أیضاً لا یوجد تقارن، لا من حیث العلم، ولا من حیث المعلوم، لکن فرقه عن السابق هو أنّنا نفترض أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی متقدّم زماناً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، هنا قال أیضاً یجری ما ذکرناه، وتنطبق القاعدة السابقة فی المقام، ویثبت الانحلال؛ لأنّ العلم الإجمالی الأوّل، یعنی العلم بنجاسة الإناء الأسود، أو الأبیض عندما حصل العلم الإجمالی الأوّل کان منجّزاً للطرفین؛ لأنّه علمٌ بالتکلیف علی کل تقدیر، فیکون منجّزاً، لکن بعد حصول العلم الإجمالی الثانی، یعنی العلم بنجاسة إمّا الإناء الأسود، أو الإناء الأبیض من الصباح بحیث یکون معلومه متقدّم زماناً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، من الصباح حصل لدیّ علم بعد العلم الإجمالی الأوّل بأنّ أحد الإناءین إمّا الأسود، أو الأحمر من الصباح کان نجساً، بعد حصول هذا العلم الإجمالی الثانی ینکشف بأنّ النجاسة التی علم إجمالاً بوقوعها فی أحد الإناءین، الأسود، أو الأبیض لا تستوجب تکلیفاً علی کل تقدیر. هذا العلم الإجمالی المتقدّم زماناً من حیث العلم یسقط عن التنجیز؛ لأنّه الآن أنا علمت بأنّ النجاسة التی سقطت فی أحد الإناءین، الأبیض، أو الأسود لا تستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّ هذه النجاسة لو کانت ساقطة فی الإناء الأسود، وکانت النجاسة المعلومة منذ الصباح هی أیضاً فی الأسود، إذن: هذا العلم الإجمالی لیس علماً إجمالیاً بتکلیفٍ؛ لأنّه سوف لن یحدث تکلیفاً؛ لأننا فرضنا نجاسة الإناء الأسود منذ الصباح، فحینما تسقط النجاسة فیه لا تحدث تکلیفاً.

ص: 132

نعم، قبلالعلم الإجمالی الثانی علم إجمالی ینجّز کلا الطرفین، ویکون علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیرٍ، لکن بعد حصول العلم الإجمالی الثانی الذی یقول أنّ الإناء الأسود، أو الأحمر نجس منذ الصباح، أحد المحتملات هو أن تکون هذه النجاسة منذ الصباح فی الأسود، إذا فرضنا أنّ النجاسة التی علمت بسقوطها فی أحد الإناءین الأسود والأبیض، نفترض أنّها سقطت فی الأسود، مع کون الأسود هو النجس منذ الصباح، هذه لا تحدث تکلیفا. نعم، لو أصابت النجاسة الإناء الأحمر؛ حینئذٍ یکون هذا العلم الإجمالی موجباً لإحداث تکلیفٍ؛ لأنّ الأسود کان نجساً منذ الصباح، والأحمر لم یکن نجساً منذ الصباح، فیکون هذا العلم علی هذا التقدیر علم بتکلیف، لکن هذا علم بتکلیفٍ علی تقدیرٍ، لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیرٍ؛ ولذا لا یکون هذا العلم الإجمالی منجّزاً، ویسقط مثل هذا العلم الإجمالی المتقدّم زماناً من حیث العلم، هذا العلم الإجمالی ینحل بالعلم الإجمالی الثانی المتأخّر زماناً من حیث العلم، لکنّه متقدّم زماناً من حیث المعلوم.

ومن هنا یظهر أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یری أنّ العلم الإجمالی المتأخّر من ناحیة المعلوم، وإن کانا متقدّماً زماناً من حیث العلم، ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم زماناً من ناحیة المعلوم، وإن کان متأخّراً من ناحیة العلم؛ حینئذٍ لیس هناک اثر للتقارن بین زمان العلمین، أو عدم التقارن بین زمان العلمین، المناط علی تقدّم المعلوم بأحد العلمین علی المعلوم بالعلم الآخر، فینحل المتأخّر من حیث المعلوم بالمتقدّم من حیث المعلوم، سواء تقارن العلمان، أو تقدّم أحدهما علی الآخر، هذا کله لا أثر له، وإنّما الأثر فقط للتقدّم والتأخّر من حیث المعلوم، فإذا کان أحد العلمین معلومه متقدّماً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر، العلم الإجمالی المتأخّر من حیث المعلوم ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم من حیث المعلوم. هذا هو ملاک الانحلال عنده. وهذا معناه أنّه بنظره الشریف لا یتحقق الانحلال فیما لو کانا متقارنین من حیث المعلوم؛ لأنّ شرط الانحلال عنده أن یکون التقدّم والتأخّر بلحاظ المعلوم، فلو تقارنا من حیث المعلوم لا یتحقق الانحلال کما إذا علمنا ____________ مثلاً ____________ فی العصر وقت الزوال بنجاسة أحد الإناءین الأسود، أو الأبیض، العصر وقتٌ للعلم، والزوال وقتٌ للمعلوم، ثمّ علمنا المغرب بنجاسة أحد الإناءین الأسود، أو الأحمر وقت الزوال أیضاً، هنا حصل تقارن بالنسبة إلی المعلوم بالعلمین الإجمالین، فکلاهما وقت الزوال، فی هذه الحالة لا یتحقق الشرط الذی ذکره، فینبغی أن لا یکون هناک انحلال، وسرّه هو أنّ کلاً من العلمین یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، ولا موجب للقول بأنّ العلم الإجمالی الأوّل لا یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، والثانی یستوجب، أو بالعکس، کلٌ منهما یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه لیس هناک تقدّم وتأخّر من حیث المعلوم، حدثا فی زمان واحد؛ فحینئذٍ هذا العلم الإجمالی یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، هذا أیضاً یستوجب علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، وهذا نظیر ما تقدّم سابقاً الذی قلنا بأنّ هذا فی الحقیقة یرجع إلی علمٍ إجمالی واحد بنجاسة إمّا الإناء الأسود، أو نجاسة الإناءین الآخرین، هذا کان منوطاً بتقارن زمان المعلومین بالعلمین الإجمالیین، حتّی إذا کان أحد المعلومین متأخّر زماناً عن العلم الآخر.

ص: 133

کما أنّه یظهر ممّا ذکرناه فی بیان مقصوده(قدّس سرّه) أنّ هناک حالةً خارجةً عن محل کلامه، هو لا ینظر إلیها إطلاقاً، ولا یدّعی فیها الانحلال المتقدّم، وهی حالة ما إذا کان العلم الإجمالی الثانی متعلّقاً بتکلیفٍ آخر من غیر سنخ التکلیف الحاصل بالعلم الإجمالی الأوّل، کما إذا علِم بنجاسة أحد الإناءین، إمّا الأبیض، أو الأسود، ثمّ علِم بغصبیة أحد الإناءین، إمّا الأسود، أو الأحمر، هذه الغصبیة حرمة أخری غیر حرمة النجاسة، العلم الثانی لا ینحل بالعلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّه علم بتکلیفٍ جدیدٍ، حرمة الغصب غیر حرمة استعمال النجس، العلم الإجمالی الثانی أوجب علماً بحرمةٍ جدیدة، وهذا العلم الإجمالی بغصبیة أحد الإناءین هو علم بتکلیفٍ علی کل تقدیر، حتّی علی تقدیر أن یکون الإناء الأسود هو النجس بالعلم الإجمالی الأوّل، العلم الإجمالی الثانی سوف یحدث تکلیفاً جدیداً علی کل تقدیر، حتّی علی تقدیر أن یکون الإناء الأسود نجساً؛ لأنّ حرمة الغصب غیر حرمة شرب النجس، فیصح أن یقال بأنّ العلم الإجمالی الثانی هو علم بتکلیفٍ علی کل تقدیر، سواء کان الإناء المغصوب هو الإناء الأسود، أو کان الإناء المغصوب هو الإناء الأحمر، مثل هذا العلم الإجمالی لا یسقط عن التنجیز، ولا ینحل؛ بل یبقی علی منجّزیته. هذا لیس ناظراً له فی کلامه(قدّس سرّه)، وإنّما هو خارج عن محل کلامه.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

الذی یظهر من الکلام المتقدّم الذی ذکرناه فی مقام توضیح ما یریده المحققّ النائینی(قدّس سرّه) من دعوی انحلال العلم الإجمالی المتأخّر من جهة المعلوم بالعلم الإجمالی المتقدّم من جهة المعلوم، الذی یظهر من الکلام المتقدّم هو أنّه یرید بالحکم والتکلیف الذی اشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، الظاهر من خلال کلامه أنّ مقصوده من التکلیف هو التکلیف الحادث الجدید، التکلیف المُسبَّب عن ___________ فرضاً _________ سقوط قطرة دم فی العلم الإجمالی الثانی، یعنی یرید أن یقول بالعلم الإجمالی الثانی، والمقصود به هو العلم الإجمالی المتأخّر من حیث المعلوم، هذا العلم الإجمالی لیس علماً بتکلیفٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه علی بعض التقادیر لیس علماً بتکلیفٍ، علی تقدیر أن تکون النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل موجودة فی الإناء الأسود __________ الإناء المشترک ____________ فالعلم الإجمالی لا یُحدث فیه تکلیفاً، وإنّما یحدث تکلیفاً علی تقدیر أن تکون النجاسة واقعة فی الإناء الأحمر ___________ مثلاً ___________ حینئذٍ یحدث تکلیفاً، لکن علی هذا التقدیر لا یحدث تکلیفاً، فمقصوده بالتکلیف هو التکلیف الجدید، التکلیف الحادث الذی لم یکن موجوداً سابقاً، فیقول: یُعتبّر فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون علماً بتکلیفٍ حادثٍ علی کل تقدیرٍ، أن تکون قطرة الدم الساقطة فی أحد الإناءین فی العلم الإجمالی الثانی إمّا الأسود، أو الأحمر ....أن تکون قطرة الدم سبباً فی تکلیفٍ، وفی المقام لا یوجد عندنا علمٌ بتکلیفٍ علی کل تقدیر، لیس لدینا علم بأنّ قطرة الدم التی سقطت هی سببٌ فی تکلیفٍ؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون قطرة الدم التی سقطت فی الإناء الأسود، وکان الإناء الأسود نجساً فی العلم الإجمالی الأوّل، سقوط قطرة الدم فیه لا تُحدث تکلیفاً، ولا تکون سبباً فی تکلیفٍ، بینما یُعتبَر فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون علماً بحدوث تکلیفٍ جدیدٍ لم یکن موجوداً فی السابق، وإذا سلّمنا الکبری یکون هذا الکلام صحیحاً؛ لأنّه فی هذه الأمثلة التی ذکرها لیس لدیّ علم بحدوث تکلیفٍ بالعلم الإجمالی الثانی. نعم، لدیّ علم بأصل التکلیف، لکن هذا التکلیف الذی یحصل لدیّ علم به هو أعمّ من یکون حدوث تکلیفٍ، أو بقاء تکلیفٍ کان موجوداً من السابق، علی تقدیرٍ یکون حدوث تکلیفٍ، وعلی تقدیرٍ آخر لا یکون حدوث تکلیفٍ، وإنّما هو بقاء لتکلیفٍ کان موجوداً سابقاً، فکلامه صحیح، لکن الکلام فی اصل الکبری، أنّه هل صحیح أنّ منجّزیة العلم الإجمالی مشروطة بأن یکون هذا العلم علماً بتکلیفٍ جدیدٍ علی کل تقدیرٍ ؟ بحیث إذا علمنا کان العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ، لکن هذا التکلیف أعمّ من أن یکون حدوثیاً، أو بقائیاً، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، هل هذا صحیح ؟ أن نشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون علماً بحدوث تکلیفٍ، ولا یکفی فی منجّزیته أن یکون علماً بأصل التکلیف الذی یحتمل أن یکون علی بعض التقادیر تکلیفاً بقائیاً لا تکلیفاً حدوثیاً، هذا هل یمنع من منجّزیة العلم الإجمالی، أو لا ؟

ص: 134

الظاهر أنّه لا یمنع من منجّزیة العلم الإجمالی، لیس شرطاً فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون علماً بحدوث تکلیفٍ علی کل تقدیر، کلا، وإنّما المهم أن یکون علماً بأصل التکلیف، لیکن علی بعض التقادیر یحتمل أن یکون هذا التکلیف تکلیفاً بقائیاً لا حدوثیاً، هذا لا یضر فی منجّزیته، بدلیل أنّه لا إشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی بلحاظ طرفین فیما لو کان بعض أطرافه مسبوقاً بالشکّ البدوی، نشک فی أنّ الإناء الأسود نجس، أو لا ؟ ثمّ حصل علم إجمالی بسقوط قطرة دمٍ إمّا فی الإناء الأسود، أو فی الإناء الأبیض فی موردٍ آخر غیر محل کلامنا، هذا العلم الإجمالی بلا إشکال ینجّز کلا الطرفین مع أنّه لیس علماً بتکلیفٍ جدیدٍ علی کل تقدیر، علی بعض التقادیر یکون التکلیف بقائیاً لا حدوثیاً، علی تقدیر أن یکون الإناء الأسود المشکوک نجاسته بالشکّ البدوی، علی تقدیر أن یکون نجساً، فسقوط قطرة الدم فیه لا تحدث تکلیفاً جدیداً، مع أنّه لا إشکال فی منجّزیته مع أنّه لیس علماً بتکلیفٍ جدیدٍ حادثٍ علی کل تقدیر، وإنّما علی تقدیر یکون هناک تکلیف حادث، وعلی تقدیرٍ آخر یکون التکلیف بقائیاً لا حدوثیاً، مع أنّه لا إشکال فی منجّزیته، المهم هو أن یعلم بأصل التکلیف أعمّ من أن یکون التکلیف حدوثیاً، أو یکون التکلیف بقائیاً، النتیجة هو علم بتکلیفٍ، قطرة الدم سقطت فی أحد الإناءین، إمّا الإناء الأحمر، أو الإناء الأسود، لماذا لا یکون هذا العلم الإجمالی منجّزاً لکلا الطرفین ؟ هذا علم بتکلیفٍ، هذا التکلیف فی بعض الأحیان علی بعض التقادیر یکون تکلیفاً بقائیاً، وفی تقدیر آخر یکون تکلیفاً حدوثیاً، لا یُشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون علماً بتکلیفٍ جدیدٍ، حادثٍ لم یکن موجوداً سابقاً. وهذه هی المناقشة المهمّة فی الدعوی السابقة؛ لأنّ الدعوی السابقة ترتکز علی هذه الکبری التی هی دعوی أنّ تنجیز العلم الإجمالی مشروط بهذا الشرط، والذی یُفهم من کلامه کما قلنا أنّه یشترط حدوث تکلیفٍ، أن یکون التکلیف الحاصل بالعلم الإجمالی تکلیفاً جدیداً، وقلنا أنّ هذا صحیح، لا علم بتکلیفٍ جدیدٍ فی محل الکلام، علی بعض التقادیر لیس تکلیفاً جدیداً، لکنّ هذا لیس شرطاً فی منجّزیة العلم الإجمالی. هذا بالنسبة إلی الرأی الأوّل، وتبیّن أنّه لیس تامّاً.

ص: 135

الرأی الثانی فی المسألة: نسب السید الشهید(قدّس سرّه) هذا الرأی إلی السید الخوئی(قدّس سرّه)، قال(قدّس سرّه):(وأظنّ قویاً أنّ هذا ما قال به السید الاستاذ، وإن کان فی الموجود فی الدراسات هی النظریة الأولی). (1) الظاهر أنّ الرأی الثانی هو النظریة التی یختارها السید الخوئی(قدّس سرّه)، ولکنّه فی تقریراته لم یعقد بحثاً خاصّاً لبحث قضیة ما إذا کان هناک طرف مشترک بین علمین إجمالیین، المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکره، والمحقق العراقی (قدّس سرّه) ذکره بعنوان خاصٍ به، لکن السید الخوئی(قدّس سرّه) لم أجد فی تقریراته أنّه یذکره بهذا العنوان، لکنّه یذکره فی بحث(ملاقی أحد أطراف الشبهة) هناک یذکره فی(مصباح الأصول) ویختار الرأی الثانی الذی سنبینه لا الرأی الأوّل.

علی کل حال، الرأی الثانی فی المسألة هو: دعوی انحلال العلم الإجمالی المتأخّر بالعلم الإجمالی المتقدّم، سواء کان المعلوم بالعلم الإجمالی المتأخّر متأخّراً أیضاً عن المعلوم بالعلم الإجمالی المتقدّم، أو لم یکن متأخّراً، المعلوم لیس مهمّاً عنده، المهم هو نفس العلم الإجمالی، أن یکون أحد العلمین من حیث العلم متأخّراً عن العلم الآخر، فالمیزان فی الانحلال عنده هو تقدّم أحد العلمین علی العلم الآخر، بینما المیزان فی الرأی الأوّل کان هو تقدّم أحد المعلومین بأحد العلمین علی المعلوم بالعلم الآخر، یقول: إذا تقدّم أحد العلمین علی العلم الآخر، العلم الثانی المتأخّر ینحل بالعلم الإجمالی الأوّل، الرأی الأوّل کان یقول إذا تقدّم المعلوم بأحد العلمین الإجمالیین علی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی ینحل العلم الإجمالی المتأخّر معلومه بالعلم الإجمالی المتقدّم معلومه، فالمیزان یختلف بینهما. والمثال الذی نوضّح به هذا الرأی هو : أنّه علِم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، الأسود، أو الأبیض، لکن العلم حصل له صباحاً، ثمّ الظهر علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین الأسود، أو الأحمر، هنا یوجد تقدّم وتأخّر فی العلم؛ حینئذٍ المعلوم لیس مهمّاً علی هذا الرأی، هذه النجاسة التی علمها بالعلم الإجمالی الثانی، سواء کانت متأخّرة عن النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل، أو لم تکن متأخّرة، زمان المعلوم لیس مهمّاً، وإنّما المهم زمان العلم. هنا یقول: العلم الإجمالی المتأخّر ینحل بالعلم الإجمالی المتقدّم؛ لأنّ العلم الإجمالی المتقدّم قد نجّز الطرف المشترک بین العلمین والذی هو الإناء الأسود، ومعه لا یکون العلم الإجمالی الثانی صالحاً للتنجیز؛ لأنّ أحد أطرافه تنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل، فلا یکون هذا العلم الإجمالی المتأخّر صالحاً للتنجیز، وهنا یُذکر تقریبان لإثبات هذا المُدّعی، أحدهما مبنی علی مسلک العلّیة الذی یقول به المحقق العراقی (قدّس سرّه)، والآخر مبنی علی مسلک الاقتضاء:

ص: 136


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص155.

التقریب الأوّل: علی مسلک العلّیة، عدم منجّزیة هذا العلم الإجمالی المتأخّر لابدّ أن تُصاغ بهذا الشکل، بأن یقال: أنّ المتنجّز لا یتنجّز مرّة أخری، فالإناء الأسود الذی تنجّز بالعلم الإجمالی السابق لا یقبل التنجیز مرّة أخری بالعلم الإجمالی الثانی، وهذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالی الثانی لا ینجّز معلومه علی کل تقدیر، وإنّما ینجّزه علی تقدیرٍ دون تقدیر، یُنجّز معلومه إذا کان موجوداً فی الطرف الآخر، أی فی الإناء الأحمر، أمّا إذا کان فی الإناء الأسود، فالإناء الأسود قد تنجّز بالعلم الإجمالی السابق، فهو غیر قابل لأن یتنجّز مرّة أخری. إذن: العلم الإجمالی الثانی لا ینجّز معلومه علی کل تقدیر، فلا یکون صالحاً للتنجیز.

التقریب الثانی: علی القول بالاقتضاء، أنّ عدم منجّزیة العلم الإجمالی الثانی باعتبار عدم وجود تعارض بین الأصول فی الأطراف، وعلی مسلک الاقتضاء الذی یوجب التنجیز هو تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها، فی هذا العلم الإجمالی الثانی لیس هناک تعارض فی الأصول فی الأطراف؛ باعتبار أنّ الأصل فی الطرف المشترک قد سقط بالمعارضة مع الطرف الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل، بالعلم الإجمالی الأوّل إناء أسود وإناء أبیض، الأصل فی الإناء الأسود معارض بالأصل فی الإناء الأبیض، تعارضا، فتساقطا، فتنجّز العلم الإجمالی الأوّل. کلامنا لیس فی العلم الإجمالی الأوّل، وإنّما کلامنا فی العلم الإجمالی الثانی المتأخّر، هذا الذی نرید أن نحلّه، الأصل فی الإناء الأسود سقط عن الإناء الأسود بالمعارضة مع الأصل فی الإناء الأبیض. إذن: الإناء الأسود قد سقط الأصل فیه، فیجری الأصل فی الإناء الأحمر بلا معارض، فإذا لم تتعارض الأصول؛ فحینئذٍ لا تنجیز لهذا العلم الإجمالی؛ لأنّ منجّزیة العلم الإجمالی فرع تعارض الأصول وتساقطها، فإذا لم یکن هناک تعارض، فیجری الأصل فی الطرف الآخر، یعنی فی الإناء الأحمر بلا معارض، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً.

ص: 137

أجیب عن هذا الرأی الثانی: المحقق العراقی (قدّس سرّه) اشار إلی هذا الجواب فی (نهایة الأفکار) (1) بشکلٍ واضحٍ جدّاً، وحاصل هذا الجواب: أنّ التنجیز فی کل آنٍ منوط بوجود العلم الإجمالی فی ذلک الآن، ولا یکفی فی التنجیز فی آنٍ وجود العلم الإجمالی فی آنٍ قبله، فی هذا الآن التنجیز منوط بوجود علمٍ إجمالی فی هذا الآن، أمّا وجود علمٍ إجمالیٍ قبل یومین، أو قبل ساعتین مع عدم وجوده الآن هذا لا یکفی فی إثبات التنجیز الآن. هذه قاعدة، هذا الکلام یعنی فی الحقیقة أنّه فی الآن الثانی الذی هو فی المثال الذی ذکرناه یعنی فی الظهر؛ لأننا افترضنا أنّ العلم الإجمالی حصل صباحاً، والعلم الإجمالی الثانی حصل ظهراً، هذا الکلام معناه أنّه فی وقت الظهر اجتمع منجّزان علی الإناء الأسود، وهذان المنجّزان فی عرضٍ واحد ولا یوجد بینهما تقدّم وتأخّر، التقدّم والتأخّر إنّما یکون بین هذین المنجّزین الذین هما العلم الإجمالی الأوّل والعلم الإجمالی الثانی عندما نفترض أنّ العلم الإجمالی بحدوثه صباحاً أوجب تنجّز الإناء الأسود ظهراً، بینما تنجّز الإناء الأسود منوط بوجود ما ینجّزه ظهراً فی ذاک الآن، فإذن: الإناء الأسود ظهراً یتلقّی التنجیز من سببین فی عرضٍ واحدٍ وفی زمانٍ واحدٍ بلا تقدّمٍ وتأخّرٍ، أحدهما العلم الإجمالی الأوّل فی مرحلة البقاء، والثانی هو العلم الإجمالی الثانی فی مرحلة الحدوث، العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی ینجّز الإناء الأسود، والعلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی ینجّز الإناء الأسود أیضاً، فهو یتلقّی التنجیز من أمرین، العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی، والعلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی، ومن الواضح بأنّ هذین السببین للتنجیز لیس أحدهما قبل الآخر کی یقال أنّ التنجیز یختص بالمتقدّم دون المتأخّر؛ بل بناءً علی هذا الکلام تخصیص التنجیز بأحدهما دون الآخر ترجیح بلا مرجّح؛ لأنّهما فی عرضٍ واحدٍ، وفی زمانٍ واحدٍ، وبالتالی، النتیجة هی أنّ سبب التنجیز واحدٌ، وهو عبارة عن مجموع السببین، دائماً هکذا، عندما تجتمع علّتان مستقلّتان علی معلولٍ واحدٍ یندمجان ویکوّنان علّة واحدة مؤثرة فی هذا المعلول الواحد، هنا سببان کلٌ منهما له تأثیر مستقل فی التنجیز، لکن عندما یجتمعان بنحوٍ لا یمکننا أن نثبت التنجیز إلی أحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح، یکون المؤثر هو مجموعها، وکل واحدٍ منهما هو جزء العلّة المؤثرة فی التنجیز، وبناءً علی هذا؛ حینئذٍ لا معنی لهذا الکلام الذی قیل لإثبات الانحلال وعدم التنجیز من أنّ الإناء الأسود تلقّی التنجیز سابقاً، والمتنجّز لا یتنجّز مرّة أخری، هذا الکلام معناه أننا نثبت التأثیر والتنجیز فی الإناء الأسود إلی العلم الإجمالی السابق، والحال أنّ هذا بلا وجه. نعم، هذا یکون له وجه إذا رفعنا الیدّ عمّا قلناه، إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالی الأوّل بوجوده الحدوثی یؤثر فی التنجیز فی مرحلة البقاء حتّی إذا زال، بینما الأمر لیس هکذا؛ حینئذٍ نستطیع أن نقول بوجود تقدّم وتأخّر بین العلمین؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی الأوّل اثر فی المنجّزیة فی الإناء الأسود ظهراً بحدوثه صباحاً، فإذن: هو فی التنجیز متقدّم علی العلم الإجمالی الثانی، نجّز الإناء الأسود بوجوده المتقدّم، فیکون متقدّماً، فنقول أنّ الإناء الأسود لا یقبل التنجیز مرّة أخری، فنعطی التأثیر للعلم الإجمالی الأوّل، لکن إذا أنکرنا هذا، وقلنا أنّ العلم الإجمالی الأوّل بوجوده الحدوثی لیس هو السبب فی تنجیز الإناء الأسود ظهراً، وإنّما تنجیز الإناء الأسود ظهراً یحتاج إلی افتراض علم موجود فی الظهر، ولو بقاءً، وهذا صحیح، العلم الإجمالی الأوّل بقاءً یکون موجوداً ظهراً ویؤثر فی تنجیز الإناء الأسود، لکن هذا الوجود البقائی للعلم الإجمالی الأوّل لیس متقدّماً علی العلم الإجمالی الثانی، فلیس هناک تقدّم وتأخّر، وإنّما هما فی عرضٍ واحد وفی زمانٍ واحد، ولا موجب لتخصیص أحدهما بالتأثیر دون الآخر، فأنّ هذا ترجیح بلا مرجّح، وعلیه: الإناء الأسود یتلقّی التنجیز من کلٍ منهما، ویکون کلٌ منهما جزء السبب. إذن: هذا الوجه لإثبات الانحلال أیضاً لا یکون تامّاً.

ص: 138


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص337.

وممّا ذکرناه یظهر الجواب عن التقریب الثانی للانحلال المبنی علی مسلک الاقتضاء الذی یقول بناءً علی مسلک الاقتضاء الذی یوجب التنجیز هو تعارض الأصول فی الأطراف، وفی المقام لا تتعارض الأصول بالعلم الإجمالی الثانی؛ لأنّ الأصل فی الإناء المشترک سقط بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر بالعلم الإجمالی الأوّل، فیجری الأصل فی الإناء الأحمر بلا معارض، فلا یکون هذا العلم الإجمالی منجّزاً. هذا هو التقریب الثانی لتقریب الانحلال.

جوابه یظهر ممّا تقدّم، باعتبار أنّ تعارض الأصول وتساقطها هو من نتائج تنجّز حرمة المخالفة القطعیة، وهو فرع وجود العلم الإجمالی، علم إجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، إذا تنجّزت حرمة المخالفة القطعیة تتعارض الأصول فی الأطراف؛ لأنّه لا یمکن إجراء کلا الأصلین فی الطرفین؛ لأنّه ینافی حرمة المخالفة القطعیة، وإجراء الأصل فی أحدهما دون الاخر ترجیح بلا مرجّح، فتتعارض الأصول وتتساقط، والدلیل علی أنّ تعارض الأصول وتساقطها منوط بالنتیجة بوجود العلم الإجمالی هو أنّه فی کل حالةٍ نفترض فیها زوال العلم الإجمالی یرتفع التنجیز، وهذا معناه أنّه لا یکفی فی التنجیز حدوث العلم الإجمالی سابقاً، وإنّما لابدّ من فرض بقائه واستمراره فی کل آنٍ، الأصول إنّما تتعارض وتتساقط إذا تنجّزت حرمة المخالفة القطعیة فی ذاک الآن، وإنّما تتنجّز حرمة المخالفة القطعیة فی ذلک الآن إذا کان العلم الإجمالی موجوداً فی ذلک الآن، ولا یکفی وجوده السابق، العلم الإجمالی بوجوده السابق لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فی الآن الآخر، وإنّما الذی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فی الآن الثانی، وبالتالی یوجب تعارض الأصول وتساقطها هو وجود العلم الإجمالی فی الآن الثانی، وهذا معناه أنّ الذی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فی العلم الإجمالی الثانی وبالتالی یوجب تعارض الأصول وتساقطها هو العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی، هذا یوجب تعارض الأصول فی الأطراف، ومن الواضح أنّ العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی هو فی عرض العلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی ولیس متقدّماً علیه. نتیجة هذا أنّ الإناء الأسود المشترک الأصل فیه کان له معارض واحد فی فترة ما قبل الظهر فی المثال السابق، وهو الأصل فی الإناء الأبیض، لکن فی فترة ما بعد الظهر الأصل فی الإناء الأسود له معارضان، وهما عبارة عن الأصل فی الإناء الأبیض، والأصل فی الإناء الأحمر، هذه الأصول متعارضة، فتتساقط، فیتنجّز العلم الإجمالی، وهذا هو الرأی الثالث، أنّه فی المقام لا انحلال، العلم الإجمالی الأوّل لا ینحل بالعلم الإجمالی الثانی فی کل هذه الحالات المتقدّمة؛ بل یکون العلم الإجمالی الثانی منجّزاً لکلا طرفیه کما هو الحال فی العلم الإجمالی الأوّل، وهذا معناه أنّ الأطراف الثلاثة تتنجّز بهذین العلمین.

ص: 139

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

انتهی الکلام عن أحد التنبیهات المرتبطة بأصل المسألة، وهو اشتراک العلمین الإجمالیین فی طرفٍ واحد.

قبل أن ننتقل إلی البحث الآخر الذی هو فی ما إذا کان هناک أثر مشترک للطرفین وکان أحد الطرفین یختص باثرٍ زائد، والکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالی هل ینجّز هذا الأثر الزائد کما ینجّز الأثر المشترک، أو لا ؟ قبل ذلک بقیت مسألة ترتبط ببحثٍ تقدّم، لابدّ من الإشارة إلیها، وهذه المسألة ترتبط بالبحث عن انحلال العلم الإجمالی بقیام الإمارة أو الأصل، أنّ الإمارة المثبتة للتکلیف، والأصل المثبت للتکلیف یوجب انحلال العلم الإجمالی انحلالاً حکمیّاً، وهذا تقدّم سابقاً، لکن اشترط فی الانحلال أن لا تتأخّر الإمارة عن العلم الإجمالی.

أو بعبارةٍ أخری: یُشترط معاصرة الإمارة للعلم الإجمالی حتّی تکون موجبة لانحلاله حکماً، وأمّا إذا فرضنا أنّ الإمارة کانت متأخّرة زماناً عن العلم الإجمالی، فمثل هذا العلم الإجمالی لا ینحل، وإنّما یبقی علی منجّزیته؛ لأنّه فی فترة ما قبل قیام الإمارة لیس هناک ما یوجب تنجّز التکلیف فی أحد الأطراف؛ لأنّ الإمارة متأخّرة عن العلم الإجمالی، وهذا معناه أنّ الأصول تجری فی جمیع الأطراف وتتعارض وتتساقط فیکون العلم الإجمالی منجّزاً، بخلاف ما إذا کانت الإمارة المثبتة للتکلیف فی أحد الأطراف معاصرة للعلم الإجمالی، فی هذه الحالة لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً؛ لأنّ الأصل الترخیصی یجری فی الطرف الآخر الذی لم تقم علیه الإمارة بلا معارض، فلا یکون العلم الإجمالی منجّزاً، یعنی ینحل العلم الإجمالی، وهذا هو الذی یُسمّی بالانحلال الحکمی.

ص: 140

قلنا أنّ هذا الشرط یرِد علیه إشکال: بأنّه کیف نجیب عن دعوی الإخباریین بأنّ هناک علماً إجمالیاً یوجب الاحتیاط؛ لأنّنا نعلم إجمالاً بثبوت تکالیف واقعیة فی ضمن هذه الشبهات، وقالوا بأنّ هذاالعلم الإجمالی منجّز، فیجب الاحتیاط فی جمیع أطرافه، وبالنتیجة یجب الاحتیاط فی کلّ شبهة؛ لأنّ کل شبهة هی طرف لهذا العلم الإجمالی، فیجب الاحتیاط ولا تجری البراءة فی الشبهة.

أجیب عن هذا الرأی للإخباریین بأنّ العلم الإجمالی هنا منحل، فالعلم الإجمالی بثبوت تکالیف فی ضمن الشبهات ینحل بقیام الإمارات المثبتة للتکلیف، عندما تقوم إمارات مثبتة للتکلیف فی بعض الشبهات، هذا یحل العلم الإجمالی، وأجابوا عنه بأنّ: هذا العلم الإجمالی یقتضی التنجیز والاحتیاط لو لم تکن هناک إمارات مثبتة للتکلیف، لکن عندما تقوم الإمارات المثبتة للتکلیف هذا یوجب انحلال هذا العلم الإجمالی، فلا یجب الاحتیاط.

الإشکال الذی یطرح هو: أنّ هذا الجواب لیس تامّاً؛ لأنکم تشترطون فی تنجیز العلم الإجمالی معاصرة الإمارة المثبتة للتکلیف للعلم الإجمالی، والحال أنّ الإمارات التی قامت علی ثبوت التکلیف فی بعض الشبهات لیست معاصرة للعلم الإجمالی، المکلّف من حین بلوغه یحصل له علم إجمالی بوجود تکالیف واقعیة فی عددٍ من الشبهات، لکن حصول الإمارات له یکون بالتدریج، بعد مدّة یعثر علی إمارة تثبت التکلیف فی هذه الشبهة، وبعد مدّة أخری یعثر علی إمارة تثبت التکلیف فی شبهةٍ أخری.....وهکذا. إذن: الإمارات المثبتة للتکلیف التی یُدّعی أنّها تحل العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً متأخّرة عن العلم الإجمالی، والمفروض أنّ الشرط فی انحلال العلم الإجمالی حکماً بالإمارة هو معاصرة الإمارة للعلم الإجمالی بینما الإمارات التی تدّعون أنّها توجب انحلال العلم الإجمالی المُدّعی فی کلمات الإخباریین متأخّرة عن العلم الإجمالی، فلا یتحقق فیها شرط الانحلال، فتبقی دعوی الإخباریین علی حالها، أنّ هذا العلم الإجمالی بوجود تکالیف عدیدة فی ضمن الشبهات هو علم إجمالی منجّز، فیجب الاحتیاط، وقیام الإمارات بعد ذلک لا یوجب انحلال هذا العلم الإجمالی، فکل شبهة تقوم الإمارة فیها علی ثبوت التکلیف نلتزم به، وفی الباقی نلتزم بالاحتیاط ولا نرجع إلی البراءة. هذا هو الإشکال الذی ینشأ من هذا الشرط.

ص: 141

قلنا أنّهم أجابوا عن هذا الإشکال بأجوبةٍ طرحناها سابقاً ولا داعی لتکرارها، لکن الکلام فی جواب السید الشهید(قدّس سرّه)، وخلاصة ما ذکرناه هو: (1) أنّه(قدّس سرّه) یقول أنّ أساس الإشکال مبنی علی افتراض أنّ الأحکام الظاهریة لیست متنافیة ومتضادّة فی أنفسها، فلا تنافٍ بین حکمٍ ظاهری وحکمٍ ظاهریٍ آخر، لا تنافی بین براءة واحتیاط، ولا بین براءةٍ وبین حجّیة خبر یدل علی ثبوت التکلیف، وإنّما یکون بینهما تنافٍ بلحاظ عالم المحرّکیة، إذا وصل أحد الحکمین الظاهریین؛ حینئذٍ یکون منافٍ لحکمٍ ظاهریٍ آخر فی عالم المحرّکیة بعد فرض الوصول، أمّا قبل الوصول، بلحاظ الواقع، وفی نفس الأمر لا یوجد تنافٍ بین الأحکام الظاهریة، وبهذا تختلف عن الأحکام الواقعیة، فالأحکام الواقعیة یوجد بینها تنافٍ واقعی؛ إذ لا یمکن اجتماع حکمین واقعیین قبل فرض الوصول، بأن یکون الشیء واجباً وحراماً، هذا محال وغیر ممکن، بینما لا مانع من اجتماع الأحکام الظاهریة. یقول: الإشکال مبنی علی هذا الرأی، ومن هنا یقال: أنّ الإمارة التی تکون بعد العلم الإجمالی علی ثبوت التکلیف فی شبهة معیّنة، والإمارة تکون حجّة شرعاً، هذه لا تکون کاشفة عن عدم جریان الترخیص فی تلک الشبهة من أوّل الأمر، لا منافاة بین أن تکون هذه الشبهة مورداً للترخیص فی بدایة الأمر وبین قیام الإمارة بعد ذلک علی ثبوت التکلیف فیها، الحجّیة الثابتة للإمارة الدالة علی ثبوت التکلیف فی شبهة لا تنافی الترخیص الظاهری الثابت فی تلک الشبهة فی بدایة الأمر، فإذن: لا تکون کاشفة عن عدمه، فإذا لم تکن کاشفة عن عدمه، فالترخیص الظاهری فی هذه الشبهة من أوّل الأمر، ولیس من بعد وصول الإمارة، یکون ثابتاً فی هذه الشبهة التی هی مورد للإمارة بعد ذلک، وهذا الترخیص یُعارض بالترخیص فی الطرف الآخر، وإذا تعارضت الترخیصات تساقطت، فیتنجّز العلم الإجمالی.

ص: 142


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج3، ص385.

السیّد الشهید(قدّس سرّه) یقول: نحن نستطیع أن نثبت أنّ الشبهة التی هی مورد الإمارة المتأخّرة من أول الأمر لیست مورداً للترخیص الظاهری، والشبهة التی هی مورد الإمارة إذا لم تکن مورداً للترخیص الظاهری، یجری الترخیص الظاهری فی الشبهة الأخری التی هی غیر مورد الإمارة بلا معارض، وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی، وبه یکون الجواب عن الإشکال المتقدّم. یقول: والدلیل علی ذلک هو مسلکنا فی تفسیر الأحکام الظاهریة، أنّ الأحکام الظاهریة هی أحکام تبرز اهتمام المولی وعدم اهتمامه، الاحتیاط یبرز تقدیم الأغراض اللّزومیة علی الأغراض الترخیصیة، والبراءة تبرز اهتمام المولی بالأغراض الترخیصیة، الإباحة وإطلاق العنان وتقدیمها علی الأغراض اللّزومیة. هذا واقع الأحکام الظاهریة، الأحکام الظاهریة لیست لها ملاکات خاصّة بها غیر ملاکات الواقع، لکن فی مرحلة الاختلاط یقدّم الشارع الأغراض الترخیصیة فیجعل البراءة، أو یقدّم الأغراض اللّزومیة فیجعل الحجّیة للخبر المثبت للتکلیف.

إذن: الحکمان الظاهریان متنافیان، الاحتیاط _________ مثلاً _________ یعنی اهتمام الشارع بالأغراض اللّزومیة، وتقدیمها علی الأغراض الترخیصیة، بینما البراءة تعنی العکس، تعنی تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة، ومن الواضح عدم إمکان الجمع بینهما، لا یمکن للشارع فی نفس الوقت أن یقدّم الأغراض الترخیصیة، وفی نفس الوقت یقدّم الأغراض اللّزومیة؛ لأنّهما متضادان ومتنافیان فی أنفسهما بقطع النظر عن الوصول، سواء وصلا، أم لم یصلا، الشارع عندما یجعل الاحتیاط، فهذا یعنی أنّه قدّم الأغراض اللّزومیة، وعندما یجعل البراءة، فهذا یعنی أنّه قدّم الأغراض الترخیصیة، وصل الترخیص إلی المکلف، أو لم یصل، وصلت الحجّیة إلی المکلّف أو لم تصل، لا علاقة له بمرحلة وصول الحکم إلی المکلّف، فی نفس الأمر والواقع یوجد تنافی بین الحکمین الظاهریین. إذن: یکون حال الحکمین الظاهریین بلحاظ نفس الأمر والواقع حال الحکمین الواقعیین، هناک بینهما تنافٍ واقعی، فقهراً یکون الدلیل الدال علی أحدهما نافیاً للآخر فی الواقع وفی نفس الأمر، فإذا دلّ دلیل علی وجوب شیءٍ، قهراً هو ینفی حرمته، وإباحته؛ لأنّه لا یمکن أن یکون الشیء الواحد فی الواقع وفی نفس الأمر، واجباً وحراماً. نفس الکلام یقال فی الأحکام الظاهریة، الدلیل الدال علی حجّیة الإمارة المثبتة للتکلیف فی شبهةٍ ینفی البراءة؛ لأنّ البراءة تعنی تقدیم الأغراض الترخیصیة والاهتمام بها، بینما جعل الحجّیة للإمارة المثبتة للتکلیف تعنی الاهتمام بالأغراض اللّزومیة وتقدیمها علی الأغراض الترخیصیة، هذان أمران متنافیان، فإذا قامت الإمارة بعد العلم الإجمالی، وکانت دالة علی ثبوت التکلیف فی شبهة؛ حینئذٍ هی تنفی جریان البراءة فی تلک الشبهة من أول الأمر. إذن: هذه الشبهة التی هی مورد الإمارة المتأخّرة هی لیست مورداً للبراءة من البدایة، إذا ثبت هذا؛ حینئذٍ ینحل العلم الإجمالی؛ لأنّ هذا معناه أنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً؛ لأنّ الأصل الترخیصی المؤمّن یجری فی الشبهة الأخری غیر مورد البراءة بلا معارض؛ لأنّ الشبهة التی هی مورد البراءة لا یجری فیها الأصل الترخیصی؛ لأنّ الدلیل دل علی حجّیة الإمارة المثبتة للتکلیف فیها، وهذا حکم ظاهری منافٍ للترخیص الظاهری، فلا یمکن أن یجتمعا. وهذا لا علاقة له بوصول الأمر إلی المکلّف. یقول(قدّس سرّه): بناءً علی هذا المبنی، الإشکال لا أساس له أصلاً؛ لأنّه بناءً علی هذا المبنی ینحل العلم الإجمالی بشکلٍ واضح؛ لأنّ الأصل الترخیصی یجری فی الشبهات غیر مورد الإمارات بلا معارض، فبالنتیجة لا یتم کلام الإخباریین، یعنی بالإمکان أن نجری البراءة فی الشبهة التی لیس فیها إمارة مثبتة للتکلیف، ولا یجب فیها الاحتیاط.

ص: 143

قد یقال: أنّ معنی هذا الجواب هو أنّه عندما تواجهنا شبهة، وفعلاً لا نعلم بوجود إمارة مثبتة للتکلیف فیها، هنا هل یجوز إجراء البراءة فی هذه الشبهة، أو لا یجوز إجراء البراءة ؟ بناءً علی هذا الکلام مقتضی القاعدة أن یکون جریان البراءة فیها منوطاً بعدم قیام إمارة علی ثبوت التکلیف فیها ولو بعد ذلک، والآن نحن لا نحرز ذلک، فلعلّه بعد ذلک تقوم إمارة تثبت التکلیف فی الشبهة، فکیف یجوز لنا إجراء البراءة فی هذه الشبهة، والحال أنّه لا إشکال علی نطاق الأصولیین أنّ هذه الشبهة یجوز إجراء البراءة فیها، ولا أحد یقول بعدم جواز إجراء البراءة؛ بل یجوز إجراء البراءة فی هذه الشبهة، بالرغم من أننا نحتمل قیام إمارة مثبتة للتکلیف فیها، إذا کان قیام الإمارة المثبتة للتکلیف فی وقتٍ لاحقٍ کاشف عن عدم جریان البراءة فی هذه الشبهة من البدایة، فکأنّ جریان البراءة فی هذه الشبهة من البدایة منوط بعدم قیام إمارة علی التکلیف فیها، وهذا معناه أنّه لابدّ أن نلتزم بأنّ المکلّف الذی یحرِز عدم قیام إمارة فی هذه الشبهة یجوز له إجراء البراءة، أمّا المکلّف الذی لا یحرز ذلک، ویحتمل قیام إمارة مثبتة للتکلیف فی هذه الشبهة، فکأنّه لا یحرز شرط جریان البراءة.

بعبارةٍ أخری: إنّ موضوع البراءة لیس هو الشکّ فی التکلیف فقط، وإنّما الشکّ فی التکلیف مع عدم قیام إمارة علی الخلاف؛ لأنّ قیام إمارة مثبتة للتکلیف ینافی جریان البراءة. إذن: لا یکفی فی جریان البراءة الشکّ فقط، وإنّما الشکّ مع عدم قیام إمارة،کما لابدّ من إحراز الشکّ، کذلک لابدّ من إحراز الجزء الآخر من الموضوع وهو عدم قیام إمارة علی التکلیف فی تلک الشبهة، لکن بعض الأحیان لا یستطیع المکلّف أن یحرز عدم قیام إمارة، أو فی معظم الحالات _________ علی الأقل _________ لا یمکنه إحراز عدم قیام إمارة لإثبات التکلیف فی تلک الشبهة، وهذا معناه یؤدّی إلی عدم إمکان إجراء البراءة، فهل یمکن الالتزام بذلک ؟ من الواضح أنّه لا یمکن الالتزام بذلک، بلا إشکال یجوز إجراء البراءة، علی الأقل فی نطاق علمائنا الأصولیین، فکیف نتخلّص من هذا السؤال ؟

ص: 144

هناک توضیح ذکره بعض تلامذة المرحوم السید الشهید(قدّس سرّه)، نذکره لکی تنحل هذه الشبهة، وحاصله: یوجد عند المکلّف نوعان من الشکّ بینهما طولیة، الشکّ الأوّل: هو الشک فی أنّ هذا واجب، أو حرام ؟ واجب، أو مباح ؟ فی الشبهة الوجوبیة. أو أنّ هذا حرام، أو مباح فی الشبهة التحریمیة ؟ هذا شکّ فی الحکم الإلزامی. فیشکّ _____________ مثلاً ____________ فی أنّ لحم الأرنب حرام، أو حلال ؟ أو یشکّ فی أنّ جلسة الاستراحة واجبة، أو لیست واجبة ؟ . فی نفس الوقت یمکن فرض أنّ هذا المکلّف یشکّ فی أنّه هل هناک إمارة مثبتة للحرمة فی هذه الشبهة التحریمیة، أو لا ؟ هل هناک إمارة مثبتة للوجوب فی الشبهة الوجوبیة، أو لا ؟ لا منافاة بین الشکّین، المکلّف یشکّ فی أنّ لحم الأرنب حرام، أو حلال، وفی نفس الوقت یشکّ فی أنّه هل هناک إمارة تدلّ علی حرمة أکل لحم الأرنب، أو لا توجد إمارة ؟ لا إشکال فی أنّ الشکّ الأوّل الذی یعرض علی المکلّف، نؤمن بأنّ الشارع جعل الترخیص ظاهری فی هذه الشبهة التی هی مورد هذا الشک إذا لم تقم إمارة علی ثبوت التکلیف فیها، إذا قامت إمارة علی ثبوت التکلیف فی هذه الشبهة وأنّ لحم الأرنب حرام، الشارع لا یجعل الترخیص. نعم، فی غیر مورد الإمارة الشارع جعل الترخیص. إذنک جعل الترخیص بلحاظ الشکّ الأوّل، یکون کأنّه منوط بعدم قیام إمارة علی ثبوت التکلیف فی تلک الشبهة، وإلاّ فالشارع لا یجعل هذا الترخیص الظاهری.

إذن: جعل الترخیص الظاهری من قِبل الشارع إنّما هو فی مورد عدم قیام إمارة علی ثبوت التکلیف فی تلک الشبهة. وأمّا فی موارد قیام الإمارة علی ثبوت التکلیف فی تلک الشبهة، الشارع لا یجعل ترخیصاً ظاهریاً فی تلک الشبهة.

ص: 145

أمّا الشکّ الثانی، الذی هو الشکّ فی أنّ الشارع هل جعل إمارة علی الحرمة، أو لا ؟ فی هذا الشک لا مانع أیضاً من أن یجعل الشارع الترخیص الظاهری فیه؛ لأنّ هذا الشک یعنی الاشتباه بین أغراضٍ یهتم بها الشارع، وبین أغراضٍ لیست مهمّة عند الشارع، یعنی أنّ هناک أغراضاً یهتم بها الشارع بأنّ جعل فیها الحجّیة للإمارات المثبتة للتکلیف، ولدینا شبهات لم یجعل الشارع فیها الحجّیة للإمارات القائمة فی تلک الموارد. هذه الشبة التی یواجهها المکلّف بلحاظ الشکّ الثانی هو لا یعلم أنّ الأغراض هنا هل هی من الأغراض المهمّة التی تستدعی جعل الحجّیة للإمارة، وجعل الإمارة حجّة فیها، أو هی لیست من الأغراض المهمّة ولا یهتم بها الشارع، فالاشتباه یکون فی أنّه هل هی من الأغراض المهمّة أو لا ؟ فلا مانع من أن نفترض أنّ الشارع یجعل ترخیصاً ظاهریاً. هذا الترخیص الثانی هو فی طول الترخیص الأوّل، یعنی فی طول اهتمام الشارع بالأغراض الترخیصیة؛ ولذا جعل الترخیص، وعدم اهتمامه بالأغراض اللّزومیة بلحاظ الشک الأوّل، أی الشک فی أنّ هذا حرام، أو حلال، الشارع یجعل الترخیص الظاهری، ومعنی هذا الترخیص الظاهری أنّه یقدّم الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة . فی طول هذا ینشأ هذا الاشتباه والشکّ، بعد أن قدم الشارع الأغراض الترخیصیة واهتم بها ولم یهتم بالأغراض اللّزومیة یحصل عند المکلّف شکّ فی أنّ الشارع جعل إمارة حجّة مثبتة للتکیف، أو لا ؟ یعنی یحصل له شکّ فی أنّ هذه الأغراض الموجودة فی المقام مهمّة بنظر الشارع، أو لیست مهمّة. هذا الشکّ الترخیصی الثانی موضوعه فقط وفقط هو الشکّ فی أنّه هل هناک إمارة، أو لا ؟ إذا کان هذا هو موضوعه؛ حینئذٍ یقال بأنّ العلم الإجمالی بلحاظ هذا الترخیص یکون منجّزاً؛ لأنّ موضوع هذا الترخیص هو الشکّ فی أنّ الشارع جعل إمارة فی هذه الشبهة، أو لم یجعل إمارة، ومن الواضح أنّ هذا الشک کما هو موجود فی هذه الشبهة التی قامت الإمارة بعد ذلک علی ثبوت التکلیف فیها، وموجود أیضاً فی الشبهة التی لم تقم الإمارة علی ثبوت التکلیف فیها بعد ذلک، فی کلٍ منهما یوجد شکّ، هنا فی الشبهة الأولی أشک فی أنّ الشارع جعل إمارة علی ثبوت التکلیف، أو لا ؟ الشبهة التی قامت الإمارة یعد ذلک علی ثبوت التکلیف فیها، لکن الآن أنا أشک فی أنّه جعل إمارة علی ثبوت التکلیف فیها، أو لا ؟ وقلنا أنّ موضوع الترخیص الظاهری فی هذه المرحلة هو الشک فقط، وهذا الشک بنفسه موجود فی الشبهة الأخری التی لم تقم الامارة علی ثبوت التکلیف فیها، أیضاً یشکّ المکلف فیها، بأنّ الشارع هل جعل إمارة مثبتة للتکلف فیها, أو لا ؟ إذن: الشک هنا موجود فی الشبهات التی هی مورد الإمارات المتأخّرة، وموجود أیضاً فی الشبهات التی هی لیست مورداً للإمارات المتأخّرة، الشکّ فیهما موجود، موضوع الترخیص فی کلٍ منهما متحقق. إذن: یجری الترخیص هنا ویجری هنا، تتعارض الترخیصات، وتتساقط، فیتنجّز العلم الإجمالی.

ص: 146

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق الجواب عن الإشکال المذکور فی کلمات السید الشهید(قدّس سرّه)، وذکرنا بأنّه یمکن أن یُفسّر کلامه بأنّ المقصود به هو دعوی أنّ الإمارة الحجّة لو کانت ثابتة فی الواقع علی التکلیف، فلا یُعقل جعل الترخیص فی مورد الإمارة، یعنی فی الشبهة التی هی مورد الإمارة حتّی تثار الإشکالات، لیس هذا هو المقصود، أنّ الإمارة بوجودها الواقعی، الإمارة المثبتة للتکلیف لو کانت موجودة فی الواقع، فیستحیل جعل الترخیص الظاهری فی الشبهة التی هی مورد الإمارة، لیس هذا هو المقصود حتّی یقال أنّ هذا یؤدّی إلی عدم إمکان إثبات الترخیص فی کل شبهةٍ نحتمل فیها ورود إمارة مثبتة للتکلیف فیها، وإنما المقصود هو أنّه بالرغم ممّا قلناه سابقاً یمکن جعل الترخیص الظاهری فی تلک الشبهة التی هی مورد الإمارة، الذی قلناه فی الدرس السابق هو أنّه بین الحجّیة وبین الترخیص تنافٍ واقعی ذاتی، فیستحیل الجمع بینهما، أی یستحیل الجمع بین حکمین ظاهریین کما هو الحال فی الأحکام الواقعیة. إذن: عندما یثبت أحد الحکمین الظاهریین لا محالة لا یثبت الآخر، بالرغم من هذا یقول یمکن جعل الترخیص الظاهری فی الشبهة مورد الإمارة بالرغم من افتراض وجود إمارة حجّة دالة علی التکلیف فی تلک الشبهة، کیف یمکن ذلک مع أنّه یوجد بینهما تنافٍ ؟ الحل هو ما ذکرنا مقدّماته فی الدرس السابق، وهو أن نقول أنّ الترخیص الذی یمکن فرضه فی الشبهة مورد الإمارة هو الترخیص الظاهری بلحاظ المرحلة الثانیة من الشک کما تقدّم، والتی هی الشکّ فی وجود الإمارة وعدم وجودها، حیث قلنا أنّ هناک نوعین من الشک، شکّ فی أنّ هذا حلال، أو حرام، وهناک شکّ فی أنّه هل هناک إمارة علی الحرمة، أو لیس هناک إمارة علی الحرمة، وقلنا أنّه لا مانع من جعل الترخیص فی الشکّ فی المرحلة الثانیة کما یمکن جعله فی الشک فی المرحلة الأولی. هذا الشک فی المرحلة الثانیة یمکن فیه جعل الترخیص فی الشبهة التی هی مورد الإمارة، هذه الشبهة التی تشک فی أنّ لحم الأرنب حلال، أو حرام، ولنفترض أنّ هناک إمارة حجّة موجودة فی الواقع ستظهر فی ما بعد تدلّ علی حرمته، یقول لا مانع من جعل الترخیص الظاهری فی هذه الشبهة، لکن بلحاظ أنّک تشکّ فی وجود إمارةٍ أو عدم وجود إمارة، یمکن جعل الترخیص بهذا اللّحاظ عندما تشکّ فی أنّه هل هناک إمارة مثبتة للحرمة، أو لا ؟ الشارع یقول ابنِ علی التأمین، أنت غیر ملزم بالاحتیاط من ناحیة هذا الشک. نحن لا نتکلّم عن الترخیص الظاهری بلحاظ هذه المرحلة، وإنّما الکلام عن الترخیص الظاهری بلحاظ المرحلة الأولی، وبلحاظ المرحلة الأولی لا یُعقل جعل الترخیص الظاهری فی الشبهة التی هی مورد الإمارة الحجّة المثبتة للتکلیف للتضاد بین الحجّیة للإمارة المثبتة للتکلیف، وبین الترخیص الظاهری، لکن هذا لا ینافی الالتزام بإمکان جعل الترخیص الظاهری فی تلک الشبهة بلحاظ المرحلة الثانیة، وبناءً علی هذا الکلام، فالترخیص الظاهری فی الشبهة مورد الإمارة بلحاظ المرحلة الثانیة یعارض بالترخیص الظاهری فی الشبهة غیر مورد الإمارة التی لا یوجد فیها إمارة، فتتعارض الترخیصات الظاهریة المجعولة بلحاظ الشکّ فی المرحلة الثانیة وتتساقط. وأمّا الترخیص الظاهری المجعول بلحاظ المرحلة الأولی من الشک، فهذا یستحیل افتراضه فی الشبهة التی هی مورد للإمارة؛ لأنّ هذا الترخیص الظاهری المجعول فی الشبهة یضاد وینافی الحجّیة للإمارة المثبتة للتکلیف. لا یمکن أن یقول أنّ هذه الإمارة المثبتة للتکلیف حجّة فی هذه الشبهة، وفی نفس الوقت یجعل له ترخیص؛ لأنّ الترخیص کما تقدّم یعنی تقدیم الأغراض الترخیصیة علی اللّزومیة، بناءً علی هذا المسلک، بینما الحجّیة للإمارة المثبتة للتکلیف، یعنی الاهتمام بالأغراض اللّزومیة وتقدیمها علی الأغراض الترخیصیة، وهذان لا یمکن الجمع بینهما، فالدلیل الدال علی قیام الإمارة الحجّة علی ثبوت التکلیف فی تلک الشبهة یکشف لا محالة عن عدم جریان الترخیص الظاهری فی تلک الشبهة، فإذا لم تکن الشبهة من أوّل الأمر مورداً للترخیص الظاهری؛ حینئذٍ یجری الترخیص الظاهری فی الشبهة الأخری فی الشبهة غیر مورد الإمارة بلا معارض، وبهذا یکون الجواب عن شبهة الإخباریین، وهو أنّه صحیح، أنّ المکلّف تعرض علیه شبهات کثیرة ویعلم علماً إجمالیاً بأنّ فی هذه الشبهات توجد جملة من الإمارات مثبتة لجملة من التکالیف اللّزومیة، لکن هذا العلم الإجمالی منحل بقیام جملة من الإمارات المثبتة لجملة من التکالیف فی جملة من تلک الشبهات، وهذه الإمارات وإن کان قیامها متأخّراً زماناً عن زمان العلم الإجمالی، لکن هذا لا یمنع من الالتزام بانحلال هذا العلم الإجمالی وعدم وجوب الاحتیاط بلحاظه؛ لأنّ الإمارة المثبتة للتکلیف القائمة فی ما بعد تکشف عن أنّ موردها لیس مورداً للترخیص الظاهری لاستحالة الجمع بینها وبین الترخیص الظاهری فی موردها، فإذا لم تکن هذه الشبهة التی هی مورد الإمارة مورداً للبراءة والترخیص الظاهری فیجری الترخیص الظاهری فی الشبهة التی هی لیست مورداً للإمارة بلا معارضٍ، وهذا هو معنی الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی. هذا ما یرتبط بالدرس السابق.

ص: 147

الآن ندخل فی البحث الجدید: ویقع فی ما إذا کان أحد الطرفین للعلم الإجمالی له اثر زائد بأن فرضنا أنّ هناک أثراً مشترکاً بین الطرفین، وهناک أثر مختص بأحد الطرفین، فیکون لأحد الطرفین اثر زائد علی الأثر الموجود فی الطرف الآخر، ویُمثّل له بما إذا علم إجمالاً بوقوع نجاسةٍ إمّا فی الإناء الذی فیه ماء مطلق، أو فی الإناء الذی فیه ماء مضاف. هنا یوجد اثر مشترک وهو حرمة الشرب، سواء وقعت النجاسة فی الماء المطلق، أو وقعت فی الماء المضاف، فإذا وقعت فی الماء المطلق یحرم شربه، وإذا وقعت فی الماء المضاف أیضاً یحرم شربه، لکنّ وقوع النجاسة فی الماء المطلق له أثر مختص وهو عدم جواز الغُسل والوضوء به، حرمة الوضوء به حرمةً وضعیّةً، هذا أثر لوقوع النجاسة فی الماء المطلق، وهذا الأثر لیس من آثار نجاسة الماء المضاف؛ لأنّ الماء المضاف اساساً لا یجوز الوضوء به.

إذن: هناک أثر مختص بأحد الطرفین، وهناک أثر مشترک یشترک فیه کلا الطرفین، بمعنی أنّ النجاسة فی أیّ طرفٍ وقعت یثبت لها هذا الأثر المشترک، لکنّ الأثر المختص لیس من آثار وقوع النجاسة فی أیّ طرف، وإنّما هو من آثار وقوع النجاسة فی الماء المطلق دون الماء المضاف.

الکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالی هل ینجّز جمیع الآثار ؟ أی هل ینجز حرمة الشرب وعدم جواز الوضوء، أو أنّه ینجّز خصوص الأثر المشترک ؟ وأمّا الأثر المختص، فالعلم الإجمالی لا ینجّزه؛ بل الشک بلحاظه یکون شکّاً بدویاً، فیمکن الرجوع فیه إلی الأصول المؤمّنة.

اختلفوا فی هذه المسألة، فذهب المحقق النائینی(قدّس سرّه) إلی الثانی، (1) یعنی إلی أنّ العلم الإجمالی ینجّز خصوص الأثر المشترک، وأمّا الأثر المختص، فالعلم الإجمالی لا ینجّزه؛ بل یمکن الرجوع فیه إلی الأصول المؤمّنة، واستدل علی ذلک بأنّ الأصل فی کل طرف یُعارض بمثله فی الطرف الآخر بالنسبة إلی الأثر المشترک، قاعدة الطهارة، أو استصحاب الطهارة فی الماء المطلق مُعارض بقاعدة الطهارة، أو استصحاب الطهارة فی الماء المضاف، کلٌ منهما یستحق هذا الأصل، کلٌ منهما یُشکّ فی نجاسته وطهارته، فیستحق قاعدة الطهارة، ولا یمکن إجراء قاعدة الطهارة فی کلٍ منهما؛ لأنّ هذه مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّه یعلم بثبوت النجاسة فی أحدهما، کما لا یمکن تخصیص قاعدة الطهارة بأحدهما دون الآخر؛ لأنّ هذا ترجیح بلا مرجّح، وهذه هی القاعدة التی توجب تعارض الأصول وتساقطها، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لهذا الأثر المشترک الذی هو حرمة الشرب، فیُحکم علیه بأنّه یحرم علیه شرب هذا الإناء وشرب هذا الإناء الآخر تطبیقاً لقاعدة منجّزیة العلم الإجمالی.

ص: 148


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج2، ص250.

وأمّا بالنسبة إلی الأثر المختص الذی هو عدم جواز الوضوء بالماء المطلق، فهذا یجری فیه الأصل بلا معارضٍ، تجری فیه قاعدة الطهارة ولا تُعارَض قاعدة الطهارة فی الماء المطلق بقاعدة الطهارة فی الماء المضاف لما قلناه من أنّ عدم جواز الوضوء بالماء المضاف لیس من آثار نجاسة الماء المضاف، فتجری قاعدة الطهارة فی الماء المطلق من دون أنّ تعارض بأصلٍ مماثل فی الطرف الآخر بالنسبة إلی الأثر المختص، بخلافه بلحاظ الأثر المشترک، فأنّ القاعدة تُعارَض بمثلها فی الطرف الآخر، فتتساقط ویتنجّز العلم الإجمالی بلحاظ الأثر المشترک دون الأثر المختص. وبناءً علیه: لا یجوز له شرب الماء المطلق ولا الماء المضاف، لکنّه یجوز له الوضوء بالماء المطلق تمسّکاً بالأصل المؤمّن الذی هو قاعدة الطهارة التی لا معارض لها فی الطرف الآخر.

السید الخوئی (قدّس سرّه) ذهب إلی الرأی الأوّل وخالف استاذه، (1) وذهب إلی أنّ العلم الإجمالی ینجّز جمیع الآثار، واستدلّ علی ذلک بأنّ جواز الوضوء بالماء المطلق متفرّع علی جریان قاعدة الطهارة فیه، کیف یمکن أن نثبت أنّ هذا الماء المطلق الذی نشکّ فی طهارته ونجاسته یجوز الوضوء به ؟ لا یمکن إثبات جواز الوضوء بهذا الماء المشکوک الطهارة والنجاسة إلاّ بعد إجراء قاعدة الطهارة فیه، فإذن: جواز الوضوء به متفرّع علی جریان قاعدة الطهارة فیه، فإذا فرضنا أنّ قاعدة الطهارة لا تجری فی الماء المطلق؛ لأنّها معارضة بقاعدة الطهارة فی الماء المضاف، فلا تجری قاعدة الطهارة فی الماء المطلق بسبب المعارضة؛ فحینئذٍ لا طریق لنا لإحراز طهارة الماء المطلق حتّی نلتزم بجواز الوضوء به.

ص: 149


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص374.

بعبارةٍ أخری: إنّ جواز الوضوء بالماء موقوف علی إثبات طهارته، إمّا واقعاً، أو ظاهراً، ولا یمکننا إثبات طهارة الماء المطلق فی المقام واقعاً، ویتعذّر علینا إثبات طهارته ظاهراً استناداً إلی قاعدة الطهارة؛ لأنّ قاعدة الطهارة التی تجری فیه مُعارَضة بقاعدة الطهارة الجاریة فی الماء المضاف، فیتعذّر إثبات طهارة الماء المطلق فی المقام، وبالتالی لا یمکن الالتزام بجواز الوضوء به خلافاً لما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه).

کلام السید الخوئی (قدّس سرّه) کأنّه یفترض أنّ الأثر المختص الذی هو عدم جواز الوضوء بالماء المطلق، النافی لهذا الأثر هو نفس الأصل النافی للأثر المشترک الذی هو قاعدة الطهارة. الأثر المشترک هو حرمة الشرب، النافی لحرمة الشرب والمثبت لجواز الشرب هو قاعدة الطهارة، إذا أثبتنا قاعدة الطهارة ینتفی هذا الأثر وهو حرمة الشرب، هذا الأصل النافی للأثر المشترک هو نفسه نافٍ للأثر المختص، والمفروض أنّ هذا الأصل سقط بالمعارضة مع قاعدة الطهارة فی الماء المضاف، وبهذا نفقد دلیلاً علی إثبات طهارة الماء المطلق، فلا یمکن أن نلتزم بجواز الوضوء به؛ لأنّ الدلیل هو قاعدة الطهارة التی تنفی حرمة الشرب أیضاً لو جرت بلا معارضة، وقاعدة الطهارة فی الماء المطلق معارضة بمثلها فی الماء المضاف، فنفقد الدلیل علی طهارة الماء، وبهذا نصل إلی نتیجة عدم جواز الوضوء بهذا الماء المطلق؛ لأنّه یکفینا لإثبات عدم جواز الوضوء بالماء الشکّ فی أنّ هذا الماء نجس، أو طاهر.

بعبارة أخری: إنّ جواز الوضوء لابدّ فیه من إحراز طهارة الماء، إمّا واقعاً، أو ظاهراً، فإذا شککنا فی ماء أنّه طاهر أو نجس لا یمکن الحکم بجواز الوضوء به إلاّ إذا أحرزنا طهارته، وفی المقام لا یمکن إحراز طهارته، لا واقعاً ولا ظاهراً، فإذن: بالنتیجة لا یجوز الوضوء به.

ص: 150

السید الشهید(قدّس سرّه) علّق علی کلام السید الخوئی(قدّس سرّه) بقوله بأنّ ظاهر هذا الکلام هو أنّه یعترف بخروج الأثر المختص عن دائرة العلم الإجمالی، وإنّما لا یُنفی هذا الأثر، أی لا یمکن إثبات جواز الوضوء بهذا الماء لیس علی أساس منجّزیة العلم الإجمالی، فهو خارج عن دائرة العلم الإجمالی، وإنّما لا یمکن إثبات جواز الوضوء به باعتبار عدم وجود أصلٍ ترخیصی مؤمّن بعد سقوط الأصل بالمعارضة، أی أنّ الأصل المؤمّن الذی یمکن الاعتماد علیه فی إثبات جواز الوضوء غیر موجود، فنلتزم بعدم جواز الوضوء به، لیس من جهة أنّ العلم الإجمالی کما ینجّز حرمة الشرب فی کلٍ من الطرفین، کذلک ینجّز عدم جواز الوضوء بالماء المطلق، وإنّما هو یعترف بأنّه لو بقینا نحن والعلم الإجمالی، العلم الإجمالی لا ینجّز أکثر من حرمة الشرب فی کلٍ منهما ولا ینجّز حرمة الوضوء، وإنّما التزمنا بعدم جواز الوضوء باعتبار عدم وجود دلیلٍ یدلّ علی طهارة الماء؛ لأنّ الدلیل علی طهارة الماء المثبت لجواز الوضوء به هو عبارة عن قاعدة الطهارة، وقاعدة الطهارة قد سقطت بالمعارضة، فیقول أنّ الذی یُفهم من کلامه هو الاعتراف بخروج الأثر المختص عن دائرة العلم الإجمالی، وبناءً علی هذا الفهم من کلام السید الخوئی (قدّس سرّه)؛ حینئذٍ لابدّ أن نفصّل بین ما لو کان الأثر المختص منفیّاً ینفس الأصل الذی ینفی الأثر المشترک وبین ما إذا کان الأثر المختص یستقل بأصلٍ یمکن الاعتماد علیه لنفیه غیر الأصل الذی ینفی به الأثر المشترک، فأن کان الأصل واحداً، ولیس لدینا إلاّ أصل واحد ننفی به الأثر المشترک والأثر المختص؛ حینئذٍ یتم کلام السید الخوئی (قدّس سرّه)؛ لأنّ هذا الأصل سقط بالمعارضة، فلا یبقی دلیل علی جواز الوضوء بالماء المطلق؛ لأنّ الدلیل منحصر بهذا الأصل، والمفروض أنّ هذا الأصل سقط بالمعارضة. وبین حالة أخری یختص الأثر المختص بأصلٍ مستقلٍ، ولیس هو نفس الأصل الذی ننفی به الأثر المشترک، بناءً علی کلام السید الخوئی (قدّس سرّه) لابدّ أن نلتزم بإمکان جریان هذا الأصل کما یُمثل بما إذا فرضنا أنّه علم إجمالاً أنّه استقرض من زید خمسة دنانیر، أو من عمرو عشرة دنانیر، هنا یوجد أثر مشترک وهو أنّه مدین بخمسة دنانیر لزید إن کان هو الذی استقرض منه، ولعمرو إن کان هو الذی استقرض منه، بالضبط مثل حرمة الشرب فی المثال السابق، یحرم شرب الماء المطلق إن وقعت فیه النجاسة، ویحرم شرب الماء المضاف إن وقعت فیه النجاسة، هذا أثر مشترک، وهنا نقول إن کان قد استقرض من زید، فهو مدین له بخمسة دنانیر، وإن کان قد استقرض من عمرو، فهو أیضاً مدین له بخمسة دنانیر قطعاً، هذا أثر مشترک. وهناک أثر زائد یختص به عمرو علی تقدیر أن یکون قد استقرض من عمرو تثبت خمسة دنانیر أخری فی ذمّته، لکن علی تقدیر أن یکون قد استقرض من زید لا تثبت فی ذمته خمسة دنانیر أخری، وإنّما یثبت فقط الأثر المشترک. الأصل الذی ننفی به الأثر المشترک غیر الأصل الذی ننفی به الأثر المختص، أصالة البراءة هنا تجری لإثبات براءة الذمّة من أنه مدین بخمسة دنانیر، أصالة البراءة هذه سقطت بالمعارضة، یعنی أنّ أصالة البراءة من کون ذمته مشغولة لزید معارضة بأصالة البراة من کون ذمّته مشغولة لعمرو بخمسة دنانیر، تتساقطان، لکن تبقی أصالة البراءة جاریة فی الأثر المختص وهو الخمسة الزائدة، أصالة البراءة هذه مستقلّة ولا علاقة لها بأصالة البراءة الساقطة بالمعارضة، هذا موضوع جدید وهو خمسة دنانیر نشکّ فی أنّه مدین بها لعمرو، أو غیر مدین بها لعمرو، فتجری أصالة البراءة بناء علی الکلام الذی یذکره، وهو التفصیل، یعنی لازم کلامه هو التفصیل بین ما إذا کان هناک أصل واحد لهما، وبین ما إذا کان الأثر المختص یختص بأصلٍ یختص به ویمکن إجراءه فیه، فینبغی التفصیل بین الحالتین. (1)

ص: 151


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص163.

الذی یمکن أن یقال فی المقام: الإنصاف أنّ کلام السید الخوئی (قدّس سرّه) لیس ظاهراً ظهوراً واضحاً فی ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) من أنّه یعترف بخروج الأثر المختص عن دائرة العلم الإجمالی، هو غایة ما ذکر هذا المعنی الذی نقلناه عنه قبل قلیل، ما یقوله هو أنّ جواز الوضوء بالماء المطلق متفرّع علی جریان قاعدة الطهارة فیه، وهذا کلام صحیح. ثمّ یقول: أنّ قاعدة الطهارة فی الماء المطلق معارضة بقاعدة الطهارة فی الماء المضاف، فتسقط قاعدة الطهارة فی کلٍ منهما، فلا یبقی ما نثبت به طهارة الماء المطلق حتّی نلتزم بجواز الوضوء به. هذا الکلام یمکن أن یُفسّر بدخول الأثر المختص فی دائرة العلم الإجمالی، باعتبار أنّ تنجیز العلم الإجمالی هو فرع جریان الأصول فی الأطراف وتعارضها وتساقطها، فیتنجّز العلم الإجمالی، والعلم الإجمالی یتنجّز عندما تتعارض الأصول فی الأطراف وتتساقط؛ فحینئذٍ العلم الإجمالی ینجّز الطرفین، کلامه لا ینافی أنّ العلم الإجمالی ینجّز الأثر المختص کما ینجّز الأثر المشترک؛ لأنّه یرید أن یقول أنّ قاعدة الطهارة فی الأطراف الذی هو فی هذا المثال الذی طرحه الذی هو العلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، أحدهما فیه ماء مطلق، والآخر فیه ماء مضاف، جواز الوضوء بالماء المطلق متوقّف علی جریان قاعدة الطهارة، وقاعدة الطهارة تسقط بالمعارضة، وبذلک یتنجّز العلم الإجمالی، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لحرمة الشرب، ومنجّزاً أیضاً لعدم جواز الوضوء به. کلامه لیس واضحاً، یمکن أن یُفسّر بهذا التفسیر، لکن یمکن أن یُفسّر بأنّه لا یرید الاعتراف بأنّ الأثر المختص خارج عن دائرة العلم الإجمالی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

ص: 152

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی ما إذا کان هناک أثر زائد لأحد الطرفین وأثر مشترک لکلا الطرفین، فهل ینجّز العلم الإجمالی کل الآثار، أو ینجّز فقط الأثر المشترک ؟

ما یُفهم من عبارة السید الخوئی(قدّس سرّه) أنّ الأثر الزائد، علی الأقل فی مثل المثال المطروح فی البحث الذی هو مثال الماء المطلق والماء المضاف، الظاهر أنّ الأثر الزائد داخل فی دائرة العلم الإجمالی ویتنجّز بالعلم الإجمالیکما یتنجّز به الأثر المشترک، والسرّ فی ذلک هو أنّ العلم الإجمالی فی المقام لم یتعلّق بالتکلیف بحرمة شرب هذا الإناء، أو هذا الإناء، حرمة شرب الماء المطلق، أو حرمة شرب الماء المضاف حتّی یمکن أن نتصوّر أنّ ذاک الأثر الزائد لیس داخلاً فی دائرة العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی دائر بین حرمة شرب هذا وحرمة شرب هذا، أمّا عدم جواز الوضوء بهذا لیس مشمولاً لهذا العلم الإجمالی، الأمر فی المقام لیس هکذا، العلم الإجمالی تعلّق بنجاسة أحد الإناءین، ما نعلمه إجمالاً هو نجاسة أحد المائعین، المائع المضاف، أو المائع المطلق، بمعنی أنّ متعلّق العلم الإجمالی هو موضوع الأثر الشرعی الذی هو عبارة عن النجاسة، ومن الواضح أنّ العلم بالموضوع هو علم بآثار الموضوع، یعنی العلم الإجمالی بالموضوع هو علم إجمالی بآثار الموضوع، هذا الموضوع الذی هو النجاسة، علی تقدیر أن تکون متحققة بالماء المضاف لها اثر واحد، وأثرها هو حرمة الشرب، لکن علی تقدیر أن تکون متحققة فی الماء المطلق لها أثران ولیس أثراً واحداً، الأوّل هو حرمة الشرب، والثانی هو عدم جواز الوضوء بذلک الماء، ما نعلمه هو نجاسة أحد المائعین؛ حینئذٍ علی تقدیر أن تکون النجاسة فی الماء المطلق یترتب کلا الأثرین، وعلی تقدیر أن تکون النجاسة موجودة فی الماء المضاف یترتب أثر واحد؛ حینئذٍ العلم الإجمالی ینجّز کل هذه الآثار؛ لأنّ العلم الإجمالی بنجاسة الماء المطلق یعنی العلم الإجمالی بکلا الأثرین، یعنی العلم الإجمالی بحرمة شربه، والعلم الإجمالی بعدم جواز الوضوء به، التفکیک بین هذین الأثرین بلحاظ العلم الإجمالی ودعوی أنّ العلم الإجمالی ینجّز الأوّل دون الثانی لا وجه له بعد الالتفات إلی أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بنجاسة أحد المائعین لا بحرمة شرب هذا وبحرمة شرب هذا، والعلم الإجمالی بنجاسة الماء المطلق یعنی العلم الإجمالی بحرمة شربه وعدم جواز الوضوء به، والتفکیک بین هذین الأثرین بلا موجب، فیکون العلم الإجمالی شاملاً للأثر الزائد، ویکون الأثر الزائد داخلاً فی دائرة العلم الإجمالی، ویتنجّز بالعلم الإجمالی؛ بل أکثر من هذا؛ إذ یمکن أن یقال بوجود علمین إجمالیین لا علم إجمالی واحد، هناک علمان إجمالیان فی محل الکلام یشترکان فی طرف وهما عبارة عن العلم الإجمالی بأنّه إمّا یحرم شرب المضاف، أو یحرم شرب الماء المطلق، فی نفس الوقت هناک علم إجمالی آخر ناشئ من العلم بسقوط النجاسة فی أحد المائعین، وهو عبارة عن العلم الإجمالی بأنّه إمّا یحرم شرب الماء المضاف، أو لا یجوز الوضوء بالماء المطلق، هذان علمان إجمالیان، طرفا العلم الإجمالی الأوّل هما حرمة شرب الماء المضاف، وحرمة شرب الماء المطلق، وطرفا العلم الإجمالی الثانی هما حرمة شرب الماء المضاف وعدم جواز الوضوء بالماء المطلق، فحرمة شرب الماء المضاف تکون طرفاً مشترکاً بین هذین العلمین الإجمالیین، وهذان علمان إجمالیان، وقد تقدّم سابقاً أنّ اشتراک العلمین الإجمالیین فی طرف لا یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ بل یبقی العلمان الإجمالیان غیر منحلّین؛ وحینئذٍ ینجّزان کلا الطرفین، کل منهما ینجّز کلا طرفیه، فالعلم الإجمالی الأوّل ینجّز طرفیه، والعلم الإجمالی الثانی ینجّز طرفیه أیضاً، وهذا معناه أنّ کل الآثار بما فیها الأثر الزائد، الأثر المختص، یکون منجّزاً بالعلم الإجمالی لا أنّه یکون خارجاً عن دائرة العلم الإجمالی.

ص: 153

لکن هذا الکلام کلّه نقوله عندما نفترض أنّ الأثر المشترک والأثر المختص فی موضوعین، کما هو الحال فی المثال المطروح، هناک موضوعان، هناک ماء مطلق وماء مضاف، وأحد الأثرین یختص بأحد الموضوعین دون الموضوع الآخر. إذن: هناک موضوعان ثبت فیهما هذان الأثران، الأثر المشترک والأثر المختص، وهکذا فی مثال آخر تقدّم سابقاً، وهو ما إذا علم بأنّه إماّ أن یکون مدیناً لزید بخمسة دراهم، أو مدیناً لعمرو بعشرة دراهم، موضوعان مختلفان.

وأمّا إذا فرضنا أنّهما کانا فی موضوعٍ واحدٍ، کما لو فرضنا أنّه علم بأنّه إمّا استدان من زید خمسة دنانیر، أو نذر أن یعطیه عشرة دنانیر. الظاهر أنّ هذه الحالة خارجة عن محل الکلام، لا إشکال هنا فی هذه الحالة فی عدم تنجیز هذا الأثر بهذا العلم الإجمالی، والسر فی ذلک هو أنّه إذا لاحظنا سبب اشتغال الذمّة یوجد فیه علم إجمالی؛ لأنّ الأمر مردد بین الدَین وبین النذر، السبب غیر واضح، هل هو النذر، أو هو الدَین، فیوجد علم إجمالی بلحاظ السبب، لکن عندما نلحظ المسبّب(المدیونیة) عندما نلحظ اشتغال الذمّة فسنجد أنّه لا یوجد علم إجمالی، وإنّما الأمر یدور بین الأقل والأکثر، ما اشتغلت به الذمة، وما کُلِّف بدفعه، فی الواقع یدور بین الأقل والأکثر، الموضوع واحد إما أنه یجب علیه أن یدفع إلی زید خمسة دنانیر، وإمّا أن یجب علیه أن یدفع له عشرة دنانیر، فالأمر یدور بین الأقل والأکثر، وهنا تجری البراءة لنفی الزائد من دون فرقٍ بین أن یکون الأقل والأکثر استقلالیین، أو أن یکونا ارتباطیین، حتّی لو کانا ارتباطیین أیضاً تجری البراءة لنفی الزائد کما لو فرضنا أنّ الدَین کان علی نحو العام المجموعی والنذر أیضاً کان علی نحو العام المجموع، ولیس فیه انحلال حتّی یکون أقل وأکثر استقلالیاً، وإنّما هو اقل وأکثر ارتباطی، الدَین علی نحو العام المجموعی، والنذر نذر أن یعطیه عشرة دنانیر علی نحو العام المجموعی، هنا یکون الأقل والأکثر ارتباطیین، وعلی کلا التقدیرین تجری البراءة لنفی الزائد، بلا أن یجری فیه الخلاف السابق، والسر فی أنّه لا خلاف فی جریان البراءة فی المقام وعدم تنجّز الأثر الزائد فی هذا المثال _________ فیما لو کانا فی موضوعٍ واحد ____________ وجریان الکلام فیما لو کانا فی موضوعین، السر هو أنّه فیما لو کانا فی موضوعین استطعنا أن نتصوّر علماً إجمالیاً یکون الأثر الزائد طرفاً من أطرافه، فینجّزه؛ بل استطعنا أن نتصوّر علمین إجمالیین یکون الأثر الزائد طرفاً فی أحدهما، وقلنا أنّ العلمین الإجمالیین اللّذین یشترکان فی طرفٍ واحد لا ینحلّ أحدهما بالآخر؛ بل یبقی کلٌ منهما علی حاله، فینجّز أطرافه، فیتنجّز الأثر الزائد، هذا استطعنا أن نتصوّره هناک، أمّا هنا، عندما یکون الموضوع واحداً، هنا لا یوجد علم إجمالی فی الحقیقة والواقع، وإنّما الموجود هو دوران الأمر بین الأقل والأکثر، فهو إمّا أن یکون مدیناً لزید بخمسة دراهم، أو یکون مدیناً له بعشرة دراهم، هذا دوران الأمر بین الأقل والأکثر ولیس علماً إجمالیاً، وإن کان هناک علم إجمالی بلحاظ السبب، لکن بلحاظ ما یدخل فی العهدة، وما یکلّف به المکلّف الأمر یدور بین الأقل والأکثر، فتجری البراءة لنفیه ویخرج عن محل الکلام.

ص: 154

خلاصة الکلام المتقدّم: فی محل الکلام فی ما إذا کان الأثر المشترک والأثر المختص فی موضوعین، الظاهر أنّ العلم الإجمالی ینجّز تمام الآثار بما فیها الأثر المختص والزائد، ولا تجری البراءة لنفی الأثر الزائد، لکن هذا الکلام نقوله بشرط أن یکون الأثر المختص لیس له أصل مستقل یختص به بحیث یکون هذا الأصل المختص به غیر مسانخ للأصل الذی یُراد أن ینفی به الأثر المشترک، الأثر المشترک له أصل یُنفی به، والأثر المختص له أصل آخر غیر مسانخ له، هنا نقول تجری البراءة، کلامنا السابق عندما لا یکون هناک أصل مستقل للأثر الزائد غیر مسانخ للأصل الذی یجری فی الأثر المشترک کما هو الحال فی المثال السابق فی الماء المضاف والماء المطلق، الأصل الموجود هو عبارة عن أصالة الطهارة، هذا أصل واحد یُراد أن ینفی به الأثر المشترک الذی هو حرمة الشرب، ویُراد أن یُنفی به عدم جواز الوضوء، أی إثبات جواز الوضوء استناداً إلی قاعدة الطهارة التی هی نفسها التی یُستنَد إلیها لنفی حرمة الشرب. إذن: الأثر الزائد لیس له أصل مستقل غیر مسانخ للأصل الجاری فی الأثر المشترک. هذا یأتی فیه الکلام السابق ونلتزم فیه بأنّ العلم الإجمالی ینجّز الأثر الزائد کما ینجّز الأثر المشترک.

أمّا إذا فرضنا أنّ الأثر الزائد یختصّ بأصلٍ غیر مسانخ لذلک الأصل کما لو فرضنا أنّ الماء المطلق کانت له حالة سابقة وهی الطهارة بحیث یجری فیه استصحاب الطهارة، مع افتراض عدم وجود حکومة بین الاستصحاب وبین الأصل فی حالات التوافق کما هو أحد الآراء فی المسألة، أنّ الأصلین اللّذین یکون أحدهما حاکماً علی الآخر فی صورة التخالف لا حکومة بینهما فی صورة التوافق، استصحاب طهارة وأصالة طهارة لا تخالف بینهما، متوافقان، فلا حکومة بینهما، فإذا لم تکن هناک حکومة بینهما، کل هذه الأصول تکون أصولاً عرضیة تجری فی عرضٍ واحد، یعنی قاعدة الطهارة فی الماء المضاف، قاعدة الطهارة فی الماء المطلق، واستصحاب الطهارة فی الماء المطلق، کلّها تکون فی عرضٍ واحد ولا طولیة بینهما، وإلاّ إذا قلنا أنّ الحکومة ثابتة بین الاستصحاب والأصل مطلقاً، یعنی حتّی فی حالة التوافق؛ حینئذٍ أصالة الطهارة فی الماء المطلق واستصحاب الطهارة فیه لا یکونان فی عرضٍ واحدٍ؛ لأنّ استصحاب الطهارة یکون حاکماً علی قاعدة الطهارة فی الماء المطلق، ومع هذه الحکومة یکون الاستصحاب الجاری فی الماء المطلق معارضاً لقاعدة الطهارة فی الماء المضاف، کلا نحن نفترض عدم الحکومة، فتکون فی عرضٍ واحدٍ؛ حینئذٍ نقول: فی هذه الحالة لا مانع من جریان استصحاب الطهارة فی الماء المطلق؛ لأنّه أصل مختص بهذا الطرف، مختص بالماء المطلق وغیر مسانخ للأصل الآخر، غیر مسانخ لقاعدة الطهارة، غیر مسانخ لأصالة الطهارة، کلٌ منهما له دلیل مستقل، قاعدة الطهارة لها دلیل وتثبت أمراً، واستصحاب الطهارة له دلیل آخر، کلٌ منهما له دلیل ولا توجد بینهما سنخیة، هذا قاعدة، وهذا استصحاب، فی هذه الحالة یمکن نفی الأثر الزائد استناداً إلی استصحاب الطهارة؛ بل بناءً علی جریان استصحاب الطهارة فی المقام بعد تساقط الأصلین، أو القاعدتین فی الطرفین؛ حینئذٍ یمکن لیس فقط أن ننفی الأثر الزائد، وإنّما ننفی حتّی الأثر المشترک بالنسبة إلی الماء المطلق، هذا یمکن أن یقال به. علی کل حال، یمکن إجراء استصحاب الطهارة لنفی الأثر الزائد فی المقام، والسر فی ذلک هو أنّ دلیل الاستصحاب لا یُبتلی بالإجمال الذی هو السبب فی تساقط الأصلین فی الطرفین، قاعدة الطهارة فی هذا الطرف، وأصالة الطهارة فی هذا الطرف، من الواضح جداً أنّه لا یمکن إجراؤهما معاً؛ لأنّ هذا یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، ولا یمکن إجراء الأصل فی أحد الطرفین دون الآخر؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح؛ حینئذٍ یُبتلی الدلیل بالإجمال، بمعنی __________ وقد تقدّم هذا سابقاً ___________ أنّ دلیل الأصل لا نعلم أنّه هل یشمل هذا الطرف دون ذاک، أو یشمل ذاک الطرف دون هذا ؟ بعد فرض عدم إمکان شموله لکلٍ منهما، فیکون مجملاً من هذه الناحیة، فإذا کان دلیل الأصل مجملاً؛ فحینئذٍ لا یمکن التمسّک به لإثبات الطهارة فی هذا الطرف، ولا لإثبات الطهارة فی هذا الطرف، هذا معنی الإجمال فی دلیل الأصل الموجب للتساقط، ولعدم إمکان التمسّک بالدلیل لإثبات مضمونه فی هذا الطرف ولا فی ذاک الطرف، فتتساقط الأصول، وعندما تتساقط الأصول؛ حینئذٍ لا مشکلة فی الرجوع إلی الاستصحاب؛ إذ أنّ الاستصحاب لیس فیه هذه المشکلة، فلا یُبتلی بالإجمال؛ لأنّه لیس له معارض فی الطرف الآخر، استصحاب الطهارة فی الماء المطلق لیس له معارض فی الطرف الآخر، فیمکن الرجوع إلیه لإثبات الطهارة فی الماء المطلق، أو قل: لنفی الأثر الزائد فی الماء المطلق، وهذا بخلاف ما إذا کان الأصل واحداً، بمعنی أنّ الأصل الذی نرید أن ننفی به الأثر الزائد هو نفس الأصل الذی نرید أن ننفی به الأثر المشترک، هو نفسه هو قاعدة الطهارة، کما إذا فرضنا أنّ الماء المطلق لیس له حالة سابقة، نحن نرید أن ننفی الأثر المختص وهو عدم جواز الوضوء تمسّکاً بأصالة الطهارة، کما أننا نرید أن ننفی حرمة الشرب استناد إلی أصالة الطهارة أیضاً، فإذا فرضنا أنّ دلیل أصالة الطهارة أبتُلی بالإجمال، بمعنی أنّ دلیل أصالة الطهارة مجمل من حیث شموله لهذا الطرف، أو شموله لذاک الطرف، هذا الإجمال یمنع من التمسّک بهذا الدلیل لنفی الأثر الزائد؛ لأنّ قاعدة الطهارة دلیلها ابتُلی بالإجمال، والإجمال مانع من التمسّک به لإثبات مضمونه فی هذا الطرف، ولو بلحاظ الأثر الزائد.

ص: 155

إذن: ما تقدّم سابقاً من تنجیز العلم الإجمالی للأمر الزائد، إنّما هو مشروط بشرطین:

الشرط الأوّل: أن نفترض أنّ الأثر الزائد والأثر المشترک فی موضوعین مستقلّین.

الشرط الثانی: أن لا یکون الأصل الذی یراد أن یُنفی به الأصل الزائد مستقلاً وغیر مسانخ للأصل الذی یُراد أن یُنفی به الأثر المشترک؛ حینئذٍ یکون العلم الإجمالی منجّزاً لکل الآثار، وإلاّ لا مانع من إجراء البراءة لنفی الأثر الزائد.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/انحلال العلم الإجمالی

من جملة المباحث التی لم تذکر فی الکتب الرجالیة المعروفة، لکن تطرّق إلیها السید الشهید(قدّس سرّه) نذکرها علی نحو الاختصار هوالعلم الإجمالی فی الأحکام الظاهریة.

سابقاً کنّا نتکلّم عن العلم الإجمالی الوجدانی فی الأحکام الواقعیة، الآن نتکلّم عن العلم الإجمالی الوجدانی فی الأحکام الظاهریة. تارةّ نفترض أنّ المکلّف یعلم بوقوع النجاسة فی أحد الإناءین، هذا ما کنّا نتکلّم عنه سابقاً، نفترض علماً وجدانیاً إجمالیاً بحکمٍ واقعی، لکن مردد بین الطرفین، الآن نتکلّم عن ما إذا فرضنا أنّ الإمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین، هنا یوجد علم لا بالحکم الواقعی، فی کلٍ منهما یوجد علم وجدانی إجمالی، لکن فی ما تقدّم کان متعلّقه هو الحکم الواقعی، وأمّا فی المقام فهو یتعلّق بالحکم الظاهری، ونستطیع أن نعبّر عن هذا العلم الوجدانی الإجمالی بالحکم الظاهری بأنّه علم تعبّدی بالحکم الواقعی، فنفرّق بین ما تقدّم بأنّه علم وجدانی بالحکم الواقعی وبین ما نرید الکلام عنه بأنّه علم تعبّدی بالحکم الواقعی، هذا العلم التعبّدی بالحکم الواقعی یکون علماً وجدانیاً بالحکم الظاهری؛ لأنّه عندما تقوم الإمارة المکلّف یعلم بالحکم الظاهری علماً وجدانیاً. نعم، هو لا یعلم وجداناً بالحکم الواقعی، وإنّما یکون علمه هذا بعد فرض الحجّیة علماً تعبّدیاً بالحکم الواقعی.

ص: 156

الکلام یقع فی أنّ ما ثبت بالعلم الإجمالی الوجدانی بالحکم الواقعی فی ما تقدّم من وجوب الموافقة القطعیة، ومن حرمة المخالفة القطعیة وأنّ تنجیز هذا العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة هو علی نحو العلّیة التامّة، وتنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة هو علی نحو الاقتضاء، هذا هل یثبت فی محل الکلام ؟ هل یثبت فی العلم التعبّدی بالحکم الواقعی کما یثبت بالعلم الوجدانی بالحکم الواقعی ؟ فإذا قامت إمارة علی نجاسة أحد إناءین، أو دلّ خبر الثقة علی وجوب أحدی الصلاتین إمّا الإتمام، أو القصر، فهل تحرم المخالفة القطعیة بنحو العلّیة التامّة ؟ هل تجب الموافقة القطعیة ؟ بحیث یجب علیه الاحتیاط وترک الإناءین فی المثال الأوّل، والإتیان بصلاتین فی المثال الثانی، أو أنّ هذا یختلف عمّا تقدّم ؟ الکلام یقع فی هذا.

الظاهر أنّه لا ینبغی أن یقع الکلام والإشکال فی عدم الفرق بین العلمین من حیث التنجیز لحرمة المخالفة القطعیة ولوجوب الموافقة القطعیة، کما تحرم المخالفة القطعیة للعلم الإجمالی هناک تحرم هنا أیضاً، وکما یجب الاحتیاط والموافقة القطعیة هناک، هنا أیضاً یجب الاحتیاط والموافقة القطعیة، والسر فی ذلک هو أنّ البرهان الذی تقدّم لإثبات هذا التنجیز بلحاظ کلتا المرحلتین، مرحلة حرمة المخالفة القطعیة، ومرحلة وجوب الموافقة القطعیة، هذا البرهان بنفسه یجری فی العلم التعبّدی بالحکم الواقعی، نفس البرهان السابق یجری فی محل الکلام، البرهان السابق کان عبارة عن أنّه لا یمکن إجراء الأصول المؤمّنة فی أطراف هذا العلم الإجمالی؛ لأنّ ذلک یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، کما أنّ إجراء الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین بخصوصه دون الآخر ترجیح بلا مرجّح، وإجراءه فی أحدهما المردد لا معنی له؛ لأنّه لا وجود للفرد المردد، وهذا یوجب تساقط الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، ومع تساقط الأصول فی أطراف العلم الإجمالی یکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، فیجب الاحتیاط. نفس البرهان یأتی فی محل الکلام بعد الالتفات إلی أنّ الحکم الظاهری کالحکم الواقعی حکم شرعی حقیقی تام صادر من الشارع، لا فرق بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری فی أنّها أحکام إلهیة شرعیة، ومن الواضح أنّ العقل کما یحکم بقبح معصیة الحکم الواقعی کذلک یحکم بقبح معصیة الحکم الظاهری بنظر العقل لا فرق بینهما من هذه الجهة، وأنّ المولی له حق الطاعة فی کلا الحکمین، وله حق الطاعة فی کل ما یصدر منه من أحکام سواء صدرت کأحکام واقعیة، أو صدرت منه کأحکام ظاهریة، فمخالفة الحکم الظاهری کمخالفة الحکم الواقعی ممّا یحکم العقل بقبحها، وکما یکون جریان الأصول فی أطراف العلم الإجمالی فی البحث السابق مستلزماً للترخیص فی المخالفة القطعیة للمولی، کذلک إجراء الأصول فی محل الکلام فی أطراف العلم الإجمالی یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة للمولی، وکلتا المخالفتین قبیحة بنظر العقل، لا ینبغی صدورها من العبد؛ لأنّها خروج عن حق الطاعة وتمرّد علی المولی(سبحانه وتعالی)، کلٌ منهما کذلک، فإذا کان إجراء الأصول فی الأطراف یستلزم الترخیص فی هذه المخالفة القطعیة القبیحة؛ حینئذٍ یکون الترخیص محالاً، فالترخیص فی المخالفة القطعیة محال، وحیث أنّ إجراء الأصول فی جمیع الأطراف یستلزم هذا الترخیص فیکون محالاً، فإذن: لا یمکن إجراء الأصول المؤمّنة فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی البحث السابق وفی محل الکلام؛ لأنّ کلاً منهما ترخیص فی المخالفة القبیحة بنظر العقل، فیکون هذا الترخیص غیر ممکن، فإذا استحال جریان الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی محل الکلام وبضمیمة أنّ إجراءها فی بعض الأطراف دون البعض الآخر یکون ترجیحاً بلا مرجّح؛ حینئذٍ هذا یؤدّی إلی تعارض الأصول وتساقطها، وبذلک یکون العلم الإجمالی منجّزاً لجمیع الأطراف. فنفس البرهان المتقدّم الذی استُدلّ به علی التنجیز یجری فی محل الکلام بعد الالتفات إلی نکتة أنّه لا فرق بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی فی کونهما حکمین إلهیین صادرین من الشارع المقدّس، والعقل لا یفرّق بین هذین الحکمین فی حکمه بقبح المعصیة ووجوب الطاعة، یحکم بذلک فی کلٍ منهما بلا فرقٍ بینهما، فنفس البرهان السابق یجری فی محل الکلام.

ص: 157

علی کلّ حال، هذه القضیة ینبغی أن تکون واضحة إذا قسناها علی الإمارة التی تقوم علی نجاسة شیءٍ معیّن، لو قامت إمارة علی نجاسة هذا الإناء، أو قام خبر الثقة المعتبر شرعاً علی وجوب الإتمام فی حالة معیّنة، ألیس العقل یحکم بوجوب العمل بهذه الإمارة ؟ بلا إشکال العقل یحکم بوجوب العمل بهذه الإمارة، ویحکم بقبح معصیة هذه الإمارة. إذن: الإمارة باعتبارها حجّة شرعاً والحکم الظاهری الذی هو عبارة عن جعل الحجّیة لها هو حکم إلهی یحکم العقل بوجوب طاعته وبقبح معصیته، وکذلک الأمر لو قامت الإمارة علی حکمٍ مرددٍ بین شیئین، کما لو قامت الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین، أو قام خبر الثقة علی وجوب أحدی الصلاتین إمّا التمام، أو القصر، هنا أیضاً العقل یحکم بوجوب الطاعة وقبح المعصیة، فیجری البرهان السابق لإثبات التنجیز، ولا ینبغی توهّم أنّ هناک فرقاً بین العلمین، العلم الإجمالی الوجدانی بالحکم الواقعی الذی هو المتقدّم، وبین العلم التعبّدی الإجمالی بالحکم الواقعی، أو ما سمّیناه بالعلم الوجدانی الإجمالی بالحکم الظاهری.

قد یقال: أنّ هناک فرقاً بینهما، وحاصله هو أنّ العلم الإجمالی فی المقام علم تعبّدی ولا یوجد علم وجدانی، بلحاظ الواقع فی المقام لا یوجد إلاّ علم تعبّدی؛ لأنّ المکلّف واقعاً لا یعلم بالواقع، الإمارة دلّت علی أنّ هذا واجب، وأنّ النجاسة واقعة فی أحد الإناءین، هو لا یعلم وجداناً بنجاسة أحد الإناءین، وإنّما یعلم بذلک تعبّداً، هو علم تعبّدی ولیس علماً وجدانیاً، بخلاف العلم الإجمالی السابق، فأنّه علم وجدانی بالحکم الواقعی وفی محل الکلام علم تعبّدی بنجاسة أحد الإناءین، هذا الفرق بینهما قد یُتخیَل أنّه یترتب علیه أنّه فی العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین هناک یستحیل جریان الأصول المؤمّنة فی جمیع الأطراف؛ لما تقدّم من أنّ ذلک یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة للحکم الواقعی، وهذا واضح هناک؛ ولذا استحالة الترخیص فی جمیع الأطراف تؤدّی إلی تساقط الأصول، وبالتالی إلی تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة.

ص: 158

وأمّا فی محل الکلام، حیث أنّ العلم لیس علماً وجدانیاً، وإنّما هو علم تعبّدی، فیمکن جریان الأصول المؤمّنة فی الأطراف، وذلک لأنّه یقال لا یلزم من جریان الأصول فی جمیع الأطراف الترخیص فی المخالفة القطعیة للواقع، باعتبار أنّ العلم فی المقام علم تعبّدی ناشئ من الإمارة وجعل الحجّیّة للإمارة، ومن الواضح أنّ الإمارة قد تکون مخالفة للواقع، فالإمارة قد تخطئ وقد تشتبه، لیس هنا قطع بمطابقة الإمارة للواقع، فلا یوجد مخالفة قطعیة للواقع عندما یرتکب المکلّف کلا الإناءین الذین قامت الإمارة علی نجاسة أحدهما، إذا ارتکب کلا الإناءین لیست هنالک مخالفة قطعیة، لاحتمال أن تکون الإمارة مشتبهة، أو مخطئة، وإنّما غایة الأمر هناک مخالفة احتمالیة، إذا ارتکب کلا الإناءین فی المثال الأوّل، أو ترک کلتا الصلاتین فی المثال الثانی هو لم یرتکب إلاّ مخالفة احتمالیة؛ لاحتمال خطأ الإمارة، فلیس هناک مخالفة قطعیة حتّی یکون جریان الأصول فی جمیع الأطراف مستلزماً للترخیص فی المخالفة القطعیة، وإنّما هناک مخالفة احتمالیة؛ لأن من یرتکب کلا الإناءین فی المثال لا یخالف الواقع قطعاً؛ لاحتمال أن لا تکون هناک نجاسة أصلاً، لا فی هذا الإناء، ولا فی هذا الإناء، وأن تکون الإمارة مشتبهة ومخطئة، فإذن: لا یلزم من جریان الأصول فی جمیع الأطراف الترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة، بخلافه فی المقام السابق؛ وحینئذٍ، ننتهی إلی نتیجة أن العلم الإجمالی فی البحث السابق ینجّز وجوب الموافقة القطعیة والاحتیاط، بینما العلم الإجمالی فی محل الکلام لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة والاحتیاط؛ لإمکان جریان الأصول فی الأطراف.

أقول: هذا لا یُتوهّم، لا یمکن أن یقال هذا الکلام؛ لأنّ هذا ناظر إلی الواقع، ویهمل الحکم الظاهری. صحیح، أنّه بلحاظ الواقع العلم فی محل الکلام لیس علماً وجدانیاً، وإنّما هو علم تعبّدی، لکن بلحاظ الحکم الظاهری هو علم وجدانی بالحکم الظاهری ولیس علماً تعبّدیاً. هو علم تعبّدی بالواقع، ولکنّه علم وجدانی بالحکم الظاهری، وبضمیمة ما ذکرنا من أنّه لا فرق بین الحکم الظاهری والحکم الواقعی بنظر العقل فی وجوب الطاعة وفی حرمة المعصیة، لا فرق بینهما إطلاقاً؛ لکون کل منهما تشریعاً إلهیاً نازل من السماء؛ حینئذٍ یتبین أنّه کما یحکم العقل، کما یستحیل جریان الأصول المؤمّنة فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی البحث السابق، کذلک یستحیل جریان الأصول فی جمیع الأطراف فی محل الکلام؛ لأنّ جریان الأصول فی کلا الطرفین فی المثال یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة للحکم الظاهری، ولیس الاحتمالیة، هو مخالفة احتمالیة للواقع، احتمال أن تکون الإمارة غیر مصیبة للواقع، لکنّه مخالفة قطعیة للحکم الظاهری؛ لأنّ المکلّف ___________ بحسب الفرض __________ یقطع بحجّیة الإمارة، ویعلم بأنّ الشارع جعل الحجّیة للإمارة، لکن کون الإمارة مصیبة للواقع هذا شیء لا یقطع به، هو یقطع بالحکم الظاهری، وقلنا أنّ العقل لا یُفرّق بین الحکم الظاهری وبین الحکم الواقعی، فإذن: الحکم الظاهری فی المقام حیث یقطع به المکلّف ویعلم به علماً وجدانیاً یکون منجّزاً؛ لاستحالة جریان الأصول فی جمیع أطرافه؛ لأنّ جریان الأصول فی جمیع أطرافه یعنی الترخیص فی المخالفة القطعیة للحکم الظاهری وهذا محال بنظر العقل کالترخیص فی المخالفة القطعیة للحکم الواقعی.

ص: 159

نعم، هناک فوارق بین العلمین، أغلبها فوارق فنیّة لیس لها ثمرات عملیة، ورأینا عدم التعرّض لها بعد وضوح عدم الفرق بین العلمین بلحاظ ما هو المهم عندنا وهو مسألة التنجیز ووجوب الموافقة القطعیة، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعیة.

السید الشهید(قدّس سرّه) الذی ذکر هذا البحث، (1) وقلنا أنّه غیر موجود فی کلمات القوم إلاّ بشکل متفرّق وفی أماکن متفرّقة، ذکر ما حاصله: أنّ هذا الذی تقدم من أنّ العلم الإجمالی الوجدانی بالحکم الظاهری، أو التعبّدی بالحکم الواقعی لا فرق بینهما، أنّ هذا العلم فی محل الکلام یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعیة یکون واضحاً جدّاً ولا کلام فیه، ولا ینبغی الشکّ فیه فی ما إذا کان الإجمال __________ کما یُعبّر ___________ فی طول قیام الإمارة؛ لأنّ قیام الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین یمکن تصورّه بنحوین:

النحو الأوّل: أنّ تقوم الإمارة علی نجاسة إناءٍ معیّن، لکنّه اشتبه وترددّ عندنا بین إناءین، فأصبحنا لا نعرف أنّ ما قامت الإمارة علی نجاسته هل هو هذا الإناء، أو ذاک الإناء ؟ هنا الاشتباه والإجمال یکون فی طول العلم الإجمالی، بأن یکون العلم الإجمالی متعلّقاً بإناء معیّن، لکنّه اشتبه عندنا بعد ذلک، فالاشتباه والإجمال فی طول العلم الإجمالی.

النحو الثانی: أنّ الإمارة أساساً تقوم علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، بحیث لو سألنا الإمارة: أیّهما نجس ؟ لقالت لا أدری. فالإمارة لا تقوم إلاّ علی الجامع، ولا تشهد إلاّ بالجامع، فهی تقول: أحد الإناءین نجس، لا أکثر من ذلک، بینما فی النحو الأوّل الإمارة شهدت بنجاسة إناءٍ معیّن، ولکن لسببٍ من الأسباب ترددّ وأُجمل عندنا، بینما فی الثانی هی تقوم علی نجاسة الجامع بین الإناءین لا أکثر من ذلک.

ص: 160


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص167.

یقول(قدّس سرّه): فی النحو الأوّل النتیجة المتقدّمة لاشکّ فیها، ولا ینبغی أن یقع الکلام فیها. وأمّا فی النحو الثانی، فی هذه الحالة ذکر أنّ وجوب الموافقة والکلام السابق الذی ذکرناه یتمّ فی القسم الثانی بناءً علی مبانیه هو(قدّس سرّه) فی تفسیر الحکم الظاهری، علمنا من خلال البحوث السابقة أنّ له مبنیً فی تفسیر الحکم الظاهری، وحاصل مبناه أنّه یقول: أنّ الحکم الظاهری فی واقعه هو عبارة عن إبراز اهتمام المولی بالواقع علی تقدیر المصادفة بالرغم من أنّ المکلّف یشک فی ثبوت الواقع، لکنّه یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة والثبوت، کما یهتم به فی حالة العلم، فی محل الکلام هو یهتم بالواقع مع التردد کذلک یهتم بالواقع فی حالة العلم، الحکم الظاهری الذی هو عبارة عن جعل الحجّیة لهذه الإمارة التی تشهد بنجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، الشارع یجعل لها الحجّیة، یقول هذه الإمارة حجّة یجب علیک العمل بها والعقل یقول لا یجوز لک معصیتها. هذه الحجّیة معناها أنّ الشارع یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة بالرغم من شکّ المکلّف، المکلّف کما قلنا شاکٌ فی ثبوت النجاسة فی أحد الإناءین؛ لأنّ الإمارة قد تکون مخالفة للواقع، فهو بالرغم من شکّه، وبالرغم من احتماله عدم نجاسة کلا الإناءین الشارع یقول له: أنا أجعل الحجّیة لهذه الإمارة وآمرک أن تعمل بهذه الإمارة؛ لأنّی اهتم بالنجاسة علی تقدیر أن تکون ثابتة فی الواقع، وطریق الحفاظ علی هذه النجاسة وامتثالها هو عبارة عن جعل الاحتیاط فی هذه الموارد. هذا هو معنی الحکم الظاهری عنده؛ فحینئذٍ یقول: کما لو قامت الإمارة علی نجاسة إناء معیّن، کیف هناک نقول بأنّ دلیل حجّیة تلک الإمارة القائمة علی نجاسة إناء معیّن، وإن کان یوجد فیها احتمال الخلاف کما قلنا لاحتمال مخالفة البیّنة للواقع، لکن المولی بجعله الحجّیة لتلک الإمارة الدالّة علی نجاسة هذا بعینه فی غیر محل الکلام، فهو یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة حتّی مع وجود احتمال المخالفة هو یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة کما إذا لم یوجد هناک هذا الاحتمال، کیف یهتم الشارع بالواقع، هنا أیضاً یهتم الشارع بالواقع بالرغم من وجود احتمال المخالفة، کما نقول بهذا عندما تقوم الإمارة علی نجاسة إناء معیّن، کذلک نقول بنفس هذا الکلام فی محل الکلام، یعنی عندما تقوم الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، فیقال بأنّ دلیل حجّیة هذه الإمارة التی نحن فارغین عن کونها حجّة یدلّ علی أنّه وإن کان یوجد احتمال خطأ هذه الإمارة وعدم إصابتها للواقع، لکن المولی یهتم بالواقع علی تقدیر المصادفة حتّی مع وجود هذا الاحتمال، حتی مع وجود احتمال عدم مصادفة الإمارة للواقع الشارع أبرز اهتمامه بالواقع.

ص: 161

فإذن: فی کلا البحثین الشارع بجعله الحجّیة للإمارة هو یبرز اهتمامه بالواقع علی تقدیر المصادفة، یرید من المکلّف الواقع، والمحافظة علی الواقع بالرغم من احتمال عدم مصادفة الإمارة للواقع، الشارع أبرز اهتمامه بالواقع، سواء کانت الإمارة تقوم علی نجاسة معیّن، أو کانت تقوم علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، الشارع بمجرد أن یجعل الحجّیة للإمارة یکون قد أبرز اهتمامه بالنجاسة الواقعیة علی تقدیر أن تکون ثابتة، ویقول له: أیّها المکلّف، بالرغم من أنّک تحتمل الخلاف، لکن أنا اهتم بالنجاسة الواقعیة علی تقدیر المصادفة. إذا فرضنا ذلک وفسّرنا الحکم الظاهری علی هذا الأساس؛ حینئذٍ یکون وجوب الموافقة القطعیة لهذا العلم الوجدانی بالاهتمام الشرعی بالواقع علی تقدیر المصادفة یکون مستلزماً لوجوب الموافقة القطعیة بنظر العقل؛ إذ لا فرق بین قیام الإمارة علی نجاسة إناء معیّن، وبین قیام الإمارة علی نجاسة أحد إناءین، فی کلٍ منهما الشارع یبرز اهتمامه الذی هو روح الحکم الظاهری، کما أنّه هناک حینما أبرز اهتمامه حکم العقل بقبح المعصیة ووجوب الطاعة، هنا أیضاً عندما یعلم العقل بأنّ الشارع أبرز اهتمامه بالنجاسة الواقعیة، یقول للمکلّف لا یجوز لک مخالفتها، یجب علیک المحافظة علیها، ومن الواضح أنّ المحافظة علی هذه النجاسة التی یهتم بها الشارع لا یکون إلاّ عن طریق الاحتیاط وعن طریق وجوب الموافقة القطعیة. یقول: لا توجد مشکلة فی الالتزام بما تقدّم؛ وحینئذٍ لا فرق بین النحو الأول والنحو الثانی، علی کل حال قیام الإمارة علی نجاسة أحد إناءین، قیام خبر الثقة علی وجوب أحدی الصلاتین یکون موجباً لحکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة من دون فرقٍ بین أن یکون الإجمال فی طول العلم الإجمالی کما فی النحو الأول، أو لا یکون فی طوله، وإنّما یکون مفاد الإمارة هو الحکم بأحد الشیئین علی نحو التردید من البدایة.

ص: 162

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی العلم الإجمالی فی الأحکام الظاهریةبعد الفراغ عن العلم الإجمالی فی الأحکام الواقعیة کما إذا قامت البیّنة علی نجاسة أحد الإناءین. تکلّمنا عن ذلک فی ما تقدّم، وانتهی الکلام إلی ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه)، حیث أنّه ذکر بأننّا تارةً نفترض أنّ العلم الإجمالی یکون فی طول البیّنة، بأن یُفترض قیام البیّنة علی نجاسة إناءٍ بعینه، ثمّ یترددّ عندنا، فیکون العلم الإجمالی فی طول البیّنة. فی هذه الصورة ذکر أنّه لا ینبغی الإشکال أنّ حاله حال العلم الإجمالی بالحکم الواقعی من حیث تنجیز هذا العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة ولوجوب الموافقة القطعیة، وذکرنا ما یتعلّق بهذا الأمر وهذا هو الصحیح.

وأمّا إذا فرضنا قیام البیّنة علی نجاسة أحد الإناءین، من البدایة مفاد البیّنة هو نجاسة أحد الإناءین، لا أنّ مفادها من البدایة هو نجاسة إناءٍ بعینه ثمّ یتردد عندنا، وإنّما هی من البدایة مفادها نجاسة أحد الإناءین بحیث لو فرضنا أننا سألنا البیّنة، هی لا تعلم أیّ الإناءین هو النجس، هی لا تشهد أکثر من نجاسة أحد الإناءین. هنا ذکر أنّ وجوب الموافقة القطعیة لیس بذاک الوضوح کما هو الحال فی الفرض الأوّل، وجوب الموافقة القطعیة فی الفرض الأوّل، وهو ما إذا کان العلم الإجمالی فی طول البینّة واضح ولا ینبغی الإشکال فیه، لکن فی الفرض الثانی الأمر لیس هکذا. نعم قال أنّه یکون واضحاً ولابدّ من الالتزام به بناءً علی مبانینا فی الحکم الظاهری أیضاً یکون الأمر واضحاً، فتجب الموافقة القطعیة کما تحرم المخالفة القطعیة. (1)

ص: 163


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص171.

وأمّا بناءً علی المبانی الأخری فی تفسیر الحکم الظاهری، قال: قد یُستشکل فی تنجیز مثل هذا العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، ثمّ ذکر أمثلة، قال: مثلاً رأی صاحب الکفایة (قدّس سرّه) الذی یُفسّر الحکم الظاهری، بأنّه عبارة عن التنجیز والتعذیر، یقول: بناءً علی هذا الرأی قد یُستشکل فی وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام؛ وذلک بأن یقال: أنّ دلیل حجّیة البیّنة ینجّز ماذا ؟ الشارع بجعل الحکم الظاهری هو یجعل تنجیز ویدلّ علی هذا التنجیز دلیل حجّیة الإمارة؛ حینئذٍ نسأل : دلیل حجّیة الإمارة ینجّز ماذا ؟ هل ینجّز هذا الطرف بخصوصه، أو ذاک الطرف بخصوصه ؟ أو ینجّز الجامع بینهما ؟ إن قیل أنّه ینجّز هذا الطرف بخصوصه، فهذا ترجیح بلا مرجّح، أو أنّه ینجّز ذاک الطرف بخصوصه، أیضاً هو ترجیح بلا مرجّح، فلا یمکن الالتزام بأنّ دلیل حجّیة الإمارة الذی یُفترض أنّ نسبة کلا الطرفین إلیه نسبة واحدة، أنّه یختص بأحد الطرفین دون الآخر، هذا ترجیح بلا مرجّح لا یمکن أن یُلتزم به.

إن قیل: أنّ دلیل حجّیة الإمارة ینجّز أحدهما المرددّ.

جوابه: أن الفرد المردد لا وجود له أصلاً حتّی یکون دلیل حجّیة الإمارة منجّزاً للفرد المردد.

وإن قیل: أنّه ینجّز الجامع بینهما، أیّ أنّ الإمارة شهدت علی نجاسة أحد الأمرین، التنجیز الذی یُجعل من قِبل الشارع کحکم ظاهری هو عبارة عن تنجیز الجامع بینهما.

والإشکال فیه، هو: أنّ هذا لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة؛ بل یقتضی التخییر وإمکان الاکتفاء بأحد الطرفین؛ لأنّ الجامع یتحقق فی ضمن أحد الطرفین، فإذا تنجّز الجامع، یعنی وجب علیه ترک أحد الإناءین، هذا یکفی فیه ترک واحدٍ منهما، وهذا یعنی التخییر، یعنی بعبارةٍ أخری: عدم وجوب الموافقة القطعیة. فإذا ترک أحد الإناءین یجوز له شرب الآخر، تمسّکاً بقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ ما تنجّز علیه هو الجامع، من قبیل أن یجب علیه الإتیان بإحدی الصلاتین، ولا یجب علیه الجمع بینهما، ما تنجّز علیه فی المقام هو أحد الإناءین، فیجب علیه ترک أحدهما، فإذا ترک أحدهما؛ حینئذٍ لا یجب علیه شیء؛ وحینئذٍ یمکنه أن یشرب الطرف الآخر اعتماداً علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فکیف یمکن إثبات وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام بناءً علی هذا التفسیر للحکم الظاهری؛ لأنّ الحکم الظاهری عبارة عن جعل التنجیز والتعذیر. السؤال هنا هو: أنّ الشارع یجعل التنجیز لمن ؟ وما الذی ینجّزه دلیل حجّیة الإمارة ؟ هل ینجّز أحد الطرفین بخصوصه ؟ ترجیح بلا مرجّح، والمردد لا وجود له، والجامع لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة.

ص: 164

أشکل (قدّس سرّه) علی نفسه: بأنّ هذا الکلام نفسه یأتی فی ما إذا علمنا علماً إجمالیاً ولیس قامت الإمارة، فی مواردالعلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، نفس هذا الکلام ایضاً یقال، علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، أیضاً یمکن أن یستشکل بهذا الإشکال، أنّ هذا العلم ینجّز ماذا؟ هل ینجّز أحد الطرفین بخصوصه ؟ هذا ترجیح بلا مرجّح، وإن قیل أنّه ینجّز الفرد المردد ؟ الفرد المردد لا وجود له، وإن قیل أنّه ینجّز الجامع، فهذا یعنی عدم وجوب الموافقة القطعیة؛ بل یثبت التخییر وجواز ترک أحد الطرفین فی محل الکلام فی المثال الذی نتکلّم عنه، فإذن: ینبغی أن نلتزم فی المورد السابق بعدم وجوب الموافقة القطعیة، والمفروض أننا فرغنا عن وجوب الموافقة القطعیة فی موارد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، فالإشکال نفسه یرد علیه.

أجاب عن هذا الإشکال: بأنّ العلم الإجمالی فی البحث السابق وإن تعلّق بالجامع، لکن حیث أنّ منجّزیة العلم عقلیة ولیست شرعیة، أمکن حینئذٍ أن یقال أنّ العلم بالرغم من تعلّقه بالجامع هو ممّا یحکم العقل بکونه منجّزاً للواقع؛ فحینئذٍ تجب الموافقة القطعیة؛ لأنّه عندما یکون العلم منجّزاً للجامع، العقل هنا یتدخل ویقول بالرغم من تعلّق العلم بالجامع، هو یکون منجّزاً للواقع، وإذا تنجّز الواقع علی المکلّف تجب الموافقة القطعیة بلا إشکال؛ لأنّ الواقع تنجّز علیه، فیجب علیه الإتیان بالواقع، وهو لا یحرز الإتیان بالواقع إلاّ إذا أتی بکلا الطرفین، أی إلاّ إذا احتاط؛ لأنّ التنجیز فی باب العلم عقلی، فیمکن أن یُدّعی أنّ العلم الإجمالی بالرغم من تعلّقه بالجامع، العقل یحکم بکونه منجّزاً للواقع. هذا فی ما تقدّم، فی موارد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین.

ص: 165

وأمّا فی محل الکلام، المنجزیة لیست عقلیة، فی محل کلامنا عندنا إمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین، لا یوجد عندنا علم، وإنّما یوجد عندنا إمارة، ومنجزیة الإمارة لیست عقلیة، العقل لا یقول بمنجزیة الإمارة، وإنّما استفدناها من الدلیل الشرعی؛ فحینئذٍ لا مجال لأن یُدّعی بأنّ العقل یحکم بمنجّزیة الإمارة للواقع؛ لأنّ المنجزیة لیست عقلیة، وإنّما هی شرعیة، والمنجّز الشرعی لا ینجّز أکثر من مؤدّی الإمارة، ومّا تشهد علیه البیّنة، والمفروض أنّ مؤدّی الإمارة ومّا تشهد علیه البیّنة هو الجامع، فالمنجزیة الشرعیة تثبت للجامع ولا مجال لدعوی أنّ العقل یحکم أنّه بالرغم من تعلّق الإمارة بالجامع؛ فحینئذٍ یتنجز الواقع علی المکلّف حتّی تجب الموافقة القطعیة، ففرّق بینهما علی هذا الأساس.

هذا الکلام فیما یرتبط برأی صاحب الکفایة (قدّس سرّه)، والرأی الذی یُفسّر الحکم الظاهری بالتنجیز والتعذیر، یمکن أن یقال فیه أنّ دلیل حجّیة الإمارة ینجّز الجامع، والمشکلة فی هذا أنّه لا ینتج وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ تنجیز الجامع یُکتفی فیه بالإتیان بأحد الطرفین لتحقق الجامع فی ضمن الفرد، فیکفی الإتیان بأحد الطرفین ویجوز ارتکاب الطرف الآخر، لکن یمکن أن یقال بسریان التنجیز من الجامع الذی هو مؤدّی الإمارة، ونحن فارغین عن أنّ الإمارة تنجّز الجامع؛ لقیام الدلیل علی حجّیة الإمارة، ومعنی حجّیة الإمارة أنّها تنجّز مفادها، ومفاد الإمارة بحسب الفرض هو الجامع.

یمکن أن یقال: أنّ هذا التنجیز الثابت للإمارة یسری إلی الواقع استناداً إلی نفس البرهان الذی استُدل به علی السرایة فی موارد العلم الإجمالی فی البحث السابق، نفس البرهان الذی استُدل به علی سرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع، نفس هذا البرهان یمکن الاستدلال به فی محل الکلام، وبهذا یثبت التنجیز للواقع، فتجب الموافقة القطعیة. وذلک البرهان تقدّم سابقاً وذکره المحقق العراقی (قدّس سرّه)، وحاصله: العنوان المعلوم بالإجمال فیما تقدّم __________ کلامنا فی ما تقدّم نرید أن نقول أنّ البرهان الذی یثبت به السرایة هناک بنفسه یجری فی محل الکلام ___________ له واقع محفوظ بنظر القاطع، وإن کان مردداً عنده بین طرفین، لکن بالرغم من هذا له واقع، وذکر أنّ هذا الجامع فی موارد العلم الإجمالی یختلف عن الجامع الذی یتعلّق به التکلیف، متعلّقات التکلیف قد یکون یتعلّق بالجامع، لکن الجامع الذی یتعلّق به التکلیف غیر الجامع فی موارد العلم الإجمالی، وذلک لأنّ الجامع الذی یتعلّق به التکلیف هو عبارة عن الطبیعی قبل الانطباق لا بوصف تعیّنه ووجوده فی الخارج، الطبیعی الذی لم یُفرغ عن تعیّنه وتشخّصه فی الخارج.

ص: 166

وبعبارةٍ أخری: الجامع الذی یتعلّق به التکلیف هو الطبیعی قبل فرض وجوده وتحققه فی الخارج، ویُطلب من المکلّف إیجاده وتحقیقه فی الخارج. إذن: الجامع فی باب التکالیف یختلف عن الجامع فی محل الکلام، الجامع فی محل الکلام عبارة عن الجامع المتحقق فی الخارج المنطبق علی شیءٍ ما، التردد بنظر القاطع والعالم بالإجمال إنّما هو فی ما ینطبق علیه هذا الجامع، هل ینطبق علی هذا الفرد، أو لا ینطبق علی هذا الفرد ؟ وإلاّ أصل الانطباق، اصل الوجود فی الخارج مفروغ عنه بنظر القاطع، وبهذا یختلف الجامع فی موارد العلم الإجمالی عن الجامع الذی یتعلّق به التکلیف بهذا الفرق، وهو أنّ الجامع فی محل الکلام یُنظر إلیه کأنّه مفروغ عن تحققه وعن وجوده فی الخارج. فإذا فرضنا أنّ الجامع فی موارد العلم الإجمالی کان جامعاً یُنظر إلیه علی أنّه أمر متحقق ومنطبق فی الخارج ومتشخّص؛ حینئذٍ یمکن دعوی أنّ هذا الجامع المنظور إلیه بهذه النظرة، الذی فُرغ عن تشخّصه ووجوده فی الخارج یکون هو المنجَّز، هذا الجامع المفروغ عن تحققه فی الخارج یتنجّز علی المکلّف، هذا هو عبارة عن تنجّز الواقع علی المکلّف، فکم فرق بین هذا الجامع وبین الجامع الذی یتعلّق به التکلیف، الجامع الذی یتعلّق به التکلیف یخیّر المکلّف، أنت تختار فی تطبیق هذا الطبیعی الذی أُمر به علی أی فردٍ من أفراده، لا مجال لتوهّم الاحتیاط حینئذٍ؛ لأنّ التکلیف تعلّق بالجامع، والجامع هناک هو الطبیعی لا الطبیعی الذی یُنظر إلیه علی أنّه قد فُرغ عن تحققّه وتشخّصه حتّی یکون المکلّف به هو الطبیعی الذی فُرض تشخّصه فی الخارج، لا لیس هکذا، هو الطبیعی لا بهذا الوصف، لا بهذا العنوان. یعنی یُطلب من المکلّف إیجاد هذا الطبیعی فی الخارج، ومن الواضح أنّ الطبیعی کما یتحقق فی هذا الفرد یتحقق فی هذا الفرد، فیکفی فی الامتثال الإتیان بأحد الأفراد، فیثبت التخییر.

ص: 167

وأمّا فی العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، أو وجوب أحدی الصلاتین، فی هذا المورد، المعلوم بالإجمال بنظر القاطع مفروغ عن تعیّنه وتشخّصه، وإن کان هو یتردد فی أنّه هل هو ثابت فی هذا الطرف، أو هو ثابت فی ذاک الطرف ؟ هذا شیء لا یعلمه، لکنّه فارغ عن تشخّصه وتعیّنه، هذا الجامع بهذا الوصف إذا تنجّز؛ حینئذٍ یکون هذا التنجیز ساریاً إلی الواقع، فیتنجّز الواقع، وإذا تنجّز الواقع تجب الموافقة القطعیة.

أقول: هذا البرهان الذی یجری فی موارد العلم الإجمالی بنفسه یمکن تطبیقه فی محل الکلام، فیقال بأنّ الإمارة تشهد بالجامع بالنحو الثانی ولیس بالجامع کما هو الحال فی الجامع الذی یتعلّق به التکلیف، الإمارة تشهد بالجامع المفروغ عن تشخصه وتعیّنه فی الخارج، غایة الأمر أنّها لا تعلم بأنّ ما ینطبق علیه هل هو هذا الفرد، أو ذاک الفرد، وإلاّ أصل أنّ الجامع مفروغ عن تحققه وتشخّصه هذا أمر موجود حتّی فی باب الإمارة.

بعبارة أخری: أنّ الإمارة تشهد بنجاسة متحققة منطبقة فی الخارج، لکن غایة الأمر أنّ هذه النجاسة التی یعلم بها والموجودة والمتحققة فی الخارج هل هی فی هذا الإناء، أو فی هذا الإناء؟ هذا معناه أنّ ما تشهد به الإمارة هو الجامع بهذا المعنی وهذا یوجب سرایة التنجیز من الجامع الذی تشهد به الإمارة إلی الواقع؛ وحینئذٍ یمکن أن یُستدل بذلک علی وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام.

هناک برهان آخر یذکره المحقق العراقی (قدّس سرّه) أیضاً لإثبات سرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع فی محل الکلام وهو أساساً نحن نقول یکفی فی وجوب الموافقة القطعیة مجرّد تنجیز الجامع حتّی إذا لم نقل بسرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع، نکتفی بتنجیز الجامع، باعتبار أننا بعد أن نفترض تنجیز الجامع بالإمارة، العقل یحکم بلزوم تحصیل الجزم بفراغ الذمة عمّا اشتغلت به، وعن ما تنجّز علیه، العقل یحکم بلزوم تفریغ الذمة من ذلک، ومن الواضح أنّه لا یمکن الجزم بتفریغ الذمّة ممّا اشتغلت به ودخل فی العهدة بواسطة الإمارة إلاّ بالإتیان بکلا الطرفین؛ لأنّ المکلّف لو اقتصر علی أحد الطرفین هو لا یعلم بفراغ ذمته ممّا اشتغلت به وممّا تنجّز علیه؛ لأنّ المفروض أنّنا سلّمنا أنّ ما یتنجّز بالإمارة هو الجامع، لکن الجامع تنجّز علی المکلّف، دخل الجامع فی عهدته، فلابدّ أن یقطع بفراغ ذمّته ممّا اشتغلت ولا یقین بفراغ الذمّة إلاّ بالإتیان بکلا الطرفین، یعنی ترک کلا الطرفین فی المثال. وأمّا إذا ترک أحد الطرفین وارتکب الطرف الآخر لا یقین عنده بفراغ الذمّة ممّا تنجّزت به. هذا وجه آخر یذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) غیر الوجه الأوّل الذی هو عبارة عن سرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع لإثبات وجوب الموافقة القطعیة، فعلی کل حال لا ننتهی إلی نتیجة، أنّه لو قلنا أنّ الحکم الظاهری معناه التنجیز والتعذیر فهذا لا یؤدّی إلی وجوب الموافقة القطعیة.

ص: 168

ثمّ ذکر (قدّس سرّه): أنّ الإشکال أیضاً یرد علی تفسیر الحکم الظاهری بالتفسیر الذی یُقال أنّه کان معروف سابقاً والذی هو عبارة عن جعل الحکم المماثل، الحکم الظاهری هو عبارة عن جعل حکمٍ مماثلٍ لمؤدّی الإمارة، أی أنّ الشارع فی موارد الإمارات یجعل حکماً مماثلاً لمؤدّی الإمارة، فإن کان مؤدّی الإمارة هو الجامع، فالشارع یحکم بالجامع حکماً ظاهریاً، هذا الحکم الظاهری المماثل لمؤدّی الإمارة هو الذی یُسمّی ب_____(مسلک جعل الحکم المماثل). نعم هذا المسلک فی جعل الحکم المماثل یشترط احتمال المطابقة للواقع، احتمال أن یکون هذا الحکم الظاهری المجعول المماثل لمؤدّی الإمارة مطابقاً للواقع، أمّا فی حال عدم احتمال مطابقته للواقع لا یمکن أن نلتزم بجعله.

بناءً علی هذا المسلک: یذکر نفس الإشکال السابق، وهو أنّ هذا الحکم المماثل یُجعل فی ذاک الطرف، أو فی هذا الطرف ؟ هذه النجاسة الظاهریة التی تُجعل من قِبل الشارع، تُجعل فی هذا الطرف، أو تُجعل فی هذا الطرف ؟ وهذا إشکاله واضح، وهو أنّ هذا غیر مماثل للمؤدّی؛ لأنّ المفروض أنّ مؤدّی الإمارة هو الجامع لا هذا الطرف بعینه ولا هذا الطرف بعینه، الفرد بعینه لیس هو مؤدّی الإمارة، والمفروض أنّ هذا المسلک یقول أنّ الشارع یجعل حکماً مماثلاً للمؤدّی، جعل النجاسة فی هذا الطرف بعینه لیس مماثلاً للمؤدّی، فإذن لابدّ من استبعاد جعل الحکم الظاهری فی هذا الطرف بعینه وفی هذا الطرف بعینه. الاحتمال الآخر هو أنّ الحکم الظاهری أنّه یجعل حکماً بالجامع، الحکم الظاهری فی المقام هو الحکم بالجامع، وهذا مماثل للمؤدّی بلا إشکال. ومشکلة هذا الاحتمال هی نفس المشکلة السابقة، وهی أنّ هذا ینجّز الجامع علی المکلّف، ما یجب علی المکلّف هو أن یمتثل هذا الحکم الظاهری، وهذا الحکم الظاهری متعلّق بالجامع، ویکفی فی امتثال الجامع الإتیان ب_أحد فردیه، فلا تجب الموافقة القطعیة؛ بل یتخیّر المکلّف فی تطبیق الجامع علی هذا الفرد، أو تطبیقه علی الفرد الآخر؛ فحینئذٍ لا تجب الموافقة القطعیة، فهذا الإشکال یرِد بناءً علی تفسیر الأحکام الظاهریة بجعل الحکم المماثل لمؤدّی الإمارة.

ص: 169

نفس الملاحظة السابق تأتی علی هذا الإشکال أیضاً، وهی أنّ مؤدّی الإمارة هو الجامع، مسلک جعل الحکم المماثل یقول أنّ الشارع یحکم بالجامع حکماً ظاهریاً مماثلاً لمؤدّی الإمارة، إذا حکم الشارع حکماً ظاهریاً بالجامع، فهذا معناه أنّ الجامع یتنجّز علی المکلّف، یعنی یجب علی المکلّف امتثال ما حکم به الشارع حکماً ظاهریاً، أی امتثال الجامع، فیرِد الکلام السابق بأنّ تنجیز الجامع یسری من الجامع إلی الواقع، بالبیان المتقدّم، بنفس البرهان الذی ذُکر لسرایة التنجیز من الجامع فی موارد العلم الإجمالی إلی الواقع، بنفسه یأتی فی موارد قیام الإمارة حتّی بناءً علی هذا المسلک الذی یقول بجعل الحکم المماثل؛ لأنه بالنتیجة یتنجّز الجامع علی المکلّف، لکن هذا الجامع لیس هو الجامع علی النحو الموجود فی متعلّقات التکالیف، فی متعلّق التکلیف الجامع هو عبارة عن الطبیعة التی لا یُنظر إلیها علی أنّها مفروغ عن تشخّصها وتعیّنها فی الخارج، هو لیس هکذا، وإنّما الإمارة تشهد علی الجامع باعتباره متحققاً فی الخارج، الجامع الذی هو منطبق فی الخارج، وإن کان لا یُعلم علی أیٍّ من الطرفین قد انطبق، هذا یجهله المکلّف، لکن بالنتیجة هذا الجامع الذی یُنظر إلیه علی أنّه مفروغ عن تحققه فی الخارج، هذه النکتة توجب سرایة التنجیز من الجامع إلی الواقع. الوجه الثانی الذی یذکره أیضاً المحقق العراقی (قدّس سرّه) إذا تمّ، أیضاً یسری فی المقام؛ لأنّه إذا تنجّز الجامع، ولو من دون افتراض السرایة، لا یسری التنجیز من الجامع إلی الواقع، هذا الجامع الذی تنجّز لابدّ من الجزم بالفراغ عن عهدة هذا التکلیف الذی هو التکلیف بالجامع، ومن الواضح أنّه لا جزم إلاّ عن طریق الاحتیاط والموافقة القطعیة، فتجب الموافقة القطعیة هنا أیضاً.

ص: 170

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

فی الدرس السابق ذکرنا أنّه یمکن أن یُلاحظ علی ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) من أنّه بناء علی تفسیر الحکم الظاهری بالتنجیز والتعذیر، أو بناءً علی تفسیره بأنّه جعل الحکم المماثل؛ حینئذ قد یستشکل فی اقتضاء العلم الإجمالی بالحکم الظاهری ___________ یعنی قیام الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین ___________ وجوب الموافقة القطعیة بالبیان الذی ذکره، وکانت علیه ملاحظتان، الملاحظة الأولی تقدمت وهی منقولة عن المحقق العراقی(قدّس سرّه).

الملاحظة الثانیة: أیضاً منقولة عن المحقق العراقی(قدّس سرّه)، لکن یبدو أنّها من دون تطعیمها بالنکتة التی ذکرت فی الملاحظة الأولی، یبدو أنّها غیر تامّة، وحاصل الملاحظة هو: لنقل أنّ الإمارة تنجّز الجامع والتنجیز لا یسری من الجامع إلی الواقع کما هو مقتضی الملاحظة الأولی، باعتبار أنّ الجامع منظور إلیه کأنّه متحقق ومتعیّن فی الخارج، کلا، نفترض أنّ التنجیز یقف علی الجامع ولا یسری إلی الواقع، بالرغم من هذا فی الملاحظة الثانیة قد قیل نلتزم بوجوب الموافقة القطعیة وتنجیز الطرفین علی أساس التمسّک بقاعدة الاشتغال؛ لأنّ الجامع تنجّز ویحکم العقل بلزوم تفریغ الذمّة عمّا اشتغلت به، ولا یقین بفراغ الذمّة إلاّ بالاحتیاط.

أقول: هذا من دون تطعیمه بفکرة أنّ الجامع منظور إلیه کأنّه متعیّن ومتشخّص فی الخارج مفروغ عن تعیّنه وتشخّصه خارجاً، من دون هذه النکتة قاعدة الاشتغال لوحدها لا تستطیع أن تثبت وجوب الاحتیاط، ووجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ قاعدة الاشتغال تقول یجب إفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به، والذمّة اشتغلت بالجامع لا أکثر، ویکفی فی إبراء الذمّة من جهة الجامع الإتیان بأحد الطرفین، لو فرضنا أنّ الجامع فی المقام کالجامع فی باب التکالیف، عندما یتعلّق به التکلیف، والجامع عندما یتعلّق به التکلیف ینجّز الجامع، لکن لا إشکال فی أنّه یکفی الإتیان بأحد الطرفین ولا تجری قاعدة الاشتغال لإثبات لزوم الإتیان بجمیع الافراد، یکفی الإتیان بطرفٍ واحد، فلو کان الجامع فی محل الکلام من هذا القبیل، قاعدة الاشتغال لا یمکنها إثبات لزوم الإتیان بالطرفین، لزوم الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة، إلاّ إذا طعّمنا ذلک بالنکتة الموجودة فی الطرف الآخر، فیکون هناک وجه آخر بعد فرض أنّ الجامع هو من هذا القبیل، الجامع المفروغ عن تحققه وتشخصه فی الخارج؛ حینئذٍ کأنّ هذا ما یتنجّز هو الواقع کما قلنا فی الملاحظة الأولی؛ وحینئذٍ لابدّ من الاحتیاط.

ص: 171

علی کل حال، یبدو أنّه لا ینبغی الإشکال فی المنجّزیة فی المقام ووجوب الموافقة القطعیة، سواء کان الإجمال فی طول الإمارة، کما فی الفرض الأوّل، أو کان الإجمال فی نفس الإمارة کما فی الفرض الثانی، علی کلا التقدیرین الإمارة تنجّز وجوب الموافقة القطعیة.

نعم، هناک بحث اثاره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وهو أنّه علی تقدیر کون الإجمال فی نفس الإمارة بأن تشهد الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید. قلنا فی ما تقدّم بأنّ هذه الإمارة حجّة فی نفسها وتقتضی وجوب الموافقة القطعیة، أی تمنع من إجراء البراءة فی الطرفین، والمقصود بالبراءة التی فرغنا عن عدم جریانها فی الطرفین هی البراءة العقلیة، لا تجری البراءة فی الطرفین، العلم الإجمالی التعبدّی، العلم الإجمالی بالحکم الظاهری یمنع من إجراء البراءة فی هذا الطرف ویمنع من إجرائها فی هذا الطرف، والمقصود بالبراءة البراءة العقلیة.

الکلام یقع فی أنّ هذه الإمارة فی محل الکلام، هل تقدّم علی الأصول الشرعیة الجاریة فی الأطراف؟ کما قدّمناها علی البراءة العقلیة تقدّم علی البراءة الشرعیة، أو لا ؟ إذا قامت البیّنة علی نجاسة إناءٍ معیّن، لا إشکال فی أنّها تقدّم علی الأصل الشرعی الجاری فی ذلک الإناء، باعتبار أنّ الإمارة حاکمة، أو واردة علی الأصل الشرعی الجاری فی ذلک الطرف بعد فرض اتحاد الموضوع، بمعنی أنّ موضوع البیّنة وموضوع الأصل واحد، وهو هذا الإناء المعیّن، قامت الإمارة علی نجاسته؛ حینئذٍ لا مجال لجریان أصالة الطهارة فیه؛ لأنّ الإمارة تکون حاکمة علی الأصل ورافعة لموضوعه، أمّا أنّه بالحکومة، أو بالورود، فهذه مسألة أخری، لکن عندما تقوم الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین کما فی محل الکلام، فهل هذه الإمارة أیضاً تمنع من جریان الأصل الشرعی فی هذا الطرف ؟ والأصل الشرعی فی الطرف الآخر، أو لا ؟ هذا محل الکلام.

ص: 172

الإشکال فی ذلک صاغه المحقق العراقی(قدّس سرّه) بهذا البیان: أنّ موضوع الأصل الشرعی فی کلٍ من الطرفین محفوظ، موضوع الأصل هو الشکّ فی النجاسة، ما دمت تشک فی نجاسة هذا الطرف هو موضوع لأصالة الطهارة، وتشک أیضاً فی ذلک الطرف هو موضوع لأصالة الطهارة، وهذا الشکّ فی النجاسة موجود فی الطرفین بالوجدان؛ إذ لا رافع لهذا الشک، لا بالوجدان هو مرتفع کما هو واضح، ولا هو مرفوع بالتعبد؛ لأنّ الشک إنّما یرتفع بالتعبّد عندما یتعلّق التعبّد بنفس ذاک المورد، فیکون التعبّد حاکماً علی الأصل ورافعاً لموضوعه، کما قلنا عندما تقوم الإمارة علی نجاسة إناء معیّن؛ حینئذٍ تکون رافعة للشکّ فی نجاسته الذی هو موضوع أصالة الطهارة فیه، فیکون الشکّ مرتفعاً فی هذا الطرف بالحکومة، أو بالورود، فإذا ارتفع الشکّ الذی هو موضوع الأصل، فلا یجری الأصل فیه، لکن عندما یکون الموضوع واحداً لهما، للإمارة وللأصل، لکن عندما یتعدد الموضوع کما فی محل الکلام، الإمارة تدلّ علی نجاسة أحد الإناءین، وموضوعها الجامع، بینما موضوع أصالة الطهارة هو هذا الفرد بخصوصه وهذا الفرد بخصوصه، أصالة الطهارة موضوعها هذا الطرف بعینه تجری فیه للشک فی نجاسته، وذاک الطرف بعینه؛ حینئذٍ لا معنی لأن نقول أنّ الشک فی النجاسة فی هذا الطرف یرتفع بالتعبد؛ لأنّه أیّ تعبّد یرفع هذا الشک ؟ لیس لدینا غیر الإمارة، والمفروض أنّ الإمارة لا تدل علی نجاسة هذا بعینه حتّی تکون رافعة للشک فی النجاسة، وتنقّح موضوع أصالة الطهارة وتمنع من جریانها، إنّما الإمارة تدل علی نجاسة أحدهما، أی نجاسة الجامع، والجامع غیر الفرد، ومن هنا یکون موضوع الأصل الشرعی فی کل طرفٍ محفوظاً؛ لأنّ موضوعه الشک فی النجاسة، والشک فی النجاسة غیر مرتفع لا وجداناً، کما هو واضح، ولا بالتعبّد، لهذه النکتة التی ذکرناها، وهی أنّ الحکومة والورود الذی هو معنی الرفع التعبّدی إنّما یُعقل فیما إذا کانا فی موضوعٍ واحد، یتواردان علی موضوعٍ واحد، أمّا إذا کان الموضوع متعددّ لهما، فلا مجال للحکومة ولا للورود، وهذا معناه أنّ موضوع الأصل محفوظ فی هذا الطرف، ومحفوظ أیضاً فی الطرف الآخر؛ وحینئذ الإشکال یقول لا مجال لدعوی أنّ دلیل حجّیة البینة، أو الإمارة یکون مقدّماً علی دلیل الأصل بالحکومة أو الورود، لا وجه لهذا التقدیم، فإذا لم یکن هناک وجه لتقدیم دلیل حجّیة الإمارة ؛ لأنّ حجّیة الإمارة هی حکم ظاهری شرعی، یعنی حالها حال الأصل العملی، کما أنّ الأصل العملی حکم شرعی ظاهری، حجّیة الإمارة أیضاً دلیل شرعی ظاهری، فیکون تعارض بین دلیلین شرعیین من دون أن یکون أحدهما حاکماً، أو وارداً علی الآخر، وهذا معناه وقوع التعارض بین دلیل حجّیة البینة وبین دلیل الأصل فی کلا الطرفین، فیسقط الجمیع؛ وحینئذٍ یرجع بعد ذلک إلی الأصول المؤمّنة الطولیة الموجودة فی المقام، إذا کانت هناک أصول شرعیة طولیة فی طول أصالة الطهارة، وبالتالی لا یثبت عندنا وجوب الموافقة القطعیة؛ لأننا رجعنا إلی الأصول المؤمّنة الطولیة بعد تساقط الجمیع، ومعنی التساقط هو أنّ دلیل حجّیة البینة لا یشمل هذه البینة، ودلیل الأصل العملی لا یشمل کلا الطرفین، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعیة.

ص: 173

هذا الإشکال أورده فی ما إذا کانت الإمارة تدلّ علی نجاسة أحد الإناءین علی نحو التردید، والإشکال یقول: الإمارة حینئذٍ لا تقتضی وجوب الموافقة القطعیة بهذا البیان، باعتبار أنّها معارضة بدلیل الأصل العملی الذی یجری فی کلا الطرفین، وقلنا أنّ الأصل العملی فی الطرفین موضوعه محفوظ، ولا رافع لموضوعه کما ذکر.

وذکر المحقق العراقی(قدّس سرّه) نفسه فی مقام تتمیم الإشکال، بأنّه لا یُقاس ما نحن فیه علی العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین، وقال بأنّ هذا الکلام لا یمکن أن نسرّیه إلی العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین بحیث ینتج عدم وجوب الموافقة القطعیة فی موارد العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین، لا یمکن تسریته إلی ذلک، وهذا الإشکال یختص بقیام الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین، ولا یسری إلی موارد العلم الوجدانی بنجاسة أحد الإناءین، وذلک باعتبار أنّ العلم الإجمالی حجّیته ذاتیة وکاشفیته ذاتیة، هو یکون کاشفاً تامّاً عن الواقع ذاتاً بلا حاجة إلی تعبّدٍ من قبل الشارع، ویکون حجّة علی ثبوت التکلیف؛ حینئذٍ بحکم العقل یکون هذا مانعاً من ورود الترخیص علی خلافه؛ لأن هذا العلم الوجدانی طریق إلی الواقع بذاته، ویکون حجّة ذاتیة لإثبات التکلیف؛ حینئذٍ العقل یقول یمتنع الترخیص علی خلافه، وهذا معناه استحالة جریان الأصول فی الأطراف؛ لأنّ العلم حجّة علی التکلیف، وحجّة بذاته، وحجّة عقلاً والعقل هنا یحکم باستحالة جعل الترخیص المخالف له. وهذا بخلاف البیّنة التی نتکلّم عنها، من الواضح أنّ حجّیتها لیست ذاتیة، طریقیتها وکشفها عن التکلیف الذی تخبر عنه لیست ذاتیة کما هو واضح، وإنّما هی شرعیة، أی بالتعبّد الشرعی صارت حجّة، وصارت طریقاً لإثبات التکلیف بالتعبّد الشرعی لا أنّها تکون کاشفة ذاتاً، کیف تکون کاشفة ذاتاً والحال أنّه یحتمل فیها الخلاف، ویحتمل عدم المصادفة للواقع ؟! هذا معناه أنّ حجّیتها لیست ذاتیة وهذا واضح، وإنّما تکون حجّیتها بمعونة الجعل الشرعی والتعبّد الشرعی بها، تکون طریقاً کاشفاً مثبتاً للتکلیف علی اساس التعبّد الشرعی والجعل الشرعی؛ وحینئذٍ إذا فرضنا ذلک، یقول: حینئذٍ لا فرق فی الحقیقة بین الإمارة والأصل فی أنّ کلاً منهما مجعول شرعی ظاهری حصل التعارض بینهما من دون أن یکون أحدهما حاکماً علی الآخر کما أثبت سابقاً أنّ الإمارة لیست حاکمة علی الأصل فی الطرفین؛ لأنّ موضوع الأصل فی الطرفین هو غیر موضوع الإمارة، موضوع الإمارة هو الجامع ___________ بحسب الفرض، ونحن نتکلّم فی الفرض الثانی ____________ بینما موضوع الأصل هو هذا الطرف بعینه، وذاک الطرف بعینه، فالحکومة لا وجه لها، والورود لا وجه له، فیکون موضوع الشکّ محفوظاً فی کلٍ من الطرفین؛ وحینئذٍ یجری الأصل فی کلٍ من الطرفین، هذا تعبّد شرعی، والإمارة أیضاً تعبّد شرعی، الإمارة التی تثبت التکلیف والنجاسة فی أحد الطرفین تعبّد شرعی، الأصل الذی یثبت الطهارة فی هذا الطرف باعتبار تحقق موضوعه أیضاً تعبّد شرعی، وقع التعارض بینهما ولا موجب لتقدیم أحدهما علی الآخر، فتتساقط، هذه کلّها تسقط؛ وحینئذٍ نرجع إلی الأصول المؤمّنة، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعیة. یقول: لا یمکن إجراء هذا الکلام فی موارد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین؛ لأن العلم حجّیته ذاتیة وطریقیته ذاتیة، والعقل هنا یحکم بأنّ هذا یمنع من جریان الأصول فی الأطراف لاستحالة الترخیص فی مخالفة التکلیف الذی کشف عنه ما هو حجّة بذاته وحجّة عقلاً، بینما فی المقام لیس هناک أحکام ظاهریة تتعارض فی ما بینها من دون أن یکون واحد منها مقدّماً علی الآخر بحکومةٍ، أو ورود. هذا هو الإشکال الذی أورده المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی الالتزام بوجوب الموافقة القطعیة فی الفرض الثانی.

ص: 174

ثمّ أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) أجاب عن هذا الإشکال، بیان جوابه عنه: فی محل الکلام یوجد عندنا نوعان من الاحتمال،

النوع الأوّل: احتمال طهارة کل طرفٍ من الطرفین مطلقاً، ای احتمال الطهارة المطلقة، احتمال طهارة هذا الإناء حتّی علی تقدیر طهارة الإناء الآخر، وکذا العکس احتمال طهارة الإناء الآخر مطلقاً، أی حتّی علی احتمال طهارة الإناء الأوّل. هنا عندما نرید أن نجری أصالة الطهارة بلحاظ هذا الاحتمال لغرض إثبات الطهارة فی هذا الطرف، والطهارة المطلقة فی الطرف الآخر. هذا الأصل الذی یُراد إجراءه فی الطرفین لإثبات الطهارة المطلقة، هذا بلا إشکال لا یمکن، هذا یکون محکوماً للبینة؛ لأنّ البینة هی صحیح بمدلولها المطابقی قامت علی نجاسة أحد الإناءین، لکن مدلولها الالتزامی الذی هو حجّة أیضاً فی باب الإمارات، مدلولها الالتزامی هی تشهد بنجاسة هذا الطرف علی تقدیر طهارة الطرف الاخر، ونجاسة الطرف الآخر علی تقدیر طهارة الطرف الأوّل، هذا مدلول التزامی للبینة التی تقول بنجاسة أحد الإناءین، فعلی تقدیر أن یکون ذاک الإناء طاهراً لابدّ أن یکون هذا الإناء نجساً، فکیف یمکن أن نثبت طهارة هذا الإناء حتّی علی تقدیر طهارة الإناء الأخر؟! إثبات طهارة هذا الإناء حتّی علی تقدیر طهارة الإناء الآخر، وهکذا العکس، یعنی إثبات طهارة کلٍ من الطرفین حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، لا یمکن الالتزام به؛ لأنّ دلیل حجّیة الإمارة یدل علی أنّه علی تقدیر طهارة أحد الإناءین لابدّ أن یکون الآخر نجساً. إذن، هی تشهد بنجاسة هذا الطرف علی تقدیر طهارة الثانی، وهکذا تشهد بنجاسة الثانی علی تقدیر طهارة الأول، وهذا معناه أنّ إجراء أصالة الطهارة بلحاظ الاحتمال الأوّل الذی ذکرناه، یعنی إثبات الطهارة المطلقة فی کلٍ من الطرفین یکون محکوماً بدلیل حجّیة البیّنة، ویمنع من إجراء الأصل فی الطرفین لإثبات الطهارة المطلقة فیها، فلا مجال لجریان الأصل وهذا ینبغی أن یکون واضحاً، ویقول هذا نظیر قیام الإمارة علی نجاسة إناء معین، فأنّ هذا أیضا یمنع من جریان أصالة الطهارة فی ذاک الطرف؛ لأنّه منافٍ للإمارة، وبعبارة أخری: لأنّ الإمارة تعبّدنا بأنّ هذا نجس، إذا عبّدتنا بأنّ هذا نجس؛ فحینئذٍ لا مجال لجریان البراءة، فیرتفع موضوع قاعدة الطهارة، ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ الإمارة عندما جعل الشارع الحجّیة لها، عبّدنا بمدالیلها المطابقییة والالتزامیة بنجاسة هذا الطرف علی تقدیر أن یکون الآخر طاهراً، وعبّدنا بنجاسة ذاک علی تقدیر أن یکون الأوّل طاهراً، عبّدنا بنجاسته علی تقدیر طهارة ذاک، فکیف نلتزم بأنّ الأصل یجری ؟ لیس لدینا هکذا شک حینئذٍ، الشکّ الذی یجری الأصل بلحاظه یکون مرتفعاً باعتبار الإمارة، فتکون الإمارة حاکمة علی هذا الأصل فی الطرفین، فتکون رافعة للشکّ والاحتمال الذی هو موضوع هذا الأصل فی الطرفین.

ص: 175

النحو الثانی من الاحتمال: هو احتمال الطهارة فی کل واحدٍ منهما بدلاً عن الآخر، ولیس حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، وإنّما احتمل طهارة هذا الإناء بدلاً عن الآخر، وطهارة هذا بدلاً عن هذا، یعنی احتمل طهارة کلٍ منهما علی تقدیر أن لا تکون الطهارة ثابتة فی الطرف الآخر. وهذا الاحتمال لا مشکلة فیه، هذا لیس محکوماً بدلیل حجّیة البینّة؛ لأنّ البیّنة تشهد بالجامع، هی تقول أحد الإناءین نجس، نجاسة أحد الإناءین لا تنفی وجود هذا الاحتمال فی کلٍ من الطرفین، فإذن: لا یکون دلیل حجّیة الإمارة حاکماً علی الأصل فی الطرفین بهذا اللحاظ، إجراء الأصل فی الطرفین لإثبات الطهارة المشروطة والمقیدة بعدم ثبوتها فی الطرف الآخر، إجراء الأصل فی الطهارة علی تقدیر عدم ثبوت الطهارة فی الآخر؛ حینئذٍ هذا لا یکون مانعاً منه، فیمکن أن یجری الأصل فی الطرفین من دون یکون محکوماً لدلیل حجّیة البیّنة، یقول: هذا الاحتمال الثانی هو مورد الإشکال، الإشکال یقول: لماذا نقدم دلیل حجّیة الإمارة علی دلیل الأصل ؟ موضوع الأصل العملی محفوظ فی کلٍ من الطرفین؛ لأنّ موضوع الأصل العملی هو الشکّ فی النجاسة، أو قل بعبارةٍ أخری: احتمال الطهارة، لکن احتمال الطهارة الذی هو موضوع الأصل العملی فی الإشکال لیس هو احتمال الطهارة حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، وإنّما هو احتمال الطهارة علی نحو البدل، هذا هو موضوعه، وهذا هو الذی توجّه علیه الإشکال، فقیل: أنّ موضوع الأصل محفوظ فی کل من الطرفین من دون حکومة؛ فحینئذٍ یکون معارضاً لدلیل حجّیة البیّنة، وبعد التعارض من دون افتراض تقدیم یسقط الجمیع. هذا هو الإشکال.

ص: 176

المحقق العراقی(قدّس سرّه) جاوب عن هذا الإشکال، یقول هنا یستحیل أن یکون دلیل الأصل معارضاً لدلیل الإمارة؛ لأنّه یقول: أنّ هذا الاحتمال الذی هو الاحتمال الثانی إنّما تولّد نتیجةً لقیام البیّنة، هو فی طول قیام البیّنة، یعنی نحن فی البدایة بقطع النظر عن البیّنة کان عندنا الشک من النحو الأوّل، إذا لم تکن هناک بینة نحتمل طهارة هذا علی کل تقدیر، حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، واحتمال طهارة الآخر. هذا الاحتمال الأوّل.

إذن: بقطع النظر عن البینة کان الاحتمال الأوّل هو الموجود، جاءت البینة رفعت هذا الاحتمال وتولد نتیجة لذلک الاحتمال الثانی، وهو احتمال الطهارة علی نحو البدل فی هذا، واحتمال الطهارة علی نحو البدل فی الآخر. إذن، هذا الاحتمال الثانی الذی هو موضوع الأصل العملی هو فی طول قیام البیّنة، فیستحیل أن یکون معارضاً لها. إذا هو فی طولها ومترتّب علیها، ومترتّب علی قیام البینّة وحجیّة البینة، إذن، کیف یکون معارضاً لها ؟! فلا یُعقل أن یعارض دلیل حجّیة البیّنة وبالتالی الذی یجری هو دلیل حجّیة البینة ویقدّم علی دلیل الأصل، وبذلک نثبت المنجّزیة ووجوب الموافقة القطعیة.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی مقام الجواب عن الإشکال الذی طرحه هو، وکان حاصل الجواب هو: أنّ تقدیم الإمارة فی محل الکلام علی مجموع الأصلین الشرعیین فی الطرفین، وإن کان کلٌ منهما داخل فی الأحکام الظاهریة، وثابت بالتعبّد الشرعی، هذا التقدیم سرّه هو أنّ مجموع الأصلین فی الطرفین موضوعهما هو احتمال الطهارة فی هذا الطرف، واحتمال الطهارة فی ذاک الطرف، وهو یقول أنّ هذا الاحتمال الذی هو موضوع الأصلین تولّد من حجّیة البینة، بمعنی أنّ حجّیة البینة وقیام البینة الحجّة المعتبرة علی نجاسة أحد الإناءین أوجبت تبدّل الاحتمال الأول، أو النوع الأوّل من الاحتمال الذی هو احتمال الطهارة فی کلٍ منهما مطلقاً حتّی علی تقدیر طهارة الآخر، هذا کان موجوداً فی الطرفین بقطع النظر عن البیّنة، لکن عندما تقوم البیّنة المعتبرة التی تشهد بنجاسة أحد الإناءین، یعنی بعبارة أخری تشهد بأنّه لا مجال لاحتمال الطهارة فی کلٍ منهما حتّی علی تقدیر طهارة الآخر. هذا لا مجال له حینئذٍ بعد قیام الإمارة؛ لأننا نعلم بنجاسة احد الإناءین، فإذن: لا یمکن أن نحتمل فی هذا الطرف الطهارة مطلقاً، وفی ذاک الطرف الطهارة مطلقاً. هذا الاحتمال الذی کان موجوداً بقطع النظر عن قیام الإمارة یتبدّل بسبب قیام الإمارة إلی احتمال الطهارة فی هذا الطرف واحتمال الطهارة فی هذا الطرف، احتمال الطهارة فی هذا الطرف لا علی تقدیر طهارة الطرف الآخر، واحتمال الطهارة فی الطرف الآخر لا علی تقدیر الطهارة فی الطرف الأوّل، یتبدّل إلی الاحتمال الثانی. یقول: هذا النوع الثانی من الاحتمال هو موضوع الأصول الجاریة فی الأطراف. أصالة الطهارة تجری فی هذا الطرف لأنّه یحتمل طهارته، لکن لا یُحتمل طهارته حتّی علی تقدیر طهارة الطرف الآخر؛ لأنّ هذا الاحتمال ارتفع بقیام البیّنة، وإنّما احتمال الطهارة فی هذا الطرف یجری الأصل بلحاظه، واحتمال الطهارة فی الطرف الآخر أیضاً یجری الأصل بلحاظه. إذن: موضوع مجموع الأصلین هو وجود الاحتمال من النوع الثانی فی کلٍ منهما. هذا النوع الثانی من الاحتمال فی الطرفین تولّد بعد فرض حجّیة البیّنة، یعنی أنّه فی طول حجّیة البیّنة، وکأنّه لا وجود له لولا حجّیة البیّنة، إذا کان کذلک؛ حینئذٍ لا یمکن لمجموع الأصلین أن یعارض البیّنة؛ لأنّه متفرّع علی وجود البیّنة وحجّیة البیّنة، أساساً وجوده مستمد من حجّیة البیّنة، فکیف یمکن أن یکون معارضاً لها. ومن هنا یقول: إطلاق دلیل حجّیة البیّنة یکون خارج دائرة المعارضة، المعارضة تقع فقط بین الأصل الجاری فی هذا الطرف، والأصل الجاری فی الطرف الآخر، یتعارضان؛ لأنّه لا یمکن إجراءهما معاً، ولا یمکن ترجیح أحدهما علی الآخر؛ لأنّه بلا مرجّح، فیتعارضان، ویتساقطان، ویسلم لنا دلیل حجّیة البیّنة، وهذا هو السرّ فی تقدیم البیّنة علی مجموع الأصلین فی الطرفین. هذا ما یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 177

هذا البیان یحتاج إلی إثبات الطولیة؛ لأنّ نکتة هذا الجواب تعتمد علی فرض الطولیة بین موضوع الأصلین فی الطرفین وبینحجّیة البیّنة، وعلی اساس هذه الطولیة قال أنّه لا یمکن لمجموع الأصلین أن یُعارض دلیل حجّیة البیّنة، فیُعمل بدلیل حجّیة البیّنة ویرتفع الإشکال.

إذن: علیه إثبات هذه الطولیة، أنّ الشکّ من النوع الثانی الذی هو موضوع الأصلین فی الطرفین هو فی طولحجّیة البیّنة، وهذا ممّا لم یبرهن علیه، ولم یذکر شاهداً علیه؛ بل لعلّ الشاهد علی خلافه؛ لأننا بالوجدان ندرک أنّ احتمال الطهارة فی هذا الطرف ____________ الاحتمال الساذج __________ واحتمال الطهارة فی هذا الطرف موجود من البدایة ومن أوّل الأمر، لا یمکن أن نقول لا وجود له قبل وجود البیّنة، وأنّه نشأ وتولّد بعد فرض قیام البیّنة، کلا لیس هکذا. نعم، غایة ما هناک أنّ البیّنة توجب تبدّل الاحتمال من النوع الأوّل إلی العلم بالنجاسة علی تقدیر طهارة الآخر، الاحتمال الأوّل هو احتمال طهارة هذا الإناء علی تقدیر طهارة الآخر، واحتمال طهارة الآخر علی تقدیر طهارة هذا الإناء، هذا یتبدّل بقیام البیّنة إلی العلم بنجاسة هذا الإناء علی تقدیر طهارة الآخر؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون الآخر طاهراً لابدّ أن یکون هذا نجساً، وهکذا العکس. هذا صحیح، لکن هذا لا یعنی أنّ احتمال الطهارة فی هذا الطرف بالفعل، واحتمال الطهارة فی ذاک الطرف بالفعل الذی هو النوع الثانی من الشک والاحتمال، والذی هو موضوع جریان الأصلین فی الطرفین، أنّ هذا لم یکن له وجود قبل قیام البیّنة، کلا، قبل قیام البیّنة، انظر إلی هذا الطرف اشک فی طهارته، وإلی هذا الطرف، اشک فی طهارته بالفعل، وعندنا نوع آخر من الشک، وهو أنّی اشک فی طهارة هذا علی تقدیر طهارة هذا. هذا هو الذی یزول بقیام الإمارة، أمّا الشک فی طهارة هذا الإناء بالفعل، والشکّ فی طهارة ذاک الإناء بالفعل، هذا موجود من بدایة الأمر، ولیس بینه وبین حجّیة البیّنة طولیة، فإذا لم یکن بینه وبین حجّیة البیّنة طولیة، إذن هو فی عرض دلیل حجّیة البیّنة؛ وحینئذٍ یعود الإشکال السابق، وهو أنّ هذه احکام ظاهریة ولا موجب لتقدیم بعضها علی بعض، فلا موجب لتقدیم دلیل حجّیة البیّنة، أو إطلاق دلیل حجّیة البیّنة علی إطلاق دلیل حجّیة الأصل العملی. فیعود الإشکال کما کان. تمام النکتة فی کلامه هی الطولیة، وهی لیست واضحة.

ص: 178

السید الشهید(قدّس سرّه) أجاب عن أصل الإشکال بجوابین، أو أکثر:

الجواب الأوّل: جواب مبنائی، (1) یقول أنّ هذا الإشکال اساساً مبنی علی المبنی المطروح من قِبل مدرسة المحقق النائینی(قدّس سرّه) التی تقول أنّ المجعول فی باب الإمارات هو العلمیة والطریقیة، وأنّ تقدیم الإمارة علی الأصول العملیة إنّما هو بملاک الحکومة والورود؛ حینئذٍ یرد الإشکال السابق بأن یقال: فی المقام لا توجد حکومة ولا ورود حتّی نقدّم الإمارة علی مجموع الأصلین، الإمارة إنّما تقدم علی الأصل بالحکومة والورود، وهذا إنّما یتم فی ما إذا کان موضوعهما واحداً، کما إذا کانت الإمارة تجری فی نفس مورد الأصل العملی، الإمارة قامت علی نجاسة هذا الإناء بعینه وهو مورد للأصل العملی هنا تکون الإمارة مقدّمة علی الأصل العملی وحاکمة علیه؛ لأنّ المجعول فیها هو العلمیة والطریقیة، فتکون الإمارة رافعة لموضوع الأصل العملی الذی هو عبارة عن الشکّ وعدم العلم، یتبدّل الشک وعدم العلم إلی العلم بالتعبّد؛ لأنّ معنی حجّیة الإمارة هو جعل العلمیة والطریقیة، فیکون من قامت عنده الإمارة علی نجاسة أحد الإناءین عالماً بالنجاسة تعبّداً، وهذا یوجب ارتفاع الشک الذی هو موضوع الأصل العملی ارتفاعاً تعبّدیاً فتثبت الحکومة، أو ارتفاعاً حقیقیاً فیثبت الورود.

علی کل حال لابدّ من فرض وحدة الموضوع، حتّی بناءً علی هذا المبنی القائل بجعل العلمیة والطریقیة؛ حینئذٍ یکون دلیل حجّیة الإمارة حاکماً علی الأصل العملی ورافعاً لموضوعه بالتعبّد، حاکماً علیه، أو وارداً علیه؛ فحینئذٍ یقال ____________ الإشکال یقول ___________ وهذا غیر متحقق فی محل الکلام؛ لتعدد الموضوع فی محل الکلام؛ لأنّ المفروض أنّ الإمارة لم تقم علی نجاسة الفرد المعیّن، وإنّما قامت الإمارة علی نجاسة الجامع، علی نجاسة أحد إناءین. إذن: ما قامت علیه الإمارة غیر ما یجری فیه الأصل، الأصل لا یجری فی الجامع؛ لأننا لا نرید إجراء الأصل فی الجامع، وإنّما نجری أصالة الطهارة فی هذا الطرف بعینه، ونجری أصالة الطهارة فی هذا الطرف بعینه، بینما الإمارة قامت علی ثبوت النجاسة فی الجامع، علی نجاسة أحد الإناءین، ومع تعدد الموضوع لا حکومة ولا ورود؛ لأنّ دلیل حجّیة الإمارة لا یوجب العلم التعبّدی بنجاسة هذا الإناء حتّی یوجب رفع موضوع الأصل العملی، لا یوجب رفع العلم التعبّدی بنجاسة هذا الإناء بعینه حتّی یقال لا یجری فیه الأصل لأنّ موضوعه ارتفع بالتعبّد؛ لأنّ الإمارة حاکمة علیه، لا یمکننا قول هذا، هذا إنّما یصح عندما یکون الموضوع واحداً، هو یجری فی نفس الطرف الذی نرید إجراء الأصل فیه، وفی هذا الطرف لدینا علم تعبّدی، فیرتفع الشک الذی هو موضوع الأصل العملی، فتتحقق الحکومة، وأمّا عندما یتعدد الموضوع کما فی محل الکلام، فلا مجال للحکومة ولا الورود لتعدد الموضوع؛ وحینئذٍ لا معنی لأن یقال أنّه فی هذا الطرف بعینه ارتفع موضوع الأصل العملی، کلا لم یرتفع موضوع الأصل العملی، فموضوع الأصل العملی موجود فی هذا الطرف بالوجدان، وبالوجدان موضوع الأصل العملی موجود فی الطرف الآخر، فإذن: لا توجد فی المقام حکومة، فإذا لم تکن الحکومة موجودة؛ حینئذٍ یرد الإشکال: لماذا تقدّمون الإمارة علی الأصول العملیة الجاریة فی الأطراف ؟ کلّها أحکام ظاهریة ثبت التعبّد بها من قِبل الشارع ولا مرجّح لدلیل حجّیة الإمارة علی دلیل حجّیة الأصل العملی، المرجّح إنّما هو التقدیم بالحکومة، باعتبار أنّ دلیل حجّیة الإمارة یرفع موضوع الأصل العملی، وهذا فی غیر محل الکلام، وأمّا فی محل الکلام فلا یمکن الالتزام بذلک، وعلیه یعود الإشکال کما تقدّم. علی هذا المبنی یتوجّه الإشکال.

ص: 179


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص178.

یقول(قدّس سرّه): وأمّا علی المبنی الآخر الذی یری أنّ تقدیم الإمارة علی الأصل العملی لیس بملاک الحکومة والورود، وإنّما هو بملاک الأظهریة، أو الأخصّیة، بناءً علی هذا المبنی؛ حینئذٍ یرتفع الإشکال؛ لأنّه فی تقدیم الدلیل الأظهر والأخص لا یعتبر وحدة الموضوع، حتّی إذا لم یکن الموضوع واحداً ما دام هناک تعارض وتنافٍ بین الدلیلین، إذا کان أحدهما أخص من الآخر یقدّم الأخص حتّی إذا کانا فی موضوعین، وإذا کان أحدهما أظهر من الآخر یقدّم الأظهر حتّی إذا کانا فی موضوعین، لا یُشترط فی تقدیم الأظهر علی الظاهر، أو الأخص علی العام، لا یشترط وحدة الموضوع، المهم أن یکون بینهما تنافٍ وتعارض، فإذا کان أحدهما أظهر یقدّم الأظهر، وإذا کان أحدهما أخص یقدّم الأخص، ملاک تقدیم الإمارة علی الأصل العملی هو کون الإمارة أظهر، أو کونها أخصّ من دلیل الأصل العملی. بناءً علی هذا المبنی الذی یُذکر فی بحث التعادل والتراجیح حینئذٍ یرتفع الإشکال؛ لأنّه غایة ما یمکن أن یقال فی المقام أنّ الموضوع متعدد، أنّ الإمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین، قامت علی الجامع، بینما الأصل نجریه فی أحد الطرفین بعینه، وهذا غیر ذاک، هذا صحیح، لکن بینهما تعارض، بین إجراء الأصل فی هذا الطرف، وإجراء الأصل فی ذاک الطرف، أی بین مجموع الأصلین ___________ کما سمّیناه __________ وبین دلیل الإمارة یوجد تعارض؛ إذ لا یمکن الالتزام بجریان الجمیع، بحیث تکون الإمارة موجودة والأصول العملیة تجری فی الطرفین؛ لأنّ بینهما تنافٍ، وإذا کان بینهما تنافٍ وفرضنا أنّ دلیل الإمارة أخصّ أو أظهر من دلیل الأصل العملی، فیقدّم علیه بالأظهریة، أو بالأخصّیة؛ وحینئذٍ یرتفع الإشکال؛ لأنّ الإشکال أساساً مبنی علی ذلک الرأی الذی یری أنّ التقدیم إنّما یکون بملاک الحکومة، أو الورود.

ص: 180

بعد أن قدّمنا دلیل حجّیة الإمارة علی مجموع الأصلین؛حینئذٍ لابدّ من سقوط أحد الأصلین عن الاعتبار؛ لأنّه لا یمکن الالتزام بجریان الأصلین فی الطرفین مع الإمارة المعتبرة الحجّة، فإذا قدّمنا دلیل حجّیة الإمارة بالأخصّیة، أو بالأظهریة لابدّ من فرض سقوط أحد الأصلین وحیث لا مرجّح لأحد الأصلین فی أحد الطرفین علی الآخر، فلابدّ من سقوط کلا الأصلین، ویُعمل حینئذٍ بدلیل حجّیة البیّنة.

الجواب الثانی: وهو جواب لیس مبنائیاً؛ بل یقال به حتّی علی تقدیر الالتزام بالمبنی الآخر الذی یری أنّ الملاک هو الحکومة والورود، حاصل هذا الجواب هو: أن یُدّعی أنّ مجموع الأصلین مقیّد عقلاً، أو عقلائیاً بعدم العلم بالحکم؛ لأنّه مع العلم بالحکم لا مجال لجعل الأصل العملی، فیکون مقیّداً بعدم العلم بالحکم. نحن علمنا بالحکم الواقعی بواسطة الإمارة المعتبرة الحجّة بناءً علی مسلک جعل العلمیة والطریقیة، علمنا بالحکم الواقعی بالنجاسة ببرکة الإمارة المعتبرة، هذا العلم التعبّدی بالنجاسة یکون حاکماً علی مجموع الأصلین، ورافعاً لموضوع مجموع الأصلین؛ لأننا افترضنا فی البدایة أنّ مجموع الأصلین مقیّد عقلاً، أو عقلائیاً بعدم العلم بالحکم، الآن أصبحنا ببرکة البیّنة عالمین بالحکم، فیرتفع عدم العلم الذی هو موضوع مجموع الأصلین وقید فیه، فیقدّم دلیل حجّیة الإمارة علی مجموع الأصلین بالحکومة؛ لأنّ دلیل حجّیة البیّنة یرفع موضوع مجموع الأصلین؛ لأننا فرضنا أنّ مجموع الأصلین مقیّد بعدم العلم بالخلاف عقلاً، أو عقلائیاً، والبینّة تورث العلم بالخلاف، وهو مقیّد بعدم العلم بالخلاف؛ فحینئذٍ یرتفع موضوع الأصلین فی الطرفین؛ وحینئذٍ یقدّم دلیل حجّیة البیّنة علی اساس الحکومة، وبعد تقدیم دلیل حجّیة البیّنة علی مجموع الأصلین لابدّ من فرض سقوط أحد الأصلین عن الاعتبار، وحیث لا مرجّح، فلابدّ من سقوط کلا الأصلین، ویُعمل حینئذٍ بدلیل حجّیة البیّنة، ویرتفع الإشکال.

ص: 181

ذکر(قدّس سرّه): ملاحظة علی هذا الجواب، حاصلها: أنّها تبتنی علی أنّ هذا القول الموجود فی هذا الجواب وهو أننا علمنا بالحکم الواقعی ببرکة قیام الإمارة، لابدّ أن یکون المقصود بالعلم بالحکم هو العلم التعبّدی بالحکم الواقعی، وهذا حصل ببرکة الإمارة بناءً علی مسلک جعل الطریقیة والعلمیة، فنصبح عالمین تعبّداً بنجاسة أحدهما. لماذا لابدّ أن یکون هذا هو المقصود بالجواب ؟ لأنّه لابدّ من فرض ذلک حتّی یتوجّه الجواب؛ لأنّه حینئذٍ یقال أنّ المجعول هو العلمیة والطریقیة؛ حینئذٍ یحصل ببرکة هذه الإمارة التی جُعلت لها العلمیة والطریقیة، یحصل علم تعبّدی بالواقع، یعنی یحصل علم تعبّدی بنجاسة أحد الإناءین؛ وحینئذٍ یکون هذا العلم التعبّدی بنجاسة أحد الإناءین حاکماً علی مجموع الأصلین؛ لأننا فرضنا أنّ مجموع الأصلین قُیّد بعدم العلم بالحکم الواقعی، فیرتفع موضوع الأصل فی الطرفین، وبذلک تثبت الحکومة ویتم هذا الجواب السابق. لابدّ أن یکون هذا هو المراد.

أمّا إذا فرضنا أنّ المراد بالعلم فی المقام(اصبحنا عالمین بالحکم ببرکة الإمارة) المقصود به هو العلم الوجدانی بالحکم الظاهری، فهذا لا یتمّ به الجواب؛ لأنّمجموع الأصلین لا ینفی هذا الحکم الظاهری المعلوم فی محل الکلام، وإنّما یکون فی عرضه، ولیس حاله حال ما إذا قامت بینة علی نجاسة إناءٍ بعینه، هنا الأصل الذی یجری فی ذاک الطرف یکون منافیاً للإمارة الدالة علی ثبوت النجاسة فی ذاک الطرف، أمّا فی المقام فالإمارة قامت وهی حجّة، لکنّها توجب العلم الوجدانی بالحکم الظاهری، أنا أعلم بأنّ الشارع جعل الحجّیة لهذه الإمارة، وأنّ معنی الحجّیة هو جعل العلمیة والطریقیة، أعلم بالحکم الظاهری، هذا حکم ظاهری والمجعول فی الأصول أیضاً حکم ظاهری، الذی یوجب الحکومة والتقدیم هو العلم بالواقع تعبّداً، فأنّه هو الذی یوجب رفع موضوع الأصل العملی، أمّا العلم الوجدانی بالحکم الظاهری، فهذا لا یوجب رفع موضوع الأصل العملی، أنا أعلم تعبّداً بنجاسة أحد الإناءین، هذا لا یوجب رفع الشکّ المتحقق فی هذا الطرف، أو الشک المتحقق فی هذا الطرف.

ص: 182

وبعبارة أخری: أنّ هذه الأحکام هی أحکام ظاهریة تجری فی عرضٍ واحد، ولا یترتب علیها ما ذُکر من الحکومة أو الورود. علی کل حال، المقصود فی الجواب هو العلم التعبّدی بالحکم الواقعی، هذا یحصل نتیجة قیام الإمارة؛ وحینئذٍ تُقدّم الإمارة علی الأصل العملی.

بناءً علی أنّ المقصود هو العلم التعبّدی بالحکم الواقعی؛ حینئذٍ ذکر فی مقام الخدشة فی هذا الجواب أنّ الحکومة المُدّعاة فی الجواب الثانی إنّما تتمّ فی ما إذا کان دلیل الأصل مقیّداً بعدم العلم لفظاً، بأن یکون دلیل الأصل مقیّداً بحسب لسان دلیله، فی هذه الحالة تتمّ الحکومة کما هو الحال فی الأصل الذی یجری فی مورد قیام البیّنة؛ فحینئذٍ یقال أنّ البیّنة حاکمة علی دلیل الأصل العملی؛ لأنّ الأصل الذی یجری فی هذا الطرف المعیّن الذی هو مورد الإمارة قُیّد بحسب لسان دلیله بعدم العلم، أدلّة البراءة، أدلّة أصالة الطهارة، وغیرها من الأصول المؤمّنة، کلّها مقیّدة بعدم العلم فی لسان دلیلها(حتّی تعلم أنّه قذر) ؛ حینئذٍ تتمّ الحکومة، فیقال: أنّ دلیل حجّیة البیّنة بناءً علی مسلک جعل العلمیة والطریقیة یکون رافعاً لموضوع دلیل الأصل وحاکماً علیه. وأمّا فی محل الکلام، یُستشکل فی تمامیة الحکومة، وذلک باعتبار أنّه فی محل الکلام لا نجری الأصل _________ أصالة الطهارة __________ فی أحد الطرفین المعیّن حتّی نقول أنّ اصالة الطهارة فی هذا الطرف هو مفاد أدلّة أصالة الطهارة، ودلیل أصالة الطهارة مأخوذ فیه عدم العلم لفظاً، فتثبت الحکومة، فی محل الکلام نحن نجعل المعارض للبینّة هو مجموع الأصلین، مجموع الأصلین لیس مقیّداً بعدم العلم لفظاً وإنّما هو مقیّد به لبّاً وروحاً وواقعاً، باعتبار أنّه مع العلم بالواقع لا مجال لإجراء الأصول، أیّ أصولٍ کانت، لا مجال لإجرائها، فقهراً یکون مجموع الأصلین مقیّداً بعدم العلم بالخلاف لبّاً ولیس لفظاً، إذا وصلنا إلی هذه النتیجة، أنّ محل الکلام غیر ما إذا أردنا إجراء الأصل فی نفس الطرف الذی قامت علیه البیّنة، هناک الأصل یجری فی ذاک الطرف بأدلّة أصالة الطهارة، وهی مقیّدة بحسب لسان دلیلها بعدم العلم بالخلاف، وأمّا فی محل الکلام مجموع الأصلین لیس هکذا. مجموع الأصلین مقید بلا إشکال بعدم العلم بالخلاف، کل أصلٍ هو مقیّد بعدم العلم بالخلاف؛ بل سیأتی أنّه حتّی الإمارة مقیّدة بعدم العلم بالخلاف، لکن هذا القید لم یؤخذ فی لسان الدلیل، وإنّما مقیّد به لباً، إذا وصلنا إلی هذه النتیجة؛ حینئذٍ یقال: أنّ المشهور یفرّق بین ما إذا کان عدم العلم بالخلاف أُخذ قیداً فی لسان الدلیل، وبین ما أُخذ قیداً لبّاً وواقعاً ویلتزم بالحکومة فی الأوّل دون الثانی، وعلی هذا الأساس أجابوا عن الإشکال الذی یتوجّه علیهم بأنّه لماذا تقدّمون الإمارة علی الاستصحاب ؟ مع أنّ کلاً منهم حکم ظاهری جُعلت فیه الطریقیة والعلمیة.

ص: 183

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ انحلال العلم الإجمالی

کان الکلام فی أنّه ما هو الوجه فی تقدیم دلیل الإمارة علی دلیل الأصل الجاری فی الطرفین فی محل الکلام مع کون کل منهما مجعولاً ظاهریاً وتعبّداً شرعیاً، فلماذا نقدّم الإمارة علی مجموع الأصلین ؟

کانت هناک أجوبة عن هذا،وانتهی الکلام إلی الجواب الثانی، وکان حاصله إثبات الحکومة، أنّ التقدیم من جهة الحکومة بناءً علی مسلک جعل الطریقیة والعلمیة، وذلک بافتراضأنّ مجموع الأصلین مقیّد بعدم العلم بالحکم بالخلاف، والإمارة الدالّة علی الحکم الواقعی تکون علماً تعبّدیاً بالخلاف، أی بالنجاسة، فیرتفع موضوع الأصل فی الطرفین؛ لأنّه موضوعه مقیّد بعدم العلم بالخلاف، وبواسطة قیام الإمارة یصبح المکلّف عالماً بالخلاف؛ وحینئذٍ یرتفع موضوع الأصل.

وذکرنا أنّ السید الشهید (قدّس سرّه) (1) اعترض علی هذا الجواب وکان الاعتراض یتلخّص فی ما یلی: أنّ حکومة الإمارة علی الأصل إنّما تتم حینما یؤخذ فی لسان دلیل الأصل قید عدم العلم بالخلاف، وأمّا إذا لم یؤخذ فی لسان دلیل الأصل عدم العلم بالخلاف، فالمشهور بنا علی أنّه لا توجد حکومة، وفی محل الکلام لم یؤخذ فی مجموع الأصلین عدم العلم بالخلاف فی لسان الدلیل؛ لأنّ دلیل الأصلین الجاریین فی الطرفین هو عبارة عن دلیل الأصل المتعارف(کل شیء لک طاهر) مثلاً، وأمّا مجموع الأصلین لم یؤخذ فی لسانه قید عدم العلم بالخلاف، دلیل أصالة الطهارة یجری فی الطرف بعینه، الإناء الذی تشک فی نجاسته وطهارته هو لک طاهر حتّی تعلم بقذارته؛ حینئذٍ یکون هذا مأخوذاً فی لسان الدلیل، لکن هذا الدلیل لا یدل علی أنّ مجموع الأصلین منوط ومشروط بعدم العلم بالخلاف. نعم، لا إشکال فی أنّ هذا قید فی مجموع الأصلین المعارض لدلیل الإمارة، لکنّه قید لبّی وواقعی ولیس مأخوذاً فی لسان الدلیل. هذا هو الإشکال. وبناءً علی هذا؛ حینئذٍ کیف تجری الحکومة فی محل الکلام ؟ ثمّ ذکر بأنّ هذا هو الوجه الذی أجاب به القوم عن إشکال تقدیم الإمارة علی الاستصحاب، لماذا تقدّم الإمارة علی الاستصحاب ؟ مع أنّ کلاً منهما المجعول فیه هو العلمیة والطریقیة، وکل منهما أیضاً مقیّد بعدم العلم بالخلاف. الإمارة مقیّدة بعدم العلم بالخلاف، بلا إشکال، وأنّ الإمارة لا تکون حجّة مع العلم بالواقع، الاستصحاب أیضاً مقیّد بعدم العلم بالخلاف، فلماذا تقدّم الإمارة علی الاستصحاب ؟

ص: 184


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص179.

أجابوا عن هذا بأنّ الإمارة وإن کانت مقیّدة بعدم العلم بالخلاف، لکنّ القید فیها لبّی، لم یؤخذ فی لسان دلیلها، لسان دلیل الإمارة خبر الثقة حجّة، لم یؤخذ فی لسان دلیلها قید عدم العلم بالخلاف، بینما الاستصحاب أخذ فی لسان دلیله عدم الیقین وعدم العلم بالخلاف والشکّ، ومن هنا تکون الإمارة حاکمة علی الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب أُخذ فی لسان دلیله عدم العلم بالخلاف، ولا یکون الاستصحاب حاکماً علی الإمارة؛ لأنّ الإمارة لم یؤخذ فی لسان دلیلها عدم العلم بالخلاف، وإن کانت مقیّدة به واقعاً. نفس هذا الکلام یقال فی المقام، عندنا إمارة وفی مقابلها أصل، هذا الأصل إن جری فی أحد الطرفین کما لو فرضنا أنّ الإمارة أخبرت بنجاسة أحدهما المعیّن، لا مشکلة، هنا یقال بأنّ هذا الأصل أُخذ فی لسان دلیله عدم العلم بالخلاف، بینما الإمارة لم یؤخذ فی لسان دلیلها عدم العلم بالخلاف، فتقدّم الإمارة علی الأصل، لکن الکلام لیس فی الأصل الجاری فی أحد الطرفین، وإنّما الکلام فی مجموع الأصلین، ومجموع الأصلین مقیّد بعدم العلم بالخلاف بلا إشکال، لکنّ القید فیه قید لبّی وواقعی لا فی لسان دلیل؛ لأنّه لیس لدینا دلیل یقول أنّ مجموع الأصلین مقیّد بعدم العلم بالخلاف، وإن کان هو کذلک واقعاً ولبّاً، ومن هنا یشکل تقدیم الإمارة علی مجموع الأصلین. وبعبارةٍ أخری: من هنا یشکل تحقق الحکومة فی المقام؛ لأنّ کلاً من المتعارضین لم یؤخذ فی لسان دلیله عدم العلم بالخلاف، لا الإمارة أخذ فی لسان دلیلها عدم العلم بالخلاف، ولا مجموع الأصلین أخذ فیه عدم العلم بالخلاف. نعم، مجموع الأصلین أخذ فیه عدم العلم بالخلاف لبّاً وواقعاً کما هو الحال فی الإمارة، فلا وجه لحکومة الإمارة علی مجموع الأصلین. هذا إشکال السید الشهید (قدّس سرّه) علی الجواب الثانی.

ص: 185

هذا الإشکال مبنی علی أنّ هناک فرقاً،ولو بنظر العرف، بین أخذعدم العلم بالخلاف فی لسان الدلیل وبین أخذه لبّاً وواقعاً بحیث أنّ العرف یری أنّ الحکومة تصدق فی الأوّل ولا تصدق فی الثانی. والالتزام بهذا صعب، فالعرف لا یُفرّق بینهما؛ لأنّه بعد فرض أنّ المجعول هو العلمیة والطریقیة، وبعد فرض أنّ المکلّف عندما قامت عنده الإمارة یصبح عالماً بالواقع تعبّداً، العرف یری أنّ هذا العلم التعبّدی بالواقع یکون رافعاً لمجموع الأصلین، وإن کان مجموع الأصلین لم یؤخذ فی دلیله عدم العلم بالخلاف، لکن بالنتیجة واقعاً هو مقیّد بعدم العلم بالخلاف، العرف عندما تطرح علیه القضیة یقول أنّ من قامت عنده القضیة أصبح عالماً بالنجاسة تعبّداً، ویعتبر هذا حاکماً علی مجموع الأصلین، ورافعاً لموضوعه؛ لأنّ موضوعه الشک وعدم العلم، وإن لم یؤخذ فی لسان دلیله، العرف یری أنّ العلم التعبّدی بالنجاسة نتیجة قیام الإمارة یکون حاکماً علی مجموع الأصلین ویکون رافعاً لموضوعه، لا یبقی لدی المکلّف شکّ فی ثبوت الطهارة فی کلٍ منهما، وإنّما یصبح عالماً بأنّ أحدهما نجس. إذن، لاشک فی المجموع، وإنّما هو یعلم بأنّ أحدهما نجس، فیرتفع الشکّ فی مجموع الأصلین باعتبار الإمارة القائمة علی نجاسة أحد الإناءین والتی هی علم تعبّدی بنجاسة أحد الإناءین. هذا بنظر العرف یمنع من جریان الأصل فی کلا الطرفین ویکون حاکماً علی ذلک ورافعاً لموضوعه، بنظر العرف هکذا، قد یکون صناعةً یصح ما ذکره، لکن بالنظر العرفی الظاهر أنّه لیس کذلک.

الجواب الثالث: أن یقال أنّه فی المقام یوجد عندنا علم إجمالی ولیس فقط إمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین حتّی یرد الإشکال السابق، حیث الإشکال کان أننا فی المقام لیس لدینا علم، وإنّما إمارة قامت علی نجاسة أحد الإناءین، فلماذا نقدّم الإمارة علی مجموع الأصلین مع أنّ کلاً منهما من الأحکام الظاهریة، وکل منهما تعبّد شرعی. فی الجواب الثالث ندّعی أنّ هنا یوجد علم وجدانی بثبوت النجاسة فی أحد الطرفین الأعم من النجاسة الواقعیة والنجاسة الظاهریة؛ لأنّه إن کانت الإمارة مصیبة للواقع، فالنجاسة واقعیة، وإن کانت النجاسة غیر مصیبة للواقع، فالنجاسة ظاهریة بدلیل الحجّیة. وقد تقدّم سابقاً أنّ الإمارة الدالّة علی نجاسة أحد الإناءین لها مدلول التزامی، مدلولها الالتزامی أنّها تحکم بنجاسة هذا الطرف علی تقدیر طهارة الطرف الآخر، وتحکم بنجاسة الطرف الآخر علی تقدیر طهارة الطرف الأوّل، هذا یوجب علماً إجمالیاً بأنّ هناک نجاسة متحققة فی أحد الإناءین قطعاً، غایة الأمر أنا لا أدری أنّ هذه النجاسة المتحققة هل هی نجاسة واقعیة، أو هی نجاسة ظاهریة ؟ إذن، أنا أعلم إجمالاً بنجاسة متحققة فی أحد الإناءین أعم من أن تکون نجاسة ظاهریة، أو واقعیة، وهذا بلا إشکال یکون مقدّماً علی مجموع الأصلین، ویکون بالضبط حاله مع الأصلین الجاریین فی الطرفین مع العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما، ولا مشکلة فی هذا، عندما نعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما، لا إشکال فی أنّ العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما یمنع من جریان الأصلین فی الطرفین، فی ما نحن فیه سوف یکون حاله من هذا القبیل، بمعنی أنّ نسبة الأصلین إلی هذا العلم الإجمالی بالنجاسة الأعم من الظاهریة والواقعیة کنسبة الأصلین فی أصل البحث بالنسبة إلی العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما کما أنّ العلم الإجمالی هناک یمنع من جریان الأصلین فی الطرفین ویقدّم علیهما، کذلک الحال فی محل الکلام بعد أن انتزعنا واستفدنا من قیام الإمارة علی نجاسة أحد الطرفین حصول علم إجمالی بنجاسة موجودة فی البین ومتحققة قطعاً. نعم، هی أعمّ من أن تکون نجاسة ظاهریة أو تکون نجاسة واقعیة، وتقدیم هذا علی مجموع الأصلین وعلی الأصلین فی الطرفین واضح جدّاً کما هو الحال فی البحث السابق. هذا الجواب الثالث عن أصل الإشکال، وبهذا یتمّ الکلام عن هذا التنبیه.

ص: 186

التنبیه الآخر الذی یقع فیه الکلام: هو العلم الإجمالی فی التدریجیات.

الکلام یقع فی ما إذا کان أحد طرفی العلم الإجمالی تکلیفاً فعلیاً، لکنّ الطرف الآخر کان تکلیفاً استقبالیاً، تکلیفاً منوطاً بزمانٍ متأخرٍ.

بعبارةٍ أخری: إذا کانت المشتبهات ____________ حسب تعبیر الشیخ الأنصاری (قدّس سرّه) ___________ تدریجیة، هذا طرف لعلم إجمالی مشتبه الآن یتحقق، الطرف الثانی یتحقق فی المستقبل، فهناک تدریجیة فی أطراف العلم الإجمالی، أو فی المشتبهات، یمثّل لذلک بالمرأة المضطربة العادة التی تنسی وقت العادّة وإن کانت تحفظ العدد، هی تعلم أنّ عادتها ثلاثة ایام فی الشهر، لکنّها لا تعلم هل أنّها فی أول الشهر، أو فی وسطه، أو فی آخره ؟ أو المرأة التی یستمر معها الدم طیلة الشهر، فهی تعلم إجمالاً بأنّ هناک ثلاثة ایام واقعة فی هذا الشهر هی أیام حیضها، لکنّها لا تعلم أیّ الثلاثة هی أیام الحیض، هل هی الثلاثة الأولی، أو الثلاثة الثانیة، أو الثالثة.......وهکذا ؟ مثال آخر یُذکر فی المقام هو التاجر الذی یعلم أنّه سوف یبتلی فی یومه، أو فی شهره بمعاملة ربویة، لکنّه لا یعلم أنّ هذه المعاملة التی سوف یبتلی بها فی شهره هل هی المعاملة التی یجریها فی الیوم الأوّل، أو فی الیوم الثانی، أو الثالث.........وهکذا ؟ هذا علم إجمالی بمعاملة ربویة متحققة فی الشهر فی ضمن المعاملات التی یجریها فی الشهر، لکن الأطراف تدریجیة، المشتبهات تدریجیة، الأمر یدور بین تکلیفٍ فعلی، إذا کانت المعاملة الربویة هی هذه المعاملة التی یجریها الیوم، وبین تکلیفٍ منوطٍ بزمانٍ متأخّر، علی تقدیر أن تکون المعاملة الربویة هی المتحققة فی المعاملة التی یجریها فی وقتٍ لاحقٍ، الکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالیهذا هل ینجّز کلا الطرفین، فیحرم علی المرأة ________ مثلاً _________ دخول المساجد طیلة الشهر ؟ أو یحرم علی التاجر الإقدام علی المعاملة طیلة الشهر؛ لأنّه یعلم إجمالاً بوجود معاملة ربویة فی ضمن المعاملات الطولیة التی یجریها خلال الشهر ؟ أو أنّ هذا العلم الإجمالی لا اعتبار به ولا یکون منجّزاً.

ص: 187

فی مقام تنقیح محل الکلام السید الخوئی (قدّس سرّه) ذکر شیئاً لا بأس بعرضه، وحاصل ما ذکره: أنّ تدریجیة الأطراف والمشتبهات یمکن تصوّرها علی أنحاء تدریجیة: (1)

النحو الأوّل: أن نفترض أنّ التدریجیة هی تدریجیة اختیاریة للمکلّف بأن یکون المکلّف متمکنّاً من الجمع بین الأطراف، ولکنّه أرتأی أن یأتی بأحد الأطراف الآن، ثمّ یأتی بالطرف الآخر فی الیوم الآخر، ویمثّل له بما إذا علم بغصبیة أحد الثوبین، هو الآن متمکن من لبس کلٍ منهما، لیس هناک تدریجیة قهریة علیه، یمکنه لبس هذا الثوب کما یمکنه لبس الثوب الآخر، لکن هو أرتأی أن یلبس هذا الثوب الیوم وأن یلبس الثوب الآخر فی الیوم الآخر، هنا حصلت تدریجیة بین الأطراف، لکنّها تدریجیة اختیاریة، هنا قال لا إشکال فی خروج هذا النحو عن محل الکلام؛ لوضوح أنّ العلم الإجمالی هنا یکون منجّزاً باعتبار أنّ المکلف عالم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، هو یعلم بأنّه مکلّف بالاجتناب عن أحد الثوبین فعلاً، سواء کانت الغصبیة موجودة فی هذا الثوب، أو موجودة فی هذا الثوب، مع فرض تمکّن المکلّف من الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة، فیتنجّز علیه العلم الإجمالی بلا إشکال، وهذا خارج عن محل الکلام؛ لأننا لا نتکلّم فی ما إذا کانت التدریجیة اختیاریة للمکلّف.

النحو الثانی: أن تکون التدریجیة مستندة إلی عدم تمکّن المکلّف منها، یعنی عدم التمکّن من الجمع بین الأطراف، فقهراً تکون الأطراف تدریجیة، لکنّ المکلّف یتمکّن من ارتکاب کل واحد منهما بالفعل، التدریجیة قهریة ولیست اختیاریة له، لکن یُفترض أنّه متمکّن من ارتکاب هذا الطرف بالفعل، ومتمکّن من ارتکاب الطرف الآخر بالفعل، من قبیل ما إذا علم إجمالاً بوجوب أحدی الصلاتین، إمّا صلاة الجمعة، أو صلاة الظهر، هو لا یمکنه أن یجمع فی آنٍ واحد بینهما، فی مثال الثیاب الغصبیة کان یمکنه أن یجمع بینهما فی آنٍ واحد، فیلبس الثوبین، أمّا فی صلاة الظهر وصلاة الجمعة لا یمکنه أن یصلی الظهر والجمعة فی زمان واحد، هو فی زمانٍ واحد إمّا أن یصلی الظهر، أو یصلی الجمعة، هنا لا یمکنه الجمع بینهما، فالتدریجیة مفروضة علیه، لکنّه یتمکّن من أن یأتی بصلاة الظهر کما یتمکّن أن یأتی بصلاة الجمعة. فی هذه الحالة أیضاً ذکر أنّ هذا خارج عن محل الکلام، أیضاً لوضوح أنّ العلم الإجمالی فی هذه الحالة یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، هو یعلم فعلاً أنّه مکلّف تکلیفاً فعلیاً علی کل تقدیر، یعنی سواء کان الواجب علیه صلاة الجمعة، فهو مکلّف بها، أو کان الواجب علیه صلاة الظهر فهو مکلّف بها، فیکون حاله حال نجاسة أحد الإناءین، أو خمریة أحد المائعین......وهکذا، التکلیف فعلی علی کل تقدیر، سواء کان فی هذا الطرف هو مکلّف، أو کان فی هذا الطرف فهو مکلّف، وهذا هو الملاک فی منجّزیة العلم الإجمالی، وهذا متحقق فی المقام؛ لأنّه یعلم أنّه مکلّف فعلاً بتکلیفٍ علی کل تقدیر، سواء کان الواجب الواقعی هو صلاة الظهر هو مکلّف بها، أو کان الواجب الواقعی هو صلاة الجمعة هو أیضاً مکلّف بها، والمفروض أنّه قادر علی الإتیان بکل واحدٍ منهما، غیر قادر علی الجمع بینهما فی زمان واحد، إلاّ أنه قادر علی الإتیان بهذا، وقادر علی الإتیان بهذا، فیتنجّز علیه العلم الإجمالی بلا إشکال، وهذا أیضاً خارج عن محل الکلام.

ص: 188


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد سرور الواعظ البهسودی، ج2، ص269.

النحو الثالث: أن تکون التدریجیة مستندة إلی عدم تمکّن المکلّف، أی أنّ التدریجیة مفروضة علی المکلّف، فهو لا یتمکّن من الجمع بین الطرفین فی زمانٍ واحد بسبب تقیّد أحد الطرفین بزمانٍ متأخّر، أو بقیدٍ زمانی متأخّر، یعنی قید زمانی یحصل فی الزمان، لکنّه متأخّر، فهنا لا یتمکّن المکلّف من الجمع بینهما فی زمانٍ واحد، التدریجیة مفروضة علی المکلّف، لکن هنا یفترض عدم قدرة المکلّف علی ارتکاب کل واحدٍ منهما کما فرضناه فی النحو الثانی حیث کان یمکنه أن یصلی الجمعة کما یمکنه أن یصلی الظهر، أمّا فی النحو الثالث فنفترض أنّه غیر قادر علی کلٍ من الطرفین، وإنّما قدرته فقط تتعلّق بأحد الطرفین بعینه، أمّا الطرف الآخر فهو غیر قادر علیه بالفعل، وهذا هو العلم الإجمالی فی التدریجیات، المکلّف غیر قادرٍ إلاّ علی أحد الطرفین بعینه، وأمّا الطرف الآخر، فهو غیر قادرٍ علیه؛ لأنّ الطرف الآخر یکون منوطاً ومقیّداً بزمانٍ متأخّرٍ، أو بقیّدٍ متأخّر الحصول.

إذن: المأخوذ فی محل الکلام أن تکون هناک تدریجیة فی الأطراف، وأنّ هذه التدریجیة لیست اختیاریة، وأن یکون المکلّف غیر قادرٍ علی اختیار کلٍ من الطرفین، أمّا کونه غیر قادرٍ علی الجمع، فهذا فرضناه فی نفس افتراض التدریجیة، لکن هو غیر قادرٍ علی هذا الطرف مع قدرته علی الطرف الآخر کما هو الحال فی صلاتین، وإنّما هو قادر علی طرفٍ واحدٍ کما هو الحال فی الأمثلة السابقة، التاجر غیر قادرٍ إلاّ علی إجراء معاملةٍ فی هذا الیوم؛ لأنّ المعاملة الثانیة منوطة بزمانٍ متأخّرٍ ولا تتحقق إلاّ فی زمانٍ متأخّر. إذن، هو الیوم قادر علی طرفٍ واحدٍ، وغیر قادر علی الطرف الآخر، وإنّما هذه تدریجیة وهو لا یکون قادراً إلاّ علی أحد الطرفین دون الطرف الآخر، وقال: أنّ هذا هو محل الکلام، وهذا هو الذی یجری فیه الکلام.

ص: 189

ثمّ ذکر بأنّ هذا النحو الثالث ینقسم إلی قسمین، وأنّه تارةً نفترض أنّ التکلیف یکون فعلیاً علی کل تقدیرٍ وأخری لا یکون کذلک؛ بل یکون فعلیاً علی تقدیر ولا یکون فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ.

أمّا الأوّل: وهو أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، ذکر بأنّه لا ینبغی الإشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی فیه، مادام التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ، وإن کان أحد الطرفین منوطاً بزمانٍ متأخّرٍ، وإن کان هناک تدریجیة فی أطراف العلم الإجمالی بحسب تحققها فی عمود الزمان، لکن ما دام التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، سواء کانت المعاملة الربویة فی هذا الیوم، أو کانت بعد خمسة أیام، لکن التکلیف بحرمة تلک المعاملة یکون فعلیاً. إذن، هو یعلم بتکلیفٍ فعلیٍ سواء کانت المعاملة الربویة فی هذا الیوم، أو کانت بعد خمسة أیام، لکن التکلیف فعلی، إذا کان التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، فهذا لا ینبغی الإشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی فیه، وکأنّه یرید أن یقول أنّ هذا أیضاً خارج عن محل الکلام، والسرّ فیه هو أننا نفترض العلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وحیث أنّ الملاک فی التکلیف هو أن یکون المکلّف عالماً بتکلیفٍ فعلیٍ متوجّه إلیه، سواء کانت النجاسة فی هذا الطرف، أو کانت النجاسة فی الطرف الآخر، وفرضنا هذا العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، فلابدّ من الالتزام بالتنجیز، ومثّل لذلک بمسألة النذر، إذا نذر المکلّف أن یقرأ سورة معینة، لکنّه لا یعلم هل أنّه نذر فی هذا الیوم أن یقرأ سورة معینة، أو نذر أن یقرأ سورة معینة فی الیوم الآتی، قطعاً هو نذر أن یقرأ سورة معینة، لکنّه لا یعلم أنّه نذرها فی هذا الیوم، أو فی الیوم الآتی، هذا علم إجمالی بالتدریجیة، فی هذه الحالة بناءً علی إمکان الواجب المعلّق؛ حینئذٍ لا مشکلة فی الفصل بین التکلیف وبین المکلّف به، بأن یکون الزمان المکلّف به استقبالیاً، لکن التکلیف به فعلیاً، فیکون واجباً معلّقاً ____________ بناءً علی إمکان الواجب المعلّق ___________ حینئذٍ هنا یکون مثالاً لهذا القسم الأوّل، وهو أنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر، سواء هو نذر أن یقرا سورة فی هذا الیوم، فیجب علیه قراءتها، أو نذر أن یقرأ السورة فی الیوم الآتی أیضاً یجب علیه قراءتها، التکلیف فعلی والقید والزمان إنّما هو قید للواجب المکلّف به ولیس للتکلیف، فالتکلیف فعلی، هو فعلاً مکلّف بأن یقرأ السورة أمّا الیوم، أو غداً، یقول: فی هذه الحالة لا ینبغی الإشکال فی تنجیز العلم الإجمالی، فینجّز العلم الإجمالی کلا الطرفین علیه، فیجب علیه الاحتیاط بأن یقرأ السورة فی هذا الیوم ویقرأها فی الیوم الآتی؛ لأنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیرٍ.

ص: 190

وأمّا الثانی: یعنی علم إجمالی بالتدریجیات لکن التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما هو فعلی علی تقدیر، ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ، علی تقدیر أن یکون التکلیف فی هذا الطرف المتحقق الآن، فهو تکلیف فعلی، وأمّا علی تقدیر أن یکون متحققاً فی الطرف الموجود فی المستقبل فهو لیس فعلیاً الآن، وإنّما سیکون فعلیاً فی وقته وزمانه، فإذن، التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما هو فعلی علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، یقول: هذا هو محل الکلام، وهو الذی وقع فیه النزاع والخلاف، أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز الطرفین، أو لا ینجّزهما ؟ أو نقول بالتفصیل کما سیأتی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

الکلام فی العلم الإجمالی فی التدریجیات: أی فی تنجیزالعلم الإجمالی للأطراف إذا کانت الأطراف تدریجیة الوجود. نقلنا کلاماً للسیّد الخوئی(قدّس سرّه) فی الدرس السابق، حیث أنّه ذکر أقساماً وذکر أنّ هذه الأقسام خارجة عن محل الکلام، وانتهی إلی نتیجة أنّ القسم الداخل فی محل الکلام هو ما إذا کانت التدریجیة مستندة إلی عدم تمکّن المکلّف من الجمع بین الأطراف بسبب تقیّد أحد الأطراف بزمانٍ متأخّرٍ، أو بزمانی متأخّر کالزوال، قبل الزوال یکون الوجوب متأخّراً بزمانٍ، یکون أحد الأطراف متأخّراً بزمانیٍ متأخّرٍ وهو ___________ فرضاً ___________ شیء آخر لا یقع الآن، وإنّما یقع بعد ذلک، مع فرض کون المکلّف غیر قادرٍ علی الإتیان بکل واحدٍ منهما الآن، الآن هو غیر قادر علی الإتیان بهذا وغیر قادرٍ علی الإتیان بالآخر؛ بل هو قادر علی الإتیان بأحدهما فقط، وبهذا یختلف عن مثال العلم الإجمالی بوجوب إحدی الصلاتین، الجمعة، أو الظهر، هو قادر علی الإتیان بالظهر وقادر علی الإتیان بصلاة الجمعة، بینما فی محل الکلام نفترض أنّه غیر قادر علی الإتیان بأحد الطرفین؛ لأنّ أحد الطرفین مشروط بزمانٍ متأخّرٍ، فهو قادر علی طرفٍ بعینه. وهذا هو محل الکلام الذی یقع فی أنّ العلم الإجمالی هل ینجّز کلا الطرفین بما فیه الطرف المتأخّر وجوداً المنوط بزمانٍ متأخّرٍ، أو لا ؟

ص: 191

ثمّ ذکر السیّد الخوئی(قدّس سرّه) أنّ هذا القسم الثالث (1) الذی هو محل الکلام تارةً یکون الحکم المعلوم بالإجمال فیه فعلیاً علی کل تقدیرٍ بأن یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال هو هذا الطرف، وأیضاً یکون فعلیاً علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال هو الطرف الآخر، فالتکلیف یکون فعلیاً علی کل تقدیرٍ، وأخری لا یکون کذلک، وإنّما یکون فعلیاً علی تقدیرٍ، ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، فقسّمه إلی نحوین. ثمّ ذکر أنّه فی هذا النحو الأوّل من القسم الثالث وهو أن نفترض أن التکلیف فعلی علی کل تقدیرٍ، هنا ّذکر أنّه لا ینبغی الإشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی، باعتبار أنّ المفروض هنا أنّ المکلّف یعلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وهذا هو الملاک فی تنجیز العلم الإجمالی لأطرافه، أن یکون المکلّف عالماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، فی مثال الإناءین سواء کانت النجاسة فی هذا الإناء، فالتکلیف فعلی، أو کانت فی الإناء الآخر، فالتکلیف فعلی، إذا فرضنا فی محل الکلام بالرغم من أنّ الأطراف تدریجیة الوجود، یعنی أحد الأطراف منوطٌ بزمانٍ متأخّرٍ ___________ مثلاً __________ الإتیان به غیر ممکنٍ الآن، فی هذا الفرض بالرغم من ذلک هو فرض أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، سواء کان المعلوم بالإجمال متحققاً فی هذا الطرف الذی یمکن الإتیان به فعلاً، فالتکلیف فعلی، أو کان المعلوم بالإجمال متحققاً فی ذاک الطرف الذی یقع فی المستقبل أیضاً یکون التکلیف به فعلیاً، یقول: علی هذا التقدیر لا ینبغی الإِشکال فی المنجّزیة؛ لأنّ الملاک والمناط فی تنجیز العلم الإجمالی هو أن یکون علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کلا التقدیرین، وهذا حاصل بالفرض فی هذا النحو الأوّل؛ ولذا لا ینبغی الإشکال فی تنجیز العلم الإجمالی لکلا الطرفین، ویمثّل لذلک بما إذا نذر أن یقرأ سورة معیّنة، وتردد المنذور بین أن یکون قراءة سورة معیّنة فی هذا الیوم، أو قراءة سورة معیّنة فی یوم غدٍ، هذه أطراف تدریجیة الوجود، فی هذه الحالة یقول هناک تکلیف فعلی علی کل تقدیر، سواء کان المنذور هو أن یقرأ سورة فی هذا الیوم، فالتکلیف بوجوب قراءتها فعلی، أو کان المنذور هو قراءة السورة فی یوم غدٍ، أیضاً التکلیف بوجوب قراءتها فعلی، هو فعلاً مکلّفٌ بأن یقرأ السورة فی یوم غدٍ، فالتکلیف یکون فعلیاً.

ص: 192


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص376.

مسألة أنّ التکلیف فعلی الآن بالرغم من أنّ المکلّف به الواجب استقبالی هذه مبنیة علی النزاع المعروف فی الواجب المعلّق، فإذا قلنا بإمکان الواجب المعلّق؛ حینئذٍ یکون هذا الفرض مقبولاً ومعقولاً، وهو أن نفترض أنّ التکلیف فعلیٌ علی کل تقدیر، المنذور قراءة سورة الآن تکلیفٌ فعلیٌ، والمنذور قراءة سورة یوم غدٍ أیضاً التکلیف فعلی، یقول: علی هذا التقدیر لا ینبغی الإشکال فی تنجیز العلم الإجمالی. هذا النحو الأوّل من القسم الثالث.

وأمّا النحو الثانی من القسم الثالث: هو الذی جعله محل الإشکال والخلاف، وهو أن یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیر، ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ من قبیل المرأة التی ضاع علیها وقت حیضها، هی تعلم أنّها تحیض ثلاثة أیام فی الشهر، لکنّها لا تعلم هل هی الثلاثة الأولی، أو الثلاثة فی منتصف الشهر ___________ مثلاً ____________ أو الثلاثة فی آخر الشهر، أو أنّها عشرة أیام، لکن هل هی العشرة الأولی، أو العشرة الثانیة، أو العشرة الثالثة. هنا یقول: علی تقدیر أن یکون حیضها فی العشرة الثالثة، هی فعلاً التکلیف لیس فعلیاً فی حقها، إذن: التکلیف فعلی، التکلیف بحرمة دخول المساجد وحرمة قراءة سور العزائم، وحرمة المقاربة وأمثالها، علی تقدیر أن تکون أیام حیضها العشرة الأولی، فالتکلیف فعلی فی حقّها، أما علی تقدر أن تکون أیام حیضها هی العشرة الأخیرة، الآن فی أوّل الشهر لا یکون التکلیف فعلیاً. إذن: التکلیف فعلی علی تقدیرٍ، ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، یقول: هذا هو محل الکلام.

الذی یبدو أنّ النحو الأوّل من القسم الثالث مرجعه فی الحقیقة إلی أنّ الزمان المتأخّر لیس قیداً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً؛ ولذا یصیر التکلیف فعلیاً حتّی فی الطرف التدریجی الوجود، التکلیف به یکون فعلیاً؛ لأنّ الزمان المتأخّر لیس قیداً، أو دخیلاً فی التکلیف، لا فی الخطاب، ولا فی الملاک، الخطاب لیس مقیّداً بالزمان المتأخّر، فیکون فعلیاً، والملاک أیضاً لیس مقیداً بالزمان المتأخّر، فیکون فعلیاً؛ ولذا صار التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر: أمّا علی التقدیر الأوّل، فواضح، بأن یکون المعلوم بالإجمال فی الطرف الآخر الذی زمانه متأخّر، لا مشکلة حتّی إذا کان زمانه متأخّراً، لکنّ هذا الزمان المتأخّر قید فی الواجب ولیس قیداً ولا دخیلاً فی التکلیف، وإنّما یکون قیداً فی الواجب، یکون قیداً فی متعلّق التکلیف ولیس قیداً فی نفس التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، ومن هنا یصیر التکلیف فعلیاً بالرغم من أنّ المکلّف به استقبالی. النحو الأوّل الذی ذکره أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر مرجعه إلی افتراض أنّ الزمان المتأخّر لیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، وإنّما یکون دخیلاً فی متعلّق التکلیف. وسواء کانت دخالته فی متعلّق التکلیف علی نحو الظرفیة، أو علی نحو القیدیة، هذا لا یؤثّر، فبالنتیجة هو لیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً. ومن هنا یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر من زمان حصول العلم الإجمالی کما فی مثال النذر الذی ذکره، وکما فی مثال الربا الذی ذکره، لکن هذا کلّه بناءً علی إمکان الواجب المعلّق یکون هذا مثالاً لذلک، فی باب الربا یعلم التاجر بأنّ هناک معاملةً ربویة سیبتلی بها خلال یومه، لکنّه لا یعلم هل أنّه سیبتلی بها صباحاً، أو ظهراً، أو مساءً ؟ علی کل تقدیر؛ لأنّ الزمان المتأخّر لیس قیداً للتکلیف، وإنّما هو قید لمتعلّق التکلیف، فالتکلیف یکون فعلیاً علی کل تقدیر منذ الصباح، فیکون منجّزاً کما ذکره.

ص: 193

فی هذا النحو الأوّل من القسم الثالث الکل ذهب إلی المنجّزیة؛ بل جعلوه خارجاً عن محل الکلام کما یظهر من عبارة السیّد الخوئی(قدّس سرّه)، علی فرض أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، یکون خارجاً عن محل الکلام؛ لأنّه لا إشکال أنّ العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین، ففی مثال النذر یجب علیه أن یقرأ السورة الخاصّة فی هذا الیوم وفی الیوم الآتی، وفی مثال الربا یجب علیه أن یترک المعاملات فی تمام یومه......وهکذا، لا إشکال فی أنّ العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین، والأصول تکون متعارضة فی کلا الطرفین، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی.

نعم، فی النحو الثانی خالف بعض المحققین فی ذلک وذهب إلی عدم المنجّزیة بالرغم من افتراض أنّ التکلیف فعلیٌعلی کل تقدیر، فبالرغم من ذلک هو ذهب إلی عدم المنجّزیة، وقال أنّ العلم الإجمالی فی المقام لا ینجّز الطرفین، فإذا کان قد ذهب إلی عدم المنجّزیة فی هذه الصورة، فمن باب أولی أن یذهب إلی عدم المنجّزیة فی النحو الثانی الذی یکون التکلیف فیه لیس فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیر ولیس فعلیا علی تقدیرٍ آخر، من باب أولی أن یذهب إلی عدم منجّزیة العلم الإجمالی؛ لأنّه فی صورة کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر هو یری عدم المنجّزیة, واستدلّ هذا المحقق علی عدم المنجّزیة فی ما إذا فُرض أنّ التکلیف فعلیٌ علی کل تقدیر، أو بعبارةٍ أخری: فی ما إذا کان الزمان المتأخّر لیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، وإنّما هو دخیل فی متعلّق التکلیف فی الفعل الواجب، استدل علی ذلک بأنّ التکلیف اللاحق لا یقبل أن یتنجّز بواسطة العلم التفصیلی الفعلی، ویمثّل لذلک أولاً بالعلم التفصیلی، ثمّ یقول: یثبت هذا فی العلم الإجمالی من بابٍ أولی. إذا فرضنا أنّه علم تفصیلاً فی هذا الیوم بأنّه یجب علیه فی یوم غدٍ أن یقرأ سورة من القرآن، أو علم تفصیلاً فی شهر شعبان بأنّه سیجب علیه أن یصوم فی شهر رمضان الآتی، یقول: إذا علم بذلک، هذا العلم التفصیلی فی هذا الیوم لا یکون منجّزاً للتکلیف فی غدٍ ولا یکون موجباً لترتّب العقاب علیه؛ بل التنجیز إنّما یکون للعلم عندما یکون العلم مقارناً للتکلیف، عندما یکون العلم متقدّماً علی التکلیف فهذا العلم ولو کان تفصیلیاً، هو لا ینجّز ذلک التکلیف، وإنّما ینجّز التکلیف العلم به فی ظرفه، أی العلم المقارن له ینجّزه، أمّا العلم المتقدّم علیه فلا ینجّزه.

ص: 194

ما یرید أن یقوله هو: أننا نعلم إجمالاً الآن بوجوب قراءة سورة إمّا الآن، أو غداً، ویقول: أنّ العلم بالتکلیف فعلاً لا ینجّز التکلیف فی یوم غدٍ، لا ینجّزه من الآن. هو یرید أن ینفذ إلی هذه النکتة لإثبات عدم المنجّزیة، وهی أنّ العلم الإجمالی لیس علماً بتکلیفٍ قابل للتنجیز علی کل تقدیر، وإنّما هو قابل للتنجیز علی تقدیرٍ ولیس قابلاً للتنجیز علی تقدیرٍ آخر، علی تقدیر أن یکون ما نذره هو قراءة سورة فی یوم غدٍ، العلم حتّی لو کان تفصیلیاً لا ینجّز التکلیف فی ظرفه، العلم الآن لا ینجّز التکلیف فی ظرفه، وإنّما الذی ینجّز التکلیف فی ظرفه هو العلم المقارن له، العلم بالتکلیف ینجّز التکلیف یوم غد، أمّا العلم بالتکلیف الآن فلا ینجّز التکلیف فی ظرفه. إذن: الآن هو لا یعلم بتکلیفٍ قابلٍ للتنجیز علی کل تقدیر، وإنّما هو یعلم بتکلیفٍ قابلٍ للتنجیز علی تقدیر أن یکون المنذور __________ مثلاً __________ هو قراءة سورة الآن فی هذا الیوم، وأمّا علی تقدیر أن یکون المنذور هو قراءة سورة یوم غدٍ، فهذا التکلیف لیس قابلاً للتنجیز؛ لأنّ العلم، وإن کان تفصیلیاً إنّما ینجّز التکلیف فی ظرفه لا قبل ذلک، قبل ذلک العلم التفصیلی المتقدّم لا ینجّز التکلیف المتأخّر، وإنّما الذی ینجّزه هو العلم فی ظرفه، إذن: یکون العلم الإجمالی فی المقام غیر قابلٍ لتنجیز التکلیف علی کل تقدیر، والمعتبر فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون العلم الإجمالی قابلاً للتنجیز علی کل تقدیرٍ، وهذا العلم فی المقام لیس قابلاً للتنجیز علی کل تقدیرٍ، ولا یستطیع أن ینجّز علی المکلّف قراءة سورة فی یوم غد، وإنّما الذی ینجزه هو وجود هذا العلم فی یوم غد لا أنّه یتنجّز من الآن، الآن لا یستطیع الإنسان أن یحکم بمنجّزیة هذا العلم الإجمالی؛ لأنّه لیس علماً إجمالیاً بتکلیفٍ قابلٍ للتنجیز علی کل تقدیر، واستدلّ علی عدم المنجّزیة بأنّ هذا العلم التفصیلی تبدّل إلی شکٍّ، هذا الفعل فی یوم غدٍ لا یجب علی المکلّف الإتیان به؛ لأنّ العلم تبدّل إلی شکّ، فلا شیء ینجّز التکلیف فی یوم غدٍ؛ لأنّ المنجّز هو العلم، فإذا فرضنا أنّ العلم تبدّل إلی شکٍّ، فلا تتنجّز علی المکلّف قراءة سورة فی یوم غد، ولا تکون مخالفتها موجبة لاستحقاق العقاب الذی هو معنی التنجیز، ولا تکون المخالفة قبیحة؛ لأنّه لا علم بحسب الفرض، مع أنّه لو کان العلم الإجمالی الآن ینجّز التکلیف فی یوم غد فلابد من الالتزام بالتنجیز حتّی لو تبدّل العلم إلی شکٍّ؛ لأنّ العلم نجّز ذلک التکلیف، والشیء إذا وقع لا ینقلب عمّا وقع علیه، العلم الآن نجّز التکلیف علی المکلّف فی یوم غد، وأدخل الفعل علی عهدة المکلّف، وحکم العقل بقبح ترکه ومخالفته، واستحقاق العقاب علی مخالفته، فحتّی لو زال هذا العلم وتبدّل إلی شکٍّ، بناءً علی هذا الکلام؛ حینئذٍ ینبغی أن یکون التنجیز باقیاً، بینما لا إشکال فی عدم بقاءه إذا تحوّل العلم إلی شکٍّ، وهذا یکشف عن ما قلناه من أنّ المنجّز للتکلیف فی یوم غدٍ هو العلم المقارن، عندما یکون العلم مقارناً فی یوم غدٍ یکون منجّزاً للتکلیف فیه، أمّا العلم المتقدّم، فلا ینجّز التکلیف فی ظرفه، فإذن، فی الوقت المتقدّم حین حصول العلم الإجمالی لا نستطیع أن نقول أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین؛ لأنّه لیس صالحاً للتنجیز علی کل تقدیر، وصالح للتنجیز علی تقدیرٍ ولیس صالحاً للتنجیز علی تقدیرٍ آخرٍ.

ص: 195

الذی نقوله هو: نحن فی المقام نتکلّم عن افتراض أنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر، والسیّد الخوئی(قدّس سرّه) عندما قسّم القسم الثالث إلی نحوین، النحو الأوّل هو ما إذا کان التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، وقلنا أنّ هذا مبنی علی إمکان الواجب المعلّق، فی فرض کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ حتّی إذا کان المنذور هو قراءة سورة خاصّة فی یوم غدٍ، التکلیف به فعلی، باعتبار أنّ الزمان لیس دخیلاً فی التکلیف، لا خطاباً ولا ملاکاً؛ حینئذٍ هل هناک مجال لأن نقول أنّ هذا العلم الإجمالی لا ینجّز الطرفین ؟ وأی فرقٍ بینه وبین ما إذا کان الطرفین عرضیین لا طولیین ؟ ملاک العلم الإجمالی هو أن یکون العلم علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، وهذا علم بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، فإذا کان هذا هو الملاک، فینبغی أن یکون منجّزاً؛ لأننا افترضنا فعلیة التکلیف علی کل تقدیرٍ، وإذا کان التکلیف فعلیاً یکون منجّزاً علی کل تقدیر، نحن لا نفترض أنّ التکلیف علی أحد التقدیرین یوم غدٍ حتّی نتکلّم عن أن العلم الإجمالی، أو العلم التفصیلی الآن هل ینجّز التکلیف یوم غدٍ، أو لا ینجّزه فی یوم غدٍ، وإنّما افترضنا أنّ التکلیف فعلیٌ ولیس التکلیف علی أحد التقدیرین استقبالیاً، الاستقبالی هو المکلّف به. إذن: التکلیف فعلیٌ علی کل تقدیرٍ، وإذا کان فعلیاً علی کل تقدیرٍ؛ حینئذٍ یکون قابلاً للتنجیز علی کل تقدیرٍ. هذا هو محل کلامنا، فی هذه الصورة هل یمکن أن نلتزم بعدم المنجّزیة ؟ قلنا أنّ ظاهرهم الاتفاق علی المنجّزیة فی هذه الصورة؛ بل خروجها عن محل النزاع، فإذا کان المقصود من الکلام السابق هو إثبات عدم المنجّزیة فی هذه الصورة التی نتکلّم عنها کما هو ظاهر الکلام، فهذا لیس صحیحاً؛ لأننا فرضنا فعلیة التکلیف علی کل تقدیرٍ، وفرضنا إمکان الواجب المعلّق، ولم نفترض أنّ التکلیف یکون فی المستقبل، فیدور الأمر بین تکلیفٍ فعلیٍ وتکلیفٍ لیس فعلیاً، هذا النحو الثانی الذی سیأتی فیه الکلام.

ص: 196

إذن: الظاهر هو المنجّزیة فی هذا النحو الأوّل من القسم الثالث، وإنّما یقع الکلام فی النحو الثانی الذی هو أن یکون التکلیف المعلوم بالإجمال فعلیاً علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ کما إذا قلنا باستحالة الواجب المعلّق، فإذا قلنا باستحالة الواجب المعلّق، فالتکلیف حینئذٍ لا یکون فعلیاً، الزمان کما یکون قیداً فی المتعلّق یکون قیداً فی التکلیف، فالتکلیف لا یکون فعلیاً؛ لأنّ الزمان لا یتمحّض فی کونه قیداً فی المتعلّق ودخیلاً فیه، وإنّما هو دخیلٌ فی شیءٍ أزید من المتعلّق، هو دخیلٌ فی التکلیف؛ ولذا لا یکون التکلیف فعلیاً علی أحد التقدیرین، وإن کان فعلیاً علی التقدیر الآخر. هذا هو محل الکلام وهو محل الخلاف فی ما بینهم کما سیأتی، ومثاله هو مثال الحیض، حیث ذکروا بأنّ التکلیف هنا لیس فعلیاً الآن؛ لأنّ الزمان دخیلٌ فی التکلیف، وبهذا یختلف مثال الحیض عن مثال النذر، فی مثال النذر یمکن للإنسان أن یقول أنّ التکلیف خطاباً وملاکاً یتحقق بالنذر. الزمان المتأخّر هو قیدٌ للمنذور، بمجرّد أن ینذر الإنسان وجب علیه، الوجوب یتحقق کما أنّ ملاک الوجوب أیضاً یتحقق بالنذر، فیصبح المنذور ذا مصلحةٍ ملزمةٍ من حین النذر، وهذه المصلحة الملزمة تقتضی وجوب الوفاء، فیکون وجوب الوفاء فعلیاً، ویکون الملاک أیضاً فعلیاً؛ لأنّ هذا کلّه مرتبطٌ بالنذر، والمفروض أنّ النذر تحقق الآن، فحتّی لو فرضنا أنّ المنذور متأخّر زماناً، یمکن فرض أنّ الزمان قیدٌ فی المتعلّق ولیس قیداً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، لکن فی مثال الحیض یختلف الأمر، التکلیف فی باب الحیض منوطٌ بالحیض وقد فرضنا تأخّر زمان الحیض، علی أحد التقدیرین تأخّر زمان الحیض، هی إمّا حائض الآن أو حائض بعد عشرة أیام، علی تقدیر أنّها حائض بعد عشرة أیام، التکلیف بحرمة دخول المساجد وحرمة قراءة سور العزائم لیس فعلیاً؛ لأنّ التکلیف خطاباً وملاکاً، ظاهر الأدلّة أنّه منوط بالحیض، والمفروض أنّها لیست حائضاً فعلاً. نعم، هی علی أحد التقدیرین حائض فعلاً، فیکون التکلیف فعلیاً، لکن علی التقدیر الآخر هی لیست حائضاً فعلاً، فلا یکون التکلیف فعلیاً، وإنّما سیتحقق فی المستقبل، ومن هنا هذا النحو الثانی هو أن یکون التکلیف علی أحد التقدیرین فعلیاً، بینما علی التقدیر الآخر لیس فعلیاً.

ص: 197

هذا النحو الثانی من القسم الثالث یمکن تصوّره علی نحوین:

النحو الأوّل: أن یکون الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً.

النحو الثانی: أن یکون الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً لا ملاکاً، بحیث یکون الملاک فعلیاً قبل الوقت، لکن التکلیف لا یکون فعلیاً، فهاتان صورتان من النحو الثانی من القسم الثالث.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

الصورة التی استثناها السید الخوئی(قدّس سرّه) عن محل الکلام کانت هی ما إذا کان التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، وهو الذی فُسّر بأنّ معناه أنّ زمان المتأخّر لیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، فیکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر حتّی لو کان الواجب ومتعلّق التکلیف استقبالیاً، التکلیف بحسب الفرض أنّ المکلّف به استقبالی علی أحد التقدیرین، لکن بالرغم من ذلک التکلیف یکون فعلیاً کالتکلیف بالآخر، کما أنّ التکلیف الآخر فعلی، التکلیف بهذا الواجب الاستقبالی أیضاً یکون فعلیاً، فإذن: فُرض فی ذلک کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، وهذا یکون بناءً علی إمکان الواجب المعلّق، فی هذه الصورة نقلنا عن بعض المحققین أنّه یستشکل ویری أنّ العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً خلافاً للکل ___________ تقریباً ___________ الذین یرون التنجیز فی هذه الصورة، علم فعلی علی کل تقدیر، فیکون قابلاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، فینجّز العلم الإجمالی کلا الطرفین. هذا المحقق خالف فی هذه الصورة، فضلاً عن الصوّر الآتیة التی سیقع فیها الکلام، وهی ما إذا کان التکلیف علی أحد التقدیرین لیس فعلیاً، وإنّما هو علی تقدیرٍ فعلی وعلی تقدیرٍ آخر لیس فعلیاً، فضلاً عن تلک الصورة هو فی هذه الصورة التی فُرض فیها کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر وناقش فی المنجّزیة، والمناقشة هی: أنّ العلم بالتکلیف لا یصلح لتنجیز التکلیف إلاّ إذا کان متحققاً فی ظرف العمل نفسه، إذا کان متحققاً فی ظرف الامتثال والطاعة، أمّا أنّ العلم بالتکلیف ینجّز التکلیف قبل ظرف العمل، فهذا غیر صحیح، العلم التفصیلی بالتکلیف، فضلاً عن العلم الإجمالی، لا ینجّز التکلیف إلاّ فی ظرف الامتثال والطاعة وظرف العمل، أمّا قبل ذلک، العلم التفصیلی بالتکلیف لا ینجّز التکلیف، واستدل علی ذلک بأنّه: إذا فرضنا أنّ المکلّف علم تفصیلاً بالتکلیف، وکان زمان المکلّف به استقبالیاً، أی زمان العمل بالتکلیف کان فی المستقبل الذی هو معنی أنّ الواجب استقبالی، فی هذه الحالة إذا زال العلم بالتکلیف وتبدّل إلی شکٍ قبل حلول ظرف العمل بالتکلیف، هل یبقی التنجیز، أو لا یبقی ؟ یقول: لا إشکال فی أنّ التکلیف لا یکون منجّزاً حینئذٍ؛ لعدم وجود علم فی ظرف العمل، الذی ینجّز التکلیف هو العلم به فی ظرف العمل، وحیث أنّه فی هذا المثال زال العلم بظرف العمل، وتحول العلم إلی شکّ، فإذن، لا یتنجّز، إذن، إنّما یتنجّز بالعلم به فی ظرف العمل، أمّا مجرّد العلم به سابقاً، فهذا لا ینجّز التکلیف؛ لأنّ العلم إنّما ینجّز التکلیف فی ظرف العمل، وبالتالی لا تثبت المنجّزیة للعلم الإجمالی فی محل الکلام؛ لأنّه لیس علماً بتکلیفٍ فعلیٍ قابلاً للتنجیز علی کل تقدیر؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی علی أحد التقدیرین قابل للتنجیز، والتکلیف قابل لأن یکون منجّزاً علی أحد التقدیرین، وهو ما إذا نذر أن یقرأ سورة خاصّة فی هذا الیوم، هذا قابل للتنجیز، هذا علم فی ظرف العمل، فینجّز التکلیف، لکن علی تقدیر أن یکون المنذور هو قراءة سورة فی یوم غدٍ، الآن هذا التکلیف لا یکون منجّزاً والعلم به لا ینجّزه، إذن: هو یعلم بتکلیفٍ قابلٍ للتنجیز علی تقدیر ولیس قابلاً للتنجیز علی تقدیرٍ آخر، یعنی یعلم بجامع التکلیف الأعم من المنجّز وغیر المنجّز، ومن المعلوم أنّ الجامع الأعمّ من المنجّز وغیر المنجّز لا یکون منجّزاً؛ ولذا لا تثبت المنجّزیة لهذا العلم الإجمالی. هذا ما ذکره.

ص: 198

أقول: الظاهر أنّ مرجع هذا الکلام إلی إنکار الواجب المعلّق، لا یبعُد هذا، بأن یقال أنّ الواجب المعلّق محال؛ لأنّه لا یمکن أن یکونالتکلیف فعلیاً قابلاً للتنجیز فعلاً مع کون زمان الواجب استقبالیاً؛ لأنّ العلم لا ینجّز هذا التکلیف ما دام الواجب ومتعلّق التکلیف استقبالیاً، فإذا فرضنا أنّه یرجع إلی إنکار الواجب المعلّق واستحالته، فهذا الکلام لا معنی له فی المقام؛ لأننا فرضنا فی هذه السورة إمکان الواجب المعلّق، حیث افترضنا أنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیرٍ بالرغم من أنّ المکلّف به علی أحد التقدیرین استقبالی، إذن، یمکن افتراض فعلیة التکلیف مع کون الواجب استقبالیاً، هذ هو فرض المسألة، فالمناقشة فی أن الواجب المعلّق محال ولیس ممکناً، تکون حینئذٍ مناقشة مبنائیة، ومناقشة فی تصوّر اصل الفرض، أنّ أصل الفرض غیر ممکن، وهذه لیست مناقشة منهجیة؛ لأننا کما قلنا نتکلّم بناءً علی إمکان الواجب المعلّق، نتکلّم بناءً علی فعلیة التکلیف علی کل تقدیر، وبناءً علی أنّ زمان المتأخّر لیس قیداً فی التکلیف لا خطاباً ولا ملاکاً، کلامنا فی هذا، فالجواب بأنّ هذا محال لیس جواباً منهجیاً. هذا إذا کان هذا هو مقصوده.

أمّا إذا کان مقصوده لیس له علاقة بالواجب المعلّق، وأنّ العلم ولو کان تفصیلاً لا ینجّزالتکلیف الذی یتعلّق به إلاّ فی ظرف العمل، المنجّز للتکلیف هو العلم به فی ظرف العمل، أمّا العلم به قبل ظرف العمل، فلا ینجّز التکلیف ولا یُدخله فی العهدة، هذه الدعوی أیضاً غیر مقبولة؛ بل الصحیح هو أنّ العلم حتّی لو کان إجمالیاً ینجّز التکلیف الذی یتعلّق به حال حصول العلم لا أن نقول أنّ العلم حال حصوله لا ینجّز التکلیف، وإنّما ینجّزه فی ظرف العمل، کلا، ما ندّعیه هو أنّه ینجّز التکلیف حال حصوله، والسرّ فی ذلک هو أنّ المنجّزیة حکم عقلی، ومعناها هو إدراک العقل لقبح المخالفة واستحقاق العقاب علی المخالفة.

ص: 199

وبعبارةٍ أکثر دقّة: هی إدراک عقلی لقبح مخالفة التکلیف، العقل لیس منشئاً للحکم، هذا الإدراک العقلی، أو قل ولو من باب المسامحة، هذا الحکم العقلی بقبح المخالفة واستحقاق العقاب علی المخالفة له موضوع، وموضوعه هو التکلیف الداخل فی دائرة مولویة المولی، التکلیف الذی یری العقل أنّ للمولی فیه حق الطاعة، العقل یری أنّ کل تکلیفٍ دخل فی دائرة حق المولی ثبت للمولی فیه حق الطاعة یکون منجّزاً، ومن الواضح أنّ أحد أهم الأمور التی تُدخل التکلیف فی دائرة حق الطاعة، وفی دائرة المولویة هو العلم بالتکلیف، إذا علم بالتکلیف العقل یقول أنّ هذا التکلیف تقبح مخالفته ویستحق المکلّف العقاب علی مخالفته، حکم العقل بالقبح الذی هو معنی المنجّزیة، وحکم العقل باستحقاق العقاب علی المخالفة الذی هو معنی المنجّزیة، هذا حکم فعلی، حکم یتحقق عندما یتحقق موضوعه، وموضوعه هو التکلیف الداخل فی دائرة حق الطاعة. أو بعبارة أکثر وضوحاً: موضوعه هو التکلیف المعلوم؛ لأنّ العقل یری أنّ العلم ینجّز التکلیف ویدخله فی دائرة حق الطاعة، والعقل یری أنّ کل تکلیفٍ للمولی حق الطاعة فیه تقبح مخالفته، والمخالف یستحق العقاب، هذا هو الحکم العقلی ومعنی المنجّزیة، هذا لماذا لا نقول أنّه یتحقق فی ظرف العلم بالتکلیف ؟ هو یتحقق بتحقق موضوعه، وموضوعه هو التکلیف المعلوم، والمفروض أنّ المکلّف علم بالتکلیف خصوصاً فی المثال الذی هو یتکلّم به وهو العلم التفصیلی بالتکلیف الفعلی، کلامنا فی الصورة التی افترضوا أنّها خارجة عن محل النزاع؛ إذ لا إشکال فی المنجّزیة فیها بأن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر بالرغم من أنّ الواجب استقبالی علی هذا التقدیر، کلامنا فی هذا إذا علم تفصیلاً بالتکلیف، فدخل التکلیف فی دائرة المولویة للمولی(سبحانه وتعالی) العقل فوراً یحکم بقبح مخالفته، واستحقاق العقاب علی مخالفته، غایة الأمر أنّ زمان المخالفة متأخّر، تأخّر زمان المخالفة لا یعنی أنّ الحکم بالقبح أیضاً متأخّر، الحکم بالقبح فعلی، والعقل یری أنّ کل من یعلم بالتکلیف یقبح علیه مخالفته، یری أنّ هذا التکلیف یحکم العقل علیه بقبح المخالفة، فعلاً یحکم علیه بهذا القبح، وإن کانت المخالفة فی التکلیف الذی یکون الواجب فیه استقبالیاً لا تقع فعلاً، وإنّما تقع فی ظرف العمل، هذا صحیح، لکن هذا لا یعنی أنّ الحکم العقلی أیضاً متأخّر ولیس موجوداً فعلاً، الحکم العقلی بالقبح موجود فعلاً، العقل فعلاً یحکم بقبح مخالفة التکلیف المعلوم، فالحکم فعلی ولیس منوطاً بحلول ظرف العمل بالتکلیف، وإنّما یکون فعلیاً وبناءً علی هذا؛ حینئذٍ یصح ما ذهب إلیه الکل من منجّزیة العلم الإجمالی فی محل الکلام؛ لأنّه علم بتکلیفٍ فعلی قابلٍ للتنجیز علی کل تقدیر، حتّی علی ذاک التقدیر الذی یکون به التکلیف واجباً استقبالیاً التکلیف قابل للتنجیز؛ لأنّ التنجیز یعنی إدراک العقل لقبح المخالفة، والعقل یدرک قبح مخالفة کل تکلیفٍ یدخل فی دائرة حق الطاعة، والتکلیف یدخل فی هذه الدائرة بمجرّد العلم به، والعقل یقول أنّ هذا التکلیف الذی للمولی حق الطاعة فیه تقبح مخالفته، یحکم حکماً فعلیاً لا منوطاً بحلول ظرف العمل.

ص: 200

وأمّا الدلیل الذی ذکره وهو مسألة إذا تبدّل العلم إلی شکٍّ، وهنا لا نحکم بالمنجّزیة، عندما یتبدّل العلم إلی الشک بحیث یکون المکلّف فی ظرف العمل شاکاً فی ثبوت التکلیف، واضح أنّه لا یتنجّز علیه التکلیف، المستدل یقول: أنّ هذا یکشف عن أنّ المنجّز هو العلم فی ظرف العمل، وحیث فی هذا المقام لا علم فی ظرف العمل فلا یتنجّز التکلیف؛ لأنّه لا علم فی ظرف العمل؛ لأنّه تحوّل إلی شکٍّ بحسب الفرض. إذن: المنجّز هو العلم فی ظرف العمل لا العلم الموجود سابقاً، وإلاّ لو کان المنجّز هو العلم الموجود سابقاً لنجّز هذا التکلیف بالرغم من تحوّله إلی شکٍّ؛ لأنّ المنجّز هو العلم حین حصوله، والعلم حین حصوله فی هذا الفرض موجود، فلابدّ أن یکون منجزاً للتکلیف فی ظرفه، والحال أنّه قطعاً لیس منجزاً، هذا یکشف عن أنّ المنجّز هو العلم فی ظرف العمل لا العلم المتقدّم علی ظرف العمل.

أقول: هذا الدلیل لا یصلح أن یکون دلیلاً علی أنّ العلم فی ظرف العمل لیس منجّزاً؛ لأننا ذکرنا أنّ المنجّزیة إدراک عقلی موضوعه هو التکلیف الداخل فی دائرة المولویة للمولی، الذی ثبت للمولی فیه حق الطاعة، هذا موضوع المنجّزیة، وفی المقام یکون التکلیف کذلک بافتراض تعلّق العلم به. إذن: موضوعه هو العلم، ما یدخل التکلیف فی حق الطاعة، هذا موضوع حکم العقل بالقبح وإدراک العقل للقبح، إذا تحوّل العلم إلی شکٍّ یرتفع هذا الحکم العقلی من باب ارتفاع الحکم بارتفاع موضوعه؛ لأنّ موضوع هذا القبح العقلی هو التکلیف المعلوم، موضوع هذا القبح العقلی هو التکلیف الداخل فی دائرة المولویة، والذی هو موضوع المنجّزیة، فإذا ارتفع هذا الموضوع وتبدّل العلم إلی الشک، وخرج التکلیف عن دائرة المولویة، فحینئذٍ لا یحکم العقل بقبحه، لکن هذا لیس معناه أنّ العلم بالتکلیف الموجود سابقاً لا ینجّز التکلیف؛ بل العلم بالتکلیف من حین حصوله ینجّز التکلیف ویحکم العقل بقبح مخالفته واستحقاق العقاب علی مخالفته، غایة الأمر أنّه بطبیعة الأشیاء أنّ هذا منوطٌ ببقاء هذا العلم إلی ظرف العمل، وإلاّ یرتفع القبح بارتفاع موضوعه، لکن هذا لا یعنی إطلاقاً أنّ العلم لا یکون منجّزاً للتکلیف إلاّ فی ظرف العمل؛ بل العلم عند حصوله ینجّز التکلیف؛ لأنّ المنجّزیة لا یراد بها إلاّ إدراک العقل. هذا ما یمکن أن یُناقش به ما ذکره بعض المحققین. ونفس هذا الکلام ذکره فی الصورة الثانیة التی سیأتی الحدیث عنها، وهی ما إذا کان التکلیف فعلیاً علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ، بعد هذا الکلام فی هذا الفرض یکون کلامه أوضح __________ مثلاً __________ لأنّه هو یقول التکلیف فعلی علی کل تقدیر، وهو یقول أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز التکلیف فعلاً وإنّما ینجّزه فی ظرف العمل، فإذن: ما ظنّک بما إذا کان التکلیف لیس فعلیاً علی أحد التقدیرین ؟ من باب أولی أن لا تثبت المنجّزیة لهذا العلم الإجمالی.

ص: 201

علی کل حال، الظاهر الاتفاق علی المنجّزیة فی هذه الصورة، وخروجها عن محل الکلام، باعتبار أنّ ملاک المنجّزیة موجود فی هذه الصورة، ملاک المنجّزیة هو أن یکون العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وهذا مفروض فی هذه الصورة، ملاک المنجّزیة أن یکون التکلیف قابلاً للتنجیز علی کل تقدیر، هنا أیضاً قلنا أنّ التکلیف المعلوم قابل للتنجیز علی کل تقدیر؛ فحینئذٍ لا مجال للتشکیک فی المنجّزیة فی هذه الصورة؛ ولذا هذه تخرج عن محل الکلام.

وأمّا النحو الثانی من القسم الثالث الذی هو محل الکلام، وهو أن یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، وهذا النحو اختلفت فیه الأنظار، ومثاله المرأة الحائض المتقدّم، ویمکن أن نجعل مثال النذر مثالاً له بناءٍ علی استحالة الواجب المعلّق؛ لأنّ المنذور إن کان قراءة سورة فی هذا الیوم فهو فعلی، أمّا إذا کان المنذور هو قراءة سورةٍ فی یوم غدٍ، فالتکلیف لا یکون فعلیاً لاستحالة الواجب المعلّق، وإنّما یکون استقبالیاً. إذن، التکلیف علی تقدیرٍ یکون فعلیاً، وعلی تقدیرٍ آخرٍ لیس فعلیاً. هذا النحو مرجعه ___________ کما ذکرنا فی الصورة المستثناة ___________ إلی أنّ الزمان المتأخّر فی أحد الطرفین دخیل فی التکلیف ولیس دخیلاً فی متعلّق التکلیف فقط کما فی الصورة المتقدّمة، فی الصورة المتقدّمة کان الزمان متأخّراً دخیلاً فی الواجب ولیس دخیلاً فی التکلیف لا خطاباً، ولا ملاکاً. هذا النحو الذی نتکلّم عنه الآن مرجعه إلی أنّ الزمان دخیل فی التکلیف؛ ولذا لا یکون التکلیف فعلیاً علی ذاک تقدیر، معناه أنّه علی ذاک التقدیر الزمان المتأخّر دخیل فی التکلیف. هذا یمکن تصوّره علی شکلین:

ص: 202

الشکل الأوّل: أن نفترض أنّ الزمان دخیل فی التکلیف خطاباً وملاکاً، یعنی لا الخطاب وأصل التکلیف موجود قبل الزمان المتأخّر، ولا الملاک أیضاً موجود قبل الزمان المتأخّر، فالتکلیف خطاباً وملاکاً غیر موجود الآن، وإنّما موجود بعد حلول الزمان المتأخّر. وذُکر مثال الحیض مثالاً لهذا، باعتبار أنّه قبل حلول الحیض لیس فقط لا یوجد تکلیف؛ بل الملاک للتکلیف أیضاً لیس موجوداً، وإنّما یکون الملاک عندما تصبح المرأة حائضاً، فیحرم علیها دخول المساجد ویحرم مقاربتها.......الخ، فیکون حلول الحیض دخیلاً فی التکلیف، خطاباً وملاکاً.

الشکل الثانی: أن نفترض أنّ الزمان المتأخّر دخیل فی التکلیف خطاباً لا ملاکاً، بمعنی أنّ الملاک موجود قبله، لکن الزمان المتأخّر یکون دخیلاً فی الخطاب لا فی الملاک؛ حینئذٍ یکون التکلیف غیر متحقق فعلاً، استقبالی، لکن ملاک التکلیف موجود قبل ذاک الزمان المتأخّر، فالتکلیف موجود قبل الزمان المتأخّر، لکن ملاکاً لا خطاباً، فرضاً لأننا نری استحالة الواجب المعلّق، فالتکلیف حینئذٍ لا یمکن أن یکون فعلیاً قبل زمان الواجب، لکن لنفترض أننا استکشفنا أنّ الملاک موجود، الخطاب متأخّر لاستحالة الواجب المعلّق، لعلّه من هذا القبیل النذر، موضوع التکلیف خطاباً وملاکاً هو النذر، بمجرّد أن ینذر الإنسان؛ حینئذٍ یکون التکلیف بوجوب الوفاء فعلیاً، وملاکه أیضاً یکون فعلیاً، فإذا نذر أن یقرأ سورة فی الیوم القادم، وقلنا باستحالة الواجب المعلّق، استحالة الواجب المعلّق تقتضی أنّ التکلیف بوجوب الوفاء محال أن یکون فعلیاً، وإنّما یکون متأخّراً، لکن ملاک هذا التکلیف فعلی ولا داعی لتأخّره؛ لأنّه منوط بالنذر، ولولا استحالة الواجب المعلّق لقلنا التکلیف أیضاً فعلی، لکن حیث قلنا باستحالة الواجب المعلّق، فالتکلیف یکون متأخّراً، لکن ملاکه یکون فعلیاً؛ لأنّه بمجرّد حصول النذر هو یحدث فی التکلیف، أی فی الفعل المنذور مصلحة تقتضی الحکم بوجوب الوفاء به، فإذن: مرّة نفترض أنّ الزمان دخیل فی التکلیف خطاباً وملاکاً، ومرّة نفترض أنّه دخیل فیه خطاباً لا ملاکاً.

ص: 203

الأقوال فی المسألة ثلاثة:

القول الأوّل: عدم المنجّزیة مطلقاً وجواز الرجوع إلی الأصل فی کلا الطرفین فی هذا النحو وهو فی ما إذا کان التکلیف فعلیاً علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیر آخر، وهذا هو ظاهر کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وهو الذی اختاره بعض المحققین المتأخرین؛ بل هو اختار عدم المنجّزیة حتّی فی الصورة السابقة.

القول الثانی: المنجّزیة مطلقاً وعدم جواز الرجوع إلی الأصول فی الطرفین، والإطلاق بلحاظ الشکلین المتقدّمین کما سیأتی فی التفصیل، وهذا هو مختار المحقق النائینی والمحقق العراقی(قدّس سرّهما) وتبعهما جماعة ممن تأخّر عنهما کالسید الخوئی(قدّس سرّه).

القول الثالث: التفصیل بین الشکلین السابقین، بأن یُلتزَم بالمنجّزیة عندما یفترض الملاک فعلیاً وإن کان التکلیف استقبالیاً ولیس فعلیاً، الذی هو الشکل الثانی وعدم المنجّزیة عندما یکون التکلیف خطاباً وملاکاً متأخّراً لیس فعلیاً. هذا التفصیل هو المنسوب إلی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه).

الأنسب فی البحث من ناحیة منهجیة أن نتکلّم فی الشکل الأوّل، یعنی أن نتکلّم فی صورة ما إذا کان الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً، لا تکلیف فعلی موجود قبل ذاک الزمان، ولا ملاک موجود، فعلم المکلّف بتکلیف مرددٍ بین أن یکون فعلیاً علی تقدیر، وبین أن یکون لیس فعلیاً لا خطاباً ولا ملاکاً علی تقدیرٍ آخر؛ حینئذٍ إذا انتهینا إلی القول بالمنجّزیة فی هذا الشکل؛ فحینئذٍ لا إشکال فی منجّزیة العلم الإجمالی فی الشکل الثانی؛ لأنّ الشکل الثانی یتمیّز عن الأوّل فی أنّ الملاک فیه فعلی، نحن عندما قلنا أنّ فی الشکل الأوّل الملاک لیس فعلیاً، والتکلیف لیس فعلیاً مع ذلک قلنا بالمنجّزیة، فإذن: من بابٍ أولی أن نلتزم بالمنجّزیة عندما نفترض أنّ ملاک التکلیف فعلی، فیتضح الأمر فی الشکل الثانی إذا قلنا بالمنجّزیة فی الشکل الأوّل.

ص: 204

نعم، إذا انتهینا إلی عدم المنجّزیة فی الشکل الأوّل؛ حینئذٍ یمکن البحث فی الشکل الثانی؛ لأنّ الشکل الثانی فیه خصوصیة لیست موجودة فی الشکل الأوّل وهی أنّ الملاک فیه فعلی، فعلیة الملاک ولو مع عدم فعلیة التکلیف، هل تؤثر فی الحکم بالمنجّزیة کما یقول الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) ؟ یمکن أن یقع الکلام فی الشکل الثانی بناءً علی عدم المنجّزیة فی الشکل الأوّل؛ ولذا یقع البحث أوّلاً فی الشکل الأوّل وهو ما إذا فرضنا أنّ التکلیف وملاک التکلیف لیس فعلیاً علی أحد التقدیرین، مثل هذا العلم الإجمالی هل یکون منجّزاً، أو لا ؟

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

الکلام فی ما إذا کان التکلیف علی أحد التقدیرین فعلیاً، ولیس فعلیاً علی التقدیر الآخر، ونفترض هنا أنّ التکلیف خطاباً وملاکاً لیس فعلیاً علی أحد التقدیرین، لا التکلیف فعلی علی أحد التقدیرین، ولا ملاک التکلیف فعلی علی أحد التقدیرین کما هو الحال علی ما ذکرو فی مثال الحائض، فأنّ التکلیف خطاباً وملاکاً منوط بتحقق الحیض فیکون متأخّراً، إذن، هذه المرأة علی تقدیر أن تکون حائضاً الآن یکون التکلیف فعلیاً فی حقّها خطاباً وملاکاً، لکن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی آخر الشهر، فالتکلیف لیس فعلیاً لا خطاباً ولا ملاکاً.

أستُدلّ علی عدم المنجّزیة فی هذا الفرض بوجوه:

الوجه الأوّل: ما یظهر من الکفایة الذی قلنا أنّه ذهب إلی عدم المنجّزیة مطلقاً، وحاصل ما یُفهم من کلامه أنّ المعتبر فی منجّزیة العلم الإجمالی هو کونه متعلّقاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، أمّا إذا تعلّق بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، فهذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، وفی المقام ___________ بحسب الفرض ___________ التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما هو فعلی علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر کما فی مثال المرأة الحائض، فأنّ حرمة الدخول فی المساجد علیها، وحرمة قراءة سوّر العزائم علیها إنّما تکون فعلیة إذا کانت حائضاً بالفعل، وأمّا إذا کانت حائضاً فی آخر الشهر فعلاً، فالحرمة لا تکون فعلیة فی حقّها، فإذن: التکلیف فعلی علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخرٍ. أمّا أنّه لیس فعلیاً علی التقدیر الآخر، باعتبار أنّه فعلاً لا یحرم علیها الدخول فی المساجد، علی تقدیر أن تکون حائضاً فی نهایة الشهر، قبل ذلک لا یحرم علیها الدخول إلی المساجد، فالتکلیف لیس فعلیاً فی حقها. نعم إن کانت حائضاً فعلاً یکون التکلیف فعلیاً وتثبت فی حقهّا هذه الحرمة، وفی هذه الحالة لا یکون شرط المنجّزیة متحققّاً، فلا یکون هذا العلم الإجمالی منجّزاً للطرفین؛ بل یمکن بناءً علی عدم المنجّزیة إجراء الأصول المؤمّنة فی کلا الطرفین. تشکّ المرأة الآن فی أنّه یحرم علیها الدخول فی المساجد، أو لا ؟ لا یوجد عندها علم بفعلیة الحرمة؛ لأنّ الحرمة الفعلیة منوطة بفرضٍ وتقدیرٍ غیر معلوم، إن کانت حائضاً فعلاً، فالحرمة فعلیة، لکنّها تشک فی کونها حائضاً بالفعل، لکنّها تشک فی الحرمة، فی التکلیف، فتجری البراءة، یجری الأصل المؤمّن لنفی هذا التکلیف، کما أنّها فی المستقبل فی نهایة الشهر أیضاً تشک فی الحرمة، فبإمکانها أن تجری الأصل المؤمّن، وهذا من آثار عدم منجّزیة هذا العلم الإجمالی.

ص: 205

أجیب عن هذا الوجه فی تقریب عدم المنجّزیة: بإنکار ما ذُکر من أنّ منجّزیة العلم الإجمالی یُشترط فیها أن یکون التکلیف المعلوم بالإجمال فعلیاً علی کل تقدیر، إنکار هذا الشرط بالمعنی الذی فهمه المستدل بهذا الوجه، المستدل بهذا الوجه کأنّه یفهم من هذا الشرط اشتراط أن یکون التکلیف فعلیاً الآن علی کل تقدیرٍ حتّی یکون العلم الإجمالی منجّزاً کما هو الحال فی مثال الإناءین، علی کل تقدیرٍ التکلیف فعلیٌ الآن، إن کانت النجاسة فی هذا الإناء یحرم شربه الآن، وإن کانت فی ذاک الإناء یحرم شربه الآن، فیکون منجّزاً. أمّا إذا لم یکن کذلک، بأن کان فعلیاً الآن علی تقدیرٍ، ولیس فعلیاً الآن علی تقدیرٍ آخر. یدّعی صاحب هذا الوجه بأنّ هذا لا یحقق شرط منجّزیة العلم الإجمالی.

الجواب یقول: أنّ کون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر شرط ولابدّ منه، لکن لیس معناه اشتراط أن یکون فعلیاً الآن علی کل تقدیر؛ بل یکفی فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ فی عمود الزمان، لا نشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون التکلیف فیه فعلیاً الآن علی کل تقدیر، وإنّما لو کان فعلیاً الآن علی تقدیرٍ، وفعلی فی المستقبل علی تقدیرٍ آخر هذا یحقق شرط المنجّزیة؛ لأنّ شرط المنجّزیة هو أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر فی عمود الزمان، المهم أن یعلم بتکلیف فعلی علی کل تقدیر، سواء کان فعلیاً الآن، أو کان فعلیاً فی المستقبل، هذا هو شرط المنجّزیة، ننکر تفسیر هذا الشرط بالتفسیر السابق الذی ینتج أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام لیس منجّزاً، وهذا مرجعه إلی دعوی أنّ العقل یحکم بمنجّزیة العلم الإجمالی بمجرّد أن یکون علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر أعمّ من أن یکون تکلیفاً فعلیاً الآن، أو یکون تکلیفاً فعلیاً فی المستقبل.

ص: 206

بعبارةٍ أخری: أنّ العقل فی حکمه بالمنجّزیة، أو فی إدراکه لقبح المخالفة علی ما تقدّم أنّ معنی المنجّزیة هو عبارة عن إدراک العقل لقبح مخالفة التکلیف، وبالتالی لا یُفرق فی التکلیف الذی یحکم بقبح مخالفته بین أن یکون فعلیاً الآن، وبین أن یکون فی المستقبل، العقل الآن یحکم علیه بقبح المخالفة حتّی إذا فرضنا أنّ هذا التکلیف فعلی فی المستقبل، فی حکم العقل بالقبح یکفی دخول التکلیف ___________ کما تقدّم __________ فی دائرة مولویة المولی، یکفی أن یثبت أنّ للمولی حق الطاعة فی هذا التکلیف، ولا إشکال أنّ التکلیف بالعلم به یدخل فی حق الطاعة ویثبت للمولی حق الطاعة فیه، سواء کان فعلیاً، أو سیکون فعلیاً فی المستقبل، کل منهما یحکم العقل بقبح مخالفته، کلٌ منهما یحکم العقل باستحقاق العقاب علی مخالفته، سواء کان فعلیاً الآن، أو کان فعلیاً فی الزمان الآتی، علی کل حال هو تکلیفٌ مولوی علم به المکلّف، ولو علماً إجمالیاً، هذا العلم یدخله فی دائرة المولویة، ویثبت للمولی فیه حق الطاعة، ولو کان متأخّراً، ولو کانت فعلیة التکلیف متأخّرة، لتکن فعلیة التکلیف متأخّرة، ولتکن المخالفة لا یتمکن المکلّف منها فعلاً، وإنّما سیتمکن منها فی المستقبل، لکن هذا لا ینافی أن یکون الحکم العقلی فعلیاً، بمعنی أنّ العقل یحکم بقبح هذه المخالفة، حکم العقل بالقبح لا یتوقّف علی فعلیة التکلیف الآن، وإنّما یکفی فیه أن یکون التکلیف فعلیاً ولو فی المستقبل، والمفروض فی محل الکلام أنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر. غایة الأمر أنّه فعلی الآن علی تقدیر، وفعلی فی المستقبل علی تقدیرٍ آخر، وبذلک یتحقق شرط المنجّزیة ویکون العلم الإجمالی منجّزاً؛ لأنّ الشرط لیس هو ما ذُکر، وإنّما الشرط هو أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ فی عمود الزمان لا أنّ یکون التکلیف فعلیاً الآن علی کل تقدیرٍ حتّی یقال أنّ هذا غیر متحققٍ فی محل الکلام، وبالتالی یکون العلم الإجمالی فاقداً لشرط منجّزیته، فلا یکون منجّزاً؛ بل هو منجّز ولا فرق بینه وبین العلم الإجمالی بتکلیفٍ فعلی الآن علی کل تقدیر. ما نحن فیه لا یُفرّق فیه بین هذا وبین ذاک، کلٌ من التکلیفین، الفعلی الآن والفعلی فی المستقبل إذا علم به المکلّف حکم العقل بتنجّزه علی المکلّف، والعقل یحکم بتنجّزه فعلاً یری بأنّه یقبح مخالفته والحکم العقلی یثبت فعلاً فی أنّه یقبح مخالفة التکلیف، ولو کان التکلیف فعلیاً فی المستقبل، لا أنّ الحکم بالقبح یکون منوطاً بالزمان المتأخّر، بمعنی أنّ العقل هنا بالرغم من علم المکلّف بالتکلیف الاستقبالی، العقل هنا لیس له حکم، ولا یحکم بقبح مخالفة هذا التکلیف مع أنّ المکلّف علم به، لمجرّد أنّ هذا التکلیف لیس فعلیاً الآن، عدم کونه فعلیاً الآن لا یعنی أنّ العقل لا یحکم بقبح مخالفته؛ بل یحکم بقبح مخالفة کل تکلیف یدخل فی دائرة المولویة، کل تکلیفٍ یدخل فی دائرة المولویة یحکم العقل بقبح مخالفته، واستحقاق العقاب علی مخالفته حکماً فعلیاً، وإن کانت المخالفة ستکون فی الزمان الآتی، وإن کانت المخالفة لا یتمکن المکلّف منها فعلاً، لکن حکم العقل بالقبح فعلی؛ لأنّ موضوعه هو التکلیف الذی للمولی حق الطاعة فیه، والعلم به یدخله فی حق الطاعة، ویکون من أظهر مصادیق ثبوت حق الطاعة فی التکلیف عندما یتعلّق العلم به، یعلم به المکلّف ودخل فی حق الطاعة، العقل یحکم بقبح مخالفته، ولو کان هذا التکلیف سیکون فعلیاً فی المستقبل.

ص: 207

نعم، النکتة السابقة التی ذکرناها أیضاً تجری هنا، وهی أنّ الحکم العقلی الذی قلنا أنّه یکون فعلیاً من حین العلم، موضوعه التکلیف المعلوم الداخل فی دائرة المولویة، العقل إنّما یحکم بتنجّز التکلیف باعتبار تعلّق العلم به، فموضوع الحکم العقلی بالقبح هو التکلیف المعلوم، فإذا زال العلم قبل زمان فعلیة التکلیف بطبیعة الحال یزول الحکم العقلی، لکن قلنا أنّ ارتفاع الحکم العقلی من باب ارتفاع موضوعه؛ لأنّ موضوعه هو عبارة عن التکلیف المعلوم، فإذا زال العلم؛ حینئذٍ یرتفع الحکم العقلی بلا إشکال، لکن قلنا أنّ هذا لا یعنی أنّ العلم المتقدّم لا ینجّز التکلیف المتأخّر، لا یعنی أنّ المنجّز للتکلیف المتأخّر هو العلم فی ظرف العمل به وفی ظرف الإطاعة والامتثال، والعصیان والمخالفة، لا یعنی ذلک، العلم بمجرّد تحققه یحکم العقل بقبح مخالف التکلیف المعلوم، واستحقاق العقاب علی مخالفته، لکن هذا یزول إذا تبدّل العلم إلی شکٍّ، فأصبح المکلّف شاکّاً فی التکلیف فی آخر الشهر، العقل لا یحکم بمنجّزیة التکلیف المشکوک؛ لأنّ التکلیف المشکوک لا یدخل فی دائرة المولویة، التکلیف المشکوک لا یری العقل أنّ للمولی حق الطاعة فیه، بناءً علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فإذا کان لا یری ذلک؛ فحینئذٍ بطبیعة الحال لا یحکم بقبح مخالفته، یرتفع الحکم العقلی لارتفاع موضوعه، لکن هذا لا یعنی أنّ المنجّزیة غیر ثابتة من زمان العلم، المنجّزیة ثابتة من زمان العلم والتکلیف فعلی علی کل تقدیرٍ، بالمعنی المطروح للشرط، الشرط لیس هو أن یکون التکلیف فعلیاً الآن علی کل تقدیر حتّی یکون العلم الإجمالی منجّزاً لأطرافه، الشرط هو أن یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیرٍ ولو فی عمود الزمان، وهذا متحقق فی المقام، وهذا یجعل العلم الإجمالی منجّزاً ولا یتمّ هذا الدلیل الذی ذکر.

ص: 208

هذا هو الجواب عن الدلیل الذی ذُکر. ومن هنا یظهر أنّ هناک تفاوتاً فی تفسیر ما هو المعتبر فی منجّزیة العلم الإجمالی، صاحب الکفایة کما یظهر من عبارته یری أنّ المعتبر هو أن یکون هناک علم بتکلیفٍ فعلی الآن علی کل تقدیر، وهذا غیر متحققٍ فی محل الکلام؛ فلذا یری عدم المنجّزیة فی المقام. المجیب یری أنّ شرط المنجّزیة لیس هو هذا، الشرط هو أن یعلم المکلّف بالتکلیف، وصول التکلیف إلی المکلّف یکفی فی حکم العقل بمنجّزیته، فالشرط ینبغی تعدیله؛ إذ لیس هذا هو الشرط، وإنّما الشرط هو أن یکون العلم الإجمالی علماً بتکلیفٍ فعلیٍ لیس الآن علی کل تقدیر، وإنّما یکون علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، ولو فی عمود الزمان، وهذا متحققٌ فی محل الکلام؛ وحینئذٍ یکون العلم الإجمالی منجّزاً.

إذن: هناک اختلاف فی تفسیر ما هو المعتبر فیمنجّزیة العلم الإجمالی، والصحیح هو الثانی، یعنی الصحیح هو أنّ المعتبر هو ما ذُکر فی الجواب باعتبار أننا ندرک أنّ العقل یحکم بمنجّزیة التکلیف المعلوم، العقل یحکم بقبح مخالفة کل تکلیفٍ معلوم ودخل فی دائرة المولویة وثبت للمولی فیه حق الطاعة، وهناک اتفاق علی أنّه بالعلم یدخل التکلیف فی دائرة حق الطاعة، العقل یحکم بمنجّزیته، بمعنی أنّه یدرک قبح مخالفته، هذا الحکم العقلی یقول القبح فعلی، بمجرّد العلم هو یحکم بقبح مخالفة التکلیف المعلوم لا أنّ الحکم بالقبح یکون منوطاً بحلول ظرف العمل بالتکلیف، أو ظرف فعلیة التکلیف، لا لیس کذلک، وإنّما العلم هو الموضوع التام لحکم العقل بالقبح، فإذا علم المکلّف بالتکلیف علماً إجمالیاً، أو علماً تفصیلیاً کان ذلک کافیاً فی تحقق الشرط وکون التکلیف فی باب العلم الإجمالی فعلیاً علی کل تقدیر؛ لأنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر، علی التقدیر الأوّل هو فعلی کما هو واضح، وعلی التقدیر الثانی، وهو أن تکون حائضاً فی آخر الشهر أیضاً التکلیف فعلی فی آخر الشهر، وکما قلنا أنّ هذا لا یضر بحکم العقل بالمنجّزیة؛ لأنّ الشرط هو أن یعلم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر ولو فی عمود الزمان لا أن یعلم بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر الآن.

ص: 209

الوجه الثانی لعدم المنجّزیة: هو ما ذُکر فی کلماتهممن أنّه یشترط مضافاً إلی ما تقدّم فی منجّزیة العلم الإجمالی، یُشترط أن یکون کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی مورداً للأصل المؤمّن بناءً علی مسلک الاقتضاء، باعتبار أنّ صاحب هذا المسلک یری أنّ المنجّزیة هی من توابع تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها؛ لأنّه لا یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة للتنجیز، وإنّما یتنجّز العلم الإجمالی باعتبار جریان الأصول فی الأطراف وتعارضها وتساقطها وبقاء الأطراف بلا مؤمّن، فتتنجّز. إذن، المنجّزیة هی من توابع تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها، فإذا جرت الأصول فی الأطراف بأن یکون کل طرفٍ هو مورداً للأصل المؤمّن فی نفسه وبقطع النظر عن المعارضة؛ حینئذٍ تجری الأصول فی الأطراف وتتعارض وتتساقط. لماذا تتعارض الأصول فی الأطراف؟ باعتبار أنّ جریان الأصول فی الأطراف جمیعاً یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهو محال عقلاً، عقلائیاً، جریانها فی بعض الأطراف المعین دون البعض الآخر ترجیح بلا مرجّح، وجریانها فی الفرد المردد غیر معقول؛ لأنّ الفرد المردد غیر معقول؛ فحینئذٍ تتساقط الأصول فی الأطراف، فإذا تساقطت الأصول فی الأطراف تبقی الأطراف بلا مؤّمنٍ، فتتنجّز جمیع الأطراف، فتثبت المنجّزیة بالعلم الإجمالی، لکن ببرکة وتوسّط تعارض الأصول فی الأطراف.

إذن: یُشترط فی صیرورة العلم الإجمالی منجّزاً لأطرافه أن یکون کل طرفٍ من أطرافه مجری للأصل المؤمّن، إذن، هذا الطرف فی حدّ نفسه هو مورد للأصل المؤمّن، وهذا الطرف أیضاً فی حدّ نفسه مورد للأصل المؤمّن، فتأتی مسألة أنّ جریان الأصول فی الأطراف یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة ......الخ، وهذا لازمه تساقط الأصول وبقاء الأطراف بلا مؤمّن، فیثبت التنجیز. هذا هو شرط تنجیز العلم الإجمالی علی القول بالاقتضاء. یقال حینئذٍ: أنّ هذا الشرط غیر متحققٍ فی محل الکلام؛ لأنّ الأصل یجری فی أحد الطرفین بلا معارضٍ. وبعبارةٍ أخری: أنّ الأصل لا یجری فی أحد الطرفین، فیجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض. الطرف الذی یجری فیه الأصل هو التکلیف علی تقدیر أن تکون المرأة حائضاً الآن، هذا یجری فیه الأصل المؤمّن، ولیس فیه مشکلة؛ لأنّه علی هذا التقدیر یکون التکلیف فعلیاً، وإذا کان التکلیف فعلیاً ومحتملاً یکون مورداً للأصل المؤمّن، فیجری فیه الأصل المؤمّن، بینما التکلیف علی التقدیر الآخر، أی علی تقدیر أن تکون حائضاً فی آخر الشهر، المفروض أنّ هذا التکلیف لیس فعلیاً __________ بحسب الفرض ___________؛ لأنّ التکلیف علی أحد التقدیرین لیس فعلیاً، فالتکلیف بحرمة الدخول فی المساجد علی هذه المرأة علی تقدیر أن تکون حائضاً لیس فعلیاً، هذا التکلیف لیس مورداً للأصل؛ لأنّ موضوع الأصل غیر متحققٍ فیه، موضوع الأصل هو الشک فی التکلیف، المرأة الآن لا تشک فی حرمة دخول المساجد علیها علی تقدیر أن تکون حائضاً فی آخر الشهر. نعم هی تعلم بحرمة دخول المساجد علیها علی تقدیر أن تکون حائضاً الآن، لکن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، فعلاً لا یوجد عندها شک فی حرمة الدخول، فإذا کان لا یوجد عندها شکّ فی حرمة الدخول الآن؛ حینئذٍ ما معنی جریان الأصل بلحاظه ؟ ما معنی أن یجری الأصل مع عدم تحققّ موضوعه؛ لأنّ موضوعه هو الشکّ فی التکلیف، الشک فی فعلیة الحرمة علیها، وهی لا تشک فی حرمة الدخول فی المساجد علیها الآن، وهذا معناه أنّ الأصل یجری فی التکلیف علی تقدیر ولا یجری فی التکلیف علی تقدیرٍ آخر. إذن، أحد الطرفین للعلم الإجمالی، وهو التکلیف علی التقدیر الآخر لیس مورداً للأصل المؤمّن، فیجری الأصل المؤمّن فی التکلیف علی التقدیر الأوّل بلا معارض، وبذلک لا یتحقق شرط المنجّزیة الذی هو عبارة عن أن یکون کل من الطرفین فی حدّ نفسه مورداً للأصل المؤمّن، هذا الشرط غیر متحقق فی المقام؛ لأنّ التکلیف علی تقدیر أن تکون المرأة حائضاً فی المستقبل لا یجری فیه الأصل، الآن لا یجری فیه الأصل؛ لأنّ موضوعه غیر متحقق الآن، موضوعه الشکّ وهی لا تشک فی حرمة الدخول فی المساجد علیها الآن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، بینما التکلیف الآخر الشک متحقق فیه، فیجری فیه الأصل بلا معارض ومثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجزاً. هذا علی القول بالاقتضاء، وأنّ المنجّزیة من آثار تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها.

ص: 210

وأمّا علی القول بالعلّیة __________ بناءً علی رأی المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة ___________ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یری أنّ الشرط فی تنجیز العلم الإجمالی هو أن یکون العلم الإجمالی صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، سواء کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، العلم الإجمالی صالح لتنجیزه، أو فی ذاک الطرف أیضاً العلم الإجمالی صالح لتنجیزه؛ حینئذٍ یقال فی مقام الاستدلال علی عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی المقام، یقال أن هذا الشرط غیر متحقق فی المقام، باعتبار أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام فی التدریجیات لیس صالحاً لتنجز معلومه علی کل تقدیر، وإنّما هو صالح لتنجیز معلومه علی تقدیر، ولیس صالحاً لتنجیز معلومه علی تقدیرٍ آخر، علی تقدیر أن تکون المرأة حائضاً الآن، فلا مانع من أن یکون هذا التکلیف منجّزاً علیها الآن، لکن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل العلم الإجمالی لا یصلح لتنجیز هذا التکلیف الآن. نعم التکلیف صالح لأن یکون منجّزاً فی المستقبل، لکن الآن هو لیس صالحاً لأن یکون منجّزاً بالعلم، الآن لا یحرم علیها قطعاً الدخول فی المساجد، ما معنی أن یکون العلم منجّزاً للتکلیف علی التقدیر الآخر الآن ؟ لأنّ الآن هی قطعاً لا یحرم علیها الدخول فی المساجد الآن. إذن: العلم صالح لتنجیز معلومه، أی تنجیز التکلیف علی تقدیرٍ ولیس صالحاً لتنجیز معلومه علی التقدیر الآخر الذی یعنی أنّ الحکم سیکون فعلیاً فی المستقبل، الآن هو لیس صالحاً للتنجیز، فإذن، لا یتحقق شرط المنجّزیة الذی هو عبارة عن أن یکون العلم صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، فلا یکون منجّزاً. هذا هو الوجه الثانی علی کلا المسلکین.

ص: 211

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

الوجه الثانی لعدم منجّزیة العلم الإجمالی فی التدریجیات: هو ما ذکرناه فی الدرس السابق، وهو اختلال شرط من شرائط المنجّزیة، علی مسلک الاقتضاء الشرط هو تعارض الأصول فی الأطراف، بمعنی أن یجری الأصل فی کلٍ من الطرفین، فیقع التعارض والتساقط، فیتنجّز العلم الإجمالی، فالشرط هو أن یکون کل طرفٍ قابلٍ لجریان الأصل فیه، والوجه یقول أنّ هذا الشرط غیر متحقق فی محل الکلام؛ لأنّ التکلیف علی التقدیر الثانی، یعنی علی تقدیر ان یکون لیس فعلیاً الآن، وإنّما یکون فعلیاً فی المستقبل، هذا لیس مورداً للأصل المؤمّن، وذلک لعدم تحقق موضوعه الذی هو الشکّ؛ لأنّ المکلّف لا یشک فعلاً فی ذاک التکلیف، المرأة تعلم أنّه لا یحرم علیها الدخول فی المساجد، علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، فهی لا تشک فعلاً، فإذن: علی ذاک التقدیر لا شک فعلاً، فلا یجری الأصل، فیجری الأصل فی الطرف الأوّل بلا معارض، وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی حکماً علی ما تقدّم، وعدم منجّزیة هذا العلم الإجمالی . هذا علی القول بالاقتضاء.

علی القول بالعلّیة الشرط فی تنجیز العلم الإجمالی هو أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وفی المقام العلم الإجمالی لیس صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وإنّما یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی التقدیر الأوّل، وأمّا علی التقدیر الثانی، فهو لیس صالحاً لتنجیز معلومه فعلاً؛ لأنّ کل تنجیز تکلیف متوقف علی ثبوته وفعلیته حتّی یکون منجّزاً، أما قبل ثبوته فلا معنی لافتراض التنجیز.

ص: 212

إذن: العلم الإجمالی علی أحد التقدیرین صالح لتنجیز معلومه، لکن علی التقدیر الآخر لیس صالحاً لتنجیز معلومه؛ لأنّ المنجّزیة إنّما تثبت لتکلیف بعد فرض ثبوته وفعلیته، وأمّا قبل ذلک، فلا. هذا بناءً علی مسلک العلّیة.

الجواب عن هذا الوجه الثانی: أمّا علی مسلک العلّیة، فالجواب هو أننا ندّعی أنّ العلم الإجمالی صالح لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وذلک لما تقدّم من أنّ العلم یصلح لأن ینجّز معلومه ولو کان معلومه استقبالیاً، ولا یتوقّف تنجیز العلم لمعلومه علی أن یکون فعلیاً وثابتاً الآن، حتّی إذا کان التکلیف لیس فعلیاً ولیس ثابتاً الآن، العلم به ینجّزه ولا یشترط فی منجّزیة العلم للتکلیف بنظر العقل أن یکون التکلیف فعلیاً وثابتاً الآن.

بعبارةٍ أخری: أنّ قیاس ما نحن فیه علی سائر الأحکام بلحاظ موضوعاتها، فیقال لا معنی لثبوت الحکم قبل تحقق موضوعه، الحکم إنّما یثبت بعد فرض تحقق موضوعه، کأنّه تقاس المنجّزیة بالنسبة إلی التکلیف کما هو الحال فی الحکم بالنسبة إلی موضوعه فی سائر الأحکام بالنسبة إلی موضوعها، لا یُشترط فعلیة التکلیف حتّی تثبت له المنجّزیة؛ لما قلناه فی الدرس السابق من أن التنجیز هو حکم عقلی، والمراد به إدراک العقل قبح المخالفة، وهذا یکفی فیه العلم بالتکلیف، سواء کان التکلیف فعلیاً، أو استقبالیاً، حتّی إذا کان التکلیف استقبالیاً ولیس فعلیاً الآن إذا علم به المکلّف العقل یحکم بکونه منجّزاً علی المکلّف، بمعنی یحکم بقبح مخالفته واستحقاق العقاب علی مخالفته حتّی إذا کانت المخالفة استقبالیة ولیست فعلیة، لکن العقل یحکم فعلاً بقبح مخالفته، وهذا علی ضوء ما تقدم معناه أنّ العلم الإجمالی فی المقام صالح لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، علی التقدیر الأوّل هو صالح لتنجیز معلومه، وعلی التقدیر الثانی هذا العلم أیضاً صالح لتنجیز معلومه؛ لأنّ التنجیز یُراد به هذا المعنی، وهذا المعنی فعلی وموجود منذ البدایة ولا یتوقف وجود هذا الحکم العقلی وإدراک العقل لقبح المخالفة علی فعلیة التکلیف، إذا علم بالتکلیف الفعلی ولو بالمستقبل یحکم العقل بقبح مخالفته؛ لما قلناه من ان التکلیف یدخل فی دائرة المولویة ویثبت للمولی فیه حق الطاعة بمجرّد العلم به، والعقل یحکم بقبح مخالفة کل تکلیف یثبت للمولی فیه حق الطاعة. بناءً علی القول بالعلّیة، اشتراط أن یکون العلم الإجمالی صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، لابدّ أن یُقصد به أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه فی عمود الزمان لا أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه فعلاً، حتّی لو فرضنا أنّه لیس صالحاً لتنجیز معلومه فعلاً، لکنّه صالح لتنجیز معلومه فی عمود الزمان، بمعنی أننا ندخل فی التنجیز التکلیف الغیر الفعلی والذی سیکون فعلیاً فی المستقبل، هذا العلم الإجمالی صالح لتنجیز معلومه، سواء کان معلومه فعلیاً، أو کان معلومه استقبالیاً.

ص: 213

وأمّا علی مسلک الاقتضاء: فالمدّعی فی هذا الدلیل أنّ الصل الجاری فی الطرف الأوّل لا یعارض بالأصل الجاری فی الطرف الثانی؛ لأنّ الطرف الثانی لیس مورداً للأصل، باعتبار ما ذُکر من النکتة، وهی أن الشکّ فیه لیس فعلیاً، فإذن، هو لیس مورداً للأصل فعلاً، فإذا لم یکن مورداً للأصل فعلاً، فیجری الأصل فی الطرف الأوّل بلا معارض؛ لأنّه لا معارض للأصل فی الطرف الثانی؛ لأنّ الأصل لا یجری فی الطرف الثانی.

الجواب عن ذلک: أننا نقول أنّ الأصل فی الطرف الأوّل معارض بالأصل فی الطرف الثانی، والسرّ فی ذلک هو أنّ التعارض فی المقام، یعنی الأصل الجاری فی الطرف الأوّل معارض بالأصل فی الطرف الثانی. هذا التعارض بین الأصلین الجاریین فی الطرفین ماذا یُراد به ؟ المراد بذلک فی الحقیقة هو منع شمول إطلاق شمول الأصل فی کلٍ من الطرفین، أنّ دلیل الأصل لا یشمل کلا الطرفین، فیقع التعارض بینهما، لیس التعارض من قبیل التضاد بین البیاض والسواد حتّی نقول یُشترط فی التضاد أن یکون الزمان واحداً، وإلاّ لا تضاد بین الشیئین، التعارض هو عبارة عن أنّ شمول دلیل الأصل لهذا الطرف ینافیه شموله للطرف الآخر، هذه المنافاة فی شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین توقع المعارضة بین الأصلین.

وبعبارةٍ أخری: یکون شمول دلیل الأصل لهذا الطرف معارضاً بشمول دلیل الأصل فی الطرف الآخر، فالمعارضة فی المقام هی عبارة عن منع وعدم التمکّن من شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین، والسرّ فی هذا المنع وعدم إمکان شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین، السرّ فیه هو أنّ شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة. هذا هو الذی یوقع التعارض بین الطرفین بناءً علی مسلک الاقتضاء، أنّ شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین معاً یستلزم المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم والواصل للمکلّف ولو بالإجمال، وشموله لأحدهما المعیّن ترجیح بلا مرجّح، أو شموله لأحدهما المردد، لا وجود له. إذن: بالنتیجة دلیل الأصل لا یمکن أن یشمل کلا الطرفین، فیقع التعارض بین شمول دلیل الأصل لهذا الطرف وشموله لهذا الطرف. صحیح أنّ کل طرف هو موضوع للأصل المؤمّن، کل طرف یتحقق فیه موضوع الأصل المؤمّن وهو الشک، لکن شمول دلیل الأصل لهذا الطرف مع شموله للطرف الآخر لا یمکن؛ لأنّه یستلزم الترخیص المخالفة القطعیة، فیقع التعارض بین شمول الأصل لهذا وبین شموله لذاک، فیُبتلی دلیل الأصل بالإجمال المانع من شموله لکلٍ منهما، فیُلتزَم بالتساقط، یعنی أنّ دلیل الأصل لا یشمل هذا ولا یشمل ذاک. هذا هو المقصود بالتعارض فی محل الکلام. إذن: نکتة التعارض هی أنّ جعل ترخیصین فی الطرفین مستفادین من الأصلین یستلزم المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، هو یعلم إجمالاً بثبوت الحرام فی أحد الطرفین، والدلیل یقول له أنا أرخّص لک فی هذا وأرخّص لک فی هذا. فکأنّ الشارع یخاطب المکلّف ویجعل له الترخیص فی هذا الطرف وفی نفس الوقت یجعل له الترخیص فی الطرف الآخر، هذا یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا لا یمکن الالتزام به، هذه هی النکتة فی التعارض بین الأصلین فی محل الکلام. هل یُفرّق فی هذه النکتة بین أن یکون الطرفان عرضیین وبین أن یکونا طولیین ؟ نحن نقول: لا یُفرّق فیها فی ذلک، لا فرق بین الفرضین فی مثال الإناءین، هذه النکتة موجودة فی کلٍ من الطرفین، وشمول دلیل الأصل لکلٍ من الطرفین یقع المکلّف فی المخالفة القطعیة، أو قل هو ترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا محال. شمول دلیل الأصل لکلٍ من الطرفین أیضاً کذلک؛ لأنّه لا یُفرّق بینه وبین الحالة الأولی من هذه الناحیة فی أنّ الترخیص فی مخالفة التکلیف الفعلی والترخیص فی مخالفة التکلیف یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، بالنتیجة هذه المرأة تعلم بثبوت حرمة دخول المساجد علیها، إمّا الآن، أو فی المستقبل. إذن: هی تعلم بثبوت الحرمة، وصلت إلیها الحرمة، الشارع یرخّص لها فی مخالفة الحرمة الواصلة بأن یجعل ترخیصین فی الطرفین، بأن یجعل دلیل الأصل شاملاً لهذا الطرف، وشاملاً للطرف الآخر، ولو کان استقبالیاً، کون أحد الطرفین استقبالیاً لا یعنی أنّ شمول دلیل الأصل للطرفین لا یوجب الترخیص فی المخالفة القطعیة، بالنتیجة هو ترخیص فی المخالفة القطعیة، عندما یقول الشارع لو خاطب المکلّف فی محل الکلام أجرِ البراءة عن التکلیف الفعلی، وأجرِ البراءة فی التکلیف الاستقبالی، بالنتیجة هو رخّص له فی مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال، هذه هی النکتة التی توجب التعارض ولیس هناک نکتة أخری، ولیس هناک تضاد حتّی نقول یشترط فی التعارض أن یکونا فی زمانٍ واحد، جریان الأصل عن هذا الطرف فعلاً، وجریان الأصل عن الطرف الآخر فی المستقبل یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا هو النکتة فی وقوع التعارض بین الأصلین فی الطرفین، فیکون التعارض فی المقام متحققاً، ویکون کل منهما صالحاً لجریان الأصل فیه، لکن یقع التعارض بین الأصلین ویتساقطان، فتبقی الأطراف بلا مؤمّن، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی.

ص: 214

وأمّا ما ذُکر فی نفس الدلیل من أنّ الأصل لا یجری فی الطرف الاستقبالی لعدم تحقق موضوعه وهو الشک الآن، هذا کلام صحیح، لا أحد یقول أنّ الشک فی التکلیف علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل موجود الآن، الشک لیس موجوداً الآن، وإنّما هو موجود فی ظرفه، لکن المقصود فی المقام إجراء الأصل فی الطرف الاستقبالی بلحاظ ظرفه، وبلحاظ وقته، لا أن نجری الأصل فی الطرف الاستقبالی الآن؛ لوضوح أنّ موضوع هذا الأصل الآن غیر متحقق؛ إذ لاشکّ فی حرمة الدخول فی المساجد علیها الآن علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، المدّعی هو إجراء الأصل فی الطرف الاستقبالی بلحاظ ظرفه ولا إشکال فی أنّه بلحاظ ظرفه موضوع الأصل متحقق، الشک متحقق، فی المستقبل الشک متحقق بلحاظ ظرفه ولیس الآن، وندّعی أنّ إجراء الأصل بهذا النحو یعارض إجراء الأصل فی الطرف الفعلی، إجراء الأصلین فی الطرفین بهذا النحو، بأن یجری الأصل فی الطرف الفعلی، ویجری الأصل فی الطرف الاستقبالی بلحاظ ظرفه، ندّعی أنّ هذا غیر ممکن، لنفس النکتة التی ندّعی فیها عدم إمکان ذلک فی ما إذا کان کل منهما فعلیاً، وهی نکتة أنّ إجراء الترخیص فی کلا الطرفین یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل للمکلّف بالإجمال؛ لأنّ المکلّف یعلم بثبوت التکلیف فی ذمّته، غایة الأمر أنّه مردد بین طرفین، أحدهما استقبالی، فإذا رخّص الشارع له فی مخالفة کلا التکلیفین، فهذا ترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، فلیس الغرض من هذا الکلام هو أننا ندّعی جریان الأصل فی الطرف الاستقبالی الآن کما یجری فی الطرف الفعلی حتّی یقال أنّ الأصل الآن غیر متحقق موضوعه فی الطرف الاستقبالی، فکیف یجری فیه الأصل، وإنّما المقصود هو إجراء الأصل فی الطرف الاستقبال بلحاظ ظرفه، وهذا الأصل موضوعه محفوظ ومتحقق بلحاظ ظرفه، والمدّعی هو أنّ إجراء الأصل فی الطرف الاستقبالی بهذا اللّحاظ، مع الأصل فی الطرف الفعلی یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فإذن: لا یمکن أن یکون دلیل الأصل بناءً علی هذا الکلام شاملاً لکلا الطرفین؛ لأنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، کما لا یمکن أن یکون ثابتاً لأحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح بعد فرض تساوی نسبة کل من الطرفین إلی دلیل الأصل، ولا فرق بینهما بلحاظ دلیل الأصل، کل منهما یوجد فیه شک وهذا هو موضوع دلیل الأصل؛ وحینئذٍ یقع التعارض بین شمول الأصل لهذا الطرف وشمول الأصل لذاک الطرف، فیتساقطان؛ وحینئذٍ تبقی الأطراف بلا مؤّمن، فیتنجّز العلم الإجمالی. هذا هو المدّعی فی المقام.

ص: 215

یُستشکل علی هذا الکلام: أننّا سلّمنا شمولدلیل الأصل لکلا الطرفین یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة، لکنّ شمول دلیل الأصل لأحدهما لا یلزم منه المخالفة القطعیة، وإنّما یلزم منه محذور الترجیح بلا مرجّح، لکنّ محذور الترجیح بلا مرجّح إنّما یلزم من شمول دلیل الأصل لأحد الطرفین فی صورة ما إذا تساوت نسبة هذا الطرف للأصل ونسبة ذاک الطرف للأصل، وکانت نسبة واحدة بلا مائز ولا أولویة فی الشمول، بعد تساوی نسبة الطرفین إلی دلیل الأصل، یقال أنّ اختصاص دلیل الأصل بأحدهما ترجیح بلا مرجّح. وأمّا إذا فرضنا عدم تساوی نسبة الطرفین إلی دلیل الأصل؛ حینئذٍ شمول دلیل الأصل لأحدهما لا یلزم منه محذور الترجیح بلا مرجّح، ویُدّعی بأنّ هذا متحقق فی المقام، وذلک لأنّ دلیل الأصل الآن لا یشمل إلاّ أحد الطرفین؛ لأنّ الطرف الآخر الاستقبالی غیر مشمول لدلیل الأصل الآن، إمّا لعدم تحقق موضوعه أو لعدم ترتب أثر علی جریان الأصل، أو لشیءٍ آخر، فهو غیر مشمول لدلیل الأصل الآن، بینما الطرف الآخر الفعلی مشمول لدلیل الأصل الآن. بناءً علی هذا لا مانع من شمول دلیل الأصل لهذا الطرف؛ لأنّه الآن هو غیر معارض بشمول دلیل الأصل للطرف الآخر؛ لأنّ الطرف الآخر لا یشمله دلیل الأصل الآن، فیجری الأصل فی الطرف الأوّل بلا معارض، ولا یلزم من ذلک الترجیح بلا مرجح، ولا یلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة. أمّا الأوّل فواضح، أمّا الثانی، فباعتبار أننا فرضنا أنّ دلیل الأصل الآن لا یشمل الطرف الآخر، فیشمل الطرف الأوّل، فیکون هذا هو المرجّح له، فیتعیّن دخوله فی دلیل الأصل دون الطرف الثانی.

ص: 216

إذن: الآن یمکن للمکلّف أن یجری الأصل فی هذا الطرف الفعلی الحالی ولا یُعارَض بشمول دلیل الأصل للطرف الأوّل. هذا الآن، وفی المستقبل أیضاً نفس الکلام یقال، یقال: فی المستقبل یجری الأصل فی ذاک الطرف ولا یُعارَض بالأصل فی الطرف الأوّل، باعتبار أنّه فی المستقبل یخرج الطرف الأوّل عن کونه محل الابتلاء، فلا یجری فیه الأصل لذلک، وبالتالی نجوّز للمکلّف أن یرتکب کلا الطرفین استناداً إلی الأصل الجاری فیه، لکن بلحاظ ظرفین، فی الزمان الأوّل الأصل یجری فی الطرف الأوّل، فیؤمّن من ناحیته، وفی الزمان الثانی یجری الأصل فی الطرف الثانی الاستقبالی ویؤمّن من ناحیته، من دون أن یکون شمول دلیل الأصل للأوّل فی الزمان الأوّل، ولا الثانی فی الزمان الثانی ترجیحاً بلا مرجح.

الجواب عن هذا الکلام هو: ما یُفهم من الکلام السابق وهو أنّ المحذور الذی یمنع من إجراء الأصل فی الطرفین یشمل حتّی هذه الحالة. بعبارة أخری: لا یختص بخصوص ما إذا کان إجراؤهما مؤدّیاً إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحدٍ کما فی مثال الإناءین، صحیح أنّ هذا الذی ذُکر لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد؛ لأنّه یُجری الأصل فی ظرفین وفی زمانین، فی الزمان الأوّل یجری الأصل الأوّل فقط، فلا مخالفة قطعیة، وفی الزمان الثانی یجری الأصل فی الطرف الثانی فقط، وأیضاً لا تلزم المخالفة القطعیة. إذن: إجراء الأصلین بهذا الشکل صحیح لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد، لکن الذی نقوله أنّ المانع لا ینحصر بذلک، المانع من إجراء الأصلین فی الطرفین لا یختص بما إذا کان مؤدّیاً إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد؛ بل أنّ مدّعانا أوسع من هذا، نقول أنّ جریان الأصلین فی الطرفین إذا کان مؤدّیاً إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة ولو فی زمانین، ولو فی عمود الزمان إذا کان یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال هذا أیضاً نمنع منه، وأیضاً یکون محالاً؛ لما قلناه قبل قلیل من أنّ التعارض بین الأصلین لا یختص بخصوص ما إذا کان جریان الأصلین مؤدّیاً إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد؛ بل هو یشمل حتّی الصورة الثانیة؛ لأنّ التعارض هو عبارة عن عدم شمول دلیل الأصل للطرفین باعتبار وبنکتة أنّ شمول الأصل لکلا الطرفین یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة القبیحة بنظر العقل، وما یراه العقل قبیحاً لیس هو الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد، بالنتیجة هو مخالفة قطعیة علی کل حالٍ للشارع، سواء کان فی زمانٍ واحد، أو کان فی زمانین، فإذا کان إجراء الأصلین فی الطرفین بهذا الشکل المقترح یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانین هذا أیضاً یراه العقل مانعاً من إجراء الأصل فی کلا الطرفین، وبهذا یتحقق التعارض ویکون الأصل الجاری فی الطرف الفعلی معارضاً بالأصل الجاری فی الطرف الاستقبالی؛ لأنّ المحذور لیس هو أداء إجراء الأصلین فی الطرفین إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی زمانٍ واحد، لیس هذا هو المحذور فقط؛ بل المحذور هو الأعم، کل ما کان إجراء الأصل فی الطرفین یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذا العقل یمنع منه ویراه محالاً سواء کان فی زمانٍ واحد، أو کان فی زمانین، بالنکتة المشار إلیها وهی أنّه بنظر العقل لا فرق بینهما، کل منهما مخالفة للتکلیف، کلٌ منهما ترخیص فی مخالفة التکلیف الواصل والمعلوم، ویستحیل أن یرخّص الدلیل فی مخالفة التکلیف المعلوم، وهذا معناه أنّ الأصل فی هذا الطرف معارض بالأصل فی الطرف الآخر فی ظرفه، یتعارضان؛ لأنّ نکتة التعارض محفوظة فیه، التعارض هو عبارة عن أداء جریان الأصلین فی الطرفین إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهی متحققة فی المقام. ومنه یتبین أنّ ما ذُکر فی الدلیل من أن دلیل الأصل لا یشمل الطرف الاستقبالی هذا صحیح، لکن الآن لا یشمل الطرف الاستقبالی، إمّا بنکتة أنّ موضوعه غیر متحقق، وإمّا أنه لا یترتب علیه الأثر، فدلیل الأصل لا یشمل الطرف الاستقبالی الآن، لکن لا مانع من شموله له بإطلاقه بلحاظ ظرفه؛ لتحقق موضوعه فی ظرفه، فإطلاق دلیل الأصل یشمل الطرف الآخر بإطلاقه باعتبار تحقق موضوعه فی ظرفه، وباعتبار ترتب الأثر علیه فی ظرفه، فإذا کان دلیل الأصل یشمل الطرف الآخر، وفرضنا أنّ شمول دلیل الأصل للطرف الآخر مع شموله للطرف الفعلی یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لا محالة یتحقق التعارض ویُبتلی دلیل الأصل بالتعارض الداخلی المانع من شموله لکلا الطرفین. فما نثبته أمران:

ص: 217

الأمر الأوّل: أنّ العقل لا یُفرّق فی قبح المخالفة، وفی استحالة الترخیص فی المخالفة القطعیة بین أن تکون بالنحو الأوّل أو بالنحو المقترح فی المقام، لا یُفرّق بینهما، کلٌ منهما یؤدّی إلی الترخیص فی مخالفة الشارع، وهذا محال بنظر العقل.

الأمر الثانی: أنّ دلیل الأصل لا مانع من شموله للطرف الاستقبالی بالرغم من عدم تحقق موضوعه الآن وعدم ترتب أثر علیه الآن، لا مانع من شموله للتکلیف الذی سیکون فعلیاً فی المستقبل؛ لأنّه سیتحقق موضوعه فی المستقبل ویترتب علیه الأثر، فإذا لا مانع من شموله له بإطلاقه یتحقق التعارض بین شموله لهذا الطرف وشموله لذاک الطرف.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

تقدّم فی الدرس السابق أنّ ما استدلّ بهعلی عدم المنجّزیة بالعلم الإجمالی فی التدریجیات غیر تام، بعد ذلک ننتقل إلی أنّ الظاهر من کلمات الأعلام کالشیخ الأنصاری وصاحب الکفایة والمحقق النائینی وغیرهم(قدّست أسرارهم)، ظاهرهم تسلیم أنّ العلم الإجمالی بتکلیفٍ فعلی علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر لیس منجّزاً. نعم اختلفوا فی تعلیل عدم المنجّزیة، فصاحب الکفایة(قدّس سرّه) عللّه بأن العلم الإجمالی لیس علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه یشترط فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وهذا غیر متحقق فی المقام.

الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) عللّه بجریان الأصول النافیة فی الأطراف بلا تعارض، فیمکن إجراء الأصل النافی الآن ولیس له معارض، ویمکن إجراء الأصل النافی فی الزمان المتأخّر بلا معارض؛ لما تقدّم سابقاً من أنّ الأصل لا یجری فی کلا الطرفین فی آنٍ واحد، وإنّما کل أصل له ظرفه، فی الزمان الأول لا یجری إلاّ أصل واحد لنفی التکلیف الفعلی، وفی الزمان المتأخّر أیضاً یجری اصل واحد فی خصوص التکلیف الاستقبالی، فإذن، فی زمانٍ واحد لا یوجد تعارض، فإذن، یجری الأصل فی الأطراف بلا معارض، ویشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی التعارض، أن تکون الأصول الجاریة فی الأطراف متعارضة حتّی یثبت القول بالمنجّزیة علی ما تقدّم؛ لأنّ المنجّزیة عندهم من آثار تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها. المحقق النائینی(قدّس سرّه) أیضاً وافق الشیخ الأنصاری (قدّس سرّه) علی ما ذکره، وذکر أنّ هذا هو مقتضی الصناعة العلمیة، أنّ مقتضی الصناعة العلمیة هو عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی محل الکلام. المحقق العراقی (قدّس سرّه) أیضاً ینبغی أن یعلل عدم المنجّزیة بأنّ العلم لیس صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر؛ لأنّه یری أنّ شرط منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، وهذا العلم لیس صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، فیظهر منهم الاتفاق علی أنّ هذا العلم الإجمالی لا یؤثّر فی المنجّزیة، یعنی العلم الإجمالی بتکلیفٍ فعلی علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر لا یؤثّر فی المنجّزیة. غایة الأمر أنّ الشیخ الأنصاری وصاحب الکفایة(قدّس سرّهما) انتهوا إلی عدم المنجّزیة فی المقام، وأقصد فی المقام النحو الأوّل الذی نتکلّم فیه، یعنی ما إذا کان الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف ملاکاً وخطاباً، فلا الخطاب فعلی، ولا الملاک فعلی، کلٌ منهما متأخّر، الکلام فی هذا، الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) انتهی إلی عدم المنجّزیة، وصاحب الکفایة(قدّس سرّه) أیضاً ظاهره الانتهاء إلی عدم المنجّزیة فی هذا الفرض، لا یوجد ما ینجّز التکلیف؛ ولذا لازم عدم المنجّزیة فی المقام أنّه فی مثال الحائض الذی هو مثال لما نحن فیه، قالوا بأنّه یجوز للزوج والزوجة ترتیب آثار الطهر فی أوّل الشهر وفی آخره، تجری أصالة عدم الحیض فی أوّل الشهر، وتجری أصالة عدم الحیض فی آخر الشهر؛ لأنّها تشک فی أنّها حائض، أو لا فی کلٍ منهما. غایة الأمر أنّه بعد انقضاء الشهر یُعلم بمخالفة الواقع، ووقوع الحرام فی أیام الحیض، لو فرضنا أنّهما رتّبا آثار الطهر بأن وطئها فی أوّل الشهر وفی آخر الشهر، وبعد انتهاء الشهر یعلم بأنّه وطئها، هو خالف الواقع، وطئها فی أیام حیضها، وإن کان لا یعلم هو فی أوّل الشهر، أو فی آخر الشهر، بالنتیجة هو فعل الحرام، بعد انتهاء الشهر یعلم بانّه قد صدر منه الحرام، لکن قالوا العلم بالمخالفة فی الزمان الماضی لا یمنع من جریان الأصول فی ظرف احتمال التکلیف، ولو بعد ذلک یعلم بصدور المخالفة منه فی أحد الزمانین هو یعلم بذلک، ما دامت شرائط الأصل موجودة فی کلٍ من الظرفین الأصل یجری فی أوّل الشهر، وفی آخر الشهر، ولا دلیل علی حرمة العلم بحصول المخالفة فی زمانٍ ماضی. علی کل حالٍ انتهوا إلی هذه النتیجة: أنّه لا منجّز فی التدریجیات، فتجری الأصول المؤمّنة فی کلٍ من الطرفین.

ص: 218

لکن المحقق النائینی(قدّس سرّه) بالرغم من أنّه یشترک معهما فی أنّ هذا العلم الإجمالی لیس منجّزاً، لکنّه بالرغم من اعترافه بأنّ مقتضی الصناعة هو ذلک، هو التزم بعدم المنجّزیة فی المقام، لکنّه استدل علی المنجّزیة فی المقام لیس بالعلم الإجمالی المطروح المفروض فی محل الکلام؛ لأنّه یراه غیر منجّزٍ للتکلیف، لکنّه استدلّ علی المنجّزیة فی المقام وعدم جواز ترتیب آثار الطهر فی أوّل الشهر وآخره فی مثال الحیض، وهکذا فی سائر الأمثلة، استدل علی ذلک باستقلال العقل بقبح الإقدام علی ما یؤدّی إلی المخالفة، ولا إشکال فی أنّ الإقدام علی ارتکاب الشبهة فی أوّل الشهر وارتکاب الشبهة فی آخر الشهر، هذا یؤدّی إلی تفویت مراد المولی، وهذا قبیح، والعقل یحکم بقبحه، والعقل یمنع من إثبات الترخیص فی أوّل الشهر وفی آخره، لیس من باب أنّ العلم الإجمالی نجّز التکلیف فی المقام، وإنّما لأنّ العقل یحکم بقبح الإقدام علی ما یؤدّی إلی المخالفة وما یؤدّی إلی تفویت مراد المولی؛ حینئذٍ یمنع المکلّف من إجراء الترخیص ومن إثبات الترخیص فی کلٍ منهما، ویقول أنّ هذا نظیر المقدّمات المفوّتة، فهو لا یقصر عن المقدّمات المفوّته التی یستقل العقل فیها بوجوب حفظ القدرة علیها فی ظرف عدم تحقق الخطاب والملاک، المقدّمة المفوّتة لا خطاب فعلی ولا الملاک فعلی، الملاک سیکون فی المستقبل والخطاب سیکون فی المستقبل، لکن حیث أنّ ترک هذه المقدّمة الآن فی ظرف عدم فعلیة الخطاب والملاک یؤدّی إلی فوات الواجب فی وقته ویؤدّی إلی الوقوع فی المخالفة، وإلی تفویت مطلوب المولی ومراده، العقل یستقل بلزوم الإتیان بها. الملاک واحد فی کلٍ منهما، العقل یحکم بقبح فعل ما یؤدّی إلی المخالفة، وقبح تفویت مراد المولی، فی باب المقدّمة المفوّتة یکون ذلک بترک المقدّمة، إذا ترک المقدّمة سوف یقع فی القبیح العقلی، فی ما نحن فیه یقع فی القبیح العقلی إذا أثبت الترخیص فی کلا الوقتین فی کلا الطرفین، إذا أجری الأصل المؤمّن فی أوّل الشهر، والأصل المؤمّن فی آخر الشهر فی محل کلامنا فی المثال المطروح فی مثال الحیض هذا یؤدّی إلی المخالفة قطعاً ویوجب تفویت مراد ومطلوب المولی وهذا ممّا یستقل العقل بقبحه. ثمّ یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّ العقل یستقل بقبح الإقدام علی ما یوجب فوات مطلوب المولی مع العلم بأنّ له حکم إلزامی ذا مصلحةٍ تامّة، کما فی محل الکلام، نعلم بأنّ هناک حکماً واقعیاً تامّاً وله مصلحة تامّة، غایة الأمر أننا لا نعلم هل هی فی أوّل الشهر، أو آخر الشهر، فلابدّ بحکم العقل من ترک الاقتحام فی کل واحدٍ من أطراف الشبهة مقدّمة لحصول مراد المولی ومطلوبه، فیجب ترک الاقتحام فی الطرف الأوّل، وترک الاقتحام فی الطرف الثانی مقدّمة لتحصیل مراد المولی ومطلوبه، فمن هنا حکم بالمنجّزیة فی باب العلم الإجمالی فی التدریجیات من هذا الباب.

ص: 219

یظهر من المحقق العراقی (قدّس سرّه) ارتضاء هذا الکلام، هو یرضی بأصل هذا الدلیل الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وإن اعترض علیه بأنّه: مع وجود الحکم العقلی المذکور، کیف تقول بأنّ مقتضی الصناعة هو ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من جریان الأصل فی الطرفین، وإن اعترض علیه بذلک، لکنّه تقریباً ذهب إلی نفس ما ذهب إلیه المحقق النائینی(قدّس سرّه) من أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً اعتماداً علی استقلال العقل بقبح الإقدام علی المخالفة وتفویت مراد ومطلوب المولی، لکنّه قرّبه بشکلٍ صناعی وبحسب ما یُفهم من کلماته قرّبه بهذا الشکل، یقول: أنّ المنجّز للطرفین فی محل الکلام لیس هو العلم الإجمالی المطروح والمفروض الذی هو علم إجمالی بتکلیفٍ فعلی علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر، وإنّما الذی ینجّز الطرفین هو علم إجمالی آخر، وهو فعلی علی کل تقدیر، هذا هو الذی ینجز الطرفین، فلابدّ أن نتصوّر علماً إجمالیاً علی کل تقدیر یکون هو المنجّز للطرفین، فنتخلّص من المشکلة، وذلک بأنّ العقل یستقل بقبح الإقدام علی ما یوجب فوات مطلوب المولی ویستقل بوجوب حفظ القدرة علی أداء مطلوبه قبل مجیء ظرفه، أی علی أداء مطلوب المولی قبل وقته، ومطلوب المولی فی المستقبل، فی الزمان المتأخّر، لکن العقل یقول أیّها العبد یجب علیک حفظ القدرة لامتثال مطلوب المولی فی ظرفه.

وبعبارةٍ أخری: یحرم علیک تفویت القدرة علی امتثال المطلوب، الواجب فی ظرفه، العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة، فعلاً یحکم بوجوب حفظ القدرة، ویحکم بحرمة تفویت القدرة وتضییعها. علی اساس هذا الحکم العقلی حلّوا مشکلة المقدّمات المفوّتة، أحد الحلول لمشکلة المقدّمات المفوّتة هو هذا، نقول تجب المقدّمة؛ لأنّه یجب علی المکلّف بحکم العقل حفظ قدرته علی امتثال التکلیف فی وقته، وإذا ترک المقدّمة المفوّتة سوف تذهب قدرته علی امتثال التکلیف فی وقته؛ لأنّ المقدّمة مفوّتة، یعنی إذا ترکها یفوته الواجب؛ ولذا تجب علیه المقدّمة المفوّتة من باب وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه، علی امتثال مطلوب المولی فی ظرفه وفی وقته، وهذا التکلیف، یعنی وجوب حفظ القدرة، یعنی حرمة تضییع القدرة، هذا التکلیف تکلیف فعلی، وبهذا یتشکّل علم إجمالی بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیرٍ، علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال الآن، فالتکلیف فعلی، إن کانت حائضاً الآن فالتکلیف فعلی، وعلی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال فی المستقبل وجوب حفظ القدرة علی امتثاله فعلی الأن، وجوب حفظ القدرة لیس استقبالیاً، التکلیف استقبالی، لکن وجوب حفظ القدرة علی امتثال ذلک التکلیف الاستقبالی هو فعلی، وبهذا یکون المکلّف عالماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر مردّد بین هذا التکلیف الآن، بین حرمة الدخول فی المساجد الآن وبین وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف الاستقبالی علی التقدیر الآخر، علی تقدیر نفس التکلیف یکون فعلیاً، علی التقدیر الآخر یکون تکلیفاً آخر وهو وجوب حفظ القدرة علی التکلیف الاستقبالی، وهذا علم إجمالی بجامع التکلیف الفعلی علی کل تقدیر، غایة الأمر هذا الجامع مردد بین أمرین، بین حرمة الدخول فی المساجد الآن، وبین وجوب حفظ القدرة، فهو یعلم بأحدهما، بجامع التکلیف الإلزامی المردد بین حرمة الدخول فی المساجد وبین حرمة تضییع القدرة علی امتثال التکلیف الاستقبالی علی تقدیر أن تکون حائضاً فی المستقبل، وبهذا یتشکّل علم إجمالی أطرافه فعلیة، علم إجمالی بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، ویکون هذا هو المنجّز؛ وحینئذٍ ننتهی إلی أنّه لابدّ من الاحتیاط فی موارد العلم الإجمالی فی التدریجیات، ولا یجوز إجراء الأصول فی أوّل الشهر وفی آخره کما قال الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، لکن استناداً إلی هذا العلم الإجمالی الثانی ولیس استناداً إلی العلم الإجمالی الأوّل، وهذا العلم الإجمالی الثانی موجود فی کل موارد العلم الإجمالی فی التدریجیات، أصلاً هذا العلم الإجمالی الثانی یتولّد من العلم الإجمالی الأوّل، فیکون هو المنجّز، وبذلک وصل کل من المحقق النائینی(قدّس سرّه)، والمحقق العراقی (قدّس سرّه) وهکذا السید الخوئی(قدّس سرّه) إلی المنجّزیة فی باب العلم الإجمالی فی التدریجیات، لکن اعتماداً علی ذلک.

ص: 220

هذا الکلام الذی أساسه المحقق النائینی(قدّس سرّه) والمحقق العراقی(قدّس سرّه)، والسید الخوئی(قدّس سرّه) أیضاً ذکره لوحظت علیه عدّة ملاحظات:

الملاحظة الأولی: مسألة وجوب حفظ القدرة، واضح أنّ وجوب حفظ القدرة لا یمکن أن نقول أنّه وجوب شرعی، فهو لیس وجوباً شرعیاً، وإنّما هو وجوب عقلی، وجوب حفظ القدرة علی الإتیان بمراد المولی فی ظرفه وحرمة تفویت وتضییع القدرة هو وجوب عقلی یحکم به العقل ولیس وجویاً شرعیاً، العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة وحرمة تضییع القدرة علی امتثال التکلیف، صحیح، یحکم بذلک، لکن لا یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف إلاّ إذا فُرض أنّ ذاک التکلیف کان منجّزاً فی مرحلة سابقة، التکلیف المنجّز بنظر العقل یحکم علیه بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله؛ لأنّه تنجّز علی المکلّف، وإلاّ العقل لا یحکم بوجوب حفظ القدرة علی کل تکلیف، التکلیف المشکوک بالشک البدوی غیر المقرون بالعلم الإجمالی لا یحکم العقل بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله، وإنّما یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف عندما یکون ذاک التکلیف منجّزاً، فالتنجیز شرط أساسی فی حکم العقل بوجوب حفظ القدرة علی امتثال ذاک التکلیف، وفی محل الکلام التکلیف الاستقبالی علی أحد التقدیرین لا منجّز له سوی العلم الإجمالی المفروض فی محل الکلام، بمَّ یتنجّز هذا التکلیف الاستقبالی ؟ إذا رفعنا العلم الإجمالی یکون الشکّ بدویاً، ویکون احتماله احتمالاً بدویاً، لیس المنجّز سوی العلم الإجمالی فی محل الکلام، فإن فرضنا أنّ العلم الإجمالی هو الذی ینجّز التکلیف الاستقبالی؛ فحینئذٍ تنتهی المشکلة، ولا داعی لهذا الدوران، هذا یغنینا عن افتراض علمٍ إجمالیٍ ثانی یتولّد من العلم الإجمالی الأوّل، هو العلم الإجمالی الأوّل ینجّز کلا التکلیفین، نجّز التکلیف الفعلی ونجّز التکلیف الاستقبالی. وإن قلنا أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز التکلیف الاستقبالی کما تقدّم، فالعقل لا یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله؛ لأنّ العقل إنّما یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثال تکلیف عندما یکون ذاک التکلیف داخلاً فی المنجّزیة، عندما یکون منجّزاً بأیّ منجزٍ کان، عندما یکون منجّزاً یحکم العقل بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله، وإن لم یکن منجّزاً؛ فحینئذٍ لا یحکم العقل بوجوب حفظ القدرة اتجاه کل تکلیفٍ حتّی نستدل بذلک فی محل الکلام علی تشکیل علمٍ إجمالی ثانی یکون کلا طرفیه فعلیین.

ص: 221

الملاحظة الثانیة: فی محل الکلام، محل الکلام هو النحو الأوّل المتقدّم، وهو ما إذا کان الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً، وهذا معناه أنّ الملاک للتکلیف الاستقبالی لیس فعلیاً، فالتکلیف فعلاً لا فعلی ولا ملاکه أیضاً فعلی، هذا مرجعه فی الحقیقة إلی أنّ الدخیل فی ملاک ذاک التکلیف هی القدرة فی زمان التکلیف لا القدرة مطلقاً تکون دخیلة فی الملاک، وإنّما القدرة علی الفعل فی زمانه تکون دخیلة فی الملاک؛ ولذا القدرة علیه قبل زمانه لم تحرز لنا تحقق الملاک بحسب الفرض؛ لأنّ المفروض أنّ الملاک متأخّر، إذن: القدرة المطلقة لا تحرز لنا تحقق الملاک؛ لأنّه لیس منوطاً بالقدرة المطلقة، وإنّما الملاک لا یتحقق إلاّ عند تحقق القدرة علی الفعل فی ظرفه، إذا کان المکلّف قادراً علی الفعل یصبح الفعل ذا ملاک، أمّا القدرة علیه قبل زمانه، لا تجعل الفعل متصفاً بأنّه ذو ملاک، القدرة علی الفعل فی ظرفه هی التی تکون محققة لکونه ذا ملاکٍ، فی مثل ذلک من قال بأنّ العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة ؟ من قال بأنّ العقل یحکم حکماً فعلیاً الآن بوجوب حفظ القدرة علی امتثال تکلیفٍ لیس فعلیاً حتّی ملاکاً، علی امتثال تکلیفٍ فعلیٍ لا یتصف الواجب فیه المکلّف به بکونه ذا مصلحة إلاّ عند مجیء ظرفه ؟ إلاّ عند القدرة علیه فی زمانه، نفترض أنّ المکلّف الآن قادر علی ذاک الفعل، لکن لیس هذا هو الدخیل فی الملاک بحسب الفرض، لیس هذا دخیلاً فی اتّصاف الفعل فی کونه ذا ملاک، وإنّما الفعل یکون ذا ملاک عند تحقق القدرة علیه فی ظرفه، أمّا قبل ذلک فلا یتصف بکونه ذا ملاک، فإذا لم یکن له ملاک هذا فعلٌ الآن لا یوجد خطاب فیه، ولا هو متّصف بکونه ذا ملاک، العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله، یحکم بأنّه یحرم علی المکلّف تفویت قدرته علی امتثاله، هذا غیر واضح. من هذا الباب مسألة تعجیز الإنسان نفسه عن الوضوء قبل الزوال بإراقة الماء، بمجرّد أن یریق الماء هو لم یحفظ قدرته علی امتثال التکلیف فی زمانه، لکن یجوز له ذلک، ولا یجب علیه حفظ القدرة؛ لأنّ هذا التکلیف لیس فعلیاً خطاباً قبل الزوال، ولیس فعلیاً ملاکاً أیضاً؛ لأنّ الفعل وهو الوضوء إنّما یتصف بکونه ذا مصلحةٍ ملزمةٍ موجبةٍ لوجوبه بعد الزوال، بعد حلول الوقت، أمّا إذا قلنا قبل حلول الوقت لا یتصف بکونه ذا ملاکٍ، العقل لا یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثاله وحرمة تضییع القدرة علی امتثاله، المفروض فی ما نحن فیه هو ذلک بحسب الفرض أننا نتکلّم عن ما إذا کان الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً. نعم فی النحو الثانی الذی سیأتی الکلام فیه عندما یکون الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً فقط لا ملاکاً الذی معناه أنّ المعتبر فی الملاک هو مطلق القدرة ولیس القدرة الخاصّة، لیس القدرة فی ظرف التکلیف، وإنّما مطلق القدرة هی تکفی فی اتصاف الفعل بکونه ذا ملاک؛ حینئذٍ یمکن أن نقول أنّ العقل یحکم بوجوب حفظ القدرة علی امتثال تکلیف فی ظرفه ملاکه تام الآن، والفعل متصف بکونه ذا ملاکٍ ملزمٍ یمکن أن یحکم العقل بوجوب حفظ القدرة علی امتثال هذا التکلیف، وأمّا فی محل کلامنا، فهذا غیر ثابت.

ص: 222

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ العلم الإجمالی فی التدریجیات

ذکرنا فی الدرس السابق أنّ بعض من لم یقبل منجّزیة العلم الإجمالی المطروح فی محل الکلام فی التدریجیات باعتبار أنّه علم بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیرٍ ولیس فعلیاً علی تقدیرٍ آخر؛ ولذا لا یکون منجّزاً، حاول أنّ یثبت المنجّزیة بتشکیل علمٍ إجمالیٍ آخرٍ کلا طرفیه فعلی، فیکون علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیرٍ، وبذلک یکون منجّزاً، وهذا العلم الإجمالی هو عبارة عن العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی علی تقدیر الفعل الحالی، والطرف الآخر له هو وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی وقته علی التقدیر الآخر، هذه المرأة إن کانت حائضاً فعلاً، فالتکلیف فعلی، وإن کانت حائضاً فی المستقبل، فیجب علیها حفظ القدرة لامتثال هذا التکلیف فی ظرفه. إذن: هی تعلم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیرٍ دائراً بین هذا الفعل، بین حرمة الدخول فی المساجد، حرمة المقاربة فعلاً وبین وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف الذی سیکون فعلیاً فی المستقبل، ووجوب حفظ القدرة فعلی ولیس استقبالیاً، فبالتالی یکون کلا الطرفین فعلیاً، فهی تعلم بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر مردد بین هذا التکلیف الفعلی وبین وجوب حفظ القدرة الفعلی أیضاً، وهذا یکون منجّزاً حینئذٍ ویترتّب علیه نفس ما یترتب علی العلم الإجمالی المطروح فی محل الکلام علی تقدیر کونه منجّزاً. قلنا أنّ هذا علیه ملاحظات، ذکرنا الملاحظة الأولی، والثانیة، انتهی الکلام إلی الملاحظة الثالثة.

الملاحظة الثالثة: غایة ما یثبت بهذا العلم الإجمالی الذی شُکّل علی هذا الأساس هو أنّه ینجّز کلا طرفیه، ومعنی ذلک أنّه ینجّز وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه، ینجّز حرمة تفویت القدرة علی امتثال التکلیف فی وقته، هذا یتنجّز بهذا العلم الإجمالی، باعتبار أنّ وجوب حفظ القدرة وقع طرفاً للعلم الإجمالی الذی شُکّل فی المقام، فالعلم الإجمالی ینجّز وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه. هذا غایة ما یثبت بذلک. وأمّا تفویت الواجب فی وقته عصیاناً بعد فرض حفظ القدرة علی امتثاله، هو حفظ القدرة علی امتثاله، لکن ترکه عصیاناً فی ظرفه، هذا العلم الإجمالی لا یمنع منه؛ لأنّه لیس طرفاً للعلم الإجمالی، تفویت الواجب فی ظرفه لیس طرفاً للعلم الإجمالی؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز التکلیف الفعلی والتکلیف الاستقبالی، وإنّما ینجّز التکلیف الفعلی هو وجوب حفظ القدرة، فإذا حفظ القدرة علی امتثال التکلیف الاستقبالی یکون قد جاء بما تنجّز علیه، لکن عندما یجیء ظرف التکلیف الاستقبالی تفویت هذا التکلیف، ولو عصیاناً لا یمنع منه العلم الإجمالی الذی أقتُرح، العلم الإجمالی ینجّز طرفیه، یمنع من تفویت القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه ویمنع من الدخول فی المسجد فعلاً وهو قد حافظ علی القدرة ___________ بحسب الفرض ____________ وامتثل هذا الطرف الثانی، لکنّه ترک التکلیف فی وقته، ترک الفعل فی المستقبل، فی ظرف فعلیة التکلیف، ما الذی یمنعه من هذا الترک ؟ ما الذی یمنعه من تفویت الواجب فی ظرفه ؟ هذا العلم الإجمالی لا یمنعه؛ لأنّ التکلیف فی ظرفه لیس طرفاً لهذا العلم الإجمالی ___________ بحسب الفرض ____________ فهذا التکلیف لا یمنعه، ولیس هناک شیء یمنعه سوی العلم الإجمالی الأوّل الذی قلنا سابقاً أنّه ینجّز کلا الطرفین ولو کان أحد الطرفین لیس فعلیاً.

ص: 223

یمکن أن یقال: أنّ وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه إذا ثبت وتنجّز بهذا العلم المقترح، فالظاهر أنّه یستلزم حرمة تفویت الواجب فی ظرفه، باعتبار أنّ ملاک وجوب حفظ القدرة لیس إلاّ هو التمکن من الإتیان بالواجب فی ظرفه، فلا یُعقل أن یُسمح للمکلّف بتفویت الواجب فی ظرفه مع إیجاب حفظ القدرة علی امتثاله فی ظرفه، لا یُعقل هذا، أنّ الشارع یوجب علی المکلّف أن یحفظ قدرته علی امتثال التکلیف فی ظرفه، لکن عندما یأتی ظرفه یسمح له بمخالفة نفس التکلیف، أو یسمح له بتفویت نفس الواجب الذی أمره سابقاً بأن یحفظ قدرته علی امتثاله، هذا غیر معقول.

بعبارة أخری: أنّ الظاهر أنّ هناک ملازمة بین وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه وبین عدم السماح، والمنع من تفویت الواجب فی ظرفه، یُفهم هذا باعتبار الملازمة بینهما، فنستطیع أنّ نقول بأنّ العلم الإجمالی هو بنفسه إذا نجّز وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه؛ حینئذٍ هو ینجّز المنع من تفویت الواجب فی ظرفه، یعنی ینجّز نفس الواجب علی المکلّف؛ ولذا طُرح هذا العلم الإجمالی کبدلٍ عن العلم الإجمالی المفروض فی محل الکلام لتنجیز کلا الطرفین، أصل اقتراح هذا العلم الإجمالی حتّی ینجّز التکلیف الفعلی، ویکون منجّزاً للتکلیف الاستقبالی، لکن حیث أنّ التکلیف الاستقبالی تکلیفاً لیس فعلیاً والعلم الإجمالی إنّما ینجّز التکلیف إذا کان فعلیاً علی کل تقدیر، وهذا التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، اقتُرحت هذه الصیغة لسدّ هذا الفراغ، فقیل بأنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر إذا لاحظنا أنّ الطرف الآخر هو وجوب حفظ القدرة، لکن هذا الذی یقول بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه یری أنّ المکلّف ممنوع من تفویت الواجب فی ظرفه، وما ذلک إلاّ لما قلناه من أنّ هناک ملازمة عقلیة بین وجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه وبین المنع من تفویت الواجب فی ظرفه، وإلاّ لماذا أمره بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه ؟ مع السماح له بتفویت الواجب فی ظرفه؛ حینئذٍ غیر معقول أنّ یأمره بوجوب حفظ القدرة علی امتثال التکلیف فی ظرفه.

ص: 224

علی کل حال: یبدو أنّ الصحیح هو ما تقدّم من أنّ العلم الإجمالی فی النحو الأوّل المطروح فی البحث فعلاً، وهو ما إذا کان التکلیف خطاباً وملاکاً لیس فعلیاً الآن، بأن یکون الزمان المتأخّر دخیلاً فی التکلیف خطاباً وملاکاً. الصحیح فی هذا النحو هو أنّ العلم الإجمالی ینجّز التکلیف کما هو فی العلم الإجمالی العادی عندما تکون أطرافه لیس تدریجیة، لا فرق بین العلم الإجمالی العادی الذی تکون أطرافه لیست تدریجیة، وبین العلم الإجمالی فی التدریجیات، کلٌ منهما یکون منجّزاً من دون أیّ فرقٍ بینهما.

ومنه یظهر الحال فی النحو الثانی، وهو ما إذا فرضنا أنّ الزمان المتأخّر دخیل فی التکلیف خطاباً لا ملاکاً، بأن نفترض أنّ التکلیف ثابت وفعلی الآن قبل الزمان المتأخّر، لکنّ الزمان المتأخّر دخیل فی الخطاب فی التکلیف الفعلی، فعلاً التکلیف لیس فعلیاً؛ لأنّ الزمان المتأخّر دخیل فیه، لکنّ الملاک ثابت الآن وفعلی والزمان المتأخّر لیس دخیلاً فیه، ممّا ذُکر فی النحو الأوّل یتبین الحال فی هذا النحو حیث تثبت المنجّزیة للعلم الإجمالی من بابٍ أولی؛ لأننا فرغنا عن المنجّزیة للعلم الإجمالی حیث یکون التکلیف خطاباً وملاکاً متأخّراً زماناً، التکلیف عندما یکون خطاباً وملاکاً متأخّراً زماناً قلنا بأنّ العلم الإجمالی ینجّز هذا التکلیف، فما ظنّک عندما یکون المتأخّر هو الخطاب فقط مع فعلیة الملاک، فیثبت التنجیز فیه من بابٍ أولی، ومثاله ما إذا نذر صوم یومٍ معیّن وتردد بین أوّل الشهر وبین وسط الشهر، قالوا أنّ التکلیف وجوب الوفاء بالنذر یکون ملاکه تاماً من البدایة، حتّی علی تقدیر أن یکون المنذور هو وسط الشهر، لکنّه من حین النذر یتم فیه الملاک، ملاکه یکون تامّاً. نعم، الخطاب، التکلیف بوجوب الصوم وفاءً للنذر لا یکون فعلیاً، فرضاً لاستحالة الواجب المعلّق، وإنّما یکون استقبالیاً، فالخطاب یکون متأخّراً، لکن الملاک یکون فعلیاً. هذا تثبت فیه المنجّزیة کما قلنا من بابٍ أولی.

ص: 225

وأمّا بناءً علی عدم المنجّزیة فی النحو الأوّل، لو قلنا بأنّ العلم الإجمالی فی النحو الأوّل لا ینجّز التکلیف؛ حینئذٍ یقع الکلام فی أنّ العلم الإجمالی فی النحو الثانی هل یکون منجّزاً بنکتة فعلیة الملاک، بنکتة أنّ الملاک فی النحو الثانی فعلی، وهذا ما لم نکن نفرضه فی النحو الأوّل، حیث لم نفرض فی النحو الأوّل أنّ الملاک فعلی، کلا الملاک لیس فعلیاً، والخطاب أیضاً لیس فعلیاً. الآن نضیف فی النحو الثانی عنصراً لیس موجوداً فی النحو الأوّل وهو أنّ الملاک فعلی، هذا هل یؤثّر فی منجّزیة العلم الإجمالی إذا لم نقل بالمنجّزیة فی النحو الأوّل، أو لا یؤثّر فی المنجّزیة ؟ فیقع البحث بهذا الشکل.

نُسب إلی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) القول بالمنجّزیة فی النحو الثانی؛ ولذا نُسب إلیه أنّه أختار التفصیل بین النحوین، الأوّل والثانی، وأنّه قال بالمنجّزیة فی النحو الثانی دون النحو الأوّل، ففصّل بینهما. هذا التفصیل لا یُفهم صراحةً من عبارة الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الرسائل، وإنّما قد یُفهم من ظاهر کلامه؛ لأنّه ذکر فی البدایة مثال المرأة الحائض کمثالٍ للعلم الإجمالی فی التدریجیات، ومنع من فعلیة الخطاب قبل الابتلاء بالحیض، قال أنّ الخطاب لا یکون فعلیاً قبل الابتلاء بالحیض، فالخطاب لیس فعلیاً، ثمّ قال:(ویشکل الفرق بین هذا وبین ما إذا نذر، أو حلف فی ترک الوطء فی لیلةٍ خاصّة، ثمّ اشتبهت بین لیلیتین، أو أزید). (1) کأنّه بنا علی عدم المنجّزیة فی مثال الحائض، ثمّ قال یشکل الفرق بینه وبین مثال النذر، ثمّ قال:(لکنّ الأظهر هنا __________ یعنی فی مثال النذر ___________ وجوب الاحتیاط، وکذا فی المثال الثانی من المثالین المتقدّمین). وجوب الاحتیاط یعنی منجّزیة العلم الإجمالی، فکأنّه فرّق بین مثال النذر ومثال التاجر من جهة، وبین مثال المرأة الحائض، استظهر فی الثانی وجوب الاحتیاط. من هنا فُهم التفصیل، أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) لا یقول بالمنجّزیة مطلقاً، ولا یقول بعدم المنجّزیة مطلقاً، وإنّما له تفصیل، والتفصیل بین مثال الحائض وبین مثال النذر، ما هو الفرق بینهما ؟ الظاهر أنّ الفرق بینهما هو أنّه فی مثال الحائض کما أنّ التکلیف لیس فعلیاً الملاک أیضاً لیس فعلیاً، وهذا هو النحو الأوّل، بینما فی مثال النذر ومثال التاجر التکلیف لیس فعلیاً؛ لأنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) یری استحالة الواجب المعلّق، لکنّ الملاک یکون فعلیاً، اتّصاف المعاملة بأنّها ربویة وفیها مفسدة تقتضی التحریم، هذا لا یتوقف علی حلول زمان المعاملة الربویة؛ لأنّ المعاملة الربویة تتصف بأنّها فیها مفسدة تقتضی التحریم من البدایة، فالملاک موجود فی المعاملة الربویة قبل حلول وقتها، کما أنّ ملاک وجوب الوفاء بالنذر موجود من حین النذر قبل حلول وقت المنذور، فالفرق بینهما هو أنّ الملاک فی مثال الحائض لیس فعلیاً کما هو الخطاب، بینما الملاک فی مثال النذر فعلی، فعندما یقول الأظهر وجوب الاحتیاط فی مثال النذر، بینما لم یقل فی مثال الحائض الأظهر وجوب الاحتیاط، هذا معناه أنّه یُفصّل بینهما، یعنی یُفصّل بین النحو الأوّل کما قلنا وبین النحو الثانی.

ص: 226


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج2، ص249.

أمّا احتمال أنّه یُفصّل بینهما علی اساس فعلیة الخطاب فی مثال النذر وعدم فعلیته فی مثال المرأة الحائض، هذا بعید؛ لأنّه هو یری استحالة الواجب المعلّق، هذا معناه أنّ التکلیف فی کلٍ منهما لیس فعلیاً، التکلیف لیس فعلیاً فی مثال الحائض، ولیس فعلیاً فی مثال النذر؛ لأنّه یری استحالة الواجب المعلّق.

إذن: المائز بینهما هو فعلیة الملاک فی الثانی وعدم فعلیته فی مثال الحائض؛ ولذا فی مثال الحائض قال بعدم المنجّزیة، وفی مثال النذر استظهر وجوب الاحتیاط ووجوب الموافقة القطعیة.

الوجه فی المنجّزیة بنکتة فعلیة الملاک؛ لأننا قلنا أنّ هذا الکلام إنّما یجری عندما نفترض القول بعدم المنجّزیة فی النحو الأوّل، فیقع الکلام فی النحو الثانی لأنّه تمیّز عن النحو الأوّل بفعلیة الملاک، هذه نکتة فعلیة الملاک کیف تقتضی تنجیز العلم الإجمالی ؟ استُدلّ علی هذا بدعوی أنّ العقل یستقلّ بقبح الإقدام علی ما یؤدّی إلی تفویت الملاک والغرض المُلزِم، عندما یکون الملاک مُلزِماً والغرض مُلزِماً العقل یستقل بقبح تفویته، من جهة العقل لا فرق فی القبح بین مخالفة التکلیف الفعلی وبین مخالفة الملاک الفعلی المُلزِم، الملاک المُلزِم بنظر المولی، تفویته وحکم العقل بقبح تفویته کما هو الحال فی التکلیف الفعلی، تفویت التکلیف الفعلی قبیح بنظر العقل، تفویت الملاک الفعلی أیضاً قبیح بنظر العقل، العقل یری أنّ الترخیص فی تفویت الملاک والغرض المُلزِم للمولی کالترخیص فی مخالفة التکلیف الفعلی للمولی، کلٌ منهما قبیح وکلٌ منهما غیر جائز باعتبار أنّ عدم التکلیف لیس لعدم المقتضی، فی مثال النذر لماذا لا یکون التکلیف فعلیاً علی تقدیر أن یکون المنذور فی المستقبل ؟ لیس لعدم المقتضی، وإنّما لوجود المانع، لاستحالة الواجب المعلّق، هذا هو الذی منع من فعلیة التکلیف، وإلاّ التکلیف تام الاقتضاء، المقتضی تام، وملاکه تام، وإنّما منع منه شبهة استحالة الواجب المعلّق، فإذن، عدم التکلیف إنّما هو لوجود المانع ولیس من جهة عدم المقتضی. إذن: المقتضی للتکلیف تام، وإنّما منع منه المانع، عدم التکلیف هذا لوجود المانع مع تمامیة المقتضی لا یفرّق العقل بینه وبین التکلیف الفعلی فی أنّ مخالفة کلٍ منهما قبیحة والترخیص فی مخالفة کلٍ منهما بنظر العقل أیضاً یکون قبیحاً. هذا هو الوجه فی المنجّزیة فی النحو الثانی إذا لم نقل بالمنجّزیة فی النحو الأوّل.

ص: 227

ثمّ أنّه علی تقدیر القول بعدم منجّزیة العلم الإجمالی للتکلیف فی باب التدریجیات، یقع الکلام فی أنّه هل یثبت بذلک عدم وجوب الموافقة القطعیة فقط ؟ أی لا یجب علی المکلّف أن یأتی بکلا الطرفین إذا کانت شبهة وجوبیة تدریجیة، ولا یجب علیه ترک کلا الطرفین إذا کانت الشبهة تحریمیة تدریجیة، هل الذی یثبت بذلک هو فقط عدم وجوب الموافقة القطعیة، أو یثبت مضافاً إلی ذلک جواز المخالفة القطعیة ؟ علم إجمالی غیر منجّز، فکما لا تجب موافقته القطعیة، کذلک لا تحرم مخالفته القطعیة، فیجوز للمرأة الحائض الدخول فی المسجد فی کلا الیومین، ویجوز لزوجها المقاربة فی کلا الیومین. وفی مثال التاجر یجوز له ارتکاب کل المعاملات خلال یومه مع علمه بأنّ فیها معاملة ربویة؛ لأنّ العلم الإجمالی غیر منجّز، فکما لا تجب الموافقة القطعیة کذلک لا تحرم المخالفة القطعیة. ما یترتب علی عدم التنجیز هل هو فقط عدم وجوب الموافقة القطعیة، أو یترتب علیه مضافاً إلی ذلک عدم حرمة المخالفة القطعیة ؟

الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) التزم بالثانی، یعنی التزم بعدم حرمة المخالفة القطعیة، أی لا تجب الموافقة القطعیة؛ بل تجوز المخالفة القطعیة، وعللّ ذلک بأنّ المفروض عدم تنجّز التکلیف الواقعی بالنسبة إلیه؛ فحینئذٍ إذا لم یتنجّز التکلیف الواقعی بالنسبة إلیه، فکما لا تجب موافقته القطعیة، کذلک لا تحرم مخالفته القطعیة. بعبارة أخری: یکون حال التکلیف فی المقام حال الشبهات البدویة، ففی الشبهات البدویة کما لا تجب موافقتها القطعیة لا تحرم مخالفتها القطعیة، مجرّد شبهةٍ تجری فیها الأصول المؤمّنة، فلا تحرم المخالفة القطعیة کما لا تجب الموافقة القطعیة؛ لأنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً للتکلیف، هذا التکلیف الواقعی عندما لا یتنجّز علی المکلّف؛ حینئذٍ لا یکون المکلّف مسئولاً تجاهه، لا بوجوب موافقته القطعیة ولا بحرمة مخالفته القطعیة. عللّ بهذا التعلیل.

ص: 228

المحقق النائینی(قدّس سرّه) عللّه بعدم تعارض الأصول، قال بأنّه کما لا تجب الموافقة القطعیة إذا لم نقل بالمنجّزیة، لا تحرم المخالفة القطعیة؛ لعدم تعارض الأصول فی المقام علی مبناه هو الذی هو مسلک الاقتضاء؛ وعدم تعارض الأصول لأنّه لا یلزم من جریانها الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المنجّز؛ لأننا فرضنا أنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً؛ فحینئذٍ لا تتعارض الأصول، فیمکن إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الأوّل وإجراء الأصل فی الطرف الثانی ممّا یؤدی إلی المخالفة القطعیة، وهذا لا مشکلة فیه؛ لأنّ الأصول لا تتعارض. (1)

هذا التعلیل بعدم تعارض الأصول یصح بالنسبة إلی عدم وجوب الموافقة القطعیة ___________ علی رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه) ____________ لأنّه یری أنّ وجوب الموافقة القطعیة من آثار تعارض الأصول، إنّما یجب الاحتیاط لیس لأنّ العلم الإجمالی علّة لوجوب الاحتیاط، وإنّما وجوب الموافقة القطعیة من آثار تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها، فتبقی الأطراف بلا مؤمّن، فیجب فیها الاحتیاط، فإذا کان وجوب الموافقة القطعیة من آثار تعارض الأصول یمکننا أن نعللّ عدم وجوب الموافقة القطعیة بعدم تعارض الأصول، فنقول أنّ الأصول فی المقام غیر متعارضة، فتکون علّة لعدم وجوب الموافقة القطعیة. هذا صحیح.

وأمّا حرمة المخالفة القطعیة، فهی علی رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه) لیست من آثار تعارض الأصول، وإنّما هی من لوازم العلم الإجمالی؛ ولذا هو یری کغیره أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، وإنّما الاختلاف بین مسلک الاقتضاء وبین مسلک العلّیة التامّة، إنّما هو بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، هو یری أنّ وجوب الموافقة القطعیة من نتائج تعارض الأصول وغیره یری أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه علّة تامّة لها، وأمّا حرمة المخالفة القطعیة، فالظاهر أنّه هو أیضاً یقول بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لها، أی لحرمة المخالفة القطعیة؛ فحینئذٍ تعلیل عدم حرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام بعدم تعارض الأصول لیس فنّیاً؛ لأنّ حرمة المخالفة القطعیة لیست من آثار تعارض الأصول حتّی نعللّ عدم الحرمة فی المقام بعدم التعارض، وإنّما ینحصر التعلیل بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، العلم الإجمالی حینئذٍ لیس منجّزاً، فإذا لم یکن منجّزاً لا تحرم المخالفة القطعیة.

ص: 229


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج2، ص273.

هذا تمام الکلام فی هذا التنبیه وهوالعلم الإجمالی فی التدریجیات، بعد ذلک ننتقل إلی بحثٍ آخر، وهو البحث عن الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف

الکلام فی الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی، وأنّه هل یسقطالعلم الإجمالی عن التنجیز، أو لا ؟

لو اضطر المکلّف إلی ترک أحد الطرفین فی الشبهة الوجوبیة، أو اضطر إلی فعل أحد الطرفین فی الشبهة التحریمیة، هذا هل یؤثّر فی العلم الإجمالی ویسقطه عن المنجّزیة، أو لا ؟ والثمرة تظهر فی الطرف الآخر إذا سقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة؛ فحینئذٍ لا یجب الإتیان بالفرد الآخر فی الشبهة الوجوبیة، ولا یجب ترک الفرد الآخر فی الشبهة التحریمیة، وإلاّ لا إشکال فی ارتفاع التکلیف عن الطرف الذی اضطر إلیه بسبب الاضطرار. فإن قلنا ببقاء العلم الإجمالی علی المنجّزیة؛ حینئذٍ یجب الاحتیاط فی الطرف الآخر، وإنّ قلنا بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، فلا یجب الاحتیاط فی الطرف الآخر.

التقسیم المتعارف فی هذه المسألة: هو تقسیم الاضطرار إلی قسمین؛ لأنّ الاضطرار تارةً یکون إلی طرفٍ معیّنٍ، وأخری یکون الاضطرار إلی طرفٍ غیر معیّنٍ، أی اضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه؛ ولذا ینعقد الکلام فی مقامین أساسیین، وکلامنا فعلاً فی:

المقام الأوّل: وهو ما إذا کان الاضطرار إلی طرفٍ معیّنٍ، من قبیل ما إذا علم بسقوط نجاسةٍ، إمّا فی هذا الماء الموجود فی هذا الإناء، أو فی الثوب، واضطر إلی شرب الماء لعطشٍ ونحوه، هذا اضطرار إلی أحد الطرفین بعینه؛ لأنّ الطرف الآخر لا یرفع اضطراره، وإنّما هذا هو الذی یرفع اضطراره. هنا ذکروا بأنّ هذا النحو من الاضطرار له ثلاثة صوّر، وتکلّموا عن هذه الصوّر:

ص: 230

الصورة الأولی: افتراض أنّ الاضطرار یکون حادثاً قبل التکلیف وقبل العلم به، هو مضطر إلی شرب هذا الماء لعطشٍ ونحوه، ثمّ بعد ذلک سقطت قطرة دم فی أحد الأمرین، إمّا هذا الماء الذی اضطر إلیه سابقاً، أو هذا الثوب ___________ مثلاً ___________ وعلم بنجاسة أحدهما، إمّا الماء، أو الثوب، فیکون الاضطرار سابقاً ومتقدّماً علی التکلیف وعلی العلم به إجمالاً. ونفس الکلام یقال فی ما إذا اقترن الاضطرار بالعلم بالتکلیف، یعنی هذان النحوان یُتکلّم عنهما فی هذه الصورة، لا فرق بین أن یکون الاضطرار متقدّماً، أو یکون الاضطرار مقارناً للعلم، المهم هو أنّه عندما یعلم بالتکلیف هناک اضطرار إلی طرفٍ بعینه، سواء کان هذا الاضطرار سابقاً، أو کان مقارناً للعلم بالتکلیف، کلٌ منهما من وادٍ واحدٍ.

فی هذه الصورة ذکروا بأنّه لا إشکال ولا ینبغی أن یقع الخلاف فی عدم منجّزیة العلم الإجمالی، وذلک لعدم العلم بالتکلیف ولو إجمالاً، باعتبار أنّ أحد الطرفین، وهو الماء لا یحرم شربه حتّی علی تقدیر سقوط النجاسة فیه؛ لأنّه مضطر إلیه، والمفروض أنّ الاضطرار ثابتٌ قبل سقوط النجاسة، أو مقارن للعلم الإجمالی بها، حتّی علی تقدیر سقوط النجاسة فی الماء، هذا لا یوجب حدوث تکلیفٍ بالنسبة إلی هذا المکلّف، باعتبار الاضطرار. نعم، علی تقدیر سقوط النجاسة فی الطرف الآخر، یعنی فی الثوب، سوف یکون موجباً لحدوث تکلیفٍ بالنسبة إلیه، لکن علی تقدیر سقوط النجاسة فی الماء الذی هو مضطر إلی شربه فعلاً، واضح أنّ سقوط النجاسة فی هذا الماء لا یحدث له تکلیفاً، فإذا فرضنا أنّه علی أحد التقدیرین سقوط النجاسة یُحدث تکلیفاً، وعلی التقدیر الآخر سقوط النجاسة لا یُحدث تکلیفاً. إذن: لا علم بالتکلیف علی کلا التقدیرین، وإنّما یکون عالماً بالتکلیف علی أحد التقدیرین، وهذا التقدیر مشکوک، فلا علم بالتکلیف، وإنّما یکون هناک شکّ فی التکلیف، ویُنفی بأصالة البراءة وتجری فیه الأصول المؤمّنة. هذا هو الوجه فی عدم منجّزیة العلم الإجمالی. وفی الحقیقة کأنّه یُراد أن یقال: لا علم إجمالی بالتکلیف فی المقام، لیس هناک علم بالتکلیف، وإنّما یکون هناک علم بالتکلیف عندما یکون التکلیف ثابتاً علی کلا التقدیرین، علی تقدیر أن تکون النجاسة فی هذا الإناء، یوجد تکلیف، وعلی تقدیر أن تکون فی ذاک الإناء یوجد تکلیف. إذن: المکلّف عالم بالتکلیف علی کل حال، لکن عندما لا یکون سقوط النجاسة فی أحد الطرفین موجباً لحدوث تکلیفٍ؛ لأنّه _____________ بحسب الفرض ___________ حین سقوط النجاسة هو مضطر إلی شرب ذلک الماء، هذا لا یحدث فیه تکلیفاً حتّی علی تقدیر سقوط النجاسة فیه، وإنّما یحدث تکلیفاً علی تقدیر سقوط النجاسة فی الطرف الآخر. إذن: لا علم بالتکلیف، هناک شکّ فی التکلیف، فتجری فیه الأصول المؤمّنة، وبهذا یکون الحکم فی هذه الصورة واضحاً ولا إشکال فیه؛ وحینئذٍ ینبغی الالتزام بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، فیجوز الرجوع إلی الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، یعنی فی الثوب فی المثال السابق.

ص: 231

واضح من هذا الکلام أنّ النکتة فی عدم المنجّزیة فی المقام هی عبارة عن عدم حدوث تکلیفٍ فی الطرف المضطر إلیه حتّی مع افتراض سقوط النجاسة فیه، هذه هی النکتة، أنّه لا یحدث تکلیف فی الطرف المضطرّ إلیه حتّی علی تقدیر سقوط النجاسة فیه، وعدم حدوث تکلیفٍ فی هذا الطرف حتّی لو سقطت النجاسة فیه هو الذی یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ إذ لا علم حینئذٍ بالتکلیف علی کل حال، وإنّما یکون التکلیف مشکوکاً، فتجری الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، فالنکتة هی أنّه علی تقدیر سقوط النجاسة فی هذا الطرف المعیّن المضطر إلیه لا یحدث تکلیفاً للمکلّف، فیکون التکلیف حینئذٍ مشکوکاً. هذه النکتة تکون موجودة ومتحققة فی ما إذا فرضنا استمرار الاضطرار وبقاءه وامتداد أمده مع أمد التکلیف، أو أزید منه؛ حینئذٍ تکون هذه النکتة محفوظة، الاضطرار ممتد بامتداد التکلیف؛ بل لعلّه یستمر حتّی بعد انتهاء مدّة التکلیف، فی هذه الحالة یقال: أنّ سقوط قطرة الدم فی هذا الإناء المعیّن فی الماء فی المثال لا یحدث تکلیفاً؛ لأنّ المفروض استمرار الاضطرار إلی ما بعد التکلیف، أو أنّه یستمر باستمرار التکلیف، دائماً الاضطرار موجود، فی هذه الحالة سقوط قطرة الدم فی الماء لا یُحدث تکلیفاً؛ لمکان الاضطرار.

وأمّا إذا فرضنا عدم استمرار الاضطرار والعلم بارتفاعه وانتهاء أمده قبل انتهاء أمد التکلیف، الاضطرار له وقت مخصوص، هو مضطر إلی ارتکاب هذا الطرف، لکن فی وقتٍ مخصوصٍ، بعد ذلک یرتفع اضطراره، لکنّ أمد التکلیف ووقته مستمر وباقٍ حتّی بعد ارتفاع الاضطرار، کما إذا فرضنا فی المثال السابق أنّه اضطر إلی شرب الماء فی وقتٍ محدودٍ، کما لو کان فی صحراءٍ فاضطر إلی شرب الماء، وکان الماء الذی وقع طرفاً للعلم الإجمالی کثیراً، واضطر إلی شربه فی وقتٍ محدودٍ ویرتفع الاضطرار بعد هذا الوقت المحدود، لکنّ التکلیف یبقی مستمراً وثابتاً علی تقدیر أن تکون النجاسة واقعة فی هذا الماء، ماء موجود، علی تقدیر سقوط النجاسة فیه یرتفع هذا التکلیف ما دام الاضطرار موجوداً، أمّا بعد ارتفاع الاضطرار فالتکلیف ثابت فی ذلک الماء، فیحرم شربه علی تقدیر سقوط النجاسة فیه، فی هذه الحالة لماذا نقول بأنّ سقوط النجاسة فی هذا الطرف لا یُحدث تکلیفاً حتّی یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز ؟ بل یحدث تکلیفاً، غایة الأمر أنّ هذا التکلیف الذی یحدث بسبب سقوط النجاسة فی الماء هو تکلیف معلّق علی زوال الاضطرار، یحرم علیک شرب هذا الماء إذا زال عنک الاضطرار؛ إذ لا مانع من افتراض تکلیفٍ من هذا القبیل، لا مانع ثبوتاً ولا إثباتاً من افتراض تکلیفٍ معلّق ٍ علی زوال الاضطرار، فإذا فرضنا أنّ سقوط النجاسة فی الماء یُحدث تکلیفاً من هذا القبیل، یُحدث تکلیفاً معلّقاً علی زوال الاضطرار؛ إذ لا محذور فی افتراض تکلیفٍ من هذا القبیل؛ حینئذٍ یبقی العلم الإجمالی علی منجّزیته؛ لأنّ المکلّف حینئذٍ یعلم بتکلیفٍ علی کل تقدیر، غایة الأمر أنّ أحد التکلیفین یبدأ من الآن علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الثوب، من الآن یحرم علیک استعماله، بینما علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الماء، فهو یُحدث تکلیفاً، لکن لا یبدأ من الآن، وإنّما یبدأ من حین زوال الاضطرار، هذا تکلیف لا مانع من کونه منجّزاً بالعلم الإجمالی، وحیث أنّ الطرف الآخر هو الطرف الثانی للعلم الإجمالی، فالعلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین، فهو ینجّز التکلیف فی الماء بعد زوال الاضطرار، وینجّز التکلیف فی الثوب من الآن، وهذا معناه أنّه لا یجوز الرجوع إلی الأصول المؤمّنة فی الثوب، وهذا یعنی أنّ العلم الإجمالی منجّز، وأنّ الغرض من التنجیز یظهر فی الطرف الآخر، فی الطرف الآخر لا یجوز الرجوع إلی الأصول المؤمّنة؛ لأنّ الطرف الآخر وقع کعلمٍ إجمالیٍ بالتکلیف علی کل تقدیر، غایة الأمر أنّ التکلیف علی أحد التقدیرین لا یبدأ من الآن، وإنّما یبدأ فی ما بعد، ولا مانع من افتراض تکلیفٍ من هذا القبیل معلّق علی زوال الاضطرار، (مثال): إذا فرضنا أنّ المکلّف اضطر إلی استعمال إناءٍ معیّنٍ، ثمّ علم بعد ذلک أنّه: إمّا هذا الإناء المعیّن الذی اضطر إلی استعماله مغصوب، أو إناء آخر مغصوب، هذا یکون ممّا نحن فیه، الاضطرار متقدّم علی العلم الإجمالی وعلی التکلیف، ونفترض أنّ الغصبیة حدثت بعد ذلک وعلم بها إجمالاً بعد الاضطرار، مع افتراض أنّ اضطراره إلی استعمال هذا الإناء المعیّن هو فی هذا الیوم، أمّا فی یوم غدٍ هو غیر مضطر إلی استعمال هذا الإناء، اضطراره مؤقت بوقتٍ معیّن وهو هذا الیوم، فی هذه الحالة العلم الإجمالی موجود، علمٌ بتکلیفٍ علی کل تقدیر، علی تقدیر أن یکون المغصوب هو الإناء الآخر، فالتکلیف ثابت من الآن، من الآن یحرم استعماله، وعلی تقدیر أن یکون الإناء المغصوب هو الإناء الذی اضطر إلی استعماله، فالتکلیف فیه موجود، لکن بعد زوال الاضطرار.

ص: 232

بعبارةٍ أخری: هو یعلم الآن بأنّه إمّا أن یحرم علیه استعمال الإناء الأبیض یوم غدٍ فصاعداً، وإمّا أن یحرم علیه استعمال الإناء الآخر من الآن، هذا علم إجمالی بالتکلیف علی کل تقدیر یکون منجّزاً ولا مجال إلی الرجوع إلیالأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر. فالکلام الذی ذُکر فی أنّ الصورة الأولی لا إشکال فی عدم المنجّزیة فیها إنّما یتم عندما یُفترض استمرار الاضطرار وبقاؤه، فی هذه الحالة سقوط قطرة النجاسة فی الماء فی الإناء المعیّن فی المثال السابق لا یحدث تکلیفاً؛ لأنّ المفروض أنّ الاضطرار یستمر باستمرار التکلیف؛ بل لعلّه یبقی حتّی إلی ما بعد انتهاء التکلیف. إذن: لا تکلیف، باعتبار بقاء الاضطرار واستمراره، فعلی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال هو هذا الطرف هذا لا یحدث تکلیفاً، فلا یبقی إلاّ احتمال التکلیف فی الطرف الآخر علی تقدیر سقوط قطرة الدم فیه، وهذا احتمال التکلیف یُرجع فیه إلی الأصول المؤمّنة، ویصحّ ما ذُکر من أنّه یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. أمّا عندما نفترض هذا المثال، اضطرار مؤقت فی ساعةٍ معیّنةٍ هو اضطر إلی استعمال إناءٍ معیّنٍ، ولنفترضه مغصوباً، هو یُکلّف بحرمة استعماله بعد زوال الاضطرار، یُکلّف تکلیفاً مُعلّقاً علی زوال الاضطرار، وفی موارد العلم الإجمالی المکلّف یعلم إجمالاً بأنّه إمّا أن یحرم علیه استعمال هذا الإناء الأبیض المضطر إلی استعماله خلال ساعة، إمّا أن یحرم علیه استعماله بعد الساعة، أو یحرم علیه استعمال الإناء الآخر من الآن، وهذا علم إجمالی ینجّز الطرف الآخر، فلابدّ من تقیید هذه الصورة، ولعلّ مقصودهم هو ما إذا فُرض استمرار الاضطرار باستمرار التکلیف، أو بقاء الاضطرار حتّی أزید من مدّة التکلیف. هذا الکلام فی الصورة الأولی.

ص: 233

وأمّا فی الصورة الثانیة: أن نفترض أنّ الاضطرار یکون حادثاً بعد التکلیف وبعد العلم به، تماماً عکس الصورة الأولی، فی الصورة الأولی کان الاضطرار قبل التکلیف وقبل العلم به، کما إذا فرضنا أنّ النجاسة سقطت فی أحد الإناءین، وعلم المکلف بها إجمالاً، لکن تردد أنّها سقطت فی هذا الإناء، أو فی هذا الإناء، فالتکلیف حدث وعلْم المکلّف إجمالاً بالنجاسة أیضاً حدث، بعد ذلک اضطرّ إلی أحد الطرفین بعینه کما فی مثال الثوب. هذه الصورة هی محل الخلاف فیما بینهم حیث نُسب إلی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) أنّه اختار التنجیز فی هذه الصورة، وعدم انحلال العلم الإجمالی وتبعه جملة من المحققین المتأخّرین کالمحقق النائینی والسید الخوئی(قدّس سرهما). صاحب الکفایة(قدّس سرّه) له رأیان فی هذه المسألة، رأی ذکره فی متن الکفایة، ورأی ذکره فی الحاشیة التی ذکرها علی الکفایة. فی المتن اختار عدم المنجّزیة، (1) وانحلال العلم الإجمالی فی ما إذا کان الاضطرار متأخّراً عن التکلیف وعن العلم بالتکلیف، قال لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً، لکنّه فی الحاشیة عدل عن ذلک وذهب إلی بقاء التنجیز بالنسبة إلی الطرف الآخر. ما یظهر من صاحب الکفایة (قدّس سرّه) فی مقام الاستدلال علی ما ذکره فی المتن من عدم المنجّزیة فی هذه الصورة الثانیة، هو أنّه رکّز علی مسألّة أنّ التنجیز من توابع وجود المنجّز ویدور مداره وجوداً وعدماً، والمنجّز فی محل کلامنا لیس هو إلاّ العلم الإجمالی، فهو الذی یُدّعی کونه منجّزاً للتکلیف، وهذا معناه بناءً علی ما ذکره من أنّ التنجیز یدور مدار المنجّز وجوداً وعدماً، فهذا معناه أنّه إذا کان العلم الإجمالی باقیاً فالتنجیز باقٍ، لکن إذا ارتفع العلم الإجمالی قهراً یرتفع التنجیز.

ص: 234


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص359.

الآن هو یرید أن یثبت فی هذه الصورة أنّ العلم الإجمالی مرتفع، وبالتالی یرتفع التنجیز، یقول لا وجود للعلم الإجمالی فی المقام؛ فحینئذٍ یرتفع التنجیز، لماذا العلم الإجمالی غیر موجود فی محل الکلام ؟ یقول: بعد فرض الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه لا یبقی علم بالتکلیف؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون سبب التکلیف الطرف المضطرّ إلیه، فلا یوجد تکلیف؛ لأننا فرضنا حدوث الاضطرار، اضطرّ إلی ارتکاب هذا الإناء، فعلی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی هذا الإناء، فلا تکلیف. نعم، علی تقدیر أن تکون ساقطة فی الثوب یکون هناک تکلیف. إذن: لا یوجد علم بالتکلیف، کما أنّه فی الصورة الأوّلی قیل لا علم بالتکلیف، هنا أیضاً یقول فی المقام لا یوجد علم بالتکلیف، لا فرق فی زوال العلم الإجمالی بالتکلیف بین تقدّم الاضطرار وبین تأخّره، بمجرّد حدوث الاضطرار یرتفع التکلیف. إذن: علی أحد التقدیرین التکلیف مرتفع. نعم، علی التقدیر الآخر یکون التکلیف موجوداً. إذن، هناک شکّ فی التکلیف ولیس هناک علم بالتکلیف، فإذا ارتفع العلم الإجمالی، یعنی ارتفع العلم بالتکلیف، یعنی ارتفع المنجّز، إذن، لا تنجیز، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. هذا ما ذکر فی المتن فی مقام الاستدلال علی عدم المنجّزیة.

قبل التعرّض إلی مناقشته، هو نقض علی نفسه نقضاً وأجاب عنه، حاصل النقض: إذا کان العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز بارتفاع التکلیف باعتبار الاضطرار، فینبغی أن نلتزم بذلک بفقدان بعض الأطراف؛ بل ینبغی ___________ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذکر النقض بالفقدان فقط ___________ تعمیم النقض کما یقول السیّد الخوئی(قدّس سرّه) (1) إلی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ولا یختص بالفقدان، ویشمل حتّی الامتثال والعصیان؛ لأنّه فی جمیع هذه الموارد یسقط التکلیف، کما أنّ التکلیف یسقط بالاضطرار کذلک یسقط بفقدان الموضوع، إذا فُقد الموضوع یسقط التکلیف، إذا خرج الموضوع عن محل الابتلاء یسقط التکلیف، وإذا امتثل یسقط التکلیف، وإذا کان علم إجمالی صلاة واجبة دائرة بین الظهر والجمعة، هو صلّی صلاة الجمعة، فهذا التکلیف یسقط بالنسبة إلی صلاة الجمعة علی تقدیر أن تکون هی الواجبة، فیکون التکلیف بالنسبة إلی صلاة الظهر مشکوکاً؛ إذ لا علم بالتکلیف بعد الامتثال، فُقد أحد الطرفین یسقط التکلیف بالنسبة إلیه حتّی لو کان هو الواجب واقعاً، أو کان هو النجس واقعاً، لا معنی للتکلیف بموضوع مفقود لاوجود له فی الخارج، أو خرج عن محل الابتلاء، یسقط عنه التکلیف. إذا کانت النکتة فی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز فی محل کلامنا وهو الاضطرار هی أنّه حین حدوث الاضطرار یسقط التکلیف، وبالتالی فلا علم بالتکلیف، فلا منجّز، فلا تنجیز، إذا کانت هذه هی النکتة، فسقوط التکلیف لا یختص بالاضطرار؛ بل یثبت حتّی فی موارد فقدان الموضوع، إذا فُقد أحد الطرفین یسقط التکلیف بالنسبة له، ویکون هناک شکّ فی التکلیف فقط بالنسبة للطرف الموجود، فلا علم بالتکلیف، وإذا خرج عن محل الابتلاء أیضاً کذلک، وإذا امتثل أیضاً یسقط التکلیف بالنسبة إلیه، فینبغی تعمیم عدم المنجّزیة إلی کل هذه الموارد، والحال أنّه لا یلتزم بذلک، لا یلتزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة بفقدان بعض أطرافه، وإنّما یبقی علی منجّزیته، ولا یلتزم بسقوطه عن المنجّزیة بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء بعد تشکیل العلم الإجمالی؛ فلذا سجّل نقضاً علی نفسه.

ص: 235


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص387.

أجاب عن هذا النقض: بأنّ الاضطرار من حدود التکلیف، باعتبار أنّ التکلیف من أوّل حدوثه یکون مقیّداً بعدم الاضطرار، بخلاف الفقدان، فأنّه لیس من حدود التکلیف، وإنّما یکون ارتفاع التکلیف بفقدان بعض الأطراف من قبیل انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه، بخلاف الاضطرار، فهو من قیود التکلیف، فیرتفع التکلیف عند انتفاء قیده، التکلیف محدود بالاضطرار، أو قل بعبارة أخری لغرض التوضیح لیس إلاّ، التکلیف مقیّد بعدم الاضطرار، فإذا حصل الاضطرار یرتفع التکلیف؛ لأنّه مقیّد بعدمه، بینما الفقدان لیس کذلک، التکلیف لیس محدوداً بالفقدان، ولیس مقیّداً بعدم الفقدان. نعم، بفقدان بعض الأطراف یرتفع التکلیف، لکن یکون ارتفاعاً من باب ارتفاع التکلیف بارتفاع موضوعه. هذا جوابه فی المتن عن هذا النقض، ففرّق بین الاضطرار وبین فقدان الطرف.

الذی یُلاحظ علی کلامه هذا کلّه، أصل الاستدلال وجواب النقض: أمّا بالنسبة لجواب النقض الذی ذکره، یبدو أنّ الخصوصیات والقیود المأخوذة فی الموضوع حالها حال الموضوع ولا فرق بینهما، الخصوصیات والقیود المأخوذة فی موضوع التکلیف دخیلة فی التکلیف، ودخیلة فی فعلیة التکلیف، کما هو الحال بالنسبة إلی نفس الموضوع، کما أنّ الموضوع دخیل فی التکلیف، وهذا واضح جدّاً، الخصوصیات التی تؤخذ فی موضوع التکلیف أیضاً تکون دخیلة فی التکلیف، کما أنّ الحکم ینتفی بانتفاء موضوعه کذلک ینتفی الحکم بانتفاء خصوصیة مأخوذة فی موضوعه، وفی جمیع هذه الحالات یکون انتفاء الحکم من باب انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه، الخصوصیة المأخوذة فی الموضوع هی جزء من الموضوع، معناه أنّ موضوع الحکم لیس هو الموضوع المطلق، وإنّما هو الموضوع زائداً هذه الخصوصیة، فعندما تنتفی الخصوصیة، فهذا معناه انتفاء الموضوع فی الحقیقة؛ لأنّ الموضوع بلا خصوصیة لیس هو الموضوع للتکلیف، وإنّما الموضوع للتکلیف هو الموضوع بتلک الخصوصیة، بذلک القید، ولا فرق بینهما فی أنّ انتفاء الحکم بانتفاء الخصوصیة، أو بانتفاء أصل الموضوع مثل فقدان الموضوع، أو إعدام الموضوع یکون من باب انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه، ولا فرق بینهما، هو یمیّز کأنّه فی باب الاضطرار یکون الانتفاء لیس من باب انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه، کلا، هو من باب انتفاء الحکم من باب انتفاء موضوعه؛ لأنّه هو یقول بأنّ التکلیف محدود بالاضطرار، یعنی بأنّ الفعل المقیّد بعدم الاضطرار یتعلّق به التکلیف، عدم الاضطرار خصوصیة أُخذت فی موضوع التکلیف، فما یُکلّف به المکلّف هو الموضوع المقدور علیه، الموضوع الذی لا یضطر إلی ترکه.....وهکذا، هی خصوصیة فی الموضوع، فعندما یحدث الاضطرار، إذا کان القید هو عدم الاضطرار ینتفی الحکم بانتفاء موضوعه کما هو الحال لو انتفی الموضوع أساساً، فقدان الموضوع، هنا أیضاً کما ینتفی الحکم بانتفاء موضوعه، انتفاء القید الذی هو عدم الاضطرار وتبدّله بحصول الاضطرار أیضاً ینتفی الحکم بانتفاء موضوعه؛ لأنّ موضوع الحکم بعد افتراض أنّ هناک تحدیداً وتقییداً یکون موضوع الحکم هو الفعل المقدور علیه، أو هو الفعل الذی لا یضطر المکلّف إلی فعله أو إلی ترکه، هذا هو موضوع الحکم، فإذا حصل الاضطرار ینتفی موضوع الحکم، وإذا انتفی موضوع الحکم ینتفی التکلیف بلا إشکال، فلا فرق بینهما من هذه الجهة.

ص: 236

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف

کان الکلام فی ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی المتنوذهب فیه إلی عدم المنجّزیة، یُلاحظ علی ما ذکره من النقض ما ذکرناه فی الدرس السابق وکان حاصله أنّ التکلیف کما یرتفع بالاضطرار کذلک یرتفع بفقدان الموضوع، ویرتفع بخروج الطرف عن محل الابتلاء، ویرتفع أیضاً بامتثال أحد الطرفین، فی کل هذه الحالات لا علم بالتکلیف، بعد امتثال أحد الطرفین لا یبقی علم بالتکلیف، وبعد خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء لا یبقی علم بالتکلیف؛ حینئذٍ السؤال هو: إذا کان الکل یشترکون فی هذه الجهة، فلماذا لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً فی موارد الاضطرار، ویکون منجّزاً فی موارد فقدان بعض الأطراف، ویکون منجّزاً فی موارد خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بعد العلم ؟ کلامنا فی الاضطرار بعد العلم الإجمالی، فإذا خرج أحد الأطراف عن محل الابتلاء بعد العلم الإجمالی، أو فُقد أحد الطرفین بعد العلم الإجمالی، هنا لا یلتزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، وإنّما یلتزم ببقاء العلم الإجمالی علی تنجیزه، ویؤثّر تنجیزه فی الطرف الآخر، فلماذا یقال هنا ببقاء العلم علی التنجیز، بینما یقول فی موارد الاضطرار المتأخّر عن العلم الإجمالی بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز مع أنّه لا ینبغی التفریق بینهما؛ لما قلناه من أنّه لا علم بالتکلیف فی جمیع هذه الموارد، کما لا علم بالتکلیف بعد الاضطرار إلی بعض الأطراف المعیّن، کذلک لا علم بالتکلیف بعد خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فالتفریق بینهما یبدو أنّه لیس تامّاً.

ص: 237

الملاحظة الثانیة: علی أصل الاستدلال الذی ذکره، وکان یعتمد علی نکتة أنّه بعد الاضطرار ___________ کلامنا فی ما إذا کان الاضطرار متأخّراً عن العلم الإجمالی ____________ لا علم بالتکلیف؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة ___________ مثلاً ____________ ساقطة فی الطرف الذی اضطر إلیه لا تکلیف فیه، وإنّما هناک شکٌ فی التکلیف علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الطرف الآخر. إذن: حال الاضطرار لا یوجد علم بالتکلیف، یزول العلم الإجمالی بالتکلیف الذی کان موجوداً سابقاً، وحیث أنّه ذکر أنّ التنجیز إنّما یکون حیث یکون هناک منجّز، أیّ أنّ التنجیز تابعٌ لوجود منجّزٍ کما هو واضح، فإذا ارتفع المنجّز ارتفع التنجیز، والمنجّز فی المقام هو العلم الإجمالی وبعد الاضطرار یرتفع العلم الإجمالی؛ لأنّه لا علم بالتکلیف، لا یستطیع أن یقول بعد الاضطرار أنا أعلم بوجود تکلیفٍ، ویُقسِم علی ذلک، وإنّما یحتمل التکلیف، فبعد ارتفاع العلم الإجمالی؛ حینئذٍ لا منجّز، فإذا لم یکن هناک منجّز، لا یکون هناک تنجیز، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. هذا هو دلیله(قدّس سرّه).

والجواب عنه هو: لا یمکن إنکار سقوط التکلیف عن الطرف المضطر إلیه بسبب الاضطرار، علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الطرف الذی اضطر إلیه، التکلیف فی هذا الطرف یسقط بلا إشکال، لکن الکلام فی أنّ سقوط التکلیف بسبب الاضطرار هل یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، أو لا ؟ هو کأنّه یفترض أنّ هذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ ولذا ذهب إلی عدم المنجّزیة، بینما الصحیح أنّ هذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، والسرّ هو أنّ هذا العلم الإجمالی حین حدوثه حدث منجّزاً للتکلیف؛ لأنّه عندما حدث هذا العلم الإجمالی لم یکن هناک اضطرار ____________ بحسب الفرض _____________ لأنّ الاضطرار متأخّرٌ عن العلم الإجمالی، حینما حدث العلم الإجمالی لم یکن هناک اضطرار، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی حینما حدث، حدث منجّزاً للتکلیف، العلم الإجمالی نجّز التکلیف فی وقته وحین حدوثه، والعلم الإجمالی حینما یحدث منجّزاً للتکلیف لا یخرج عن صفة المنجّزیة بمجرّد سقوط التکلیف بسبب الاضطرار؛ بل یبقی علی تنجیزه؛ لأنّه حینما حدث، حدث منجّزاً، وسقوط التکلیف بسبب الاضطرار، أو بسبب خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو بسبب فقدان بعض الأطراف، وانعدام الموضوع فی بعض الأطراف، هذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز بعد أن حدث منجِّزاً للتکلیف کما قلنا؛ بل یبقی العلم الإجمالی علی تنجیزه، والاضطرار المتأخّر عنه لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، وهذا الأمر طبیعی جدّاً، لو فرضنا أنّ شخصاً نذر أن یصوم أحد یومین ترددّ بینهما، إمّا الخمیس، أو الجمعة، فصام الخمیس، بعد صومه للخمیس لا علم بالتکلیف، لیس عنده علم بالتکلیف بالصوم؛ لأنّه یحتمل أنّ ما ألزم به نفسه هو صوم یوم الخمیس، وقد أدّاه، بعد یوم الخمیس لا علم بالتکلیف بالصوم، لکن مع ذلک العلم الإجمالی یبقی علی تنجیزه؛ لأنّ العلم الإجمالی حینما حدث، حدث منجّزاً، عندما حدث هو نجّز التکلیف فی کلا الطرفین، وسقوط التکلیف فی أحدهما بسبب الامتثال، أو العصیان، أو خروجه عن محل الابتلاء، أو بسبب الاضطرار إلیه، هذا لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة؛ بل قالوا أنّ هذا ثابت حتّی فی العلم التفصیلی بالتکلیف، عندما یعلم بأنّ شیئاً معیّناً وجب علیه، بعد ذلک شکّ فی امتثاله، أی أنّه شکّ فی أنّ هذا الشیء الصادر منه هل یعتبر امتثالاً للتکلیف، أو لا یُعدّ امتثالاُ ؟ ومع الشکّ فی الامتثال لا یکون هناک علم ببقاء التکلیف، إذن، لا علم ببقاء التکلیف، لکن بالرغم من هذا العلم التفصیلی یبقی منجّزاً، یعنی یطلب من المکلّف الإتیان بذلک الفعل؛ لأنّ العلم عندما حدث نجّز متعلّقه، فتجری قاعدة الاشتغال، هذا التکلیف دخل فی العُهدة، فلابدّ من التیقن بخروجه عن عهدته، ومن الواضح أنّه إذا ترک الفعل واکتفی باحتمال الامتثال، لا یکون قد تیقّن بالفراغ والخروج عن العهدة مع أنّه لا یقین بالتکلیف عند الشکّ فی تحقق امتثاله، فالقضیة لا تختص بالعلم الإجمالی؛ بل حتّی فی موارد العلم التفصیلی، العلم مطلقاً، إجمالیاً کان، أو تفصیلیاً إذا حدث ونجّز التکلیف، فقد تنجّز التکلیف فی العهدة، فلابدّ من الاحتیاط، ولابدّ من الخروج عن عهدته یقیناً، سقوط التکلیف بعد ذلک لا یعنی زوال المنجّزیة عن ذلک العلم الإجمالی.

ص: 238

وبعبارةٍ أخری: کما ذکر صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی حاشیته؛ (1) لأننا قلنا أنّه فی حاشیته علی الکفایة عدل عن ما ذکره فی المتن، وذهب إلی المنجّزیة، أدخل المقام فی باب العلم الإجمالی المرددّ بین الفرد الطویل والفرد القصیر؛ حینئذٍ هذا العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین، بمعنی أنّ هذا المکلّف فی محل الکلام یعلم إجمالاً بوجوب الاجتناب عن هذا إلی زمان الاضطرار؛ لأنّ المفروض فی محل الکلام أنّ الاضطرار متأخّر عن العلم الإجمالی. فهو یعلم إجمالاً: إمّا بوجوب الاجتناب عن هذا قبل زمان الاضطرار، أو وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر من الآن إلی ما بعد زمان الاضطرار، فالفرد الطویل هو عبارة عن التکلیف فی الثوب علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الثوب، هذا تکلیف بالاجتناب عنه من الآن إلی ما بعد زمان الاضطرار إلی الطرف الآخر. والفرد القصیر هو أنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الماء فهو یعلم بوجوب الاجتناب عنه إلی حین حدوث الاضطرار، هو من البدایة یعلم إجمالاً بأنّه یجب علیه الاجتناب عن أحد الطرفین، غایة الأمر أنّ أحد الطرفین فردٌ طویلٌ یستمر وجوب الاجتناب عنه من الآن إلی ما بعد الاضطرار، لکن الفرد الآخر وجوب الاجتناب عنه قصیر؛ لأنّه یجب الاجتناب عنه إلی ما قبل حصول الاضطرار، أمّا إذا حصل الاضطرار یرتفع وجوب الاجتناب بلا إشکال، هذا علمٌ إجمالی منجّزٌ لکلا طرفیه، والثوب هو أحد الطرفین، وهذا العلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عن الثوب مطلقاً قبل الاضطرار، وبعد الاضطرار، وهذا هو معنی أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً، أثر التنجیز وبقاء التنجیز یظهر فی الطرف الآخر، أنّ الطرف الآخر یجب الاجتناب عنه؛ لأنّ العلم الإجمالی نجّز کلا الطرفین، وکان الثوب هو أحد طرفی العلم الإجمالی، والتکلیف الذی یتنجّز فیه هو عبارة عن وجوب الاجتناب من حین العلم الإجمالی إلی ما بعد الاضطرار، فیجب الاجتناب عنه، وهذا هو معنی المنجّزیة.

ص: 239


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص360، حاشیة رقم(1).

قد یقال فی مقام تقریب عدم المنجّزیة: بأنّ العلم الإجمالی هذا الذی ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی الحاشیة المردد بین القصیر وبین الطویل، هذا العلم الإجمالی منحلّ بعلمٍ إجمالیٍ بوجوب الاجتناب إمّا عن هذا الطرف، أو عن هذا الطرف قبل الاضطرار، هذا علم إجمالی لیس فیه شکّ، قطعاً قبل الاضطرار یجب علیه الاجتناب إمّا عن الماء، أو عن الثوب؛ لأنّ النجاسة التی علم بها هی إمّا ساقطة فی الماء، أو ساقطة فی الثوب، فإن کانت ساقطة فی الماء فیجب الاجتناب عنها قبل الاضطرار، وإن کانت ساقطة فی الثوب أیضاً یجب علیه الاجتناب عنها، وما زاد علی ذلک مشکوک، لا یوجد عنده علم إجمالی به، وجوب الاجتناب بعد الاضطرار لا یقین به، وإنّما هو مشکوک؛ لأنّ هذا وجوب الاجتناب إنّما یثبت علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الثوب، وهذا تقدیر مشکوک وغیر معلوم، فیکون وجوب الاجتناب فی مرحلة ما بعد الاضطرار مشکوکاً لا علم به، فإذن، یکون عندنا علم إجمالی بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین قبل الاضطرار، وشکّ فی وجوب الاجتناب بعد الاضطرار، مثل هذا العلم الإجمالی بهذا الشکل یوجب انحلال العلم الإجمالی المُدّعی فی المقام وهو العلم الإجمالی المردد بین الفرد القصیر والفرد الطویل، یقال بأنّ هذا العلم الإجمالی ینحلّ بعلمٍ إجمالیٍ بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین فی ما قبل الاضطرار، وشکّ فی ما زاد علی ذلک، وبالنتیجة بعد الانحلال الذی ینجّز هو العلم الإجمالی الذی صوّرناه قبل الاضطرار، ینجّز علی المکلّف وجوب الاجتناب عن هذا الطرف قبل الاضطرار، وهذا الطرف قبل الاضطرار، هذا صحیح، لکن بعد الاضطرار لا شیء ینجّز وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر، لا شیء ینجّز وجوب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّه لا علم، وإنّما هناک شکٌ فی التکلیف، فتجری فیه الأصول المؤمّنة، وبذلک انتهینا إلی عدم التنجیز بالمعنی الدقیق؛ لأننا قلنا أنّ التنجیز الذی نتکلّم عنه یظهر أثره فی الطرف، العلم الإجمالی الذی صوّره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لو تمّ ولم ینحل، فهو یمنع من استعمال الطرف الآخر؛ لأنّه صوّر علماً إجمالیاً دائراً بین الفرد القصیر وبین الفرد الطویل المستمر حتّی بعد الاضطرار، إذن، هو یمنع من استعمال الثوب حتّی بعد الاضطرار. هذا الاعتراض یقول أنّ هذا العلم الإجمالی منحلٌ بعلمٍ إجمالیٍ بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین قبل الاضطرار، وشکٌ فی وجوب الاجتناب بعد ذلک، فنلتزم بهذا العلم الإجمالی، ونلتزم بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین قبل الاضطرار، هذا صحیح، لکن بعد الاضطرار لا شیء ینجّز وجوب الاجتناب عن الثوب بعد الاضطرار، وهذا معناه عملیاً انحلال العلم الإجمالی وعدم بقائه علی التنجیز.

ص: 240

جوابه یکون بهذا الشکل: صحیح أنّ المکلّف یعلم بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین قبل الاضطرار، لکن یدّعی صاحب الکفایة (قدّس سرّه) لإثبات التنجیز أنّ المکلّف فی نفس الوقت یعلم بأنّه یجب علیه الاجتناب إمّا عن هذا الطرف قبل الاضطرار، وإمّا عن ذاک الطرف بعد الاضطرار، فکأنّه صار عنده علمان إجمالیان، علم بوجوب الاجتناب عن هذا قبل الاضطرار، وعن هذا قبل الاضطرار، لکن فی نفس الوقت عنده علم إجمالی آخر بوجوب الاجتناب عن هذا الماء قبل الاضطرار وعن الثوب بعد الاضطرار؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الثوب، فوجوب الاجتناب لا یختص بفترة ما قبل الاضطرار، وإنّما یستمر من حین العلم الإجمالی إلی ما بعد الاضطرار، علی تقدیر سقوط النجاسة فی الثوب لیس تکلیفاً ثابتاً فی الثوب فقط فی مرحلة ما قبل الاضطرار حتّی نقتصر علی العلم الإجمالی الذی أبرزه، وإنّما وجوب الاجتناب کما یثبت فی الثوب قبل الاضطرار، کذلک یثبت فی الثوب بعد الاضطرار. إذن، یصحّ للمکلّف أن یقول أنّی أعلم إمّا بوجوب الاجتناب عن الماء قبل الاضطرار الذی هو الفرد القصیر الذی صوّره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، وإمّا بوجوب الاجتناب عن الثوب بعد الاضطرار، هذا علم إجمالی صحیح، ینشأ من علمٍ إجمالی بسقوط النجاسة فی أحد الأمرین، إمّا الماء أو الثوب، فعزل مرحلة ما بعد الاضطرار بالنسبة إلی الطرف الآخر لیس صحیحاً، والادعاء بأنّها خالیة من العلم، وأنّها مجرّد شکّ. کلا، هی لیست شک، وإنّما هی طرف للعلم الإجمالی؛ لأنّه إن کانت النجاسة ساقطة فی الثوب کما قلنا، فهی تقتضی وجوب الاجتناب عنه قبل الاضطرار وبعده، فالمکلّف علی أحد التقدیرین یعلم بوجوب الاجتناب عن الثوب بعد الاضطرار کما یعلم بوجوب الاجتناب عنه قبل الاضطرار، وعلی التقدیر الآخر یعلم بوجوب الاجتناب عن الماء قبل الاضطرار، وهذا هو نفس العلم الإجمالی الذی صوّره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، وهو الجواب الصحیح عن أصل الاستدلال، وهو أنّ هناک علماً إجمالیاً مردداً بین الفرد القصیر وبین الفرد الطویل، وهو ینجّز الفرد الطویل علی امتداده، وبذلک یثبت التنجیز. هذه هی الصورة الثانیة من الصوّر المتصوّرة فی المقام التی کان الاضطرار فیها متأخّراً عن التکلیف وعن العلم الإجمالی.

ص: 241

الصورة الثالثة: وهی حالة وسطیة بین الصورتین السابقتین، وهی أن یُفترض أنّ الاضطرار حادثٌ بعد التکلیف وبعد سبب التکلیف، ولکنّه قبل العلم الإجمالی کما إذا فرضنا سقوط نجاسة إمّا فی الماء، أو فی الثوب، فحدث التکلیف، لکنّ المکلّف لم یکن عالماً بسقوط قطرة البول فی أحدهما، یعنی لم یکن عالماً بحدوث التکلیف، ثمّ اضطر المکلّف إلی شرب الماء، ثمّ علم بنجاسة أحدهما: إمّا الماء الذی اضطر إلی شربه، وإمّا الثوب، فیکون العلم الإجمالی بالتکلیف متأخّراً زماناً عن الاضطرار المتأخّر زماناً عن أصل التکلیف وحدوث سبب التکلیف، وهو سقوط قطرة البول.

الکلام یقع فی أنّ هذه الصورة الوسطیة هل تلحق بالصورة الأولی؛ لکی یثبت فیها عدم التنجیز ؟ أو تُلحق بالصورة الثانیة؛ لکی یثبت فیها التنجیز ؟ ذهب بعضهم، ویُنسب إلی المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی دورته الأولی أنّه ذهب إلی التنجیز، أنّ العلم الإجمالی هنا یکون منجّزاً کما هو الحال فی الصورة الثانیة المتقدّمة، واستُدلّ علی التنجیز فی الصورة الثالثة بدلیلین، أو أکثر:

الأوّل: ما نُقل عن المحقق النائینی(قدّس سرّه)، وحاصله: أنّ المکلّف یعلم بحدوث تکلیفٍ فعلی من البدایة؛ لأنّ المفروض فی هذه الصورة أنّ المکلّف بعد الاضطرار علم بسقوط النجاسة فی أحدهما سابقاً، إذن، المکلّف علم بالنجاسة الحادثة سابقاً المرددة بین الماء والثوب، إذن، المکلّف یعلم بتکلیفٍ فعلیٍ من أوّل الأمر، قطعاً من البدایة هو مکلّف بالاجتناب عن أحد الطرفین؛ لأنّ قطرة الدم، أو البول سقطت فی أحدهما، غایة الأمر أنّه لم یکن یعلم بذلک وبعد ذلک علم. هذا العلم بالتکلیف الفعلی من أوّل الأمر الذی یحصل فی المقام هو أنّه یشکّ فی سقوطه بالاضطرار، وهذا الشک بالسقوط ینشأ من أنّ النجاسة إن سقطت فی الماء فهذا التکلیف یسقط بالاضطرار، وإمّا إن سقطت فی الثوب، فهو لا یسقط بالاضطرار. هذا التکلیف الذی علم به من البدایة بحصول الاضطرار هو یشکّ فی سقوطه، إذا لم یحصل الاضطرار لا یحصل الشک، فهذا التکلیف موجود وینجّز علیه کلا الطرفین، لکن حیث أنّه اضطر إلی أحدهما المعیّن وهو شرب الماء، فهو یشکّ فی سقوط التکلیف الفعلی من البدایة، ومن الواضح أنّ الشک فی سقوط التکلیف هو مجری لأصالة الاشتغال ولیس مجری لأصالة البراءة، هذا لیس شکّاً فی التکلیف حتّی نجری فیه البراءة، ونقول بعد الاضطرار هناک شک فی التکلیف، فتجری الأصول المؤمّنة لنفیه، وإنّما هذا شک فی سقوط التکلیف المعلوم؛ لأنّه علم بالتکلیف الفعلی فی وقته ومن أوّل الأمر، وشکّ فی سقوطه وهو مورد لأصالة الاشتغال؛ وحینئذٍ لابدّ من البناء علی الاشتغال، ولابدّ من الاحتیاط فی الطرف الآخر، وهذا یعنی المنجّزیة، وهذا یعنی أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز الطرف الآخر، فیجب الاجتناب عنه، وإلاّ إذا لم یجتنب عن الطرف الآخر هو لم یخرج یقیناً عن عهدة التکلیف المعلوم. هذا التقریب الأوّل للمنجّزیة فی الصورة الثالثة.

ص: 242

هذا التقریب مبنی علی افتراض أنّ العلم المتأخّر ینجّز التکلیف المتقدّم، کما أنّ العلم المقارن للتکلیف ینجّز التکلیف کذلک العلم المتأخّر زماناً عن التکلیف ینجّز التکلیف من أوّل الأمر. هذا الکلام لیس واضحاً؛ لأنّه تقدّم سابقاً أنّ التنجیز حکمٌ عقلیٌ ولیس حکماً شرعیاً، وإنّما العقل یستقل بتنجیز التکلیف عندما یتعلّق الحکم به، وقد تقدّم سابقاً أنّ معنی حکم العقل بتنجیز التکلیف هو قبح المخالفة والعصیان ولزوم الإطاعة والامتثال، العقل یستقل بأنّ التکلیف عندما یتنجّز بالعلم یحکم بلزوم امتثاله ولزوم إطاعته وقبح مخالفته، هذا معنی التنجیز، ومن الواضح أنّ هذا لا معنی له بالنسبة إلی التکلیف المتقدّم؛ لأنّ التکلیف المتقدّم لا مجال لإطاعته، أو مخالفته الآن حتّی یحکم العقل بقبح مخالفته، هو انتهی فی زمانه، والآن لا وجود له، لا معنی لأن یحکم العقل من الآن بقبح مخالفته ولزوم إطاعته وامتثاله، فافتراض أنّ العلم الإجمالی ینجّز التکلیف فی وقته بحیث یکون التکلیف من أوّل الأمر منجّزاً هذا لا وجه له؛ لأنّه مبنی علی فکرة أنّ العلم الإجمالی المتأخّر ینجّز التکلیف المتقدّم، هذا نقوله فیما إذا فرضنا أنّ التکلیف السابق انقطع عن الزمان المتأخّر ولیس له ذیول باقیة فی الزمان المتأخّر، أمّا إذا کانت له ذیول؛ فحینئذٍ یمکن افتراض التنجیز، لکن لیس له ذیول، التکلیف انتهی فی وقته، الآن لیس له تبعات ومتعلّقات فی الزمان الحاضر؛ حینئذٍ نقول لا معنی لأن یحکم العقل بمنجّزیته وبلزوم إطاعته وامتثاله، وقبح مخالفته وعصیانه؛ لأنّه لا مجال لذلک فی التکلیف المتقدّم، وإنّما یکون هذا معقولاً عندما یکون العلم والتنجیز مقارناً للتکلیف زماناً. هذا التقریب الأوّل وجوابه.

ص: 243

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف

قلنا أنّ الجواب الصحیح عن الوجه الأوّل الذی استُدلّ به علی المنجّزیة فی الصورة الثالثة هو أن یقال أنّ العلم الإجمالی المتأخّر المتعلّق بالتکلیف السابق لا ینجّز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ، العلم الإجمالی لا ینجّز التکلیف إلاّ فی وقت حدوثه، أمّا أنّه ینجّز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ، فقلنا أنّ هذا لا معنی له؛ بل قلنا لعلّه یلزم منه التفکیک بین العلّة والمعلول.

نعم، فی بعض الأحیان لابدّ من استثناء هذا، أنّه فی بعض الأحیان قد یترتب شرعاً علی التکلیف فی زمانٍ سابقٍ أثر وتکلیف شرعی فی الزمان الّلاحق ومن هذا القبیل باب القضاء، القضاء هو أثر شرعی یترتّب علی تکلیفٍ سابقٍ، فیکون العلم بالتکلیف السابق کما هو المفروض، موجباً لترتّب الأثر فی زمان لاحق، فیجب القضاء، لکن هذا شیء آخر غیر محل الکلام، نحن لا نرید أن نثبت أثراً فی الزمان اللاحق یکون العلم بالتکلیف موجباً له، وإنّما نحن نتکلّم عن أنّ العلم الإجمالی المتأخّر هل یؤثّر فی تنجیز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ، أو لا ؟ هذا هو محل کلامنا. هذا الذی نقول لا معنی له، أنّ العلم الإجمالی المتأخّر هل یؤثّر فی تنجیز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ ؟ لکنّ ما ذُکر لیس من هذا القبیل، ما ذُکر هو عبارة عن أنّ موضوع وجوب القضاء هو التکلیف السابق، فإذا علم المکلّف بالتکلیف السابق، یعنی علم بموضوع وجوب القضاء، فیجب القضاء بلا إشکال، هذا اثر ترتّب شرعاً علی التکلیف السابق، فعند العلم بالتکلیف السابق، کما هو المفروض؛ حینئذٍ یترتّب هذا الأثر فی الوقت اللاحق، الآن یترتّب وجوب القضاء، وهذا شیء آخر غیر محل الکلام، نحن نتکلّم عن أنّ العلم الإجمالی المتأخّر هل یوجب تنجیز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ، أو لا یوجبه ؟ هذا شیء ووجوب القضاء شیء آخر، ومنه یظهر أنّ هذا الکلام لا یختص بالعلم الإجمالی؛ بل یشمل حتّی العلم التفصیلی، فی المثال السابق الذی ذکرناه وهو ما إذا علم بنجاسة الماء الذی اغتسل به قبل عدّة ایام _________ مثلاً _________ هنا لا مانع من أن نلتزم بوجوب قضاء الصلوات التی صلاّها اعتماداً علی الغسل بذلک الماء الذی علم الآن بأنّه نجس، لکن هذا لا یعنی أنّ العلم التفصیلی المتأخّر یوجب تنجیز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ، کلا، هذا العلم التفصیلی لیس موجباً لتنجیز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ، وإنّما العلم التفصیلی بنجاسة الماء یترّتب علیه أثر شرعی وهو نجاسة الماء الذی اغتسل به سابقاً، وهذا الأثر الشرعی هو وجوب قضاء الصلاة التی صلّاها بذلک الماء الذی ثبت وعلم أنّه نجس، فیترتّب هذا الأثر، الآن یترتّب هذا الأثر وهو وجوب القضاء، وهذا شیء آخر غیر أنّ العلم التفصیلی المتأخّر یکون موجباً لتنجیز التکلیف فی زمانٍ سابقٍ، لا فرق بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی من هذه الجهة فی أنّ کلاً منهما لا یکون موجباً لتنجیز التکلیف الذی یتعلّق به إلاّ من حین حدوثه، وأمّا قبل ذلک فهو لیس موجباً لتنجیز ذلک التکلیف.

ص: 244

وخلاصة الجواب هو: أنّ العلم الإجمالی المتأخّر عن الاضطرار لا یکون موجباً لتنجیز التکلیف، لا قبل الاضطرار ولا بعد الاضطرار. أمّا أنّه لا یوجب تنجیز التکلیف قبل الاضطرار، فلما قلناه من أنّ العلم الإجمالی المتأخّر لا یوجب تنجیز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ، ولا یوجب تنجیز التکلیف بعد الاضطرار باعتبار أنّ الاضطرار مانع من هذا التنجیز؛ لاحتمال أن تکون النجاسة ساقطة فی الإناء المضطر إلیه ومعه لا تکلیف، فکیف یتنجّز علیه التکلیف مع وجود هذا الاحتمال، وهذا هو الجواب الصحیح، وهذا هو الفارق فی الحقیقة بین الصورة الثانیة والصورة الثالثة، فی الصورة الثانیة العلم الإجمالی کان متقدّماً علی الاضطرار بحسب الفرض؛ حینئذٍ لا مانع من أن یکون هذا العلم الإجمالی ینجّز التکلیف قبل الاضطرار، وتقدّم أنّ الاضطرار المتأخّر لا یمنع من هذا التنجیز، العلم الإجمالی المتقدّم علی الاضطرار نجّز التکلیف، سواء کان فی هذا الطرف، أو کان فی ذاک الطرف، الاضطرار المتأخّر لا یمنع من هذا التنجیز؛ بل یبقی التنجیز علی حاله، وغایة ما یمکن أن یقال هو أنّ عمر أحد التکلیفین یکون أقصر من عمر التکلیف الآخر، فیتحوّل إلی تکلیفٍ قصیر العمر، وتکلیفٍ طویل العمر، النجاسة علی تقدیر أن تکون ساقطة فی الإناء الذی اضطر إلیه بعد ذلک یکون عمر هذا التکلیف قصیراً، لفترة ما قبل الاضطرار، وعلی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الفرد الآخر، فعمر هذا التکلیف یکون طویلاً، العلم الإجمالی قبل الاضطرار ینجّز التکلیف علی کل تقدیر، وبعد تنجیز التکلیف علی کل تقدیر، الاضطرار إلی أحد الطرفین لا یسقط هذه المنجّزیة؛ بل یبقی العلم الإجمالی علی منجّزیته للطرف الآخر ویمنع من جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر. هذا فی الصورة الثانیة.

ص: 245

بینما فی الصورة الثالثة الأمر لیس هکذا، المفروض فی الصورة الثالثة أنّ العلم الإجمالی متأخّر عن الاضطرار، تنجیز التکلیف قبل الاضطرار یتوقّف علی أن نقول أنّ العلم الإجمالی المتأخّر ینجّز التکلیف فی وقتٍ سابق، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی المتأخّر ینجّز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ یکون حال الصورة الثالثة حال الصورة الثانیة؛ لأنّ هذا العلم نجّز التکلیف قبل الاضطرار، فالاضطرار المتأخّر لا یمنع من هذا التنجیز کما یقال فی الصورة الثانیة. وأمّا إذا قلنا کما هو الصحیح أنّ العلم الإجمالی المتأخّر لا ینجّز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ، فالتکلیف لا منجّز له قبل الاضطرار، وإنّما تکون أشبه بالشبهة البدویة لا منجّز فیها؛ وحینئذٍ بعد طرو الاضطرار أیضاً لا یکون هناک علم بالتکلیف، أو بعبارة أخری: حین حدوث العلم الإجمالی فی الصورة الثالثة لا یکون هناک علم بالتکلیف؛ لاحتمال أن تکون النجاسة ساقطة فی الإناء الذی اضطر إلیه والتکلیف فیها یکون ساقطاً حتماً، واحتمال أن تکون النجاسة ساقطة فی الإناء الآخر هو مجرّد احتمال ومجرّد شکّ یمکن إجراء الأصول المؤمّنة بلحاظه، فلا یکون هذا موجباً لتنجیز العلم الإجمالی. هذا هو الوجه الأوّل لإثبات المنجّزیة فی الصورة الثالثة وقد تبیّن أنّه غیر تام.

الوجه الثانی لإثبات المنجّزیة فی الصورة الثالثة: هو الوجه الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) وأجاب عنه، (1) وحاصل ما ذکره أنّه یقول: فی الصورة الثالثة بعد فرض حصول العلم الإجمالی بنجاسة أحد الشیئین سابقاً، هذا هو محل کلامنا، النجاسة سقطت فی أحد الإناءین ولم یکن المکلّف یعلم بها، اضطر إلی أحد الطرفین بعینه، ثمّ علم إجمالاً بهذه النجاسة؛ بعد حدوث العلم الإجمالی، المکلّف حینئذٍ یعلم بثبوت تکلیفٍ قبل زمان الاضطرار، ولکنّه لا یعلم بأنّ هذا التکلیف، هل هو الفرد القصیر من التکلیف فی الطرف المضطر إلیه والذی سقط بسبب الاضطرار _________ بحسب الفرض __________ أو أنّه الفرد الطویل فی الطرف الآخر ؟ هو علم بالتکلیف قبل الاضطرار، لکنّه لا یعلم بأنّ هذا التکلیف هل هو فی هذا الطرف الذی اضطر إلیه وسقط التکلیف فیه بسبب الاضطرار، أو أنّه فی الطرف الآخر ؟ ویقول: بأنّ هذا الشکّ فی أنّ التکلیف الذی علم به إجمالاً المردد بین الطرفین، الطویل والقصیر، یکون موجباً للشکّ فی بقاء الجامع الذی علم به، المردد بین الفردین، فکأنّه یشکّ فی بقاء الجامع، یقول: فی هذه الحالة یمکنه إجراء الاستصحاب فی الجامع، فیستصحب بقاء الجامع إلی الآن، أرکان الاستصحاب متوفرة فی هذا الجامع؛ لأنّه علم بوجوده قبل الاضطرار ___________ بحسب الفرض ____________ ؛ لأنّه علم إجمالاً بسقوط نجاسة فی أحد الشیئین، یعنی علم بثبوت تکلیف، وهذا التکلیف مردد بین تکلیفٍ قصیر العمر، وبین تکلیفٍ طویل العمر، إن کان التکلیف الذی علم به إجمالاً قصیر العمر، فأنّه ارتفع بسبب الاضطرار، لکن إن کان التکلیف الذی علم به إجمالاً هو التکلیف الطویل العمر فهو باقٍ.

ص: 246


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص388.

إذن: هو یشکّ فی بقاء الجامع إلی الآن، باعتبار شکّه فی أنّ هذا الجامع الذی علم به هل هو متحقق فی الفرد الزائل حتماً، أو متحقق فی الفرد الباقی حتماً، هذا شکٌّ فی بقاء الجامع مع سبق العلم به، فتتوفّر أرکان الاستصحاب فی الجامع، فیجری استصحاب الجامع ویکون هذا من قبیل استصحاب الکلّی من القسم الثانی، الکلّی المردد بین الفرد الذی یُقطع بزواله والفرد الذی یُقطع ببقائه نظیر مثال الحدث، إذا تیقّن بالحدث المردد بین الحدث الأکبر والحدث الأصغر بعد أن توضأ، بعد الوضوء یکون هو متیقناً بکلّی الحدث سابقاً وشاکّاً فی بقائه؛ لأنّ الحدث الذی تیقن به قبل الوضوء سابقاً إن کان هو الأکبر، فهو باقٍ حتماً؛ لأنّه لا یرتفع بالوضوء، وإن کان هو الأصغر، فهو مرتفع قطعاً بالوضوء، وهو یشکّ فی بقاء کلّی الحدث، فیمکنه أن یجری الاستصحاب فی هذا الجامع، ما نحن فیه من هذا القبیل بالضبط؛ لأنّه علم إجمالاً بالتکلیف قبل الاضطرار، وهذا التکلیف مردد بین التکلیف القصیر والتکلیف الطویل، القصیر مرتفع حتماً علی تقدیره، والطویل علی تقدیره یکون باقیاً قطعاً، فیکون من استصحاب الکلّی من القسم الثانی.

یقول: بأنّ هذا الاستصحاب __________ استصحاب الجامع ___________ وإن کان لا یمکننا أن نثبت به الفرد الطویل العمر؛ لأنّه یکون أصلاً مثبتاً، استصحاب بقاء الجامع مع القطع بانتفاء هذا الفرد لازمه العقلی أنّه متحقق فی ضمن الفرد الطویل العمر، لکن إثبات هذا الفرد الطویل باستصحاب الجامع یکون أصلاً مثبتاً وهو لیس حجّة. یقول: هذا صحیح، أنّ استصحاب الجامع لا ینفع لإثبات أنّ التکلیف متحقق فی الفرد الطویل؛ لأنّه یکون أصلاً مثبتاً، لکن بعد أن ثبت بالاستصحاب توجّه التکلیف بالجامع إلی المکلّف؛ حینئذٍ العقل یحکم من دون أن نثبت الفرد الطویل؛ لأنّه اصل مثبت بالاستصحاب، لکن بعد أن ثبت التکلیف بالجامع، وبعد أن توجّه التکلیف بالجامع إلی المکلّف بواسطة استصحاب الجامع، العقل حینئذٍ یستقل بلزوم الخروج عن عهدة هذا التکلیف بالجامع الثابت بالاستصحاب، ومن الواضح أنّه لا یمکن الجزم بالخروج عن عهدة هذا التکلیف الثابت بالاستصحاب، والذی اشتغلت به الذمّة، إلاّ بامتثال الفرد الطویل، فلابدّ حینئذٍ من الإتیان بالفرد الطویل حتّی یقطع بالخروج عن عهدة التکلیف الذی اشتغلت به الذمّة بواسطة الاستصحاب، وبالتالی وصلنا إلی نفس النتیجة، وهی تنجّز التکلیف علی المکلّف ووجوب الإتیان بالطرف الآخر وعدم إمکان إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر الذی هو معنی التنجیز الذی نرید إثباته. غایة الأمر أنّ هذا التنجیز لم نثبته کما یُدّعی فی الوجه الأوّل من أننا نقول أنّ هذا العلم المتأخّر ینجّز التکلیف فی زمانٍ سابقٍ، فیکون حاله حال الصورة الثانیة، کلا لیس بهذه الطریقة، وإنّما نقول لا ینجّزه فی زمانٍ سابقٍ، لکن نحن علمنا بهذا التکلیف فی زمانٍ سابقٍ، فعندنا یقین بالتکلیف الجامع المردد بین الفردین، ونشکّ فی بقائه بعد الاضطرار، فنستصحب هذا الجامع، استصحاب الجامع هذا یُدخل الجامع فی عهدة المکلّف، فإذا دخل التکلیف الجامع فی عهدة المکلّف، فلابدّ من الخروج عن عهدته جزماً، ولا جزم بالخروج عن عهدته إلاّ عن طریق الاحتیاط، فیجب علی المکلّف الاحتیاط، فیجب علیه أن یجتنب الطرف الآخر الذی لم یضطر إلی شربه، فی المثال السابق هو علم بسقوط النجاسة فی أحد شیئین، إمّا فی هذا الماء الذی اضطر إلی شربه، أو هذا الثوب الذی هو غیر مضطر إلی استعماله، هنا یجب علیه أن یجتنب استعمال هذا الثوب احتیاطاً؛ لأنّ الجامع دخل فی العهدة باعتبار الاستصحاب، والعقل یحکم بلزوم تحصیل الفراغ الیقینی عندما یقطع المکلّف باشتغال الذمّة یقیناً، والذمّة اشتغلت یقیناً بالجامع. هذا هو الوجه الثانی الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) لإثبات التنجیز فی الصورة الثالثة.

ص: 247

لوحظ علی هذا الوجه الثانی: بأنّ استصحاب الکلّی لا یجری فی محل الکلام، وإن کان یجری فی مثال الحدث المردد بین الحدث الأکبر والحدث الأصغر، والسر فی ذلک هو أنّ استصحاب الجامع فی محل الکلام، والمقصود بالجامع کما قلنا هو الجامع بین التکلیف الطویل والتکلیف القصیر. هذا لا یجری فیه الاستصحاب؛ لأنّ الجامع المستصحب غیر قابلٍ لأن یتنجّز علی المکلّف، وذلک باعتبار أنّ هذا الجامع علی أحد تقدیریه لیس قابلاً للتنجیز، لیس قابلاً لأن یدخل فی العهدة ولیس قابلاً لأن یکون مشمولاً لحق المولویة وحق الطاعة؛ لأنّه علی أحد تقدیریه هو خارج عن قدرة المکلّف باعتبار الاضطرار، هو غیر مقدور للمکلّف ولا یتمکّن المکلّف أن یمتثله؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف مضطر إلی ارتکابه، فإذن امتثال هذا التکلیف غیر مقدور للمکلّف بسبب الاضطرار، من الواضح أنّ التکلیف الذی لا یقدر المکلّف علی امتثاله غیر قابل للتنجیز، وأن یدخل فی حق الطاعة، وأن یدخل فی عهدة المکلّف، هذا الجامع بین تکلیفٍ یقبل التنجیز والدخول فی عهدة المکلّف، ویقبل أن یکون مشمولاً لحق الطاعة وحق المولویة، وبین تکلیفٍ لا یقبل ذلک، الجامع بین ما یقبل التنجیز وبین ما لا یقبل التنجیز غیر قابل للتنجیز؛ لأنّه علی أحد تقدیریه لا یقبل التنجیز، فکیف یکون الاستصحاب جاریاً فی مثل هذا الجامع، والحال أنّه غیر قابلٍ للتنجیز؛ لأنّه علی أحد تقدیریه لا یکون قابلاً للتنجیز ولا یکون قابلاً للدخول فی عهدة المکلّف، فکیف یُعقل أن یکون الجامع بینه وبین ما یقبل التنجیز؛ لأن التکلیف الطویل یقبل التنجیز، بینما التکلیف القصیر لا یقبل التنجیز، کیف یکون الجامع بینهما قابلاً للتنجیز بالاستصحاب؟! فأساساً استصحاب الکلّی فی محل الکلام لا یجری؛ لأنّه جامع بین ما یقبل التنجیز وما لا یقبل التنجیز.

ص: 248

ویمکن أن تُصاغ هذه الملاحظة بعبارةٍ أخری، فیقال: أنّ استصحاب الکلّی من القسم الثانی إنّما یجری حینما یترتّب أثر شرعی علی المستصحب نفسه الذی هو الجامع فی محل الکلام؛ عندئذٍ لا مانع من جریان الاستصحاب، وهذا متحقق فی مثال الحدث؛ لأننا فی مثال الحدث عندما نستصحب کلّی الحدث الذی تیقنّا به سابقاً وشککنا فی بقائه بعد الوضوء، الغرض من استصحاب کلّی الحدث هو ترتیب الأثر الشرعی المترتّب علی کلّی الحدث من قبیل حرمة مسّ المصحف الذی هو مترتّب علی کلّی الحدث الأعمّ من الحدث الأصغر والحدث الأکبر ولا نرید بذلک أن نثبت به وجوب الغُسل علی المکلّف، إثبات وجوب الغُسل باستصحاب کلّی الحدث أصل مثبت؛ لأنّ استصحاب کلّی الحدث مع القطع بزوال الحدث الأصغر بعد الوضوء لازمه العقلی أنّ الحدث أکبر، فیترتب علیه وجوب الغُسل، لیس الغرض من استصحاب کلّی الحدث هو إثبات وجوب الغُسل علی المکلّف؛ لأنّ هذا فرع إثبات أنّ حدثه حدثاً أکبر، واستصحاب جامع الحدث لا یثبت کون الحدث أکبر إلاّ بناءً علی الأصل المثبت، کلا، نحن نرید أن نثبت الأثر المترتب علی کلّی الحدث من قبیل حرمة مسّ المصحف؛ حینئذٍ لا مانع من جریان الاستصحاب فی هذا الکلّی لإثبات هذا الأثر، وهذا متحقق فی مثال الحدث. وأمّا فی محل الکلام نحن نرید أن نستصحب جامع التکلیف المردد بین الفرد الطویل والفرد القصیر، إن کان الغرض من استصحاب هذا الجامع هو إثبات الفرد الطویل، فهو کما قلنا أصل مثبت؛ لأنّ اللازم العقلی لبقاء الجامع إلی الآن بعد الوضوء وبعد القطع بزوال أحد التکلیفین، التکلیف القصیر العمر، لازمه بقاء التکلیف الطویل، وهذا أصل مثبت. وإن کان الغرض هو إثبات الجامع نفسه، فهذا الجامع کما قلنا غیر قابلٍ للتنجیز؛ لأنّه لا یقبل التنجیز، والجامع بین ما یقبل الدخول فی العهدة وما لا یقبل الدخول فی العهدة غیر قابل للدخول فی العهدة، وغیر قابل لأن یکون منجّزاً علی المکلف. إذن: علی کلا التقدیرین الاستصحاب فی محل الکلام لا یجری. هذا هو الوجه الثانی الذی ذُکر مع جوابه.

ص: 249

السیّد الخوئی(قدّس سرّه) ذکر هذا الوجه وأجاب عنه بجوابٍ آخر غیر هذا الجواب، هو ذکر بأنّ هذا الوجه یمکن الجواب عنه بجوابٍ آخر، وحاصل هذا الجواب الذی ذکره هو کجواب عن هذا الوجه هو: أنّه یقول أنّ هناک فرقاً بین محل الکلام وبین استصحاب کلّی الحدث فی مثال الحدث، والفرق هو أنّ استصحاب کلّی الحدث، وهکذا أصالة الاشتغال أیضاً عطفها علی الاستصحاب، إنّما تصل النوبة إلیه عندما تتعارض الأصول فی الأطراف؛ عندئذٍ تصل النوبة إلی التمسّک بالاستصحاب، أو تصل النوبة إلی التمسّک بالاشتغال، کما هو الحال فی مثال الحدث، فی مثال الحدث لا إشکال فی أنّ أصالة کون الحدث أکبر تکون مُعارضة بأصالة کون الحدث أصغر، المکلّف لا یعلم، لا بهذا ولا بهذا ویشکّ فی کون الحدث أصغر ویشکّ فی کون الحدث أکبر، وکل منهما أمر مسبوق بالعدم، فیجری فیه استصحاب العدم، ویتعارض الأصلان، أصالة عدم کون الحدث أصغر معارض بأصالة عدم کون الحدث أکبر، فیتعارضان ویتساقطان؛ وحینئذٍ یمکن الرجوع إلی الاستصحاب، فنستصحب کلّی الحدث، تصل النوبة إلیه ولا مانع منه إذا کان یترتب علیه الأثر کما ذکرنا.

وأمّا فی محل الکلام، یقول: النوبة لا تصل إلی الاستصحاب؛ لأنّ أصالة البراءة عن التکلیف الطویل لیست معارضة بأصالة البراءة عن التکلیف القصیر؛ لأنّه أساساً لا تجری أصالة البراءة فی التکلیف القصیر؛ لأننا نقطع بانتفاء التکلیف القصیر بعد عروض الاضطرار، بعد عروض الاضطرار قطعاً التکلیف مرتفع، ومع القطع بارتفاع التکلیف لا معنی لجریان البراءة، فإذن، لاشک عندنا فی بقاء التکلیف القصیر حتّی نجری فیه أصالة البراءة، بینما عندنا شکّ فی بقاء التکلیف الطویل، فتجری فیه البراءة بلا معارض، فإذا جرت البراءة فی الفرد الطویل بلا معارض؛ فحینئذٍ لا تصل النوبة إلی استصحاب الجامع؛ لأنّه لا توجد عندنا إلاّ أصالة براءة تنفی لنا التکلیف الطویل؛ وحینئذٍ لا تصل النوبة إلی الاستصحاب ولا أصالة الاشتغال، فلا یصح إجراء الاستصحاب فی محل الکلام، وهذا هو جوابه عن هذا الوجه، وذکر أنّ أصالة البراءة حینئذٍ تکون حاکمة علی استصحاب الجامع ومقدّمة علیه، ویُلتزم بجریان أصالة البراءة من التکلیف الطویل، وهذا یثبت عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی محل الکلام.

ص: 250

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف

کان الکلام فی الصورة الثالثة: وهی ما إذا کان الاضطرار حادثاً بعد التکلیف وقبل العلم الإجمالی. قلنا أنّه قد یقال بالمنجّزیة فی هذه الصورة ویُستدَل علیها بدلیلین، تقدّم الکلام عن الدلیل الأوّل وذکرنا فی الدرس السابق الدلیل الثانی الذی أشار إلیه السید الخوئی(قدّس سرّه)، وکان حاصله التمسّک باستصحاب الجامع باعتبار أنّ التکلیف قبل الاضطرار علمنا بحدوثه، ولکنّه مردد بین الفرد الطویل وبین الفرد القصیر، الفرد القصیر هو ما إذا کان التکلیف حادثاً فی الطرف الذی اضطرّ إلیه، فأنّ التکلیف یرتفع حینئذٍ، فیکون عمر التکلیف قصیراً یرتفع بعروض الاضطرار وبین الفرد الطویل فیما لو کان التکلیف حادثاً فی الطرف الآخر الذی لا اضطرار فیه، فیتردد هذا التکلیف الذی علمنا به بین فردین، أحدهما قصیر الأمد والآخر طویل الأمد، وهذا التردد یوجب الشکّ فی بقاء هذا الجامع بلا إشکال، بعد الاضطرار یشکّ المکلّف فی بقاء الجامع؛ لأنّه علی تقدیرٍ یکون الجامع مرتفعاً، وعلی التقدیر الآخر یکون الجامع باقیاً، إذن، بالنتیجة هو یشکّ فی بقاء الجامع فیستصحب الجامع، واستصحاب الجامع وإن کان لا یثبت لنا الفرد الطویل؛ لأنّه یکون أصلاً مثبتاً، لکنّه بالنتیجة یثبت لنا تکلیفاً بالجامع، فیحکم العقل بلزوم الفراغ الیقینی عن هذا التکلیف الذی اشتغلت به الذمّة یقیناً ووجب علی المکلّف الخروج عن عهدته یقیناً، وهذا لا یکون إلاّ بامتثال الطرف الآخر، بالنتیجة لا تجری الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، وهذا هو معنی المنجّزیة، فننتهی إلی نتیجة عدم جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر. هذا هو الوجه الثانی الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه). وقد أجبنا عن هذا الوجه فی الدرس السابق ولا حاجة إلی التکرار.

ص: 251

الآن نذکر ما أجاب به السید الخوئی(قدّس سرّه): هو ذکر هذا الوجه وأجاب عنه، وحاصل جوابه هو: أنّ الاستصحاب فی المقام لا یجری؛ وذلک لأنّ استصحاب الجامع إنّما یجری عندما تتعارض الأصول فی الأطراف؛ حینئذٍ تنتهی النوبة إلی استصحاب الجامع، فیجری استصحاب الجامع کما هو الحال فی مثال الحدث المردد بین الأکبر والأصغر بعد الوضوء، فأنّه هنا اصالة عدم کون الحدث أکبر معارضة بأصالة عدم کون الحدث أصغر، فتتعارض الأصول فی الأطراف وتتساقط، وتصل النوبة إلی الاستصحاب، ای استصحاب الجامع، فلا مانع من استصحاب الجامع. وامّا فی محل الکلام، یقول: لا یجری الاستصحاب. هذا هو جوابه عن الوجه الثانی، لا یجری استصحاب الجامع؛ لأنّه فی المقام لا یوجد تعارض بین الأصول؛ فالأصل قطعاً لا یجری فی الطرف الذی اضطر إلیه؛ لأننا نعلم بارتفاع التکلیف عنه بسبب الاضطرار، فلاشک فی التکلیف فیه حتی یجری الأصل المؤمّن.

إذن: فی الطرف الذی اضطر إلیه لا یجری الأصل قطعاً، فی الطرف الآخر لا مانع من جریان الأصل، فإذا لم یکن هناک مانع من جریان الأصل، هو یقول؛ حینئذٍ لا تصل النوبة إلی استصحاب الجامع؛ لأنّ استصحاب الجامع إنّما یتمّ إذا تعارضت الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، فتصل النوبة إلی استصحاب الجامع. أمّا إذا لم تتعارض الأصول؛ بل کان الأصل یجری فی أحد الطرفین دون الآخر کما هو فی محل الکلام؛ لأنّ الأصل المؤمّن یجری فی الطرف الآخر ولا یجری فی الطرف الذی اضطر إلیه، فی هذه الحالة لا تصل النوبة إلی الاستصحاب، ویعلّل ذلک بأنّ ___________ مضمون کلامه __________ النوبة لا تصل إلی الاستصحاب؛ بل یقدّم الأصل الجاری النافی للتکلیف فی الطرف الآخر علی استصحاب الجامع؛ لأنّه یری أنّ الأصل النافی للتکلیف فی الطرف الآخر هو أصل سببی، والأصل الجاری فی استصحاب الجامع أصل مسبّبی، فیکون الأصل النافی للتکلیف فی الطرف الآخر حاکماً __________ مثلاً __________ وإن کان لا یصرّح بالحکومة، أصل سببی فیقدّم علی الأصل المسببّی. لماذا یکون الأصل النافی للتکلیف فی الطرف الآخر أصلاً سببیاً ویکون الأصل الجاری فی استصحاب الجامع أصلاً مسبّبیاً ؟ یقول: باعتبار أنّ سبب الشکّ فی بقاء الجامع ومنشأه بعد الاضطرار هو أنّ التکلیف هل حدث فی الفرد الطویل، أو لا ؟ بعد ارتفاع الفرد القصیر وبعد الاضطرار، بعد ارتفاع التکلیف قطعاً فی الفرد القصیر، لماذا نشکّ فی بقاء الجامع ؟ الشکّ هو من جهة أننا نشکّ فی أنّ الحادث والمعلوم بالإجمال هل هو التکلیف فی الفرد الطویل، أو لا ؟ إذا کان التکلیف فی الفرد الطویل، فالجامع باقٍ، أمّا إذا کان التکلیف لیس فی الفرد الطویل؛ بل فی الفرد القصیر، فالجامع منتفٍ. إذن: السبب فی الشکّ فی بقاء الجامع هو الشکّ فی حدوث التکلیف فی الفرد الطویل، فإذا جری الأصل النافی للتکلیف فی الفرد الطویل یکون هذا أصلاً سببیاً حاکماً ومقدّماً علی استصحاب الجامع؛ ولذا یقول لا تصل النوبة إلی استصحاب الجامع، وهذا هو الوجه فی الجواب، وهذا هو الجواب الصحیح عنده عن الوجه الثانی. أنّ استصحاب الجامع لا یجری فی المقام لوجود أصلٍ حاکمٍ علیه وهو الأصل النافی للتکلیف فی الطرف الآخر؛ لأنّه یجری بلا معارضٍ؛ لأنّ الأصل فی الطرف الذی اضطر إلیه لا یجری أصلاً، لیس مجری للأصل المؤمّن؛ لأننا نقطع بانتفاء التکلیف، فلاشکّ فی التکلیف فیه حتّی یجری الأصل لنفیه. هذا هو الجواب الذی ذکره.

ص: 252

ویُلاحظ علی هذا الجواب أمران:

الأمر الأوّل: أنّ مسألة السببیة والمسببیة التی تُفهم من کلامه، أنّ الشکّ فی بقاء الجامع مسببّ عن الشکّ فی ثبوت التکلیف فی الفرد الطویل، هذه السببیة والمسببّیة، علی تقدیر تمامیتها والتسلیم بها، الظاهر أنّها سببیة ومسبّبیة عقلیة ولیست سببیة شرعیة، بمعنی أنّ بقاء الجامع بعد ارتفاع الفرد القصیر یکون من لوازم حدوث التکلیف فی الفرد الطویل، یکون مسببّاً عن حدوث التکلیف فی الفرد الطویل، حدوث التکلیف فی الفرد الطویل لازمه العقلی بقاء الجامع، فهی مسببّیة عقلیة، ولیست مسببّیة شرعیة حتّی نقول بأنّ هذا حاکماً علی هذا، لو کانت السببّیة شرعیة؛ حینئذٍ یمکن أن نقول أنّ الأصل الجاری الحاکم ببقاء الفرد الطویل یمکننا أن نثبت به بقاء الجامع، والعکس صحیح کما هو فی محل کلامنا، أنّ الأصل النافی للفرد الطویل یکون نافیاً لبقاء الجامع، فلا یجری فیه استصحاب الجامع، لکن هذا عندما تکون السببّیة شرعیة، أمّا عندما تکون السببّیة عقلیة، هذا الکلام لا مجال له؛ لأنّ بقاء الجامع لیس من اللّوازم الشرعیة لحدوث الفرد الطویل، وإنّما هو من اللّوازم العقلیة للفرد الطویل، لازم عقلی لحدوث الفرد الطویل، واللّازم العقلی لحدوث الفرد الطویل هو بقاء الجامع بعد ارتفاع الفرد القصیر، فالسببّیة عقلیة والمسببیّة عقلیة لا شرعیة، فلا معنی لأن ننفی الجامع بالأصل النافی لحدوث الفرد الطویل؛ لأنّ هذا إنّما یصح عندما تکون السببیة شرعیة، یوجد بینهما سببیة شرعیة، فإثبات هذا یترتّب علی إثبات هذا الّلازم الشرعی، ونفی هذا یترتّب علیه نفی لازمه الشرعی، أمّا حیث تکون الملازمة عقلیة والسببیة عقلیة، هذا الکلام لا یکون صحیحاً أصلاً. هذا من جهة.

ص: 253

الملاحظة الثانیة: لو تنزلنا وسلّمنا أنّ السببّیة شرعیة، فهی إنّما تتمّ فیما لو کان الأصل بحسب لسانه ینفی التکلیف فی الفرد الطویل کما لو کان الأصل النافی فی الفرد الطویل الحاکم کما هو المدّعی علی استصحاب الجامع کان هو الاستصحاب، هذا لسانه لسان نفی التکلیف فی الفرد الطویل، هذا یمکن أن نقول أنّه یمکن أن یکون حاکماً علی استصحاب الجامع، أمّا حیث یکون النافی للتکلیف فی الفرد الطویل هو أصالة البراءة کما هو فی محل الکلام، حیث فی محل الکلام لیس لدینا استصحاب یجری لنفی الفرد الطویل، وإنّما نجری أصالة البراءة؛ لأننا نشکّ فی حدوث الفرد الطویل والأصل البراءة، فتجری فیه أصالة البراءة بلا معارض، أصالة البراءة لسانها لیس لسان نفی التکلیف حتّی تکون حاکمة علی استصحاب الجامع حتّی یکون لسانها لسان نفی الموضوع لهذا الأثر الشرعی، لو سلّمنا أنّه أثر شرعی، فیکون لسانها لسان نفی الموضوع للأثر الشرعی، وهذا هو معنی الحکومة وهذا یقتضی التقدیم. الأصل النافی للتکلیف فی الفرد الطویل لیس هو الاستصحاب، لیس لسانه لسان نفی الموضوع، لیس لسانه لسان نفی، وإنّما هو براءة، ولسانها لسان التأمین لیس أکثر من هذا، فلا معنی لأن یقال أنّ هذا یکون رافعاً لموضوع الأثر الشرعی؛ لأنّ لسانه لیس لسان نفی الأثر الشرعی، وإنّما لسانها فقط هو لسان التأمین من ناحیة التکلیف المحتمل لا نفی التکلیف المحتمل حتّی تکون حاکمة علی استصحاب الجامع.

بناءً علی هذا الکلام یتبیّن: أن الصحیح هو عدم جریان الاستصحاب فی المقام فی حدّ نفسه، أصلاً الاستصحاب فی نفسه لا یجری لا أنّه یجری، ولکن لا نلتزم به لوجود أصلٍ حاکمٍ علیه کما هو الظاهر من کلام السید الخوئی(قدّس سرّه)، کأنّه یلتزم بجریان استصحاب الکلّی فی المقام، لکنّه یقول أنّ الأصل الجاری فی الطرف الآخر النافی للتکلیف فیه یکون مقدّماً علی استصحاب الجامع، فکأنّ المانع من جریان استصحاب الجامع هو وجود الأصل الحاکم والمقدّم علیه، بینما الصحیح کما عرفنا هو أنّ استصحاب الجامع فی حدّ نفسه لا یجری؛ لما ذکرناه فی الدرس السابق من أنّه إن أرید باستصحاب الجامع إثبات الفرد الطویل، فهذا أصل مثبت، وإن أُرید به إثبات منجّزیة الجامع، قلنا أنّ الجامع لا یقبل التنجیز؛ لأنّه جامع بین ما یقبل التنجیز وبین ما لا یقبل التنجیز، والجامع بین ما یقبل التنجیز وما لا یقبل التنجیز لا یقبل التنجیز، الجامع إذا کان علی أحد التقدیرین غیر قابل للتنجیز لا یکون قابلاً للتنجیز.

ص: 254

ومن هنا یظهر أنّ کلا الوجهین اللّذین استدل بهما علی المنجّزیة فی الصورة الثالثة غیر تام، لا الوجه الأوّل المنسوب إلی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، ولا هذا الوجه الثانی الذی ذکرناه، وإلی هنا یظهر أنّ الصحیح هو عدم المنجّزیة فی الصورة الثالثة للدلیل المتقدّم الذی ذکرناه وهو أنّ العلم الإجمالی المتأخّر لا ینجّز التکلیف الذی یتعلّق به إلاّ من حین حدوثه لا فی وقتٍ سابقٍ علی حدوثه، وهذا معناه أنّ التکلیف السابق الذی علم به متأخّراً لا منجّز له؛ لأنّه فی السابق لا یوجد علم ینجّزه، وهذا العلم المتأخّر لا یصلح لتنجیز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ. نعم، العلم الإجمالی المتأخّر ینجّز التکلیف من حین حدوثه، لکنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام لمّا کان واقعاً بعد الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه لا یکون منجّزاً للتکلیف حتّی من حین حدوثه؛ لأنّه من حین حدوث هذا العلم الإجمالی أحد الاحتمالین أن النجاسة وقعت فی هذا الطرف الذی اضطرّ إلیه، وعلی هذا التقدیر لا یوجد تکلیف. نعم، علی التقدیر الآخر یوجد تکلیف، لکنّه مجرّد احتمال. إذن: لا علم بالتکلیف حین حدوث العلم الإجمالی، لا علم بالتکلیف علی کل تقدیر، وإنّما هناک احتمال التکلیف، إذن، العلم الإجمالی المتأخّر لا ینجّز التکلیف فی وقتٍ سابقٍ، وإنّما ینجّزه من حین حدوثه، وهو حین حدوثه لیس منجّزاً للتکلیف علی کل تقدیر؛ لأنّه علی أحد التقدیرین لا یوجد تکلیف، وإنّما یوجد علی التقدیر الآخر، ولکنّه مجرّد احتمال، فلا یکون مثل هذا العلم الإجمالی منجّزاً للتکلیف فی أحد الآنین.

تلخّص من کل ما تقدّم فی هذه الصور الثلاث للمقام الأوّل الذی هو الاضطرار إلی بعض الأطراف بعینه، أنّ الصحیح هو التفصیل بین الصور الثلاث المتقدّمة، فیُلتزم بالمنجّزیة وببقاء العلم الإجمالی منجّزاً فقط فی الصورة الثانیة من الصور الثلاث المتقدّمة وهی صورة ما إذا کان الاضطرار متأخّراً عن العلم الإجمالی، علم إجمالاً بسقوط النجاسة فی أحد الشیئین، بعد ذلک اضطر إلی ارتکاب احدهما، هنا علی ضوء ما تقدّم التزمنا بمنجّزیة العلم الإجمالی، وقلنا أنّ اثر المنجّزیة یظهر فی الطرف الآخر، فأنّ هذه المنجّزیة تمنع من إجراء الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر.

ص: 255

وأمّا فی الصورتین الأولی والثالثة، فالصحیح هو عدم المنجّزیة، الصورة الأولی هی ما إذا کان الاضطرار متقدّماً علی العلم الإجمالی، والصورة الثالثة هی ما إذا کان الاضطرار وسطاً، بعد التکلیف وقبل العلم الإجمالی، تبین أنّ الصحیح فی کلتا الصورتین هو عدم المنجّزیة. إذن، نستطیع أن نقول: فی جمیع صور الاضطرار إلی بعض الأطراف بعینه الصحیح هو عدم المنجّزیة إلاّ فی صورة واحدة وهی ما إذا کان الاضطرار بعد العلم الإجمالی، هنا یکون العلم الإجمالی منجّزاً للتکلیف ومانعاً من إجراء الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر.

الآن نعود مرّة أخری إلی الصورة الثانیة، قلنا أنّه علی ضوء ما تقدّم أنّ الصحیح فیها هو المنجّزیة، وهی صورة ما إذا کان العلم الإجمالی متقدّماً علی الاضطرار، لکن استشکل صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی ذلک علی ما تقدّم، حیث نقلنا عنه أنّه یستشکل فی ثبوت المنجّزیة فی الصورة الثانیة، وتقدّم التعرّض علی کلامة وتقدّم الجواب عن ما ذکره من دلیلٍ ولا داعی للإعادة. والذی ذکرناه سابقاً فی مقام مناقشة صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هو أننّا بیّنّا أنّ العلم الإجمالی بالتکلیف حدوثاً یکفی لمنجّزیة التکلیف وتنجّزه حتّی إذا زال العلم بعد ذلک، هذه هی النکتة الأساسیة فی إثبات المنجّزیة فی الصورة الثانیة، أنّ العلم الإجمالی حینما حدث حدث منجّزاً للتکلیف؛ لأنّه حینما حدث لم یکن هناک اضطرار، وإنّما الاضطرار کان متأخّراً عنه، إذن، هو حینما حدث، حدث منجّزاً متّصفاً بالمنجّزیة، العلم الإجمالی المنجّز حدوثاً یکفی لتنجیز التکلیف حتّی لو زال هذا العلم بعد ذلک، ویزول العلم بعد ذلک بأسباب متعددّة، کأن یزول بالإتیان بأحد الطرفین، إذا امتثل أحد الطرفین؛ حینئذٍ لا یوجد عنده علم بالتکلیف، إذا اضطرّ إلی أحد الطرفین کما فی محل کلامنا لا یوجد علم بالتکلیف بقاءً، بعد الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه لا یستطیع أن یُقسم بالله العلی العظیم أنّه لدیه علم بالتکلیف. إذن، لا علم بالتکلیف فی مرحلة البقاء، بالرغم من زوال العلم الإجمالی یبقی العلم الإجمالی منجّزاً للتکلیف ومانعاً من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر. هذه هی النکتة التی علی ضوئها قلنا بالمنجّزیة. أوّل من استشکل فی هذا صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، وبعض المحققین المعاصرین أیضاً استشکل فی القول بالمنجّزیة فی الصورة الثانیة، ولا بأس بالتعرّض إلی ما ذکره من تحقیق، وینتهی هو إلی نتیجة أنّ المنجّزیة لیست ثابتة حتّی فی الصورة الثانیة، حتّی فی صورة تقدّم العلم الإجمالی علی الاضطرار.

ص: 256

حاصل ما ذکره هذا المحقق: أنّ المنجّزیة فی الصورة الثانیة إنّما تتم ویمکن الالتزام بها بناءً علی القول بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة کما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، فبناءً علی العلّیة التامّة یمکن دعوی المنجّزیة فی الصورة الثانیة، ولعلّه یتعیّن الالتزام بها فی الصورة الثانیة. وأمّا علی القول بالاقتضاء، بأنّ العلم الإجمالی مقتضٍ للموافقة القطعیة ولیس علّة تامّة، وإنّما العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة باعتبار تعارض الأصول فی الأطراف، أصلاً تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة یدور مدار تعارض الأصول فی الأطراف کما هو مقتضی القول بالاقتضاء، بناءً علی القول بالاقتضاء یقول، یشکل جدّاً الالتزام بالمنجّزیة فی الصورة الثانیة.

توضیح ذلک: بناءً علی العلّیة التامّة المنجّزیة تکون واضحة للدلیل السابق المتقدّم، باعتبار أنّ العلم الإجمالی حینما حدث لم یکن هناک اضطرار ولم یکن هناک مانع من تنجیزه للتکلیف الذی تعلّق به علی کل تقدیر، فأنّه لا اضطرار إلی أحد الطرفین بحسب الفرض، فهو عندما حدث نجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه علّة تامّة بحسب الفرض لوجوب الموافقة القطعیة، صحیح، عند عروض الاضطرار یزول هذا العلم الإجمالی بقاءً، لکنّه کما تقدّم زوال العلم الإجمالی لا یمنع من تنجیز العلم الإجمالی للتکلیف حین حدوثه وبقائه منجّزاً للتکلیف وإن زال بعد ذلک؛ بل قلنا فی ما تقدّم أنّ هذا ثابت حتّی فی العلم التفصیلی، فضلاً عن العلم الإجمالی، عندما یعلم المکلّف بتکلیفٍ اشتغلت به ذمّته، وتنجّز علیه، وبعد ذلک شکّ فی أنّه هل امتثله، أو لا ؟ بعد هذا الشکّ فی الامتثال هو لا علم له بالتکلیف؛ لأنّه یشکّ فی أنّه امتثله، فسقط عنه التکلیف، أو لم یمتثله، فالتکلیف باقٍ علیه، بالرغم من زوال العلم التفصیلی فی مرحلة البقاء مع ذلک قطعاً ولا أحد یقول بأنّ هذا العلم التفصیلی یسقط عن المنجّزیة، یبقی منجّزاً ویجب علی المکلّف الاحتیاط والخروج عن عهدة ذلک التکلیف یقیناً. إذن: العلم الإجمالی حینما حدث، إذا قلنا أنّه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة یکون قد نجّز وجوب الموافقة القطعیة علی المکلّف، وإذا نجّزها، لا یمنع من هذا التنجیز عروض الاضطرار بعد ذلک، وهذا هو الصحیح بناءً علی العلّیة التامّة.

ص: 257

وأمّا علی القول بالاقتضاء، یعنی علی القول بأنّ تنجّز التکلیف وتنجّز وجوب الموافقة القطعیة علی المکلّف هی من شئون تعارض الأصول فی الأطراف، إذا تعارضت الأصول فی الأطراف؛ حینئذٍ یکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، وإذا لم تتعارض الأصول فی الأطراف، فالعلم الإجمالی لا یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، إذا قلنا بذلک، یقول: حینئذٍ یشکل الالتزام بالمنجّزیة إلاّ علی احتمال یذکره، وحاصل ما یذکره هو: أنّ الأصول النافیة المؤمّنة مثل أصالة الطهارة وأصالة الحلّیة، هذه الأصول المؤمّنة التی هی محل الکلام فی المقام والتی نرید أن نبحث هل یجوز التمسّک بها فی الطرف الآخر، أو لا ؟ هذه الأصول المؤمّنة یوجد فیها احتمالان ثبوتیان:

الاحتمال الأوّل: أن یقال أنّ هذه الأصول المؤمّنة مثل أصالة الطهارة وأصالة الحلّیة تتکفّل الحکم الظاهری بالطهارة، إن کانت اصالة الطهارة، والحکم الظاهری بالحلّیة، إن کانت أصالة الحلّیة، حدوثاً وبقاءً. یعنی هی عبارة عن حکم واحد وتطبیق واحد، ولا یوجد أکثر من حکم واحد وتطبیقٍ واحد، غایة الأمر أنّ هذا التطبیق هو فی مرحلة الحدوث والبقاء، هو حکم بالطهارة المستمرة إلی آخره فی کل الآنات التی یکون هناک فیها شکٌّ الذی هو موضوع هذه الأصول المؤمّنة، لیس لدینا أحکام متعددة بعدد الآنات التی یحصل فیها شکّ، ولیس لدینا تطبیقات لأصالة الطهارة متعددّة بعدد الآنات التی یحصل فیها الشک، وإنّما هناک حکم واحد وتطبیق واحد علی الفرد الذی یُشک فی طهارته، أو الفرد الذی یُشک فی حلّیته تطبیق واحد، ویحکم علیه بحکمٍ واحد وهو حکم ظاهری بالطهارة، أو حکم ظاهری بالحل .....وهکذا. إذن: هو حکم واحد وتطبیق واحد لیس إلاّ، هذا مفاد هذه الأصول المؤمّنة، مفادها حکم واحد وتطبیق واحد.

ص: 258

الاحتمال الثانی: أنّ نقول أنّ مفاد هذه الأصول المؤمّنة أحکام متعددة وتطبیقات متعددة بعدد الآنات التی یحصل فیها الشکّ، فی کل آنٍ یحصل فیه شکّ هناک تطبیق لهذه الأصول، وحکم ظاهری بالطهارة، أو بالحلّیة تدلّ علیه هذه الأصول، أحکام متعددة وتطبیقات متعددة بعدد الآنات التی یحصل فیها.

یقول: بناءً علی الاحتمال الأوّل یتعین الالتزام بالمنجّزیة، هنا احتمال أنّ هناک حکم واحد وتطبیق واحد وهذه الأصول المؤمّنة لا یُفهم منها أحکام متعددة بعدد الآنات، وإنّما حکم واحد وتطبیق واحد، بناءً علی هذا یصح ما ذکرتموه من المنجّزیة؛ لأنّه فی محل الکلام نقول أنّ العلم الإجمالی حینما حصل، صحیح أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة __________ الکلام بناءً علی الاقتضاء __________ ولکنّه ینجّز وجوب الموافقة القطعیة حینما حدث باعتبار تعارض الأصول؛ لأنّ الأصول متعارضة قبل الاضطرار، حینما حدث العلم الإجمالی الأصول متعارضة فی الطرفین؛ لأنّه لیس هناک اضطرار یمنع من تعارض الأصول، کل طرفٍ فیه قابلیة أن یکون مشمولاً لدلیل الأصل المؤمّن، هذا الطرف وذاک الطرف. إذن، تعارضت الأصول فی الأطراف، وهذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة باعتبار تعارض الأصول.

إذن: الأصول جرت فی الطرفین حین حدوث العلم الإجمالی وتساقطت، بعد ذلک عرض الاضطرار، القائل بعدم المنجّزیة یرید أن یجری الأصل فی الطرف الآخر، هو یقول أنّ هذا غیر قابل للجریان، وبناءً علی هذا لا یکون قابلاً الطرف الآخر لإجراء الأصل فیه؛ لأنّ الأصل هو حکم واحد وتطبیق واحد، وقد طُبّق علی هذا المورد الذی یُشک فیه فی الزمان السابق، لا یتعدد بتعدد الآنات هو حکم ظاهری بالطهارة مرّة واحدة، وقد طبقناه علی ذاک الطرف کما طبقناه علی هذا الطرف قبل حدوث الاضطرار، وکان التطبیق علی الطرف الآخر معارضاً بتطبیقه علی هذا، وهذا التعارض یوجب سقوطه، وبعد ذلک من این نأتی بأصالة الطهارة، أو اصالة الحلّیة لإجرائها فی الطرف الآخر بعد حدوث الاضطرار، فإذن: لا مجال لإجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر بعد حدوث الاضطرار، وهذا معناه المنجّزیة، لکن هذا بناءً علی الاحتمال الأوّل، وأمّا إذا قلنا بالاحتمال الثانی یقول لا مجال للقول بالمنجّزیة؛ بل یمکن إجراء الأصل المؤمّن، وینتهی هو إلی نتیجة عدم المنجّزیة، باعتبار أنّه یختار الاحتمال الثانی.

ص: 259

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بعینه

ذکرنا أنّ بعضهم ذکر أنّ الصحیح فی الصورة الثانیة هو عدم المنجّزیة، فضلاً عن الصورة الأولی والثالثة، واستدلّ بما حاصله أنّ المنجّزیة إنّما یُلتزم بها فی الصورة الثانیة بناءً علی القول بالعلّیة التامّة. وأمّا علی القول بالاقتضاء وبناءً علی أنّ دلیل الأصل المؤمّن یتکفّل جعل الحکم الظاهری بالطهارة، أو بالحلّیة علی اختلاف الأصول المؤمّنة، یتکفّل جعل هذا الحکم الظاهری بعدد الآنات التی یتحقق فیها موضوعه وهو الشک، بحیث یکون مفاد الدلیل هو أحکام متعددة وتطبیقات متعددة لهذا الأصل بعدد الآنات التی یُتصوّر فیها ذلک الحکم الظاهری، فلا یکون مفاد الأصل جعل حکمٍ واحدٍ حدوثاً وبقاءً، جعل حکمٍ بالطهارة مستمر ما دام الشکّ، کلا لیس هذا مفاد الأصل، وإنّما بناءً علی أنّ مفاده جعل أحکامٍ متعددةٍ بعدد الآنات التی یتحقق فیها الشکّ، بناءً علی هذا وبناءً علی القول بالاقتضاء یقول لابدّ أن نقول بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز کما هو الحال فی الصورة الأولی والصورة الثالثة، هنا أیضاً یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، والسرّ فی ذلک أمّا أنه یکون العلم الإجمالی باقٍ علی التنجیز بناءً علی الاحتمال الأوّل، وهو أن یکون مفاد الأصل المؤمّن هو جعل حکمٍ ظاهریٍ واحدٍ وله تطبیق واحد لا أکثر، فالتنجیز أیضاً یکون واضحاً؛ لأنّ المفروض أنّه قبل الاضطرار تعارضت الأصول فی الأطراف، وتعارضها یقتضی سقوط هذه الأصول بالمعارضة، وهذا یعنی أنّ الأصل الجاری فی کلا الطرفین یسقط بالمعارضة، فالأصل الجاری فی الطرف الآخر الغیر مضطر إلیه، هذا الطرف سقط بالمعارضة، وهذا السقوط أوجب تنجّز العلم الإجمالی، بعد عروض الاضطرار لا یجری الأصل فی هذا الطرف غیر المضطر إلیه؛ لأنّ هذا الأصل فی الطرف غیر المضطر إلیه بعد عروض الاضطرار سقط بالمعارضة ولا یوجد لدینا أصل آخر حتّی یقال أنّه بعد الاضطرار یجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ الطرف المضطر إلیه لا یجری فیه الأصل بسبب الاضطرار، لکن لا یصح لنا أن نقول أنّ الأصل یجری فی الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ الأصل فی الطرف الآخر وهو أصلٌ واحدٌ سقط بالمعارضة قبل الاضطرار مع الأصل الجاری فی الطرف الذی سیطرأ علیه الاضطرار، وهذا معناه تنجیز العلم الإجمالی؛ لأنّ الأصول متساقطة فی الطرفین وهذا یقتضی تنجیز العلم الإجمالی کما یقوله الطرف الآخر.

ص: 260

لکنّه یقول: بناءً علی الاحتمال الثانی فی أدلّة الأصول المؤمّنة وهو أنّها تتکفّل أحکاماً متعددةً وتطبیقات متعددة بحیث یکون الحکم الظاهری الثابت فی هذا الطرف _____________ الذی لیس هو مورد الاضطرار _____________ بعد الاضطرار غیر الحکم الثابت فیه قبل الاضطرار، بحیث أنّ دلیل أصالة الطهارة أو دلیل أصالة الحلّیة یتکفّل جعل أحکامٍ متعددةٍ بعدد الآنات، فهذا الطرف الآخر غیر المضطر إلیه قبل الاضطرار أصالة البراءة فیه، اصالة الحلّیة فیه، أصالة الطهارة فیه معارَضة بأصالة البراءة والطهارة والحلیّة فی الطرف الأوّل الذی سیطرأ علیه الاضطرار، وهذا التعارض یوجب تنجیز العلم الإجمالی، بناءً علی الاقتضاء؛ لأنّ التنجیز بناءً علی الاقتضاء فی طول تعارض الأصول، لکن بعد عروض الاضطرار، یقول لا مانع من جریان الأصل فی الطرف الآخر؛ لأنّه لا معارض له؛ لأنّ الأصل فی الطرف الذی اضطر إلیه لا یجری؛ لمکان الاضطرار، لکن لا مانع من جریانه فی الطرف الآخر؛ لأنّ هذا أصلٌ جدیدٌ، هذا الأصل الذی نجریه فی الطرف الآخر بعد الاضطرار بناءً علی الاحتمال الثانی لیس هو نفس الأصل الذی جری قبل الاضطرار وسقط بالمعارضة، ولیس استمراراً له، وإنّما هو أصلٌ جدید یتکفّل بإثبات هذا الحکم الظاهری نفس الأصل المؤمّن؛ لأنّ دلیل الأصل المؤمّن ___________ بحسب الفرض __________ یتکفّل إثبات أحکام ظاهریة متعددة بعدد الآنات، الشک بعد عروض الاضطرار فی هذا الطرف الذی لم یضطر إلیه، هذا فرد من أفراد موضوع الحکم الظاهری کما أنّ الشکّ فیه قبل الاضطرار فرد آخر، هذا الشکّ قبل الاضطرار فی هذا الطرف، طبّقنا علیه الأصل المؤمّن وثبت فیه حکم ظاهری بالطهارة، جری فیه الأصل المؤمّن، وثبت فیه الحکم الظاهری، هذا معارض بالأصل فی الطرف الأوّل الذی سیطرأ علیه الاضطرار، وهذا سقط بالمعارضة وتنجز العلم الإجمالی، لا بأس هذا کلّه مقبول بناءً علی الاقتضاء، لکن بعد عروض الاضطرار یمکن تطبیق الأصل المؤمّن علی هذا الطرف بلا معارض؛ لأنّ الأصل لا یجری فی الطرف الذی اضطُر إلیه باعتبار الاضطرار، فیمکن أن یکون هذا أصلاً جدیداً وحکم بالطهارة جدید ولیس هو نفس الحکم السابق حتّی یقال أنّ هذا سقط بالمعارضة، وهذا معناه أنّه یمکن إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر بعد الاضطرار، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً بناءً علی الاقتضاء؛ لأنّ التنجیز بناءً علی الاقتضاء فی طول التعارض بین الأصلین الجاریین فی الطرفین، وهنا لا یوجد تعارض بعد الاضطرار، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز ولا یکون حینئذٍ منجّزاً. لکن هذا مبنی علی أمرین:

ص: 261

الأمر الأوّل: أن نلتزم بمسلک الاقتضاء لا العلّیة التامّة.

الأمر الثانی: أن نلتزم بأنّ أدلة الأصول المؤمّنة تتکفّل جعل أحکام ظاهریة بالطهارة، وبالحلّیة.....الخ. تتکفّل جعل أحکام ظاهریة متعددة بعدد الآنات التی یمکن تصوّر ثبوت الحکم الظاهری فیها بحیث یکون الحکم الظاهری الثابت فی هذا الآن غیر الحکم الظاهری الثابت فی الآن الذی قبله ولیس استمراراً وبقاءً له، وإنّما هذا حکم جدید غیر الحکم السابق، والحکم السابق سقط بالمعارضة، هذا الحکم لیس له معارض، فیجری الأصل المؤمّن فی هذا الطرف بلا معارض، وهذا ینتج عدم منجّزیة العلم الإجمالی. وبهذا البیان __________ إذا تمّ __________ یثبت عدم صحّة ما یتکرّر فی کلماتهم فی مقام الاستدلال علی المنجّزیة فی هذه الصورة من أنّ الأصل إذا مات لا یعود، أو ما یشبه هذه العبارة، أنّ الأصل إذا سقط لا یعود، هذا مبنی علی الاحتمال الأوّل، أنّ الأصول المؤمّنة تتکفّل جعل حکمٍ ظاهری واحد بالطهارة، أو حکم ظاهری واحد بالحلّیة، وهذا إذا سقط بالمعارض فقد مات ولا یعود مرّة أخری، وهذا معناه المنجّزیة؛ لأنّه بعد الاضطرار لا یوجد أصل یمکن إجراءه فی الطرف الآخر بلا معارض حتّی یُسقط المنجّزیة، کلا، هذا الأصل لا یجری لا فی هذا الطرف، ولا فی هذا الطرف، تعارضا، تساقطا، فبقی الطرف الآخر بلا أصلٍ مؤمّن، وهذا معناه التنجیز. هذا الکلام یقول کلا، أنّ المسألة لیست مسألة إحیاء أصلٍ بعد موته، نحن لسنا بصدد إحیاء أصلٍ بعد موته حتّی یقال أنّ هذا لا معنی له؛ لأنّ الأصل بعد أن سقط لا یعود، وإنّما المسألة هی التمسّک بأصلٍ جدید غیر الأصل السابق، إثبات حکم جدید بالطهارة غیر الحکم الثابت قبل الاضطرار، هذا حکم جدید فی نفس الطرف الآخر، الحکم الظاهری بالطهارة تمسّکاً بدلیل الأصل قبل الاضطرار هو غیر الحکم الظاهری بالطهارة بعد الاضطرار، هذا حکم جدید یتکفّله دلیل الأصل المؤمّن، المسألة لیست مسألة إعادة حیاة لأصلٍ میّت، أو إعادة الحیاة لأصلٍ ساقطٍ بالمعارضة، وإنّما هو إثبات حکم ظاهری جدید بالطهارة تمسّکاً بدلیل الأصل المؤمّن؛ لأنّ المفروض أنّ دلیل الأصل المؤمّن یتکفّل جعل أحکامٍ ظاهریة متعددة بعدد الآنات التی یمکن أن یحصل فیها الشکّ، فهو یبتنی علی إثبات هذین الأمرین؛ فحینئذ یستحکم الإشکال ولابدّ أن نقول بعدم المنجّزیة حتّی فی الصورة الثانیة، وبالتالی أنّ الاضطرار إلی طرفٍ بعینه یمنع من منجّزیة العلم الإجمالی، سواء کان بنحو الصورة الأولی، أو الصورة الثانیة، أو الصورة الثالثة، وهذا القائل ینتهی فی مقام الإثبات ___________ لأنّ کلامنا إلی الآن ثبوتی _________ إلی إثبات الاحتمال الثانی من الاحتمالین المتقدمین فی دلیل الأصل المؤمّن، ویقول بأنّ الظاهر من دلیل الأصل المؤمّن هو أنّه یتکفّل جعل أحکام متعددة وتطبیقات متعددة بعدد الآنات التی یتحقق فیها الشکّ.

ص: 262

فإذن: بناءً علی الاقتضاء، إذا قلنا بالاقتضاء والتزمنا بما هو ظاهر الدلیل حسب ما هو یقول لابدّ أن نلتزم بعدم المنجّزیة فی الصورة الثانیة. نعم إذا قلنا بالعلّیة التامّة نلتزم بالمنجّزیة. هذا ما یمکن توضیحه عن خلاصة ما ذکره هذا المحقق.

ما یمکن أن نعلّق به علی هذا الکلام: أنّ الذی یظهر أنّ بعض من یقول بالاقتضاء کأنّه ملتفت إلی هذا الإشکال الذی یرِد علی القول بالاقتضاء وهو أنّه کیف تقولون بالاقتضاء وفی نفس الوقت تقولون بالمنجّزیة فی الصورة الثانیة ؟ حاول الجواب عنه بطریقٍ غیر مباشر، وذلک من خلال التأکید علی مسألة أنّ الشکّ فی الطرف الآخر هو بعینه الشکّ فی نفس الطرف قبل الاضطرار ولیس شکّاً آخر جدیداً، الشکّ فی الطرف الآخر بعد الاضطرار هو نفس الشکّ فیه قبل الاضطرار ولیس شکّاً جدیداً؛ لأننّا لا نقول أنّه شکّ جدید؛ لأنّه لو کان شکّاً جدیداً؛ حینئذٍ ترِد دعوی تحقق موضوع جدید للأصل المؤمّن غیر الموضوع الذی تحقق قبل الاضطرار للأصل المؤمّن، فإذا سقط ذاک الأصل المؤمّن قبل المعارضة بالاضطرار، فیکون هذا موضوعاً جدیداً للأصل المؤمّن، فیثبت فیه الأصل المؤمّن بلا معارض، هو یرید أن ینفی هذا، یقول: لا، الشکّ الحاصل فی هذا الطرف بعد الاضطرار هو نفس الشکّ الذی کان موجوداً قبل الاضطرار فی هذا الطرف والذی جری فیه الأصل وسقط بالمعارضة هو نفسه ولیس شیئاً جدیداً. واضح من خلال هذه العبارة أنّه لا یبعُد أنّه ناظر إلی هذا الإشکال، کأنّه یرید أن یقول أنّ الطرف الآخر لم یُفرض فیه حدوث شیءٍ یستوجب رفع الشکّ الذی کان موجوداً قبل حدوث ذلک الشیء، وحصول شیء جدید لم یحدث فی الطرف الآخر شیء یستوجب أن یکون الشکّ بعده غیر الشکّ قبله، فیکون الشکّ فی الطرف الثانی بعد الاضطرار إلی الطرف الأوّل هو نفس الشکّ فیه قبل الاضطرار؛ لأنّه لم یحدث فیه شیء یستوجب رفع ذلک الشکّ وتبدّله بشکٍّ جدید؛ بل هو نفس الشکّ السابق، فإذا کان هو نفس الشکّ السابق، إذن لم یحدث موضوع جدید للأصل المؤمّن حتّی یُدّعی أنّ هذا الأصل المؤمّن یمکن التمسّک به فی هذا الموضوع الجدید، فیجری فیه الأصل بلا معارضٍ بعد الاضطرار، هو یرید أن یرکّز علی هذه النکتة، هذا بخلاف الطرف الأوّل، فأنّه حدث فیه شیء یوجب رفع الشکّ السابق وهو الاضطرار؛ لأنّه اضطرّ إلیه، والشکّ فی التکلیف یرتفع بلا إشکال مع الاضطرار، یقول: الطرف الثانی لم یحدث فیه شیء، فالشکّ فیه هو نفس الشکّ الذی کان موجوداً سابقاً والذی جری فیه الأصل وسقط بالمعارضة. یُفهم من هذا أنّ القائل بالاقتضاء الذی یرید أن یجیب عن الإشکال یرید أن یدّعی أنّ مفاد دلیل الأصل المؤمّن هو حکم واحد بالطهارة، هذا الحکم الواحد بالطهارة هو عبارة عن الحکم بالطهارة حدوثاً وبقاءً، الحکم بالطهارة مع استمرار هذا الحکم ما دام الشکّ باقیاً. نعم هذا الحکم الظاهری بالطهارة یرتفع بارتفاع الشکّ حقیقة أو تعبّداً، لکن ما دام الشکّ باقیاً فهو محکوم بالطهارة، لکن لا محکوماً بطهارة جدیدة، وإنّما هو محکوم بنفس الطهارة التی حُکم بها سابقاً لا بطهارة جدیدة؛ لأنّ دلیل الأصل العملی المؤمّن لا یتکفّل جعل أحکام متعددة بعدد الآنات، وإنّما یتکفّل جعل حکمٍ واحدٍ بالطهارة مستمراً مادام الشکّ باقیاً، مادام الشکّ باقیاً ومستمرّاً وغیر متبدّل؛ فحینئذٍ هناک حکم واحد بالطهارة والأصل یجری مرّة واحدة ویطبّق علی هذا الفرد المشکوک مرّة واحدة، طبّقناه علی هذا الفرد المشکوک بعد تحقق الشکّ فیه _____________ بحسب الفرض ____________ فشمله الأصل العملی، ومفاد هذا الأصل العملی هو الحکم علیه بالحلّیة أو بالطهارة مستمراً مادام الشکّ باقیاً. هذا الحکم الواحد، هذا التطبیق للأصل المؤمّن علی هذا الطرف سقط بالمعارضة مع الطرف الآخر، فإذا سقط بالمعارضة؛ فحینئذٍ لا یمکن تطبیقه مرّة أخری علی نفس الطرف ونفس الفرد المشکوک بلحاظ زمانٍ آخر مع فرض أنّه لم یحدث فی الطرف الآخر ما یوجب تبدّل هذا الشکّ بشکٍّ آخر؛ بل الشکّ فیه هو نفس الشکّ السابق.

ص: 263

فی المقابل یقول هذا المحقق أنّ الظاهر من دلیل الأصل العملی أنّ مفاده أنّه یتکفّل جعل أحکام متعددّة بعدد آنات الشکّ، الحکم بالطهارة بعد الاضطرار غیر الحکم بالطهارة قبل الاضطرار، والشکّ بعد الاضطرار غیر الشکّ قبل الاضطرار، موضوعات متعددة لدلیل الأصل المؤمن، فکل موضوع یقتضی أن نطبّق علیه هذا الأصل المؤمّن، هذا التطبیق غیر ذاک التطبیق، ذاک سقط بالمعارضة، أمّا هذا فلا یسقط بالمعارضة، فمن هنا یظهر أنّ النزاع نزاع إثباتی، أننا ماذا نستفید من أدلّة الأصول المؤمّنة، بناءً علی الاقتضاء طبعاً، هل نستفید من أدلّة الأصول العملیة أنّها تتکفّل جعل حکم واحد بالطهارة علی نحو الاستمرار ما دام الشکّ باقیاً، أو نستفید منها أنّها تتکفّل جعل أحکامٍ متعددة کما یقول هذا المحقق، فالنزاع إثباتی.

یمکن أن یقال: أنّ الذی یُستفاد من قوله(علیه السلام): (کل شیء لک طاهر حتّی تعلم أنّه نجس). هذه القاعدة تتضمّن حکماً واحداً لا أکثر بطهارة الأشیاء ظاهریاً ما دمت غیر عالم بالنجاسة، عند عدم العلم بالنجاسة تکون الأشیاء محکومة بالطهارة، هذا حکم واحد ظاهری مجعول علی نهج القضیة الحقیقیة ولیس هناک تعدّد فی هذا الحکم الظاهری المجعول علی نهج القضیة الحقیقیة. تطبیقات هذا الحکم متعدّدة بعدد الأفراد المشکوکة النجاسة، الثوب نشکّ فی نجاسته نطبّق علیه هذا الحکم، الماء نشکّ فی نجاسته نطبق علیه هذا الحکم، الأرض نشکّ فی نجاستها نطبّق علیها هذا الحکم، هذه تطبیقات متعدّدة بلا إشکال لهذا الکلّی المجعول علی نهج القضیة الحقیقیة، فتتعدد التطبیقات بلا إشکال، لکن تتعدد التطبیقات عندما تتعدد الأفراد التی یُشکّ فی نجاستها. أمّا بلحاظ الفرد الواحد المشکوک النجاسة، هل تتعدد التطبیقات للأصل المؤمّن بعدد الآنات التی یتصوّر فیها هذا الحکم الظاهری، أو لا ؟ کأنّه هذا هو محل النزاع، هذا المحقق یدّعی أنّ التطبیقات تکون متعددة بعدد الآنات، فتطبیق الأصل المؤمّن علی هذا الطرف قبل الاضطرار غیر تطبیق الأصل المؤمّن علی نفس هذا الطرف ولیس غیره فی مرحلة ما بعد الاضطرار، هذا التطبیق غیر ذاک التطبیق، ذاک التطبیق قبل الاضطرار سقط بالمعارضة، هذا تطبیق جدید لیس له معارض، فیمکن تطبیق الأصل العملی وینتج عدم التنجیز، الطرف المقابل یقول: لا، أنّ التطبیقات إنّما تتعدد بتعدد الأفراد التی یُشکّ فیها، أمّا بالنسبة إلی الفرد الواحد لا تتعدد التطبیقات، وإنّما هناک تطبیق واحد بالنسبة للفرد الواحد، ما دام الشکّ موجوداً، هناک تطبیق واحد لهذه القاعدة، وهذا التطبیق الواحد ____________ بحسب الفرض ___________ سقط بالمعارضة ولا تطبیق جدید، وهذا ینتج المنجّزیة وهذا هو معنی قولهم (أنّ الساقط لا یعود) یعنی أنّه شیء واحد وقد سقط، هذا لا یعود مرّة أخری.

ص: 264

قد یقال: یمکن أن نستظهر الاحتمال الأوّل من الدلیل، یعنی احتمال أنّ الدلیل یتکفّل تطبیقاً واحداً بالنسبة إلی الفرد المشکوک الواحد، بمعنی أنّ مفاد دلیل أصالة الطهارة، أو اصالة الحلّیة هو الحکم بطهارة الشیء ما دام الشک موجوداً، وهذا معناه أنّ هناک حکماً واحداً مستمراً لا أحکام متعددة(کلّ شیء لک طاهر حتّی تعلم أنّه قذر) (1) [1]مفاده هو ما دمت لا تعلم بنجاسة الشیء فهو محکوم بالطهارة، هذا لا یستفاد منه أکثر من حکمٍ واحد بالطهارة لکنّ مستمراً ما دام لم یحصل العلم بالنجاسة، ما دمت غیر عالم بنجاسة الشیء، فهو محکوم بالطهارة، هذا حکم بالطهارة علی نحو الحدوث والاستمرار، حدوثاً وبقاءً ما دام الشک باقیاً. لا یبعُد استفادة هذا المعنی من هذه الأدلّة، وإذا تمّت هذه الاستفادة؛ حینئذٍ یثبت الاحتمال الأوّل، وبناءً علی الاحتمال الأوّل لابدّ من الالتزام بالمنجّزیة، بمعنی أننّا لا یمکننا أن نجری الأصل المؤمّن ونطبّقه تطبیقاً آخراً علی هذا الطرف بعد الاضطرار بدعوی أنّ هذا التطبیق لیس له معارض، کلا، لا یمکن هذا التطبیق؛ لأنّ الفرد الواحد المشکوک له تطبیق واحد، وهذا التطبیق سقط بالمعارضة.

إلی هنا تمّ الکلام عن المقام الأوّل فی مسألة الاضطرار إلی بعض الأطراف، وننتقل بعد ذلک إلی المقام الثانی؛ لأنّ المقام الأوّل کان عن ما إذا کان الاضطرار إلی بعض الأطراف بعینه. الآن ننتقل إلی المقام الثانی وهو ما إذا کان الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه، علم بنجاسة إناءین فیهما ماء، ثمّ اضطرّ لرفع عطشه إلی شرب احدهما، ورفع عطشه کما یحصل بالشرب من هذا الإناء کذلک یحصل بالشرب من ذاک الإناء، فالاضطرار إلی أحدهما لا بعینه، فیقع الکلام هنا أیضاً فی أنّه هل یکون العلم الإجمالی منجّزاً، أو لا یکون منجّزاً، الاضطرار إلی أحدهما بعینه هل یرفع التنجیز، أو لا یرفع التنجیز، أو یُفصّل ؟ علی غرار ما تقدّم فی المقام الأوّل.

ص: 265


1- جواهر الکلام، الشیخ محمد حسن النجفی الجواهری، ج1، ص305.

هنا فی هذه الحالة لا إشکال فی أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، والسر فی ذلک أنّه مضطر إلی ارتکاب أحد الإناءین، وهذا الاضطرار إلی ارتکاب أحد الإناءین یستلزم الترخیص للمکلّف فی أن یرتکب أحدهما، لکن علی نحو التخییر، فالترخیص یکون ترخیصاً تخییریاً، هو مخیّر فی رفع اضطراره بهذا الطرف، أو بالطرف الآخر، فإذن: هناک ترخیص تخییری فی ارتکاب أحد الإناءین نتیجة الاضطرار، وهذا معناه عدم وجوب الموافقة القطعیة؛ إذ لا یمکن اجتماع وجوب الموافقة القطعیة مع الترخیص فی ارتکاب أحد الطرفین علی نحو التخییر، فإذن: وجوب الموافقة القطعیة قطعاً یسقط فی المقام، والعلم الإجمالی فی مثل هذه الحالة لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، فیجوز له ارتکاب أحدهما قطعاً، وإنّما الکلام فی حرمة المخالفة القطعیة بارتکاب الطرف الثانی بعد رفع الاضطرار بأحدهما، فأنّه إذا رفع اضطراره بأحدهما یقع الکلام فی أنّه هل یجوز له ارتکاب الطرف الآخر، أو لا یجوز له ارتکابه ؟ فإن قلنا أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، فلا یجوز له ارتکاب الطرف الآخر، وإن قلنا أنّ هذا العلم الإجمالی یرتفع وحتی عن تنجیز حرمة المخالفة القطعیة، فیجوز له ارتکاب الطرف الآخر. هذا هو محل الکلام.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف بعینه

نعود مرّة أخری إلی کلام المحقق المتقدّم وبعد ذلک نکمل الحدیث عن المقام الثانی. ذکرنا فی مقام التعلیق علی ما ذکره من استدلال من عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی الصورة الثانیة من المقام الأوّل، قلنا أنّ الظاهر أنّ النزاع یکون إثباتیاً، بمعنی أنّه ماذا یُفهم من دلیل الأصل ؟ وذکرنا أنّ هناک احتمالین فی تحدید مفاد دلیل الأصل، هو بنا علی الاحتمال الثانی منهما، بینما بنا الباقون علی الاحتمال الأوّل من هذین الاحتمالین، وقلنا أنّه لا یبعُد أنّ الاحتمال الأوّل هو الأقرب وهو الذی یُفهم من دلیل الأصل المؤمّن، وبالتالی یصح ما ذکروه المحقق النائینی والسیّد الخوئی وغیرهما(قدّست أسرارهم) من أنّ الأصل إذا سقط بالمعارضة لا یعود مرّة أخری وهذا یکفی لمنجّزیة العلم الإجمالی؛ لأنّه لا یجوز إجراء الأصل فی الطرف الآخر ولا نملک دلیلاً علی جریان الأصل فی الطرف الآخر بعد الاضطرار.

ص: 266

قد یُشکل علی هذا الکلام:

أولاً: بأن یقال لا إشکال ظاهراً فی أنّ أحد أطراف العلم الإجمالی إذا کان خارجاً عن محل الابتلاء فی بدایة الأمر ثمّ دخل فی محل الابتلاء بعد ذلک، لا إشکال فی شمول دلیل الأصل له بعد دخوله فی محل الابتلاء بالرغم من عدم شمول دلیل الأصل له فی البدایة، دلیل الأصل فی البدایة لم یکن شاملاً لهذا الفرد لخروجه عن محل الابتلاء، بعد ذلک عند دخوله فی محل الابتلاء شمله دلیل الأصل، فیقال: لیکن المقام من هذا القبیل؛ لأنّ محل الکلام ومورد النقض یشترکان فی وجود ما یمنع من جریان الأصل فی أحد الطرفین، فی کلٍ منهما یوجد ما یمنع من جریان الأصل فی ذاک الطرف من البدایة، ثمّ زوال هذا المانع بعد ذلک. فی محل الکلام فی البدایة کان هناک ما یمنع من جریان الأصل فی الطرف الآخر وهو المعارضة، بعد الاضطرار زالت المعارضة؛ لأنّ الأصل لا یجری فی الطرف الذی صار مورداً للاضطرار، فارتفع المانع، هذا محل الکلام. فی مورد النقض أیضاً هکذا، فی البدایة کان الفرد خارجاً عن محل الابتلاء، فلا یشمله دلیل الأصل. أو بعبارة أخری یمکن أن نعبّر أنّ خروج الفرد عن محل الابتلاء یمنع من جریان الأصل فیه، بعد ذلک زال هذا المانع ودخل فی محل الابتلاء، إذن، کلٍ منهما یشترکان فی وجود مانعٍ یمنع من جریان الأصل فی البدایة، ثمّ زوال هذا المانع بعد ذلک، فإذا قلنا بجریان الأصل فی مورد النقض، فلنقل بجریان الأصل فی محل الکلام، فیجری الأصل فی محل الکلام، یعنی یجری الأصل فی الطرف الآخر بعد الاضطرار؛ لأنّ المانع الذی هو المعارض قد زال، فیُلتزم بجریان الأصل فیه، وهذا معناه عدم التنجیز.

ص: 267

یمکن الجواب عن هذا الإشکال: هناک فرقٌ بین محل الکلام وبین مورد النقض، فی محل الکلام الشیء الحاصل هو سقوط الأصل بالمعارضة، بینما فی مورد النقض الشیء الحاصل هو عدم شمول دلیل الأصل لذلک الفرد الخارج عن محل الابتلاء لاختلال شرط من شرائط جریان الأصل، لأنّه یُشترط فی جریان الأصل فی موردٍ أن یکون المورد داخلاً فی محل الابتلاء، فاختلّ ذلک الشرط فی ذلک الفرد، فأصبح الأصل غیر شاملٍ له، لکنّه غیر شامل له لیس لسقوط الأصل فیه، وإنّما لاختلال شرطٍ من الشرائط المعتبرة فی جریان ذلک الأصل، عدم جریان الأصل فی محل الکلام إنّما هو لوجود المانع وهو المعارض، حیث أنّ الأصل الجاری فی الطرف الآخر یُعارض الأصل الجاری فی الطرف الثانی، فلا یجری الأصل فی الطرف الآخر لوجود المانع الذی هو المعارض الذی یوجب سقوط الأصل فی الطرف الآخر، والسرّ فی هذا هو أنّ المعارض وهو الأصل فی الطرف الأوّل الذی هو مورد الاضطرار؛ لأنّ الأصل فی الطرف الأوّل لا یعارض الأصل فی الطرف الآخر فی البدایة فقط، وإنّما هو یعارضه فی جمیع الأزمنة لا أنّه یعارضه فقط فی بدایة الأمر قبل الاضطرار، کلا، هو کما یعارضه قبل الاضطرار هو یعارضه أیضاً بعد الاضطرار، وهذا تابع لما تقدّم من أنّ المعارضة فی الحقیقة تقع بین هذین الأصلین، یعنی بین الأصل فی الطرف الأوّل، نسمّیه مؤقتاً إلی حین حصول الاضطرار وبین الأصل فی الطرف الآخر فی جمیع الأزمنة، قبل الاضطرار وبعده، أصلاً المعارضة بین الأصلین هی بهذا الشکل، بمعنی أنّ هناک تکاذب بین الأصل فی هذا الطرف، وبین الأصل فی الطرف الآخر بلحاظ جمیع الأزمنة، یعنی کما أنّ الأصل فی هذا الطرف لا یمکن الجمع بینه وبین جریان الأصل فی الطرف الآخر قبل الاضطرار کذلک لا یمکن الجمع بینه وبین الأصل فی الطرف الآخر بعد الاضطرار؛ لأنّ المعارضة هکذا، هما متکاذبان لا یمکن الجمع بینهما، إذن، المانع الذی منع من جریان الأصل فی الطرف الآخر قبل المعارضة هو بنفسه یمنع من جریان الأصل فی الطرف الآخر بعد المعارضة. إذن، فی المقام عدم جریان الأصل فی محل الکلام إنّما هو لوجود مانع یوجب سقوط الأصل فی هذا الطرف، وإذا سقط الأصل لا یعود، بینما لیس لدینا هکذا شیء فی محل النقض، الذی لدینا هو أنّ الأصل فی البدایة جاء ووجد هذا الفرد خارجاً عن محل الابتلاء، اختلّ فیه شرط من شروط جریان الأصل لأنّه خارج عن محل الابتلاء، بعد ذلک دخل هذا الفرد فی محل الابتلاء، فصار موضوعاً جدیداً لهذا الأصل المؤمّن، فیشمله الأصل المؤمّن، هذا غیر محل الکلام، مورد النقض من قبیل ما إذا کان الفرد لا یشک المکلّف فی طهارته ونجاسته تشمله قاعدة الطهارة لعدم الشکّ، وبعد ذلک شکّ المکلّف فی نجاسته، فیکون مشمولاً لقاعدة الطهارة بلا إشکال، ولا یصح لنا أن نقول أنّ هذا الفرد لأنّه فی البدایة لم یکن مشمولاً لأصالة الطهارة، فهو الآن لا یکون مشولاً لها؛ لأنّ هذا موضوع جدید لأصالة الطهارة، هذا الفرد لم تسقط فیه أصالة الطهارة بالمعارضة، وإنّما لا تشمله أصالة الطهارة لاختلال الشرط وهو الدخول فی محل الابتلاء، فلا یشمله الأصل، بعد ذلک عندما یدخل فی محل الابتلاء یتحقق موضوع جدید لهذا الأصل، فیجری فیه الأصل بلا إشکال، این هذا من محل الکلام ؟ نحن فی محل الکلام نقول أنّ الأصل یجری فی الطرف الآخر ویسقط بالمعارضة، هذا الفرد الذی جری فیه الأصل وسقط بالمعارضة نرید أن نقول بعد زوال المعارضة یمکن التمسّک بالأصل فیه، فی هذا نقول لا یعود الأصل مرّة أخری بعد سقوطه، النقض علی ذلک بمسألة الخروج عن محل الابتلاء لیست واردة حسب الظاهر.

ص: 268

الإشکال الثانی: قد یقال سلّمنا المبنی الذی بنوا علیه وهو أنّ مفاد دلیل الأصل المؤمّن هو وحدة الحکم ووحدة التطبیق، فالحکم واحد والتطبیق واحد ولیس متعدداً کما یقول المحقق المتقدّم، لکن لماذا لا نتمسّک لإثبات جریان الأصل فی الطرف الآخر بعد الاضطرار بإطلاق دلیل الأصل، والتمسّک بإطلاق دلیل الأصل لا ینافی أنّ مفاد الأصل حکم واحد وتطبیق واحد، نتمسّک بإطلاق دلیل الأصل بلحاظ الأزمنة، حکم واحد لکنّه مستمر، تطبیق واحد، لکنّه مستمر، هذا هو مفاده، نرفع الید عن هذا الإطلاق بمقدار الضرورة، ومقدار الضرورة فی محل الکلام هو ما دام المعارض موجوداً، مادام المعارض موجوداً لا یمکن التمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات شموله للطرف الذی له معارض، فنرفع الید عن إطلاق الدلیل بمقدار مادام المعارض موجوداً، أمّا إذا زالت المعارضة وحصل الاضطرار، واصبح الأصل فی الطرف الذی هو مورد الاضطرار غیر جاری؛ إذ لا یجری هذا الأصل فی مورد الاضطرار، فأیّ ضیرٍ فی أن نتمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات شموله للطرف الآخر ؟ وهذا لا یبتنی علی افتراض أنّ مفاد دلیل الأصل أحکام متعددة وتطبیقات متعددة، حتّی لو کان مفاده حکم واحد وتطبیق واحد، لکتّه له إطلاق بلحاظ جمیع الأزمنة وتُرفع الید عن هذا الإطلاق بمقدار الضرورة ومادام المعارض موجوداً، أمّا بعد زوال التعارض وعدم جریان المعارض، فلا مانع من التمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات جریانه فی الطرف الآخر، أیّ ضیرٍ فی ذلک ؟!

یمکن أن یُلاحظ علی هذا التمسّک بالإطلاق: بأنّ المانع الذی منع من إجراء الأصل کمل ذکرناه فی الطرف الآخر قبل الاضطرار هو بنفسه یمنع من جریان الأصل فی الطرف الآخر بعد الاضطرار؛ لما ذکرناه قبل قلیل من أنّ المفروض فی محل الکلام هو التعارض بین أصلین أحدهما طویل والآخر قصیر، القصیر هو الأصل فی مورد الاضطرار، والطویل هو الأصل فی الطرف الآخر، إذن: التکاذب قائم بین هذین الأصلین، وهذا معنی أنّ المانع الذی منع من جریان الأصل فی الطرف الآخر قبل الاضطرار هو بنفسه یمنع من جریان الأصل بعد الاضطرار، هذان الأصلان متکاذبان، لیس التکاذب موجوداً بین الأصل فی هذا الطرف قبل الاضطرار والأصل فی هذا الطرف أیضا قبل الاضطرار، لیس التکاذب فقط مختصّاً بهذا، وإنّما التکاذب بین الأصل فی هذا الطرف قبل الاضطرار وبین الأصل فی ذاک الطرف حتّی بعد الاضطرار، المعارضة بینهما هی بهذا الشکل والتکاذب بهذا الشکل، وهذا معناه کما لا یمکن التمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات جریانه فی الطرف الآخر قبل الاضطرار کذلک لا یمکن التمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات جریانه فی الطرف الآخر بعد الاضطرار؛ لأنّ المانع الذی یمنع من جریان الأصل قبل الاضطرار بنفسه موجود بعد الاضطرار وهو المعارض، لا یمکن التفصیل بلحاظ الطرف الآخر بین قبل الاضطرار وبین ما بعد الاضطرار؛ لأنّ الذی یمنع من التمسّک بالإطلاق موجود بعد الاضطرار کما هو موجود قبل الاضطرار، وکما لا یمکن التمسّک بالإطلاق قبل الاضطرار لا یمکن التمسّک بالإطلاق بعد الاضطرار، فکیف یُدّعی أننا بعد الاضطرار نتمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات جریانه فی الطرف الآخر، هذا إنّما یصح إذا افترضنا أنّ المعارضة محصورة بفترة ما قبل الاضطرار، فیصح الکلام السابق الذی ذُکر وهو أنّه حینئذٍ نرفع الید عن إطلاق دلیل الأصل بمقدار الضرورة، والضرورة مخصوصة بفترة ما قبل الاضطرار؛ لأنّه فی هذه الفترة یحصل التعارض، أمّا فترة ما بعد الاضطرار لا توجد ضرورة ولا یوجد معارض، فنرجع إلی التمسّک بالإطلاق، هذا الکلام إنّما یصح إذا استطعنا أن نحصر التعارض فی فترة ما قبل الاضطرار؛ واقع الأمر أنّ التعارض لیس هکذا، التعارض إنّما هو بین الأصل فی هذا الطرف إلی ما قبل الاضطرار وبین الأصل فی الطرف الآخر مطلقاً قبل الاضطرار وبعد الاضطرار، إذن، هذا الأصل فی الطرف الأوّل کما یعارض الأصل فی الطرف الثانی قبل الاضطرار یعارض الأصل فی الطرف الثانی بعد الاضطرار أیضاً، فالمعارض موجود، فإذا کان هذا المعارض هو الذی منع من التمسّک بإطلاق دلیل الأصل فی فترة ما قبل الاضطرار هو أیضاً یکون مانعاً من التمسّک بدلیل الأصل فی فترة ما بعد الاضطرار، فکیف یمکن الرجوع إلی الإطلاق فی محل الکلام ؟ هذا الذی یرتبط بالبحث السابق. ثمّ بعد ذلک نرجع إلی المقام الثانی.

ص: 269

المقام الثانی: وهو ما إذا کان الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه کما إذا اضطرّ إلی شرب أحد الماءین لرفع عطشه الذی یوجب هلاک النفس، فاضطرّ إلی شرب أحدهما، هنا یضطر إلی شرب واحدٍ منهما لا بعینه؛ لأنّ کلاً منهما یرفع عطشه ویحفظ له نفسه، فلیس هناک اضطرار إلی أحدهما بعینه. هنا لا إشکال فی جواز ارتکاب أحدهما، لکنّه یتخیّر فی ارتکاب أیّ واحدٍ منهما.

بعبارةٍ أخری: لا إشکال فی ثبوت الترخیص التخییری، هو مرخّص فی ارتکاب أحدهما تخیراً، وهذا معناه سقوط وجوب الموافقة القطعیة، فی هذه الحالة قطعاً الموافقة القطعیة غیر واجبة بدلیل أنّه لا إشکال فی جواز ارتکاب احدهما، بدلیل أنّه مرخّص فی ارتکاب أحدهما تخییراً، وهذا معناه أنّه لا إشکال فی سقوط وجوب الموافقة القطعیة لهذا العلم الإجمالی، وإنّما الکلام یقع فی جواز المخالفة القطعیة أو عدم جوازها، هو شرب الماء ورفع عطشه، هل یجوز له ارتکاب الآخر، وترتفع حرمة المخالفة القطعیة کما ارتفع وجوب الموافقة القطعیة، أو لا ؟ بأن تبقی حرمة المخالفة القطعیة علی حالها وتحرم علیه المخالفة القطعیة، فلا یجوز له ارتکاب الماء الآخر. هذا محل الکلام.

بعبارة أخری: لا إشکال فی أنّ هذا العلم الإجمالی فی المقام لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة علی المکلّف، وإنّما الکلام یقع فی أنّه هل ینجّز حرمة المخالفة القطعیة علیه، أو لا ؟

هنا نستعرض الآراء المهمّة فی هذه المسألة، وسیظهر من خلال استعراض هذه الآراء أنّ هذه الآراء لا تفرّق فی المقام بین الصور الثلاثة المتقدّمة فی المقام الأوّل، یعنی من یبنی علی المنجّزیة یبنی علیها فی جمیع الصور، ومن یبنی علی عدم المنجّزیة یبنی علیها فی جمیع الصور، وسیأتی التعرّض إلی ذلک أیضاً:

ص: 270

الرأی الأوّل: رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) حیث ذهب إلی عدم منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، وجوّز ارتکاب الطرف الآخر الذی یرتکبه بعد رفع اضطراره بالطرف الأوّل؛ بل هو ذهب إلی عدم منجّزیة العلم الإجمالی حتّی فی المقام الأوّل، فی مسألة الاضطرار إلی أحدهما بعینه کان یجوّز للمکلّف ارتکاب الطرف الآخر فی کل الصور الثلاثة المتقدّمة، یعنی حتّی فی صورة تقدّم العلم الإجمالی علی الاضطرار التی هی الصورة الثانیة التی التزم فیها الجمیع بالمنجّزیة هو یقول بعدم منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، مادام المکلّف اضطر إلی ارتکاب هذا یجوز له ارتکاب الآخر، هو اضطر إلی شرب الماء لرفع عطشه، ویجوز له شرب الخلّ الذی هو الفرد الآخر فی المثال السابق؛ لأنّ العلم الإجمالی لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة حتّی فی المقام الأوّل، فضلاً عن المقام الثانی. استدلّ علی عدم المنجّزیة بدلیلٍ واحدٍ یشمل المقام الأوّل والمقام الثانی، هو جمع بینهما فی عبارته، استدلّ علی ذلک بأنّ الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی، سواء کان إلی بعضٍ معیّن کما فی المقام الأوّل، أو غیر معیّن کما فی محل الکلام، هذا یمنع من العلم بالتکلیف الفعلی، عبارته یمنع من فعلیة التکلیف، (1) مثلاً: إذا علم نجاسة أحد مائعین فی المقام الأوّل، واضطر إلی شرب الماء لرفع عطشه، أو علم بنجاسة أحد المائعین واضطرّ إلی شرب أحدهما لرفع عطشه کما فی المقام الثانی، کأنّه یرید أن یقول أنّ شرب الماء فی المثال الأوّل، وشرب أحد الماءین فی المثال الثانی حلال قطعاً وجائز قطعاً لمکان الاضطرار، بینما یبقی الخل فی المثال الأوّل، والماء الثانی الذی لم یختره لرفع عطشه، لا علم بتعلّق التکلیف به، وإنّما هو مجرد شکّ بأنّه فیه تکلیف، أو لا ؟ لماذا هو مجرّد شکّ ؟ هذا واضح؛ لأنّه هناک احتمال أنّ التکلیف المعلوم بالإجمال فی الطرف الذی اضطر إلیه ورفع به اضطراره ومع کونه مضطراً إلیه ترتفع عنه الحرمة لأجل الاضطرار. إذن: لا علم بثبوت التکلیف فی الطرف الآخر وإنّما هناک شکّ فی ثبوت التکلیف فی الطرف الآخر ما دام هناک شکّ فی ثبوت التکلیف فی الطرف الآخر تجری فیه الأصول المؤمّنة.

ص: 271


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص360.

وبعبارةٍ أخری: أنّه یرید أن یقول أنّ الاضطرار حیث أنّه یوجب الترخیص فی ارتکاب أحد الطرفین المعیّن، أو أحدهما غیر المعیّن فی محل الکلام هذا الترخیص الذی یفترضه الاضطرار یمنع من العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی؛ لأنّه لا یمکن الجمع بین الترخیص وبین کون المکلّف عالماً بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، أن یکون عالماً بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، ومعنی(علی کل تقدیر) هو سواء کانت النجاسة فی هذا الطرف، أو کانت فی هذا الطرف، أن یکون المکلّف عالماً بالتکلیف الفعلی بالحرمة الفعلیة علی کل تقدیر مع کونه قد رُخص له فی ارتکاب أحد الطرفین، لا یمکن الجمع بینهما؛ ولذا یکون الترخیص الذی هو لازم الاضطرار منافیاً ومانعاً من العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی، والسر فی ذلک هو أنّ شرب الماء فی المثال الذی ذکرناه وشرب أحد الماءین فی المثال الثانی الذی هو محل کلامنا لا حرمة فیه حتّی علی تقدیر أن یکون الحرام الواقعی هو هذا الفرد، لکن لأجل الاضطرار ترتفع عنه الحرمة، فإذن: شرب الماء، الفرد الذی اضطر إلیه لا حرمة فیه، وهذا معناه أنّه لا یعلم بالحرمة علی کل تقدیر، یعنی یرتفع عنه العلم الإجمالی، فلا یصبح عالماً إجمالاً بالحرمة علی کل تقدیر، ولا یصبح عالماً بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر حتّی یصبح علماً إجمالیاً منجّزاً، یسقط هذا العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لأنّه لا یبقی له علم إجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ لأنّه علی أحد التقدیرین لا تکلیف، فلا حرمة. نعم، علی التقدیر الآخر یوجد تکلیف، لکنّه مجرّد احتمال یمکن نفیه بالأصول المؤمّنة. هذا ما یُفهم من عبارة صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، لکن هناک أمور ترتبط بعبارة صاحب الکفایة(قدّس سرّه) منها أنّ الترخیص الذی فرضه، هل هو ترخیص واقعی أو ترخیص ظاهری ؟ قد یقال: أنّ ظاهر کلامه أنّه ترخیص واقعی فی محل الکلام، فی الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه، قد یقال: أنّه یفترض أنّ الترخیص ترخیص واقعی، والقرینة علی ذلک هو أنّه ذکر هذا الترخیص فی کلٍ من المقامین؛ لأنّه دمج بین المقامین فی کلامه ولا إشکال أنّ الترخیص فی المقام الأوّل هو ترخیص واقعی، قد یقال أنّ هذا قرینة علی أنّ الترخیص الذی یفترضه فی محل الکلام أیضاً واقعی. أمّا أنّه لا إشکال فی أنّ الترخیص فی المقام الأوّل ترخیص واقعی فباعتبار أنّ هذا الترخیص اقتضاه الاضطرار فقط، ولا علاقة للجهل به حتّی یکون ترخیصاً ظاهریاً؛ لأنّه فی المقام الأوّل بحسب الفرض أنّه اضطر إلی شرب هذا الماء_، وهذا الاضطرار یوجب الترخیص الواقعی ویرفع الحرمة واقعاً کما هو الحال فی سائر موارد الاضطرار، إذا اضطر إلی أکل المیتة ترتفع عنه الحرمة واقعاً وتصبح جائزة واقعاً. فالترخیص الذی یثبت فی موارد الاضطرار هو ترخیص واقعی، فی موارد الاضطرار إلی طرفٍ بعینه، الترخیص الذی یثبت فی موارد الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه قد یقال أنّ مقتضی الجمع بین المقامین بعبارة واحدة وإثبات الترخیص وبقرینة أنّ الترخیص فی المقام الأوّل ترخیص واقعی، قد یُفهم منه أنّه یفترض أنّ الترخیص فی محل الکلام أیضاً ترخیص واقعی. وهذا الترخیص الواقعی هو الذی یوجب ارتفاع الحرمة عن أحد الطرفین وهو الطرف الذی اضطر إلیه، لکن الظاهر أنّ الصحیح هو أنّ الترخیص ظاهری فی محل الکلام ولیس ترخیصاً واقعیاً.

ص: 272

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه

کان الکلام فی الرأی الأوّل: فی مسألة الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی لا بعینه وهو الرأی الذی ذهب إلیه فی الکفایة وهو عدم المنجّزیة. قلنا أنّ الکلام فی منجّزیة هذا العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، وإلاّ عدم منجّزیته لوجوب الموافقة القطعیة واضح، فهل ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، أو لا ؟ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یقول: لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، فیجوز لهذا المکلّف المضطرّ إلی ارتکاب أحد الطرفین ارتکاب الطرف الآخر بعد رفع اضطراره بارتکاب الطرف الأوّل، وذکر فی مقام الاستدلال علی ذلک أنّ الاضطرار یمنع من العلم بالتکلیف الفعلی، باعتبار أنّ الاضطرار یکون موجباً للترخیص التخییری فی أحد الطرفین، وهذا الترخیص ینافی التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، ویکون افتراض هذا الترخیص مستلزماً لرفع التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، ومع ارتفاع الحرمة الواقعیة؛ حینئذٍ لا یبقی علم إجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ لأنّ التکلیف علی أحد التقدیرین یرتفع، التکلیف علی تقدیر أن یکون متحققاً فی الفرد الذی اختاره المکلّف لرفع اضطراره، علی تقدیر أن تکون الحرمة ثابتة فی ما اختاره المکلّف لرفع اضطراره لا توجد حرمة؛ لأنّها ارتفعت بسبب الترخیص؛ لأنّ الترخیص ینافی التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، فإذا ارتفعت الحرمة علی هذا التقدیر المکلّف لا یکون عالماً بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ ولذا یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. نفس الکلام الذی یقوله فی الاضطرار إلی البعض المعیّن یقوله فی الاضطرار إلی البعض غیر المعیّن، فی کلٍ منهما یقول الاضطرار یستلزم الترخیص، غایة الأمر أنّه یستلزم الترخیص التعیینی فی المقام الأوّل، ویستلزم الترخیص التخییری فی المقام الثانی الذی هو محل الکلام. هو یقول کل منهما یستلزم رفع التکلیف، الترخیص فی المقام الأوّل فی الطرف المعیّن إذا اضطر إلی شرب الماء فی المقام الأوّل ترتفع الحرمة ویثبت فیه الترخیص.

ص: 273

إذن: الحرمة الناشئة من سقوط نجاسة علی تقدیر أن تکون متحققة فی الماء فهی مرتفعة. نعم، علی تقدیر أن تکون متحققة فی الخل، فهی باقیة، فلا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر. هنا أیضاً نذکر نفس المطلب، غایة الأمر فی محل الکلام الترخیص تخییری، لکن هذا الفرد الذی یختاره لرفع عطشه ثبت فیه الترخیص، وجواز الشرب، هذا الترخیص یتنافی مع الحرمة علی تقدیر ثبوتها فیه، فإذن: الحرمة علی تقدیر ثبوتها فی ما اختاره المکلّف لرفع عطشه لا وجود لها. نعم، علی تقدیر ثبوتها فی الطرف الآخر الذی لم یختاره لرفع عطشه تکون ثابتة، لکن هذا مجرّد احتمال، وبالنتیجة سوف لن یکون عالماً بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. بالنسبة إلی الترخیص کون الترخیص ظاهریاً فی عبارته، أو واقعیاً، قلنا أنّه قد یقال أنّ ظاهر عبارته أنّ الترخیص واقعی یفترضه حتّی فی المقام، فضلاً عن المقام الأوّل، قد یُفهم أنّه یتکلّم عنهما معاً ویذکر الترخیص فیهما معاً، المقام الأوّل والمقام الثانی، ویقول أنّ هذا الترخیص الثابت فیهما ینافی التکلیف الواقعی ویمنع من فعلیة التکلیف، ویمنع من العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وقد یُفهم من هذا أنّ الترخیص الذی یفترضه فی محل الکلام هو ترخیص واقعی.

الرأی الآخر یقول لا یمکن أن یکون مقصوده الترخیص الواقعی فی المقام الثانی؛ لأنّ المفروض أن یکون واضحاً حتّی عند صاحب الکفایة (قدّس سرّه) أنّ الترخیص فی المقام ترخیص ظاهری، والسر فی ذلک هو أنّ الترخیص فی محل الکلام لم ینشأ من مجرّد الاضطرار، وإنّما هو نشأ من الاضطرار والجهل.

ص: 274

بعبارةٍ أخری: أنّ الجهل فی محل الکلام دخیل فی ثبوت الترخیص ولا نرید بالترخیص الظاهری إلاّ ذلک، أی أن یکون الجهل دخیلاً فیه، بخلاف المقام الأوّل، فأنّ الترخیص لم ینشأ من جهل، وإنّما نشا من الاضطرار؛ لأنّ هناک کان الاضطرار إلی فردٍ بعینه، هو اضطر إلی شرب الماء، هذا الاضطرار إلی شرب الماء هو الذی اقتضی ثبوت الترخیص فیه، فالترخیص نشأ من مجرّد الاضطرار، ولا علاقة للجهل بثبوت الترخیص؛ ولذا یکون الترخیص هناک ترخیصاً واقعیاً، بینما فی محل الکلام مجرّد الاضطرار لا یستوجب الترخیص، بدلیل أنّ اضطراره فی المقام الثانی الذی هو اضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه لو کان مقروناً بالعلم بأنّ ما یختاره هو الحرام لا یثبت الترخیص؛ لأنّه بإمکانه أن یرفع اضطراره بشرب الطرف الآخر. إذن: ثبوت الترخیص فی ما یختاره، الجهل دخیل فی ثبوته بدلیل أنّه لو لم یکن جاهلاً بالحرام، لو کان عالماً بأنّ هذا الذی أختاره لرفع عطشه حرام لما جاز له ارتکابه، ولما ثبت فیه الترخیص؛ بل یجب علیه أن یرفع عطشه بارتکاب الطرف الآخر. إذن: الجهل دخیل فی ثبوت الترخیص فی ما أختاره، ومن هنا یکون الترخیص ترخیصاً ظاهریاً ولیس ترخیصاً واقعیاً.

لتوجیه کلام صاحب الکفایة (قدّس سرّه) وإثبات عدم المنجّزیة حسب رأیه فی محل الکلام علی کلا التقدیرین، علی تقدیر أن یکون الترخیص واقعیاً، وعلی تقدیر أن یکون الترخیص ظاهریاً، فنقول: علی تقدیر أن یکون الترخیص واقعیاً، فما ذکره یکون واضحاً؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون الترخیص واقعیاً فی محل الکلام یکون حاله حال الترخیص الواقعی فی المقام الأوّل، الترخیص الواقعی یکون منافیاً للتکلیف الواقعی، فالمنافاة حاصلة، إذن: علی تقدیر أن یکون الحرام ثابتاً فی ما اختاره لرفع عطشه وکان مرخّصاً له فی شربه، هذا الترخیص المفروض أنّه واقعی یتنافی مع الحرمة الواقعیة وموجباً لرفع الحرمة الواقعیة؛ لأنّه ترخیص واقعی، هذا الطرف الذی اختاره لرفع عطشه مرخص فیه ترخیصاً واقعیاً، هذا الترخیص الواقعی یستلزم رفع الحرمة الواقعیة علی تقدیر ثبوتها فیه، فلا حرمة علی هذا التقدیر، وهذا ینتج أنّه لا یوجد علم إجمالی بحرمة فعلیة علی کل تقدیر، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، هذا إذا کان الترخیص ترخیصاً واقعیاً.

ص: 275

إذا کان الترخیص ترخیصاً ظاهریاً یمکن توجیه کلام صاحب الکفایة (قدّس سرّه) بعدم المنجّزیة بأن یقال أنّ کلامه مبنی علی مسلک العلّیة التامّة، یعنی مبنی علی القول بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وحرمة المخالفة القطعیة، فإذا قلنا أنّ العلم الإجمالی بالتکلیف علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، هذا وحده یمنع من الترخیص فی بعض الأطراف، لا یمکن الجمع بین العلم الإجمالی مع فرض کونه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة وبین الترخیص فی بعض الأطراف، غیر ممکن أصلاً؛ لأنّ الترخیص فی بعض الأطراف خُلف فرض أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، یعنی یلزم منه التفکیک بین العلّة والمعلول؛ فحینئذٍ إذا ثبت الترخیص فی مورد، فهذا یکشف عن وجود خللٍ فی التکلیف، وارتفاع التکلیف، وإلاّ کیف یمکن الجمع بین التکلیف الواقعی وبین الترخیص فی بعض الأطراف مع افتراض أنّ العلم الإجمالی بالتکلیف الواقعی هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فعندما یثبت الترخیص نستکشف ونفهم من ذلک انتفاء العلّة التامّة لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ ثبوت الترخیص یعنی عدم وجوب الموافقة القطعیة، یعنی ارتفاع المعلول، وارتفاع المعلول یعنی ارتفاع علّته، وبالتالی لا یکون هناک علم إجمالی منجّزاً؛ لأنّه إن وجد العلم الإجمالی لابدّ من وجوب الموافقة القطعیة، ولا یمکن التفکیک بینهما، وحیث ثبت الترخیص، یعنی ثبت عدم وجوب الموافقة القطعیة لابدّ أن یکون العلم الإجمالی أیضاً مرتفعاً، فإذن: لا یکون هناک علم إجمالی منجّز، فلا منجّزیة. فالعلم الإجمالی یدور بین ما إذا کان موجوداً فهو ینجّز وجوب الموافقة القطعیة کما نجّز حرمة المخالفة القطعیة، وبین ما إذا لم ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، فهذا یعنی أنّه غیر موجود، وإذا لم یکن موجوداً، فهذا یعنی أنّه لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، لکن هذا علی القول بالعلّیة التامّة، فیمکن توجیه کلام صاحب الکفایة (قدّس سرّه) بناءً علی القول بالعلّیة التامّة.

ص: 276

أمّا إذا قلنا _________ فی مقام مناقشة صاحب الکفایة (قدّس سرّه) __________ أنّ الترخیص فی المقام ترخیص ظاهری کما هو الظاهر، لما قلناه من أنّ الجهل دخیل فی ثبوته، فهو ترخیص ظاهری لا ترخیصاً واقعیاً. وقلنا بأنّ الصحیح هو مسلک الاقتضاء لا مسلک العلّیة التامّة؛ فحینئذٍ یظهر أنّ کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لا یتم؛ لأنّ کلامه(قدّس سرّه) مبنی إمّا علی أنّ الترخیص واقعی، أو الالتزام بأنّ الترخیص ظاهری لکن مع اختیار القول بمسلک العلّیة التامّة، وأمّا إذا قلنا بالاقتضاء، وقلنا بأنّ الترخیص ظاهری لا واقعی؛ حینئذٍ لا منافاة بین الترخیص الظاهری وبین التکلیف الواقعی لما تقدّم فی محله فی مقام الجمع بین الأحکام الواقعیة والأحکام الظاهریة من أنّه لا توجد منافاة بین التکالیف الواقعیة وبین الأحکام الظاهریة، فلیکن هذا الترخیص ترخیصاً ظاهریاً وهو لا ینافی التکلیف الواقعی، فلا یکون موجباً لرفعه حتّی یُنتهی إلی هذه النتیجة التی ذکرها وهو أنّه هنا لا یوجد علم إجمالی بالتکلیف علی کل تقدیر، نقول هناک علم إجمالی بالتکلیف علی کل تقدیر بالرغم من ثبوت الترخیص فی أحد الطرفین، یبقی العلم الإجمالی بالتکلیف علی حاله، غایة الأمر أنّ هذا العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة لمکان الاضطرار، لکن لیس معناه زوال العلم الإجمالی بالتکلیف؛ لیس هناک موجب لرفع الحرمة حتّی فی ما اختاره من الطرفین؛ لأنّ الترخیص ظاهری والترخیص الظاهری لا یتنافی مع التکلیف الواقعی، وإنّما یبقی المکلف عالماً بثبوت الحرمة فی أحد الطرفین. غایة الأمر أنّه علی تقدیر أن تکون الحرمة ثابتة فی هذا الطرف یُرخّص له ترخیصاً ظاهریاً فی ارتکابه، هذا لا یستلزم زوال الحرمة، وبالتالی لا یستلزم ارتفاع العلم الإجمالی بالتکلیف علی کل تقدیر کما سیأتی توضیحه مفصّلاً. هذا الرأی الأوّل.

ص: 277

الرأی الثانی: الرأی الذی اختاره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، (1) فأنّه یتّفق مع صاحب الکفایة (قدّس سرّه) فی دعوی المنافاة بین الترخیص وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، یقول الترخیص یتنافی مع التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال؛ لأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یبنی علی مسلک العلّیة التامّة، أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وبناءً علی العلّیة التامّة لا یمکن الترخیص فی بعض الأطراف المعیّن وغیر المعیّن، وبمجرّد ثبوت الترخیص فی بعض الأطراف هذا یکشف عن ارتفاع التکلیف، إذا وجد التکلیف یثبت وجوب الموافقة القطعیة، لا ینفک ثبوت التکلیف والعلم به عن وجوب الموافقة القطعیة، فإذا ثبت الترخیص وارتفع وجوب الموافقة القطعیة هذا یکشف عن عدم التکلیف، أی لا یوجد تکلیف فی المقام، ومن هنا یکون الترخیص منافیاً للتکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، هو یشترک مع صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی إثبات هذه المنافاة، ولکنّه یختلف معه فی النتیجة؛ لأنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) انتهی إلی عدم المنجّزیة، المحقق العراقی(قدّس سرّه) ینتهی إلی المنجّزیة، بالرغم من أنّه یری أنّ الترخیص منافٍ للتکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، لکنّه مع ذلک ینتهی إلی المنجّزیة، والوجه فی أنّه ینتهی إلی هذه النتیجة، أی إلی المنجّزیة بالرغم ممّا تقدّم، هو یدّعی أنّ المنافاة التی وافقنا صاحب الکفایة (قدّس سرّه) علیها هی منافاة من نوعٍ خاص، هی منافاة لا تقتضی رفع الید عن التکلیف أساساً، وإنّما تقتضی رفع الید عن إطلاقه، لا عن أصل التکلیف، هکذا یدّعی، أنّ المنافاة ثابتة ولکنّها لا تقتضی رفع الید عن أصل التکلیف کما هو ظاهر کلام الکفایة، فأنّ ظاهر کلام الکفایة أنّ التکلیف اساساً یرتفع؛ ولذا رتّب علیه هذه النتیجة أنّه لا یبقی علم بالتکلیف علی کل تقدیر، علی أحد التقدیرین لیس هناک تکلیف. نعم علی التقدیر الآخر یوجد تکلیف، لکنّه تقدیر محتمل لیس إلاّ، ولیس هناک علم. هو یقول: المنافاة لا تقتضی رفع الید عن أصل التکلیف حتّی ننتهی إلی نفس النتیجة التی انتهی إلیها صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وهی عدم المنجّزیة، وإنّما تقتضی رفع الید عن إطلاق التکلیف لا عن اصله، فنرفع الید عن إطلاق التکلیف، فیثبت التکلیف المقیّد، ویکون المکلّف عالماً بهذا التکلیف المقیّد علی کل تقدیر وهذا یوجب تنجیز هذا العلم الإجمالی للتکلیف المقیّد لحرمة المخالفة القطعیة، فالفرق بینه وبین صاحب الکفایة هو أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یلتزم بارتفاع أصل التکلیف، فی مورد الترخیص یرتفع أصل التکلیف، فلا یکون هناک علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، بینما هو یقول الترخیص لا یوجب المنافاة بین الترخیص والتکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال فلا یقتضی رفع الید عن أصل التکلیف، وإنّما یقتضی رفع الید عن إطلاق التکلیف، فإذا رفعنا الید عن إطلاق التکلیف سوف یثبت تکلیف، لکنّه لیس مطلقاً، وإنّما تکلیف مقیّد، هذا التکلیف المقیّد هو یعلم به إجمالاً وهذا یستلزم حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 278


1- نهایة الأفکار، المحقق العراقی، ج2، ص351.

توضیح کلامه(قدّس سرّه): هو یقول بأنّ المنافاة هی لیست فی الحقیقة بین الترخیص التخییری وبین أصل التکلیف بدلیل أنّ الترخیص لا ینافی التکلیف علی تقدیر عدم مصادفته للحرام الواقعی، یعنی هذا الطرف الذی رُخص للمکلّف فی ارتکابه الذی هو فی محل الکلام ما یختاره لرفع عطشه. هذا الترخیص علی تقدیر أن لا یکون الحرام موجوداً فی هذا الفرد الذی اختاره لا یکون منافیاً للتکلیف الواقعی، وإنّما یکون الترخیص فی هذا الطرف الذی اختاره المکلّف منافیاً للتکلیف الواقعی علی تقدیر أن یکون التکلیف الواقعی ثابتاً فی هذا الطرف، وأمّا علی تقدیر عدم المصادفة، علی تقدیر أن تکون النجاسة موجودة فی الطرف الآخر الذی لم یختره، الترخیص فی هذا الطرف لا یکون منافیاً للتکلیف الواقعی، هذا دلیل علی أنّ الترخیص فی شرب ما یختاره لیس منافیاً لأصل التکلیف، وإنّما هو ینافی إطلاق التکلیف لصورة مصادفة الحرام لما اختاره لرفع عطشه. إذن: المنافاة لیس بین الترخیص وبین أصل التکلیف، وإنّما المنافاة بین الترخیص وبین إطلاق التکلیف لصورة المصادفة، الضرورات تقدّر بقدرها، فنرفع الید عن إطلاق التکلیف بهذا المقدار، فنقول أنّ إطلاق التکلیف لا یشمل صورة المصادفة، وإنّما یختص بصورة عدم المصادفة، فنقیّد التکلیف بما إذا لم یصادف الحرام الواقعی ما یختاره المکلّف لرفع عطشه، فیبقی التکلیف المقیّد ولا موجب لرفع الید عنه؛ لأنّ الترخیص لا ینافیه، فنلتزم بحرمةٍ مقیّدة، هذا الالتزام بالتکلیف المقیّد یعنی أننا بدلاً من أن نقول بالعلم الإجمالی بالحرمة فی أحد الطرفین نقول هناک علم إجمالی بحرمةٍ مقیّدةٍ بعدم المصادفة، هذا نعلم به إجمالاً، وهذا العلم بهذه الحرمة المقیّدة بعدم المصادفة تنجّز حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه یُحتمل انطباقها علی هذا الطرف، ویُحتمل انطباقها علی الطرف الآخر، فهی حرمة مقیّدة، لکنّه یعلم بثبوتها علی کل تقدیر، فی هذا الطرف مقیّدة بما هی مقیّدة ممکن أن تنطبق علی هذا الطرف بأن یکون هذا الطرف غیر مصادف للحرام فتثبت فیه الحرمة، ویُحتمل انطباقها علی الطرف الآخر، بأن یکون الطرف الآخر غیر مصادف للحرام؛ فحینئذٍ تثبت فیه الحرمة. إذن هی حرمة مقیّدة معلومة علی کل تقدیر، وفعلیة علی کل تقدیر؛ وحینئذٍ تکون موجبة لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة، وینتهی نتیجة هذا الکلام إلی حرمة المخالفة القطعیة، وتنجیز العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، وإن کان هو یشترک مع صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی إثبات أصل المنافاة. هذا هو الرأی الثانی فی المقام، ونحن هنا فی مقام استعراض الآراء فقط.

ص: 279

هذا الرأی ینتهی إلی نتیجة یُعبّر عنها ب______ (التوسّط فی التنجیز)، یوجد لدینا اصطلاح(التوسّط فی التنجیز) ویوجد اصطلاح آخر هو(التوسّط فی التکلیف)، المحقق العراقی(قدّس سرّه) انتهی إلی نتیجة التوسّط فی التنجیز، والفرق بینهما هو أنّ التوسّط فی التکلیف یعنی أنّ التکلیف الواقعی یثبت علی تقدیر ولا یثبت علی تقدیرٍ آخرٍ، والتوسّط فی التکلیف واضح جدّاً فی مسألة الاضطرار إلی بعض الأطراف بعینه؛ لما قلناه سابقاً من أنّ الاضطرار إلی فردٍ معیّن یرفع التکلیف واقعاً کما إذا اضطرّ إلی أکل المیتة، فترتفع الحرمة واقعاً ویثبت الترخیص الواقعی، فإذا اضطرّ إلی شرب الماء عندما یعلم بنجاسته، أو نجاسة الخل، الخل لا یرفع عطشه، الماء هو الذی یرفع عطشه واضطر إلی شربه، فیثبت فیه ترخیص واقعی، وترتفع عنه الحرمة واقعاً، هنا سوف یثبت فی هذا العلم الإجمالی التکلیف علی تقدیر، وعلی تقدیرٍ آخرٍ لا تکلیف، فیثبت التکلیف علی تقدیر ولا یثبت علی تقدیرٍ آخرٍ، علی تقدیر أن یکون الحرام هو الماء یوجد تکلیف، لکن علی تقدیر أن یکون الحرام هو النجاسة الساقطة فی الخل، فلا تکلیف. هذا هو التوسّط فی التکلیف، النقص یطرأ مباشرةً علی التکلیف. وأمّا فی الاضطرار إلی غیر المعیّن، علی هذا المبنی الذی بنا علیه المحقق العراقی(قدّس سرّه)، هذا لا ینتج التوسط فی التکلیف کما هو فی المقام الأوّل؛ لأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول التکلیف ثابت علی کل تقدیر، أصل التکلیف لا یرتفع، غایة الأمر أنّ هذا التکلیف لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، وینجّز حرمة المخالفة القطعیة، ومن هنا النقص لا یطرأ علی التکلیف وإنّما یطرأ علی التنجیز، التنجیز یثبت علی تقدیر ولا یثبت علی تقدیرٍ آخر، یثبت فی موردٍ ولا یثبت فی موردٍ آخرٍ، تنجیز هذا العلم الإجمالی مع بقاء التکلیف علی کل تقدیر ینتج تنجیز حرمة المخالفة القطعیة ولا یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة. هذا التفریق والتبعیض فی التنجیز یُعبّر عنه بالتوسّط فی التنجیز.

ص: 280

المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی أحد تقریریه یختار هذا الرأی الثانی، یعنی یلتزم بالتوسّط فی التنجیز علی ما نقله أحد مقررّی بحثه، وکما هو موجود فی أجود التقریرات، (1) ویذهب إلی المنجّزیة لکن ببیانٍ آخر یختلف عن بیان المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ لأنّ بیان المحقق العراقی(قدّس سرّه) مبنی علی العلّیة التامّة، أمّا المحقق النائینی(قدّس سرّه)، فلا یقول بالعلّیة التامّة وإنّما یقول بالاقتضاء، لکن مع ذلک هو ینتهی إلی المنجّزیة، لکن ببیان آخرٍ، فی أجود التقریرات اختار التوسط فی التکلیف، وبالتالی المنجّزیة، بینما فی فوائد الأصول (2) اختار القول بالتوسّط فی التنجیز.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه

کان الکلام فی الرأی الثانی: فی مسألة الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی الغیر معیّن، وأنّ العلم الإجمالی فی هذه الصورة هل ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، أو لا ؟ الرأی الثانی هو للمحقق العراقی(قدّس سرّه)، وقلنا أنّه یختار التوسّط فی التنجیز اشتباهاً؛ والصحیح أنّه یختار التوسّط فی التکلیف، هو یری أنّ العلم الإجمالی فی المقام یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة، لکن ببیان آخر غیر البیان الذی یُذکر فی الرأی الثالث، هو یتفّق مع صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی المنافاة بین الترخیص التخییری لأجل الاضطرار وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، ولکنّه یختلف معه فی أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی الرأی الأوّل انتهی إلی نتیجة عدم المنجّزیة، بینما هو انتهی إلی نتیجة المنجّزیة.

ص: 281


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج2، ص270.
2- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص106.

توضیح کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه)، هو یقول: المنافاة ثابتة بین الترخیص وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، لکنّ هذا مبنی علی القول بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة کما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، علی هذا القول بالعلّیة التامّة هو یقول المنافاة ثابتة؛ لأنّه علی العلّیة التامّة یستحیل الترخیص فی ترک الموافقة القطعیة؛ لأنّ العلم الإجمالی المفروض وجوده فی المقام _____________ بحسب الفرض ______________ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فکیف یُعقل الترخیص فی ترک الموافقة القطعیة، هذا غیر معقول أصلاً، حتّی لأجل الاضطرار غیر معقول، لا یمکن الجمع بین الترخیص وبین التکلیف المعلوم المفروض أنّ العلم الإجمالی به علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة.

وبعبارةٍ أخری: یقول المحقق العراقی(قدّس سرّه) (1) أنّ حکم العقل بناءً علی العلّیة التامّة لوجوب الموافقة القطعیة حکم تنجیزی غیر قابل للوضع أو الرفع شرعاً، ولا تناله ید الجعل، لا رفعاً ولا وضعاً، هو غیر قابل للتغییر. إذا صار هذا واضحاً بناءً علی العلّیة التامّة تکون المنافاة واضحة بین الترخیص وبین التکلیف المعلوم بالإجمال؛ حینئذٍ یقول: إذا فرضنا ورود الترخیص فی ترک الموافقة القطعیة، ولو بعنوان الاضطرار کما هو المفروض فی محل الکلام؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف اضطر إلی ارتکاب أحد الطرفین، یعنی رُخّص له فی ارتکاب أحد الطرفین، وهذا الترخیص هو ترخیص فی ترک الموافقة القطعیة، فی هذه الحالة إذا ورد الترخیص، یقول لابدّ ____________ هذه نقطة مهمّة فی کلامه _________ من رفع الید عن فعلیة التکلیف علی تقدیر انطباقه علی مورد الاضطرار؛ لأنّ هذا هو معنی أنّ هناک منافاة بین الترخیص وبین التکلیف، فإذا ثبت الترخیص وفُرض أنّ ما اختاره المکلّف لرفع اضطراره کان مصادفاً للحرام الواقعی، یقول هنا لابدّ من رفع الید عن فعلیة التکلیف لاستحالة الجمع بین فعلیة التکلیف وبین الترخیص، ولا یُعقل أن یُرخّص فی هذا وفی نفس الوقت یکون حراماً.

ص: 282


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للسیّد البروجردی، ج3، ص352.

فإذن: إذا ورد الترخیص فی ارتکاب أحد الطرفین لابدّ من رفع الید عن فعلیة التکلیف علی تقدیر مصادفة الطرف الذی رفع به اضطراره للحرام الواقعی؛ فلا یُعقل أن نقول أنّ الحرمة فعلیة؛ بل لابدّ من الالتزام بارتفاع هذه الحرمة الفعلیة. ولابدّ من رفع الید عن فعلیة التکلیف علی تقدیر انطباق الاضطرار علی مورد التکلیف. هذا الکلام فی الحقیقة یعنی اختصاص فعلیة التکلیف بصورة عدم المصادفة، التکلیف لا یکون فعلیاً علی تقدیر أن یکون ما ارتکبه لرفع اضطراره حرام واقعاً، هنا لابدّ أن ترتفع الحرمة؛ إذ لا یمکن الجمع بین الترخیص وبین الحرمة؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون ما ارتکبه لرفع اضطراره هو النجس الواقعی لابدّ أن نلتزم بارتفاع التکلیف وعدم الحرمة؛ لأنّه ثبت فیه الترخیص، فلابدّ من رفع الید عن فعلیة التکلیف فیه، فتکون فعلیة التکلیف مختصّة بحالة عدم المصادفة، یعنی إذا کان ما ارتکبه لرفع اضطراره لم یصادف الحرام الواقعی؛ حینئذٍ تکون الحرمة فعلیة فی الطرف الآخر. یقول: هذا هو مقتضی الالتزام بالعلّیة التامّة؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فإذا ورد ترخیص، فهذا یعنی ارتفاع وجوب الموافقة القطعیة، أی رخّص الشارع فی ترک الموافقة القطعیة، وهذا لا یُعقل علی القول بالعلّیة التامّة إلاّ إذا رفعنا الید عن التکلیف فی صورة مصادفة ما ارتکبه لرفع اضطراره للحرام الواقعی، ونقول فی هذه الحالة لا حرمة. نعم، توجد حرمة إذا لم یصادف الحرام الواقعی، یعنی یکون الحرام الواقعی فی الطرف الآخر، فتکون الحرمة فعلیة. یقول: هذا لابدّ من الالتزام به، المنافاة بین التکلیف الواقعی وبین الترخیص التخییری لابدّ من الالتزام به کما یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، هناک منافاة بینهما علی العلّیة التامّة، لکن هذا یتوجّه علیه إشکال، وهذا الإشکال هو أنّه بناءً علی هذا الکلام لابدّ من الالتزام بنفس ما التزم به صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من عدم المنجّزیة، أنّ هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ شرط منجّزیة العلم الإجمالی کما تقدّم هو أن یکون علماً بتکلیف فعلیٍ علی کل تقدیر، أمّا إذا کان علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیر، لا علی تقدیر آخر، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً؛ لأنّه یفقد شرط المنجّزیة؛ لأنّه إن صادف ما ارتکبه لرفع اضطراره الحرام الواقعی فلا تکلیف، إن کان الحرام الواقعی فی هذا الطرف الذی اختاره لرفع اضطراره یرتفع التکلیف لمکان الاضطرار والترخیص المنافی للتکلیف، وهذا یوجب ارتفاع التکلیف. نعم، إن لم یصادف ما ارتکبه لرفع اضطراره الحرام الواقعی یکون التکلیف حینئذٍ فعلیاً، وهذا تکلیف فعلی علی تقدیر دون تقدیر آخر، ومثل هذا العلم الإجمالی الذی لا یکون علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر یسقط عن المنجّزیة ولا یکون منجّزاً، فلابدّ أن نلتزم بما التزم به صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من عدم المنجّزیة.

ص: 283

هو یجیب عن هذا الإشکال: وبهذا یختلف عن صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، هو یقول أنّه یمکن دفع الإشکال عن طریق الالتزام بتقیید التکلیف بحال الاجتناب عن الآخر، هذا الشیء الذی یذکره وینتهی به إلی نتیجة التوسّط فی التکلیف، یقول: نقیّد التکلیف بحال الاجتناب عن الآخر، فکأنّ الحرمة الفعلیة تختص بحالة عدم المصادفة مع ارتکاب الطرف الآخر، فکأنّه یری أنّ فعلیة التکلیف تکون ثابتة فی حالة ما إذا اجتنب الطرف الآخر، یعنی لم یرفع اضطراره به، وإنّما رفع اضطراره بهذا، وهذا الذی رفع اضطراره به لم یصادف الحرام الواقعی؛ حینئذٍ یکون التکلیف فعلیاً.

وبعبارةٍ أخری: إذا لم یصادف ما اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعی یحرم علیه الطرف الآخر، فکل طرفٍ یحرم علی المکلّف إذا اجتنبه، یعنی لم یرفع اضطراره به ولم یصادف ما رفع به الاضطرار الحرام الواقعی، وبهذا یصل إلی نتیجة أنّ التکلیف موجود وثابت، هو یقیّد التکلیف بعد أن فرغ عن کون فعلیة الحرمة مختصّة بصورة عدم المصادفة؛ لأنّه فی صورة المصادفة للحرام لا تکون الحرمة فعلیة، هو خصّ هذه الحرمة الفعلیة بصورة عدم المصادفة، وإلاّ مع المصادفة لا حرمة، فخصّها بصورة عدم المصادفة. إذن: إذا ارتکب أحد الإناءین لرفع اضطراره ولم یصادف الحرام یحرم علیه الطرف الآخر؛ لأننا إذا فرضنا أنّه رفع اضطراره بأحد الطرفین ولم یرتکب الآخر، فالآخر یکون حراماً علیه، الطرف الذی لم یرتکبه حرام علیه إذا ارتکب الطرف الأوّل لرفع اضطراره ولم یصادف الحرام، فتکون الحرمة حینئذٍ فعلیة فی الطرف الآخر. هذا التکلیف قیّده بقیدٍ آخر، قیّده بصورة الاجتناب عن الآخر، وبقید عدم ارتکاب الآخر.

ص: 284

وبعبارةٍ أخری: قیّده بعدم رفع اضطراره بالآخر، وإنّما یرفع اضطراره بأحدهما، إذا رفع اضطراره بأحدهما ولم یصادف الحرام الواقعی، فالتکلیف الفعلی یکون ثابتاً؛ وحینئذٍ تکون الحرمة فعلیة وثابتة فی الطرف الآخر، فیجب علیه اجتنابه ویحرم علیه ارتکابه، وکأنّ کلامه یرجع إلی أنّه یفترض أنّ هناک علماً بحرمةٍ ثابتةٍ فی کلٍ من الطرفین إذا لم یصادف الطرف الآخر الذی اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعی، هذا الطرف تثبت فیه حرمة فعلیة إذا لم یصادف الآخر الذی رفع اضطراره به الحرام الواقعی، ونفس الکلام یقال فی الطرف الآخر، أنّ الحرمة تکون فیه فعلیّة إذا لم یصادف ما رفع به اضطراره ____________ الطرف الأوّل ___________ الحرام الواقعی، فمرجعه إلی العلم بحرمة فعلیة ثابتة فی کلٍ من المحتمَلَین، لکن بهذا الشرط، عدم مصادفة ما اختاره لرفع اضطراره للحرام الواقعی مع اجتناب الآخر وعدم ارتکابه، إذا رفع اضطراره بأحد الطرفین فقط ولم یصادف الحرام الواقعی؛ حینئذٍ یکون الآخر حراماً علیه، فتکون الحرمة فعلیة فی هذه الحالة، وذکر بأنّ مرجع ذلک إلی تکلیفٍ توسّطی ____________ کما عبّر عنه ___________ بین نفی التکلیف رأساً کما هو ظاهر الکفایة؛ لأنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذکر بأنّ التکلیف أصلاً ینتفی؛ لأنّ الترخیص ینافی التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، ویترتّب علی ذلک عدم المنجّزیة حتّی لحرمة المخالفة القطعیة، أنّ العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً حتّی لحرمة المخالفة القطعیة، وبین ثبوت التکلیف مطلقاً، یقول أنّ التکلیف الذی نختاره هو تکلیف توسّطی بین نفی التکلیف مطلقاً کما یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، الذی یقتضی عدم المنجّزیة حتّی لحرمة المخالفة القطعیة وبین ثبوته مطلقاً، الذی یقتضی المنجّزیة حتّی لوجوب الموافقة القطعیة، یقول هذا تکلیف توسّطی یُنتج منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة وسقوط المنجّزیة بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة، أمّا سقوط المنجّزیة بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة، فباعتبار أنّ الترخیص ثابت فی أحد الطرفین، بلا إشکال، وأمّا المنجّزیة بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة؛ فلأنّه افترض حرمة کلٍ من المحتملین فی حالة معیّنة، فإذا ارتکب أحد الطرفین لرفع اضطراره ولم یصادف الحرام الواقعی، فالآخر حرام، فیحرم علیه فعله، فهو یعلم بحرمةٍ فعلیة ثابتةٍ إمّا فی هذا الطرف علی تقدیر أن یرفع اضطراره بالآخر ولا یکون مصادفاً للحرام الواقعی، وأمّا فی هذا الطرف علی تقدیر أن یرفع اضطراره بالطرف الأوّل ولا یکون مصادفاً للحرام، فهذا علم إجمالی یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة.

ص: 285

ثمّ یذکر أنّ هذا هو المقصود، یقول:(لا نعنی بالتوسّط فی التکلیف إلاّ هذا المعنی)، لا نعنی بالتوسّط فی التکلیف أنّ التکلیف یکون ثابتاً علی تقدیر ولیس ثابتاً علی تقدیر، لا نعنی بالتوسّط فی التکلیف هذا المعنی وهو المعنی الذی ذکرناه نقلاً عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی الدرس السابق.

وبعبارةٍ أخری: أنّ التوسّط فی التکلیف تارةً یُفسّر بما فسّره المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی(فوائد الأصول)، وحاصله: أنّ معنی التوسّط فی التکلیف هو أنّ التکلیف یکون ثابتاً علی تقدیر ولا یکون ثابتاً علی تقدیرٍ آخر، یکون ثابتاً فی حال، ولا یکون ثابتاً فی حالٍ آخر. هذا التفسیر للتوسّط فی التکلیف هو الموجود فی کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، فأنّه بالنتیجة یلتزم بأنّ التکلیف ثابت علی تقدیر عدم المصادفة وغیر ثابتٍ علی تقدیر المصادفة، هو یری أنّه فی حالة المصادفة للتکلیف الواقعی یرتفع التکلیف أساساً. إذن: التکلیف یکون ثابتاً فی حال ولا یکون ثابتاً فی حالٍ آخر، وهذا هو التوسّط فی التکلیف حسب تعبیر المحقق النائینی(قدّس سرّه).

المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول: لیس المقصود بالتوسّط فی التکلیف هذا المعنی، وإنّما مقصودنا بالتوسّط فی التکلیف هو المعنی الذی أشرنا إلیه، بمعنی أننّا نرفع الید عن إطلاق التکلیف ونقیّده، إذا قیّدنا التکلیف؛ حینئذٍ النقص یعرض علی التکلیف؛ ولذا یکون هناک توسّط فی التکلیف، المناط هو أنّ النقص عندما یعرض علی التکلیف، هذا معناه أننّا غیرنا من التکلیف وقیّدناه وعرض النقص علی التکلیف، فیکون توسّطاً فی التکلیف، مع الالتفات إلی أنّ التوسّط فی التکلیف بالمعنی الذی طرحه المحقق العراقی(قدّس سرّه) یستلزم التوسّط فی التنجیز أیضاً؛ لأنّ التوسّط فی التنجیز، بمعنی أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة دون وجوب الموافقة القطعیة، هذا هو التوسّط فی التنجیز، التوسّط فی التکلیف بالمعنی الذی یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه) ینتج بطبیعة الحال التوسّط فی التنجیز؛ لما قلناه من أنّه ینتج سقوط وجوب الموافقة القطعیة، والالتزام بحرمة المخالفة القطعیة، وهذا توسّط فی التنجیز، لکن هذا التوسّط فی التنجیز مسبوق بعروض وطرو النقص علی نفس التکلیف بتقییده بحالة الاجتناب عن الآخر، تقییده بأن یرفع اضطراره بأن یرتکب أحد الطرفین فقط، إذا ارتکب أحد الطرفین ولم یصادف الحرام الواقعی، فالتکلیف ثابت، التکلیف فعلی لا نرفع الید عن أصل التکلیف؛ إذ لا موجب لذلک؛ لأنّ المنافاة کما ذکر لیست بین أصل الترخیص وبین أصل التکلیف، وإنّما المنافاة بین التکلیف وبین إطلاق التکلیف لما إذا صادف ما رفع به اضطراره الحرام الواقعی، هنا یوجد منافاة بین الترخیص وبین الحرمة فی هذا الفرد الذی اختاره لرفع اضطراره وصادف الحرام الواقعی، هنا نرفع الید عن إطلاق التکلیف فی هذه الحالة فقط ولا داعی لرفع الید عن أصل التکلیف کما یقول صاحب الکفایة (قدّس سرّه)، نرفع الید عن إطلاقه لهذه الحالة، فتختص فعلیة التکلیف بحالة ما إذا لم یصادف ما اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعی واجتنب الآخر، یعنی لم یرتکب الآخر لرفع اضطراره، وإنّما اجتنب الآخر؛ حینئذٍ یکون الآخر حراماً، فتکون الحرمة فعلیة فی هذه الحالة، یقول: هذا هو المراد بالتوسّط فی التکلیف فی محل کلامنا، وهذا هو مقصودنا وهو ینتج کما قلنا التوسّط فی التنجیز والالتزام بمنجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة.

ص: 286

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه

الرأی الثالث: ما ذهب إلیه المحقق النائینی کما فی(فوائد الأصول)؛ لأنّ ما ذکر فی (أجود التقریرات) یختلف عنه، وسنجعله الرأی الرابع. ذهب إلی المنجّزیة، أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام ووجوب الاجتناب عن ما عدا ما یُدفع به الضرر، وذکر أنّ هذا الحکم ثابت فی جمیع الصور الثلاثة المتقدّمة فی القسم الأوّل، والسرّ فی ذلک ذکر کلاماً طویلاً لابدّ من استعراضه، قال:(فأنّ الاضطرار إلی غیر المعیّن ___________ الذی هو محل کلامنا ___________ یجتمع مع التکلیف الواقعی ولا مزاحمة بینهما). (1) الاضطرار إلی غیر المعیّن یستلزم الترخیص التخییری، فکأنّه یرید أن یقول لا منافاة ولا مزاحمة بین الترخیص التخییری وبین التکلیف الواقعی، أی أن یکون هناک تکلیف واقعی یُعلم بثبوته فی أحد الإناءین ومع ذلک یُرخّص للمکلّف فی ارتکاب أحدهما، لا مزاحمة بینهما ولا منافاة. والسرّ فی عدم المنافاة والمزاحمة هو أنّ المکلّف یتمکّن من رفع اضطراره بغیر متعلّق التکلیف، وهذا معناه أنّ مرکز الاضطرار یختلف عن مرکز التکلیف ومتعلّقه، التکلیف یتعلّق بالفرد الذی هو النجس الواقعی الذی سقطت فیه __________ مثلاً ____________ قطرة الدم، بینما الاضطرار والترخیص الذی هو لازم للاضطرار یتعلّق بأحدهما، أی بالجامع، فهما لا یتعلّقان بشیءٍ واحدٍ، الاضطرار لیس منصبّاً علی متعلّق التکلیف حتّی یقال کیف یمکن الجمع بین التکلیف بشیءٍ وبین الترخیص فیه ؟! هذان متزاحمان لا یمکن الجمع بینهما، هو کأنّه یرید أن یقول: أنّ الاضطرار لا یتعلّق بمتعلّق التکلیف، وإنّما یتعلّق بأحدهما. إذن: الترخیص ثابت لأحدهما، أی للجامع، والترخیص الثابت للجامع لا ینافی ولا یزاحم التکلیف الواقعی المنصب علی الفرد؛ لأنّ التکلیف الواقعی متعلّق بالنجس الواقعی، أی بالإناء الذی سقطت فیه قطرة الدم واقعاً، التکلیف متعلّق بالفرد، والاضطرار والترخیص متعلّق بالجامع؛ ولذا لا منافاة بینهما، والدلیل علی ذلک هو أنّ المکلّف یتمکّن من رفع اضطراره بغیر متعلّق التکلیف، أی بالإتیان بالفرد الآخر الذی هو غیر متعلّق التکلیف؛ بل یقول: لولا الجهل بمتعلّق التکلیف لتعیّن علی المکلّف أن یرفع اضطراره بغیره، بمعنی أنّه لو کان عالماً بأنّ هذا هو الذی تعلّق به التکلیف؛ حینئذٍ لا إشکال فی أنّه یتعیّن علیه أن یرفع اضطراره بالآخر. غایة الأمر أنّه یجهل متعلّق التکلیف، لکنّ جهله هذا لا یعنی أنّ الترخیص والاضطرار یتعلّق بنفس ما یتعلّق به التکلیف، وإنّما الترخیص والاضطرار یتعلّق بأحدهما، أی بالجامع، بینما التکلیف یتعلّق بالفرد.

ص: 287


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص98.

ثمّ ذکر فی مقام توضیح هذه الفکرة أنّ الاضطرار إلی المعیّن یختلف عن الاضطرار إلی غیر المعیّن، المقام الأوّل یختلف عن المقام الثانی الذی هو محل کلامنا، فی المقام الأوّل الاضطرار یزاحم التکلیف وینافیه؛ لأنّ المرکز واحد، عندما یضطر إلی المعیّن، عندما تدور النجاسة بین أن تکون ساقطة فی الماء، أو فی الخل فی المثال السابق، وهو اضطرّ إلی شرب الماء لرفع عطشه، الاضطرار یتعلّق بالماء، والتکلیف الواقعی علی تقدیر أن تکون النجاسة فیه أیضاً یتعلّق بالماء، ومن هنا تکون هناک مزاحمة بین الاضطرار إلی المعیّن وبین التکلیف الواقعی، بمعنی أنّ الاضطرار بنفس وجوده یکون مزاحماً للتکلیف الواقعی إذا صادف أنّ التکلیف الواقعی متعلّق بالماء، علی تقدیر مصادفة الماء للنجاسة الواقعیة هناک منافاة بین الترخیص فیه وبین تعلّق التکلیف فیه؛ لأنّهما یتعلّقان بشیءٍ واحد علی فرض أن تکون النجاسة ساقطة فی هذا الإناء الذی اضطرّ إلیه تعییناً، یقول: وهذه المزاحمة بینهما فی هذه الحالة تدور مدار الواقع ولا مدخل للجهل والعلم فیها، وإنّما هی تدور مدار واقع ما اضطرّ إلیه، فإذا فرضنا أنّ الواقع الذی اضطرّ إلیه وهو الماء فی هذا المثال کان التکلیف متعلّقاً به تکون المزاحمة ثابتة، المزاحمة واقعیة حتّی فی حال جهل المکلّف، هذا الفرد الذی اضطرّ إلیه وهو الماء علی تقدیر أن یکون نجساً فی الواقع تقع المزاحمة بین التکلیف باجتنابه وبین الترخیص فی ارتکابه، ولا یجتمع تحریمه مع الترخیص فیه، فتقع بینهما المزاحمة، وهذا بخلاف الاضطرار إلی غیر المعیّن الذی هو محل الکلام؛ لأنّ هذا الاضطرار إلی غیر المعیّن بوجوده الواقعی لیس مزاحماً للتکلیف لما ذکرنا من أنّ مصبّهما متعدد، التکلیف یتعلّق علی فرض وقوع النجاسة فی هذا الإناء، یتعلّق بالإناء، أی بالفرد، بینما الاضطرار والترخیص لیس إلی الفرد، وإنّما هو إلی الجامع وإلی أحد الطرفین؛ لأنّ الاضطرار لیس إلی فردٍ معیّن، وإنّما هو إلی غیر المعیّن.

ص: 288

یترتّب علی هذا الکلام أنّ التکلیف فی موارد الاضطرار إلی المعیّن یسقط إذا فُرض تعلّق التکلیف به، أنّ التکلیف فی موارد الاضطرار إلی المعیّن لو فُرض کونه هو النجس الواقعی یسقط باعتبار الاضطرار إلی ذلک الفرد المعیّن، وهذا واضح، باعتبار أنّ الاضطرار یقتضی سقوط التکلیف، فالاضطرار إلی أکل المیتة یقتضی سقوط التکلیف بحرمة الأکل، والاضطرار فی المقام الأوّل إلی شرب الماء لرفع عطشه یقتضی سقوط الحرمة عنه لو کان هو الحرام الواقعی، أی لو کان هو النجس واقعاً، وبالتالی لا یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر؛ لاحتمال أن یکون ما اضطرّ إلیه هو الحرام الواقعی، وعلی هذا التقدیر یسقط التکلیف. نعم، علی تقدیر أن یکون الحرام فی الطرف الآخر یکون التکلیف فعلیاً.

إذن: التکلیف لا یکون فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما یکون فعلیاً علی تقدیر عدم مصادفة الحرام لما اضطرّ إلیه بعینه؛ لأنّه یحرم علیه شربه. وأمّا علی تقدیر أن یکون الحرام متحققاً فی ما اضطر إلیه؛ حینئذٍ یسقط التکلیف، ولا تکلیف. إذن: التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر.

وأمّا فی مورد الاضطرار إلی غیر المعیّن الذی هو محل کلامنا، یقول: أنّ الاضطرار إنّما یوجب سقوط التکلیف عن ما یُرفع به الاضطرار لا أزید من ذلک، الفرد الذی رفع به اضطراره یسقط عنه التکلیف، فلا یحرم شربه لو کان هو النجس الواقعی، أمّا الطرف الباقی الذی لم یدفع به اضطراره، فهو باقٍ علی حکمه ولا موجب للترخیص فیه؛ لأنّ الترخیص فیه إمّا أن یکون بملاک الاضطرار، والمفروض أن لا اضطرار بالنسبة إلیه؛ لأنّ المفروض أنّه رفع اضطراره بهذا، فالآخر لا اضطرار له، فلا یثبت فیه الترخیص بملاک الاضطرار. وإمّا أن یثبت فیه الترخیص، باعتبار الأصول المؤمّنة، ویقول: أنّ الأصول المؤمنّة لا تجری فی الطرف الآخر؛ لأنّه طرف للعلم الإجمالی، والعلم الإجمالی یمنع من جریان الأصول فی أطرافه. إذن، الطرف الآخر لا مرخّص فیه ولا مؤمّن من ناحیته، فیجب الاجتناب عنه.

ص: 289

بعبارةٍ أخری، یقول: أنّ فعلیة التکلیف تدور مدار فعلیة موضوعه، کلّما کان موضوع التکلیف فعلیاً، التکلیف قهراً یکون فعلیاً، ولا یُعقل أن لا یکون الحکم فعلیاً مع فعلیة موضوعه، وإنّما هو فی الفعلیة یتبع فعلیة موضوعه. فی محل الکلام لابدّ أن یکون الحکم فعلیاً وذلک تبعاً لفعلیة موضوعه؛ لأنّ موضوعه متحقق بحسب الفرض بین المشتبهات، التکلیف المعلوم بالإجمال موضوعه الماء الذی وقعت فیه النجاسة، وهذا متحقق بین المشتبهات، قطعاً أحد المشتبهین وقعت فیه النجاسة، فإذن، موضوع التکلیف الواقعی محفوظ ومتحقق فعلاً ومع فعلیة الموضوع لابدّ أنّ یکون التکلیف فعلیاً أیضاً، الاضطرار إنّما یرفع التکلیف إذا تعلّق بنفس ما تعلّق به التکلیف کما فی المقام الأوّل؛ لأنّ الاضطرار متعلّق بالفرد بعینه، فإذا فُرض أنّ النجاسة وقعت فیه، هنا نقول هذا یُسقط التکلیف؛ لأنّ الاضطرار إلی الشیء یُسقط عنه التکلیف، لکنّ هذا غیر متحقق فی محل الکلام؛ لأننّا ذکرنا أنّ الاضطرار لا یتعلّق بنفس ما تعلّق به التکلیف حتّی لو فرضنا أنّ هذا الإناء هو النجس واقعاً، لکن هذا لیس معناه أنّ الاضطرار یکون متعلّقاً به حتّی یکون الاضطرار إلیه موجباً لسقوط التکلیف فیه؛ بل یبقی الاضطرار متعلّقاً بالجامع، أی بأحدهما ولیس متعلّقاً بالفرد حتّی یکون موجباً لسقوط التکلیف. النتیجة هی أنّ التکلیف یکون فعلیاً، باعتبار فعلیة موضوعه ویُشیر إلی ذلک ما تقدّم من أنّ المکلّف لیس مضطرّاً إلی ارتکاب متعلّق التکلیف؛ بل بإمکانه أن یرفع الاضطرار بالفرد الآخر الذی لم یتعلّق به التکلیف.

ثمّ دخل فی مسألة التوسّط فی التکلیف والتوسّط فی التنجیز، وذکر أنّ الاضطرار إلی المعیّن فی المقام الأوّل یقتضی التوسّط فی التکلیف ولا یمکن أن یقتضی التوسّط فی التنجیز، هذا فی المقام الأوّل، باعتبار ما أُشیر إلیه من أنّ التکلیف الواقعی مقیّد بعدم طرو الاضطرار، بمجرّد أن یطرأ الاضطرار یرتفع التکلیف الواقعی. إذن: فی المقام الأوّل فُرض طرو الاضطرار علی الفرد المعیّن، هذا یکون مسقطاً للتکلیف فیه علی تقدیر أن یکون هو النجس واقعاً؛ وحینئذٍ لا یبقی علم إجمالی بتکلیفٍ فعلی للمکلّف؛ لعدم الجزم بفعلیة التکلیف؛ لأنّ هذا التکلیف علی أحد التقدیرین یکون ساقطاً. نعم، علی التقدیر الآخر یکون ثابتاً. إذن: لا علم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر. یقول هذا هو التوسّط فی التکلیف؛ لأنّه یُفسّر التوسّط فی التکلیف ___________ کما نقلنا ذلک عنه سابقاً ___________ بأنّه عبارة عن کون التکلیف ثابتاً علی تقدیرٍ ولیس ثابتاً علی تقدیرٍ آخرٍ، کلّما کان التکلیف ثابتاً علی تقدیرٍ وغیر ثابتٍ علی تقدیرٍ آخرٍ، فهذا توسّط فی التکلیف، هذا فی الاضطرار إلی المعیّن یکون هکذا: علی تقدیر أن تکون النجاسة ساقطة فی الماء فی المقام الأوّل یرتفع التکلیف؛ لأنّه مورد الاضطرار، والاضطرار یرفع التکلیف. نعم علی التقدیر الآخر یکون التکلیف ثابتاً. إذن: التکلیف لیس معلوماً علی کل تقدیر، وهذا هو التوسّط فی التکلیف.

ص: 290

یقول: التوسّط فی التنجیز لا یتحقق فی المقام الأوّل؛ لأنّه یُشترط فی التوسّط فی التنجیز بقاء التکلیف الواقعی علی ما هو علیه من دون أن یکون فی البین ما یقتضی رفعه واقعاً. عندما یکون هذا هو حال التکلیف، یعنی أنّه باقٍ علی ما هو علیه ولا یوجد فی المقام ما یقتضی رفعه واقعاً، هنا لابدّ أن یکون التوسّط فی التنجیز لا فی التکلیف؛ لأنّ التکلیف لم یُمس ولم یطرأ علیه نقص ولم یطرأ علیه أی شیءٍ، ای أنّه باقٍ علی وضعه السابق. نعم، فی مرحلة التنجیز یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة ولا یکون منجّزاً لوجوب المخالفة القطعیة، وهذا هو التوسّط فی التنجیز، بمعنی أنّ التکلیف فی مرحلة التنجیز یکون منجّزاً فی حالةٍ ولا یکون منجّزاً فی حالةٍ أخری. هذا توسّط فی التنجیز. یقول فی المقام الأوّل التوسّط لیس توسّطاً فی التنجیز؛ لأنّ التکلیف سقط علی أحد التقدیرین ولم یبقَ محفوظاً علی ما هو علیه، طرأ فی المقام ما یوجب سقوطه ورفعه واقعاً وهو الاضطرار إلی الفرد المعیّن؛ فحینئذٍ لا یبقی علی وضعه، وإنّما یسقط علی تقدیرٍ ویثبت علی تقدیرٍ آخر، وهذا هو التوسّط فی التکلیف.

ثمّ ذکر مسألة أنّ الترخیص واقعی وربطها بالمقام، أنّ الترخیص واقعی أو ظاهری ؟ وذکر بأنّ الترخیص فی موارد الاضطرار إلی المعیّن یکون ترخیصاً واقعیاً، المیزان فی الترخیص الواقعی والظاهری عند المیرزا(قدّس سرّه) هو أنّه إذا کانت العلّة فی ثبوت الترخیص هو محض الاضطرار فالترخیص یکون واقعیاً، وأمّا إذا کان الترخیص ثابتاً بملاک الجهل وعدم العلم؛ فحینئذٍ یکون الترخیص ظاهریاً، فکلّما کان الترخیص ثابتاً بملاک الاضطرار، فالترخیص ترخیص واقعی کما هو الحال فی المقام الأوّل، فی المقام الأوّل یقول ملاک الترخیص فی شرب الماء هو الاضطرار ولیس ملاکه الجهل، الجهل لا دخل له فی ذلک، وإنّما ملاکه الاضطرار، وحتّی إذا کان المکلّف جاهلاً یثبت الترخیص فی ما إذا اضطرّ إلیه، واصلاً الاضطرار من قیود التکلیف، یرتفع التکلیف عندما یکون هناک اضطرار إلی شیءٍ، فیثبت الترخیص، هذا الترخیص الذی یثبت بملاک الاضطرار هو ترخیص واقعی کما هو الحال فی المقام الأوّل. وأمّا إذا کان الملاک فی الترخیص هو الجهل وعدم العلم فالترخیص ظاهری، ویذکر لذلک مثالاً فی مسألة الدوران بین الأقل والأکثر، یقول: هناک الترخیص المستفاد من أدلّة البراءة __________ بناءً علی جریان البراءة لنفی وجوب الأکثر ___________ الترخیص فی ترک الأکثر ترخیص ناشئ من الجهل وعدم العلم والتردد بأنّ الواجب هل هو الأکثر، أو هو الأقل، هذا التردد والجهل وعدم العلم هو الذی أوجب الترخیص فی ترک الأکثر وعدم لزوم الإتیان به، فهو ترخیص ناشئ من الجهل؛ ولذا یکون ترخیصاً ظاهریاً. إذن: هو أعطی میزاناً عامّاً، المیزان فی کون الترخیص ظاهریاً أو واقعیاً بیّناه، الترخیص الواقعی ملاکه الاضطرار، والترخیص الظاهری ملاکه الجهل. ثمّ ذکر أنّ الترخیص الواقعی هو الثابت فی موارد الاضطرار إلی المعیّن، وهذا واضح ومفروغ عنه بالنسبة إلیه، والترخیص الظاهری ثابت فی موارد دوران الأمر بین الأقل والأکثر، ثمّ جاء إلی محل الکلام الذی هو الاضطرار إلی غیر المعیّن. فی مسألة الاضطرار إلی غیر المعیّن لدیه کلام، قال: هناک وجهان فی أنّه هل یقتضی التوسّط فی التکلیف، أو یقتضی التوسّط فی التنجیز؟

ص: 291

قبل هذا نبیّن ما هو ربط مسألة الترخیص الواقعی والترخیص الظاهری بمحل الکلام، إذا کان الترخیص واقعیاً بملاک الاضطرار المحض، فأنّه یُنتج التوسّط فی التکلیف، کما هو الحال فی المقام الأوّل، باعتبار أنّ الترخیص واقعی، والترخیص الواقعی لا یکاد یجتمع مع التکلیف الواقعی، بینهما مزاحمة ومنافاة، فإذا ثبت الترخیص فی هذا الطرف، فلابدّ أن یکون التکلیف مرتفعاً، وإذا ارتفع التکلیف عن هذا الطرف علی تقدیر أن یکون نجساً، هذا معناه أننّا انتهینا إلی نتیجة التوسّط فی التکلیف، بمعنی أنّ التکلیف یکون ثابتاً علی تقدیرٍ ولا یکون ثابتاً علی تقدیرٍ آخر، وهذا هو التوسّط فی التکلیف کما فسّره. إذن: افتراض الترخیص الواقعی یلازم الانتهاء إلی نتیجة التوسّط فی التکلیف کما هو الحال فی الاضطرار إلی المعیّن. وأمّا إذا کان الترخیص ظاهریاً بملاک الجهل ولیس الاضطرار، فهذا الترخیص الظاهری لا ینافی التکلیف الواقعی، لیس بینه وبین التکلیف الواقعی منافاة علی ما ذُکر فی بحث الجمع بین الأحکام الواقعیة والأحکام الظاهریة، وأنّه لیس هناک منافاة بین أن یثبت الترخیص فی شیء حتّی لو کان واجباً فی الواقع، أو کان حراماً فی الواقع، ما دام المکلّف جاهلاً بحرمته، أو جاهلاً بوجوبه، لا مشکلة فی أن یثبت فیه الترخیص الظاهری، الترخیص الظاهری یجتمع مع التکلیف الواقعی.

إذن: ثبوت الترخیص الظاهری فی طرفٍ یجتمع مع بقاء التکلیف ثابتاً وفعلیاً فیه، لا مشکلة فی هذا لدیه، فإذا کان التکلیف ثابتاً حتّی فی مورد الترخیص الظاهری؛ حینئذٍ هذا ینتج نتیجة التوسّط فی التنجیز؛ لأنّ التکلیف ثابت وفعلی ولیس أنّه ثابت علی تقدیرٍ ولیس ثابتاً علی تقدیرٍ آخرٍ، وإنّما التکلیف ثابت؛ لأنّه لا یوجد فی قِباله إلاّ الترخیص الظاهری، والترخیص الظاهری لا ینافی التکلیف الواقعی، فلابدّ أن یکون التوسّط فی التنجیز لا فی التکلیف.

ص: 292

الآن یأتی إلی المسألة التی هی محل الکلام وهی الاضطرار إلی غیر المعیّن، فیقول: یوجد وجهان فی المسألة، هل الاضطرار إلی غیر المعیّن یقتضی التوسّط فی التکلیف کما هو الحال فی الاضطرار إلی المعیّن ؟ أو یقتضی التوسّط فی التنجیز کما هو الحال فی المثال الذی ذکره وهو دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین ؟ قال: هناک وجهان؛ لأنّه فی مسألتنا اجتمع فی الترخیص کلا الملاکین، ملاک الترخیص الواقعی وهو الاضطرار وملاک الترخیص الظاهری وهو الجهل، لیس الترخیص فی محل الکلام لمحض الاضطرار کما أنّه لیس لمحض الجهل، وإنّما اجتمعا فیه، وکل منهما کان دخیلاً فی ثبوت الترخیص فی محل الکلام.

والوجه فی دخالة الجهل فی ثبوت الترخیص فی محل الکلام هو أنّه لولا الجهل بمتعلّق التکلیف وهو الحرام؛ حینئذٍ یتعیّن ___________ کما قلنا سابقاً ___________ رفع الاضطرار بغیره ولا یثبت الترخیص، فی محل الکلام لو کان عالماً بأنّ هذا الطرف هو الحرام لا یثبت الترخیص، وإنّما یتعیّن علیه رفع اضطراره بالفرد الآخر، إذن، صار جهله دخیلاً فی ثبوت الترخیص؛ ولأنّه جاهل رُخص له فی ارتکاب هذا الطرف حتّی لو کان نجساً فی الواقع. أمّا لو کان عالماً بنجاسته وبحرمته لما رُخّص له فیه، فهذا هو وجه دخل الجهل فی الترخیص.

ومن جهة أخری، وجه دخل الاضطرار فی هذا الترخیص فی محل الکلام، یقول: لولا الاضطرار لکان یجب علیه الاجتناب عن الجمیع، فلو لم یکن مضطرّاً لشرب الماء لرفع عطشه، لوجب علیه الاجتناب عن الجمیع، ولم یحصل ما یوجب الترخیص فی البعض. إذن، الاضطرار یکون دخیلاً فی هذا الترخیص فی البعض؛ لأنّه لولا الاضطرار لما ثبت الترخیص فی أحدهما. إذن، کلا الملاکین تحققا فی محل الکلام.

ص: 293

ثمّ ذکر أنّ لکلٍ من الترخیص الواقعی الذی ینتج التوسّط فی التکلیف، والترخیص الظاهری الذی ینتج التوسّط فی التنجیز لکلٍ منهما وجه قوی، وجه کون الترخیص ظاهری فی محل الکلام هو ما أشار إلیه قبل قلیل من أنّ الاضطرار إلی غیر المعیّن لا یزاحم التکلیف الواقعی، وأنّ موضوع التکلیف الواقعی بتمام قیوده الوجودیة والعدمیة محفوظ فی محل الکلام، موضوع التکلیف محفوظ، وهو الماء الذی سقطت فیه قطرة دمٍ مثلاً، وهذا الموضوع محفوظ فی البین، قطعاً هناک ماء سقطت فیه قطرة دم، وتقدّم منّا أنّ فعلیة التکلیف تابعة لفعلیة موضوعه، فیکون التکلیف فعلیاً، والمکلّف یمکنه رفع اضطراره بغیر متعلّق التکلیف، وهذا یعنی أنّ العلّة فی الترخیص هی الجهل؛ إذ لولاه لتعیّن رفع الاضطرار بغیر متعلّق التکلیف، فکأنّ الجهل بمتعلّق التکلیف هو الذی أوجب الترخیص فی ارتکاب هذا الإناء، وإلاّ لو کان عالماً لما رُخّص له فی ارتکابه. إذن، جهله بمتعلّق التکلیف هو الذی صار سبباً فی الترخیص له فی ارتکاب هذا الطرف حتّی لو کان هو النجس واقعاً؛ وحینئذٍ یکون الترخیص ظاهریاً. هذا وجه کون الترخیص ظاهریاً.

وأمّا وجه کونه واقعیاً، فقد ذکر مطلباً مهمّاً وهو أنّ الاضطرار بوجوده الواقعی لا ینافی التکلیف الواقعی؛ لأنّ المصب مختلف علی ما تقدّم من أنّ الاضطرار یتعلّق بالجامع، بینما التکلیف الواقعی فی هذا الطرف علی تقدیر سقوط النجاسة فیه یتعلّق بالفرد، فالمصب مختلف، فیکون الاضطرار فی محل الکلام إلی غیر المعیّن لا ینافی التکلیف الواقعی، هذا صحیح وتامّ، لکن فی حال الجهل بالموضوع وعدم العلم بشخص الحرام تکون المنافاة متحققة، وتقع المصادمة بین التکلیف وبین الاضطرار، ولو فی صورة مصادفة ما اختاره لرفع اضطراره لمتعلّق التکلیف؛ لأنّ ____________ وهذا مهم ____________ ارتکاب المکلّف الحرام فی حال الجهل بمتعلّق التکلیف وعدم تشخیص الحرام، یکون مصداقاً للاضطرار ویُحمل علیه بالحمل الشایع الصناعی ویصح أن یقال أنّ ارتکابه للحرام کان عن اضطرار إلیه، وإن کان یمکنه رفعه بالطرف الآخر، وإذا صدق الاضطرار إلی الحرام، فالترخیص فیه یکون واقعیاً. تمام هذه النکتة هی أنّه صحیح أنّ الاضطرار إلی غیر المعیّن لا یصطدم مع التکلیف الواقعی لاختلاف المصب؛ لأنّ الترخیص مصدره الجامع، بینما التکلیف یتعلّق بالفرد. هذا کلّه صحیح، لکن فی حال الجهل وعدم العلم عندما یختار المکلّف هذا الطرف ویشربه لرفع اضطراره، ویصادف أنّ هذا الطرف هو النجس الواقعی وهو الحرام الواقعی، هنا کأنّه یرید أن یقول أنّ الاضطرار فی هذه الحالة یسری من الجامع إلی الفرد، ولو عرفاً ومسامحة، فیصح أن یقال أنّ هذا ارتکب الحرام وارتکابه للحرام کان عن اضطرارٍ إلیه، فی الواقع ارتکابه لهذا لیس عن اضطرار إلیه؛ لأنّه یمکنه رفع الاضطرار بالفرد الآخر. إذن، فی الواقع لیس عن اضطرارٍ إلیه، لکن حیث أنّه جاهل لا یستطیع أن یمیّز الحرام عن غیره، فإذا ارتکب هذا فی حال الجهل، کأنّ الاضطرار یسری من الجامع إلی الفرد، فیکون الفرد مرکز الاضطرار، وهو مرکز التکلیف، فتکون المصادمة بینهما متحققة؛ وحینئذٍ یکون الترخیص ترخیصاً واقعیاً ملاکه الاضطرار؛ کأنّ الاضطرار هو الذی أوجب الترخیص؛ وحینئذٍ یکون التکلیف مرتفعاً وإذا ارتفع التکلیف لاتّحاد المصب؛ لأنّ التکلیف تعلّق بنفس ما تعلّق به الاضطرار، ولو من باب السرایة من الجامع إلی الفرد، فلا یمکن أن یجتمعا، فیرتفع التکلیف، وإذا ارتفع التکلیف ترتبت علیه آثار رفع التکلیف من أنّ الترخیص یکون واقعیاً، والتوسّط یکون توسّطاً فی التکلیف. إلی هنا کأنّه متردد أنّ التوسّط فی التکلیف، أو فی التنجیز، المقرر ذکر أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) مال إلی التوسّط فی التکلیف، وقوّاه فی ابتداء الأمر، لکنّه عدل عنه فی فذلکة البحث واختار الترخیص الظاهری والتوسّط فی التنجیز. (1)

ص: 294


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص108.

إذن: الذی یُفهم منه فی(فوائد الأصول) هو التوسّط فی التکلیف، أو التردد بین التوسّط فی التکلیف والتوسّط فی التنجیز.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه

الیوم نتعرّض إلی رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی نُقل عنه فی(أجود التقریرات)، والذی یظهر منه أنّه ذهب إلی(المنجّزیة) أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، وعللّ ذلک بتعلیلٍ، وهذا التعلیل موجود بنفسه فی(فوائد الأصول)، وهو أنّ فعلیة التکلیف تکون بفعلیة موضوعه، ویستحیل أن لا یکون التکلیف فعلیاً مع کون موضوعه موجوداً وثابتاً، وموضوع التکلیف المعلوم بالإجمال متحقق فی المقام؛ لأننّا بحسب الفرض نعلم بنجاسة أحد الإناءین الذی هو موضوع الحرمة، أی موضوع وجوب الاجتناب، والمفروض أیضاً فی محل الکلام أنّه لا اضطرار إلی ارتکاب متعلّق التکلیف، أیضاً لما تقدّم من أنّه یمکن رفع الاضطرار بالمباح بغیر متعلّق التکلیف، فإذن، لا شیء یمنع من فعلیة التکلیف، موضوعه متحقق ولا إشکال فیه، ولا اضطرار یرفع هذا التکلیف. نعم، الاضطرار إلی المعیّن یرفع التکلیف لو کان هو النجس، لکن الاضطرار إلی أحدهما لا یرفع التکلیف، فهو لیس مضاداً للتکلیف ولا منافیاً له. بناءً علی هذا، المکلّف لأنّه جاهل هو مکلّف، وهو یعلم بهذا التکلیف(یحرم علیک الشرب من الإناء النجس)، لکنّه لا یعلم أیّ الإناءین هو النجس، جهله هذا یسوّغ له ارتکاب أحد الإناءین، ولو کان نجساً، یُرخّص له فی رفع اضطراره بأحد الإناءین، فلو اتّضح أنّ هذا الإناء الذی رفع به اضطراره کان هو النجس الواقعی، لا یکون مؤاخذاً ویکون معذوراً فی ارتکابه ذلک الإناء. أمّا الإناء الآخر فلا مجوّز لارتکابه؛ لأنّ هذا الإناء الذی رفع به اضطراره إذا لم یکن هو الحرام الواقعی، فسوف یکون الطرف الآخر هو الحرام الواقعی، ولا مجوّز لارتکاب الطرف الآخر علی تقدیر أن یکون هو الحرام الواقعی، ولیس فیه ما یوجب الترخیص. معنی هذا الکلام هو أنّ الاضطرار حیث أنّه إلی أحد الطرفین لا بعینه، هذا الاضطرار یکون موجباً للترخیص فی عدم الالتزام بالموافقة القطعیة؛ لأنّه لا یجتمع هذا الترخیص مع وجوب الموافقة القطعیة، فما یُستفاد من هذا الترخیص فی ارتکاب أحد الإناءین لا بعینه هو أنّه لا یجب علی المکلّف الموافقة القطعیة، فیرتفع وجوب الموافقة القطعیة، وأمّا حرمة المخالفة القطعیة بحیث یقطع بارتکاب الحرام، فهذا لا مسوّغ له، ولا داعی لرفع الید عن حرمة المخالفة القطعیة، فتبقی المخالفة القطعیة محرّمة ومنجّزة، أمّا وجوب الموافقة القطعیة فیرتفع. یقول: وهذا هو التوسّط فی التکلیف.

ص: 295

ثمّ یقول: من هذا یظهر الفرق بین الاضطرار إلی المعیّن والاضطرار إلی غیر المعیّن الذی هو محل الکلام. یقول: الاضطرار إلی المعیّن من الأوّل یُحتمل انطباق مورد التکلیف علیه، أی احتمال أن یکون هو النجس واقعاً ولازم هذا الاحتمال هو أن لا یبقی علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ لأنّه إن کان التکلیف فی هذا الطرف الذی هو مضطر إلی ارتکابه، لا تکلیف. نعم، هناک احتمال التکلیف إن کانت النجاسة موجودة فی الطرف الآخر، لکن هذا مجرّد احتمال، التکلیف یثبت إذا کانت النجاسة فی الطرف الآخر، فی الخل، أمّا إذا کانت فی الماء، فلا نجاسة، فلا تکلیف، إذن، التکلیف لیس معلوم علی کل تقدیر، وهذا ینتج عدم المنجّزیة. هذا فی الاضطرار إلی المعیّن.

وأمّا الاضطرار إلی غیر المعیّن الذی هو محل الکلام، هنا یقطع بعدم الاضطرار إلی مخالفة التکلیف، هناک یحتمل أنّه مضطر إلی مخالفة التکلیف تبعاً لاحتمال أن یکون النجس الواقعی موجود فی الماء فی المقام الأوّل، إذن، هو یحتمل أنّه یضطر إلی مخالفة التکلیف علی تقدیر أن یکون الماء هو النجس الواقعی، بینما فی الاضطرار إلی غیر المعیّن هو یقطع بعدم اضطراره إلی مخالفة التکلیف؛ لأنّه لیس مضطراً لمخالفة التکلیف، بإمکانه أن یرفع اضطراره بغیر الحرام. إذن، هنا لا یوجد احتمال أنّه یضطر إلی مخالفة التکلیف؛ بل هنا هو یقطع بعدم اضطراره إلی مخالفة التکلیف، هذا الفرق بینهما معناه أنّ الاضطرار فی محل الکلام لا یوجب مخالفة التکلیف ولو احتمالاً، غایة الأمر أنّ المکلّف جاهل أیّهما نجس، وأیّهما هو الحرام الواقعی. فی هذه الحالة _____________ حالة الجهل ___________ لا إشکال فی أنّه یجوز له رفع اضطراره بارتکاب أیّ طرفٍ یختاره، فإذا کان الطرف الذی اختاره لرفع اضطراره هو الحرام، فلا عقاب علی مخالفة التکلیف فیه. وأمّا إذا کان الحرام غیر ما اختاره لرفع اضطراره، بأن کان ما رفع به اضطراره مباحاً فی الواقع، فهذا معناه أنّ الحرام هو الطرف الآخر. یقول: هذا لا مجوّز له فی ارتکابه، وهذا هو معنی التوسّط فی التکلیف

ص: 296

ثمّ ذکر أنّ هذا التوسّط فی التکلیف الذی هو یختاره، وکذلک یقول الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) أیضاً اختاره، یطرح هذا السؤال: هذا هل هو بمعنی التوسّط فی نفس التکلیف، أو التوسّط فی تنجّز التکلیف ؟ کأنّ السابق کان مقسماً لکلٍ من التوسّط فی التکلیف والتوسّط فی التنجیز، فالسابق کان تکلیفاً متوسطاً، مرّة یکون التوسّط فی نفس التکلیف، وهذا هو التوسّط فی التکلیف، ومرّة لیس التوسّط فی نفس التکلیف، وإنّما توسّط فی تنجیز التکلیف، هذا یکون التوسّط فی التنجیز، ومقصوده من القسمین هو نفس ما ذکره فی(فوائد الأصول) التوسّط فی التکلیف یعنی أنّ التکلیف ثابت علی تقدیر ولیس ثابتاً علی تقدیرٍ آخر، أمّا التوسّط فی التنجیز، فمعناه أنّ التکلیف ثابت علی کل تقدیر، لکن تنجیزه یکون ثابتاً علی تقدیر وغیر ثابت علی تقدیر، فیکون التوسّط فی التنجیز، هذا هو المقصود بهما.

ثمّ ذکر أنّه یظهر من العلامة الأنصاری(قدّس سرّه) فی المقام اختیاره التوسّط فی نفس التکلیف کما هو الحال فی الاضطرار إلی المعیّن، کیف أنّ التوسّط هناک فی التکلیف بلا إشکال، یقول: أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) اختار أنّ التوسّط فی المقام هو التوسّط فی التکلیف.

المقرر یقول: أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) أشکل علی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی ذهابه إلی التوسّط فی التکلیف فی محل الکلام، أشکل علیه فی الدورة السابقة، ثمّ یقول: عدل عن هذا الإشکال فی الدورة الحاضرة وبنا علی کون التوسّط فی التکلیف نفسه، وکان حاصل إشکاله علی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) هو: أنّ التوسّط لیس فی التکلیف، باعتبار أنّ الاضطرار لیس هو ملاک الترخیص فی المقام، وإنّما ملاک الترخیص هو الجهل، فیکون الترخیص ترخیصاً ظاهریاً، والترخیص الظاهری لا ینافی التکلیف الواقعی؛ لإمکان الجمع بین الأحکام الواقعیة والأحکام الظاهریة، فهو لا ینافی التکلیف الواقعی؛ لأنّ الترخیص ظاهری وملاکه الجهل، وهذا لا ینافی التکلیف الواقعی وهذا معناه أنّ التکلیف ثابت علی کل تقدیر، ولا موجب لرفع الید عن التکلیف حتّی فی المورد الذی یصادف النجاسة الواقعیة، یبقی التکلیف علی حاله. غایة الأمر یوجد ترخیص ظاهری، والترخیص الظاهری یمکن أن یجتمع مع التکلیف الواقعی، فالتکلیف ثابت علی حاله، لم یطرأ شیء یوجب رفع الید عنه؛ لأنّ الترخیص ترخیص ظاهری، فإذا کان التکلیف ثابتاً علی حاله، قهراً یکون التوسّط فی التنجیز لا فی التکلیف بناءً علی التعریف الذی ذکره للتوسّط فی التنجیز الذی هو أن یکون التکلیف باقیاً، وإنّما التوسط والتغییر یکون فی التنجیز، إذا کان الترخیص ظاهریاً فالتکلیف باقٍ علی حاله. غایة الأمر أنّ العلم بهذا التکلیف لا یستلزم وجوب الموافقة القطعیة، باعتبار الترخیص فی أحدهما. نعم یستلزم حرمة المخالفة القطعیة، وهذا توسّط فی التنجیز. هذا إشکاله علی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه).

ص: 297

لکن المقرر یقول: لکنّه عدل عن ما اختاره سابقاً فی الدورة الحاضرة وبنا علی کون التوسّط فی المقام هو توسّط فی التکلیف نفسه، یعنی أیّد الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، واستدل علی أنّه توسّط فی التکلیف بما حاصله: أنّ الترخیص الثابت فی ما یختاره المکلّف خارجاً ترخیص واقعی ولیس ترخیصاً ظاهریاً؛ لأنّ کونه ترخیصاً ظاهریاً لا ینافی التکلیف الواقعی ویبقی التکلیف الواقعی محفوظاً وعلی حاله، والذی ینتج التوسط فی التنجیز مبنی علی وقوف الاضطرار علی الجامع، وبالتالی وقوف الترخیص علی الجامع، إذا کان الترخیص متعلّقاً بأحدهما والاضطرار إلی أحدهما، الذی هو الجامع، هذا لا ینافی التکلیف المتعلّق بالفرد النجس الواقعی بالإناء الذی أصابته قطرة الدم واقعاً، هذا معیّن، لیس هو الجامع، هذا هو الفرد، فالتکلیف متعلّق بالفرد، الترخیص والاضطرار متعلّق بالجامع، فلا منافاة بینهما، فإذا لم تکن هناک منافاة بینهما ینتج التوسط فی التنجیز؛ لأنّ التکلیف ثابت ولم یتغیّر، وإنّما التنجیز یختلف، یقول هذا مبنی علی هذا، أمّا إذا قلنا، وهذا هو الوجه الجدید الذی یضیفه وأشار إلیه هناک، لکن کان متردداً فیه، وأمّا إذا فرضنا أنّ الاضطرار یسری من الجامع إلی الفرد، الطرف الذی یختاره المکلّف لرفع اضطراره عرفاً هذا یری بأنّه هو المضطر إلیه، وإن کان فی الواقع هو لیس مضطراً إلی هذا؛ لأنّه بإمکانه أن یرفع اضطراره بالفرد الآخر واقعاً، لکن عرفاً یُری أنّ هذا عندما یختار هذا الطرف ویشربه ویرفع به اضطراره، عرفاً یقال هو مضطراً إلی ارتکابه علی ما تقدّم فی(فوائد الأصول) هو مضطر إلی ارتکابه ویطلق علیه ذلک بالحمل الشایع الصناعی، فیقال هذا هو مضطر إلیه، وهذا معناه أنّ الاضطرار سری إلی الفرد؛ إذن، هو مضطر إلی هذا الفرد، وهذا معناه أنّ الترخیص یثبت فی هذا الفرد، والمفروض أنّ التکلیف أیضاً متعلّق بالفرد، فیجتمع الترخیص بالفرد مع التکلیف بالفرد. هذا هو الوجه الذی ذکره سابقاً یذکره هنا لإثبات أنّ التوسّط فی المقام فی التکلیف، وحاصله هو: أنّ الاضطرار قد یسری، ولو بالنظر العرفی من الجامع إلی الفرد، فیکون الفرد متعلّقاً للاضطرار ومتعلّقاً للترخیص؛ حینئذٍ هذا لا یجتمع مع التکلیف، فلابدّ من رفع الید عن التکلیف فی هذه الحالة، وهذا معناه التوسّط فی التکلیف؛ حینئذٍ نوجّه له نفس السؤال ولابدّ أن یرد علیه، وهو أنّه إذا کان المقام من باب التوسّط فی التکلیف، فما هو الفرق بینه وبین المقام الأوّل ؟ فی المقام الأوّل الاضطرار إلی المعیّن قلت أنّه من باب التوسّط فی التکلیف، الآن أنت تلتزم فی الاضطرار إلی غیر المعیّن بالتوسّط أیضاً فی التکلیف. إذن: لماذا تفرّقون بینهما وتلتزم بالمنجّزیة هناک فی المقام الأوّل، وعدم التنجیز فی محل الکلام ؟ هنا أیضاً لابدّ أن تلتزم بأنّ العلم الإجمالی لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة لا أن تلتزم بالمنجّزیة فی محل الکلام وعدم المنجّزیة فی المقام الأوّل فی ما لو کان الاضطرار سابقاً علی التکلیف وعلی العلم به، قلنا هناک فی صورة تقدّم الاضطرار علی التکلیف وعلی العلم به، هناک اتفقوا تقریباً علی عدم المنجّزیة، العلم الإجمالی ینحل إذا کان الاضطرار سابقاً، یقول لماذا تلتزم هناک بعدم المنجّزیة بینما هنا تلتزم بالمنجّزیة ؟ مع أنّه فی کلٍ منهما __________ بحسب الفرض ____________ التوسّط فی التکلیف ؟

ص: 298

یجیب عن هذا الإشکال بهذا الجواب: الفرق بینهما یکمن فی أنّه فی المقام الأوّل الاضطرار بنفسه یکون رافعاً للتکلیف عن مورده؛ لأنّه من البدایة هو مضطر إلی ارتکاب الماء، هذا الاضطرار یکون رافعاً للتکلیف فی مورد الاضطرار، والمفروض أنّ الاضطرار متقدّم وسابق علی التکلیف وعلی العلم بالتکلیف؛ حینئذٍ لا محالة یکون المکلّف غیر عالم بالتکلیف بعد الاضطرار، وإنّما هو شاک فی ثبوت التکلیف لاحتمال أن یکون متعلّق التکلیف موجود فی الماء، وعلی هذا التقدیر لیس هناک تکلیف من البدایة. إذن، هو یعلم بالتکلیف علی تقدیر ولا یعلم بالتکلیف علی تقدیر آخر، وهذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، والنکتة هی أنّ الاضطرار فی نفسه یکون رافعاً للتکلیف قبل أن یشرب الماء اضطراراً، هو بمجرّد أن یضطر إلی شرب الماء هذا یرفع التکلیف فی مورد الاضطرار، إذا حصل هذا والاضطرار متقدّم ورافع للتکلیف فی مورده، عندما یأتی بعد ذلک العلم الإجمالی یقول لا یوجد علم، وإنّما هناک شکّ؛ لأنّ النجاسة إن سقطت فی الماء فلا تکلیف؛ لأنّ الاضطرار رافع بنفسه للتکلیف، من البدایة هو رافع للتکلیف، ولا یتوقّف رفعه للتکلیف علی شرب الماء وارتکابه، وإنّما قبل أن یشرب الماء، اضطراره إلی الماء هو رافع للتکلیف، وبعد ذلک عندما یأتی لا علم بالتکلیف؛ لأنّ النجاسة إن سقطت فی الماء، فلا تکلیف من البدایة....... وهذا معناه أنّه لا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز ولا تحرم المخالفة القطعیة. وأمّا فی محل الکلام وهو الاضطرار إلی غیر المعیّن، فالأمر یختلف، وذلک باعتبار أنّ الاضطرار إلی غیر المعیّن یکون رافعاً للتکلیف باختیار المکلّف للفرد الذی یرفع اضطراره، یعنی رفع الاضطرار للتکلیف لیس من البدایة، وإنّما هو یکون باختیار المکلّف لأحد الفردین فی مقام التطبیق، هذا علی تقدیر أن یکون ما اختاره لرفع اضطراره هو النجس الواقعی؛ حینئذٍ نقول أنّ الاضطرار یکون رافعاً للتکلیف، رفع التکلیف بالاضطرار فی المقام یکون من حین اختیار أحد الطرفین لرفع الاضطرار، حین ارتکاب هذا الطرف ورفع اضطراره به؛ حینئذٍ علی تقدیر أن یکون هذا هو النجس؛ حینئذٍ یرتفع التکلیف، وأمّا قبل ذلک فلا موجب لرفع الید عن التکلیف قبل الارتکاب، قبل اختیار أحد الطرفین فی مقام التطبیق لا موجب لرفع الید عن التکلیف؛ لأنّ الاضطرار لیس کما هو الحال فی المقام الأوّل یکون رافعاً للتکلیف من البدایة، وإنّما یکون رافعاً للتکلیف بارتکاب الطرف لأجل رفع اضطراره؛ حینئذٍ یکون رافعاً للتکلیف من هذا الآن من حین الارتکاب، لو کان هو النجس واقعاً، وهذا المعنی، التکلیف قبل الاختیار فی کلا الطرفین یکون فعلیاً علی کل تقدیر، سواء کانت النجاسة فی هذا فالتکلیف فعلی، أو کانت فی هذا، التکلیف فعلی، حتّی لو کانت النجاسة موجودة فی الإناء الذی سیختاره ویرفع به اضطراره فی المستقبل قبل ذلک حتّی لو کانت النجاسة موجودة فیه، فالتکلیف فیه فعلی؛ لأنّه لا یوجد شیء یرفع التکلیف علی تقدیر کونه نجساً، فالتکلیف ثابت علی کل تقدیر، سواء کانت النجاسة فی هذا الإناء الذی سیختار شربه، التکلیف فعلی، أو کانت فی ذاک الإناء التکلیف أیضاً فعلی، فالتکلیف فعلی علی کل تقدیر قبل الاختیار، هذا ینجّز التکلیف فی کلٍ من الطرفین؛ ولذا تحرم علیه المخالفة القطعیة؛ لأنّ الطرف الآخر الذی لم یختره لرفع اضطراره، الطرف الآخر تنجّز التکلیف فیه من البدایة، فیکون حال هذا المقام حال ما إذا کان العلم الإجمالی متقدّماً علی الاضطرار، کیف هناک قلنا أنّ العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین فی الزمان السابق علی الاضطرار إلی المعیّن قبل أن یعطش هو یعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، هذا العلم الإجمالی ینجّز التکلیف فی کلٍ من الطرفین، والتکلیف یکون فعلی_اً علی کل تقدیر، بعد أن صار الاضطرار رُخّص له فی شرب الماء، أمّا الآخر فیبقی علی تنجیزه، فیکون العلم الإجمالی السابق منجّزاً له وأدخلوه فی دوران أمر التکلیف بین الفرد الطویل والفرد القصیر، التکلیف إمّا ثابت فی هذا الفرد فی فترة زمنیة محدودة تنتهی بالاضطرار إلی شرب الماء، أو ثابت فی الطرف الآخر علی طول الخط، وهذا ینجّز الطرف الآخر علی طول الخط ومعناه حرمة المخالفة القطعیة. ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لهذه النکتة، وهی أنّ التکلیف إنّما یسقط فی محل الکلام ویرتفع باختیار المکلّف لأحد الطرفین لرفع اضطراره، لا یرتفع بنفس الاضطرار، هو مضطر لارتکاب أحد الإناءین، إنّما یرتفع التکلیف بشرب الماء الذی یرفع به اضطراره، أمّا قبل هذا لا یوجد رافع للتکلیف؛ لذا یکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر، وبالتالی لابدّ من الالتزام بحرمة المخالفة القطعیة.

ص: 299

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه

تبیّن من الاستعراض الطویل للآراء المطروحة فی المقام أمور:

الأمر الأوّل:أنّ ما عدا صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، فالباقون یبنون علی المنجّزیة فی محل الکلام، وأنّ العلم الإجمالی فی موارد الاضطرار إلی غیر المعیّن ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، فلا یجوز للمکلّف ارتکاب الطرف الآخر الذی لا یرفع به اضطراره. نعم صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذهب إلی عدم المنجّزیة.

الأمر الثانی: أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) حسب ما یظهر من کلامه المنقول فی کلا تقریریه أنّ رأیه هو التوسّط فی التکلیف لا التوسّط فی التنجیز. أمّا فی(أجود التقریرات) فواضح علی ما نقلناه فی الدرس السابق، یختار التوسّط فی التکلیف بالمعنی المطروح لا بالمعنی الذی فسّره به المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وهو أن یکون التکلیف ثابتاً علی تقدیر، وغیر ثابتٍ علی معنی آخر، بهذا المعنی هو یختار التوسّط فی التکلیف فی محل الکلام، بالرغم من أنّه یقول بالاقتضاء لا بالعلّیة التامّة هو یقول بالتوسّط فی التکلیف، مبنی التزم به وذکره فی(أجود التقریرات) وکذا أشار إلیه فی(فوائد الأصول) وهو مسألة سریان الاضطرار من الجامع إلی الفرد. یقول: وإن کان الاضطرار متعلّقاً بالجامع، المکلّف فی المقام اضطر إلی عنوان أحدهما، لکنّ هذا الاضطرار یسری من الجامع إلی الفرد الذی یختاره، فیقال عندما یختار أحد الفردین أنّه مضطرّ إلیه بحیث لا یصدق أنّه اضطُر إلیه إلاّ إذا اختاره، فإذا اختاره عندئذٍ یصدق أنّه مضطر إلیه. هذا السریان من الجامع إلی الفرد هو الذی بنظر المحقق النائینی(قدّس سرّه) یوقع المنافاة والتصادم بین الترخیص الذی یسری ___________ بحسب الفرض __________ من الجامع إلی الفرد تبعاً لسریان الاضطرار من الجامع إلی الفرد، فتکون هناک منافاة بین هذا الترخیص وبین التکلیف الواقعی علی تقدیر ثبوته فی ذلک الطرف الذی اختاره، الطرف الذی یختاره لرفع اضطراره هو مورد للاضطرار ویتعلّق به الاضطرار ویتعلّق به الترخیص، فلو کان هو النجس واقعاً یتعلّق به التکلیف أیضاً، وهذا غیر معقول، فیتصادمان ویتنافیان، فإذا ثبت الترخیص کما هو المفروض، والاضطرار ثابت بلا إشکال، وبضمیمة أنّ الاضطرار یسری من الجامع إلی الفرد لابدّ من رفع الید عن التکلیف فی ما یختاره من الطرفین لرفع اضطراره، یرتفع التکلیف عنه، وهذا هو التوسّط فی التکلیف، بمعنی أنّ التکلیف علی أحد التقدیرین لا وجود له، وإنّما یکون ثابتاً علی التقدیر الآخر، لو کان النجس هو ما اختاره لرفع اضطراره، فلا تکلیف. نعم لو کان النجس هو غیر ما اختاره لرفع اضطراره، فالتکلیف موجود، ومثل هذا العلم الإجمالی لا ینجّز، یسقط عن التنجیز؛ لأنّه لیس علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، ومع ذلک قال بالمنجّزیة، بالرغم من أنّه یقول بالتوسّط فی التکلیف بناءً علی هذه النکتة التی ذکرناها. وبعبارةٍ أخری، بالرغم من أنّه یقول بالاقتضاء، والاقتضاء کما هو واضح لا یمنع من الترخیص فی ترک الموافقة القطعیة، علی القول بالاقتضاء لیس هناک مانع من الترخیص فی أحد الطرفین، بالرغم من هذا هو یقول بالمنافاة باعتبار هذا السریان، أنّه یصدق علی هذا الذی اختاره أنّه مضطر إلیه. والنتیجة هی التوسّط فی التکلیف، لکن بالرغم من هذا هو یقول بالمنجّزیة، مع أنّ مقتضی التوسّط فی التکلیف هو عدم المنجّزیة؛ لأنّ العلم الإجمالی لا یکون علماً بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، لکن بالرغم من هذا هو یقول بالمنجّزیة بنکتةٍ أخری ذکرها فی أجود التقریرات کما أشرنا إلی ذلک فی الدرس السابق، وحاصل النکتة هی: أنّ الاضطرار إلی غیر المعیّن فی محل الکلام یرفع التکلیف للنکتة السابقة، وهی أنّ الاضطرار یسری من الجامع إلی الفرد، فینافی التکلیف فیرفعه، فیوجب سقوط التکلیف، لکن الاضطرار متی یوجب سقوط التکلیف ؟ هو یطرح هذه الفکرة: أنّه لا یکون الاضطرار موجباً لسقوط التکلیف إلاّ حین اختیاره لأحد الطرفین فی مقام التطبیق؛ لأنّه لا یمکن الجمع بین التکلیف وبین الترخیص الذی سری من الجامع إلی الفرد، لا یمکن الجمع بینهما، فیرتفع التکلیف، لکن من حین الاختیار، وأمّا قبل الاختیار، ولو کان الاضطرار قبل التکلیف وقبل العلم بالتکلیف إجمالاً، حتّی فی هذه الصورة العلم الإجمالی یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه قبل الاختیار لا یوجد ما یوجب سقوط التکلیف فی أحد الطرفین؛ لأنّ ما یوجب سقوط التکلیف فی أحد الطرفین هو الاضطرار، والاضطرار إلی غیر المعیّن إنّما یوجب سقوط التکلیف حین اختیار أحد الطرفین لرفع الاضطرار، أمّا قبل الاختیار لا یوجد ما یوجب سقوط التکلیف فی أحد الطرفین، فیکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر قبل الاضطرار، فإذا کان فعلیاً علی کل تقدیر، هذا یوجب تنجیز العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، وبالحقیقة یرجع إلی العلم الإجمالی بالفرد الطویل والفرد القصیر، فیبدو أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی (أجود التقریرات) جازم بالتوسّط فی التکلیف، وبالرغم من هذا هو یختار المنجّزیة علی اساس هذه النکتة.

ص: 300

وأمّا فی(فوائد الأصول) فقد ذکر أنّ هناک ملازمة بین الترخیص الواقعی والتوسّط فی التکلیف، وبین الترخیص الظاهری والتوسّط فی التنجیز، (1) إذا کان الترخیص واقعیاً، فالتوسط یکون فی التکلیف، وإذا کان الترخیص ظاهریاً فالتوسّط فی التنجیز، وذکر أنّ المیزان فی الترخیص الواقعی هو کون الملاک فی الترخیص مجرّد الاضطرار، والجهل لا دخل له فی الترخیص، والملاک فی الترخیص الظاهری هو أن یکون الملاک فیه هو الجهل بحیث یکون الجهل دخیلاً فی ثبوت ذلک الترخیص، فذکر المیزان للترخیص الواقعی والترخیص الظاهری، وذکر أنّه أن کان الترخیص واقعیاً، فالتوسّط فی التکلیف، وإن کان ظاهریاً، فالتوسّط فی التنجیز. وفی (فوائد الأصول) تردد، قال فی کلٍ منهما وجه قوی، (2) احتمال الترخیص الواقعی وارد فی محل الکلام، أی فی الاضطرار إلی غیر المعیّن، احتمال الترخیص الظاهری أیضاً وارد، هناک وجهان ولم یرجّح شیئاً منهما علی الآخر. نعم، المقرر فی(فوائد الأصول) یؤکّد أنّه هنا أیضاً یختار التوسّط فی التکلیف، فضلاً عن(أجود التقریرات)، أنّ المقررّ ذکر أنّه مال إلی التوسّط فی التکلیف وقوّاه، احتمال علی اساس ما ذکره فی(أجود التقریرات) من مسألة السریان، أنّ الترخیص یسری من الجامع إلی الفرد. وأمّا مسألة المنجّزیة، وکیف یثبت المنجّزیة؟ فأنّه لم یذکر شیئاً فی(فوائد الأصول) وإنّما لعلّه یبنیها علی ما ذکره فی(أجود التقریرات) من هذه النکتة التی بنا علیها المنجّزیة وهی نکتة أنّ الاضطرار إنّما یرفع التکلیف حین الشروع فی الارتکاب، وأّما قبل الارتکاب وقبل اختیار أحد الطرفین لرفع الاضطرار لا یوجد ما یوجب سقوط التکلیف فی أحد الطرفین، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة. علی کل حال، الظاهر أنّه یقول بالتوسّط فی التکلیف. نعم، المقرر فی (فوائد الأصول) نقل عنه أنّه عدل عن القول بالتوسّط فی التکلیف، واختار التوسّط فی التنجیز.

ص: 301


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص106.
2- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص107.

المحقق العراقی(قدّس سرّه) یری العلّیة التامّة، وهذا معناه أنّه لابدّ أن یقول باستحالة الترخیص فی أحد الطرفین، ولو کان ترخیصاً ظاهریاً؛ لأنّه علی القول بالعلّیة التامّة لا یُفرّق فی استحالة الترخیص مع العلم الإجمالی بالتکلیف وکون العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة کما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة. إذن، الترخیص فی أحد الطرفین یکون محالاً کالترخیص فی کلا الطرفین، ولو کان ترخیصاً ظاهریاً، فإذا ثبت الترخیص کما هو المفروض فی محل الکلام، لا إشکال فی أنّه مرخّص فی ارتکاب أحد الطرفین، یعنی مرخّص فی ترک الموافقة القطعیة، یعنی رُخّص فی المخالفة الاحتمالیة، وحیث ثبت الترخیص لابدّ من رفع الید عن التکلیف؛ لأنّه لا یجتمع مع الترخیص، العلم بالتکلیف لا یجتمع مع الترخیص؛ لأنّ العلم بالتکلیف علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فلا یُعقل الترخیص فی ترکها، فإذا ثبت الترخیص فی ترکها کما هو المفروض رفع الید عن التکلیف، ونتیجة هذا أنّه یقول بالتوسّط فی التکلیف بالمعنی المطروح سابقاً؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة فی ما اختاره لرفع اضطراره، یکون هذا الذی اختاره لرفع اضطراره قد ثبت فیه الترخیص ومرخّص فیه، فالترخیص محال، ولو کان ظاهریاً، فلابدّ من رفع الید عن التکلیف، فلا تکلیف فی الفرد الذی اختاره، إذا اتفق کونه هو الحرام الواقعی، وهذا معناه لا علم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وإنّما یکون التکلیف ثابتاً علی تقدیر وغیر ثابت علی تقدیر آخر، علی تقدیر کون النجاسة فی الإناء الذی ارتکبه لرفع اضطراره لا تکلیف. نعم، علی التقدیر الآخر یکون التکلیف ثابتاً وهذا معناه عدم تحقق شرط المنجّزیة، وبالتالی لابدّ أن ینتهی إلی نفس النتیجة التی اختارها صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وهو عدم المنجّزیة. لکنّه استدرک هذا، ذکر بأنّه یمکن رفع هذا المحذور والجمع بین القول بأنّ التکلیف مرتفع، وبین القول بالمنجّزیة، یمکن الجمع بینهما بما تقدّم وبیّناه سابقاً وهو مسألة إضافة قیدٍ فی التکلیف، وهو أن نقول بأنّ التکلیف المعلوم إجمالاً وهو شرب النجس، یقول: حتّی ننتهی إلی نتیجة حرمة المخالفة القطعیة، یعنی تنجیز هذا العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة وعدم تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة بالرغم من أنّ الترخیص فی هذا الطرف ینافی التکلیف بناءً علی العلّیة التامّة، یقول نضیف قیداً إلی التکلیف، بأن نقول ما نعلم به إجمالاً هو حرمة شرب النجس إذا لم یرفع به الاضطرار، النجس یحرم شربه إذا لم یرفع به اضطراره، إذا رفع به الاضطرار لا یحرم شربه. إذن، إنّما یحرم شرب النجس وتکون الحرمة الفعلیة إذا لم یرفع به الاضطرار، یضیف هذا القید إلی التکلیف، فالنتیجة هو یعلم إجمالاً بحرمة شرب النجس إذا ارتکب الآخر، یعنی إذا لم یرفع به الاضطرار، هذا تکلیف قابل للانطباق علی کلٍ من الطرفین، فیقال أنّ هذا الإناء الأیمن یحرم شربه بحرمة فعلیة إذا کان نجساً ولم یرفع به الاضطرار، والإناء الأیسر أیضاً یحرم شربه بحرمةٍ فعلیةٍ إذا کان نجساً ولم یرفع به الاضطرار، هذه حرمة فعلیة، والقید یرجع إلی متعلّق الحرام، إلی الموضوع لا إلی نفس التکلیف، التکلیف فعلی علی کل تقدیر، القید یرجع إلی الموضوع، الموضوع نخصصه، لیس الحرام هو شرب النجس علی إطلاقه، وإنّما الحرام هو شرب النجس المقیّد بما إذا لم یرفع به اضطراره، النجس الذی لا یرفع به الاضطرار حرام شربه، فالتکلیف یکون فعلیاً علی کل تقدیر. غایة الأمر هذا التکلیف الفعلی علی کل تقدیر لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، لکنّه یبقی علی تنجیزه لحرمة المخالفة القطعیة، وقال أنّ هذا هو مرادنا من التوسّط فی التکلیف لا ما هو المعروف والذی قاله المیرزا من أنّه عبارة عن ثبوت التکلیف علی تقدیر وعدم ثبوته علی تقدیر آخر، کلا، هو یقول، التکلیف ثابت علی کل تقدیر، لکن بما هو مقیّد لا بما هو مطلق، وعبّر عن هذا بالتوسّط فی التکلیف وهو اصطلاح یبدو أنّه خاص به.

ص: 302

الصحیح فی المقام أن یقال: ان المنافاة بین الترخیص التخییری، باعتبار أنّ الاضطرار اضطرار إلی أحد الطرفین، فالترخیص تخییری لا تعیینی، المنافاة بین هذا الترخیص التخییری وبین التکلیف الواقعی تتحقق فی حالتین:

الحالة الأولی: إذا کان الترخیص ترخیصاً واقعیاً، فإذا کان الترخیص واقعیاً، فهو یکون منافیاً للتکلیف الواقعی.

الحالة الثانیة: ما إذا کان الترخیص ظاهریاً، لکن مع القول بالعلّیة التامّة؛ حینئذٍ یکون هذا الترخیص، ولو کان ظاهریاً منافیاً للتکلیف علی القول بالعلّیة التامّة. وأمّا إذا قلنا بأن الترخیص ظاهری وقلنا بمسلک الاقتضاء لا العلّیة التامّة، فالظاهر أنّه لا منافاة بین هذا الترخیص وبین التکلیف الواقعی لما فُرغ عنه فی محله من الجمع بین الأحکام الواقعیة والأحکام الظاهریة، أنّه لا مانع من أن یثبت الترخیص الظاهری حتّی فی مورد التکلیف الواقعی والجمع بینهما ممکن وأیّ منافاة لا توجد بینهما؛ ولذا لا مجال للقول بأنّ ثبوت الترخیص الظاهری یستلزم ارتفاع التکلیف، حتّی نقع فی مشکلة أنّ العلم الإجمالی هنا لا یکون منجّزاً؛ لأنّه علم بتکلیفٍ علی تقدیر دون تقدیر آخر، کلا، التکلیف ثابت حتّی فی المورد الذی یثبت فیه الترخیص لا مجال لرفع الید عن التکلیف الواقعی بمجرّد ثبوت ترخیص ظاهری، هذا إذا قلنا بأنّ الترخیص الظاهری یثبت فی نفس متعلّق التکلیف الواقعی، وإلاّ الظاهر أنّ متعلّقهما مختلف، الترخیص یتعلّق بالجامع، أی بأحدهما، بینما التکلیف الواقعی یتعلّق بالنجس الواقعی، أی یتعلّق بالماء الذی سقطت فیه قطرة الدم التی عُلم بسقوطها فی أحد الطرفین واقعاً، فمتعلّقهما مختلف، ما یتعلّق به الاضطرار غیر ما یتعلّق به التکلیف، وحینئذٍ تکون عدم المنافاة واضحة؛ بل أکثر من هذا نقول، أنّه حتّی لو قلنا باتحاد متعلّقهما، بأن کان الترخیص یتعلّق بالفرد أیضاً علی نظریة المیرزا(قدّس سرّه) الذی یقول أنّ الاضطرار یسری من الجامع إلی الفرد، وبالتالی الترخیص أیضاً یسری من الجامع إلی الفرد، حتّی بناءً علی هذا لا منافاة بین الترخیص الظاهری وبین التکلیف الواقعی، لا داعی لرفع الید عن التکلیف الواقعی فی موردٍ بمجرّد أنّه ثبت فیه ترخیص ظاهری. علی تقدیر أن یکون ما اختاره لرفع اضطراره نجساً فی الواقع یبقی التکلیف علی حاله، لکنّه ثبت فیه الترخیص الظاهری، فلو فرضنا أنّ المکلّف ارتکبه واتفق أنّه کان نجساَ فی الواقع یکون المکلّف معذوراً، لا أنّ هذا یوجب رفع الید عن التکلیف الواقعی بما هو تکلیف واقعی، وإنّما یکون المکلّف معذوراً فی مخالفة هذا التکلیف. ومن هنا نستطیع أن نقول أنّ التکلیف فعلی علی کل تقدیر. غایة الأمر أنّ هذا التکلیف الفعلی والعلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، وهذا واضح؛ لأنّه یوجد ترخیص فی ترک الموافقة القطعیة، یوجد ترخیص فی ارتکاب المخالفة الاحتمالیة. إذن، هو لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، وهذا واضح جدّاً، لکنّه یبقی علی تنجیزه لحرمة المخالفة القطعیة، وهذا هو التوسّط فی التنجیز لا التوسّط فی التکلیف. یمکن أن یُضاف إلی هذا أنّه یمکن منع المنافاة بین الترخیص والتکلیف لیس فقط بناءً علی مسلک الاقتضاء الذی هو الصحیح؛ بل حتّی علی مسلک العلّیة التامّة التی یؤمن بها المحقق العراقی(قدّس سرّه) یمکن أیضاً منع المنافاة بین التکلیف وبین الترخیص، وذلک باعتبار أنّ العلّیة التامّة فی بحث العلم الإجمالی __________ أنّه علّة تامّة لتنجیز وجوب الموافقة القطعیة، أو أنّه مقتضٍ له __________ یُراد بها فی الحقیقة أنّ الشکّ لیس مؤمّناً؛ لوجود العلم الإجمالی الذی هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، العلم الإجمالی وصول تام ولیس فیه أیّ نقص، لدی المکلّف علم تام؛ فحینئذٍ الشکّ لیس عذراً، عندما یکون الوصول غیر تامٍ یکون الشکّ عذراً وتجری الأصول المؤمّنة، لکن عندما یکون الوصول تامّاً لا مجال لجریان الأصول المؤمّنة، الشکّ لیس مؤمّناً، هذا معنی العلّیة التامّة بالمعنی المتقدّم سابقاً، هذا هو المراد به، هذا المعنی، أنّ الشکّ لیس مؤمّناً وأنّ الوصول بالعلم الإجمالی وصول تام لا نقص فیه، فالشکّ لا یکون مؤمّناً، هذا لا ینافی أن یکون هناک مؤمّن آخر یؤمّن من ناحیة الموافقة القطعیة، یعنی یؤمّن من ناحیة ترک الموافقة القطعیة، یبقی العلم علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، والشکّ لیس مؤمّناً، لکن هذا لا ینافی وجود مؤمّنٍ آخر یؤمّن من ناحیة ترک الموافقة القطعیة، وهذا المؤمّن هو عبارة عن الاضطرار، عبارة عن العجز الذی نتکلّم عنه؛ لأنّه لا معنی لأنّ نقول أنّ التکلیف المعلوم بالإجمال یتنجّز علی المکلّف حتّی إذا کان عاجزاً عن الموافقة القطعیة؛ لأنّه فی حالة العجز عن امتثال التکلیف لا یکون هذا التکلیف داخلاً فی دائرة المولویة التی یحکم العقل بوجوب الإطاعة فیها، من شرائط ثبوت التکلیف القدرة وعدم العجز، فإذا فرضنا أنّ المکلّف عاجز عن الموافقة القطعیة کما هو المفروض فی محل الکلام؛ لأنّه مضطر إلی ارتکاب أحد الطرفین، عاجز عن الموافقة القطعیة، سواء کان العجز عقلیاً أو شرعیاً أو غیره لیس هناک فرق؛ حینئذٍ لا معنی لأن یکلّف بالموافقة القطعیة، لا معنی لأن یقال أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة علیه، فی الحقیقة لا توجد منافاة بین عجز المکلّف عن الموافقة القطعیة واضطراره إلی ارتکاب احد الطرفین والترخیص له بارتکاب أحد الطرفین وبین کون العلم علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، کون العلم علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة یبقی علی حاله، نحن لا نقول أنّ هناک قصوراً فی العلم حتّی یُستشکل أنّه کیف تقولون ذلک والحال أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة ؟ لیس هناک قصور فی العلم، وإنّما القصور فی تحقق شرطٍ من شرائط التنجیز، شرط آخر لا علاقة له بالعلم، العلم الإجمالی وحده؛ بل حتّی العلم التفصیلی بالتکلیف وحده لا ینجّز التکلیف إذا کان غیر قادرٍ علی امتثاله، لا یتنجّز علیه التکلیف، لکن ذلک لا یعنی أنّ هناک قصوراً فی العلم التفصیلی، ولا یعنی أنّ العلم التفصیلی خرج عن کونه منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، وعلّة تامّة بلا إشکال لوجوب الموافقة القطعیة، یبقی العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، والعلم الإجمالی فی محل کلامنا علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، لکن هذا لا ینافی الترخیص فی أحد الأطراف باعتبار العجز وعدم القدرة علی الموافقة القطعیة، فیُلتزم بعدم وجوب الموافقة القطعیة وحرمة المخالفة القطعیة حتّی علی القول بالعلّیة التامّة.

ص: 303

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه

من جملة الأمور التی تکون قد اتضحت من خلال الاستعراض المتقدّم هو أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) علی ما یبدو من کلامه خصوصاً فی(أجود التقریرات)، کأنّه یلتزم بارتفاع الحرمة واقعاً فی ما إذا فُرض أنّ ما اختاره لرفع اضطراره صادف الحرام الواقعی، یلتزم فی هذه الحالة بارتفاع الحرمة واقعاً بالنکتة المتقدّمة وهی سریان الاضطرار من الجامع إلی الفرد، فیکون هذا الفرد الذی فُرض کونه متعلّق للتکلیف الواقعی یکون هو مورد الاضطرار، هو اضطر إلی هذا، فیکون هذا موجباً لرفع التکلیف واقعاً، ویکون حاله حال الاضطرار إلی الفرد المعیّن، حیث هناک لا إشکال فی أنّ التکلیف یرتفع واقعاً، فلا تکلیف فی موارد الاضطرار، کما لا تکلیف فی مورد الاضطرار فی المقام الأوّل، کأنّه یری أیضاً أنّه لا تکلیف فی مورد الاضطرار فی الثانی، وسرّه هو أنّ الاضطرار یسری من الجامع إلی الفرد، فیکون حاله حال الاضطرار إلی الفرد المعیّن، ولکنّه التزم، بالرغم من أنّه یری أنّ التکلیف مرفوع واقعاً، التزم بالمنجّزیة مع أنّ مقتضی کون التکلیف مرفوعاً واقعاً هو أنّ نلتزم بعدم المنجّزیة؛ لأنّ التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، وإنّما هو فعلی علی تقدیر ولیس فعلیاً علی تقدیر، مع ذلک التزم بالمنجّزیة فی صورة تقدّم الاضطرار علی العلم الإجمالی، حتّی فی هذه الصورة التزم بالمنجّزیة، والتزم بأنّ البراءة لا تجری فی الطرف الآخر، وعللّه بما تقدّم سابقاً من أنّ ارتفاع الحرمة واقعاً لا یکون إلاّ فی آن الاختیار، فی آن الاختیار إذا صادف ما اختاره الحرام الواقعی ترتفع الحرمة واقعاً، أمّا قبل آن الاختیار، فیقول لا مقتضی لرفع الحرمة، فقبل الاختیار التکلیف فعلی علی کل تقدیر، والمکلّف یعلم بتکلیف فعلی علی کل تقدیر حتّی لو فُرض أنّ النجاسة سقطت فی هذا الإناء الذی سیختاره فی ما بعد، قبل الاختیار لا موجب لعدم فعلیة الحرمة فی کلا الطرفین علی کلا التقدیرین، فالتکلیف فعلی وهو علم بهذا التکلیف الفعلی علی کل تقدیر تنجّز علیه، فهو ینجّز کلا الطرفین، غایة الأمر أنّه ینجّز هذا الطرف فی أمد قصیر قبل الاختیار؛ لأنّه بالاختیار یرتفع التکلیف وینجّز الطرف الآخر علی طول الخط، والتزم بالمنجّزیة علی اساس ذلک.

ص: 304

هناک ملاحظتان علی هذا الکلام:

الملاحظة الأولی: منع دعوی السریان، أنّ الاضطرار یسری من الجامع إلی الفرد، هذه الدعوی لیست واضحة وغیر مستدل علیها، الاضطرار إذا کان متعلّقاً بالجامع یبقی متعلّقاً بالجامع، ولا وجه لسریانه إلی الفرد، یعنی الاضطرار متعلّق بالجامع، لکنّه یسری إلی الفرد لاختیار المکلّف له، فإذا اختار هذا یسری الاضطرار له من الجامع، وإذا اختار الآخر یسری الاضطرار له من الجامع. هذا السریان إلی الفرد مع الاعتراف بأنّه متعلّق بالجامع، السریان الی الفرد المنوط باختیار المکلّف لا وجه له عقلاً؛ بل حتّی عرفاً، العرف والعقل یرون بأنّ الاضطرار متعلّق بأحد الفردین، بالجامع، ولا یرون أنّ الاضطرار متعلّق بالحرام الواقعی، هو اختار أحد الفردین وصادف کونه حراماً ____________ حسب الفرض __________ هو یقول أنّ الاضطرار تعلّق بالحرام الواقعی، بهذا الحرام الذی اختاره واتّفق کونه حراماً، العرف لا یقبل تعلّق الاضطرار بالحرام الواقعی، یبقی العرف یقول هو لیس مضطرّاً إلی الحرام الواقعی، هو بإمکانه أن یرفع اضطراره بغیر الحرام الواقعی، فلا موجب للسریان، الاضطرار یتعلّق بالجامع وهو مضطر إلی أحد الفردین باختیاره أحد الطرفین واتفاقه أن یکون هو الحرام الواقعی هذا لا یعنی أن الاضطرار یسری من الجامع إلیه، یبقی هو مضطراً إلی ارتکاب أحد الطرفین، وهذا الفرد الذی اتفق کونه حراماً واقعیاً لیس هو متعلّق الاضطرار حتّی عرفاً، العرف بعد أن یلتفت إلی خصوصیات القضیة لا یری أنّ المکلّف مضطر إلی ارتکاب هذا الحرام؛ بل هو یبقی غیر مضطرّ إلی ارتکاب هذا الحرام، بإمکانه أن یرفع اضطراره بغیره، أی بغیر الحرام الواقعی. فمسألة السریان غیر واضحة. ویمکن تطبیق هذا المثال المعروف، عندما یتعلّق الأمر بالطبیعة علی نحو صرف الوجود، المکلّف یختار أحد الأفراد، یُطبّق الطبیعة علیه، الصلاة والصلاة فی المسجد، یصلّی فی المسجد، قالوا بأنّ هذا لا یکون هو متعلّق التکلیف، هذا الفرد الذی یختاره المکلّف وهو الصلاة فی المسجد لیس هو الواجب، یبقی الواجب هو الطبیعة. نعم، هذا مصداق للواجب ولیس هو الواجب، الواجب هو الطبیعة ولا یسری هذا التکلیف من الطبیعة إلی الفرد باختیار المکلّف لهذا الفرد؛ بل یبقی التکلیف واقفاً علی الطبیعة ولا یسری إلی الفرد. ما نحن فیه من هذا القبیل، الاضطرار متعلّق بالجامع باختیار المکلّف لأحد الطرفین لا یسری الاضطرار منه إلی هذا الفرد الذی اختاره.

ص: 305

الملاحظة الثانیة: أوردها السید الخوئی(قدّس سرّه) علی استاذه، (1) وهو نفترض أننا نسلّم ارتفاع الحرمة واقعاً عن ما یختاره المکلّف لرفع اضطراره إذا صادف الحرام الواقعی، هنا ترتفع الحرمة واقعاً. السید الخوئی(قدّس سرّه) یتساءل کیف یعقل الحکم بحرمة ذلک الشیء حرمة مُغیّاة إلی زمان الاختیار؟ لأنّ معنی کلام المیرزا(قدّس سرّه) أنّ الحرمة ثابتة قبل الاختیار، وتستمر هذه الحرمة إلی زمان الاختیار، فترتفع، بمجرّد أن یختار ترتفع الحرمة. هذا معناه أنّ الحرمة الثابتة مُغیّاة باختیار المکلّف بحیث یکون اختیار المکلّف رافعاً لهذه الحرمة. السید الخوئی(قدّس سرّه) یقول هذا غیر معقول؛ لأنّ الغرض من الحرمة فی الحقیقة هو ردع المکلّف عن اختیاره الحرام، یعنی خطاب التحریم یرید أن یردع المکلّف عن اختیاره لمتعلّقه، فکیف یُعقل أن تُجعل الحرمة مُغیاة باختیاره، فیُقال له یحرم علیک هذا الشیء إلی أن تختاره، فإذا اخترته ترتفع الحرمة، یقول مثل هذه الحرمة لا تکون معقولة؛ لأنّ مثل هذه الحرمة لیس الغرض منها ردع المکلّف عن ما تعلّقت به، وإنّما هی تترک أمراً إلی المکلّف نفسه، فإذا لم یختر الإتیان بمتعلّق الحرمة تکون الحرمة موجودة. أمّا إذا اختاره ترتفع الحرمة، وهذا شیء غیر معقول؛ لأنّ تحریم الشیء إنّما هو لأجل أن یکون رادعاً للمکلّف عن اختیاره، یعنی إجباره علی ترک الفعل ولیس إیکال الأمر إلی اختیاره؛ فحینئذٍ ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من أنّ الحرمة ثابتة قبل الاختیار وترتفع بالاختیار هذا شیء لا یکون معقولاً؛ بل جعل الحرمة التی ترتفع باختیار المکلّف هو لغو محض لا یمکن الالتزام به فی محل الکلام؛ وحینئذٍ یتعیّن فی المقام الالتزام بکون ما یختاره المکلّف محکوماً بالحلّیة من أول الأمر، لا أنّه محکوم بالحلّیة من آن الاختیار کما یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه)؛ لأنّ فیه المحذور الذی ذکرناه، فلابدّ من افتراض أنّ ما یختاره المکلّف یکون محکوماً بالحلّیة من البدایة ولیس من الآن، وإذا کان محکوماً بالحلّیة من البدایة؛ حینئذٍ ینهار الأساس الذی اعتمد علیه المحقق النائینی(قدّس سرّه) لإثبات المنجّزیة؛ لأنّ ما اعتمد علیه لإثبات المنجّزیة هو افتراض أنّ الحرمة ثابتة قبل الاختیار حتّی فی الطرف الذی اختاره، فیکون التکلیف فعلیاً علی کل تقدیر قبل الاختیار، وهذا ینجّز الطرف الآخر علی امتداد الوقت، بینما هنا یقول لابدّ من الالتزام بأنّ ما یختاره المکلّف محکوم بالحلّیة من البدایة. إذن: من البدایة أحد الطرفین لا حرمة فیه، وهذا معناه عدم وجود علم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، فلا یکون منجّزاً للطرف الآخر ولا مانعاً من إجراء الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، یقول سوف تکون النتیجة علی العکس تماماً ممّا یقوله المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 306


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص394.

إذن: بناءً علی هذا الکلام الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من أنّ الرفع یکون واقعیاً، لابدّ من الالتزام بعدم المنجّزیة، وإمکان جریان الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر کما هو الحال فی الاضطرار إلی المعیّن حینما یکون الاضطرار متقدّماً علی العلم الإجمالی؛ حینئذٍ لا علم بالتکلیف علی کل تقدیر، وهذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة وعدم وجود مانع یمنع من إجراء الأصول فی الطرف الآخر.

من الواضح أنّ هذا الإیراد الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) مبنی علی افتراض أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) عندما ذکر أنّ الحرمة ترتفع فی آن الاختیار، کأنّه فهم من کلامه أنّ جعل الاختیار غایة للحرمة، ترتفع عنده الحرمة.

أو بعبارةٍ أخری: أنّ أخذ عدم الاختیار شرطاً فی بقاء الحرمة؛ لأنّ الحرمة موجودة سابقاً، إذا لم یختر الحرام لرفع اضطراره تکون الحرمة مستمرّة. إذن: شرط بقاء الحرمة واستمرارها هو عدم اختیار الحرام الواقعی لرفع اضطراره. السید الخوئی(قدّس سرّه) کأنّه فهم أنّ أخذ عدم الاختیار شرطاً فی بقاء الحرمة، أو أخذ الاختیار غایة للحرمة، کأنّه فهم منه أنّ هذا علی نحو الشرط المقارن، بمعنی أنّه فی حال الاختیار ترتفع الحرمة، لا أنّ اختیاره یکون کاشفاً عن ارتفاع الحرمة من البدایة، وهذا معناه أنّ الاختیار أُخذ غایة، وعدم الاختیار أُخذ شرطاً فی بقاء الحرمة علی نحو الشرط المقارن، بمعنی أنّ الحرمة تکون موجودة وثابتة ومستمرة إلی حین الاختیار، فإذا اختار الحرام الواقعی لرفع اضطراره الآن ترتفع الحرمة، فی آن الاختیار ترتفع الحرمة، فمعناه أنّ الشرط یکون شرطاً مقارناً، فأورد علیه بما تقدّم. وأمّا إذا فرضنا فرضاً أنّ مقصود المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو أخذ عدم الاختیار شرطاً بنحو الشرط المتأخّر، جَعْل الاختیار غایة علی نحو الشرط المتأخّر، بمعنی أنّ المکلّف إذا اختار الفرد الحرام لرفع اضطراره، فأنّ هذا یکشف أنّ هذا لم یکن حراماً من البدایة، الحلّیة من البدایة مشروطة بشرطٍ متأخّر وهو أن یختار هذا الحرام لرفع اضطراره، فإذا اختار الحرام لرفع اضطراره، هذا یکشف عن عدم الحرمة من البدایة، أو قل یکشف عن ثبوت الحلّیة من البدایة، وإذا أُخذ علی نحو الشرط المتأخّر بهذا المعنی؛ حینئذٍ لا یرد علیه إیراد السید الخوئی(قدّس سرّه)؛ لأنّ هذا کشف، حتّی لو فرضنا أنّه متأخّر، وأنّه الآن هو اختار، لکن اختیاره للحرام الواقعی یکشف عن عدم الحرمة من البدایة، وعن الحلّیة من البدایة، وإذا کانت هناک حلّیة فی مورد الاختیار من البدایة، معناه أنّه لا یوجد علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر من البدایة حتّی یکون منجزاً للطرف الآخر.

ص: 307

إذن: إیراد السید الخوئی(قدّس سرّه) علیه مبنی علی افتراض أنّ کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) ناظر إلی الشرط المقارن، یعنی یرید أن یقول أنّ الحرمة ترتفع فی آن الاختیار لا أنّ الاختیار یکون کاشفاً عن ارتفاعها من البدایة بحیث یکون مأخوذاً بنحو الشرط المتأخّر.

لنفترض أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) أخذ الشرط بنحو الشرط المقارن لا الشرط المتأخّر حتّی یکون لإیراد السید الخوئی(قدّس سرّه) علیه وجهاً مقبولاً.

نقول أنّ هذا الإیراد: الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) یمکن أن یُلاحظ علیه أنّ افتراض أنّ الحرمة تکون ثابتة إلی زمان اختیار المکلّف للفرد الحرام واقعاً لرفع اضطراره فی حالة ما إذا کان هذا مقیّداً بالجهل ویُفرض فی حال الجهل، یعنی فی حال صدور هذا الاختیار منه لا عن عمدٍ وعلمٍ، نقول أنّ تقیید الحرمة بهذا الاختیار الصادر منه لا عن علمٍ وعمدٍ لیس أمراً غیر معقول؛ بل هو أمر معقول، لماذا لا یکون معقولاً أنّ الشارع یجعل حرمة تکون مُغیّاة بأن لا یتّفق أن یکون ما اخترته لرفع اضطرارک مصادفاً للحرام الواقعی، هذا حرام علیک إلی أن یتفق أن یکون ما اخترته لرفع اضطرارک مصادفاً للحرام الواقعی، هذا لیس أمراً غیر معقول؛ بل هو أمر معقول، ولیس فیه أیّ ضیرٍ، الغیر المعقول هو أن یجعل الحرمة مُغیاة باختیار المکلّف عن علمٍ وعمدٍ، یعنی أن یقول له هذا حرام علیک إلی أن أنت تختار الحرام عالماً عامداً، فإذا اخترت فعله ترتفع عنک الحرمة، هذا هو الغیر معقول، وهذا هو الذی أشار إلیه بأنّه خلاف الغرض من جعل الحرمة وتحریم الشیء، الغرض من تحریم الشیء هو ردع المکلّف عن الإتیان بمتعلّقها، فلا معنی لجعل بقاء التحریم وارتفاعه منوطاً باختیار المکلّف لمتعلّق التحریم، فإذا اختاره ترتفع الحرمة، وإذا لم یختره لا ترتفع، یقول له یحرم علیک شرب الخمر إلاّ إذا أخترت شرب الخمر، فإذا اخترت شرب الخمر ترتفع عنک حرمة شرب الخمر، هذا غیر معقول، هذا معناه أنّ الغرض من التحریم لیس ردع المکلّف عن الفعل، بدلیل أنّه أوکل الأمر إلی اختیار المکلّف، هذا المعنی الغیر المعقول لیس هو المتحقق فی محل الکلام، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یرید أن یقول أنّ التحریم الثابت سابقاً(حرمة شرب النجس)، هذه الحرمة تکون ثابتة وترتفع إذا شرب المکلّف أحد الإناءین من دون أن یعلم أنّه هو الحرام الواقعی، شرب أحد الإناءین لرفع اضطراره وصادف أن کان هذا هو الحرام الواقعی؛ حینئذٍ ترتفع الحرمة، ما المشکلة فی أن نقول أنّ الحرمة ترتفع فی هذه الحالة ؟ بأن یکون هذا هو الغایة للحرمة بحیث أنّ أمد الحرمة ینتهی عند هذا الحد فی ما إذا اتفق مصادفة ما اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعی، هنا ترتفع الحرمة، هذا لا یعنی أنّ هذا خلاف الغرض من تحریم الشیء وهو ردع المکلّف عن الإتیان بمتعلّقه، هذا أیضاً یردع المکلّف عن الإتیان بمتعلّقه، لکن یقول له إذا اتّفق أنّ ما اخترته لشرب الحرام الواقعی یکون رافعاً للتحریم، فالحرمة تکون ثابتة وباقیة إلی أن یحصل هذا الاتفاق بأن یکون ما اختاره لرفع اضطراره مصادفاً للحرام الواقعی؛ فعندئذٍ ترتفع الحرمة. هذا لیس فیه ضیر، أو محذور، والظاهر أنّ مراد المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو هذا، یعنی یرید أن یقول أنّ الحرمة ترتفع إذا صادف ما اختاره لرفع اضطراره الحرام الواقعی، بناءً علی نظریته من أنّ الاضطرار یسری إلی الفرد، فیکون الفرد متعلّقاً للتکلیف ومتعلّقاً للاضطرار، وهذا یوجب ارتفاع الحرام الواقعی ولا یرد علیه هذا الإیراد حسب الظاهر.

ص: 308

تنبیه یرتبط بالبحث السابق

حاصل التنبیه: کنّا نفترض الاضطرار إلی المعیّن وإلی غیر المعیّن وقد یتبادر إلی الذهن أنّ المقصود بالاضطرار هو الاضطرار التکوینی والعجز التکوینی، کلا، نقول هذا أعمّ من العجز التکوینی والعجز الشرعی، فی بعض الأحیان المکلّف قادر علی الشیء، لکنّه عاجز عنه شرعاً، من قبیل ما لو اضطرّ إلی شرب النجس کما فی المثال السابق، فقد نفترض أنّ الاضطرار اضطرار تکوینی بحیث یکون عاجزاً عن عدم شربه، ومضطرّ تکویناً إلی شربه، وقد نفترض أنّه لیس مضطراً إلی شربه، أی بإمکانه أن یترک شربه، لکن إذا ترک شربه هناک تکلیف أهم منه یزاحمه من قبیل وجوب حفظ النفس، ووجوب حفظ النفس هو تکلیف شرعی أهم من حرمة شرب النجس؛ فلأنّ ذاک أهم، والشارع یهتم بالتکلیف الأهم ویوجب علی المکلّف حفظ النفس، فکأنّ هذا یعتبر تعجیزاً شرعیّاً عن ترک شرب النجس، فیصبح عاجزاً عن ترک شرب النجس، أو بعبارة أخری یصبح مضطراً إلی شرب النجس للحفاظ علی الواجب الأهم، هذا عجز شرعی واضطرار شرعی ولیس اضطراراً تکوینیاً؛ لأنّه تکویناً هو قادر علی ترک شرب النجس، هو لیس مضطرّاً تکویناً إلی شرب النجس، لکنّه عاجز عنه شرعاً ومضطر إلی شربه شرعاً. هذا العجز الشرعی. فی العجز التکوینی الترخیص الذی یثبت هو ترخیص عقلی، بینما الترخیص الذی یثبت فی العجز الشرعی هو ترخیص شرعی وإن کان فی الترخیص الشرعی فی مسائل التزاحم الذی یثبت فیه الترخیص الشرعی فی ترک الأهم، هذا الترخیص یثبت بمجرّد التفات المکلّف إلی أنّ هناک تزاحماً، وأنّ ذاک هو أهم بنظر الشارع، وأنّ حفظ النفس المحترمة عند الشارع أهم من کل شیء، وأهم من حرمة شرب النجس، فإذا تزاحما ودار الأمر بینهما؛ حینئذٍ إذا عرف المکلّف أطراف القضیة سوف یجد نفسه مرخّصاً فی فعل هذا الحرام وشرب هذا النجس؛ لأجل الحفاظ علی النفس المحترمة. ومن هنا لا داعی لأن یجعل الشارع ترخیصاً فی هذا المورد کما فی العجز العقلی حیث هناک الترخیص عقلی صرف، هنا أیضاً لا داعی؛ لأنّ المکلّف إذا التفت إلی أطراف القضیة، لا داعی لأن یجعل الشارع له ترخیصاً، وإنّما هذا وحده کافٍ لکی یعتبر المکلّف نفسه مرخّصاً فی شرب هذا النجس عندما یقع التزاحم، لکن لا ضیر فی أن یقال أنّ الشارع قد رخّص فیه ترخیصاً شرعیاً، قد یصدر فیه ترخیص، ولو لغرض بیان أنّ حفظ النفس عنده أهم من حرمة شرب النجس، فیرخّص فی شرب النجس فی حالات التزاحم لغرض بیان الأهمیة؛ لأنّ المکلّف لیس دائماً یحرز الأهمیة. نقول إذا أحرز المکلّف الأهمیة فی حالات التزاحم، فهذا وحده یکفی لثبوت الترخیص بلا حاجة لأن یجعل الشارع الترخیص، لکن لا مانع من أن نفترض أنّ الشارع یجعل الترخیص، ولو لغرض بیان أنّ ذاک الواجب أهم من هذا.

ص: 309

الحالة الثالثة التی هی محل الکلام فی هذا التنبیه هی عجز لیس تکوینیاً وأیضاً لیس شرعیاً، یعنی لیس هو تکوینیاً صرفاً ولا هو داخل فی باب التزاحم، وإنّما هو عجز بمعنی الضرر والحرج لا أکثر، وهذا العجز بمعنی أنّه مضطر إلی شرب النجس، لکنّه مضطر إلی شربه بمقدار أنّه إذا لم یشربه یقع فی الحرج والضرر، فهو لیس اضطراراً تکوینیاً ولیس اضطراراً داخلاً فی باب التزاحم، وإنّما خلاصته هو أنّه إذا لم یشرب هذا النجس سوف یقع فی الحرج والضرر، فیأتی الکلام فی أنّ الکلام السابق کلّه بکل خصوصیاته وبکل تفاصیله هل یجری فی هذا القسم أیضاً کما هو الحال فی حالات العجز التکوینی والعجز الشرعی، أو لا ؟ أو أنّ هذا فیه خصوصیة قد یمنع من جریان بعض ما تقدّم فیه ؟

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه

کان الکلام فی ما إذا لم یکن الاضطرار واصلاً إلی حد العجز التکوینی ولا العجز الشرعی بالمعنی المتقدّم سابقاً، وإنّما هو بمرحلة ومرتبة الحرج والضرر، بمعنی أنّ عدم ارتکاب هذا الطرف یوقع الإنسان فی الحرج والضرر لا أکثر، وإلاّ هو قادر علی ارتکابه ولیس مشتغلاً بواجب أهم یُطلب منه ترک الاشتغال بهذا الواجب الأهم حتّی یصدق العجز الشرعی، وإنّما إذا ترکه یقع فی الحرج والضرر، فهو اضطرار بهذه المرتبة.

هذا الاضطرار إذا کان بهذه المرتبة، إذا کان اضطراراً إلی المعیّن کما إذا فرضنا أنّه اضطر إلی شرب الماء لرفع عطشه بمرتبة رفع الحرج والضرر لا بمرتبة الاضطرار الموجب للعجز التکوینی، ثمّ علم بنجاسة أحد شیئین، إمّا الماء، أو الخل، وهو مضطر إلی شرب الماء الذی هو المعیّن بمرتبة الحرج والضرر، فی هذه الحالة یأتی الکلام السابق کلّه فی المقام بکل تفاصیله المتقدّمة فی بحث الاضطرار إلی المعیّن الذی هو المقام الأوّل، کل الخصوصیات المذکورة هناک ترد فی المقام، التفصیل الذی بنوا علیه، وهو التفصیل بین ما إذا کان الاضطرار متقدّماً علی العلم الإجمالی، أو مقارناً وبین ما إذا کان الاضطرار متأخّراً عن العلم الإجمالی، فالتُزم بعدم المنجّزیة إذا کان الاضطرار متقّدماً علی العلم الإجمالی، أو مقارناً له، والتُزم بالمنجّزیة إذا کان الاضطرار متأخّراً عن العلم الإجمالی. هذا التفصیل بعینه یرد فی محل الکلام، أیضاً، فیقال أنّ هذا الاضطرار بمقدار الحرج ومستوی الحرج والضرر، هذا إذا کان قبل العلم الإجمالی، أو مقارناً له یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، وإذا کان متأخّراً عن العلم الإجمالی، فیبقی العلم الإجمالی علة منجّزیته بالنکتة السابقة وهی أنّ الأمر یدور بین التکلیف الطویل والتکلیف القصیر، فیتنجّز التکلیف الطویل الأمد علی امتداد الوقت، فالطرف الآخر یکون منجّزاً بهذا العلم الإجمالی المتقدّم ____________ بحسب الفرض ___________ علی الاضطرار، فتثبت المنجّزیة. نفس هذا الکلام یقال فی محل الکلام. غایة الأمر أنّ هنا فی محل الکلام الرافع للتکلیف هو قاعدة نفی الضرر، فأنّها هی التی تکون رافعة للتکلیف بمعنی من المعانی الآتیة لقاعدة نفی الضرر، أمّا هناک، فکان العجز التکوینی، أو العجز الشرعی هو الرافع للتکلیف، والمثبت للترخیص، أمّا هنا، فلدینا قاعدة ودلیل شرعی ینفی الضرر، فیکون فی حالة تقدّم الاضطرار بهذا المستوی علی العلم الإجمالی؛ حینئذٍ یکون رافعاً للتکلیف بالنسبة إلی الطرف المعیّن الذی هو الماء؛ لأنّه مضطر إلی ارتکابه، وإذا لم یشربه یقع فی الحرج، فأدلّة نفی الحرج تقول لا یوجد هنا تکلیف، فیرتفع التکلیف، إذا ارتفع التکلیف فی أحد الإناءین لا یکون العلم الإجمالی قابلاً للتنجیز؛ لأنّه لیس علماً بتکلیف فعلی علی کل تقدیر علی ما تقدّم سابقاً. وإذا کان هذا الاضطرار متأخّراً عن العلم الإجمالی؛ فحینئذٍ العلم الإجمالی ینجّز کلا الطرفین، یعنی ینجّز الطرف الآخر، أی ینجّز حرمة شرب الخل فی هذا المثال، فالأثر یظهر هنا، وبنفس النکتة السابقة وهی نکتة الدوران بین الفرد الطویل والفرد القصیر، فتمام الکلام الجاری هناک یجری فی حالة ما إذا کان الحرج و الاضطرار بهذا المستوی یکون إلی طرفٍ معیّن.

ص: 310

فی مقابل القسم الثانی، وهو ما إذا کان الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه کما هو فی نفس المثال، لکن نفترض أنّ کلاً من الإناءین کان ماءً، وکل منهما یحقق غرضه ویرفع عطشه ویرفع عنه الضرر والحرج، فهو مضطر إلی ارتکاب أحدهما لا إلی أحدهما بعینه، هنا الأمر یختلف والفرق بین هذا الفرض والفرض الذی قبله هو أنّه فی الفرض الذی قبله أی فی الاضطرار إلی المعیّن لا یوجد أی إشکال فی شمول أدلّة نفی الحرج للطرف المعیّن، کما ستأتی الإشکالات فی شمول أدلّة نفی الحرج لأحدهما لا بعینه، لا إشکال فی أنّ أدلّة نفی الحرج تشمل هذا الطرف، وإذا شملت هذا الطرف یأتی التفصیل السابق المتقدّم فی المقام الأوّل.

وأمّا إذا کان الاضطرار لأحدهما لا بعینه کما إذا کان کل منهما ماءً، فی هذه الحالة یقع الکلام فی أصل شمول قاعدة نفی الحرج لمثل هذه الحالة، یعنی لما إذا کان الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی غیر المعیّن، هناک کلام فی أصل شمول دلیل نفی الحرج لهذا المورد، وبعد ذلک یقع الکلام علی تقدیر تجاوز الإشکالات التی أثیرت حول شمول القاعدة لهذا المورد، وقلنا بأنّ القاعدة تشمل هذا المورد ویثبت بها الترخیص فی أحد الطرفین؛ لأجل رفع الحرج، فیقع الکلام فی أنّ هذا الترخیص الثابت باعتبار شمول أدلّة نفی الحرج للمقام هل هو من قبیل الترخیص الثابت فی حالات العجز التکوینی والعجز الشرعی أو هو یختلف عنها.

بعبارةٍ أخری: هل یجری فی هذا الترخیص الثابت بأدلّة نفی الحرج تمام ما قیل فی الترخیص الثابت فی موارد العجز التکوینی والعجز الشرعی، أو یختلف عنه ؟ أمّا أصل شمول دلیل القاعدة لمحل الکلام، هناک إشکالان أشکلا علی شمول أدلّة نفی الحرج لأطراف العلم الإجمالی:

ص: 311

الإشکال الأوّل: أنّ مفاد أدلّة نفی الحرج وهکذا نفی الضرر هو نفی الحکم، لکن بلسان نفی الموضوع، هی تنفی الموضوع والغرض منه نفی الحکم، فهی تنفی الحکم، لکن بلسان نفی الموضوع. هذا التفسیر للقاعدة إذا سلّمناه یستلزم افتراض أن یکون هناک موضوع حرجی یلزم منه الحرج، فالشارع یرفع هذا الموضوع الحرجی لغرض نفی حکمه، لکن حتّی تشمل القاعدة مورداً لابدّ من افتراض أنّ هذا الحکم الذی نرید نفیه بالقاعدة، لابدّ أن یکون موضوعه حرجیاً وضرریاً؛ فحینئذٍ یقال أنّ القاعدة تشمله وتدلّ علی نفی حکمه؛ لأنّ لحکمه موضوع حرجی، والقاعدة تنفی الحکم، لکن بلسان نفی الموضوع، فلابدّ من افتراض أنّ الموضوع حرجی. أمّا إذا فرضنا أنّ موضوع الحکم لم یکن حرجیاً، أی بإمکان المکلّف أن یأتی بهذا الموضوع من دون أن یقع فی أی حرج؛ حینئذٍ لا تشمله القاعدة، وإنّما هی تشمل خصوص الأحکام التی تکون موضوعاتها حرجیة أو ضرریة. یقول الإشکال: أنّ مقامنا من هذا القبیل، موضوع الحکم الشرعی لیس حرجیاً، فالحکم الشرعی هو حرمة شرب النجس، ولیس هناک حرج علی المکلّف فی أن یترک شرب النجس، لو علم به لکان ترکه ممکناً بالنسبة إلیه ولا یوقعه فی الحرج، وبإمکانه أن یرفع حرجه بالطرف الآخر. إذن: لو قصرنا النظر علی الحکم الشرعی سنجد أنّ موضوع الحکم الشرعی لیس حرجیاً، وإنّما الحرج والضرر یلزم من الموافقة القطعیة لهذا الحکم الشرعیة، الموافقة القطعیة لهذا التکلیف هی التی توقع المکلف فی الحرج والضرر، هذا هو الذی یلزم منه العسر والحرج، وإلاّ أصل الإتیان بمتعلّق التکلیف لیس فیه حرج؛ لأنّ موضوع التکلیف هو حرمة شرب النجس، ولیس لدی المکلّف مشکلة فی أن یترک شرب النجس؛ إذ أنّ شرب النجس لا یوقعه فی الحرج، وإنّما الذی یوقعه فی الحرج هو ترک شرب الإناءین، وهذا معناه أنّ موضوع التکلیف الشرعی لیس حرجیاً، وما یلزم من الإتیان به الضرر أو الحرج لیس موضوعاً للتکلیف الشرعی، وإنّما ما یلزم منه العسر والحرج هو الاحتیاط، وهو ترک کلا الطرفین، وهو لیس موضوعاً لتکلیفٍ شرعی، وإنّما هو موضوع لتکلیفٍ عقلی، العقل هو الحاکم به، بینما التکلیف الشرعی موضوعه لیس حرجیاً، والقاعدة إنّما تشمل الأحکام الشرعیة، فهی تکون حاکمة علی الحکم الشرعی ورافعة للحکم الشرعی، لکن بلسان نفی الموضوع ولیس لها نظر إلی الأحکام العقلیة بحیث تکون رافعة للأحکام العقلیة بلسان نفی موضوعها، وإنّما هی رافعة للحکم الشرعی، ویُشترط فی شمولها للحکم الشرعی أن یکون موضوعه حرجیاً، فإذا لم یکن موضوعه حرجیاً، کما هو المفروض فی محل الکلام، فالقاعدة لا تشمله، فإذن لیس بإمکاننا إجراء القاعدة فی محل الکلام لإثبات أن الحکم ینتفی باعتبار أنّه یلزم من الإتیان بهذا الطرف الوقوع فی الحرج، أصلاً لا تجری القاعدة فی محل الکلام. هذا إشکال فی أصل شمول القاعدة لمحل الکلام.

ص: 312

هذا الإشکال وإن ألتزم به بعض المحققین کصاحب الکفایة(قدّس سرّه)، لکن یمکن تجاوزه بالالتزام إمّا بما یقوله الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من أنّ مفاد دلیل نفی العسر والحرج هو نفی التکلیف الذی ینشأ منه العسر والحرج، الأحکام التی یلزم منها العسر والحرج تکون منفیة.

بعبارة أکثر وضوحاً: الأحکام التی تکون منشئاً للعسر والحرج تکون منفیّة، سواء کان موضوعه فیه عسر وحرج، أو لم یکن موضوعه حرجیاً، بالنتیجة الحکم الشرعی هو الذی صار منشئاً للعسر والحرج، ولو بواسطة إجماله وترددّه الموجب لوجوب الموافقة القطعیة وللاحتیاط، بالنتیجة الموافقة القطعیة ناشئة من التکلیف، لکن بعد فرض ترددّه وإجماله، لکن بالنتیجة هی ناشئة من التکلیف. إذن: العسر والحرج الذی ینشا من التکلیف یکفی فی شمول القاعدة له حتّی إذا کان موضوعه لیس حرجیاً کما فی محل الکلام. فی محل الکلام موضوع الحرمة الواقعیة لیس حرجیاً، بإمکان المکلّف أن یترک موضوع الحرمة الواقعیة، أی یترک الحرام الواقعی الذی وقعت فیه النجاسة واقعاً ویجتنبه من دون أن یقع فی الحرج، وإنّما الذی یوقعه فی الحرج هو الالتزام بترک کلا الطرفین، لکن هذا الالتزام بترک کلا الطرفین إنّما نشأ من التکلیف الواقعی بعد فرض تردده وإجماله، ما یستفاد من القاعدة هو أنّ کل ما یکون منشئاً للحرج والضرر، ولو بالواسطة، یکون منفیّاً، ویمکن الالتزام بشمول القاعدة لمحل الکلام، وأنّها تنفی الحکم الشرعی المعلوم بالإجمال فی محل الکلام؛ لأنّ هذا الحکم الشرعی المعلوم بالإجمال، وإن کان موضوعه الواقعی لیس فیه حرج، لکنّه منشئ لإیقاع المکلّف فی العسر والحرج، فتشمله القاعدة وتکون نافیة لهذا التکلیف، وبهذا یمکن تجاوز هذا الإشکال. أو یُلتزم بمبنی آخر سیأتی توضیحه وهو أن یُلتزم أنّ مفاد القاعدة هو رفع الحرج الخارجی، ویکون هذا برفع کل ما یوجبه. علی کلا التقدیرین یرتفع الإشکال الأوّل؛ لأنّه کان منصبّاً علی أنّه یُشترط أن یکون شمول القاعدة لموردٍ أن یکون موضوع الحکم الشرعی حرجیاً، نفس الموضوع الذی یتعلّق به التکلیف یکون حرجیّاً، وهذا غیر متحقق فی محل الکلام.

ص: 313

الإشکال الثانی: لو سلّمنا أنّ القاعدة تدل علی نفی کل حکم یکون منشئاً للعسر والحرج، حتّی لو سلّمنا هذا، هی لا تشمل محل الکلام؛ لأنّه لا إشکال فی أنّه یُشترط فی هذا الحکم الذی یُراد نفیه باعتباره منشئاً للضرر، أو للحرج أن یکون حکماً وجویاً، أیّ أنّ القاعدة تشمل الأحکام الشرعیة الإلزامیة الوجودیة، إذا کانت منشئاً للضرر، وإلاّ القاعدة لا تشمل عدم حکم حرجی، وإنّما تشمل الحکم الوجودی الذی یکون منشئاً للضر والحرج، أمّا إذا کان عدم الحکم یلزم منه الوقوع فی الحرج، فالقاعدة لا تشمله؛ لأنّها ناظرة إلی الأحکام الشرعیة الإلزامیة الوجودیة، فإذا کان لدینا حکم شرعی وجودی یکون منشئاً لإیقاع المکلّف بالحرج، ولو بالواسطة تشمله القاعدة، أمّا إذا کان الحکم الشرعی الذی یُراد نفیه لیس منشئاً للضرر أصلاً، وإنّما الحرج ینشأ من عدم حکمٍ آخر وهو فی محل الکلام عدم الترخیص فی بعض أطراف العلم الإجمالی، عدم الترخیص الشرعی فی ارتکاب أطراف العلم الإجمالی هو الذی یوقع المکلّف فی العسر والحرج، وإلاّ التکلیف الواقعی فی حدّ نفسه لا یوقع المکلّف فی العسر والحرج، وإنّما التکلیف الواقعی حیث شکّ فیه المکلّف وتردّد فیه، الشارع لم یحکم بالترخیص فی أطراف هذا العلم الإجمالی، هذا هو الذی أوقع المکلّف فی الضرر، هذا صار منشئاً لإیقاع المکلّف فی الحرج؛ لأنّ الشارع لم یُرخّص فی ارتکاب الأطراف، وإذا التزم المکلّف بهذا الشیء سوف یقع فی الحرج والضرر، فالذی یکون منشئاً للضرر فی محل الکلام هو عدم الترخیص الشرعی وأدلّة نفی الضرر والحرج لا تشمل عدم الحکم الحرجی، وإنّما هی تشمل التکالیف الوجودیة الإلزامیة الحرجیة، وفی محل الکلام التکلیف الوجودی الإلزامی المعلوم بالإجمال لیس منشئاً للضرر، وإنّما یترتب الضرر فی الحقیقة من عدم الترخیص الشرعی، أو قل بعبارةٍ أخری من إیجاب الاحتیاط، إیجاب الاحتیاط هو الذی یوقع المکلّف فی الحرج.

ص: 314

أو بعبارةٍ أخری: أنّ اهتمام الشارع بالواقع حتّی فی هذه الحالة هو الذی یوقع المکلّف فی الحرج؛ لأنّ اهتمام الشارع بالواقع حتّی فی هذه الحالة هو الذی یجعل الشارع یحکم حکماً بوجوب الاحتیاط، فوجوب الاحتیاط، وعدم الترخیص الشرعی هو الذی یکون منشئاً للضرر والحرج، والقاعدة لا تشمل کما قلنا عدم حکم حرجی، وإنّما تشمل الأحکام الشرعیة الوجودیة الإلزامیة الحرجیة.

إذا قلنا بأنّ القاعدة کما تشمل الأحکام الشرعیة الوجودیة الإلزامیة کذلک تشمل عدم الحکم الحرجی، بأن نفهم من القاعدة أنّها فی مقام نفی الحرج الخارجی الذی یکون ناشئاً من أحکام أو عدم أحکامٍ شرعیة، مطلق ما یکون منشئاً للحرج یکون منفیّاً، فإذا کان منشأ الوقوع فی الحرج هو حکم تکلیفی وجودی یکون مشمولاً للقاعدة، فیکون منفیّاً، أو یکون منشأ الوقوع فی الحرج هو عدم الترخیص الشرعی، هذا أیضاً یکون منفیاً، باعتباره منشئاً لوقوع المکلّف فی الحرج، ولا داعی لتخصیص المنفی بخصوص الأحکام الشرعیة الإلزامیة الوجودیة، کل ما یکون ثابتاً فی الشریعة ویُسند إلی الشارع إذا کان منشئاً لوقوع المکلّف فی الحرج یکون منفیاً، سواء کان أمراً وجودیاً، أو کان أمراً عدمیاً، فکما یُنفی بالحدیث الشریف التکلیف الشرعی إذا کان منشئاً للوقوع فی الحرج، کذلک یُنفی بالحدیث الشریف عدم الترخیص الذی قلنا بأننا یمکن أن نعبّر عنه بإیجاب الاحتیاط، عدم الترخیص فی الأطراف یعنی إیجاب الاحتیاط؛ فحینئذٍ یکون الحدیث شاملاً لذلک ویکون دالاً علی نفی وجوب الاحتیاط ونفی عدم الترخیص، ولازم ذلک هو ثبوت الترخیص فی ارتکاب بعض الأطراف، یعنی ثبوت الترخیص فی مخالفة الموافقة القطعیة، یعنی یثبت الترخیص فی بعض الأطراف، وأمّا حرمة المخالفة القطعیة، فتبقی علی حالها.

ص: 315

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه

الکلام فی ما إذا لم یکن الاضطرار واصلاً إلی مرحلة العجز، وإنّما کان واصلاً إلی مرحلة الحرج فقط، فهل حکمه هو نفس ما تقدّم یجری فیه تمام ما تقدّم، أو لا ؟

قلنا أنّ الاضطرار إن کان لأحدهما المعیّن، فالکلام فیه هو نفس الکلام فی المقام الأوّل فی ما تقدّم عندما فرضنا الاضطرار إلی المعیّن، وقلنا ما هو حکمه. وأمّا إن کان الحرج والضرر یرتفع بارتکاب أحدهما لا بعینه، وهو معنی الاضطرار بهذه المرتبة إلی أحدهما غیر المعیّن، والذی هو البحث فی المقام الثانی المتقدّم، هنا قلنا بأنّ الکلام یقع أولاً فی أصل شمول أدلّة نفی الحرج لمثل هذه الحالة، یعنی فی حالة ما إذا کان العلم الإجمالی مردداً بین أطراف، وکان هناک حرج أو ضرر یقتضی ارتکاب واحدٍ من هذه الأطراف لا بعینه، فهل تشمله أدلّة نفی الحرج وتثبت فیه الترخیص لواحدٍ لا بعینه، أو لا ؟ هناک کلام فی هذا، ولیس هنا محل بحثه، وإنّما یبحث فی دلیل الانسداد لمناسبة هناک، ذُکر أنّه هل یمکن التمسّک بأدلّة نفی الحرج والضرر لإثبات الترخیص التخییری فی أحد الطرفین لا بعینه، أو لا یمکن إثبات ذلک؛ لأنّ أدلّة نفی الحرج والضرر لا تشمل مثل هذا الفرض ؟ هذا بحث یُذکر فی محله. هذا البحث الأوّل نأخذه أصلاً موضوعیاً فی البحث الثانی الذی هو المهم، لنفترض کما هو الصحیح أنّ أدلّة نفی الحرج والضرر تشمل محل الکلام، فلا محذور فی جریان قاعدة نفی الضرر فی محل الکلام وإثباتها للترخیص فی ارتکاب أحد الطرفین لا بعینه؛ لأنّ ترک ارتکابهما معاً یوقعه فی الضرر أو فی الحرج، فیقع الکلام فی البحث الثانی.

ص: 316

خلاصة البحث الثانی: أنّه یقع الکلام فی أنّ هذا الترخیص فی ارتکاب أحدهما بعد فرض ثبوته بأدلّة نفی الحرج والضرر، بعد فرض ثبوته یقع الکلام فی أنّ هذا الترخیص کالترخیص الثابت فی موارد العجز التکوینی، أو الشرعی الذی تقدّم الکلام عنهما ؟ أو هو ترخیص یختلف عنهما بلحاظ بعض الأمور ؟ الظاهر أنّ هناک أموراً یختلف فیها الحرج والضرر، أو الاضطرار بهذا المقدار عن الاضطرار بمقدار العجز التکوینی أو الشرعی، هناک بعض الفوارق بینهما،(مثلاً): تقدّم سابقاً أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) کان یری المنافاة بین الترخیص وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، ولذلک حکم بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز. المحقق العراقی (قدّس سرّه) فسّر هذه المنافاة فی کلام صاحب الکفایة (قدّس سرّه) علی أنّها مبنیة علی القول بالعلّیة التامّة، وقال: بناءً علی العلّیة التامّة المنافاة تکون متحققة، أمّا بناءً علی الاقتضاء، فلا منافاة بین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال وبین الترخیص. هناک تقدّم ملاحظة علی کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) أنّه یمکن منع المنافاة حتّی علی القول بالعلّیة التامّة، وذلک باعتبار أنّ الترخیص یثبت باعتبار عدم تنجّز العلم الإجمالی، عدم تنجّز العلم الإجمالی فی محل الکلام یثبت لیس من جهة وجود نقص فی العلم الإجمالی وکونه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وإنّما من جهة أنّ أصل منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة هی مشروطة بشرط، هناک جزء آخر یتممّ هذا التنجیز وهو عبارة عن القدرة، أن یکون المکلّف قادراً، وإلاّ لا معنی لافتراض أنّ العلم بالتکلیف ینجّز ذلک التکلیف علی مستوی وجوب الموافقة القطعیة، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعیة مع عدم قدرة المکلّف، فالقدرة شرط اساسی فی تنجیز العلم الإجمالی للتکلیف المتعلّق به، إنّما یتنجّز عندما یکون المکلّف قادراً علی امتثال ذلک التکلیف، فیتنجّز علیه، وأمّا إذا کان عاجزاً وغیر قادر أصلاً، فمجرّد علمه بالتکلیف لا یکون منجّزاً للتکلیف لا لنقصٍ فی العلم الإجمالی، لا یوجد ما یوجب حدوث نقصٍ فی العلم الإجمالی؛ بل العلم الإجمالی باقٍ علی حاله وهو ینجّز، وعلّة تامّة، لکنّه لا ینجّز هذا التکلیف فی محل الکلام، ولا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام؛ لأنّ المکلّف غیر قادر علی الموافقة القطعیة، هکذا کنّا نقول سابقاً، فی موارد العجز التکوینی المکلّف غیر قادر علی الموافقة القطعیة. إذن: لا یمکن أن یکون العلم بالتکلیف منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة لعدم القدرة علیها حتّی إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة للتنجیز؛ لأنّه إنّما یکون منجّزاً للتکلیف وعلّة تامّة له عندما نفترض قدرة المکلّف علی الموافقة القطعیة، أمّا حیث لا یکون قادراً علی الموافقة القطعیة؛ فحینئذٍ العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، ولیس هذا من جهة وجود خلل فی النظریة القائلة بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وفی باب العجز التکوینی القدرة غیر متحقق علی الموافقة القطعیة؛ فحینئذٍ لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، وهذا لا یضر بالعلم الإجمالی بالتکلیف وافتراض أنّه علّة تامّة للتنجیز. هذا الذی تقدّم سابقاً لا یجری هنا، هذا لا یجری فی موارد الضرر والحرج؛ لأنّه فی موارد الضرر والحرج القدرة موجودة، المکلّف قادر علی الموافقة القطعیة، غایة ما یلزم أنّه إذا ترک کلا الطرفین یقع فی الحرج والضرر، وهذا لیس معناه أنّ المکلّف غیر قادر علی الموافقة القطعیة، المکلّف قادر علی الموافقة القطعیة فی المقام؛ ولذا یأتی کلام المحقق العراقی (قدّس سرّه) هنا من أنّه بناءً علی العلّیة التامّة یکون الترخیص منافیاً للعلم الإجمالی بالتکلیف المنجّز علی نحو العلّیة التامّة؛ لأنّه بناءً علی العلّیة التامّة لا یُعقل التفکیک بین العلّة وبین المعلول، أن نقول أنّ العلم الإجمالی موجود لکن نسلب منه التنجیز؛ لأنّه تفکیک بین العلّة والمعلول، والمفروض أنّ شرط التنجیز متحقق فی محل الکلام الذی هو القدرة، هو قادر علی الموافقة القطعیة، فلماذا لا ینجّز العلم الإجمالی الموافقة القطعیة، نفترض علماً إجمالیاً، لکن من دون موافقة قطعیة، هذا تفکیک بین العلّة والمعلول وهذا غیر جائز وحیث أنّ الترخیص ثابت بدلیله، بعد فرض ثبوت الترخیص لابدّ من ارتفاع التکلیف؛ لأنّ الجمع بینهما محال، وإذا قلنا بارتفاع التکلیف ننتهی إلی نتیجة التوسّط فی التکلیف، لا التوسّط فی التنجیز؛ لأنّ التوسّط فی التکلیف مبنی علی أنّه علی أحد التقدیرین لا تکلیف، علی تقدیر أن یکون ما یُرفع به الاضطرار هو الحرام الواقعی لا یوجد تکلیف، لا حرمة؛ لاستحالة الجمع بین التکلیف الواقعی وبین الترخیص بناءً علی العلّیة التامّة، فإذا ثبت الترخیص، فهذا یعنی عدم وجود تکلیف، وإذا لم یکن هناک تکلیف علی أحد التقدیرین، فهذا یعنی أنّ التوسّط یکون فی التکلیف لا فی التنجیز. هذا بناءً علی العلّیة التامّة.

ص: 317

وأمّا بناءً علی الاقتضاء: حینئذٍ هذا یرتبط بمفاد دلیل نفی الحرج والضرر، إذا قلنا بأنّ مفاده هو ما نقلناه عن الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، وهو نفی التکلیف الذی یجیء منه الضرر والحرج، ویکون منشئاً للحرج ولو بالواسطة، ولا یُشترط أن یکون موضوعه موضوعاً حرجیاً؛ بل قد یکون موضوعه غیر حرجی کما فی محل الکلام، التکلیف فی محل الکلام متعلّق بالنجس الواقعی، الحرمة متعلّقة بالإناء الذی سقطت فیه قطرة الدم واقعاً، وهذا الموضوع لیس موضوعاً حرجیاً، لا یکون الإتیان به موقعاً للمکلّف فی الحرج، وإنّما یقع فی الحرج نتیجة إلزام المکلّف بالاحتیاط بوجوب الموافقة القطعیة، هذا هو الذی یوقعه فی الحرج، هذا صحیح، لکن الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) یقول حتّی هذا یشمله دلیل نفی الضرر والحرج؛ لأنّ بالنتیجة السبب الأساسی هو التکلیف، ولو بالواسطة أوقعه فی الحرج، والحدیث یرفع کل تکلیف یکون منشئاً لإیقاع المکلّف فی العسر والحرج. بناءً علی هذا، هذا معناه أنّ نفی الحرج یعنی نفی التکلیف؛ حینئذٍ یقع التنافی بین التکلیف الواقعی الثابت فی هذا الطرف علی تقدیر أن یکون هو النجس واقعاً وبین نفی الحرج؛ لأنّ نفی الحرج یعنی نفی التکلیف، باعتبار أنّ هذا التکلیف یوقع المکلّف فی الحرج، أو ینشأ منه الحرج، فنفی الحرج یقتضی نفی التکلیف، هذا کیف یجتمع مع التکلیف الواقعی فی هذا الطرف علی تقدیر أن یکون نجساً فی الواقع ؟ فإذا جری دلیل نفی الحرج ونفا التکلیف فی هذا الطرف علی تقدیر أن یکون نجساً واقعاً، أیضاً ننتهی إلی نفس النتیجة السابقة وهی التوسّط فی التکلیف لا التوسّط فی التنجیز؛ لأنّ التکلیف یرتفع علی أحد التقدیرین ویکون ثابتاً علی التقدیر الآخر، فلا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر ویکون التوسّط فی التکلیف. هذا بناءً علی هذا الفهم لأدلّة نفی الحرج والعسر وهو الفهم الذی یختاره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) وهو أنّ کل تکلیف یرتفع إذا کان منشئاً لحصول الحرج، وهذا التکلیف صار منشئاً لحصول الحرج، باعتبار عدم قدرة المکلّف علی الموافقة القطعیة؛ لأنّه یوقعه فی الحرج، فیکون منفیّاً بأدلّة نفی الحرج والعسر.

ص: 318

وأمّا إذا قلنا بالرأی الآخر فی المسألة: ولیس برأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه)؛ لأنّ رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یقتضی أن لا تشمل أدلّة نفی الحرج محل الکلام، هی تشمل فقط التکلیف الذی یکون موضوعه حرجیاً، وفی المقام موضوع التکلیف لیس حرجیّاً؛ لأنّ موضوعه النجس الواقعی ولا حرج فی ترک النجس الواقعی، الحرج فی الموافقة القطعیة لهذا التکلیف لا فی نفس الموضوع الواقعی، علی رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أصلاً الدلیل لا یشمل محل الکلام، لکن نقول بناءً علی الرأی الآخر الذی یقول بأنّ أدلّة نفی الحرج تشمل محل الکلام، وأدلّة نفی الحرج مفادها نفی الحرج الخارجی الذی ینشأ من الشریعة، بسبب التشریعات الإلهیة یقع المکلّف فی الحرج، الحدیث ینفی هذا السبب لوقوع المکلّف فی الحرج، سواء کان هذا السبب هو تکلیف، أو عدم تکلیف، حتّی إذا کان سبب الحرج هو عدم تکلیف أیضاً الحدیث یشمل ذلک وینفی هذا العدم، وفی المقام یُدّعی بأنّ أدلّة نفی الحرج تنفی عدم الترخیص الشرعی فی ارتکاب أحد الطرفین، باعتبار أنّ عدم الترخیص یوقع المکلّف فی الحرج، وبدل عدم الترخیص یمکن أن نعبّر بوجوب الموافقة القطعیة، أو یمکن أن نعبّر بالاحتیاط التام، الاحتیاط التام هو الذی یوقع المکلّف فی الحرج، وإلاّ امتثال أصل التکلیف لا یوقع المکلّف فی الحرج، عدم ترخیص الشارع للمکلّف فی ارتکاب أحد الطرفین، باعتبار أنّه مضطر إلی ارتکابه بمرتبة الحرج والضرر، هذا هو الذی یوقع المکلّف فی الحرج والضرر، فیکون عدم الترخیص مرفوعاً، والاحتیاط التام یکون مرفوعاً، وجوب الموافقة القطعیة یکون مرفوعاً، بناءً علی هذا؛ حینئذٍ یرتفع عدم الترخیص ویثبت الترخیص، عدم الترخیص هو الذی یکون مرفوعاً لا التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال؛ لأنّه لیس هو سبب الحرج، سبب الحرج فی الحقیقة والواقع هو عبارة عن عدم الترخیص وإلزام المکلّف بالاحتیاط التام، هذا هو الذی یکون مرفوعاً بهذه الأدلة، أمّا التکلیف فیبقی علی حاله والأدلّة لا تمسّه ولا ترفعه ولیس فیها دلالة علی رفعه، وإنّما هی ترفع عدم الترخیص الشرعی، فیثبت بدله الترخیص فی ارتکاب أحد الطرفین، ترفع وجوب الموافقة القطعیة، فلا تجب الموافقة القطعیة، أمّا حرمة المخالفة القطعیة فتبقی علی حالها؛ لأننّا لم نمس التکلیف، فیبقی التکلیف علی حاله، وإذا بقی التکلیف علی حاله، فهذا معناه أنّ التوسّط یکون فی التنجیز لا فی التکلیف، یعنی أنّ التکلیف باقٍ لکن نفرّق بلحاظ التنجیز بین وجوب الموافقة القطعیة، فنلتزم بعدم تنجیزه، باعتبار اضطرار المکلّف، ولو بمستوی الحرج، وبین حرمة المخالفة القطعیة، فنلتزم بها؛ لأنّ التکلیف باقٍ وهو یبقی علی تنجیزه، لکن تنجیزه بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة دون وجوب الموافقة القطعیة، وهذا توسّط فی التنجیز.

ص: 319

الأمر الثانی الذی یقع فیه الکلام: قد یقال أنّه بناءً علی مسلک الاقتضاء، فالمنافاة بین التکلیف الواقعی وبین الترخیص، إنّما لا تتحقق کما ذکرنا سابقاً إذا کان الترخیص ظاهریاً، الترخیص الظاهری علی مسلک الاقتضاء لا مشکلة فیه، ولا یکون هذا الترخیص منافیاً للتکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، لکن هذا عندما یکون الترخیص ظاهریاً، وأمّا إذا کان الترخیص واقعیاً لا ظاهریاً، حینئذٍ قد یقال أنّ المنافاة موجودة لوضوح أنّ الترخیص الواقعی ینافی التکلیف الواقعی، کیف یمکن أن یجتمع ترخیص واقعی فی الطرف الذی رفع المکلّف به اضطراره وبین التکلیف الواقعی فی نفس ذلک الطرف علی تقدیر أن یکون نجساً فی الواقع ؟ هو طرف واحد یکون مرخصاً فیه واقعاً، ویکون التکلیف ثابتاً فیه واقعاً، لا یُعقل الجمع بینهما! إذن: علی تقدیر أن یکون النجس ثابتاً فی الطرف الذی رفع به اضطراره، هنا المنافاة بین التکلیف الواقعی وبین الترخیص الواقعی تکون ثابتة، وهذا فی الحقیقة یستلزم ارتفاع التکلیف فی هذا الفرض، وبالتالی یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، باعتبار عدم ثبوت التکلیف علی هذا التقدیر، وعلیه: لا یکون العلم الإجمالی متعلّقاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وإنّما یکون متعلّقاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیرٍ وبتکلیفٍ غیر فعلیٍ علی تقدیرٍ آخر. إذن: لا یوجد علم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وهذا یؤدّی إلی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، أو التوسّط فی التکلیف. هذا إذا کان الترخیص واقعیاً. نعم لا منافاة إذا کان الترخیص ظاهریاً.

ومن هنا قد یقال: أنّ الترخیص فی محل الکلام واقعی ولیس ظاهریاً، والسبب فی ذلک هو أنّ الترخیص فی محل الکلام یُستفاد من الأدلّة التی تدلّ علی الترخیص فی موارد الاضطرار من قبیل(ما من شیءٍ حرّمه الله إلاّ وأحلّه لمن أضطُر إلیه) (1) هذا یُستفاد منه الحلّیة والترخیص، فیقال أنّ ظاهر هذا الحدیث الشریف هو أنّ الاضطرار مقتضٍ للحلّیة، الحدیث الشریف لیس فقط یدلّ علی أنّ الاضطرار یقتضی الحلّیة؛ بل یقول أنّ الاضطرار یقتضی الحلّیة حتّی فی الموارد التی تکون الحرمة ثابتة فیه، حتّی الموارد التی فیها مفسدة ملزمة تقتضی الحرمة، مع ذلک الاضطرار فیه یقتضی حلّیة ذلک المورد، فالحدیث یدلّ علی ثبوت الحلّیة فی الموارد التی ثبتت فیها المفسدة الملزمة المقتضیة للحرمة، فضلاً عن غیرها، أی عن الموارد التی لیس فیها مفسدة ملزمة، فهی من بابٍ أولی أن یقتضی الاضطرار الحلّیة فیها، والاضطرار یقتضی رفع الحرمة وثبوت الحلّیة. إذن: الموارد التی هی مباحة فی الأساس ولیس فیها حرمة، إذا اضطر إلیها الإنسان من بابٍ أولی أن یثبت فیها الترخیص، بناءً علی هذا؛ حینئذٍ یکون مفاد الحدیث الشریف هو جعل الحلّیة فی مورد الاضطرار، ولو لم یکن مورد الاضطرار حراماً، ولیس بالضرورة أن یکون مورد الاضطرار حراماً؛ بل قلنا أنّه إذا لم یکن حراماً تثبت فیه الحلّیة من بابٍ أولی، بمعنی أنّ الاضطرار مقتضٍ للحلّیة فی جمیع الموارد حتّی إذا کان المورد حراماً، مع ذلک الاضطرار یقتضی الحلّیة. وبناءً علی هذا، فهذا الحدیث یدلّ علی أنّ الاضطرار مقتضٍ لإثبات الحلّیة حتّی إذا لم یکن مورده حراماً؛ حینئذٍ إذا أردنا أن نطبقه علی محل الکلام، المکلّف لیس مضطراً إلی الفرد، وإنّما هو مضطر إلی الجامع، مضطر إلی ارتکاب أحد الطرفین، والجامع لیس حراماً، فلا مشکلة؛ لأنّه لا یُشترط فی شمول الحدیث لموردٍ أن یکون حراماً کما بیّنا، الجامع لیس حراماً، یشمله الحدیث، فإذا اضطر إلیه المکلّف، هذا الاضطرار فیه اقتضاء الحلّیة، فتکون الحلّیة ثابتة فی الجامع، وهذه الحلّیة الثابتة فی الجامع حلّیة واقعیة لا علاقة لها بالشک، هذه حلّیة واقعیة ثابتة فی مورد الاضطرار الذی هو الجامع، هذه الحلّیة تسری من الجامع إلی الفرد عندما یُطبّق المکلّف اضطراره علی الفرد ویرفع اضطراره بالفرد، تسری هذه الحلّیة من الجامع إلی الفرد، فتثبت الحلّیة فی الفرد الذی یختاره المکلّف لرفع اضطراره به، وهی حلّیة واقعیة وهی عبارة عن الترخیص الواقعی، فإذن: الفرد الذی یرفع به اضطراره فیه ترخیص واقعی، وحلّیة واقعیة، فلو کان هو النجس فی الواقع یثبت فیه التکلیف الواقعی، یعنی الحرمة الواقعیة، ومن غیر المعقول أن تجتمع الحرمة الواقعیة مع الحلّیة الواقعیة، فلابد ّمن الالتزام بارتفاع التکلیف علی هذا التقدیر، وهذا یعنی التوسّط فی التکلیف وسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز. بالنتیجة سوف ننتهی إلی نتیجة أنّه فی المقام هناک حلّیة واقعیة ثابتة فی الجامع وسرت من الجامع إلی الفرد، وإذا سرت إلی الفرد؛ حینئذٍ یستحیل أن تجتمع مع الحرمة الواقعیة، فلابدّ من الالتزام بارتفاع الحرمة الواقعیة علی هذا التقدیر، وهذا یؤدّی إلی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة.

ص: 320


1- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج23، ص228، کتاب الایمان، باب12، ح18، ط آل البیت.

یمکن أن یُجاب عن هذا الإیراد:

أولاً: بإنکار أنّ ظاهر الروایة هو ما ذُکر، إنکار أن یُفهم من هذه الروایة الشریفة أنّ الاضطرار له اقتضاء الحلّیة، أو لا أقل أنّ هناک احتمالاً آخر فی الروایة فی مقابل هذا الاحتمال، وهو أنّ الروایة فی مقام بیان أنّ الاضطرار یُشکل مانعاً یمنع من تأثیر مقتضی الحرمة فی الحرمة، عندما یکون الشیء حراماً وفیه مقتضی الحرمة، فیه مفسدة ملزمة تقتضی الحرمة، عندما یضطر إلیه المکلّف هذا الاضطرار یشکّل مانعاً یمنع من تأثیر هذا المقتضی فی المُقتضَی، یعنی فی الحرمة، هذا هو الذی یُفهم من الروایة، أنّ الاضطرار یمنع من تأثیر مقتضی التحریم فی التحریم، بناءً علی هذا؛ حینئذٍ الحدیث الشریف لا یشمل محل الکلام، مفاده لیس هو جعل الحلّیة، وإنّما مفاده هو رفع التحریم لا جعل الحلّیة، بناءً علی هذا الروایة لا تشمل محل الکلام؛ لأنّ المفروض أنّ الاضطرار فی محل الکلام متعلّق بالجامع، والجامع لیس حراماً، شمول الحدیث بناءً علی هذا الفهم لمورد لا یکون إلاّ إذا کان ذلک المورد حراماً وفیه مفسدة، فیأتی الاضطرار یمنع من تأثیر المفسدة الملزمة فی التحریم، فیقتضی رفع التحریم، لکن هذا عندما یکون الشیء حراماً حتّی یشمله الحدیث، فی محل الکلام مورد الاضطرار هو الجامع، والجامع لیس حراماً حتّی یدلّ الحدیث علی رفع حرمته، وأمّا الفرد، فأنّه وإن کان حراماً علی تقدیر أن یکون هو النجس فی الواقع، لکنّه لیس مورداً للاضطرار حتّی یشمله الحدیث، مورد الاضطرار هو الجامع والجامع لیس حراماً، وما هو حرام هو الفرد علی تقدیر أن یکون هو النجس فی الواقع، ولکنّه لیس مورداً للاضطرار؛ ولذا شمول الحدیث لمحل الکلام یکون مشکلاً، ولیس فی الحدیث ما یدلّ علی رفع الحرمة؛ لأنّه لا یشمل محل الکلام، هو لا یدلّ علی إثبات الحلّیة، وإنّما یدلّ علی رفع الحرمة، لکنّه لا یشمل محل الکلام، إنّما یدلّ علی رفع الحرمة عندما یکون الاضطرار متعلّقاً بما هو حرام، فیدلّ علی رفع الحرمة، فی محل الکلام الاضطرار لم یتعلّق بالحرام، حتّی علی تقدیر أن یکون النجس هو هذا؛ لأنّ الاضطرار متعلّق بالجامع، والجامع لیس حراماً، والفرد وإن کان حراماً علی تقدیر أن یکون هو النجس واقعاً، لکنّه لیس مورداً للاضطرار. وعلیه: لا موجب لرفع الید عن التکلیف.

ص: 321

أو بعبارةٍ أخری: أنّ الحدیث الشریف لیس فیه دلالة علی رفع التکلیف، فیبقی التکلیف علی حاله، ولیس هناک شیء یوجب رفعه؛ لأنّه لیس هناک شیء ینافیه؛ إذ لیس هناک حلّیة وترخیص واقعی کما قیل حتّی یکون منافیاً للتکلیف وموجباً لرفع الید عنه، کما أنّ الحدیث الشریف لا یرفع هذا التکلیف، یعنی لا یرفع الحرمة علی ما بیّنّا. نعم، الشیء الذی یثبت فی المقام هو الترخیص العقلی، والتکلیف باقٍ، العقل فی هذه الحالة یحکم بالترخیص فی رفع الاضطرار بأحد الطرفین. هذا الترخیص فی رفع الاضطرار بأحد الطرفین هو ترخیص عقلی ومن الواضح بأنّ هذا لا یتنافی مع الحرمة الواقعیة، فتبقی الحرمة الواقعیة علی حالها، لکن العقل یُرخّص فی ارتکاب أحد الطرفین.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه

قلنا أنّه قد یُدّعی وجود نکتة أخری غیر مسألة الدوران بین التکلیف الطویل والقصیر لإثبات المنجّزیة فی موارد العجز العقلی، ولا تثبت هذه النکتة فی موارد العجز بمرتبة الحرج والضرر، وبیّنّا النکتة فی الدرس السابق، وهی دعوی أنّ المخصص العقلی فی موارد العجز العقلی لا یکشف عن عدم الملاک، وإنّما هو فقط یسقط الخطاب، عندما یکون المکلّف عاجزاً عقلاً عن ارتکاب الشیء؛ حینئذٍ الخطاب یسقط باعتبار العجز العقلی، والعقل لا یقول أکثر من هذا، أمّا الملاک، فیبقی علی حاله، بخلاف المخصص الشرعی فی موارد الحرج والضرر، فأنّه کما یکشف عن رفع الخطاب یکشف عن رفع الملاک أیضاً، وهذا معناه أنّه فی موارد الحرج والضرر لا یوجد علم بالملاک، بینما فی موارد العجز العقلی یوجد علم بالملاک، فأنّه لم یرتفع إلاّ الخطاب، الاضطرار والحکم العقلی لم یرفع إلاّ الخطاب، أمّا ملاک التحریم، فهو باقٍ علی حاله، فإذا کان هناک علم بالملاک؛ فحینئذٍ یکون منجّزاً؛ لأنّه یدخل فی مسألة العلم بالملاک والشکّ فی القدرة علی التحفظ علیه، وفی مثله العقل یلزم المکلف بالاحتیاط وبلزوم التحفّظ علیه، ولو احتمالاً؛ فحینئذ یُلزم المکلّف بالاحتیاط اتّجاه الفرد الآخر وهذا هو معنی التنجیز، فیثبت التنجیز بقطع النظر عن تلک المسألة.

ص: 322

الملاحظة الأولی: علی ما ذُکر هی أنّه لو تمّ هذا البیان، فأنّه لا یختصّ بما إذا کان العلم الإجمالی متقدّماً علی العجز العقلی، لا یثبت المنجّزیة فقط فی هذا. النکتة الأولی تثبت المنجّزیة فقط فی صورة دوران التکلیف بین الفرد الطویل والفرد القصیر، أمّا فی صورة تقدّم العجز علی العلم الإجمالی، أو مقارنته له، هنا أصلاً یسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، بینما النکتة الثانیة إذا تمّت، فلا یُفرّق بین ما إذا کان العلم الإجمالی متقدّماً علی العجز وعلی التلف، أو کان متأخّراً عنه، حتّی إذا کان التلف متقدّماً علی العلم الإجمالی، بأن تلف أحد الطرفین، ثمّ علم إجمالاً بنجاسة أحدهما، إمّا التالف، وإمّا الفرد الموجود، هذه النکتة نفسها تجری فی هذه الحالة، والحال أنّهم لا یلتزمون بأنّ العلم الإجمالی مع تقدّم التلف علیه یکون منجّزاً ومانعاً من ارتکاب الطرف الموجود، مع أنّ هذا الوجه لو تمّ لأثبت المنجّزیة حتّی فی هذه الحالة؛ لأنّ نفس البیان السابق یجری، أنّ المخصص فی المقام عقلی، فالمخصص الذی یخرج التالف عن إطلاق دلیل التکلیف هو مخصص عقلی، هذا المخصص العقلی لا یکشف عن سقوط الملاک، وإنّما یکشف فقط عن سقوط الخطاب، وهذا معناه أننا نعلم بوجود الملاک، حتّی إذا کان التاریخ متقدّماً، لکن نحن بعد ذلک بالعلم الإجمالی علمنا بوجود الملاک والتکلیف، التکلیف ساقط، باعتبار العجز العقلی، لکنّ الملاک لا یزال موجوداً، فهناک علم بالملاک، وهذا العلم بالملاک یُشَکّ فی القدرة علی حفظه بالنسبة للطرف الآخر، فیدخل فی مسألة العلم بالملاک والشکّ فی القدرة، وإذا دخل فی باب الشکّ فی القدرة تجری أصالة الاحتیاط، ویتعیّن الاشتغال بحکم العقل، فأنّ العقل یقول أنّ الشکّ فی القدرة لیس مؤمّناً، ما دمت تحرز الملاک، لکن الشکّ فی قدرتک علی تحقیق هذا الملاک، هذا الشکّ لیس مؤمّناً؛ بل یجب الاحتیاط حتّی فی صورة تقدّم التلف علی العلم الإجمالی، نفس هذا البیان یجری؛ لأنّ العلم الإجمالی أورث لی علماً بالتکلیف وبالملاک، التکلیف سقط فی الطرف التالف، باعتبار أنّ العجز العقلی یوجب سقوط التکلیف، ولکنّه لا یوجب سقوط الملاک، فیصیر علم بالملاک وشکّ فی القدرة علی التحفّظ علیه، هذا الشک لیس مؤمّناً بنظر العقل، فیجب الاحتیاط، فلابدّ من الالتزام بالمنجّزیة ووجوب الاحتیاط من دون فرقٍ بین أن یکون التلف متأخّراً عن العلم الإجمالی کما ذکرنا وبین أن یکون متقدّماً علی العلم الإجمالی، أو مقارناً له، فی کل هذه الصور لابدّ من الاحتیاط، بینما لا أحد یلتزم بهذا الشیء، وإنّما یلتزمون بالمنجّزیة فقط فی صورة تقدّم العلم الإجمالی علی التلف.

ص: 323

الملاحظة الثانیة: مسألة الشکّ فی القدرة وحکم العقل بالاحتیاط فیها، هذه قضیة مسلّمة، لکن شرط حکم العقل بالاحتیاط فی مسألة الشکّ فی القدرة هو ما إذا حصل القطع بوجود الملاک، إذا قطعنا بوجود الملاک فی موردٍ وشککنا فی أنّه هل هناک قدرة علی تحصیل الملاک والتحفّظ علیه فی ذلک المورد، أو لا ؟ فی هذه الحالة تأتی مسألة حکم العقل بالاحتیاط، ومسألة أنّ العقل لا یری أنّ الشکّ فی القدرة مؤمّناً؛ بل لابدّ من الاحتیاط؛ لأجل تحصیل الملاک المقطوع به. وأمّا إذا کان المورد هو مورد احتمال عدم الملاک، لا یوجد قطع بالملاک، وإنّما هناک احتمال الملاک، هنا لا یحکم العقل بوجوب الاحتیاط، والعقل إنّما یحکم بوجوب الاحتیاط فی موارد القطع بالملاک والشکّ فی القدرة. هذه القضیة واضحة، نطبّقها فی محل الکلام، فی محل الکلام عندما نلتفت إلی الطرف المقدور، الطرف الموجود غیر التالف، حینئذٍ سنجد أنّه لا یمکن تطبیق مسألة حکم العقل بالاحتیاط فی موارد الشکّ فی القدرة علیه؛ لأنّنا اساساً لیس لدینا علم بوجود الملاک فیه، لاحتمال أن یکون الملاک موجود فی الطرف التالف، فإذن: بالنسبة للطرف المقدور لا علم بوجود الملاک حتّی یقال أننّا نعلم بوجود الملاک فی الطرف المقدور ونشکّ فی القدرة علی التحفّظ علیه، فیدخل فی تلک المسألة، فیجب فیه الاحتیاط. کلا، الأمر واضح أنّه لیس هکذا؛ لأنّه فی الطرف المقدور لا علم بوجود الملاک وثبوته، فلا یمکن تطبیق ما ذُکر علیه.

نعم، هناک علم إجمالی ___________ بحسب الفرض، إذا تمّت هذه النکتة المتقدّمة _____________ بوجود الملاک المرددّ بین أن یکون فی الطرف التالف، أو فی الطرف المقدور، هنا یوجد علم بالملاک المرددّ بین هذا الطرف وذاک، هذا العلم الإجمالی بوجود الملاک بناءً علی تمامیة النکتة السابقة لا یمکن إنکاره، فهناک إذن علم بالملاک؛ حینئذٍ الجواب هو أنّ هذا العلم بالملاک الذی لا یکون منجَّزاً علی تقدیر، یعنی هو علم بالجامع الذی یدور أمره بین المقدور وغیر المقدور. وبعبارة أخری: هو علم بالجامع بین الفرد الداخل فی دائرة حق المولویة وهو المقدور، وبین الفرد الخارج عن دائرة المولویة؛ لأنّ المولی لیس له حق الطاعة فی الطرف الذی یکون المکلّف عاجزاً عنه، فی موارد عدم القدرة، وفی موارد العجز العقلی، هذا یکون خارجاً عن دائرة المولویة. نعم، الطرف الآخر یکون داخلاً فی دائرة المولویة، هذا العلم الإجمالی بهذا الجامع بین المقدور وغیر المقدور لا یکون منجّزاً علی ما تقدّم سابقاً أنّ مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، فبالتالی من أین یأتی التنجیز ؟ التنجیز یثبت بحکم العقل عندما نعلم علماً تفصیلیاً بثبوت الملاک، أو علماً إجمالیاً لا یدور بین المقدور وغیر المقدور، لا یدور بین ما یکون داخلاً فی حق الطاعة وبین ما لا یکون داخلاً فی حق الطاعة، فی هذه الحالة تنطبق القاعدة، ونقول لابدّ من الاحتیاط، وهذا لا ینطبق فی محل الکلام؛ لأنّه بالنسبة للطرف المقدور لا علم بثبوت الملاک فیه. نعم هناک علم بالملاک الجامع الدائر بین المقدور وغیر المقدور، ومثل هذا العلم الإجمالی بالجامع بهذا الشکل لا یکون منجّزاً، فلا تثبت المنجّزیة فی محل الکلام.

ص: 324

الملاحظة الثالثة: أصل النکتة تبتنی فی الحقیقة علی دعوی أنّ المخصص الشرعی لیس کالمخصص العقلی، المخصص العقلی یرفع التکلیف ولیس له علاقة بالملاک، فیبقی الملاک موجوداً، بینما المخصص الشرعی لا، وإنّما هو کما یکشف عن رفع التکلیف یکشف أیضاً عن رفع الملاک. هذه لیست واضحة؛ لأنّ المخصص الشرعی أیضاً ثبت بملاک الاضطرار، کما أنّ المخصص العقلی ثبت بملاک العجز والاضطرار، المخصص الشرعی أیضاً ثبت بملاک العجز والاضطرار، لکن العجز بمرتبة الحرج والضرر، فالمخصص الشرعی ثبت بملاک الحرج والضرر. هذا غیر واضح أنّه یتصدّی أیضاً لرفع الملاک، لماذا یرفع الملاک ؟ یبقی الفعل علی ما هو علیه من الملاک، هذا المخصص الشرعی من جهة الاضطرار بمستوی الحرج والضرر سمح للمکلّف بارتکاب هذا الفرد، فکأنّ سماح الشارع للمکلّف بارتکاب هذا من جهة الاضطرار والعجز بمستوی الحرج والضرر هو الذی یکون کاشفاً عن ارتفاع الخطاب فقط وسقوطه، وأمّا الملاک، فلا داعی للمساس به، ولا یکشف المخصص الشرعی والترخیص الشرعی الثابت بأدلّة نفی الحرج، لا موجب لکی یکون کاشفاً عن ارتفاع الملاک أیضاً فی هذا الفرد الذی اضطر المکلّف إلی شربه؛ لأنّه لو لم یشربه یقع فی الحرج والضرر، لا داعی للالتزام بأنّ الترخیص یکون رافعاً للملاک بحیث یکون الفرد الذی هو مورد الاضطرار بمستوی الحرج کما لا تکلیف ولا خطاب فیه لا ملاک فیه، الملاک یرتفع عنه بحیث نمیّز بین فعلین، بین شرب ماء لا یضطر إلیه المکلّف لرفع حرجه وبین شرب ماء یضطر إلیه المکلّف لرفع حرجه، فنقول أنّ الملاک موجود فی الأوّل وغیر موجودٍ فی الثانی، وأساس النکتة مبتنی علی أنّ المخصص العقلی یرفع الخطاب دون الملاک، بخلاف المخصص الشرعی. علی کل حال، هذا تمام الکلام فی مسألة الاضطرار إلی بعض أطراف العلم الإجمالی، المعیّن وغیر المعیّن.

ص: 325

خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

الکلام یقع فی ما إذا کان طرف معیّن من أطراف العلم الإجمالی مقدوراً عقلاً، ولکنّه غیر مقدور عرفاً، باعتبار أنّه یتوقّف علی مقدّمات طویلة عریضة وشاقة بحیث أنّ العرف یری أنّ المکلّف کأنّه عاجز وغیر قادر علیه، والمثال المعروف لهذا هو ثوب السلطان، أو طعام الملک ________ مثلاً ____________ الإنسان العادی یُری عرفاً بأنّه غیر قادر علی ذاک، وإن کان هو قادر علیه بالقدرة العقلیة، لکن باعتبار أنّه یتوقّف علی مقدّمات شاقة عادة لا تتأتی لهذا المکلّف، فکأنّه بنظر العرف یُری أنّه غیر قادر علی ذاک، فیصبح ذاک الشیء کأنّه غیر مقدور، لکنّه لیس غیر مقدور عقلاً، وإنّما هو غیر مقدور عرفاً.

(مثال آخر): مسألة تنفّر الطبع عن الشیء، باعتبار أنّ الإنسان بحسب طبعه ینفر من بعض الأشیاء من قبیل أکل الخبائث، هو ینفر منه بحسب طبعه؛ فحینئذٍ، کأنّه یُری عرفاً أنّه غیر مقدور له؛ لأنّ الطبع ینفر من هذا الشیء، فهو غیر مقدور عرفاً، وإن کان مقدور عقلاً، لکنّه باعتبار أنّ الطبع الإنسانی ینفر منه، وأنّ الإنسان ینفر منه ویبعد عنه ولا یقرب منه، فکأنّه یُری أنّ هذا غیر مقدور له عرفاً. علی کل حال، الکلام یقع فی أنّ هذا غیر المقدور العرفی هل یُلحق بغیر المقدور العقلی فی سقوط التکلیف عنه، أو لا ؟ إذا کان الفعل غیر مقدور عرفاً هل یسقط التکلیف به کما لو کان غیر مقدور عقلاً، باعتبار أنّ القدرة شرط فی التکلیف، فإذا عممّنا القدرة التی هی شرط فی التکلیف للقدرة الأعمّ من القدرة العقلیة والقدرة العرفیة، فکما أنّ القدرة العقلیة إذا انتفت وصار الشیء غیر مقدور علیه عقلاً التکلیف ینتفی، کذلک القدرة العرفیة إذا انتفت التکلیف أیضاً ینتفی ؟ ؛ لأنّ القدرة شرط فی التکلیف، فعند عدم القدرة یرتفع التکلیف، فإذا عممّنا القدرة للقدرة العرفیة، فالتکلیف یرتفع بارتفاع القدرة العقلیة وکذا یرتفع بارتفاع القدرة العرفیة، هل یُلحق به، أو لا یُلحق به ؟ ولا یکون عدم القدرة العرفی موجباً لسقوط التکلیف ؟ عدم القدرة العرفی هذا هو الذی یُسمّی بالخروج عن محل الابتلاء، یقال هذا خارج عن محل الابتلاء، بمعنی أنّ هناک ضمان فی عدم صدوره من المکلّف، کل شیء یکون هناک ضمان بحسب العادة فی أنّه لا یصدر من المکلف، یقال أنّ هذا خارج عن محل الابتلاء، الشیء ینفر منه المکلّف، فیُضمن عدم صدوره منه، هل یصح التکلیف به، أو لا ؟ ذاک کان خارجاً عن محل الابتلاء بالمعنی الأوّل، کثوب السلطان، هذا لا بتلی به المکلّف عادةً؛ لأنّه یتوقّف علی مقدّمات طویلة وشاقة، هل یتعلّق به التکلیف ؟ وهل یُعقل التکلیف به ؟ مثلاً أن یُحرّم علیه أن یلبس ثوب السلطان، هل هذا شیء معقول أو مقبول ؟ أو أنّ هذا التکلیف غیر مقبول ؟ إذا قلنا أنّه غیر مقبول ولا یمکن صدوره، فهذا معناه أنّ التکلیف یسقط بعدم القدرة العرفیة کما یسقط بعدم القدرة العقلیة. وأثره فی محل الکلام واضح، إذا قلنا أنّ العجز العرفی یوجب سقوط التکلیف، وأنّ حاله حال العجز العقلی؛ حینئذٍ فی مسألتنا إذا کان أحد طرفی العلم الإجمالی فیه عجز عرفی؛ حینئذٍ یکون کما لو کان غیر مقدور عقلاً، التکلیف یسقط فیه، فإذا سقط فیه؛ حینئذٍ یأتی الکلام السابق فی أنّ العلم الإجمالی حینئذٍ یسقط عن المنجّزیة فی ما لو کان هذا العجز متقدّماً علی العلم الإجمالی؛ لأنّ هذه هی الصورة التی قلنا فیها بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی مسألة الاضطرار إلی المعیّن، فی محل الکلام إذا کان العجز العرفی ثابتاً فی أحد الطرفین بعینه، وکان هذا العجز متقدّماً علی العلم الإجمالی، هذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لما تقدّم من أنّه حینئذٍ لا یوجد علم إجمالی، وإنّما یوجد شکّ فی ثبوت التکلیف فی الطرف الآخر؛ لأنّه لو کانت النجاسة ثابتة فی الطرف العاجز عنه عرفاً، فالتکلیف فیه ساقط، ولو کان ثابتاً فی الطرف الآخر الداخل فی محل الابتلاء یثبت التکلیف، لکنّ هذا مجرّد شک واحتمال، فلا علم إجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، فیسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، أمّا إذا فرّقنا بین العجز العقلی وبین العجز العرفی، وقلنا بأنّ العجز العرفی لا یوجب سقوط التکلیف، التکلیف معقول مع العجز العرفی، بالرغم من خرجه عن محل الابتلاء التکلیف به معقول ومقبول، فلا یسقط التکلیف فی حالة فرض العجز العرفی؛ حینئذٍ لا موجب لسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة ثابتة فی ذاک الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فالتکلیف أیضاً ثابت فیه؛ لأنّ العجز العرفی لا یوجب سقوط التکلیف ولا یرفعه، فیکون هناک علم إجمالی بالتکلیف علی کل تقدیر حتّی لو کان العجز العرفی سابقاً علی العلم الإجمالی، فالأثر یظهر فی منجّزیة العلم الإجمالی وعدمها فی حالة کون أحد الطرفین خارجاً عن محل الابتلاء، فهذه فائدة البحث.

ص: 326

هناک مسألة ینبغی التنبیه علیها قبل الدخول فی البحث: وهی أنّ الذی یبدو من کلامهم فی المقام هو أنّ النزاع لیس فی الکبری، وإنّما النزاع فی الصغری، النزاع فی الحقیقة ینصب علی أنّ التکلیف هل هو مشروط بالقدرة العرفیة والقدرة العقلیة، أی بالأعم، أو أنّه لیس مشروطاً إلاّ بالقدرة العقلیة ؟

بعبارةٍ أخری: أنّ العجز العرفی هل یرفع التکلیف کما یرفعه العجز العقلی، أو لا ؟ وإلاّ علی تقدیر أن یکون العجز العرفی رافعاً للتکلیف لا إشکال فی عدم المنجّزیة وسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی فرض تقدّم العجز العرفی علی العلم الإجمالی بلا خلاف، علی تقدیر تسلیم الصغری لا نزاع، سواء کانت الصغری التی نسلّمها هی سقوط التکلیف بالعجز العرفی، أو عدم سقوطه، إذا قلنا أنّ التکلیف یسقط بالعجز العرفی؛ فحینئذٍ النتیجة واحدة عند الجمیع وهی عدم المنجّزیة، وإذا قلنا أنّ العجز العرفی لا یوجب سقوط التکلیف، فالنتیجة أیضاً واحدة عند الجمیع وهی المنجّزیة، فالنزاع لیس فی المنجّزیة وعدمها، وإنّما النزاع فی الصغری، والذی لابدّ من تحقیقه هو أنّ التکلیف هل هو مشروط بعدم الخروج عن محل الابتلاء بحیث أنّ من شروط التکلیف الدخول فی محل الابتلاء ؟ یعنی القدرة علیه عرفاً کما أنّ من شروط التکلیف القدرة العقلیة، فالنزاع ینصب علی تحقیق هذه الجهة.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

قلنا أنّ جوهر النزاع فی المقام هو فی اشتراط التکلیف بالدخول فی محل الابتلاء المسمّی بالقدرة العرفیة، کما أنّ التکلیف مشروط بلا إشکال بالقدرة العقلیة، فهل هو مشروط بالقدرة العرفیة، أو لا ؟

ص: 327

وبعبارةٍ أخری: أنّ العجز العرفی هل یُسقط التکلیف، أو لا ؟ ویتفرّع علیه القول بالمنجّزیة وعدم المنجّزیة فی ما لو کان أحد أطراف العلم الإجمالی خارجاً عن محل الابتلاء، وکان الخروج عن محل الابتلاء سابقاً علی العلم الإجمالی، فأنّه إن قلنا بأنّ العجز العرفی یسقط التکلیف لا یتنجّز العلم الإجمالی لعدم العلم الإجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وإن قلنا بأنّ العجز العرفی لا یُسقط التکلیف؛ بل التکلیف باقٍ بالرغم من العجز العرفی عن هذا الطرف، فلابدّ من الالتزام بالمنجّزیة.

قبل أن ندخل فی أصل البحث ننبّه علی شیء، وهو أنّه بناءً علی الاشتراط کما هو المشهور، المشهور یبنی علی أنّ التکلیف مشروط بالدخول فی محل الابتلاء، یعنی بالقدرة العرفیة. بناءً علی أنّ الفعل إذا کان خارجاً عن محل الابتلاء لا یصح تعلّق التکلیف به، بناءً علی هذا یقع الکلام فی أنّه هل یختص هذا الاشتراط بخصوص التکلیف التحریمی، أو یشمل التکلیف الوجوبی ؟ هذا الاشتراط هل یختصّ بالمحرّمات، فنقول أنّ التکلیف التحریمی یُشترط فیه الدخول فی محل الابتلاء، فلو کان الفعل خارجاً عن محل الابتلاء لا یصح تعلّق التکلیف التحریمی به، هل یختص بالمحرّمات، أو یشمل حتّی الواجبات، حتّی فی الواجبات أیضاً نقول أنّ التکلیف الوجوبی الإلزامی أیضاً یُشترط فی صحّة تعلّقه بشیءٍ أن یکون ذلک الشیء داخلاً فی محل الابتلاء ؟ فلو کان خارجاً عن محل الابتلاء أیضاً یأتی فیه الکلام، أنّه لا یصح تعلّق التکلیف لخروجه عن محل الابتلاء ؟ هل یختص بالمحرّمات، أو لا یختص بالمحرّمات ؟ قیل أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) ظاهره الاختصاص بالمحرّمات، نقول أنّ التکلیف التحریمی مشروط بالدخول فی محل الابتلاء، وأمّا إذا کان الفعل خارجاً عن محل الابتلاء لا یصح تعلّق التکلیف التحریمی به. وأمّا الواجبات، فلا یُشترط فیها ذلک. ووُجه ذلک الاختصاص وعدم الاشتراط فی الواجبات بأنّه: أیّ ضیرٍ فی أن یکون الفعل خارجاً عن محل الابتلاء ؟ بمعنی أنّ المکلّف محتاج إلی مقدّمات طویلة ومعقّدة حتّی یأتی به، فیقال: أیّ ضیر فی تعلّق التکلیف بهذا الشیء الذی یصعُب علی المکلّف الإتیان به والذی له مقدّمات بعیدة وصعبة، وما هو المانع من أن یتعلّق التکلیف الوجوبی به ؟ لأنّ المفروض أنّ القدرة العقلیة محفوظة فی المقام، وإنّما المنتفی هی القدرة العرفیة، بمعنی أنّ هذا الفعل خارج عن محل الابتلاء من قبیل ثوب الملک وبنت السلطان و.....الخ. ظاهر الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) أنّه لا مانع من تعلّق التکلیف الوجوبی به، بأن یوجبه الشارع بالرغم من کونه خارجاً عن محل الابتلاء، لکنّ التکلیف التحریمی لا یتعلّق به ولا یصح أن ینهی الشارع عن الفعل الخارج عن محل الابتلاء، لکن یصحّ له الأمر به بالرغم من الخروج عن محل الابتلاء، ویعللّ هذا بأنّه ما هو المحذور فی أن یأمر الشارع بالطرف الخارج عن محل الابتلاء ؟ لأنّ المفروض أنّ هذا الفعل مقدور للمکلّف، غایة الأمر أنّه مقدور له بعد مقدّمات عسیرة وطویلة، لکن هو بالنتیجة مقدور للمکلّف عقلاً، وأیّ ضیرٍ فی أن نفترض أنّ هذا الفعل المقدور للمکلّف عقلاً، لکنّه خارج عن محل ابتلائه، أن نفترض وجود مصلحة ملزمة فی هذا الفعل تقتضی تعلّق التکلیف به، بالرغم من أنّ المکلّف یقع فی صعوبات ومشاق حتّی یأتی به، لکن لا مشکلة فی أن یؤمر به بالرغم من وجود صعوبات فی المقدّمات، ما دام یمکن الإتیان به عقلاً لا ضیر من الأمر به، بخلاف النهی عنه مع خروجه عن محل الابتلاء، فأنّه لا یصح؛ لأنّ الغرض من النهی هو إبعاد المکلّف عن الفعل، الغرض من النهی هو ضمان عدم صدور الفعل من المکلّف بالمقدار الذی یضمنه النهی التشریعی، وهذا حاصل فی المقام؛ لأنّ الفعل بحسب الفرض خارج عن محل ابتلاء المکلّف، فبنفس خروجه عن محل الابتلاء یکون عدم تحققّه وعدم صدوره من المکلّف مضموناً، فإذا کان عدم صدوره من المکلّف مضموناً؛ حینئذٍ لا معنی للنهی، بخلاف الأمر به؛ لأنّه إذا کانت فیه مصلحة ملزمة یؤمر به، حتّی إذا کان خارجاً عن محل الابتلاء، لکن المکلّف عقلاً یتمکّن من الوصول إلیه وارتکابه والإتیان به، فإذا کانت فیه مصلحة ملزمة تقتضی الأمر به بالرغم من صعوبته وصعوبة الإتیان به وتوقّف ذلک علی مقدّمات شاقة وبعیدة، مع ذلک قد تقتضی المصلحة الأمر به، فیؤمر به. هذا وجه ما نُسب إلی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من الاختصاص بالمحرّمات.

ص: 328

المحقق العراقی(قدّس سرّه) ناقش فی هذا فی تقریرات بحثه، (1) قال: لا فرق بین الواجبات والمحرّمات، کما أنّ فعل الفرد الخارج عن محل الابتلاء لا یصح تعلّق التکلیف التحریمی به، کذلک لا یصح تعلّق التکلیف الوجوبی به، ویقول أنّ الوجه المعروف للاستدلال علی عدم صحّة تعلّق التکلیف التحریمی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء هو مسألة الاستهجان العرفی، عرفاً لیس مستساغاً أن ینهی عن فعلٍ خارج عن محل الابتلاء، وکذلک لیس مستساغاً عرفاً أن یؤمر بفعلٍ خارجٍ عن محل الابتلاء، یقول کما أنّ النهی عن استعمال ثوب السلطان مستهجن، کذلک الأمر باستعماله أیضاً مستهجناً ما دام خارجاً عن محل الابتلاء، فإذا قلنا أنّ هذا الاستهجان یستوجب سقوط التکلیف بالتحریم عنه، کذلک لابدّ أن نلتزم بسقوط الوجوب عنه، أی لا یتعلّق به الوجوب کما لا یتعلّق به التحریم. وذکر فی مقام الاستدلال علی ذلک بأنّ المناط فی استهجان توجیه الخطاب إنّما هو استبعاد وصول المکلّف إلی الفعل بحیث یُعدّ أجنبیاً عنه عرفاً وغیر قادر علیه عادة، هذا الفعل إذا کان بهذه المثابة، فأنّه کما یُستهجن النهی عنه، کذلک یستهجن الأمر به، فبنظر المحقق العراقی(قدّس سرّه) أنّ الکلام کما یشمل المحرّمات أیضاً یشمل الواجبات، بینما المنسوب إلی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) هو الاختصاص بخصوص المحرّمات وعدم شمول الکلام للواجبات.

والذی یمکن أن یقال فی المقام: أنّ الصحیح هو ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، بمعنی أنّ الخطاب التحریمی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء داخل فی محل النزاع، فیأتی الکلام فی أنّه هل یسقط معه التکلیف ؟ هل یکون التکلیف التحریمی به مستهجناً، أو لا یکون مستهجناً. وأمّا التکلیف الوجوبی، فالصحیح هو ما یقوله الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من أنّه لا یدخل فی النزاع الآتی، یعنی ینبغی أن نحسم القضیة ونقول یمکن تعلّق التکلیف الوجوبی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء، هذا لیس هو مورد النزاع کما یقول الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، لوضوح أنّه یمکن تعلّق التکلیف الوجوبی بالفعل، ولو کان خارجاً عن محل الابتلاء، یعنی ولو کانت له مقدّمات بعیدة وعسیرة حتّی یتوصّل المکلّف إلیه، لا ضیر فی أن یتعلّق به التکلیف الوجوبی لو اقتضت المصلحة ذلک، لو اقتضت المصلحة الملزمة الموجودة فی ذلک الفعل بالرغم من صعوبته وکثرة مقدّماته وعدم ابتلاء المکلّف به، لو اقتضت المصلحة إلزام المکلّف بأن یحصّل تلک المقدّمات وأن یبذل جهده لکی یصل إلیه ویأتی به، فلا ضیر فی الأمر به حینئذٍ، ولا استهجان فی الأمر به إطلاقاً؛ بل هو واقع فی الشریعة فی بعض الأحیان، أن یؤمر بأمور تکون مقدّماتها بعیدة جدّاً وعسیرة، لا ضیر فی أن یؤمر بهذا بالرغم من أنّ له مقدّمات عسیرة وکثیرة، لکن إذا اقتضت المصلحة ذلک یؤمر به. ینبغی حسم القضیة بأنّ هذا أمر ممکن لا یقع فیه النزاع الآتی، فإذن، بهذا المقدار الذی طُرح ینبغی أن نقول أنّ الصحیح هو أنّ التکلیف التحریمی هو الذی یقع فیه الکلام، أنّه هل یصح مع خروج الفعل عن محل الابتلاء، أو لا یصح ؟ وهو الکلام الآتی. وأمّا التکلیف الوجوبی، فینبغی حسم هذه القضیة، فنقول: لا ضیر ولا استهجان فی التکلیف الوجوبی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء إذا اقتضت المصلحة ذلک، والعرف لا یستهجن هذا، یقول: صحیح هذا صعب وله مقدّمات طویلة وخارج عن محل ابتلاء المکلّف، لکن إذا اقتضت المصلحة ذلک فالأمر به لا یکون مستهجناً حتّی عرفاً. والسرّ فی التفرقة بین هذین الأمرین هو أنّ من یقول بالاشتراط إنّما یقول لا یصح تعلّق التکلیف التحریمی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء لسببٍ بسیطٍ جدّاً وهو أنّ الفعل الخارج عن محل الابتلاء مضمون الترک، یعنی عدم صدوره من المکلّف مضمون؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء؛ ولأنّ المکلّف لا یبتلی به عادةً، فعدم صدوره من المکلّف مضمون، یعنی شیء حاصل، فیأتی الشارع ینهی عنه، هذا النهی یکون مستهجناً؛ لأنّه لغو، أو محال کما سیأتی؛ لأنّ الشارع ینهی عنه لمنع صدور هذا الفعل من المکلّف، وللحیلولة بین المکلّف وبین صدور الفعل منه، وهذا شیء حاصل ومضمون بنفس خروج الفعل عن ابتلاء المکلّف، فإذن، ما یریده النهی متحقق، الغرض من النهی متحقق بالفعل، ومن هنا یقال بأنّه لا معنی للنهی عنه، وأیّ فائدةٍ فی أن یتصدّی الشارع وینهی عنه، ویقول یحرم علیک لبس ذلک الثوب الموجود فی أقاصی البلاد، هذا بلا فائدة، هذه النکتة التی توجب أن یقال بالاشتراط وعدم صحّة تعلّق النهی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء، هذه النکتة لیست موجودة فی باب الواجبات، لوضوح أنّ الغرض من التکلیف الوجوبی هو صدور الفعل من العبد، الغرض منه هو دفع المکلّف للإتیان بالفعل، وهذا غیر مضمون فی الواجبات عندما یکون الفعل خارجاً عن محل الابتلاء؛ بل عدم صدوره یکون مضموناً، فأیّ ضیرٍ فی أن یتعلّق به التکلیف الوجوبی الذی الغرض منه أن یصدر الفعل من المکلّف ؟ ولا استهجان فی تعلّق الوجوب بهذا الفعل الخارج عن محل ابتلاء المکلّف، لیس هناک تحصیلاً للحاصل ولا لغویة فی تعلّق الأمر به؛ بل تعلّق الأمر به یترتّب اثر وفائدة وهی أنّه یدفع المکلّف للإتیان به بالرغم من صعوبته وکثرة مقدّماته، وهذا یحققه الأمر، فلا یکون هذا الأمر الوجوبی لغواً وعبثاً ولا یدخل فی باب تحصیل الحاصل؛ لأنّه لا یوجد حاصل فی المقام، فیکون الأمر الوجوبی غیر مستهجن ولا محذور فیه. وهذا هو الصحیح فی المقام عندما تُطرح المسألة بهذا الشکل، أنّ تعلّق التکلیف التحریمی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء یدخل فی محل النزاع، وأمّا تعلّق التکلیف الوجوبی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء هل یدخل فی محل النزاع، أو لا ؟ الصحیح أنّه لا یدخل فی محل النزاع، بمعنی أنّ تعلّق التکلیف الوجوبی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء لا إشکال ولا محذور فیه، ولا یرد علیه شیء من المحاذیر الآتیة التی تُذکر فی تعلّق التکلیف التحریمی بالفعل الخارج عن محل الابتلاء.

ص: 329


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص339.

لکن یمکن أن یقال: بلحاظٍ آخر التکلیف الوجوبی داخل فی محل النزاع کما أنّ التکلیف التحریمی داخل فی محل النزاع، ویأتی فیه الکلام الآتی، وکل الوجوه التی تُذکر لإثبات عدم صحّة تعلّق التحریم بما هو خارج عن محل الابتلاء أیضاً تجری لإثبات عدم صحّة تعلّق الوجوب مع فرض الخروج عن محل الابتلاء، لکن إنّما یجری النزاع فی التکلیف الوجوبی فی ما إذا فرضنا أنّ الفعل مضمون الحصول، الفعل إذا کان مضمون الحصول بأن کان الترک خارجاً عن محل الابتلاء فی الواجبات یکون داخلاً فی محل الابتلاء، تماماً عکس المحرّمات، فی باب التحریم یدخل النهی التحریمی فی محل النزاع باعتبار أنّه یتعلّق بالفعل الذی یضمن عدم صدوره، یعنی یکون الفعل خارجاً عن محل الابتلاء، فی باب النهی ینهی عن شرب الإناء الموجود فی أقصی البلاد، هنا یکون الفعل خارجاً عن محل الابتلاء، أو بعبارةٍ أخری نقول أنّ ترک الفعل مضمون التحقق، فلا معنی لتعلّق النهی به، فی الأمر أیضاً کذلک، لکن عندما نفترض فیه العکس، یعنی عندما نفترض فی الأمر أنّ الترک خارج عن محل الابتلاء وصدور الفعل من المکلّف مضمون التحقق، عادة هذا الفعل یصدر من المکلّف، یأتی فیه نفس الکلام من الاستهجان وتحصیل الحاصل؛ لأنّ هذا الفعل مضمون التحقق کما أنّ الترک هناک فی باب النهی مضمون التحقق، فقلنا لا یصح تعلّق النهی به، الفعل عندما یکون مضمون التحقق لا یصح تعلّق الوجوب به، ونفس النکات التی تُذکر هناک تُذکر فی محل الکلام من قبیل أن یؤمر الإنسان بأن ینفق علی نفسه، إنفاق الإنسان علی نفسه مضمون التحقق، والترک لیس هو محل الابتلاء ولا یصدر من المکلّف عادة، أو أن یؤمر الإنسان بأن یعتنی بولده الصغیر الذی یحبّه کثیراً، هذا مضمون التحقق، والترک هو الذی یکون خارجاً عن محل الابتلاء، عندما یکون الفعل مضمون التحقق یأتی الکلام فی أنّه هل یُعقل تعلّق التکلیف الوجوبی به، أو لا ؟ لنفس النکتة السابقة من الاستهجان وتحصیل الحاصل؛ لأنّ الغرض من الوجوب هو أن یصدر الفعل من المکلّف، وهذا مضمون الصدور والتحقق، فیُستهجن تعلّق التکلیف الوجوبی به، کما یُستهجن تعلّق التکلیف التحریمی بالفعل مع کون عدم صدوره مضموناً. إذا قلنا أنّ الأوامر نفترض فیها هذا الشیء؛ حینئذٍ لا بأس بدخولها فی محل النزاع، وهذا هو الصحیح؛ لأننا نتکلّم لا عن المحرّمات فقط، فی ما تقدّم کنّا نقول لا مانع من أن یتعلّق الأمر بالفعل الخارج عن محل الابتلاء، لکن عندما یکون الفعل الذی نتکلّم عن صحّة تعلّق الأمر به مضمون الصدور، ویکون الترک خارجاً عن محل الابتلاء هذا یدخل فی محل النزاع ویقع الکلام فی أنّ تعلّق الوجوب به هل هو مستهجن، وتحصیل للحاصل، أو لا ؟ فالصحیح هو تعمیم الکلام للواجبات کما یقع الکلام فی المحرمات، لکن بهذا الاعتبار؛ لأنّ النکتة هی هذه، والأدلّة کما تجری فی المحرمات کذلک تجری فی الواجبات.

ص: 330

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

فی ما یرتبط بالبحث السابق الذی هو عموم محل النزاع للواجبات وعدم اختصاصه بالمحرّمات ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) کما فی الدراسات تبعاً لأستاذه المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّ المیزان فی صحّة التکلیف إنّما هو إمکان داعویة التکلیف للمکلّف، أو زاجریته، لا فعلیة ذلک، لا یعتبر أن یکون التکلیف بالفعل داعیاً، وإنّما إمکان الداعویة، فکل تکلیفٍ یمکن أن یکون داعیاً للمکلّف ومحرّکاً وزاجراً له یکون تکلیفاً صحیحاً وکل فعلٍ أو ترکٍ یستند إلی اختیار المکلّف یصح تعلّق التکلیف به، ولو کان حاصلاً عادةً، حتّی لو کان حاصلاً عادةً یصح التکلیف به، هذا هو المیزان فی صحّة التکلیف بالشیء. (1)

هذا المیزان الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) ووافقه علیه السید الخوئی(قدّس سرّه) طبّقه المحقق النائینی(قدّس سرّه) علی الفعل فی الواجبات دون الترک فی المحرّمات، وذکر فی مقام بیان الفرق بینهما (2) أنّ متعلّق التکلیف الوجوبی هو الفعل، ویقول أنّ تحقق الفعل فی الخارج یستند إلی اختیار المکلّف، حتّی لو فرضنا أنّه کان مفروض الحصول والتحقق عادة، لکن بالنتیجة تحقق الفعل فی الخارج یحتاج إلی توسّط اختیار المکلّف وإرادته، وإلاّ مجرّد فرض أنّ هذا الفعل مفروض التحقق خارجاً عادةً لا یستوجب تحقق الفعل فی الخارج ما لم یتوسّط اختیار المکلّف وإرادته، فإذا صدر فی الخارج بتوسّط إرادة المکلّف واختیاره أمکن اسناد الفعل إلی اختیار المکلّف وإرادته، فیستند إلی اختیار المکلّف وإرادته؛ ویمکن حینئذٍ أن یکون التکلیف داعیاً إلی ذلک الفعل، إمکان الداعویة یکون ثابتاً، والاستناد إلی اختیار المکلّف أیضاً یکون ثابتاً، فینطبق علیه المیزان؛ وحینئذٍ یصح تعلّق التکلیف به، وهذا بخلاف التکلیف التحریمی؛ لأنّ متعلّق التکلیف التحریمی هو الترک لا الفعل، باعتبار أنّ المطلوب بالنهی هو الترک وإبقاء العدم علی حاله وعدم نقض العدم بالوجود، والغرض أیضاً من النهی لیس هو إلاّ عدم حصول ما اشتمل علیه الفعل من المفسدة، فإذا فرضنا أنّ عدم حصول المفسدة کان حاصلاً بالفعل عادةً ولا یحتاج حصوله إلی توسّط الإرادة والأختیار، ففی هذه الحالة لا یصحّ تعلّق التکلیف به، والمقصود هو التکلیف التحریمی؛ لأنّ حصول الترک حینئذٍ لا یستند إلی اختیار المکلّف؛ بل هو حاصل بنفسه والتکلیف بما یکون منترکاً عادةً کالتکلیف بما یکون منترکاً عقلاً، کل منهما یعتبر لغواً ومستهجناً، کما أنّ التکلیف بما کان منترکاً عقلاً یکون لغواً ومستهجناً؛ لأنّ الغرض من النهی هو الترک وعدم نقض العدم بالوجود وعدم تحقق المفسدة التی یشتمل علیها الوجود، هذه الأمور کلّها متحققة، فکأنّ الفعل منترک عادةً، التکلیف بما کان منترکاً عادة کالتکلیف بما کان منترکاً عقلاً، کل منهما لغو ومستهجن. وبهذا یصل إلی هذه النتیجة وهی التفریق بین الواجبات والمحرّمات، فالدخول فی محل الابتلاء یعتبر شرطاً فی التکلیف التحریمی، وأمّا فی التکلیف الوجوبی، فلا یعتبر الدخول فی محل الابتلاء شرطاً، ویصح التکلیف الوجوبی بما کان خارجاً عن محل الابتلاء لهذه النکتة التی ذکرها وهی اختلاف متعلّق کلٍ منهما.

ص: 331


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص396.
2- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص51.

السید الخوئی(قدّس سرّه) طبّق هذا المیزان علی کلٍ منهما، وانتهی إلی نتیجة أنّ الدخول فی محل الابتلاء لیس شرطاً فی کلٍ من التکلیفین، فکما یصح التکلیف الوجوبی بما هو خارج عن محل الابتلاء کما اعترف به المحقق النائینی(قدّس سرّه)، یقول کذلک یصح التکلیف التحریمی بما کان خارجاً عن محل الابتلاء؛ لأنّ المیزان فی صحة التکلیف ینطبق علی کلٍ منهما ولا یختص بالواجبات دون المحرّمات علی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه). واستدلّ بهذا الدلیل: إذا کان التکلیف الوجوبی بما هو خارج عن محل الابتلاء یصحّ کما اعترف به المحقق النائینی(قدّس سرّه)، قال لا مانع من التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء لازمه أن یصح التکلیف التحریمی بما هو خارج عن محل الابتلاء تطبیقاً للمیزان الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، فمقتضی المیزان أن لا نفرّق بینهما، وذلک لأنّ صحّة التکلیف الوجوبی بما هو خارج عن محل الابتلاء یستلزم أن یکون هذا الخارج عن محل الابتلاء مقدوراً للمکلّف؛ إذ لا یُعقل التکلیف بغیر المقدور، فصحّة تعلّق الوجوب بما هو خارج عن محل الابتلاء لازمه أن یکون ذلک الخارج عن محل الابتلاء الذی تعلّق به الوجوب مقدوراً للمکلّف، وإذا کان الفعل مقدوراً للمکلّف لابدّ أن یکون ترکه أیضاً مقدوراً، باعتبار أنّ الفعل الممکن إذا کان وجوده مقدوراً، فعدمه أیضاً مقدور، القدرة علی الوجود تلازم القدرة علی الترک، وإلاّ لا تکون قدرةً علی الوجود، کما أنّ القدرة علی الترک تلازم القدرة علی الوجود، لابدّ من افتراض أنّ المکلّف کما هو قادر علی الفعل الخارج عن محل الابتلاء؛ ولذا صحّ تعلّق الوجوب به، لابدّ أن یکون قادراً أیضاً علی الترک، ومعنی أنّه قادر علی الترک یعنی أنّ الترک اختیاری له ولیس ضروریاً علیه، إذن: الترک یکون اختیاریاً؛ لأنّ هذا هو معنی مقدور، یعنی أنّه حینما یتحقق یتحقق من المکلّف باختیاره، فینطبق علیه المیزان السابق؛ لأنّه قال یعتبر فی صحّة التکلیف أن یستند الفعل أو الترک إلی اختیار المکلّف، وکما صحّ تعلّق الوجوب بالفعل الخارج عن محل الابتلاء وکان اختیاریاً لابدّ أن یکون الترک أیضاً اختیاریاً یصح تعلّق التکلیف التحریمی به؛ لأنّ الترک اختیاری ویستند إلی المکلّف، وکما أنّ الفعل یستند فی حال حصوله إلی المکلّف، الترک أیضاً یستند فی حال حصوله إلی المکلّف، یقول هذا لابدّ من فرضه؛ لأنّ معنی أنّ المکلّف قادر علی الفعل یعنی أنّه قادر علی الترک، وکما أنّ الفعل اختیاری للمکلّف لابدّ أن یکون الترک اختیاریاً للمکلّف، ومعنی أنّه اختیاری یعنی أنّه یستند إلی اختیاره وإرادته، فمقتضی المیزان السابق هو أنّه یصح تعلّق النهی به کما یصح تعلّق الوجوب به، وانتهی إلی هذه النتیجة، یعنی رأیه الذی سنستعرضه قریباً وهو أنّ الدخول فی محل الابتلاء لیس شرطاً فی التکلیف أصلاً. هنا لا یهمنا التعرّض لرأیه(قدّس سرّه)، وإنّما سیأتی استعراضه، وإنّما نرکز علی مسألة التفریق بین المحرّمات وبین الواجبات، وهذه هو المقصود فی المقام.

ص: 332

الذی یمکن أن یقال فی مقام التعلیق علی هذه الکلمات: تقدّم أنّ الصحیح هو عدم الفرق بین الواجبات وبین المحرّمات، ولیس المقصود من عدم الفرق أنّ صحّة التکلیف فی الواجبات ثابتة فی المحرّمات کما ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه)، وإنّما المقصود بعدم الفرق هو أنّه لا فرق بینهما فی الدخول فی محل النزاع، کما أنّ النزاع یمکن أن یجری فی المحرّمات یمکن أن یجری فی الواجبات، ولیس أنّ القضیة واضحة أنّ الواجبات خارجة عن محل النزاع، ولا إشکال فی صحّة التکلیف فیها، وإنّما الکلام ینصب علی المحرّمات. کلا، المسألة لیست هکذا. کما أنّ حیثیات النزاع تجری فی المحرّمات هی تجری أیضاً فی الواجبات، فلا فرق بینهما من هذه الجهة. وما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من نکتةٍ وهی أنّ المطلوب فی النهی هو الترک وعدم حصول المفسدة التی یشتمل علیها الفعل، وأنّ هذا حاصل بنفسه عادة ___________ بحسب الفرض ___________ لأنّ المفروض أنّ الفعل خارج عن محل الابتلاء، یعنی أنّ ترکه مضمون التحقق، هذا الذی ذکره من أنّ الترک حاصل بنفسه، فلا یصح تعلّق التکلیف التحریمی به، هذا غیر واضح؛ لأنّ مجرّد أنّ الترک مفروض التحقق والحصول بنفسه عادةً لا یعنی ولا یستلزم سلب القدرة عن المکلّف إطلاقاً. صحیح أنّ الترک مضمون التحقق عادة، کما لو کان الشیء موجوداً فی أقصی بقاع الأرض، وهذا عادة لا یصدر من المکلّف الذی یعیش هنا، لکن هذا لا یعنی سلب القدرة علی الفعل، ولا یعنی أنّ المکلّف غیر قادرٍ علی الفعل؛ بل یبقی للمکلّف قدرةً عقلیة علی الفعل، فالقدرة العقلیة علی الفعل تبقی محفوظة، ومعنی ذلک أنّه قادر علی نقض العدم بالوجود وقادر علی قطع استمرار هذا العدم الحاصل، فإذا کان قادراً علی هذا؛ حینئذٍ یستند الترک إلی اختیاره، یعنی إبقاء الترک مستمراً وعدم نقضه یستند إلی اختیار المکلّف، هو الذی اختار إبقاء الترک مستمراً حینما لم یفعل ولم یُقدم علی الفعل، وهذا یعنی أنّه هو الذی اختار إبقاء العدم مستمراً، فیکون إبقاء العدم مستمراً مستنداً إلی اختیار المکلّف؛ لأنّ المکلّف قادر علی الفعل ونقض العدم وتبدیله بالوجود، فإذا لم یفعل ذلک، یعنی لم یفعل نقض العدم، وهذا معناه أنّه باختیاره أبقی العدم مستمراً، فیمکن أن یُسند هذا إلی المکلّف، المکلّف بإرادته واختیاره أبقی العدم مستمراً ولم ینقض الوجود، فلا فرق بینهما من هذه الجهة، الفعل والترک، کل منهما یمکن أن یستند إلی إرادة المکلّف واختیاره، ومجرّد أنّ الترک مضمون التحقق لا یعنی أن الاختیار والإرادة لا تتوسّط فی إبقاء هذا العدم الذی هو المطلوب فی باب النهی، المطلوب فی باب النهی فی الحقیقة هو إبقاء العدم مستمراً، فهو نهی عن الفعل الذی ینقض العدم، فی النهی عن شرب الخمر یعنی إبقاء عدم شرب الخمر مستمراً؛ لأنّ شرب الخمر ینقض عدم شرب الخمر ویبدله بالوجود، فیُنهی عن شرب الخمر، فالمطلوب فی باب النهی هو عدم نقض العدم بالوجود، وهذا مقدور للمکلّف، ومجرّد أنّ الترک مضمون الحصول والتحقق لا یسلب القدرة، فالمکلّف قادر علی الفعل الذی یُنقض به العدم، فإذا لم یفعل یکون هذا مستنداً إلی إرادته واختیاره، فلا فرق بین المحرّمات وبین الواجبات من هذه الجهة.

ص: 333

بعد ذلک بیّنّا أنّ ما یظهر من کلماتهم هو عدم النزاع فی حالة الاضطرار العقلی إلی الترک، والمقصود بالاضطرار العقلی إلی الترک هو العجز العقلی عن الفعل، فالمکلّف إذا کان عاجزاً عن الفعل، فهو مضطر عقلاً إلی الترک؛ لأنّه عاجز عن الفعل عقلاً، فدائماً الاضطرار العقلی إلی ترک الحرام هو بعبارة أخری العجز العقلی عن الفعل. ظاهرهم الاتفاق علی أنّ التکلیف یسقط فی حالة العجز العقلی عن الفعل، باعتبار أنّ التکلیف مشروط بالقدرة العقلیة، فمع العجز العقلی یکون التکلیف ساقطاً، وإنّما النزاع فی إلحاق الاضطرار العرفی لترک الحرام بالاضطرار العقلی لترک الحرام.

وبعبارةٍ أخری: إلحاق العجز العرفی عن الفعل بالعجز العقلی عن الفعل، هل یُلحق به ؟ وبالتالی یکون العجز العرفی عن الفعل مسقطاً للتکلیف کما أنّ العجز العقلی عن الفعل مسقطاً للتکلیف، أو أنّه لا یُلحق به ؟

هذا المقدار فی الجملة ممّا لا إشکال فیه، أساس النزاع هو أنّه هل الدخول فی محل الابتلاء یعتبر شرطاً فی التکلیف کما أنّ القدرة العقلیة تعتبر شرطاً فی التکلیف ؟ هل القدرة العرفیة أیضاً شرط فی التکلیف، أو لا ؟ إذا قلنا أنّ القدرة العرفیة الذی نعبّر عنها بالدخول فی محل الابتلاء، شرط فی التکلیف، فلابدّ من الالتزام بسقوط التکلیف عند خروج المتعلّق عن محل الابتلاء؛ لأنّ القدرة العرفیة شرط فی ثبوت التکلیف. هذا إذا ألحقنا القدرة العرفیة بالقدرة العقلیة، کلٌ منهما شرط فی التکلیف، فیسقط التکلیف عند انتفاء القدرة العرفیة، یعنی عند العجز العرفی، یعنی عند خروج المتعلّق عن محل الابتلاء. وإذا قلنا أنّ القدرة العرفیة لا تُلحقبالقدرة العقلیة، فلا داعی لسقوط التکلیف بمجرّد خروج متعلّقه عن محل الابتلاء؛ بل یبقی بالرغم من العجز العرفی عن الفعل. هذا هو عمدة النزاع فی المقام.

ص: 334

ذهب المشهور إلی الإلحاق، المشهور یری أنّه کما یُشترط فی التکلیف القدرة العقلیة کذلک یُشترط فیه القدرة العرفیة، فلا یتعلّق التکلیف بما هو خارج عن القدرة العقلیة، یعنی فی حالة العجز العقلی یسقط التکلیف، کذلک فی حالة العجز العرفی یسقط التکلیف؛ لأنّ التکلیف مشروط بالدخول فی محل الابتلاء، یعنی مشروط بالقدرة العرفیة. السید الخوئی(قدّس سرّه) أنکر هذا الاشتراط کما ذکرنا النتیجة التی انتهی إلیها قبل قلیل، وذکر بأنّ التکلیف لیس مشروطاً بالدخول فی محل الابتلاء، یعنی لیس مشروطاً بالقدرة العرفیة. نعم، هو مشروط بالقدرة العقلیة، لکنّه لیس مشروطاً بالقدرة العرفیة، فیصحّ أن یتعلّق التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء، وبهذا خالف المشهور.

قبل الدخول فی محل النزاع لابدّ من الإشارة إلی شیء، وهو أنّ اتفاق القوم، کما یظهر من کلماتهم، علی سقوط التکلیف فی حالة العجز العقلی عن ارتکابه، یعنی الاضطرار العقلی إلی ترک الشیء، وبالتالی یترتب علی سقوط التکلیف فی حالة العجز العقلی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة وانحلاله فی ما لو کان أحد أطرافه غیر مقدور عقلاً وکان متقدّماً علی العلم الإجمالی، الکلام یقع فی أنّ هذا الانحلال فی العجز العقلی، یعنی فی الاضطرار إلی الترک عقلاً، هل هو انحلال حقیقی أو هو انحلال حکمی. فی مورد الاتفاق ولیس فی خروج الطرف عن محل الابتلاء، الکلام لیس فی العجز العرفی، وإنّما فی العجز العقلی الذی اتفقوا علی أنّه یُسقِط التکلیف، وأنّ التکلیف مشروط بعدم العجز العقلی، یعنی بعدم القدرة العقلیة، فلو کان أحد الطرفین غیر مقدور عقلاً، ثمّ علم إجمالاً بنجاسته، أو نجاسة الطرف الآخر الموجود فعلاً المقدور، هنا لا إشکال عندهم فی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لأنّه لا یوجد علم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر. الکلام فی أنّ هذا الانحلال وسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز هل هو نتیجة الانحلال الحقیقی، أو نتیجة الانحلال الحکمی.

ص: 335

بعبارةٍ أخری: أنّ اتفاقهم علی سقوط التکلیف فی حالة العجز العقلی، واتفاقهم علی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز إذا کان أحد أطرافه غیر مقدور عقلاً، هذا هل یستلزم أن یکون الانحلال والسقوط عن المنجّزیة بسبب الانحلال الحقیقی، أو لا ؟ قد یقال: أنّه لا یستلزم ذلک، بمعنی أنّ الانحلال فی موارد العجز العقلی لیس انحلالاً حقیقیاً، وإنّما هو انحلال حکمی، ومن هنا قد یُفرّق بین حالة العجز العقلی التی نتحدّث عنها الآن، یعنی حالة الاضطرار إلی الترک عقلاً، وبین حالة الاضطرار التی تقدّم بحثها فی المسألة السابقة فی المقام الأوّل، فی کلٍ منهما یوجد اضطرار وفی کلٍ منهما الاضطرار عقلی، فی المسألة السابقة قلنا أنّ أحد ما یتحقق به الاضطرار هو مسألة العجز العقلی، حیث قلنا أنّ العجز تارةً یکون عقلیاً، وتارةً یکون عجزاً شرعیاً، وتارةً یکون عجزاً بمرتبة الحرج والضرر، فإذن: العجز العقلی داخل فی المسألة السابقة، وهو أیضاً داخل فی مسألتنا، الفرق بینهما هو أننّا هناک کنّا نفترض الاضطرار العقلی إلی الفعل، هو مضطر إلی أن یشرب هذا الحرام اضطراراً عقلیاً ولیس اضطراراً شرعیاً، ولا اضطراراً بمرتبة الحرج والضرر، وإنّما هو اضطرار عقلی، وقلنا أنّ هذا یدخل فی ذاک الکلام، لکن کنّا نفترض الاضطرار إلی الفعل کما فی هذا المثال: اضطر إلی شرب ما فی هذا الإناء اضطراراً عقلیاً، ثمّ علم إجمالاً إمّا أنّ هذا الإناء نجس، أو إناء آخر نجس، هنا یسقط التکلیف، ویسقط العلم الإجمالی عن التنجیز بلا إشکال، وتقدّم أنّ الانحلال هو انحلال حقیقی، باعتبار أنّ الاضطرار یرفع التکلیف حقیقة، وهذا معناه أنّ الانحلال حقیقی، یعنی تبدّل العلم الإجمالی إلی علم بعدم ثبوت التکلیف فی هذا الطرف المضطر إلیه، واحتمال ثبوته فی الطرف الآخر، یعنی تبدّل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی وشکٍ بدوی، وهذا هو معنی الانحلال الحقیقی، فتبدّل إلی علم بعدم الحرمة فی طرفٍ وشکِ بدوی فی طرفٍ آخر، وهذا معناه الانحلال الحقیقی. الکلام فی أنّ الاضطرار فی المقام هل یوجب الانحلال الحقیقی، هو یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، لکن هل یوجب الانحلال الحقیقی علی غرار الاضطرار إلی الفعل فی المسألة السابقة ؟ فی المقام نحن نتکلّم عن الاضطرار إلی الترک ولیس الاضطرار إلی الفعل، فالاضطرار إلی الفعل کان فی المسألة السابقة، وهو یوجب الانحلال الحقیقی علی ما بیّنّا، الاضطرار إلی الترک، عندما یکون المکلّف مضطراً إلی ترک الحرام، بمعنی أنّه عاجز عقلاً عن الفعل، أصلاً هو عقلاً غیر قادر علی ارتکاب الحرام، فهو مضطر إلی ترکه اضطراراً عقلیاً، هذا الاضطرار العقلی إلی الترک یوجب سقوط التکلیف وسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز لو کان أحد أطرافه من هذا القبیل، لکن الکلام فی أنّ الانحلال هنا هل هو انحلال حقیقی، أو انحلال حکمی ؟

ص: 336

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

ذکرنا مطلباً فی الدرس السابق، لابدّ من إکماله، وهو أنّ الذی یظهر من السید الشهید(قدّس سرّه) أنّه یرید أن یفرّق بین الاضطرار إلی الفعل المتقدّم فی المسألة السابقة وبین الاضطرار إلی الترک فی محل کلامنا، (1) فی محل الکلام نتکلّم عن الاضطرار إلی الترک، بمعنی الاضطرار العقلی إلی الترک، أو بعبارة أخری: العجز عن الفعل، لکن العجز العقلی عن الفعل لا الخروج عن محل الابتلاء، فی حالة الخروج عن محل الابتلاء هناک عجز عن الفعل، لکن عجز عرفی لا عجز عقلی، هو یقول فی حالة العجز العقلی عن الفعل. أو بعبارة أخری الاضطرار العقلی إلی الترک، عندما یکون الفعل غیر مقدور، والمکلّف مضطر إلی الترک، هذا هو ما نتکلّم عنه، ونتکلّم أیضاً عن الخروج عن محل الابتلاء الذی هو عبارة عن العجز العرفی عن الفعل والاضطرار العرفی إلی الترک. یقول: هذا الاضطرار العقلی إلی الترک یختلف عن الاضطرار العقلی إلی الفعل المتقدّم فی المسألة السابقة، یشترکان فی سقوط التکلیف، فی کلٍ منهما یکون التکلیف ساقطاً، کما أنّ التکلیف یسقط فی حالة الاضطرار إلی الفعل، إذا اضطر إلی شرب هذا الإناء اضطراراً عقلیاً لا إشکال أنّ النهی یسقط عن هذا، کذلک إذا اضطر إلی ترک شیءٍ النهی أیضاً یسقط عنه، فی کلتا الحالتین یسقط النهی، لا نهی ولا زجر فی کلتا الحالتین، لا فی حالة الاضطرار إلی الفعل، لا یُعقل النهی عنه؛ لأنّه مضطر إلی الفعل وإلی شرب أحد الإناءین، ولا فی حالة الاضطرار إلی الترک کما إذا کان الشیء فی مکان بعیدٍ جدّاً بحیث یستحیل أن یتمکن من ارتکابه، هو عاجز عقلاً عن ارتکابه ومضطر عقلاً إلی ترکه، هل یُعقل تعلّق النهی به ؟ یقول: أیضاً لا یعقل تعلّق النهی به، فهما یشترکان فی عدم صحّة توجّه النهی والزجر فی کلٍ منهما، لکنّهما یختلفان بلحاظ الملاک، بمعنی أنّه فی مسألة الاضطرار إلی الفعل هنا یمکن أن نقول کما لا نهی کذلک لا ملاک ولا مفسدة ولا مبغوضیة فی ذلک الفعل الذی اضطر إلی الإتیان به، إذا اضطر إلی شرب أحد الإناءین، کما لا نهی عنه کذلک لا مبغوضیة ولا مفسدة فیه، وعلی هذا الأساس یترتب ما أشرنا إلیه من أنّ الانحلال یکون انحلالاً حقیقیاً فی ذلک المورد عندما یکون أحد طرفی العلم الإجمالی من هذا القبیل، إذا علم بنجاسة أحد الإناءین وکان مضطراً إلی شرب أحدهما المعیّن اضطراراً عقلیاً هنا لا علم إجمالی بالتکلیف؛ لأنّه علی أحد التقدیرین یکون التکلیف منتفیاً خطاباً وملاکاً، وعلی التقدیر الآخر یکون ثابتاً، فلا علم إجمالی، لا بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر ولا بالملاک الفعلی علی کل تقدیر، ومن هنا ینحل العلم الإجمالی انحلالاً حقیقاً؛ إذ لا علم بالتکلیف علی کل تقدیر کما لا علم بالملاک علی کل تقدیر، وإنّما یکون التکلیف معلوم الارتفاع والملاک معلوم الارتفاع علی أحد التقدیرین ومشکوک علی التقدیر الآخر، وهذا معنی أنّ العلم الإجمالی ینحل إلی علم تفصیلی بعدم التکلیف علی أحد التقدیرین خطاباً وملاکاً، وشکٍ بدوی فی الطرف الآخر، فینحل العلم الإجمالی انحلالاً حقیقیاً. هذا فی مورد الاضطرار إلی الفعل، أو قل فی مورد العجز عن الترک، و الاضطرار إلی الفعل. وأمّا فی محل الکلام عندما یکون الاضطرار إلی الترک، هو مضطر إلی ترکه، لکن اضطراراً عقلیاً، هو عاجز عن الفعل عقلاً ومضطر إلی الترک عقلاً. یقول: فی هذه الحالة یسقط الخطاب، ولا یصح تعلّق النهی به ولا یصح تعلّق الزجر به، لکنّ مبادئ النهی باقیة ولا ترتفع، النهی یسقط کخطابٍ، لکنّ المفسدة والمبغوضیة تبقی متعلّقة بذلک الفعل ولو کان المکلّف عاجزاً عن فعله ومضطراً إلی الترک، بالرغم من هذا، هذا لا یوجب سقوط مبادئ النهی عن ذلک الفعل، ویعللّ ذلک، یقول: باعتبار أنّ الاضطرار إلی الفعل یوجب أن تکون الحصّة التی اضطر إلی فعلها تکون حصة أخری من الفعل غیر الحصّة التی تصدر منه بالاختیار، فیکون للفعل حصّتان، حصّة اضطراریة اضطر إلی فعلها، وحصّة اختیاریة لم یضطر إلی فعلها، عندما یتحصصّ الفعل إلی حصّتین بلحاظ الاضطرار إلی الفعل، فیمکن أن یقال أنّ الحصّة الاضطراریة کما لا نهی عنها کذلک لا ملاک فیها، ولا مبغوضیة فیها ولا مفسدة؛ لأنّ الاضطرار یحصصّ الفعل إلی حصّتین، إلی حصّة اضطراریة وحصّة اختیاریة؛ حینئذٍ یمکن أن یقال أنّ الحصّة الاضطراریة کما یسقط عنها النهی؛ إذ لا نهی عن الفعل الذی یضطر المکلّف إلی الإتیان به، کذلک لا مفسدة فیه ولا مبغوضیة، وهذا بخلاف الاضطرار إلی الترک الذی یعنی العجز عن الفعل، العجز عن الفعل، أو الاضطرار إلی الترک لا یحصصّ الفعل إلی حصّتین؛ بل حصّة واحدة وهی الفعل الواجد للمفسدة والذی یکون الإتیان به مبغوضاً، والعجز عنه لا یعنی خروج هذا الفعل عن الملاک وعن المبادئ، المبادئ تبقی محفوظة فی حالة العجز عن الفعل، لکنّها لا تبقی محفوظة فی حالة الاضطرار إلی الفعل، یقول: أنّ أکل لحم الخنزیر عندما یضطر إلی أکله المکلّف؛ حینئذٍ یمکن أن یکون أکل لحم الخنزیر فی حالة الاضطرار إلیه، یمکن أن لا یتعلّق به النهی، کذلک لا مفسدة ولا مبغوضیة فیه، هذا عندما یضطر إلی الفعل یمکن أن یقال: أنّ هذه الحصّة من أکل لحم الخنزیر لا نهی عنها ولا مفسدة ولا مبغوضیة فیها، أمّا أکل لحم الخنزیر الذی لا یقدر المکلّف علی الإتیان به لکونه فی مکان بعیدٍ جدّاً یستحیل أن یصل إلیه المکلّف، مجرّد عجز المکلّف عن الإتیان به لا یعنی أنّه لیس فیه ملاک النهی ولیس فیه مفسدة، أو مصلحة، الفعل بالنسبة إلی العجز لا یتحصصّ إلی حصّتین حتّی نقول أنّ أحدی الحصّتین واجدة للملاک والحصّة الأخری لیست واجدة للملاک؛ بل ذلک الفعل الذی لا یمکنه الإتیان به والذی یعجز عن الإتیان به، مجرّد فرض تحققه یساوق تحقق المفسدة ویساوق تحقق المبغوضیة، هذا من نتائج أنّ الفعل لا یتحصصّ بلحاظ العجز عنه، وإنّما یتحصصّ الفعل بلحاظ الاضطرار إلیه. أمّا العجز عنه، فهو لا یوجب أن تکون هناک حصّتان متعددّتان أحداهما غیر الأخری؛ بل الفعل واحد، وهو واجد للمفسدة وواجد للمبغوضیة، ومجرّد عجز المکلّف عنه لا یوجب عدم کونه مبغوضاً، وعدم کونه له مفسدة، الفعل باقٍ علی ما هو علیه من المفسدة والمبغوضیة وإن کان المکلّف عاجزاً عنه، وعدم تعلّق النهی به لا باعتبار أنّه لیس واجداً للمبغوضیة والمفسدة، وإنّما لا یتعلّق به النهی باعتبار عجز المکلّف عن الإتیان به؛ لأنّ المکلّف عاجز وغیر قادر؛ حینئذٍ لا یتعلّق التکلیف به، لا لأنّه لا ملاک فیه، وإنّما باعتبار العجز عنه هذا هو الذی أوجب سقوط النهی عنه، فهو یفرّق بین الاضطرار إلی الفعل وبین الاضطرار إلی الترک، وعلی اساس هذه التفرقة ینتهی إلی نتیجة أنّه فی محل الکلام التکلیف ساقط، والنهی لا یتعلّق بالفرد الذی یکون المکلّف عاجزاً عن الإتیان به، ومضطراً إلی ترکه، إذا کان مضطراً إلی ترکه لا یتعلّق النهی به، لکنّ الملاک لا یسقط؛ بل هو موجود فیه، النهی یسقط لکن لا یسقط الملاک، وبناءً علی هذا لا علم إجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر. عندما یُفترض أنّ أحد أطراف العلم الإجمالی خارج عن قدرة المکلّف والمکلّف مضطر إلی ترکه، لا علم إجمال بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، لکن یقول: هناک علم إجمالی بالملاک الفعلی علی کل تقدیر، سواء کان الحرام الواقعی فی هذا الطرف الداخل تحت القدرة، أو فی ذاک الطرف الذی لا یتمکّن المکلّف من الإتیان به؛ لأنّ عجز المکلّف عنه لا یوجب سقوط الملاک عنه.

ص: 337


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج5، ص285.

إذن: الملاک موجود والمکلّف یعلم علماً إجمالیاً بثبوت الملاک الفعلی علی کل تقدیر. یقول: هذا العلم الإجمالی یکون منجّزاً؛ لأنّ الملاک هو روح الحکم وواقعه، فإذا علم المکلّف بالملاک، فهذا یکفی فی المنجّزیة، وبهذا لا یتحقق الانحلال الحقیقی فی المقام؛ لأنّ المکلّف یعلم بثبوت الملاک إمّا فی هذا الطرف، أو فی ذاک الطرف، هذا العلم الإجمالی بثبوت الملاک یمنع من تحقق الانحلال الحقیقی، أی لا ینحل العلم الإجمالی هنا إلی علم تفصیلی بعدم الملاک علی تقدیر، وباحتمال وجود الملاک علی تقدیرٍ آخر؛ بل هو یعلم بثبوت الملاک علی کل تقدیر، هذا العلم الإجمالی بثبوت الملاک علی کل تقدیر یکون منجّزاً ومانعاً من تحقق الانحلال الحقیقی.

نعم، عدم المنجّزیة لابدّ أن یُفسّر بتفسیرٍ آخر غیر مسألة الانحلال، لابدّ أن یُفسّر علی اساس الانحلال الحکمی لا الانحلال الحقیقی، بمعنی أنّ الأصل المؤمّن یجری فی الطرف المقدور بلا معارض؛ لأنّ الأصل لا یجری فی الطرف الآخر، فأنّ المکلّف عاجز عنه تکویناً، فلا معنی للتأمین التشریعی بلحاظ ما یکون المکلّف عاجزاً عنه تکویناً، هذا التأمین یفقد معناه، ولا معنی له أصلاً؛ فلذا لا یجری الأصل المؤمّن بلحاظ ذاک الطرف؛ لأنّ المکلّف عاجز عن فعله _________ بحسب الفرض __________ ومضطر إلی ترکه، فلا معنی للتأمین التشریعی بلحاظه، والحال أنّ المکلّف عاجز عنه تکویناً، فالأصل المؤمّن لا یجری فی ذاک الطرف ویجری فی الطرف المقدور بلا معارض، وبهذا یسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة حکماً، أی ینحلّ انحلالاً حکمیاً لا انحلالاً حقیقیاً. هذا هو المطلب الذی یذکره(قدّس سرّه).

اعترض علی هذا المطلب: بأنّ هذا غایة ما ینتجه هو عدم العلم بانتفاء الملاک فی حالة العجز عن الفعل ولا ینتج العلم بوجود الملاک فی حالة العجز، وإنّما غایة ما یبررّ لنا أن نقول أننّا لا نعلم بانتفاء الملاک فی حالة العجز عن الفعل، ولا یبرر لنا أن نقول أننا نعلم بوجود الملاک فی حالة العجز عن الفعل حتّی یصحّ دعوی العلم الإجمالی بثبوت الملاک علی کل تقدیر، هذه الدعوی تتوقّف علی أن تکون هذه الأمور التی ذکرها تنتج العلم بثبوت الملاک فی حالة العجز عن الفعل، هو عاجز عن الفعل، وغیر قادر علیه، ومضطر إلی الترک عقلاً، لکن لابدّ أن نثبت أنّ الملاک ثابت فی هذه الحالة حتّی یصح لنا أن نقول أننا نعلم إجمالاً بثبوت الملاک الفعلی علی کل تقدیر، فیتشکل العلم الإجمالی ونمنع من الانحلال الحقیقی. الاعتراض یقول: أنّ ما ذکره لا ینتج ذلک، وإنّما غایة ما یبرر لنا أن نقول بأننا لا نعلم بانتفاء الملاک فی حالة العجز عن الفعل، باعتبار أنّه فی موارد الاضطرار إلی الفعل فی تلک المسألة، اضطر إلی شرب النجس __________ مثلاً ___________ هناک کان یوجد خطاب شرعی یقیّد التکلیف بعدم الاضطرار، هو یقید النهی بعدم الاضطرار إلی الفعل، وهو قوله(علیه السلام):( لیس شیء مما حرم الله الا وقد احله لمن اضطر الیه ) (1) هذا الخطاب الشرعی هو الدلیل علی أنّ التکلیف مقیّد بعدم الاضطرار إلی الفعل، وأنّه بمجرّد الاضطرار إلی الفعل، یرتفع التکلیف، هذا الدلیل الشرعی الدال علی ارتفاع التکلیف یُستکشف منه ارتفاع التکلیف بما له من الملاک، فیکون الخطاب الشرعی دلیلاً علی انتفاء التکلیف خطاباً وملاکاً؛ لأننا __________ کما قالوا __________ إنّما نعرف وجود الملاک من خلال الخطاب والتکلیف، أمّا إذا ارتفع التکلیف والخطاب، فلا دلیل لنا علی ثبوت الملاک، فالملاک بالنتیجة یکون أیضاً مرتفعاً.

ص: 338


1- وسائل الشیعة، الشیخ الحر العاملی، ج23، ص228، کتاب الایمان، باب12، ح18، ط آل البیت.

وأمّا فی محل الکلام، فلیس لدینا خطاب شرعی نستکشف منه ارتفاع الملاک کما هو الحال بالنسبة للتکلیف، وإنّما العقل هو الذی یتدخّل ویحکم باشتراط أن یکون المکلّف متمکّناً من الترک وقادراً علیه حتّی یصح خطابه بالنهی، وأمّا إذا کان مضطراً إلی الترک، وعاجزاً عن الفعل، هنا العقل هو الذی یقول بأنّ هذا لا یصح تکلیفه ولا یصح توجیه النهی إلیه، فالعقل هو الحاکم، العقل لا مسرح له فی ملاکات الأحکام الشرعیة، العقل إنّما یتدخّل بالنسبة إلی التکلیف، یقول هذا حیث أنّه مضطر إلی الترک، وعاجز عن الفعل لا یصح توجیه خطاب النهی إلیه، فهو لا یمس الملاکات والمبادئ، وإنّما هو ینفی توجیه الخطاب إلی هذا المکلّف المضطر إلی الترک والعاجز عن الفعل، فالعقل هو الذی یکون حاکماً فی المقام، ولا دلیل شرعی فی المقام یدلّ علی ارتفاع التکلیف حتّی نستکشف منه ارتفاع الملاک، وإنّما العقل هو الحاکم، والعقل لا یحکم بانتفاء الملاک، وإنّما یحکم بانتفاء التکلیف، هذا لا یبررّ لنا أن نقول أنّه فی حالة العجز عن الفعل، والاضطرار إلی الترک یکون الملاک موجوداً، بحیث یبرر لنا أن ندّعی العلم بثبوت الملاک، وإنّما یبرر لنا أن نقول أننا لا نعلم بانتفاء الملاک فی حالة العجز؛ لأنّ العقل یحکم بانتفاء الخطاب، أنّه لا دلیل علی انتفاء الملاک ولا علم بانتفائه، أمّا العلم بوجود الملاک وبقاء الفعل علی ما هو علیه من الملاک، بالرغم من العجز عن الفعل والاضطرار إلی الترک هذا لا یبررّه ما ذُکر، وإنّما ما ذُکر وأنّ العقل هو الحاکم، والعقل لا یحکم بوجود الملاک، ولا علاقة له بالملاک إطلاقاً، فیبقی وجود الملاک محتمل، وانتفاءه محتمل أیضاً، فلا علم لنا بانتفاء الملاک، لکن أیضاً لا علم لنا بوجوده، فإذا کان لا یوجد لدینا علم بوجود الملاک فی حالات العجز، فإذن: کیف یتشکّل لدینا علم إجمالی بثبوت الملاک الفعلی علی کل تقدیر، هذا یحتاج إلی أن نقطع بوجود الملاک فی حالة العجز، فنقول لیکن أحد الطرفین خارجاً عن قدرة المکلّف، والمکلّف عاجز عن فعله ومضطر إلی ترکه، لکنّه لا یخرجه عن کونه ذا ملاک؛ حینئذٍ نحن نعلم بثبوت الملاک الفعلی علی کل تقدیر، وهذا علم إجمالی یمنع من الانحلال الحقیقی علی ما ذُکر. وأمّا إذا لم یکن لدینا علم بوجود الملاک، وإنّما نحتمل مجرّد احتمال بقاء الملاک ونحتمل زوال الملاک، فی هذه الحالة لا علم لنا بوجود الملاک علی کل تقدیر حتّی یتمّ ما ذُکر من أنّ هذا العلم الإجمالی موجود ومتحقق وغیر منحلٍّ حقیقة ولابدّ أن یکون منحلاً حکماً ولیس منحلاً حقیقة.

ص: 339

الظاهر أنّ هذا الاعتراض غیر وارد؛ لأنّ السید الشهید(قدّس سرّه) یدّعی العلم بوجود الملاک، ولا یقول مجرّد أننا لا نعلم بانتفاء الملاک، وإنّما یقول بأننا نعلم بوجوده وثبوته، وأنّ العجز عن الشیء لا یوجب خروج هذا الشیء عن کونه ذا مفسدة وکونه مبغوضاً، یقول: أکل لحم الخنزیر عندما یعجز المکلّف عن ارتکابه، هذا لا یخرجه عن کونه ذا مفسدة ولا یخرجه عن کونه مبغوضاً؛ ولذا بمجرّد أن یُفرض وقوعه یعنی فُرض وقوع المبغوض وفُرض تحقق ما فیه المفسدة، هو هکذا یفترض علی أساس مسألة أنّ العجز لا یحصص الفعل إلی حصّتین، الاضطرار إلی الفعل یحصص الفعل إلی حصّتین، حصّة اضطراریة وحصّة اختیاریة؛ حینئذٍ من المعقول أن یکون النهی بما له من الملاک یختص بالحصّة الاختیاریة ولا یکون فی الحصّة الاضطراریة؛ لأنّ الاضطرار إلی الفعل یحصص الفعل إلی حصّتین، بینما العجز عن الفعل لا یحصص الفعل إلی حصّتین، هو هذا الفعل الواجد للمفسدة هو بنفسه موجود حتّی فی حالة العجز عنه، بمجرّد أن یعجز المکلّف عن الإتیان بشیءٍ هذا لا یعنی أنّه یخرج عن کونه ذا ملاکٍ ومفسدة؛ بل یبقی علی ما هو علیه من المفسدة، وعلی ما هو علیه من المبغوضیة بالرغم من عجز المکلّف عن فعله وعن الاتیان به، واضطراره إلی ترکه، هو یدّعی العلم بوجود الملاک، وعلی هذا الأساس یقول أننا نعلم علماً إجمالیاً بثبوت الملاک علی کل تقدیر، وإن کنّا لا نعلم علماً إجمالیاً بثبوت التکلیف علی کل تقدیر.

نعم، قد یُناقش فی أصل مسألة التحصیص کما سیأتی فی مسألة الخروج عن محل الابتلاء، أنّ فی هذا التحصیص لا فرق بین الاضطرار إلی الفعل وبین الاضطرار إلی الترک، الاضطرار إلی الفعل یحصص الفعل إلی حصّتین اضطراریة واختیاریة، والعجز عن الفعل، أو الاضطرار إلی الترک أیضاً یحصص الفعل إلی حصّتین، حصّة یکون المکلّف مضطرّاً إلی ترکها وحصّة لیس مضطراً إلی ترکها، أکل لحم الخنزیر تارةً یضطر المکلّف إلی ترکها اضطراراً عقلیاً، وأخری لا یکون مضطراً إلی ترکها ولا مضطراً إلی فعلها، إذا أمکن تصوّر أنّ الفعل بالعجز أیضاً یتحصص إلی حصّتین؛ حینئذٍ یکون حاله حال الاضطرار إلی الفعل، فی کلٍ منهما یتحصص الفعل إلی حصّتین ویمکن أن یکون النهی بماله من الملاک متعلّقاً بإحدی الحصّتین دون الحصّة الأخری، وهذا الکلام سیأتی التعرض له إن شاء الله فی أصل المطلب الذی هو عبارة عن الخروج عن محل الابتلاء.

ص: 340

هذا ما یرتبط بهذا المطلب، وبعد ذلک ندخل فی أصل البحث وهو مسألة الخروج عن محل الابتلاء، أو ما یُسمّی بالاضطرار إلی الترک عرفاً، الاضطرار العرفی إلی الترک، أو نعبّر عنه بالاضطرار إلی الامتثال، لکن اضطراراً عرفیاً، هو مضطرّ إلی امتثال النهی؛ لأنّ هذا خارج عن محل ابتلائه، فهو مضطرّ إلی الترک اضطراراً عرفیاً، مضطرّ إلی امتثال النهی، فهل یُعقل تعلّق النهی به، أو لا ؟ هذا هو محل البحث. وقلنا أنّ المشهور ذهب إلی عدم معقولیة النهی، وأنّ النهی مشروط بدخول المتعلّق فی محل الابتلاء، فإذا کان خارجاً عن محل الابتلاء لا یصح تعلّق النهی به، وخالف فی ذلک السید الخوئی(قدّس سرّه) وتبعه فی ذلک السیّد الشهید(قدّس سرّه) وقالوا بإمکان تعلّق النهی بالفرد الخارج عن محل الابتلاء.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

الکلام فی أصل البحث:أصل البحث کما قلنا هو عبارة عن أنّ العلم الإجمالی إذا کان أحد أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء، فهل یسقط عن التنجیز بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، أو لا ؟ مع افتراض تقدّم الخروج عن محل الابتلاء علی العلم الإجمالی، أو مقارنته له، وإلاّ لو کان الخروج عن محل الابتلاء متأخّراً عن العلم الإجمالی، فلا إشکال، علی ضوء ما تقدّم من أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً لدخوله فی مسألة دوران التکلیف بین الفرد الطویل والفرد القصیر. إذن: محل کلامنا هو ما إذا کان الخروج عن محل الابتلاء متقدّماً، أو مقارناً للعلم الإجمالی، فهل یسقط العلم الإجمالی حینئذٍ عن التنجیز، أو لا ؟

ص: 341

المراد بالخروج عن محل الابتلاء، کما لعلّه اتضح ممّا تقدّم، المراد به هو ما إذا کان الفعل لا یتحقق من المکلّف عادةً لعدم ابتلائه به، مع إمکان أن یصدر منه الفعل عقلاً، وإنّما هو لا یصدر منه عادة، وإلاّ هو یمکن أن یصدر منه عقلاً، فهذا الخروج عن محل الابتلاء لا یُراد به الامتناع العقلی ولا حتّی الامتناع العادی، وإنّما یُراد به أنّ المکلّف عادةً لا یبتلی بهذا، وإلاّ هو غیر ممتنع أن یصدر منه لا عقلاً ولا عادةً. ومن هنا لابدّ من افتراض أنّ الدلیل الذی یُستدلّ به علی اعتبار الدخول فی محل الابتلاء فی فعلیة التکلیف، لابدّ أن یکون دلیلاً آخر غیر ما دلّ علی اعتبار القدرة العقلیة، أو القدرة العادیة فی فعلیة التکلیف؛ لأنّ المراد بالدخول فی محل الابتلاء والخروج عن محل الابتلاء شیءٌ آخر غیر مسألة القدرة العقلیة والامتناع العقلی، أو القدرة العادیة والامتناع العادی، وإنّما المراد به شیءٌ آخر وهو ما قلناه من أنّ الفعل لا یتحقق من المکلّف عادةً بحسب الطبع الأوّلی. هذا هو المقصود بالخروج عن محل الابتلاء، ویقابله الدخول فی محل الابتلاء.

الجواب عن اصل السؤال: الذی هو أنّ العلم الإجمالی هل یسقط عن التنجیز إذا کان أحد أطرافه خارجاً عن محل الابتلاء کما اشرنا یرتبط بتحقیق هذه الجهة، أنّ فعلیة التکلیف هل هی مشروطة بالدخول فی محل الابتلاء، أو بما یُسمّی بالقدرة العادیة کما هی مشروطة بالقدرة العقلیة، أو لیست مشروطة بذلک ؟

فإن قلنا: أنّ التکلیف مشروطٌ بالدخول فی محل الابتلاء بحیث أنّه عندما لا یکون داخلاً فی محل الابتلاء یرتفع التکلیف عنه؛ حینئذٍ الجواب فی أصل المسألة یکون واضحاً وهو أنّ العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، ویکون العلم الإجمالی منحّلاً انحلالاً حقیقیاً؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون التکلیف فی هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فلا تکلیف فیه، أی یسقط التکلیف ___________ بحسب الفرض ____________ لأنّ الدخول فی محل الابتلاء شرطٌ فی التکلیف، فإذا کان خارجاً عن محل الابتلاء، فلا تکلیف فیه. نعم، یُحتمل ثبوت التکلیف فی الطرف الآخر، وهذا مجرّد احتمال، والعلم الإجمالی ینحل إلی علمٍ تفصیلی بعدم التکلیف فی هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء، وشکٍ بدوی بوجود التکلیف فی الطرف الآخر.

ص: 342

وأمّا إذا قلنا: أنّ التکلیف لیس مشروطاً بالدخول فی محل الابتلاء حتی إذا کان متعلّق التکلیف خارجاً عن محل الابتلاء، مع ذلک لا مانع من تعلّق التکلیف به، فالجواب عن أصل المسألة یکون بالالتزام بأنّ العلم الإجمالی یبقی علی منجّزیته؛ لأننا نعلم بالتکلیف علی کل تقدیر، سواءً کان فی هذا الطرف الداخل فی محل الابتلاء، أو کان فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، علی کلا التقدیرین لا یسقط التکلیف، فممّا یُعلم بثبوت التکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی یبقی علی منجّزیته.

استُدلّ علی أنّ التکلیف مشروط بالدخول فی محل الابتلاء، وأنّ التکلیف لا یتعلّق بشیء إلاّ إذا کان داخلاً فی محل الابتلاء، وإذا کان خارجاً عن محل الابتلاء یسقط عنه التکلیف ولا یتعلّق به..... استُدلّ علی ذلک بأدلّة:

الدلیل الأوّل: ما هو موجود فی الکفایة، والشیء الذی ذکره فی الکفایة وتعارف نقله وذکره فی کلماتهم، وحاصله هو: دعوی أنّ الغرض من النهی إنّما هو إیجاد الداعی عند المکلّف لترک الفعل، وتحریکه نحو الترک، حینما لا یکون هناک داعٍ آخر یکون الغرض من النهی هو خلق داعٍ عند المکلّف لترک الفعل؛ لأنّه لو کان هناک سبب وداعٍ آخر للترک؛ حینئذٍ لا یکون النهی هو الداعی للترک، فلابدّ من افتراض أن لا یکون هناد داعٍ آخر للترک، وبناءً علی هذا، لو کان الفعل متروکاً، ولو کان هناک سبب وداعٍ آخر عند المکلّف لترک الفعل، فالنهی یکون لغواً وبلا فائدة؛ لأنّ الغرض من النهی هو إیجاد الداعی للترک عند المکلّف، فإذا کان الداعی للترک موجوداً؛ فحینئذ یکون جعل النهی لغواً وبلا فائدة؛ لأنّ النهی إنّما یؤتی به لغرض إیجاد الداعی، والمفروض أنّ الداعی للترک موجود؛ فحینئذٍ یکون الخطاب لغواً، ویکون النهی لغواً وبلا فائدة. نعم، لو لم یکن عند المکلّف داعٍ للترک؛ حینئذٍ یکون النهی معقولاً؛ لأنّه سوف یخلق داعیاً عند المکلّف للترک، وهذا إنّما یصح فی ما إذا کان متعلّق النهی داخلاً فی محل الابتلاء، فیُعقل تعلّق النهی به ویحقق هذا النهی الغرض منه، وهو أنّه یخلق داعیاً عند المکلّف لترک هذا الفعل الداخل فی محل ابتلائه. وأمّا إذا کان الفعل خارجاً عن محل الابتلاء وکان متروکاً بحسب الطبع، فهنا یکون النهی بلا فائدة وبلا حاصل؛ لأنّ نفس خروج الفعل عن محل الابتلاء یعتبر سبباً لترک الفعل عادةً وداعیاً لترک الفعل عادةً، ومع وجود الداعی لترک الفعل یأتی الشارع ویجعل النهی لغرض خلق الداعی لترک الفعل، هذا بلا حاصل، فیکون لغواً. هذا هو الدلیل الأوّل وهو دلیل اللّغویة، أنّ جعل النهی عندما یکون المتعلّق خارجاً عن محل الابتلاء ولا یبتلی به المکلّف عادةً، جعل النهی یکون لغواً، وهذا محذور عقلی مرجعه إلی لغویة مضمون الخطاب، ولغویة مدلول النهی، فکأنّه یرجع إلی محذور عقلی واللّغو یستحیل أن یصدر من الحکیم، فیکون محالاً باعتبار کونه لغواً. هذا ما یُفهم من کلام صاحب الکفایة (قدّس سرّه). (1)

ص: 343


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص361.

واضح من کلام صاحب الکفایة (قدّس سرّه) أنّه أدّعی ذلک فی النهی فقط، وکلامه مختصّ أصلاً بالنهی، وکأنّه لا یرید تعمیمه للتکلیف الوجوبی، وإنّما خصّه بالتکلیف التحریمی، فذکر هذا الوجه لإثبات أنّ التکلیف التحریمی مشروط بدخول المتعلّق فی محل الابتلاء، وإلاّ یکون النهی عنه لغواً ومستحیلاً بالتالی من جهة صدوره من الحکیم، أمّا فی التکلیف الوجوبی فهو لم یدّعِ هذا، ولعلّه ___________ کما ذُکر فی بعض الکلمات ___________ باعتبار أنّ هذه اللّغویة بهذا البیان لا تُتصوّر إلاّ فی المحرّمات، لا تُتصوّر فی التکلیف الوجوبی؛ لأنّ اللّغویة بهذا البیان فی باب التکلیف التحریمی نفس افتراض خروج الفعل عن محل الابتلاء هو سبب لترک الفعل، فالنهی یکون لغواً لأنّه قد تحقق غرضه؛ إذ بنفس الخروج عن محل الابتلاء یتحقق الغرض من النهی؛ لأنّ الغرض من النهی هو إیجاد سبب للترک، بینما نفس خروج الفعل عن محل الابتلاء هو سبب للترک، فکأنّه تحقق الغرض من النهی وعندما یتحقق الغرض من النهی؛ حینئذٍ یکون النهی بلا فائدة، فیکون لغواً، هذا الکلام لا یمکن تطبیقه علی التکلیف الوجوبی عندما یُفترض أنّ متعلّقه خارج عن محل الابتلاء؛ لأنّ خروج الفعل عن محل الابتلاء فی التکلیف الوجوبی لا یعنی تحقق الغرض من التکلیف الوجوبی إطلاقاً؛ لأنّ الغرض من التکلیف الوجوبی هو خلق داعٍ للفعل، وهذا الداعی للفعل غیر متحقق بمجرّد افتراض أنّ الفعل خارج عن محل الابتلاء؛ بل لعلّه بالعکس؛ إذ لعلّ خروجه عن محل الابتلاء یکون داعیاً لعدم الفعل، فبمجرّد افتراض خروج الفعل الذی یتعلّق به الوجوب عن محل الابتلاء لا یعنی بالضرورة تحقق الغرض من الوجوب، ولا یعنی بالضرورة وجود سببٍ للفعل حتّی نقول أنّ الوجوب بلا فائدة لأنّ غرضه تحقق، کلا، لیس هکذا، فإذن: من المعقول جدّاً أن یتعلّق التکلیف الوجوبی بما هو خارج عن محل الابتلاء، حتّی لو افترضنا أنّ ذاک الفعل خارج عن محل الابتلاء، وأنّ له مقدّمات طویلة وعسیرة جدّاً، لکن أیّ ضیرٍ فی أنّ الشارع عندما تقتضی المصالح أن یأمر بذلک الفعل الذی له مقدّمات طویلة وعسیرة، ویلزم المکلّف أن یطوی هذه المقدّمات حتّی یأتی بذلک الفعل ویکون الأمر معقولاً ولیس لغواً؛ لأنّ الغرض منه أن یخلق داعیاً عند المکلّف للتحرّک نحو الفعل، وهذا الغرض یمکن أن یُخلق بالتکلیف الوجوبی، ومجرّد خروج الفعل عن محل الابتلاء لا یعنی أنّ المکلّف صار عنده داعٍ للفعل؛ بل لعلّ الأمر کما قلنا بالعکس، ومن هنا لعلّه خصّ کلامه بالنهی ولم یعممّه لمطلق التکلیف فی ما یرتبط بمحذور اللّغویة.

ص: 344

نعم، إذا فرضنا _____________ کما تقدّم الإشارة إلی ذلک سابقاً ____________ أنّ الداعی للفعل کان موجوداً عند المکلّف بمجرّد افتراض خروج الترک عن محل ابتلائه کما یحصل فی بعض الأحیان کما مثّلنا سابقاً بباب الإنفاق علی نفسه، والأمر بأن یحب ولده الصغیر، هذه أمور الداعی لفعلها موجود بقطع النظر عن الوجوب الشرعی، هنا یمکن أن یقال هل یُعقل جعل الوجوب حینئذٍ ؟ ویأتی محذور اللّغویة، یمکن أن یقال هذا علی غرار ما قیل فی النهی؛ لأنّه فی حالة من هذا القبیل نفس افتراض خروج الترک عن محل الابتلاء یعنی وجود سببٍ للفعل؛ لأنّ الترک خارج عن محل الابتلاء، هذا الإنسان الذی هو إنسان عادی یمتلک عاطفة عنده سبب لکی ینفق علی ولده وعلی نفسه، هناک داعٍ وسببٍ لکی ینفق علی نفسه، فیقال ما معنی أنّ یجعل الشارع وجوباً لغرض إیجاد الداعی للتحرک نحو الفعل ؟! والحال أنّ الداعی للتحرک نحو الفعل موجود کما هو الحال فی النهی، فإذا آمنا بمحذور اللّغویة فی جانب النهی لابدّ أن نؤمن بمحذور اللّغویة فی جانب الأمر من هذه الجهة بهذا الاعتبار، یعنی عندما یکون هناک داعٍ للفعل عند المکلّف بقطع النظر عن الأمر الشرعی، یقع الکلام فی أنّ التکلیف الوجوبی هل هو لغو، أو لیس لغواً ؟ کما یقع الکلام فی التکلیف التحریمی عندما یکون لدی المکلّف داعٍ للترک بقطع النظر عن النهی الشرعی.

یبدو أنّ محذور اللّغویة هذا یختلف عن المحاذیر الآتیة التی سنذکرها، یعنی هذا الوجه الأوّل الذی یُستدلّ به لاشتراط التکلیف بالدخول فی محل الابتلاء یختلف عن محذور الاستهجان العرفی، ویختلف عن محذور تحصیل الحاصل علی ما سیأتی، هذا محذور عقلی ولیس عقلائی، وإنّما هو محذور عقلی مرجعه إلی استحالة الخطاب باعتبار استحالة مضمونه، أنّ مضمون الخطاب لغو، أی أنّ مضمون النهی لغو، واللّغو یستحیل أن یصدر من الحکیم، فیکون محذوراً عقلیاً من هذه الجهة. هذا هو الدلیل الأوّل.

ص: 345

نوقش فی هذا الدلیل بمناقشتین:

المناقشة الأولی: یذکرها السید الخوئی(قدّس سرّه) کما هو مذکور فی(المصباح) (1) و(الدراسات) (2) وحاصل ما یقوله هو: أنّ مصلحة جعل التحریم لیس هو مجرّد حصول الترک فی الخارج، وإنّما هناک مصلحة أخری تترتب علی جعل التحریم غیر مسألة حصول الترک فی الخارج حتّی یقال إذا کان الترک حاصلاً بحسب طبع القضیة؛ فحینئذٍ لا داعی لجعل النهی، فیکون لغواً؛ بل هناک شیء آخر یتوخّاه الشارع من جعل التحریم وهو تمکین المکلّف من أن یقصد النهی الشرعی ویجعله داعیاً له إلی الترک حتّی یتقرّب بذلک إلی الله(سبحانه وتعالی) وحتّی یترقّی فی مراتب الکمال النفسی ویکون متقرباً إلیه(سبحانه وتعالی)، ومن الواضح أنّ هذا لا یکون إلاّ بجعل النهی الشرعی، وإلاّ من دون جعل نهی شرعی لا یتمکّن المکلّف أن یتقرّب بالترک إلیه(سبحانه وتعالی)؛ لأنّه لیس هناک نهی حتّی یتقرّب به إلیه، وحتّی یجعله داعیاً للترک وبذلک یکون متقرّباً إلیه(سبحانه وتعالی)، هذا إنّما یتحقق بواسطة النهی، هو یترک الفعل عادةً؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء، لکن هذا لا یعنی أنّ النهی عنه یکون لغواً وبلا فائدة؛ لأنّ فائدة النهی لا تنحصر فی تحقق الترک فی الخارج، وإنّما هناک فائدة أخری تترتّب علی النهی ویکون النهی معها معقولاً ولیس لغواً وهی مسألة تمکین المکلّف من قصد القربة بهذا النهی الشرعی، أو قل تمکین المکلّف من أن یجعل النهی الشرعی داعیاً له للترک وبذلک یتقرّب إلیه(سبحانه وتعالی)، فإذن: لا یمکن أن نقول أنّ النهی لغو، النهی لیس لغواً بالرغم من أنّ هذا الفعل هو منترک بحسب الطبع ولا یأتی به المکلّف، وعنده سبب لترکه وعدم الإتیان به، لکن هذه فائدة تترتب وعلی أساس هذه الفائدة لا یکون النهی لغواً وبلا حاصل.

ص: 346


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للسید محمد سرور الواعظ البهسودی، ج2، ص395.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص397.

اعتُرض علی هذا الجواب: بأنّ هذا قد یتمّ فی الواجبات، لکنّه لا یتم فی المحرّمات، باعتبار أنّ الفعل المحرّم إذا کان خارجاً عن محل الابتلاء، فهذا معناه أنّ المکلّف أصلاً لا تحدّثه نفسه أن یصدر منه الفعل؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء، ومن هنا لا یکون النهی صالحاً لزجر المکلّف عنه ومنعه من ارتکابه، إلا بعد أن یتصدّی المکلّف لإیجاد الرغبة النفسیة فی الفعل حتّی ینصرف عنه ببرکة النهی الشرعی، وهذا لابدّ من فرضه حتّی یکون النهی صالحاً لأن یجعله المکلّف داعیاً له للترک، لابدّ من فرض أن المکلّف یخلق رغبة فی نفسه للفعل حتّی یترک الفعل بالرغم من وجود الرغبة فیه امتثالاً للنهی الشرعی وبذلک یکون متقرّباً إلیه(سبحانه وتعالی)، فإنّ النهی یمکن أن یکون داعیاً للترک ویمکن للمکلّف أن یستند إلیه فی الترک ویقول ترکت الفعل لأجل النهی عندما یکون راغباً فی الفعل، فیکون النهی محققاً لغرضه فی هذه الحالة. إذن: لکی یحقق النهی غرضه ویخرج عن محذور اللّغویة لابدّ أن نُلزم المکلّف بأن یخلق فی نفسه رغبة فی الفعل حتّی یتمکّن من قصد القربة بهذا النهی الشرعی، وهذا ما لا یمکن الالتزام به؛ إذ لا یمکن الالتزام بأنّ المکلّف لابدّ أن یخلق رغبة فی نفسه للفعل حتّی یمکنه التقرّب بالنهی ویحقق النهی غرضه ویخرج عن کونه لغواً وبلا فائدة. یقول: أنّ هذا المعنی غیر متصوّر فی باب المحرّمات، قد یکون متصوّراً فی باب الواجبات، لکنّه فی باب المحرّمات لا یمکن تصوّره.

کأنّ المقصود بهذا الاعتراض أنّ صلاحیة النهی للداعویة للترک علی نحوٍ یکون هو الداعی للترک ویمکن للمکلّف أن یسند الترک إلی الناهی ویتقرّب به إلی الله(سبحانه وتعالی)، هذا إنّما یکون فی حال عدم وجود رغبة نفسیة من قبل المکلّف للترک، وإلاّ إذا کانت لدیه رغبة نفسیه للترک؛ حینئذٍ لا یکون النهی هو الداعی للترک؛ لأنّه لدیه رغبة نفسیة للترک، وإلا لا یکون النهی هو الداعی للترک. إذن: لکی یکون النهی داعیاً للترک ویتحقق الغرض منه ویخرج عن کونه بلا فائدة لابدّ أن یزیل المکلّف هذه الرغبة فی الترک ویستبدلها برغبةٍ فی الفعل حتّی یتحقق هذا المعنی ویکون النهی مقرباً ویتحقق الغرض منه، وهذا ما لا یمکن الالتزام.

ص: 347

جواب الاعتراض هو: أنّ صلاحیة النهی للداعویة وإسناد الترک إلیه وکونه هو السبب فی ترک الفعل لا یتوقف علی وجود رغبة فی الفعل؛ بل حتّی مع عدم وجود رغبة فی الفعل؛ بل حتّی مع فرض وجود داعٍ للترک یمکن أن یکون النهی مقرباً حتّی مع وجود داعٍ للترک الذی یمکن أن نفترض أنّه یعنی الرغبة فی الترک، فضلاً عن عدم وجود رغبة فی الفعل، ووجود رغبة فی الترک ووجود داعٍ للترک، بالرغم من هذا یمکن التقرّب به إلیه(سبحانه وتعالی) علی ضوء ما ثبت من أنّ الداعی القربی یکفی فیه أن یکون مستقلاً فی الداعویة فی حدّ نفسه حتّی إذا انظم إلیه داعٍ آخر غیر محرّم من ریاءٍ ونحوه..... حتّی إذا انظم إلیه داعٍ آخر واشترکا فی التأثیر، وکان کل منهما جزء السبب فی الترک، مع ذلک هذا النهی یکون مقرّباً ویمکن التقرّب به إلیه (سبحانه وتعالی) ویتحقق الغرض منه ولا یکون لغواً.

إذن: لا یُشترط أنّ المکلّف لابدّ أن یخلق رغبة فی نفسه؛ بل حتی إذا کانت لدیه رغبة فی الترک لوجود داعٍ للترک، مع ذلک یمکن أن یضمّه إلی الداعی الإلهی ویقصد به التقرّب إلیه(سبحانه وتعالی). من هنا یظهر أنّ الوجه الأوّل للاستدلال غیر تام.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

کان الکلام فی ما استُدل به علی اشتراط التکلیف بالدخول فی محل الابتلاء، بمعنی أنّه عندما یکون الشیء خارجاً عن محل الابتلاء، فلا یتعلّق به التکلیف؛ بل التکلیف کما هو مشروط بالقدرة العقلیة کذلک مشروط بالدخول فی محل الابتلاء. تقدّم الکلام عن الدلیل الأوّل الذی هو عبارة عن دعوی اللّغویة، أنّ التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء یعتبر لغواً وبلا فائدة، فیکون مستحیلاً صدوره من الحکیم؛ لأنّ الحکیم لا یصدر منه اللّغو. ذکرنا المناقشة الأولی فی هذا الدلیل وقد تقدّمت .

ص: 348

المناقشة الثانیة: أنّ هذا إنّما یتمّ فی الخطابات الشخصیة التی یختص بها النهی بحالة الخروج عن محل الابتلاء؛ عندئذٍ یقال بأنّ هذا الخطاب لغو وبلا فائدة، أیّ خطابٍ تأتی فیه هذه الشبهة هو الخطاب الشخصی، أی الخطاب الذی یختص بحالة الخروج عن محل الابتلاء، وأمّا إذا کان الخطاب وکان الشمول لحالة الخروج عن محل الابتلاء مستفاداً من خطابٍ عامٍ یشمل بإطلاقه حالة الخروج عن محل الابتلاء، فی هذه الحالة الظاهر أنّه لا یرد إشکال اللّغویة، وذلک لأنّ إطلاق الکلام لیس فیه مؤنة زائدة بناءً علی ما هو الصحیح من أنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القید لا لحاظ عدم القید؛ ولذا لا یکون فیه مؤنة زائدة وفعل زائد صادر من المولی المشّرع حتّی یقال أنّ فعله هذا لغو وبلا فائدة، هذا إنّما یُتصوّر عندما یکون الإطلاق فیه مؤنة زائدة وفعل زائد؛ عندئذٍ یقال أنّ هذا الأمر الزائد بلا فائدة ولغو، فیستحیل صدوره من الحکیم، أمّا حیث لا یکون فی الإطلاق مؤنة زائدة، الإطلاق هو عبارة عن لحاظ الطبیعة عند تعلّق الحکم بها، الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القید، فلا یکون فی الإطلاق مؤنة زائدة وتصرّف زائد وفعل زائد من المشرّع حتّی یقال أنّ هذا الفعل یلزم منه اللّغو، وأنّه جاء به بلا فائدة وبلا ثمرةٍ، فیکون لغواً. اللّغویة تلزم عندما یفترض اختصاص الخطاب بحالة الخروج عن محل الابتلاء، لکن عندما یکون الخطاب عامّاً لا یختص بحالة الخروج عن محل الابتلاء، یعنی یشمل حالة الخروج عن محل الابتلاء ویشمل حالة الدخول فی محل الابتلاء، یشمل المکلّف الذی یُبتلی بهذا الشیء، والمکلّف الذی لا یُبتلی به، یکون الخطاب عاماً ومجعولاً علی نهج القضیة الحقیقیة، مثل(یحرم شرب الخمر) علی نهج القضیة الحقیقیة، إذا کان الشیء خمراً یحرم شربه، هذا عام یشمل حالة الخروج عن محل الابتلاء وحالة الدخول فی محل الابتلاء، مثل هذا الخطاب لماذا یکون لغواً ؟! إطلاقه لحالة الخروج عن محل الابتلاء، قلنا هذا الإطلاق لیس فیه مؤنة زائدة ولیس تصرّفاً زائداً من المشرّع حتّی یقال أنّ هذا التصرّف زائد بلا فائدة وبلا حاصل، الإطلاق هو عبارة عن عدم لحاظ القید ولیس فیه مؤنة زائدة، فلا مجال لدعوی اللّغویة عندما یکون الخطاب عامّاً، ویُستفاد شمول التکلیف لحالة الخروج عن محل الابتلاء من الإطلاق، ومثل هذا لا تتمّ فیه دعوی اللّغویة، لو تمّت أساساً. هذه هی المناقشة الثانیة لهذا الدلیل.

ص: 349

الدلیل الثانی: دعوی الاستهجان العرفی الذی یرجع إلی دعوی القبح العقلائی، وهذا کأنّه یراد أن یقال أنّ هذا فی قبال اللّغویة المحذور الأوّل، اللّغویة ترجع إلی محذور عقلی فی الخطاب باعتبار لغویة مضمونه ولغویة مدلوله، بینما هنا یُراد أن یُدّعی الاستهجان العرفی والقبح العقلائی لخطابٍ متعلّقه خارج عن محل الابتلاء، مثل هذا الخطاب مع فرض تعلّقه بما هو خارج عن محل الابتلاء هو ممّا یستهجنه العرف، العرف یراه مستهجناً، فالدلیل هو الاستهجان العرفی، الاستهجان العقلائی للخطاب الذی یتعلّق بما هو خارج عن محل الابتلاء. هذا هو الدلیل الثانی.

هذا الدلیل، وهذا الاستهجان هل یرجع إلی اللّغویة، أو لا ؟ الاستهجان هل هو محذور مستقلّ فی قبال المحذور السابق ؟ أو هو فی واقعه یرجع إلی المحذور السابق؟ بتقریب: أنّ المحذور هو فقط اللّغویة المتقدّم سابقاً، وهو محذور عقلی علی ما قلنا، هذا هو المحذور، لکن حیث أنّ هذا المحذور بالغ من الوضوح إلی درجةٍ بحیث یکون أمراً واضحاً عند کل الناس وعند العقلاء، فالعقلاء یستهجنون الخطاب بما یکون خارجاً عن محل الابتلاء، فتکون اللّغویة هی الأساس فی استهجان العرف، بمعنی أنّ العرف لماذا یستهجن الخطاب بما هو خارج عن محل الابتلاء؟ لأنّه یراه لغواً، وبلا فائدة؛ إذ لا تترتب فائدة علیه؛ ولذا هو یستهجن مثل هذا الخطاب لکونه لغواً، فالاستهجان العرفی کأنّه راجع إلی وضوح اللّغویة عند العقلاء وعند العرف، اللّغویة لیست أمراً دقیّاً غیر واضح؛ بل هی أمر یعلمه الجمیع؛ ولذا فالعرف یستهجن مثل هذا الخطاب، وهذا الخطاب إذا کان مستهجناً عرفاً وعقلائیاً؛ فحینئذٍ لا یکون صادراً من الحکیم باعتبار کونه مستهجناً. محاولة إرجاع الاستهجان العرفی إلی محذور اللّغویة، وأنّ الاستهجان لیس هو محذور اضافی غیر ما تقدّم، وإنّما هو نفس المحذور السابق، لکن مع افتراض أنّ هذا المحذور یکون واضحاً عند العرف العام وعند العقلاء؛ فلذا یستهجنون الخطاب فی هذا المقام، هذه المحاولة لیست محاولة بعیدة ولیست مستبعدة باعتبار أنّ الاستهجان العرفی لابدّ أن ینشأ من شیءٍ من هذا القبیل، لماذا العرف یستهجن الخطاب بما لا یکون داخلاً فی محل الابتلاء ؟ لماذا یُری استهجان أن یخاطب المکلّف بحرمة شرب الماء الذی لا یبتلی به عادة ؟ یُری أنّ هذا الخطاب مستهجن علی تقدیر تسلیم الاستهجان. الظاهر أنّ منشأ الاستهجان لابدّ أن یکون شیئاً من هذا القبیل، لابدّ أنّ العرف یری أنّ هذا بلا فائدة، خطاب مثل هذا الشخص وتوجیه النهی إلیه ومنعه من شرب ذاک الإناء الذی لا یبتلی به عادةً هذا لغو وبلا فائدة؛ ولذا العرف یستهجن مثل هذا الخطاب، یعنی المقصود هو أنّه لابدّ من إرجاع الاستهجان إلی محذور اللّغویة، أو إلی المحذور الآتی فی الدلیل الثالث، وهو مسألة تحصیل الحاصل، لابدّ أنّ العرف یدرک لغویة هذا الخطاب، أو کونه تحصیلاً للحاصل کما سیأتی؛ ولذا یستهجن مثل هذا الخطاب، وأمّا افتراض أنّ الاستهجان العرفی ثابت بقطع النظر عن اللّغویة وبقطع النظر عن مسألة تحصیل الحاصل، فهذا لیس مقبولاً؛ بل الظاهر أنّه یرجع إلی أحد الأمرین، أمّا من جهة اللّغویة، وإمّا من جهة تحصیل الحاصل، فیُدّعی أنّ العرف یدرک ذلک ویعرف لزوم اللّغویة، أو یعرف لزوم تحصیل الحاصل؛ ولذا یستهجن مثل هذا الخطاب، فهو لیس محذوراً فی قبال المحاذیر السابقة والآتیة.

ص: 350

علی کل حال، لو فرضنا أنّ هذا محذور فی قبال محذور اللّغویة، وفی قبال المحذور الآتی؛ حینئذٍ یمکن أن ترِد علیه المناقشة الثانیة المتقدّمة فی الدلیل الأوّل، وهی مسألة أنّ هذا الاستهجان إنّما نسلّمه لو سلّمناه، فی الخطابات الشخصیة التی یختص الخطاب فیها بحالة الخروج عن محل الابتلاء، فیّوجّه الخطاب لشخصٍ بتحریم أن یشرب الماء الموجود فی أقصی بلاد الصین مثلاً، الذی لا یبتلی به عادةً، تخصیص هذا بالخطاب، مثل هذا الخطاب الشخصی یمکن أن نسلّم فیه مسألة الاستهجان العرفی، وأمّا إذا کان الشمول لحالة الخروج عن محل الابتلاء مستفاداً من دلیل عام، ویکون شاملاً بإطلاقه لحالة الخروج عن محل الابتلاء کما إذا کان الدلیل مجعولاً علی نهج القضیة الحقیقیة، والمخاطب به جمیع الناس ولا یختص بشخصٍ دون شخصٍ آخر ولا بحالةٍ دون حالةٍ أخری، العرف لا یری استهجاناً فی هذا الخطاب حتّی إذا کان بإطلاقه شاملاً لحالة الخروج عن محل الابتلاء، أیّ ضیرٍ فی أن یقول أنّه یحرم شرب الماء النجس، ویحرم شرب الخمر؟! وهذا یشمل بإطلاقه الخمر الذی یدخل فی محل الابتلاء والخمر الذی لا یدخل فی محل الابتلاء، لا یُری هذا الاستهجان بشکلٍ واضح کما یُدّعی.

نعم، فی حالة الخطاب الشخصی قد یُدّعی هذا الاستهجان، لکن فی حالة الخطاب العام الذی یشمل حالة الخروج عن محل الابتلاء بالإطلاق، فالظاهر أنّ هذا لا یجری فیه مسألة الاستهجان. هذه المناقشة الثانیة المتقدّمة؛ بل المناقشة الأولی المتقدّمة أیضاً یمکن أن تجری فی المقام، بمعنی أنّ العرف الذی ادُّعی أنّه یستهجن مثل هذا الخطاب، أنّ العرف إذا اطّلع علی أنّ الشارع له غرض آخر من الخطاب، وهو الغرض الذی نقلناه عن السید الخوئی(قدّس سرّه)، وهو تمکین المکلّف من أن یجعل النهی داعیاً له للتحرّک. أو بعبارة أکثر وضوحاً: تمکین المکلّف من قصد التقرّب بالنهی، فیترک الفعل امتثالاً إلی النهی، وبذلک یکون متقرباً إلیه سبحانه وتعالی، إذا اطّلع العرف علی وجود غرضٍ من هذا القبیل بالخطاب الشرعی لا یراه مستهجناً کما هو واضح؛ لماذا یکون مثل هذا الخطاب مستهجناً ؟ والحال أنّه یترتّب علیه غرض آخر غیر مسألة حصول الفعل أو الترک خارجاً حتّی یقال بأنّ هذا الترک مضمون الحصول، فلا معنی لتعلّق النهی به، وإنّما هناک غرض آخر یترتب علی الخطاب، إذا اطّلع العرف علی وجود مثل هذا الغرض؛ حینئذٍ لا یقول أنّ هذا الخطاب یکون مستهجناً حتّی فی الخطابات الشخصیة، فضلاً عن الخطابات العامّة.

ص: 351

الدلیل الثالث: مسألة لزوم تحصیل الحاصل من الخطاب والنهی الشرعی، هذا التحریک الشرعی نحو الفعل أو نحو الترک یلزم منه تحصیل الحاصل، فیکون محالاً؛ لأنّ تحصیل الحاصل محال؛ ولذا لا یمکن التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء؛ لأنّه یلزم من هذا التکلیف تحصیل الحاصل.

تفسیر لزوم تحصیل الحاصل: أنّ خلق الداعی فی نفس المکلّف للتحرّک نحو الترک مع افتراض أنّه متحرّک بطبعه نحو الترک کما هو المفروض فی مسألة الخروج عن محل الابتلاء، هذا یلزم منه تحصیل الحاصل، هذا النهی المولوی، التحریک نحو الترک بالخطاب الشرعی مع فرض وجود التحرّک وحصوله من قِبل العبد نحو الترک بحسب طبعه، هذا یجعل التکلیف تحصیلاً للحاصل؛ لأنّ الشارع إنّما جاء بالتکلیف لکی یحرّک العبد نحو الترک، لکی یخلق فی نفسه داعیاً نحو الترک، والداعی بحسب الطبع الأوّلی لهذا المکلّف نحو الترک موجود، وهو نفس خروج الفعل عن محل الابتلاء، فأنّه یعتبر سبباً للترک وداعیاً للترک، فحینما یکون الداعی للترک موجوداً وحاصلاً، یأتی الخطاب الشرعی لغرض تحصیل هذا الأمر الحاصل، فیلزم تحصیل الحاصل، والمفروض أنّه محال.

فإذن: یکون تقریب تحصیل الحاصل بالنسبة إلی خلق الداعی فی نفس المکلّف، فیقال أنّ هذا تحصیل للحاصل؛ لأنّ الداعی للمکلّف نحو التحرّک موجود أساساً، فیأتی الخطاب لکی یکوّن هذا الداعی ویحصّله، فیلزم من التکلیف تحصیل الحاصل، فیکون محالاً.

حینئذٍ: الکلام فی أنّه هل ترِد علیه المناقشة الأولی المتقدّمة للدلیل الأوّل، وهی مسألة أنّ الغرض من الخطاب هو تمکین المکلّف من قصد التقرّب به ؟ هذه المناقشة هل تجری هنا فی المقام ؟ بأن یقال بأنّه لا یلزم تحصیل الحاصل عندما یکون هناک غرض من التکلیف والخطاب غیر مسألة حصول الفعل فی الخارج، وإنّما الغرض هو تمکین المکلّف من قصد التقرّب بالخطاب، وهذا لیس حاصلاً بقطع النظر عن النهی حتّی یقال بأنّ النهی تحصیل للحاصل، تمکین المکلّف من التقرّب بالنهی إلی المولی سبحانه وتعالی بالترک لیس حاصلاً بقطع النظر عن النهی؛ لأنّه یحصل بالنهی، فإذن: لا یلزم من النهی تحصیل الحاصل، فیکون جواباً عن المحذور الثالث الذی هو مسألة تحصیل الحاصل، أنّ هذا إنّما یتم عندما لا یکون هناک غرض آخر من النهی، وإنّما الغرض هو فقط خلق الداعی فی نفس المکلّف، فیقال أنّ هذا الداعی للتحرّک موجود عند المکلّف، فیکون التکلیف تحصیلاً للحاصل. هذا صحیح. أمّا عندما یکون هناک غرض آخر من الخطاب وهو تمکین المکلّف من التقرّب؛ فحینئذٍ لا یلزم تحصیل الحاصل من هذا التکلیف والنهی. ورود هذه المناقشة لیس واضحاً علی لزوم تحصیل الحاصل بالتقریب الذی ذکرناه، وذلک باعتبار أنّ التقریب الذی ذکرناه یدّعی بأنّ التکلیف یکون محالاً ویلزم منه تحصیل الحاصل؛ لأنّه یستحیل أن یکون هذا التکلیف محصّلاً للداعی للتحرّک مع فرض أنّ هذا الداعی للتحرّک موجود فی نفس المکلّف وبقطع النظر عن النهی، الداعی للتحرّک موجود عند المکلّف بطبع القضیة، بافتراض أنّ الفعل خارج عن محل الابتلاء هذا التحرّک موجود عند المکلّف للترک بطبع القضیة، فیأتی التکلیف ویرید أن یخلق داعیاً للتحرّک نحو الترک، هذا یلزم منه تحصیل الحاصل. بناءً علی هذا التقریب، جعل داعویة التکلیف ومحرّکیته یکون محالاً حینئذٍ؛ لأنّه یلزم منها تحصیل الحاصل، الداعویة تکون مستحیلة، المحرّکیة للتکلیف تکون مستحیلة؛ لأنّه یلزم منها هذا المحذور العقلی، ومن الواضح أنّ الداعویة إذا کانت مستحیلة ومحرّکیة التکلیف للعبد مستحیلة؛ حینئذٍ کیف یمکن أن نقول أنّ الغرض من هذا التکلیف هو تمکین المکلّف من قصد القربة، وقصد القربة هو عبارة أخری عن محرّکیة التکلیف، وداعویة التکلیف، فإذا کانت المحرّکیة والداعویة مستحیلة؛ لأنّها تحصیل للحاصل، إذن: ما معنی أن نجیب عن هذا الإشکال ونقول بأنّ هناک غرضاً آخراً من التکلیف وهو تمکین المکلّف من قصد القربة ؟! القائل بتحصیل الحاصل یقول أنّ الداعویة مستحیلة، ویستحیل أن یکون هذا التکلیف داعیاً للعبد للتحرّک نحو الترک؛ لأنّه تحصیل للحاصل؛ لأنّ کون الغرض من هذا التکلیف هو خلق الداعی فی نفس العبد هو تحصیلاً للحاصل؛ لأنّ الداعی موجود، فتکون داعویة التکلیف مستحیلة، فإذا کانت داعویة التکلیف مستحیلة، کیف یمکن أن نمکّن العبد من أن یقصد التقرّب بهذا التکلیف ؟! قصد التقرّب بهذا التکلیف هو عبارة أخری عن کون التکلیف داعیاً ومحرّکاً للعبد نحو الترک، والمفروض بناءً علی هذا المحذور أنّ هذا محال. نعم، هذه المناقشة ترِد إذا قرّبنا تحصیل الحاصل بتقریبٍ آخر یرتبط بالمولی نفسه لا بالعبد، بأن یقال فی مقام تقریب إشکال تحصیل الحاصل بأن نلتفت للمولی نفسه ونقول بأنّ المولی یستحیل أن یکلّف العبد بما هو خارج عن محل الابتلاء؛ باعتبار أنّ هذا التکلیف یلزم منه طلب الحاصل، یعنی یستحیل أن ینخلق فی نفس المولی بجعله الخطاب الدعوة إلی الترک مع فرض وجود الداعی للترک عند المکلّف بقطع النظر عن النهی، فالاستحالة ترتبط بالمولی، المولی یستحیل أن یجعل خطاباً لغرض خلق الداعی فی نفس العبد، مستحیل أن یصدر خطاب من نفس المولی لغرض خلق الداعی للتحرّک عند العبد؛ حینئذٍ یمکن أن تأتی المناقشة السابقة، فیقال: لیکن جعل الخطاب من قِبل المولی لغرض خلق الداعی فی نفس العبد، لیکن محالاً، لکن أیّ ضیرٍ فی أن یجعل المولی الخطاب لغرضٍ آخرٍ ؟ أیّ ضیرٍ فی أن یجعل المولی الخطاب لغرض تمکین المکلّف من قصد التقرّب ؟ هذا لا ضیر فیه، ولا یلزم منه استحالة الداعویة والمحرّکیة، المولی لا ینقدح فی نفسه مثل هذا الداعی، لکن هناک غرض وداع آخر قد یدعوه لجعل هذا الخطاب الشرعی وهو تمکین المکلّف من قصد التقرّب، فالمحذور إنّما یرِد علی التقریب الثانی الذی ذکرناه لا علی التقریب الأوّل ولا یبعُد أن یکون مقصودهم من أصل المحذور وهو تحصیل الحاصل هو التقریب الأوّل الذی ذکرناه، هذه القضیة ترتبط بالعبد، العبد عنده داعٍ للتحرّک، فیستحیل جعل الخطاب لغرض تحصیل هذا الداعی؛ لأنّ تحصیل هذا الداعی یُعتبر تحصیلاً للحاصل.

ص: 352

علی کل حال، سواء وردت المناقشة المتقدّمة علی هذا التقریب، أو لم ترِد، یمکن أن یُجاب عن أصل المحذور الذی هو تحصیل الحاصل، یمکن أن یجاب عنه بهذا الجواب: تارةً نفترض أنّ تحصیل الحاصل الذی یُذکر کمحذور لا یُراد به المعنی الدقّی والفلسفی لتحصیل الحاصل، وإنّما یُراد به المعنی العرفی لتحصیل الحاصل. وهذا فی الحقیقة رجوع إلی محذور اللّغویة ولیس شیئاً آخر غیر محذور الاستهجان ومحذور اللّغویة؛ لأنّه لا یُراد بتحصیل الحاصل المعنی الدقّی للکلمة، وإنّما هو شیء یرجع إلی اللّغویة؛ وحینئذٍ تأتی الأجوبة السابقة التی نوقش فیها هذا المحذور علی ما تقدّم سابقاً.

لکن عندما یُجعل تحصیل الحاصل فی قِبال تلک الوجوه، کأنّه یُراد به معنیً آخر، یُراد به المعنی الدقّی والفلسفی لتحصیل الحاصل، إذا کان هذا هو المراد کما هو غیر بعید؛ حینئذٍ یقال: أنّ المحذور العقلی هو عبارة عن تحصیل الشیء بعد فرض حصوله، تحصیل الشیء فی طول حصوله محال، هذا فرضنا حصوله، فما معنی تحصیله ؟! غیر معقول تحصیل ما هو حاصل، والتحصیل فی طول الحصول محال، هذا المعنی الدقّی لمحذور تحصیل الحاصل، لکن هل هذا لازم فی محل الکلام، أو لا یلزم فی محل الکلام ؟ بمعنی أنّه فی محل الکلام هل الخطاب والنهی الشرعی إذا جُعل لغرض إیجاد الداعی للتحرّک نحو الترک، هل یلزم من هذا الخطاب محذور تحصیل الحاصل ؟ بمعنی أنّه تحصیل لما هو حاصل بالفعل، تحصیل فی طول الحصول حتّی یکون محالاً، أو هو تحصل لشیءٍ هو فی عرض حصول شیءٍ آخر، ولیس فی طوله، وإنّما هو تحصیل آخر للشیء فی عرض تحصیله، لا أنّه تحصل لما هو حاصل بالضبط حتّی یکون محالاً؛ لأنّه یدخل فی باب تحصیل ما هو حاصل، وتحصیل الشیء فی طول حصوله ؟ کلا، لیس هکذا، وإنّما المکلّف عنده داعٍ للتحرّک بحسب طبعه، وبمجرّد افتراض خروج المورد عن محل الابتلاء، هذا صحیح، وما یرید الخطاب تحصیله لیس هو هذا، ما یرید الخطاب تحصیله هو إیجاد داعٍ آخر للتحرّک عند العبد فی عرض الداعی الموجود والمفروض حصوله، لا أنّه یرید تحصیل نفس ما هو حاصل حتّی یکون محالاً؛ لأنّه یدخل فی باب تحصیل ما هو حاصل، والتحصیل فی طول الحصول محال، هو لا یرید ذلک، الخطاب الشرعی یرید أن یوجد محرّکاً آخراً للعبد نحو الترک مع فرض وجود محرّکٍ له نحو الترک بحسب طبعه، هو یوجد هذا المحرّک فی عرض هذا المحرّک، یوجد هذا الداعی فی عرض الداعی المفروض وجوده ولیس فی طوله حتّی یلزم منه تحصیل الحاصل، فالمحذور بمعناه الدقیق لا ینطبق علی محل الکلام.

ص: 353

وبعبارةٍ أخری: أنّ الداعی المفروض حصوله فی المقام هو داعی تکوینی، داعی طبعی ینشأ من کون القضیة خارجة عن محل الابتلاء، بینما المدّعی حصوله بالخطاب الشرعی هو الداعی التشریعی لا الداعی التکوینی، الخطاب الشرعی یحصّل الداعی التشریعی لغرض تحصیل إیجاد داعٍ تشریعی فی نفس المکلّف للتحرّک، إذن: هذا غیر ذاک، فی الخطاب الشرعی لا یُراد تحصیل نفس ما هو حاصل حتّی یقال بأنّه محال، وإنّما یُراد خلق داعٍ آخر فی عرض الداعی الموجود والمفروض حصوله، ومثل هذا لا یدخل فی باب تحصیل الحاصل. ومن هنا یظهر أنّ هذه المحاذیر التی ذُکرت فی تعلّق التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء لیست واضحة ولا یمکن جعلها مدارک للالتزام بالاشتراط وأنّ التکلیف مشروط بالدخول فی محل الابتلاء وأنّه یرتفع عند خروج متعلّقه عن محل الابتلاء.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

کان الکلام فی ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) من أنّ الانحلال فی محل الکلام بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء انحلال حکمی ولیس انحلالاً حقیقیاً، وعلیه یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لأنّ الأصل المؤمّن یجری فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء بلا معارض، ولا یجری فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء. قلنا أنّ هذا الذی ذکره یعتمد علی تسلیم جملة من الأمور، ذکرنا الأمر الأوّل، وهو الالتزام بمسلک الاقتضاء، والأمر الثانی وهو الالتزام بالنظریة التی یؤمن بها السید الشهید(قدّس سرّه)، وهی مسألة التزاحم الحفظی وأنّ الأحکام الظاهریة هی لتحدید الموقف العملی تجاه هذا التزاحم، وإلاّ کما بیّنّا لا یتم الکلام السابق.

ص: 354

الأمر الثالث: الذی تتوقّف علیه تمامیة ما ذُکر هو أن نؤمن بأنّ العرف یعتبر الطرف الخارج عن محل الابتلاء کالطرف الخارج عن القدرة، فکما لا یتعقّل التزاحم بین الغرض اللّزومی والغرض الترخیصی فی الطرف الخارج عن القدرة؛ ولذا لا معنی لجریان الأصل المؤمّن فیه، کذلک العرف لا یتعقّل التزاحم بین الغرض اللّزومی والغرض الترخیصی فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فی کلٍ منهما العرف لا یتعقّل التزاحم، فإذا لا یتعقّل التزاحم؛ فلذا تکون الأدلّة منصرفة عن الطرف الخارج عن محل الابتلاء، هذا الشیء لابدّ أن نؤمن به حتّی یتمّ هذا الکلام، ویقال: بناءً علی مسلک الاقتضاء، وبناءً علی النظریة التی یؤمن بها السید الشهید(قدّس سرّه)؛ حینئذٍ یقال أنّ التزاحم بین الغرض اللّزومی والغرض الترخیصی فی المورد الخارج عن محل الابتلاء غیر مقبول عرفاً، فإذا لم یکن هناک تزاحم؛ فحینئذٍ لا معنی لجعل الحکم الظاهری؛ لأنّ الحکم الظاهری إنّما یُجعل حیث یکون هناک تزاحم، وهو یحدد الموقف العملی تجاه هذا التزاحم، أمّا حیث لا یکون هناک تزاحم، فلا معنی للحکم الظاهری الترخیصی، وعلیه یجری الأصل فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء بلا معارضٍ، وأمّا إذا قلنا أنّ العرف یری الفرق بین ما هو خارج عن القدرة وبین ما هو خارج عن محل الابتلاء، ومنشأ التفریق عند العرف هو أنّ الغرض اللّزومی فی محل الکلام، فی الفرد الخارج عن محل الابتلاء هو فعلی، باعتبار أنّه مقدور عقلاً، وإنّما هو خارج عن محل الابتلاء، وإلاّ القدرة العقلیة محفوظة وموجودة، إذن: الغرض اللّزومی فعلی فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، ومقدور عقلاً ویمکن أن یصدر من المکلّف، یمکن أن یقع المکلّف فی المفسدة؛ لأنّه یمکنه أن یرتکب الطرف الخارج عن محل ابتلائه، الإمکان العقلی موجود، إذن هذا الفعل الخارج عن محل الابتلاء یمکن أن یصدر من المکلّف والغرض فیه فعلی والتکلیف فیه أیضاً فعلی؛ لأنّ هذه هی النتیجة التی وصلنا إلیها، أنّ التکلیف لیس مشروطاً بالدخول فی محل الابتلاء؛ بل هو ثابت حتّی فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، وهذا معناه أنّه فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء التکلیف فعلی، والملاک والغرض فعلی، ویمکن صدور ذلک الفعل من قبل المکلّف، وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء، وهذا بخلاف الخارج عن القدرة، نحن نرید أن نقول أنّ العرف یری الفرق بین ما هو خارج عن القدرة وبین ما هو خارج عن محل الابتلاء، الغرض اللّزومی فی ما هو خارج عن القدرة لیس فعلیاً، التکلیف فیه لیس فعلیاً، ولا إمکان لصدوره من قبل المکلّف، مثل هذا الغرض اللّزومی الذی هو لیس فعلیاً ولا یمکن أن یصدر من المکلّف، کیف لا یمکن أن نفرّق بینه وبین غرضٍ لزومیٍ فعلیٍ فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، والفعل والغرض یمکن أن یقع من قبل المکلّف، هناک فرق بینهما، لیس من الواضح أنّ العرف یری أنّ الطرف الخارج عن محل الابتلاء هو کالطرف الخارج عن القدرة، فی مقام التعامل معه بحیث یؤثّر هذا علی عدم تعقّل وقوع التزاحم بین هذا الغرض اللّزومی الفعلی الذی یمکن صدوره من قبل المکلّف، وبین الغرض الترخیصی، هذه القضیة لیست واضحة، ما دام الغرض اللّزومی یمکن صدوره من قبل المکلّف؛ لأنّ الفعل یمکن أن یصدر من المکلّف ویقع فی المفسدة، ولو علی نحو الندرة وخلاف العادة، لکن بالنتیجة الغرض یمکن أن یصدر من قبل المکلّف، والغرض فعلی والتکلیف فعلی، وإمکان الصدور موجود، ففی هذه الحالة لماذا لا یقع التزاحم بین الغرض اللّزومی إذا کان ممّا یهتم به الشارع، وبین الغرض الترخیصی فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، التزاحم یکون معقولاً ولیس غیر مقبول من قبل العرف، العرف إذا التفت إلی هذه الجهات، بأن کان التکلیف فعلیاً والغرض فعلی والملاک فعلی؛ لأنّه لا التکلیف ولا الغرض مشروط بالدخول فی محل الابتلاء، فالتکلیف فعلی والغرض فعلی، وإمکان الصدور أیضاً محفوظ، فالعرف یتعقّل التزاحم، فیقول أنّ هناک تزاحماً فی مقام الحفظ بین الغرض اللّزومی وبین الغرض الترخیصی، فالشارع إذا کان یهتم بالغرض اللّزومی ویرید أن لا یقع هذا الغرض اللّزومی وهذه المفسدة من قبل المکلّف فسوف یجعل الاحتیاط خوفاً من أن یقع المکلّف فی المفسدة الواقعیة، ولو علی خلاف العادة، وبهذا یقدّم الغرض اللّزومی علی الغرض الترخیصی ویفوّت علی المکلّف مصلحة إطلاق العنان، بینما إذا فرضنا العکس، وأنّ الشارع کان یهتم بالغرض الترخیصی؛ فحینئذٍ قهراً سوف یجعل الأصل المؤمّن، ویجعل البراءة وبهذا یقدّم الغرض الترخیصی علی الغرض اللّزومی، التزاحم بینهما معقول ولیس علی حد عدم معقولیة التزاحم فی الطرف الخارج عن القدرة، هناک لا الغرض فعلی ولا التکلیف فعلی، إمکان الصدور غیر موجود أصلاً، فکیف یقبل العرف أن یقع التزاحم بین غرضٍ لزومی من هذا القبیل لا یمکن أن یصدر من المکلّف وبین غرضٍ ترخیصیٍ، فلا تزاحم بینهما، بینما فی محل الکلام التزاحم لیس مستبعداً؛ بل هو أمر معقول؛ وحینئذٍ بناءً علی ذلک، حتّی لو سلّمنا مسلک الاقتضاء وسلّمنا النظریة التی یؤمن بها، فلا نصل إلی النتیجة التی یرید الوصول إلیها، وهی أنّ الأصل المؤمّن یجری فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء بلا معارض؛ بل الظاهر أنّه لا مانع من شمول أدلّة الأصول العملیة للطرف الخارج عن محل الابتلاء من هذه الجهة، یعنی من جهة أنّ جعل الترخیص الظاهری منوط بوقوع التزاحم وتعقّل التزاحم بین الأغراض الترخیصیة والأغراض اللّزومیة فی موردٍ حتّی یُعقل جعل الترخیص الظاهری، حتّی بناءً علی ذلک، فنقول: أنّ التزاحم معقول فی المقام، والعرف لا یأبی هذا التزاحم حتّی مع فرض عدم حصول ذلک الفعل عادةً، أیّ ضیرٍ فی أن نفترض أنّ الغرض اللّزومی ممّا یهتم به الشارع اهتماماً کثیراً بحیث یرید منع المکلّف من الوقوع فیه حتّی علی خلاف العادة، فیکون مزاحماً للغرض الترخیصی ؟ وحینئذٍ یمکن أن یقال بأننا حتّی إذا سلّمنا الأمر الأوّل، سلّمنا مسلک الاقتضاء کما هو الصحیح، وسلّمنا نظریة التزاحم الحفظی التی یؤمن بها السید الشهید(قدّس سرّه)، مع ذلک هذا لا ینتج النتیجة التی یریدها؛ لأنّ النتیجة التی یریدها تتوقّف علی دعوی عدم تعقّل التزاحم بین الغرض الترخیصی والغرض اللّزومی فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء عرفاً، العرف لا یتعقّل، وإلاّ هو اعترف أنّه بالدقّة هناک تزاحم بین الغرض الترخیصی والغرض الإلزامی، لکن یقول العرف لا یتعقّل ذلک، ویکون هذا هو السبب فی عدم شمول أدلّة الترخیص الظاهری للطرف الخارج عن محل الابتلاء وانصرافها عنه، إذا تأمّلنا فی هذا، الظاهر أنّه لا مانع من الالتزام بشمول أدلّة الأصول لذلک الطرف.

ص: 355

أمّا مسألة أنّ الغرض اللّزومی مضمون الحصول کما ذکر، وبمجرّد افتراض أنّه خارج عن محل الابتلاء یکون مضمون الحصول، فلا یُزاحم الغرض الترخیصی، الظاهر أنّ هذا لا یمنع من تعقّل التزاحم بینهما بالنظر العرفی؛ لأنّ هذا مضمون الحصول عادة ولا نستطیع أن نقول أکثر من هذا، مضمون الحصول یعنی أنّ المکلّف لا یقع فی المفسدة؛ لأنّه لا یصدر منه الفعل عادة، فلا یقع فی المفسدة.

أقول: هو مضمون الحصول عادة لا عقلاً کما هو المفروض، ولا نستطیع أن نقول أکثر من أنّه مضمون الحصول عادةً، لکن هو یبقی غیر مضمون الحصول عقلاً، یعنی هذا المطلب الذی قلناه، أنّه یمکن أن یصدر من المکلّف، ویمکن أن یقع المکلّف فی المفسدة؛ لأنّ الفعل یمکن أن یصدر من المکلّف، ولو علی خلاف العادة، نحن لا نرید بالخروج عن محل الابتلاء الخروج عن محل الابتلاء العادی، وإنّما مجرّد أنّه خارج عن محل الابتلاء، أی لا یبتلی به عادةً، إذن: هو وإن کان مضمون الحصول عادةً، لکنّه لیس مضمون الحصول عقلاً، وهذا لا یمنع من تعقّل التزاحم بین الغرض الترخیصی وبین الغرض اللّزومی فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء.

قد یقال: جعل الحکم الظاهری الترخیصی فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء لغو وبلا فائدة، أیّ فائدة تترتب علی جعل الحکم الظاهری الترخیصی فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء ؟ باعتبار ما تقدّم فی الطرف الخارج عن القدرة، هناک تقدّم سابقاً بأنّه لا مجال لجعل الترخیص الظاهری فیه؛ لأنّه لا معنی ولا محصّل لإطلاق العنان تشریعاً فی مورد تقیید العنان تکویناً، عندما یکون المکلّف مقیّد العنان تکویناً؛ حینئذٍ لا معنی لإطلاق العنان له تشریعاً، الترخیص الظاهری الذی نتکلّم عنه یمثّل إطلاق العنان تشریعاً، لکن حیث یکون المکلّف مقیّداً وغیر قادر علی الفعل تکویناً لا معنی لإطلاق العنان له تشریعاً. نفس الفکرة التی ذُکرت فی المورد الخارج عن القدرة قد تُدّعی فی محل الکلام، فیقال: بأنّ المکلّف هنا أیضاً مقیّد تکویناً بخروج الطرف عن محل الابتلاء، فلا مجال ولا معنی لإطلاق العنان له تشریعاً، یعنی یکون جعل الترخیص الظاهری فی حقّ من لا یتمکّن من الفعل عادةً کجعل الترخیص الظاهری فی حقّ من لا یتمکّن من الفعل عقلاً، فی کلٍ منهما یلزم لغویة هذا الجعل، ویکون هذا الجعل بلا فائدة.

ص: 356

أقول: إذا استُشکل فی شمول دلیل الأصل المؤمّن للطرف الخارج عن محل الابتلاء بلزوم اللّغویة، فأولاً: أنّ هذه اللّغویة قد تکون واضحة فی ما تقدّم فی الخروج عن القدرة، هذه اللّغویة واضحة قطعاً، ولا محصّل لإطلاق العنان تشریعاً فی ظرف عدم قدرة المکلّف علی الفعل، فاللّغویة وعدم الفائدة ولا محصل ولا معنی لهذا الجعل واضح، وأمّا فی محل الکلام، فهو غیر واضح؛ وذلک لنفس النکتة السابقة، حیث قلنا أننا فرضنا إمکان الصدور وتوفّر القدرة العقلیة علی الفعل، صحیح أنّ هذا الفعل لا یصدر منه عادةً، لکنّه یمکن أن یصدر منه علی خلاف العادة، ومن هنا لیس هناک وضوح فی لغویة جعل الحکم الترخیصی بالنسبة إلی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، ویُضاف إلی ذلک أنّ محذور اللّغویة یمکن تجاوزه بما تقدّم الإشارة إلیه فی مسألة التکلیف، وهو أنّه یمکن تجاوزه بافتراض خطابٍ عام، یعنی بافتراض خطابٍ عامٍ یشمل الطرف الخارج عن محل الابتلاء بإطلاقه، وقلنا سابقاً أنّ الإطلاق لیس فیه مؤنة زائدة، ولیس تصرّفاً زائداً من قبل المولی حتّی یقال أنّ هذا التصرّف بلا فائدة، هو بالإطلاق یشمل الطرف الخارج عن محل الابتلاء بأن نفترض أنّ الحکم الظاهری یُجعل جعلاً عامّاً ویشمل بإطلاقه الطرف الداخل فی محل الابتلاء والطرف الخارج عن محل الابتلاء وبذلک یرتفع محذور اللّغویة؛ لأنّ الإطلاق لیس فیه مؤنة زائدة حتّی یقال کیف أعمل هذه المؤنة الزائدة ؟ وأی غرضٍ وأی فائدة تترتب علی هذه المؤنة الزائدة ؟ کلا الأمر لیس هکذا، فیمکن تجاوز ذلک بافتراض أنّ الحکم الظاهری مجعول جعلاً عامّاً ویشمل الطرف الخارج عن محل الابتلاء بالإطلاق.

ص: 357

یتبیّن ممّا تقدّم: أنّ أصل المطلب الظاهر أنّه لا مانع من تعلّق التکلیف بالطرف الخارج عن محل الابتلاء وأنّ الدخول فی محل الابتلاء لیس من شرائط فعلیة التکلیف، وبذلک یختلف الخروج عن محل الابتلاء عن الخروج عن القدرة، الدخول فی القدرة شرط فی التکلیف، لکن الدخول فی محل الابتلاء لیس شرطاً فی التکلیف، هذا تبیّن ممّا تقدّم، وقلنا بأنّ الأدلّة التی استُدلّ بها علی ذلک هی لیست ناهضة لإثبات الاشتراط، لا اللّغویة ولا محذور تحصیل الحاصل ولا محذور الاستهجان العرفی، إذن: لا مانع من إطلاق التکلیف وشموله للطرف الخارج عن محل الابتلاء، وهذا ینتج أنّ العلم الإجمالی غیر منحل حقیقة، بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء لا یکون العلم الإجمالی منحلاً انحلالاً حقیقیاً، لا زلنا نعلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، سواء کان فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، أو فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فالعلم الإجمالی لا یسقط عن المنجّزیة من جهة الانحلال الحقیقی. وأمّا مسألة الانحلال الحکمی، فهی تتوقّف علی ما ذُکر من بیان، وقلنا بأنّ هذا أیضاً لیس واضحاً عندنا حتّی لو سلّمنا بعض الأصول الموضوعیة التی یتوقف علیه، فالنتیجة لا یمکن الالتزام بها، وبناءً علی هذا؛ حینئذٍ نصل إلی هذه النتیجة: أنّ العلم الإجمالی یبقی علی تنجیزه بالرغم من خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، وهذا لا یُفرّق فیه بناءً علی هذه النتیجة بین أن یکون الخروج عن محل الابتلاء متقدّماً علی العلم الإجمالی، أو مقارناً له، أو متأخّراً عنه، فی کل هذه الحالات یبقی العلم الإجمالی علی منجّزیته ویمنع المکلّف من ارتکاب الطرف الداخل فی محل الابتلاء حتّی لو کان الخروج عن محل الابتلاء متقدّماً علی العلم الإجمالی، أو مقارناً له، حتّی فی هذه الصورة یبقی العلم الإجمالی علی منجّزیته؛ إذ لا موجب لسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة لعدم الانحلال الحقیقی لهذا العلم الإجمالی وعدم الانحلال الحکمی، وهذه النتیجة تخالف ما هو المعروف فی هذه المسألة.

ص: 358

الشک فی الدخول فی محل الابتلاء وعدم الدخول

طرحوا هذه المسألة: إذا شککنا بأنّ هذا الطرف داخل فی محل الابتلاء، أو لیس داخلاً فی محل الابتلاء، فما هو الحکم فی صورة الشک ؟ وقسّموا الشک بأنّ الشبهة تارةً تکون مصداقیة، وتارة تکون مفهومیة. ومن الواضح أنّ أصل هذا البحثیتوقّف علی الالتزام فی البحث السابق بأنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، إمّا بدعوی الانحلال الحقیقی، أو بدعوی الانحلال الحکمی، لکن بالنتیجة یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء.

إذا کان لدینا علم إجمالی نعلم بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء یسقط عن المنجّزیة بناءً علی ما تقدّم، أمّا إذا شککنا بأنّ هذا الطرف نحتمل أنّه خارج عن محل الابتلاء ونحتمل أنّه لیس خارجاً عن محل الابتلاء، إذا کان خارجاً عن محل الابتلاء، فالعلم الإجمالی یسقط عن التنجیز، وإن لم یکن خارجاً عن محل الابتلاء فالعلم الإجمالی باقٍ علی تنجیزه، فماذا نصنع فی مثل هذا الشک ؟

وأمّا إذا أنکرنا فی البحث السابق سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز حتّی بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، أی حتّی إذا قطعنا بأنّ هذا الطرف خارج عن محل الابتلاء، العلم الإجمالی باقٍ علی تنجیزه؛ حینئذٍ یکون هذا البحث مستدرک، ولا معنی للکلام فیه، أنّه عندما نشک فی أنّ هذا الطرف خارج عن محل الابتلاء، أو لیس خارجاً عن محل الابتلاء، ماذا نعمل ؟ نحن نقول إذا قطعنا بخروج الطرف عن محل الابتلاء، فالعلم الإجمالی باقٍ علی تنجیزه للطرف الداخل فی محل الابتلاء ولا یسقط عن المنجّزیة. ومن هنا یکون هذا البحث مبتنیاً علی القول بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز عند خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء.

ص: 359

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

کان البناء أن ندخل فی بحث الشک فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو دخوله، وما هو حکم هذا الشک ؟ لکن الظاهر أنّ هناک مطلباً لابدّ من ذکره قبل الدخول فی بحث الشک؛ فلذا نؤجل البحث عن الشک بعد ذلک.

المطلب أثاره المحقق النائینی(قدّس سرّه) حیث ذکر کما فی (فوائد الأصول) (1) أنّ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء کما یکون لعدم القدرة العادیة علی التصرّف فیه، کذلک یکون لعدم القدرة الشرعیة علیه، ویمثّل لخروج بعض الأطراف عن القدرة الشرعیة بما إذا کان هناک إناءان نعلم بأنّ أحدهما نجس، وفی نفس الوقت نعلم علماً تفصیلیاً بأنّ أحدهما المعیّن مغصوب، فکأنّه نعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما ونعلم تفصیلاً بغصبیة أحدهما المعیّن وکونه ملکاً للغیر. المحقق النائینی(قدّس سرّه) یقول: نلحق خروج بعض أطراف العلم الإجمالی عن القدرة الشرعیة بخروجه عن القدرة العادیة، فکل ما نلتزم به من جهة تنجیز العلم الإجمالی وعدم منجّزیته عندما یخرج أحد الأطراف عن القدرة کذلک نلتزم به عندما یخرج بعض الأطراف عن القدرة الشرعیة، بأن یتعلّق النهی الشرعی بأحد الطرفین المعیّن، هذا مغصوب، فتعلّق به النهی الشرعی، وعندی علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین، فهو ألحق غیر المقدور شرعاً بغیر المقدور عقلاً وعادةً، وذکر فی مقام تعلیل هذا الالحاق بأنّ عدم القدرة الشرعیة علی التصرّف فی ذاک الطرف هو فی حکم عدم القدرة العادیة علی التصرّف فیه من جهة استهجان التکلیف بالاجتناب عنه؛ لأنّه متروک أساساً وهو غیر قادر علیه أساساً، وکونه غیر قادر علیه شرعاً أیضاً کذلک، إذا کان غیر قادر علیه شرعاً، فهو حرام باعتبار کونه مغصوباً، فتعلّق النهی به من جهة النجاسة یکون مستهجناً. وقال: أنّ تعلّق النهی بهذا الطرف یوجب سلب القدرة عنه، فالأصل المؤمّن لا یجری فیه ویجری فی الطرف الآخر بلا معارض، وبالتالی یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، کما یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز عندما یکون أحد أطرافه خارجاً عن القدرة العقلیة، وکما یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز عندما یکون أحد أطرافه خارجاً عن القدرة العادیة، والتی تُسمّی بالخروج عن محل الابتلاء، عنده یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لأنّه لا یصح التکلیف به؛ لأنّه لا یصح التکلیف بذاک الطرف الخارج عن محل الابتلاء، أو الخارج عن القدرة، أو الخارج عن القدرة الشرعیة، ما دام هو خارج عن القدرة الشرعیة أیضاً یکون التکلیف به مستهجناً، ما دام هو حرام؛ لأنّه مغصوب، فما معنی أن یتعلّق به النهی من جهة النجاسة ؟ وبالتالی هذا یعنی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ بل یعنی بالحقیقة انحلال العلم الإجمالی بنجاسة أحدهما؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة فی الطرف المغصوب، فلا نهی عنه من حیث النجاسة، فلا علم بالحرمة من جهة النجاسة علی کل تقدیر، فینحل العلم الإجمالی. ونحو هذا البیان أیضاً ذکره فی(أجود التقریرات). (2)

ص: 360


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص65.
2- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج2، ص255.

کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) هذا واضح جدّاً فی أنّه یرید أن یدّعی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی حالة خروج أحد أطرافه عن القدرة الشرعیة باعتبار الانحلال، کما هو الحال فی حالة خروج بعض أطرافه عن القدرة العقلیة أو العادیة، العلم الإجمالی ینحل انحلالاً حقیقیاً؛ لأنّه لا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر والمنشأ هو أنّ التکلیف مستهجن بالفرد الخارج عن القدرة العقلیة، وبالفرد الخارج عن القدرة العادیة، وبالفرد الخارج عن محل الابتلاء، وکذلک بالفرد الخارج عن القدرة الشرعیة، التکلیف به مستهجن، فإذا سقط التکلیف عنه؛ فحینئذٍ لا علم إجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ حینئذٍ لا تکلیف به من جهة العلم الإجمالی، من جهة النجاسة، فینحل العلم الإجمالی، وبهذا یسقط عن التنجیز من جهة الانحلال الحقیقی علی النحو الذی تقدّم فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو خروج بعض الأطراف عن القدرة العقلیة.

وبعبارةٍ أخری: کأنّه یرید أن یقول: کما أنّ الخارج عن القدرة لا یُعقل تعلّق التکلیف بفعله کذلک لا یعقل أن یتعلّق التکلیف بترکه، لا یُعقل أن یتعلّق النهی بترک أمرٍ غیر مقدورٍ للمکلّف لما تقدّم من أنّ النهی إنّما هو لغرض إحداث الداعی فی نفس المکلّف للترک، وإحداث الداعی فی نفس المکلّف للترک إنّما یُعقل عندما یُفترض إمکان أن تنقدح إرادة فی نفس المکلّف للفعل؛ عندئذٍ یکون النهی لغرض إحداث الداعی للترک معقولاً جدّاً، أمّا حیث لا یمکن أن تنقدح إرادة الفعل فی نفس المکلّف لکونه غیر مقدور عقلاً، أو غیر مقدور عادةً، أصلاً لا یمکن أن تنقدح فی نفس العبد إرادة للفعل حتّی یقال یُعقل جعل النهی لغرض إحداث الداعی للترک، هو لا تنقدح فی نفسه إرادة الفعل، فمن هنا یکون النهی عن غیر المقدور أیضاً غیر معقول، التکلیف بالفعل أو الترک بالنسبة إلی غیر المقدور یکون غیر معقول، کأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یرید أن یطبّق هذه الفکرة فی محل الکلام کما طبّقها فی الخروج عن محل الابتلاء، هناک أیضاً قالوا بأنّ التکلیف لا یتعلّق بالفرد الخارج عن محل الابتلاء؛ لأنّ النهی إنّما هو لغرض إحداث الداعی فی نفس العبد للترک، والمفروض أنّ هذا منترک بنفسه وبطبعه؛ لأنّه لا یبتلی به عادة، فما معنی إحداث الداعی للترک فی نفس العبد بالنهی بحیث یؤتی بالنهی لهذا الغرض، والحال أنّ هذا الغرض متحقق ؟ هو یرید أن یطبّق نفس الفکرة علی خروج بعض الأطراف عن القدرة الشرعیة کما إذا کان أحد الطرفین فی مثالنا مغصوباً، أی یُعلم علماً تفصیلیاً بکونه مغصوباً، هذا الإناء الأیمن المُعیّن مغصوب، علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، لو فُرض کون النجاسة ساقطة فی هذا الإناء المعلوم الغصبیة تفصیلاً أنّه یتعلّق به التکلیف بالاجتناب، یعنی یتعلّق به النهی، لا معنی لهذا؛ لأنّ المفروض أنّه غیر قادر علیه شرعاً، المفروض أنّه قد نهی الشارع عنه، هو یعلم تفصیلاً بکونه حراماً، یأتی دلیل آخر یثبت فیه الحرمة والنهی لغرض إحداث الداعی للترک، وهذا الشیء موجود عنده؛ لأنّ المفروض أنّه حرام ومعلوم الحرمة تفصیلاً، ومن هنا یکون النهی مستهجناً، فإذا صار النهی مستهجناً؛ حینئذٍ یشترک مع کلّ ما تقدّم فی عدم تعلّق التکلیف بهذه الأطراف، وبالتالی انحلال العلم الإجمالی، بمعنی أنّه لیس عندنا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وإنّما علی أحد التقدیرین لا یوجد تکلیف، یعنی من جهة النجاسة لا یوجد تکلیف. نعم، علی التقدیر الآخر یکون هناک تکلیف، ولکنّ هذا مجرّد احتمال ولا یوجد علم بالتکلیف علی کل حال، فینحلّ العلم الإجمالی، فإذا انحل العلم الإجمالی بطبیعة الحال یجری الأصل المؤمّن فی هذا الطرف بلا معارض، ولیس هناک شیء یمنع من جریان الأصل المؤمّن فی هذا الطرف، فینحل العلم الإجمالی.

ص: 361

السید الخوئی(قدّس سرّه) التزم بنفس ما التزم به المحقق النائینی(قدّس سرّه) من سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز بخروج بعض الأطراف عن القدرة الشرعیة، لکنّه عللّه بجریان الأصل فی الطرف الباقی ولا یجری الأصل المؤمّن فی الإناء المغصوب فی مثالنا، وذکر أنّ ذلک باعتبار أنّه لا أثر لهذا الأصل المؤمّن بعد العلم بحرمته تفصیلاً، سوف لن یطلق عنانه تجاه هذا الطرف، فإذن: الأصل المؤمّن لا یجری فی الإناء المغصوب، فیجری فی هذا الطرف بلا معارض وبهذا یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. (1) الفرق بینه وبین المحقق النائینی(قدّس سرّه) واضح، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یرید أن یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز علی أساس الانحلال الحقیقی؛ لأنّه یری استحالة التکلیف بالفرد الخارج عن القدرة الشرعیة کما یری استحالة التکلیف بالفرد الخارج عن محل الابتلاء، کما یری استحالة التکلیف بالفرد الخارج عن القدرة العقلیة، فإذا استحال التکلیف وسقط؛ حینئذٍ ینحل العلم الإجمالی انحلالاً حقیقیاً علی ضوء ما تقدّم، لکنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) لا یری ذلک وهو یخالف فی هذه المسألة، وقال بأنّ التکلیف لیس مشروطاً بالدخول فی محل الابتلاء؛ بل یمکن أن یتعلّق التکلیف حتّی بالطرف الخارج عن محل الابتلاء، ومن هنا التزم بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز فی محل الکلام بمسألة عدم التعارض بین الأصلین طبقاً لمبناه الذی هو مسلک الاقتضاء؛ لأنّه یری أنّ المنجّز هو تعارض الأصلین، وحیث أنّ الأصل لا یجری فی الإناء المغصوب؛ لأنّه لا اثر لهذا الأصل بالنسبة إلیه، فیجری فی هذا الطرف بلا معارض، وبهذا یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، لکن للانحلال الحکمی ولیس الانحلال الحقیقی کما یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 362


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص402.

المحقق العراقی(قدّس سرّه) تعرّض لنفس المطلب الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) والتزم بشیءٍ آخر، حیث التزم بالتنجیز وعدم سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة بخروج بعض الأطراف عن القدرة الشرعیة، (1) وقال: یبقی العلم الإجمالی علی تنجیزه، وینجّز حتّی الطرف المعلوم الغصبیة تفصیلاً، وأوضّح فکرته بأنّ المنع الشرعی عن هذا الطرف من أطراف العلم الإجمالی من جهة الغصبیة کما هو المفروض فی هذا المثال حیث أننا نعلم تفصیلاً بنجاسة هذا الإناء من جهة کونه مغصوباً. یقول: هذا المنع الشرعی فی طرفٍ معیّنٍ من أطراف العلم الإجمالی من جهة الغصبیة لا یخرجه عن قابلیة توجیه النهی إلیه من جهةٍ أخری. صحیح هو توجّه إلیه النهی من جهة الغصبیة، لکن هذا لا یمنع من أن یتوجّه إلیه النهی من جهة النجاسة، وأیّ ضیرٍ فی أن یتوجّه إلیه النهی من جهةٍ أخری ؟! لو کان یمنع من توجّه النهی إلیه من جهةٍ أخری؛ فحینئذٍ یتمّ کلامکم ویسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، وینحل العلم الإجمالی؛ لأنّه لا یُعقل تعلّق التکلیف بهذا الطرف، فلا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، فینحل العلم الإجمالی، لکن یقول: هو لا یمنع من توجّه التکلیف إلی نفس هذا الفرد الذی توجّه إلیه المنع من الجهة الأولی؛ لأنّه یقول أنّ المعتبر فی منجّزیة العلم الإجمالی هو أن یکون کل واحدٍ من الأطراف بحیث لو علمنا بسقوط النجاسة فیه لصحّ توجیه التکلیف إلیه، هذا هو المناط فی منجّزیة العلم الإجمالی، عندما تکون أطراف العلم الإجمالی بهذه المثابة نقول هذا الطرف لو سقطت فیه قطرة الدم لتوجّه إلیه الخطاب بالاجتناب، وذاک الطرف أیضاً لو سقطت فیه قطرة الدم لتوجّه الخطاب إلیه بالاجتناب عنه، فیتنجّز العلم الإجمالی، وهذا هو معنی التکلیف علی کل تقدیر. یقول: هذا المعنی موجود فی محل الکلام، أمّا بالنسبة إلی هذا الطرف الذی بأیدینا غیر المعلوم الحرمة تفصیلاً، فواضح، لو کان هو النجس لتوجّه النهی إلیه بالاجتناب، وهکذا لو کانت النجاسة ساقطة فی الإناء الذی نعلم بکونه مغصوباً تفصیلاً، لتوجّه إلیه النهی أیضاً بالاجتناب من جهة النجاسة، یقول لیست هناک مشکلة فی أن یتوجّه نهی إلی شیءٍ من جهةٍ، ثمّ یتوجّه إلیه نفسه نهی آخر من جهةٍ أخری، ویذکر أمثلة کثیرة علی هذا، یقول أنّ هذا أصلاً یلزم منه أن نمنع تعدد النواهی المتعلّقة بالشیء الواحد من جهاتٍ متعددّة، والحال أنّه لا إشکال أن من یزنی بجاریة الغیر وهی حائض، هذا یرتکب عدّة آثام ویستحق عدّة عقوبات، زنا وغصب ووطئ امرأة وهی حائض، فهنا نواهی متعددّة من جهاتٍ متعدّدة علی شیءٍ واحد، ولازمه تعدد العقوبات، فأنّه یستحق عقوبات متعددّة بعدد المخالفات، فلا مشکلة من هذه الجهة، غایة ما فرضنا فی محل کلامنا هو أنّ أحد الأطراف المعیّن نهی عنه الشارع من جهة الغصبیة، وهذا لا یمنع من أن یتوجّه إلیه نهی آخر من جهة النجاسة، بأن یقال: لو سقطت فیه النجاسة لتعلّق به التکلیف بالاجتناب. إذن: التکلیف بالاجتناب معلوم علی کل تقدیر، سواء سقطت فی هذا، أو سقطت فی ذاک، وهذا معناه عدم انحلال العلم الإجمالی، وبقاؤه علی تنجیزه حتّی لو علمنا تفصیلاً بحرمته من جهةٍ أخری، وحتّی لو کانت هذه الحرمة معلومة وثابتة قبل العلم الإجمالی بالنجاسة، مع ذلک یبقی العلم الإجمالی علی منجّزیته. هذا ما ذکروه الأعلام فی هذه المسألة.

ص: 363


1- نهایة الأفکار، تقریرات بحث المحقق العراقی للسید البروجردی، ج3، ص347.

علی کل حال، الظاهر أنّ ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) هو الصحیح، بمعنی أنّه لا داعی للالتزام بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة بخروج بعض أطرافه عن القدرة الشرعیة، وقلنا مراراً أنّ اثر التنجیز یظهر فی الطرف الآخر، لکنّ تأییدنا هذا لکلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) عندما یکون التکلیفان المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصیل من سنخین مختلفین؛ حینئذٍ یکون کلامه صحیحاً، کما فی المثال السابق، التکلیف المعلوم بالإجمال هو وجوب الاجتناب عن شرب النجس، التکلیف المعلوم بالتفصیل هو حرمة شرب المغصوب، فإذن هما تکلیفان من سنخین مختلفین، هنا یکون کلامه(قدّس سرّه) تامّاً؛ إذ لا مشکلة فی أن یتعلّق التکلیف الثانی بما تعلّق به التکلیف الأوّل، فیتعلّق التکلیف الأوّل به من جهةٍ، ویتعلّق به التکلیف الثانی من جهةٍ أخری، هذا مغصوب تعلّق به التکلیف من جهة الغصبیة، ثمّ صار نجساً، فیتعلّق به التکلیف من جهة النجاسة؛ وحینئذٍ یبقی العلم الإجمالی موجوداً ولا یسقط ولا ینحل؛ وحینئذٍ ینجّز الأطراف، ویکون کلامه متیناً بالنسبة إلی هذا، وحتّی الانحلال الحکمی الذی یقوله السید الخوئی(قدّس سرّه) لا یجری حینئذٍ، بمعنی أنّ الأصل العملی یجری فی هذا الطرف ولا یُعارض بالأصل العملی فی الإناء المغصوب، وعدم جریان الأصل المؤمّن فی الإناء المغصوب إنّما هو لأنّه لا أثر لجریان الأصل فیه؛ لأنّه سوف لن یطلق عنان المکلّف تجاه هذا الفرد؛ لأنّه معلوم الغصبیة ومعلوم الحرمة، نقول حتّی الانحلال الحقیقی لا یثبت، بمعنی أنّ الأصل یجری فی هذا الطرف ویُعارض بالأصل فی ذاک الطرف؛ وذلک للفکرة التی قالها المحقق العراقی(قدّس سرّه)، والتی هی أنّ هناک تعدد جهات، وتعدد نواهی بتعدد الجهات، ولازمه تعدد العقاب، أیّ ضیرٍ فی أن یؤمّن الإنسان من ناحیة نهی معیّن، هذه الحرمة المحتملة من جهة النجاسة فی الإناء المغصوب الأصل المؤمّن یؤمّن من ناحیتها، وإن کان هو یعلم بأنّه یرتکب حراماً ویستحق العقاب، لکنّ العقاب من جهة الغصبیة یعلم به، أمّا العقاب من جهة حرمة شرب النجس المحتملة، فیمکن التأمین عنها بالأصل المؤمّن، وثمرته هو تخفیف العقاب عنه، حیث لا یُعاقب بعقابین، عقاب من جهة الغصبیة، وعقاب من جهة شرب النجس، الأصل المؤمّن یؤمّنه من ناحیة حرمة شرب النجس المحتملة فی هذا الطرف، لیس هناک ضیر فی جریان الأصل فیه، فإذا جری فیه الأصل یُعارض بالأصل فی الطرف الآخر، وهذا یوجب التنجیز ولا ینحلّ العلم الإجمالی حتّی حکماً؛ لأنّ الانحلال الحکمی مبنی علی جریان الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین بلا معارض، بینما هنا له معارض، فلا ینحلّ حقیقة ولا ینحلّ حکماً، وهذا معناه بقاء العلم الإجمالی علی تنجیزه، لکنّ هذا حینما یکون التکلیفان المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصیل من سنخین مختلفین.

ص: 364

وأمّا إذا کانا من سنخٍ واحد:کما فی نفس المثال السابق بأن نفترض أنّ العلم التفصیلی هو بنجاسة أحدهما المُعیّن، بأن علم إجمالاً بنجاسة أحدهما وهناک علم آخر تفصیلی بنجاسة هذا المعیّن، لا مشکلة فیه، یعلم تفصیلاً بنجاسة الإناء الأیمن، ویعلم إجمالاً بأنّ أحد الإناءین، إمّا الأیمن، أو الآخر نجس، فیکون التکلیفان من سنخٍ واحد، إذا کانا کذلک؛ حینئذٍ یدخل فی مسألة متقدّمة وفرغنا عن سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز فیها وهی مسألة ما إذا کان أحد طرفی العلم الإجمالی معلوم الحرمة تفصیلاً، کما فی مثالنا، بأن کان یعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، ویعلم تفصیلاً بأنّ هذا الإناء نجس علی کل حال، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی علی ضوء ما تقدّم، وإن کان هناک خلاف بأنّ هذا الانحلال هل هو انحلال حقیقی، أو هو انحلال حکمی ؟ هناک خلاف فی محله، لکنّه یدخل فی تلک المسألة، إذا علم المکلّف بثبوت التکلیف المعلوم بالإجمال فی أحد الإناءین المُعیّن، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی، فهنا نلتزم بانحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة من جهة الانحلال، فالظاهر من کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّه لیس ناظراً إلی الفرض الثانی؛ بل هو ناظر إلی الفرض الأوّل کما یظهر من الأمثلة التی ذکرها، الأمثلة التی ذکرها کلّها التکلیفان المعلوم بالإجمال والمعلوم بالتفصیل من سنخین مختلفین، فهو ناظر إلی الفرض الأوّل، فإذا کان کلامه منصبّاً علی الفرض الأوّل، فالجواب هو ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) من أنّه لا علم بسقوط التکلیف فی محل الکلام؛ لإمکان أن یتوجّه النهی إلی الفرد الخارج عن القدرة الشرعیة وبهذا یکون المکلّف عالماً بثبوت التکلیف علی کل تقدیر، والعلم الإجمالی باقٍ ولیس منحلاً حقیقة ولا حکماً، ویبقی علی تنجیزه.

ص: 365

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

کان الکلام فی ما إذا کان أحد أطراف العلم الإجمالی خارجاً عن القدرة الشرعیة بأن تعلّق به النهی تفصیلاً، کما لو علمنا بأنّ أحد الإناءین المعیّن تعلّق به النهی تفصیلاً مع افتراض العلم بأنّ أحد الإناءین نجس. بیّنّا ما هو الصحیح فی المقام، وأنّ هناک فرقاً بین افتراض کون التکلیفین من سنخین مختلفین، قلنا هنا لا مانع من تعلّق التکلیف به، أن یتعلّق به نهی من جهة النجاسة بالرغم من تعلّق النهی به من جهة الغصب تفصیلاً، لا مشکلة فی هذا، کما أن الأصل یجری فیه ویعارض الأصل الداخل تحت القدرة الشرعیة وبالنتیجة یکون العلم الإجمالی منجّزاً ولا یسقط عن المنجّزیة بذلک. نعم إذا کانا من سنخٍ واحدٍ، قلنا یدخل فی مسألة سابقة وهی ما إذا عُلم بحرمة أحد الطرفین تفصیلاً، حرمة مشابهة للحرمة المعلومة بالإجمال، فی هذه الحالة قیل بانحلال العلم الإجمالی، وهو الرأی الصحیح، لکن علی الخلاف فی أنّ الانحلال هو انحلال حکمی، أو انحلال حقیقی.

قد یقال فی المقام بالانحلال الحکمی فی الصورة التی هی محل النزاع، وهی ما إذا کان التکلیفان مختلفین سنخاً، قلنا أنّ العلم الإجمالی یبقی علی منجّزیته ولا ینحل، لکن قد یقال: حتّی إذا سلّمنا عدم الانحلال الحقیقی، لکننا ندّعی الانحلال الحکمی، إمّا من جهة ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) علی ما نقلناه فی الدرس السابق من أنّه لا أثر لجریان الأصل فی الإناء المغصوب، فلا یجری فیه الأصل لعدم ترتب الأثر علی الأصل المؤمّن فیه، فیجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض، وبذلک یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، وینحل انحلالاً حکمیاً، وإمّا من جهة ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) فی الخروج عن محل الابتلاء، نفس الفکرة التی ذکرها هناک وانتهی علی أساسها إلی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز والانحلال الحکمی، قد یقال نطبقّها فی محل الکلام، فنقول أنّ الانحلال الحکمی إنّما هو باعتبار انصراف دلیل الأصل المؤمّن عن الطرف الخارج عن القدرة الشرعیة، باعتبار عدم تعقّل التزاحم الحفظی بین الغرض اللّزومی والغرض الترخیصی فی ذاک الطرف، یعنی فی الإناء المغصوب علی ضوء ما ذکره سابقاً. قد یُدّعی هذا فی المقام أیضاً بأنّ التزاحم بین الغرضین بحسب الدقة وإن کان موجوداً بین الغرض اللّزومی فی حرمة شرب النجس وبین الغرض الترخیصی فی إباحة شرب الطاهر، فالتزاحم بین الغرضین حقیقة وبالدقة موجود فی الإناء المغصوب، فإذا قدّم الغرض الّلزومی یجعل الاحتیاط ویفوت الغرض الترخیصی، وإذا قدّم الغرض الترخیصی یجعل البراءة وقد یفوت الغرض اللّزومی، فهذا تابع لاهتمامه بأیّ الغرضین. قد یقال أنّه فی المقام وإن کان التزاحم بحسب الدقة موجوداً، لکنّ العرف لا یتعقّل مثل هذا التزاحم باعتبار أنّ الإناء المغصوب هو علی کل حال لا یجوز شربه لکونه مغصوباً؛ فحینئذٍ لا یتعقل العرف أن یکون مثل هذا الغرض الترخیصی مزاحماً للغرض اللّزومی فی المقام، وإن کان بالدقّة التزاحم موجود بینهما، لکن العرف لا یتعقل أن یکون الغرض الترخیصی مزاحماً للغرض اللّزومی، کأنّ الغرض اللّزومی واصل للمکلّف ومعلوم، و الغرض الترخیصی لا یزاحم الغرض اللّزومی المعلوم والواصل للمکلّف، کأن الغرض اللّزومی واصل، باعتبار أنّ الإناء الآخر المغصوب هو علی کل حال لا یجوز شربه، فی حالة من هذا القبیل العرف لا یتعقل أن یکون الغرض الترخیصی مزاحماً للغرض اللّزومی الذی علی هذا النحو؛ وحینئذ تنصرف أدلة الأصول المؤمّنة عن الإناء المغصوب، فیجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض، ویتحقق بذلک الانحلال الحکمی.

ص: 366

وجوابه: بالنسبة إلی ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) من عدم وجود أثر لجریان الأصل فی الإناء المغصوب، فقد ذکرنا بأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) ذکر ____________ وهو الصحیح ____________ بأنّه عندما یکون التکلیفان من سنخین مختلفین هناک أثر یترتب علی جریان الأصل فی معلوم الحرمة تفصیلاً، ولو بلحاظ قلّة العقاب، ولو بلحاظ التأمین من ناحیة أحد التکلیفین، وبالتالی التأمین من ناحیة العقاب الزائد، وهذه ثمرة تترتب علی جریان الأصل فی ذاک الطرف.

وبعبارةٍ أخری: أنّ ذاک الطرف لو کانت کلتا الحرمتین ثابتة فیه، الحرمة من جهة شرب النجاسة والحرمة من جهة الغصبیة وارتکبه؛ حینئذٍ هو خالف مخالفتین، وارتکب حرامین، فیستحق عقابین، لکن حیث أنّه فی محل الکلام حرمة الشرب من جهة النجاسة مشکوکة ومحتملة، فأیّ ضیر فی أن یجری الأصل المؤمّن لنفی هذه الحرمة المشکوکة والمحتملة والتأمین من ناحیتها، وإن کان المکلّف علی کل حال هو یرتکب حراماً، لکن من ناحیة حرمةٍ إضافیة، وبالتالی نفی العقاب المحتمل من ناحیة تلک الحرمة هذه فائدة، فیکون جریان الأصل فی الإناء المغصوب لیس بلا فائدة، ولیس أنّه لا یترتب علیه أثر؛ بل تترتب علیه فائدة وأثر مهم فی محل الکلام، فلا مجال لمنع جریان الأصل فی ذاک الطرف، أی الإناء المغصوب بدعوی أنّ هذا الأصل لا تترتب علی جریانه فیه أی اثر؛ بل الظاهر أنّه یترتب علیه الأثر فی الفرض الذی نتکلّم عنه وهو ما إذا کان التکلیفان من سنخین مختلفین والذی هو محل الکلام.

وأمّا ما ذکره السید الشهید (قدّس سرّه) فی البحث السابق، کأنّه یراد تطبیقه فی محل الکلام وهو دعوی انصراف أدلّة الأصول عن هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء. هو نفسه السید الشهید(قدّس سرّه) الذی ادّعی هذه الدعوی فی أصل مسألة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أجاب عن هذه الدعوی فی محل الکلام، یعنی فی خروج بعض الأطراف عن القدرة الشرعیة، هو قال أنّ ما ذکرناه هناک لا یجری فی المقام، وأنّ التزاحم معقول حتّی عرفاً، یعنی یوجد تعقّل للتزاحم بحسب الدقة وهناک تزاحم للتعقّل بحسب العرف أیضاً بین الغرض الترخیصی وبین الغرض اللّزومی؛ ولذا یقول أنّ العرف لا یری هنا انصراف أدلّة الأصول المؤمّنة عن الطرف الخارج عن القدرة الشرعیة، وإن ادّعی الانصراف هناک عن الطرف الخارج عن محل الابتلاء، وتمام ما یذکره هو یرجع إلی ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، فأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) وضع یده علی نکتة المقام وهی أنّه فی محل الکلام هناک حرمة معلومة بالتفصیل من جهة، وهناک حرمة معلومة بالإجمال من جهةٍ أخری وبملاکٍ آخر، فهناک تعددّ فی النهی وتعددّ فی الملاک وتعددّ فی العقاب، إذا أخذنا هذا بنظر الاعتبار؛ فحینئذٍ لماذا لا یُعقل التزاحم بین الغرضین اللّزومی والترخیصی فی الإناء المغصوب ؟! الإناء المغصوب لا یجوز شربه بلا إشکال، ولکن هناک غرض لزومی موجود فی حرمة شرب النجس، وهذا الغرض اللّزومی فی حرمة شرب النجس یُزاحَم بالغرض الترخیصی فی إطلاق العنان للمکلّف وعدم إلزامه بترک شرب هذا الإناء، هذه مصلحة تقتضی الإباحة، هذا الغرض الترخیصی الذی یقتضی إطلاق العنان للمکلّف تجاه ذلک الإناء باعتباره محتمل النجاسة ومحتمل الطهارة، هذا الغرض الترخیصی یُزاحَم بالغرض اللّزومی علی أساس أنّه یُحتمل أن یکون حراماً، أی یحرم شربه لنجاسته، احتمال النجاسة واحتمال عدم النجاسة یستلزمان وجود غرضین، أحدهما لزومی والآخر ترخیصی، وهذان الغرضان یتزاحمان فی ذلک الطرف، ولا ضیرٍ فی هذا التزاحم، فالتزاحم یکون معقولاً، ویُعلل ذلک، ویقول أنّ السر فی تحقق التزاحم فی محل الکلام وتعقلّه ومنع انصراف دلیل الأصل المؤمّن عن الإناء المغصوب باعتبار أنّ هناک ارتکازاً لقاعدة قبح العقاب بلا بیان بالنسبة إلی الموالی العرفیین ولیس بالنسبة إلی المولی الحقیقی؛ لأنّه یؤمن بأنّه بالنسبة إلی المولی الحقیقی لیس هناک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وإنّما یوجد حق الطاعة، لکن بلحاظ الموالی العرفیین هناک قاعدة تسمّی قاعدة قبح العقاب بلا بیان. یوجد ارتکاز فی أنّ الأحکام الظاهریة إنّما تُجعل لغرض التوسعة علی الناس ورفع الضیق عنهم، یقول: هذان الارتکازان یوجبان شمول دلیل الأصل لهذا الطرف، یعنی للإناء المغصوب فی محل الکلام ویمنعان من انصراف هذا الدلیل عنه؛ لأنّ هناک ارتکازاً عند العرف یُساعد علی شمول دلیل الأصل لهذا الطرف وهو ارتکاز قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وارتکاز أنّ الأحکام الظاهریة تُجعل لرفع الضیق، وفی المقام یوجد ضیق، عدم إجراء الأصل المؤمّن یوقع المکلّف فی ضیق، یعنی بدل أنّ یرتکب حراماً واحداً سوف یرتکب حرامین، فسوف یقع فی ضیق من ناحیة الحرمة المحتملة، وهذا الضیق یؤمّن عنه بالأصل العملی الذی هو فرع تعقّل __________ علی رأیه _________ التزاحم بین الغرض الترخیصی والغرض اللّزومی، فیقول أنّ التزاحم معقول فی المقام؛ لأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان أمر ارتکازی فی نظر العرف، ولو فی نظر المولی العرفی، وکذلک کون الأحکام الظاهریة إنّما تُجعل لغرض رفع الضیق، وهذا أمر معقول فی المقام، فیکون الغرض الترخیصی مزاحماً للغرض اللّزومی، یقع بینهما التزاحم، فیکون التزاحم معقولاً وعلی هذا الأساس انتهی إلی نتیجة أنّ هذا العلم الإجمالی فی محل الکلام یتنجّز ولا ینحل انحلالاً حقیقیاً ولا انحلالاً حکمیاً؛ لأنّ دلیل الأصل المؤمّن یشمل ذاک الطرف، فإذا شمله دلیل الأصل المؤمّن یکون هذا الأصل فیه مُعارض بالأصل فی الطرف الآخر وبذلک یتنجّز العلم الإجمالی ولا ینحل حتّی حکماً.

ص: 367

قد یُثار سؤال علی ضوء ما تقدّم:وهو أنّه لماذا لا نقول نفس هذا الکلام فی البحث السابق ؟ یعنی لماذا لا نجعل مرکوزیة قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی ذهن العرف، ومرکوزیة أنّ الأحکام الظاهریة إنّما تُجعل لرفع الضیق، وللتوسعة علی الناس، هذا نجعله أیضاً موجباً لشمول دلیل الأصل فی أصل المسألة للطرف الخارج عن محل الابتلاء ؟ ألیس هو جعل الارتکاز فی محل الکلام موجباً لشمول الدلیل ومانعاً من الانصراف لارتکازیة قاعدة قبح العقاب بلا بیان فی الذهن العرفی ؟ نفس هذا الکلام إذا تمّ، یمکن نقله إلی الخروج عن محل الابتلاء، هناک ادّعی الانصراف ومنع من الشمول؛ ولذ التزم بانحلال العلم الإجمالی انحلالاً حکمیاً هناک، نفس هذا الارتکاز نقول هناک یجری ویوجب شمول دلیل الأصل للطرف الخارج عن محل الابتلاء، ویوجب منع انصراف هذا الدلیل عنه، وبالتالی یشمله الدلیل، وإذا شمله الدلیل یُعارض هذا الأصل فیه بالأصل فی الطرف الآخر الداخل فی محل الابتلاء، ویتنجّز العلم الإجمالی، ولا ینحل حتّی حکماً. وعلی کل حال لا نرید الدخول فی تفاصیل هذا البحث. وإلی هنا ینتهی هذا الأمر الذی نبهنا علیه قبل الدخول فی مسألة الشک.

الشک فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء

حاصل المسألة: علی ضوء ما تقدّم إذا علمنا بأنّ أطراف العلم الإجمالی کلّها داخلة فی محل الابتلاء، فلا إشکال أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً، وإذا علمنا بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، بناءً علی الرأی السابق المعروف یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، إمّا للانحلال الحقیقی کما هو المشهور، وإمّا للانحلال الحکمی. الفرض الذی وقع فیه البحث هو فی ما إذا شککنا، ولم نکن نعلم بأنّ هذا الطرف هل هو خارج عن محل الابتلاء حتّی یسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة ؟ أو داخل فی محل الابتلاء حتّی یبقی العلم الإجمالی علی تنجیزه ؟ فی حالات الشک ماذا نصنع ؟ هل هناک اصل، أو قاعدة، أو إطلاق یمکن الرجوع إلیه لإثبات وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر والمنجّزیة، أو لا یوجد هکذا اصل ولا قاعدة ؟

ص: 368

هذا البحث لا موقع له بناءً علی الرأی الذی یری أنّ خروج بعض أطراف العلم الإجمالیعن محل الابتلاء لا یسقط التنجیز، فمع العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء یبقی العلم الإجمالی علی التنجیز، فإذا کان العلم الإجمالی یبقی علی تنجیزه حتّی مع العلم بخروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، فمع الشکّ یکون من بابٍ أولی أن یبقی العلم الإجمالی علی تنجیزه؛ لأنّ هذا الطرف إمّا خارج عن محل الابتلاء، أو داخل فی محل الابتلاء، وعلی کلا التقدیرین یبقی العلم الإجمالی علی تنجیزه، فلا موقع لهذا البحث أصلاً بناءً علی أنّ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء لا یمنع من منجزیة العلم الإجمالی ولا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، وإنّما یُتعقل الدخول فی هذا البحث عندما نفترض أننا نفرغ عن أنّ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، لکنّه یسقط عن التنجیز إذا علمنا بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، الکلام یقع فی ما إذا شککنا، فهل یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، أو لا ؟

هناک احتمالان بدویان فی المقام:

الاحتمال الأوّل: فی حالة الشک یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، فیُلتزم بعدم التنجیز بهذا العلم الإجمالی مع الشک فی خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء وعدم خروجه، باعتبار عدم وجود علم بالتکلیف علی کل تقدیر؛ لأنّه یکفی فی صحّة دعوی عدم العلم بالتکلیف علی کل تقدیر احتمال خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، عدم العلم بالتکلیف علی کل تقدیر لا یتوقّف علی العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء؛ بل یکفی فی ذلک احتمال خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، بالنتیجة المکلّف یحتمل عدم وجود تکلیف فی هذا الطرف؛ لأنّ هذا الطرف المشکوک علی تقدیر أن یکون هو النجس وعلی تقدیر أن یکون خارجاً عن محل الابتلاء لا تکلیف فیه، وعلی تقدیر أن یکون نجساً وخارجاً عن محل الابتلاء یسقط فیه التکلیف. نعم، علی تقدیر أن یکون هو النجس وعلی تقدیر أن یکون داخلاً فی محل الابتلاء یتعلّق به التکلیف، لکن علی الاحتمال الآخر یسقط عنه التکلیف. إذن: المحصلة النهائیة لا نستطیع أن نقول لدینا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، فإذا لم یکن لدینا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر هذا معناه أنّ العلم الإجمالی یسقط وینحل ولا یکون منجّزاً، بمجرّد أن تحتمل أنّ هذا الطرف خارج عن محل الابتلاء، وکما یسقط وینحل عند العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، کذلک یسقط عن التنجیز وینحل عند احتمال خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

ص: 369

الاحتمال الثانی: فی المقابل قد یقال بالتنجیز، وأنّ العلم الإجمالی یبقی علی منجّزیته، وذلک تمسّکاً بإطلاق دلیل التکلیف لإثبات فعلیة التکلیف فی ذاک الطرف الذی یشک فی دخوله فی محل الابتلاء، أو خروجه عن محل الابتلاء. الوجه فی التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف هو أننا لا نقطع بخروج ذلک الفرد عن إطلاق دلیل التکلیف؛ لأنّه لیس لدینا قطع بخروجه عن محل الابتلاء، لوکنّا نعلم بخروجه عن محل الابتلاء، إذن: نحن نقطع بخروجه عن إطلاق دلیل التکلیف، لکن المفروض فی المقام أنّه لیس لدینا علم بخروجه عن محل الابتلاء، وإنّما لدینا احتمال أو شک، فیصح لنا أن نقول لا قطع بخروجه عن إطلاق دلیل التکلیف، فإذا لم یکن لدینا قطع بخروجه عنه، یُحتمل خروجه عنه، وهذا الاحتمال یمکن نفیه بإطلاق دلیل التکلیف الذی یثبت لنا فعلیة التکلیف فی ذاک الطرف، وبهذا یحصل للمکلّف علم إجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، غایة الأمر: أنّ هذا التکلیف الفعلی المعلوم ثبوته علی کل تقدیر، علی أحد التقدیرین یکون ثبوته ثبوتاً وجدانیاً، وعلی التقدیر الآخر یکون ثبوته ثبوتاً تعبّدیاً، فی هذا الطرف الذی أشک فی دخوله فی محل الابتلاء، قطعاً هو داخل فی محل الابتلاء، شمول ثبوت التکلیف یکون وجدانیاً، أعلم بثبوت التکلیف فیه بالوجدان. أمّا الطرف الذی أشک فی أنّه داخل فی محل الابتلاء، أو خارج عن محل الابتلاء، وجداناً لیس لدی علم بثبوت التکلیف فیه، أنا احتمل خروجه عن محل الابتلاء، لکن ببرکة الإطلاق أثبت فیه فعلیة التکلیف، فیکون التکلیف فیه ثابت بالفعل، لکن تعبّداً ببرکة الإطلاق لا بالوجدان، لکن بالنتیجة علی کل حال أنا أعلم بثبوت تکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، إمّا وجداناً، أو تعبداً فی الطرف الآخر، علم إجمالی ینجّز ویبقی علی تنجیزه ولا موجب لسقوطه عن التنجیز، وهذا الإطلاق إذا تمّ یقدّم علی ما ذُکر فی الاحتمال الأوّل؛ لأنّ ما ذُکر فی الاحتمال الأوّل هو اشبه بالأصل والقاعدة الأوّلیة التی نرجع إلیها لإثبات سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، باعتبار أنّه کما ذُکر فی الاحتمال الأوّل لا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، ما دمت تحتمل سقوط التکلیف فی أحد الطرفین، ولو احتمال، من جهة احتمال خروجه عن محل الابتلاء، إذن، بالنتیجة لیس لدیک علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، هکذا قیل فی الاحتمال الأوّل. إذا تمّ الإطلاق فی الاحتمال الثانی سوف یثبت لنا علم بالتکلیف علی کل تقدیر، غایة الأمر أنّ هذا التکلیف ثابت بالوجدان علی تقدیر وثابت بالتعبّد علی تقدیرٍ آخر.

ص: 370

هذان الرأیان الأساسیان فی محل الکلام. ومن هنا وقع البحث بینهم فی صحّة التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف لإثبات فعلیة التکلیف فی الطرف الذی یُشک فی دخوله وخروجه عن محل الابتلاء، وقع بینهم هذا الکلام وبحث طویل فی هذا المجال، واختلفوا فی ذلک، بمعنی أنّه هل نلتزم بصحة التمسّک بالإطلاق لإثبات فعلیة التکلیف فی ذاک الطرف ؟ هل یصح التمسّک بالإطلاق مطلقاً، وبلا تفصیل ؟ هذا رأی. أو لا یصح التمسّک به مطلقاً ؟ هذا رأی آخر. أو یُفصّل بین الشبهة المفهومیة وبین الشبهة المصداقیة ؟ ففی الشبهة المفهومیة یصح التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف، بینما لا یصح ذلک فی الشبهة المصداقیة. وهذا هو الرأی الثالث.

الرأی الأوّل: وهو صحّة التمسّک بالإطلاق مطلقاً وبلا تفصیل هو الذی اختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، وهو المعروف عن الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) أیضاً. واختاره أیضاً السیّد الخوئی(قدّس سرّه).

الرأی الثانی: وهو الرأی الذی ینکر صحّة التمسّک بالإطلاق مطلقاً بلا تفصیل، اختاره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بحسب ظاهر عبارته، فعبارته مطلقة ولا یُفرّق بین الشبهة المفهومیة وبین الشبهة المصداقیة.

الرأی الثالث: وهو التفصیل، اختاره المحقق العراقی (قدّس سرّه).

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

کان الکلام فی ما إذا شُک فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بناءً علی أنّ الخروج عن محل الابتلاء یوجب سقوط التکلیف، وبالتالی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، فما هو الحکم فی المقام ؟

قلنا: قد یقال بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، وقد یقال بعدم السقوط. القول بعدم السقوط، وبقاء العلم الإجمالی علی التنجیز _____________ کما بیّنّا فی الدرس السابق ___________ یُتمسّک لإثباته بإطلاق دلیل التکلیف، لإثبات فعلیة التکلیف فی ذلک الطرف المشکوک یُتمسّک بإطلاق دلیل التکلیف لإثبات فعلیته فی الطرف المشکوک، هذا هو مدرک الالتزام بعدم سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز فی حالات الشکّ فی محل الکلام، ومن هنا وقع الکلام فی صحّة التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام، یعنی صحّة التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف لإثبات فعلیته فی الطرف المشکوک، هل یصح التمسّک بهذا الإطلاق، أو لا یصح ؟ الأقوال ثلاثة، القول بالصحّة مطلقاً، والقول بعدم الصحة مطلقاً، والقول بالتفصیل بین الشبهة المفهومیة والشبهة المصداقیة، فیصح فی الشبهة المفهومیة دون الشبهة المصداقیة. الظاهر أنّه من المناسب جدّاً أن نتکلّم فی مقامین: المقام الأوّل نتکلّم فیه فی الشبهة المفهومیة، والمقام الثانی نتکلّم فیه فی الشبهة المصداقیة .

ص: 371

أمّا فی الشبهة المفهومیة، یعنی الشکّ فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء یکون بنحو الشبهة المفهومیة، بمعنی أنّ الشکّ والشبهة تکون ناشئة من إجمال مفهوم الدخول فی محل الابتلاء، فقد یُفترض الشکّ فی مفهوم الدخول فی محل الابتلاء ودورانه بین ما یکون وسیعاً شاملاً لهذا الفرد المشکوک وبین أن یکون له مفهوم ضیّق لا یشمل الفرد المشکوک فیه، فیُشک فی دخول هذا الفرد فی محل الابتلاء وعدم دخوله من جهة إجمال مفهوم الدخول فی محل الابتلاء، بین ما یکون منطبقاً وشاملاً لهذا المشکوک وبین ما لا یکون شاملاً له. فی الشبهة المفهومیة هناک قولان:

القول الأوّل: عدم صحّة التمسک بالإطلاق لإثبات وجوب الاجتناب فی هذا الفرد المشکوک، وهذا هو الذی اختاره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وهو یقول أیضاً بعدم صحّة التمسّک بالإطلاق فی الشبهة المصداقیة، وسیأتی الکلام عنها. هو فی الشبهة المفهومیة یختار عدم صحّة التمسک بالإطلاق فیها.

القول الثانی: صحّة التمسک بالإطلاق فی الشبهة المفهومیة فی المقام، وهذا هو الذی اختاره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) والمحقق النائینی(قدّس سرّهما) وغیرهما أیضاً.

أمّا القول الأوّل: وهو عدم صحّة التمسک بالإطلاق. صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذکر مطلباً فی الکفایة فی مقام الاستدلال علی عدم صحّة التمسک بالإطلاق فی محل الکلام، والظاهر أنّ العبارة التی ذکرها غامضة یُمکن تفسیرها بتفسیرین، والعبارة التی ذکرها هی:(ولو شُکّ فی ذلک کان المرجع البراءة لعدم القطع بالاشتغال لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنّه لا مجال للتشبث به _________ یعنی بإطلاق الخطب __________ إلاّ فیما إذا شُک فی التقیید بشیءٍ بعد الفراغ عن صحّة الإطلاق بدونه) (1) کأنّه یشترط فی صحّة التمسک بالإطلاق عندما یُشک فی صحّة الإطلاق، لابدّ من إحراز صحّة الإطلاق حتّی یصحّ التمسّک به.

ص: 372


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص362.

فسّر المحقق النائینی(قدّس سرّه) هذه العبارة بتفسیر، وفسرّها المحقق العراقی(قدّس سرّه) بتفسیرٍ آخر.

التفسیر الأوّل: هو التفسیر المعروف، وهو أن یقال: أنّ التمسّک بالإطلاق فی عالم الإثبات إنّما یصح إذا تمّ ثبوتاً صحّة الإطلاق، باعتبار أنّ مقام الإثبات تابع لمقام الثبوت، فإذا کان الإطلاق ممکناً ثبوتاً، وشککنا فی الإطلاق والتقیید أمکن التمسّک بالإطلاق فی مقام الإثبات لإثبات الإطلاق الثبوتی فی الواقع وفی نفس الأمر. وأمّا مع الشکّ فی أصل إمکان الإطلاق؛ حینئذٍ لا مجال للتمسّک بالإطلاق إثباتاً لغرض إثبات الإطلاق ثبوتاً مع فرض الشکّ فی أصل إمکان الإطلاق؛ فحینئذٍ لا مجال للتمسک بالإطلاق، ویقول بأنّ المقام من هذا القبیل؛ لأنّ المفروض أننا نشک فی خروج هذا الطرف عن محل الابتلاء وعدم خروجه، فعلی تقدیر أن یکون خارجاً من محل الابتلاء؛ حینئذٍ یکون التکلیف وشمول الحکم له مستحیلاً بحسب الفرض، إطلاق التکلیف وشموله لهذا الفرد علی تقدیر أن یکون خارجاً عن محل الابتلاء مستحیل بحسب الفرض. نعم، علی تقدیر أن یکون داخلاً فی محل الابتلاء، فشمول الحکم له وإطلاقه له کون ممکناً. إذن: بالنتیجة نحن نشکّ فی إمکان إطلاق الحکم بنحوٍ یشمل المشکوک، وعدم إمکانه. هذا الحکم هل یمکن أن یکون مطلقاً ثبوتاً بنحوٍ یکون شاملاً لهذا الطرف، أو لا ؟ فإذا کان هذا الطرف خارجاً عن محل الابتلاء، فإطلاق التکلیف علی نحوٍ یشمل هذا الطرف الخارج عن محل الابتلاء محال. نعم إذا کان داخلاً فی محل الابتلاء یمکن أن یکون الحکم شاملاً له بإطلاقه، إذن: نحن نشک فی أصل إمکان الإطلاق فی عالم الثبوت وعدم إمکانه، ومع الشک فی أصل إمکان الإطلاق فی عالم الثبوت وعدم إمکانه، لا یمکن التمسّک بالإطلاق فی مقام الإثبات لإثبات هذا الإطلاق الثبوتی وصحّة الإطلاق فی عالم الثبوت، هذا أمر غیر ممکن. (1)

ص: 373


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص61.

وبعبارةٍ أخری: أن التمسّک بالإطلاق فی مقام الاثبات إنّما یصحّ بعد الفراغ فی عن صحّة الإطلاق فی عالم الثبوت، وإمکان تشریع الحکم علی وجهٍ یشمل الفرد المشکوک، إذا احرزنا هذا الإمکان، فلا مانع أن یکون تشریع الحکم شاملاً للفرد المشکوک، إذا أحرزنا هذا الإمکان وشککنا فی الشمول وعدمه فی الإطلاق والتقیید، یمکن التمسّک بإطلاق الخطاب فی مقام الإثبات لإثبات هذا الإمکان. وأمّا إذا فُرض أنّ الشک کان فی أصل إمکان تشریع حکم بنحوٍ یشمل هذا الفرد؛ فحینئذٍ لا مجال للتمسّک بالإطلاق الإثباتی؛ لأنّ مقام الإثبات تابع لمقام الثبوت، وبضمیمة ما تقدّم من أنّ المقام من هذا القبیل؛ لأننا فی المقام فی الحقیقة نشکّ فی أصل إمکان تشریع هذا الحکم علی نحو ٍیشمل هذا الخمر الموجود فی هذا الإناء المشکوک کونه داخلاً فی محل الابتلاء أو خارجاً عن محل الابتلاء؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون خارجاً عن محل الابتلاء تشریع الحکم بحرمة شرب الخمر علی نحوٍ یشمل هذا الفرد الذی فرضنا خروجه عن محل الابتلاء محال. نعم لو کان داخلاً یکون تشریع هذا الحکم ممکناً، إذن شکّنا فی أصل إمکان تشریع الحکم بشرب الخمر علی نحو یشمل الفرد المشکوک وعدم إمکانه؛ فحینئذٍ لا مجال للتمسّک بالإطلاق لإثبات هذا الإمکان وصحّة هذا الإطلاق. هذا هو التفسیر الأوّل لعبارة صاحب الکفایة(قدّس سرّه).

المحقق النائینی(قدّس سرّه) بعد أن ذکر هذا التفسیر لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أجاب عنه:

أولاً: الجواب الحلّی _________ أن یُستفاد من عبارته _________ وحاصل ما ذکره هو: إنّ إطلاق الدلیل الکاشف بنفسه هو یکشف عن الإطلاق الواقعی، والإطلاق النفس الأمری ___________ کما سمّاه ___________ هو بنفسه یکون کاشفاً عنه، إطلاق الدلیل فی مقام الإثبات هو بنفسه یکشف عن صحّة تشریع الحکم علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک.

ص: 374

ویمکن توضیحه بهذا الشکل: أنّ الدلیل الدال علی ثبوت الحکم هو بنفسه یکون دلیلاً علی إمکان الحکم فی نفس الأمر والواقع. أو قل بعبارةٍ أخری: إنّ الإطلاق الإثباتی هو بنفسه یکون دلیلاً علی صحّة الإطلاق فی مقام الثبوت وإمکان الثبوت فی مقام الثبوت، وإمکان تشریع الحکم کما عبّر علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک. هذا هو الدلیل علی ذاک، وذلک باعتبار الملازمة بین الوقوع والإمکان، وهذه الملازمة لا یمکن إنکارها، فهناک ملازمة بین وقوع الشیء وبین إمکانه، فالدلیل الدال علی هذا الحکم؛ لأنّ المفروض أنّ الدلیل فی مرحلة الإثبات دال علی الإطلاق، دال علی ثبوت الحکم علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک، معنی الإطلاق هو أنّ الدلیل یدل علی أنّ الحکم شامل لهذا الفرد المشکوک بالإطلاق. هذا الدلیل الدال علی ثبوت الإطلاق وثبوت تشریع الحکم علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک هو بنفسه یکون دلیلاً علی إمکان تشریع الحکم علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک؛ للملازمة بین الثبوت وبین الإمکان، فنفس الدلیل الدال علی الثبوت والوقوع بالمطابقة یکون دلیلاً علی ثبوت الإمکان بالالتزام، فیکون الإمکان مدلولاً التزامیاً للدلیل الدال علی الإطلاق فی مقام الإثبات وعلی تشریع الحکم بنحوٍ یشمل الفرد المشکوک؛ لأنّه مدلول التزامی له، فیثبت الإمکان ونستکشف صحّة الإطلاق الثبوتی من الإطلاق الإثباتی. غایة الأمر أنّ هذا الإمکان الذی یثبت لا یثبت وجداناً، وإنّما یثبت تعبّداً باعتبار التمسّک بالإطلاق الإثباتی، فیثبت تعبّداً، فنفس الدلیل الدال علی الإطلاق فی مقام الإثبات، أو بعبارة أخری: علی التشریع، یعنی علی الوقوع والثبوت؛ لأنّ الدلیل بمقتضی إطلاقه یدل علی أنّ هذا الدلیل ثبت تشریعه علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک بمقتضی إطلاقه. نفس هذا الدلیل یدلّ علی إمکان ذلک فی عالم الثبوت وصحّة الإطلاق الثبوتی، باعتباره مدلولاً التزامیاً له، فیدلّ علیه ویکون حجّة فیه. غایة الأمر أنّ الإمکان لا یکون ثابتاً بالوجدان، وإنّما یکون ثابتاً باعتبار قیام الحجّة علی الإمکان، فنلتزم بالإمکان. ویقول بأنّ هذا الجواب الحلّی الذی ذکره هو الجواب المتعیّن فی محل الکلام ولا مجال للتوقّف فی صحّة التمسّک بالإطلاق فی مقام الإثبات لغرض إثبات الإمکان، وصحّة الإطلاق فی عالم الثبوت، ودیدن العلماء علی التمسّک بالإطلاق حتّی مع الشکّ فی إمکانه وثبوته واقعاً.

ص: 375

ثانیاً: الجواب النقضی، ومن هنا أجاب عن التفسیر الأوّل لصاحب الکفایة(قدّس سرّه) بجوابٍ نقضی. وقال لأنّه لولا ما ذکرناه لما صحّ التمسّک بالمطلقات فی شیء من موارد الشک فی التقیید. یقول: بناءً علی التفسیر الأوّل لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، یعنی إذا آمنا بما هو ظاهر هذا التفسیر من أنّ التمسّک بالإطلاق فی مقام الإثبات یکون مشروطاً بإحراز إمکان الإطلاق ثبوتاً، فعند الشکّ فی إمکان الإطلاق ثبوتاً لا یجوز التمسّک بالإطلاق الإثباتی. یقول: لو قلنا بأنّ صحّة التمسّک بالإطلاق إثباتاً مشروطة بإحراز إمکان الإطلاق ثبوتاً لأنسدّ باب التمسّک بالمطلقات فی جمیع موارد الشکّ فی التقیید، باعتبار أنّ الشکّ فی التقیید یُلازم الشکّ فی ثبوت الملاک للحکم المطلق فی الفرد المشکوک، عندما نشکّ فی التقیید یعنی نشکّ فی أنّ ملاک الحکم المطلق هل هو ثابت فی الفرد المشکوک، أو لیس ثابتاً فی الفرد المشکوک؛ لأنّه إن کان هناک تقیید وکان الفرد المشکوک خارجاً، فملاک الحکم لیس ثابتاً فیه. نعم، علی تقدیر الإطلاق وعدم تقیید الحکم؛ فحینئذٍ یکون ملاک هذا الحکم ثابتاً فی الفرد المشکوک.

إذن: دائماً الشکّ فی التقیید یرجع إلی الشکّ فی ثبوت ملاک الحکم المطلق فی الفرد المشکوک، هل یثبت فیه ملاک الحکم المطلق، أو لا ؟ إذا کان هناک تقیید وکان الفرد المشکوک خارجاً؛ حینئذٍ لا یثبت فیه ملاک الحکم المشکوک، وإن کان داخلاً ولیس هناک تقیید، فیثبت فیه ملاک الحکم المطلق. إذا ضممنا إلی هذا ما نعلمه من استحالة ثبوت الحکم بدون ملاکٍ، أنّ الحکم یستحیل أن یثبت فی موردٍ من دون ملاکٍ؛ حینئذٍ یکون الشکّ فی ثبوت الملاک وعدم ثبوته فی الفرد المشکوک یعنی الشکّ فی إمکان أن یکون هذا الحکم شاملاً بإطلاقه للفرد المشکوک، أو استحالة ذلک؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون هذا الفرد المشکوک لا یوجد فیه ملاک، أی علی تقدیر التقیید، فیستحیل أن یکون الحکم ثابتاً بنحوٍ یکون شاملاً للفرد المشکوک؛ لأنّ هذا یعنی ثبوت الحکم من دون ملاکٍ، وهو محال، فیستحیل ثبوت الحکم علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک. هذا علی تقدیر أن یکون خارجاً، علی تقدیر التقیید؛ لأنّه لیس فیه ملاک، فثبوت الحکم له وشموله له من دون ملاکٍ محال. نعم، علی تقدیر الإطلاق وعدم التقیید؛ حینئذٍ یمکن أن یکون الحکم ثابتاً علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک ؛ إذن بالنتیجة الشکّ فی التقیید رجع إلی الشکّ فی إمکان تشریع هذا الحکم علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک، أو لا ؟ فی أیّ موردٍ من موارد الشکّ فی التقیید، الشکّ فی التقیید دائماً یرجع إلی الشکّ فی إمکان أن یکون الحکم شاملاً لهذا الفرد، أو عدم إمکان ذلک؛ لأنّه علی تقدیر التقیید، فالحکم لا یشمله ویکون ثبوته له محالاً؛ لأنّه من باب ثبوت الحکم من دون ملاکٍ، وعلی التقدیر الآخر یکون شاملاً له. إذن: نحن نشکّ فی أصل إمکان الإطلاق الثبوتی لهذا الحکم وصحّته، یعنی نشکّ فی أصل إمکان تشریع هذا الحکم علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک الذی نشکّ فی أنّه یدخل فی الحکم، أو خارج عن الحکم بالتقیید، فلو صحّت هذه الفکرة، وهی أنّ التمسّک بالإطلاق الإثباتی یتوقّف علی إحراز إمکان إطلاق الحکم فی عالم الثبوت، فهذا یؤدّی إلی أن نتوقّف، وأن لا یصح لنا أن نتمسّک بأیّ إطلاق من الإطلاقات فی موارد الشکّ فی التقیید.

ص: 376

إذن: أصل الفکرة لا یمکن الالتزام بها وهی أنّ یقال أنّ التمسّک بالإطلاق الإثباتی موقوف علی إحراز إمکان الإطلاق فی مقام الثبوت؛ بل لابدّ أن نلتزم بعکس هذه الفکرة بأن نقول یصح التمسّک بالإطلاق الإثباتی حتّی مع الشکّ فی إمکان أن یکون الحکم مشرعاً علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک، ویثبت هذا الإمکان بالرغم من الشکّ فیه عن طریق التمسّک بالإطلاق الإثباتی؛ لما قلناه من أنّ المفاد المطابقی للإطلاق الإثباتی هو ثبوت هذا الحکم بنحوٍ مطلق، وبالالتزام یدلّ علی إمکانه وصحّة هذا الإطلاق وإمکان تشریع هذا الحکم علی نحوٍ یشمل الفرد المشکوک، غایة الأمر أنّ هذا لا یثبت بالوجدان، وإنّما یثبت بالتعبّد؛ ولذلک اعتبر هذا الجواب جواباً واضحاً علی التفسیر الأوّل لعبارة صاحب الکفایة(قدّس سرّه)؛ ولذا استغرب المحقق النائینی(قدّس سرّه) من قول صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هذا الکلام؛ لأنّ من الأمور الواضحة أنّ العلماء لا یتوقفون عن التمسّک بإطلاق دلیلٍ لمجرّد احتمال الاستحالة فی الواقع، ما دام الدلیل حجّة یصح التمسّک به، ویؤخذ بظاهره، ویکون ظهوره حجّة إلاّ أن تقوم قرینة علی خلافه، سواء کانت القرینة عقلیة، أو لفظیة، هذا لا یهم، المهم أن تقوم قرینة علی خلاف، فنرفع الید حینئذٍ عن هذا الظهور الحجّة باعتبار قیام القرینة علی خلافه، ما لم تقم قرینة، لا عقلیة ولا نقلیة علی خلاف الظهور یتعیّن العمل بهذا الظهور، واحتمال الاستحالة وعدم الإمکان فی الواقع لیس من القرائن التی تمنع من الأخذ بالظهور؛ بل یؤخذ بالظهور، ودیدن العلماء جری علی ذلک بالرغم من احتمال الاستحالة واحتمال عدم الإمکان، ومثلّوا لذلک بأنّه دلّت الأدلّة علی حجیة خبر الثقة، وأنّه حجّة ویجب العمل به وترتیب الأثر علیه، وهذا الأخذ بالظهور هو الذی یثبت الإمکان ویرفع الاستحالة ویزیل حالة الشکّ. نعم، لا یزیلها وجداناً، لکن یزیلها تعبّداً.

ص: 377

یظهر من المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی (نهایة الأفکار) (1) أنّه یوافق المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی هذین الجوابین الحلّی والنقضی، لکن علی تقدیر تفسیر عبارة صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بالتفسیر الأوّل الذی هو أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یستشکل فی إثبات الإطلاق فی عالم الثبوت استناداً إلی التمسّک بالإطلاق فی عالم الإثبات. أو بعبارة أخری: أنّ التمسّک بالإطلاق فی عالم الإثبات مشروط بإحراز إمکان الإطلاق الثبوتی، إذا فسّرنا الکلام بهذا التفسیر؛ فحینئذٍ یکون جواب المحقق النائینی(قدّس سرّه) تامّاً، لکن هو یقول هذا اشتباه، وأنّ مراد استاذه صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هو شیء آخر لا یرد علیه هذان الإشکالان الحلّی، والنقضی، وإنّما هو یرید شیء آخر بکلامه.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

کان الکلام فی حالات الشُک فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وعدم خروجها. قلنا أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذهب إلی عدم جواز التمسّک بالإطلاق لإثبات فعلیة التکلیف فی الفرد المشکوک من حیث کونه خارجاً عن محل الابتلاء، أو داخلاً فی محل الابتلاء فی الشبهة المفهومیة. واستدل علی ذلک بالدلیل المتقدّم فی الدرس السابق، وقلنا أنّ هذا الدلیل أجیب عنه بجوابٍ حلّی وجواب نقضی، وانتهی الکلام إلی مناقشة المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وحاصل ما یُفهم من کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) هو کأنّه یُسلّم بهذه الأجوبة، لکن علی تقدیر تفسیر کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بالتفسیر المتقدّم الذی مرجعه إلی أنّه یشترط فی جواز التمسّک بالإطلاق فی مقام الإثبات إحراز إمکان الإطلاق وصحّته ثبوتاً، فمع الشکّ فی إمکانه وصحّته ثبوتاً لا یجوز التمسّک بالإطلاق فی مقام الإثبات. إذا فُسّر کلامه بهذا التفسیر یرد علیه الجوابان اللّذان ذکرهما المحقق النائینی(قدّس سرّه)، الحلّی والنقضی، لکن المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول أنّ مقصود صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لیس هو هذا المطروح، یعنی لا یرید أن یمنع من التمسّک بالإطلاق لإثبات الإطلاق فی مقام الثبوت عند الشکّ فی صحّته وإمکانه، هو لیس ناظراً إلی هذه الجهة، وإنّما فسّر کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بتفسیرٍ آخر لا ترد علیه هذه الإیرادات النقضیة والحلّیة، وحاصل هذا التفسیر هو: أنّ القدرة علی موضوع التکلیف سواء کانت قدرة عقلیة أو قدرة عادیة التی یُعبّر عنها بالدخول فی محل الابتلاء، وبعبارة أخری: فیما یرتبط بمحل کلامنا الدخول فی محل الابتلاء، هذه کما هی شرط فی التکلیف الواقعی کذلک هی شرط فی التکلیف الظاهری، هذا التکلیف الظاهری فی محل کلامنا الدال علی وجوب التعبّد بظهور الخطاب أیضاً مشروط بالقدرة علی موضوع التکلیف قدرة عقلیة وقدرة عادیة، وبناءً علی هذا کما أنّ الخطاب الواقعی والتکلیف الواقعی یکون مشکوکاً مع الشک فی القدرة علی موضوع التکلیف کذلک الخطاب الظاهری یکون مشکوکاً یُشک فی صحّة ثبوته عند الشک فی القدرة علی موضوع التکلیف.

ص: 378


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج2، ص345.

بعبارة أخری: یرید أن یقول لا فرق بین الحکم الواقعی والحکم الظاهری، کما أنّ الحکم الواقعی بالاجتناب مشروط بالقدرة العادیة علی موضوع التکلیف والدخول فی محل الابتلاء کذلک وجوب الاجتناب الظاهری المستفاد من إطلاق الدلیل أیضاً مشروط بالقدرة علی موضوعه قدرة عقلیة وقدرة عادیة، أیضاً مشروط بالدخول فی محل الابتلاء؛ فحینئذٍ لا فرق بینهما؛ لأنّ هذا الفرد المشکوک الذی یُشک فی دخوله فی محل الابتلاء، أو خروجه عن محل الابتلاء کما نشک فی ثبوت الحکم الواقعی فیه، کذلک نشک فی ثبوت الحکم الظاهری فیه؛ لأنّ کلاً منهما مشروط بالقدرة العادیة، أو بعبارة أکثر وضوحاً: مشروط بالدخول فی محل الابتلاء، فعند الشک فی الدخول فی محل الابتلاء وعدم الدخول یُشک فی ثبوت ذلک الحکم. إذن: الفرد المشکوک کما یُشک فی ثبوت الحکم الواقعی فیه کذلک یُشک فی ثبوت الحکم الظاهری فیه؛ إذ لا فرق بین وجوب الاجتناب الواقعی، أو وجوب الاجتناب الظاهری من هذه الجهة، فکما یُستهجن _____________ مثلاً _____________ توجیه وجوب الاجتناب الواقعی إلی المکلّف مع خروج متعلّقه وموضوعه عن محل الابتلاء، کذلک یُستهجن بنفس المقدار توجیه الخطاب بوجوب الاجتناب عن موضوعٍ خارجٍ عن محل ابتلائه ظاهراً، التکلیف الواقعی بالاجتناب عن موضوعٍ خارجٍ عن محل الابتلاء مستهجن، والتکلیف الظاهری بالاجتناب عن موضوعٍ خارجٍ عن محل الابتلاء أیضاً مستهجن، نفس الوجوه التی ذُکرت لإثبات استحالة توجیه التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء لا یُفرّق فیه بین وجوب الاجتناب الظاهری أو وجوب الاجتناب الواقعی، بالنتیجة هذا الموضوع خارج عن محل ابتلاء المکلّف، ولا یبتلی به عادةً، فالتکلیف به مستهجن، سواء کان واقعیاً، أو کان ظاهریاً، فإذا ثبتت هذه النقطة، أنّ التکلیف الظاهری بالموضوع الخارج عن محل الابتلاء مستهجن ویلزم منه تحصیل الحاصل ...... الخ المحاذیر المتقدّمة، إذا ثبت هذا؛ حینئذٍ یقال أنّه لا مجال حینئذٍ للتمسّک بالإطلاق لإثبات صحّة التکلیف الظاهری بالفرد المشکوک عند الشک فی القدرة علیه وعدم القدرة، وعند الشکّ فی دخوله فی محل الابتلاء، أو فی خروجه عن محل الابتلاء، لا یصحّ التمسّک بالإطلاق؛ لأنّ التمسّک بالإطلاق إنّما یجوز عندما نحرز صحّة هذا الإطلاق وحجّیته، وهذا واضح، التمسّک بالإطلاق فی مقام الإثبات إنّما یصح عندما نحرز إمکان هذا الإطلاق وصحّته وحجّیته؛ فحینئذٍ یمکن التمسّک بهذا الإطلاق الإثباتی. أمّا حیث نشکّ فی إمکانه وصحّته وحجّیته، فلا مجال للتمسّک بهذا الإطلاق الإثباتی، وفی محل الکلام نحن نشکّ فی هذه الأمور بالنسبة إلی الخطاب الظاهری المستفاد الذی یتوجّه إلی المکلّف، نحن نشک فی إمکانه بالنسبة إلی هذا الطرف المشکوک؛ لأننا نشک فی القدرة علیه وعدم القدرة، نشک فی دخوله فی محل الابتلاء حتّی یکون مقدوراً علیه عادة وعرفاً، وبین خروجه عن محل الابتلاء حتّی لا یکون مقدوراً، علی تقدیر أن یکون خارجاً عن محل الابتلاء التکلیف الظاهری به غیر صحیح وغیر ممکن، کما نقول بالنسبة للتکلیف الواقعی الفرد الخارج عن محل الابتلاء غیر ممکن؛ للزوم الاستهجان وتحصیل الحاصل ....الخ، التکلیف الظاهری بما هو خارج عن محل الابتلاء غیر ممکن، فعند الشک فی دخوله فی محل الابتلاء أو خروجه عنه، یعنی أننا نشک فی إمکانه وفی صحّته، ومع الشک فی صحّة الإطلاق کیف یمکن التمسّک بالإطلاق ؟! مع الشک فی صحّة الإطلاق الإثباتی فی مقام الإثبات، کیف یمکن التمسّک به، نشک فی صحّته یعنی نشک فی حجّیته وفی إمکانه، کیف یمکن التمسّک بهذا الإطلاق فی مقام الثبوت ؟ فلا یصحّ التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام عند الشک فی دخول بعض الأطراف فی محل الابتلاء أو فی خروجها عن محل الابتلاء؛ لأنّ التمسّک بالإطلاق فرع إحرازه وإحراز إمکانه وصحّته، ومع الشکّ فی ذلک لا یحرز هذا المعنی، فلا یجوز التمسّک بالإطلاق. یقول: هذا هو مقصود صاحب الکفایة (قدّس سرّه) فی العبارة المتقدّمة، لا یرید أن یقول لا یصح التمسّک بالإطلاق فی مقام الإثبات لإحراز الإطلاق فی مقام الثبوت عند الشک فی القدرة العقلیة، أو العادیة، هو لا یرید أن یدّعی هذه الدعوة حتّی ترد علیه الأجوبة السابقة؛ بل هو یسلّم بأنّه لا مانع من التمسّک بالإطلاق الإثباتی لإحراز الإطلاق الثبوتی، لیس لدیه مشکلة فی هذا حتّی عند الشک فی الإمکان وعدم الإمکان، وحتّی عند احتمال الاستحالة، فاحتمال الاستحالة لا یمنع من التمسّک بالإطلاق الإثباتی علی ما تقدّم فی الدرس السابق. یقول: هو غیر ناظر إلی هذا، انتم تریدون أن تتمسّکوا بإطلاق دلیل التکلیف لإثبات فعلیة التکلیف فی هذا الطرف المشکوک، هذا المدّعی فی المقام، صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یقول هذا لا یصح؛ لأنّ الدخول فی محل الابتلاء کما هو شرط فی الخطاب الواقعی هو شرط فی الخطاب الظاهری المستفاد من هذا الإطلاق، التکلیف الظاهری بوجوب الاجتناب عن هذا الخمر مشروط بأن یکون داخلاً فی محل الابتلاء، وصحّة التکلیف الظاهری مشروطة بالدخول فی محل الابتلاء، وإمکان التکلیف الظاهری مشروط بالدخول فی محل الابتلاء، فعند الشک فی الدخول فی محل الابتلاء، یعنی یُشک فی إمکان الخطاب الظاهری وفی صحّته، یعنی فی صحّة الإطلاق، صحة الخطاب الظاهری تعنی صحة الإطلاق وإمکان الإطلاق، ومع الشک فی إمکان إطلاقٍ، وفی صحته لا یجوز التمسّک به؛ لأنّ الشک فی إمکانه یعنی الشک فی حجیته، ومن الواضح أنّ التمسّک بالإطلاق فی مقام الإثبات یتوقف علی إحراز حجیته وصحته وإمکانه، وعند الشک فی دخول موضوعه فی محل الابتلاء وفی خروجه عن محل الابتلاء لا یُحرز صحة وإمکان وحجیة هذا الإطلاق حتی یمکن التمسّک به فی المقام، وهذه قضیة لا علاقة لها بإحراز الإطلاق فی مقام الثبوت، غیر ناظر إلی هذا؛ ولذا لا یرد الجوابان المتقدّمان الحلّی والنقضی علی التفسیر الثانی لصاحب الکفایة(قدّس سرّه)، لا نمنع إطلاقاً من التمسّک بالإطلاق حیث یصح ونحرز صحته وحجّیته وإمکانه، فلا مانع من التمسّک به لإثبات الإطلاق الثبوتی حتی عند الشک فی الاستحالة والإمکان، لکن التمسّک بالإطلاق مع الشک فی صحته ومع الشک فی إمکانه لا یصح، والإطلاق والخطاب الظاهری یشک فی إمکانه وصحته عند الشک فی دخول موضوعه ومتعلقه فی محل الابتلاء، أو خروجه عن محل الابتلاء؛ لأنّ الخطاب الظاهری کالخطاب الواقعی مشروط بالدخول فی محل الابتلاء، فعندما نشک فی أنّ موضوع هذا الخطاب الظاهری داخل فی محل الابتلاء، أو خارج عنه، نحن نشک فی إمکان الخطاب الظاهری وعدم إمکانه، فلا نحرز إمکانه ولا صحته حتی نتمسّک به فی محل الکلام، ومن هنا لا یصح التمسّک بالإطلاق، وهذه هی دعوی صاحب الکفایة(قدّس سرّه).

ص: 379

قد یقال: لغرض توضیح التفسیر الثانی لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، قد یُعترض علیه بأنّه یمکن لنا أن نحرز إمکان هذا الخطاب الظاهری فی المقام ونحرز صحّته؛ وذلک بنفس دلیله، المشکلة لدینا هی أنّه کیف یمکن التمسّک بالإطلاق مع الشک فی إمکانه وصحته. الآن قد یقال: یمکن إحراز إمکانه وصحّته عن طریق التمسّک بدلیل هذا الحکم الظاهری؛ لأنّه دلیل قطعی، فإذا احتملنا عدم صحة الخطاب الظاهری وعدم إمکانه من جهة أنّ المفروض أنّ موضوع هذا الحکم الظاهری یُشکّ فی دخوله فی محل الابتلاء وخروجه، فإذا کان داخلاً فی محل الابتلاء، فالخطاب الظاهری ممکن، وإذا کان خارجاً، فالخطاب الظاهری غیر ممکنٍ، فمع احتمال إمکانه وعدم إمکانه، ومع احتمال صحته وعدم صحته یمکن إثبات صحة هذا الخطاب وإمکانه بنفس دلیله؛ لأنّ دلیله قطعی؛ لأننا نعلم بأنّ کل الأحکام الظاهریة لابدّ أن تنتهی إلی القطع، وإطلاق الدلیل هذا یدخل فی باب الظواهر، فلابدّ أن یکون هناک دلیل قطعی یدلّ علی حجّیة هذا الظهور، وهذا الدلیل القطعی الدال علی حجّیة هذا الظهور وإمکان هذا الظهور، أو الإطلاق، یمکن التمسّک به عندما نشک فی هذا المورد باعتبار الشک فی دخول موضوعه فی محل الابتلاء وخروجه عنه، أنّ هذا ممکن وصحیح، أو غیر صحیح، الدلیل القطعی الدال علی حجّیة هذا الخطاب الظاهری یمکن التمسّک به لإثبات الإمکان والصحة.

والجواب عنه هو: لیس لدینا دلیل قطعی یدلّ علی صحة الخطاب الظاهری وإمکانه، عملاً فی الخارج لیس لدینا هکذا دلیل قطعی؛ لأنّ الدلیل علی حجّیة هذا الخطاب الظاهری المستفاد من الإطلاق هو بناء العقلاء کما هو الحال فی کل الظواهر، الدلیل علی حجّیة الظهور هو بناء العقلاء والسیرة العقلائیة، والعقلاء عندما یلتفتون إلی هذه الجهة لا یوجد عندهم قطع بالحجّیة؛ بل هم یشکون فی الحجّیة، إذا التفتوا إلی هذه الجهات:

ص: 380

الجهة الأولی: أنّ الخطاب الظاهری مشروط بالدخول فی محل الابتلاء کالخطاب الواقعی.

الجهة الثانیة: أنّه فعلاً نحن نفترض أنّ هناک شکّاً فی أنّ موضوع الحکم الظاهری داخل فی محل الابتلاء، أو غیر داخل فی محل الابتلاء؟

العقلاء إذا التفتوا إلی هذین الجهتین لا یحصل لهم قطع بحجّیة هذا الخطاب الظاهری، لا یوجد دلیل قطعی علی حجّیة الخطاب الظاهری حتی نتمسّک به لإثبات إمکانه فی المقام وصحته؛ بل نفس الدلیل الذی هو بناء العقلاء والسیرة هو یشک فی حجّیة هذا الخطاب وعدم حجّیته، لکن بعد الالتفات إلی هذین الجهتین، ففی المقام لا یوجد دلیل قطعی علی صحة هذا الخطاب الظاهری وإمکان الإطلاق فی محل الکلام. هذا هو التفسیر الثانی لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، أو نستطیع أن نقول التقریب الثانی لمنع التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام، یعنی منع التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام التقریب الأوّل له هو المتقدّم، التفسیر الأوّل لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، والتقریب الثانی له هو هذا، فیکون تقریباً ثانیاً فی محل الکلام.

هل التقریب الثانی تام، أو غیر تام ؟ هل یصح أن نمنع من التمسّک بإطلاق دلیل، ومن الأخذ بظاهر دلیل، هل یمنع منه الشکّ فی القدرة علی متعلّقه ؟ الشکّ فی القدرة علی متعلّقه الناشئ من الشک فی دخوله فی محل الابتلاء وخروجه عن محل الابتلاء، هذا هل یمنع من الأخذ بظهور الدلیل، وبإطلاق الدلیل، أو لا ؟ المحقق العراقی(قدّس سرّه) نفسه أجاب عن التقریب الثانی الذی هو ذکره لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، وحاصل ما ذکره هو: ذکر عبارة غامضة جواباً عن هذا التقریب الثانی، قال:(أنّ شرطیة القدرة العادیة ____________ المقصود بالقدرة هو الدخول فی محل الابتلاء ____________ فی الخطابات الظاهریة إنّما یتم علی القول بالموضوعیة ____________ أی السببیة ___________ فی الأحکام الظاهریة). وأمّا بناءً علی ما هو التحقیق عنده وعند غیره أیضاً وهو القول بالطریقیة، لا یتم هذا التقریب الثانی، ویکون هو الجواب عنه، قال:(وأمّا علی ما هو التحقیق فیها ____________ فی الأحکام الظاهریة ____________ من الطریقیة الراجعة إلی مجرّد الأمر بالبناء العملی علی مطابقة الظهور للواقع من غیر جعل تکلیف حقیقی فی البین؛ لأنّ مرجع الأمر المذکور إلی کونه منجّزاً للواقع علی تقدیر الإصابة). (1) روح الحکم الظاهری هو تنجیز الواقع علی تقدیر الإصابة، وعلی تقدیر عدم الإصابة یکون حکماً صوریاً، فهو ینجّز الواقع علی تقدیر الإصابة ویکون حکماً صوریاً علی تقدیر عدم الإصابة. فبالنتیجة ما یرید أن یقوله هو: أنّ الأحکام الظاهریة بناءً علی ما هو الصحیح من أنّها مجعولة علی نحو الطریقیة هی مجرّد منجّز للواقع علی تقدیر الإصابة، وعلی تقدیر عدم الإصابة تکون حکماً صوریاً، ومن الواضح أنّه مع الشک فی القدرة علی موضوع التکلیف لا محذور فی توجیه مثل هذا التکلیف إلی المکلّف. ونکتة الجواب هی منع أن یکون الخطاب الظاهری کالخطاب الواقعی مشروطاً بالدخول فی محل الابتلاء، التقریب مبنی علی افتراض أنّ الخطاب الظاهری کالخطاب الواقعی مشروط بالقدرة العادیة، أو الدخول فی محل الابتلاء، فتترتب هذه الأمور السابقة کلّها علی هذا المبنی، فهو یرید أن ینکر هذا ویقول أنّ هناک فرقاً بین الخطاب الظاهری والخطاب الواقعی، الخطاب الواقعی یوجد فیه تکلیف یُطلب فیه تحقیق شیء فی الخارج یترتب علیه تحقق الغرض؛ حینئذٍ یقال إذا کان هذا الغرض متحققاً، فالتکلیف بذلک الشیء یکون لغواً وتحصیلاً للحاصل ومستهجناً؛ لأنّ التکلیف الواقعی جیء به لتحقیق غرضٍ، فإذا کان هذا الغرض متحققاً، باعتبار أنّ هذا الطرف خارج عن محل الابتلاء، فالغرض من النهی عن شرب الخمر الذی هو الامتناع عن شربه خارجاً، أو عدم الوقوع فی مفسدته متحقق بافتراض خروجه عن محل الابتلاء، فالنهی عنه حینئذٍ یکون مستهجناً ولغواً، فهذا هو منشأ تقیید الخطاب الظاهری بالقدرة العادیة، وهذا صحیح فی الخطاب الواقعی، وأمّا الخطاب الظاهری، فإن قلنا فی الخطاب الظاهری بالسببیة یکون حاله حال الخطاب الواقعی، أمّا إذا لم نقل بالسببیة کما هو الصحیح وقلنا بالطریقیة وأنّ الخطاب الظاهری منجّز للواقع فقط ولیس أکثر من هذا، لیس فیه تکلیف ولا یکون الغرض منه تحقیق شیءٍ فی الخارج حتّی یقال أنّ هذا الشیء المعیّن متحقق بافتراض الخروج عن محل الابتلاء، فلا معنی لهذا التکلیف ویکون تحصیلاً للحاصل، أو لغواً ومستهجناً، کلّ هذا الحدیث حینئذٍ لا یرد فی الخطاب الظاهری، وإنّما هو خطاب الغرض منه فقط تنجیز الواقع علی تقدیر المصادفة، ومثل هذا الخطاب أیّ ضیر فی أن یتوجّه إلی المکلّف بموضوع خارج عن محل ابتلائه ؟ لأنّه لا یطلب منه تحقیق غرضٍ حتی یقال أنّ هذا الغرض متحقق، هو لا یتضمّن تکلیفاً، ما هو الضیر فی أن یتوجّه هذا الخطاب إلی المکلّف مع افتراض خروج هذا التکلیف الخارجی عن محل الابتلاء ؟ فلیکن خارجاً عن محل الابتلاء، الخطاب الظاهری غرضه أن ینجّز علیه الواقع علی تقدیر مصادفته للواقع، فلا یلزم تحصیل الحاصل واللّغویة والاستهجان؛ لأنّ کل هذه المحاذیر مبنیة علی افتراض وجود تکلیف یطلب من المکلّف تحقیق شیء، وهذا الشیء إذا تحقق فی الخارج یترتب علیه الغرض، فیقال أنّ هذا الشیء إذا کان متحققاً أساساً بنفس الخروج عن محل الابتلاء، فالتکلیف یکون تحصیلاً للحاصل ومستهجناً، بینما فی الخطاب الظاهری إذا فُسّر بناءً علی الطریقیة بهذا التفسیر لا یلزم هذا المحذور.

ص: 381


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للسید البروجردی، ج3، ص346.

فإذن: الخطاب الظاهری لیس مشروطاً بالقدرة العادیّة، فإذا لم یکن مشروطاً بالقدرة العادیة؛ فحینئذٍ لا مانع من التمسّک فیه بإطلاق الدلیل فی محل الکلام حتی عند الشک فی دخول موضوعه فی محل الابتلاء، أو خروجه عنه؛ لأنّ هذا الشک لا یعنی الشک فی إمکان الإطلاق وصحته؛ لأنّ الإطلاق والخطاب الظاهری لیس مشروطاً بالدخول فی محل الابتلاء. هذا هو الجواب عن التقریب الثانی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

تبیّن من الدرس السابق أنّ هناک تقریبین لمنع صحّة التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام؛ لأننا قلنا فی بدایة البحث أنّه قد یُدّعی التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف لإثبات فعلیة التکلیف فی الفرد الذی یُشکّ فی کونه داخلاً فی محل الابتلاء، أو لیس داخلاً فی محل الابتلاء.

قلنا أنّهم اختلفوا فی صحّة التمسّک بالإطلاق وعدمه علی قولین، القول الأوّل لصاحب الکفایة(قدّس سرّه) الذی یمنع من التمسّک بالإطلاق مطلقاً، لکن کلامنا فعلاً فی الشبهة المفهومیة، وقد تقدّم التقریب الأوّل لمنع الإطلاق الذی هو تقریب صاحب الکفایة(قدّس سرّه). التقریب الثانی الذی ذکره المحقق العراقی کتفسیرٍ آخر لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه).

التقریب الثالث: ما هو مذکور فی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) وغیره من أنّ المخصص فی المقام لبّی فیکون کالمخصص المتّصل، ومن الواضح أنّه عندما یکون المخصص المتّصل مجمل مفهوماً یسری الإجمال إلی العام، فیکون العام مجملاً فلا یجوز التمسّک به.

توضیح التقریب: أصل المبنی واضح أنّ المخصص المتّصل بالعام إذا کان مجملاً مفهوماً یسری إجماله إلی العام ولا ینعقد للعام ظهور فی جمیع الأفراد حتّی الأفراد المشکوکة من دون فرقٍ فی هذا المخصص المتّصل المجمل بین أن یکون مخصصّاً لفظیاً مجملاً مفهوماً، وبین أن یکون مخصصّاً عقلیاً ضروریاً؛ لأنّ المخصص العقلی الضروری هو بمنزلة المخصص المتّصل، فإذا کان مجملاً مفهوماً؛ حینئذٍ یسری إجماله إلی العام، ویقال حینئذٍ أنّه من الواضح أنّ المخصص فی محل الکلام هو من الأحکام العقلیة الضروریة، باعتبار أنّ ضرورة العقل قائمة علی استهجان النهی عن ما هو خارج عن محل الابتلاء، واعتبار الدخول فی محل الابتلاء فی صحّة التکلیف من الأمور الواضحة عند العقلاء وعند العرف، فإذا کان هذا المخصص الواضح عند العرف والعقلاء، إذا تردد بین الأقل والأکثر، باعتبار إجمال المفهوم کما هو المفروض، الخارج عن محل الابتلاء مخصص للتکلیف؛ لأنّ التکلیف لا یشمل ما هو خارج عن محل الابتلاء بحکم العقل؛ لأنّه أصبح من القضایا الواضحة والضروریة أن یستهجن العقلاء النهی عن ما هو خارج عن محل الابتلاء، فیکون مخصصّاً لدلیل النهی، هذا المخصص تردد عندنا بین الأقل والأکثر، بمعنی أنّ الأفراد الخارجة من دلیل النهی، هناک افراد نتیقّن بخروجها؛ لأنّه واضح فیها أنّها خارجة عن محل الابتلاء، لکن هناک أفراد نشکّ فی أنّها خارجة عن محل الابتلاء، أو لیست خارجة. إذن، الخارج عن محل الابتلاء، أی المخصص لإجمال مفهومه یتردّد بین الأقل والأکثر، لا نعلم هل یشمل الأفراد التی نشکّ فی خروجها، أو دخولها، أو لا یشمل هذه الأفراد، وإنّما یختص بما نتیقن خروجه عن محل الابتلاء؛ وحینئذٍ هذا بمثابة المخصص المتّصل، فیسری إجماله إلی العام، فلا یجوز التمسّک بالعام ویسقط العام عن قابلیة التمسّک به فی موارد الشکّ فی الابتلاء وعدمه.

ص: 382

نعم، إذا کان المخصص منفصلاً، فلا مشکلة فی التمسک بالعام؛ لأنّ الإجمال فی المخصص المنفصل لا یسری إلی العام، ویبقی العام حجّة وقابلاً للتمسّک به فی الفرد المشکوک، لکن المخصص فی محل الکلام بمثابة المخصص المتّصل لا المنفصل.

اعتُرض علی التقریب الثالث:

الاعتراض أول: بإنکار الصغری بعد تسلیم الکبری القائلة بأنّ کل مخصص متصل إذا کان مجملاً مفهوماً فإجماله یسری إلی العام، لکن تطبیق الصغری علی محل الکلام لیس واضحاً، باعتبار أنّ اشتراط الدخول فی محل الابتلاء فی صحّة التکلیف لیس من الوضوح بدرجة بحیث یکون من الضروریات المرتکزة فی أذهان الناس بحیث تکون مقترنة بالخطاب عند صدوره، بمجرّد أن یصدر الخطاب یکون المخصص الضروری مقترناً به، فیکون بمثابة المخصص المتصل، لم تبلغ إلی درجة من الوضوح بحیث تصیّر اعتبار الدخول فی محل الابتلاء بمثابة الأحکام العقلیة الضروریة التی هی مقترنة بدلیل الخطاب، کلا، لیست بهذه المثابة. صحیح بأنّه بالنتیجة هو حکم عقلی، أو حکم یعتبره العقلاء، لکن هذا لا یجعله بمثابة الأحکام العقلیة الضروریة التی یفترض حضورها والالتفات إلیها عند صدور الخطاب قهراً، وإنّما هو بحاجة إلی شیءٍ من التأمّل والتدبّر؛ حینئذٍ یُحکم باعتبار الدخول فی محل الابتلاء، الدخول فی محل الابتلاء لیس من الأمور الضروریة البدیهیة التی تقترن بالخطاب حتّی تکون بمنزلة المخصص المتصل، أو هی مخصص متّصل فی الواقع، وإنّما هی بحاجة إلی نوعٍ من التأمّل والتدبّر؛ حینئذٍ یحکم العقلاء، أو العرف باعتبار الدخول فی محل الابتلاء، وأنّ ما هو خارج عن محل الابتلاء لا یشمله إطلاق الخطاب، فالمناقشة فی الصغری، فی کون المخصص فی محل الکلام بمثابة المخصص المتّصل، ونحن ننکر ذلک، المخصص فی المقام لیس بمثابة المخصص المتّصل، وإنّما هو بمثابة المخصص المنفصل؛ لأنّه بمجرّد أن یحتاج إلی تدبّر وتأمّل یعتبر بمثابة المخصص المنفصل، والمخصص المنفصل لا یمنع من التمسّک بالعام.

ص: 383

هذا الاعتراض ذکره المحقق العراقی والمحقق النائینی(قدّس سرّه)وکل منهما التزم باستهجان النهی عن ما هو خارج عن محل الابتلاء، هذا الامتناع المستند إلی الاستهجان هل یصل إلی درجةٍ من الوضوح بحیث یعتبر بمثابة المخصص المتّصل، أو لیس هکذا ؟ الظاهر من هذین العلمین إنکار وصول هذا الامتناع إلی حد الأحکام العقلیة الضروریة. صحیح أنّ العرف یستهجن النهی عن ما هو خارج عن محل الابتلاء، لکنّه لیس من الأحکام الضروریة البدیهیة، وإنّما هو بحاجة إلی نوعٍ من التأمّل والتدبّر، فهو لا یصل إلی حدّ الأحکام الضروریة، وبالتالی لا یمکن عدّه بمثابة المخصص المنفصل.

الاعتراض الثانی: إنکار الکبری بعد تسلیم الصغری، وهذا الاعتراض یذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، یقول: لو سلّمنا تحقق الصغری وأنّ المخصص فی المقام مخصص متّصل، أو بمثابة المخصص المتّصل، لکن نحن لا نؤمن بالکبری علی إطلاقها، وأنّ کل مخصصٍ متّصلٍ إجماله وترددّه بین الأقل والأکثر من جهة إجمال مفهومه یمنع من التمسّک بالعام. نعم، نسلّم هذا فی حالة ما إذا کان الخارج عن العموم عنواناً واقعیاً غیر مختلف المراتب وترددّ مفهومه بین الأقل والأکثر. یقول هنا صحیح، إجمال المخصص وتردّده بین الأقل والأکثر من جهة إجمال المفهوم یسری إلی هذا الإجمال إلی العام ویمنع منه، باعتبار أنّ الخارج عن العموم بالمخصص هو عنوان واقعی لا تختلف مراتبه، هذا العنوان الواقعی الذی لیست له مراتب متعددّة ترددّ بین الأقل والأکثر، هنا یقول نؤمن بهذه الکبری، والإجمال یسری إلی العام ویمنع من التمسّک به إذا کان المخصص متصلاً، ویمثّل لذلک بالمثال المعروف، وهو ما إذا ورد(أکرم العلماء) وخرج منه الفاسق(إلاّ الفسّاق) وکان متّصلاً به، هنا الخارج من العام هو عنوان(الفاسق)، وهو عنوان واقعی لیس له مراتب متعددّة. نعم، یدور أمره باعتبار الإجمال _____________ بحسب الفرض _______________ بین الأقل والأکثر، بین خصوص مرتکب الکبیرة، أو الأعم منه ومن مرتکب الصغیرة، لکن هذا العنوان الخارج عن العام لیس له مراتب علی کلا التقدیرین، سواء کان المراد به خصوص مرتکب الکبیرة ولیس له مراتب، أو کان المراد به هو الأعم من مرتکب الکبیرة ومن مرتکب الصغیرة، عنوان واقعی لیس له مراتب، یدور أمره بین الأقل والأکثر لإجمال مفهومه لا أکثر، فی هذه الحالة إجمال الخاص یسری إلی العام ویمنع من التمسّک به، وأمّا إذا کان الخارج من العموم عنواناً ذا مراتب، وعُلم بخروج بعض مراتبه عن العام وشُک فی خروج البعض الآخر، وهذا المخصص الخارج عن العام له مراتب، ونعلم بخروج بعض مراتبه عن العام، لکن البعض الآخر من مراتبه نشکّ فی خروجها عن العام، یقول فی مثل ذلک، بالرغم من أنّ المخصص متّصل لا مانع من الرجوع إلی العام والتمسّک به، وإجمال المخصص لا یسری إلی العام؛ بل فی الحقیقة، یقول أنّ هذا الشک یرجع فی واقع الأمر إلی الشکّ فی التخصیص الزائد لأننا نعلم أنّ بعض مراتبه خارجة من العام قطعاً ونشک فی خروج مراتب أخری، هذا الشک فی خروج هذه المراتب الأخری شکّ فی التخصیص الزائد، بمعنی أنّ هذا العام خُصص ببعض هذه المراتب من هذا العنوان الخارج من العام، ونشک فی تخصیصه بما هو أزید من تلک المراتب، هل خُصص بهذه المراتب التی أزید من المراتب المتیقنة، أو لا، شکّ فی التخصیص الزائد ولا شکّ أنّه عند الشک فی التخصیص الزائد یُرجع إلی العام، یظهر من هذا الکلام أنّه یُفرّق بین ما إذا کان عنوان الخارج من العام عنواناً لیس له مراتب متعددّة نعلم بخروج بعضها ونشکّ فی دخول البعض الآخر، کلا، فالفاسق لیس مراتب، غایة الأمر أنّ مفهومه لیس واضحاً لدینا، ویدور بین مرتکب الکبیرة فقط وبین الأعم منه ومن مرتکب الصغیرة، لکن هو علی التقدیرین لیس له مراتب، یقول: هنا یسری الإجمال إلی العام، وبین ما إذا کان الخارج بالتخصیص عنواناً له مراتب، ونحن نعلم بأنّ بعض مراتبه خارجة عن العام قطعاً، ونشک فی خروج ما زاد علی ذلک، أو مراتب أخری عن العام، وهذا شک فی التخصیص الزائد، وعند الشک فی التخصیص الزائد حتّی فی المتّصل لا إشکال فی أنّه یمکن الرجوع إلی العام، ولا یسری الإجمال إلی العام. هو یرید أن یقول أنّ مانحن فیه هو من هذا القبیل، الخارج عن الدلیل هو عنوان الخارج عن محل الابتلاء، یخصص دلیل التکلیف بالخروج عن محل الابتلاء التی یحکم بها العقلاء والعرف ویستهجنون التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء، وإشکال اللّغویة وتحصیل الحاصل .....الخ من المحاذیر السابقة، فالخارج عن العام هو عنوان الخروج عن محل الابتلاء، هذا الخارج عن محل الابتلاء والخروج عن محل الابتلاء له مراتب، بعض مراتبه قطعاً العرف والعقلاء یحکمون بخروجها عن العام وعدم صحّة التکلیف بها، والبعض الآخر من مراتب الخروج عن محل الابتلاء نشکّ فی أنّها أیضاً خارجة عن الدلیل ولا یشملها إطلاق التکلیف، أو لیست خارجة ؟

ص: 384

إذن: الخارج من تحت العام هو عنوان له مراتب نعلم بخروج بعض مراتبه من إطلاق دلیل التکلیف، ونشکّ فی خروج بعضٍ آخر. یقول هذا شکّ فی التخصیص الزائد، وهنا لا مانع من الرجوع إلی العام. إذن: المحقق النائینی(قدّس سرّه) یری أنّ التقریب الثالث غیر تام صغری وکبری.

أجیب عن هذا الاعتراض: بأنّ هذا البیان الذی ذکره وهو مسألة اختلاف المراتب، وأنّ العنوان الخارج فی محل الکلام له مراتب متعددة نعلم بخروج بعضها عن إطلاق، ونشک فی خروج البعض الآخر، وهذا غایة ما یقتضیه، هو أنّ الشک فی التخصیص فی المقدار الزائد یکون شکّاً بدویاً؛ لأنّ هناک مراتب لدینا یقین بخروجها عن العام، بینما مراتب أخری نشکّ فی خروجها عن العام، وهذا غایة ما ینتجه هو أنّ هذا قدر متیقن خارج عن العام، الشک فی ما زاد علیه شکّاً بدویاً. یقول المعترض: أنّ هذا ینفع لدعوی انحلال العلم الإجمالی بوجود أفراد خارجة عن إطلاق الدلیل مرددة، ینحل هذا العلم الإجمالی إلی علمٍ تفصیلی بخروج هذه المراتب وشکٍ بدوی فی خروج ما زاد علیها، فیوجب انحلال العلم الإجمالی، غایة ما یثبته هذا البیان هو انحلال العلم الإجمالی، وأنّ الشکّ فی التخصیص الزائد هو شک بدوی غیر مقرون بالعلم الإجمالی، لکن هذا لیس هو محل الکلام، هذا لا یرفع الإجمال وسرایته من الخاص إلی العام؛ لأنّ الملاک فی دعوی إجمال العام هو اتّصال المخصص المنفصل بالعام، المسألة مسألة اتّصال المجمل بالعام، عندما یکون متّصلاً بالعام، الإجمال الموجود فی المخصص یسری إلی العام. ما دام هناک إجمال فی المخصص المتصل، ولو بنحو الشکّ البدوی، فهذا الإجمال لابدّ أن یسری إلی العام، فإذا قلت بأننا نرفع هذا الإجمال بأن نحلّه إلی علم تفصیلی بخروج بعض المراتب، وشک بخروج البعض الآخر، لکن بالنتیجة هذا لا یرفع الإجمال، بالنتیجة أنت تبقی شاکاً ولیس لدیک وضوح بأنّ الخارج عن العام یشمل هذه الأفراد المشکوکة، أو لا یشملها ؟ حتّی إذا کان الشکّ فی خروج هذه الأفراد الزائدة عن القدر المتیقّن شکّاً بدویاً، بالنتیجة لیس لدیک وضوح بدخولها فی العام، أو خروجها منه، وکون الشک فیها مقروناً بالعلم الإجمالی، أو أنّ الشک فیها شکّ بدوی انحلّ بالعلم الإجمالی بالبیان الذی ذکره، هذا لا یؤثر فی رفع سرایة الإجمال من المخصص إلی نفس الدلیل، فیبقی الإجمال علی حاله؛ لأنّ ملاک الإجمال موجود وهو اتّصال المخصص المنفصل بالدلیل، فیسری الإجمال من المخصص إلی الدلیل، یعنی نبقی شاکّین فی أنّ العام یشمل الأفراد المشکوکة، أو لا یشملها . صحیح صار لدینا یقین بأنّ العام لا یشمل بعض المراتب، لکن لدینا شک فی أنّه هل یشمل البعض الآخر من المراتب، أو لا ؟ هذا إجمال فی العام، وهذا الإجمال فی العام یمنع من التمسّک به لإثبات حکمه فی الأفراد المشکوکة، ویقول أنّ هذا هو مبنی الفقهاء فی مسألة الاستثناء المتعقّب لجملٍ متعددة، استثناء یتعقب جملاً متعددة، لدیهم کلام فی أنّه إلی من یرجع ؟ هل یرجع إلی خصوص الجملة الأخیرة، أو یرجع إلی جمیع الجمل ؟ وهذا بالضبط من قبیل ما نحن فیه، مخصص متصل، وقدره المتیقن علی ما قالوا هو الرجوع إلی خصوص الجملة الأخیرة، وإنّما الشک فی رجوعه إلی باقی الجمل، هناک حکموا بالإجمال، ولیس واضحاً أنّ هذا الاستثناء یرجع إلی جمیع الجمل بالرغم من وجود قدر متیقّن والشکّ فی ما زاد علیه، وهذا معناه أنّ وجود القدر المتیقّن والشک فی ما زاد علیه لا یمنع من الالتزام بإجمال الدلیل وسرایة الإجمال إلی نفس الدلیل. ما نحن فیه من هذا القبیل، وغایة ما فعل المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو أنّه قال بأنّ الخارج عن العام له مراتب، وهذه المراتب بعضها نعلم بخروجها عن العام، والبعض الآخر نشکّ، فکأنّه حل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی وشکٍ بدوی، وهذا لا یوجب منع السرایة وتصحیح التمسّک بالدلیل الدال بإطلاقه علی ثبوت التکلیف فی مورد الشکّ. هذان اعتراضان علی التقریب الثالث.

ص: 385

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

کان الکلام فی التقریب الثالث لعدم صحّة التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام وکان حاصله هو أنّ التمسّک بالعام غیر جائز فی محل الکلام؛ لأنّ المخصص لبّی، والمخصص اللّبی یعتبر متصلاً بالعام وفی الشبهة المفهومیة إجمال المخصص المتصل یسری إلی العام ویمنع من التمسّک به ویمنع من انعقاد ظهوره فی الإطلاق وفی العموم.

قلنا أنّه اعترض علی هذا التقریب بمنع الصغری واعترض علیه بمنع الکبری، منع الکبری کان یعتمد علی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من أنّ مسألة الإجمال إنّما تکون فیما إذا کان الخارج عن العام عنواناً غیر مختلف المراتب کما هو الحال فی الفاسق الخارج من(أکرم العلماء)، فإذا ترددّ بین الأقل والأکثر، ففی هذه الحالة تتم الکبری، فیقال بأنّ إجمال المخصص مفهوماً یسری إلی العام ویمنع من التمسّک به، وأمّا إذا کان الخارج هو عنواناً له مراتب وعلمنا بخروج بعض مراتبه عن العموم قطعاً وشککنا فی خروج بعضٍ آخر من مراتبه، یقول فی هذه الحالة یجوز التمسّک بالعام ویکون الشکّ شکاً فی التخصیص الزائد، والشک فی التخصیص الزائد یجوز فیه الرجوع إلی العام حتّی إذا کان المخصص متصلاً.

منع هذه الکبری التی بیّناها بهذا الشکل، قلنا بأنّه أجیب عنه بأنّ غایة ما یصنعه هذا البیان هو حل العلم الإجمالی إلی علمٍ تفصیلی بخروج بعض المراتب وشکٍ بدوی فی البعض الآخر، لکن یقول أنّ هذا لا یدفع غائلة الإجمال وسرایته من المخصص إلی العام التی هی محل کلامنا، کلامنا فی أنّ الإجمال الموجود فی المخصص هل یسری إلی العام، أو لا یسری ؟ سریان الإجمال هو بنکتة أن یتصل بالعام قرینة تصلح أن تکون قرینة علی التخصیص، اتّصال هذه القرینة بالعام یمنع من انعقاد الظهور بالعام، ویوجب سرایة الإجمال إلی العام، فالنکتة هی الاتصال والانفصال ولیست النکتة هی أنّ هناک قدراً متیّقناً خارجاً عن العام قطعاً والباقی یُشک فیه بالشک البدوی، لیست هذه النکتة، وإنّما الکلام فی الإجمال وعدمه، وجود قدر متیقن لا یرفع غائلة الإجمال حتّی نقول بمجرّد وجود قدر متیّقن؛ حینئذٍ لا مانع من التمسّک بالعام، الإجمال یثبت بنکتة الاتصال، وهذه النکتة محفوظة فی المقام، فإذا کانت القرینة والمخصص متصلاً، فینبغی أن یسری الإجمال من المخصص إلی العام، وهذا ما یمنع من التمسّک به. هذا الجواب عن الاعتراض الثانی، یعنی منع الکبری.

ص: 386

هذا الجواب یمکن أن یُدفع بأن نقول بأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی الاعتراض الثانی الراجع إلی منع الکبری هو فی الحقیقة یرید أن یبیّن أنّ الخروج عن محل الابتلاء له مراتب، فی بعض مراتبه نقطع بخروجها عن العام، باعتبار أنّ الاستهجان العرفی، أو حکم العقل، ایّ شیءٍ کان یکون ثابتاً بالنسبة إلی تلک المراتب، نستوضح بشکلٍ واضح أنّها خارجة عن محل الابتلاء، فتکون خارجة عن العام ولا یشملها إطلاق دلیل التکلیف؛ لأنّ شمول إطلاق دلیل التکلیف لها یعتبر مستهجناً عرفاً، أو یلزم منه تحصیل الحاصل، أو یلزم منه اللّغویة .....إلی آخر المحاذیر المتقدّمة، بعض المراتب الأخری الأمر فیها لیس هکذا؛ إذ لا یوجد هکذا وضوح فی الاستهجان، وفی لزوم اللّغویة فی توجیه الخطاب، بعض المراتب ____________ فرضاً __________ إناء موجود فی أقصی البلاد، العرف یستهجن توجیه مثل هذا الخطاب، لکن بعض المراتب الأخری لیست بهذه المرتبة من الوضوح، لیس هناک وضوح لاستهجان العرف لتعلّق التکلیف بها، إذا لم یکن هناک وضوح فی الاستهجان العرفی فی لزوم اللّغویة وفی کل هذه الأمور، إذا لم یکن هناک وضوح بالنسبة إلی بعض المراتب؛ فحینئذٍ هذه الأفراد لا تکون خارجة بمخصصٍ متصل؛ لأنّ هذه المراتب ____________ بحسب الفرض _____________ مشکوکة، یُشک فی دخولها فی محل الابتلاء، أو خروجها عن محل الابتلاء، وکون هذه المراتب مشکوکة یستلزم أن لا یکون حکم العقل بالنسبة إلیها حکماً ضروریاً کالمخصص المتصل، وإلاّ لو کان حکم العقل بالاستهجان أو بالقبح أمراً ضروریاً بحیث یکون بمثابة المخصص المتصل، لما حصل شک فیها، ینبغی القطع بخروجها عن العام، بینما المفروض أننا نشکّ فی أنّها داخلة فی العام، أو لیست داخلة فی العام تبعاً للشک فی دخولها فی محل الابتلاء وعدم دخولها، هو یرید أن یقول نفس افتراض الشک فی هذه المراتب یستلزم أن لا یکون حکم العقل بالقبح فیها ضروریاً بحیث یکون بمثابة المخصص المتصل، حکم العقل فی تلک المراتب التی قلنا بأن حکم العقل فیها یکون واضحاً، هذه المخصص فیها متصل؛ لأنّ حکم العقل هذا ضروری، وحکم العقل إذا کان ضروریاً علی ما تقدّم یکون بمثابة المخصص المتصل، لکن المراتب المشکوکة یُفترض فیها أن لا یکون حکم العقل فیها ضروریاً وواضحاً وبدیهیاً، وإلاّ لو کان بدیهیاً لما شککنا فیها، فإذا لم یکن حکم العقل فی المراتب المشکوکة ضروریاً؛ حینئذٍ نقول أنّ هذه المراتب المشکوکة لو خرجت عن العام، فهی تخرج بمخصصٍ منفصلٍ لا متصل، وبناءً علی هذا؛ حینئذٍ إذا شککنا فی خروجها عن العام وعدم خروجها، هذا یکون شکّاً فی التخصیص بالمخصص المنفصل، هل خرجت عن العام بمخصصٍ منفصلٍ، أو لا ؟ ولا إشکال أنّه فی هذه الحالة یجوز التمسّک بالعام، فمرجع کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) إلی أنّه عندما یکون الخروج عن محل الابتلاء له مراتب عدیدة، بعض مراتبه خارجة عن العام قطعاً؛ لأنّ بعض مراتبه حکم العقل بالقبح فیها واصل إلی درجة الضرورة والبداهة، فیکون بحکم المخصص المتصل، فیمنع من شمول العام لتلک المراتب، فتکون خارجة عن العام ولا یشملها إطلاق الدلیل وعمومه، لکن هناک مراتب مشکوکة الخروج عن محل الابتلاء، نفس افتراض أنّها مشکوکة یعنی أنّ حکم العقل بالنسبة إلیها لیس ضروریاً، وإلاّ لو کان ضروریاً لما شککنا فی دخولها فی العام، أو خروجها عن العام؛ بل کان ینبغی القطع بخروجها عن العام؛ لأنّ حکم العقل بالقبح ضروری کما هو الحال بالنسبة إلی تلک المراتب التی قلنا أننا نقطع بخروجها عن محل الابتلاء، کما هناک حکم العقل فیها ضروری ویُحکم بأنّها خارجة عن العام قطعاً، هذه المراتب المشکوکة لو کان حکم العقل فیها ضروریاً لکانت هکذا، بینما نحن نشک فی أنّها داخلة فی العام أو لیست داخلة فی العام ؟ تبعاً للشکّ فی أنّها داخلة فی محل الابتلاء، أو لیست داخلة فی محل الابتلاء ؟ نفس افتراض الشک یعنی أنّ حکم العقل بالنسبة إلیها لیس واصلاً إلی حد الضرورة، وإلاّ لما حصل شک فیها، فإذا لم یکن حکم العقل فیها ضروریاً، فعلی تقدیر أن تکون خارجة عن العام فهی تخرج بالمخصص المنفصل لا بمخصصٍ متصل، فإذا شککنا؛ حینئذٍ یکون الشک بالمخصص المنفصل، هل خرجت من الإطلاق بمخصصٍ منفصل أو لا ؟ وفی مثله یجوز التمسّک بالعام، فالمحقق النائینی(قدّس سرّه) لیس بصدد إثبات أنّ هناک قدراً متیقناً من المراتب، وهناک مراتب یُشک فیها فقط، هو لا یرید إثبات هذا فقط، هو ذکر هذا بلا إشکال، لکنّه لیس بصدد إثبات هذا حتّی یأتی جواب المحقق العراقی(قدّس سرّهّ) علیه، یقول أنّ هذا لم یفعل شیئاً سوی أنّه حلّ العلم الإجمالی، وهذا لا یدفع غائلة الإجمال وسریانه من المخصص إلی العام. کلا، لیس هذا غرضه فقط، وإنمّا هو ذکر هذا لإثبات أنّ هناک مراتباً یُشک فی شمول العام لها وعدم شموله، من جهة الشک فی دخولها فی محل الابتلاء وعدم دخولها فی محل الابتلاء. یقول: هذا الشک فی هذه المراتب یستلزم أن لا یکون حکم العقل بالقبح بالنسبة إلیها ضروریاً، وإلاّ لما شککنا فیها؛ إذ لا یمکن الجمع بین الشک فی دخولها فی محل الابتلاء مع کون حکم العقل بقبح توجیه الخطاب والتکلیف بالنسبة إلیها ضروریاً، إذا کان هناک هکذا حکم عقلی ضروری بقبح الخطاب؛ حینئذٍ سوف لن نشک فی أنّها داخلة فی العام؛ بل قطعاً هی خارجة عن العام، ویکون حالها حال تلک المراتب التی نعلم بخروجها عن محل الابتلاء. إذا فسرنا کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) بهذا التفسیر؛ حینئذٍ لا یرد علیه ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّهّ)، ومن هنا یبدو أنّ الاعتراض الثانی علی هذا التقریب علی الأقل تام، إن لم نقبل بالاعتراض الأوّل الراجع إلی منع الصغری، أنّ المخصص فی المقام لیس متصلاً؛ لأنّه وإن کان لبّیاً، لکنّه لیس متصلاً؛ لأنّه لیس حکماً عقلیاً ضروریاً حتّی یعتبر متصلاً بالخطاب بمجرّد صدوره، نعم، هو حکم عقلی صحیح، لکنّه یحتاج إلی تأمّل وتدبّر، ثمّ یحکم به العقل، فإذن: لیس هو بحکم المتصل. هذا إنکار الصغری.

ص: 387

أقول: إن لم نؤمن بهذا الاعتراض فالاعتراض الثانی الظاهر أنّه بهذا البیان یکون تامّاً. ومن هنا یظهر أنّ کل التقریبات المتقدّمة لمنع التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام لیست تامّة، لا التقریب الأوّل الذی قد یُفهم من عبارة الکفایة، ولا التقریب الثانی الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّهّ) کتفسیرٍ لعبارة الکفایة، ولا هذا التقریب الثالث الذی ذکرناه، کل هذه التقریبات إلی هنا یبدو أنّها غیر تامّة .

التقریب الرابع: ذکره السید الشهید(قدّس سرّه)، (1) وحاصله: أنّه یدّعی أنّ الخارج عن العام بالتخصیص لیس هو عنوان الخارج عن محل الابتلاء، باعتبار أنّه لم یرد مخصص لفظی یدل علی هذا العنوان، فی(أکرم العلماء إلاّ الفسّاق) هذا مخصص لفظی یدل علی إخراج عنوان الفاسق من العام، فی محل الکلام لیس لدینا مخصص لفظی یدل علی خروج عنوان الخارج عن محل الابتلاء من إطلاق دلیل التکلیف أو عمومه، وإنّما المخصص فی المقام هو العقل، العقل یحکم بقبح التکلیف فی موارد الخروج عن محل الابتلاء، وهذا یعنی أنّ العنوان الخارج من العام فی الواقع والحقیقة هو عبارة عن عنوان(ما یقبح التکلیف به) ولیس عنوان(الخارج عن محل الابتلاء)، وإن کان الخروج عن محل الابتلاء یوجب حکم العقل بقبح التکلیف به، لکن ما یخرج عن العام لیس هو عنوان الخارج عن محل الابتلاء، اصلاً عنوان الخارج عن محل الابتلاء بما هو لا أثر له، المخصص هو العقل، والعقل یحکم بقبح التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء، فالخارج عن إطلاق دلیل التکلیف فی الحقیقة هو عنوان(ما یقبُح التکلیف یه) کل شیء یقبح التکلیف به یکون خارجاً عن إطلاق دلیل التکلیف. إذن: الخارج عن إطلاق دلیل التکلیف لیس هو الخارج عن محل الابتلاء، وإنّما هو عنوان ما یقبح التکلیف به وهو الذی یحکم به العقل الذی هو المخصص فی المقام؛ حینئذٍ یقول: أنّ فرض الکلام نحن نتکلّم عن شبهةٍ مفهومیةٍ للخروج عن محل الابتلاء، أننا نشکّ فی الخروج عن محل الابتلاء، وقلنا أننا مرّة نشک فی الخروج بنحو الشبهة المفهومیة، ومرّة نشک بنحو الشبهة المصداقیة، وکلامنا فعلاً فی الشبهة المفهومیة.

ص: 388


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص227.

إذن: فرض الکلام هو شبهة مفهومیة لعنوان الخروج عن محل الابتلاء، یعنی أن الخروج عن محل الابتلاء مفهومه مجمل، وغیر واضح ویدور أمره بین أن یکون له مفهوم وسیع یشمل هذا الفرد المشکوک، وبین أن یکون له مفهوم ضیّق لا یشمل هذا الفرد المشکوک، فإذن: أنا اشکّ فی هذا الفرد فی أنّه داخل فی محل الابتلاء، أو لیس داخلاً فی محل الابتلاء ؟ من جهة الشک فی مفهوم الخروج عن محل الابتلاء، یقول: أنّ هذه الشبهة المفهومیة بعنوان الخروج عن محل الابتلاء تکون شبهة مصداقیة للمخصص الذی افترضنا أنّه حکم العقل بقبح التکلیف، قلنا أنّ الخارج عن إطلاق الدلیل هو ما یقبح التکلیف به، الشبهة للمفهومیة للخروج عن محل الابتلاء تکون شبهة مصداقیة لما یقبح التکلیف به، باعتبار أنّ ما یقبح التکلیف به مفهوماً لیس لدینا شک به، وإنّما شکّنا هو فی أنّ هذا هل هو ممّا یحکم العقل بقبح التکلیف به، أو لا ؟ إن کان هذا الفرد داخلاً فی محل الابتلاء، فلا یحکم العقل بقبح التکلیف به، وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء یحکم العقل بقبح التکلیف به، هذه الشبهة سوف تکون شبهة مصداقیة للقبیح عقلاً والمستهجن عرفاً، هل یوجد حکم عقلی بالقبح، أو لا یوجد حکم عقلی بالقبح ؟ شبهة مصداقیة للمخصص ولیست شبهة مفهومیة، وبهذا ننتهی إلی نتیجة عدم جواز التمسّک بالعام؛ لأنّ التمسّک بالعام فی المقام یکون تمسّکاً بالعام فی الشبهة المصداقیة وهو غیر جائز.

إذن: التقریب الرابع یعتمد علی افتراض، أولاً: أنّ الخارج عن العام بالتخصیص لیس هو مفهوم الخروج عن محل الابتلاء حتّی یقال فد تکون الشبهة مفهومیة بالنسبة له، صحیح یمکن تصوّر شبهة مفهومیة للخروج عن محل الابتلاء، لکن لیس هذا هو الخارج عن العام؛ لأنّ المخصص هو العقل، والعقل یحکم بقبح التکلیف فی ما هو خارج عن محل الابتلاء، فیکون الخارج عن إطلاق التکلیف هو کل ما یحکم العقل بقبح التکلیف به، هذا لیس فیه شبهة مفهومیة، وإنّما الشبهة دائماً بالنسبة إلیه شبهة مصداقیة، أو قل أنّ المفروض فی محل الکلام هو شبهة مفهومیة لعنوان الخروج عن محل الابتلاء، والشبهة المفهومیة لعنوان الخروج عن محل الابتلاء تکون شبهة مصداقیة للمخصص الذی هو ما یحکم العقل بقبح التکلیف به، فهل یحکم العقل بقبح التکلیف بهذا، أو لا ؟ من قبیل أنّ العقل یحکم بقبح تکلیف العاجز، ونشکّ فی أنّ هذا عاجز ؟ حتّی یحکم العقل بقبح تکلیفه، أو لیس عاجزاً ؟ حتّی یحکم العقل بعدم قبح تکلیفه، وهذه شبهة مصداقیة، هنا أیضاً القبیح عقلاً نشک فی تحققه فی هذا الفرد المشکوک؛ لأنّ هذا الفرد المشکوک إن کان داخلاً فی محل الابتلاء، فتوجّه التکلیف فیه لا یکون قبیحاً. نعم إذا کان خارجاً عن محل الابتلاء یکون قبیحاً، فإذن: یکون شبهة مصداقیة لعنوان القبیح عقلاً، وفی الشبهة المصداقیة للمخصص لا یجوز التمسّک بالعام.

ص: 389

واضح أنّ هذا التقریب مبنی علی افتراض أنّ الخارج عن إطلاق دلیل التکلیف باعتبار أنّ المخصص هو العقل والعقل یحکم بقبح التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء، أنّ الخارج عن إطلاق دلیل التکلیف هو عنوان ما یقبح التکلیف به؛ حینئذٍ یقول: أنّ الشبهة المفهومیة لعنوان الخروج عن محل الابتلاء هی شبهة مصداقیة لعنوان القبیح عقلاً، وحیث أنّ عنوان القبیح عقلاً هو الخارج عن العام، فیکون شبهة مصداقیة بالنسبة له، فلا یجوز التمسّک بالعام. أمّا إذا قلنا بأنّ هذا البیان تام، وسلّمنا بأنّ العقل هو الحاکم، والعقل یحکم بقبح التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء، لکن الذی یخرج عن العام لیس هو عنوان ما یقبح التکلیف به، وإنّما هو واقع ما یقبح التکلیف به، الموارد التی یحکم العقل بقبح التکلیف بها تخرج عن العام، فلا یشملها إطلاق دلیل التکلیف، الخارج عن العام هو ما یقبح التکلیف به بالحمل الشایع الصناعی، واقع ما یقبح التکلیف به، هذا ما یقبح التکلیف به ولیس عنوان ما یقبح التکلیف به، المخصص هو حکم العقل، والعقل یحکم بقبح التکلیف فی الموارد التی تکون خارجة عن محل الابتلاء، فالذی یخرج عن العام هو کل موردٍ حکم العقل فیه بقبح التکلیف، فالذی یخرج عن العام هو واقع ما یحکم العقل بقبح التکلیف به. إذا انتهینا إلی هذه النتیجة حینئذٍ نقول: أنّ واقع ما یحکم العقل بقبح التکلیف به نتیقنه ونقطع به فی مراتب من الخروج عن محل الابتلاء کما قال المحقق النائینی(قدّس سرّه)، بعض مراتب الخروج عن محل الابتلاء نقطع بأنّ العقل حکم فیها بقبح التکلیف، لکن هناک مراتب مشکوکة، نشک فی أنّها هل هی من الموارد التی خرجت عن العام، أو لیست من الموارد التی خرجت عن العام ؟ هذه لیست شبهة مصداقیة للمخصص؛ لأنّ الخارج لیس هو عنوان، والشک حینئذٍ یکون أشبه بالشبهة المصداقیة له، وإنّما الخارج هو واقع ما حکم العقل بقبح التکلیف به، هذا نتیقنه فی مراتب، ونشک فیه فی مراتب أخری، والشک فی المراتب الأخری لیس شبهة مصداقیة للمخصص، وإنّما هو شک فی التخصیص الزائد، هل حکم العقل بقبح التکلیف فیها ؟ حتّی تخرج عن العام، أو لم یحکم العقل بقبح التکلیف فیها ؟ إن کانت داخلة فی محل الابتلاء، فلیس هناک حکم عقلی بقبح التکلیف فیها، وإن کانت خارجة یحکم العقل بقبح التکلیف فیها. إذن: لدینا شک فی أنّه هل هی من الموارد التی یحکم العقل بقبح التکلیف فیها، أو لا ؟ لدینا موارد نتیقّن أن العقل حکم بقبح التکلیف فیها، هذه خارجة عن العام، هذه موارد مشکوکة علی تقدیر أن تکون خارجة عن العام، فهو تخصیص زائد، فیکون الشک فی التخصیص الزائد وفی مثله یتم الکلام السابق وهو أنّه یجوز الرجوع إلی العام عند الشک فی التخصیص الزائد.

ص: 390

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

فی الدرس السابق تعرّضنا للتقریب الرابع لمنع التمسّک بالعام فی محل الکلام لإثبات فعلیة التکلیف فی الفرد المشکوک وبالتالی إثبات منجّزیة العلم الإجمالی، وتبیّن أنّ هذا التقریب أیضاً یمکن التأمّل فیه.

التقریب الخامس لمنع التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام؛ هو ما یستفاد من کلمات المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه) وحاصل ما یقوله: أنّ محل الکلام لیس من موارد التمسّک بالإطلاق؛ إذ یُشترط فی التمسّک بالإطلاق وهذا شرط أساسی فیه هو أن یکون المتکلّم فی مقام البیان من الجهة التی یُراد التمسّک بالإطلاق من ناحیتها، وکأنّه یرید أن یقول أنّ دلیل التکلیف الذی نرید التمسّک بإطلاقه للفرد المشکوک لیس بصدد البیان من جهة شرطیة الدخول فی محل الابتلاء ومانعیة الخروج عن محل الابتلاء؛ لأنّه لم یرد فی الخطابات الشرعیة ما یشیر إلی ذلک إطلاقاً، فکأنّ المتکلّم بدلیل التکلیف الذی هو الشارع، اصلاً لیس ناظراً إلی مسألة شرطیة الدخول فی محل الابتلاء للتکلیف.

وبعبارةٍ أخری: أنّ التمسّک بالإطلاق إنّما یصح فی ما إذا کنّا نشکّ فی شرطیة الدخول فی محل الابتلاء شرعاً، أنّ الشارع هل اعتبر فی صحّة التکلیف بالشیء أن یکون داخلاً فی محل الابتلاء، أو لا ؟ حینئذٍ یمکن التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف، فیقال: أنّ الشارع لو أراد التقیید لذکره، فیمکن أن نستکشف الإطلاق وعدم التقیید من إطلاق کلامه، وإلاّ لو کان مریداً واقعاً للتقیید والاشتراط یکون مُخلاً بغرضه عندما یأتی بالکلام مطلقاً، لکن هذا إنّما یتمّ عندما یکون شکّنا فی اعتبار هذه الشرطیة شرعاً، هل تعتبر شرعاً، أو لا ؟ فإطلاق دلیل الخطاب ینفی اعتبارها عند الشارع؛ لأنّها لو کانت معتبرة لذُکرت فی الخطاب، وحیث لم تُذکر فی الخطاب، فیُستکشف من إطلاق الخطاب عدم اعتبار هذه الشرطیة؛ وحینئذٍ یکون الإطلاق دلیلاً علی فعلیة التکلیف فی الفرد المشکوک، خطاب مطلق یشمل الأفراد المشکوکة، فیُستدل بإطلاق هذا الخطاب علی فعلیة التکلیف فی الأفراد المشکوکة، یقول: هنا لا توجد مشکلة فی التمسّک بالإطلاق. وأمّا إذا کان الشک فی شرطیة الدخول فی محل الابتلاء، أو مانعیة الخروج عن محل الابتلاء من التکلیف، کان الشک فی ذلک من جهة العقل، العقل یحکم بشرطیة الدخول فی محل الابتلاء فی مثل الأفراد المشکوکة، أو لا ؟ هذه الأفراد الخارجة عن محل الابتلاء بمرتبةٍ ما، ماذا یحکم العقل فیها ؟ هل یعتبر الخروج بهذه المرتبة مانعاً من صحّة التکلیف، أو لا یعتبره مانعاً، ویری بأنّ الشرط متحقق فیها وهو الدخول فی محل الابتلاء ؟ شکّنا فی الشرطیة بالنسبة إلی الأفراد المشکوکة عقلاً، والمانعیة من التکلیف عقلاً بالنسبة إلی الأفراد المشکوکة، یقول فی هذه الحالة لا یجوز التمسّک بالإطلاق لنفی الشرطیة فی الأفراد المشکوکة، باعتبار أنّ إطلاق الخطاب لیس ناظراً إلی ما یحکم به العقل إطلاقاً لا نفیاً ولا إثباتاً، الخطاب الشرعی لیس ناظراً إلی ما یحکم به العقل، وإنّما هو ناظر إلی نفی ما یُحتمل اعتباره عند الشارع، فإذا کنّا نحتمل اعتبار شیءٍ عند الشارع، یکون إطلاق الخطاب ناظراً إلیه ویمکن التمسّک به لنفی اعتباره، وإلاّ یلزم ما تقدّم من خُلف الغرض، بأن یقال: إذا کان هذا معتبراً عند الشارع، فلابدّ من ذکره ولابدّ من التقیید والاشتراط، وحیث أنّه من لم یشترط وأطلق الخطاب نستکشف من إطلاق الخطاب عدم اعتبار ما نشک فی اعتباره شرعاً؛ لأنّ الخطاب ناظر إلی اعتبار ما یُحتمل اعتباره شرعاً، أو نفی اعتبار ما یُحتمل اعتباره شرعاً، ناظر إلی ما یُعتبر شرعاً، فإمّا أن یُقید به، وإمّا أن یکون الکلام مطلقاً من ناحیته، فإذا کان الکلام مطلقاً یمکن التمسّک بالإطلاق لنفی اعتبار ما یُشکّ فی اعتباره شرعاً، هذا إذا کان شرعاً. وأمّا إذا کان عقلاً فالخطاب لا یکون ناظراً إلی ذلک إطلاقاً، فلا یصح لنا أن نقول بأنّ إطلاق الخطاب یکشف عن عدم الاعتبار عند العقل، وإنّما یصح لنا أن نقول أنّ إطلاق الخطاب یکشف عن عدم الاعتبار عند الشارع، وهذا لا یکون إلاّ عندما نشک فی اعتبار الشیء شرعاً، بینما فی محل الکلام نحن لا نشک فی اعتباره شرعاً، وإنّما نشک فی اعتباره عقلاً، الحاکم باعتبار الدخول فی صحّة التکلیف هو العقل، الحاکم بمانعیة الخروج عن محل الابتلاء للتکلیف هو العقل لا الشارع، نحن نرید أن نتمسّک بإطلاق الخطاب الشرعی لنفی اعتبار الدخول فی محل الابتلاء فی التکلیف، طبعاً الدخول فی محل الابتلاء فی الأفراد المشکوکة ولیس فی الأفراد التی نعلم بخروجها عن محل الابتلاء، مشکوکة من حیث الشبهة المفهومیة، یعنی هذا المقدار من الخروج عن محل الابتلاء هل یراه العقل مانعاً من التکلیف، أو لا ؟

ص: 391

أو بعبارةٍ أخری: أنّ هذا المقدار من الدخول فی محل الابتلاء؛ لأنّ الأفراد مشکوکة، هذا هل یصحح التکلیف بنظر العقل ویحقق شرط صحة التکلیف وهو الدخول فی محل الابتلاء الذی یحکم بها العقل، أو لا ؟ إطلاق الخطاب الشرعی لیس ناظراً إلی حکم العقل، إنّما هو ناظر إلی الشرطیة التی یحکم بها الشارع عندما تکون مشکوکة، إطلاق الخطاب ینفی هذه الشرطیة، أمّا إذا کان اعتبار الشیء من جهة حکم العقل، ویکون الحاکم بالاعتبار هو العقل وشککنا فیه، فی هذه الحالة إطلاق الخطاب لا یکون ناظراً إلیه ولا یصحح التمسّک بإطلاق الخطاب من هذه الناحیة، فمرجع هذا التقریب فی الحقیقة إلی أنّ إطلاق الخطاب لیس ناظراً إلی شرطیة الدخول فی محل الابتلاء ومانعیة الخروج عن محل الابتلاء بالنسبة إلی التکلیف حتّی نتمسّک بإطلاق دلیل التکلیف لنفی الاشتراط، أو لنفی اعتبار الدخول فی محل الابتلاء فی صحّة التکلیف، أنّ الدخول فی محل الابتلاء ننفی اشتراطه فی صحّة التکلیف، کلا، لیکن هذه الأفراد المشکوکة خارجة عن محل الابتلاء بهذا المقدار، ولا یکون دخولها فی محل الابتلاء شرطاً فی صحّة هذا التکلیف، فیصح التمسّک بإطلاق الخطاب لنفی اعتبار الشرطیة، أو لنفی المانعیة بالنسبة للخروج والدخول، هذا فی ما إذا کان الحاکم هو الشارع، لکن عندما یکون الحاکم هو العقل کما فی محل الکلام، فلا یصح التمسّک بالإطلاق، فإذا لم یصح التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام؛ حینئذٍ یتم ما تقدّم من المنع من التمسّک بالإطلاق فی الأفراد المشکوکة لإثبات فعلیة التکلیف فی الأفراد المشکوکة؛ لأنّ الإطلاق لیس ناظراً إلی ما یحکم به العقل، والمفروض أنّه فی محل الکلام الحاکم بالاشتراط والمانعیة هو العقل، الخطاب لیس ناظراً إلی هذا؛ لأنّه لیس فی مقام البیان من تلک الجهة، وإنّما هو فی مقام البیان من جهة ما یعتبره الشارع، عندما نشکّ فی اعتبار شیءٍ شرعاً؛ حینئذٍ یمکن نفی اعتباره تمسّکاً بإطلاق الخطاب، لکن عندما نشکّ فی اعتبار شیءٍ عقلاً، الخطاب لیس ناظراً إلی ذلک، فلا یصح التمسّک بإطلاق الخطاب، ونحن فی المقام نرید التمسّک بإطلاق الخطاب لإثبات فعلیته، یعنی یوجد تکلیف فی الأفراد المشکوکة، وأنّ هذا النحو من الخروج عن محل الابتلاء لیس مانعاً، هذا النحو لا یمنع من توجّه التکلیف. التمسّک بإطلاق الخطاب لنفی هذا النحو من المانعیة عند العقل لا وجه له؛ لأنّ الخطاب لیس ناظراً إلی حکم العقل بالمانعیة والشرطیة لنفی ما یُحتمل اعتباره شرعاً؛ لأنّه حینئذٍ نستطیع أن نلزم المتکلّم بأن یکون إطلاق خطابه دالاً علی نفی ما یُحتمل اعتباره، ونقول له: لو کان هذا معتبراً عندک لوجب التقیید والاشتراط، وللزم ذکر قرینة علی هذا الاعتبار، فإذا أطلق الکلام، فهو لا یرید الاعتبار، ننفی الاعتبار والاشتراط بإطلاق الکلام، وإلاّ یکون مخلاً بغرضه، لکن هذا إنّما یتم عندما نرید أن ننفی احتمال اعتبار ما یعتبر شرعاً، أمّا احتمال اعتبار ما یعتبر عقلاً لا یمکن نفیه بإطلاق الخطاب؛ لأنّ الخطاب لیس ملزماً بما یحکم به العقل ولیس ناظراً لا نفیاً ولا إثباتاً إلی ما یحکم به العقل.

ص: 392

اعترض البعض علی هذا التقریب: بأنّ هذا التقریب إنّما یتم إذا کان التکلیف بالخارج عن محل الابتلاء مستحیلاً، ولو من جهة لزوم تحصیل الحاصل، فی هذه الحالة یقول أنّ الحاکم باعتبار الدخول فی محل الابتلاء هو العقل دون الشرع، فیتم هذا التقریب؛ لأنّ التقریب اساساً یقول عندما یکون الحاکم بالشرطیة والاعتبار هو العقل، إطلاق الخطاب لیس ناظراً إلی ما یحکم به العقل، الاعتراض یقول: أنّ هذا یتم عندما یکون التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء مستحیلاً بحیث یکون الحاکم باعتبار الدخول فی محل الابتلاء فیه هو العقل؛ لأنّه یلزم منه الاستحالة، فیکون الحاکم هو العقل، فیتم هذا الکلام.

وأمّا إذا فرضنا أنّ التکلیف بالخارج عن محل الابتلاء أمراً ممکناً ولیس مستحیلاً؛ حینئذٍ یقول لا یمکن أن یکون الحاکم بشرطیة الدخول فی محل الابتلاء هو العقل؛ لأنّ التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء أمر ممکن ولیس مستحیلاً حتّی یحکم العقل بالشرطیة باعتبار هذه الاستحالة، وإنّما بحسب الفرض هو أمر ممکن، فالحاکم بالشرطیة لا یکون هو العقل، فإذا لم یکن الحاکم هو العقل؛ حینئذٍ لا یتم هذا الکلام الذی ذُکر فی التقریب الخامس؛ لأنّ التقریب الخامس یقول أنّ إطلاق الخطاب لیس ناظراً إلی ما یحکم به العقل، عندما یکون العقل هو الحاکم، فإطلاق الخطاب لیس ناظراً إلیه لا إثباتاً ولا نفیاً، فلا یصح التمسّک بإطلاقه، أمّا عندما لا یکون الحاکم هو العقل لا یتم هذا التقریب.

أقول: هذا الاعتراض لا یرد علی هذا التقریب؛ لأنّ هذا التقریب لیس ناظراً إلی صحّة التمسّک بإطلاق الخطاب عندما یکون الحاکم هو الشارع فی مقابل أن یکون الحاکم هو العقل، وإنّما ناظر إلی إطلاق الخطاب عندما یکون الحاکم هو الشارع فی مقابل أن یکون الحاکم هو غیر الشارع، سواء کان الحاکم هو العقل، أو کان الحاکم غیر العقل؛ لأنّ إطلاق الخطاب ناظر إلی الاعتبارات الشرعیة ویرید نفی ما یحتمل اعتباره شرعاً، أمّا إذا احتملنا اعتبار شیء لیس شرعاً، سواء کان العقل یحکم باحتمال الاعتبار هذا من جهة العقل، أو احتملنا اعتباره من جهة العقلاء، أیّ شیء کان، التقابل هو بین ما یحکم به الشرع وما یحکم به غیره ولیس التقابل بین ما یحکم الشرع وبین ما یحکم به العقل بحیث نقول أنّه إذا کان الحاکم هو العقل، فلا یصح التمسّک بإطلاق الخطاب، فإذا قلنا أنّ الحاکم لیس هو العقل، وإنّما هو شیء آخر غیر العقل کأنّه یصح التمسّک بإطلاق الخطاب، التقریب یرید أن یقول علی کلا التقدیرین لا یصح التمسّک بإطلاق الخطاب؛ لأنّ الحاکم بالاعتبار لیس هو الشارع، إنّما یصح التمسّک بإطلاق الخطاب عندما یکون الحاکم بالاعتبار هو الشارع، فدلیل إطلاق الخطاب ناظر إلی الاعتبارات الشرعیة، فإذا شککنا فی اعتبار شیء یمکن نفیه بإطلاق الخطاب، وإلاّ یکون مخلاً بغرضه، إذا کان الحاکم بالاعتبار هو غیر الشرع، سواء کان عقلاً، أو عقلاء، بالنتیجة هذا لا یجعل الخطاب ناظراً إلیه، وبالتالی یقول التقریب السابق لا یصح التمسّک بالإطلاق فیه، فیتم هذا التقریب، سواء کان الحاکم بالاعتبار هو العقل کما فُرض فی ما إذا کان التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء مستحیلاً، فیرجع إلی الحکم العقلی، أو کان التکلیف بما هو خارج عن محل الابتلاء لیس مستحیلاً، وإنّما مستهجن عرفاً، علی کلا التقدیرین لا یمکن التمسّک بإطلاق الخطاب؛ لأنّ إطلاق الخطاب ناظر فقط إلی ما یحکم به الشرع وما یعتبره، والإطلاق ینفی احتمال اعتبار هذا الشیء شرعاً، ومن هنا لا یصح التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام إذا تمّ هذا التقریب الخامس. هذا غایة ما یمکن أن یقال فی مقام تقریب عدم صحّة التمسّک بالإطلاق لإثبات فعلیة التکلیف فی محل الکلام.

ص: 393

ومن هنا یتبیّن أنّ القول الآخر فی المسألة، قلنا فی المسألة قولان: القول الأوّل هو عدم صحّة التمسّک بالإطلاق لإثبات فعلیة التکلیف فی الأفراد المشکوکة وبالتالی إثبات منجّزیة العلم الإجمالی. القول الثانی یری أنّه لا مانع من التمسّک بالإطلاق فی الأفراد المشکوکة لإثبات فعلیة التکلیف فیها، وبالتالی إثبات منجّزیة العلم الإجمالی. هذا القول الثانی الذی قلنا أنّه اختاره جماعة منهم الشیخ الأنصاری والمحقق النائینی(قدّس سرّهما) وغیرهما، التزموا بصحة التمسّک بالإطلاق فی محل الکلام. ویستدلّ علی هذا القول الثانی بالدلیل الذی ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) الذی هو دلیل عام، ویُطبق الکبریفیه علی محل الکلام، وهی أنّه فی الشبهة المفهومیة لا مانع من التمسّک بالإطلاق عندما یکون المخصص مجمل مفهوماً دائراً بین الأقل والأکثر، اتفقوا علی أنّه لا مشکلة فی التمسّک بالإطلاق لإثبات حکم العام فی الأفراد المشکوکة فی ما زاد علی القدر المتیقن، هذه الکبری یطبّقها فی محل الکلام، یقول المخصص دائر بین أفراد متیقنة وأفراد مشکوکة، فیدور الأمر بین الأقل والأکثر من جهة إجمال مفهوم الخروج عن محل الابتلاء کما هو المفروض فی محل الکلام، وفی هذه الحالة یجوز التمسّک بالإطلاق. ومن الواضح أنّ تمامیة هذا التقریب لإثبات صحة التمسّک بالإطلاق یتوقّف علی عدم تمامیة کل التقریبات المتقدّمة التی استُدل بها لإثبات عدم صحّة التمسّک بالإطلاق، لابدّ أن لا یتم شیء من التقریبات السابقة التی یثبت علی ضوئها عدم صحّة التمسّک بالإطلاق؛ لأنّ هذه التقریبات تبرز نکاتاً إضافیة غیر مسألة تطبیق الکبری فی کلام الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، نکات إضافیة تمنع من التمسّک بالإطلاق، التقریب الخامس یقول: المتکلّم لیس فی مقام البیان من هذه الناحیة، إطلاق دلیل الخطاب لیس ناظراً إلی ما یحکم به العقل، هذه نکتة اضافیة تمنع من التمسّک بالإطلاق، أو بعض التقریبات السابقة کان یقول أنّ الکبری مسلّمة بلا إشکال، لکن حیث یکون المخصص منفصلاً؛ حینئذٍ لا مشکلة من التمسّک بالعام فی الأفراد المشکوکة، لکن حیث یکون المخصص متّصلاً، إجمال المخصص یسری إلی العام ویمنع من التمسّک به، إذن، هذا التقریب، وهو تطبیق الکبری التی تُذکر فی الشبهة المفهومیة عند دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی محل الکلام تتوقّف تمامیته علی عدم تمامیة التقریبات السابقة التی استدل بها علی عدم صحّة التمسّک بالإطلاق بالنسبة إلی الأفراد المشکوکة، فأن تمّ شیء من التقریبات السابقة، هذا التقریب لإثبات صحة التمسّک بالإطلاق لا یکون تامّاً.

ص: 394

إلی هنا یتبیّن أنّه یکفی فی عدم العلم بالتکلیف الفعلی احتمال ____________ وهذا بیّناه فی بدایة البحث ____________ خروج أحد الطرفین عن محل الابتلاء، لیس فقط ینتفی العلم بالتکلیف بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، وإنّما احتمال خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء یکفی فی انتفاء العلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ لأنّ احتمال الخروج عن بعض الأطراف یعنی عدم فعلیة التکلیف، فلو کان التکلیف فی الواقع موجوداً فی الطرف الذی نحتمل خروجه عن محل الابتلاء، وکان خارجاً عن محل الابتلاء لا تکلیف فعلی فیه، هذا الفرد المشکوک علی تقدیر أن یکون خارجاً عن محل الابتلاء، وعلی تقدیر أن یکون التکلیف فیه، فالتکلیف لیس فعلیاً. إذن: بالنتیجة المکلّف لیس عالماً بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وهذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز. إذا کان لدینا دلیل یثبت التکلیف الفعلی علی ذاک التقدیر فی الفرد المشکوک؛ حینئذٍ یصیر لدینا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر ویتنجّز العلم الإجمالی بالرغم من الشک فی بعض أطرافه، لکن الدلیل هو کان عبارة عن إطلاق دلیل التکلیف، هو الذی تمسّکوا به لإثبات فعلیة التکلیف فی الفرد المشکوک، فإذا ناقشنا فی هذا الإطلاق ولم یتم؛ فحینئذٍ نرجع إلی القاعدة الأوّلیة التی تقول لا یوجد علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، وبذلک یسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة کما بسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی حالات العلم بخروج بعض أطراف العلم الإجمالی عن محل الابتلاء، فلا فرق حینئذٍ بین حالة العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء وبین حالة الشک فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، کل منهما لا یکون هناک علم بالتکلیف علی کل تقدیر ولا یکون العلم الإجمالی منجّزاً. نعم إذا قلنا بصحّة التمسّک بالإطلاق؛ حینئذٍ یثبت العلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر ویکون العلم الإجمالی منجّزاً، فإذن: هذا المطلب یعتمد علی ما نختاره فی التقریبات السابقة، أنّ التقریبات السابقة هل هی تامّة کلاً، أو بعضاً، أو غیر تامّة ؟ وتبین فیما سبق أنّ التقریبات الأوّل والثانی والثالث والرابع یمکن التأمّل فیها، والتقریب الخامس هو التقریب الوحید الذی یمکن الالتزام به وأنّ دلیل الخطاب لیس ناظراً إلی ما یحکم به العقل، فلا یصح التمسّک بإطلاقه من هذه الناحیة والمفروض أننّا نشک فی صحّة التکلیف فیه عقلاً، أو عدم صحّة التکلیف فیه عقلاً؛ وحینئذٍ إذا تمّ هذا التقریب أو شیء آخر من التقریبات السابقة، فهذا یجعل حالة الشک فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء کحالة العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء فی أنّ التکلیف لیس فعلیاً علی کل تقدیر، والتالی لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً.

ص: 395

إلی هنا کنّا نتکلّم عن التنجیز وعدم التنجیز بلحاظ إمکان التمسّک بالإطلاق وعدم التمسک بالإطلاق، الآن ننتقل إلی شیءٍ آخر، وهی محاولة من قبل المحقق العراقی(قدّس سرّه) لإثبات منجّزیة هذا العلم الإجمالی بالرغم من الشکّ فی خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، إثبات منجّزیة العلم الإجمالی بطریقٍ آخر غیر مسألة التمسّک بإطلاق الدلیل؛ لأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یعترف بعدم صحّة التمسّک بإطلاق الدلیل، لکنّه لدیه محاولة بالرغم من عدم صحّة التمسّک بإطلاق الدلیل، یقول أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام یکون منجّزاً، ومحاولته هذه تتلخّص فی أنّه صحیح، لیس لدینا علم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ لأنّ هناک احتمالاً أن یکون هذا خارجاً عن محل الابتلاء، یعنی احتمال أنّ التکلیف فیه لیس فعلیاً، لکن یقول أنّ لدینا علم بتکلیفٍ فعلی علی تقدیر وتکلیف یحکم العقل بمنجّزیته علی تقدیرٍ آخر، وهذا ینتج المنجّزیة للعلم الإجمالی؛ لأننا نعلم بتکلیفٍ فعلیٍ قابل للتنجیز علی کل تقدیر، فیکون منجّزاً.

کیف یکون لدینا علم بتکلیفٍ فعلی علی تقدیر وتکلیف یحکم العقل بمنجّزیته علی تقدیرٍ آخر ؟ یقول: باعتبار أنّ التکلیف الواقعی إن کان موجوداً فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، فهو تکلیف فعلی بلا إشکال، وإن کان التکلیف الواقعی موجوداً فی الطرف المشکوک الذی یُشک فی دخوله فی محل الابتلاء، أو خروجه عن محل الابتلاء، یقول: صحیح، التکلیف هنا لا نستطیع أن نقول أنّه فعلی، لکن التکلیف هنا منجّز، العقل یحکم بمنجّزیته، باعتبار أنّ الشکّ فی خروجه عن محل الابتلاء، ودخوله فی محل الابتلاء، یعنی الشکّ فی القدرة علیه أو عدم القدرة علیه یدخله فی باب الشک فی القدرة؛ لأنّه یری أنّ الخروج عن محل الابتلاء یعنی عدم القدرة العادیة علی الفعل ولیس عدم القدرة العقلیة، والدخول فی محل الابتلاء یعنی القدرة العادیة. إذن: الشکّ فی الخروج عن محل الابتلاء والدخول فی محل الابتلاء هو بعبارة أخری شک فی القدرة علیه وعدم القدرة. إذن: هذا المکلّف یشکّ فی أنّه قادر علی ذاک الطرف الذی هو یُشک فی دخوله وخروجه عن محل الابتلاء، أو لا، فیرجع الشکّ فی محل الکلام إلی الشکّ فی القدرة؛ لأنّ ذاک الطرف الآخر المشکوک إن کان داخلاً فی محل الابتلاء، فهو مقدور له، وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء، فهو لیس مقدوراً له. إذن: الشکّ یکون فی القدرة، فإذا کان الشک فی القدرة یحکم العقل بمنجّزیته؛ لأنّه فی موارد الشک فی القدرة العقل یحکم بالمنجّزیة. إذن: وإن لم یکن هناک علم بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، لکن هناک علم بتکلیفٍ فعلی علی تقدیر، وتکلیف یحکم العقل بمنجّزیته علی تقدیر آخر؛ لأنّه یدخل فی باب الشک فی القدرة، وفی باب الشکّ فی القدرة لا إشکال عندهم فی أنّ العقل یحکم فیه بالتنجیز، فیتنجّز العلم الإجمالی.

ص: 396

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

کان الکلام فی محاولةٍ للمحقق العراقی(قدّس سرّه) لإثبات منجّزیة العلم الإجمالی فی موارد الشکّ فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو دخولها فی محل الابتلاء بقطع النظر عن التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف، یعنی هذا طریق آخر غیر مسألة التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف، وکان حاصل هذه المحاولة علی ما ذکرنا فی الدرس السابق هو دعوی أننا وإن لم نکن نعلم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه لا یمکن التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف فی الفرد المشکوک لإثبات فعلیة التکلیف فیه، فلا علم لنا بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، لکن نحن نعلم بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیر وتکلیفٍ منجّزٍ علی تقدیرٍ آخر، فیکون هذا علماً بالتکلیف المنجّز علی کل تقدیر وهذا یکفی لإثبات منجّزیة العلم الإجمالی. أمّا أننا نعلم بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیر، فواضح؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون التکلیف ثابت فی الفرد الداخل فی محل الابتلاء، فالتکلیف فیه فعلی بلا إشکال، وعلی تقدیر أن یکون التکلیف ثابتاً فی الفرد المشکوک هنا یدخله فی باب الشکّ فی القدرة، والشکّ فی القدرة عندهم هو مورد للاحتیاط ولحکم العقل بالتنجیز، وإدخاله الطرف المشکوک فی باب الشک فی القدرة، باعتبار أنّ الدخول فی محل الابتلاء یعنی القدرة علی الامتثال، والخروج عن محل الابتلاء یعنی عدم القدرة؛ لأنّه یُفسّر الخروج عن محل الابتلاء بعدم القدرة العرفیة، والدخول فی محل الابتلاء بالقدرة العرفیة، فمع الشک فی الدخول والخروج یُشکّ فی القدرة العرفیة علی امتثال ذلک التکلیف، فیکون ذاک الطرف داخلاً فی موارد الشکّ فی القدرة وهنا یحکم العقل بالتنجیز؛ لأنّ هذا هو الحکم المسلّم فی باب الشکّ فی القدرة، عندما یشک المکلّف فی قدرته علی امتثال التکلیف، العقل یقول یجب علیک التصدّی لامتثاله، أو تحرز عدم القدرة علیه، أمّا بمجرّد أن تشکّ فی القدرة علی امتثال التکلیف، هذا لیس مُعذّراً؛ بل لابدّ من التصدّی لامتثال ذلک التکلیف، وهذا هو معنی المنجّزیة. إذن: التکلیف منجّز علی کل تقدیر.

ص: 397

الشیخ الکاظمی(قدّس سرّه) فی فوائد الأصول نسب القول بالمنجّزیة علی هذا الأساس إلی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، (1) یعنی لیس فقط المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول بالمنجّزیة علی اساس دخول المقام فی باب الشکّ فی القدرة، وإنّما قال أنّ هذا مختار شیخنا الأستاذ، یعنی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، لکنّه یقول أنا ناقشته فی ذلک، ونقضت علیه بموارد الجزم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فتراجع عن رأیه وعدل عنه.

المهم فی هذا الکلام هو أن نبیّن ما هو النقض الذی طرحه المحقق الکاظمی(قدّس سرّه) علی هذه المحاولة. والنقض الذی ذکره هو: أنّه لو تمّ هذا الکلام وأردنا إثبات منجّزیة العلم الإجمالی باعتبار الشکّ فی القدرة لجری عین هذا الکلام فی موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أیضاً لابدّ أن نلتزم بمنجّزیة العلم الإجمالی فی موارد القطع بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، والمفروض أنّهم لا یلتزمون بذلک، أساس البحث کلّه کان مبنیاً علی افتراض أنّ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء یوجب سقوط التکلیف، فلا علم إجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، هو یقول أنّ نفس هذه الفکرة یمکن تطبیقها علی موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، باعتبار أنّ الملاک معلوم إجمالاً، یعنی ینتقل إلی مسألة الملاک لا إلی التکلیف، یقول لنفترض أنّ التکلیف معلوم العدم فی الفرد الخارج عن محل الابتلاء، لکنّ الملاک لیس کذلک؛ لأنّ القدرة العادیة التی هی محل کلامنا کالقدرة العقلیة لیست دخیلة فی الملاک، وإنّما هی دخیلة فی التکلیف وفی حسن توجیه الخطاب إلی المکلّف، المکلّف غیر القادر لا یحسن توجیه التکلیف إلیه، لکنّها لا علاقة لها بالملاک، فهی لیست دخیلة فی الملاک، حتّی لو فرضنا أنّ هذا عاجز عن امتثال التکلیف عجزاً عرفیاً، لکنّ هذا لا یعنی انتفاء الملاک فی ذاک الطرف علی تقدیر أن یکون التکلیف فیه واقعاً، وإنّما یسقط التکلیف ویسقط توجیه الخطاب إلیه؛ لأنّه عاجز، لکن الملاک موجود، ولا یسقط الملاک بمجرّد العجز، وهذا معناه أنّ المکلّف یعلم علماً إجمالیاً بثبوت الملاک، إمّا فی هذا الطرف الداخل فی محل الابتلاء، وإمّا فی الطرف الذی یشک فی خروجه أو دخوله فی محل الابتلاء، فإذن: هو یعلم بالملاک، وبثبوت الملاک فی محل الکلام، وإنّما یشک فی قدرته علی تحصیل ذلک الملاک وذلک الغرض للمولی، حیث أنّه لا یعلم أنّ هذا الغرض وذاک الملاک هل هو موجود فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، فهو قادر علی الإتیان به، أو أنّ الملاک ثابت فی الفرد الذی نعلم بخروجه عن محل الابتلاء حتّی لا یکون قادراً علیه، إذن: الشکّ یکون فی القدرة مع العلم بالملاک فی أحد الطرفین حتماً، مع العلم بخروج أحد الطرفین عن محل الابتلاء، لکن الملاک ثابت؛ لأنّ العجز __________ بحسب الفرض ___________ لیس دخیلاً فی الملاک، وإنّما هو دخیل فی الخطاب وفی التکلیف. إذن: هو یعلم بثبوت الملاک فی المقام فی أحد الطرفین، وإنّما یشکّ فی قدرته علی تحصیله؛ لأنّ هذا الملاک إن کان موجوداً فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، فهو قادر علی تحصیله، أمّا إن کان موجوداً فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فهو غیر قادر علی تحصیله. إذن: الشکّ فی القدرة، فإذا کان الشکّ فی القدرة؛ فحینئذٍ لابدّ أن نطبّق علیه نفس الفکرة ونلتزم بوجوب الاحتیاط وبمنجّزیة العلم الإجمالی بالرغم من العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. یقول: نقضت علیه بهذا النقض، فتراجع عن الفکرة، فإذن: هذا یُسجّل نقضاً علی المحاولة التی ذکرها المحقق العراقی(قدّس سرّه)، أنّه ما هو الفرق بین موارد الشک فی الخروج والدخول فی محل الابتلاء التی هی محل کلامنا، وبین موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فی کلٍ منهما یکون هناک علم بالملاک وشک فی القدرة علی تحصیله؛ لأنّ الفکرة التی طرحها المحقق العراقی(قدّس سرّه) هی أنّ فی هذا الطرف المشکوک المکلّف یشک فی قدرته علی الامتثال؛ لأنّ الفرد المشکوک إن کان داخلاً فی محل الابتلاء، فهو قادر، وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء، فهو غیر قادر. إذن: هو یشک فی القدرة، والشکّ فی القدرة لابدّ فیه من الاحتیاط. هو یقول له: فی موارد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء أیضاً یکون شکاً فی القدرة؛ لأنّ الملاک موجود ویعلم بوجوده فی أحد الطرفین، وإنّما یشکّ فی قدرته علی تحصیله، فإذا دخل فی باب الشک فی القدرة، فلابدّ من الاحتیاط ولابدّ من الالتزام بمنجّزیة العلم الإجمالی، وهذا ما لا یلتزم به لا المحقق العراقی(قدّس سرّه)، ولا المحقق النائینی(قدّس سرّه)، کلٌ منهما یلتزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة عند خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء کما تقدّم سابقاً. هذا هو النقض.

ص: 398


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص54.

المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی نهایة الأفکار ذکر هذا النقض وأجاب عنه: بأنّ هذا ناشئ من قلّة التأمّل، (1) یعنی قیاس ما نحن فیه علی موارد القطع بخروج بعض أطراف العلم الإجمالی عن محل الابتلاء هو قیاس مع الفارق، باعتبار أنّ الشک فی موارد القطع بخروج أحد الطرفین عن محل الابتلاء هو شک فی وجود الملاک فی المقدور ولیس شکّاً فی القدرة، والعقل إنّما یحکم بالتنجیز وبالاحتیاط فی موارد الشکّ فی القدرة لا فی موارد الشک فی وجود الملاک فی المقدور.

توضیح ذلک: ما یحکم العقل بالتنجیز فیه هو الشکّ فی موارد الشکّ فی القدرة مع إحراز وجود الملاک، عندما نحرز وجود الملاک والمصلحة ونشکّ فی القدرة؛ حینئذٍ هذا یکون من موارد حکم العقل بالتنجیز والاحتیاط، لکن عندما نشکّ فی القدرة علی ما فیه الملاک، یعنی إذا أحرزنا وجود الملاک والمصلحة فی شیء وشککنا فی أنّ المکلّف قادر علی تحصیل هذه المصلحة والملاک، أو لا ؟ هذا یحکم العقل بعدم جوازه وبلزوم الاحتیاط؛ لأنّ الملاک یمثّل غرض المولی، وغرض المولی لا یجوز تفویته بمجرّد الشک بقدرته علی تحصیله؛ بل لابدّ أن یتصدّی لتحصیله إلی أنّ إما أن یُحصّله، أو یحصل له العلم بعدم القدرة، فیکون معذوراً، لکن ما دام شاکّاً فی قدرته علی تحصیل وعلی الإتیان بما فیه الملاک، العقل لا یعتبر هذا الشک مؤمّناً؛ بل یعتبره منجّزاً علی المکلّف، فیجب علیه الاحتیاط. هذا هو ما یحکم العقل بکونه منجّزاً. هذا المعنی متحقق فی موارد الخروج عن محل الابتلاء والدخول فی محل الابتلاء الذی هو محل کلامنا، الموضوع الذی یحکم فیه العقل بالتنجیز متحقق فی محل الکلام، یعنی فی موارد الشک فی الخروج عن محل الابتلاء، والدخول فی محل الابتلاء، وذلک باعتبار أنّ الفرد المشکوک علی تقدیر أن یکون الملاک فیه، فهو یشکّ فی القدرة علیه؛ لأنّ هذا الطرف المشکوک علی تقدیر أن یکون الملاک فیه هو یشک فی أنّه داخل فی محل الابتلاء حتّی یکون قادراً علی تحصیله، أو خارج عن محل الابتلاء حتّی یکون عاجزاً عن تحصیله، فهو شک فی القدرة فی ما فیه الملاک والمصلحة، بمعنی أنّ الملاک علی تقدیر أن یکون موجوداً فی الطرف المشکوک فهو یشکّ فی القدرة علیه، فإذن: الشکّ فی القدرة مع افتراض وجود الملاک. إذن: المکلّف عالم بوجود الملاک فی أحد الطرفین ویشک فی القدرة علی تحصیله علی تقدیر وجوده فی الطرف المشکوک، هذا هو مورد حکم العقل بالتنجیز وهو الذی یحکم فیه العقل بالاحتیاط. وأمّا فی مورد النقض، یعنی فی مورد العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، یقول: موضوع حکم العقل بالتنجیز وبالاحتیاط غیر متحقق وهذا هو الفارق بینهما، فی موارد العلم بخروج الطرف عن محل الابتلاء، موضوع الحکم العقلی الذی هو الشکّ فی القدرة غیر متحقق، فی حالة العلم بخروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء لا یوجد شک فی القدرة، وإنّما یوجد شک فی وجود الملاک فی المقدور؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون الملاک متحققاً فی الفرد الداخل فی محل الابتلاء لا یوجد شک فی القدرة؛ بل یوجد قطع بالقدرة علی تحصیله، وعلی تقدیر أن یکون الملاک متحققاً فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء أیضاً لا یوجد شک فی القدرة، وإنّما هناک قطع بعدم القدرة علیه؛ لأنّ المفروض أنّه خارج عن محل الابتلاء ونعلم بخروجه عن محل الابتلاء، هذا هو مورد النقض. إذن: یدور الملاک بین أن یکون موجوداً فی طرفٍ نعلم بالقدرة علی تحصیله، أو موجوداً فی طرفٍ نعلم بعدم القدرة علی تحصیله، فأین الشکّ فی القدرة حتّی یکون داخلاً فی موضوع حکم العقل بالتنجیز وبالاحتیاط؟ لا یوجد شک فی القدرة، وإنّما مرجعه إلی أنّه یشک فی وجود الملاک فی الطرف المقدور، مثل هذا لا یحکم العقل بتنجیزه ولا یحکم بالاحتیاط فیه، العقل إنّما یحکم بالاحتیاط عند الشک فی القدرة مع افتراض وجود الملاک؛ لأنّه یقول: مع افتراض وجود الملاک لابدّ من تحصیل ملاک المولی وتحقیق أغراضه، لا أنّه بمجرّد أن یشک فی قدرته علی تحصیله یجری البراءة، کلا، هنا مورد للاشتغال، لکن هذا یکون عند افتراض وجود الملاک والشک فی القدرة علی تحصیله، هذا المعنی متحقق فی محل الکلام لأنّ المکلّف یشک فی القدرة علی تحصیل الغرض علی تقدیر أن یکون موجوداً فی الطرف المشکوک، واقعاً یشک فی قدرته علی تحصیل الغرض علی تقدیر أن یکون الملاک موجوداً فی الطرف المشکوک، لکن هذا المعنی غیر متحقق فی مورد النقض؛ لأنّه فی مورد النقض لاشکّ فی القدرة؛ لأنّه علی أحد التقدیرین هناک علم بالقدرة علی تحقیق الغرض وعلی التقدیر الآخر هناک علم بعدم القدرة علی تحصیل الغرض، فأین الشکّ فی القدرة ؟ فلا یمکن قیاس مورد النقض علی محل الکلام.

ص: 399


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص342.

بناءً علی تمامیة هذا الجواب إلی هنا المحاولة التی ذکرها المحقق العراقی(قدّس سرّه) تکون تامّة، بمعنی أنّه یمکن الالتزام بمنجّزیة العلم الإجمالی مع الشکّ فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بهذه المحاولة لا عن طریق التمسّک بإطلاق دلیل الخطاب، وتثبت المنجّزیة حینئذٍ فی محل الکلام، ویفرّق حینئذٍ بین الشک فی خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ودخوله، فیلتزم بالمنجّزیة طبقاً لهذه المحاولة وبین العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، فیُلتزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة.

لکن هذه المحاولة التی ذکرها المحقق العراقی(قدّس سرّه) لإثبات منجّزیة العلم الإجمالی فی محل الکلام أجاب عنها السید الشهید(قدّس سرّه) بهذا الجواب، (1) قال: أنّ هذه المحاولة غیر تامّة؛ لأنّه وقع فیها خلط بین الشک فی القدرة علی الامتثال وبین الشک فی القدرة علی العصیان، وهناک فرق بینهما، العقل إنّما یحکم بالتنجیز وبالاحتیاط فی موارد الشک فی القدرة علی الامتثال، أمّا فی موارد الشکّ فی العصیان، فلا معنی لفرض حکم العقل بالتنجیز وبالاحتیاط، ومحل الکلام من قبیل الثانی، یعنی فی محل الکلام لا یوجد عندنا شک فی القدرة علی الامتثال حتّی یقال أنّ العقل یحکم فیه بالتنجیز وبالاحتیاط، وإنّما یوجد عندنا شک فی القدرة علی العصیان لا علی الامتثال.

توضیح الکلام: أنّ المکلّف إذا شکّ فی قدرته علی الغُسل، العقل هنا یحکم بلزوم التصدّی لتحصیل الغُسل، أی یحکم بالاشتغال، إلی أن إمّا أن یقدر علیه، فیأتی به، أو یتبیّن له أنّه غیر قادر علیه، فیکون معذوراً، فإذا فرضنا أنّ وجوب الغُسل وقع طرفاً لعلم إجمالی، کما إذا فرضنا أنّه علم إجمالاً إمّا بوجوب الدعاء عند رؤیة الهلال، أو بوجوب الغُسل، وشکّ فی قدرته علی امتثال وجوب الغُسل، هنا الکلام الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) یکون تامّاً؛ لأنّ التکلیف علی أحد التقدیرین یکون فعلیاً، علی تقدیر أن یکون موجوداً فی الدعاء عند رؤیة الهلال؛ لأنّه مقدور وداخل فی محل الابتلاء ولا یوجد شک فی القدرة علیه، وإمّا أن یکون ثابتاً فی الغُسل؛ وحینئذٍ أیضاً یکون منجّزاً؛ لأنّه شاک فی القدرة علی الامتثال، والعقل یحکم بتنجیزه ووجوب الاحتیاط من ناحیته، فیکون مثل هذا العلم الإجمالی منجّزاً علی کل حال، وإن کان شاکّاً فی القدرة علی امتثال هذا الطرف، والسر هو ما أشار إلیه المحقق العراقی(قدّس سرّه) من أنّ القدرة العرفیة کالقدرة العقلیة غیر دخیلة فی الملاک، وإنّما هی دخیلة فی الخطاب وفی حسن توجیه الخطاب. إذن: علی تقدیر عدم القدرة یسقط الخطاب لا الملاک، ومن هنا یکون الملاک موجوداً حتّی علی تقدیر عدم القدرة علی الغُسل، فإذا شک فی القدرة علیه، الملاک موجود والغرض موجود، فیحکم العقل بلزوم تحصیله، وحکم العقل بالتنجیز معناه لزوم التصدّی لتحصیل ذلک الغرض والإتیان بذلک الذی یشک فی قدرته علیه إلی أن یُحصّله، أو یتبیّن له عدم القدرة، فیرتفع شکّه فی القدرة. هذا هو معنی حکم العقل بالتنجیز، وهذا واضح جدّاً فی موارد الشک فی القدرة علی الامتثال، لکنّ ما نحن فیه لیس من هذا القبیل، ما نحن فیه لیس من قبیل الشکّ فی القدرة علی الامتثال، وإنّما هو من قبیل الشکّ فی القدرة علی العصیان لا علی الشک فی القدرة علی الامتثال، باعتبار أنّ فی ما نحن فیه نحن لا نشک فی القدرة علی الامتثال، المکلّف علی کل حال قادر علی الامتثال حتّی مع فرض الخروج عن محل الابتلاء، حتّی لو فرضنا أنّ هذا الطرف قطعاً کان خارجاً عن محل الابتلاء، الترک لا یحتاج إلی شیء فالمکلّف قادر علی امتثاله، الشک لیس فی قدرته علی الامتثال فی محل الکلام، هو یعلم بأنّ الحرام هو إمّا هذا الماء الموجود فی هذا الإناء الداخل تحت محل ابتلائه، أو فی الإناء الذی نعلم بخروجه عن محل الابتلاء، هذا التکلیف علی تقدیر أن یکون ثابتاً فی الخارج عن محل الابتلاء هو حرمة شرب الخمر، وهو قادر علی ترک شرب الخمر، إذن: هو قادر علی الامتثال حتّی مع فرض الخروج عن محل الابتلاء، لیس الشک فی المقام فی القدرة علی الامتثال أو عدم القدرة علی الامتثال؛ لأنّه قادر علی الامتثال حتماً فی فرض العلم بخروج الطرف عن محل الابتلاء، فضلاً عن فرض الشک فی خروجه ودخوله فی محل الابتلاء، إذن: الشک فی القدرة علی الفعل، أی فی القدرة علی الشرب، یعنی فی القدرة علی العصیان، بالنسبة إلی النهی الامتثال یکون بالترک، والعصیان یکون بالفعل، هو یشکّ فی قدرته علی شربه ولیس فی قدرته علی ترک شربه، وإلاّ من الواضح أنّ ترک الشرب مقدور له بلا إشکال حتّی لو خرج عن محل الابتلاء. إذن: فی محل الکلام المکلّف عندما یشک فی أنّ هذا الطرف داخل فی محل الابتلاء، أو خارج عن محل الابتلاء یعنی یشکّ فی قدرته علی شرب ذلک المائع الموجود فی ذلک الإناء؛ لأنّه علی تقدیر دخوله فی محل الابتلاء، هو قادر علی شربه، وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء، فهو لیس قادراً علی شربه، وعدم القدرة هذه لیست عدم قدرة عقلیة، وإنّما قدرة عرفیة، أی لیس قادراً عرفاً علی شربه؛ لأنّه موجود فی مکان بعید جدّاً، فالقدرة المشکوکة فی محل الکلام لیست القدرة علی الامتثال، وإنّما هی القدرة علی العصیان، یقول : وفی حالة الشک فی القدرة علی العصیان لا معنی لأن یُلتزم بالتنجّز بحکم العقل علی ضوء ما ذکره من أنّ التنجّز بحکم العقل معناه لزوم التصدّی لتحصیل الغرض، هذا معقول عند الشک فی القدرة علی الامتثال، وهذا المعنی لا یمکن تطبیقه عند الشک فی العصیان؛ إذ ما معنی أن یقول عندما تشک فی العصیان یجب علیک أن تتصدّی للعصیان ؟! هناک یمکن أن یقال أنّ هناک معنی لأن یحکم العقل بلزوم التصدّی للامتثال عند الشک فی القدرة علی الامتثال، أمّا عندما یشک المکلّف فی القدرة علی العصیان لا معنی لأن یحکم العقل بلزوم التصدّی للعصیان، لا معنی لذلک اصلاً. هذه هی الفکرة التی یقولها، أنّه فی المقام لیس مورداً لحکم العقل بالاحتیاط وبالتنجّز؛ لأنّ مورد حکم العقل بالاحتیاط والتنجّز هو الشک فی القدرة علی الامتثال، وما نحن فیه لیس هکذا، وإنّما هو شک فی القدرة علی العصیان لا فی القدرة علی الامتثال. یقول: لو فرضنا أنّه بنا هناک فی مورد الشک فی القدرة علی الامتثال فی القدرة علی الغُسل..... لو بنا علی عدم القدرة من دون أن یتصدّی لتحصیله سوف یقع فی محذور المخالفة، العقل یرفض هذا المعنی، بینما فی موارد الشک فی القدرة علی العصیان لو بنا علی عدم القدرة لا یوجد محذور المخالفة، هو شاک فی أنّه قادر علی العصیان بالنسبة إلی ذاک الإناء الموجود فی أقصی بقاع الأرض، أو لا ؟ لو بنا علی عدم القدرة، وترکه، فهل حینئذٍ یکون مخالفاً ؟ لا یکون مخالفاً کما کان یقع فی محذور المخالفة عندما یشک فی القدرة علی الامتثال لو بنا علی عدم القدرة، ومن هنا یکون هناک فارق بینهما، العقل لا یری فی هذا محذوراً ولا یحکم بلزوم الاحتیاط والتنجّز؛ لأنّ غایته أن یبنی علی عدم القدرة، ویترک شرب ذلک الخمر لو بنا علی عدم القدرة، هذا لا یوقعه فی محذور المخالفة، بینما عند الشک فی القدرة علی الامتثال لو بنا علی عدم القدرة سوف یقع فی محذور المخالفة للتکلیف المنجّز بحسب نظر العقل، ومن هنا یقول لا تکون هذه المحاولة تامّة.

ص: 400


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص146.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

انتهی الکلام إلی الجواب عن ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)لإدخال المورد فی باب الشک فی القدرة، وبالتالی إثبات منجّزیة العلم الإجمالی فی محل الکلام من دون التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف، الجواب عنه ذکرناه فی الدرس السابق، حاصل الجواب هو أنّ التنجّز الذی یحکم به العقل فی موارد الشک فی القدرة یُراد به لزوم التصدّی للامتثال والإتیان بما یُشک فی القدرة علیه ما لم ینکشف عدم القدرة، هذا المعنی للتنجّز إنّما یتصوّر فی حالات الشکّ فی القدرة علی الامتثال کما فی مثال الغُسل المتقدّم، إذا شکّ فی قدرته علی الإتیان بالغُسل، هذا ممّا یحکم العقل بوجوب التصدّی لامتثاله، فیحکم العقل بوجوب التصدّی لما یشک فی قدرته علیه؛ لأنّه یشک فی قدرته علی امتثاله، فیجب علیه التصدّی لما یشک فی قدرته علیه الذی هو الامتثال بحسب الفرض، فإمّا أن یأتی به، أو أن یتبیّن له عدم القدرة علیه، وهذا هو معنی التنجّز الذی یحکم به العقل. وأمّا عند الشک فی القدرة علی العصیان لا علی الامتثال کما فی محل الکلام لما بیّناه فی الدرس السابق بأنّ الشک فی المقام فی محل الکلام لیس فی القدرة علی الامتثال؛ لأنّ المکلّف قادر علی الامتثال؛ لأنّه قادر علی الترک والترک هو عبارة عن الامتثال، فلاشک فی القدرة علی الامتثال فی محل الکلام، وإنّما هو یشک فی قدرته علی الفعل، وعلی شرب ذلک الإناء الذی هو فی مکان یُشک فی کونه خارجاً عن محل الابتلاء، أو داخلاً فی محل الابتلاء، فالشک فی القدرة علی العصیان ولیس الشک فی القدرة علی الامتثال، هو بإمکانه أن یمتثل هذا النهی حتّی فی الفرد المشکوک بأن یترک شرب الإناء، وإنّما هو یشک فی قدرته علی العصیان، یعنی فی قدرته علی الشرب وعلی الفعل الذی یتحقق به العصیان، فی مثل هذا، التنجّز الذی یحکم به العقل بالمعنی السابق لا معنی لافتراضه فی المقام، بأن یقال ___________ مثلاً _____________ أنّ العقل یحکم بلزوم التصدّی لما یشک فی قدرته علیه، والمفروض أنّ ما یشک فی قدرته علیه هو العصیان والمخالفة، ولا معنی لأن نقول بأنّ العقل یحکم بلزوم التصدّی للعصیان، بینما هناک کان هناک معنی لأن یقال أنّ العقل یحکم بلزوم التصدّی للامتثال عند الشک فی القدرة علی الامتثال، أمّا عند الشک فی القدرة علی العصیان لا معنی لأن یقال أنّ العقل یحکم بلزوم التصدّی للعصیان حتّی یتبیّن له عدم القدرة، هذا المعنی غیر متصوّر عند الشکّ فی القدرة علی العصیان، ومن هنا لا یصح إثبات المنجّزیة فی محل الکلام استناداً إلی أن ّالمشکوک من موارد الشک فی القدرة. یعنی ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) من أننا نعلم بتکلیف فعلی علی تقدیرٍ، ومنجّزٍ علی تقدیرٍ آخر، فیکون هناک علم بالتنجّز علی کل تقدیر، وهذا علم إجمالی ینجّز کلا الطرفین. هذا الکلام لا یصح إلاّ فی موارد الشک فی القدرة علی الامتثال، أمّا فی موارد الشک فی القدرة علی العصیان کما فی محل الکلام، هنا لا معنی لحکم العقل بالتنجز، وبالتالی لا یکون هناک علم إجمالی بالتنجّز علی کل تقدیر، فلا یتم هذا الکلام.

ص: 401

الذی یمکن أن یقال فی هذا المجال: أنّه لماذا لا نفسّر التنجّز الذی یحکم به العقل فی موارد الشک فی القدرة تفسیراً آخراً غیر مسألة لزوم التصدّی لما یشک فی قدرته علیه حتّی نقول إن الشک هو فی القدرة علی الامتثال فالتصدّی له معقول، ولا یکون معقولاً ومقبولاً عندما یکون الشک فی القدرة علی العصیان ؟ کلا، لماذا لا نفسّر التنجّز الذی یحکم به العقل فی موارد الشک فی القدرة بتفسیرٍ آخر یمکن تطبیقه علی کلا الموردین ؟ یعنی یکون معقولاً فی کلا الفرضین، وذلک بأن نفسّر التنجّز الذی یحکم به العقل بأنّه عبارة عن قبح تفویت غرض المولی فی موارد العلم بوجود غرضه وتحققه، عندما یعلم المکلّف بوجود غرضٍ للمولی العقل یحکم بقبح تفویت هذا الغرض، هذا هو مفاد الحکم العقلی ومعنی التنجّز الذی یحکم به العقل، أنّک أیّها المکلّف عندما تعلم بوجود غرضٍ للمولی لا یجوز لک تفویت هذا الغرض لمجرّد الشک فی قدرتک علی تحصیله؛ بل یجب علیک تحصیل ذلک الغرض بالرغم من الشک فی قدرتک علی تحصیله، هذا هو مفاد الحکم العقلی. هذا التفویت الذی یحکم العقل بقبحه فی موارد الشک فی القدرة کما یتحقق فی الواجبات کما فی مثال الغُسل وغیره من الأمثلة الکثیرة، عندما یشکّ المکلّف فی قدرته علی حفر قبرٍ للمیّت لدفنه، لا إشکال أنّه لا یجوز أن یعتمد علی شکّه فی قدرته لترک ذلک التکلیف؛ بل یجب علیه التصدّی للامتثال، هذا کما یتحقق فی الواجبات، والتفویت المحکوم عقلاً بقبحه یکون بترک التصدّی للفعل، إذا ترک التصدّی للغُسل مع شکّه فی قدرته علیه، أو ترک التصدّی لدفن المیت مع شکّه فی قدرته علیه یقال بأنّ هذا فوّت علی المولی غرضه، وهذا قبیح بنظر العقل، فالعقل یحکم بقبح تفویت الغرض علی المولی، أو بقبح تفویت غرض المولی المعلوم وجوده. أمّا فی المحرّمات من قبیل شرب الخمر وشرب النجس وأمثال هذه الأمور المحرّمة عند الشکّ فی القدرة علی الفعل هنا تفویت الغرض الذی یحکم العقل بقبحه یکون بالتصدّی لفعله بعکس ما فی الواجبات، التفویت هناک یکون بترک التصدّی للفعل، هذا یحکم العقل بقبحه؛ لأنّه تفویت للغرض المعلوم، بینما فی باب المحرّمات تفویت الغرض علی المولی یکون بالتصدّی للفعل، إذا تصدّی للفعل فی باب المحرّمات یکون قد فوّت علی المولی غرضه، فی باب المحرّمات التفویت القبیح عقلاً الذی یحکم العقل بقبحه یکون بالتصدّی للفعل، فإذا تصدّی للفعل یکون قد فوّت علی المولی غرضه. التصدّی للفعل فی محل الکلام فی المحرّمات یکون بالإتیان بمقدّماته المؤدّیة إلیه، إذا جاء بالمقدّمات المؤدّیة إلی ذلک الفعل، یقال بأنّ هذا فوّت علی المولی غرضه، والسرّ فی ذلک هو أنّ العقل یحکم علی المکلّف بلزوم سدّ باب وجود الحرام حتّی یحقق للمولی غرضه، وإلاّ إذا جاء بالمقدّمات المؤدّیة إلی ذلک الفعل یکون قد فوّت علی المولی غرضه، ویکون قد خالف الحکم العقلی؛ لأنّ العقل یحکم بلزوم سدّ باب وجود الحرام، وأن لا یأتی بالمقدّمات التی تؤدّی إلی تحقق ذلک الحرام؛ فحینئذٍ یکون هذا التکلیف منجّزاً بهذا المقدار، بمعنی أنّ هذا المکلّف الذی یشکّ فی قدرته علی فعل الحرام یجب علیه أن لا یأتی بالمقدّمات المؤدّیة إلی ذلک الحرام؛ لاحتمال أن تکون تلک المقدّمات مُفضیة إلی ذلک الحرام، والمفروض أنّ هذا یوجب تفویت الغرض علی المولی، وعبّرنا عنه بالاحتمال؛ لأنّ المقدّمات وإن کانت مؤدّیة إلی الحرام، لکن کون ذاک حراماً، هذا مشکوک فی محل الکلام؛ لأننا نحتمل أنّ الغرض موجود فی هذا الطرف کما نحتمل أنّ الغرض موجود فی الطرف المشکوک، فلیس لدینا علم تفصیلی بأنّ الحرام موجود فی الطرف المشکوک، وإنّما عندنا علم إجمالی بوجود الغرض فی أحد الطرفین، هذا الطرف المشکوک یُحتمل أن یکون ممّا فیه الغرض، الإتیان بالمقدّمات المؤدّیة إلی الفعل، أی إلی الحرام وهو شرب ذلک الإناء یلزم منه تفویت الغرض علی المولی علی تقدیر أن یکون هو الحرام الواقعی، علی تقدیر أن یکون الحرام الواقعی موجوداً فی الفرد المشکوک؛ حینئذٍ الإتیان بالمقدّمات المؤدّیة إلی ذلک الحرام یکون تفویتاً لغرض المولی، العقل یحکم بالمنجّزیة بهذا المقدار فی محل الکلام.

ص: 402

وبعبارةٍ أخری: نستطیع أن نقول بأنّ المکلّف وإن لم یکن شاکّاً فی القدرة علی الامتثال فی محل الکلام کما ذُکر؛ لأنّ المفروض فی محل الکلام هو الشکّ فی العصیان لا الشک فی القدرة علی الامتثال، وإنّما الشک فی القدرة علی العصیان، صحیح، المکلّف لیس شاکّاً فی القدرة علی امتثال النهی المحتمل فی ذاک الطرف؛ لأنّه عالم بالقدرة علی امتثاله؛ لأنّ امتثاله یکون بالترک وهو قادر علی الترک، وإنّما شکّه فی الفعل علی ما تقدّم، لکن بعد فعل مقدّمات الحرام المؤدّیة إلیه یکون المکلّف شاکّاً فی القدرة علی الامتثال، یعنی شاکّاً فی قدرته علی الترک؛ لاحتمال أن تکون ما أدّت إلیه المقدّمات المؤدّیّة إلی الحرام، احتمال أن یکون حراماً وبعد الإتیان بالمقدّمات لا یکون المکلّف قادراً علی ترکه، بعد الإتیان بهذه المقدّمات المؤدّیة إلی ذلک الشرب المکلّف یشک فی قدرته علی الامتثال، ویشکّ فی قدرته علی الترک؛ لأنّه إن کان الحرام لیس موجوداً فیه، فلا مشکلة، لکن علی تقدیر أن یکون الحرام موجوداً فی الفرد المشکوک وقد جاء بالمقدّمات المؤدّیة إلیه، لا یکون قادراً علی الترک، یعنی لا یکون قادراً علی الامتثال. صحیح، قبل الإتیان بالمقدّمات هو قادر علی الامتثال ولیس شاکّاً فی القدرة علی الامتثال، وإنّما هو شاک فی القدرة علی العصیان، لکن بعد الإتیان بمقدّمات ذلک الفعل المؤدّیة إلیه، فإذا جاء بها وأدّت إلیه وکان حراماً، لا یکون قادراً علی امتثال ذلک الحرام؛ لأنّه جاء بما یُفضی إلی ذلک الفعل الذی من المفروض أنّه حرام، فلا یکون قادراً علی الامتثال.

إذن: هو علی أحد التقدیرین یکون قادراً علی الامتثال، وعلی التقدیر الآخر لا یکون قادراً علی الامتثال، إذن: فی الواقع بعد الإتیان بالمقدّمات المؤدّیة إلی الفعل هو یکون شاکّاً فی القدرة علی الامتثال؛ وحینئذٍ یکون حاله حال الواجبات فی الفرض السابق. الذی نرید أن نقوله هو أنّه لا مانع ولا محذور فی افتراض أنّ العقل یحکم بالتنجّز بمعنی أنّه فی موارد الشک فی القدرة العقل یحکم بقبح تفویت غرض المولی ولزوم التصدّی لتحصیل غرض المولی، وأنّ الشک فی القدرة لیس عذراً ولا مؤمّناً، هذا کلّه مع افتراض ما ذکرناه ونقلناه عن المحقق العراقی(قدّس سرّه) سابقاً من أنّ الملاک لا یسقط بالعجز، وإنّما الذی یسقط هو التکلیف وتوجیه الخطاب، فی موارد الشک فی الدخول فی محل الابتلاء والخروج عن محل الابتلاء علی تقدیر أن یکون هو الحرام الملاک موجود، والغرض موجود ومحفوظ، العقل عند الشک فی القدرة یحکم بقبح تفویت الملاک ولزوم التصدّی لتحصیله. هذا المعنی من التنجّز کما ینطبق ویتحقق فی الواجبات یمکن افتراض تحققه فی المحرّمات، وذلک بأن یحکم العقل بأنّک لا یجوز لک الإتیان بالمقدّمات المؤدّیة إلی ذلک الفعل؛ لأنّ الإتیان بالمقدّمات المؤدّیة إلی ذلک الفعل یعتبر بنظر العقل تفویت لغرض المولی، وتفویت غرض المولی قبیح، لیکن حکم العقل منجّزاً لهذا المقدار فی محل الکلام؛ وحینئذٍ یصح للمحقق العراقی(قدّس سرّه) أن یقول بأننا نعلم بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیر، وتکلیفٍ منجّزٍ علی تقدیرٍ آخر، علی تقدیر أن یکون الحکم موجوداً فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، فهو فعلی، وعلی تقدیر أن یکون فی الطرف المشکوک، هنا لا علم لنا بفعلیته؛ لأنّ الدخول فی محل الابتلاء شرط فی التکلیف _____________ بحسب الفرض _____________ لکنّه لیس شرطاً فی الملاک، والعقل یحکم بقبح تفویت هذا الملاک، ویقول للمکلّف لا یجوز أن تأتی بالمقدّمات المؤدّیة إلی ذلک الفعل الذی تحتمل کونه حراماً؛ لأنّ هذا تفویت لغرض المولی، وهذا قبیح بحکم العقل، فیحکم بالتنجّز. هذا ما یرتبط بهذا البحث.

ص: 403

هناک کلام للسید الخوئی(قدّس سرّه)، الظاهر أنّه ناظر إلی کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) المتقدّم، لکنّه یذکره فی الشبهة المصداقیة التی یأتی الکلام فیها، کلامنا إلی الآن فی الشبهة المفهومیة. یذکر کلاماً فی الشبهة المصداقیة کأنّه ناظر إلی کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه)، ویُشکل علیه بإشکالٍ سیأتی التعرّض له، وهو أنّ مسألة الشک فی القدرة إنّما یکون مورداً لحکم العقل بالاشتغال والاحتیاط ولا تجری فیه البراءة، هذا کلّه فی موارد إحراز وجود الغرض والشک فی القدرة علی تحصیله؛ عندئذٍ یحکم العقل بالاحتیاط والاشتغال ولا مجال للبراءة، یقول: هذا غیر متحققٍ فی محل الکلام؛ لأننا لا نحرز وجود الغرض فی هذا الطرف ولا فی هذا الطرف، هو یأتی بهذا الکلام لبیان أنّه لا مانع من إجراء البراءة _____________ کما سیأتی بحثه فی الشبهة المصداقیة ___________ فی الطرف المقدور الداخل فی محل الابتلاء، ولیس هذا مورداً لحکم العقل بالاحتیاط والاشتغال؛ لأنّ العقل إنّما یحکم بالاحتیاط والاشتغال عند إحراز وجود الغرض، ونحن لا نحرز وجود الغرض فی الطرف المقدور الداخل فی محل الابتلاء؛ لاحتمال أن یکون الغرض موجوداً فی الطرف الآخر؛ ولذا یقول هذا لیس من موارد حکم العقل بالاشتغال والاحتیاط عند الشک فی القدرة؛ لأنّه یُشرط فیه إحراز وجود الغرض، وفی هذا الطرف المقدور الداخل فی محل الابتلاء نحن لا نحرز وجود الغرض؛ فلذا لا مانع من إجراء البراءة. نستطیع أن نطبّق نفس هذا الکلام فی الطرف المشکوک الذی هو محل کلامنا، المحقق العراقی(قدّس سرّه) ناظر إلی الطرف المشکوک، ویقول: بأننا نعلم بتکلیفٍ فعلی علی أحد التقدیرین، ومنجّز علی التقدیر الآخر، یعنی علی تقدیر أن یکون التکلیف موجوداً فی الطرف المشکوک، فطبّقَه علی الطرف المشکوک، فیمکن أن یُنقل هذا الکلام إلی الطرف المشکوک، فیقال أنّ الالتزام بحکم العقل بالاشتغال والاحتیاط عند الشک فی القدرة إنّما یصح إذا کنّا نحرز وجود الغرض فی هذا الطرف، ونحن لا نحرز وجود الغرض فی الطرف المشکوک؛ فحینئذٍ لا یکون هذا من موارد حکم العقل بالاشتغال والاحتیاط باعتبار الشک فی القدرة؛ لأنّه یُشترط فیه أن یکون هناک إحراز للغرض والملاک، ونحن لا نحرز ذلک، فإذن: نمنع ممّا ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) من إجراء قاعدة الاشتغال والالتزام بأنّ العقل یحکم بالتنجّز فی الطرف المشکوک باعتبار الشک فی القدرة، نمنع من ذلک؛ لأنّه لا علم لنا بوجود الغرض فی الطرف المشکوک، فلا یکون من موارد حکم العقل بالتنجّز، وهذا إشکال علی المحقق العراقی(قدّس سرّه)، بالتالی لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً؛ لأنّه علم بتکلیفٍ فعلیٍ علی تقدیر ولیس فعلیاً ولیس منجّزاً علی التقدیر الآخر، أمّا کونه غیر فعلی؛ فلأنّه لیس هناک علم بدخوله فی محل الابتلاء، ویُشترط فی فعلیة التکلیف الدخول فی محل الابتلاء، وأمّا کونه غیر منجزٍ؛ فلأنّ العقل لا یحکم بمنجّزیته حتّی بلحاظ الغرض؛ لأننا لا نحرز وجود الغرض فی الطرف المشکوک، فبالتالی ینهار ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 404

هذا الإیراد الذی سیأتی التعرّض له یمکن أن یقال فی دفعه: أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یفترض إحراز وجود الغرض، لکن علی نحو العلم الإجمالی، یفترض أننا نعلم بتحقق الغرض فی أحد الطرفین، هذا الطرف بخصوصه لیس لدینا علم بوجود الغرض فیه، وکذلک الطرف الآخر، لکننّا نعلم إجمالاً بوجود الغرض، صحیح لیس لدینا علم إجمالی بتحقق التکلیف علی کل تقدیر من جهة أنّ التکلیف الفعلی مشروط بالدخول فی محل الابتلاء، ونحن نشکّ فی دخول أحد الطرفین فی محل الابتلاء، أو خروجه عن محل الابتلاء، وقلنا أنّ النتیجة تتبع أخس المقدّمتین فلا یکون هناک علم بتکلیفٍ فعلی علی کل تقدیر، لکن بالنسبة إلی الغرض هناک علم بثبوت الغرض علی کل تقدیر، بمعنی أنّه علی تقدیر أن یکون التکلیف فی هذا الطرف فالغرض موجود، وإن کان فی ذاک الطرف فالغرض أیضاً موجود وإن سقط التکلیف، حتّی إذا سقط التکلیف علی تقدیر خروجه عن محل الابتلاء، لکن الغرض باقٍ، لکن الخروج عن محل الابتلاء الذی هو العجز العرفی لا یستلزم زوال الغرض، وإنّما یستلزم عدم التکلیف وعدم توجیه الخطاب. إذن: هو یفترض إحراز وجود الغرض، لکن لیس إحرازاً تفصیلیاً، وإنّما هو إحراز إجمالی. إذن: المکلّف عالم بوجود الغرض فی أحد الطرفین، إمّا الطرف الداخل فی محل الابتلاء، أو الطرف الذی یُشک فیه، وکأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یرید أن یطبّق حکم العقل بالتنجیز حتّی فی هذا الفرض، یقول العقل یحکم بالاشتغال والاحتیاط عند الشک فی القدرة حتّی مع العلم الإجمالی بتحقق الغرض، فضلاً عن العلم التفصیلی بتحقق الغرض. نعم لو لم یکن هناک علم إجمالی ولا تفصیلی بتحقق الغرض، هنا لا یحکم العقل بالاشتغال والاحتیاط.

ص: 405

فإذن: نحن نعلم بتحقق الغرض، إمّا فی هذا الطرف، أو فی هذا الطرف، یأتی المکلّف یرید أن یفوّت علی المولی غرضه علی تقدیر أن یکون التکلیف موجوداً فی هذا الطرف، العقل یحکم بالتنجیز ویقول لا یجوز تفویت غرض المولی، بعد العلم بالتکلیف، کما أنّ العقل بعد العلم بالتکلیف یقول لابدّ من الاحتیاط مع أنّه لا یعلم أنّ التکلیف موجود فی هذا الطرف، أو فی هذا الطرف، وهذا هو العلم الإجمالی العادی، لکن لأنّه یعلم إجمالاً بوجود التکلیف العقل یحکم بالاشتغال وبالاحتیاط، نفس هذا الکلام هو یرید أن یطبقه علی العلم الإجمالی بالغرض، یعلم إجمالاً بوجود غرضٍ للمولی، المکلّف تردد بأنّ الغرض موجود فی هذا الطرف، أو فی هذا الطرف، العقل أیضاً یحکم بالاشتغال وبالاحتیاط. فلا نستطیع أن نقول کما ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) من أنّه هنا لا علم بالغرض ولا إحراز للغرض بحیث یقارنه بالشبهات البدویة، یقول فی الشبهات البدویة لا یحکم العقل بالتنجّز، احتمال أن یفوت الغرض لا یؤثّر، ففی کل شبهة بدویة یوجد احتمال أن یفوت غرض المولی، المهم إحراز فوات الغرض، فی محل کلامنا یفوت الغرض، فی ما إذا فرضنا أننا لم نحکم بالتنجیز؛ حینئذٍ سوف یفوت الغرض بهذا المعنی الذی ذکرناه. وهذا سیأتی التعرّض له فی الشبهة المصداقیة.

إلی هنا یتمّ الکلام فی المقام الأوّل، یعنی فی الشبهة المفهومیة، والظاهر __________ والله العالم _________ أنّه لم یقم دلیل لإثبات المنجّزیة فی محل الکلام.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

ص: 406

الکلام فی المقام الثانی فی الشبهة المصداقیة: إذا شککنا فی خروج بعض أطراف العلم الإجمالی عن محل الابتلاء، أو دخوله فیه بنحو الشبهة المصداقیة کما إذا شککنا فی أنّ الإناء الذی نشک فی نجاسته هل هو موجود فی بلدٍ قریبٍ بحیث یکون داخلاً فی محل الابتلاء، أو فی بلدٍ بعیدٍ جدّاً، فیکون خارجاً عن محل الابتلاء، الکلام یقع فی أنّ هذا الشک هل یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز کما هو الحال فیما لو علمنا بخروج الطرف عن محل الابتلاء، وإذا سقط العلم الإجمالی عن التنجیز جاز الرجوع إلی البراءة فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، أو أنّه لا یسقط العلم الإجمالی، ولو لأجل إمکان الرجوع إلی الإطلاق لإثبات فعلیة التکلیف فی ذلک الفرد المشکوک، وبالتالی یبقی العلم الإجمالی علی حاله ویکون منجّزاً ومانعاً من الرجوع إلی البراءة فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، ومن هنا یظهر أنّ الکلام لابدّ أن یقع فی أمرین:

الأمر الأوّل: فی جواز الرجوع إلی إطلاق دلیل التکلیف لإثبات حکمه فی هذا المشکوک بنحو الشبهة المصداقیة وعدم جواز التمسّک به علی غرار ما تقدم فی الشبهة المفهومیة حیث طُرح هذا البحث وأنّه هل یمکن التمسّک بالعام ؟ أی بدلیل التکلیف لإثبات فعلیة التکلیف فی الطرف المشکوک، أو لا ؟ هنا أیضاً لابدّ من الکلام عن ذلک.

الأمر الثانی: علی تقدیر عدم صحّة الرجوع إلی العام لإثبات حکمه فی الفرد المشکوک؛ وحینئذٍ تصل النوبة إلی الأصول العملیة، فهل یصح الرجوع إلی البراءة فی الفرد المشکوک، أو لا یصح ؟ وعلی تقدیر صحة الرجوع إلی البراة فی الفرد المشکوک؛ حینئذٍ البراءة فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء تکون معارضة بالبراءة فی ذلک الفرد المشکوک وتحصل حالة التساقط، وبالتالی یتنجّز العلم الإجمالی. وأمّا إذا قلنا بعدم إمکان الرجوع إلی البراءة فی الطرف المشکوک؛ حینئذٍ لا مانع من الرجوع إلی البراءة فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء؛ لأنّ البراءة فیه تکون بلا معارض، وهذا معناه عدم منجّزیة العلم الإجمالی.

ص: 407

أمّا بالنسبة للأمر الأوّل: فهنا رأیان:

الرأی الأوّل : فی محل الکلامیقول بعدم جواز التمسّک بدلیل التکلیف فی الفرد المشکوک فی محل الکلام، باعتبار أنّ محل الکلام، موضوع الخطاب الشرعی مقیّد بعدم الخروج عن محل الابتلاء بحسب الفرض؛ لأنّه یعتبر فی صحّة التکلیف ویعتبر فی موضوع الخطاب الدخول فی محل الابتلاء، فهو مقیّد بعدم الخروج عن محل الابتلاء، فإذا شککنا فی فردٍ أنّه خارج عن محل الابتلاء، أو لیس خارجاً عن محل الابتلاء، فمن الواضح أنّه لا یجوز التمسّک بالدلیل لإثبات فعلیة التکلیف فیه؛ لأنّ هذا تمسّک بالدلیل فی الشبهة المصداقیة، وهو غیر جائز.

بعبارةٍ أخری: أن المکلّف یشک بنحو الشبهة المصداقیة فی أنّ هذا داخل فی محل الابتلاء، أو لیس داخلاً فی محل الابتلاء. هذا هو فرض الکلام، وحیث أنّ دلیل التکلیف مقیّد بالدخول فی محل الابتلاء، أو مقیّد بعدم الخروج عن محل الابتلاء؛ فحینئذٍ لا یحرز تحقق موضوع الدلیل فی هذا الفرد؛ لأنّ موضوع الدلیل هو ما إذا کان المورد داخلاً فی محل الابتلاء؛ حینئذٍ یکون دلیل التکلیف شاملاً له؛ لأنّ موضوع دلیل التکلیف مقیّد بالدخول فی محل الابتلاء، فإذا شککنا فی أنّ هذا داخل، أو غیر داخل فی محل الابتلاء لا یجوز التمسّک بالدلیل فی هذه الشبهة المصداقیة؛ لأننا لا نحرز تحقق موضوع الدلیل، موضوع الدلیل هو ما یکون داخلاً فی محل الابتلاء، وما یکون المکلّف قادراً علیه بالقدرة عرفیة، وأنا أشک فی أننی قادر علی هذا، أو لا ؟ فلا یجوز التمسّک بالدلیل فی المقام. هذا الرأی هو الذی اختاره السید الخوئی(قدّس سرّه).

ص: 408

الرأی الثانی یقول بجواز التمسّک به ولا مانع من التمسّک به فی المقام باعتبار أنّ المخصص لبّی فی محل الکلام، ومن یختار هذا الرأی الثانی یُفصّل بین ما إذا کان المخصص لبّیاً وبین ما إذا کان المخصص لفظیاً، فیقول: إن کان المخصص للدلیل لفظیاً، وشککنا بنحو الشبهة المصداقیة، فلا یجوز التمسّک بالعام للسبب الذی ذکرناه سابقاً، باعتبار أنّ المخصص اللّفظی یوجب تقیید العام بقیدٍ عدمی وهو عدم المخصص بحیث یکون موضوع الحکم فی العام هو عدم المخصص، هذا یکون دخیلاً فی موضوع حکم العام، یعنی عدم الخروج عن محل الابتلاء فی محل کلامنا یکون دخیلاً فی موضوع التکلیف، فالتکلیف إنّما یثبت فی موردٍ لا یکون خارجاً عن محل الابتلاء، وأمّا إذا شککنا فی أنّ المورد داخل فی محل الابتلاء، أو خارج عن محل الابتلاء، فلا یمکن التمسّک بذلک الدلیل؛ لأنّه تمسّک بالدلیل فی الشبهة المصداقیة. هذا إذا کان المخصص لفظیاً، فالتزموا بنفس ما التزم به صاحب الرأی الأوّل.

وأمّا إذا کان المخصص الذی یوجب خروج بعض الأفراد مخصصّاً لبّیاً، فالأمر یختلف، هنا قالوا لا مانع من التمسّک بإطلاق الدلیل، أو بعمومه، باعتبار أنّ مرجع المخصص اللّبی کالإجماع والسیرة وحکم العقل، إلی القطع والیقین؛ بل فی الحقیقة قالوا أنّ المخصص هو القطع والیقین؛ فحینئذٍ یختص ما یخرج عن العام وعن الدلیل بالفرد المتیقّن خروجه منه، وأمّا غیر الفرد المتیقن خروجه، یعنی ما یُشک فی خروجه عن العام وعدم خروجه یبقی مشمولاً للعام، ففرق بین المخصص اللّفظی وبین المخصص اللّبی، فی المخصص اللّفظی کما أوضح صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ما یُلقی إلی المکلّف عبارة عن حجّتین، الدلیل العام والمخصص اللّفظی، حجّتان، کل منهما حجّة فی أنّ هذا الفرد هل هو داخل فی هذه الحجّة، أو فی هذه الحجّة ؟ فی هذه الحالة لا یمکن التمسّک بالعام لإثبات حکمه فی الفرد المشکوک. أمّا فی موارد المخصص اللّبی فالمُلقی إلی المکلّف هو حجّة واحدة وهو عبارة عن الدلیل العام، غایة الأمر أنّ المکلّف یقطع بعدم شمول الدلیل لحالة الخروج عن محل الابتلاء، عدم شمول الدلیل لحالة الخروج عن محل الابتلاء لم تنشأ من وجود حجّة علیها مُلقاة من قبل الشارع، وإنّما المکلّف قطع بأنّ حالة الخروج عن محل الابتلاء خارجة عن الدلیل، ففی کل موردٍ یقطع المکلّف بخروج الفرد عن محل الابتلاء؛ حینئذٍ یکون قطعه علیه حجّة، ویمکنه أن لا یعمل بالعام؛ بل لا یکون العام حجّة حینئذٍ؛ لأنّه قطع بخروج هذا عن العام، ومن الواضح بأنّ العام لا یکون حجّة فیما قطع المکلّف به. وأمّا ما لا یقطع المکلّف بخروجه عن العام، فالعام یبقی حجّة فیه ولا مبرّر لرفع الید عن هذه الحجّة وعدم الالتزام بها، فیجوز التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة إذا کان المخصص لبیّاً، وحیث أنّ المخصص فی المقام لبّی؛ لأنّ المخصص هو حکم العقل والاستهجان وأمثال هذه الأمور التی ترجع کلّها إلی القبح العقلی وإلی المخصص اللبّی؛ وحینئذٍ لا مانع من الرجوع إلی الدلیل لإثبات حکمه فی الفرد المشکوک وإن کانت الشبهة مصداقیة. هذا الرأی الثانی هو ظاهر کلام الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، وظاهر کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، کلٌ منهما التزم بهذا التفصیل کبرویاً، والتزما بإمکان التمسک بالعام فی الشبهة المصداقیة إذا کان المخصص لبّیاً، وهذا إذا طبقناه، فلازمه أن یلتزما فی محل الکلام بجواز التمسّک بإطلاق دلیل التکلیف لإثبات حکمه فی الفرد المشکوک.

ص: 409

علی هذا الرأی الثانی لا تصل النوبة إلی البحث الآخر، أی الرجوع إلی الأصول العملیة؛ لأنّه یوجد دلیل اجتهادی وهو إطلاق دلیل التکلیف، فیمکن التمسّک به لإثبات فعلیة التکلیف فی الفرد المشکوک بنحو الشبهة المصداقیة؛ وحینئذٍ یتنجّز العلم الإجمالی. نعم، علی الرأی الأوّل ینفتح المجال للحدیث عن ما هو مقتضی الأصل العملی فی المقام.

بالنسبة إلی الرأی الثانی الذی التزم به الشیخ الأنصاری وصاحب الکفایة(قدّس سرّهما) هناک ملاحظات کثیرة علیه، والمحققون المتأخّرون لم یلتزموا بهذا التفصیل، وذکروا بأنّه لا فرق بین المخصص اللّبی والمخصص اللّفظی فی أنّ کلاً منهما یمکن تصوّر الشبهة المصداقیة فیه؛ لأنّ مرجع کلام الشیخ وصاحب الکفایة (قدّس سرّهما) کأنّه یرید أن یقول أنّ الشبهة المصداقیة لا تُتصور فی المخصص اللّبی؛ لأنّ المخصص فی الواقع والحقیقة هو القطع والیقین، فما یقطع به المکلّف یکون خارجاً عن العام، أمّا ما یشک فیه المکلّف، فلا یکون خارجاً عن العام، کأنّهم یریدون أن یقولوا لا توجد حالة شکٍ فی الخروج عن العام وعدم الخروج عنه، العام حتماً هو یشمل الأفراد المشکوکة، یعنی المشکوکة من حیث الدخول فی محل الابتلاء، والخروج عنه بنحو الشبهة المصداقیة، هذه الأفراد التی یُشک فی دخولها أو خروجها بنحو الشبهة المصداقیة العام قطعاً یشملها، لیس لدینا شکّ فی هذا، فأین الشکّ بنحو الشبهة المصداقیة ؟ یوجد لدینا دلیل عام مُلقی من قبل الشارع، دلیل التکلیف فی محل الکلام، وخرج عنه ما یقطع المکلّف بخروجه عنه، یعنی ما یقطع المکلّف بخروجه عن محل الابتلاء؛ لأنّ هنا یحصل قطع بخروجه عن الدلیل، لیس لدینا حالة شکٍّ حینئذٍ نشک فیها أنّ هذا الفرد هل هو خارج عن العام، أو لا ؟ کل ما یبقی هو داخل فی العام؛ لأنّه لا یوجد حجّتان نشکّ فی دخول أحدهما فی هذا، أو دخوله فی الأخری، هناک حجّة واحدة مُلقاة من قبل الشارع، وهی العام، ویجب الأخذ بعمومه، إلاّ إذا قطع المکلّف بعدم شموله لموردٍ؛ حینئذٍ نرفع الید عن العام؛ لأنّ العام لا یکون حجة فی ما یقطع المکلّف بخروجه عنه، وما عدا ذلک هو معلوم الدخول فی العام، فیُتمسّک فیه بالعام ویمکن إثبات حکم العام فیه. هذا هو مفاد کلامهما(قدّس سرّهما).

ص: 410

الاعتراض یقول: یمکن تصوّر الشبهة المصداقیة بالنسبة إلی العام فی ما إذا کان المخصص لبّیاً کما یمکن تصورها فیما إذا کان المخصص لفظیاً، ما هی المشکلة فی أن یکون الدلیل المخصص اللّبی یدل علی إخراج شیء بعنوان عام ؟ مخصص لبّی، فرضاً حکم العقل، لکن ما یخرجه هو عنوان عام من قبیل المثال الذی یُمثل به فی هذا الباب وهی مسألة حکم العقل بعدم جواز لعن المؤمن فی مقابل(لعن الله بنی أمیة قاطبة)، فی مقابل هذا الکلام هناک حکم العقل بخروج هذا العنوان من الدلیل الدال علی اللّعن لهم قاطبة، خرج المؤمن منهم، هذا عنوان عام والعقل هو الحاکم به، والدلیل لبّی، والمخصص لبّی، فأیّ ضیرٍ فی أن نفترض الشبهة المصداقیة فی هذا المجال ؟ بأن نشکّ فی أنّ شخصاً من بنی أمیة هل هو مؤمن، أو لا ؟ ونتکلّم فی أنّه هل یجوز التمسّک بالعام، أو لا یجوز ؟ یمکن تصوّر الشبهة المصداقیة، یعنی نشکّ فی أنّ هذا هل هو خارج عن العام، أو لا ؟ فإن کان مؤمناً فهو خارج عن العام، وإن لم یکن مؤمناً، فهو باقٍ داخل فی العام، لیس الخارج من العام هو فقط ما یُقطع بکونه مؤمناً، العقل لم یحکم بعدم جواز لعن ما تقطع بکونه مؤمناً، وإنّما حکم العقل بقبح لعن المؤمن، هذا عنوان عام فی مقابل العام، ویمکن أن نتصوّر شخصاً نشک فی کونه مؤمناً، أو لا، وبالتالی نشکّ فی خروجه عن العام أو فی دخوله فیه، فیجری فیه نفس الحدیث الذی یقال فی المخصص اللّفظی بلا فرقٍ بینهما، والقطع والیقین یؤخذ علی نحو الطریقیة فی هذه المقامات ولیس له موضوعیة، العقل یحکم بعدم جواز لعن المؤمن، هذا العنوان هو الذی یکون خارجاً عن العام، لکن بحکم العقل. مرّة یدلّ دلیلٌ علی عدم جواز لعن المؤمن، ومرّة یحکم العقل بعدم جواز لعن المؤمن، والقطع إذا وُجد، فهو قطع طریقی ولیس موضوعیاً، هنا إذا شککت فی أنّ هذا مؤمن، أو لا، یعنی اشکّ فی أنّه داخل فی العام، أو خارج عنه، فهی شبهة مصداقیة، فإذا کان العام بعد إخراج المؤمن منه اختص بغیر المؤمن، یعنی أصبح موضوع الّلعن هو غیر المؤمن من بنی أمیّة، أنا اشک فی انطباق هذا العنوان علی هذا الفرد، ومعه لا یمکن التمسّک بالدلیل؛ لأنّه شبهة مصداقیة لذلک الدلیل؛ لأنّ الدلیل یقول لعن کل بنی أمیّة إذا کان غیر مؤمن، وأنا اشک فی أنّ هذا مؤمن، أو لیس مؤمناً، فکیف یمکن التمسّک بإطلاق هذا الدلیل لإثبات جواز اللّعن فی هذا الفرد المشکوک ؟ لا فرق بین المخصص اللّبی وبین المخصص اللّفظی. هذا بالنسبة إلی البحث الأوّل.

ص: 411

إذا انتهینا إلی هذه النتیجة وهی عدم جواز التمسّک بالدلیل لإثبات حکمه فی الفرد المشکوک؛ لأنّه تمسّک بالدلیل فی الشبهة المصداقیة؛ حینئذٍ ننتقل إلی البحث الثانی، والدلیل الاجتهادی غیر موجود، لکن هل یمکن الرجوع إلی البراءة فی الفرد المشکوک، أو لا یمکن الرجوع إلی البراءة فی الفرد المشکوک ؟ هل یمکن إجراء البراءة فی ما اشکّ فی کونه خارجاً عن محل الابتلاء، أو داخلاً فی محل الابتلاء ؟ بعد وضوح أنّ ما یکون خارجاً عن محل الابتلاء حتماً لا تجری فیه البراءة، لکن ما أشکّ فی دخوله وخروجه هل یمکن إجراء البراءة فیه، أو لا ؟

فی هذا البحث أیضاً یوجد رأیان:

الرأی الأوّل: أیضاً هو الذی اختاره السید الخوئی(قدّس سرّه)، حیث یری عدم جواز الرجوع إلی البراءة، وأنّ البراءة لا تجری فی الفرد المشکوک، وأنّ دلیل البراءة لا یمکن التمسّک به لإثبات البراءة فی الفرد المشکوک، وعللّ ذلک بأنّ ما یمنع من التمسّک بالعام أو المطلق فی الشبهة المصداقیة یمنع من التمسّک بدلیل البراءة فی الشبهة المصداقیة أیضاً، فلا فرق بین دلیل التکلیف وبین دلیل البراءة فی أنّ کلاً منهما لا یجوز التمسّک به فی الشبهة المصداقیة، والشبهة فی محل الکلام هی شبهة مصداقیة لکلٍ منهما، شبهة مصداقیة لدلیل التکلیف؛ ولذا منعنا من جواز التمسّک به، وشبهة مصداقیة لدلیل البراءة؛ ولذا نمنع من التمسّک بدلیل البراءة فی محل الکلام.

توضیح المطلب: کأنّه یرید أن یقول أنّ أصالة البراءة حیث أنّ مفادها الرفع، فهی إنّما تجری فی المورد القابل للوضع؛ لأنّ التقابل بین الرفع وبین الوضع هو تقابل الملکة والعدم، الوضع هو الملکة والرفع هو العدم حیث یمکن أن یکون المورد قابلاً للوضع، فکل موردٍ یکون قابلاً للوضع والمقصود بالوضع هو وضع التکلیف فیه، کل مورد یکون قابلاً لوضع التکلیف فیه یکون قابلاً للرفع، والعکس بالعکس، کل موردٍ لا یکون قابلاً لوضع التکلیف فیه لا یکون قابلاً للرفع، فإذا أثبتنا فی موردٍ أنّه یستحیل وضع التکلیف فیه، یستحیل فیه الرفع ولا یکون مشمولاً لدلیل البراءة؛ لأنّ مفاد البراءة هو الرفع، والرفع إنّما یمکن حیث یمکن الوضع، فإذا لم یکن الوضع ممکناً، فالرفع أیضاً لا یکون ممکناً، وکأنّه یرید أن یقول: أنّ دلیل البراءة، بناءً علی هذا البیان مقیّد بإمکان الوضع، ومفاده الرفع، والرفع إمکاناً واستحالة منوط بإمکان الوضع واستحالته. إذن: دلیل البراءة إنّما یستطیع أن یثبت الرفع فی موردٍ حینما یکون الوضع فیه ممکناً، وهذا معناه أنّ إمکان الوضع أُخذ قیداً فی دلیل البراءة، دلیل البراءة یثبت الرفع مقیّداً بإمکان الوضع، فإمکان الوضع مأخوذ قیداً فی دلیل البراءة، إذا کان إمکان الوضع مأخوذ قیداً فی دلیل البراءة. وبعبارة أخری: أنّ دلیل البراءة خرج عنه ما لا یمکن فیه الوضع؛ لأنّ ما لا یمکن فیه الوضع لا یمکن فیه الرفع، فلا یشمله دلیل البراءة. إذن: هو مقیّد بإمکان الوضع حتّی یشمله دلیل البراءة، فإذا کان مقیّداً بذلک؛ فحینئذٍ نأتی لبیان الشبهة المصداقیة بالنسبة لدلیل البراءة، أنّ المکلّف بحسب الفرض یشک فی أنّ هذا الفرد خارج عن محل الابتلاء، أو غیر خارج عن محل الابتلاء، وهذا إذا أردنا أن نترجمه فنترجمه إلی أنّ المکلّف یشکّ فی إمکان وضع التکلیف فیه، أو عدم إمکانه؛ لأنّه إن کان داخلاً فی محل الابتلاء یشمله التکلیف، ویمکن وضع التکلیف فیه، وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء، فلا یمکن وضع التکلیف فیه؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء ویستحیل وضع التکلیف فی ما هو خارج عن محل الابتلاء. إذن: شک المکلّف فی أنّ هذا داخل، أو خارج عن محل الابتلاء یرجع فی الحقیقة إلی شک المکلّف فی إمکان وضع التکلیف فیه أو عدم إمکانه، مع الشکّ فی إمکان الوضع کیف نتمسّک بدلیل البراءة، والحال أنّ دلیل البراءة مقیّد بإمکان الوضع ؟ الیس هذا تمسّکاً بالدلیل فی الشبهة المصداقیة له ؟ لأنّ الدلیل یقول أنا أجعل البراءة فی المورد القابل للوضع، فلابدّ أن احرز أنّ هذا المورد قابل للوضع حتّی تجری فیه البراءة ویشمله الدلیل. أمّا مع الشکّ فی أنّ هذا قابل لوضع التکلیف، أو غیر قابلٍ لوضع التکلیف، فالتمسّک بدلیل البراءة لإثبات البراءة فیه یکون تمسّکاً بالدلیل فی الشبهة المصداقیة له، وهذا غیر جائز؛ ولذا هو منع من التمسّک بدلیل التکلیف فی الفرد المشکوک بنحو الشبهة المصداقیة، ومنع أیضاً من التمسّک بدلیل البراءة لإثبات البراءة فی الفرد المشکوک؛ ولذا قال: لا مانع حینئذٍ من إجراء البراءة فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء؛ لأنّ البراءة فیه لیست معارضة بشیء، فتجری البراءة فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء؛ وحینئذٍ یسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة. هذا هو الرأی الأوّل.

ص: 412

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

قلنا أنّ الکلام إذا وصل إلی الأصول العملیة نقلنا رأی السید الخوئی(قدّس سرّه) الذی یری عدم جریان البراءة فی الطرف المشکوک بدعوی أنّ التمسّک بدلیل أصالة البراءة فی الطرف المشکوکتمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة وهذا غیر جائز بالبیان الذی ذکرناه فی الدرس السابق.

یمکن أن یُلاحظ علی هذا الکلام:

الملاحظة الأولی: لیس جمیع أدلّة البراءة کلّها واردة بلسان الرفع، حدیث الإطلاق، کل شیء لک مطلق حتّی یرِد فیه النهی، أو الآیات القرآنیة(ما کنّا معذبین حتّی نبعث رسولاً) (1) أو غیرها من الأدلّة التی استدلّ بها علی البراءة وبعضها أدلّة تامّة، لم ترد بلسان الرفع حتّی نستشکل فی شمول الدلیل الذی فیه هذا الّلسان للطرف المشکوک بدعوی أنّه لا یمکن فیه الوضع، فلا یمکن فیه الرفع، فلا یکون مشمولاً لدلیل البراءة. هذا شیءٌ یختصّ علی تقدیر تمامیته بما إذا کان لسان دلیل البراءة هو لسان الرفع، وهذا لیس شیئاً موجوداً فی کل أدلة البراءة، فیمکن التمسّک بتلک الأدلّة لإثبات البراءة فی الطرف المشکوک، وبالتالی یتنجّز العلم الإجمالی.

الملاحظة الثانیة: لو سلّمنا ذلک ونظرنا إلی حدیث الرفع بالخصوص، هذا الکلام إنّما یتمّ عندما یکون حدیث الرفع یرفع التکلیف الواقعی المشکوک، یعنی عندما یکون المرفوع بحدیث الرفع هو التکلیف الواقعی المشکوک، هذا الکلام یتم، فیقال کما تقدّم، أنّ وضع التکلیف فی مورد الخروج عن محل الابتلاء غیر ممکن، فمع الشک فی الخروج عن محل الابتلاء، أو الدخول فی محل الابتلاء کما هو محل الکلام، فلا نحرز إمکان الوضع، فإذا لم نحرز إمکان الوضع؛ فحینئذٍ لا یمکن شمول الحدیث الوارد بلسان الرفع لذلک المورد؛ لأنّ شمول حدیث الرفع لموردٍ مشروطٌ ومقیّدٌ بإمکان الوضع، وحیث أننا لا نحرز إمکان الوضع فی هذا الفرد؛ فحینئذٍ لا یکون الحدیث شاملاً له، هذا الکلام صحیح، ولکن القول أنّ المرفوع فی حدیث الرفع هو التکلیف الواقعی لا یقول به إلاّ الشاذ من علمائنا، حدیث الرفع لیس الرفع فیه فقط ما لا یعلمون بالخصوص رفعاً واقعیاً للتکلیف المشکوک، لا یقول بذلک إلاّ النادر؛ لأنّه علی خلاف قاعدة الاشتراک، ولأنّه یلزم منه التصویب....الخ، فی موارد عدم العلم لا یکون الرفع للتکلیف المشکوک رفعاً واقعیاً؛ لأنّ هذا لازمه اختصاص الأحکام الواقعیة بالعالمین بها، وإنّما الشیء الذی استقرّ علیه رأی المتأخرین تقریباً هو أنّ الرفع رفع للتکلیف الواقعی ظاهراً لا رفعاً للتکلیف الواقعی واقعاً، وإنّما هو رفع ظاهری للتکلیف الواقعی، والمقصود بالرفع الظاهری للتکلیف الواقعی هو رفع إیجاب الاحتیاط؛ لأنّ إیجاب الاحتیاط یعنی جعل التکلیف الواقعی ووضعه ظاهراً، فیوجب الاحتیاط، فیکون التکلیف الواقعی مجعولاً وموضوعاً ظاهراً، رفع التکلیف الواقعی ظاهراً یکون برفع إیجاب الاحتیاط نحوه، فإذا رفع وجوب الاحتیاط تجاه التکلیف المشکوک معناه أنّه رفع التکلیف الواقعی ظاهراً، فالمرفوع فی حدیث الرفع فی الواقع والحقیقة هو إیجاب الاحتیاط، أی لا یجب الاحتیاط تجاه التکلیف المشکوک، هذا مفاد حدیث الرفع، إیجاب الاحتیاط یکون هو المرفوع لا التکلیف الواقعی المشکوک؛ فحینئذٍ یجب علینا بمقتضی کلامه أن ننظر إلی أنّ إیجاب الاحتیاط هل یمکن وضعه، أو لا یمکن وضعه ؟ بالنسبة إلی الطرف المشکوک هل یمکن وضع إیجاب الاحتیاط، أو لا یمکن وضع إیجاب الاحتیاط ؟ فإن أمکن وضع إیجاب الاحتیاط فی الطرف المشکوک أمکن رفعه، فیکون مشمولاً لحدیث الرفع؛ لأنّ حدیث الرفع یرفع إیجاب الاحتیاط، بناءً علی کلامه، فلابدّ من افتراض إمکان وضع إیجاب الاحتیاط، فإذا أمکن وضع إیجاب الاحتیاط وجعله فی الطرف المشکوک؛ حینئذٍ أمکن رفعه، وبالتالی یشمله حدیث الرفع. وأمّا إذا لم یمکن وضع إیجاب الاحتیاط فی الطرف المشکوک؛ فحینئذٍ یتمّ کلامه؛ وحینئذٍ لا یمکن رفعه؛ لأنّ التقابل بینهما تقابل الملکة والعدم، فلا یمکن رفعه، فلا یکون مشمولاً لحدیث الرفع. ما هو الصحیح ؟ هل یمکن وضع إیجاب الاحتیاط فی الطرف المشکوک، أو لا یمکن وضعه ؟ الظاهر أنّه یمکن وضع إیجاب الاحتیاط فی الطرف المشکوک؛ إذ أیّ محذورٍ فی أن یجعل الشارع إیجاب الاحتیاط لغرض تنجیز الواقع علی تقدیر مصادفته لغرض الحفاظ علی الملاک الواقعی علی تقدیر وجود ملاک واقعی فی هذا الطرف المشکوک ؟ ما هی المشکلة فی هذا ؟ أن یقول یجب علیک الاحتیاط لأجل الحفاظ علی ملاک الواقع علی تقدیر مصادفته ووجوده؛ لأنّ الحفاظ علی ملاک الواقع یکون بإیجاب الاحتیاط بالنسبة إلیه، فإذا أوجب الشارع الاحتیاط، فهذا معناه أنّه نجّز الواقع، وحافظ علی الملاکات الواقعیة، فإذن: لا مشکلة فی افتراض وضع إیجاب الاحتیاط علی غرار ما قلناه فی تقریب المحقق العراقی(قدّس سرّه)، قلنا هناک أنّ العقل لا یری مشکلة فی تنجّز العلم الإجمالی بالنسبة إلی الطرف المشکوک، والعقل أیضاً لا یمنع من هذا التنجز، یقول: أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز ذلک الطرف المشکوک، لما قاله المحقق العراقی(قدّس سرّه) من أنّ الخروج عن محل الابتلاء لا یوجب سقوط الملاک، وإنّما یوجب سقوط التکلیف، فالملاک باقٍ، والمکلّف یعلم بوجود الغرض فی أحد الطرفین، والطرف المشکوک هو طرف لهذا العلم الإجمالی، والعلم الإجمالی ینجّز ذلک علی المکلّف، ویلزمه بالتصدّی لتحصیل ذلک الغرض ویمنعه من تفویته، العقل هکذا یقول علی ما تقدّم. نفس هذا الکلام یمکن نقله إلی وجوب الاحتیاط الشرعی، بأنّ یقول الشارع یجب علیک الاحتیاط فی هذا الطرف المشکوک لغرض تنجیز الواقع ولغرض الحفاظ علی الملاکات الواقعیة علی تقدیر مصادفتها، فأیّ ضیرٍ فی ذلک ؟ الشارع إذا کان یهتم بالملاکات الواقعیة، فیجعل وجوب الاحتیاط بالنسبة إلی الطرف المشکوک، إذن: الطرف الذی یُشک فی قدرة المکلّف علیه، أو عدم قدرته فی خروجه عن محل الابتلاء، أو دخوله فی محل الابتلاء یُعقل ویمکن فرض جعل وجوب الاحتیاط الشرعی فیه، فوضع إیجاب الاحتیاط ممکن، وأن الجعل الظاهری للتکلیف الواقعی أمر ممکن بالنسبة إلی الطرف المشکوک؛ فحینئذٍ یکون رفعه أمراً ممکناً وتشمله أدلّة البراءة. هذا بالنسبة إلی الرأی الأوّل فی هذه المسألة.

ص: 413


1- اسراء/سوره17، آیه15.

الرأی الثانی: یقول لا مانع من جریان البراءة فی الطرف المشکوک خلافاً للسید الخوئی(قدّس سرّه)؛ لأنّ موضوع البراءة فی دلیلها هو عبارة عن الشک فی التکلیف الواقعی، والمکلّف یشکّ فی التکلیف فی الطرف المشکوک بلا إشکال، یشک فی حرمته، وهذا الشک فی التکلیف هو موضوع دلیل البراءة، فموضوع دلیل البراءة محفوظ ومتحقق فی محل الکلام فی الطرف المشکوک، فلا مانع من شمول دلیل البراءة له، والمانع الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) غیر تام کما تقدّم، فیُلتزم بجریان البراءة فی الطرف المشکوک کما یمکن شمول دلیل البراءة للطرف الداخل فی محل الابتلاء. وبناءً علی هذا الرأی الثانی سوف یقع التعارض بین البراءتین، البراءة الجاریة فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، والبراءة الجاریة فی الطرف المشکوک، وبعد تساقط البراءتین یتنجّز العلم الإجمالی. ومن هنا یتبیّن أنّ الصحیح فی هذه المسألة هو أنّ العلم الإجمالی یبقی علی منجّزیته ولا یسقط عن المنجّزیة بالشک فی خروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء، لأنّ الشک فی خروج بعض أطراف العلم الإجمالی عن محل الابتلاء لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز ؛بل یبقی علی منجّزیته من دون فرقٍ بین الشبهة المفهومیة والشبهة المصداقیة. أمّا فی الشبهة المفهومیة: فلما تقدّم من البیان والوجه الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وأمّا فی الشبهة المصداقیة، فلما قلناه من أنّ البراءة تجری فی کلا الطرفین، وبالتالی منجّزیة العلم الإجمالی. هذا الکلام کلّه مبنی علی القول والالتزام بأنّ فعلیة التکلیف مشروطة بالدخول فی محل الابتلاء، مسألة الشک متفرّعة علی أصل المسألة، إذا قلنا فی أصل المسألة بأنّ فعلیة التکلیف مشروطة بالدخول فی محل الابتلاء، وأنّ الخروج عن محل الابتلاء یوجب سقوط التکلیف؛ حینئذٍ الکلام المتقدّم یجری بناءً علی هذا الالتزام؛ حینئذٍ یقال: إذا علمنا بخروج أحد الطرفین عن محل الابتلاء؛ حینئذٍ یقال: أنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة؛ إذ لا علم إجمالی بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وإنّما المکلّف یعلم بتکلیفٍ فعلی علی تقدیر، ویعلم بعدمه علی تقدیرٍ آخر، فلا علم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وهذا معناه سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز. هذا فی حالة العلم؛ حینئذٍ ینفتح المجال للحدیث عن حالة الشکّ، أنّه إذا شککنا فی خروج طرفٍ عن محل الابتلاء، فهل حکمه حکم صورة العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء من جهة سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، أو أنّ العلم الإجمالی یبقی علی منجّزیته فی صورة الشکّ، وإن کان یسقط عن التنجیز فی صورة العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ؟

ص: 414

وأمّا إذا أنکرنا ذلک کما تقدّم، وقلنا بأنّ فعلیة التکلیف لیست مشروطة بالدخول فی محل الابتلاء، وأنّه لا مانع من ثبوت التکلیف حتّی فی المورد الخارج عن محل الابتلاء؛ فحینئذٍ لا مجال للحدیث عن صورة الشکّ؛ لأنّه من الواضح فی صورة العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء نحن نقول أنّ العلم الإجمالی باقٍ علی منجزیته ولا یسقط عن المنجّزیة، لأنّه علم إجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، حتّی علی تقدیر وجود التکلیف فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء التکلیف یکون فعلیاً؛ إذ لا یُشترط فی فعلیة التکلیف الدخول فی محل الابتلاء، فإذا کنّا نحن نقول بالمنجّزیة فی صورة العلم وأنّ العلم الإجمالی باقٍ علی التنجیز، إذن: لا مجال للبحث فی أنّه فی صورة الشک فی دخوله فی محل الابتلاء وخروجه عن محل الابتلاء، هل یبقی العلم الإجمالی علی منجّزیته، أو لا ؟ قطعاً یبقی علی منجّزیته؛ لأنّه فی صورة العلم بخروجه عن محل الابتلاء نحن نقول ببقاء العلم الإجمالی علی منجّزیته، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً، سواء علمنا بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، أو شککنا فی ذلک. إلی هنا یتم الکلام ظاهراً عن هذه المسألة وهی مسألة الدخول فی محل الابتلاء، أو الخروج عن محل الابتلاء.

ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی

إذا لاقی شیء أحد الطرفین اللّذین یُعلم بنجاسة أحدهما إجمالاً، لدینا علم إجمالی بنجاسة أحد مائعین، ولاقی الثوب أحد المائعین المعلومین بالإجمال، هذا هو محل الکلام. الکلام یقع فی أنّه هل یحکم بحرمة هذا الملاقی ووجوب الاجتناب عنه، أو لا یمکن أن نحکم بوجوب الاجتناب عن الملاقی، یعنی عن الثوب إذا لاقی أحد الطرفین.

ص: 415

عندما نفترض العلم بنجاسة أحد المائعین، ونفترض أنّ الثوب لاقی أحدهما قهراً یحصل لنا علم إجمالی جدید غیر العلم الذی فُرض أولاً، العلم المفروض أوّلاً هو العلم بنجاسة أحد المائعین، هذا علم إجمالی أوّل. إذا لاقی الثوب أحد المائعین یحصل لنا علم إجمالی آخر وهو نجاسة أحد شیئین، إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر؛ لأنّه إذا لاقی الثوب المائع الأیمن ____________ مثلاً __________ إذن أنا أعلم، إمّا المائع الأیسر نجس أو الملاقی نجس؛ لأنّ النجاسة إن کانت موجودة فی المائع الآخر، فالملاقی لیس نجساً، وإن کانت النجاسة موجودة فی الطرف الآخر، فالملاقی نجس، إذن: أنا أعلم أنّ النجاسة موجودة إمّا فی الطرف الآخر، أو موجودة فی الملاقی، وهذا علم إجمالی ثانٍ غیر العلم الإجمالی الأوّل، ومهم إبراز هذا العلم الإجمالی؛ لأنّ الکلام سیقع فی أنّ افتراض مثل هذا العلم الإجمالی هل یؤثر فی تنجیز الحرمة بالنسبة إلی الملاقی، أو لا یؤثر فی تنجیز الحرمة بالنسبة إلی الملاقی ؟ لأنّ تنجیز الحرمة بالنسبة إلی الملاقی اکتفاءً بالعلم الإجمالی الأوّل محل إشکالٍ کما سیتبین، أنّ العلم الإجمالی الأوّل أنّک تعلم بنجاسة أحد المائعین، هذا لا یؤثّر فی تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی، لکن إذا أُبرز هذا العلم الإجمالی الجدید؛ لأنّ المکلّف لیس فقط یعلم بنجاسة أحد المائعین ووجوب الاجتناب عنه؛ بل هو یعلم بوجوب الاجتناب إمّا عن الملاقی، أو عن الطرف الآخر، فصار الملاقی طرفاً لهذا العلم الإجمالی الثانی، فقد یقال بأنّ تنجیزه یکون تامّاً.

إذن: هناک علمان إجمالیان بحسب الحقیقة والکلام فی هذا البحث کلّه یقع فی أنّه:

ص: 416

أولاً: هل یمکن إثبات تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی بالعلم الإجمالی الأوّل، أو لا ؟

ثانیاً: یقع الکلام فی أنّه هل یمکن إثبات تنجیز الملاقی ووجوب الاجتناب عنه بالعلم الإجمالی الثانی، أو لا ؟

لکن فبل ذلک، لابدّ من الالتفات إلی أنّ المفروض فی محل الکلام أنّ الملاقاة تختص ببعض أطراف العلم الإجمالی، فهذا هو مفروض المسألة، إذا لاقی شیء أحد أطراف العلم الإجمالی، یعنی لم یلاقِ الآخر، وأمّا إذا فرضنا أنّ الثوب لاقی کلا الإناءین؛ فحینئذٍ یکون معلوم النجاسة تفصیلاً، وبوجوب الاجتناب عنه تفصیلاً؛ لأنّه نجس قطعاً؛ لأنّه لاقی کلا الطرفین، وهذا خارج عن محل الکلام، الکلام فی ما إذا کانت الملاقاة تختص ببعض الأطراف دون سائر الأطراف.

من جهةٍ أخری: یخرج عن الکلام ما لو فرض وجود ملاقٍ لکلٍ من الطرفین غیر ملاقی الطرف الآخر، هذا أیضاً خارج عن محل کلامنا، فنحن نتکلّم عن وجود ملاقٍ واحدٍ لأحد الطرفین، أمّا إذا فرضنا أنّ الثوب لاقی الطرف الأیمن، والید _________ مثلاً __________ لاقت الطرف الإیسر، هذا خارج عن محل الکلام؛ لأنّه فی هذه الحالة لا إشکال فی وجوب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّه یتشکّل علم إجمالی ثالث غیر العلمین الإجمالیین السابقین، یتشکل علم إجمالی ثالث إمّا بوجوب الاجتناب عن الثوب، أو بوجوب الاجتناب عن الید؛ لأنّ هذا لاقی هذا الإناء، وهذا لاقی هذا الإناء، فإذا فرضنا أنّ النجاسة موجودة فی الإناء الأیمن؛ فحینئذٍ یجب الاجتناب عن الثوب، وإن کانت موجودة فی الإناء الأیسر، فیجب الاجتناب عن الید الملاقیة له؛ فحینئذٍ یکون الثوب طرفاً لهذا العلم الإجمالی ویجب الاجتناب عنه لهذا العلم الإجمالی الثالث وهو أنّ الحرمة الثابتة فی أحد الملاقیین، إمّا الثوب، وإمّا الید، هذا أیضاً خارج عن محل الکلام. إذن: فرض الکلام فیما لو اختصّت الملاقاة بأحد الطرفین، وفیما إذا کان الملاقی یختص بأحد الطرفین بأن لا یوجد ملاقٍ آخر للطرف الآخر، هذا هو فرض الکلام، والکلام یقع فی مقامین:

ص: 417

المقام الأوّل: أنّ هذا الملاقی لأحد الطرفین بهذه الشروط المتقدّمة هل یمکن إثبات تنجّز الحرمة فیه ووجوب الاجتناب عنه اعتماداً علی العلم الإجمالی الأوّل، أو لا ؟

المقام الثانی: هل یمکن إثبات تنجّز الحرمة فیه اعتماداً علی العلم الإجمالی الثانی، أو لا ؟ هذا هو محل الکلام.

بالنسبة للمقام الأوّل: وهو أن ننظر إلی العلم الإجمالی الأوّل فقط ونغض النظر عن العلم الإجمالی الثانی، هذا العلم الإجمالی الأوّل وحده هل یکفی لإثبات التنجّز فی الملاقی، أو لا یکفی لإثبات تنجّز الحرمة ووجوب الاجتناب فی الملاقی ؟ المعروف بین علمائنا(رضوان الله علیهم) هو عدم تنجّز حرمة الملاقی بالعلم الإجمالی الأوّل، أنّ العلم الإجمالی الأوّل لا یوجب تنجّز الحرمة فی الملاقی بحیث لو بقینا نحن وهذا العلم الإجمالی الأوّل لما حکمنا بالتنجّز فی الملاقی؛ بل لجوّزنا للمکلف أن یستعمل هذا الملاقی، فإذا کان ماءً جاز له أن یتوضأ به، أو أن یشربه، وإذا کان ثوباً جاز له أن یصلّی به، واستدلّوا علی ذلک بهذا الدلیل: قالوا أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی فی الحقیقة موقوف علی العلم بملاقاته للنجس، ونحن فی المقام لا علم لنا بملاقاته للنجس؛ لأنّه لا علم لنا بنجاسة المُلاقی حتی نقول أنّ نجاسة المُلاقی أوجبت نجاسة الملاقی، إنّما یحکم بنجاسة الملاقی ووجوب الاجتناب عنه إذا لاقی النجس، أمّا إذا لاقی شیئاً لا نعلم بنجاسته؛ فحینئذٍ لا یمکن الحکم بنجاسته ووجوب الاجتناب عنه. هذا الدلیل المبسّط لإثبات عدم تنجیز حرمة المُلاقی ووجوب الاجتناب عنه بالعلم الإجمالی الأوّل، بیانه یکون بهذا الشکل: نحن فی المقام ما نعلمه بالعلم الإجمالی الأوّل هو نجاسة أحد الطرفین، هذا الشیء المعلوم النجاسة فی بعض الحالات یترتب علیه حکم شرعی، لکن عندما یترتب علیه حکم شرعی لابدّ من افتراض أنّ تمام موضوع ذلک الحکم الشرعی هو هذا المعلوم بالإجمال، أمّا إذا فرضنا أنّ حکماً شرعیاً تمام موضوعه لیس هو هذا المعلوم بالإجمال؛ بل المعلوم بالإجمال هو جزء ذلک الحکم، ویحتاج ذلک الحکم إلی انضمام جزءٍ آخر؛ حینئذٍ لا یمکن إثبات ذلک الحکم بمجرّد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین؛ لأنّ هذا المعلوم بالإجمال الذی هو النجاسة المعلومة بالإجمال فی أحد الطرفین لیست هی تمام الموضوع لذلک الحکم الشرعی، وإن کانت هی تمام الموضوع لهذا الحکم الشرعی، فنفرّق بین الأحکام الشرعیة، مثلاً: إذا علمنا بخمریة أحد مائعین، أحد المائعین قطعاً خمر، هذا علم إجمالی، هذه الخمریة المعلومة بالإجمال هی تمام الموضوع لحرمة شربه؛ ولذا نحکم بحرمة شربه؛ لأننّا نعلم إجمالاً بخمریة أحد مائعین، فیکون المعلوم خمریته بالإجمال هو تمام الموضوع لحرمة الشرب، فیحکم بحرمة الشرب، لکن هل یحکم علی من شرب أحد المائعین بوجوب إقامة الحد ؟ کلا؛ لأنّ موضوع وجوب إقامة الحد لیس هو فقط العلم الإجمالی بخمریة أحد المائعین، وإنّما الموضوع هو العلم بالخمریة ولو إجمالاً والعلم بشرب الخمر، أن یعلم بأنّه شرب خمراً حتّی یترتب وجوب إقامة الحد. إذن: هذا الحکم الذی هو وجوب إقامة الحد یختلف عن الحکم بحرمة الشرب، حرمة الشرب یکفی فیها العلم الإجمالی بخمریة أحد الإناءین؛ لأنّ تمام موضوع حرمة شرب هذا الطرف هو العلم بخمریة أحد الإناءین ولا یحتاج إلی ضمیمةٍ أخری، بینما وجوب إقامة الحد لا یکفی فیها مجرّد العلم بأنّ أحدهما خمر؛ بل لابدّ من العلم بأنّه شرِب الخمر، وهذا لا یمکن إحرازه بمجرّد شرب أحد الطرفین؛ إذ لا یعلم بأنّه شرِب الخمر، ما نحن فیه من هذا القبیل، حینما یعلم بنجاسة أحد المائعین، مرّة نتکلّم عن حرمة الشرب، ومرّة نتکلم عن حرمة الملاقی، حرمة الشرب یکفی فیها العلم الإجمالی بنجاسة أحد المائعین، هذا العلم الإجمالی یحقق حرمة شرب أحد المائعین، فیحرم شرب هذا، لکن حرمة الملاقی لا یکفی فیها مجرّد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، وإنّما لابدّ أن یُضم إلیها العلم بملاقاة هذا للنجس، حرمة الملاقی متفرّعة علی الملاقاة، فلابدّ من إحراز ملاقاة الملاقی للنجس؛ حینئذٍ یحکم بحرمة شربه، وأمّا إذا لم نحرز الملاقاة کما هو المفروض فی محل کلامنا، فمجرّد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین لا یکفی لإثبات حرمة الملاقی، وإن کان یکفی لإثبات حرمة شرب أحد الطرفین.

ص: 418

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

الکلام فی تنجیز حرمة الملاقی بالعلم الإجمالی الأوّل والمراد بالعلم الإجمالی الأوّل هو نجاسة أحد الطرفین، فهل یکفی هذا فی تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی، أو لا ؟ الوجه الذی ذکرناه فی الدرس السابق لإثبات عدم التنجیز کان حاصله : أنّ هناک فرقاً بین وجوب الاجتناب عن أحد الطرفین وبین وجوب الاجتناب عن الملاقی، وجوب الاجتناب عن هذا الطرف یکفی فیه العلم الإجمالی بنجاسة احدهما؛ لأنّ النجاسة المعلومة بالإجمال هی تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن هذا الطرف وتمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن هذا الطرف، فیکفی فی وجوب الاجتناب عن هذا الطرف العلم الإجمالی بنجاسة أحد الطرفین، ولا یحتاج إلی شیءٍ آخر أکثر من الخمریة المعلومة بالإجمال؛ فلذا یترتب علی هذا العلم الإجمالی وجوب الاجتناب عن هذا الطرف ووجوب الاجتناب عن هذا الطرف، أو بعبارة أخری: أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عن کلا الطرفین. فی حین أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی لیس تمام موضوعه الخمریة المعلومة بالإجمال حتّی یقال أنّ المفروض هنا هو العلم بالخمریة علی نحو الإجمال، فلابدّ من ترتیب هذا الأثر، ویکون العلم منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقی، کلا، موضوع وجوب الاجتناب عن الملاقی هو ملاقاة النجس، فالموضوع کأنّه مرکّب من النجس والملاقاة، الملاقاة هی جزء موضوع وجوب الاجتناب عن الملاقی، العلم الإجمالی بالنجاسة لا یحرز لی الملاقاة ولا ینجّزها، وإنّما هو علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین، فاحتاج فی مقام إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی إلی إحراز الملاقاة، أنّ هذا لاقی النجس، ولا یمکن إحراز أنّ هذه الملاقاة هی ملاقاة للنجس، والعلم الإجمالی بنجاسة أحدهما لا یکفی لإحراز موضوع وجوب الاجتناب عن الملاقی.

ص: 419

علی ضوء هذا الکلام، ما ذکرناه فی محل الکلام هو تطبیق لقاعدة کلّیة ذکروها فی هذا المقام، حاصلها: أنّ المعلوم إذا کان هو تمام الموضوع للحکم الشرعی؛ فحینئذٍ یترتب الحکم الشرعی بمجرّد العلم الإجمالی کما هو الحال فی وجوب الاجتناب عن أحد الطرفین. وأمّا إذا کان لیس هو تمام الموضوع للحکم الشرعی، وإنّما هو جزء آخر لموضوع ذلک الحکم الشرعی لابدّ من إحرازه، فإذا کان کذلک فالعلم الإجمالی لا یکفی لترتیب ذلک الحکم الشرعی ولا یکون منجّزاً له کما هو الحال فی وجوب الاجتناب عن الملاقی، وجوب الاجتناب عن الملاقی یتوقّف علی ملاقاة النجس، أی النجاسة والملاقاة، وهذا لا یمکن إحرازه؛ فحینئذٍ مثل هذا لا یثبت بالعلم الإجمالی الأوّل .

وبعبارة أبسط من کل هذا: أنّ موضوع وجوب الاجتناب عن الملاقی هو ملاقاة النجس، وهذا لا یمکن إحرازه، کیف نحرز أنّ هذا لاقی النجس ؟ هو لاقی أحد الطرفین، فکیف نحرز أنّ هذا لاقی النجس ؟ هذا أمر مشکوک وغیر محرز، والعلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین لا یُحرز لی أنّ هذا لاقی النجس، لا یحرز أنّ ملاقاة النجس قد تحققت. إذن موضوع هذا الحکم الشرعی وهو وجوب الاجتناب عن الملاقی مشکوک فیه وغیر محرز فی المقام؛ فحینئذٍ لا یکون منجّزاً بهذا العلم الإجمالی؛ بل یمکن الرجوع فی إلی الأصول المؤمّنة. هذا هو الذی ذکروه فی محل الکلام وذکروا أمثلة کثیرة ذلک، منها ما ذکرناه فی الدرس السابق فی مسألة العلم الإجمالی بخمریة أحد المائعین، هناک ذکروا أنّ هذا العلم الإجمالی یُنجّز حرمة شرب المائعین، ولکنه لا ینجّز وجوب إقامة الحد علی شرب أحدهما؛ لأنّه لا یحرز أنّ هذا الشرب هو شرب للخمر، عندما یشرب أحد المائعین المعلوم إجمالاً أنّ أحدهما خمر، لا یحرز أنّه خمر ویکون شربه شرباً للخمر؛ فحینئذٍ لا یترتب ذلک الأثر، بینما یترتب الأثر الأوّل. هذه خلاصة الفکرة.

ص: 420

ذکروا بأنّ هذا الکلام السابق الذی ینتج عدم منجّزیة العلم الإجمالی الأوّل لوجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّه لا یکفی فی ثبوت وجوب الاجتناب عن الملاقی العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین. قالوا: أنّ هذه الفکرة إنّما تصح بناءً علی أنّ نجاسة الملاقی تکون من باب السببیة لا من باب السرایة والانبساط، بمعنی أنّه فی کیفیة ثبوت نجاسة ملاقی النجس هناک احتمالان ثبوتیان: أحدهما هو أن یکون هذا من باب السببیة الذی یعنی أنّ نجاسة الملاقی حکم شرعی مستقل غیر الحکم بنجاسة المُلاقی، وإنّما العلاقة بینهما علاقة السببیة والمسببیة، بمعنی أنّ نجاسة المُلاقی بعد الملاقاة کانت سبباً للحکم الشرعی بنجاسة الملاقی، لکنّ نجاسة الملاقی حکم مستقل لیس هو نفس الحکم الأوّل، یعنی النجاسة فی الملاقی لیست هی عبارة عن النجاسة فی المُلاقی، وإنّما هی نجاسة أخری، نجاسة جدیدة، غایة الأمر أنّها مسببّة عن نجاسة الملاقی، فالعلاقة بینهما هی علاقة السببیة والمسببیة.

قالوا : بناءً علی أنّ نجاسة الملاقی من باب السببیة والمسببیة یتمّ الکلام السابق من أنّ هذه نجاسة جدیدة تحدث بسبب الملاقاة من جهة نجاسة الملاقی، فتحصل هذه النجاسة الجدیدة للملاقی فی الملاقی. إذن: هی نجاسة جدیدة نشکّ فی حدوثها، وغیر محرزة لنا؛ لأننا لا نحرز أنّ هذا لاقی النجس بحسب الفرض، إذا أحرزنا أنّه لاقی النجس نحکم بنجاسته وتکون النجاسة مسببّة عن نجاسة الملاقی، لکن فی محل الکلام نحن لا نحرز بأنّ الملاقی لاقی النجس، إذن، النجاسة فی الملاقی هی نجاسة جدیدة غیر محرزة فی محل الکلام، فلا یمکن إثباتها، والعلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین لا یکفی لإحراز موضوع هذه النجاسة الجدیدة، ووجوب الاجتناب عن الملاقی، فیأتی الکلام السابق؛ لأنّها نجاسة جدیدة مسببّة عن نجاسة الملاقی، لکن هذه النجاسة الجدیدة تثبت عند ملاقاة النجس، ونحن فی المقام لا نحرز هذه الملاقاة، ونشک فی ثبوت النجاسة للملاقی، وعلیه: لا یمکن إثبات وجوب الاجتناب عنه، فیأتی الکلام السابق.

ص: 421

وأمّا إذا کانت نجاسة الملاقی لیست من باب السببیة وإنّما من باب السرایة والانبساط کما سمّوه التی تعنی أنّ نجاسة الملاقی لیست شیئاً جدیداً، وإنّما هی نفس النجاسة السابقة، یعنی نفس نجاسة الملاقی، غایة الأمر أنّ نجاسة الملاقی اتسعت واتساع دائرة موضوع ومتعلّق هذه النجاسة جعلها ساریة وشاملة للملاقی، فنجاسة الملاقی هی نفس نجاسة الملاقی، لکن نجاسة الملاقی قبل الملاقاة کانت منحصرة بهذا الإناء، بالملاقاة نفس النجاسة فی الملاقی تتسع دائرة متعلّقها لتشمل الملاقی، هی نفس النجاسة السابقة ولیست نجاسة جدیدة ومستقلة، فیوجد نوع من الانتشار لهذه النجاسة فی الملاقی، هذا الانتشار یتحقق بعد الملاقاة، فتنتشر النجاسة الأولی فی الملاقی لتشمل الملاقی. بناءً علی فکرة الانبساط والسرایة؛ حینئذٍ القضیة تنعکس، بمعنی أنّه یمکن إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ الملاقی یکون طرفاً لهذا العلم الإجمالی؛ لأنّه لیس نجاسة جدیدة غیر النجاسة التی علمنا بها إجمالاً، فهو نظیر ما إذا قسّمنا أحد الطرفین اللّذین نعلم إجمالاً بنجاستهما إلی قسمین، بلا إشکال کل قسم من هذین القسمین یکون طرفاً لهذا العلم الإجمالی، هذا من هذا القبیل، النجاسة علی تقدیر ثبوتها فی هذا الطرف فی الملاقی انتشرت واتسعت لتشمل الملاقی. إذن: نجاسة الملاقی هی طرف فی العلم الإجمالی الأوّل، فالعلم الإجمالی عندما ینجّز لا ینجّز فقط وجوب الاجتناب، أو النجاسة فی الملاقی، وإنّما ینجّز وجوب الاجتناب والنجاسة فی الملاقی والملاقی؛ لأنّ النجاسة انبسطت وانتشرت واصبحت تشمل الملاقی.

إذن: بنفس العلم الإجمالی الأوّل یمکن إثبات تنجّز وجوب الاجتناب فی الملاقی. إذن: ما ذکروه من عدم کفایة العلم الإجمالی الأوّل لإثبات تنجّز وجوب الاجتناب فی الملاقی إنّما یتم بناءً علی أنّ کیفیة نجاسة الملاقی هی من باب السببیة، وأمّا بناءً علی أنّها من باب الانبساط والسرایة، فذکروا بأنّ هذا الکلام لا یکون تامّاً. نعم، هم استظهروا فی مقام الإثبات من الأدلة أنّ نجاسة الملاقی من باب السببیة ولیست من باب الانبساط والسرایة.

ص: 422

یمکن أن یُلاحظ علی هذا الکلام: أنّه یمکن أن یقال أنّ القضیة لیست قضیة حدّیة بأنّه إن قلنا بالسببیة، فالعلم الإجمالی الأوّل لا ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی، وإن قلنا بالانبساط، فهو ینجّزه؛ بل بالإمکان أن نقول بعدم المنجّزیة حتّی إن قلنا بالانبساط والسرایة، حتّی إذا قلنا بالانبساط والسرایة بالمعنی الذی طُرح مع ذلک یمکن للإنسان أن یقول بأنّ العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی، وذلک باعتبار أنّ ما نعلمه إجمالاً بالعلم الإجمالی الأوّل هو أصل النجاسة وهی مرددّة بین أن تکون فی هذا الطرف أو أن تکون فی ذاک الطرف، أمّا حدود هذه النجاسة وسعتها علی نحوٍ تشمل غیر هذا الطرف، فهذا لا نعلمه بالعلم الإجمالی، لیس معلوماً لنا بالعلم الإجمالی، نعلم بنجاسة أحد الطرفین، لکن لا نعلم بالعلم الإجمالی حدوث هذه النجاسة علی نحوٍ تشمل الملاقی، هذا لیس معلوماً لنا من البدایة، أنا أعلم إجمالاً بأنّ أحد الإناءین نجس، لکن لا استطیع أن أقول أنا أعلم بالإجمال أنّ هناک نجاسة واسعة منتشرة تشمل الملاقی، وهذا معناه أنّ حدّ هذه النجاسة وسعتها وانتشارها علی نحوٍ تشمل الملاقی لیس هو المعلوم بالإجمال، وإنّما هو علی تقدیر أن تکون النجاسة فی الملاقی، فهو أمر جدید حادث لا یمکن إثباته بالعلم الإجمالی الأوّل، العلم الإجمالی الأوّل یثبت فقط أصل النجاسة، ولکنّه لا یثبت حدود هذه النجاسة، فعندما أشکّ فی نجاسة الملاقی معناه أنّی اشکّ فی حدود النجاسة علی تقدیر وجودها فی الملاقی، هذه النجاسة علی تقدیر وجودها فی هذا الطرف؛ حینئذٍ سعتها وشمولها للملاقی تکون أمراً غیر محرز بالعلم الإجمالی الأوّل، وإنّما ما أحرزه هو أصل النجاسة، سعتها وحدودها وانتشارها غیر محرز، فإذا کان غیر محرز؛ فحینئذٍ یمکن أن نقول أنّ هذا حاله حال القول بالسببیة، کیف هناک کنّا نقول بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی موضوعه غیر محرزٍ لنا، والعلم الإجمالی بالنجاسة لا یحرز لنا هذا الموضوع؛ فلذا یمکن الرجوع إلی الأصول المؤمّنة فیه، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الاجتناب عنه، کذلک علی القول بالانبساط والسرایة؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی لیس جزء المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، ولیس داخلاً فی العلم الإجمالی الأوّل، العلم الإجمالی الأوّل لا ینجّزه، فإذا کان لا ینجّزه، فهو مشکوک وغیر محرز، فیمکن الرجوع فیه إلی الأصول المؤمّنة. هذا من جهة.

ص: 423

من جهةٍ أخری: أنّ هذا الکلام من أنّه بناءً علی القول بالانبساط والسرایة، فالعلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی، هذا قد یکون له معنیً متصوّراً ومعقولاً بالنسبة إلی نفس النجاسة کحکمٍ وضعی، قد یصح علی کلامٍ سیأتی فیه، یمکن أن یُفرض ولو من باب التنزّل أنّ هناک انبساطاً وسرایةً فی النجاسة، یعنی الحکم الوضعی حیث أنّ موضوعه النجاسة یمکن ولو من باب التنزّل أن یقال فیه بالانبساط والسرایة، لکن الحکم التکلیفی کیف یمکن أن یقال فیه بالانبساط والسرایة ؟ حرمة الشرب وحرمة الوضوء بهذا الماء، وسائر الأحکام التکلیفیة، هذه الأحکام التکلیفیة لیس موضوعها النجاسة، وإنّما موضوعها الما، والثوب. وبعبارةٍ أخری موضوعها المتنجّس لا النجاسة، الحکم الوضعی موضوعه النجاسة، فقد یقال بأنّ النجاسة تنبسط وتسری من الملاقی إلی الملاقی، لکن حرمة الشرب موضوعه الماء، فما معنی أن نقول أنّ حرمة الشرب التی موضوعها المتنجّس تسری من الملاقی إلی الملاقی ؟ لا معنی لذلک، النجاسة یمکن افتراض سرایتها من الملاقی إلی الملاقی _____________ علی کلامٍ فیه یأتی إن شاء الله تعالی ___________ لکنّ حرمة شرب هذا الماء الذی هو أحد طرفی العلم الإجمالی، ما معنی أن نقول أنّ هذه الحرمة تسری من الملاقی إلی الملاقی ؟! والحال أنّ موضوعها هو المتنجّس والثوب والماء الذی أعلم إجمالاً بنجاسته، أن تسری هذه الحرمة الثابتة لهذا الثوب وهذا الماء إلی یدی التی لاقت هذا الماء، ولاقت هذا الثوب، فیجب الاجتناب عنه ؟! هذا لا یمکن تصوّره. علی کل حال، الکلام فی هذا لیس مهمّاً، وإنّما المهم هو أنّهم ذکروا __________ هذا البحث الإثباتی __________ أنّ الدلیل لا یساعد علی إثبات الانبساط والسرایة، وإنّما الدلیل یساعد علی إثبات السببیة، بمعنی أنّ النجاسة الثابتة لملاقی النجس هی نجاسة جدیدة ومستقلّة. نعم، هی تنشأ بسبب النجاسة الموجودة فی الملاقی، فالنسبة بین النجاستین فی الحقیقة هی نسبة السببیة والمسببیة؛ بل هذا الذی قلنا أنّ الکلام سیأتی فیه وهو مسألة السرایة، غیر واضح ما هو المقصود بالسرایة، وانبساط النجاسة، حیث فیها احتمالان: إمّا أن یکون المقصود هو انبساط النجاسة وسرایتها من الملاقی إلی الملاقی، وإمّا أن یکون المقصود هو سرایة الحکم الشرعی بوجوب الاجتناب من الملاقی إلی الملاقی، الحکم الشرعی المترتب علی النجاسة یسری من الملاقی إلی الملاقی، بالنسبة إلی سرایة النجاسة هذه السرایة لو ادُعیت کأنّه یُفهم منها أنّ النجاسة أمر تکوینی واقعی یسری من هنا إلی هنا کما هو الحال فی الأمور التکوینیة الخارجیة، ممکن افتراض أن تسری من شیءٍ إلی شیءٍ آخر، لکن النجاسة لیست أمراً تکوینیاً واقعیاً، وإنّما النجاسة من الأمور التشریعیة الوضعیة الاعتباریة، فما معنی أن نفترض أنّ هذا الأمر الاعتباری یسری من الملاقی إلی الملاقی ؟! ما معنی هذه السرایة ؟ هل هناک سرایة قهریة فی هذا الباب ؟ أنّ الاعتبار الشرعی الذی هو نجاسة الملاقی یسری من الملاقی إلی الملاقی ؟ لا معنی لهذا الکلام، ونفس الکلام یقال فیما إذا ادُعی سرایة وجوب الاجتناب، أنّ الحکم بوجوب الاجتناب عن الملاقی یسری إلی الملاقی، نفس الکلام یقال؛ إذ لا معنی لفرض السرایة فی الاعتبارات الشرعیة، الاعتبارات الشرعیة بید الشارع، فهو حسب المصالح إمّا أن یعتبره فی مکانٍ آخر، أو لا یعتبره، إمّا أن نقول أنّ هذا یسری قهراً من الملاقی إلی الملاقی، الاعتبار الشرعی یسری، لا مجال لهذا الکلام، ولا معنی له أصلاً، ومن هنا اصل فکرة السرایة، مضافاً إلی أنّ الدلیل قاصر عن إثباته، وإنّ ما یُفهم من الأدلّة أنّ نجاسة الملاقی سببٌ لنجاسة الملاقی، یعنی سبب لحکم الشارع بنجاسة الملاقی، فإذن: ما یصدر من الشارع هما اعتباران، اعتبار نجاسة الملاقی، واعتبار نجاسة الملاقی، إذن: هما اعتباران مستقلان منفصلان تربط بینهما علاقة السببیة والمسببیة. وعلیه: ففی محل الکلام نحن نشکّ فی تحقق موضوع الاعتبار الثانی؛ لأنّ الاعتبار الثانی، أی نجاسة الملاقی موضوعها هو ملاقاة النجس، ونحن نشکّ فی ملاقاته للنجس فی محل الکلام.

ص: 424

لکن یظهر أنّ المسألة عندهم لیست بهذا الشکل، یعنی لیست دائرة فقط بین احتمالین ثبوتیین واحدهما السببیة والآخر هو السرایة والانبساط حتّی یقال أنّ الدلیل فی مقام الإثبات لا یساعد علی الثانی، فیتعیّن الالتزام بالأوّل وهو السببیة؛ لأنّهم أبرزوا احتمالاً ثالثاً فی کلماتهم قد ینتج منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الاجتناب عن الملاقی، یعنی ینتج نفس النتیجة التی ینتجها القول بالانبساط والسرایة بناءً علی هذا الاحتمال؛ لأنّهم قالوا أنّ الانبساط والسرایة یوجب أن یکون العلم الإجمالی الأوّل منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقی، هذا الاحتمال الثالث ینتج نفس النتیجة، لکنّه لیس قولاً بالسرایة والانبساط، فلا ترد علیه الإشکالات التی ترد علی القول بالسرایة والانبساط، وإنّ هذا معنی غیر معقول فی باب الاعتبارات الشرعیة؛ بل هو معنی ثالث ینتج نفس النتیجة ولا ترد علیه الوجوه المتقدّمة، وحاصل هذا المعنی الثالث هو : أنّهم قالوا یمکن افتراض أن تثبت نجاسة الملاقی باعتبار أنّ الاجتناب عن الملاقی لا یکون إلاّ بالاجتناب عن الملاقی، إذا لاقی شیءٌ شیئاً نجساً معلوماً بالعلم التفصیلی __________ هذا الکلام فی غیر محل الکلام وبعد ذلک نأتی إلی محل الکلام __________ کیف تثبت نجاسة الملاقی ؟ هل من باب السببیة ؟ کلا، ولا من باب السرایة والانبساط، وإنّما یثبت وجوب الاجتناب عن الملاقی للنجس باعتبار أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی لا یکون إلاّ بالاجتناب عن الملاقی بحیث أنّ المکلّف لو اجتنب عن الملاقی ولم یجتنب عن الملاقی یقال أنّ هذا لم یجتنب عن النجس، وإنّما یکون مجتنباً عن النجس إذا اجتنب عنه وعن ملاقیه، ومنشأ هذه الدعوی هو أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی هو من شئون وتبعات وجوب الاجتناب عن الملاقی، أصلاً وجوب الاجتناب عن النجس من شئونه وتبعاته وجوب الاجتناب عن ما یلاقیه، فإذا لم یجتنب عن ما یلاقیه، کأنّه ما اجتنب عن النجس. بناءً علی هذا الوجه؛ حینئذٍ العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی بلا إشکال یثبت وجوب الاجتناب عن الملاقی، باعتباره طرفاً للعلم الإجمالی، ووجوب الاجتناب عن الملاقی من شئونه وتبعاته وجوب الاجتناب عن الملاقی، فیثبت وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی الأوّل من دون أن نلتزم بالسرایة والانبساط، هذا من شئونه ومن تبعاته، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقی. وهذا وجه آخر لإثبات المنجّزیة.

ص: 425

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

فی الدرس السابق ذکرنا أنّ المستفاد من کلماتهم هو أنّ الأمر یدور فی کیفیة نجاسة الملاقی، أنّه کیف یکون الملاقی للنجس نجساً ؟ یدور الأمر بین أن یکون هذا من باب السببیة والمسببیة، بأن یکون الحکم بنجاسة الملاقی حکماً جدیداً مستقلاً، فیکون هناک تعدد، ویکون هناک حکمان، حکم بنجاسة الملاقی، وبعبارة أخری حکم بنجاسة النجس، وحکم بنجاسة الملاقی، حکمان شرعیان، لکنّ أحدهما مسبب عن الآخر، وبین أن یکون ذلک من باب الانبساط والانتشار والسرایة الحقیقیة، بمعنی أنّ النجاسة تسری حقیقة من الملاقی إلی ما یلاقیه، فیتنجس الملاقی علی هذا الأساس. وذکروا فی مقام الجواب عن أصل السؤال فی أصل البحث والذی هو أنّ العلم الإجمالی الأوّل الذی هو العلم الإجمالی بنجاسة أحد المائعین هل ینجز وجوب الاجتناب عن الملاقی لأحدهما، أو لا ؟ قالوا بناءً علی أنّ نجاسة الملاقی من باب السببیة، فهو لا ینجّزه؛ لأنّ نجاسة الملاقی حکم جدید مستقل، ومجرّد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین لا ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ بل وجوب الاجتناب عن الملاقی یکون مشکوکاً وغیر معلوم؛ لأننا نشک فی ملاقاته للنجس، لا علم لنا بأنّ الملاقی لاقی النجس. نعم، هو لاقی هذا الطرف، أما ملاقاته للنجس، فمشکوکة لنا وغیر معلومة، وعلمنا الإجمالی بأنّ أحد الإناءین نجس لا یکفی لإحراز أنّ هذا الملاقی لاقی النجس، وعلیه: فلا ینجّزه العلم الإجمالی الأوّل. أمّا بناءً علی الانبساط، فالعلم الإجمالی الأوّل ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ بل الملاقی هو طرف للعلم الإجمالی من البدایة، بمعنی أننا نعلم إجمالاً إمّا بنجاسة ذاک الطرف، أو نجاسة هذا الملاقی وملاقیه؛ لأنّ نجاسة الملاقی هی عبارة أخری عن نجاسة الملاقی لکن مع انتشارها وسعتها، وهذا طرف للعلم الإجمالی، فیتنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل.

ص: 426

لکن الظاهر من کلماتهم أنّ الأمر لا یدور بین هذین الاحتمالین فقط؛ بل هناک احتمالاً ثالثاً یستفاد من کلماتهم أیضاً یترتب علیه منجّزیة العلم الإجمالی الأوّل لوجوب الاجتناب عن الملاقی، وهذا الاحتمال الثالث هو أن یکون وجوب الاجتناب عن الملاقی باعتبار أنّ الاجتناب عن ملاقی النجس هو من شئون وتبعات الاجتناب عن نفس النجس، ولیس السرایة بالمعنی المتقدّم سرایة حقیقیة والذی هو الاحتمال الأوّل الذی فسّرناه بالانبساط، لیس هناک انبساط، لکن یُعد الاجتناب عن الملاقی من شئون الاجتناب عن النجسالذی هو الملاقی ومن تبعاته بحیث أنّ الذی یجتنب عن النجس، أی الملاقی ولا یجتنب عن الملاقی لا یُعدّ مجتنباً عن النجس بتمام مراتبه، وسیأتی أنّه بناءً علی هذا یکون للاجتناب عن النجس مراتب، له مرتبة عالیة وهی تتحقق بالاجتناب عن الملاقی والملاقی، هذا اجتناب عن النجس بمرتبته العالیة، لکن هناک مرتبة أخری للاجتناب عن النجس تتحقق بالاجتناب عن النجس دون ملاقیه، هذا أیضاً اجتنب عن النجس لکن بمرتبة من مراتبه لا بتمام مراتبه، أو بمرتبته القصوی، فالاجتناب عن الملاقی هو مرتبة من مراتب الاجتناب عن النجس، ومثّل المحقق النائینی(قدّس سرّه) لذلک بمسألة النهی عن المغصوب، (1) قال: أنّ من تبعات النهی عن المغصوب النهی عن منافعه، من تبعات وشئون النهی عن التصرّف فی المغصوب النهی عن التصرّف فی منافعه بحیث أنّ الذی یتصرّف فی منافع المغصوب یُعدّ هذا تصرفّاً فی نفس المغصوب، والذی یجتنب عن التصرّف فی منافع المغصوب یُعدّ مجتنباً عن التصرّف فی نفس المغصوب، وهکذا مثّل للثمرة بالنسبة إلی الشجرة، أیضاً یقال نفس الکلام بأنّ النهی عن التصرّف فی الشجرة من توابعه وشئونه النهی عن التصرّف فی ثمرة الشجرة، فلا یحتاج النهی عن التصرّف فی ثمرة الشجرة إلی نهی جدید، وإنّما یکفی فیه نفس النهی عن التصرّف فی الشجرة؛ لأنّ التصرّف فی الثمرة یعتبر من شئون التصرّف فی الشجرة، والاجتناب عن التصرّف فی الشجرة من شئونه الاجتناب عن التصرّف فی الثمرة، فلیکن ما نحن فیه من هذا القبیل، الاجتناب عن الملاقی هو من شئون الاجتناب عن الملاقی النجس؛ وحینئذٍ یکون الاجتناب عن الملاقی من الأحکام المترتبة علی نجاسة الملاقی ولیس هو حکماً جدیداً مستقلاً وراء الحکم بنجاسة الملاقی، یعنی لیس لدینا حکمان، وإنّما لدینا حکم واحد وهو الحکم بنجاسة الملاقی، أو وجوب الاجتناب عن الملاقی النجس، ولیس لدینا أکثر من حکمٍ واحد، لکن هذا من شئونه الاجتناب عن ملاقیه.

ص: 427


1- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج2، ص257.

بناءً علی هذا الکلام، قالوا: لابدّ من الالتزام حینئذٍ بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی یتنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ الاجتناب عن الملاقی الذی تنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل، ولا إشکال أنّ العلم الإجمالی ینجّز کلا طرفیه، فهو ینجّز الملاقی، یعنی ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی، فإذا تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی.

وبعبارةٍ أخری: أنّ امتثال ما تنجّز بالعلم الإجمالی الذی هو وجوب الاجتناب عن الملاقی لا یتحقق إلاّ بالاجتناب عن الملاقی، فإذا لم یجتنب عن الملاقی یُعدّ غیر ممتثل لما تنجّز بالعلم الإجمالی، فیکفی فی تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی نفس العلم الإجمالی الأوّل بناءً علی هذا الاحتمال الثالث.

ثمّ أنّه بعد استبعاد الاحتمال الأوّل الذی هو الانبساط والسرایة الحقیقیة؛ لأنّه خلاف الأدلّة، أو ترِد علیه الإشکالات السابقة من أننّا لا نتصوّر معنیً معقولاً للسرایة والانبساط والانتشار الحقیقی..... بعد استبعاد هذا الاحتمال باعتباره معنیً غیر متصوّر ولا یمکن الالتزام به، وقع الکلام فی الاحتمالین الآخرین اللّذین هما السببیة وهذا المعنی الأخیر الذی هو أن یکون الاجتناب عن الملاقی من شئون الاجتناب عن الملاقی، فیدور الأمر بین هذین الاحتمالین. هنا وقع الکلام عندهم أولاً فی إمکان الالتزام بهذین الاحتمالین، أصلاً هل یمکن الالتزام بالسببیة ؟ وهل یمکن الالتزام بالمعنی الأخیر ؟ أنّ هذا من شئون الاجتناب عن الملاقی، أو لا یمکن الالتزام بذلک ؟ علی تقدیر إمکان الالتزام، أوقعوا الکلام فی مرحلة الإثبات، بمعنی أنّ أدلّة نجاسة الملاقی، ماذا یُفهم منها ؟ هل یُفهم منها السببیة، وأنّ هناک تشریعاً آخر وحکماً آخر بنجاسة الملاقی عند تحقق الملاقاة للنجس ؟ الشارع یحکم بنجاسة الملاقی کما حکم بنجاسة النجس، هل یُفهم منها هذا ؟ غایة الأمر أنّ العلاقة بینهما هی علاقة السببیة والمسببیة، ما هی المشکلة فی أنّ نجاسة النجس هی السبب فی أن یحکم الشارع حکماً جدیداً بنجاسة ما یلاقیه من دون انبساط ومن دون سرایة حقیقیة ومن دون حتّی کون الاجتناب عن الملاقی من شئون الاجتناب عن الملاقی ؟ من دون هذا کلّه، الشارع یحکم بنجاسة الملاقی عندما یلاقی النجس حکماً مستقلاً جدیداً ؟ أو أنّ الأدلة فی مقام الإثبات تساعد علی الاحتمال الثالث، وهو أنّ الاجتناب عن الملاقی من شئون الاجتناب عن النجس نفسه ؟ هذا هو البحث الإثباتی تقریباً.

ص: 428

أمّا فی البحث الأوّل: وهو أنّه هل یمکن الالتزام بهذین الاحتمالین، أو لا ؟ بالنسبة إلی احتمال السببیة لا إشکال فی إمکان الالتزام به، ولا یوجد أی شیء یمنع من الالتزام به فی مرحلة الثبوت بقطع النظر عن الإثبات ومساعدة الأدلّة، فلا مشکلة فی أن یُلتزم بأنّ الشارع یجعل حکماً بنجاسة الملاقی مستقلاً وجدیداً ولیس هو نفس حکمه بنجاسة النجس، الشارع له تشریعان، أحدهما هو الحکم بنجاسة النجس، والآخر هو الحکم بنجاسة ما یلاقیه.

وبعبارةٍ أخری: لنفترض أنّ ملاقاة النجس ملاک مستقل بنظر الشارع للحکم بوجوب الاجتناب عن الملاقی، فیجعل الشارع حکمین، وجوب الاجتناب عن النجس، ووجوب الاجتناب عن الملاقی، فیحکم بنجاسة النجس ویحکم بنجاسة ملاقیه، لا مشکلة فی هذا. وإنّما الکلام فی الاحتمال الآخر، هل یمکن الالتزام بهذا الاحتمال، أو لا یمکن الالتزام به ؟

قد یقال: لا یمکن الالتزام بهذا الاحتمال، الذی هو أنّه من شئون وتبعات النجس نفسه، ولابدّ من استبعاد هذا الاحتمال کما استبعدنا احتمال الانبساط والسرایة الحقیقیة، والوجه فی ذلک هو أن یقال: أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی، لو صحّ فیه هذا الاحتمال، وکان من شئون وتبعات وجوب الاجتناب عن الملاقی، لازمه أن یکون تابعاً له حتّی فی مرحلة البقاء، فضلاً عن الحدوث، یعنی إذا سقط وجوب الاجتناب عن النجس لابدّ أن یسقط وجوب الاجتناب عن ملاقیه؛ لأنّه تابع له ومن شئونه، لازم التبعیة أن یکون تابعاً له حتّی فی مرحلة البقاء، بینما نحن نجد بالوجدان وبالاتفاق أنّه عند فقد النجس، أی الملاقی وانعدامه ___________ بقطع النظر عن العلم الإجمالی ___________ یبقی وجوب الاجتناب عن ملاقیه علی حاله لا یزول ولا یرتفع. مثلاً: نجس لاقاه ثوب، ثمّ انعدم النجس أو فُقد، یبقی وجوب الاجتناب عن الثوب علی حاله، وهذا مؤشر واضح علی عدم التبعیة، وعلی أنّ الاجتناب عن الثوب لیس من شئون ومن تبعات الاجتناب عن نفس النجس، وإلاّ لما بقی بعد فقده وانعدامه، لابدّ أن نقول أنّه لا یبقی، وکما ارتفع وجوب الاجتناب عن النجس بفقد النجس وانعدامه لابدّ أن یرتفع وجوب الاجتناب عن ملاقیه؛ لأنّ هذا هو معنی التبعیة وکونه من شئونه، بینما العکس هو الصحیح، فأن وجوب الاجتناب عن الملاقی یبقی بالرغم من انعدام أو فقد النجس الملاقی، وهذا یکشف عن عدم صحّة هذا الاحتمال وعدم إمکان الالتزام به. قد یُعترض علی الاحتمال الثالث بهذا الاعتراض.

ص: 429

أجیب عن هذا الاعتراض: والمجیب هو المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه)، (1) بأنّ الملاقی له حکمان بحیثیتین مختلفتین، یُحکم علیه بوجوب الاجتناب بحیثیة کونه نجساً بالتبع، ویُحکم علیه بوجوب الاجتناب بحیثیة کونه من شئون النجس، یعنی هو یجب اجتنابه لأنّه نجس، ویجب اجتنابه لأنّه من شئون عین النجس، فله حکمان بحیثیتین متعددتین، ویُمثّل المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه) لذلک بما إذا کان ابن العالم عالماً، ابن العالم یجب إکرامه بحیثیتین، الحیثیة الأولی هی کونه عالماً، والحیثیة الأخری هی کونه ابن العالم، وإکرام العالم من شئونه إکرام ابنه، فیجب إکرام الأبن باعتباره من شئون إکرام نفس العالم، فتجتمع فیه حیثیتان لوجوب الإکرام، فإذا فُقدت أحدی الحیثیتین وهی کونه ابن العالم، تبقی الحیثیة الأخری علی حالها، فیجب إکرامه لکونه عالماً، وما نحن فیه من هذا القبیل، الملاقی هو نجس بالملاقاة؛ لأنّه لاقی نجساً فصار نجساً، فیجب الاجتناب عنه لکونه نجساً، ویجب الاجتناب عنه باعتبار کونه من شئون وجوب الاجتناب عن عین النجس، هذه الحیثیة الثانیة زالت بفقد، أو انعدام النجس الملاقی، أی زالت حیثیة کونه من شئونه، لکن الحیثیة الأولی تبقی علی حالها؛ لأنّه صار نجساً، فیجب الاجتناب عنه، فبقاء وجوب الاجتناب عن الملاقی بعد فقدان الملاقی، أو انعدام الملاقی لا تنافی الالتزام بکونه من شئون الاجتناب عن نفس النجس، ملاقی النجس نجس، وهذا لا ینافی أن یکون الاجتناب عنه من شئون الاجتناب عن الملاقی النجس، فإذا زالت هذه الحیثیة بفقد الملاقی، أو بانعدامه، یبقی وجوب الاجتناب عن الملاقی علی حاله، لکن بالحیثیة الثانیة. یرید أن یقول أنّ بقاء وجوب الاجتناب عن الملاقی عند انعدام الملاقی لا یعنی أنّه لیس من شئونه ولیس من تبعاته؛ بل هو من شئونه ومن تبعاته، ولو کانت هذه الحیثیة هی الحیثیة الوحیدة لقلنا بزوال وجوب الاجتناب عن الملاقی عندما یُفقد، أو ینعدم الملاقی، لکنّ هذه الحیثیة لیست هی الحیثیة الوحیدة، فیُحکم بوجوب الاجتناب عنه باعتبار الحیثیة الأخری. هذا جوابه عن هذا الاعتراض.

ص: 430


1- نهایة الدرایة فی شرح الکفایة، الشیخ الأصفهانی، ج4، ص281.

لکن یمکن إدخال ما ذکرناه للجواب عن أصل الإشکال، وهو ما قلناه من أنّه یبدو علی الاحتمال الثالث أنّ الاجتناب عن الملاقی یُعدّ مرتبة من مراتب الاجتناب عن النجس نفسه؛ لأنّ المفروض حسب هذا الاحتمال الثالث أنّ الاجتناب عن الملاقی هو اجتناب عن الملاقی، وأنّ عدم الاجتناب عن الملاقی هو عدم الاجتناب عن نفس النجس، کأنّه لم یجتنب عن نفس النجس؛ حینئذٍ إذا فُقد الملاقی النجس، أو انعدم، هذا لا یوجب ارتفاع وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّ المکلّف متمکن من امتثال وجوب الاجتناب عن الملاقی، لکن ببعض مراتبه. الإشکال مبنی علی فکرة أنّ انعدام الموضوع یوجب زوال وارتفاع الحکم، فوجوب الاجتناب عن الملاقی یرتفع بارتفاع موضوعه، أی بارتفاع الملاقی؛ حینئذٍ لا یجب الاجتناب عنه؛ حینئذٍ کیف یبقی وجوب الاجتناب عن الملاقی ؟ وجوب الاجتناب عن الملاقی ارتفع، فکیف یمکن فرض بقاء وجوب الاجتناب عن الملاقی، والحال أنّه تابع له ومن شئونه، ومقتضی التبعیة أن یرتفع هو أیضاً، بینما هو موجود بالاتفاق، فهذا یکشف عن عدم التبعیة، وکونه لیس من شئون ذاک، أصل الاستدلال مبنی علی هذا.

الجواب هو: من قال أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی النجس یرتفع بمجرّد فقد النجس، أو انعدامه ؟ بل وجوب الاجتناب عن النجس له مراتب، له مرتبة عالیة تتحقق بالاجتناب عن کلٍ منه ومن ملاقیه، وله مرتبة دانیة تتحقق بالاجتناب عن ملاقیه؛ لأنّ الاجتناب عن ملاقیه یُعدّ اجتناباً عن النجس، لکن ببعض مراتبه، فانعدام النجس، أو فقده لا یعنی ارتفاع وجوب الاجتناب عن النجس؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن النجس له مراتب، وبعض مراتبه تتحقق بافتراض بقاء الملاقی، فوجوب الاجتناب عن النجس یقتضی وجوب الاجتناب عن ملاقیه؛ لأنّ الاجتناب عن الملاقی هو مرتبة من مراتب الاجتناب عن النجس، فلینعدم النجس، لکن الملاقی موجود، فیجب الاجتناب عن النجس بالرغم من انعدامه، لکن بمرتبةٍ من مراتبه، وهی التی تتحقق وتتمثّل بالاجتناب عن الملاقی، فوجوب الاجتناب عن النجس یبقی ثابتاً بالرغم من انعدام النجس، لکن یبقی ثابتاً ببعض مراتبه، وهذا یقتضی وجوب الاجتناب عن الملاقی.

ص: 431

فإذن: وجوب الاجتناب عن الملاقی سوف لن یبقی ثابتاً مع ارتفاع وجوب الاجتناب عن الملاقی لفقد الملاقی، أو انعدامه، إذا کان یبقی ثابتاً بالرغم من ارتفاع ذاک یرِد الإشکال؛ لکن نقول بأنّ ذاک لا یرتفع، وجوب الاجتناب عن النجس لا یرتفع بانعدام النجس، وإنّما یرتفع بمرتبته العلیا، أمّا بمرتبته الأخری، فهو باقٍ علی حاله ویقتضی وجوب الاجتناب عن الملاقی، وهذا هو الجواب عن الاعتراض السابق.

قد یورد علی الاحتمال الثالث بإیرادٍ آخر: أیضاً ذکره المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه)، وهو أن یقال بأنّه لا إشکال فی أنّ المکلّف إذا اجتنب الملاقی النجس ولم یجتنب الملاقی، فاستعمل الملاقی وترک استعمال الملاقی النجس. یقول: لا إشکال فی أنّه یعتبر مجتنباً عن فردٍ من النجس وغیر مجتنب لفردٍ آخر من النجس، یقول: صدق هذا الکلام ینافی التبعیة، أی ینافی الاحتمال الثالث، وإلاّ لما صدق الاجتناب عن النجس إذا لم یجتنب عن المتنجس؛ لأنّ هذا هو مقتضی التبعیة؛ لأنّ کون الاجتناب عن الملاقی من شئون الاجتناب عن النجس یقتضی أن الذی لا یجتنب عن الملاقی لا یکون قد اجتنب عن النجس، الذی لا یکرم ابن العالم لا یکون قد أکرم العالم، الذی یستعمل الملاقی للنجس کأنّه لم یجتنب عن النجس نفسه؛ لأنّ هذا هو معنی أنّه من شئونه ومن تبعاته، بینما یقول سلّمنا قبل هذا أنّه یصدق علیه أنّه اجتنب فرداً من النجس ولم یجتنب فرداً آخر من النجس. إذن: هو عندما یجتنب الملاقی یصدق علیه أنّه اجتنب النجس، إذا صدق أنّه اجتنب النجس، فهذا ینافی التبعیة، بالرغم من أنّه لم یجتنب الملاقی، إذا صدق علی من لم یجتنب الملاقی للنجس أنّه اجتنب النجس، فهذا ینافی التبعیة؛ لأنّ التبعیة تقتضی أن لا یصدق الاجتناب عن النجس إلاّ إذا اجتنب عن ملاقیه، والمفروض أنّه غیر مجتنب عن ملاقیه، فإذن: کیف یصدق الاجتناب عن النجس ؟ فإذا صدق الاجتناب عن النجس، فهذا یعنی أنّه لا تبعیة، ولا یکون هذا الاحتمال تامّاً. هذا الإیراد الآخر الذی أورد علی ما تقدّم.

ص: 432

ویمکن الجواب عنه بنفس الفکرة السابقة وهی فکرة المراتب، بأن یقال: أنّ الاجتناب عن الملاقی هو مرتبة من مراتب الاجتناب عن النجس نفسه وعن الملاقی نفسه، فالذی یجتنب عن النجس ولا یجتنب عن ملاقیه لا یکون مجتنباً عن النجس، وإنّما یکون مجتنباً عن النجس ببعض مراتبه، ومن هنا ینشأ هذا الإشکال، من الخلط بین الاجتناب عن النجس مطلقاً وبین الاجتناب عن النجس ببعض مراتبه، الذی یجتنب النجس ولا یجتنب ملاقیه یصدق علیه أنّه اجتنب النجس لکن لا مطلقاً کما تخیّل المستشکل، وإنّما یصدق علیه أنّه اجتنب النجس ببعض مراتبه، وهی مرتبته العلیا التی لا تتحقق إلاّ بالاجتناب عن کلٍ منهما، فإذا اجتنب النجس واستعمل ملاقیه لا یکون مجتنباً للنجس بتمام مراتبه، وإنّما اجتنب عنه ببعض مراتبه، کما أنّه یصدق علیه أنّه لم یجتنب النجس بمرتبته الأخری؛ لأنّه استعمل ملاقیه، واستعمال الملاقی هو استعمال للملاقی ببعض مراتبه، فنستطیع أن نقول أنّه اجتنب النجس بمرتبةٍ من مراتبه، ولم یجتنب النجس بمرتبته الأخری، وهذا لا ینافی القول بالتبعیة ولا ینافی القول بأنّ الاجتناب عن الملاقی هو من شئون الاجتناب عن الملاقی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

اتضح ممّا تقدّم أنّ کلاً من المقامین المطروحین فی المقام یمکن الالتزام بهما، احتمال السببیة واحتمال التبعیة بالمعنی المطروح المتقدّم، التبعیة بمعنی أن یکون الاجتناب عن الملاقی من مراتب ومن شئون الاجتناب عن النجس نفسه. بعد أن اتضح ذلک؛ حینئذٍ نقول أنّ الفارق بین الاحتمالین هو أنّه علی الاحتمال الأوّل، أی احتمال السببیة یکون الحکم بوجوب الاجتناب عن الملاقی هو حکم آخر وجعل آخر یختلف عن جعل وجوب الاجتناب عن النجس نفسه، غایة الأمر أنّ بینهما علاقة السببیة والمسببیة، فکأنّ نجاسة النجس، ووجوب الاجتناب عن النجس تکون سبباً یدعو الشارع إلی أن یجعل وجوب الاجتناب عن ملاقیه، فإذا کان هناک نجس وعلمنا تفصیلاً بملاقاته للثوب؛ حینئذٍ نحکم بوجوب الاجتناب عن الثوب؛ لأنّ الدلیل دلّ فیه علی وجوب الاجتناب عن النجس ولا یکفی فی إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی مجرّد وجوب الاجتناب عن النجس، والدلیل دلّ علی وجوب الاجتناب عن ملاقی النجس، لکنّه یبقی جعل وتشریع مستقل وغیر جعل نجاسة النجس ووجوب الاجتناب عن النجس، وهذا بخلاف الاحتمال الثانی، فی الاحتمال الثانی لا نحتاج إلی دلیلٍ آخر غیر نفس وجوب الاجتناب عن النجس لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّ نفس وجوب الاجتناب عن النجس یقتضی وجوب الاجتناب عن ملاقیه، هو بنفسه یقتضی ذلک ولا نحتاج إلی دلیل لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ بل یکفی نفس الدلیل الدال علی وجوب الاجتناب عن النجس، نجاسة الشیء هی بنفسها تقتضی وجوب الاجتناب عن ملاقیه ولا یتوقّف إثبات هذا الحکم علی جعلٍ آخر وتشریعٍ آخر من قبل الشارع، الشارع فقط یشرّع نجاسة النجس، وجوب الاجتناب عن النجس، هذا یثبت به وهذا یقتضی وجوب الاجتناب عن ملاقیه.

ص: 433

حینئذٍ فی مرحلة الإثبات وأنّ الدلیل یساعد علی أیٍّ من الاحتمالین، والمقصود بالدلیل هو الأدلّة الدالة علی وجوب الاجتناب عن النجس وأمثالها من الأدلّة التی ترتبط بمحل الکلام. فی البدایة قد یقال: أن ظاهر أدلّة وجوب الاجتناب عن النجس أنّه وجوب مستقل ووجوب جدید، لا أنّه نفس وجوب الاجتناب عن النجس، أی أنّ هذا حکم جدید ومستقل یختلف عن وجوب الاجتناب عن نفس النجس، وهذا معناه أن هناک حکمین مستقلین، أحدهما وجوب الاجتناب عن النجس، والآخر هو وجوب الاجتناب عن ملاقیه، وهذا علی خلاف التبعیة؛ لأنّ الالتزام حینئذٍ بکون وجوب الاجتناب عن الملاقی من شئون ومن تبعات وجوب الاجتناب عن النجس، هذا حینئذٍ یکون خلاف ظاهر الدلیل؛ لأنّ ظاهر الدلیل بحسب الفرض أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی وجوب مستقل وجدید لا أنّه من شئون ذلک الحکم ومن تبعاته، کونه من تبعات ذلک الحکم یعنی أنّه لیس وجوباً مستقلاً وجدیداً، وإنّما هو من تبعات ذلک الحکم ویکفی فی ثبوته ثبوت نفس ذلک الحکم علی ما قلنا ولیس هو کماً جدیداً ووجوباً جدیداً، بینما الظاهر من الدلیل أنّه وجوب مستقل وجدید؛ فحینئذٍ یکون الالتزام بالتبعیة بالمعنی السابق علی خلاف ظاهر الدلیل، وهذا یثبّت الأوّل، یعنی یثبّت السببیة بالمعنی السابق، وأنّهما حکمان مستقلان ولیس الثانی من شئون وتوابع الأوّل.

هذا الاستدلال لیس واضحاً؛ لأنّ الذی یُفهم من الدلیل، إذا دلّ دلیل علی وجوب الاجتناب عن ملاقی البول ___________ مثلاُ _________ ما یُفهم منه هو وجوب الاجتناب عنه لا أکثر من هذا، أمّا أنّه وجوب مستقل وجدید ولیس تابعاً لوجوب الاجتناب عن النجس نفسه، فهذا لا یُفهم من الدلیل، ولیس ظاهر الدلیل هو ذلک، ما یُفهم من الدلیل هو وجوب الاجتناب عن الملاقی، وهذا أعمّ من أن یکون وجوبه وجوباً مستقلاً وجدیداً ومن أن یکون وجوبه تبعیاً ومن شئون وجوب الاجتناب عن النجس، هذا أعم من أن یکون وجوباً مستقلاً جدیداً.

ص: 434

وبعبارةٍ أخری: لو فرضنا أنّ المشرّع أراد أن یعبّر عن هذا الحکم الثانی، وأراد أن یبیّن حکم الملاقی للنجس بناءً علی التبعیة، ماذا یقول ؟ یقول اجتنب عن ملاقی النجس. إذن: بناءً علی التبعیة أیضاً الحکم هو وجوب الاجتناب عن الملاقی، غایة الأمر أنّه بناءً علی التبعیة، هذا الوجوب هو من شئون ذاک الوجوب، لکن یمکن التعبیر عنه بأنّه یجب الاجتناب عن ملاقی النجس، هذا الثوب الذی لاقی النجاسة، یقول(اجتنب عنه)، ولا نستطیع أن نستکشف من(أجتنب عنه) أنّه وجوب جدید ومستقل عن الوجوب السابق الذی هو وجوب الاجتناب عن نفس النجاسة؛ لأنّه کما قلنا عندما یُراد بیان هذا الحکم حتّی بناءً علی التبعیة یُعبّر عنه ب__(اجتنب عن الثوب)، وهو لازم أعم من أن یکون هذا حکماً مستقلاً جدیداً ومن أن یکون من توابع ومن شئون الاجتناب عن نفس النجس، فلا یُستظهر من الدلیل أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی هو وجوب جدید ومستقل غیر وجوب الاجتناب عن النجس؛ بل قد یکون من توابعه وعُبّر عنه بهذا التعبیر.

وقد یستدل علی التبعیة، وکون هذا الاجتناب من شئون ذاک الاجتناب ومن تبعاته، یستدلّ علی ذلک بأنّها هی مقتضی الارتکاز العرفی، والارتکاز العرفی یساعد علی أن تکون نجاسة الملاقی من باب التبعیة ولکونها من شئون الاجتناب عن نفس النجس، ویُستشهد لذلک بعدة شواهد تدلّ علی أنّ المرتکز فی أذهان العرف هو أنّ نجاسة الملاقی من باب التبعیة ولیست من باب السببیة بالمعنی السابق.

ومن جملة الشواهد ذکروا مسألة عدم سرایة النجاسة من النجس إلی الماء العالی الذی یرد علی النجاسة، إذا کان الماء عالیاً ویرد علی النجاسة، قالو أنّ النجاسة لا تسری من النجس إلی الماء الوارد علیه، وهذه قضیة ارتکازیة والعرف یفهمها أیضاً، بأنّ النجاسة لا تسری من النجس إذا کان فی الأسفل إلی الماء الذی یرد علی هذه النجاسة، بخلاف العکس، لو عکسنا القضیة، السریان یکون مطابقاً للمرتکزات العرفیة، بینما فی المثال الأوّل الارتکاز العرفی علی خلاف سرایة هذه النجاسة. ارتکاز السرایة فی الثانی، وعدم ارتکازها فی الأوّل یمکن جعله شاهداً علی أنّ المرتکز فی باب النجاسات هو عبارة عن أنّ نجاسة الملاقی تکون من باب التبعیة، ومن باب السرایة، لا أنّها تکون من باب السببیة، بمعنی أنّه حکم تعبّدی یثبت للملاقی وهو حکم جدید ومستقل عن الحکم بنجاسة نفس النجس؛ لأنّه لو قلنا بالسببیة؛ حینئذٍ لا یکون هناک فرق بین الفرضین، لا یکون هناک فرق بین أن یکون النجس فی الأسفل والماء یرد علیه وبین أن یکون النجس فی الأعلی وهو یرد علی الماء، لا فرق بین الفرضین بناءً علی السببیة، فأنّها متحققة فی کلٍ منهما؛ فحینئذٍ لماذا لا یفرّق العرف بارتکازاته بینهما ؟ هذا مؤشرٌ علی أنّ نجاسة الملاقی فی الحقیقة هی من باب السرایة، والمقصود بالسرایة لیست هی السرایة العقلیة الدقّیة التی هی معنی الانبساط، ذاک الاحتمال الأوّل الذی استُبعِد من الاحتمالات، وإنّما المقصود هو السرایة العرفیة بالمعنی السابق، بمعنی أنّ الاجتناب عن الملاقی هو من شئون الاجتناب عن نفس الملاقی وعن النجس نفسه، هذه السرایة العرفیة وهذا المعنی ینسجم تماماً مع هذه الارتکازات، یعنی ارتکاز ثبوت النجاسة عندما یکون النجس فی الأعلی ویرد علی الماء، وارتکاز عدم ثبوت النجاسة وعدم سرایتها للماء، عندما یکون الماء فی الأعلی ویرد علی النجاسة، هذا التفریق فی الارتکاز بین الفرضین هو مؤشر علی صحّة الاحتمال الثانی فی مقابل الاحتمال الأوّل، الاحتمال الأوّل هو فی الحقیقة یعنی أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی هو حکم تعبّدی جعله الشارع ولیس من باب السرایة، وإنّما هو حکم تعبّدی حکم الشارع بوجوب الاجتناب عن ملاقی النجس. نعم، سبب هذا الحکم وعلّته وملاکه هو نجاسة نفس العین النجسة، لکنّه حکم شرعی تعبّدی جعله الشارع، العرف حینئذٍ لا ینبغی أن یُفرّق بین الفرض الأوّل والفرض الثانی، لا یوجد فرق بینهما، السببیة فی کلٍ منهما متحققة، وإنّما التفریق وارتکاز الفرق بین الفرضین یعنی أنّ العرف یفهم أنّ المقام من باب السرایة ومن باب تبعیة وجوب الاجتناب عن الملاقی لوجوب الاجتناب عن نفس النجس وعن الملاقی.

ص: 435

الشاهد الآخر: وهو الذی ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّهّ)، وهو ما نقله عن السید ابن زهرة فی(الغُنیة)، یقول: أنّ السید أبن زهرة(قدّس سرّه) استدلّ علی نجاسة الملاقی بقوله تعالی: (والرجز فأهجر). (1) بناءً علی أنّ المراد بالرجز هو النجس، یقول: أهجر الرجز یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن ملاقیه، هو بنفسه یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی، وهذا علی ما بیّنّا لا ینسجم ولا یتلاءم إلاّ مع القول بالتبعیة بالمعنی السابق، وإلاّ هذا لا ینسجم مع القول بالسببیة؛ لأنّ القول بالسببیة یعنی أنّه لا یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی مجرّد ثبوت وجوب الاجتناب عن النجس؛ لأنّه جعل جدید مستقل یحتاج إلی دلیل، فإذن: لا یصحّ أن نستدلّ علی وجوب الاجتناب عن الملاقی بما دلّ علی وجوب الاجتناب عن النجس إلاّ بناءً علی القول بالتبعیة.

نوقش هذا الکلام، إلاّ أنّ المناقشة حسب الظاهر تعود إلی صحّة الاستدلال بالآیة الشریفة وعدم صحّته، أنّه لا یصح الاستدلال بالآیة الشریفة؛ لأنّ الرجز یُراد به العقاب، أو العذاب، أو یُراد به الرجِز(بالکسر)؛ وحینئذٍ تکون الآیة أجنبیة عن محل الکلام؛ لأنّ الاستدلال مبنی علی أن یکون المراد بالرجز هو النجس؛ حینئذٍ یصح الاستدلال، لکن عندما لا یُراد به النجس؛ حینئذٍ لا یصح هذا الاستدلال. هذه المناقشة لا تنافی ما ذکرناه، نحن لا نرید أن نصحح استدلال السید أبن زهرة(قدّس سرّه) فی الغنیة بالآیة الشریفة علی وجوب الاجتناب ونجاسة ملاقی النجس، وإنّما نرید أن نقول أنّ هذا یکشف عن الارتکاز العرفی بأنّ المقام من باب السرایة والتبعیة بحیث یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی نفس الدلیل الدال علی وجوب الاجتناب عن النجس، والظاهر هذا واضح من خلال کلام السید أبن زهرة(قدّس سرّه) وحتّی من خلال المناقشات التی طُرحت والتی ترتبط بهذا الجانب، لا یصح الاستدلال بالآیة، وکأنّه لو کانت الآیة(والنجس فأهجر)، کأنّه یتم الاستدلال بالآیة علی وجوب الاجتناب عن الملاقی.

ص: 436


1- مدثر/سوره74، آیه5.

ومن جملة الشواهد أیضاً الروایة التی ذکرها المحقق النائینی(قدّس سرّه)، وهی روایة جابر الجُعفی، وهی الروایة المعروفة، مسألة الفأرة التی وقعت فی الخابیة التی فیها سمن أو زیت، ینقل جابر الجعفی عن الإمام الباقر(علیه السلام) أنّه أتاه رجل، فقال له: (وقعت فأرة فی خابیةٍ فیها سمن أو زیت، فما تری فی أکله ؟ فقال أبو جعفر(علیه السلام): لا تأکله، فقال الرجل: الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی لأجلها، فقال له أبو جعفر (علیه السلام): إنّک لم تستخف بالفارة، وإنّما استخففت بدینک، أنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیء). (1) تقریب الاستدلال بالروایة کما یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو أنّ الإمام (علیه السلام) جعل ترک الاجتناب عن الطعام الذی هو السمن، أو الزیت الذی وقعت فیه الفأرة، جعله استخفافاً بالدین، أنّ هذا الرجل حینما قال أنّ الفأرة أهون علیّ من أن أترک طعامی لأجلها، عدم الاجتناب عن هذا الطعام هو استخفاف بالدین، وفسّره بتحریم المیتة، حیث قال له أنّک استخففت بدینک، أنّ الله حرّم المیتة من کل شیءٍ، فکأنّ الإمام (علیه السلام) اعتبر أنّ عدم الاجتناب عن الطعام الذی وقعت فیه الفأرة الذی هو الملاقی، جعله استخفافاً بالدین، وبیّنه بهذا الشکل(أنّ الله حرّم المیتة) یعنی فسّره بتحریم المیتة؛ حینئذٍ یقال: لولا کون نجاسة المیتة تقتضی نجاسة الطعام، الذی هو معنی التبعیة؛ وحینئذٍ لا معنی لهذا الکلام، یعنی لا یصح أن یقول هذا استخفاف بالدین مع تفسیر ذلک(إنّک استخففت بدینک، أنّ الله حرّم المیتة من کل شیء) بتحریم المیتة، وإلاّ کان المناسب جدّاً أن یقول استخففت بالحکم بوجوب الاجتناب عن الطعام الملاقی للمیتة، أی استخفافه لیس بحرمة المیتة، وإنّما هو استخف بوجوب الاجتناب عن الطعام الملاقی للمیتة، بینما الإمام(علیه السلام) طبّق الاستخفاف بالدین علی تحریم المیتة، فکأنّ استخفافه بحرمة المیتة هو استخفاف بوجوب الاجتناب عن الطعام، أو استخفافه بوجوب الاجتناب عن الطعام الملاقی هو استخفاف بنجاسة المیتة وبتحریم المیتة نفسها؛ ولذا فسّره الإمام(علیه السلام)، بهذا الشکل، أنّ الله حرّم المیتة من کل شیءٍ، لا داعی لأن یذکر هذا الکلام، لو کان المذکور هو وجوب الاجتناب عن الطعام، کان ینبغی أن یقول له أنّک استخففت بهذا الحکم الشرعی، وهذا استخفاف بالدین، لکن الإمام (علیه السلام) لم یذکر ذلک، وإنّما ذکر(أنّ الله حرّم المیتة من کل شیءٍ) فکأنّه استخفّ بهذا الحکم الشرعی، تحریم المیتة من کل شیءٍ، والحال أنّه ترک اجتناب الطعام، ولم یترک اجتناب الفأرة، وإنّما اجتنبها، لکنّه ترک اجتناب الطعام، وترکه اجتناب الطعام هو استخفاف بتحریم المیتة، ولولا القول بالتبعیة بالمعنی السابق لما کان موقعاً لهذا الکلام، لو کان وجوب الاجتناب عن الطعام غیر وجوب الاجتناب عن المیتة لا یصح هذا الکلام، أن یقال أنّک استخففت بدینک، أنّ الله حرّم المیتة من کلّ شیءٍ. هذه کیفیة الاستدلال بهذه الروایة.

ص: 437


1- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج1، ص206، باب نجاسة المضاف بملاقاة النجاسة، ح2، ط آل البیت.

علی کل حال، الروایة لا تخلو من ظهور فی أنّ حرمة المیتة هی بنفسها تقتضی حرمة الطعام الذی وقعت فیه ولاقته، ووجوب الاجتناب عن المیتة هو بنفسه یقتضی وجوب الاجتناب عن الطعام فی هذا الظهور، ولکن الروایة ضعیفة سنداً، باعتبار أنّ عمرو بن شمر الواقع فی سند هذه الروایة، الضعف من جهته، وإلاّ باقی رجال السند کلّهم ثقات، وعمرو بن شمر الواقع فی سندها ضعّفه النجاشی مرّتین فی کتابه، مرّة فی ترجمته، (1) وأخری فی ترجمة جابر الجعفی. (2) ابن الغضائری أیضاً ضعّفه، (3) فلا یمکن الالتزام بسند هذه الروایة، فالظاهر أنّها غیر تامّة سنداً.

من جملة الشواهد علی هذا الارتکاز الذی ذُکر هو تعبیرات الفقهاء، تعبیر متداول عند الفقهاء أنّ( هذا ینجّسه)، أنّ الشیء النجس إذا لاقی شیئاً یقال ینجّسه، أو لا ینجّسه، أو ینفعل بملاقاة النجاسة، هذه التعبیرات کلّها ظهورها الأوّلی هو أنّ هناک سرایة عرفیة، وأنّ نجاسة الشیء هی بسبب نجاسة النجس نفسه، أنّه إذا وقع الدم ____________ مثلاُ ____________ فی الماء ینجّسه، أو لا ینجّسه، هذه کلّها تنسجم مع افتراض التبعیة، وهکذا قولهم ینفعل بملاقاة النجاسة، الانفعال وعدم الانفعال أیضاً یدلّ علی ذلک، أو یتلاءم مع القول بالتبعیة. وفی الروایات أیضاً وقعت بعض التعابیر التی تکشف عن ذلک، مثل قوله(علیه السلام):(إذا کان الماء قدر کرٍّ لا ینجسه شیء) (4) ، مفهوم هذه الروایة أنّ الماء إذا لم یبلغ قدر کرٍّ ینجسه شیء، کأنّ الشیء الذی هو النجس ینجس الماء إذا لم یبلغ قدر کُرٍّ، فکأنّ النجاسة فی الماء آتیة من قبل نجاسة ذلک الشیء، الظهور الأوّلی لکل هذه التعبیرات هو القول بالتبعیة وأنّ نجاسة الشیء تکفی لإثبات نجاسة ما یلاقیه.

ص: 438


1- رجال النجاشی، النجاشی، ص 287.
2- رجال النجاشی، النجاشی، ص 128.
3- رجال ابن الغضائری، احمد بن الحسین الغضائری، ص 74.
4- وسائل الشیعة، الحر العاملی، ج1، ص158، باب عدم نجاسة الکر من الراکد...، ح2، ط آل البیت.

ومن جملة الشواهد التی ذُکرت فی کلماتهم هو مسألة التفریق بین الجامد وبین المائع، فی أنّ المائع إذا لاقی النجاسة یتنجّس بتمامه، بینما الجامد إذا لاقی النجاسة لا یتنجّس بتمامه، وإنّما ینجس موضع الملاقاة فقط، الذی یبدو أنّ هذا التفریق لیس موجوداً فی الروایات بهذا الشکل، وإنّما الفقهاء هکذا قالوا، أنّ الجامد یکفی فی جواز استعماله فی ما هو مشروط بالطهارة، وفی جواز أکله إلقاء النجاسة وما حولها، أی موضع الملاقاة فقط، وإلاّ الباقی یجوز استعماله. هذا التفریق مع عدم قیام دلیل علیه هو فی الحقیقة مبنی علی القول بالسرایة العرفیة والقول بأنّ نجاسة النجس هی التی تقتضی وتوجب نجاسة ما یلاقیه، وهذه السرایة العرفیة لا تُفهم فی الجامد إلاّ بهذا المقدار، لکنّه فی المائع تُفهم بأنّه یقتضی ویوجب نجاسة تمام المائع. هذا کلّه معتمد علی السرایة لا یمکن تفسیره تفسیراً مقبولاً علی ضوء القول بأنّ وجوب الاجتناب عن المتنجّس هو حکم تعبّدی صرف، وحکم جدید ومستقل غیر وجوب الاجتناب عن نفس النجس، هذا الحکم الصرف التعبّدی، اصل النجاسة والسرایة ومقدار النجاسة یکون تابعاً للدلیل علی القول بالثانی، أی بالسببیة، تابع للدلیل؛ حینئذٍ الدلیل ماذا یفعل ؟ أمّا أن نأتی نحن وبقطع النظر عن الدلیل، وقلنا أنّه ظاهراً لا یوجد دلیل علی هذا التفریق، یُفرّق بینهما علی هذا الأساس، هذا هو الذی نقول أنّه کاشف عن ارتکاز أنّ نجاسة الملاقی هی من باب التبعیة ومن باب أنّ الاجتناب عن الملاقی هو من شئون الاجتناب عن النجس نفسه. ومن هنا یظهر أنّ الارتکاز العرفی فی باب النجاسات یساعد علی القول بالتبعیة، إذا لاحظنا العرف فی القذارات ولیس النجاسات الشرعیة، وإنّما القذارات التی هی فی معرض ابتلائه، العرف أیضاً یعتبر أنّ الاجتناب عن ملاقی القذارة هو اجتناب عن القذر نفسه، وأنّ عدم الاجتناب عن ملاقی القذارة هو عدم اجتناب عن القذر نفسه، لکن بمرتبةٍ من مراتبه، بمرتبته العلیا، العرف یعتبر أنّ عدم استقذار ملاقی القذارة هو فی واقعه عدم استقذارٍ لنفس القذارة، کأنّه لم یستقذر القذر عندما لا یستقذر ملاقی ذلک القذر، العرف هکذا یری. هذا النظر العرفی فی باب النجاسات یمکن تحکیمه علی الأدلّة، بمعنی أنّ الدلیل الشرعی عندما یرد ویأمر بالاجتناب عن النجس، هذا یُفهم منه کیفیة الاجتناب عن النجس، وأنّ الاجتناب عن النجس لا تکون بنظر العرف إلاّ بالاجتناب عن ملاقیه، هذا النظر هو الذی یکون محکمّاً فی ذاک الدلیل، فکأنّ الشارع عندما یقول اجتنب عن البول، هو فی الحقیقة ترک أمر تحدید کیفیة الاجتناب وحدوده إلی النظر العرفی، العرف یفهم أنّ اجتنب عن النجس هو فی الحقیقة اجتنب عن النجس وعن ملاقیه.

ص: 439

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

المستفاد من کلماتهم أنّ هناک ثمرة تترتب علی البحث فی أنّ نجاسة الملاقی هل هی من باب التبعیة أو السببیة ؟ والثمرة تظهر فی محل الکلام، بمعنی أنّه فی محل الکلام عندما نفترض أنّ الثوب لاقی أحد أطراف الشبهة، أنّ الملاقاة حصلت مع أحد طرفی العلم الإجمالی، فهنا وقع الکلام فی أنّ تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی لأحد أطراف الشبهة، والذی هو الثوب، هل یمکن إثباته بنفس العلم الإجمالی الأوّل، أو لا ؟ الکلام فی هذا فعلاً، الکلام فی المقام الأوّل أنّ العلم الإجمالی الأوّل، أیّ العلم الإجمالی بنجاسة أحد الطرفین هل یکفی لإثبات تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی، أو لا یکفی ؟ قالوا: أنّ هذا یثبت التنجیز بالعلم الإجمالی الأوّل بناءً علی التبعیة، ولا یثبت بناءً علی السببیة، فرتّبوا الثمرة بهذا الشکل.

أمّا عدم ثبوته بناءً علی السببیة؛ فلما تقدّم سابقاً من أنّه بناءً علی السببیة یکون وجوب الاجتناب عن الملاقی حکماً مستقلاً یحتاج إثباته إلی دلیلٍ، ولا دلیل یدلّ علی وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّ الدلیل دلّ علی أنّ ملاقی النجس یتنجّس ویجب الاجتناب عنه، لکننا کما هو واضح فی محل الکلام لا نحرز ملاقاة الثوب للنجس؛ لأنّ الثوب فی محل الکلام لاقی أحد أطراف العلم الإجمالی، ولا نحرز أنّه لاقی النجس، إذن: لا یمکن التمسّک بهذا الدلیل الدال علی أنّ ملاقی النجس نجس یجب الاجتناب عنه لإثبات وجوب الاجتناب عن ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی، کما أنّ نفس العلم الإجمالی لا یثبت هذه الملاقاة، نفس العلم الإجمالی هو علم بنجاسة أحد الطرفین ولا یمکن التمسّک به لإثبات أنّ هذا الثوب لاقی النجس، وإنّما غایة ما یثبت بهذا العلم الإجمالی هو احتمال أن تکون النجاسة موجودة فی هذا الطرف، أو تکون موجودة فی ذاک الطرف، هذا هو الموجود فی فرض العلم الإجمالی بنجاسة أحد الطرفین. إذن: لا یمکن إثبات موضوع وجوب الاجتناب عن الملاقی الذی هو ملاقاة النجس، لا بالدلیل الدال علی الاجتناب عن ملاقی النجس ولا بالعلم الإجمالی، وعلیه: لا دلیل یثبت وجوب الاجتناب عن الملاقی، ولا یتنجّز بالعلم الإجمالی. هذا بناءً علی السببیة.

ص: 440

وأمّا بناءً علی التبعیة بالمعنی المتقدّم، فقالوا یمکن إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی الأوّل، فأنّه یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی، وذلک باعتبار أنّ التبعیة تعنی أنّ الاجتناب عن الملاقی هو من شئون الاجتناب عن النجس، وتعنی أیضاً أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی لا یحتاج إلی دلیلٍ آخر سوی ثبوت وجوب الاجتناب عن النجس، بمجرّد أن یثبت وجوب الاجتناب عن النجس هذا یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن ملاقیه ولا نحتاج إلی دلیلٍ آخر لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی. فی هذه الحالة؛ حینئذٍ یمکن إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی السابق، وذلک لأنّ هذا العلم الإجمالی کما ینجّز وجوب الاجتناب عن هذا الطرف الذی هو الملاقی باعتباره طرفاً للعلم الإجمالی، کذلک ینجز وجوب الاجتناب عن ملاقیه؛ لنفس السبب، یعنی لکونه طرفاً للعلم الإجمالی بناءً علی التبعیة، فأنّه بناءً علی التبعیة العلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی وینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی أیضاً؛ لکون الاجتناب عن الملاقی من شئون الاجتناب عن الملاقی، أی النجس، غایة الأمر نحن لا نعلم بأنّ الملاقی نجس، لکن العلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عنه؛ لکونه طرفاً للعلم الإجمالی، أو بعبارةٍ أخری: لاحتمال نجاسته، هذا الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالی، لیس احتمالاً بدویاً، وإنّما هو احتمال مقرون بالعلم الإجمالی، فیتنجّز هذا الاحتمال، فیجب الاجتناب عن الملاقی؛ لکونه طرفاً للعلم الإجمالی، وکذلک یجب الاجتناب عن الملاقی أیضاً لکونه طرفاً للعلم الإجمالی، باعتبار أنّه من شئونه وتبعاته ولیس شیئاً آخر غیره بناءً علی القول بالتبعیة؛ ولذا لا إشکال فی أنّه بناءً علی التبعیة لا یتحقق امتثال وجوب الاجتناب عن النجس إلاّ بامتثال وجوب الاجتناب عن الملاقی، وجوب الاجتناب عن النجس المطلوب المنجّز بالعلم الإجمالی؛ لأنّه لا إشکال فی أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عن هذا الطرف، وکذا ذاک الطرف، الاجتناب عن هذا الطرف الملاقی، قلنا أنّه لا یکون إلاّ بالاجتناب عن ملاقیه، فإذا نجّز العلم الإجمالی وجوب الاجتناب عن الطرف الملاقی، فهو یکون منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الطرف الملاقی، ولا یُمتثَل هذا التکلیف المعلوم بالإجمال إلاّ بالاجتناب عن الملاقی والملاقی، لو اجتنب عن الملاقی فقط دون الملاقی هو لم یجتنب فی الحقیقة عن النجس المعلوم بالإجمال، الاحتیاط والموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال التی یقتضیها العلم الإجمالی لا تتحقق بمجرّد الاجتناب عن الملاقی، وإنّما تتحقق إذا اجتنب عن الملاقی والملاقی؛ حینئذٍ یکون قد اجتنب عن النجس وامتثل التکلیف المعلوم بالإجمال قطعاً، ومن هنا یکون العلم الإجمالی بنفسه منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقی، فیکفی هذا لإثبات المنجّزیة بالنسبة إلی الملاقی من دون حاجةٍ إلی دلیلٍ آخر. ذکروا هذه الثمرة.

ص: 441

هذه الثمرة نفسها تقدّمت عند الحدیث عن الاحتمال الأوّل مقابل السببیة، الذی هو کان الانبساط والسرایة الحقیقیة، هناک أیضاً ذُکرت هذه الثمرة، بأنّه علی القول بالانبساط والسرایة الحقیقیة یکفی فی منجّزیة وجوب الاجتناب عن الملاقی نفس العلم الإجمالی الأوّل، وأمّا بناءً علی السببیة وأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی حکم مستقل جدید یحتاج إلی دلیلٍ، فلا یکفی لإثباته العلم الإجمالی الأوّل. نفس الثمرة التی ذُکرت فی محل الکلام ذُکرت هناک أیضاً، فقیل بأنّ القول بالانبساط یثبت تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی الأوّل، بخلاف ما إذا أنکرنا الانبساط وقلنا بالسببیة، فکما ذُکر هنا ذُکر هناک.

وبعبارةٍ أخری: أنّهم جعلوا تنجیزالعلم الإجمالی الأوّل لوجوب الاجتناب عن الملاقی ثابتاً علی کلا التقدیرین، سواء قلنا بالانبساط، أو قلنا بالتبعیة، علی کلا التقدیرین یثبت تنجّیز العلم الإجمالی لوجوب الاجتناب عن الملاقی، علی القول بالانبساط وعلی القول بالتبعیة، فی مقابل القول بالسببیة الذی لا یثبت تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی، هذه الثمرة بُیّنت هناک وبُیّنت هنا، هناک تقدّم الاعتراض علی هذه الثمرة، وکان حاصل هذا الاعتراض: یبدوا أنّه لا فرق بین القول بالسببیة وبین القول بالانبساط والانتشار والسرایة الحقیقیة فی أنّه علی کلا الاحتمالین لا یمکن إثبات تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی الأوّل، سواء قلنا بالسببیة، أو قلنا بالانبساط لا یمکن إثبات تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی الأوّل، تقدّم الاعتراض المتتالی، وکان حاصل هذا الاعتراض هو: أنّه کان یقول أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل هو أصل النجاسة، وأمّا حدّ النجاسة وسعتها، وانبساطها علی الملاقی، فلیس معلوماً بالإجمال، ولیس معلوماً أصلاً، فإذا لم یکن معلوماً کیف ینجّز هذا العلم الإجمالی الانبساط الذی یعنی وجوب الاجتناب عن الملاقی، هذا الحدّ والانبساط والسرایة إلی الملاقی، العلم الإجمالی الأوّل لا ینجّزه؛ لأنّ الانبساط والانتشار والسرایة، أو قل بعبارة أوضح: وجوب الاجتناب عن الملاقی لیس معلوماً بالعلم الإجمالی الأوّل، ما نعلمه بالعلم الإجمالی الأوّل هو أصل النجاسة لا حدود هذه النجاسة وانتشارها، هذا لیس معلوماً بالعلم الإجمالی الأوّل، فکیف یکون العلم الإجمالی الأوّل منجّزاً لهذا الحد ولهذا الانبساط ولوجوب الاجتناب عن الملاقی، لا یکون منجّزاً له؛ بل هذا الانبساط وهذا الحدّ ووجوب الاجتناب عن الملاقی لیس معلوماً؛ بل هو مشکوک بالشکّ البدوی لا أنّه مشکوک بالشک المقرون بالعلم الإجمالی، هو لا یدخل فی العلم الإجمالی، فاحتمال النجاسة فی الملاقی احتمال مقرون بالعلم الإجمالی؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو نجاسة أحد الطرفین، فیتنجّز، أمّا احتمال نجاسة الملاقی، واحتمال وجوب الاجتناب عن الملاقی، فلیس احتمالاً مقروناً بالعلم الإجمالی، إنّما هو احتمال بدوی؛ لأنّ المعلوم بالإجمال لیس هو هذا الانبساط والانتشار، وإنّما المعلوم بالإجمال هو أصل نجاسة أحد الطرفین، أمّا حدود هذه النجاسة، فلیست معلومة بالإجمال؛ بل هی أمر مشکوک، والشک لیس مقروناً بالعلم الإجمالی، فلا یکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقی. إذن: لا فرق بین القول بالانبساط وبین القول بالسببیة فی أنّ کلاً منهما لا یکون العلم الإجمالی الأوّل فیه موجباً لتنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی. هذا کان الاعتراض المتقدّم.

ص: 442

قد یقال: أنّ نفس هذا الاعتراض الذی أورد علی الثمرة هناک یورد علی الثمرة فی محل الکلام، فیقال أیضاً: أنّه لا فرق بین القول بالتبعیة، بین القول بأنّ الاجتناب عن الملاقی من شئون الاجتناب عن النجس ومن تبعاته وبین القول بالسببیة فی أنّه علی کلٍ منهما لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقی. أمّا علی القول بالسببیة، فواضح لما تقدّم بیانه. وأمّا علی القول بالتبعیة، فأیضاً یقال بأنّه کیف ینجّز العلم الإجمالی الأوّل فی المقام وجوب الاجتناب عن الملاقی ؟ والحال أنّ المعلوم بهذا العلم الإجمالی هو أصل وجوب الاجتناب عن النجس، وأمّا شئونه وتبعاته، فهی لیست معلومة بالعلم الإجمالی، ولیست داخلة فی حیّز المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل ؟ ما أعلمه بالإجمال هو نجاسة أحد الطرفین، ووجوب الاجتناب عن أحد الطرفین، هذا أعلمه بالإجمال، لکنّ تبعات وجوب الاجتناب عن هذا الطرف لکونه طرفاً للعلم الإجمالی، وشئونه التی هی وجوب الاجتناب عن الملاقی لیس معلوماً بالإجمال، فکیف ینجّز هذا العلم الإجمالی ما لا یکون معلوماً به ؟! کیف ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی، والحال أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی هو من شئون وجوب الاجتناب عن الملاقی ومن تبعاته، ولا علم إجمالی بهذه الشئون وهذه التبعات، فکیف ینجّز العلم الإجمالی الأوّل وجوب الاجتناب عن الملاقی ؟! نفس الاعتراض السابق قد یورد فی محل الکلام.

یمکن أن یقال: أنّ هذا الاعتراض غیر وارد فی محل الکلام؛ بل یمکن أن یقال أنّه غیر وارد هناک أیضاً؛ بل یبدو أنّ ما ذکروه من الثمرة تامّ فی کلٍ منهما. أمّا فی محل الکلام، فلا یرد هذا الاعتراض؛ لأنّ القول بالتبعیة معناه واضح وقد بیّناه، ومعناه هو أنّ الاجتناب عن الملاقی هو من شئون الاجتناب عن النجس، ووجوب الاجتناب عن الملاقی للنجس هو من اللّوازم التی لا تنفک عن نفس النجس، هذا معنی التبعیة، والسرّ فی ذلک هو ما ذکرناه من أنّ الاجتناب عن النجس لا یتحقق إلاّ بالاجتناب عن ملاقیه، هذا هو معنی أنّه من شئونه ومن تبعاته؛ حینئذٍ إذا علمنا بوجوب الاجتناب عن النجس تفصیلاً، فمعنی التبعیة، وأنّ هذا من شئون ذاک هو أننا نعلم بوجوب الاجتناب عن ملاقیه، معنی التبعیة هو أنّه یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی نفس ثبوت وجوب الاجتناب عن النجس، فإذا علمنا بأنّ هذا نجس یجب الاجتناب عنه هذا وحده یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن ملاقیه، وإذا علمنا بوجوب الاجتناب عن هذا بالعلم الإجمالی کما هو محل کلامنا، فی محل کلامنا یجب الاجتناب عن هذا الطرف لأجل العلم الإجمالی؛ لأننا نعلم إجمالاً بنجاسة أحد الطرفین، إذن احتمال النجاسة الموجود فی هذا الطرف یکون منجّزاً بالعلم الإجمالی؛ لأنّه احتمال مقرون بالعلم الإجمالی، نفس هذا العلم الإجمالی بوجوب الاجتناب عن هذا الطرف فی الحقیقة یکون علماً بوجوب الاجتناب عن ملاقیه؛ لأنّ هذا هو معنی التبعیة، هذا هو معنی أنّ الاجتناب عن الملاقی هو من شئون الاجتناب عن الملاقی، وجوب الاجتناب عن شیء ____________ لیس مطلقاً؛ بل فیما یرتبط بالنجاسة ____________ لأجل نجاسته، أو لأجل احتمال نجاسته کما فی محل الکلام یلازم وجوب الاجتناب عن ملاقیه، بینهما ملازمة، ولا ینفکّان، هذا من شئونه ومن تبعاته بحیث لا یتحقق الاجتناب عن ذاک إلاّ بالاجتناب عن هذا، فإذا علمنا بأنّ هذا نجس، فإننا علمنا بوجوب الاجتناب عن ملاقیه، وإذا علمنا إجمالاً بأنّ هذا نجس ویجب الاجتناب عنه، فهذا یعنی أننا نعلم بوجوب الاجتناب عن ملاقیه علماً إجمالیاً أیضاً.

ص: 443

وبعبارةٍ أخری: أنّ ما نعلمه بالعلم الإجمالی الأوّل بناءً علی التبعیة وبناء علی أنّه من شئونه وتبعاته لیس هو فقط وجوب الاجتناب عن ذات النجس، ما نعلمه إجمالاً هو وجوب الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال المردد بین الطرفین ووجوب الاجتناب عن ملاقیه، هذا هو الذی نعلمه بالإجمال ولیس أننا نعلم بالإجمال فقط وجوب الاجتناب عن النجس بقطع النظر عن ملاقیه، هذا یتم علی القول بالسببیة، بناءً علی القول بالتبعیة ما نعلمه بالإجمال فی الواقع هو عبارة عن وجوب الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال المردد بین الطرفین ووجوب الاجتناب عن ملاقیه؛ لأنّ علمنا بوجود النجس بین هذین الطرفین هو فی الحقیقة علم بنجاسة أحد الطرفین وعلم بنجاسة ملاقیه، إذن: علی تقدیر أن تکون النجاسة موجودة فی هذا الطرف یجب الاجتناب عن ملاقیه؛ لأنّی أعلم إجمالاً بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین ووجوب الاجتناب عن ذلک النجس المعلوم بالإجمال، النجس الذی أعلم به إجمالاً یجب الاجتناب عنه وعن ملاقیه، فما یتنجّز بالعلم الإجمالی هو وجوب الاجتناب عن هذا الطرف ووجوب الاجتناب عن هذا الطرف ووجوب الاجتناب عن ملاقی هذا الطرف ووجوب الاجتناب عن ملاقی هذا الطرف؛ لنفس السبب وهو العلم الإجمالی؛ لأنّ هذا من شئونه وتبعاته؛ لأنّه بعد فرض تنجّز وجوب الاجتناب عن هذا الطرف الملاقی بالعلم الإجمالی لا یمکن للمکلّف أن یخرج من عهدة ما تنجّز علیه إلاّ بأن یجتنب عن الملاقی، هذا الاجتناب عن الملاقی یتنجّز بنفس العلم الإجمالی لا بغیره ولا یحتاج إلی دلیل لإثبات منجّزیته، لا أن نقول أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی غیر داخل فی العلم الإجمالی؛ بل هو مشکوک بالشک البدوی الغیر المقرون بالعلم الإجمالی، فلا یکون منجّزاً بالعلم الإجمالی؛ بل الظاهر أنّه یکون منجّزاً بالعلم الإجمالی کما ینجّز العلم الإجمالی وجوب الاجتناب عن الطرف نفسه لاحتمال نجاسته؛ لأنّه احتمال مقرون بالعلم الإجمالی، فیکون منجّزاً، کذلک العلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عن ملاقیه أیضاً لاحتمال نجاسته؛ لأنّه احتمال مقرون بالعلم الإجمالی.

ص: 444

والحاصل: ما نرید أن نقوله هو أنّ العلم الإجمالی لیس هو علم إجمالی بوجوب الاجتناب عن أحد الطرفین فقط؛ بل العلم الإجمالی بوجوب الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال وعن ملاقیه؛ لأنّ هذا هو معنی التبعیة، وهذا هو معنی أنّ هذا من شئون ذاک، ومن لوازمه التی لا تنفک عنه، أنا أعلم إجمالاً بهذا، إذن: أنا أعلم إجمالاً بما لا ینفک عنه، بلازمه، وبتبعاته وشئونه، فما ینجّز الملاقی ینجّز الملاقی، والذی ینجّز الملاقی لیس علمی بوجود النجاسة فیه؛ لأنّی لا أعلم بوجود النجاسة فیه، وإنّما الذی ینجّزه هو العلم الإجمالی بوجود النجس فی أحد الطرفین، هذا هو الذی ینجّز الملاقی، وفی نفس الوقت یکون منجّزاً للملاقی. فالظاهر أنّ الثمرة ثابتة فی محل الکلام ویصح کلامهم فی أنّه إذا قلنا بالتبعیة، فالظاهر أنّه یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی نفس العلم الإجمالی الأوّل، بخلاف ما إذا قلنا بالسببیة، فأنّه لا یکفی فیه ذلک؛ بل لابدّ من إقامة دلیلٍ علی وجوب الاجتناب عن الملاقی. ونفس هذا الکلام یمکن أن یقال فی باب الانبساط أیضاً والانتشار والسرایة الحقیقیة، هناک أیضاً نقول بأنّ هذا الانتشار داخل فی العلم الإجمالی؛ لأنّه انتشار قهری، والسرایة سرایة قهریة هناک، بمجرّد أن یکون هذا نجساً، فالنجاسة تسری إلی ذاک.

وبعبارةٍ أخری: إذا تصوّرنا السرایة والانبساط؛ لأنّه محل کلام وهو غیر واضح، لکن بناءً علی السرایة والانبساط، فوجوب الاجتناب عن الملاقی یسری وینبسط علی ملاقیه، ومع هذه الملازمة القهریة وهذه السرایة یأتی نفس الکلام السابق من أننّا عندما نعلم بنجاسة أحد الإناءین ووجوب الاجتناب عن أحد الطرفین، هذا فی الحقیقة علم بوجوب الاجتناب عنه وعن ملاقیه؛ لأنّ المفروض أنّ هذا یسری، لا یقف علی النجس، ولا یقف علی هذا الطرف؛ بل یسری إلی ما یلاقیه، فنقول نفس الکلام من أنّ العلم الإجمالی الذی أوجب تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی هو بنفسه یکون موجباً لتنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی. علی کل حال، فی محل الکلام الظاهر أنّ هذا الاعتراض غیر وارد، والثمرة التی ذکروها تامّة؛ فحینئذٍ یمکن ترتیب هذه الثمرة وهی أن نقول ___________ هذا کلّه مع فرض البناء علی القول بالتبعیة ____________ یکفی لتنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی نفس العلم الإجمالی الأوّل ولا نحتاج إلی التمسّک بالعلم الإجمالی الثانی الذی سیأتی الحدیث عنه لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی، لکن هذا کلّه بناءً علی تمامیة هذا الاحتمال، لکنّ هذا الاحتمال بالرغم ممّا ذکرناه یبقی فیه کلام، لعلّنا نتعرّض له إن شاء الله فی الدرس القادم.

ص: 445

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

ننبه علی خطأٍ تقدّم منّا واشتباه فی الدرس السابق، قلنا أنّه لا یوجد فی النصوص مسألة التفریق بین ملاقاة النجس للمائع وبین ملاقاته للجامد، والصحیح هو أنّه توجد نصوص تفرّق بینهما، فکان القول بعدم وجود نصوص اشتباهاً منّا، والظاهر وجود نصوص تفرّق بین الجامد وبین المائع وهی روایات تقول إذا کان جامداً، فمضمونها أنّه لا یتنجس جمیعه، وإنّما یتنجّس خصوص موضع الملاقاة.

ممّا تقدّم یظهر أنه علی تقدیر مساعدة الأدلّة علی هذا الاحتمال، وهو التبعیة بالمعنی المتقدّم؛ حینئذٍ یتعیّن الالتزام بأنّ العلم الإجمالی الأوّل یکفی لتنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی ولا یحتاج هذا الوجوب إلی إقامة دلیلٍ خاص یدلّ علیه؛ بل یکفی نفس العلم الإجمالی المفروض وجوده فی المقام. نعم، بعض المحققین استشکل فی تطبیق هذه الفکرة علی محل الکلام. لنفترض أنّ الدلیل ساعد علی أصل الفکرة، وهی أنّ نجاسة ملاقی النجس تفسّر علی أساس التبعیة ______________ لیس فی العلم الإجمالی وإنّما فی العلم التفصیلی ____________ علی أساس أنّه من شئون نجاسة نفس النجس، وأنّه یکفی فی إثبات نجاسة ملاقی النجس نفس ما یدل علی نجاسة النجس. هذه الفکرة علی فرض أنّ الدلیل یساعد علیها ولا مانع منها، بعض المحققین استشکل فی تطبیقها فی محل الکلام، ومحل الکلام لیس هو ملاقی النجس، وإنّما هو ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بالنجاسة، استشکل فی تطبیق ذلک فی محل الکلام بدعوی أنّه یعتبر فی إمکان تطبیق فکرة التبعیة علی موردٍ....یعتبر وجود حکم شرعی نفسی بوجوب الاجتناب عن النجس؛ فحینئذٍ یقال: أنّ هذا الحکم الشرعی بوجوب الاجتناب عن النجس یقتضی وجوب الاجتناب عن ملاقیه، علی أساس التبعیة، وعلی أساس أنّ الاجتناب عن ملاقی النجس من شئون الاجتناب عن نفس النجس ومن تبعاته، لکن هذا یتوقّف علی افتراض وجود أمرٍ شرعیٍ بالاجتناب عن النجس، فیقال أنّ هذا الأمر الشرعی بالاجتناب عن النجس یقتضی الأمر بالاجتناب عن ملاقیه، وهذا غیر موجودٍ فی محل الکلام الذی هو ملاقی أحد طرفی العلم الإجمالی، وذلک إمّا من جهة أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی باعتباره طرفاً للعلم الإجمالی لیس وجوباً شرعیاً، وإنّما هو وجوب عقلی، یحکم به العقل من باب الاحتیاط ومن باب لزوم الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال. إذن: وجوب الاجتناب الذی نرید أن نثبت أنّه یقتضی وجوب الاجتناب عن الملاقی لیس هو وجوباً شرعیاً، وإنّما هو وجوب عقلی، لو کان وجوباً شرعیاً، الشارع یأمر بالاجتناب عن النجس، أو عن هذا لنجاسته نستکشف منه وجوب الاجتناب عن ملاقیه علی أساس التبعیة، لکن فی محل الکلام لا یوجد عندنا تکلیف شرعی نفسی بوجوب الاجتناب حتی نستکشف منه وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّ الحکم الثابت فی الملاقی الذی هو أحد طرفی العلم الإجمالی هو حکم عقلی ولیس حکماً شرعیاً؛ فحینئذٍ کیف یمکن أن نثبت وجوب الاجتناب عن الملاقی بالعلم الإجمالی الأوّل ونطبّق الفکرة السابقة لإثباته ؟ هذا فی مقام تطبیقه فی محل الکلام یواجه مشکلة، وهی أنّ هذه الفکرة تتوقف علی افتراض وجود حکمٍ شرعیٍ نفسیٍ یأمر بالاجتناب عن شیء؛ حینئذٍ نقول أنّ هذا یقتضی الاجتناب عن الملاقی، وفی محل الکلام، الملاقی الذی هو أحد طرفی العلم الإجمالی لا یوجد فیه مثل هذا الحکم الشرعی، وإنّما الموجود فیه هو الحکم العقلی، العقل یحکم بلزوم الاتیان بهذا الطرف من باب الاحتیاط ومن باب منجزیة العلم الإجمالی للطرفین، ووجوب الموافقة القطعیة، ومثل وجوب الاجتناب العقلی هذا لا یستکشف منه وجوب الاجتناب عن الملاقی، ولو سلّمنا وجود حکمٍ شرعیٍ یأمر بالاجتناب عن الملاقی، فهذا الحکم لابدّ من حمله علی إنّه إرشاد إلی حکم العقل لا علی التأسیس، ممّا یعنی أنّه لا یوجد فی الملاقاة إلاّ الحکم العقلی بوجوب الاجتناب، وهذا لا یقتضی وجوب الاجتناب عن الملاقی، فکیف یمکن إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی بمجرّد العلم الإجمالی الأوّل ؟

ص: 446

وذکر إشکالاً من جهةٍ ثانیةٍ: وهو أنّه لو تنزلنا وسلّمنا وجود حکمٍ شرعیٍ نفسیٍ تأسیسیٍ مولویٍ بالاجتناب عن الملاقی، مع ذلک هذا لا ینفع للوصول إلی النتیجة؛ لأنّ فکرة التبعیة مبنیة علی دعوی الملازمة بین الأمر بالاجتناب عن النجس وبین الأمر بالاجتناب عن ملاقیه، إذن، لابدّ أن نفترض أنّ الأمر یتعلّق بالشیء بعنوان النجس، بعنوان النجس هذا الأمر یقتضی الأمر بملاقیه، وإلاّ من الواضح أنّ الأمر بالاجتناب عن الشیء بأی عنوانٍ لا یلازم الأمر بالاجتناب عن ملاقیه، فلو أمر بالاجتناب عن المغصوب، فأنّه لا یلازم الأمر بالاجتناب عن ملاقی المغصوب، لو أمر بالاجتناب عن ما فی أیدی الظالمین _________ مثلاً ____________ هذا لا یلازم الأمر بالاجتناب عن ملاقیه. إذن: الذی تُدّعی فیه الملازمة هو الأمر بالاجتناب عن الشیء بعنوان النجس. هذا هو الذی تًدّعی فیه الملازمة علی اساس فکرة التبعیة. فی محل الکلام الملاقاة حتّی لو فرضنا تنزلاً أنّ الشارع أمر بالاجتناب عنه، هذا الأمر بالاجتناب عنه لیس أمراً بالاجتناب عنه بعنوان النجس، وإنّما هو أمر بالاجتناب عنه بما هو مشتبه، وبعنوان الاحتیاط، أو بعنوان وجوب الموافقة القطعیة، لو لم نحمل الأمر الشرعی بالاجتناب علی الإرشاد، وکان تأسیسیاً، أیضاً الشارع یأمر بالاجتناب عن هذا الطرف لأنّه مشتبه؛ لأنّه أحد طرفی العلم الإجمالی، فالأمر بالاجتناب عنه لیس أمراً بالاجتناب عنه بعنوان النجس حتّی نستطیع أن نستکشف منه وجوب الاجتناب عن الملاقی، وإنّما هو أمر بالاجتناب عنه من باب الاحتیاط باعتباره أمراً مشتبهاً یأمر الشارع به، مثل هذا الأمر الشرعی أیضاً لا یُستکشف منه وجوب الاجتناب عن الملاقی.

فإذن: تطبیق تلک الفکرة فی محل الکلام یکون مشکلاً، إمّا من الجهة الأولی والتی هی أنّ الأمر فی محل الکلام لیس شرعیاً؛ بل هو عقلی، أو من الجهة الثانیة وهی أنّه حتی لو سلّمنا انه أمرٌ بالاجتناب شرعاً، لکنّه أمرٌ بالاجتناب عنه لا بعنوان النجس، وفکرة التبعیة مبنیة علی افتراض أنّ الأمر بالشیء یکون أمراً بالاجتناب عنه بعنوان النجس؛ حینئذٍ یقال بأنّه توجد بینه وبین الأمر بالاجتناب عن ملازمة علی اساس أنّه من شئونه ومن تبعاته ....... الخ الکلام المتقدّم. ومن هنا یصعب تطبیق تلک الفکرة فی محل الکلام، وإن کان أصل الفکرة یمکن أن تکون الأدلّة مساعدة علیها، لکن تطبیقها فی محل الکلام غیر تام. وعلیه: سوف تتبدّل النتیجة، وبناءً علی هذا لا نستطیع أن نقول أنّ العلم الإجمالی الأوّل یکفی لتنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی.

ص: 447

یمکن التأمّل فی الأمر الثانی الذی ذکره، وهو مسألة أنّه حتّی لو سلّمنا وجود حکمٍ شرعیٍ مولویٍ تأسیسیٍ بالاجتناب عن الملاقی، مع ذلک هذا لا ینفع لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّه لم یثبت له بعنوان النجس، وإنّما ثبت له بعنوان الاشتباه وبعنوان الاحتیاط، ومثله لا یقتضی وجوب الاجتناب عن الملاقی، فکأنّه یکون حاله حال الأمر بالاجتناب عن المغصوب، کیف أنّ الأمر بالاجتناب عن المغصوب لا یقتضی الأمر بالاجتناب عن ملاقیه، کذلک الأمر بالاجتناب عن الملاقی الذی هو أحد طرفی العلم الإجمالی أیضاً لا یقتضی الأمر بالاجتناب عن ملاقیه.

أقول: هذا الأمر یمکن التأمّل فیه بأنّ هناک فرقاً بین المقامین، بین الأمر بالاجتناب عن المغصوب وبین الأمر بالاجتناب عن الملاقی، هناک فرق بینهما. صحیح، الأمر بالاجتناب عن الملاقی لیس أمراً بالاجتناب عنه بعنوان النجس؛ لأنّ هذا یختصّ بالنجاسات، الشارع عندما یأمر بالاجتناب عن البول یأمر بالاجتناب عنه بعنوان النجس، هذا صحیح، لکنّه أمر بالاجتناب عن الملاقی بعنوان أنّه محتمل النجاسة، وهذا لا یمکن إنکاره، وإلاّ لماذا یأمر بالاجتناب عن هذا الطرف ؟ لاحتمال أن تکون النجاسة المعلومة بالإجمال موجودة فیه، فإذن: هو أمر بالاجتناب عنه بعنوان أنّه محتمل النجاسة، بعنوان أنّه مشتبه بالنجاسة المعلومة بالإجمال، بعنوان أنّه یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال الذی هو النجاسة ___________ بحسب الفرض ___________ علیه، فإذا فرضنا فرضاً ___________ لأنّ المسألة فی الثانی من باب التنزّل __________ أنّ الشارع أمر أمراً مولویاً بالاجتناب عن هذا الملاقی الذی هو طرف العلم الإجمالی، بعنوان أنّه یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیه، إذن: هناک فرق بین الأمر بالاجتناب عن المغصوب وبین الأمر بالاجتناب عن الملاقی، عن أحد طرفی العلم الإجمالی بنجاسة أحد الطرفین، وهذا معناه أنّ الغرض من هذا الأمر الشرعی بالاجتناب عن الملاقی هو ضمان الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال، وهکذا بالنسبة إلی الطرف الآخر، لکی یضمن الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال، المهم عند الشارع هو الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال، المعلوم وجوده فی البین المردد بین أن یکون فی هذا الطرف، أو یکون فی هذا الطرف، فالشارع من باب الفرض والتنزّل أمر بالاجتناب عن هذا الطرف، وهکذا أمر بالاجتناب عن الطرف الآخر لکی یضمن الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال، ومن الواضح أنّ الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال المأمور به شرعاً أمرأً مولویاً تأسیسیاً کما یقتضی الاجتناب عن کلا الطرفین یقتضی الاجتناب عن ملاقی أحد الطرفین بناءً علی فکرة التبعیة، فکرة التبعیة تقول أنّ الاجتناب عن النجس لا یتحقق ولا یکون إلاّ بالاجتناب عن ملاقیه، فإذا تنجّز النجس بالعلم الإجمالی ودخل فی عهدة المکلّف وتنجّز علیه الاجتناب عن النجس، فتعیّن علیه أن یجتنب عن النجس المعلوم بالإجمال، ولا یجتنب عن النجس المعلوم بالإجمال، إلاّ إذا اجتنب کلا الطرفین وملاقی أحد الطرفین، کما أنّه إذا لم یجتنب عن أحد الطرفین لا یحرز الاجتناب عن النجس الذی تنجّز علیه بالعلم الإجمالی، کذلک هو إذا لم یجتنب عن ملاقی أحد الطرفین هو لا یحرز الاجتناب عن النجس الذی تنجّز علیه بالعلم الإجمالی ____________ بحسب الفرض ___________ بناءً علی التبعیة، التبعیة تقول لا یکون الاجتناب عن النجس إلاّ بالاجتناب عن ملاقیه، فإذا تنجّز علی المکلّف بسببٍ من الأسباب، وجوب الاجتناب عن النجس هو بنفسه یکفی لتنجیز وجوب الاجتناب عن ملاقیه؛ لأنّ عدم الاجتناب عن الملاقی یعنی عدم الاجتناب عن النجس الذی تنجّز علیه بالعلم الإجمالی، لم یجتنب النجس، التبعیة هکذا تقول.

ص: 448

إذن: نحن فی المقام، لنفترض أنّ الأمر الشرعی المتعلّق بأحد طرفی العلم الإجمالی تعلّق به بعنوان الاحتیاط، أو الاشتباه، أو بعنوان أنّه یحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیه، هذا کلّه صحیح، لکن یبقی هناک فرق بینه وبین الأمر بالاجتناب عن المغصوب، هناک لا مجال لتوهّم أنّه یقتضی الاجتناب عن ملاقیه، بینما فی محل الکلام هذا الأمر الشرعی تنزلاً بالاجتناب عن الملاقی واضح إنّما هو لغرض ضمان الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال، وهکذا عندما یأمر بالطرف الآخر، نفس هذا النجس المعلوم بالإجمال الذی أمر به الشارع أمراً شرعیاً مولویاً ولیس أمراً عقلیاً، هذا النجس الذی تنجّز بالعلم الإجمالی هو بنفسه وبلا واسطة کما یقتضی لزوم الاجتناب عن الطرفین؛ لأنّه لا إحراز للاجتناب عن هذا النجس المنجّز بالعلم الإجمالی إلاّ بالاجتناب عن الطرفین، کذلک بناءً علی فکرة التبعیة هو یقتضی الاجتناب عن ملاقی أحد الطرفین، ومن هنا یظهر أنّه یمکن الخدشة فی الأمر الأوّل الذی ذکره. هو ذکر فی الأمر الأوّل أنّ الأمر بالاجتناب عن الملاقی هو حکم عقلی ولیس حکماً شرعیاً مولویاً تأسیسیاً، ولو حکم الشارع به لحملنا حکمه علی الإرشاد إلی ما یحکم به العقل وما یستقل به.

أقول: یمکن أن یقال أنّ هذا الکلام أیضاً لیس وارداً؛ لأنّه بناءً علی هذا الکلام الذی ذکرناه نحن لا نحتاج لإثبات منجّزیة وجوب الاجتناب عن الملاقی إلی اثبات أنّ الأمر المتعلّق بالاجتناب عن الملاقی أمر شرعی، لیکن الأمر المتعلّق بالاجتناب عن الملاقی هو أمر عقلی صرف، نحن بهذا البیان نرید أن نثبت أنّ الأمر بالاجتناب عن الملاقی هو من تبعات الأمر بالاجتناب عن النجس المعلوم وجوده فی البین المرددّ بین أن یکون فی هذا الطرف، أو یکون فی هذا الطرف، الاجتناب عنه یقتضی الاجتناب عن أحد أطرافه؛ لأنّه لا یحرز الاجتناب عنه إلاّ بالاجتناب عن ملاقی أحد أطرافه، کما لا یحرز الاجتناب عنه إلاّ بالاجتناب عن الملاقی نفسه، هذه هی فکرة التبعیة، أصلاً کیف استدلوا علی أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی ؟ بناءً علی فکرة التبعیة، تقدّم سابقاً، الدلیل هو أنّ وجوب الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال الذی تنجّز بالعلم الإجمالی لا یحصل الاجتناب عنه إلاّ بالاجتناب عن الملاقی، هذا هو الدلیل، أنّه إن لم یجتنب عن الملاقی لا یضمن الاجتناب عن النجس الذی تنجّز علیه بالعلم الإجمالی، المکلّف یعلم بوجود نجس فیهما، ویجب علیه الاجتناب عنه، هذا وجوب الاجتناب عن النجس ینجّز علیه شیئین، ینجّز علیه وجوب الاجتناب عن الطرفین، وأیضاً ینجّز علیه وجوب الاجتناب عن ملاقی أحد الطرفین بناءً علی فکرة التبعیة.

ص: 449

ننتقل إلی أنّه لو فرضنا أنّنا شککنا فی مسألة التبعیة وبنینا علی السببیة کما هو المعروف، القائلون بالسببیة ذکروا أنّه بناءً علی السببیة لا یکفی العلم الإجمالی الأوّل لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّه حکم جدید وجعل جدید، فیحتاج إلی دلیلٍ، ولا یکفی فیه العلم الإجمالی بالبیان المتقدّم. ولم یفرّقوا بین الحکم التکلیفی والحکم الوضعی؛ بل نصّوا علی عدم التفریق باعتبار الأمثلة التی ذکروها، یعنی قالوا بأنّ العلم الإجمالی الأوّل کما لا ینجّز حرمة شرب الملاقی ____________ والذی کنّا نعبّر عنه بوجوب الاجتناب عن الملاقی ____________ کذلک لا ینجّز حرمة التوضؤ به، حرمة شرب الملاقی حکم تکلیفی، وحرمة الوضوء به حکم وضعی، والعلم الإجمالی الأوّل لا ینجّز کلا الحرمتین، وهذا معناه أنّه لو بقینا نحن والعلم الإجمالی الأوّل ولم ندخل فی الحساب العلم الإجمالی الثانی الذی سیأتی الکلام فیه لالتزمنا بجواز شرب الملاقی وجواز الوضوء به، ویصح الوضوء به، وبالتالی تصح الصلاة التی یأتی بها بذلک الوضوء، فلم یفرّقوا بین الحکم التکلیفی وبین الحکم الوضعی، ونفس البیان الذی یُذکر لعدم المنجّزیة فی الحکم التکلیفی ذکروه لعدم المنجّزیة فی الحکم الوضعی، والمحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر أمثلة کثیرة علی الحکم الوضعی وأطال الکلام فی هذا المجال.

السید الشهید(قدّس سرّه) فرّق بینهما، یعنی وافق القائلین بالسببیة فی الحکم التکلیفی یعنی أنّ العلم الإجمالی لا یکفی لتنجیز حرمة شرب الملاقی، أو وجوب الاجتناب عن الملاقی، لکنّه یقول أنّه یکفی لتنجیز حرمة التوضؤ به، وفرّق بینهما، لو بقینا نحن والعلم الإجمالی یجوز شرب الماء الملاقی، لکن لا یجوز الوضوء به؛ لأنّ العلم الإجمالی الأوّل ینجّز الحرمة الوضعیة التی هی حرمة الوضوء، وهذا منه بناءً علی السببیة؛ لأنّه لا یؤمن بالتبعیة بالمعنی المتقدّم، ولم یطرحها بشکلٍ واضح، وإنّما طرح مسألة الانبساط والسرایة الحقیقیة، هذا کلّه بناءً علی السببیة. (1)

ص: 450


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج4، ص252.

ذکر فی مقام الاستدلال علی هذا التفریق والتفصیل مقدّمة، وحاصلها: أنّ هناک فرقاً واضحاً بین حرمة شرب الماء، وبین حرمة التوضؤ، بین حرمة شرب النجس وبین حرمة الوضوء بالنجس، بشکلٍ عام النجس یحرم شربه، هذا حکم تکلیفی وهناک حکم وضعی وهو أنّه یحرم التوضؤ به، فیقول أنّ هناک فرقاً بینهما، الفرق هو أنّ فعلیة حرمة شرب النجس موقوفة علی وجود الماء النجس. وبعبارة أخری: أنّ وجود الماء النجس لیس قیداً لمتعلّق التکلیف وإنّما هو قید لنفس التکلیف، الحرمة موقوفة علی وجود الماء النجس، فهی قید فی الحرمة، شرط فی التکلیف الذی هو الحرمة بحیث مع عدم وجود الماء النجس خارجاً لا توجد حرمة فعلیة؛ لأنّ فعلیة الحرمة موقوفة علی وجود الماء النجس، ولیس وجود الماء النجس قیداً فی الحرام، وإلاّ لو کان قیداً فی الحرام لوجب علی المکلّف تحصیل ماءٍ نجس حتّی یمتثل الحرمة ویترک شربه؛ لأنّ الحرمة فعلیة، وجود الماء النجس قید فی الحرام، وشرط فی متعلّق التکلیف لا فی نفس التکلیف. إذن: التکلیف فعلی علی غرار وجوب الحج إذا کان فعلیاً، کیف أنّه یحرّک المکلّف نحو شرائط الواجب وقیوده، هنا الحرمة عندما تکون فعلیة هی أیضاً تحرّک المکلّف لإیجاد الماء النجس حتّی یتمکّن من ترکه. علی کل حال، وجود النجس قید من قیود الحرمة، فلا تتحقق الحرمة قبله. هذا فی الأحکام التکلیفیة، بینما فی الحکم الوضعی الأمر لیس هکذا، فی حرمة التوضؤ بالماء النجس لا علاقة لها بتحقق الماء النجس وعدم تحققه، یحرّم الوضوء __________ حرمة وضعیة __________ بالماء النجس، أو بعبارةٍ أخری: یُشترط فی الماء الذی یتوضأ به أن یکون طاهراً وأن لا یکون نجساً، هذه حرمة وضعیة تنشأ من تقیّد الواجب، حینما یکون الواجب فعلیاً مقیّداً بأن لا یکون بالماء النجس، أو أن یکون بالماء الطاهر، عندما یکون وجوب الوضوء وجوباً فعلیاً ینتج هذه الشرطیة، یُشترط فی الماء الذی تتوضأ به أن یکون طاهراً، أو أن لا یکون نجساً، هذه الحرمة لا تتوقّف علی افتراض وجود نجسٍ فی الخارج، سواء وجد النجس أم لم یوجد، الشارع یقول عندما یجب علیک الوضوء لابدّ أنّ تتوضأ بماءٍ طاهر، وأن لا تتوضأ بالماء النجس، وهذا معناه أنّ وجود الماء النجس فی الحرمة الوضعیة هو من قیود متعلّق التکلیف لا من قیود نفس الحرمة، الحرمة ثابتة قبل تحقق الماء النجس ووجوده فی الخارج، توجد شرطیة، عندما یکون المکلّف بالغاً عاقلاً تجب علیه الصلاة ویجب علیه الوضوء، توجد شرطیة تقول یُشترط فی صحّة الوضوء وبالتالی فی صحّة الصلاة أن یکون الوضوء بالماء الطاهر، یُشترط أن لا یکون الوضوء بالماء النجس، هذه الشرطیة موجودة من أول الأمر ومن البدایة ولا تتوقف علی وجود الماء النجس، وسواء وجد الماء النجس أم لم یوجد هذه الشرطیة موجودة. یقول: هذا فرق أساسی بینهما وعلی أساس هذا الفرق بینهما هو ینتهی إلی نتیجة التفصیل فی محل الکلام.

ص: 451

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

کان الکلام فی المطلب الذی ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) وفرّق علی أساسه بین الحرمتین الوضعیة والتکلیفیة، وذکر بأنّ ما ذکروه من أنّ العلم الإجمالی الأوّل لا ینجّز الملاقی إنّما یصح بالنسبة إلی الحرمة التکلیفیة کحرمة شربه، وأمّا بالنسبة إلی الحرمة الوضعیة کحرمة التوضؤ به وغیرها من الأحکام الوضعیة التی تترتب علی ملاقی النجس، فهذه تتنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل، وفی مقام الاستدلال علی ذلک ذکر أنّ الحرمة التکلیفیة کحرمة شرب النجس _________ مثلاً __________ یقول أنّ هذه الحرمة لا تکون فعلیة قبل وجود النجس، وإنّما فعلیتها منوطة بوجود النجس خارجاً، وأمّا مع عدم وجود النجس خارجاً لا تکون الحرمة فعلیة؛ لأنّه إن کان المکلّف غیر قادر علی إیجاد النجس، أی غیر قادر علی إیجاد الخمر فی(یحرم شرب الخمر)؛ فحینئذٍ تکلیفه والنهی عن الخمر یکون مستحیلاً؛ لخروجه عن القدرة بحسب الفرض؛ إذ لا فرق فی الاستحالة مع الخروج عن القدرة بین الأمر بالإتیان بذلک الشیء أو النهی عن إتیانه، مع عدم القدرة النهی أیضاً یکون مستحیلاً، ففعلیة الحرمة تکون مستحیلة عند فرض عدم قدرة المکلّف علی إیجاد الخمر فی الخارج.

وأمّا إذا فرضنا أنّه کان قادراً علی إیجاد الخمر فی الخارج، یقول: هنا الحرمة لا تکون فعلیة لیس للاستحالة؛ لأنّه قادر علی إیجاد الخمر خارجاً، وإنّما تکون الحرمة غیر فعلیة لأنّ ظاهر دلیلها هو کون وجود الخمر خارجاً قیداً فی نفس الحرمة، وبطبیعة الحال إذا کان وجود الخمر خارجاً قیداً فی نفس الحرمة لا تکون الحرمة فعلیة قبل وجوده، الحرمة إنّما تکون فعلیة قبل وجوده إذا کانت مطلقة من ناحیته، بأن یکون وجوده قیداً فی متعلّق الحرمة، یعنی فی الحرام الذی هو الشرب، إذا کانت قیداً فی الحرام؛ حینئذٍ تکون الحرمة فعلیة ومطلقة من ناحیته، فتکون فعلیة قبل وجوده، یقول: الذی یفهم من دلیل (لا تشرب الخمر) و(لا تشرب النجس) وغیرها من النواهی، الذی یُفهم من هذا الدلیل هو أنّ وجود متعلّق المتعلّق، الذی یُسمّی بالموضوع ___________ هذا المتعلّق هو الشرب، ومتعلّق المتعلّق هو الخمر ___________ یؤخذ قیداً فی نفس الحرمة بحیث أنّ الحرمة لا تکون فعلیة إلاّ بوجود متعلّق المتعلّق، وعلی هذا الأساس؛ حینئذٍ یصح أن یقال أنّ حرمة شرب الخمر وحرمة شرب النجس.......وهکذا، الحرمة التکلیفیة لا تکون فعلیة قبل تحقق النجس وقبل تحقق الخمر.....وهکذا فی سائر الموارد. وهذا مطلب کلّی فی باب النواهی.

ص: 452

یقول: وهذا بخلاف الحرمة الوضعیة، حرمة التوضؤ بالنجس، هذه الحرمة الوضعیة تکون فعلیة قبل وجود النجس خارجاً؛ لأنّ هذه الحرمة الفعلیة فی الحقیقة هی أمر انتزاعی یُنتزع من تحدید دائرة الواجب وتقییده بعدم کونه نجساً، أو بکونه طاهراً، یعنی الواجب هو الوضوء، عندما یکون الواجب هو الوضوء، فعندما یکون فعلیاً هو یکون فعلیاً بدائرة محدودة بحسب الأدلة، هو مقیّد بأن یکون بالماء الطاهر، ومقیّد بأن لا یکون بالماء النجس، وجوب الوضوء مقیّداً بأن لا یکون بالماء النجس یُنتزع منه الحکم الوضعی، أی حرمة الوضوء بالماء النجس، فحرمة الوضوء بالماء النجس هی حرمة انتزاعیة تُنتزع من تقیید الواجب الفعلی بأن یکون بالماء الطاهر، أو بأن لا یکون بالماء النجس، فتنتزع هذه الحرمة.

وبعبارةٍ أخری: لا نعبّر بالحرمة، وإنّما نعبّر بالشرطیة، فواقع الحرمة الوضعیة هی شرطیة ترجع إلی الشرطیة والمانعیة، إمّا أن نقول أنّ الماء النجس مانع من صحّة الوضوء، أو نقول أنّ الماء الطاهر شرطٌ فی صحّة الوضوء، فمرجعها إلی الشرطیة، أو المانعیة وهی قضیة انتزاعیة تُنتزع من تقیید الواجب بأن یکون بالماء الطاهر، أو أن لا یکون بالماء النجس، فهی أمر انتزاعی یکون فعلیاً عند فعلیة الواجب، عندما یکون الواجب فعلیاً، هذا الأمر الانتزاعی أیضاً یکون فعلیاً، الشرطیة تکون فعلیة، ولیست فعلیتها منوطة بوجود الماء النجس خارجاً، ولا علاقة لها بوجود الماء النجس خارجاً، سواء وجد الماء النجس، أو لم یوجد، هو یبقی کشرطیة فی أن الوضوء لا یصح إلاّ بالماء الطاهر، تبقی هناک مانعیة وهی أنّ الماء النجس یمنع من صحّة الوضوء، فالمانعیة والشرطیة تکون فعلیة الواجب، ولیست فعلیتها منوطة بوجود النجس خارجاً.

ص: 453

إذا تمّ هذا المطلب؛ حینئذٍ نطبّقه فی محل کلامنا، فی محل الکلام لدینا ملاقی أحد اطراف العلم الإجمالی، لدینا علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین، ویوجد ملاقٍ لأحد الأطراف، الحرمة التکلیفیة لهذا الملاقی التی هی حرمة شرب الملاقی، یقول: فی هذه یصح ما ذکروه من أنّها لا تتنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ هذه الحرمة التکلیفیة علی ضوء ما ذکر لا تکون فعلیة إلاّ إذا تحقق موضوعها خارجاً، فی محل الکلام لم یتحقق موضوعها خارجاً؛ لأننا کما قالوا لا نحرز أنّ هذا ملاقی النجس، صحیح الحکم قال: لا یجوز شرب ملاقی النجس، لکننا لا نحرز أنّ هذا ملاقی النجس.

وبعبارة أخری: أنّ حرمة شرب ملاقی النجس لیس موضوعها هو النجاسة حتّی نقول نحن عالمین بالنجاسة، فتثبت هذه الحرمة للملاقی، لا یکفی فیها هذا، یعنی نجاسة الملاقی لا تکفی لإثبات نجاسة الإناء الآخر إلاّ إذا أحرزنا أنّه لاقی النجس، فالعلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین لا یکفی لإثبات حرمة شرب الملاقی إلاّ بعد إحراز الملاقاة، وهذا هو الذی عبّروا عنه بأنّ النجاسة المعلومة بالإجمال لیست هی تمام موضوع الحکم التکلیفی لحرمة الشرب، وإنّما هی جزء الموضوع، والجزء الآخر هو الملاقاة، وحیث أنّ الملاقاة محتملة وغیر محرزة، فلا یمکن إثبات حرمة شرب الملاقی بمجرّد العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین کما ذکروه سابقاً.

وأمّا فی الحرمة الوضعیة، فیقول: فی الحرمة الوضعیة الظاهر أنّ العلم الإجمالی یکفی لإثبات حرمة الوضوء بالملاقی؛ لأنّ المفروض أنّ حرمة الوضوء بالنجس هی حرمة فعلیة قبل وجود النجس، یکفی فی فعلیة هذه الحرمة والشرطیة العلم بنجاسة الشیء، إذا علمت بأنّ الشیء نجس هذه الحرمة تکون فعلیة، فیقال: یحرم الوضوء بملاقی هذا النجس، حرمة الوضوء بالملاقی لیست موقوفة علی تحقق الملاقاة فی الخارج. طبعاً حرمة الوضوء بملاقی النجس باعتباره نجساً، باعتبار أنّه لاقی النجس فتنجّس، فیحرم الوضوء به، هذه حرمة الوضوء به هی فعلیة قبل وجود النجس؛ لأنّها عبارة عن شرطیة، أو مانعیة منتزعة من تحدید دائرة الواجب وتقییده بأن لا یکون بالماء النجس، أو أن یکون بالماء الطاهر، وهذه حرمة فعلیة، الشرطیة فعلیة، عندما یجب الوضوء علی المکلّف یحرُم علیه أن یتوضأ ______________ حرمة تکلیفیة ______________ بالماء النجس، مرجعها إلی بطلان الوضوء إذا کان بالماء النجس، هذه قضیة فعلیة لیست موقوفة علی الملاقاة حتّی یقال نحن لا نعلم أنّ ملاقاة النجس هل تحققت أو لم تتحقق ؟ فحینئذٍ کیف تثبت هذه الحرمة ؟ هی لیست موقوفة علی وجود النجس، وإنّما هی ثابتة قبل وجوده. هذه القضیة إذا صارت واضحة فی محل الکلام، المکلّف یعلم بنجاسة أحد الإناءین، حرمة الوضوء بملاقی أحد الأطراف تتنجّز بنفس العلم الإجمالی، نفس العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین کما ینجّز حرمة هذا الطرف، وحرمة هذا الطرف حرمة تکلیفیة وکما ینجّز الحرمة الوضعیة لهذا الطرف والحرمة الوضعیة لهذا الطرف، یعنی ینجّز حرمة شرب هذا الطرف وحرمة شرب هذا الطرف، وینجّز حرمة الوضوء بهذا الطرف وحرمة الوضوء بهذا الطرف؛ لأنّه یعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما، یعنی یعلم إجمالاً بحرمة شرب أحدهما وعدم جواز الوضوء بأحدهما؛ لأنّ أحدهما نجس والنجس یحرم __________ وضعاً ________ التوضؤ به. إذن: ما یعلمه هو نجاسة أحد الإناءین وحرمة شرب أحد الإناءین، وعدم جواز الوضوء بأحد الإناءین، والعلم الإجمالی کما ینجّز علیه کلا الطرفین بلحاظ الحکم التکلیفی وبلحاظ الحکم الوضعی، کذلک ینجّز علیه حرمة الوضوء بملاقی أحد الطرفین؛ لأنّ ملاقی النجس نجس، وکما یحرم الوضوء بملاقی النجس یحرم الوضوء بملاقیه، وهذه الحرمة ثابتة قبل الملاقاة، وقبل وجود النجس، ولا تتوقف علی وجود الملاقاة کالحرمة التکلیفیة؛ بل هی حرمة فعلیة قبل ذلک. عندما یعلم بنجاسة أحد الإناءین؛ فحینئذٍ یحرم علیه ارتکاب أحد الطرفین، ویحرم علیه الوضوء بأحد الطرفین، ویحرم علیه الوضوء بملاقی هذا الطرف، ویحرم علیه الوضوء بملاقی هذا الطرف؛ لأنّه یعلم بأن أحد الملاقیین للطرفین نجس؛ لأنّ أحدهما قطعاً لاقی النجس، إذن: أحدهما قطعاً نجس، یعنی یحرم الوضوء به. العلم الإجمالی نفسه ینجّز حرمة التوضؤ بالملاقی لأحد الطرفین کما یقتضی تنجیز حرمة الوضوء بالملاقی للطرف الآخر بنفس البیان، یعنی لماذا یحرم علیه الوضوء بهذا الطرف ؟ لأنّه محتمل النجاسة، والعلم الإجمالی نجّز هذا الطرف ونجّز هذا الطرف، فإذن: یحرم علیه الوضوء بهذا الطرف، وکذلک یحرم علیه الوضوء بملاقیه؛ لأنّ العلم الإجمالی کما ینجّز حرمة الوضوء بهذا الطرف وبهذا الطرف، کذلک ینجّز حرمة الوضوء بملاقی هذا الطرف وحرمة الوضوء بملاقی الطرف الآخر؛ لأنّ شرطیة الماء الطاهر فی الوضوء ثابتة وفعلیة، علیک أن تتوضأ بالماء الطاهر، ما دامت لدیک شبهة مقرونة بالعلم الإجمالی أنت ممنوع من أن تتوضأ بهذا الماء، ولا بملاقی هذا الماء؛ لأنّک تحتمل احتمالاً مقروناً بالعلم الإجمالی بأنّه نجس، ولا یجوز الوضوء بالماء النجس. هکذا یُطبّق الفکرة فی محل الکلام، ثمّ ینتهی إلی نتیجة أنّ هذا التنجیز للحرمة الوضعیة بالعلم الإجمالی، بناءً علی القول بالعلّیة التامّة، وأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة للتنجیز؛ حینئذٍ لا مشکلة ولا ندخل فی بحثٍ آخر، هو العلم الإجمالی علّة تامّة للتنجیز، فینجّز حرمة الوضوء بملاقی أحد أطراف الشبهة، وینتهی الکلام؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لهذا التنجیز.

ص: 454

وأمّا إذا قلنا بالاقتضاء کما هو مسلکه(قدّس سرّه)، یقول: حینئذٍ العلم الإجمالی یُشکّل مقتضٍ للتنجیز؛ فلذلک لابدّ من الفحص عن المانع، هل هناک مانع یمنع من هذا التنجیز، أی من تنجیز العلم الإجمالی لحرمة الوضوء بالماء الملاقی لأحد أطراف الشبهة ؟ هو یقول: المانع الذی یمنع منه لابدّ أن یکون عبارة عن الأصول الترخیصیة المؤمّنة، هی التی تمنع من التنجیز، لو کان لدینا أصل ترخیصی یجری ویؤمّن من ناحیة الحرمة الوضعیة للوضوء بالملاقی؛ حینئذٍ لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً؛ لأنّ تنجیزه علی نحو الاقتضاء، وفعلیة التنجیز تکون منوطة بعدم وجود المانع، فإذا وجد المانع لا یکون منجّزاً، فلابدّ أن نفحص أنّه هل هناک أصول ترخیصیة تجری للتأمین عن حرمة الوضوء بملاقی أحد أطراف الشبهة، أو لا توجد مثل هذه الأصول الترخیصیة ؟ طبعاً لا مجال لتوهّم جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، یعنی لا معنی للرجوع إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان بالنسبة إلی حرمة التوضؤ بالملاقی؛ لأنّ موضوع القاعدة هنا مرتفع؛ لأنّ المفروض أنّ لدینا علم إجمالی بالتنجیز، فموضوع القاعدة مرتفع؛ لأنّ موضوع القاعدة هو الشک والاحتمال وعدم وجود منجّز، وعدم وجود علمٍ إجمالیٍ وأمثاله، فیکون موضوع القاعدة مرتفعاً، فلا مجال للاستدلال بقبح العقاب بلا بیان علی تقدیر الالتزام بها فی محل الکلام، وإنّما المانع الذی یجب أن نفتّش عنه هو عبارة عن الأصول الترخیصیة الشرعیة، الأصول الترخیصیة الشرعیة یمکن أن تکون ثابتة وجاریة فی محل الکلام، فلابدّ أن ننظر فی أنّها هل تجری فی محل الکلام، أو لا ؟ فإذا جرت، فأنّها تمنع من تنجیز العلم الإجمالی لهذه الحرمة، وإذا لم تجرِ؛ فحینئذٍ یکون التنجیز فعلیاً.

ص: 455

یقول: أنّ الأصول التی تجری فی المقام تنقسم إلی قسمین، أصول تجری فی الملاقی، واصول تجری فی الملاقی، والأصل فی محل الکلام هو أصالة الطهارة؛ لأنّ کلامنا عن النجاسة والطهارة، علم إجمالی بنجاسة أحد الإناءین وجواز الوضوء وحرمة الوضوء بهذا الملاقی. اصالة الطهارة مرّة نجریها فی الملاقی، ومرّة نجریها فی الملاقی. أصالة الطهارة إذا جرت فی الملاقی فأنّها تثبت لنا جواز شربه وجواز الوضوء به، وتثبت أیضاً جواز الوضوء بملاقیه؛ لأنّه حینئذٍ یکون طاهراً بحکم الشارع، فیجوز شربه ویجوز الوضوء به، ویجوز الوضوء أیضاً بملاقیه، لکنّه یقول: أنّ هذا الأصل الجاری فی الملاقی معارض بالأصل الجاری فی الطرف الآخر، هذان أصلان یجریان فی کلٍ من الطرفین، فیتعارضان ویتساقطان، فإذن: لا یمکن التأمین من ناحیة حرمة الوضوء بالملاقی بإجراء أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّ أصالة الطهارة فی الملاقی تسقط بالمعارضة مع أصالة الطهارة فی الطرف الآخر.

القسم الثانی هو أن نجری أصالة الطهارة فی الملاقی نفسه للتأمین من ناحیة حرمة الوضوء به، یقول: أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی أیضاً معارضة بأصالة الطهارة فی ملاقی الطرف الآخر؛ لأننا قلنا أنّ العلم الإجمالی کما ینجّز حرمة الوضوء بملاقی هذا الطرف، کذلک ینجّز حرمة الوضوء بملاقی الطرف الآخر، ینجّز کلا الحرمتین، فالأصل الجاری لنفی هذه الحرمة، وللتأمین من هذه الحرمة فی أحدهما یکون معارضاً بأصالة الطهارة الجاریة لنفی هذه الحرمة وللتأمین عنها فی الطرف الآخر، فلا تجری أصالة الطهارة فی الملاقی أیضاً للتأمین من ناحیة هذه الحرمة.

وعلیه: ینتهی إلی نتیجة أنّه لا مانع من تنجیز العلم الإجمالی لحرمة التوضؤ بملاقی أحد أطراف الشبهة، وبهذا یصل إلی النتیجة وهی التفصیل بین الحکم التکلیفی والحکم الوضعی، وأنّ العلم الإجمالی لا ینجّز الحکم التکلیفی وإنّما ینجّز الحکم الوضعی.

ص: 456

الملاحظة التی تُذکر علی هذا الکلام هی دعوی أنّ الحکم التکلیفی فی باب النواهی لا یکون فعلیاً إلاّ بتحقق موضوعه فی الخارج، ودائماً یکون المقصود بالموضوع هو متعلّق المتعلّق. ما هو منشأ هذه الدعوی ؟ هو یقول: فی حالة عدم قدرة المکلّف علی إیجاد الموضوع فی الخارج، مستحیل أن یتعلّق به النهی؛ لخروجه عن القدرة، فالقدرة شرط فی التکالیف سواء کانت وجوبیة، أو کانت تحریمیة، فإذا فُرض خروجه عن القدرة لا یُعقل أن یکون التحریم فیه فعلیاً، لکن عندما یُفترض قدرة المکلّف علی إیجاد الموضوع، قال له(یحرم شرب الخمر، لا تشرب الخمر) والمکلّف قادر علی إیجاد الخمر، هنا من ناحیة عقلیة لا مانع من فعلیة التکلیف، القدرة موجودة، یختلف عن فرض خروجه عن القدرة؛ ولذا هو ذکر أنّه هنا ما یُفهم من دلیل الحرمة عرفاً هو دعوی أنّ المفهوم من(لا تشرب الخمر) هو أنّ وجود الخمر قید لنفس الحرمة لا للحرام، ولیس هناک أکثر من هذه الدعوی، فلا تکون الحرمة ثابتة قبل وجوده وتحققه، ولیس وجود الموضوع، أی وجود الخمر قیداً لمتعلّق الحرمة؛ لأنّه لو کان قیداً لمتعلّق الحرمة، فهذا معناه أنّ الحرمة تکون فعلیة قبل وجوده، وإذا کانت فعلیة، فهی تدعو المکلّف إلی الاجتناب عن شرب الخمر الذی هو متعلّق الحرمة؛ فحینئذٍ یجب علی المکلّف أن یوجد الخمر، والمفروض أنّه قادر علی إیجاده حتّی یمتثل الحرمة ویجتنب عنه، وهذا لا مجال لتوهمه، فلابدّ من افتراض أنّ وجود الخمر خارجاً قید لنفس الحرمة، ومع عدم وجود الخمر خارجاً لیس هناک حرمة فعلیة، ووصل إلی النتیجة المتقدّمة. هذا المطلب فی باب الواجبات یمکن تصدیقه، فی باب الواجبات صحیح أنّ الذی یُفهم عرفاً من(أکرم العالم) هو أنّ وجود العالم هو قید لنفس الوجوب، فقبل وجود العالم لا تکون هناک فعلیة لهذا الحکم، فالحکم لا یکون فعلیاً، إلاّ عند وجود عالمٍ فی الخارج؛ لأنّه بمجرّد أن یکون وجوب الإکرام فعلیاً قبل وجود العالم، فالمکلّف یجب علیه أن یبحث عن عالم ویوجد عالماً حتّی یکرمه حتّی یکون هذا مقدّمة لامتثال الواجب الذی هو الإکرام؛ لأنّ الوجوب أصبح فعلیاً قبل وجود العالم. کلا، هنا یقال أنّ وجود العالم هو قید فی نفس الوجوب، فالوجوب لا یکون فعلیاً إلاّ مع فرض وجود العالم خارجاً. تخریج هذا الکلام یکون علی اساس أنّ الذی یُفهم من التکالیف فی باب الواجبات هو أنّها مجعولة علی نهج القضیة الحقیقیة التی یکون الموضوع فیها مقدّر الوجود التی مرجعها فی الحقیقة إلی قضیة شرطیة، (إن وجد عالم یجب علیک إکرامه) مرجع القضیة الحقیقیة بالنسبة إلی الموضوعات فی باب الأوامر إلی قضیة شرطیة، فإذا کان مرجعها إلی هذا؛ فحینئذٍ تکون هذه الدعوی تامّة؛ لأنّه یُفهم من الدلیل أنّه إن وجد عالم فیجب إکرامه، قضیة شرطیة الجزاء فیها لا یکون فعلیاً إلاّ بعد تحقق شرطه، فإذا وجد عالم یکون الجزاء فعلیاً، وقبل وجود العالم لیس هناک فعلیة لوجوب الإکرام. هذا فی باب الأوامر قد یکون صحیحاً ومقبولاً، لکن فی باب النواهی هذا لیس واضحاً، یعنی فی باب النواهی مثل لا تشرب الخمر، ولا تشرب النجس ولا تأکل لحم الخنزیر .....وهکذا، الذی یُفهم عرفاً منها لیس أنّ وجود الخمر خارجاً شرط للحرمة بحیث أنّه مع وجود الخمر خارجاً لا توجد حرمة، حتّی إذا کان المکلّف قادراً علی إیجاد الخمر خارجاً، فلا حرمة حتّی إذا کان المکلّف قادراً علی إیجاد الخمر خارجاً. نقول لا، إذا کان المکلّف قادراً علی إیجاد الخمر فی الخارج یحرم علیه ذلک حرمة فعلیة وتمنعه من إیجاد الخمر خارجاً مع أنّه لا وجود للخمر خارجاً بحسب الفرض، لکن بالرغم من هذا نقول أنّ الحرمة فعلیة وتمنعه من أن یوجد الخمر فی الخارج؛ لأنّ وجود الخمر فی الخارج لیس قیداً لنفس الحرمة، وإنّما هو قید لمتعلّق الحرمة، یعنی قید للشرب، الشرب المقید بالخمر هذا هو الذی تکون الحرمة فعلیة، وتکون ثابتة له، هو لیس قیداً للحرمة؛ ولذا نقول أنّه قبل وجود الخمر الحرمة فعلیة، وفائدة هذه الحرمة الفعلیة أنّها تمنع المکلّف من التصدّی لإیجاد خمرٍ فی الخارج حتّی یشربه، بینما إذا قلنا أنّ القضیة هی(إن وجد خمر لا تشربه) هذا لا یمنع المکلّف إذا کان قادراً علی ذلک من التصدّی لإیجاد خمرٍ، الذی یمنعه هو الالتزام بالحرمة الفعلیة قبل وجود الخمر فی الخارج، لیست الحرمة منوطة بوجود خمرٍ، سواء وجد خمر فی الخارج، أو لا، ولعلّ السرّ فی ذلک هو أنّ(لا تشرب الخمر) لیس علی غرار(أکرم العالم)، ب_أن یکون مرجعها إلی قضیة شرطیة، إن وجد خمر فلا تشربه، کلا لا یُفهم منها ذلک عرفاً، وإنّما یُفهم أنّ الملاک الموجب للتحریم الذی هو عبارة عن المفاسد والأضرار .....الخ، هذا موجود فی شرب الخمر سواء وجد خمر فی الخارج، أم لم یوجد خمر فی الخارج، الشرب یتصف بکونه فیه ضرر أو فیه مصلحة بقطع النظر عن وجود الخمر فی الخارج، شرب الخمر فیه ضرر ومفسدة، فیحرّمه الشارع علی أساس ما فیه من الضرر، سواء وجد خمر فی الخارج، أو لم یوجد خمر فی الخارج، لیست القضیة منوطة بوجود خمرٍ فی الخارج، وإنّما القضیة منوطة بوجود الملاک والمفسدة فی متعلّق هذا الذی هو شرب الخمر سواء وجد خمر فی الخارج، أو لم یوجد خمر فی الخارج، لا یُفهم من ذلک ما ذُکر فی باب الأوامر، وإنّما یمکن التفریق بینهما، وعلیه: فلا تشرب النجس یکون من هذا القبیل، هذا حکم فعلی قبل وجود النجس فی الخارج، فیکون حاله حال الحکم الوضعی.

ص: 457

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

تبیّن ممّا تقدّم أنّ ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه)من التفریق بین الحکم التکلیفی للملاقی وبین الحکم الوضعی له، وأنّ العلم الإجمالی الأوّل لا ینجّزالحکم التکلیفی للملاقی، أی حرمة الشرب، ولکنّه ینجّز الحکم الوضعی له، أی حرمة التوضؤ به. هذه التفرقة بین الحکم الوضعی والحکم التکلیفی مبنیّة علی دعوی أنّ الحکم التکلیفی لا یکون فعلیاً قبل تحقق موضوعه فی حین أنّ الحکم الوضعی یکون فعلیاً قبل تحقق الموضوع، ویقول: هناک فرق بین حرمة شرب النجس وبین حرمة التوضؤ بالنجس، حرمة شرب النجس لا تکون فعلیة قبل وجود النجس، بینما حرمة التوضؤ بالنجس هی حرمة فعلیة وفعلیتها لیست منوطة بوجود النجس خارجاً، سواء وجد النجس، أو لم یوجد حرمة التوضؤ بالنجس هی حرمة ثابتة ولیست منوطة بوجود النجس.

والاستدلال علی الأوّل، أی علی أنّ الحرمة التکلیفیة منوطة بوجود النجس مرجعه إلی دعوی الاستظهار، أنّ الظاهر من دلیل حرمة شرب الخمر وحرمة شرب النجس وأمثال هذه الأحکام التکلیفیة، أنّ الظاهر منها هو أنّ وجود النجس قید فی نفس الحرمة، فالحرمة لا تکون فعلیة قبل وجود النجس؛ لأنّ وجود النجس قید فی نفس الحرمة، فی حین أنّ وجود النجس لیس قیداً فی نفس الحرمة الوضعیة؛ بل الحرمة الوضعیة ثابتة ولو قبل وجود النجس؛ ظاهر الدلیل (یحرم شرب الخمر) یُفهم منه أنّ وجود الخمر قید فی نفس الحرمة، فالحرمة لیست فعلیة قبل وجود الخمر خارجاً، وهکذا یحرم شرب النجس، أیضاً لا فعلیة للحرمة قبل وجود النجس خارجاً. فی حین أنّ الحرمة الوضعیة، حرمة الوضوء بالنجس لیست مقیدة بوجود النجس؛ لأنّها حرمة ناشئة من ضیق دائرة الواجب وتقیّد الواجب بأن لا یکون بالماء النجس، أو أن یکون بالماء الطاهر، الواجب الذی هو الوضوء، أو الصلاة بالوضوء مقیّدة بأن لا یکون الوضوء بالماء النجس، أو أن یکون بالماء الطاهر، هذه حرمة مرجعها کما قلنا إلی الشرطیة، أو إلی المانعیة؛ لأنّه یُشترط فی صحّة الوضوء أن یکون بالماء الطاهر، أو أنّ الوضوء بالماء النجس یکون مانعاً من صحّة الوضوء، هذه الشرطیة والمانعیة لیست منوطة بوجود النجس خارجاً، وإنّما هی تکون فعلیة بفعلیة موضوعها، وبفعلیة الوضوء ووجوب الوضوء، إذا وجب الوضوء علی المکلّف تکون هذه الشرطیة فعلیة وتکون هذه الحرمة الوضعیة فعلیة ولیست منوطة بوجود النجس خارجاً أو عدم وجوده، لا یوجد النجس، مع ذلک الوضوء یکون مشروطاً بأن یکون بالماء الطاهر، والوضوء بالماء النجس یکون مانعاً من صحّة الوضوء، هذه القضیة لیست منوطة بوجود الماء النجس خارجاً، فهی قضیة فعلیة ثابتة قبل وجود النجس؛ حینئذٍ یترتب علی ذلک فی محل الکلام أنّه عندما نعلم بنجاسة أحد الإناءین، هذا هو محل الکلام، هذا العلم بنجاسة أحد الإناءین لا ینجّز حرمة شرب الملاقی حرمة تکلیفیة؛ لأنّ حرمة شرب الملاقی هی من قبیل حرمة شرب الخمر ومن قبیل حرمة شرب النجس، هی عبارة أخری عن حرمة شرب النجس؛ لأنّ ملاقی النجس ینجس، فیحرم شربه، هذه الحرمة لا تکون فعلیة قبل تحقق موضوعها، وموضوعها هو الملاقی، فقبل تحقق الملاقی وقبل تحقق الملاقاة، هذه الحرمة لیست فعلیة، فعلیتها منوطة بوجود موضوعها، یعنی بوجود الملاقی وتحقق الملاقاة، وقبله لا فعلیة لهذه الحرمة، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین لا ینجّز هذه الحرمة بالنسبة إلی الملاقی؛ لأنّ تنجیز هذه الحرمة وفعلیتها منوطة بالملاقی والملاقاة، منوطة بأن یلاقی النجس، وهذا شیء لا نحرزه فی المقام، نحن لا نحرز أنّ الملاقی لاقی النجس؛ لأنّه لاقی أحد أطراف العلم الإجمالی، فلا إحراز لملاقاته للنجس حتّی تکون الحرمة منجّزة بالعلم الإجمالی؛ بل هی تبقی غیر محرزة، وتبقی مشکوکة وغیر معلومة، فتجری فیها الأصول المؤمّنة؛ ولذا لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً للحرمة التکلیفیة للملاقی، فی حین أنّ الحرمة الوضعیة للملاقی ینجّزها العلم الإجمالی؛ لأنّ الحرمة الوضعیة للملاقی وهی حرمة الوضوء به ثابتة قبل وجود الملاقی وتحقق الملاقاة، هذه حرمة مرجعها إلی الشرطیة، مرجعها إلی المانعیة، وهذه المانعیة ثابتة بفعلیة الواجب، عندما یکون الواجب ثابتاً هذه الشرطیة تکون ثابتة وفعلیة، وهی لیست ____________ بحسب الفرض __________ منوطة بوجود الملاقی والملاقاة؛ بل هی موجودة قبل ذلک، فإذا کانت موجودة قبل ذلک، إذن هی غیر متوقفة علی تحقق الملاقاة؛ بل هی ثابتة بنفس العلم الإجمالی، عندما یعلم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، إذن هو یعلم إجمالاً بنجاسة ملاقی کل واحدٍ من الطرفین، عندما یعلم إجمالاً بنجاسة أحد الطرفین، فهو یعلم إجمالاً بحرمة الوضوء بملاقی کل واحد من الطرفین، یعلم بحرمة التوضؤ بملاقی هذا الطرف، أو بحرمة التوضؤ بملاقی الطرف الآخر، من البدایة یعلم بذلک وقبل تحقق الملاقاة، من البدایة عندما یکون هناک نجس تأتی الشرطیة وتقول لا یجوز الوضوء به، ونحن هنا علمنا بالعلم الإجمالی بوجود النجس فی ضمن أحد الإناءین، هذا العلم الإجمالی بوجود النجس فی ضمن أحد الإناءین کما ینجّز حرمة شرب کل واحدٍ من الطرفین کذلک ینجّز حرمة الوضوء بملاقی کل واحدٍ من الطرفین؛ لأنّ حرمة الوضوء بالنجس لیست موقوفة علی تحقق النجس خارجاً، کل نجس یحرم الوضوء به، ویُشترط فی صحّة الوضوء أن یکون بالماء الطاهر.....وهکذا. هذه حرمة شرطیة فعلیة قبل تحقق الملاقاة وقبل الملاقی، فیکون العلم الإجمالی کافیاً لتنجیزها، فالفرق یکمن فی أنّ الحکم التکلیفی لا یکون فعلیاً إلاّ بعد تحقق موضوعه، فی حین أنّ الحرمة الوضعیة لیست هکذا، وإنّما هی تکون فعلیة قبل تحقق الملاقاة والملاقی، فیکون العلم الإجمالی کافیاً لتنجیزها. هذه هی الفکرة

ص: 458

إذا منعنا من کون فعلیة الحکم التکلیفی منوطة بوجود موضوعه؛ فحینئذٍ هذه التفرقة لا تکون صحیحة؛ بل لابدّ أن نقول علی کلا التقدیرین العلم الإجمالی یکون منجّزاً للحکم الوضعی وللحکم التکلیفی. إذا قلنا بأنّ(یحرم شرب الخمر) لا نفهم منه أنّ وجود الخمر قید فی نفس الحرمة، وإنّما یُفهم منه أنّ وجود الخمر قید فی الحرام لا فی نفس الحرمة، الحرمة فعلیة قبل وجود الخمر، حرمة شرب ملاقی النجس فعلیة قبل وجود الملاقی وتحقق الملاقاة، إذا فهمنا ذلک منها؛ فحینئذٍ هذه التفرقة لا تکون تامّة، ویمکن للإنسان أن یدّعی ویقول بأنّ الذی یُفهم من دلیل تحریم شرب الخمر ومن دلیل تحریم شرب النجس .....وهکذا، یُفهم من ذلک أنّ هذا الحکم وهذه الحرمة مجعولة علی کل مکلّف یتمکّن من شرب الخمر، ولو بإیجاده خارجاً ولیست منوطة بوجود الخمر فی الخارج حتّی تکون هذه الحرمة معدومة وغیر فعلیة إذا لم یوجد الخمر فی الخارج؛ بل هذه حرمة تتوجّه إلی کل مکلّفٍ یتمکّن من شرب الخمر خارجاً، سواء باعتبار وجود الخمر فی الخارج، أو باعتبار أنّه قادر علی تحصیله، کل منهما یتوجّه إلیه الخطاب، وتکون الحرمة فعلیة فی حقّ کل مکلّف قادر علی شرب الخمر ولو بإیجاده فی الخارج، الحرمة تکون فی حقه فعلیة ولیست منوطة بوجود الخمر فی الخارج، هذا فهم عرفی، واستظهار من الدلیل؛ لذا هناک فرق بین باب الأوامر وبین باب النواهی، فی باب الأوامر لا نستطیع أن ندّعی هذا الکلام؛ لأنّه لیس عرفیاً فی باب الأوامر(أکرم کل عالم) لا یمکن أن یقال أنّ المستظهر من هذا الدلیل هو فعلیة الوجوب قبل وجود الموضوع؛ بل وجود الإکرام منوط بوجود رجل عالم، بحیث مع عدم وجود العالم لا فعلیة لهذا الوجوب؛ ولذا لا یجب بلا إشکال حسب الفهم العرفی، لا یجب علی المکلّف تحصیل الرجل العالم مقدّمة لامتثال التکلیف والإتیان بمتعلّق التکلیف وهو الإکرام، لا یجب علیه ذلک ولا یتوهم ذلک أحد فی باب الواجبات، الوجوب وفعلیته منوط بوجود العالم ومع عدم وجوده لا فعلیة لهذا الوجوب، لا نستطیع أن نقول أنّ هذا الحکم مجعول علی کل مکلّف یتمکّن من إکرام العالم ولو بإیجاده، هذا لیس عرفیاً، لکن هذا الکلام یمکن ادعاءه فی باب النواهی بأن نقول أنّ الغرض من تحریم الخمر هو عدم تمکین المکلّف منها ولو بإیجادها، فهی مجعولة علی کل مکلّف یتمکّن من شرب الخمر، ولو بإیجاده فی الخارج، وهذا معناه أنّها لیست منوطة بوجود الخمر فی الخارج، وإنّما هذه الحرمة موجودة وثابتة قبل وجود الخمر فی الخارج. إذا قلنا بذلک حینئذٍ لا یبقی فرق بین الحکم التکلیفی للملاقی، وبین الحکم الوضعی للملاقی، الحرمة ثابتة فی کل منهما قبل الملاقاة وقبل وجود الملاقی، فیکون العلم الإجمالی کافیاً لتنجیزها، وهذا هو الذی ینسجم مع البناء علی التبعیة فی تفسیر کیفیة نجاسة الملاقی بالنجس، بخلاف القول بالسببیة.

ص: 459

ثمّ بعد ذلک نقول فی ما یرتبط بهذا البحث نفسه وهو التفصیل بین الحکم الوضعی للملاقی وبین الحکم التکلیفی له. المحقق النائینی(قدّس سرّه) أیضاً ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی الأوّل ینجّز الحکم الوضعی لکن فی بعض الأمثلة، (1) حیث نصّ فی بعض الأمثلة علی أنّ العلم الإجمالی الأوّل ینجّز الحکم الوضعی، وذکر هذا المثال: ما لو علم بغصبیة إحدی الشجرتین وحصل بعد ذلک ثمرة لأحداهما دون الأخری، الرأی الآخر هو أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز لا الحکم التکلیفی ولا الحکم الوضعی، فیجوز التصرّف فی هذه الثمرة ___________ هذا الکلام بقطع النظر عن العلم الإجمالی الثانی __________ أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز حرمة التصرّف فی هذه الثمرة ولا ینجّز ضمان الثمرة علی تقدیر التصرّف فیها، لا ینجّز کلتا الحرمتین، لا الحرمة التکلیفیة ولا الحرمة الوضعیة، فالتزم أصحاب الرأی الآخر بجواز التصرّف فی الثمرة وعدم ضمانها وضعاً بناءً علی المبنی الذی یقول أنّ العلم الإجمالی الأوّل لیس کافیاً فی تنجیز الحکم التکلیفی ولا یکفی فی تنجیز الحکم الوضعی بالنسبة إلی الثمرة علی غرار الملاقی، الثمرة تقابل الملاقی فی محل کلامنا، کما قالوا أنّ العلم الإجمالی الأوّل لا ینجّز حرمة التصرّف فی الملاقی کذلک لا ینجّز حرمة التوضؤ بالملاقی، هنا أیضاً کذلک. بینما المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذهب إلی العکس تماماً، یعنی ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی ینجّز الحرمة التکلیفیة فی مثال الثمرة أی ینجّز حرمة التصرّف فی الثمرة، وینجّز أیضاً ضمان الثمرة عند التصرّف فیها، فینجّز کلا الحکمین التکلیفی والوضعی. أمّا بالنسبة إلی الحکم الوضعی، أی الضمان، فذکر بأنّ الدلیل علی أنّ العلم الإجمالی ینجّز ضمان الثمرة، فالأصل هو أنّه لا إشکال فی ضمان نفس الشجرة، هذا لیس محل کلامنا، وإنّما کلامنا فی الثمرة المتجددة بعد ذلک، یقول: هنا العلم الإجمالی ینجّز ضمان هذه الثمرة، واستدل علی ذلک باعتبار أنّ المکلّف بوضع یده علی الأصل، یعنی بوضع یده علی العین المغصوبة یکون هذا وحده سبباً لضمان الأصل ومنافع الأصل ولو کانت متجددة بعد ذلک، یعنی لا یشترط فی ضمان منافع الأصل أن تکون المنافع موجودة حین وضع الید علی الأصل؛ بل حتّی إذا کانت العین المغصوبة حین غصبها ووضع الید علیها لیس لها منافع، لکن استجدت لها منافع بعد ذلک، نفس وضع الید وغصب العین هو کافٍ فی ضمان منافعها المتجددة، ویستدل علی ذلک بأنّ المالک للشجرة یجوز له الرجوع إلی الغاصب الأوّل _____________ فی مسألة تعاقب الأیدی ____________ فی المنافع المتجددة الحاصلة بعد خروج العین من یده، یعنی من ید الغاصب الأوّل ودخولها فی أیادٍ أخری، مع ذلک یجوز للمالک أن یرجع إلی الغاصب الأوّل، وهذا معناه أنّ الغاصب الأوّل بوضع یده علی العین یکون قد ضمن العین ومنافعها حتّی ما کان متجدداً منها؛ ولذا جاز للمالک أن یرجع إلیه مع أنّ المنافع لم تکن تحت یده، وإنّما تجددت بعد ذلک، وهذا مؤشر علی أنّ الید العادیة هی سبب لضمان منافع العین حتّی إذا لم تکن موجودة حین وضع الید علی العین. بناءً علی هذا الکلام، یقول: حینئذٍ یُفهم أنّ العلم بغصبیة أحدی الشجرتین یترتب علیه ضمان نفس العین المغصوبة، ویترتب علیه أیضاً ضمان منافعها المتجددة مضافاً إلی منافعها الموجودة حین وضع الید، عندما نعلم بأنّ أحدی الشجرتین مغصوبة، یعنی نعلم بضمان تلک العین المغصوبة المرددة بین الشجرتین، وبضمان منافعها الموجودة حین الغصب وضمان منافع تلک العین المرددة المتجددة بعد ذلک، بمجرّد أن تکون هناک عین مغصوبة، بالغصب یکون ضامناً لکل هذه الأمور، فیثبت ضمان المنافع المتجددة بعد الغصب.

ص: 460


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص67.

فی محل الکلام، أی فی مثال الشجرة، فی الحقیقة هو یدخل فی القاعدة السابقة التی ذکروها وهی أنّ کل الأحکام والآثار الشرعیة التی یکون تمام موضوعها المعلوم بالإجمال، هذه الآثار والأحکام الشرعیة یجب ترتیبها علی کلٍ من الطرفین تحصیلاً للموافقة القطعیة للعلم الإجمالی، غصبیة أحدی الشجرتین هو المعلوم بالإجمال، هذه الشجرة المغصوبة المعلومة بالإجمال لها آثار شرعیة، وأثرها الشرعی هو أنّها تکون مضمونة، ومنافعها المتجددة أیضاً مضمونة بالبیان الذی ذکره قبل قلیل، هذه آثار شرعیة ثابتة وتمام موضوعها هو عبارة عن الغصبیة المعلومة بالإجمال، کل اثر شرعی یکون تمام موضوعه هو المعلوم بالإجمال یجب ترتیبه علی کل واحدٍ من الطرفین حتّی یوافق العلم الإجمالی قطعاً؛ لأنّه من دون ذلک لا تتم الموافقة القطعیة للعلم الإجمالی، إذا رتّب أثراً علی هذا الطرف وترک الطرف الآخر سوف لن یصل إلی القطع بإحراز الموافقة القطعیة، فإذن یجب ترتیب الآثار المترتبة علی المعلوم بالإجمال، یجب ترتیبها علی کل واحدٍ من الطرفین، وهنا ثبت أنّ المعلوم بالإجمال وهو غصبیة أحدی الشجرتین هو تمام الموضوع لضمانها وضمان نمائها حتّی لو کان متجدداً فی المستقبل، هذا الأثر یجب ترتیبه علی کلٍ من الطرفین تحصیلاً للموافقة القطعیة، فإذا غصب هذه الشجرة یکون ضامناً لها وضامناً لنمائها ولو کان متجدداً بعد ذلک، فیثبت ضمان الثمرة المتجددة بعد وضع الید وبعد الغصب، وهذا یثبت بنفس العلم الإجمالی بغصبیة أحدی الشجرتین، یثبت ضمان ثمرة هذه الشجرة المغصوبة المرددة؛ حینئذٍ یجب ترتیب هذا الأثر علی کلٍ من الطرفین، فیثبت أنّ ثمرة هذه الشجرة أیضاً تکون مضمونة بنفس العلم الإجمالی الأوّل. هذا بالنسبة إلی الحکم الوضعی.

ص: 461

أمّا بالنسبة إلی الحکم التکلیفی أیضاً قال بأنّ العلم الإجمالی الأوّل ینجّز حرمة التصرّف فی الثمرة الذی هو حکم تکلیفی، هنا استدلّ علیه بأنّ حرمة التصرّف وإن کانت منتفیة بانتفاء موضوعها حین وضع الید وحین الغصب الأوّل؛ لأنّ المفروض أنّ الثمرة لم تکن حاصلة، وإنّما استجدت فیما بعد، إلاّ أنّ ملاک هذا الحکم التکلیفی قد تمّ بغصب العین الموجب لضمانها وضمان منافعها الموجودة والمتجددة، والملاک هو کون الید عادیة وموجبة لضمان العین ومنافعها حتّی المتجددة، فإذا تجددت الثمرة تحقق موضوع حرمة التصرّف، فکأنّه یرید أن یقول أنّ حرمة التصرّف فی الثمرة لیست موجودة من البدایة لاستحالة وجود الحکم قبل تحقق موضوعه؛ لأنّه لا یمکن أن تکون الحرمة فعلیة قبل وجود الثمرة، لکن قال أنّ ملاک هذه الحرمة موجود من البدایة، وهی الید العادیة الغاصبة، وهذه الید المعتدیة متحققة من السابق وهی موجبة لضمان العین وضمان منافعها حتّی المتجددة، فإذا تجددت الثمرة حینئذٍ تترتب حرمة التصرّف فی هذه الثمرة وتثبت وتکون فعلیة بعد وجود هذه الثمرة؛ لأنّها ثمرة مغصوبة والید علیها ید عادیة، وبعد وجودها یکون موضوع الملاک موجود؛ فحینئذٍ تکون الحرمة فعلیة، فیحرم التصرّف بها، باعتبار أنّ العلم الإجمالی نجّز ملاکها وهذا الملاک محفوظ، فإذا تجددت الثمرة ثبتت الحرمة، فی الحقیقة المانع له من الالتزام بفعلیة الحرمة سابقاً هو المحذور الذی ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) وهو عدم تصوّر فعلیة الحرمة قبل وجود موضوعها، فقبل وجود الثمرة لا تکون حرمة التصرّف فی الثمرة فعلیة، لکنّه قال أنّ هذا لا یمثّل مشکلة؛ لأنّ ملاک هذه الحرمة موجودة سابقاً، وهذا یکفی فی إثبات أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً للحکم التکلیفی بالنسبة إلی الثمرة کما کان منجّزاً للحکم الوضعی بالنسبة إلیها. هذا کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی نقله السید الخوئی(قدّس سرّه).

ص: 462

السید الخوئی(قدّس سرّه) اعترض علی هذا البیان، (1) وأنکر کلاً منهما، قال: أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز الحکم الوضعی للثمرة، یعنی ضمانها، ولا ینجّز الحکم التکلیفی للثمرة الذی هو حرمة التصرّف فیها، علی القاعدة فی باب الملاقی فی محل کلامنا بناءً علی الرأی المعروف، کما أنّ العلم الإجمالی فی باب الملاقی فی محل کلامنا لا ینجّز حرمة التصرّف بالملاقی ولا ینجّز حرمة التوضؤ به علی رایهم، کذلک العلم الإجمالی فی محل الکلام أیضاً لا ینجّز الحکم التکلیفی ولا الحکم الوضعی بالنسبة إلی الثمرة. أمّا بالنسبة للحکم الوضعی الذی هو الضمان، فذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) فی مقام الاعتراض علی المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّ مسألة ضمان منافع العین المغصوبة حتّی لو کانت متجددة هی قضیة مسلّمة کبرویاً ولا یمکن إنکارها، لکن متی تکون هذه الکبری فعلیة ؟ عندما تتحقق صغراها، وصغراها هی کون الثمرة ثمرة لعینٍ مغصوبة، فإذا أحرزنا أنّ هذه الثمرة هی ثمرة لعین مغصوبة فلا إشکال فی أنّها تکون مضمونة تطبیقاً للکبری، لکن فی محل الکلام لا نحرز أنّ هذه الثمرة هی ثمرة لعینٍ مغصوبةٍ لاحتمال أن تکون هذه الثمرة ثمرة للعین المملوکة؛ لأنّه هو یملک أحدی الشجرتین وغصب الشجرة الأخری، واختلط الأمر، وصار لدیه علم إجمالی بأنّ أحدی الشجرتین مغصوبة، هو لا یحرز بأنّ هذه الثمرة هی ثمرة للعین المغصوبة حتّی یقال بثبوت الحکم بضمانها، وإنّما یُحتمل أن تکون هذه الثمرة ثمرة للعین المملوکة الأخری ومن دون إحراز صغری هذه الکبری لا تکون هذه الکبری ثابتة، یعنی أنّ ضمان الثمرة فی محل الکلام یکون أمراً مشکوکاً؛ لأننا لا نحرز الضمان لهذه الثمرة إلاّ إذا أحرزنا أنّها ثمرة لشجرةٍ مغصوبةٍ، فإذا کان هذا الضمان مشکوکاً؛ فحینئذٍ إمّا أن نرجع إلی البراءة، أو نرجع إلی استصحاب عدم کونها من منافع العین المغصوبة، هو رجع إلی استصحاب عدم کون الثمرة من منافع العین المغصوبة حتّی ینفی الضمان، وذکر بأنّ هذا الاستصحاب لا یُعارَض باستصحاب عدم کونها من منافع العین المملوکة؛ لأنّه لا اثر لهذا الاستصحاب الثانی، فلا یعارض الاستصحاب الأوّل، هو یقول: بعد أن کان الضمان مشکوکاً لأننا نشک فی کون الثمرة ثمرة لشجرة مغصوبة؛ فحینئذٍ یمکن الرجوع إلی الأصول المؤمّنة، إمّا البراءة، أو استصحاب عدم کون هذه الثمرة من منافع العین المغصوبة؛ لکی ننفی الضمان، ویقول : أنّ استصحاب عدم کون الثمرة من منافع العین المغصوبة لا یُعارَض باستصحاب عدم کون هذه الثمرة من منافع العین المملوکة لإثبات الضمان؛ لأنّ هذا یکون أصلاً مثبتاً؛ لأنّ الضمان موضوعه العین المغصوبة، واستصحاب عدم کون الثمرة من منافع العین المملوکة لا یثبت أنّها من منافع العین المغصوبة إلاّ بناءً علی الأصل المثبت؛ فلذا لا یجری هذا الأصل، ویجری ذاک الأصل، وینفی الضمان. وإذا ناقشنا فی هذا الاستصحاب، فلابد من الرجوع إلی البراءة.

ص: 463


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص408.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

ذکرنا فی الدرس السابق أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه)ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی الأوّل ینجّز الحکم التکلیفی والحکم الوضعی بالنسبة إلی الثمرة فی مثال ما لو علم بغصبیة أحدی الشجرتین، ولو کانت هذه الثمرة متجددة وحاصلة بعد ذلک، فالعلم الإجمالی الأوّل ینجّز حرمة التصرّف فیها، وکذلک ینجّز ضمانها إذا تلفت، واستدل علی کلٍ منهما بما ذکرناه فی الدرس السابق.

اعترض السید الخوئی(قدّس سرّه) علی ذلک بما ذکرناه أیضاً، بالنسبة إلی الحکم الوضعی قال أنّ ضمان منافع العین المغصوبة مسلّم بلا إشکال، لکن الکلام فی تحقق الصغری؛ لأنّ هذا الحکم إنّما یمکن الالتزام به وتطبیقه إذا أحرزنا أنّ هذه منفعة لعینٍ مغصوبة، ونحن فی المقام لا نحرز أنّ هذه الثمرة هی منفعة لعینٍ مغصوبةٍ لاحتمال أنّ الشجرة لیست مغصوبة، لاحتمال أن تکون الثمرة ثمرة لشجرة مملوکة ولیست مغصوبة، ومع عدم إحراز ذلک یمکن إجراء الأصول المؤمّنة.

وأمّا بالنسبة إلی الحکم التکلیفی أیضاً ذکر بأنّه تجری البراءة عن الحکم التکلیفی، یعنی عن حرمة التصرّف فی الثمرة لإحدی الشجرتین، نشکّ فی حرمة التصرّف فیها، فیمکن الرجوع إلی البراءة لنفی هذه الحرمة ولا تتنجّز هذه الحرمة بالعلم الإجمالی وذلک لنفس السبب السابق؛ لعدم العلم بتحقق موضوع هذه الحرمة؛ لأنّ هذه الحرمة تقول لا یجوز التصرّف فی منافع العین المغصوبة، فلابدّ من إحراز أنّ الثمرة من منافع العین المغصوبة حتّی یثبت لها هذا الحکم ویتنجّز هذا الحکم وهو حرمة التصرّف فیها، ونحن فی المقام لا نحرز أنّ هذه الثمرة من منافع العین المغصوبة لاحتمال أن تکون من منافع العین المملوکة، فما دمنا لا نحرز تحقق الموضوع، فلا یمکن أن یتنجّز هذا الحکم بالعلم الإجمالی بغصبیة إحدی الشجرتین.

ص: 464

واعترض علیه فی تقریره الآخر علی مسألة الحکم التکلیفی؛ لأننا قلنا أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) تمسّک لإثبات تنجیز الحکم التکلیفی فی الثمرة بالعلم الإجمالی بمسألة أنّ ملاک الحرمة موجود من البدایة، واعترف بأنّه لا یمکن افتراض فعلیة الحرمة قبل تحقق موضوعها، وقال بأنّ هذا لا یمکن إنکاره، أنّه لا یمکن افتراض فعلیة الحرمة قبل تحقق موضوعها، فلا یُعقل ثبوت حرمة التصرّف فی الثمرة قبل وجود الثمرة، لکنّه قال أنّ ملاک هذه الحرمة ثابت من البدایة، فإذا وجدت الثمرة؛ فحینئذٍ الحرمة أیضاً تکونموجودة، فبالتالی تثبت حرمة التصرّف فی هذه الثمرة بثبوت ملاکها من البدایة. السید الخوئی(قدّس سرّه) یشکل علی هذا المعنی فی الحکم التکلیفی ویقول: نحن لا نتعقّل ثبوت ملاک تحریم التصرّف فی الثمرة قبل وجودها خارجاً، ویقول أنّ الملاک علی غرار نفس التحریم، فکما أنّه لا یُعقل ثبوت التحریم قبل وجود الثمرة، ملاک التحریم أیضاً لا یُعقل ثبوته قبل وجود الثمرة خارجاً، ببیان أنّه یستحیل ثبوت حرمة التصرّف قبل ثبوت موضوعها وقبل وجود الثمرة وتحققها فی الخارج، الحرمة غیر موجودة؛ حینئذٍ الملاک أیضاً لا یکون موجوداً. أمّا أن یکون الملاک موجوداً والحرمة غیر موجودة، فهذا شیء لا نتعقله ولا معنی لتحقق ملاک التحریم، کما لا معنی لثبوت التحریم نفسه، یعنی قبل وجود الثمرة، أیضاً أشکل علیه بهذا الإشکال.

الظاهر من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه)، خصوصاً فی(فوائد الأصول)، أنّ کلامه وما نقلناه عنه من تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للحکم الوضعی والحکم التکلیفی، الظاهر أنّه مبنی علی القول بالتبعیة لا علی القول بالسببیة، بمعنی أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یُفرّق فی الأمثلة بین القولین، فیختار التبعیة فی مثال غصبیة إحدی الشجرتین، ویُصرّح بأنّ وجوب الاجتناب عن الثمرة هو من شئون وتبعات وجوب الاجتناب عن نفس الشجرة المغصوبة؛ ولذلک هو یقول بالتبعیة فی مثال غصبیة إحدی الشجرتین، لکنّه لا یقول بالتبعیة فی محل کلامنا، یعنی فی ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بالنجاسة، لا یقول بالتبعیة، وإنّما یقول بالسببیة، فکلامه فی مثال العلم الإجمالی بغصبیة إحدی الشجرتین مبنی علی القول بالتبعیة، وقد صرّح بهذا المعنی وذکر بأنّ التبعیة لا یراد بها فعلیة وجوب الاجتناب عن الثمرة قبل وجودها، لیس هذا مقصوده، أن یکون وجوب الاجتناب عن الثمرة متحققاً من البدایة قبل وجود الثمرة، لأنّه یقول من المحال أن یکون الحکم ثابتاً قبل وجود موضوعه، فوجوب الاجتناب عن الثمرة لیس ثابتاً قبل وجود الثمرة ولیس مقصودنا هو تحقق هذا الوجوب من البدایة حین تحقق وجوب الاجتناب عن الشجرة، بمعنی أنّ وجوب الاجتناب عن الشجرة إذا کان ثابتاً یتبعه فی الثبوت وجوب الاجتناب عن الثمرة ولو قبل وجودها، یقول: لیس هذا مقصودنا من التبعیة؛ لأنّ هذا استحالته واضحة ولا یمکن إنکار استحالة ثبوت وجوب الاجتناب عن الثمرة قبل وجود الثمرة نفسها، وإنّما مرادنا من التبعیة أنّ النهی عن التصرّف فی العین المغصوبة التی هی الشجرة بعد فرض تحققها، ولو باعتبارها أحد طرفی العلم الإجمالی، هذا النهی عن التصرّف فی الشجرة بنفسه یقتضی النهی عن التصرّف فی نمائها حین تحققه، وبمجرّد أن تتحقق الثمرة یثبت وجوب الاجتناب عنها، لکن هذا الحکم بوجوب الاجتناب عنها لیس حکماً جدیداً نحتاج فی إثباته إلی التمسّک بدلیل، وإنّما هو یثبت بنفس وجوب الاجتناب عن الشجرة؛ ولذا لا یحتاج وجوب الاجتناب عن الثمرة بعد تحققها إلی تشریعٍ جدیدٍ ولا إلی حکمٍ جدیدٍ؛ بل یکفی فیه نفس التشریع السابق وهو النهی عن التصرّف فی الشجرة، وعللّ هذا الشیء، قال: لأنّ حرمة التصرّف فی الثمرة هی من شئون حرمة التصرّف فی العین المغصوبة ومن تبعاته، لکن لا بمعنی أنّ حرمة التصرّف فی النماء یکون فعلیاً قبل وجوده، وإنّما بمعنی أنّ حرمة التصرّف فی الأصل المغصوب یقتضی حرمّة التصرّف فی نمائه المتجدد عند تحققه، فإذا تحقق النماء المتجدد تکون الحرمة ثابتة ولا تحتاج إلی تشریع جدیدٍ ولا إلی جعلٍ جدیدٍ، وکلامهم صریح فی أنّه مبنی فی هذا المثال علی القول بالتبعیة لا علی القول بالسببیة، ونفس هذا الکلام قاله فی الحکم الوضعی فی هذا المثال أیضاً، قال: أنّ وضع الید علی العین وغصبها یقتضی ضمان نفس العین وضمان منافعها الموجودة فعلاً، والمتجددة حین تحققها؛ لأنّ ضمان المنافع هو من شئون ومن تبعات ضمان العین المغصوبة، أصلاً ضمان العین المغصوبة یعنی ضمانها وضمان منافعها، غایة الأمر هناک منافع فعلیة لها، فیثبت الضمان لها فعلاً ویکون الضمان فعلیاً، وهناک منافع متجددة؛ وحینئذٍ یکون الضمان فعلیاً عند تحقق هذه المنافع، ومن هنا یظهر ما فی جواب السید الخوئی(قدّس سرّه) عن ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، یعنی مسألة عدم تحقق صغری کبری الحکم بضمان منافع العین المغصوبة هی قضیة واضحة لا تخفی علی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، أنّه فی محل کلامنا، بالنتیجة نحن لا نعلم بأنّ هذه الثمرة هی ثمرة للشجرة المغصوبة؛ لاحتمال أنّ الشجرة مملوکة ولیست مغصوبة، هذه قضیة واضحة، یعنی عدم انطباق وعدم تحقق صغری هذا الحکم الشرعی وهو ضمان منافع العین المغصوبة، فی محل الکلام صغری هذه الکبری غیر متحققة؛ لأننا نتکلّم عن ثمرة لإحدی الشجرتین اللّتین نعلم بأنّ إحداهما مغصوبة، ولا إحراز لکون هذه الشجرة التی حصل منها هذا النماء هی المغصوبة، وإنّما الذی یرید أن یقوله المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو أنّ تمام موضوع ضمان الثمرة هو المعلوم بالإجمال، یعنی غصبیة إحدی الشجرتین، إذا علمنا بأنّ هذه الشجرة مغصوبة، فهذا العلم یکفی، غصبیة هذه الشجرة فی حال العلم التفصیلی تکفی لإثبات ضمان الشجرة وضمان منافعها حتّی المتجددة، هذا هو تمام الموضوع لضمان المنافع حتی ما تجدد منها، فإذا علمنا إجمالاً بغصبیة إحدی الشجرتین؛ حینئذٍ هذه الشجرة التی نعلم بغصبیتها إجمالاً یثبت لها هذا الحکم والأثر الشرعی، وهو أنّ هذه الشجرة المغصوبة المعلومة بالإجمال تکون مضمونة وتکون منافعها حتی المتجددة أیضاً مضمونة، هذه الأحکام والآثار الشرعیة للمعلوم بالإجمال یجب ترتیبها علی کل واحدٍ من الطرفین تحصیلاً للموافقة القطعیة لمقتضی العلم الإجمالی؛ لأننا نعلم إجمالاً بغصبیة إحدی الشجرتین، ومن أحکام الغصب ضمان الشجرة وضمان منافعها حتی المتجددة، فلابدّ من ترتیب هذه الأحکام التکلیفیة والوضعیة علی کل واحدٍ من الطرفین لاحتمال أن یکون هو المغصوب، هو یرید أن یثبت حرمة التصرّف فی الشجرة عن هذا الطریق، وإلاّ هو لیس غافلاً عن أنّ کبری هذا الحکم الشرعی غیر متحققة ولا نحرزها فی المقام، صحیح، لا نحرز أنّ هذه الثمرة التی نرید أن نثبت الضمان فیها ونثبت حرمة التصرّف فیها..... لا نحرز أنّها ثمرة لشجرةٍ مغصوبةٍ، وهذا لا یخفی علیه، وإنّما هو یرید أن یقول: أنّ الغصبیة هی تمام الموضوع للحکم بضمان الشجرة وضمان منافعها حتی المتجددة، وکل الآثار التی یکون تمام موضوعها هو المعلوم بالإجمال یجب ترتیبها علی کل واحدٍ من الطرفین تحصیلاً للموافقة القطعیة باعتبار أنّ العلم الإجمالی منجّز ولابدّ من موافقته القطعیة، ولا تکون موافقته القطعیة إلاّ بترتیب هذه الآثار علی کل واحدٍ من الطرفین.

ص: 465

وأمّا الجواب الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) عن الحکم التکلیفی، الذی ذکر بأننا لا نتعقّل ثبوت الملاک مع عدم ثبوت الحکم، والحکم بحسب الفرض، هو اعترف بأنّه لا یُعقل ثبوته قبل وجود الثمرة، السید الخوئی(قدّس سرّه) یقول أنّ الملاک أیضاً لا یُعقل ولا معنی لثبوته؛ بل أنّ حاله حال الحکم الشرعی کما لا معنی لثبوته قبل موضوعه، الملاک أیضاً لا یکون ثابتاً قبل وجود موضوعه، مسألة امتناع فعلیة الحکم قبل تحقق موضوعه، المحقق النائینی(قدّس سرّه) صرّح بذلک وقال لا سبیل لإنکاره، أو أنّ إنکاره مکابرة، وإنّما هو یرید أن یقول أنّ ثبوت وجوب الاجتناب عن الثمرة بعد تحققها لا یحتاج إلی تشریعٍ جدید، وإنّما هو یثبت بنفس الحکم الثابت سابقاً الذی هو وجوب الاجتناب عن الأصل، أی الشجرة، نفس وجوب الاجتناب عن الشجرة ولو باعتبارها طرفاً للعلم الإجمالی یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن الثمرة بعد تجددها، هذا هو مدّعاه، أنّه یثبت وجوب الاجتناب عن الثمرة بعد تحققها بنفس وجوب الاجتناب عن الشجرة، فکأنّ وجوب الاجتناب عن الشجرة یتّسع لیشمل الثمرة باعتبار أنّ الثمرة مرتبة من مراتب وجود الشجرة، فیجب الاجتناب عن الثمرة؛ لأنّها من شئون الاجتناب عن الشجرة، وهذا هو معنی التبعیة، أنّ الاجتناب عن الشجرة لا یکون إلاّ بالاجتناب عنها وعن منافعها حتی المتجددة، فإذا لم یجتنب عن المنافع المتجددة کأنّه لم یجتنب عن الشجرة، والمفروض أنّ وجوب الاجتناب عن الشجرة متحقق وثابت ولا إشکال فیه؛ لأنّه ثبت بعد وجود الشجرة بحسب الفرض، فوجوب الاجتناب هذا یتسع باعتبار وجود مرتبة من مراتب الاجتناب عن الشجرة وهی الاجتناب عن الثمرة بعد فرض تحققها وهذا ما یرید أن یثبته، ومنه یظهر أنّه لا داعی لدلیله الذی ذکره لإثبات الحکم التکلیفی بالنسبة إلی الثمرة الذی وجوب الاجتناب عن الثمرة... لا داعی للدلیل الذی هو مسألة التمسّک بالملاک حتّی یرد علیه اعتراض السید الخوئی(قدّس سرّه) الذی یرجع إلی أنّه لا طریق لنا لإحراز الملاک إلاّ من خلال الحکم، فإذا لم یکن الحکم ثابتاً قبل وجود الشجرة کیف نحرز وجود الملاک ؟ لعلّه هذا مقصوده.

ص: 466

أقول: المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یحتاج إلی التمسّک بالملاک لإثبات وجوب الاجتناب عن الثمرة؛ بل أنّ مدّعاه الذی بیّناه هو یکفی لإثبات وجوب الاجتناب عن الثمرة. بناءً علی التبعیة بالمعنی المتقدّم للتبعیة؛ حینئذٍ نفس وجوب الاجتناب عن الشجرة یتّسع کلّما تحقق موضوع جدید للثمرة، فیثبت بنفس ذاک ولا یحتاج إلی تشریع جدید، هذا هو الذی یدّعیه وهو یثبت مقصوده ویتنجّز وجوب الاجتناب عن الثمرة بعد تحققها بنفس العلم الإجمالی الأوّل، فلا یحتاج إلی التمسّک بالملاک، وإن کان ذکر ذلک فی کلا تقریریه. ویتبیّن من هذا أنّ الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یجری إلاّ فی مثال العلم الإجمالی بغصبیة إحدی الشجرتین ووجوب الاجتناب عن الثمرة لإحدی الشجرتین، ولا یجری فی محل الکلام، یعنی یجری فی هذا المثال وما یشابهه. وذکر أیضاً نماء الدار فی هذا المقام وصرّح بأنّ هذا من باب التبعیة، وأنّ وجوب الاجتناب عن النماء من شئون الاجتناب عن الأصل، لکن فی محل الکلام هو لا یقول بالتبعیة؛ بل صرّح بأنّه لا دلیل علی أنّ نجاسة الملاقی من باب التبعیة، وذکر الأدلّة وذکر الروایة التی نقلناها سابقاً واستشکل فی دلالتها، وإن کان احتمل وجود شیءٍ من الدلالة فیها، لکنّه بالنتیجة قال: لم ینهض دلیل واضح علی إثبات التبعیة بهذا المعنی فی محل الکلام، أی فی باب نجاسة الملاقی، وعلیه: هو بنا علی السببیة، بالنسبة إلی السببیة هذا الکلام السابق کلّه لا یجری؛ ولذا لا یمکن أن نؤاخذ المحقق النائینی(قدّس سرّه) بما ذکره فی ذاک المثال ونحاول إثباته فی محل الکلام؛ لأنّه یصرّح بالسببیة فی محل الکلام، یعنی فی ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی. هذا بالنسبة إلی المقام الأوّل، وإلی هنا نفرغ عن المقام الأوّل وهو تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی الأوّل.

ص: 467

المقام الثانی: فی أنّه بعد الفراغ عن عدم تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی بالعلم الإجمالی الأوّل، هل یمکن إثبات تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی بعلمٍ إجمالیٍ آخر، أو بالعلم الإجمالی الثانی علی ما ذکرنا فی بدایة هذا البحث ؟ لأننا قلنا أنّ هناک علمین إجمالیین لا یمکن إنکارهما، أحدهما: العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین. هذا العلم الإجمالی بعد فرض الملاقاة لأحد الطرفین سوف یولّد علماً إجمالیاً ثانیاً طرفاه هما الملاقی والطرف الآخر، وهذا علم إجمالی وجدانی لا یمکن إنکاره بعد تحقق الملاقاة، یعنی لاقی الثوب أحد الإناءین، فأنا أعلم إجمالاً إمّا الثوب نجس، وإمّا أنّ الطرف الآخر هو النجس؛ لأنّ النجاسة فی الواقع بالعلم الإجمالی الأوّل إن کانت واقعة فی الملاقی، أی فی الطرف الأوّل الذی لاقاه الثوب، إذن: الثوب نجس؛ لأنّه بالملاقاة یتنجّس، فعلی تقدیر أن تکون النجاسة فی الطرف الأوّل، أی الملاقی، إذن: الملاقی الذی هو الثوب نجس، وعلی تقدیر أن تکون النجاسة موجودة فی الطرف الآخر، إذن: الطرف الآخر یکون نجساً، إذن: أنا أعلم إجمالاً بأنّ النجاسة إمّا فی الملاقی، وإمّا فی الطرف الآخر. هذا العلم الإجمالی الثانی میزته عن العلم الإجمالی الأوّل أنّ الملاقی طرف فیه، فإذا کان هذا العلم الإجمالی تامّاً ومنجّزاً ولیس هناک ما یمنع من تنجیزه لأطرافه یثبت وجوب الاجتناب عن الملاقی، هذا وجوب الاجتناب عن الملاقی الذی عجزنا ____________ فرضاً _____________ عن إثباته بالعلم الإجمالی الأوّل أمکن إثباته بالعلم الإجمالی الثانی؛ حینئذٍ نقول: أنّ هذا العلم الإجمالی الثانی الذی یُفترض حصوله وتحققه بعد الملاقاة؛ لأنّه قبل الملاقاة لیس لدینا علم إجمالی بنجاسة الملاقی أو الطرف الآخر، بعد حصول الملاقاة وتحقق وجود الملاقی یحصل هذا العلم الإجمالی الثانی؛ حینئذٍ یقع الکلام فیما إذا کان حصول هذا العلم الإجمالی الثانی وتحقق الملاقاة مع کون الطرف الآخر داخلاً فی محل الابتلاء، یعنی الطرف الآخر داخل فی محل الابتلاء وتحققت ملاقاة الثوب لهذا الطرف الأوّل وحصل العلم الإجمالی، هذا هو محل الکلام. هنا نتکلّم عن أنّ هذا العلم الإجمالی الثانی هل ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی، أو لا ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی ؟ هذا هو محل الکلام.

ص: 468

وأمّا إذا فرضنا أنّ هذا العلم الإجمالی الثانی والملاقاة تحققت بعد خروج الطرف الآخر عن محل الابتلاء، علمت إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، هذا العلم الإجمالی الأوّل، فخرج الإناء الثانی عن محل الابتلاء، ثم لاقی الثوب الإناء الباقی تحت محل الابتلاء، فالملاقاة والعلم الإجمالی الثانی حصلا بعد خروج الطرف الآخر عن محل الابتلاء، هذه الصورة خارجة عن محل الکلام علی ما ذکروا باعتبار أنّ هذا العلم الإجمالی الثانی لا ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّه لیس علماً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیرٍ؛ لأنّه إن کان التکلیف موجوداً فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فهو غیر فعلی؛ لأنّ فعلیة التکلیف مشروطة بالدخول فی محل الابتلاء. نعم، إذا کان التکلیف موجوداً فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء یکون فعلیاً. إذن: لا علم لی بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر؛ فلذا الکلام لیس فی هذا الفرض، وإنّما الکلام فیما إذا کانت الملاقاة والعلم الإجمالی حصل مع فرض دخول الطرف الثانی کالطرف الأوّل فی محل الابتلاء، فیقع الکلام أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی، أو لا ؟

هذا الفرض عن محل الکلام صحیح وتام إذا کان الخروج عن محل الابتلاء متحققاً بالتلف، أو کان متحققاً بالتطهیر؛ حینئذٍ هذا الکلام یکون تامّاً، یعنی الطرف الآخر خرج عن محل الابتلاء بتلفه، أو خرج عن محل الابتلاء بتطهیره، هذا الکلام یکون تامّاً وهو أنّه لا علم إجمالی بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر؛ لأنّه لا معنی لثبوت التکلیف مع تلف الطرف الآخر حتّی علی تقدیر نجاسته، ولا معنی لثبوت التکلیف فی الطرف الآخر مع تطهیره؛ فلذا یصح ما قالوه من أننا حینئذٍ لا نعلم بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیرٍ، وهذا العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی لکونه طرفاً لهذا العلم الإجمالی؛ لأنّ الطرف الآخر لیس فیه تکلیف، فهو لیس علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیرٍ. وأمّا إذا کان المقصود بالخروج عن محل الابتلاء المعنی المتقدّم للخروج عن محل الابتلاء، یعنی وجوده فی مکانٍ لا یبتلی به المکلّف عادةً؛ حینئذٍ کلامهم إنّما یصح بناءً علی البحث السابق فی أنّ خروج الطرف عن محل الابتلاء بهذا المعنی هل یوجب سقوط التکلیف عنه ؟

ص: 469

وبعبارةٍ أخری: أنّ فعلیة التکلیف هل هی مشروطة بالدخول فی محل الابتلاء بهذا المعنی ؟ وأنّها تسقط عند خروجه عن محل الابتلاء ؟ یعنی کونه فی مکانٍ بعیدٍ لا یبتلی به المکلّف عادةً، هل هو مشروط بعدم خروجه عن محل الابتلاء، أو لا ؟ إذا قلنا هو مشروط کما قالوا علی ما تقدّم؛ حینئذٍ یصح کلامهم فی أنّ هذا العلم الإجمالی لیس علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر، وأمّا إذا قلنا لا، کما تقدّم؛ فحینئذٍ ما هی المشکلة فی أن یکون هذا علماً إجمالیاً بتکلیفٍ فعلیٍ علی کل تقدیر ؟

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

الکلام فی إمکان تنجیز وجوب الاجتناب عن ملاقی أحد أطراف الشبهة بالعلم الإجمالی الثانی الذی طرفاه نفس الملاقی والطرف الآخر فی العلم الإجمالی الأوّل، إذا تمّ هذا العلم الإجمالی ودفعنا ما سیأتی من الموانع التی أبرزت عن منجزیته لوجوب الاجتناب عن الملاقی؛ حینئذٍ یکون هذا وجهاً مقبولاً ولا یتوقف علی القول بالتبعیة وأمثاله ممّا ذُکر فی العلم الإجمالی الأوّل، یعنی حتی بناءً علی أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقی هو حکم مستقل غیر وجوب الاجتناب عن الملاقی، کونه حکماً مستقلاً لا یمنع من تنجیز العلم الإجمالی الثانی له؛ لأنّه طرف فی هذا العلم الإجمالی الثانی، بخلاف العلم الإجمالی الأوّل، فأنّ الملاقی لیس طرفاً فیه؛ ولذا حینما یکون وجوب الاجتناب عن الملاقی حکماً مستقلاً ____________ علی فرض أن یکون حکماً مستقلاً ____________ فهذا یقدح فی تنجیز العلم الإجمالی الأوّل له؛ لأنّه لیس طرفاً فی هذا العلم الإجمالی، بینما هو طرف فی العلم الإجمالی الثانی، فإذا تمّ هذا العلم الإجمالی الثانی؛ حینئذٍ سوف ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی حتّی إذا قلنا أنّ هذا الوجوب حکم مستقل وجدید غیر وجوب الاجتناب عن الملاقی، فالکلام فی هذا، علم إجمالی ثانٍ حصل بعد الملاقاة مع فرض دخول الطرف الآخر فی محل الابتلاء، فالطرف الآخر داخل فی محل الابتلاء، والملاقی داخل فی محل الابتلاء، فلا مشکلة فی هذا العلم الإجمالی، علم إجمالی حاصل بالوجدان بعد فرض الملاقاة، ونجاسة الملاقی للنجس قضیة واضحة ومفروغ عنها، فیحصل علم إجمالی وجدانی بنجاسة أحد الأمرین، إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر؛ حینئذٍ ینبغی أن یکون منجزاً لکلا الطرفین، من یقول بعدم تنجیزه لوجوب الاجتناب عن الملاقی یحتاج إلی بیان مانعٍ یمنع من منجزیة هذا العلم الإجمالی للملاقی، وإلاّ لو لم یکن هناک مانع، أو لم تتمّ الموانع التی سیأتی ذکرها، هذا العلم الإجمالی تام الاقتضاء لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی لکونه طرفاً فیه، ومن هنا ذُکرت عدّة وجوه لإثبات وجود المانع عن منجّزیة هذا العلم الإجمالی لوجوب الاجتناب عن الملاقی:

ص: 470

الوجه الأوّل: هو ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی رسائله، وخلاصة ما ذکره هو: أنّ الأصل المؤمّن الذی هو أصالة الطهارة فی المقام تجری فی الملاقی ولا تُعارض بأصالة الطهارة فی الطرف الآخر، فإذا تمّ ذلک سقط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لأنّ تنجیز العلم الإجمالی هو فرع تعارض الأصول فی الطرفین، فإذا جرت الأصول فی الطرفین وتعارضت وتساقطت، فالعلم الإجمالی یکون منجّزاً، أمّا إذا لم تتعارض الأصول فی الطرفین وکان أحد الطرفین لا یجری فیه الأصل والطرف الآخر یجری فیه الأصل؛ فحینئذٍ لا یکون العلم الإجمالی منجزاً بناء علی مسلک الاقتضاء؛ لأنّه بناءً علی مسلک الاقتضاء لا مانع من أن یجری الأصل فی أحد الطرفین، المشکلة فی وجود معارض له، فإذا لم یکن له معارض فلا مشکلة فی جریان الأصل فی أحد الطرفین، بخلاف القول بالعلّیة التامة، فأنّه یمنع من جریان الأصل فی أحد الطرفین ولو لم یکن له معارض، فعلی القول بالاقتضاء یقول الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) أنّ الأصل یجری فی الملاقی بلا معارض، یعنی أصالة الطهارة فیه لیست معارضة بأصالة الطهارة فی الطرف الآخر، وعللّ عدم جریان أصالة الطهارة فی الطرف الآخر بمسألة التقدّم الرتبی، بمعنی أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی هی فی طول أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّها أصل جاری فی الشک المسببی، بینما أصالة الطهارة الجاریة فی الملاقی هی أصل جاری فی الشک السببی، باعتبار أنّ الشک فی طهارة ونجاسة الملاقی مسبب عن الشک فی طهارة ونجاسة الملاقی، یعنی أننی أشک فی نجاسة الملاقی لأنّی أشک فی نجاسة ما لاقاه، فیکون الشک فی طهارة ونجاسة الملاقی شکّاً سببیاً، بینما الشک فی نجاسة وطهارة الملاقی شکاً مسببیاً، والأصل الجاری فی الشک السببی یکون حاکماً علی الأصل الجاری فی الشکّ المسببی، وهذا معناه أنّ هناک طولیة بین الأصل الجاری فی الشک المسببی وبین الأصل الجاری فی الشک السببی، بمعنی أنّ النوبة لا تصل إلی الأصل الجاری فی الشک المسببی إلاّ عند عدم جریان الأصل فی الشکّ السببی، أمّا مع جریان الأصل فی الشک السببی لا تصل النوبة إلی الأصل الجاری فی الشکّ المسببی من دون فرقٍ علی رأی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) بین أن یکون الأصلان متخالفین، أو یکونا متوافقین کما فی محل الکلام، یعنی أصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الطهارة فی الملاقی متوافقان، یقول حتّی فی هذه الحالة أصالة الطهارة فی الشک السببی حاکمة علی أصالة الطهارة فی الشک المسببی، ومن الواضح أنّ النوبة لا تصل إلی هذا الأصل المحکوم إلاّ عند عدم جریان الأصل الحاکم لوجود طولیة بینهما، وهذا ینتج أنّ النوبة لا تصل إلی أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لکون الأصل الجاری فیه أصلاً جاریاً فی الشک المسببی إلاّ عند سقوط الأصل الجاری فی الشک المسببی، إذا سقط الأصل الجاری فی الشک السببی تصل النوبة إلی الأصل فی الشک المسببی، وأمّا إذا جری الأصل فی الشک السببی؛ فحینئذٍ لا تصل النوبة إلیه أصلاً، وهذا معناه أننا عندما نرید أن نجری الأصل فی الشک المسببی لا یکون ولا یصح هذا إلاّ عند سقوط الأصل فی الشک السببی، والأصل الجاری فی الشک المسببی، أی أصالة الطهارة فی الملاقی تسقط بمعارضتها بأصالة الطهارة فی الطرف الآخر، أصالة الطهارة فی الطرف الآخر هی فی رتبة أصالة الطهارة فی الملاقی، أصلان فی رتبةٍ واحدة ولیس هناک طولیة بینهما، فیتعارضان ویتساقطان؛ وعندئذٍ تصل النوبة إلی الأصل فی الرتبة المتأخّرة التی هی أصالة الطهارة فی الملاقی، فتصل النوبة إلی الملاقی، ومن الواضح أنّه فی هذه الحالة لا معارض لأصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّ المعارض المتوهم هو اصالة الطهارة فی الطرف الآخر بحسب العلم الإجمالی الثانی، وأصالة الطهارة فی الطرف الآخر سقطت بالمعارضة مع أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّها فی رتبتها، فلا یعارض أصالة الطهارة فی الملاقی شیء.

ص: 471

إذن: العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی، أو الطرف الآخر غیر منجّز، لا ینجز وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّ الأصل المؤمّن یجری فی الملاقی بلا معارض؛ لأنّ أصالة الطهارة فی الطرف الآخر سقطت فی رتبة سابقة، فی رتبة سابقة علی جریان الأصل فی الملاقی سقطت أصالة الطهارة فی الطرف الآخر بالمعارضة مع أصالة الطهارة فی الملاقی، أصلان فی رتبةٍ واحدةٍ تعارضا وتساقطا؛ وحینئذٍ تصل النوبة إلی الأصل فی الشک المسببی الذی هو الأصل فی الملاقی، وهذا الأصل لیس معارَضَاً؛ لأنّ ما یُتخیّل کونه معارِضاً قد سقط بالمعارضة فی رتبةٍ سابقةٍ مع أصالة الطهارة فی الملاقی، وبهذا یثبت أنّ الأصل فی الملاقی یجری بلا معارض وهذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، هذا مانع یمنع من منجزیة العلم الإجمالی لوجوب الاجتناب عن الملاقی.

هذا الوجه الأوّل یبتنی علی القول بالاقتضاء، فعلی القول بالاقتضاء نستطیع أن نقول أن الأصل یجری فی أحد الطرفین بلا مانع، وهذا یوجب سقوط العلم الإجمالی؛ لأنّ منجزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة هو من نتائج تعارض الأصول فی الأطراف، فإذا لم تتعارض الأصول فی الأطراف بأن کان الأصل لا یجری فی أحد الطرفین فلا مانع علی القول بالاقتضاء من جریانه فی الطرف الآخر، بینما علی العلّیة التامّة نفس العلّیة التامّة یعنی أنّ الأصل ممنوع أن یجری فی أحد الطرفین حتی لو لم یکن له معارض؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة بنفسه ومن دون الاستعانة بشیءٍ آخر لوجوب الموافقة القطعیة، هو یمنع من إجراء الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین بغض النظر عن وجود معارض، أو عدم وجود معارض، فهو یبتنی علی القول بالاقتضاء، وحیث أنّ القول بالاقتضاء هو الرأی السائد والصحیح؛ فحینئذٍ ننتقل بعد ذلک إلی الاعتراضات الواردة علی هذا الوجه الأوّل لبیان المانع من التنجیز لهذا العلم الإجمالی الثانی:

ص: 472

الاعتراض الأوّل: ما یُعرف بالشبهة الحیدریة علی ما ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) وغیره، وهی الشبهة التی أثارها السید حیدر الصدر والد السید الشهید الصدر(قدّس سرّهما)، هذه الشبهة تتلخّص فی أنّه کما أنّ جریان أصالة الطهارة فی الملاقی فی طول جریان أصالة الطهارة فی الملاقی، کذلک جریان اصالة الحل فی الطرف الآخر _____________ فیما لو کان الطرف الآخر ممّا یثبت له الحل کما لو کان مأکولاً، أو مشروباً وأمثال هذه الأمور ______________ هی فی طول جریان أصالة الطهارة فیه، أی فی الطرف الآخر بنفس البیان السابق، باعتبار أنّ الشک فی حلّیة هذا الطرف وحرمته مسببّ عن الشک فی نجاسته وطهارته؛ لماذا أشک فی حلّیته وحرمته ؟ لأنی أشک فی طهارته ونجاسته، فإن کان نجساً فهو حرام، وإن کان طاهراً فهو حلال، إذن: الشکّ فی الحرمة والحلّیة هو شک مسببی، والشک فی طهارة الطرف الآخر ونجاسته هو شک سببی، وأصالة الطهارة فی الطرف الآخر أصل سببی، وأصالة الحلّیة فی الطرف الآخر أصل مسببی، وبینهما طولیة، إذن: الطولیة محفوظة، وکما هی موجودة بین أصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الطهارة فی الملاقی، کذلک هناک طولیة بین أصالة الحل فی الطرف الآخر وبین أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، هناک بینهما طولیة وبینهما حکومة من دون فرقٍ بینهما، وبناءً علی هذا؛ حینئذٍ تکون أصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الحل فی الطرف الآخر یکونان فی رتبةٍ واحدةٍ بلا طولیة فیما بینهما، وإنّما الطولیة موجودة بین أصالة الحل فی الطرف الآخر وأصالة الطهارة فی الطرف الآخر، بین أصالة الطهارة فی الملاقی وبین أصالة الطهارة فی الملاقی، أمّا أصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الحل فی الطرف الآخر، فهما فی رتبةٍ واحدة ولیس بینهما طولیة، وهذان الأصلان متعارضان، أصالة الحل فی الطرف الآخر وأصالة الطهارة فی الملاقی متعارضان؛ لأنی أعلم إجمالاً بأنه إمّا الملاقی نجس، أو الطرف الآخر حرام، هناک علم إجمالی بأنّه إمّا أن یکون هذا الملاقی نجساً، أو الطرف الآخر حرام، وهذا العلم الإجمالی واضح ووجدانی؛ لأنّ النجاسة إن کانت موجودة فی الملاقی، إذن: الملاقی نجس، وإن کانت النجاسة موجودة فی الطرف الآخر، فهو حرام، إذن: أنا أعلم تبعاً لعلمی بأنّ أحد الطرفین نجس بأنّه إمّا هذا الملاقی نجس علی تقدیر أن تکون النجاسة فی الملاقی، أو الطرف الآخر حرام علی تقدیر أن تکون النجاسة فیه.

ص: 473

إذن: هما أصلان متعارضان فی رتبةٍ واحدة، فیتساقطان، أصالة الطهارة فی الملاقی لیس معارضها فقط هو أصالة الطهارة فی الطرف الآخر حتی تقول هنا یوجد تعدد رتبة؛ لأنّ أصالة الطهارة فی الطرف الآخر فی رتبة أصالة الطهارة فی الملاقی، ولا تصل النوبة إلی أصالة الطهارة فی الملاقی إلاّ بعد سقوطهما، فإذا وصلت النوبة إلی أصالة الطهارة فی الملاقی لا معارض لها؛ لأنّ أصالة الطهارة فی الطرف الآخر سقطت بالمعارضة مع ما هو فی رتبتها، کلا، یقول: نحن نبرز معارضاً لأصالة الطهارة فی الملاقی فی رتبة أصالة الطهارة فی الملاقی ولیس فی رتبةٍ سابقةٍ علیه، وبینهما تعارض؛ للعلم الإجمالی الذی ذکرناه، فیتعارضان ویتساقطان، فتسقط أصالة الطهارة فی الملاقی، فإذن: لا یصح قول صاحب الوجه الأوّل بأنّ أصالة الطهارة فی الملاقی لیس لها معارض؛ بل لها معارض وقد أبرزنا وجود معارض لأصالة الطهارة فی الملاقی وفی رتبتها. هذا الکلام ______________ الوجه الأوّل _____________ یتم إذا لم یکن هناک أصل فی الطرف الآخر فی طول أصالة الطهارة فیه، کما إذا فرضنا أنّ الطرف الآخر لیس شیئاً یُشکّ فی حلّیته وحرمته وغیر قابل لذلک، لا یُشک فی حلّیته وحرمته من جهة النجاسة، کما إذا کان قطعة فراش لا یُشک فی حلّیته وحرمته من جهة النجاسة؛ حینئذٍ إذا لم یکن هناک أصل طولی فی طول أصالة الطهارة فی الطرف الآخر هذا الکلام یتم؛ لأنّ أصالة الطهارة فی الملاقی لیس لها معارض إلاّ أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، والمفروض أنّ أصالة الطهارة فی الطرف الآخر سقطت بالمعارضة مع أصالة الطهارة فی الملاقی، فتصل النوبة إلی أصالة الطهارة فی الملاقی بلا معارض، فیصح کلامه، لکن عندما یکون هناک أصل طولی فی الطرف الآخر فی طول أصالة الطهارة فی الطرف الآخر هذا یکون فی رتبة أصالة الطهارة فی الملاقی، کما أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی فی طول أصالة الطهارة فی الملاقی، أصالة الحلّیة فی الطرف الآخر فی طول أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، فیکونان فی رتبةٍ واحدةٍ، فیتعارضان، لما قلناه، فیتساقطان، فلا تکون أصالة الطهارة فی الملاقی بلا معارض؛ بل لها معارض، ویوجب سقوطها فلا یتمّ هذا الوجه.

ص: 474

الاعتراض الثانی: من قال أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی هی فی طول أصالة الطهارة فی الطرف الآخر ؟ نعم نسلّم أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی هی فی طول أصالة الطهارة فی الملاقی، فلا تصل النوبة إلیها إلاّ بعد سقوط أصالة الطهارة فی الملاقی، وإلاّ لا تصل النوبة إلیها، لکن من قال أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی هی فی طول أصالة الطهارة فی الطرف الآخر ؟ هذا أمر ممنوع وغیر ثابت؛ بل هما فی عرضٍ واحدٍ، أصالة الطهارة فی الطرف الآخر وأصالة الطهارة فی الملاقی فی عرضٍ واحدٍ ولا طولیة بینهما، ومن الواضح أنّ أصل الوجه یبتنی علی افتراض الطولیة بینهما، علی افتراض أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی کما هی فی طول أصالة الطهارة فی الملاقی هی أیضاً فی طول أصالة الطهارة فی الطرف الآخر. إذن: فی رتبة جریان أصالة الطهارة فی الطرف الآخر لا مجال لجریان أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّها أیضاً فی طولها، کما لا مجال لجریانها عندما تجری أصالة الطهارة فی الملاقی کذلک عندما تجری أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، لا مجال لجریان أصالة الطهارة فی الملاقی.

إذن: اصل الوجه مبنی علی افتراض الطولیة بین أصالة الطهارة فی الملاقی وبین أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، فإذا کانت هناک طولیة، فالنوبة لا تصل إلی أصالة الطهارة فی الملاقی إلاّ بعد سقوط أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، فإذا سقطت أصالة الطهارة فی الطرف الآخر بالمعارضة مع أصالة الطهارة فی الملاقی تصل النوبة إلی أصالة الطهارة فی الملاقی بلا معارض، فیتم هذا الوجه. أمّا إذا أنکرنا الطولیة، وقلنا أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی هی فی رتبة وفی عرض أصالة الطهارة فی الطرف الآخر وإن کانت فی طول أصالة الطهارة فی الملاقی؛ حینئذٍ فی عرضه، أصلان متعارضان فی رتبةٍ واحدة، فیتساقطان.

ص: 475

وبعبارةٍ أخری: أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی معارضة بأصالة الطهارة فی الطرف الآخر، وهذه المعارضة توجب سقوط أصالة الطهارة فی الملاقی، وبالتالی تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الاجتناب عن الملاقی. هذا الاعتراض الثانی وهو مبنی علی إنکار الطولیة بین أصالة الطهارة فی الملاقی وبین أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، کلاهما فی عرضٍ واحدٍ، فیتعارضان ویتساقطان.

الاعتراض الثالث: هنا ترقّی أکثر، وهو إنکار الطولیة بین أصالة الطهارة فی الملاقی وبین أصالة الطهارة فی الملاقی، لیس هناک طولیة بین أصالة الطهارة فی الملاقی وبین أصالة الطهارة فی الملاقی، إمّا بدعوی کونهما متوافقین کما هو کذلک، ونبنی فی الأصول المتوافقة بأنّها لا توجد حکومة فیما بینها، بمعنی أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی لیست حاکمة علی أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّ منشأ الطولیة هو الحکومة، أنّ هذا حاکم علی هذا ورافع لموضوعه تعبّداً، ومن الواضح أنّه مع جریان الأصل الحاکم لا مجال لجریان الأصل المحکوم، فتتحقق الطولیة علی اساس أنّ الأصل فی الملاقی حاکم علی الأصل فی الملاقی، یعنی یکون رافعاً لموضوعه، فلا معنی لجریانه مع جریان الأصل الحاکم. إذن: إنّما یُعقل جریان الأصل المحکوم إذا لم یجرِ الأصل الحاکم، فتحصل الطولیة بینهما، فإذن: الطولیة مبنیة علی الحکومة، فإذا أنکرنا حکومة الأصل الجاری فی السبب علی الأصل الجاری فی المسبب إذا کانا متوافقین؛ فحینئذٍ یثبت الاعتراض الثالث، حیث الاعتراض الثالث یقول: الأصلان فی محل الکلام، یعنی أصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الطهارة فی الملاقی أصلان متوافقان ولا حکومة بین الأصلین المتوافقین ولا طولیة بینهما، إمّا إنکار الطولیة فی الاعتراض الثالث یکون من هذه الجهة، أی لکونهما متوافقین، وإمّا أن یُذکر سبباً آخر لإنکار الطولیة، وحاصله: هو إنکار أن یکون الأصل الجاری فی الشکّ السببی حاکماً علی الأصل الجاری فی الشک المسببی، لکن لا بقولٍ مطلقٍ، نعم، هذا قد یکون مسلّماً فی مثل الاستصحاب، الاستصحاب الجاری فی الشک السببی والاستصحاب الجاری فی الشکّ المسببی، یمکن هناک أن یقال أنّ الاستصحاب الجاری فی الشکّ السببی حاکم علی الاستصحاب الجاری فی الشک المسببی، لکن فیما نحن فیه نحن لا نتکلّم عن الاستصحاب، وإنّما نتکلّم عن أصالة الطهارة، أصالة الطهارة فی الملاقی، وأصالة الطهارة فی الملاقی، هل بینهما طولیة، وحکومة ؟ هل تکون أصالة الطهارة فی الملاقی حاکمة علی أصالة الطهارة فی الملاقی، بقطع النظر عن مسألة توافقهما، حتّی لو کانا ____________ فرضاً _____________ متخالفین، هل یکون حاکماً علیه، أو لا ؟ هذا محل تأمّل، باعتبار أنّ الحکومة إمّا أن تکون بملاک الرفع التعبّدی لموضوع الأصل المحکوم، أی أن یکون الأصل الحاکم رافعاً لموضوع الأصل المحکوم تعبّداً، فیکون حاکماً علیه، وإمّا أن یکون ملاکها النظر، أی أن یکون الدلیل ناظراً إلی دلیلٍ آخر ویتصرّف فیه توسعة وضیقاً، فیکون حاکماً علیه، هذان الملاکان غیر موجودین فی محل الکلام، الحکومة بملاک الرفع التعبّدی لموضوع الأصل الآخر یمکن تصوّره فی الاستصحاب، بأن یقال أنّ المجعول فی الاستصحاب هو الیقین السابق والعلم، وهذا الیقین والعلم یکون رافعاً للشک الذی هو موضوع الأصل المحکوم تعبّداً؛ لأنّ الاستصحاب فی الشکّ المسببی موضوعه الشکّ، فإذا کان هناک یقین بالسبب، وإذا کان هناک علم تعبّداً بالسبب، جعل الیقین وجعل العلم تعبّداً یکون رفعاً لموضوع الاستصحاب الجاری فی الشکّ المسببی تعبّداً، فیتحقق الرفع التعبّدی لموضوع الأصل المحکوم، وهذا ملاک للحکومة، لکن هذا غیر متصوّر فی محل الکلام؛ لأننا نتکلّم عن أصالة الطهارة، والمجعول فی أصالة الطهارة لیس هو الیقین؛ إذ لیس هناک یقین حتّی یکون المجعول فیها هو الیقین، لیس هناک مجال لافتراض أنّ أصالة الطهارة الجاریة فی الشک السببی تکون رافعة لموضوع أصالة الطهارة الجاریة فی الملاقی؛ لأنّ أصالة الطهارة الجاریة فی الملاقی لا تقول بأنّک علی یقین من الطهارة، أصلاً لسانها لیس لسان جعل الیقین، وإنّما لسانها لسان البناء العملی علی الطهارة، وهذا یختلف عن الاستصحاب؛ لأنّ المجعول فیه هو الیقین، أو لا أقل احتمال ذلک فیه، لکن فی أصالة الطهارة لا یوجد هذا الاحتمال، لیس المجعول فیها هو الیقین حتّی نقول أنّ هذا رفع تعبّدی لموضوع أصالة الطهارة فی الملاقی، فتتحقق الحکومة، إذن: هذا الملاک الأوّل للحکومة غیر متحقق، والملاک الثانی للحکومة هو النظر، وأیضاً هو غیر متحقق هنا، أصالة الطهارة فی الملاقی ناظرة إلی أصالة الطهارة فی الملاقی. لا یوجد هکذا نظر؛ لأنّ کلاً منهما ثابت بدلیلٍ واحدٍ، أصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الطهارة فی أیّ شیءٍ نشکّ فی طهارته ونجاسته، کلّه یثبت بدلیلٍ واحدٍ وهو دلیل أصالة الطهارة، دلیل أصالة الطهارة لیس له نظر إلی أفراده، بمعنی أنّه فی هذا الفرد هو ینظر إلی الفرد الآخر، هذا لا معنی له، قد نقول بأنّ أصالة الطهارة ناظرة إلی الأحکام الأولیة مثلاً، لکن أن تکون أصالة الطهارة فی هذا الفرد ناظرة إلی أصالة الطهارة فی الفرد الآخر مع کونهما لدلیلٍ واحدٍ، هذا أمر لا یصح التفوّه به فی محل الکلام، فالنظر أیضاً غیر متحقق، فإذا لم یکن متحققاً، فکلا ملاکی الحکومة فی محل الکلام غیر متحقق، وقد عرفنا وقلنا أنّ الطولیة منشأها الحکومة، وأنّها تبتنی علی حکومة أحد الأصلین علی الأصل الآخر، فتکون بینهما طولیة، فإذا أنکرنا الحکومة فی محل الکلام؛ فحینئذٍ لا طولیة بین أصالة الطهارة فی الملاقی وبین أصالة الطهارة فی الملاقی، وهذا أیضاً یوجب إبطال هذا الوجه؛ لأنّه یفترض الطولیة بینهما، وأصالة الطهارة فی الملاقی هی فی رتبة أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، فتکون هناک طولیة بین أصالة الطهارة فی الطرف الآخر وبین أصالة الطهارة فی الملاقی.

ص: 476

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

کان الکلام فی الاعتراض الثالث علی الوجه الأوّل لإثبات عدم منجزیة العلم الإجمالی الثانی، وبالتالی عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، أنّ هذا الوجه یتوقف علی الطولیة بین الأصل الجاری فی الملاقی وبین الأصل الجاری فی الملاقی، الوجه الأوّل یتوقف علی هذه الطولیة لإثبات الطولیة بین الأصل الجاری فی الملاقی وبین الأصل الجاری فی الطرف الآخر؛ لأنّ الأصل الجاری فی الطرف الآخر، والأصل الجاری فی الملاقی هما فی رتبةٍ واحدةٍ، فإذا کان الأصل الجاری فی الملاقی متأخّر رتبة عن الأصل الجاری فی الملاقی، فیکون الأصل الجاری فی الملاقی متأخّر رتبة عن الأصل الجاری فی الطرف الآخر، فتکون هناک طولیة بین الأصل الجاری فی الملاقی والأصل الجاری فی الطرف الآخر، هناک طولیة وترتب، ذاک رتبته متقدمة علی رتبة هذا، فلا تصل النوبة إلی الأصل الجاری فی الملاقی، إلاّ إذا سقط الأصل الجاری فی الطرف الآخر، ویسقط الأصل الجاری فی الطرف الآخر بالمعارضة مع الأصل الجاری فی الملاقی، فإذا سقطا تصل النوبة إلی الأصل الجاری فی الملاقی، فیجری بلا معارض؛ لأنّ معارضه سقط فی رتبةٍ سابقةٍ، والأصل الجاری فی الملاقی لیس موجوداً فی تلک الرتبة حتی یدخل فی المعارضة ویسقط، وإنما النوبة تنتهی إلیه بعد سقوط الأصل الجاری فی الطرف الآخر بالمعارضة مع الأصل الجاری فی الملاقی. إذن: هذا الوجه یعتمد علی وجود طولیة بین الأصل الجاری فی الملاقی وبین الأصل الجاری فی الملاقی، والاعتراض الثالث یقول لا توجد طولیة بینهما حتی إذا کانا مختلفین، لا توجد طولیة فی محل الکلام، یعنی بین أصالة الطهارة الجاریة فی الملاقی وبین أصالة الطهارة الجاریة فی الملاقی. لا طولیة بینهما، إمّا بأن نلتزم کلّیاً بشکل عام أن الأصول المتوافقة لا توجد طولیة ولا توجد حکومة فیما بینها، وهذان الأصلان متوافقان، أصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الطهارة فی الملاقی متوافقان، وإمّا أن نقول لا طولیة ولا حکومة بینهما فی خصوص محل الکلام وإن کانا مختلفین، أی بقطع النظر عن التوافق؛ وذلک لما قلناه من أنّ الحکومة تکون ثابتة بأحد ملاکین، إمّا ملاک الرفع التعبّدی لموضوع المحکوم، وإمّا بملاک النظر، أی أن یکون الدلیل الحاکم ناظراً إلی الدلیل المحکوم، وکلٌ من هذین الملاکین غیر متوفر فی محل الکلام، أمّا الأوّل فغیر متوفر لما قلناه فی الدرس السابق من أنّ أصالة الطهارة لیس المجعول فیها هو العلم والیقین حتّی یقال أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی لمّا کان المجعول فیها هو العلم والیقین، فهو یرفع موضوع أصالة الطهارة فی الملاقی تعبّداً، فیکون حاکماً علیه، هذا شیء یمکن افتراضه فی الاستصحاب، الاستصحاب فیه یقین وفیه شک لاحق، فیمکن فرض أنّ المجعول فیه هو الیقین، أمّا أصالة الطهارة فلیس المجعول فیها هو الیقین، وأمّا الملاک الثانی، فأیضاً کذلک؛ لأنّه لا نظر فی دلیل أصالة الطهارة فی الملاقی إلی أصالة الطهارة فی الملاقی، یعنی هذا النظر غیر متصوّر؛ لأنّ النظر إنّما یکون بین دلیلین منفصلین مستقلّین، وأحد الدلیلین ینظر إلی الدلیل الآخر، (لا ربا بین الوالد والولد) ینظر إلی أدلّة تحریم الربا، هناک دلیلان منفصلان مستقلان أحدهما ینظر إلی الآخر ویتصرّف فیه توسعةً أو ضیقاً، وفی محل الکلام لیس لدینا أدلّة متعددة، وإنّما لدینا دلیل واحد وهو دلیل أصالة الطهارة، هذا یُطبَق علی الملاقی ویُطبّق علی الملاقی، لا معنی لأن نقول أنّ هذا الدلیل بتطبیقه علی بعض موارده یکون حاکماً علی الموارد الأخری، هذا غیر متصوّر، أن یکون الدلیل حاکماً علی نفسه، بالنتیجة سوف یکون نفس دلیل أصالة الطهارة حاکماً علی ماذا ؟ لیس هناک أیّ دلیلٍ آخر، وإنّما الملاقی هو تطبیق ومورد لهذا الدلیل، کما أنّ الملاقی هو مورد لهذا الدلیل، فافتراض النظر فی المقام أیضاً غیر وارد، وعلی هذا الأساس حینئذٍ لا مجال لدعوی الحکومة ولا مجال أیضاً فی خصوص أصالة الطهارة لدعوی الطولیة، وعلی هذا الأساس یکون هذا هو الاعتراض الثالث علی الوجه الأوّل. هذه الاعتراضات الثلاثة علی الوجه الأوّل.

ص: 477

أمّا بالنسبة للاعتراض الأوّل: الذی هو الشبهة الحیدریة علی ما عُبّر عنها، الظاهر أنّ هذه الشبهة عندهم شبهة تامّة، وهذا الاعتراض الأوّل علی الوجه الأوّل یکون تامّاً، المحقق العراقی(قدّس سرّه) اعترف أنّه تام. نعم قال: هو تام بناءً علی مسلک الاقتضاء، ولا مناص عن هذا الإشکال، وهو صحیح؛ لأننا قلنا أنّ هذه الشبهة إنّما تأتی بناءً علی مسلک الاقتضاء، السید الخوئی(قدّس سرّه) أیضاً أجاب بهذه الشبهة عن الوجه الأوّل. هذا الاعتراض علی الوجه الأوّل کان خلاصته فیما یرتبط بمحل الکلام هو أنّ الغرض من هذا الإشکال هو إبراز معارض لأصالة الطهارة فی الملاقی یکون فی عرضه، یعنی الشیخ الانصاری(قدّس سرّه) کان یقول أنّ أصالة الطهارة فی الطرف الآخر وأصالة الطهارة فی الملاقی تتعارضان وتتساقطان فتصل النوبة إلی أصالة الطهارة فی الملاقی بلا معارض، فیجری الأصل فیه بلا معارض، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لم یستطع أن ینجّز الملاقی، والغرض من الإشکال هو إبراز وجود معارض لأصالة الطهارة فی الملاقی وفی رتبته وفی عرضه وهو أصالة الحلّیة فی الطرف الآخر؛ لأنّ أصالة الحلّیة فی الطرف الآخر فی رتبة أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّها هی أیضاً متأخرة رتبةً عن أصالة الطهارة فی الطرف الآخر؛ لما قلناه من أنّ الشکّ فی الحلّیة والحرمة فی الطرف الآخر هو مسبَّب عن الشک فی الطهارة والنجاسة، فأصالة الطهارة الجاریة فی الشک السببی تکون متقدّمة علی رتبة أصالة الحلّیة الجاریة فی الشک المسبّبی، إذن: أصالة الحلّیة فی الطرف الآخر متأخرّة رتبةً عن أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، کما أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی متأخّرة عن أصالة الطهارة فی الملاقی، وهذا معناه أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الحلّیة فی الطرف الآخر هما فی رتبةٍ واحدةٍ وبینهما تعارض کما قلنا؛ لأننا نعلم إجمالاً بأنّه لا یمکن أن نلتزم بجریان أصالة الطهارة فی الملاقی وبجریان أصالة الحلّیة فی الطرف الآخر، هذا غیر معقول؛ لأننا نعلم بأنّ أحدهما مخالف للواقع، النجاسة إن سقطت فی الملاقی، فالملاقی نجس، وإن سقطت النجاسة فی الطرف الآخر فهو ممّا یحرم أکله، أو یحرم شربه، فإذن: نحن نعلم إجمالاً بنجاسة هذا الملاقی، أو حرمة الطرف الآخر، وهنا لا یمکن إجراء الأصول المؤمّنة فی کلا الطرفین؛ لأنّ فیه مخالفة قطعیة للمعلوم بالإجمال، فیتعارضان، فیتساقطان، فلا تبقی لدینا أصالة طهارة فی الملاقی. هذا هو الغرض منه.

ص: 478

لکن فی الشبهة ذُکر شیء آخر غیر هذا أیضاً، وجُعل أیضاً إشکالاً علی الوجه الأوّل غیر مسألة إبراز المعارض لأصالة الطهارة فی الملاقی ویکون فی عرضه، ذُکر محذور آخر وحاصل هذا المحذور هو: أنّه ذُکر فی أصل الشبهة بأنّ أصالة الحلّیة فی کلٍ من الطرفین، یعنی فی الملاقی وفی الطرف الآخر، أصالة الحلّیة فی الطرفین هی وفی رتبةٍ متأخّرةٍ عن أصالة الطهارة فیهما، یعنی حتّی فی الملاقی ولیس فقط فی الطرف الآخر، الشک فی حلّیة الملاقی مسبب عن الشک فی طهارته کما أنّ الشک فی حلّیة الطرف الآخر مسبب عن الشک فی طهارته. إذن: الأصل الجاری فی الحلّیة هو متأخر رتبة عن الأصل الجاری فی الشک السببی. إذن: أصالة الحلّیة فی الملاقی متأخّرة رتبة عن أصالة الطهارة فیه، وأصالة الحلّیة فی الطرف الآخر متأخّرة رتبة عن أصالة الطهارة فیه. إذن: أصالة الحلّیة فی الطرفین هما فی رتبةٍ متأخرةٍ عن أصالة الطهارة فیهما، وحیث أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی فی نفس الرتبة، یعنی فی رتبة أصالة الحلّیة فی الطرفین؛ لأنّ أصالة الحلّیة فی الملاقی هی أیضاً متأخّرة رتبة عن أصالة الطهارة فی الملاقی، أصالة الطهارة فی الملاقی فی رتبةٍ متقدّمةٍ وفی رتبة متأخّرة عنها تقع هذه الأصول الثلاثة، أصالة الحلّیة فی هذا الطرف، وأصالة الحلّیة فی هذا الطرف وأصالة الطهارة فی الملاقی، کلّها فی رتبةٍ واحدةٍ، هذه الأصول الثلاثة متعارضة وتسقط، یعنی لیس الساقط هو فقط أصالة الطهارة فی الملاقی وأصالة الحلّیة فی الطرف الآخر؛ بل حتّی أصالة الحلّیة فی الملاقی أیضاً تسقط بالمعارضة؛ لأنّها أصول فی عرضٍ واحدٍ وفی رتبةٍ واحدةٍ ولا یمکن الالتزام بجریانها جمیعاً؛ لأنّها مخالفة قطعیة للمعلوم بالإجمال، أن نلتزم بحلّیة هذا الطرف وحلّیة هذا الطرف وطهارة الملاقی، هذا غیر ممکن؛ لأنّه مخالف للمعلوم بالإجمال، فتتعارض الأصول الثلاثة وتتساقط. إذا سقطت أصالة الطهارة فی الملاقی بالمعارضة مع أصالة الحلّیة فی الملاقی وأصالة الحلّیة فی الطرف الآخر؛ حینئذٍ بناء علی فکرة الطولیة والترتب تصل النوبة إلی أصالة الحلّیة فی الملاقی؛ لأنّ أصالة الحلّیة فی الملاقی هی فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عن أصالة الطهارة فی الملاقی، نحن نشک فی حلّیة الملاقی وحرمته لأننا نشک فی طهارته ونجاسته، إذن: الأصل الجاری فی الحلّیة هو أصل مسببی، والأصل الجاری فی الطهارة هو أصل سببی، والأصل السببی متقدّم رتبة عن الأصل المسببی، وهذا الأصل السببی الذی هو أصالة الطهارة فی الملاقی سقط بالمعارضة مع أصالة الإباحة فی الملاقی وأصالة الإباحة فی الطرف الآخر، وسقطت هذه الأصول الثلاثة بالمعارضة، تصل النوبة إلی اصالة الإباحة فی الملاقی ولیس له معارض بعد سقوط ما یعارضه فی المرتبة السابقة. نفس الفکرة نطبّقها علی هذا؛ وحینئذٍ لابدّ من الالتزام بجریان أصالة الإباحة فی الملاقی، وسوف تکون النتیجة أنّ الملاقی یحل شربه لجریان أصالة الحلّیة فیه، لکن لا یجوز الوضوء به؛ بل لا یجوز کل الأمور المشروطة بالطهارة فیه؛ لأنّ أصالة الطهارة فیه سقطت بالمعارضة مع تلک الأصول، فإذا کان ماءً مثلاً، یحل شربه لکن لا یجوز الوضوء به، وهذه نتیجة غریبة لا قائل بها، ومن الصعب الالتزام بها، وهذا إشکال آخر سُجّل علی الوجه الأوّل المبنی علی فکرة الطولیة بین هذه الأصول وأنّ الأصل الطولی لا یدخل طرفاً فی المعارضة مع الأصول الموجودة فی الرتبة السابقة.

ص: 479

الظاهر أنّ الاعتراض الأوّل تام، بمعنی أنّه یمکن أن یُلتزم به کاعتراضٍ وإیرادٍ علی الوجه الأوّل الذی ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) لإثبات جریان أصالة الطهارة فی الملاقی بلا معارض وأنّ العلم الإجمالی الثانی لا ینفع لتنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی.

وأمّا الاعتراض الثانی فکان یقول: سلّمنا وجود طولیة بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الملاقی، لکن من قال أنّ هناک طولیة بین الأصل فی الملاقی وبین الأصل فی الطرف الآخر ؟ مجرّد أنّ هناک طولیة بین الملاقی والملاقی لا یعنی أنّ هناک طولیةً بین الملاقی وبین الطرف الآخر، ما هی الملازمة التی تثبت هذا ؟ هذا الاعتراض ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) فی(مصباح الأصول)، (1) حیث ذکر بأنّ دعوی الطولیة بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر مبنیة علی دعوی أنّ الأصل فی الملاقی لمّا کان متأخّراً عن الأصل فی الملاقی، ولمّا کان الأصل فی الطرف الآخر فی رتبة الأصل فی الملاقی، النتیجة هی أنّ الأصل فی الملاقی متأخّر رتبة عن الأصل فی الطرف الآخر بقانون أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین یکون متأخّراً عن الآخر، وهذان الأصلان فی الطرفین متساویان رتبةً، والأصل فی الملاقی متأخّر عن أحدهما، فقهراً یکون متأخّراً أیضاً عن الآخر، منشأ دعوی الطولیة بین الملاقی والطرف الآخر هی هذه، وهی خاضعة لهذا القانون، یقول: هذا الکلام لیس له أصل، وهو ممنوع ومحل تأمّل؛ وذلک لأنّ هذا إنّما یتم فی المتقدّم والمتأخّر من حیث الزمان، فی التقدّم والتأخّر الزمانی یکون هذا الکلام تامّاً؛ لأنّ المتأخّر من حیث الزمان عن أحد المتقدّمین زماناً قهراً یکون متأخّراً عن الآخر المتقدّم زماناً، بلا إشکال. وأمّا فی محل الکلام، فلیس لدینا تقدّم وتأخّر زمانی، وإنّما لدینا تقدّم وتأخّر رتبی من قبیل تقدّم العلّة علی المعلول، فی محل الکلام التقدّم والتأخّر الذی نتکلّم عنه هو من هذا القبیل، أنّ الأصل الجاری فی الملاقی متقدّم رتبة علی الأصل الجاری فی الملاقی؛ لعلاقة السببیة والمسببیة والعلّیة والمعلولیة، أنّ الشک فی طهارة الملاقی هو معلول ومسبب وناشئ من الشک فی طهارة الملاقی، فالأصل الذی یجری هنا یکون أیضاً متأخّر رتبة عن الأصل الجاری هناک، هذا تقدّم وتأخّر رتبی ولیس تقدّماً وتأخّراً زمانیاً، وهذا لا یجری فیه قانون أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین رتبة لابدّ أن یکون متأخّراً عن الآخر؛ لأنّ التقدّم والتأخّر الرتبی معناه بحسب الحقیقة هو کون الشیء معلولاً لشیءٍ آخر، وناشئاً منه، وهذا هل یلازمه أن یکون هذا أیضاً ناشئاً ممّا یساویه فی الرتبة ؟! وأن یکون معلولاً لما یساویه فی الرتبة ؟! لا معنی لهذا ولا توجد هکذا ملازمة، وجود العلّة وعدم العلّة فی رتبةٍ واحدةٍ والمعلول فی رتبة متأخّرة عن علته، ویوجد تقدّم وتأخّر رتبی بین العلة والمعلول، لکن هذا لا یلزم منه أن یکون المعلول متأخّراً رتبة عن عدم العلة، هو متأخّر رتبة عن وجود العلة، لکن لا یلزم منه أن یکون متأخراً رتبة عن عدم العلة؛ لأنّ کونه متأخّراً رتبة عن عدم العلة یعنی أن یکون ناشئاً من عدم العلّة، وهذا غیر معقول، وبالنتیجة هذا القانون لا یمکن تطبیقه فی محل الکلام، وإنّما یُطبّق فی التقدّم والتأخّر الزمانی، هذا القانون صحیح فی هذا المورد، وأمّا فی محل الکلام، فلا أصل له ولا اساس له، فلو سلّمنا الطولیة بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الملاقی، فلا نسلّم الطولیة بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر؛ لأنّ الأساس فی هذه الدعوی الثانیة هو هذا القانون.

ص: 480


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد سرور الحسینی الواعظ، ج2، ص417.

هذا الاعتراض الثانی تقدّم الکلام عنه مفصلاً عندما بحثنا ما هی الثمرة العملیة للقول بالاقتضاء والعلّیة، فی أول بحث تکلّمنا عنه بعد الکلام عن نفس مسلک العلّیة ومسلک الاقتضاء، کان أوّل أمر وقع الکلام فیه هو أنّه ما هی الثمرة العملیة للقول بالاقتضاء والقول بالعلّیة، ووقع الکلام بهذه المناسبة عن مسألة ما إذا کان هناک أصل طولی فی بعض أطراف العلم الإجمالی، یعنی هناک أصل یجری فی أحد الأطراف، وهذا الأصل معارض بأصلٍ فی الطرف الآخر، وهذان أصلان عرضیان، لکن أحد الأطراف فیه أصل طولی، یعنی هذا الأصل فی طول الأصل الذی یجری فی ذلک الطرف الذی هو فی عرض الأصل الجاری فی الطرف الآخر، واحد من تطبیقات هذا الأصل الطولی فی بعض أطراف العلم الإجمالی هو ما نحن فیه، فوقع الکلام فی أنّ هذا الأصل الطولی مرّة یکون موجوداً فی نفس الطرف، ومرّة یکون فی ملاقی الطرف، وأیضاً هو أصل طولی فی طول الأصل العرضی الموجود فی نفس طرف العلم الإجمالی، وقع هذا الحدیث هناک سابقاً عنه، والسید الخوئی(قدّس سرّه) ذهب هناک کما هنا إلی أنّ هذا الأصل الطولی یسقط بالمعارضة، علی الأقل فی محل الکلام، یعنی أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی تسقط بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر، السید الخوئی(قدّس سرّه) لا یلتزم بوجود طولیةٍ بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر، فالتزم بسقوط الأصل الطولی، یعنی قال بالطهارة فی الملاقی. تبیّن فی ذاک البحث أنّ الذی ذهب إلیه السید الخوئی(قدّس سرّه) الظاهر أنّه هو الصحیح باعتبار أنّ هناک معارضة حقیقیة وتکاذباً حقیقیاً بین هذا الأصل الطولی، یعنی الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر، کالتکاذب والتعارض الموجود بین الأصل فی الطرف الآخر والأصل فی الملاقی، ولا فرق بینهما، المفروض أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ إجراء أصالة الطهارة فی الملاقی، و أصالة الطهارة فی الملاقی مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، أنا أعلم بوجود نجاسةٍ فی أحد الإناءین، ثمّ لاقی الثوب أحد الإناءین، فألتزم بطهارة الثوب وطهارة الطرف الآخر، هذه مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، وهذا غیر جائز، کالبناء علی طهارة کلٍ من الطرفین الملاقی والطرف الآخر، فکما أنّه لا یجوز؛ لأنّه مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، کذلک البناء علی طهارة الملاقی وطهارة الطرف الآخر، هو مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّه بعد الملاقاة تشکّل علم إجمالی بنجاسة أحدهما، إمّا الملاقی أو الطرف الآخر، تکاذب وتعارض حقیقی، وإجراء الأصول المؤمّنة فی الطرفین مستلزم للمخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، فیقع بینهما تعارض، ولا یمنع من ذلک ما ذُکر من التقدّم الرتبی والتأخّر الرتبی، بالنتیجة هناک تعارض حقیقی بین هذین الأصلین فی هذین الطرفین لهذا العلم الإجمالی الثانی، فلابدّ من افتراض تساقط هذه الأصول باعتبار التعارض؛ وحینئذ لا یکون الأصل الجاری فی الملاقی بمعزل عن هذا التعارض والتساقط؛ بل هو یسقط ولا یسلم أصل مؤمّن فی الملاقی، خلافاً لما یقوله الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الوجه الأوّل

ص: 481

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

بقی الکلام فی الاعتراض الثالث علی الوجه الأوّل وقد تقدّم الاستدلال علیه، کان الاعتراض یرتبط بعدم وجود طولیة وعدم وجود حکومة بین الأصل فی الملاقی والملاقی، فضلاً عن الطولیة بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر، حتّی الأصل فی الملاقی لا توجد طولیة بینه وبین الأصل فی الملاقی ولا حکومة؛ لأننّا قلنا أنّ الطولیة هی من نتائج الحکومة ولا حکومة بین الأصلین لخصوصیة فی محل الکلام، وهی أنّ الأصل الذی نتکلّم عنه هو أصالة الطهارة، وأصالة الطهارة فی الملاقی لا تحکم علی أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّ ملاک الحکومة إمّا النظر وإمّا رفع الموضوع تعبّداً، وکلٌ منهما غیر ثابتٍ بالنسبة إلی أصالة الطهارة، فیکون هذا هو الاعتراض الثالث علی الوجه الأوّل، ومن هنا یظهر أنّ الوجه الأوّل غیر تام.

الوجه الثانی: للمانع عن تنجیز العلم الإجمالی الثانی لوجوب الاجتناب عن الملاقی. قلنا أنّ لدینا علم إجمالی ثانٍ، والملاقی طرف فیه، ومقتضی القواعد العامّة أنّ هذا العلم الإجمالی الثانی ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّه طرف فی هذا العلم الإجمالی، والعلم الإجمالی ینجز کلا الطرفین، هذه القاعدة الأوّلیة، فهل هناک ما یمنع من هذا التنجیز ؟ قلنا أنّ المانع قد یبیّن بوجوه، الوجه الأوّل لبیان المانع تقدّم.

الوجه الثانی: لبیان المانع، وهو ما عن المحقق النائینی(قدّس سرّه)، ذُکر فی تقریرات درسه بیان المانع بهذا الشکل: (1) أنّ العلم الإجمالی الثانی یشترک مع العلم الإجمالی الأوّل فی طرفٍ وهو الطرف الآخر، فالطرف الآخر طرف فی العلم الإجمالی الأوّل، وهو طرف فی العلم الإجمالی الثانی، إذن: هذان علمان إجمالیان یشترکان فی طرفٍ؛ وحینئذٍ یدخل فی کبری کلّیة یذکرها المحقق النائینی(قدّس سرّه) وطبّقها فی محل الکلام، هذه الکبری تقول: أنّ العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً وصالحاً للتنجیز إذا کان فی بعض أطرافه ما یثبت التکلیف، سواء کان دلیلاً، أو أصلاً شرعیاً، أو حتی إذا کان أصلاً عقلیاً کقاعدة الاشتغال، وممّا یثبت التکلیف فی أحد الطرفین هو کون ذلک الطرف طرفاً لعلمٍ إجمالی ثانٍ. طبّق هذه الکبری فی محل الکلام، وذکر أنّ هذا الشیء الذی یثبت التکلیف فی أحد الطرفین حتّی لو کان أصلاً عقلیاً، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی إذا کان أحد أطرافه فیه ما یثبت التکلیف، باعتبار أنّ هذا الطرف الذی فیه ما یثبت التکلیف لا یجری فیه الأصل المؤمّن، فإذا کان أحد طرفی العلم الإجمالی یجری فیه استصحاب التکلیف، أو الأمارة علی التکلیف، فهذا یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لأنّ هذا الطرف الذی فیه ما یثبت التکلیف لا یمکن أن یجری فیه الأصل المؤمّن، فإذا لم یجرِ فیه الأصل المؤمّن جری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر بلا معارض، طبّق هذا فی محل الکلام بأن افترض أنّ کون أحد الطرفین طرفاً لعلمٍ إجمالی سابقٍ معناه أنّ هذا الطرف تنجّز فیه التکلیف فی مرحلةٍ سابقةٍ وهو الطرف الآخر فی محل کلامنا؛ لأننا قلنا أنّ الطرف الآخر طرف مشترک، یعنی یدخل طرفاً فی کلا العلمین، بالعلم الإجمالی الأوّل تنجّز التکلیف فیه فی الطرف الآخر، إذن: هذا الطرف الآخر فیه ما یثبت التکلیف وینجّزه، وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن التنجیز، فیجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض، فإذن: لا توجد مشکلة من ناحیة العلم الإجمالی الثانی؛ لأنّه لا یستطیع أن ینجّز وجوب الاجتناب فی الملاقی؛ لأنّ الملاقی یجری فیه الأصل المؤمّن بلا معارض، فنتمسّک بالأصل المؤمّن لإثبات عدم وجوب الاجتناب عنه، فالعلم الإجمالی الثانی لم ینفعنا شیئاً لإثبات التنجیز فی الملاقی؛ لأنّ المفروض فی محل الکلام أنّ الطرف الآخر کما هو طرف للعلم الإجمالی الثانی هو طرف للعلم الإجمالی الأوّل، وکونه طرفاً للعلم الإجمالی الأوّل معناه أنّه تنجز فیه التکلیف بمقتضی العلم الإجمالی بعد تعمیم هذه الکبری الکلّیة لما إذا کان ما یثبت التکلیف فی أحد الطرفین أصلاً عقلیاً کأصالة الاشتغال کما هو الحال فی المقام، العلم الإجمالی ینجّز التکلیف عقلاً فی الطرف الآخر فإذا تنجّز فیه التکلیف لا یمکن أن یجری فیه الأصل المؤمّن، فإذا لم یجرِ فیه الأصل المؤمّن جری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر بلا معارضٍ.

ص: 482


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج2، ص262 __ 263.

المحقق العراقی(قدّس سرّه) لاحظ علی هذا الوجه الثانی الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّ هذا الوجه لا ینسجم مع المسلک الذی یؤمن به المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) وهو مسلک الاقتضاء، وإنّما ینسجم مع مسلک العلّیة الذی یؤمن به المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وعدم انسجامه مع مسلک الاقتضاء باعتبار أنّه علی مسلک الاقتضاء یکفینا لإثبات عدم تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی أن نقول أنّ الأصل یجری فی الملاقی بلا معارض؛ لسقوط الأصل فی الطرف الآخر بمعارضته بالأصل فی الملاقی، الأصل فی الطرف الآخر ساقط؛ لأنّه تعارض مع الأصل فی الملاقی فی مرتبةٍ سابقةٍ، فسقط الأصل فی الطرف الآخر، فیجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، وهذا یکفی لإثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی.

أو بعبارةٍ أخری: جریان الأصل فی الملاقی بلا معارض یکفی لإثبات عدم تنجیز هذا العلم الإجمالی لوجوب الاجتناب عن الملاقی علی مسلک الاقتضاء؛ لأنّه علی مسلک الاقتضاء لا یثبت التنجیز، إلاّ إذا تعارض الأصلان فی الطرفین؛ حینئذٍ ینجّز العلم الإجمالی کلا الطرفین، أمّا إذا کان الأصل یجری فی أحد الطرفین دون الآخر یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. إذن: إثبات جریان الأصل فی الملاقی بلا معارض یکفی لإثبات عدم تنجیز العلم الإجمالی الثانی لوجوب الاجتناب عن الملاقی، وهذا یکفی فی أن نقول أنّ الأصل لا یجری فی الطرف الآخر؛ لأنّه سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، ولا یتوقف إثبات المقصود فی المقام، وهو عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، علی إسقاط اقتضاء العلم الإجمالی الثانی بالمرّة. وبعبارةٍ أخری لا یتوقف علی انحلال العلم الإجمالی الثانی، لماذا نلتزم بأنّ العلم الإجمالی الثانی لا یکون له اقتضاء التنجیز کما هو ظاهر کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) ؟ کأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یرید أن یقول أنّ العلم الإجمالی الثانی لا یبقی له اقتضاء التنجیز، وهو معنی الانحلال کما سنبیّن، یدّعی انحلال هذا العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل، فلا یبقی له اقتضاء التنجیز. المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول: لا داعی لإسقاط العلم الإجمالی الثانی عن کونه مقتضٍ للتنجیز، وإنّما یبقی علم إجمالی تام کالعلوم الإجمالیة الأخری یقتضی التنجیز، غایة الأمر أنّه اقترن بهذا المقتضی مانع یمنع من تأثیر هذا الاقتضاء فعلاً فی التنجیز، وهذا المانع هو جریان الأصل فی هذا الطرف بلا معارض، العلم الإجمالی علی مسلک الاقتضاء مقتضٍ للتنجیز إذا احتفّ بعدم المانع ویؤثر فعلاً بالتنجیز، أمّا إذا وجد المانع؛ فحینئذٍ لا یکون مؤثراً فی التنجیز، ولکن هذا لیس معناه أنّ العلم الإجمالی لیس فیه اقتضاء التنجیز؛ بل فیه اقتضاء التنجیز، لکنّ اقتضاء التنجیز لیس مؤثراً فی التنجیز فعلاً لوجود المانع، والمانع هو جریان الأصل فی هذا الطرف، أی فی الملاقی بلا معارض، وهذا یمنع من تأثیر العلم الإجمالی الثانی فی التنجیز. یقول: علی مسلک الاقتضاء لا یتوقف إثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی وإسقاط العلم الإجمالی عن تنجیزه لوجوب الاجتناب عن الملاقی...... لا یتوقف علی انحلال العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل؛ بل یمکن أن نلتزم ببقاء العلم الإجمالی الثانی علی حاله، ونلتزم ببقائه مقتضٍ للتنجیز، لکنّ وجد مانع یمنع من تأثیر هذا الاقتضاء فی التنجیز فعلاً، وهو جریان الأصل فی الملاقی بلا معارض؛ لأنّ المعارض له هو أصالة الطهارة فی الطرف الآخر وقد سقطت فی مرحلة سابقة بمعارضتها لأصالة الطهارة فی الملاقی.

ص: 483


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص359.

هذه الملاحظة للمحقق العراقی(قدّس سرّه)، کأنّه فهم من کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّه یدّعی انحلال العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل کما سنبیّن، ویُطبّق القاعدة التی تقول أنّ العلم الإجمالی ینحل، ولو انحلالاً حکمیاً بوجود ما ینجّز التکلیف فی أحد أطرافه، هذه القاعدة الکلّیة التی محل کلامنا هو أحد مصادیقها، أو أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) ادّعی أنّ محل الکلام مصداق لهذه القاعدة، القاعدة تقول: أنّ العلم الإجمالی إنّما یبقی علی تنجیزه إذا لم یکن فی أحد أطرافه ما یثبت التکلیف، أمّا إذا کان فی أحد أطرافه ما یثبت التکلیف ولو کان أصلاً عقلیاً؛ حینئذٍ ینحل هذا العلم الإجمالی ولا یکون منجّزاً ولا یکون فیه اقتضاء التنجیز؛ لأنّ العلم الإجمالی إنّما یکون له اقتضاء التنجیز إذا کان علماً بالتکلیف الفعلی المنجّز علی کل تقدیر، هذا هو الذی یکون فیه اقتضاء التنجیز علی مسلک الاقتضاء ویکون علّة للتنجیز علی مسلّک العلّیة، ومع وجود ما ینجز التکلیف فی أحد طرفیه لا یبقی لدینا علم إجمالی بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ لأنّه علی أحد التقدیرین لا یوجد تکلیف، وإنّما التکلیف محتمل فی الطرف الآخر علی التقدیر الآخر، ومن هنا یقول: إذا وُجد فی أحد طرفی العلم الإجمالی ما یثبت التکلیف، هذا العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز، یعنی لا یبقی فیه اقتضاء التنجیز، وهو معنی الانحلال، فهو یدّعی الانحلال فی المقام، وهکذا فهم منه المحقق العراقی(قدّس سرّه) انحلال العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل؛ فحینئذٍ لا یکون مؤثراً، وبالنتیجة یجوز إجراء الأصل فی الملاقی بلا معارض.

یبقی ما هو الفرق بین هذا الوجه الأوّل الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) والوجه الأوّل الذی ذکره الشیخ الأنصاری (قدّس سرّه) ؟ الفرق هو أنّ الوجه الذی ذکره الشیخ الأنصاری (قدّس سرّه) وکذا بعض الوجوه الآتیة تسلّم عدم انحلال العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل، وبقاءه علی حاله، فهو لا ینحلّ حقیقةً ولا حکماً، ویبقی فیه اقتضاء التأثیر ___________ الشیخ الأنصاری (قدّس سرّه) یبنی علی مسلک الاقتضاء _____________ غایة الأمر أنّ هذا الاقتضاء احتفّ بالمانع الذی یمنع من تأثیر هذا المقتضی فی ال_تنجیز فعلاً، والمانع هو جریان الأصل فی أحد الطرفین بلا معارض، فیبقی العلم الإجمالی علی اقتضائه ولا ینحل بالعلم الإجمالی الأوّل، ویترتّب علی هذا الوجه الأوّل أنّه لو لم تکن هناک أصول مؤمّنة شرعیة یمکن إجراءها فی الملاقی _________ فرضاً __________ حینئذٍ لا یمکن إجراء البراءة العقلیة فی هذا الطرف؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالی باقٍ علی اقتضائه للتنجیز، ومع بقاء العلم الإجمالی علی اقتضائه للتنجیز؛ حینئذٍ لا یمکن الرجوع إلی البراءة العقلیة. نعم، یمکن الرجوع إلی البراءة الشرعیة، إذا جرت أصالة الطهارة، أو أی أصلٍ شرعی فی الملاقی نلتزم به، أمّا إذا فرضنا عدم وجود أصلٍ شرعی یجری فی الملاقی؛ فحینئذٍ لا یمکن إجراء البراءة العقلیة؛ لأنّه لا یمکن إجراء البراءة فی أحد طرفی العلم الإجمالی مع فرض بقاء العلم الإجمالی علی کونه مقتضٍ للتنجیز. هذا الوجه الأوّل.

ص: 484

أمّا الوجه الثانی، فالمحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یرید أن یقول هذا الکلام، وإنّما یرید أن یدّعی انحلال العلم الإجمالی الثانی وسقوطه عن اقتضاء التنجیز بالمرّة، إذا سقط عن اقتضاء التنجیز؛ فحینئذٍ لا مانع من الرجوع حتّی إلی البراءة العقلیة؛ لأنّه لا یوجد مانعٌ من الرجوع إلی البراءة العقلیة؛ لأنّ المانع هو العلم الإجمالی، والمفروض انحلاله وسقوطه عن اقتضاء التنجیز، فلا مانع من الرجوع إلی البراءة العقلیة علی فرض عدم وجود أصول شرعیة جاریة فی محل الکلام.

علی کل حال، فی هذا الوجه الثانی المحقق النائینی(قدّس سرّه) یرید تطبیق الکبری التی یؤمن بها والتی تقول أنّ کلّ علمٍ إجمالیٍ ینحلّ یسقط عن التنجیز، فلا یکون منجّزاً إذاکان هناک ما یثبت التکلیف فی أحد طرفیه. هو یرید تطبیق هذه الکبری فی محل الکلام. فی البدایة هو عممّ هذه الکبری لما إذا کان أحد الطرفین منجّزاً عقلیاً، ولو کان هو عبارة عن کونه طرفاً لعلمٍ إجمالی آخر، هذا أیضاً بالنتیجة یکون منجّزاً لأحد الطرفین؛ لکونه طرفاً لعلمٍ إجمالیٍ آخر، فعممّها لهذا، فثبت أنّ أحد الطرفین إذا کان فیه منجزٌ عقلیٌ من هذا القبیل أیضاً یدخل فی هذه الکبری الکلّیة. ومن جهةٍ أخری یری المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّ المیزان فی مسألة انحلال العلم الإجمالی المتأخّر بالعلم الإجمالی المتقدّم هو التقدّم والتأخّر بحسب المعلوم ولیس بحسب العلم الإجمالی، إذا کان المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل متقدّماً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی، یکون العلم الإجمالی الثانی موجباً لانحلال العلم الإجمالی الأوّل، سواء کان العلم الإجمالی الثانی مقارناً للعلم الإجمالی الأوّل، أو متقدّماً علیه، أو متأخّراً عنه، لیس المیزان هو التقدّم بلحاظ العلم نفسه، وإنّما المیزان فی انحلال العلم الإجمالی المتأخّر بالعلم الإجمالی المتقدّم هو تقدّم المعلوم بالعلم الإجمالی الذی یحل الآخر، والتأخّر فی المعلوم بالعلم الإجمالی المنحل بالعلم الإجمالی الآخر، فالمهم هو المعلوم ولیس هو العلم الإجمالی نفسه؛ وحینئذٍ یتبیّن أنّ ما یتوقف علیه تمامیة کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو أمور:

ص: 485

الأمر الأوّل: تعمیم القاعدة الکلّیة التی ذکرها لما إذا کان أحد الطرفین منجّزاً باعتباره طرفاً لعلمٍ إجمالیٍ آخر.

الأمر الثانی: أنّ المیزان فی انحلال العلم الإجمالی المتأخّر بالعلم الإجمالی المتقدّم والتقدّم والتأخّر بلحاظ المعلوم لا بلحاظ العلم.

الأمر الثالث: إلحاق التقدّم والتأخّر الرتبی بالتقدّم والتأخّر الزمانی. یقول: المیزان للمعلوم الذی ذکرناه فی الانحلال لا یختص بالتقدّم والتأخّر الزمانی، لیس فقط إذا کان المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل متقدّماً زماناً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی یکون موجباً لانحلاله، أو نقول بشکلٍ عام أنّ المعلوم بأحد العلمین إذا کان متقدّماً زماناً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر، فهو یوجب انحلاله، لا یختص بالتقدّم والتأخّر الزمانی، وإنّما یشمل حتّی التقدّم والتأخّر الرتبی، إذا کان المعلوم بأحد العلمین الإجمالیین متقدّم رتبة، والمعلوم بالعلم الإجمالی الآخر متأخّر رتبة، هنا أیضاً یثبت الانحلال، ویثبت أنّ العلم الإجمالی الثانی یسقط عن التنجیز وینحلّ بالعلم الإجمالی الأوّل.

بعد ذکر هذه الأمور والتعمیمات والإضافات؛ حینئذٍ نأتی إلی محل الکلام، فی محل الکلام لدینا علم إجمالی ثانٍ، وهو العلم بنجاسة أحد الأمرین، إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، ولدینا علم إجمالی أوّل وهو العلم بنجاسة أحد الطرفین. کلامنا فی العلم الإجمالی الثانی، أنّه هل ینجّز الملاقی، أو لا ؟ هو یقول: لا ینجّز الملاقی؛ لأنّ طرفه الآخر تنجّز باعتباره طرفاً فی علم إجمالی سابقٍ، کیف ینحل العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل، والحال أنّ المیزان هو التقدّم والتأخّر بلحاظ المعلوم ؟ وفی محل الکلام لیس دائماً نستطیع أن نفترض أنّ النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل ___________ التی هی المعلوم __________ متقدّمة علی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی، لیس دائماً یُفرض التقدّم بلحاظ المعلوم، فقد یکون هناک اقتران، قد تکون نجاسة أحد الإناءین مقارنة لملاقاة الثوب لأحد الإناءین، فلا یوجد تقدّم وتأخّر بلحاظ المعلومین، لیس دائماً یُفرض أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل فی محل کلامنا متقدّم علی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی، یکون متقدّماً إذا کانت الملاقاة متأخّرة زماناً عن نجاسة أحد الإناءین، تنجّس أحد الإناءین، ثمّ بعد ذلک لاقی الثوب أحدهما، فیکون المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل. هو یقول أنّ هذا صحیح، لکنّه لیس دائماً هکذا؛ لأنّه قد یُفترض تقارن الملاقاة للنجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل، ومع التقارن لا یوجد تقدّم بلحاظ المعلومین. هو یجیب عن ذلک بالإضافة التی ذکرناها، یقول نعممّ التقدّم والتأخّر حتّی للتقدّم والتأخّر الرتبی، وفی محل الکلام حتّی إذا فرضنا عدم وجود تقدّم وتأخّر زمانی بالنتیجة المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی متأخّر رتبة عن المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّه مسبَبّ عنه، نجاسة الملاقی مسَبّبة عن نجاسة الملاقی، نجاسة الملاقی علی تقدیر نجاسته مسَببّة عن نجاسة الملاقی علی تقدیر نجاسته، فالمعلوم بالعلم الإجمالی الثانی وهو نجاسة أحد الأمرین، إمّا الطرف الآخر، أو الملاقی هی مسَبّبة عن، یعنی متأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقی.

ص: 486

أو بعبارةٍ أخری: هی متأخّرة رتبة عن النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل، فإذن: التأخّر الرتبی موجود، فإذا عممّنا القاعدة للتقدّم والتأخّر الرتبی بلحاظ المعلوم؛ حینئذٍ ینحلّ العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل تطبیقاً لتلک القاعدة؛ لأنّ القاعدة تقول أنّ أحد طرفی العلم الإجمالی إذا تنجّز ووُجد فیه ما ینجّز التکلیف، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه حتّی عن اقتضاء التنجیز. غایة الأمر أنّ تطبیقها فی المقام یحتاج إلی هذه الإضافات، أن نلتزم بالتعمیم للمنجّز العقلی، وأنّ نلتزم بتعمیم التقدّم والتأخّر فی باب انحلال علم إجمالی بعلمٍ إجمالی آخر للتقدّم والتأخّر الرتبی؛ حینئذٍ ینطبق فی محل الکلام.

هذا هو الوجه الثانی الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) لإثبات سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، أو انحلاله فی الحقیقة، وبالتالی یحقق لنا النتیجة التی نریدها وهی عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، ولا یکون هذا العلم الإجمالی الثانی منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقی وهو المطلوب فی المقام.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

الوجه الثالث: لبیان المانع من منجّزیة العلم الإجمالی الثانی لوجوب الاجتناب عن الملاقی هو ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، وحاصل ما ذکره هو أنّه یدّعی أنّ العلم الإجمالی الثانی منحل، فیسقط عن التأثیر بالعلم الإجمالی الأوّل، باعتبار أنّ هناک طولیة بینهما؛ لأنّ العلم الإجمالی الثانی فی طول العلم الإجمالی الأوّل ومتأخّر عنه رتبة، فینحل هذا العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل، ولا یُلاحظ الزمان، حتّی إذا کانا متعاصرین فی الزمان، الانحلال مبنی علی افتراض الطولیة والتقدّم والتأخّر الرتبی بینهما، ما دام أحدهما متقدّماً علی الآخر رتبة، أی ما دام نفس العلم متقدّماً علی الآخر رتبة، والثانی فی طول الأوّل، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی الثانی وسقوطه عن التأثیر، أیضاً من دون فرقٍ بین أن نقول بالاقتضاء وبین أن نقول بالعلّیة، علی مسلک الاقتضاء هو یثبت هذا الأمر وعلی مسلّک العلّیة الذی هو یختاره أیضاً یثبت سقوط العلم الإجمالی عن التأثیر والتنجیز باعتبار انحلاله حکماً بالعلم الإجمالی الأول. (1)

ص: 487


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص358.

ذکر فی مقام الاستدلال والتوضیح علی هذه النتیجة أنّه بناء علی مسلک الاقتضاء، وکون العلم الإجمالی مقتضیاً لوجوب الموافقة القطعیة ولیس علّة تامّة....بناءً علی هذا المسلک یقول: لا إشکال فی أنّ وجوب الاجتناب لا یثبت إلاّ للملاقی دون الملاقی لوضوح جریان أصالة الطهارة فی الملاقی بلا معارضٍ، بناءً علی مسلک الاقتضاء الذی یتنجّز هو وجوب الاجتناب عن الملاقی والطرف الآخر، هذا هو الذی یتنجّز فقط بالعلم الإجمالی الأوّل دون وجوب الاجتناب عن الملاقی لجریان أصالة الطهارة فیه من دون معارضٍ، وهنا یقول: لا داعی حتّی لافتراض الطولیة بین العلمین، حتّی لو کان العلمان فی عرضٍ واحد ولا طولیة بینهما، علی مسلک الاقتضاء لا یتنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی لجریان الأصل المؤمّن فیه بلا معارض؛ لأنّ المانع من جریان الأصل علی هذا المسلک هو ابتلاء هذا الأصل بالمعارض، هذا هو المانع فی الحقیقة، وإلاّ أساساً کعلمٍ إجمالی هو لا یمنع من جریان الأصل فی أحد الطرفین، لکن الذی یمنع من جریان الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی هو ابتلائه بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر، فإذا لم یبتلِ بهذه المعارضة یجری فیه بلا إشکال، أصالة الطهارة فی الملاقی لا تبتلی بالمعارض، فیجری فیه الأصل بلا إشکال، وجریان الأصل فیه بلا معارض إنّما هو باعتبار أنّ المفروض أنّ الشکّ فی نجاسة الملاقی مسببّ عن الشک فی نجاسة الملاقی، فهناک سببیة بینهما، والأصل الجاری فی الطرف الآخر یسقط بالمعارضة مع الأصل الجاری فی الملاقی فی رتبةٍ سابقة، فی رتبةٍ سابقةٍ الأصل یسقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، وبعد سقوط الأصل فی الطرف الآخر فی تلک المرتبة؛ حینئذٍ تجری أصالة الطهارة فی الملاقی بلا معارض.

ص: 488

وبعبارةٍ أخری: فی ظرف جریان أصالة الطهارة فی الملاقی لا معارض لأصالة الطهارة؛ لأنّ أصالة الطهارة فی الطرف الآخر قد سقطت فی رتبةٍ سابقة؛ وحینئذٍ یجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، فإذن: بناءً علی القول بالاقتضاء لا مشکلة فی جریان الأصل فی الملاقی وسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، فلا یجب الاجتناب عن الملاقی. یقول: بناء علی مسلک الاقتضاء حینئذٍ لا داعی لإتعاب النفس وإثبات الانحلال ولحاظ الطولیة بین العلمین، لا داعی لإثبات انحلال العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل ولحاظ أنّ بینهما طولیة وأنّ هذه الطولیة توجب الانحلال؛ بل حتی إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی الثانی باقٍ علی وضعه ولا ینحل، مع ذلک إذا جری الأصل فی أحد طرفیه بلا معارض؛ حینئذٍ لا مشکلة، إثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی لا یتوقف علی إثبات انحلال العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل علی مسلک الاقتضاء؛ لأنّه علی مسلک الاقتضاء لا مانع من جریان الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین إذا لم یکن له معارض، والأصل فی الملاقی لیس له معارض؛ لأنّ معارضه سقط فی مرتبةٍ سابقةٍ بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی؛ فحینئذٍ یجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، سواء انحل العلم الإجمالی الثانی بالعلم الإجمالی الأوّل، أو لم ینحل، حتی إذا لم ینحل العلم الإجمالی الثانی، لکن العلم الإجمالی الثانی هو مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعیة، فإذا احتفّ بمانعٍ، والمانع الذی یمنع من تأثیر هذا المقتضی فی وجوب الموافقة القطعیة هو جریان الأصل فی أحد طرفیه بلا معارضٍ، وهذا المانع فی المقام موجود؛ لأنّ أصالة الطهارة تجری فی الملاقی بلا معارض، فحتی لو بقی العلم الإجمالی علی حاله ولم ینحل بالعلم الإجمالی الأوّل سوف نصل إلی نفس النتیجة، وهی أنّ الأصل یجری فی الملاقی بلا معارض، فلا یجب الاجتناب عن الملاقی، وهذا معنی ما قلناه من أنّه علی مسلک الاقتضاء ما یتنجّز هو وجوب الاجتناب عن الملاقی والطرف الآخر، وأکثر من ذلک لا یتنجّز وهو وجوب الاجتناب عن الملاقی، هذا لا یتنجّز؛ لأنّه علی مسلک الاقتضاء یجری فیه الأصل بلا معارض. هذا هو الجواب. لماذا لا یتنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی ؟ لأنّ الأصل المؤمّن یجری فیه، فیؤمّن من ناحیته، ویجری فیه بلا معارض. هذا هو الجواب ولیس الجواب هو أنّ العلم الإجمالی الثانی منحلٌ بالعلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ بینهما طولیة و.....الخ، یقول هذا لا نحتاجه علی مسلک الاقتضاء.

ص: 489

وأمّا علی مسلک العلّیة التامّة التی یؤمن هو بها علی رأیه، علی هذا المسلک نفس العلم الإجمالی یمنع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین حتّی إذا لم یکن له معارض؛ لأنّه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة. یقول: أنّ الملاقی هو طرف للعلم الإجمالی الثانی، بمعنی أنّه طرف للعلم بنجاسة أحد الأمرین، إمّا الملاقی وإمّا الطرف الآخر، الملاقی بنفسه یقع طرفاً للعلم الإجمالی الثانی. الملاقی طرف للعلم الإجمالی الأوّل بالنجاسة المرددة بین الملاقی وبین الطرف الآخر؛ حینئذٍ یقول: إذا کانت هناک طولیة بین هذین العلمین، بأن کان العلم الثانی ناشئاً من العلم الأوّل وفی طوله ومسبباً عنه، إذا کانت هناک طولیة کما افترضناه فی محل الکلام إلی الآن، افترضنا أنّ العلم الإجمالی الأوّل حصل، وحصلت الملاقاة مع أحد أطرافه، فحصل العلم الإجمالی الثانی، فالعلم الإجمالی الثانی ناشئ من العلم الإجمالی الأوّل ومسببّ عنه، إذن: هناک طولیة بین العلمین، العلم الإجمالی الثانی والعلم الإجمالی الأوّل، إذا فرضنا وجود هذه الطولیة بین العلمین؛ حینئذٍ اللّازم بناءً علی هذا هو أنّه لابدّ أن یختص التأثیر والتنجیز بالعلم الإجمالی الأوّل، ویسقط العلم الإجمالی الثانی عن التأثیر والتنجیز إذا کانت هناک طولیة بین العلمین، بمعنی أنّ العلم المتأخّر رتبة وهو العلم الإجمالی الثانی فی محل کلامنا یسقط عن التأثیر والتنجیز ویکون التأثیر والتنجیز فقط للعلم الإجمالی الأوّل، والسر فی سقوطه عن التأثیر والتنجیز، أمّا بناءً علی القول بالاقتضاء فقد عرفنا أنّ السر فی سقوطه عن التأثیر هو جریان الأصل فی أحد أطرافه بلا معارض، أمّا السر فی سقوطه عن التأثیر والتنجیز بناءً علی القول بالعلّیة، فهو بسبب تنجّز التکلیف بوجوب الاجتناب عن أحد طرفیه فی مرتبةٍ سابقةٍ؛ لأنّ أحد طرفی العلم الإجمالی الثانی، والذی هو الطرف الآخر تنجّز التکلیف فیه فی مرتبةٍ سابقةٍ؛ لأنّ المفروض وجود طولیة بین العلمین، فی مرتبة العلم الإجمالی الأوّل الطرف الآخر تنجّز فی تلک المرتبة، فوجب الاجتناب عنه؛ حینئذٍ یسقط العلم الإجمالی الثانی عن التأثیر والتنجیز؛ لأنّه یعتبر فی منجّزیة العلم الإجمالی أن لا یکون مسبوقاً بمنجّزٍ آخر فی أحد طرفیه، وإلاّ یخرج عن کونه صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر؛ وحینئذٍ یرجع الشک فی الملاقی إلی الشک البدوی فی ثبوت التکلیف فیه، فیجری فیه الأصل المؤمّن، فالعلم الإجمالی الثانی یسقط عن التنجیز والتأثیر؛ لأنّه یعتبر فی کل علمٍ إجمالیٍ أن یکون صالحاً للتنجیز علی کل تقدیر، یعنی سواء کان فی هذا الطرف، أو کان فی الطرف الآخر، والعلم الإجمالی الثانی لیس هکذا؛ لأنّه علی أحد التقدیرین لا یصلح للتنجیز فی هذا الطرف؛ لأنّه تنجّز بمنجّز سابقٍ، والقاعدة تقول أنّ المنجّز لا یتنجز مرّة أخری، الطرف الآخر الذی هو طرف العلم الإجمالی الثانی تنجّز فی مرتبةٍ سابقةٍ ولیس فی زمانٍ سابقٍ؛ وحینئذٍ یستحیل أن یتنجّز مرّة أخری؛ لأنّ المتنجّز لا یتنجّز مرّة أخری، فإذن: هذا العلم الإجمالی الثانی لا ینجّز معلومه علی کل تقدیر، علی أحد التقدیرین ینجّز التکلیف فیه، لکن علی التقدیر الآخر لا ینجز التکلیف فیه؛ لأنّ التکلیف علی التقدیر الآخر تنجّز فی مرتبةٍ سابقةٍ، والمتنجّز لا یتنجّز مرّة أخری، وبهذا یسقط العلم الإجمالی عن التأثیر والتنجیز لا لقصورٍ فی نفس العلم، وإنّما القصور فی متعلّق العلم، متعلّق العلم غیر قابل للتنجّز علی أحد التقدیرین؛ لأنّه قد تنجّز فی مرتبةٍ سابقةٍ، وبهذا یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، فیجری الأصل(أصالة الطهارة) فی الملاقی بلا معارض، فجریان الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض هو من نتائج انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن التأثیر، فإذا سقط عن التأثیر؛ فحینئذٍ لا مانع من الرجوع إلی الأصل فی هذا الطرف، فهو من نتائج انحلال العلم الإجمالی الثانی وسقوطه عن التأثیر والتنجیز، بخلاف القول بالاقتضاء، علی القول بالاقتضاء هو بإجراء الأصل فی هذا الطرف بلا معارض یرید أن یحل العلم الإجمالی ویسقطه عن التأثیر والتنجیز؛ لأنّ الأصل جری فی أحد طرفیه بلا معارض، حینما نسأل القائل بالاقتضاء لماذا سقط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز؟ یقول: لأنّ الأصل جری فی أحد طرفیه بلا معارض. أمّا القائل بالعلّیة فبماذا یعللّ سقوط العلم الإجمالی ؟ لا یعللّه بجریان الأصل فی أحد الطرفین بلا معارض، وإنّما یعللّه بأنّ هذا العلم الإجمالی لیس صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر؛ لأنّه علی احد التقدیرین تنجّز معلومه فی مرحلةٍ سابقةٍ، والمنجّز لا یتنجّز، فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز ویترتب علی ذلک جریان الأصل المؤمّن فی هذا الطرف. هذا ما یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 490

مسألة الانحلال الحکمی وإجراء الأصل فی احد الطرفین حیث أنّه یکون مقبولاً علی مسلک الاقتضاء، لکن علی مسلک العلّیة التامّة لأوّل وهلة یبدو مشکلاً؛ لذا التجئ المحقق العراقی(قدّس سرّه) إلی طرح هذه الفکرة حتی یصل إلی نفس النتیجة التی یصل إلیها القائل بالاقتضاء؛ لأنّه علی القول بالعلّیة العلم الإجمالی یمنع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین ولو لم یکن له معارض؛ لأنّه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة؛ حینئذٍ کیف یسقط هذا العلم الإجمالی حکماً ؟ کیف یجری الأصل فی أحد طرفیه ؟ والمفروض أنّه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فالتجئ المحقق العراقی(قدّس سرّه) إلی إثبات الانحلال بإبراز أنّ هناک قصوراً فی أن یکون العلم الإجمالی الثانی منجّزاً، وینشأ هذا القصور باعتبار أنّ العلم الإجمالی إنّما تثبت له المنجّزیة إذا کان صالحاً للتنجیز علی کل تقدیر، یعنی سواء کان فی هذا الطرف، أو فی هذا الطرف، وهذا العلم الإجمالی الثانی لیس کذلک، فیسقط عن التنجیز، وکونه لیس کذلک لما قاله من أنّه علی أحد التقدیرین لا یکون صالحاً للتنجیز؛ لأنّ التکلیف علی ذلک التقدیر قد تنجّز فی مرتبةٍ سابقةٍ، والمنجّز لا یتنجّز. هذا خلاصة ما یُفهم من کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه). وبالتالی یسقط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز، فلا یجب الاجتناب عن الملاقی وتجری فیه أصالة الطهارة.

ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) بقطع النظر عمّا یرد علیه ممّا أورد علی الوجه الثانی، حیث هناک نقاط مشترکة بین الوجه الثانی وبین هذا الوجه الثالث......بقطع النظر عن تلک الأمور التی أوردت علی الوجه الثانی یرِد علیه أنّ نکتة ما ذکره هی دعوی أنّ المتنجّز لا یتنجّز، الشیء الذی أوجب سقوط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز والتأثیر هو أنّ هذا العلم الإجمالی لیس صالحاً للتنجیز علی کل تقدیر لأنّه علی أحد التقدیرین تنجّز التکلیف فیه والمتنجّز لا یتنجّز، هذه نکتة المسألة، هذه الدعوی فی الحقیقة یمکن أن یُلاحظ علیها أنّ التنجیز لیس بابه باب الآثار التکوینیة والظواهر الطبیعیة حتّی نطبّق علیه هذه المسألة، أنّ هذا تنجّز وحصل ووقع، فهو لا یعود مرّة أخری علی غرار __________ مثلاً _________ أنّ الموجود لا یوجد إلاّ بعد أن ینعدم، وأمثال ذلک، علی غرار أنّ الموجود لا یوجد یقال: أنّ المتنجّز لا یتنجّز، قیاساً لباب التشریعات، باب ما یدرکه العقل العملی بالأمور التکوینیة والظواهر الطبیعیة، فی الظواهر الطبیعیة یقال أنّ الموجود لا یوجد، نقیس ما نحن فیه وهو باب التنجیز علی ذاک، وهذه الطریقة لیست طریقة صحیحة للتعامل مع المسائل الفقهیة والأصولیة التی هی اعتبارات شرعیة، أو تدخل فی باب مدرکات العقل العملی، فنتعامل مع هذه الأمور الاعتباریة ومدرکات العقل العملی کما نتعامل مع الظواهر الطبیعیة والأمور التکوینیة، فکما نقول أنّ الموجود لا یوجد، کذلک نقول أنّ المتنجّز لا یتنجّز، وهذه الطریقة غیر صحیحة فی مقام الاستدلال فی هذه المسائل، أصولیة کانت، أو کانت فقهیة، علینا فی هکذا مسألة أن نعرف أنّ التنجیز هل هو حکم شرعی، أو حکم عقلی ؟ ومن الواضح أنّ الجواب هو أنّ التنجیز حکم عقلی، التنجیز معناه استحقاق العقاب علی المخالفة، وهو ممّا یحکم به العقل العملی ویستقلّ به، فلابدّ أن نرجع إلی العقل العملی ونسأله أنّ التأمین الذی تحکم به. أو بعبارةٍ أخری: أنّ العقل العملی عندما یحکم بقبح العقاب ویحکم بالتأمین، هل حکمه بالتأمین وبقبح العقاب مخصوص فقط فی موارد احتمال التکلیف الساذج البدوی ؟ العقل یحکم بالتأمین وقبح العقاب فی موارد احتمال التکلیف، لکن یمنع من إجراء الأصول ومن إجراء قبح العقاب بلا بیان إذا اقترن احتمال التکلیف بالعلم الإجمالی؛ لأنّه یری أنّ احتمال التکلیف لمّا کان مقروناً بالعلم الإجمالی، فأنّه یکون منجّزاً ویکون موجباً للموافقة القطعیة، هذا العقل الذی حکم بقبح العقاب فی موارد احتمال التکلیف الساذج البسیط غیر المقرون بالعلم الإجمالی ومنع منه فی موارد احتمال التکلیف المقرون بالعلم الإجمالی، علینا أن نسأله بأنّ احتمال التکلیف المقرون بالعلم الإجمالی إذا کان أحد طرفیه قد تنجّز بمنجّزٍ سابق، هذا هل یوجب رفع التنجیز الذی یحکم به العقل فی موارد العلم الإجمالی ؟ هل یوجب زیادة التأمین الذی یحکم به العقل فی موارد احتمال التکلیف الساذج غیر المقرون بالعلم الإجمالی، أو لا ؟ فی موارد احتمال التکلیف البدوی العقل یحکم بقبح العقاب، بناءً علی أنّ العقل یحکم بقبح العقاب بلا بیان، فی موارد احتمال التکلیف المقرون بالعلم الإجمالی لا یحکم العقل بقبح العقاب، وإنّما یحکم بالاشتغال، علینا أن نسأل أنّه فی محل کلامنا لدینا احتمال تکلیف مقرون بالعلم الإجمالی، بحسب الفرض لدینا علم إجمالی وهو العلم الإجمالی الثانی، هذا العلم الإجمالی الثانی هل حاله حال أی علم إجمالی آخر یحکم العقل فیه بالتنجیز ولا یرضی بإجراء قبح العقاب فیه، أو لا ؟ الخصوصیة الموجودة فی محل کلامنا والتی تمیّزه عن سائر العلوم الإجمالیة هی أنّه علم إجمالی، احتمال تکلیفٍ مقرون بالعلم الإجمالی، وأحد أطرافه تنجّز فی مرتبةٍ سابقةٍ، هذه هی الخصوصیة، هل هذه الخصوصیة تستدعی إثبات التأمین ؟ هل تستدعی أن یکون التأمین ثابتاً فیه کما یثبت فیه احتمال التکلیف المجرّد عن العلم الإجمالی، أو أنّها تستدعی رفع التأمین وإثبات التنجیز ؟ کما هو الحال فی العلوم الإجمالیة الأخری؛ بل اشد بنظر العقل؛ لأنّ أحد أطرافه تنجّز بمنجّزٍ سابقٍ، فکأنّه یتلقّی التنجیز لیس فقط من العلم الإجمالی، وإنّما من العلم الإجمالی الثانی وتنجیز آخر کان موجوداً فی مرتبةٍ سابقةٍ، بنظر العقل الذی هو الحاکم فی مسائل التنجیز والتعذیر واستحقاق العقاب وعدمه، العقل بنظره هل یری أنّ کون أحد أطراف العلم الإجمالی تنجّز بمنجّزٍ فی مرتبةٍ سابقةٍ، هذا أدعی لرفع الید عن التنجیز وإثبات التأمین، أو أنّ هذا یقتضی التشدد فی التنجیز ؟ وبحسب ما ندرکه بعقولنا أنّ جوابه هو الثانی، وهو أنّ هذا لا یستدعی ازدیاد التأمین، هذه لیست خصوصیة موجبة للتأمین، وإنّما علی تقدیرها تکون خصوصیة موجبة لإثبات التنجیز واشتداده، هذا هو المرجع، وإلاّ لا معنی لقیاس التنجیز فی محل کلامنا بالأمور التکوینیة والظواهر الطبیعیة حتّی یقال أنّ المتنجّز لا یتنجّز، العقل یقول لا مانع، هذا متنجّز یتنجّز بالعلم الإجمالی ویشتد التنجیز فیه.

ص: 491

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

کان الکلام فی الوجه الثالث للمحقق العراقی(قدّس سرّه)، الملاحظة الأولی تقدّمت.

قد یقال: أنّ الملاحظة الأولی لیست واردة باعتبار أنّ الکلام لیس عن جریان البراءة العقلیة فی الملاقی وعدم جریانها حتّی یقال أننا نرجع إلی العقل ونسأله هل یری جریان البراءة فی المقام، أو لا ؟ وإنّما الکلام عن جریان أصالة الطهارة الشرعیة فی الملاقی لا عن جریان أصالة البراءة العقلیة، هل تجری أصالة الطهارة فی الملاقی، أو لا تجری ؟ وهنا لا معنی لأن نرجع إلی العقل ونسأله، وإنّما لابد أن نرجع إلی دلیل أصالة الطهارة، فإذا کان هناک إطلاق فی دلیل أصالة الطهارة یشمل محل الکلام؛ حینئذٍ یمکن التمسّک بهذا الإطلاق لإثبات جریان أصالة الطهارة فی محل الکلام.

أقول: هذا الإشکال لیس وارداً؛ لأنّ الکلام مع المحقق العراقی(قدّس سرّه) لیس فی جریان أصالة الطهارة وعدم جریانها؛ لأنّه(قدّس سرّه) یری أنّ جریان أصالة الطهارة فی الملاقی فی طول عدم التنجیز وفی طول انحلال العلم الإجمالی الثانی، ینحل العلم الإجمالی الثانی، ویسقط عن التنجیز؛ وحینئذٍ تجری أصالة الطهارة فی الملاقی، الکلام معه فی التنجیز وعدمه، أنّ العلم الإجمالی هل یکون منجزاً، أو لا ؟ هو یقول یسقط عن التنجیز، فهو یدّعی أنّ العلم الإجمالی لیس منجزاً، فالکلام هو عن منجّزیة العلم الإجمالی الثانی وعدمها، ومن الواضح أنّ الحاکم بالمنجّزیة هو العقل ولا معنی للرجوع إلی الدلیل الشرعی لإثبات المنجّزیة، أو نفیها، وإنّما لابدّ أن نرجع إلی العقل، فأنّه هو الذی یکون حاکماً بالمنجّزیة، المحقق العراقی(قدّس سرّه) کأنّه یدّعی بأنّ العقل فی المقام لا یحکم بالمنجّزیة. فی المقابل قلنا فی الملاحظة الأولی أنّ العقل لا یدرک ارتفاع المنجّزیة عن العلم الإجمالی المنجّز بمجرّد وجود منجّزٍ فی أحد طرفیه؛ بل إن لم نقل أنّه یدرک اشتداد المنجّزیة وتأکدها، فلا أقل أنّه لا یدرک ارتفاع المنجزیة وسقوطها عن علمٍ إجمالی منجّز تسقط عنه المنجّزیة بمجرّد أن یثبت وجود منجّزٍ فی أحد أطرافه، العقل هو الحاکم، وهو لا یدرک زوال المنجّزیة وارتفاعها.

ص: 492

إذن: الکلام مع المحقق العراقی(قدّس سرّه) عن التنجیز وعدمه لا عن جریان أصالة الطهارة وعدم جریانها حتّی یقال لا معنی للرجوع إلی العقل، وإنّما الکلام فی مرحلةٍ اسبق من جریان أصالة الطهارة فی الملاقی، والمسألة الأسبق هی مسألة انحلال العلم الإجمالی وعدم انحلاله، وسقوطه عن التأثیر والتنجیز وعدم سقوطه، وهنا لابدّ من الرجوع إلی العقل لنعرف أنّه هل یدرک سقوط التنجیز لهذا السبب، أو لا یدرک ذلک ؟

الملاحظة الثانیة: أن یقال أنّ الوجه الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) یرتکز علی دعوی أنّ الطرف الآخر تنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل فی مرتبةٍ سابقةٍ، فلا یقبل التنجیز مرّة أخری بالعلم الإجمالی الثانی فی المرتبة اللاحقة؛ لأنّ المتنجّز لا یتنجّز، أنّ الطرف الآخر تنجّز فی مرتبةٍ سابقةٍ بالعلم الإجمالی الأوّل، فلا یقبل التنجیز مرّة أخری فی المرتبة اللاحقة، فإذا کان لا یقبل التنجیز فی المرتبة اللاحقة، یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لأنّه یشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون منجّزاً علی کل تقدیر، والعلم فی المقام لیس منجّزاً علی کل تقدیر. هذه الدعوی تتوقف علی افتراض طولیة بین التنجیزین، یعنی بین تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف الآخر وبین تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف الآخر، باعتباره طرفاً فی کلا العلمین، دعوی المحقق العراقی(قدّس سرّه) تفترض وجود طولیة بین التنجیزین، وإلاّ إذا لم یکن هناک طولیة بین التنجیزین لا یصح له أن یقول أنّ الطرف الآخر تنجّز فی مرتبةٍ سابقةٍ، فلا یقبل التنجیز فی المرتبة اللاحقة، لا معنی لهذا إلاّ إذا افتُرض وجود طولیة بین التنجیزین، أن یکون تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف الآخر متقدّماً رتبة علی تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف الآخر، إذا قلنا بتنجیزه. إذن: هناک طولیة بین التنجیزین یفترضه المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی المقام، فإذا أثبتنا عدم الطولیة بین التنجیزین، وأنّ تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف الآخر هو فی عرض تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف الآخر ینهار هذا البرهان الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ لأنّه یعتمد علی افتراض طولیة بین التنجیزین حتّی یصح له أن یقول أنّ الطرف الآخر تلقّی التنجیز فی مرتبةٍ سابقةٍ، فلا یقبل التنجیز فی مرحلةٍ لاحقةٍ. هذا الکلام لا یصح إلاّ إذا فُرض تقدّم التنجیز بالعلم الإجمالی الأوّل علی التنجیز بالعلم الإجمالی الثانی، فیقال: مع تقدّم التنجیز فی المرتبة السابقة لا معنی لتنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف الآخر، فإذا ثبت عدم وجود طولیة بین التنجیزین؛ حینئذٍ لا یتم کلامه، ووجه عدم وجود طولیة بین التنجیزین هو ما تقدّم الإشارة إلیه سابقاً والذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) وهو أنّه لیس لدینا قاعدة فی باب المراتب تقول أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین فی الرتبة لابدّ أن یکون متأخّراً عن الآخر، فی غیر هذا العالم ممکن، بلحاظ الزمان ممکن، المتأخّر عن أحد المتساویین فی الزمان لابدّ أن یکون متأخّراً عن الآخر، لکن بلحاظ الرتب لا توجد هکذا قاعدة، أنّه إذا کان هناک شیئان متساویان فی الرتبة، وکان هناک شیء آخر متأخّر رتبةً عن أحدهما، هل یجب أن یکون مت_أخّراً فی الرتبة عن الآخر أیضاً ؟ لا دلیل علی ذلک، لیس متأخّراً عن الآخر رتبةً، هذه القاعدة المسلّمة تُطبّق فی محل الکلام، فیقال أنّ العلم الإجمالی الثانی لا إشکال أنّه فی طول العلم الإجمالی الأوّل، وهذا العلم الإجمالی الثانی هو فی عرض تنجیز العلم الإجمالی الأوّل، نعم، هو فی طول العلم الإجمالی الأوّل، لکنّه فی عرض تنجیز العلم الإجمالی الأوّل، باعتبار أنّ العلم الإجمالی الأوّل هو بمثابة العلّة لمعلولین، أحدهما العلم الإجمالی الثانی؛ لأنّه نشأ من العلم الإجمالی الأوّل، والآخر هو تنجیز العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ التنجیز أثرٌ للعلم الإجمالی الأوّل، فهو معلولٌ للعلم الإجمالی الأوّل. إذن: تنجیز العلم الإجمالی الأوّل ونفس العلم الإجمالی الثانی معلولان لعلّةٍ واحدةٍ وهی العلم الإجمالی الأوّل، فالعلم الإجمالی الأوّل له أثران، أحدهما العلم الإجمالی الثانی، والآخر هو التنجیز، فتنجیز العلم الإجمالی الأوّل، ونفس العلم الإجمالی الثانی هما فی عرضٍ واحدٍ ولیس بینهما طولیة، ولیس بینهما تقدّم وتأخّر فی الرتبة، وإنّما هما فی عرضٍ واحدٍ. تنجیز العلم الإجمالی الثانی هو فی طول العلم الإجمالی الثانی، یعنی معلول للعلم الإجمالی الثانی کأیّ علمٍ إجمالی تنجیزه معلول له، لکنّه لیس فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل، وإن کان تنجیز العلم الإجمالی الأوّل فی عرضٍ العلم الإجمالی الثانی، وتنجیز العلم الإجمالی الثانی متأخّر رتبةً عن العلم الإجمالی الثانی، لکنّه لیس متأخّراً ولیس فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل؛ للقاعدة التی أشرنا إلیها؛ لأنّ تنجیز العلم الإجمالی الثانی الذی هو فی طول العلم الإجمالی الثانی لا یجب أن یکون أیضاً فی طول ما هو فی عرضه فی الرتبة، المتساویان رتبةً هما العلم الإجمالی الثانی وتنجیز العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ کلاً منهما معلولٌ للعلم الإجمالی الأوّل، المتأخّر عن أحدهما لیس متأخّراً عن الآخر، تنجیز العلم الإجمالی الثانی متأخّر عن العلم الإجمالی الثانی، لکنّه لیس متأخّراً عن تنجیز العلم الإجمالی الأوّل، وهذا هو المطلوب، أنّ تنجیز العلم الإجمالی الثانی لیس متأخّراً عن تنجیز العلم الإجمالی الأوّل فی الرتبة؛ بل هما فی رتبةٍ واحدةٍ، وإذا کانا فی رتبةٍ واحدةٍ؛ حینئذٍ یکونان من قبیل ما إذا اجتمع سببان تامّان مستقلان علی مسببٍ واحد، والقاعدة المسلّمة فی مثله تقتضی أن یتحوّل کل منهما إلی جزء السبب فی مقام التأثیر، تنجیز العلم الإجمالی الأوّل وتنجیز العلم الإجمالی الثانی فی رتبةٍ واحدةٍ، فیکون کلٌ منهما مؤثراً؛ إذ لا وجه لاستقلال أحدهما فی التأثیر دون الآخر، هذا ترجیح بلا مرجّح، ولا وجه لأن یقال أنّ التأثیر یکون للتنجیز الأوّل؛ لأنّ هذین التنجیزین فی عرضٍ واحدٍ وفی مرتبةٍ واحدةٍ، فیکون التأثیر لکلٍ منهما ویتحوّل کلٌ منهما إلی جزء السبب، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی الثانی مؤثر أیضاً فی التنجیز، فلا یتم ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ بل استناداً إلی فکرة أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین فی الرتبة لیس متأخّراً عن الآخر رتبةً، یمکن أن نقول أکثر من هذا، أنّه لیس هناک طولیة بین العلمین أیضاً، یعنی بین العلم الإجمالی الأوّل وبین العلم الإجمالی الثانی، لیس أحدهما متأخّراً عن الآخر رتبةً، باعتبار أنّ العلمین المنجّزین لیس بینهما طولیة، وذلک باعتبار أنّ المنجّز فی الحقیقة لیس هو العلم الإجمالی بالنجاسة، وإنّما المنجّز هو العلم بالتکلیف الذی ینشأ من العلم بالنجاسة، العلم الإجمالی بالنجاسة یوجب العلم الإجمالی بالتکلیف، والمنجّز هو العلم الإجمالی بالتکلیف، بناءً علی هذا، إذا استعنّا بالفکرة السابقة؛ حینئذٍ یمکن أن یقال أنّ العلمین المنجّزین، وهما العلم الإجمالی بالتکلیف الناشئ من العلم الإجمالی بالنجاسة الأوّل، والعلم الإجمالی بالتکلیف الناشئ من العلم الثانی، هذان العلمان لیس بینهما طولیة؛ بل هما فی عرضٍ واحد بنفس الفکرة السابقة، وذلک بأن یقال: أنّ العلم الإجمالی الثانی بالنجاسة یکون فی عرض العلم الإجمالی بالتکلیف الناشئ من العلم الإجمالی الأوّل __________ بنفس البیان السابق الذی ذکرناه قبل قلیل ___________ لأنّ کلاً منهما معلول للعلم الإجمالی الأوّل بالنجاسة، العلم الإجمالی الأوّل بالنجاسة علّة لأمرین، علّة للعلم الثانی بالنجاسة، وعلّة للعلم بالتکلیف؛ لأنّ العلم بالنجاسة فی العلم الإجمالی الأوّل یولّد العلم الإجمالی بالتکلیف، فإذن: لدینا علم إجمالی بالتکلیف ناشئ من العلم الإجمالی الأوّل بالنجاسة، ولدینا علم إجمالی ثانٍ بالنجاسة ینشأ من العلم الإجمالی الأوّل بالنجاسة، العلم الإجمالی الأوّل علّة لأمرین، فیکون حینئذٍ کلٌ من العلم بالتکلیف الذی هو المنجّز، الناشئ من العلم بالنجاسة الأوّل، العلم الإجمالی الثانی بالنجاسة المردد بین الملاقی والطرف الآخر أیضاً ینشأ من العلم الإجمالی الأوّل بالنجاسة، فإذن: هما فی عرضٍ واحدٍ، العلم بالتکلیف الناشئ من العلم الإجمالی الثانی بالنجاسة؛ لأننا قلنا أنّ الذی یکون منجّزاً لیس هو العلم بالنجاسة، وإنّما المنجّز هو ما تولّد منه وهو العلم بالتکلیف إجمالاً، هذا العلم الإجمالی بالتکلیف الناشئ من العلم الإجمالی الثانی بالنجاسة متأخّر عن العلم الإجمالی الثانی بالنجاسة، لکنّه لیس متأخّراً عمّا هو فی عرضه وفی رتبته والذی هو العلم بالتکلیف الناشئ من العلم الإجمالی الأوّل بالنجاسة بنفس القاعدة السابقة وهی أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین رتبةً لیس متأخّراً عن الآخر رتبةً، فیکون العلم الإجمالی بالتکلیف الناشئ من العلم الأوّل، والعلم الإجمالی الثانی بالتکلیف الناشئ من العلم الثانی فی عرضٍ واحدٍ وفی رتبةٍ واحدةٍ ولیس بینهما تقدّم وتأخّر، وهما المنجّزان، لیس العلم بالنجاسة إذا جرّدناه عن العلم بالتکلیف هو المنجّز، وإنّما هو یکون منجّزاً باعتبار أنّه یولّد علماً بالتکلیف، سواء کان تفصیلیاً، أو کان إجمالیاً، المنجّز هو العلم بالتکلیف، عندنا علمان منجّزان أحدهما هو العلم بالتکلیف الناشئ من العلم الإجمالی الأوّل، والثانی هو العلم بالتکلیف الناشئ من العلم الإجمالی الثانی، هذان لیس بینهما طولیة؛ بل هما فی عرضٍ واحدٍ، فیؤثران معاً ولا داعی لاختصاص التأثیر والتنجیز بأحدهما دون الآخر؛ لأنّ هذا ترجیح بلا مرجّح، وبالتالی لا تکون هناک طولیة، لا بین التنجیزین ولا بین العلمین المنجّزین. نعم، قد تکون هناک طولیة بین العلم الإجمالی الأوّل بالنجاسة والعلم الإجمالی الثانی بالنجاسة، لکن العلم المنجّز لیس بینهما طولیة بناءً علی هذه الفکرة المتقدّمة.

ص: 493

الوجه الرابع: هو للسید الخوئی(قدّس سرّه) کما فی(مصباح الأصول) (1) یقول أنّ العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی، أو الطرف الآخر الذی هو العلم الإجمالی الثانی، وإن کان حاصلاً بعد العلم بالملاقاة، یعنی بالنتیجة هو متأخّر عن العلم الإجمالی الأوّل، یوجد علم إجمالی أوّل بین الطرفین، حصلت ملاقاة، فحصل العلم الإجمالی الثانی، یقول: إلاّ أنّ العلم الإجمالی الثانی لا یمنع من جریان أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّ الأصل الجاری فی الطرف الآخر ____________ الذی هو طرف فی العلم الإجمالی الثانی وهو طرف مشترک بین العلمین ___________ قد سقط بالمعارضة مع الأصل الجاری فی الملاقی قبل حدوث العلم الإجمالی الثانی، وقبل الملاقاة، الأصل فی الطرف الآخر عارضه الأصل فی الملاقی، کأیّ علم إجمالی له طرفان، الأصول فیه تتعارض وتتساقط. إذن: قبل الملاقاة وقبل حدوث العلم الإجمالی الثانی الأصل فی الطرف الآخر سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، فإذا سقط هذا الأصل بالمعارضة؛ حینئذٍ العلم الإجمالی الثانی لا یکون علماً بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ إذ یُحتمل أن یکون النجس هو الطرف الآخر المفروض تنجّز التکلیف بالنسبة إلیه بالعلم الإجمالی السابق؛ لأنّ الأصل فیه سقط، فتنجّز فیه التکلیف، وهذا العلم الإجمالی الثانی لیس علماً بالتکلیف علی کل تقدیر، وإنّما التکلیف یکون ثابتاً علی أحد التقدیرین، أمّا علی التقدیر الآخر لا یکون هناک تکلیف؛ لأنّ التکلیف قد تنجّز قبل ذلک فی زمانٍ سابقٍ؛ لأنّ الأصل فیه قد سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، فتنجّز فیه التکلیف، وبعد ذلک حصلت الملاقاة، وحصل علم إجمالی بنجاسة إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، هذا صحیح، لکن هذا العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز؛ لأنّ الأصل یجری فی الملاقی بلا معارض؛ لأنّ الأصل فی الطرف الآخر سقط فی زمانٍ سابقٍ وقبل حصول الملاقاة، یقول: ومع ذلک لا یبقی حینئذٍ إلاّ احتمال التکلیف فی الملاقی، واحتمال التکلیف یجری فیه الأصل المؤمّن وهو أصالة الطهارة؛ وحینئذٍ لا توجد مشکلة.

ص: 494


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد سرور الواعظ الحسینی، ج2، ص417.

من الواضح جدّاً أن ّهذا الوجه مبنی علی مسلک الاقتضاء الذی هو یؤمّن به؛ لأنّه علی مسلک العلّیة لا تجری أصالة الطهارة فی الملاقی حتّی إذا لم یکن لها معارض؛ لأنّ نفس العلم الإجمالی یمنع من جریانها فی أحد الطرفین بقطع النظر عن المعارض. هذا الوجه یشترک فی هذه النقطة مع الوجه الأوّل الذی نقلناه عن الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، کٌل منهما مبنی علی مسلک الاقتضاء، ویشترک أیضاً مع الوجه الأوّل فی قضیةٍ أخری وهی أنّ کلاً منهما یرکّز علی مسألة أنّ الأصل فی الملاقی لیس له معارض، ولا یرکّز علی انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن التنجیز، وإنّما یفترض بقاء العلم الإجمالی علی اقتضائه للتنجیز، لکن هذا المقتضی للتنجیز إذا احتفّ بالمانع لا یؤثّر شیئاً، والمانع هو جریان الأصل فی أحد الطرفین بلا معارض، وهذا المانع یمنع من فعلیة التنجیز، فهو لا یهمّه أن العلم الإجمالی سقط عن التنجیز، أو لا؛ بل هو یفترض أنّ العلم الإجمالی باقٍ علی اقتضاء التنجیز، لکن بالنتیجة هو لا یکون منجّزاً فعلاً لوجود المانع الذی هو جریان الأصل فی الملاقی بلا معارضٍ، فهو یرکّز علی مسألة جریان الأصل فی الملاقی من دون معارض؛ لأنّ المعارض الذی هو أصالة الطهارة قد سقط قبل ذلک، فیجری الأصل فی هذا الطرف بلا معارض، الوجه الأوّل أیضاً کان یرکّز علی هذه النقطة، ولا یرکز علی مسألة سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، یعنی سقوطه عن الاقتضاء علی القول بالاقتضاء، أو سقوطه عن العلّیة علی القول بالعلّیة کما قالها المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی الوجه الثالث، لیس هذا هو منظوره، وإنّما تمام منظوره هو جعل الأصل الملاقی بمنجیً عن المعارض. نعم، الوجه الرابع یختلف عن الوجه الأوّل فی نقطة أخری وهی نقطة مهمّة، السید الخوئی(قدّس سرّه) افترض فی کلامه أنّ التقدّم والتأخّر فی الزمان، بینما افترض الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی کلامه أنّ التقدّم والتأخّر فی الرتبة، وعلی اساسه قال بأنّه یجری الأصل فی الملاقی بلا معارض؛ لأنّ الأصل المعارض له سقط فی رتبةٍ سابقةٍ، بینما السید الخوئی(قدّس سرّه) یقول أنّ التقدّم والتأخّر فی الزمان، فیجری الأصل فی الملاقی بلا معارض؛ لأنّ معارضه سقط فی زمانٍ سابقٍ، فیجری الأصل بلا معارضٍ، فیختلفان فی هذه الجهة، وإلاّ الفکرة نفس الفکرة، غایة الأمر أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) یصر علی رأیه حتّی مع افتراض التعاصر الزمانی بین العلمین؛ ولذا یصح مطلبه فی جمیع الفروض، سواء تعاصر العلمان زمانا، أو لم یتعاصرا زماناً، المهم هو التقدّم والتأخّر الرتبی، أن یکون العلم الإجمالی الثانی متأخّراً رتبةً عن العلم الإجمالی الأوّل، بینما السید الخوئی(قدّس سرّه) لم یفرض هذا، وإنّما فرض التقدّم والتأخّر الزمانی، وکأنّه یری وجود مشکلة فی التقدّم والتأخّر الرتبی بین العلمین، ولعلّه لما تقدّم الإشارة إلیه فی مناقشة الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) علی ما تقدّم أنّه لا توجد طولیة، لا بین العلم الإجمالی الثانی والعلم الإجمالی الأوّل، ولا بین الأصل الجاری فی الملاقی وبین الأصل الجاری فی الطرف الآخر، وقد تقدّمت الإشارة إلی هذا، والسید الخوئی(قدّس سرّه) نصّ علی عدم وجود طولیة بین الأصل الجاری فی الملاقی وبین الأصل الجاری فی الطرف الآخر. صحیح أنّ الأصل الجاری فی الملاقی متأخّر عن الأصل الجاری فی الملاقی، والأصل الجاری فی الملاقی فی مرتبة الأصل الجاری فی الطرف الآخر، لکن القاعدة التی هو ذکرها واستفدنا منها تقول أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین رتبةً لیس متأخّراً عن الآخر؛ ولذا هو أنکر الطولیة بین الأصلین فی الملاقی وفی الطرف الآخر، وإذا لم تکن بینهما طولیة، فأنّهما یتعارضان ویتساقطان إذا بقینا نحن والتقدّم والتأخّر الرتبی، ولعلّه هو أفترض التقدّم والتأخّر الزمانی، وهو یری أنّه إذا تعارض الأصل فی هذا الطرف فی زمان سابق مع الأصل فی الملاقی وسقط؛ حینئذٍ لا یعود مرّةً أخری، فیسلم الأصل فی الملاقی عن المعارض.

ص: 495

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

انتهی الکلام إلی الوجه الرابع المستفاد من کلمات السید الخوئی(قدّس سرّه) فی خصوص مصباح الأصول. واضح أنّ هذا الوجه الرابع الذی ذکرناه فی الدرس السابق یعتمد علی دعوی سقوط الأصل فی الطرف المشترک فی زمانٍ سابق بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، وحینما یحصل العلم الإجمالی الثانی یکون الأًصل فی الملاقی بلا معارض، فیجری ویسقط العلم الإجمالی عن التنجیز.

یُلاحظ علی هذه الدعوی: أن سقوط الأصل فی الطرف الآخر کما ذکر هو إنّما هو للمعارضة مع الأصل فی الملاقی، الکلام فی أنّ تعارض الأصول وتساقطها الذی هو فرع تنجّز المخالفة القطعیة، وتنجّز المخالفة القطعیة ناشئ من العلم الإجمالی، لدینا علم إجمالی ینجّز المخالفة القطعیة، فتتعارض الأصول وتتساقط، تعارض الأصول وتساقطها الذی هو فرع تنجّز المخالفة القطعیة الذی ینشأ من وجود العلم الإجمالی، الکلام فی أنّ هذا التعارض والتساقط فی کل آنٍ هو تابع لتنجّز المخالفة القطعیة لوجود العلم الإجمالی فی ذلک الآن لا أن یکون هذا التعارض والتساقط ثابتاً فی آنٍ آخر لمجرّد وجود العلم الإجمالی فی آنٍ سابقٍ، العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة وبالتالی یترتب علی ذلک تعارض الأصول وتساقطها، ینجّز ذلک فی کل آنٍ حینما یکون ذلک العلم موجوداً، فالعلم الإجمالی فی کل آنٍ ینجّز حرمة المخالفة القطعیة الموجب لتعارض الأصول وتساقطها، لا أن یکون العلم الإجمالی فی زمانٍ سابقٍ ینجّز حرمة المخالفة القطعیة وبالتالی تعارض الأصول وتساقطها فی زمانٍ لاحقٍ.

ص: 496

بعبارةٍ أخری: أنّ العلم الإجمالی بوجوده الحدوثی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة ویوجب تعارض الأصول وتساقطها فی آن حدوثه، لکنّه لا ینجّز ذلک فی زمانٍ لاحقٍ إلاّ بوجوده البقائی، یعنی حینما یُفترض وجود العلم وبقاؤه واستمراره حینئذٍ یکون بوجوده البقائی منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة وتعارض الأصول وتساقطها لا أنّ العلم الإجمالی بمجرّد وجوده الحدوثی یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة، وموجباً لتعارض الأصول وتساقطها فی الآن اللاحق من دون افتراض وجودٍ بقائی له، وإلاّ وقعنا فی مشکلةٍ، هذا یؤدی إلی أن لا یکون هناک انحلال لأی علمٍ إجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی بوجوده الحدوثی نجّز حرمة المخالفة القطعیة وأوجب تعارض الأصول وتساقطها فی جمیع الآنات، ولو لم یبقَ ذلک العلم الإجمالی، حتّی إذا زال العلم الإجمالی وجوده الحدوثی نجّز حرمة المخالفة القطعیة وأوجب تعارض الأصول وتساقطها؛ حینئذٍ لا یکون العلم الإجمالی منحلاً، بأیّ شیءٍ ینحل العلم الإجمالی ؟ حتی بالعلم التفصیلی لا ینحل؛ لأنّه بوجوده الحدوثی نجّز هذا وأوجب تعارض الأصول وتساقطها، هذا یؤدی إلی لوازم باطلة لا یمکن الالتزام بها، فإذن: لابدّ أن نقول أنّ العلم الإجمالی فی کل آنٍ هو ینجّز ویوجب تعارض الأصول وتساقطها فی ذلک الآن، إذا کان له وجود حدوثی فقط ولیس له وجود بقائی، فهو ینجّز حرمة المخالفة القطعیة وما یترتب علی ذلک فی آن الحدوث، أمّا إذا کان له وجود بقائی، فوجوده البقائی هو الذی یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة فی الزمان اللاحق، وموجباً لتعارض الأصول وتساقطها، وهذا معناه بالنتیجة أنّه فی زمان حدوث العلم الإجمالی الثانی، العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی ینجّز کلا طرفیه الذی أحدهما هو الطرف المشترک، الطرف الآخر یتلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل بعد حدوث العلم الإجمالی الثانی لکن یتلقّاه منه بوجوده البقائی کما یتلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الثانی، لکن بوجوده الحدوثی، فهو یتلقّی التنجیز من کلٍ من العلمین، ولا یمکن أن نقول أنّ العلم الإجمالی الأوّل بوجوده الحدوثی نجّز الطرف الآخر بعد حدوث العلم الإجمالی بوجوده الحدوثی، وإنّما هو ینجّزه بوجوده البقائی، هذا معناه أنّه بعد حدوث العلم الإجمالی الثانی یجتمع سببان للتنجیز علی الطرف الآخر، العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی، والعلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی، فیدخل فی مسألة اجتماع سببین مستقلّین علی مسببٍ واحدٍ، وهذا یؤدّی إلی أن یکون التنجیز لکلٍ منهما، وأن یکون کلاً منهما منجّزاً، مجموعهما یکون هو المنجّز وهو الموجب لحرمة المخالفة القطعیة، وبالتالی تعارض الأصول وتساقطها. اساس الفکرة مبنیة علی افتراض أنّ العلم الإجمالی الأوّل ینجّز الطرف الآخر علی طول الخط بوجوده الحدوثی، هو بوجوده الحدوثی نجّز حرمة المخالفة القطعیة وأوجب تعارض الأصول وتساقطها، فالأصل سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، وعندما یسقط الأصل یقال بأنّه یکون هناک الأصل الجاری فی الملاقی بلا معارضٍ، لکنّ هذا لیس صحیحاً، وإنّما الصحیح هو أنّ العلم الإجمالی الأوّل کما ینجّز کلا الطرفین بوجوده الحدوثی ینجّز کلا طرفیه أیضاً بوجوده البقائی، العلم الإجمالی لازال باقیاً، لازلت أنا أعلم بأنّه إمّا الطرف الآخر نجس، أو الملاقی نجس، فأنا أعلم بنجاسة أحدهما، أنظم إلی هذا العلم علم آخر، وهناک طرف مشترک بین العلمین وهو عبارة عن الإناء المشترک، فیتلقّی هذا الإناء المشترک التنجیز من کلٍ منهما، فإذن: لا معنی لأن نقول بأنّ الأصل فی الطرف المشترک بعد حدوث العلم الإجمالی لا وجود له؛ لأنّه سقط فی زمانٍ سابقٍ، الموجب لسقوطه هو العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی وهو معنی التنجیز، العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی ینجّز کلا الطرفین، العلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی ینجّز کلا الطرفین فی آنٍ واحدٍ؛ وحینئذٍ لا یوجد تقدّم وتأخّر حتی یقال أنّ الأصل جری فیه وسقط فی زمانٍ سابقٍ، التنجیز یثبت فی کلٍ منهما فی آنٍ واحدٍ ویتلقّی الطرف المشترک التنجیز من کلٍ منهما فی آنٍ واحدٍ ولا یصح لنا أن نقول أنّ هذا الطرف المشترک جری فیه الأصل وسقط فی زمانٍ سابقٍ، الأصل فعلاً یجری فی هذا الطرف ویُعارَض بالأصل فی الملاقی، وهو معنی التنجیز، فتتعارض الأصول وتتساقط، فالطرف المشترک یتلّقی التنجیز من کلٍ منهما ولا موجب لترجیح أحدهما علی الآخر فی تأثیره فی التنجیز، وإنّما تتعارض الأصول کلها وتتساقط. هذا من جهة.

ص: 497

من جهةٍ أخری: وإکمالاً لما تقدّم أنّ الأصل فی الطرف المشترک قبل حدوث العلم الإجمالی الثانی له معارض واحد وهو الأصل فی الملاقی، بعد حدوث العلم الإجمالی الثانی الأصل فی الطرف المشترک یکون له معارضان بناءً علی ما تقدّم، وهما عبارة عن الأصل فی الملاقی والأصل فی الملاقی، التعارض والتساقط فی کل آنٍ تابع لوجود العلم الإجمالی وإیجابه لتنجیز المخالفة القطعیة فی ذلک الآن، فی آنٍ ما بعد حدوث العلم الإجمالی، العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی ینجّز کلا الطرفین، الثانی أیضاً ینجّز کلا الطرفین، وهذا معناه أنّ الأصل فی الطرف المشترک یکون له معارضان، الأصل فی الملاقی والأصل فی الملاقی؛ لأنّ سبب التعارض هو أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، فیقع التعارض بین الطرفین، کما أنّ العلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی ینجّز کلا الطرفین ویمنع من جریان الأصلین فیهما، کذلک العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی ینجّز کلا الطرفین ویمنع من جریان الأصل فی کلٍ منهما، وهذا معناه أنّ الأصول کلّها تتعارض، الأصل فی الطرف المشترک والأصل فی الملاقی والأصل فی الملاقی، فتتعارض وتتساقط، ویتنجّز العلم الإجمالی ویجب الاجتناب عن الملاقی.

عدم صلاحیة العلم الإجمالی الثانی للتنجیز فی هذا الوجه الرابع الذی نقلناه عن السید الخوئی(قدّس سرّه) عُلل بما قلناه من أنّ الأصل فی الطرف المشترک سقط فی زمانٍ سابقٍ بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، فعندما یحدث العلم الإجمالی الثانی، لا یکون للأصل فی الملاقی معارض؛ لأنّ معارضه سقط. هذا التعلیل ینسجم مع مبنی السید الخوئی(قدّس سرّه) القائل بمسلک الاقتضاء، لکن توجد فی بعض کلمات السید الخوئی(قدّس سرّه) ما قد یُفهم منها تعلیل عدم صلاحیة العلم الإجمالی الثانی للتنجیز لا بسقوط الأصل فی الطرف المشترک فی زمانٍ سابقٍ بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، وإنّما یعللّه بما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) بأنّ المتنجّز لا یتنجّز، الطرف المشترک تلقّی التنجیز فی زمان سابق، فتنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل، والمتنجّز لا یتنجّز، إذن: العلم الإجمالی الثانی لا یکون منجزاً؛ لأن أحد طرفیه لا یقبل التنجیز؛ ولذا یفقد العلم الإجمالی الثانی صلاحیته للتنجیز؛ لأنّه یعتبر فی العلم الإجمالی المنجّز أن یکون منجّزاً للتکلیف علی کل تقدیر، وهذا العلم الإجمالی الثانی لیس کذلک؛ لأنّه علی أحد التقدیرین هو لیس قابلاً لأن ینجّز التکلیف فیه؛ لأنّ المتنجّز لا یتنجّز. هذا التعلیل الموجود فی کلمات السید الخوئی(قدّس سرّه) لا یناسب مسلک الاقتضاء، وإنّما یناسب مسلک العلّیة، والذی یناسب مسلک الاقتضاء هو التعلیل بما تقدّم بأن یقال أنّ الأصل فی الطرف المشترک سقط فی زمانٍ سابقٍ بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، بعد حدوث العلم الإجمالی الأصل فی الملاقی لیس له معارض، فیجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، وهذا هو الذی یکون موجباً لسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة؛ لأنّ ملاک المنجّزیة علی مسلک الاقتضاء هو تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها، فإذا جری الأصل فی أحد الطرفین بلا معارض لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً. أمّا تعلیل فقدان صلاحیة التنجیز للعلم الإجمالی الثانی بأنّ المتنجّز لا یتنجّز، فهو ینسجم مع مسلک العلّیة الذی یقول به المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 498

علی کل حال، لو فرضنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) أیضاً یعللّ عدم صلاحیة العلم الإجمالی الثانی للتنجیز بهذا التعلیل، فیرِد علیه الجواب الثانی المتقدّم علی الوجه الثالث الذی تقدّم الکلام فیه؛ لأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) استدلّ علی سقوط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز بالرغم من أنّه یقول بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة..... استدلّ علیه بهذا الاستدلال الذی هو فی روحه یرجع إلی دعوی قصورٍ فی متعلّق العلم لا فی نفس العلم الإجمالی، العلم الإجمالی لا قصور فیه، وإنّما القصور فی متعلّقه، المعلوم بالعلم الإجمالی فی حدّ نفسه لیس قابلاً للتنجیز علی کل تقدیر، وإنّما یکون قابلاً للتنجیز علی تقدیرٍ دون تقدیرٍ آخر، لو کان معلومه قابلاً للتنجیز علی کل تقدیر، لیس هناک قصور فی العلم الإجمالی، وسوف ینجّزه، لکن المعلوم نفسه فیه قصور وغیر قابل للتنجیز علی کل تقدیر؛ لأنّه علی أحد تقدیریه ترِد مسألة أنّ المتنجّز لا یتنجّز، فیسقط العلم الإجمالی عن التأثیر ویفقد صلاحیته للتنجیز، لو فرضنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) یقول بهذه المقالة؛ فحینئذٍ یرِد علیه ما تقدّم سابقاً من الملاحظتین المتقدّمتین، والتی کانت الملاحظة الأولی هی أنّ التنجیز لیس من الأمور التکوینیة والظواهر الطبیعیة حتی یقال فیها أنّ المتنجّز لا یتنجّز علی غرار أنّ الموجود لا یوجد وأمثال هذه العبارات، وإنّما هو حکم عقلی، هو عبارة عن إدراک العقل لمسألة حق الطاعة والعقاب علی المخالفة، وقلنا أنّه لابدّ أن نرجع إلی العقل لنری أنّه هل یحکم فی مثل المقام بالتنجیز، أو یحکم بالبراءة ؟ وأیضاً یرد علیه الإیراد الثانی المتقدّم ولا داعی للتکرار.

ص: 499

الملاحظة الثانیة علی الوجه الرابع الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) هی الملاحظة التی ذکرها السید الشهید(قدّس سرّه)، (1) وحاصل هذه الملاحظة هو أنّه یقول: أنّ التعارض بالتحلیل هو من شئون عالم الجعل ولیس من شئون مرحلة المجعول، وذلک باعتبار أنّ الخطابات الشرعیة مجعولة عادةً علی نهج القضیة الحقیقیة التی تکون ثابتة علی الموضوعات المقدّرة الوجود، ومن الواضح أنّ هذه الخطابات المجعولة علی نهج القضیة الحقیقیة هی ناظرة إلی عالم الجعل ولیست ناظرة إلی عالم المجعول، فعلیة المجعول تابعة إلی فعلیة موضوعه فی الخارج، إذا تحقق الموضوع فی الخارج یکون الموضوع فعلیاً، الجعل لیس ناظراً إلی الخارج ولیس ناظراً إلی فعلیة الموضوع، سواء وجد موضوع، أو لم یوجد موضوع، هو یجعل الحکم علی الموضوع المقدّر الوجود، فالخطابات الشرعیة المجعولة علی نهج القضایا الحقیقیة ناظرة إلی مرحلة الجعل ولا علاقة لها بعالم المجعول وفعلیة المجعول، وهذا معناه أنّ الخطابات الشرعیة تنظر إلی أفراد الموضوع المقدّر الوجود فی عرضٍ واحدٍ، التقدّم والتأخّر فی الزمان لا یؤثّر فیها هی تنظر إلی أفراد الموضوع فی عرضٍ واحد وبنظرةٍ واحدةٍ، دائماً الخطابات الشرعیة التی هی ناظرة إلی مرحلة الجعل لا تمیّز بین أن یکون بعض أفراد الموضوع متقدّماً زماناً علی البعض الآخر، أو غیر متقدّم زماناً، لا یؤثّر فیها هذا، الحکم یثبت لجمیع أفراد الموضوع فی عرضٍ واحدٍ؛ لأنّ الموضوع فیها مقدّر الوجود، ولیس الموضوع فیها هو الموضوع الخارجی حتّی یقال أنّ الموضوع یختلف باختلاف أفراده فقد تتقدّم بعض أفراده علی الأفراد الأخری بلحاظ الزمان، فإذا تحقق هذا الموضوع؛ فحینئذٍ یکون الجعل ثابتاً له، الجعل لا علاقة له بفعلیة الموضوع، المجعول یکون فعلیاً بفعلیة موضوعه، لکن مفاد الخطاب لیس هو المجعول، وإنّما مفاد الخطاب هو الجعل ﴿وَلِلَّهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَیْهِ سَبِیلًا﴾ (2) ، هذا الجعل لا یتوقف علی افتراض وجود مستطیعٍ فی الخارج، وإنّما هو یفترض موضوعاً ویجعل علیه الحکم. هذه القضیة الحقیقیة.

ص: 500


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الهاشمی، ج5، ص307.
2- آل عمران/سوره3، آیه97.

إذن: الجعل عندما ینصبّ علی الموضوع المفترض الوجود یکون ناظراً إلی أفراد ذلک الموضوع فی عرضٍ واحدٍ، إذا قال ________ مثلاً _________ (أکرم کل عالم) واضح بأنّ الحکم یتعلّق بأفراد العالم فی عرضٍ واحدٍ، ولا یوجد تقدّمٌ فی مرتبة الجعل لبعض الأفراد علی الأفراد الأخری؛ لأنّها متقدّمة زماناً علی الأفراد الأخری، هذا یشمل العالِم الموجود الآن والعالِم الذی سیوجد فی المستقبل، یشملهما فی عرضٍ واحدٍ کجعلٍ ولیس کمجعول، المجعول واضح أنّه یختلف باختلاف الموضوع المتحقق فی الخارج، فإذا تحقق موضوعٌ یثبت له المجعول، وإذا تحقق موضوعٌ آخر یثبت له المجعول، المجعول الثانی یکون متأخّراً عن الأوّل، لکن کلامنا هو فی الخطاب الشرعی الذی یتکفّل مرحلة الجعل، ویکون ناظراً إلی مرحلة الجعل، هذا الجعل لا یُفرّق بین أفراد الموضوع لمجرّد أنّها تتقدّم زماناً وتتأخّر زماناً، هو ینظر إلیها فی عرضٍ واحدٍ، هذه قضیة واضحة.

الأمر الآخر: هو أنّ التعارض معناه التنافی بین الدلیلین بلحاظ دلالتهما، أو فی بعض الأحیان یکون هناک تنافٍ فی الدلیل الواحد ویسمّی بالتعارض الداخلی بلحاظ شموله لهذا الفرد وشموله للفرد الآخر، فیقع التعارض فی الدلالة، وحیث أنّ المفروض أنّ الخطابات الشرعیة تتکفّل عالم الجعل؛ حینئذٍ یکون التعارض الحاصل فی مفاد دلیلٍ بلحاظ أفراد موضوعه، لا محالة یکون هذا التعارض تعارضاً بلحاظ عالم الجعل؛ لأنّ الخطاب الشرعی یتکفّل عالم الجعل، والتعارض هو عبارة عن التنافی فی الدلالة، یعنی فی دلالة الخطاب، حتماً هذا التعارض یکون موجوداً فی عالم الجعل، بمعنی أنّه فی عالم الجعل هذا الخطاب لا یمکن أن یشمل هذا الفرد وفی نفس الوقت یشمل هذا الفرد، شموله لکلا الفردین یکون بینهما تنافٍ، شموله لهذا الفرد ینافی شموله ذلک الفرد کما فی محل الکلام، فی محل الکلام لدینا أصل عملی نرید أن نتمسّک بإطلاق خطابه لإثبات شموله لهذا الفرد وإثبات شموله لهذا الفرد، فإذا کان شموله لکلا الفردین غیر ممکن، فقهراً یقع التنافی بین إطلاق الخطاب لهذا الفرد وبین إطلاق الخطاب لذلک الفرد الآخر، قهراً یقع التنافی بینهما. هذا کلّه فی عالم الجعل، یقع التنافی بین الإطلاقین، فی الخطاب الواحد یکون إطلاق خطاب دلیل الأصل لهذا الطرف معارضاً بإطلاق هذا الخطاب للطرف الآخر، یقع بینهما تعارض وتنافٍ؛ إذ لا یمکن أن یکون دلیل الأصل شاملاً لکلا الطرفین، هذا التنافی بلحاظ عالم الجعل.

ص: 501

حینئذٍ نأتی إلی محل الکلام: کأنّ الفکرة التی طُرحت فی الوجه الرابع مبنیة علی افتراض أن المعارضة بین الأصول تکون بلحاظ زمان الفعلیة، أی زمان المجعول ولیس بلحاظ زمان الجعل ومرحلة الجعل؛ فحینئذٍ یقال بأنّ الأصلین فی الطرفین، یعنی فی الملاقی وفی الطرف الآخر، لمّا کانا فعلیین یتعارضان ویتساقطان؛ لأنّه لا یمکن شمول الدلیل لکلٍ منهما، بعد حدوث العلم الإجمالی الثانی الذی هو زمان فعلیة الأصل فی الملاقی، یقال بأنّه لا معارض لهذا الأصل؛ لأنّ الأصل فی الطرف الآخر سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی فی زمانٍ سابقٍ، فکأنّ التعارض هو بلحاظ زمان فعلیة الأصل، متّی یکون الأصل فعلیاً وتتوفّر شروطه؛ حینئذٍ یکون فعلیاً، وإذا کان فعلیاً تقع المعارضة بینهما. أمّا الأصل فی الملاقی قبل حدوث العلم الإجمالی الثانی لا یدخل طرفاً فی المعارضة؛ لأنّه لا یکون فعلیاً، بعد أن یتساقط الأصلان ویحدث العلم الإجمالی الثانی، فالأصل فی الملاقی حینئذٍ یکون فعلیاً ولا معارض له، فیجری، فهو مبنی علی افتراض أنّ التعارض إنّما هو بلحاظ مرحلة الفعلیة، والفعلیة تختلف باختلاف الزمان، فتتقدّم فعلیة علی فعلیةٍ أخری بلحاظ الزمان؛ لأنّ الفعلیة تابعة لفعلیة الموضوع، فإن تحقق الموضوع یکون فعلیاً، وإذا تحقق موضوع آخر یکون فعلیاً .....وهکذا، بینما بناءً علی هذا الذی ذُکر یقال بأنّ التعارض هو بلحاظ مرحلة الجعل لا بلحاظ مرحلة الفعلیة، أی مرحلة المجعول، أولاً: لأنّ الخطابات تتکفل مرحلة الجعل وتجعل الحکم علی الموضوعات المقدّرة الوجود، وفی عالم الجعل الخطاب ینظر إلی أفراد موضوعه بنظرة واحدة فی عرضٍ واحدٍ، وإن تقدّم بعضها علی البعض الآخر فی الزمان، لکنّه ینظر إلیها فی عرضٍ واحدٍ؛ لأنّه افترض الموضوع وصبّ علیه الحکم؛ فحینئذٍ هذا الحکم یتعلّق بکل فردٍ من أفراد موضوعه فی عرضٍ واحدٍ بلا تقدّم ولا تأخّر. هذا من جهة.

ص: 502

ومن جهة ثانیة: قلنا أنّ الفعلیة لیس لها علاقة بأصل الموضوع، وأنّ التعارض یقع فی دلیل الأصل بلحاظ فردین، فردان أحدهما متقدّم علی الآخر زماناً، لکن هذا بلحاظ الجعل لا أثر لهذا التقدّم والتأخّر الزمانی فی شمول دلیل الجعل والخطاب الشرعی لکلٍ منهما فی عرضٍ واحدٍ، فی مرحلة الجعل الدلیل یشملهما معاً فی عرضٍ واحدٍ، لا یشملهما بلحاظ التقدّم والتأخّر الزمانی؛ بل یشملهما فی عرضٍ واحدٍ؛ وحینئذٍ یقال بأنّه یقع التعارض بینهما حتّی إذا کان أحدهما متقدّماً والآخر متأخّراً، لیکن شمول الأصل لهذا الطرف فی زمانٍ متقدّماً علیه، والطرف الآخر متأخّراً عنه زماناً، لکن شمول الجعل لکلٍ منهما یکون فی عرضٍ واحدٍ فی مرحلة الجعل، فیقع التعارض حینئذٍ والتساقط، وننتهی إلی نفس النتیجة وهی أنّ الطرف المشترک یتلقّی التنجیز من کلٍ منهما وتتساقط الأصول جمیعاً.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

إلی هنا ینتهی الکلام عن الصورة التی تکلّمنا عنها، وتبیّن من خلال البحوث السابقة أنّ تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی بالعلم الإجمالی الأوّل المعروف والمشهور بینهم هو أنّه لا یثبت، بمعنی أنّ العلم الإجمالی الأوّل بین الإناءین لا ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی إلاّ علی احتمالٍ تقدّم وهو أن نفترض أنّ نجاسة الملاقی هی من باب السرایة والتبعیة بالمعنی المتقدّم سابقاً، بناءً علی هذا الاحتمال الغیر المقبول من المشهور وغیر المعروف بینهم، یمکن إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی بنفس العلم الإجمالی الأوّل علی ما تقدّم سابقاً. نعم، بناءً علی السببیة، بمعنی أنّ نجاسة الملاقی لنجاسة أخری غیر نجاسة الملاقی، وإن کانت مسببّة عنها وناشئة منها، لکنّها نجاسة جدیدة وأخری یحتاج إثباتها إلی دلیل ولا یکفی فی إثباتها مجرّد نجاسة الملاقی. فالصحیح ما ذهبوا إلیه من عدم تنجیز العلم الإجمالی الأوّل لوجوب الاجتناب عن الملاقی.

ص: 503

وأمّا بلحاظ العلم الإجمالی الثانی فی حالة ما إذا کانت الملاقاة والعلم بالملاقاة متأخّرة عن العلم الإجمالی المفروض فی محل الکلام. هذه هی الصورة التی تکلّمنا عنها، وهی أن تکون الملاقاة والعلم بالملاقاة متأخّرة عن العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین، هل یمکن تنجیز وجوب الاجتناب عن الملاقی بالعلم الإجمالی الثانی الحاصل بعد الملاقاة والعلم بالملاقاة، بأنّ المکلّف یعلم بنجاسة إمّا الملاقی بعد الملاقاة، وإمّا الطرف الآخر، هل یمکن ذلک، أو لا یمکن ؟ المعروف بین الجماعة والمشهور هو أیضاً أنّ العلم الإجمالی الثانی لا ینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی، ولهم مبانٍ ومسالک لإثبات عدم التنجیز وانحلال العلم الإجمالی الثانی وعدم تنجیزه لوجوب الاجتناب عن الملاقی.

المسلک الأوّل: المبنی الذی نقلناه عن السید الخوئی(قدّس سرّه) الذی یرکّز علی مسألة التقدّم الزمانی ویقول أنّ الأصل فی الملاقی لیس له معارض؛ لأنّ معارضه هو الأصل فی الطرف الآخر، وهذا الأصل قد سقط فی زمانٍ سابقٍ __________ فیفترض التقدّم والتأخّر الزمانی _________ بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی؛ وحینئذٍ لا یعود الأصل الساقط، فیجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، وبذلک ینحلّ العلم الإجمالی، ویسقط عن التنجیز.

المسلک الثانی: الذی یرکّز علی مسألة الطولیة لا علی مسألة التقدّم والتأخّر فی الزمان، وإنّما التقدّم والتأخّر الرتبی، ویقول بأنّ الأصل فی الملاقی لیس له معارض فی رتبته، قد یکون فی الزمان له معارض معاصر له زماناً، لکنّه لیس معاصراً له فی الرتبة، وهذا الشیء موجود فی کل حالات هذه الصورة التی نتکلّم عنها، دائماً العلم الإجمالی الثانی متأخّر رتبة عن العلم الإجمالی الأوّل، دائماً نجاسة الملاقی متأخّرة رتبة عن نجاسة الملاقی علی تقدیر نجاسته، فالتأخّر الرتبی دائماً موجود، بینما الرأی الأوّل کان یفترض فی محل الکلام التقدّم والتأخّر الزمانی، وافترض الانحلال وعدم التنجیز علی هذا الأساس. المسلک الثانی یقول فی کل الحالات هناک تقدّم وتأخّر رتبی، وهذا التقدم والتأخّر الرتبی یجعل الأصل فی الملاقی غیر داخل فی المعارضة؛ لأنّ الأصل فی الطرف الآخر وفی الرتبة السابقة تعارض مع الأصل فی الملاقی وهذه المعارضة مستحکمة وأوجبت تساقط الأصلین، والأصل فی الملاقی لا یدخل طرفاً فی المعارضة، وإنّما الأصل فی الملاقی فی رتبته لیس له معارض، فیجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن التنجیز. واضح أنّ هذین المسلکین مبنیان علی القول بمسلک الاقتضاء، بحیث یکفی فی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز وانحلاله جریان الأصل فی أحد الطرفین بلا معارض.

ص: 504

المسلک الثالث المتقدّم: دعوی انحلال العلم الإجمالی الثانی علی اساس أنّ معلومه متأخّر عن المعلوم بالعلم الإجمالیالأوّل. صاحب هذا المسلک یری أنّ المیزان فی تأثیر العلم وعدم تأثیره فی تنجیز العلم وعدم تنجیزه هو سبق المعلوم وتأخّره لا سبق العلم وتأخّره، فلیس المهم أن یکون العلم الثانی الذی یدّعی انحلاله متأخّراً زماناً عن العلم الأوّل؛ بل حتی لو کان العلم الثانی متقدّماً زماناً علی العلم الأوّل، ما دام معلومه متقدّماً زماناً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، مع ذلک یکون العلم المتأخّر حالّاً للعلم المتقدّم؛ لأنّ العلم وإن کان متأخّراً زماناً، لکنّ معلومه متقدّم زمانه علی المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر ویکون هذا موجباً لانحلاله، فالعلم الإجمالی الثانی إذا کان معلومه متأخّراً زماناً عن المعلوم بالعلم الإجمالیالأوّل؛ حینئذٍ هذا یکون موجباً لانحلاله؛ باعتبار أنّ المعلوم المتقدّم زماناً إذا تنجّز؛ حینئذٍ العلم الذی یکون معلومه متأخّراً لا یکون منجّزاً علی کل تقدیر، وإنّما یکون منجّزاً علی تقدیرٍ دون تقدیرٍ آخر، وهذا یوجب سقوطه عن التنجیز.

المسلک الرابع: هو دعوی الانحلال علی اساس أنّ العلم الإجمالی الثانی متأخّر عن العلم الإجمالیالأوّل فی الرتبة، فلا یکون منجزاً؛ لأنّ أحد طرفیه تنجّز فی المرتبة السابقة والمتنجّز لا یتنجّز، وهذا الطرف تنجّز فی الرتبة السابقة، فلا یکون العلم الإجمالی الثانی موجباً لتنجیزه، وهذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز وانحلاله. هذه هی الوجوه المتقدّمة لإثبات أنّ العلم الإجمالی الثانی منحل ولیس منجزاً. وتبین أنّ هذه الوجوه لیست ناهضة لإثبات المنع عن منجّزیة العلم الإجمالی الثانی، وقلنا فی البدایة أنّ القاعدة تقتضی تنجیز هذا العلم الإجمالی الثانی، باعتبار أنّ الملاقی طرف فیه، ولیس طرفاً فی العلم الإجمالیالأوّل، فیقع الکلام فی أنّ العلم الإجمالیالأوّل ینجّز الملاقی، أو لا ینجّزه، لکن العلم الإجمالی الثانی وقع طرفاً فیه فالقاعدة تقتضی أن یکون منجّزاً له، وتبیّن أنّه لیس هناک ما یمنع من التنجیز، فلابدّ أن یکون العلم الإجمالی الثانی منجّزاً لوجوب الاجتناب عن الملاقی، إن لم نقل أنّ العلم الإجمالیالأوّل أیضاً ینجز وجوب الاجتناب عن الملاقی. هذا کلّه فی الصورة التی تکلّمنا عنها وهی ما إذا کان العلم الإجمالی بنجاسة أجد الإناءین متقدّماً علی زمان الملاقاة والعلم بالملاقاة، هذا ما وقع الکلام فیه، وتبیّن أنّ الصحیح خلافاً لما هو المعروف وجوب الاجتناب عن الملاقی.

ص: 505

الصورة الأخری التی یقع الکلام فیها: هی ما إذا کان العلم الإجمالی متأخّراً زماناً عن الملاقاة وعن العلم بالملاقاة، عکس الصورة الأولی، کما إذا فرضنا أنّ الثوب لاقی هذا الإناء، وعلم المکلّف بهذه الملاقاة، ثمّ بعد ذلک علم إجمالاً بنجاسة إمّا الإناء الذی لاقاه الثوب، أو الماء الموجود فی الإناء الآخر، العلم الإجمالی هو کعلمٍ إجمالی یکون متأخّراً عن زمان الملاقاة وزمان العلم بها. ذکروا لهذه الصورة حالتین یجمعها مقسم هو أنّ العلم الإجمالی بنجاسة أحد الإناءین متأخّر عن الملاقاة وعن العلم بالملاقاة:

الحالة الأولی: أن یکون زمان المعلوم بالإجمال متّحداً مع زمان الملاقاة، یعنی زمان النجاسة المعلومة بالإجمال متّحد مع زمان الملاقاة من قبیل ما إذا کان الثوب من البدایة موجود فی هذا الماء، ثمّ علمنا بنجاسة أحد شیئین، إمّا الماء الموجود فیه الثوب، وإمّا الماء الموجود فی الإناء الآخر، هنا زمان النجاسة المعلومة بالإجمال هو نفس زمان الملاقاة، یعنی ما أعلمه بالإجمال هو نجاسة إمّا هذا الماء، أو الإناء الآخر، الملاقاة کانت حاصلة فی نفس الزمان، الملاقاة والنجاسة المعلومة بالإجمال زمانهما متّحد، وإن کان العلم بالنجاسة المردّدة بین الإناءین متأخّراً عن زمان الملاقاة وزمان العلم بها، العلم متأخّر، لکن المعلوم بهذا العلم متّحد مع زمان الملاقاة.

الحالة الثانیة: أن یکون زمان المعلوم بالإجمال سابقاً علی زمان الملاقاة، العلم الإجمالی بالنجاسة متأخّر عن الملاقاة وعن العلم بالملاقاة، لکن المعلوم بهذا العلم الإجمالی متقدم علی الملاقاة کما إذا فرضنا أنّه علم یوم السبت بنجاسة أحد الماءین فی الإناءین یوم الخمیس، یعنی العلم حصل یوم السبت، لکن المعلوم هو النجاسة یوم الخمیس، ثمّ لاقی الثوب أحد الماءین یوم الجمعة، فیکون العلم الإجمالی حاصلاً یوم السبت، الملاقاة حصلت یوم الجمعة، فنحافظ علی المقسم بهذه الصورة، العلم الإجمالی بنجاسة أحد الماءین متأخّر عن زمان الملاقاة؛ لأنّ الملاقاة حصلت یوم الجمعة، لکن المعلوم بهذا العلم الإجمالی المتأخّر متقدّم حتّی علی الملاقاة؛ لأنّ ما یعلمه هو نجاسة أحد الإناءین یوم الخمیس، فیکون متقدّماً علی زمان الملاقاة.

ص: 506

وقع الکلام فی هاتین الحالتین، بالنسبة إلی الحالة الأولی، وهی ما إذا کان زمان المعلوم بالإجمال متّحداً مع زمان الملاقاة، ومثاله الواضح هو إناء أنغمس فیه ثوب، أنا علمت إجمالاً بنجاسة أحد الشیئین: إمّا هذا الماء، وإمّا هذا الثوب فی ذاک التاریخ، فیکون زمان النجاسة المعلومة، قد تکون النجاسة حاصلة قبل ذلک، لکنّها لیست معلومة، زمان النجاسة المعلومة متّحد مع زمان الملاقاة، فی هذه الحالة هناک أکثر من رأی:

الرأی الأوّل: یحاول أن یستفید من الطولیة بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الملاقی، باعتبار أنّ الشک فی نجاسة الملاقی ناشئ من الشک فی نجاسة الملاقی. إذن: هناک طولیة وتقدّم وتأخّر رتبی بینهما، وهذه الطولیة تحتّم أن نقول بأنّ الأصل السببی یکون حاکماً علی الأصل المسببی، ولا تصل النوبة إلی الأصل المسببی إلاّ بعد سقوط الأصل السببی الذی هو الأصل فی الملاقی، والأصل المسببی هو الأصل فی الملاقی، ولمّا کان ذاک حاکماً، وهذا فی طول ذاک، فالنوبة لا تصل إلی الأصل المسببی إلاّ إذا سقط الأصل السببی الحاکم الذی هو الأصل فی الملاقی، ویسقط الأصل فی الملاقی بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر، فإذا تعارضا وتساقطا؛ حینئذٍ تصل النوبة إلی الأصل المسببی، أی الأصل فی الملاقی، وهو أصل لیس له معارض، فیجری، وهذا یؤدی إلی عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، وبذلک ینحل العلم الإجمالی.

الرأی الثانی: أنّ الطولیة بین الأصلین لا تنفع. صحیح أنّ الأصل فی الملاقی فی رتبة متأخّرة عن الأصل فی الملاقی، لکن هذه الطولیة لا تنفع بعد فرض اتحاد زمان المعلوم بالإجمال وزمان الملاقاة، باعتبار أنّ هنا یوجد عندنا علمان متعاصران زماناً، أحدهما العلم بنجاسة هذا الإناء، أو ذاک الإناء، والآخر العلم بنجاسة الملاقی أو ذاک الإناء، هذان علمان متعاصران زماناً ولا یوجد بینهما تقدّم وتأخّر فی الزمان؛ وحینئذٍ یکون کل منهما منجّزاً، یشترکان فی التنجیز ویکون هذا نظیر ما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة الماء الموجود فی الإناء الکبیر، أو الماء الموجود فی الإناءین الصغیرین؛ إذ لا إشکال فی أنّ هذا العلم الإجمالی ینجّز جمیع الأطراف الثلاثة، ینجّز الماء فی الإناء الکبیر، والماءین فی الإناءین الصغیرین، وما نحن فیه من هذا القبیل، هنا أیضاً نعلم إجمالاً بأنّ النجاسة موجودة، إمّا فی الملاقی، أو فی الملاقی، أو فی الطرف الآخر، إمّا فی الثوب، أو فی الماء الذی لاقاه الثوب، أو فی الطرف الآخر؛ فحینئذٍ لابدّ من الاجتناب عن الأطراف الثلاثة وهذا العلم الإجمالی یکون منجّزاً للثوب فی محل الکلام.

ص: 507

نعم، یقول: هناک فرق بین محل الکلام وبین مثال الإناءین الصغیرین والإناء الکبیر، والفرق هو أنّ نجاسة الثوب فی محل کلامنا مسببّة عن نجاسة الملاقی، بینما نجاسة الإناء الصغیر الثانی لیست مسببّة عن نجاسة الإناء الصغیر الأوّل، ولا توجد علاقة سببیة ومسببیة بینهما، لکن هذا لیس فارقاً مهمّاً ولا یؤثر علی النتیجة؛ إذ بالنتیجة نحن نعلم إجمالاً بنجاسة إمّا الملاقی والملاقی، وإمّا نجاسة الطرف الآخر، کما نعلم فی المثال بنجاسة إمّا الإناء الکبیر، وإمّا الإناءین الصغیرین، الإناءان الصغیران بمثابة الملاقی والملاقی، فکما هناک نعلم بنجاسة إمّا الإناءین الصغیرین أو الإناء الکبیر، هنا أیضاً نعلم بنجاسة إمّا الملاقی والملاقی وإمّا الطرف الآخر، فتتنجّز کل الأطراف ویکون هذا موجباً لوجوب الاجتناب عن الملاقی.

الرأی الثالث: هذا الرأی أصلاً ینکر الطولیة بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر، یقول لا توجد طولیة بینهما، الرأی الثانی کان یعترف بالطولیة، لکنّه کان یقول بأنّ الطولیة لا تنفع مادام هناک تعاصر زمانی بین العلمین، لکن الرأی الثالث ینکر الطولیة اساساً بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الأخر، ویقول لا طولیة بینهما حتّی نقول کما فی الرأی الأوّل بأنّ الطولیة بینهما تمنع من وصول النوبة إلی الأصل فی الملاقی إلاّ بعد سقوط الأصل فی الطرف الآخر، وإذا سقط الأصل فی الطرف الآخر یجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، هذه الطولیة ممنوعة؛ لأنّها مبنیة علی فکرة أنّ الأصل فی الملاقی فی طول الأصل فی الملاقی، والأصل فی الملاقی فی رتبة الأصل فی الطرف الآخر، والمتأخّر عن أحد المتساویین رتبةً متأخّر عن الآخر، فتکون هناک طولیة بین الملاقی وبین الطرف الآخر، إذا کانت هناک طولیة؛ حینئذٍ یجری الکلام السابق بأنّ النوبة لا تصل إلی الأصل فی الملاقی إلاّ بعد سقوط ذلک الأصل، فإذا سقط ووصلت النوبة إلی الأصل فی الملاقی، فلا معارض له. الرأی الثالث ینکر أصل الطولیة، وینکر المبدأ القائل بأنّ المتأخّر عن أحد المتساویین متأخّر عن الآخر، وهذا معناه أنّ الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر فی رتبةٍ واحدة وفی عرضٍ واحدٍ، فالطولیة لا تنفع لإثبات الانحلال وسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، باعتبار جریان الأصل فی الملاقی بلا معارض؛ بل نحن ذکرنا سابقاً فی ما تقدّم أنّه حتّی الطولیة بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الملاقی غیر موجودة، فکما لا طولیة بین الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر، کذلک لا طولیة بین الأصل فی الملاقی وبین الأصل فی الملاقی.

ص: 508

ومن هنا یظهر أنّ الصحیح فی هذه الحالة من الصورة الثانیة هو إنکار الطولیة، وعلی تقدیر تسلیم الطولیة، فالظاهر أنّها لا توجب سقوط التنجیز عن العلم الإجمالی الثانی وانحلاله؛ بل یبقی ویکون موجباً للتنجیز ولوجوب الاجتناب عن الملاقی.

وأمّا الحالة الثانیة، فالفرق بین الحالة الأولی والثانیة هو أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الذی فرضناه فی أصل الصورة الثانیة متأخّراً عن الملاقاة وعن زمان العلم بها، فی الحالة الأولی کان متحداً مع زمان الملاقاة، أمّا فی الحالة الثانیة فیتقدّم، یعنی یکون المعلوم بالعلم الإجمالی المتأخّر سابقاً علی زمان الملاقاة، یوم السبت علم بنجاسة أحد الإناءین یوم الخمیس، والملاقاة حصلت یوم الجمعة، فی هذه الصورة هناک رأی یری عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی فی هذه الحالة، باعتبار أنّ المعلوم بالإجمال فی المثال السابق هو النجاسة یوم الخمیس، الثوب لیس طرفاً فی هذا العلم الإجمالی، ما هو طرف فی هذا العلم الإجمالی باعتبار أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی متقدّم علی الملاقاة، ما هو طرف فی هذا العلم الإجمالی هو عبارة عن هذا الإناء وهذا الإناء، الثوب لیس طرفاً فی العلم الإجمالی، فإذا لم یکن طرفاً فی العلم الإجمالی یکون الشکّ فی نجاسة الثوب شکّاً بدویاً، وشکّاً فی نجاسة جدیدة فی الثوب بعد النجاسة المعلومة والمرددة بین الإناءین فی یوم الخمیس، یشکّ فی أنّه حدثت نجاسة فی هذا الثوب الملاقی لأحد الإناءین، أو لم تحدث نجاسة جدیدة ؟ فهو شکّ فی حدوث نجاسةٍ جدیدةٍ، فیجری الأصل المؤمّن لنفی هذا الشکّ ونفی هذه النجاسة الجدیدة المحتملة، والسرّ فی ذلک هو أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی متقدمٌ علی زمان الملاقاة، ومع فرض التقدّم، یقول: فی الزمان الأوّل، أی فی یوم الخمیس العلم الإجمالی ولو کان متأخّراً، لکن لمّا کان معلومه متقدّماً سوف ینجّز کلا الإناءین، والثوب لیس طرفاً فی هذا العلم الإجمالی، فإذا لم یکن طرفاً فی هذا العلم الإجمالی، فالشکّ فی نجاسته هو شکٌ فی نجاسةٍ جدیدةٍ حادثةٍ بعد النجاسة المعلومة بالإجمال، والشکّ فی نجاسةٍ حادثةٍ جدیدةٍ یجری فیه الأصل المؤمّن؛ وحینئذٍ ینحلّ العلم الإجمالی.

ص: 509

یقول: وفرقها عن الحالة الأولی هو أنّه فی الحالة الأولی لم یکن هناک فاصل زمانی بین المعلوم بالإجمال وبین الملاقاة، زمان المعلوم بالإجمال متّحد مع زمان الملاقاة، وعدم تخلّل الفاصل الزمانی بین المعلوم بالإجمال وبین الملاقاة. أو بعبارةٍ أخری: لیس هناک فاصل زمانی بین نجاسة الملاقی علی تقدیر نجاسته وبین نجاسة الملاقی، فی الآن الذی عُلم فیه بنجاسة الملاقی علی تقدیر أن یکون هو النجس، فی نفس الآن الثوب أیضاً یکون نجساً، ولیس هناک فاصل زمانی بین النجاستین؛ فحینئذٍ هذا یعنی أنّ العلم الإجمالی من البدایة یتعلّق بالأطراف الثلاثة، یعنی ما أعلمه إجمالاً هو إمّا نجاسة الماء الموجود فیه الثوب والثوب، أو نجاسة الإناء الآخر؛ ولذا یکون حاله حال المثال السابق، العلم إمّا بنجاسة الماء الموجود فی الإناء الکبیر، أو الماءین الموجودین فی الإناءین الصغیرین، من البدایة ما أعلمه هو نجاسة إمّا ثابتة لهذا الماء فی هذا الإناء والثوب الموجود فیه، أو نجاسة ثابتة فی الإناء الآخر، فیکون الفرق بینهما فی تخلّل فاصلٍ زمانیٍ بین المعلوم بالإجمال وبین زمان الملاقاة، أو عدم وجود فاصلٍ زمانیٍ؛ ولذا یقول: فی الحالة الثانیة نحن نقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقی بخلاف الحالة الأولی، فأنّه یجب الاجتناب عن الملاقی.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

کان الکلام فی الصورة الثانیة، وقلنا أنّ الصورة الثانیة فیها حالتان، وتکلّمنا عن الحالة الأوّلی وانتهی الکلام إلی الحالة الثانیة، وهی أن یُفرض فیها أنّ زمان المعلوم بالإجمال سابق علی زمان الملاقاة، وإن کان نفس العلم الإجمالی متأخّراً زماناً عن ذلک، لکنّ المعلوم بالإجمال سابق علی زمان الملاقاة. ومثّلنا بما إذا علم إجمالاً یوم السبت بأنّ أحد الإناءین نجس، فزمان العلم الإجمالی هو السبت، لکنّ ما علمه بالإجمال هو نجاسة أحد الإناءین یوم الخمیس، ثم فُرض تحقق الملاقاة یوم الجمعة، فیکون العلم الإجمالی فی یوم السبت متأخّراً عن زمان الملاقاة، ولکنّه متقدّم علی زمان المعلوم بالإجمال. فی هذه الحالة، وهی حالة ما إذا کان المعلوم بالإجمال متقدّماً علی زمان الملاقاة، قلنا بأنّه قد یقال بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، باعتبار أنّ المعلوم بالإجمال وهو النجاسة فی یوم الخمیس فی هذا المثال مرددّة بین الملاقی وبین الطرف الآخر، والملاقی لیس طرفاً فی هذا العلم الإجمالی، ومن هنا یکون الشکّ فی الملاقی شکّاً فی حدوث نجاسةٍ جدیدة بعد حدوث النجاسة المرددّة، فیُرجع فیها إلی الأصل. والفرق بینها وبین الحالة ألأولی من الصورة الثانیة هو أنّ هناک لم یکن هناک فاصل زمانی بین نجاسة الملاقی وبین نجاسة الملاقی؛ لأنّ الزمان متّحد فی الحالة الأولی، اتّحاد زمان نجاسة الملاقی المعلوم بالإجمال علی تقدیر نجاسته وبین زمان نجاسة الملاقی، هذا الاتّحاد أوجب أن یکون الملاقی داخلاً طرفاً فی العلم الإجمالی؛ لأنّ ما یعلمه المکلّف حقیقة هو نجاسة إمّا الملاقی والملاقی، وإمّا الإناء الآخر، فتتنجّز جمیع الأطراف الثلاثة؛ لأنّ زمان نجاسة الملاقی علی تقدیر أن یکون هو النجس متّحد مع زمان نجاسة الملاقی، لکن فی الحالة الثانیة الأمر لیس هکذا، زمان نجاسة الملاقی حدثت یوم الخمیس علی تقدیر أن یکون هو النجس؛ لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالی المتأخّر هو نجاسة أحد الإناءین الملاقی، أو الطرف الآخر فی یوم الخمیس، بینما زمان الملاقاة متأخّر عنه، حدث بعد ذلک، هذا الفاصل الزمانی بینهما هو الذی جعل القائل یقول بأن الثوب لا یتنجّز؛ لأنّه لیس طرفاً فی العلم الإجمالی الحاصل والذی زمانه یوم الخمیس، هناک النجاسة مرددّة یوم الخمیس بین الملاقی وبین الطرف الآخر، والثوب لیس طرفاً فی هذا العلم الإجمالی، ومن هنا قال بأنّ الشکّ فی نجاسة الثوب هی شکّ فی نجاسة جدیدة، فیجری فیها الأصل.

ص: 510

هذا الکلام بهذه الصیغة مردود، والصحیح هو أنّه لا فرق بین الحالتین فی أنّ العلم الإجمالی ینجّز الملاقی کما ینجّز الملاقی من دون فرقٍ بین الحالتین المتقدّمتین، باعتبار أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی فی الحالة الثانیة وإن کان متقدماً وسابقاً علی زمان الملاقاة کما هو المفروض فی الحالة الثانیة؛ لأنّه حدث یوم الخمیس کما قلنا فی المثال، فهو وإن کان متقدّماً وسابقاً، لکنّه یکون متقدّماً فی الحقیقة بوجوده الواقعی، النجاسة المرددّة بین الملاقی وبین الطرف الآخر بوجودها الواقعی لا بوجودها المعلوم تکون متقدّمة وسابقة بلا إشکال، لکنّ هذه النجاسة بوجودها العلمی لیست متقدّمة؛ لأنّ المفروض أنّ العلم حصل بعد ذلک، لیس العلم حاصلاً فی یوم الخمیس، وإنّما المفروض أنّ العلم حصل یوم السبت، یوم السبت علم بنجاسةٍ مرددّة یوم الخمیس بین الملاقی وبین الطرف الآخر، فالنجاسة المعلومة بالإجمال بوجودها الواقعی متقدّمة، لکنّها بوجودها العلمی حصلت یوم السبت، ومن الواضح أنّ التنجیز من آثار العلم بالنجاسة ولیس من آثار النجاسة بوجودها الواقعی، النجاسة بوجودها الواقعی لا تکون منجّزة، وإنّما تکون منجّزة بوجودها العلمی، أی عندما یعلم بها المکلّف، أمّا بوجودها الواقعی، فلا یترتب علیها التنجیز، التنجیز من آثار العلم بالنجاسة لا من آثار النجاسة بوجودها الواقعی، وهذا معناه أنّ التنجیز لا یبدأ إلاّ من حین حدوث العلم ولا علاقة لذلک بنفس المعلوم، لیکن المعلوم بالعلم الإجمالی متقدّماً یوم الخمیس، لکن تنجیز هذا المعلوم لا یکون إلاّ من حین حدوث العلم، والمفروض فی محل کلامنا أنّ العلم متأخّر زماناً عن الملاقاة؛ فحینئذٍ یکون حال هذه الحالة _____________ الثانیة ______________ هی نفس الحالة الأولی، باعتبار أنّ الملاقی یکون من أطراف هذا العلم الإجمالی؛ لأنّه فی زمان حدوث العلم، والمفروض أنّ الملاقاة متقدّمة علیه فی الحالة الثانیة، زمان الملاقاة متقدّم علی العلم، حینما حصل العلم، والمفروض أنّ العلم هو المنجّز، والنجاسة إنّما تتنجز بوجودها العلمی، حینما حصل العلم نحن نعلم واقعاً بنجاسةٍ مرددةٍ بین الملاقی والملاقی وبین الطرف الآخر، فتتنجّز جمیع الأطراف وإن کانت النجاسة المعلومة المتقدّمة زماناً بوجودها الواقعی علی زمان الملاقاة، لکنّ العلم بها متأخّر عن زمان الملاقاة، فحینما یحصل العلم الإجمالی مع فرض تقدّم زمان الملاقاة، الثوب لاقی أحد الطرفین، هذا العلم الإجمالی فی الحقیقة هو علم بنجاسة الملاقی والملاقی أو نجاسة الطرف الآخر، فیکون منجّزاً لجمیع الأطراف الثلاثة، وهذا معناه وجوب الاجتناب عن الملاقی فی هذه الحالة أیضاً کما هو الحال فی الحالة الأولی من الصورة الثانیة، بالضبط هذا یکون من قبیل ما تقدّم ما إذا علمنا بنجاسة الإناء الکبیر، أو الإناءین الصغیرین، فی یوم السبت عندما علمت إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین مع فرض تقدم زمان الملاقاة علی هذا العلم الإجمالی. إذن: أنا أعلم إجمالاً بنجاسة إمّا الإناء الآخر، أو الملاقی والملاقی، فتتنجّز جمیع الأطراف ولا یمکن إجراء الأصل فی الملاقی کما ذُکر.

ص: 511

الصورة الثالثة: أن یُفترض أنّ العلم الإجمالی بعد الملاقاة وقبل زمان العلم بالملاقاة، کما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین یوم السبت، فزمان العلم الإجمالی هو یوم السبت، ثمّ علمنا یوم الأحد أن أحد الإناءین لاقی ثوباً یوم الجمعة، فزمان الملاقاة یوم الجمعة، وزمان العلم الإجمالی یوم السبت، وزمان العلم بالملاقاة یوم الأحد، فیکون زمان العلم الإجمالی بعد الملاقاة؛ لأنّ الملاقاة حصلت یوم الجمعة وقبل العلم بها؛ لأنّ العلم بالملاقاة حصل یوم الأحد. فی هذه الصورة هل یحکم بحکم الصورة الأولی علی رأیهم ؟ حیث أنّهم ذهبوا فی الصورة الأولی إلی عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، هل تُلحق هذه الصورة الثالثة بالصورة الأولی، فلا یجب الاجتناب فیها عن الملاقی ؟ أو أنّها ملحقة بالصورة الثانیة حتّی یجب فیها الاجتناب عن الملاقی ؟ بناءً علی عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی فی الصورة الأولی، ووجوب الاجتناب عن الملاقی فی الصورة الثانیة. إلحاقها بالصورة الأولی باعتبار أنّها تشترک مع الصورة الأولی بتقدّم العلم الإجمالی علی العلم بالملاقاة، فی کلٍ منهما یکون العلم الإجمالی متقدّماً علی العلم بالملاقاة؛ لأنّ العلم بالملاقاة فی محل کلامنا حصل یوم الأحد، والعلم الإجمالی حصل یوم السبت، فیکون العلم الإجمالی متقدّماً علی زمان العلم بالملاقاة، والصورة الأولی أیضاً هکذا کانت، نقطة الاشتراک هذه هل توجب إلحاق هذه الصورة الثالثة بالصورة الأولی، فیُلتزم بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقی کما ذکروا ؟ أو أنّها تُلحق بالصورة الثانیة التی ذهب المحققون منهم إلی وجوب الاجتناب عن الملاقی فیها، باعتبار أنّها تشترک معها فی کون العلم الإجمالی متأخّراً عن الملاقاة، فهل تُلحق بهذه، أو بهذه ؟ ذکروا هذا فی کلماتهم، واختلفوا فی إلحاقها بالصورة الأولی، أو بالصورة الثانیة.

ص: 512

وبعبارةٍ أخری: هل یجب الاجتناب عن الملاقی فی الصورة الثالثة، أو لا یجب الاجتناب عن الملاقی ؟ بناءً علی وجوب الاجتناب عن الملاقی حتّی فی الصورة الأولی؛ بل فی جمیع الصور المتقدّمة وفی کلّ الحالات المتقدّمة یجب الاجتناب عن الملاقی کما هو الصحیح، هنا أیضاً یقال بوجوب الاجتناب عن الملاقی، وإنّما ینفتح البحث فی هذه الصورة الثالثة عندما نختار التفصیل بین الصور المتقدّمة فی وجوب الاجتناب أو عدم وجوب الاجتناب، فإذا قلنا مثلاً فی الصورة الأولی بعدم وجوب الاجتناب کما هو المعروف، وفی الصورة الثانیة یجب الاجتناب، فیقع الکلام فی أنّ الصورة الثالثة هل تُلحق بالصورة الأوّلی فلا یجب الاجتناب، أو تُلحق بالصورة الثانیة، فیجب الاجتناب ؟ فیکون هناک مجال لهذا البحث، بناءً علی التفصیل فی الصور السابقة.

فی الصورة الثالثة هناک رأیان:

الرأی الأوّل: یری وجوب الاجتناب عن الملاقی إلحاقاً لها بالصورة الثانیة، وذلک باعتبار جهة الاشتراک الموجودة بینهما وهی أنّ العلم الإجمالی متأخر زماناً عن الملاقاة، الملاقاة حاصلة ومتحققة عندما یحصل العلم الإجمالی، یعنی أنّ العلم الإجمالی متأخّر زماناً عن زمان الملاقاة. عندما یکون العلم الإجمالی متأخّراً عن زمان الملاقاة، الملاقاة حاصلة ومتحققة عندما یحدث العلم الإجمالی؛ حینئذٍ یقال أنّ الملاقی یکون طرفاً فی هذا العلم الإجمالی؛ لأنّ ما نعلمه واقعاً مع فرض تقدّم الملاقاة علی العلم الإجمالی هو بنجاسة مرددّة بین الملاقی والملاقی وبین الطرف الآخر، هذا هو ما نعلمه بالعلم الإجمالی، ولا یجوز لنا أن نقصر هذا العلم الإجمالی علی الملاقی والطرف الآخر؛ لأنّ زمان الملاقاة متقدّم علی زمان حدوث العلم الإجمالی، یأتی العلم الإجمالی وما یعلمه إجمالاً بعد فرض تحقق الملاقاة هو عبارة عن کل الأطراف الثلاثة، کلّها تکون داخلة بعد العلم الإجمالی، صحیح أنّ العلم الإجمالی حدث یوم السبت، وصحیح أیضاً أنّ هذا العلم الإجمالی الحادث یوم السبت له طرفان وهما عبارة عن الملاقی والطرف الآخر، لکن بعد العلم بالملاقاة یوم الأحد فی المثال السابق وکون تاریخ الملاقاة متقدّماً علی یوم السبت، الملاقاة حصلت یوم الخمیس وإن کان العلم بها حصل یوم الأحد؛ حینئذٍ هذا العلم الإجمالی بنجاسة إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر سوف ینقلب إلی العلم بنجاسة إمّا الملاقی والملاقی، وإمّا الطرف الآخر، ینقلب إلی هذا العلم الإجمالی الثانی، والتنجیز یدور مدار هذا العلم الإجمالی الثانی، یوم السبت قبل حلول یوم الأحد العلم الإجمالی طرفاه خصوص الملاقی والطرف الآخر، والثوب لا یدخل طرفاً فی هذا العلم الإجمالی، لکن یوم الأحد حینما أعلم بتحقق الملاقاة قبل تاریخ العلم الإجمالی، معناه أنّ العلم الإجمالی ینقلب، هذا العلم الإجمالی الحاصل یوم السبت الذی له طرفان سوف ینقلب إلی علم إجمالی بنجاسة إمّا الملاقی والملاقی أو الطرف الآخر، فیدخل الملاقی طرفاً فی هذا العلم الإجمالی الثانی والذی علیه تدور المنجّزیة، المنجزیة تکون علی أساس هذا العلم الإجمالی الثانی، فتتنجّز جمیع الأطراف الثلاثة وتتساقط الأصول فی جمیع الأطراف الثلاثة ویجب الاجتناب عن جمیع الأطراف الثلاثة بما فیها الملاقی، فیجب الاجتناب عن الملاقی فی الصورة الثالثة.

ص: 513

الرأی الثانی: یقول لا یجب الاجتناب عن الملاقی کما هو الحال فی الصورة الأولی بناءً علی أنّه فی الصورة الأولی لا یجب الاجتناب عن الملاقی، باعتبار أنّ العلم الإجمالی متقدّم علی زمان العلم بالملاقاة، زمان العلم بالملاقاة یوم الأحد، وزمان العلم الإجمالی یوم السبت، صحیح زمان الملاقاة یوم الخمیس، لکن العلم بالملاقاة فی الصورة الثالثة فُرض حصوله یوم الأحد. إذن: زمان العلم بالملاقاة حصل یوم الأحد، وزمان العلم الإجمالی حصل یوم السبت، زمان العلم الإجمالی الحاصل یوم السبت قلنا أنّ التنجیز لیس من آثار النجاسة بوجودها الواقعی، وإنّما هو من آثار النجاسة بوجودها العلمی، ومن هنا لا یکون للملاقاة الحاصلة یوم الجمعة أی أثرٍ، وإنّما یکون لها أثر من حین العلم بها، وأمّا قبل ذلک فلا یکون لها أیّ أثرٍ، هذه النقطة إذا أخذناها بنظر الاعتبار، وهی أنّ الملاقاة وإن حصلت یوم الخمیس، لکن لیس لها أثر، وإنّما تکون مؤثرة بوجودها العلمی، ووجودها العلمی حصل یوم الأحد؛ حینئذٍ یقال أنّ العلم الإجمالی الحاصل یوم السبت لا ینجّز إلاّ طرفیه وهما الملاقی والطرف الآخر، فإذا نجّزهما وتساقطت الأصول فیهما ووجب الاجتناب عنهما؛ حینئذٍ علم بالملاقاة یوم الأحد، هذا العلم بالملاقاة یوم الأحد غایة ما یصنعه هو أنّه یوجب حدوث علم إجمالی _____________ هذا العلم الإجمالی الثانی الذی کنّا نتحدث عنه سابقاً _____________ بنجاسة إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، هذا العلم الإجمالی الثانی بنجاسة الملاقی أو الطرف الآخر لا أثر له؛ لما تقدّم سابقاً من أنّ أحد طرفیه وهو الطرف المشترک، أی الطرف الآخر تنجّز بمنجزٍ سابق وهو العلم الإجمالی الحاصل یوم السبت، هذا العلم الإجمالی نجز کلا طرفیه وأحد طرفیه هو الطرف المشترک، فالطرف المشترک تنجّز فی وقتٍ سابقٍ بالعلم الإجمالی السابق، العلم الإجمالی الثانی الدائر بینه وبین الملاقی الذی حصل نتیجة العلم بالملاقاة یوم الأحد الذی قلنا أنّ مدار التنجیز علیه لا علی نفس الملاقاة الواقعة یوم الخمیس، عند العلم بالملاقاة یوم الأحد حدث هذا العلم الجدید، وهو إمّا الملاقی نجس، أو الطرف الآخر، هذا العلم الإجمالی لیس له أثر؛ لأنّ أحد طرفیه وهو الطرف المشترک تنجّز بمنجزٍ سابقٍ، والمنجّز السابق هو عبارة عن العلم الإجمالی المتقدّم الحاصل یوم السبت، ومن هنا لا مانع من إجراء الأصل فی الملاقی، فلا یتنجّز الملاقی ولا یجب الاجتناب عنه؛ بل یمکن إجراء الأصل فی هذا الملاقی؛ لأنّ العلم الإجمالی الثانی سقط عن التنجیز بالقاعدة المتقدّمة التی تقول(أیّ علمٍ إجمالی یسقط عن التنجیز إذا کان أحد طرفیه قد تنجّز بمنجّز سابق، ولو کان هذا المنجّز هو کونه طرفاً لعلم إجمالی سابق). وعلیه: لا یجب الاجتناب عن الملاقی.

ص: 514

الصحیح فی المقام: هو الرأی الأوّل الذی یقول بوجوب الاجتناب عن الملاقی فی هذه الحالة، وذلک لما تقدّم سابقاً من أنّ مسألة أنّ الطرف الآخر تنجّز بمنجّزٍ سابقٍ غیر تامّة وغیر صحیحة، أنّ الطرف الآخر تنجّز بمنجزٍ سابقٍ؛ لأنّ هذا معناه أنّ المنجّز للطرف المشترک فی زمان حدوث العلم الإجمالی الثانی الذی هو یوم الأحد، المنجّز له هو العلم الإجمالی الحاصل یوم السبت، هذه القضیة غیر تامّة؛ لأنّ العلم الإجمالی إنّما ینجّز ما تعلّق به فی الآن الذی یکون موجوداً فیه لا أنّ العلم الإجمالی بحدوثه یکون منجّزاً فی الزمان اللاحق، وإنّما فی کل آنٍ العلم الإجمالی إذا کان موجوداً فی ذلک الآن یکون منجّزاً حینئذٍ لا أنّه یکون منجّزاً بحدوثه، وإنّما یکون منجّزاً ببقائه، العلم الإجمالی فی یوم السبت ینجّز طرفیه فی یوم السبت بحدوثه، لکنّه فی یوم الأحد ینجّز طرفیه ببقائه لا بحدوثه، وإلاّ لو کان یکفی الحدوث فی تنجیز الطرفین إلی یوم القیامة، معناه أنّ کل علمٍ إجمالیٍ یبقی منجّزاً إلی یوم القیامة ولا یمکن حلّه؛ لأنّ الطرفین تنجزا بحدوث العلم الإجمالی من السابق، العلم الإجمالی ینجّز طرفیه فی آن حدوثه بحدوثه، وبقاءً ینجّزه بوجوده البقائی لا بوجوده الحدوثی، هذه القضیة مهمّة جدّاً واستفدنا منها سابقاً أنّه فی یوم الأحد فی زمان حدوث العلم الإجمالی الثانی العلم الإجمالی الأوّل ینجّز طرفیه، لکن بوجوده البقائی. إذن: لا نستطیع أن نقول أنّ الطرف المشترک تنجّز بمنجّزٍ سابقٍ، وإنّما تنجّز بمنجّزٍ فعلیٍ حصل حین حدوث العلم الإجمالی الثانی، هو تنجّز ببقاء العلم الإجمالی الأوّل، وبقاء العلم الإجمالی الأوّل مقارن لحدوث العلم الإجمالی الثانی، وهذا معناه أنّ الطرف المشترک یتلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل بوجوده البقائی، ومن العلم الإجمالی الثانی بوجوده الحدوثی، فهو یتلقّی التنجیز من کلٍ منهما ومعنی ذلک أنّ کلاً منهما یکون جزء السبب فی تنجیز الطرف المشترک ویکون کل منهما تمام السبب فی التنجیز بالنسبة لموردی الافتراق فی هذین العلمین الإجمالیین، العلم الإجمالی الثانی ینجّز الملاقی ویکون تمام السبب فی تنجیزه، والعلم الإجمالی الأوّل ینجّز الملاقی ویکون تمام السبب فی تنجیزه، لکنّهما بالنسبة إلی الطرف المشترک، بالنسبة إلی الطرف الآخر الذی هو طرف فی کلا العلمین کل منهما یکون جزء السبب بقاعدة أنّ السببین التامّین المستقلین إذا اجتمعا علی مسببٍّ واحدٍ تحوّل کل منهما إلی جزء السبب، وهذا معناه أنّه یجب الاجتناب عن الملاقی، والملاقی هو طرف للعلم الإجمالی الثانی، والعلم الإجمالی الثانی ینجّزه ولا موجب للقول بأنّه یسقط عن التنجیز علی ما تقدّم توضیحه مفصلاً سابقاً.

ص: 515

من هنا یظهر أنّ المسألة لیست مسألة انقلاب العلم الإجمالی الأوّل إلی العلم بنجاسة الملاقی والملاقی، أو الطرف الآخر، سابقاً هکذا قیل أنّه یوم الأحد ینقلب العلم الإجمالی الأوّل من کون له طرفان إلی أنّ یکون له أطراف ثلاثة یوم الأحد، وإنّما المسألة هی أنّه یحدث علم إجمالی جدید طرفاه الملاقی والطرف الآخر فی زمان العلم بالملاقاة والذی سمّیناه سابقاً بالعلم الإجمالی الثانی، هذا العلم الإجمالی الثانی یکون منجّزاً علی ضوء ما تقدّم وما ذکرناه الآن. إلی هنا یتمّ الکلام عن هذه الصور الثلاثة، بعد ذلک یقع الکلام فی ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من أنّه فی بعض الأحیان یجب الاجتناب عن الملاقی دون الملاقی، فی کل الصورة السابقة کان الملاقی یجب الاجتناب عنه، وإنّما الکلام فی وجوب الاجتناب عن الملاقی، فی بعض الصور مثلاً یجب الاجتناب عن الملاقی بالإضافة إلی الملاقی، فی بعض الحالات لا یجب الاجتناب عن الملاقی، وإنّما فقط الملاقی یجب الاجتناب عنه، هو عکس ذلک، وقال: فی بعض الحالات قد یجب الاجتناب عن الملاقی ولا یجب الاجتناب عن الملاقی، وذکر لذلک مورداً، وسیأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی .

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

ذکرنا أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذکر بأنّه فی بعض الحالات والموارد یمکن افتراض أنّه یجب الاجتناب عن الملاقی دون الملاقی، وهذا لم یتحقق فی الموارد السابقة، حیث فی کل الموارد السابقة کان الملاقی ممّا یجب الاجتناب عنه، أمّا بضمیمة الملاقی کما فی بعض الصور، أو بدون الملاقی کما فی الصور الأخری، لکن الملاقی دائماً کان یجب الاجتناب عنه، هو یرید أن یصوّر حالة ینعکس فیها الأمر بحیث یجب الاجتناب عن الملاقی دون الملاقی، (1) والصور التی ذکرها هی ما إذا فرضنا أنّ المکلّف علم بملاقاة الثوب للماء، ثمّ خرج الملاقی عن محل الابتلاء، ثمّ علم إجمالاً بنجاسة أحد الأمرین، إمّا الملاقی أو الطرف الآخر، فالعلم الإجمالی بنجاسة أحد الطرفین یکون متأخّراً عن الملاقاة وعن خروج الملاقی عن محل الابتلاء، یعنی خرج الملاقی عن محل الابتلاء، ثمّ حدث العلم الإجمالی، یعنی عندما حدث العلم الإجمالی کان الملاقی خارجاً عن محل الابتلاء. هنا ذکر بأنّه تقع المعارضة بین الأصل فی الملاقی وبین الأصل فی الطرف الآخر، فیجب الاجتناب عنهما، بعد حدوث العلم الإجمالی ما یعلمه المکلّف هو نجاسة إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، هذان طرفان تجری الأصول فی کلٍ منهما وتتعارض وتتساقط، الأصل فی الملاقی یعارض الأصل فی الطرف الآخر، فیسقطان معاً، والنتیجة أنّه یجب الاجتناب عن الملاقی. أمّا الملاقی، فلا یجری فیه الأصل لخروجه عن محل الابتلاء؛ فحینئذٍ یبقی عندنا الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر یتعارضان ویتساقطان، ویکون هذا العلم الإجمالی الثانی منجّزاً لکلا الطرفین، فیجب الاجتناب عن الملاقی. أمّا الملاقی، فلا یجری فیه الأصل لخروجه عن محل الابتلاء. إذا رجع الملاقی إلی محل الابتلاء بعد ذلک؛ حینئذٍ یقول لا مانع من الرجوع إلی اصالة الطهارة فیه؛ لأنّه بلا معارض، باعتبار أنّ معارضه هو الأصل فی الطرف الآخر، وقد سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، وهذا سقط قبل أن تصل النوبة إلی إجراء الأصل فی الملاقی، یعنی عندما نجری الأصل فی الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء لا شیء یعارضه؛ لأنّ معارضه هو الأصل فی الطرف الآخر، وقد سقط بالمعارضة فی مرتبةٍ سابقةٍ مع الأصل فی الملاقی، فیجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، والنتیجة هی أنّه یجب الاجتناب عن الملاقی ولا یجب الاجتناب عن الملاقی، وکأنّ الملاقی هنا یکون کالملاقی فی الصورة الأولی بناءً علی انحلال العلم الإجمالی الثانی هناک، حیث أنّهم بنوا فی الصورة الأولی علی أنّه لا یجب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّ الشک فی نجاسته شک فی نجاسة زائدة جدیدة، فیجری فیها الأصل المؤمّن، الملاقی هنا فی هذا الفرض یکون حاله حال الملاقی هناک، شک فی نجاسة جدیدة؛ وحینئذٍ یمکن أن یجری فیه الأصل المؤمّن ولا یکون له معارض؛ لأنّ معارضه سقط فی مرتبةٍ سابقةٍ بالتعارض مع الأصل الجاری فی الملاقی، قبل الرجوع إلی محل الابتلاء تعارض هذان الأصلان وتساقطا، بعد الرجوع یبقی الأصل فی الملاقی بلا معارض.

ص: 516


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص363.

الذی یُلاحظ علی ما ذکره فی هذا المورد هو: أنّ هذا الکلام کأنّه مبنی علی افتراض أنّ خروج الطرف عن محل الابتلاء یستلزم عدم جریان الأصل المؤمّن فیه، وهذا صحیح، لکنّه إنّما یصح إذا لم یکن لجریان الأصل فیه ثمرة عملیة تترتّب علی جریانه، لکنّ الکلام فی أنّه فی هذا الفرض هل جریان الأصل فی الملاقی الخارج عن محل الابتلاء، هل له أثر عملی فعلی، أو لا ؟ کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یفترض عدم وجود أثر یترتب علی إجراء الأصل فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء، بینما الصحیح هو أنّ له أثر عملی، ویظهر هذا الأثر العملی فی إثبات طهارة ملاقیه، أصالة الطهارة الجاریة فی الملاقی لها أثر عملی فعلی وهو إثبات طهارة ملاقیه؛ لأنّ الملاقاة حصلت بین الثوب وهذا الطرف ____________ بحسب الفرض ___________ ثمّ بعد ذلک حصل العلم الإجمالی، وکان الطرف الملاقی خارجاً عن محل الابتلاء، إذا أجرینا الأصل فی الملاقی الخارج عن محل الابتلاء وجرت فیه أصالة الطهارة، هذه أصالة الطهارة فیه لها أثر عملی فعلی یظهر فی الملاقی ویثبت بذلک طهارة الملاقی بناءً علی جریان الأصل فی الملاقی وتمامیة هذا الأصل. إذن: له أثر عملی لا أنّه لیس له أثر عملی بحیث نقول أنّ الأصل لا یجری فی الملاقی لکونه خارجاً عن محل الابتلاء، فالتعارض یقع بین الأصل فی الملاقی وبین الأصل فی الطرف الآخر، فیتساقطان، فإذا رجع الملاقی إلی محل الابتلاء بعد ذلک تجری فیه أصالة الطهارة بلا معارض، والنتیجة أنّه لا یجب الاجتناب عن الملاقی، ویجب الاجتناب عن الملاقی، وهذا هو ما نرید إثباته. هذا کلّه مبنی علی افتراض أنّ الأصل فی الملاقی غیر جارٍ لخروجه عن محل الابتلاء، بینما الصحیح أنّه لا مانع من جریان الأصل فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء إذا کان یترتب علی جریان الأصل فیه أثر عملی فعلی، وهذا متحقق فی محل الکلام؛ لأنّ الأثر یظهر فی الملاقی له؛ لأنّه یمکن إثبات طهارة الملاقی بإجراء أصالة الطهارة فی الملاقی وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء، فإذا جری الأصل فی الملاقی بهذه النکتة وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء؛ حینئذٍ یکون معارضاً بالأصل فی الطرف الآخر؛ لأنّه لا یمکن إجراء أصالة الطهارة فی کلٍ منهما للعلم الإجمالی بنجاسة أحدهما، إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، فإجراء أصالة الطهارة فی الملاقی ولو لغرض إثبات طهارة ملاقیه مع إجراء أصالة الطهارة فی الطرف الآخر غیر ممکن، فیتعارض الأصلان حینئذٍ ویتساقطان؛ وحینئذٍ یبقی الأصل فی الملاقی بلا معارض، فتجری أصالة الطهارة فی الملاقی، فلا یجب الاجتناب عن الملاقی، وهذا عکس ما یرید إثباته، هو کان یرید إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقی، وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، الآن ثبت العکس، أی یجب الاجتناب عن الملاقی، ولا یجب الاجتناب عن الملاقی کما هو الحال فی الصورة الأولی بناءً علی مبناهم، کیف أنّهم فی الصورة الأولی اختاروا عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، هنا أیضاً اختاروا ذلک؛ لنفس النکتة ونفس السبب السابق وهو أنّ الأصل فی الملاقی یجری وله معارض، ومعارضه هو الأصل فی الطرف الآخر، یتعارضان ویتساقطان، فتصل النوبة إلی الأصل فی الملاقی ولیس هناک ما یعارضه، فلا یجب الاجتناب عن الملاقی، ویجب الاجتناب عن الملاقی عکس ما یرید إثباته، فکل کلامه کان مبنیاً علی افتراض أن خروج الطرف عن محل الابتلاء یمنع من إجراء الأصل فیه مطلقاً، وقلنا أنّه لا یمنع من إجراء الأصل فیه مطلقاً، وإنّما یمنع من إجراء الأصل فیه إذا لم یکن لجریان الأصل فیه أثر عملی فعلی، وإلاّ یجری فیه الأصل ویعارض الأصل فی الطرف الآخر، ویتساقطان وتصل النوبة إلی الأصل فی الملاقی، فیجری فیه بلا معارض. هذا بناءً علی مبانٍ متعددة سابقة، الوجوه التی تقدمت کانت اربعة لإثبات انحلال العلم الإجمالی الثانی وسقوطه عن التنجیز بحیث یُنتهی إلی عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی فی أصل المسألة. عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، أو قل: انحلال العلم الإجمالی الثانی وسقوطه عن التنجیز له وجوه متعددة تقدّمت سابقاً، وهذا الذی قلناه هنا فی مقام مناقشة صاحب الکفایة(قدّس سرّه) مبنی علی أحد المسالک المتقدّمة، وهو المسلک الذی یؤمن بانحلال العلم الإجمالی الثانی فی أصل المسألة، علی اساس تعارض الأصل فی الطرف الآخر مع الأصل فی الملاقی فی رتبةٍ سابقةٍ، التقدّم الرتبی هو الملاک فی الانحلال، الأصل فی الطرف الآخر یعارض الأصل فی الملاقی فی رتبةٍ سابقةٍ؛ فحینئذٍ الأصل فی الملاقی المتأخّر جریانه بحسب الرتبة عن جریان الأصل فی الملاقی ومعارضته بالأصل فی الطرف الآخر؛ حینئذٍ تصل النوبة إلیه، فیجری بلا معارضٍ؛ لأنّ معارض الأصل فی الملاقی بحسب العلم الإجمالی الثانی هو الأصل فی الطرف الآخر، والأصل فی الطرف الآخر قد سقط فی رتبةٍ سابقةٍ، فتصل النوبة إلی الأصل فی الملاقی بلا معارض.

ص: 517

هذا الکلام الذی ذکرناه مبنی علی هذا المبنی، فنقول: أنّ الأصل فی الملاقی علی فرض صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یجری؛ لأنّه یترتب علی جریانه فیه أثر عملی یظهر فی الملاقی وإن کان الملاقی خارجاً عن محل الابتلاء، فیجری فیه الأصل، وإذا جری فیه الأصل یُعارض هذا الأصل فی الملاقی بالأصل فی الطرف الآخر فی رتبةٍ سابقةٍ علی جریان الأصل فی الملاقی بلا مشکلة؛ لأنّ العلم الإجمالی الثانی ینحل إذا سقط الأصل فی أحد أطرافه فی مرتبةٍ سابقة. هذا هو المبنی الذی یعتمد علیه هذا الکلام، کل علم إجمالی إذا کان الأصل فی أحد أطرافه ساقطاً فی مرتبة سابقة، الأصل یجری فی الطرف الآخر بلا معارض. فی محل الکلام العلم الإجمالی الثانی الأصل فی أحد أطرافه وهو الطرف الآخر الذی هو الطرف المشترک سقط فی مرتبة سابقة بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی؛ لأنّ الأصل فی الملاقی یجری؛ وحینئذٍ یجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، فیکون الجواب عن ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) مبنی علی هذا المبنی، أنّ الملاک فی انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجزیة هو سقوط الأصل فی أحد أطرافه فی مرتبة سابقة، ولا دخل للتقدّم الزمان والتأخّر الزمانی، وإنّما المهم هو التقدّم الرتبی، أن یکون الأصل فی أحد أطرافه قد سقط فی رتبةٍ سابقة قد سقط فی رتبةٍ سابقةٍ، وهذا متحقق فی محل الکلام؛ فحینئذٍ ینحل العلم الإجمالی الثانی ولا مانع من إجراء أصالة الطهارة فی الملاقی، ونصل إلی نتیجةٍ معاکسةٍ لما أراد صاحب الکفایة(قدّس سرّه) إثباته.

وأمّا بناءً علی المسالک الأخری المتقدّمة لإثبات الانحلال فی أصل المسألة فقد تکون النتیجة مختلفة، مثلاً: أحد الوجوه المتقدّمة هو إثبات انحلال العلم الإجمالی الثانی علی أساس تعارض الأصل فی أحد أطرافه فی زمان سابق، وسقوط هذا الأصل بالمعارضة مع الأصل فی طرف آخر فی زمانٍ سابقٍ؛ وحینئذٍ هذا یکفی فی إثبات انحلال العلم الإجمالی الثانی، وکأنّ الملاک فی انحلال العلم الإجمالی الثانی هو أن یکون أحد أطرافه قد سقط الأصل فیه فی زمان سابق، والفرق بینه وبین الأوّل هو أنّ الأوّل کان یرکّز علی مسألة التقدّم الرتبی، فی حین یرکّز هذا علی مسألة التقدّم الزمانی، فأحد أطراف العلم الإجمالی الثانی هو الطرف المشترک، والأصل فی الطرف المشترک قد سقط فی زمان سابق بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، وهذا یوجب سقوط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز وانحلاله حکماً، وبالتالی یجری الأصل المؤمّن فی الملاقی بلا معارض.

ص: 518

إذا أخذنا بهذا المبنی فی محل الکلام، فالظاهر أنّه لا یمکن إثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی فی الفرض الذی فرضه صاحب الکفایة(قدّس سرّه)؛ بل یجب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّ الأصل فی الطرف الآخر لیس له معارض فی زمان سابق، قبل زمان حدوث العلم الإجمالی الأصل فی الطرف الآخر لیس له معارض؛ لأنّ المعارض له هو الأصل فی الملاقی، والمفروض أنّ الملاقی خارج عن محل الابتلاء، ففی زمان سابق هو لم یکن مبتلیً بالمعارض، وإنّما ابتلی بالمعارض الآن وهو الأصل فی الملاقی، وقبل هذا الأصل فی الطرف الآخر فی زمان سابق لم یکن معارض؛ لأنّ معارضه هو الأصل فی الملاقی، والمفروض أنّ الملاقی خارج عن محل الابتلاء ولا یجری فیه الأصل، فالأصل فی الطرف الآخر حینئذٍ لم یکن معارض فی زمان سابق، ولم یکن هناک ما یسقطه فی زمان سابق، الذی یوجب انحلال العلم الإجمالی الثانی هو أن یکون الأصل فی أحد طرفیه قد سقط فی زمان سابق، والأصل فی هذا الطرف المشترک لم یبتلِ بالمعارض قبل الآن، وإنّما یبتلی بالمعارض الآن. إذن: یمکن أن نقول: فی الآن الأصل فی الطرف المشترک معارض بالأصل فی الملاقی، فیتعارضان، فیتساقطان ویتنجّز کل منهما، فیجب الاجتناب عن الملاقی، بینما هذا لم یکن ثابتاً بناءً علی المبنی الأوّل الذی تقدّم الحدیث عنه.

نفس الکلام یقال فی ما إذا أخذنا بالمبنی الآخر من المبانی المتقدّمة، مثلاً: المبنی الذی یری أن الانحلال قائم علی أساس ثبوت علم إجمالی منجّز فی مرتبة سابقة للطرف الآخر. إذا کان أحد أطراف العلم الإجمالی قد تنجّز بعلم إجمالی آخر فی مرتبة سابقةٍ، هذا العلم الإجمالی الثانی یسقط عن التنجیز وینحل حکماً، فیجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض. والعلم الإجمالی الذی نجّز أحد طرفی العلم الإجمالی الثانی هو العلم الإجمالی الأوّل، الطرف المشترک هو طرف فی العلم الإجمالی الأوّل وفی رتبة سابقة تنجّز الطرف المشترک بالعلم الإجمالی الأوّل؛ حینئذٍ یقال أنّ تنجیز أحد طرفی العلم الإجمالی الثانی فی رتبةٍ سابقةٍ بعلمٍ إجمالیٍ آخر یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن التنجیز، فیجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، هذا کان أحد المبانی لإثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی فی أصل المسألة، إذا أخذنا بهذا المبنی فی محل الکلام؛ حینئذٍ نستطیع أن نقول: لا یوجد علم إجمالی منجّز للطرف الآخر الذی هو طرف مشترک فی کلٍ من العلمین فی الرتبة السابقة؛ لأنّ المفروض خروج الملاقی الذی هو طرف فی العلم الإجمالی الأوّل عن محل الابتلاء، وبعد خروجه عن محل الابتلاء؛ حینئذٍ هذا العلم الإجمالی لا ینجّز کلا طرفیه، یسقط عن التنجیز لخروج أحد طرفیه عن محل الابتلاء بناءً علی ما ذکروه من أنّ أحد موجبات سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز هو خروج بعض أطرافه عن محل الابتلاء، والمفروض أنّ أحد طرفی العلم الإجمالی الأوّل قد خرج عن محل الابتلاء. إذن: هذا العلم الإجمالی الأوّل لا ینجّز الطرف الآخر، فعندما یقع هذا الطرف الآخر طرفاً لعلم إجمالی ثانٍ، هذا العلم الإجمالی الثانی یکون سلیماً ومنجّزاً لکلا طرفیه ومانعاً من إجراء الأصل فی کلا طرفیه، فیجب الاجتناب عن الملاقی، کما یجب الاجتناب عن الطرف الآخر؛ لأنّ الوجه الذی التزموا علی أساسه بسقوط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز فی أصل المسألة غیر جارٍ فی محل الکلام، الوجه یقول أنّ أحد الطرفین تنجّز بعلمٍ إجمالی سابق وإذا تنجّز بعلم إجمالی سابق یسقط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز. وهذا غیر متحقق فی محل الکلام؛ لأنّ الطرف المشترک للعلم الإجمالی الثانی لم یکن مسبوقاً فی الرتبة السابقة بمنجّزٍ ینجّزه؛ لأنّه فی الرتبة السابقة الطرف الآخر خارج عن محل الابتلاء، وإذا کان خارجاً عن محل الابتلاء، هذا یوجب سقوط العلم الإجمالی الأوّل عن التنجیز، فلا ینجّز الطرف المشترک، فإذا کان الطرف المشترک غیر منجّز فی الرتبة السابقة، إذن: لا مانع من أن یکون العلم الإجمالی الثانی منجّزاً لکلا طرفیه ومانعاً من إجراء الأصل فیهما، فیجب الاجتناب عن الملاقی أیضاً.

ص: 519

بناءً علی الوجه الرابع والأخیر الذی تقدّم ذکره، والذی یقول به المحقق النائینی(قدّس سرّه) والذی هو أنّ الانحلال قائم علی اساس ثبوت معلوم منجّز فی الرتبة السابقة؛ لأنّه لدیه المیزان فی المعلوم لا فی نفس العلم، لیس تقدّم العلم فی الرتبة، وإنّما المهم أن یکون المعلوم متقدّماً علی المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر فی الرتبة، کلّما کان هناک علمان إجمالیان، المعلوم بأحدهما متقدّم رتبة علی المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر انحل العلم الإجمالی الآخر وسقط عن التنجیز، هذا المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل فی أصل المسألة نطبّق هذا الکلام علیه، المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل هو نجاسة أحد الطرفین، إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، هذا المعلوم متقدّم رتبة علی المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی الذی هو نجاسة أحد الطرفین، إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر؛ لأنّ هذه النجاسة هی فی مرتبة متأخّرة عن النجاسة المعلومة المرددة بین الملاقی وبین الطرف الآخر، فإذن: هی متأخّرة رتبة عن المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، ویُطبّق علیه هذا المیزان، إذا تقدّم المعلوم بأحد العلمین الإجمالیین فی الرتبة علی المعلوم بالعلم الإجمالی الآخر یسقط العلم الإجمالی الآخر عن التنجیز؛ ولذا قال: العلم الإجمالی الآخر یسقط عن التنجیز؛ لأنّ معلومه متأخّر رتبةً عن المعلوم بالعلم الإجمالی الأول. هذا المبنی للانحلال فی أصل المسألة إذا أردنا تطبیقه فی محل الکلام؛ حینئذٍ نقول بأنّه فی محل الکلام لا یوجد هنا معلوم منجّز فی الرتبة السابقة بحیث یمنع من تأثیر العلم الإجمالی الثانی، النجاسة المعلومة الدائرة بین الملاقی وبین الطرف الآخر هی نجاسة معلومة بالعلم الإجمالی الأوّل، لکنّها غیر منجّزة؛ لخروج أحد الأطراف عن محل الابتلاء، فإذن: النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الأوّل موجودة، وهی علی تقدیرها تکون متقدّمة رتبة علی النجاسة المعلومة بالعلم الإجمالی الثانی، لکن هذه النجاسة لمّا لم تکن منجّزة؛ حینئذٍ لا ینطبق علیها ذلک البیان؛ لأنّه یشترط فی الانحلال أن تکون النجاسة المتقدّمة رتبة، أو المعلوم بالعلم الإجمالی المتقدّم رتبةً أن یکون معلوماً منجّزاً، و المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی فی محل الکلام لیس منجّزاً، أنا أعلم بنجاسة مرددة بین الملاقی وبین الطرف الآخر، لکن هذه النجاسة لیست منجّزة، وهذا لا یوجب انحلال العلم الإجمالی الثانی وسقوطه عن التنجیز، فیبقی العلم الإجمالی الثانی علی حاله، ویکون منجّزاً لکلا طرفیه ومانعاً من إجراء الأصل فی الملاقی، فبالتالی یجب الاجتناب عن الملاقی باعتبار العلم الإجمالی الثانی الباقی والغیر المنحل بحسب الفرض. ومن هنا یظهر أنّه علی کل المبانی السابقة لابدّ أن یُلتزم بوجوب الاجتناب عن الملاقی إلاّ علی أحد المبانی المتقدّمة وهو المبنی الذی یقول أنّ الأصل إذا کان ساقطاً فی رتبة سابقة؛ حینئذٍ لا یمکن إجراء الأصل فی الطرف الآخر، علی هذا المبنی یمکن أن نقول بأنّ الأصل یسقط بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر، فتصل النوبة فی الرتبة المتأخّرة إلی الأصل فی الملاقی. هذا کلّه فی بیان ما هو حکم الملاقی، وتبیّن أن حکم الملاقی یختلف باختلاف الوجوه المتقدّمة الموجبة للانحلال فی أصل المسألة.

ص: 520

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

یظهر من اسئلة بعض الإخوان أنّ المطلب السابق الذی ذکرناه فی الدرس السابق لم یکن واضحاً، ولعلّه کان هناک قصور فی البیان. الأمر الذی ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هو أننا إذا فرضنا العلم بالملاقاة، ثوب لاقی ماءً فی إناءٍ، ثمّ خرج الملاقی عن محل الابتلاء، وعلمنا بنجاسة أحد الأمرین، إمّا الملاقی أو الطرف الآخر، هذا هو محل الکلام. محل الکلام هو أنّ العلم الإجمالی عندما حصل کان أحد الطرفین خارجاً عن محل الابتلاء، والطرف الخارج عن محل الابتلاء هو الملاقی. هنا هذا العلم الإجمالی علی طبق البحث المتقدّم فی المسألة السابقة لا یکون منجّزاً؛ لخروج أحد طرفیه عن محل الابتلاء، وقد تقدّم سابقاً أنّ هذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، لکن هل یجری الأصل فی هذا الطرف الذی خرج عن محل الابتلاء، أو لا ؟ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یقول لا یجری الأصل فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء؛ لعدم وجود اثرٍ عملیٍ یترتب علی جریانه فی طرفٍ خارجٍ عن محل الابتلاء، فالأصل لا یجری فی الملاقی؛ وحینئذٍ یجری الأصل فی الطرف الآخر، ویتعارض مع الأصل فی الملاقی، فالمعارض للأصل فی الطرف الآخر هو الأصل فی الملاقی لا الأصل فی الملاقی؛ لأنّ الأصل فی الملاقی لا یجری لعدم وجود أثر عملی لجریانه فیه، فالأصل فی الطرف الآخر یُعارَض بالأصل فی الملاقی، فیتعارضان ویتساقطان، فإذا رجع الملاقی إلی محل الابتلاء _____________ هذا هو الشیء الذی یذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ____________ حینئذٍ یجری فیه الأصل بلا معارض؛ لأنّ معارضه هو الأصل فی الطرف الآخر، وهذا الأصل قد سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، فیجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، ویصل إلی النتیجة التی یریدها وهی أنّ الملاقی یجب الاجتناب عنه، بینما لا یجب الاجتناب عن الملاقی.

ص: 521

أورد المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی هذا الکلام بالإیراد المتقدّم السابق الذی ذکرناه، وهو عدم وجود قاعدة تقول أنّ کل طرفٍ یخرج عن محل الابتلاء لا یجری فیه الأصل. نعم، إذا لم یترتب علی جریان الأصل فی الطرف الخارج عن محل الابتلاء أیّ ثمرةٍ وأیّ أثر عملی لا یجری فیه الأصل؛ لعدم الفائدة من إجراء الأصل فیه، وأمّا إذا فرضنا أنّ هناک أثراً وفائدة تترتب علی جریان الأصل فیه؛ فحینئذٍ لا مانع من جریان الأصل فیه کما هو الحال فی محل الکلام، حیث یظهر الأثر فی الملاقی، إذا أجرینا أصالة الطهارة فی الملاقی فثمرته هی إثبات طهارة الملاقی له، وهذا اثر عملی یترتب علی إجراء الأصل فی الملاقی؛ لإثبات طهارة الملاقی. الآن نجری الأصل فی الملاقی لإثبات طهارة الملاقی، لا مانع من هذا، ویجری الأصل فیه. فإذن: الأصل فی الملاقی یجری ویُعارَض بالأصل فی الطرف الآخر، یتعارضان ویتساقطان، فتصل النوبة إلی الأصل فی الملاقی، فیجری بلا معارض، فالنتیجة اصبحت عکسیة، بمعنی أنّ الملاقی لا یجب الاجتناب عنه لجریان الأصل فیه بلا معارض دون الملاقی؛ لأنّ الأصل فیه سقط بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر.

وذکرنا أنّ هذا الإیراد من قبل المحقق العراقی(قدّس سرّه)علی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) إنّما یتوجّه ویُنتج عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی خلافاً لما یرید صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، علی أحد الوجوه الأربعة المتقدّمة، وهو الوجه المتقدّم الذی ملاکه هو دعوی انحلال العلم الإجمالی الثانی علی اساس التقدّم الرتبی للأصل الجاری فی أحد طرفیه، إذا سقط الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی فی رتبةٍ سابقةٍ؛ فحینئذٍ یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز وینحل حکماً، بناءً علی هذا المبنی یکون کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) تامّاً؛ لأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول: الأصل فی الطرف الآخر قد سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی فی رتبةٍ سابقةٍ؛ لأنّ رتبة جریان الأصل فی الملاقی وفی الطرف الآخر قبل رتبة جریان الأصل فی الملاقی، هذا العلم الإجمالی الثانی الذی طرفاه الملاقی والطرف الآخر، الأصل فی أحد طرفیه، الذی هو الطرف المشترک قد سقط فی رتبةٍ سابقةٍ بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی؛ لأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) بیّن أنّه لا مانع من إجراء الأصل فی الملاقی وإن خرج عن محل الابتلاء لترتب أثر عملی علی جریانه کما بیّنا، فیتم کلامه؛ فحینئذ یقال أنّ الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی الثانی، یعنی العلم الذی یدور أمر النجاسة فیه بین الملاقی وبین الطرف الآخر، هذا العلم ینحل ولا یکون منجّزاً؛ لأنّ هذا الوجه الذی ذکرناه، یقول أحد طرفی العلم الإجمالی إذا سقط فیه الأصل فی رتبةٍ سابقة؛ حینئذٍ ینحل العلم الإجمالی، فیجری الأصل فی الطرف الآخر له بلا معارض، فیجری الأصل فی الملاقی بلا معارض، وهذا ینتج عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی، هذا الإیراد وارد خلافاً لما یقوله صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، لکن بناءً علی هذا المبنی.

ص: 522

وأمّا بناءً علی المبانی الثلاثة الأخری المتقدّمة یکون الأمر بالعکس، علی کل الوجوه الثلاثة المتقدّمة یجب الاجتناب عن الملاقی کما یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، هذا الإیراد لا یرد علی صاحب الکفایة(قدّس سرّه)؛ بل کما یقول(قدّس سرّه) یجب الاجتناب عن الملاقی، علی المبنی الآخر الذی یقول أنّ الملاک هو التقدّم الزمانی للأصل فی أحد الطرفین، یعنی سقوط الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی فی زمان سابق یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز وانحلاله، العلم الإجمالی الثانی الذی یدور بین الملاقی وبین الطرف الآخر، أحد طرفیه هو الطرف المشترک، الوجه المتقدّم سابقاً یقول إذا کان أحد طرفی العلم الإجمالی سقط فیه الأصل فی زمانٍ سابقٍ ینحل العلم الإجمالی، فلا مانع من إجراء الأصل فی الطرف الآخر، یعنی فی الملاقی، هذا لا یمکن تطبیقه فی محل الکلام؛ لأنّه لیس لدینا أنّ الأصل سقط فی زمان سابق بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، فی زمان سابق لم یسقط الأصل فی الطرف المشترک بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، فی زمان سابق لم یکن الأصل یجری فی الملاقی، فلا نستطیع أن نقول أنّ الأصل فی الطرف المشترک سقط بالمعارضة فی زمان سابق مع الأصل فی الملاقی، وبناءً علی هذا لا ینحل العلم الإجمالی الثانی، فإذا لم ینحل العلم الإجمالی الذی طرفاه الملاقی والطرف الآخر یکون منجّزاً للطرفین، فیجب الاجتناب عن الملاقی ولا یجری فیه الأصل حینئذٍ؛ لأنّ أحد طرفی هذا العلم الإجمالی لم یسقط فیه الأصل فی زمان سابق.

قد یقال: ما هو الفرق بین هذا المبنی والمبنی السابق ؟

الجواب: الفرق هو أنّ الملاک هناک فی سقوط الأصل فی أحد الطرفین فی رتبةٍ سابقةٍ، بینما هذا المبنی یقول سقوط الأصل فی أحد الطرفین فی زمان سابق، ذاک المبنی یقول سقوط الأصل فی أحد الطرفین فی رتبةٍ سابقةٍ، وقلنا بأنّنا نستطیع أن نتصوّر هذا؛ لأنّه الآن نقول لا مانع من جریان الأصل فی الملاقی؛ لأنّه له أثر عملی یظهر فی ملاقیه، الآن یجری الأصل فی الملاقی، فیُعارَض بالأصل فی الطرف الآخر، فیتساقطان، فتصل النوبة إلی الأصل فی الملاقی بلا معارض، هذا علی المبنی السابق؛ لأنّه لا مانع من أن نجری الأصل الآن فی الملاقی، الآن علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الطرفین وعلمنا بالملاقاة ___________ بحسب الفرض __________ فالآن نقول أنّ هذا الملاقی نجری فیه الأصل، وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء؛ لأنّه یترتب علیه أثر عملی فی الملاقی، فإذن: الأن یجری الأصل فی الملاقی ویعارض بالأصل فی الطرف الآخر، فیکون الأصل فی الطرف الآخر قد سقط فی رتبةٍ سابقةٍ، فتصل النوبة إلی الأصل فی الملاقی فی الرتبة اللاحقة، فیجری فیه الأصل بلا معارض. هذا علی ذاک المبنی. أمّا إذا کان الملاک هو التقدّم الزمانی، فلا یقال سقط الأصل فی زمان سابق فی هذا الطرف بالمعارضة؛ لأنّه فی الزمان السابق لم یکن یجری الأصل فی الملاقی حتّی نقول أنّ الأصل فی الطرف الآخر یسقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی؛ لأنّ الملاقی خارج عن محل الابتلاء ولا یترتب علی جریانه فی زمانٍ سابقٍ أیّ أثر ولیس الآن، الآن بعد حدوث ملاقاة الثوب لهذا الإناء نستطیع أن نجری الأصل فی الملاقاة بلحاظ الملاقی، لکن فی زمانٍ سابقٍ لم یکن الأصل یجری فی الملاقاة حتی یعارض الأصل فی الطرف الآخر ونقول أنّ الأصل فی الطرف الآخر سقط فی زمانٍ سابقٍ، فلا یتنجّز العلم الإجمالی الثانی الذی طرفاه الملاقی والطرف الآخر؛ بل یبقی هذا العلم الإجمالی علی تنجیزه بناءً علی هذا المبنی، فیجب الاجتناب عن الملاقی کما یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه). هذا علی الوجه الثانی.

ص: 523

وهکذا الحال علی الوجوه الأخری، الوجه الثالث والوجه الرابع یجری فیهما نفس الکلام، الوجه الثالث یشترط ثبوت علم إجمالی منجّز فی المرتبة السابقة للطرف الآخر، کلامنا فی العلم الإجمالی الثانی هل یسقط عن التنجیز أو لا یسقط عن التنجیز ؟ الوجه الثالث یقول: هذا العلم الإجمالی الثانی إذا کان أحد طرفیه قد تنجّز بعلم إجمالی فی مرتبة سابقة، فهذا العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز، فیجری الأصل فی الملاقی بلا مشکلة.

هذا الوجه الثالث لا یمکن تطبیقه فی المقام؛ لأنّه لا یوجد عندنا علم إجمالی سابق نجّز الطرف المشترک فی مرتبةٍ سابقة، باعتبار خروج الملاقی عن محل الابتلاء، ففی مرتبةٍ سابقةٍ لا یوجد علم إجمالی منجّز للطرف المشترک فی مرتبةٍ سابقةٍ حتی یوجب ذلک سقوط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز، وبالتالی جواز إجراء الأصل المؤمّن فی الملاقی، فإذن: لا یتم هذا الوجه الأوّل لإثبات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی؛ بل یبقی العلم الإجمالی الثانی علی تنجیزه، فینجّز وجوب الاجتناب عن الملاقی.

ونفس الکلام یقال بناءً علی الوجه الرابع الذی یدّعی الانحلال علی اساس ثبوت معلوم منجّز متقدّم سابقاً، إذا تنجّز المعلوم فی مرحلة سابقة؛ حینئذٍ العلم الإجمالی الثانی الذی له معلوم متأخّر یسقط عن التنجیز؛ لأنّ هناک معلوم منجّز فی مرحلةٍ سابقة. فی محل الکلام أیضاً نقول لا یوجد عندنا معلوم منجّز فی المرتبة السابقة. نعم، قلنا أنّه یوجد عندنا علم بنجاسة مرددة بین الملاقی وبین الطرف الآخر، لکنّ هذا المعلوم لیس منجّزاً؛ لخروج أحد طرفیه عن محل الابتلاء، فإذن: لا مشکلة فی أنّ العلم الإجمالی الثانی الذی له معلوم متأخّر، أن یکون منجّزاً لهذا المعلوم المتأخّر المردد بین طرفیه اللّذین هما الملاقی والطرف الآخر؛ لأنّ هذا المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی لم یتقدّم علیه معلوم منجّز فی مرحلةٍ سابقة؛ لأنّه لا یوجد عندنا معلوم منجّز. نعم عندنا علم إجمالی بنجاسة أحد الشیئین، إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، لکن هذا المعلوم لیس منجّزاً؛ وذلک لخروج أحد أطرافه عن محل الابتلاء. هذا کلّه بالنسبة إلی حکم الملاقی مع خروج الملاقی عن محل الابتلاء، هل یجب الاجتناب عن الملاقی أو لا ؟ قلنا أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یقول یجب الاجتناب عنه، والمحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول لا یجب الاجتناب عنه. والذی تبیّن ممّا تقدّم أنّ القضیة تختلف باختلاف الوجه الذی یُعتمد علیه سابقاً، علی بعض الوجوه کما یقول المحقق العراقی(قدّس سرّه) لا یجب الاجتناب عنه، خلافاً لما یقوله صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، أمّا علی الوجوه الأخری فیجب الاجتناب عن الملاقی کما یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، فالمسألة تختلف باختلاف المبانی. هذا حکم الملاقی قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء.

ص: 524

الآن نبحث عن حکم الملاقی نفسهبعد أن یرجع إلی محل الابتلاء. صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یقول لا یجب الاجتناب عن الملاقی؛ لأنّ هذا الملاقی بعد رجوعه معارضه هو الأصل فی الطرف الآخر، والأصل فی الطرف الآخر قد سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی؛ لأننا قلنا أنّه عندما یحصل العلم الإجمالی أحد طرفیه یکون خارجاً عن محل الابتلاء، فهذا العلم الإجمالی الأوّل لا اثر له لخروج أحد طرفیه عن محل الابتلاء، سوف یحصل لدینا علم إجمالی ثانٍ وهو العلم بنجاسة إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، فیتعارض الأصلان فیهما، فیتساقطان، فیسقط الأصل فی الطرف المشترک بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، بعد أن یرجع الملاقی سیجری فیه الأصل بلا معارض؛ ولذا قال أنّ الملاقی لا یجب الاجتناب عنه، والملاقی یجب الاجتناب عنه. هذا ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه). هذا أیضاً یبدو أنّ عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء أیضاً یرتبط بالوجوه السابقة ویختلف باختلاف ما یُختار من الوجوه السابقة للانحلال. إذا قلنا بأنّ الوجه فی الانحلال هو التقدّم الزمانی للأصل، بمعنی أنّ الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی الثانی إذا سقط فی زمانٍ سابقٍحینئذٍ لا مانع من الرجوع إلی الأصل فی الطرف الآخر وینحل بذلک العلم الإجمالی، فالمهم هو أن یسقط الأصل فی الطرف المشترک فی زمان سابقٍ. هنا یصح کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی أنّ الملاقی إذا رجع بعد ذلک یجری فیه الأصل بلا معارض؛ لأنّ معارضه هو الأصل فی الطرف المشترک، والأصل فی الطرف المشترک سقط فی زمانٍ سابقٍ قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء، جری الأصلان فی الطرفین وتساقطا، جری الأصل فی الطرف الآخر وعارضه الأصل فی الملاقی، فتساقطا، بعد ذلک رجع الملاقی، معارضه هو الأصل فی الطرف المشترک، وقد سقط فی زمان سابق بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، فلا یجب الاجتناب عن الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء. علی هذا المبنی یکون کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) واضحاً.

ص: 525

وأمّا بناءً علی أنّ الملاک فی الانحلال هو التقدّم الرتبی للأصل، بمعنی أنّ الأصل فی أحد الطرفین إذا کان ساقطاً فی مرتبةٍ سابقة، ولا نشترط أن یکون فی زمانٍ سابقٍ، حتی لو لم یکن هناک تقدّم زمانی، مجرّد تقدمٍ رتبی یکفی لسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز إذا کان أحد طرفیه قد سقط فیه الأصل فی مرتبةٍ سابقة، بناءً علی هذا المبنی رجع الملاقی إلی محل الابتلاء، الظاهر أنّ کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هنا لا یصح، أو قد یقال أنّه لا یصح، بمعنی أنّ الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء یجب الاجتناب عنه؛ لأنّ أصالة الطهارة فی هذا الملاقی قد سقطت فی مرتبةٍ سابقةٍ بالمعارضة مع الأصل فی الطرف المشترک؛ لما تقدّم سابقاً من أنّه لا مانع من إجراء الأصل الآن فی الملاقی بالرغم من خروجه عن محل الابتلاء؛ لأنّه یترتب اثر عملی علی جریان أصالة الطهارة فی الملاقی ویظهر الأثر العملی فی الملاقی. إذن: لا مانع من جریان أصالة الطهارة فی الملاقی، فتُعارَض بأصالة الطهارة فی الطرف الآخر ویتساقطان. إذن: الطرف المشترک الذی هو طرف فی العلم الإجمالی الثانی قد سقط فیه الأصل فی مرتبةٍ سابقة لما قلناه من انّ مرتبة جریان الأصل فی الملاقی وفی الطرف المشترک متقدّمة علی مرتبة جریان الأصل فی الملاقی. إذن: فی مرتبة سابقة الأصل فی الملاقی جری وعورض بالأصل فی الطرف المشترک وتساقطا؛ وحینئذ نرجع إلی الأصل فی الملاقی بلا معارض.

لکن فی المقابل قد یقال: أنّ الأصل فی الملاقی صحیح أنّه جری وسقط بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر، لکن الأصل الذی جری فی الملاقی بلحاظ الملاقی، أی جری لإثبات طهارة الملاقی. إذن: الأصل جری فی الملاقی بلحاظ اثرٍ واحد وهو إثبات الطهارة فی الملاقی وعارضه الأصل فی الطرف المشترک وتساقطا، لکن لا نستطیع أن نقول أنّ الأصل فی الملاقی بلحاظ الآثار الأخری جری فی رتبةٍ سابقةٍ وتعارض مع الأصل فی الطرف المشترک وسقط؛ لأنّ الأصل لم یکن یجری أصلاً فی الرتبة السابقة بلحاظ باقی الآثار، وإنّما أجرینا الأصل فی الملاقی بلحاظ أثر واحد وهو لإثبات طهارة الملاقی، أمّا إجراء الأصل فی الملاقی مع خروجه عن محل الابتلاء لإثبات آثار أخری لم یکن یجوز، لا یجوز إجراء الأصل فی الطرف الملاقی الخارج عن محل الابتلاء إلاّ لإثبات هذا الأثر العملی الفعلی وهو إثبات طهارة الملاقی، وما عدا هذا الأثر من الآثار ما کان یجوز إجراء أصالة الطهارة فی الملاقی؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء بحسب الفرض. إذن: إذا بعّضنا فی الأصل باعتبار تعدد آثار الأصل، وقلنا أنّ الأصل بلحاظ اثرٍ یجری، وبلحاظ أثرٍ آخر، أو آثار أخری لا یجری؛ حینئذٍ یمکن لنا أن نقول أنّ الأصل الذی سقط بالمعارضة مع الأصل فی الطرف المشترک هو أصالة الطهارة الجاریة فی الملاقی بلحاظ هذا الأثر، هذا الأصل سقط وبعد سقوطه لا یعود، أمّا أصالة الطهارة فی الملاقی بلحاظ الآثار الأخری، فهی لم تکن تجری من البدایة، هی غیر جاریة أصلاً، ولا یصح إجراء أصالة الطهارة بلحاظ الآثار الأخری؛ لأنّه خارج عن محل الابتلاء، فإذا دخل الملاقی فی محل الابتلاء لا مانع من إجراء أصالة الطهارة فیه بلحاظ الآثار الأخری؛ لأنّ أصالة الطهارة فیه بلحاظ الآثار الأخری لم تجرِ سابقاً وتسقط بالمعارضة مع الأصل فی الطرف المشترک، فتجری أصالة الطهارة فی الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء وتُعارض بأصالة الطهارة فی الطرف المشترک، لا مانع من إجراء أصالة الطهارة فی الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء، لکنّها تکون معارضة بأصالة الطهارة فی الطرف المشترک وتسقط ویجب الاجتناب حینئذٍ عن الملاقی.

ص: 526

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

((حکم الملاقی))

أکملنا الکلام عن حکم الملاقی، الآن الکلام یقع فی حکم الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء؛ لأننا فرضنا أنّ الملاقی خرج عن محل الابتلاء، ثمّ رجع، الآن نتکلّم عن حکمه بعد فرض رجوعه. صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذکر أنّه لا یجب الاجتناب عنه بعد رجوعه إلی محل الابتلاء، باعتبار أنّ الأصل یجری فیه بلا معارض؛ لأنّ ما یعارض الأصل فی الملاقی هو الأصل فی الطرف الآخر وهو قد سقط بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء، حینما کان الملاقی خارجاً عن محل الابتلاء تعارض الأصلان، الأصل فی الملاقی والأصل فی الطرف الآخر، فتساقطا، فإذا رجع الملاقی إلی محل الابتلاء، یجری فیه الأصل بلا معارض؛ لأنّ معارضه هو الأصل فی الطرف الآخر وقد سقط قبل رجوعه إلی محل الابتلاء، فلا یجب الاجتناب عن الملاقی.

هذا الکلام إنّما یتم بناءً علی أن یکون الملاک فی الانحلال هو التقدّم الزمانی، باعتبار أنّ المفروض أنّ الأصل فی الطرف الآخر سقط فی زمان سابق، یعنی قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء، فإذا سقط الأصل فی أحد الطرفین فی زمانٍ سابقٍ، هذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، فلا مانع من الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی الملاقی؛ لأنّ أحد طرفی العلم الإجمالی الذی یدور بینه وبین الطرف الآخر سقط الأصل فیه فی زمان سابق، فیُرجع إلی الأصل فی الملاقی بلا معارض. بناءً علی هذا المبنی یکون هذا الکلام تامّاً.

ص: 527

وأمّا بناءً علی الانحلال بملاک التقدم الرتبی، بمعنی أنّ سقوط الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی فی مرتبةٍ سابقةٍ یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز ویوجب انحلاله. هنا قد یقال بعدم تمامیة ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، بمعنی أننا لا یمکن أن نثبت وجوب الاجتناب عن الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء، وذلک باعتبار أنّ الأصل جری فی الملاقی قبل دخوله فی محل الابتلاء، للنکتة السابقة من أنّه لیس هناک مانع یمنع من رجوع الأصل وهو خارج عن محل الابتلاء إذا کان یترتب علیه أثر فعلاً، وبینّا أن الأثر یترتب علی جریان الأصل فی الملاقی بالرغم من خروجه عن محل الابتلاء. إذن: الأصل جری فی الملاقی قبل دخوله فی محل الابتلاء، وعندما جری فی الملاقی کان معارضاً للأصل فی الطرف الآخر، هذان أصلان تعارضا فی الرتبة السابقة، فتساقطا، وبناءً علی هذا یقال: أنّ أصالة الطهارة فی الملاقی سقطت وبعد دخول الملاقی فی محل الابتلاء لا یجری فیه الأصل، باعتبار سقوط هذا الأصل فی الرتبة السابقة، واصالة الطهارة لا تعود مرّة أخری لأنّها سقطت فی الرتبة السابقة، وعلیه: لا یمکن إجراء الأصل فی الملاقی بعد رجوعه لإثبات عدم وجوب الاجتناب عنه کما یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه).

فی مقابل هذا یقال بصحة قول صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وعدم وجوب الاجتناب عن الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء، وذلک لما أشرنا إلیه فی الدرس السابق من أنّ أصالة الطهارة وإن کانت سقطت فی الرتبة السابقة بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر، لکنّ أصالة الطهارة الجاریة فی الرتبة السابقة، یعنی قبل الرجوع إلی محل الابتلاء کانت هی عبارة عن أصالة الطهارة فی الملاقی بلحاظ أثرٍ خاص، بلحاظ إثبات طهارة الملاقی، وأمّا أصالة الطهارة قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء بلحاظ سائر الآثار کحرمة شربه ووجوب الاجتناب عنه.... وأمثال ذلک، فهی لم تکن جاریة سابقاً حتّی یقال أنّها جرت وسقطت بالمعارضة مع الأصل فی الطرف الآخر، والساقط لا یعود، هی لم تکن جاریة أصلاً. نعم، أصالة الطهارة جرت فی الملاقی قبل رجوعه إلی محل الابتلاء، لکنّها لم تجرِ بلحاظ کل الآثار، وإنّما جرت بلحاظ أثرٍ معیّن، فإذا فرضنا أنّ هذه الآثار تجددت بعد رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء؛ حینئذٍ تجددت هذه الآثار، فأیّ ضیرٍ فی أن ترجع أصالة الطهارة وتجری فی الملاقی بلحاظ هذه الآثار کما یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه). بعد رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء تجری أصالة الطهارة؛ لأنّ أصالة الطهارة سقطت بلحاظ أثرٍ معیّن، أمّا بلحاظ باقی الآثار فلم تسقط؛ فحینئذٍ یمکن أن تجری فی الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء.

ص: 528

هذا الاحتمال الثانی یتوقف علی مسألة أنّ أصالة الطهارة تنحل بعدد آثار الطهارة التی تثبتها. إذن: أصالة الطهارة إذا کانت لها آثار متعددة، فهی تنحل بعدد الآثار، یعنی أصالة الطهارة تجری بلحاظ هذا الأثر، وتجری بلحاظ أثرٍ آخر؛ فحینئذٍ یمکن أن تجری أصالة الطهارة بلحاظ أثر ولا تجری بلحاظ أثرٍ آخر؛ حینئذٍ یجری الکلام السابق الذی یوجّه کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، فیقال أنّ أصالة الطهارة قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء کانت تجری بلحاظ أثرٍ خاص وهو طهارة الملاقی ولا تجری بلحاظ سائر الآثار؛ لأنّ الملاقی خارج عن محل الابتلاء، ولا معنی لإجراء أصالة الطهارة فی أمرٍ خارجٍ عن محل الابتلاء لغرض إثبات حرمة شربه، أو وجوب الاجتناب عنه مع کونه خارجاً عن محل الابتلاء، إجراء أصالة الطهارة فیه بلحاظ تلک الآثار لغو، فتجری بلحاظ أثر ولا تجری بلحاظ أثرٍ آخر.

الأمر الثانی هو أنّ عدم جریان أصالة الطهارة بلحاظ بعض الآثار لا یمنع من جریانها إذا تجدد الأمر واستجدّ شیءٌ بحیث أمکن أن تجری أصالة الطهارة بلحاظ تلک الآثار، فی زمان سابق کان لا یجوز إجراء أصالة الطهارة بلحاظ هذا الأثر، وهذا الأثر هو حرمة شرب الملاقی؛ لأنّ الملاقی خارج عن محل الابتلاء، فلا یجوز إجراء أصالة الطهارة بلحاظ هذا الأثر، بعد ذلک إذا دخل الملاقی فی محل الابتلاء، أیّ ضیرٍ فی أن نثبت هذا الأثر والحکم له ؟ وهو (یحرم شربه)؛ لأنّه حینئذٍ لا یلزم اللّغویة، إجراء أصالة الطهارة فیه بعد رجوعه إلی محل الابتلاء لغرض إثبات حرمة شربه لا یلزم منه اللّغویة؛ لأنّه دخل فی محل الابتلاء؛ وحینئذٍ یمکن إجراؤها بلحاظ هذا الأثر؛ فحینئذٍ فی محل الکلام یقال: أنّ أصالة الطهارة لم تکن جاریة قبل دخوله فی محل الابتلاء بلحاظ هذه الآثار الأخری، لکن بعد دخوله فی محل الابتلاء لا مانع من جریانها بلحاظه، فتجری فی الملاقی ویثبت کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه).

ص: 529

الأمر الثالث: الذی یتوقف علیه رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هو أنّ هذا الرأی یتم بناءً علی أنّ ملاک الانحلال هو التقدّم الزمانی للأصل، ولکنه لا یتم بناءً علی القول بأنّ الملاک فی الانحلال وفی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز هو تقدّم الأصل فی الرتبة وسقوط الأصل فی الرتبة فی مرتبة سابقة. أمّا أنّه لا یتم بناءً علی أنّ الملاک هو التقدم الرتبی، فباعتبار أنّ الأصل فی الملاقی بعد دخوله فی محل الابتلاء معارض بالأصل فی الطرف الآخر؛ لأنّ الأصل فی الطرف الآخر لیس معارضاً مع أصلٍ آخرٍ فی رتبةٍ سابقةٍ علی الأصل فی الملاقی؛ ولذا لا مانع من تنجیز هذا العلم الإجمالی لکلا طرفیه الذی هو عبارة عن الملاقی والطرف الآخر.

وبعبارة أکثر وضوحاً: أنّ العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی أو الطرف الآخر حیث أننا فرضنا فی أصل الفرض أنّ لدینا علم إجمالی بنجاسة أحد شیئین، إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، هذا العلم الإجمالی بعد دخول الملاقی فی محل الابتلاء نقول: هذا ینجّز طرفیه، لماذا یسقط هذا العلم الإجمالی عن التنجیز ؟ کیف یجوز لنا أن نجری الأصل المؤمّن فی الملاقی مع وجود هذا العلم الإجمالی ؟ وما هو المانع من منجّزیة هذا العلم الإجمالی الدائر بین الملاقی بعد دخوله فی محل الابتلاء وبین الطرف الآخر ؟ علی الرأی الذی یقول أنّ الملاک هو التقدّم الرتبی نقول أنّ الأصل فی أحد طرفی هذا العلم الإجمالی الذی هو الطرف الآخر لم یسقط فی مرتبةٍ سابقةٍ حتی یکون سقوطه فی مرتبة سابقة موجباً لسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز وانحلاله، وبالتالی جواز الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی الملاقی، الأصل فی الطرف الآخر لم یسقط فی مرتبةٍ سابقةٍ علی إجراء الأصل فی الملاقی؛ لأنّ الأصل فی الطرف الآخر سقط قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء بالمعارضة مع الأصل فی الملاقی، وبعد الرجوع إلی محل الابتلاء لدینا علم إجمالی بنجاسة إمّا الملاقی، أو الطرف الآخر، وهذا الطرف الآخر لا یمکن أن نطبّق علیه القانون الذی یؤمن به هذا الرأی ونقول بأنّه یسقط عن التنجیز؛ لأنّ أحد طرفیه سقط فی مرتبةٍ سابقةٍ بالمعارضة، کلا لم یسقط فی مرتبة سابقة؛ بل سقط فی مرتبةٍ لاحقة؛ لأنّ الأصل الذی یجری فی الملاقی والذی یُعارض بالأصل فی الطرف الآخر هو فی رتبة متأخّرة عن الأصل الذی یجری فی الملاقی والذی یُعارض بالأصل فی الطرف الآخر، اساساً الأصل فی الملاقی متأخّر رتبة عن الأصل فی الملاقی، نحن فعلاً عندما یرجع الملاقی إلی محل الابتلاء یحصل لدینا علم إجمالی مردد بین الملاقی والطرف الآخر، لم یسقط الأصل فی الطرف الآخر فی رتبة سابقة، وإنّما سقط فی رتبة متأخّرة علی جریان الأصل فی الملاقی ولیس فی رتبة متقدمة علی جریان الأصل فی الملاقی، وهذا الرأی یقول بأنّ الذی یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز ویوجب انحلاله هو سقوط الأصل فی أحد طرفیه فی رتبة سابقة، وهذا لم یسقط فی رتبة سابقة، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لکلا طرفیه، ولا موجب لرفع الید عن منجزیته ویمنع من إجراء أصالة الطهارة فی الملاقی، فلا یتم کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه).

ص: 530

وأمّا أنّه یتم کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) علی الرأی الأوّل الذی هو الانحلال بملاک التقدّم الزمانی، باعتبار أنّ الأصل فی الملاقی بعد أن رجع الملاقی إلی محل الابتلاء، الأصل فیه یجری ____________ کما ذکرنا لتوجیه کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ____________ بلحاظ باقی الآثار، والمعارض له هو الأصل فی الطرف المشترک، هذا المعارض لجریان الأصل فی الملاقی بلحاظ سائر الآثار، الذی هو الأصل فی الطرف المشترک، هذا الأصل لم یسقط فی زمان سابق. نعم، الأصل فی الطرف المشترک سقط فی زمان سابق بالمعارضة مع جریان الأصل فی الملاقی بلحاظ أثر معیّن، یعنی قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء، جری الأصل فی الملاقی بلحاظ أثر معیّن وعورض بالأصل فی الطرف الآخر، فسقطا، لکن الأصل فی الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء بلحاظ سائر الآثار لم یسقط معارضه فی زمان سابق؛ لأنّ ما یعارض جریان الأصل فی الملاقی بلحاظ سائر الآثار هو الأصل فی الطرف الآخر، یعارضه بهذا المقدار، وهذا الأصل لم یسقط فی زمان سابق؛ فحینئذٍ یجری الأصل فی الملاقی بلحاظ سائر الآثار کما ذکر صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، فیتم علی أحد الرأیین دون الرأی الآخر.

الرأی الآخر لصاحب الکفایة(قدّس سرّه) یتوقف علی هذه الأمور التی ذکرناها. یتوقف علی أن نقول أنّ أصالة الطهارة تتعدد بعدد آثار الطهارة، ویتوقف علی أن نقول أنّ أصالة الطهارة إذا لم تجرِ بلحاظ أثر، ثمّ تهیأت الظروف والأسباب وتجددت الآثار لا مانع من جریانها وإن لم تجرِ سابقاً، ویتوقف علی أن نقول أنّ الملاک هو التقدّم الزمانی. الأمر الأوّل والأمر الثانی من هذه الأمور الثلاثة لا مانع من الالتزام بکلٍ منهما؛ إذ لا ضیر فی الالتزام بأنّ أصالة الطهارة تجری فی طرف بلحاظ أثر ولا تجری فی طرفٍ آخر بلحاظ أثر آخرٍ؛ لأنّه یلزم اللّغویة من جریانها بلحاظ تلک الآثار، ولا یلزم اللّغویة من جریانها بلحاظ ذلک الأثر، فتجری بلحاظ هذا الأثر ولا تجری بلحاظ تلک الآثار، بعد ذلک إذا رجع الملاقی إلی محل الابتلاء، لا مانع من جریانه؛ حیث تجدد موضوع جدید لأصالة الطهارة، ولا یلزم اللّغویة من جریانها، فتجری حینئذٍ أصالة الطهارة فی الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء ولا یلزم من ذلک اللّغویة. أمّا بالنسبة للأمر الثالث فیمکن الالتزام بکلا المبنیین لتصحیح کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، یعنی نلتزم بالتقدم الزمانی وأیضاً نلتزم بالتقدم الرتبی، لا فقط أن نلتزم بالتقدم الرتبی وحده حتی نقول أنّ رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) مشکل؛ لأنّه لا یوجد تقدّم فی الرتبة السابقة، یعنی أنّ التقدم الزمانی موجب للانحلال والتقدّم الرتبی أیضاً موجب للانحلال.

ص: 531

وبعبارةٍ أخری: أن نلتزم بأنّه یمکن أن یکون التقدّم الرتبی موجباً للانحلال، فضلاً عن التقدّم الزمانی، کل منهما یکون موجباً للانحلال. ونستطیع أن نقول: یکفی فی انحلال العلم الإجمالی تقدّم الأصل رتبة وإن کان تقدّم الأصل زماناً أیضاً یوجب الانحلال، ولا منافاة بین الجمع بینهما؛ فحینئذٍ بناءً علی هذا یتم ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)؛ لأنّ التقدم الزمانی موجود. سقط الأصل فی زمان سابق، وهذا یوجب إمکان إجراء أصالة الطهارة فی الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء بلحاظ سائر الآثار، الأصل الذی سقط فی الزمان السابق هو أصالة الطهارة بلحاظ أثر معیّن، أمّا أصالة الطهارة بلحاظ سائر الآثار فلم تسقط فی زمانٍ سابقٍ، فیمکن إجراء أصالة الطهارة فی الملاقی بعد رجوعه بلحاظ سائر الآثار، وهذا لا مانع منه ولا مشکلة فیه بناءً علی تمامیة هذه الأمور.

وأمّا بناءً علی الوجوه الأخری، فهل یمکن الالتزام بما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من أنّه لا یجب الاجتناب عن الملاقی ؟ أو أنّ حالها حال ما إذا التزمنا بالتقدّم الرتبی ؟ کیف أننا قلنا بأنّه لا یمکن الالتزام بما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بناءً علی التقدّم الرتبی وحده، وأنّه هو الملاک فی الانحلال فقط دون التقدم الزمانی. علی الوجه الثالث والوجه الرابع أیضاً نفس النتیجة، یعنی لا یتم ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء، لماذا ؟ هذا لابدّ من التأمّل فیه. بالنسبة إلی المبنی الثالث الذی یری أنّ الانحلال یتحقق بثبوت علم إجمالی منجّز لطرفیه فی مرتبة سابقة، علم إجمالی منجّز لطرفیه فی مرتبة سابقة، ویکون أحد طرفیه الذی تنجز بذلک العلم الإجمالی فی المرتبة السابقة طرفاً فی العلم الإجمالی الآخر المتأخّر رتبة، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی المتأخّر رتبة؛ لأنّ أحد طرفیه تنجّز فی رتبةٍ سابقةٍ بعلمٍ إجمالیٍ فی تلک الرتبة، فینحل العلم الإجمالی الثانی.

ص: 532

ولکن هذا لا یصحح کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، ولا یتم کلامه بناءً علی هذا الرأی؛ باعتبار أنّ الطرف الآخر قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء تنجّز بعلمٍ إجمالیٍ بنجاسة إمّا الملاقی أو الطرف الآخر، إذن: الطرف الآخر الذی هو طرف للعلم الإجمالی بعد رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء والذی طرفاه الملاقی والطرف الآخر، هذا الطرف الآخر الذی هو أحد طرفی هذا العلم الإجمالی تنجّز بالعلم الإجمالی المردد بین الملاقی والطرف الآخر، هذا العلم الإجمالی لا نستطیع أن نقول أنّ الطرف الآخر تنجز فی رتبةٍ سابقةٍ، لم یتنجز فی رتبةٍ سابقةٍ؛ لأنّ رتبة هذا العلم الإجمالی الدائر بین الملاقی والطرف الآخر متأخرة رتبة عن العلم الإجمالی الدائر بین الملاقی وبین الطرف الآخر، الرأی الثالث یقول هذا العلم الإجمالی الموجود بعد رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء الدائر بین الملاقی والطرف الآخر إذا کان الطرف الآخر قد تنجز فی رتبةٍ سابقةٍ بعلمٍ إجمالی، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی، فی محل کلامنا الطرف الآخر عندما نرید أن ننجز الملاقی بعد رجوعه إلی محل الابتلاء ینجزه العلم الإجمالی بنجاسة الملاقی أو الطرف الآخر، هذا الطرف الآخر لم یتنجز بعلمٍ إجمالیٍ سابقٍ فی الرتبة علی هذا العلم الإجمالی، وإنّما تنجز بعلمٍ إجمالیٍ متأخّرٍ رتبة عنه.

إذن: بناءً علی هذا الکلام العلم الإجمالی بعد رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء لا یسقطعن التنجیز بناءً علی هذا الرأی، وإنّما ینجز کلا طرفیه ویمنع من الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی الملاقی، فلا یتم کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، وهکذا الحال علی المبنی الرابع الذی یقول بالانحلال علی أساس ثبوت معلوم منجز یکون متقدّم رتبة علی هذا المعلوم الذی نتکلّم عنه بالعلم الإجمالی. هذا المیزان، لدینا علم إجمالی بعد رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء، والمعلوم بهذه العلم الإجمالی هو نجاسة مرددة بین الملاقی وبین الطرف الآخر، هذا العلم الإجمالی ینحل ویسقط عن التنجیز إذا کان هناک معلوم منجز متقدماً رتبة علی المعلوم بهذا العلم الإجمالی الذی نتکلّم عنه ویکون أحد طرفی ذلک العلم الإجمالی هو الطرف المشترک، فی محل کلامنا لدینا معلومین بعلمین إجمالیین، لدینا نجاسة مرددة بین الملاقی وبین الطرف الآخر، وقبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء لدینا نجاسة مرددة بین الملاقی وبین الطرف الآخر، والطرف الآخر هو الطرف المشترک بین کلٍ من العلمین، وهناک طولیة بین المعلوم بالعلم الإجمالی بعد رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء، وبین المعلوم بالعلم الإجمالی قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء، لکن هذه الطولیة بالعکس، بمعنی أنّ المعلوم بالعلم الإجمالی قبل رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء متأخّر رتبة عن المعلوم بالعلم الإجمالی بعد رجوع الملاقی إلی محل الابتلاء، هذا الوجه الرابع یقول: إذا کان المعلوم متقدماً رتبة علی المعلوم بالعلم الإجمالی، ویکون هذا المعلوم المتقدّم رتبة منجّزاً وینجز کلا طرفیه والذی أحد طرفیه هو الطرف الآخر، أی الإناء المشترک؛ حینئذٍ یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، لکن بشرط أن یکون هذا المعلوم المتقدّم متقدماً رتبة ویکون منجّزاً، بینما المعلوم فی محل الکلام الذی نجّز طرفیه وکان أحد طرفیه هو الطرف المشترک لیس متقدّماً رتبة علی المعلوم بالعلم الإجمالی الذی نتکلّم عنه والذی نرید أن نثبت به تنجیز کلا الطرفین وأحد طرفیه هو الملاقی، فلا یسقط هذا العلم الإجمالی عن التنجیز وینجّز کلا طرفیه، فیجب الاجتناب عن الملاقی ولا یتم کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه). ومن هنا یظهر أن کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی الملاقی حیث قال یجب الاجتناب عنه وفی الملاقی حیث قال لا یجب الاجتناب عنه، لا یتم مطلقاً وعلی جمیع المبانی، وإنّما یتم علی بعض الفروض دون بعضٍ آخر.

ص: 533

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

ما تقدّم من الکلام سابقاً فی الصور المتقدّمة کان کلّه مبنیّاً علی ما ذهب إلیه المشهور من انحلال العلم الإجمالی الثانی بأحد الوجوه المتقدّمة من وجوه الانحلال، وأمّا إذا أنکرنا انحلال العلم الإجمالی الثانی وقلنا بعدم انحلاله وأنّه ینّجز کلا طرفیه الملاقی والطرف الآخر، وأنّه لا مانع من أن یتلقّی الطرف الآخر التنجیز من کلٍ من العلمین الإجمالیین المفترضین فی محل الکلام، العلم الإجمالی الأوّل والعلم الإجمالی الثانی، فأنّ الطرف الآخر هو طرف فی کلا العلمین، فلا مانع من أن یتلقی التنجیز من کلٍ منهما، وهذا معناه أنّ کل الأطراف الثلاثة تکون منجّزة، الملاقی والملاقی والطرف الآخر، کلّها یجب الاجتناب عنها. بناءً علی هذا تکون النتیجة نفس النتیجة السابقة، فی محل الکلام أیضاً نقول یجب الاجتناب عن الملاقی وعن الملاقی وعن الطرف الآخر لا کما یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من أنّه یجب الاجتناب عن الملاقی دون الملاقی فی فرض ما إذا خرج الملاقی عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالی، ثمّ دخل فی محل الابتلاء بعد ذلک، هنا أیضاً نقول نفس النتیجة السابقة بناءً علی ما تقدّم بناءً علی إنکار الوجوه الأربعة وعدم تمامیتها لانحلال العلم الإجمالی الثانی، فالنتیجة هی نفس النتیجة، وذلک لأنّ العلم الإجمالی لا یمنع کما تقدّم من إجراء الأصل فی الملاقی وإن کان خارجاً عن محل الابتلاء إذا ترتب علیه أثر وثمرة عملیة، وقلنا بأنّ الأثر یترتب علی إجراء أصالة الطهارة فی الملاقی وإن خرج عن محل الابتلاء، وأثره یظهر فی طهارة الملاقی علی ما تقدّم سابقاً؛ فحینئذٍ یجری الأصل فی الملاقی ویعارض بالأصل فی الطرف الآخر، فیتعارضان ویتساقطان، فیبقی الملاقی بلا أصل عملی ویتنجّز وجوب الاجتناب فیه بالعلم الإجمالی المذکور. وأمّا الملاقی فبناءً علی ما تقدم أیضاً یتنجز بالعلم الإجمالی الثانی، إن لم نقل بأنّ الملاقی یتنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل علی ما تقدّم سابقاً، فهو یتنجّز بالعلم الإجمالی الثانی، فالملاقی یتنجز والملاقی أیضاً یتنجّز، فضلاً عن الطرف الآخر، والنتیجة هی وجوب الاجتناب عن جمیع الأطراف الثلاثة حتّی فی هذا الفرض الذی ذکره فی الکفایة، وإنّما هذا الخلاف السابق والآراء المطروحة سابقاً کلّها کانت مبنیة علی ما هو معروف من سقوط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز وانحلاله ودعوی أنّ الأصل لا یکون جاریاً فی الملاقی عندما یکون خارجاً عن محل الابتلاء.

ص: 534

إلی هنا یتم الکلام عن هذه المسألة المهمّة وهی دوران الأمر بین المتباینین ومسألة منجّزیة العلم الإجمالی وشروط هذه المنجّزیة والفروع التی تترتب علی ذلک، بعد ذلک ندخل فی مسألةٍ جدیدة، وهی دوران الأمر بین الأقل والأکثر.

((دوران الأمر بین الأقل والأکثر))

والکلام یقع فی أنّه هل یجب الاحتیاط فی هذه المسألة، أو أنّه یمکن إجراء البراءة لنفی وجوب المقدار الزائد علی الأقل ؟ هذا البحث یقع بعد الفراغ عن أنّ الشک فی التکلیف هو مورد للبراءة، وأنّ الشکّ فی المکلّف به بعد العلم بالتکلیف هو مورد لقاعدة الاشتغال. بعد الفراغ عن ذلک یقع الکلام فی أنّ دوران الأمر بین الأقل والأکثر هل یُلحق بالشک فی التکلیف حتی تجری فیه البراءة لنفی وجوب ما عدا الزائد علی الأقل، أو یُلحق بالشک فی المکلّف به حتّی یکون مورداً لقاعدة الاشتغال. هذا التردید فی انّ الشک بین الأقل والأکثر هل یُلحق بالشک فی التکلیف، أو بالشک فی المکلّف به، هذا التردید واحتمال کلا الأمرین یختص بما إذا کان الدوران بین الأقل والأکثر الارتباطیین؛ حینئذٍ یأتی فیه هذا التردید ویأتی فیه هذا الکلام، فی باب الأقل والأکثر الارتباطیین هناک تکلیف واحد له امتثال واحد وله عصیان واحد، وإنّما الشک یکون فی أنّه هل یتعلّق بالأقل، أو یتعلّق بالأکثر، هذا هو شکّنا، وإلاّ هو تکلیف واحد له امتثال واحد وعصیان واحد لا نعلم أنّه یتعلّق بالأکثر، أو یتعلّق بالأقل، ومثاله الواضح هو ما إذا وجبت الصلاة وتردّد أمرها بین أن تکون مرکبة من تسعة أجزاء، أو عشرة أجزاء، کلّما شکّ المکلّف فی جزئیة شیءٍ فی الصلاة، هذا الشک فی الواقع هو دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین، وهکذا إذا شک فی شرطیة شیءٍ فی الصلاة أیضاً هو فی الواقع یدخل فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین. أمّا دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین فهو خارج عن محل الکلام الذی یعنی أنّ الوجوب متعدد، یعنی علی تقدیر وجوب الأکثر الزائد علی الأقل یکون واجباً مستقلاً له عصیان خاص وإطاعة خاصّة، ولیس مرتبطاً بالأقل کما لو علم بأنّه مدین لزید إمّا بدینار أو دینارین، علی تقدیر أن یکون مدیناً لزید بدینارین، فما زاد علی الدینار هو واجب مستقل له إطاعة خاصّة وله عصیان خاص، وعصیانه غیر مرتبط بعصیان أو امتثال الأقل، وإطاعته أیضاً غیر مرتبطة بذلک، کلٌ منهما وجوب مستقل له إطاعة خاصّة وله عصیان خاص، بینما هذا الشیء لم یکن موجوداً فی الأقل والأکثر الارتباطیین، ما زاد علی الأقل علی تقدیر وجوب الأکثر لیس له وجوب مستقل، ما زاد علی الأقل فی باب الصلاة علی تقدیر وجوب الأکثر وهو أن تکون أجزاء الصلاة عشرة، هذا المقدار الزائد لیس وجوبه وجوباً استقلالیاً، وإنّما هو وجوب ارتباطی، هو مرتبط بباقی الأجزاء؛ لأننا قلنا أنّ هناک تکلیفاً واحداً لیس أکثر من ذلک، له إطاعة واحدة وله عصیان واحد لا أکثر ولیس وجوبات مستقلة تتعدد بعدد الأجزاء، أو الأطراف؛ بل هو وجوب واحد، بینما فی باب الاستقلالیة هناک وجوبات متعددة بحیث یکون المقدار الزائد علی الأقل علی تقدیر وجوب الأکثر هو واجب مستقل له إطاعة خاصّة وله عصیان خاص. ومن هنا الدوران بین الأقل والأکثر الاستقلالیین یکون خارجاً عن محل الکلام، وذلک لوضوح أنّه ملحق بالشک فی التکلیف، وإن کان عنواناً هو دوران الأمر بین الأقل والأکثر، لکن فی الواقع هو علم تفصیلی بتکلیفٍ، وشک بدوی فی تکلیف آخر؛ لأننا قلنا أنّ الزائد علی القدر المتیقن علی تقدیر وجوب الأکثر هو تکلیف مستقل، ما یعلمه المکلّف تفصیلاً هو أنّ ذمّته مشغولة بدینار، لکن هل ذمّته مشغولة بأکثر من ذلک ؟ هذا مشکوک، وهو شکّ فی التکلیف الزائد، والشک فی التکلیف الزائد تجری فیه البراءة، ولیس هذا المورد من موارد الشک والذی یقع فیه البحث أنّه هل یلحق بالشک فی التکلیف، أو یلحق بالشک فی المکلّف به حتّی تجری فیه قاعدة الاشتغال، من الواضح أنّه شک فی التکلیف وسیأتی أنّ العلم الإجمالی فیه منحل إلی علم تفصیلی بالأقل وشکٍ بدوی فی ما زاد علی الأقل، فهذا الکلام فیه واضح وخارج عن محل الکلام، وإنّما الکلام یقع فی الأقل والأکثر الارتباطیین.

ص: 535

فی باب الأقل والأکثر الارتباطیین الکلام فی الحقیقة یقع فی أنّه هل هو من قبیل الدوران بین الأقل والأکثر الاستقلالیین بحیث ینحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بوجوب الأقل وشکٍ بدوی فی وجوب ما زاد علیه، أو أنّه من قبیل دوران الأمر بین المتباینین الذی فرغنا سابقاً عن أنّ العلم الإجمالی منجّز لکلا طرفیه ویجب فیه الاحتیاط وتجری فیه قاعدة الاشتغال، هذا دوران بین الأقل والأکثر الارتباطیین کما إذا شک فی جزئیة شیء فی الصلاة، أو شک فی شرطیة شیء فی الصلاة، هنا هل هو دوران بین الأقل والأکثر الاستقلالیین الذی قلنا أنّه خارج عن محل الکلام، أو هو من قبیل دوران الأمر بین المتباینین، إذا کان من قبیل الأوّل فتجری البراءة بلا إشکال، وإذا کان من قبیل الثانی، فهو مورد للاحتیاط والاشتغال وقاعدة منجّزیة العلم الإجمالی.

وبعبارة أکثر وضوحاً: أنّ النزاع یقع فی أنّ العلم الإجمالی الموجود فی محل الکلام هل هو منحل کما هو منحل فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین ؟ هنا ینحل بشکلٍ واضح إلی علم تفصیلی بوجوب الأقل وشک بدوی فی وجوب ما زاد علیه، فتجری البراءة لنفی وجوب الزائد، فیقال أننا نعلم تفصیلاً بوجوب تسعة أجزاء من الصلاة، وإنّما نشک فی وجوب ما زاد علی ذلک، أی نشک فی وجوب السورة عندما نشک فی جزئیتها من الصلاة، هل هو کذلک، أو هو من قبیل دوران الأمر بین المتباینین الذی لا ینحل فیه العلم الإجمالی، ویکون العلم الإجمالی فیه منجّزاً ویجب فیه الاحتیاط وتجری فیه قاعدة الاشتغال ؟ ومن هنا الکلام فی المقام، أی فی الأقل والأکثر الارتباطیین واضح أنّ الکلام بهذا الطرح مبنی علی الفراغ عن أنّه عندما ینحل العلم الإجمالی ویکون الشک شکّاً فی التکلیف الزائد، هذا مورد للبراءة، وأنّه عندما لا یکون العلم الإجمالی منحلاً ویبقی العلم الإجمالی، أیضاً یجب أن نفرغ عن قاعدة منجّزیة العلم الإجمالی، وهذا ما تم الفراغ عنه سابقاً، فی موارد الشک فی التکلیف البدوی الغیر المقترن بالعلم الإجمالی، هذا مورد للبراءة بلا إشکال بالأدلة السابقة، کما أنّه فی موارد دوران الأمر بین المتباینین، یعنی موارد الشک فی التکلیف المقرون بالعلم الإجمالی، هذا مورد لقاعدة منجّزیة العلم الإجمالی، والکلام یقع فی أنّ محل الکلام هذا هل هو ملحق بالأوّل حتی تجری فیه البراءة، أو هو ملحق بالثانی حتی یکون مورداً لقاعدة الاحتیاط ؟

ص: 536

هناک شیء آخر لابدّ من إضافته حتّی یدخل المورد فی محل النزاع وهو أنّه لابدّ أن نقیّد محل الکلام بأن لا یکون المشکوک مضراً بالواجب عند الإتیان به علی تقدیر عدم کونه جزءاً، أو شرطاً، کما إذا شککنا فی جزئیة السورة مثلاً، یجب أن لا تکون مضرّة بالصلاة علی تقدیر عدم کونها جزءاً، هذا لابدّ منه فی محل الکلام، أنّ السورة التی نشک فی کونها جزءاً من الصلاة، أو أنّها لیست جزءاً علی تقدیر عدم وجوبها یجب أن لا تکون مضرّة بالصلاة عند الإتیان بها، أن لا تکون مانعة من صحة الصلاة. وبعبارةٍ أخری، یجب أن لا تکون الصلاة مقیدة بعدمها، وإنّما تکون الصلاة لا بشرط من ناحیتها، یأتی بها المکلّف من باب الاحتیاط حتی علی تقدیر عدم وجوبها هی لا تضر فی صحة الصلاة، الصلاة تقع صحیحة وإن جاء بالسورة التی هی غیر واجبة بالفرض، وأمّا إذا کانت صحة الصلاة مقیدة بعدم ذلک الجزء المشکوک، أو الشرط المشکوک بحیث أن وجوده یکون مضراً بالصلاة، فی هذه الحالة یخرج الأمر من محل الکلام ویدخل فی باب دوران الأمر بین المحذورین؛ لأنّ الإتیان بالسورة فیه محذور أنّه یکون مضراً بالصلاة ویکون مانعاً من صحة الصلاة، وعدم الإتیان بالسورة فیه محذور احتمال أن تکون جزءاً من الصلاة، وبالتالی لابدّ أن نفترض أنّ محل الکلام هو فیما لو کان المشکوک علی تقدیر عدم وجوبه لا یکون الإتیان به من باب الاحتیاط مضرّاً بصحة العمل ومفسداً لصحة العمل حتی یقال أنّ الأمر دائر بین الأقل والأکثر، حتّی یکون هناک مجال للقول أنت یجب علیک الاحتیاط؛ لأنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً لکلا الطرفین فیجب الإتیان بالأکثر، لکن عندما یأتی بالأکثر هو لا یعلم أنّ السورة جزء من الصلاة، لکن الإتیان بها علی کل تقدیر لا یکون مضراً بالصلاة، سواء کانت واجبة أو لا؛ حینئذٍ هذا هو الذی یدخل فی محل الکلام، وإلاّ لو کان مضراً بالصلاة، الأمر یدخل فی باب دوران الأمر بین المحذورین، فی الحقیقة یدخل فی دوران الأمر بین المانعیة والشرطیة، بین أن یکون هذا شرطاً فی صحّة الصلاة وبین أن یکون مانعاً من صحتها، وهذا دوران للأمر بین المحذورین وهو خارج عن محل الکلام.

ص: 537

إذن: حینما نتکلّم یجب أن نتکلّم عن جزءٍ یُشک فی جزئیته، أو عن شرطٍ یُشک فی شرطتیه، لکنّه علی تقدیر عدم جزئیته وعلی تقدیر عدم شرطیته لا یکون مضراً بالعمل ولا مانعاً من صحّة العمل لو جاء به المکلّف بعنوان الاحتیاط، قد یکون مضراً عندما یأتی به بعنوان الجزئیة من باب التشریع، لو جاء به من باب الاحتیاط لا یکون مضراً بالعمل حتّی لو لم یکن جزءاً، أو لم یکن شرطاً فی الواقع. بعد ذلک نقول أنّ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بدواً یشمل فروضاً متعددة:

الفرض الأوّل: دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحسب الأجزاء، کما لو شک فی جزئیة السورة للصلاة.

الفرض الثانی: أن یکون الدوران بحسب الشروط لا بحسب الأجزاء، کما لو شک فی شرطیة شیء فی العمل.

هناک فرض ثالث ورابع أیضاً أُدرجا فی محل الکلام وهو موارد دوران الأمر بین التخییر والتعیین العقلی، ودوران الأمر بین التخییر والتعیین الشرعی، مثال الثانی هو الکفارات حیث یدور أمر الواجب فیها بین أن یکون هو خصوص الصیام، أو أنّه مخیّر بین الصیام والإطعام والعتق، فیدور الأمر بین التخییر بین هذه الثلاثة وبین التعیین، ومثال دوران الأمر بین التخییر والتعیین العقلی هو دوران الأمر بین الطبیعة وبعض أفرادها وحصّة من حصصها، کما لو فرضنا أنّه وجب علی الإنسان إمّا إطعام إنسان، أو إطعام زیدٍ من الإنسان، أو إما إطعام الحیوان، وإمّا إطعام الإنسان من الحیوان، فیدور الأمر بین الطبیعی وبین حصّة من حصصه، فی هذه الحالة یدور الأمر هنا بین التعیین وبین التخییر، التعیین هو الحصّة الخاصّة والتخییر هو التخییر بین أفراد تلک الطبیعة التی تکون تلک الحصّة مصداقاً من مصادیق تلک الطبیعة، فإمّا أن تکون الحصّة بعنوانها واجبة، وإمّا أن تکون الحصّة واجبة تخییراً عقلاً بینها وبین بقیة الحصص، إذا کان الواجب هو إطعام مطلق الحیوان، فالإنسان حینئذٍ حصّة من حصص هذه الطبیعة، فیکون الإنسان مخیراً بین إطعامه، أو إطعام سائر الحصص الأخری، أمّا لو کان الواجب هو إطعام خصوص الإنسان من تلک الطبیعة، فهذا یکون واجباً معیناً. هذا أیضاً أُدرج فی محل الکلام وقیل أنّ الدوران فیه أیضاً یقع بین الأقل والأکثر الارتباطیین، وسیأتی الکلام عن هذین الفرضین.

ص: 538

الکلام أولاً یقع فی الفرض الأوّل: وهو الذی تکلّموا فیه، وهو ما إذا کان الدوران بین الأقل والأکثر بحسب الأجزاء، کلّما شکّ المکلّف فی جزئیة شیء من عمل، هذا یکون من دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین. فی هذا المقام اختلف المحققون فی حکم هذا الفرض علی أقوالٍ وآراءٍ أهمها الأقوال الثلاثة المعروفة:

القول الأوّل: أنّ هذا مجری لقاعدة الاشتغال، فیجب الاحتیاط فیه ولا تجری فیه البراءة العقلیة، ولا البراءة النقلیة.

القول الثانی: جریان البراءة العقلیة والنقلیة، وأنّ المورد لیس من موارد قاعدة الاشتغال، وإنّما هو من موارد قاعدة البراءة العقلیة والنقلیة، کل منهما یجری فی محل الکلام.

القول الثالث: التفصیل بین البراءة العقلیة وبین البراءة النقلیة بعد الفراغ عن أنّ المورد لیس من موارد قاعدة الاشتغال. غایة الأمر أن القول الثالث یُفرّق بین البراءة العقلیة والنقلیة، ویری أنّ البراءة النقلیة هی الجاریة فی محل الکلام دون البراءة العقلیة.

القول الأوّل وهو عدم جریان البراءة مطلقاً وأنّ المورد من موارد قاعدة الاشتغال، الظاهر أنّ ممّن ذهب إلیه هو المحقق صاحب الحاشیة علی المعالم(قدّس سرّه)، حیث ذهب إلی هذا الرأی فی(هدایة المسترشدین) واختاره صریحاً واستدلّ علیه بوجوه یذکرها فی کتابه. والقول الثانی الذی هو جریان البراءتین العقلیة والنقلیة اختاره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الرسائل وهو قول معروف له حیث یری أنّ البراءة تجری فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین عقلاً ونقلاً. وأمّا التفصیل بین البراءتین وجریان البراءة النقلیة دون العقلیة فهذا هو رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) اختاره فی الکفایة وأصرّ علیه. فی بعض الکتب وجدت أنّ القول الأوّل یُنسب إلی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أیضاً، لکن فی حاشیته علی(الفرائد) حیث نُسب إلیه أنّه ذهب إلی عدم جریان البراءة مطلقاً لا النقلیة ولا العقلیة، ولم یسعنی المراجعة بشکلٍ کامل، لکن احتمل حصول خلطٍ واشتباه، أنّ هذا الرأی هو لصاحب الحاشیة علی المعالم، وکلامه صریح فی حاشیته علی المعالم فی اختیاره للرأی الأوّل لا لصاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی حاشیته علی الرسائل، هذا احتمال یحتاج إلی مزید مراجعة. علی کل حال لم أرَ نسبة القول الأوّل إلی المحقق الخراسانی(قدّس سرّه)، رأیه هو الرأی الموجود فی الکفایة وهو التفصیل بین البراءتین. هذه هی الأقوال الثلاثة فی المسألة وهی الأقوال المهمة فی محل الکلام.

ص: 539

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ ملاقی أحد أطراف العلم الإجمالی.

ذکرنا أنّ الأقوال فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیینثلاثة. الاستدلال الساذج والمبدئی لهذه الأقوال یکون بهذا الشکل:

بالنسبة للقول الأوّل دلیله هو وجود علم إجمالی بوجوب أحد أمرین، إمّا الأقل أو الأکثر، وهذا العلم الإجمالی یمنع من إجراء الأصول المؤمنة فی کلٍ من الطرفین، فلا یمکن إجراء البراءة العقلیة ولا النقلیة لنفی وجوب الأکثر، فیجب الاحتیاط حینئذٍ بفعل الأکثر کما هو القاعدة فی العلم الإجمالی.

أمّا القول الثانی، فیستدلّ بأنّ هذا العلم الإجمالی منحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل والشک فی وجوب الزائد علی الأقل؛ وحینئذٍ إذا انحلّ العلم الإجمالی لا مانع من نفی ما یُشک فی وجوبه بالأصول المؤمّنة؛ لأنّ الشک فیه شک بدوی غیر مقرون بالعلم الإجمالی.

وأمّا القول الثالث الذی أختاره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی الکفایة (1) ، من جهةٍ هو یؤمن بعدم انحلال العلم الإجمالی وعلی هذا الأساس منع من جریان البراءة العقلیة لنفی وجوب الأکثر؛ لأنّ العلم الإجمالی یمنع من جریان البراءة فی أحد الطرفین، لکنّه ذهب إلی جریان البراءة النقلیة بدعوی أنّه لا مانع من التمسّک بحدیث الرفع وما شابهه من أدلة البراءة باعتبار أنّ موضوع البراءة الشرعیة متحقق؛ وحینئذٍ أجری البراءة الشرعیة والنقلیة لنفی جزئیة الجزء المشکوک، وذکر أنّه بجریان البراءة النقلیة لنفی جزئیة الجزء المشکوک یرتفع الإجمال ویرتفع التردد ویتعیّن الواجب فی الأقل، وهذا التفریق بین البراءة العقلیة والبراءة النقلیة وقع موضوع انتقاد ومناقشة تأتی الإشارة إلیها.

ص: 540


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص363.

منهجیة البحث تکون بأحد نحوین:

النحو الأوّل: أن نقول لا إشکال فی وجود علم إجمالی، طرفا هذا العلم الإجمالی هما الأقل والأکثر، وکأیّ علمٍ إجمالیٍ آخر هو ینجّز طرفیه ویمنع من جریان البراءة فی طرفیه، والبحث یترکز علی وجود ما یمنع من منجّزیة هذا العلم الإجمالی، أو قل بعبارة أخری: وجود ما یوجب انحلال هذا العلم الإجمالی. فما هی الأمور التی توجب انحلال هذا العلم الإجمالی، وبالتالی عدم تنجیزه لطرفیه، وبالتالی عدم وجود مانعٍ من جریان الأصول المؤمّنة لنفی وجوب الأکثر، فالترکیز فی البحث یکون علی الموانع التی تمنع من منجزیة هذا العلم الإجمالی، أو الأمور التی توجب انحلال هذا العلم الإجمالی.

الطریقة الأخری فی البحث أن نقول: فی محل الکلام یوجد شک فی التکلیف بالأکثر، وهذا لا یمکن إنکاره، أنّ المکلّف الذی یدور أمره بین الأقل والأکثر یشک فی وجوب الأکثر ومقتضی القاعدة أنّ الشک فی التکلیف تجری فیه البراءة، والبحث یترکز علی وجود ما یمنع من جریان البراءة، هل هناک شیء یمنع من جریان البراءة لنفی وجوب الأکثر، أو لیس هناک شیء یمنع من جریان البراءة ؟ فمرّة نرکّز البحث علی وجود ما یوجب انحلال العلم الإجمالی بعد فرض وجوده، ومرّة نبحث عمّا یمنع من جریان البراءة بعد فرض کون الشک فی التکلیف، وأنّ الشک فی التکلیف مجری للبراءة، فهل هناک ما یمنع من جریان البراءة ؟ الطریقة الثانیة هی التی انتخبها المحقق النائینی(قدّس سرّه) حیث کانت منهجیة بحثه بهذا الشکل (1) ، یعنی ذکر بأنّ الشک فی المقام هو شک فی التکلیف، والشک فی التکلیف مجری لقاعدة البراءة، فوقع البحث فی أنّه هل هناک ما یمنع من جریان البراءة فی محل الکلام، أو لیس هناک ما یمنع من جریان البراءة فی محل الکلام ؟ هذه المنهجیة الثانیة هی التی اختارها ویکون البحث مبنیاً علیها.

ص: 541


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص150.

الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) ذکر ما معناه أنّ المقتضی لجریان البراءة موجود، والمانع من جریانها مفقود، المقتضی لجریان البراءة العقلیة والنقلیة موجود باعتبار أنّ موضوع البراءة العقلیة متحقق فی محل الکلام، وموضوع البراءة النقلیة أیضاً متحقق فی محل الکلام. موضوع البراءة العقلیة هو الشکّ فی التکلیف الذی یستتبع العقاب علی مخالفته، أو قبح العقاب بلا بیان، ولا إشکال أنّ هذا الموضوع متحقق فی محل الکلام؛ لأننا نشک فی التکلیف بالأکثر والتکلیف بالأکثر علی تقدیره یکون مستتبعاً للعقاب علی المخالفة، ولمّا کان هذا التکلیف مشکوکاً، یعنی بالنتیجة استحقاق العقاب علی مخالفته یکون مشکوکاً، فتأتی قاعدة قبح العقاب بلا بیان وتقول مع عدم البیان یقبح العقاب، فتکون مؤمّنة من ناحیة العقاب المحتمل، فموضوع البراءة العقلیة متحقق فی محل الکلام. کما أنّ موضوع البراءة النقلیة متحقق فی محل الکلام باعتبار أنّ موضوع البراءة النقلیة هو الشک فی الحکم الواقعی حتّی یکون المورد مشمولاً لحدیث الرفع وحدیث الحجب وأمثاله من أدلّة البراءة، موضوع ذلک هو أن تشک فی الحکم الواقعی، وهذا الموضوع متحقق فی محل الکلام؛ لأننا نشکّ فی وجوب الأکثر وهو حکم واقعی ونحن نشک فیه، فیتحقق موضوع البراءة النقلیة، فیأتی حدیث الرفع، فیقول(رفع ما لا یعلمون) وأنا لا أعلم بوجوب الأکثر، فیکون مرفوعاً.

إذن: المقتضی لجریان البراءة العقلیة والنقلیة موجود فی محل الکلام والمانع مفقود؛ لأنّه یقول لا یوجد مانع یمنع من جریان البراءة العقلیة والنقلیة فی محل الکلام سوی دعوی وجود علمٍ إجمالی، ومن هنا یقع الکلام فی أنّه هل یوجد ما یمنع من جریان البراءة، أو لا ؟ أصحاب القول الأوّل یقولون نعم یوجد ما یمنع من جریان البراءة فی محل الکلام وهو العلم الإجمالی، العلم الإجمالی یمنع من جریان البراءة فی أطرافه. أصحاب القول الثانی یقولون لا یوجد ما یمنع من جریان البراءة؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی منحل ویسقط عن التأثیر والتنجیز، فلا مانع من إجراء البراءة لنفی وجوب الأکثر، ومن هنا یقع الکلام فی ما یمنع من جریان البراءة فی محل الکلام. ذُکرت موانع متعددة قیل بأنّها تمنع من جریان البراءة فی محل الکلام:

ص: 542

المانع الأوّل: العلم الإجمالی؛ وحینئذٍ یقع البحث فی أنّ هذا العلم الإجمالی هل هو مانع حقیقی عن جریان البراءة، أو لیس مانعاً ؟ وبالأحری یقع البحث فی أنّ هذا العلم الإجمالی الذی لا یمکن إنکاره، هل هو علم إجمالی حقیقی باقٍ وغیر منحل، أو هو علم إجمالی منحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل، والشک البدوی فی وجوب الزائد، فالکلام یقع فی أنّ المانع الأوّل هو العلم الإجمالی الموجود فی المقام، وعلی تقدیر وجوده وعدم انحلاله یکون مانعاً عن جریان البراءة بلا إشکال، و العلم الإجمالی المدّعی فی المقام هو العلم الإجمالی بوجوب أحد أمرین، إمّا الأقل، أو الأکثر، فیکون حاله حال سائر العلوم الإجمالیة التی تمنع من إجراء البراءة فی أطرافه. الأکثر هو عبارة عن المشتمل علی الزائد، ویُدّعی فی مقام بیان أنّ هذا مانع من إجراء البراءة بأنّ هذا العلم الإجمالی أمره دائر بین المتباینین؛ ولذا یکون حاله حال سائر العلوم الإجمالیة الأخری من حیث التنجیز والمنع من جریان البراءة فی الأطراف، والوجه فی کون أمره دائر بین المتباینین هو أنّ المفروض فی محل الکلام هو وجود ارتباط بین أجزاء ذلک الواجب، کل جزءٍ من أجزاء ذلک المرکب مرتبط بالأجزاء الأخری، والوجوب الذی یتعلّق بالمرکب هو وجوب ارتباطی، قلنا سابقاً أنّه وجود واحد له عصیان واحد وله إطاعة واحدة، لیست هناک وجوبات متعددة، هناک وجوب واحد یتعلّق بالمرکّب والأجزاء مترابطة فیما بینها، وهذا معناه أنّه علی تقدیر وجوب الأکثر التسعة الموجودة فی ضمنها لیست واجبة، وجوب واحد إمّا یتعلّق بالأکثر أو یتعلّق بالأقل، علی تقدیر أن تکون التسعة واجبة، أی أن الأقل واجب، فهذا وجوب یتعلّق بالتسعة وما زاد علیه لیس واجباً، نفس الکلام نقوله، علی تقدیر أن یتعلّق الوجوب بالأکثر فالتسعة لیست واجبة، وإنّما الواجب هو إمّا التسعة وإمّا العشرة، إمّا الأکثر، وإمّا الأقل. نعم التسعة تکون واجبة عندما یکون الوجوب متعلّقاً بالأقل، أمّا عندما یکون هذا الوجوب الواحد المفترض فی محل الکلام متعلّقاً بالعشرة، کل جزءٍ من أجزاء هذه العشرة لا یتصف بالوجوب؛ لأنّ الکلام فی الواجبات الارتباطیة، نحن لا نتکلّم عن الأقل والأکثر الاستقلالیین، فی الأقل والأکثر الاستقلالیین علی تقدیر وجوب الأکثر یکون الأقل واجباً بوجوبٍ مستقلٍ، یکون واجباً بوجوبٍ آخر غیر الوجوب الثابت للأقل، الزائد علی الأقل یکون واجباً بوجوبٍ مستقلٍ غیر الوجوب المتعلّق بالأقل، فیکون هناک وجوبان، أحدهما یتعلّق بالأقل والآخر یتعلّق بالزائد، وکل منهما وجوب مستقل له عصیان خاص وإطاعة خاصة، نحن نتکلّم عن الواجبات الارتباطیة، الارتباطیة تعنی أنّ هناک وجوباً نفسیاً واحداً لا أکثر، هذا الوجوب النفسی الواحد إمّا أن یتعلّق بالأقل، أو بالأکثر، کما أنه إذا تعلّق بالأقل نقول أنّ ما زاد علیه لیس واجباً، کذلک إذا تعلّق بالأکثر نقول أنّ الأقل لیس واجباً، وجوب واحد إمّا أن یتعلّق بالأکثر، فلا یوجد غیره، أو أن یتعلّق بالأقل، فلا یوجد غیره، وهذا معناه أنّ الأمر یدور بین المتباینین، والسرّ فی هذا أنّه فی مقام بیان هذا المانع وأنّه مانع حقیقی وعلم إجمالی حقیقی یدور أمره بین المتباینین لوحظ الوجوب النفسی، فیقال أنّ الوجوب النفسی واحد بلا إشکال وهو أن یتعلّق بالتسعة، أو یتعلّق بالعشرة، علی تقدیر أن یکون متعلّقاً بالعشرة؛ حینئذٍ لا یوجد غیره متعلّقاً بالأقل حتی یقال أنّ هذا العلم الإجمالی ینحل؛ لأننا نعلم بوجوب الأقل علی کل حال، والشک یکون فی وجوب الزائد، هذا لا نستطیع أن نقوله؛ لأنّه علی تقدیر وجوب العشرة الأقل لا یکون واجباً. نعم، الأقل یکون واجباً بوجوب نفسی علی تقدیر تعلّق الوجوب بالأقل. إذن: وجوب الأقل ____________ والمقصود بالوجوب هو الوجوب النفسی ___________ لیس معلوماً علی کل تقدیر، لیس معلوماً بالعلم التفصیلی حتّی یکون هذا موجباً لانحلال العلم الإجمالی، هنا لا یوجد علم تفصیلی بوجوب الأقل وجوباً نفسیاً؛ لأنّه علی تقدیر وجوب الأکثر لا یکون الأقل واجباً بالوجوب النفسی. نعم، علی تقدیر أن یکون الأقل هو الواجب یکون الأقل واجباً بالوجوب النفسی. إذن: لیس الوجوب النفسی للأقل معلوماً علی کل حال، ونعلم به بالعلم التفصیلی ونقول نشک فی وجوب ما زاد علیه، وإنّما الوجوب النفسی للأقل غیر معلومٍ کما أنّ الوجوب النفسی للأکثر أیضاً غیر معلوم، لیس لدینا علم تفصیلی لا بهذا ولا بهذا؛ ولذا لا موجب للانحلال؛ لأنّه لا یوجد وجوب نفسی نعلم به تفصیلاً متعلقاً بالأقل، وهذا الذی أقوله واضح؛ لأنّه علی تقدیر وجوب الأکثر لا یکون الأقل واجباً بوجوبٍ نفسیٍ، فإذن الکلام فی هذا المانع کأنّه یحاول أن یرکز علی مسألة الوجوب النفسی، والوجوب النفسی یتعلّق إمّا بالأقل وإمّا بالأکثر. صحیح أنّ الأقل هو بعض من الأکثر، لکن هذا لا یمنع من کون الدوران فی المقام هو من قبیل الدوران بین المتباینین، ویکون هذا علماً إجمالیاً منجّزاً ومانعاً من إجراء البراءة فی محل الکلام.

ص: 543

أجیب عن هذا المانع بأجوبة عدیدة:

الجواب الأوّل: هو المستفاد من کلمات الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) وهو أنّه ادّعی بأنّ هذا العلم الإجمالی العلم الإجمالی منحلٌ فی محل الکلام، فلا یمنع من جریان البراءة، باعتبار أنّه صحیح أنّ الوجوب النفسی الدائر بین الأقل والأکثر غیر منحل، لما قلناه من أنّه لا یوجد علم تفصیلی بوجوبٍ نفسی متعلّق بالأقل حتی نقول بانحلال العلم الإجمالی، لکنّ هذا العلم الإجمالی یکون منحلاً ببیان آخر وهو أن نقول أنّ المکلّف یعلم بأن الأقل یجب علیه علی کل حال، إمّا بوجوبٍ نفسیٍ، أو بوجوبٍ غیریٍ مقدّمی، یستطیع الإنسان أن یقول بأنّ الأقل واجب علیّ قطعاً ویدّعی بأنی أعلم تفصیلاً بوجوب الأقل علیّ، لکن هذا مردد بین أنّ هذا الوجوب الثابت قطعاً هل هو وجوب نفسی، أو وجوب غیری؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون الوجوب المعلوم بالعلم الإجمالی متعلّقاً بالأقل، فیکون وجوب الأقل وجوباً نفسیاً، وعلی تقدیر أن یکون الوجوب المعلوم بالإجمال متعلّقاً بالأکثر، فالوجوب المتعلّق بالأقل وجوب غیری مقدّمی؛ لأنّ الأقل یکون مقدّمة للمرکب، کل جزءٍ من أجزاء المرکب یعتبر مقدّمة لتحقق الکل، فلو وجب الکل؛ حینئذٍ تجب مقدماته، والجزء مقدّمة من مقدّمات الکل، فیتعلّق وجوب غیری بالجزء، وهذا الجزء نفرضه تسعة أجزاء، لیس هناک فرق بین مقدّمیة الجزء الواحد للکل، أو مقدّمیة معظم الأجزاء للکل، بالنتیجة الکل ککل یتوقف علی أجزائه، فإذا وجب الکل بوجوبٍ نفسیٍ یکون الأقل فی محل کلامنا واجباً بوجوب غیری مقدّمی؛ وحینئذٍ یستطیع المکلّف أن یقول أنا أعلم علماً تفصیلیاً بوجوب الأقل علیّ وإن کان مردداً فی أنّ هذا الوجوب الذی ثبت علیه، هل هو وجوب نفسی، أو هو وجوب غیری مقدّمی ؟ لکن هذا لا یمنع من دعوی العلم التفصیلی بوجوب الأقل، وإن کان هذا مردداً بین الوجوب النفسی والوجوب الغیری، ومن هنا یکون العلم الإجمالی منحلاً بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل وشک فی وجوب ما زاد علیه، فلا مانع من إجراء البراءة فی محل الکلام.

ص: 544

اعتُرض علی هذا الکلام للشیخ الأنصاری(قدّس سره)، أوّلاً: هناک کلام فی أنّ الأجزاء هل هی مقدّمات داخلیة أو أنّها لیست کذلک؛ بل أنّ الأجزاء هی عبارة عن الکل ولیست شیئاً آخراً غیر الکل ؟ علی تقدیر أن نقول أنّ الأجزاء مقدّمات داخلیة فی مقابل المقدّمات الخارجیة، لکن الکلام فی أنّ الأجزاء هل تتصف بالوجوب الغیری کما تتصّف المقدّمات الخارجیة بالوجوب الغیری أو أنّها تتصف بالوجوب النفسی الذی ینبسط علی تمام أجزاء المرکب ؟ علی تقدیر أن نقول أنّ هناک وجوباً غیریاً یتعلّق بالمقدّمة، لیس معلوماً أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) یلتزم بهذا الکلام، یعنی یلتزم بأنّ الأجزاء مقدّمات داخلیة، ویلتزم بأنّها تتصف بالوجوب الغیری؛ لأنّ أجزاء المرکّب هی نفس المرکب ولیست شیئاً آخر، فهی تتصف علی تقدیره بوجوباتٍ نفسیةٍ یعبّرون عنها بالوجوبات النفسیة الضمنیة، لکنها وجوبات نفسیة، یعنی وجوب نفسی یتعلّق بهذا الجزء، لکن وجوباً ضمنیاً لا أنّه یتصف بالوجوب الغیری المقدّمی، لیس واضحاً أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سره) یلتزم بذلک، ومن هنا ذکر المحقق النائینی(قدّس سره) بأنّه وإن کانت کلمات الشیخ الأنصاری(قدّس سره) تکرر فیها هذا التعبیر بأنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام ینحلّ بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل، إمّا بوجوب نفسی، أو وجوب غیری، یعنی تکررت کلمة الوجوب الغیری والمقدّمی فی کلماته، لکن المحقق النائینی(قدّس سره) یقول لیس هذا مراده، وإنّما مراده شیء آخر یمکن أن یکون وجهاً آخراً لدعوی انحلال العلم الإجمالی، وهو أن یقال: لا ندّعی بأنّ العلم الإجمالی ینحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل، إمّا بوجوب نفسی، أو وجوب غیری، بدلاً من الوجوب الغیری نقول الوجوب الضمنی، فینحل العلم الإجمالی، فینتهی الإشکال، المکلّف یعلم قطعاً بأنّ الأقل واجب علیه إمّا بوجوب نفسی علی تقدیر أن یکون المعلوم بالإجمال هو الأقل، أو بوجوبٍ نفسیٍ ضمنی علی تقدیر أن یکون الواجب المعلوم بالإجمال هو الأکثر، ولا مشکلة فی أن تکون الأجزاء متصفة بالوجوب النفسی الضمنی؛ لأننا قلنا أنّ الوجوب الذی یتعلّق بالمرکب هو فی الحقیقة ینبسط علی أجزائه، فیکون کل جزءٍ من أجزاء المرکب واجباً بوجوبٍ نفسی ضمنی فی ضمن هذا المرکب، هذا أیضاً یکون واجباً بالوجوب النفسی، فیقال أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام ینحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل إمّا بوجوب نفسی، أو بوجوب ضمنی، یعنی إمّا بوجوب نفسی استقلالی، وإمّا بوجوبٍ نفسی ضمنی، فنتخلّص من مشکلة أنّ الأجزاء مقدّمات، أو لیست مقدّمات ؟ وأنّها تتصف بالوجوب الغیری، أو لا تتصف بالوجوب الغیری؛ إذ لا إشکال فی أنّها تتصف بالوجوب النفسی الضمنی؛ وحینئذٍ بناءً علی هذا الرأی نستطیع أن نقول فی تفسیر کلام الشیخ الأنصاری(قدّس سره) أنّه یدّعی انحلال العلم الإجمالی بهذا البیان، أنّ هناک علماً تفصیلیاً بوجوب الأقل علی کل حال إمّا بوجوب نفسی استقلالی، أو بوجوب ضمنی. هذا هو الجواب الأوّل عن دعوی انحلال العلم الإجمالی.

ص: 545

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

ذکرنا المانع الأوّل من جریان البراءة فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیینوهو عبارة عن العلم الإجمالی بین الأقل والأکثر، وقلنا أنّه أجیب عن هذا المانع بوجوه، الوجه الأوّل هو دعوی أنّ هذا العلم الإجمالی منحلٌ بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل، إمّا بوجوبٍ نفسی أو بوجوب غیری، وقلنا أنّ هذا هو الموجود فی عبارات الشیخ الأنصاری(قدّس سره)، لکنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) قال لیس هذا هو مراده؛ لأنّه فیه إشکالات، فأبدل الانحلال بما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سره) بالانحلال بدعوی العلم التفصیلی بوجوب الأقل إمّا بوجوبٍ نفسی استقلالی، وإمّا بوجوب نفسیٍ ضمنی، فینحل العلم الإجمالی بهذا العلم التفصیلی، فالأقل واجب علی کل حال سواء کان وجوبه نفسیاً استقلالیاً، أو کان وجوبه وجوباً نفسیاً ضمنیاً، ونتکلّم عن هذین الوجهین للحل:

أمّا الوجه الأوّل للحل: الموجود فی کلمات الشیخ الأنصاری(قدّس سره)، هذا الوجه بقطع النظر عن مبانیه التی هی غیر مسلّمة، لا الوجوب الغیری مسلّم، ولو کان مسلّماً، فهو مسلّم بالنسبة إلی المقدّمات الخارجیة لا بالنسبة إلی المقدّمات الداخلیة التی هی عبارة عن الأجزاء، الأجزاء مقدمات داخلیة ولا تتصف بالوجوب الغیری، وإنّما تتصف بالوجوب النفسی؛ لأنّ الوجوب وجوب واحد ینبسط علی أجزاء المرکب، بقطع النظر عن إشکال فی ذلک.

المحقق العراقی(قدّس سرّه) اعترض علی هذا الوجه الأوّل بما حاصله: (1) أنّ العلم التفصیلی بوجوب الأقل المردد بین النفسی والغیری لیس صالحاً لأن یحل العلم الإجمالی فی محل الکلام، أی العلم الإجمالی المردد بین الأقل والأکثر؛ وذلک لکون هذا العلم التفصیلی بوجوب الأقل، الوجوب المردد بین النفسی والغیری معلولاً للعلم الإجمالی، ویقع فی رتبةٍ متأخّرةٍ عنه، وفی مثل هذا الحال یکون العلم الإجمالی فی مرتبةٍ سابقةٍ مؤثراً فی تنجیز طرفیه؛ وحینئذٍ لا یبقی مجال لتأثیر العلم التفصیلی فی المرتبة المتأخّرة فی التنجیز، وبالتالی لا یکون موجباً لانحلاله.

ص: 546


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للسید البروجردی، ج3، ص385.

المقصود هو أنّ العلم التفصیلی الذی ذُکر فی الوجه الأوّل أنّه یُحل به العلم الإجمالی، یقول: هذا العلم التفصیلی معلول للعلم الإجمالی، من أین نشأ لنا العلم بوجوب الأقل علی کل حال إمّا بوجوبٍ نفسی أو وجوب غیری ؟ نشأ من علمنا الإجمالی بوجوب أحد الأمرین إمّا الأقل أو الأکثر، وکون العلم التفصیلی معلولاً للعلم الإجمالی یعنی أنّه فی رتبةٍ متأخّرةٍ عن العلم الإجمالی، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی فی الرتبة السابقة یکون قد نجّز طرفیه، وإذا نجز العلم الإجمالی فی مرتبةٍ سابقةٍ معلومه فی کلٍ من الطرفین؛ حینئذ لا یُبقی مجالاً لتأثیر العلم التفصیلی فی التنجیز؛ لأنّ العلم الإجمالی قد نجّز معلومه فی مرتبةٍ سابقةٍ، یعنی قد نجّز الأقل والأکثر. ما معنی أن فی رتبة سابقة یأتی العلم الإجمالی وینجّز أحد الطرفین الذی هو عبارة عن الأقل ؟ هذا العلم التفصیلی بوجوب الأقل إمّا نفسیاً، أو غیریاً، هو فی رتبةٍ متأخّرةٍ، یقول: هذا لا ینجّز معلومه؛ لأنّ معلومه قد تنجّز فی مرتبةٍ سابقةٍ، فإذا کان العلم التفصیلی فی المرتبة المتأخرة لا ینجّز معلومه _________ الأقل ________ إذن: کیف یکون حالّاً للعلم الإجمالی ؟ هو إنّما یکون موجباً لانحلال العلم الإجمالی عندما ینجّز الأقل ویدخله فی العهدة علی کل حال؛ حینئذٍ یقال بأنّه یوجب انحلال العلم الإجمالی، أمّا إذا کان هو لیس له صلاحیة تنجیز الأقل، فی هذه الحالة یقول: هذا لا یکون موجباً لانحلال العلم الإجمالی.

وبعبارةٍ أخری: کأنّه یرید أن یقول أنّ الأقل تلقّی التنجیز فی رتبةٍ سابقةٍ باعتباره طرفاً للعلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی فی الرتبة السابقة یکون قد أثّر أثره ونجّز معلومه فی کلٍ من الطرفین؛ حینئذٍ ما معنی أنّ العلم الإجمالی یتنجّز بالعلم التفصیلی ؟ هذا غیر معقولٍ طبقاً للقاعدة التی تقدمت سابقاً والتی هو یؤمن بها وهی أنّ المتنجّز لا یتنجّز، وهذا الأقل قد تنجّز فی رتبةٍ سابقةٍ بالعلم الإجمالی، فلا یتنجّز فی رتبةٍ لاحقةٍ، فالعلم التفصیلی لا ینجّزه، فإذا کان العلم التفصیلی لا ینجّز الأقل؛ حینئذٍ لا یکون موجباً لانحلال العلم الإجمالی؛ لأنّه إنّما یکون موجباً لانحلال العلم الإجمالی باعتبار کونه منجّزاً للأقل کعلمٍ تفصیلی، بینما هو لا ینجّز الأقل؛ لأنّ الأقل تنجّز فی رتبةٍ سابقةٍ والمتنجّز لا یتنجّز، فبالتالی لا یکون موجباً لانحلال العلم الإجمالی. هذا هو الاعتراض الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی الوجه الأوّل، یقول: وبهذا لا یمکن أن نقول أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام ینحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل المردّد بین کونه نفسیاً أو کونه غیریاً، فالمانع الأوّل لازال علی حاله.

ص: 547

لوحظ علی کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) بأنّ العلم التفصیلی الذی یُراد به حل العلم الإجمالی فی محل الکلام، وإن کان متأخّراً رتبة عن العلم الإجمالی وفی طوله، لکنّه لیس فی طول أثر العلم الإجمالی وتنجیزه، ولیس متأخّراً رتبة عنه، هو فی طول ذات العلم الإجمالی، لکن لیس فی طول تنجیز العلم الإجمالی لمعلومه، ولیس فی طول أثر العلم الإجمالی، بدلیل أنّ العلم التفصیلی وتنجیز العلم الإجمالی کلٌ منهما معلولٌ للعلم الإجمالی، یعنی أنّ العلم الإجمالی علّة للعلم التفصیلی، وعلّة للتنجیز، فتنجیز العلم الإجمالی والعلم التفصیلی کلٌ منهما معلول لعلةٍ واحدةٍ وهی العلم الإجمالی، العلم الإجمالی یؤثر ویولّد العلم التفصیلی ویؤثر فی تنجیز معلومه، فإذا صار العلم التفصیلی فی عرض وفی رتبة تنجیز العلم الإجمالی؛ حینئذٍ نقول: أنّ تنجیز العلم التفصیلی هل هو متأخّر رتبة عن تنجیز العلم الإجمالی ؟ نقول لا لیس متأخراً عنه، إلاّ إذا آمنا بقاعدة تقدّمت الإشارة إلیها وهی قاعدة تقول أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین فی الرتبة متأخّر عن المساوی الآخر، إذا آمنا بهذه القاعدة یکون تنجیز العلم التفصیلی المتأخّر رتبة عن نفس العلم التفصیلی قهراً یکون متأخراً رتبة عمّا هو فی عرض العلم التفصیلی الذی هو تنجیز العلم الإجمالی، فیکون تنجیز العلم التفصیلی متأخراً رتبة عن تنجیز العلم الإجمالی، إذا آمنا بهذه القاعدة؛ حینئذٍ یتمّ هذا الکلام، لکن إذا أنکرنا هذه القاعدة کما تقدّم نقله عن السید الخوئی(قدّس سرّه) کان یقول أنّ هذه القاعدة غیر ثابتة، هذه القاعدة تختص بالتقدّم والتأخّر الزمانی، المتأخّر عن أحد المتساویین فی الزمان متأخّر عن المساوی الآخر فی الزمان، لکن فی الرتبة هذا الکلام لیس صحیحاً، والمتأخّر عن أحد المتساویین رتبةً لا یکون متأخّراً عن الآخر رتبة، وهذا معناه أنّ تنجیز العلم التفصیلی لیس متأخّراً عن تنجیز العلم الإجمالی؛ بل هما فی عرضٍ واحدٍ ولیس أحدهما متقدّماً علی الآخر رتبة، فینهار الاعتراض الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ لأنّ الاعتراض مبنی علی أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً لمعلومه فی الطرفین فی رتبة متقدّمة علی تنجیز العلم التفصیلی؛ لأنّه یقول بعد أن نجز العلم الإجمالی معلومه فی الطرفین فی رتبةٍ سابقةٍ، فیأتی العلم التفصیلی لا ینجّز شیئاً؛ لأن المتنجّز لا یتنجّز فی رتبةٍ لاحقةٍ، فهو مبنی علی افتراض أنّ تنجیز العلم التفصیلی متأخّر رتبة عن تنجیز العلم الإجمالی، أمّا إذا قلنا بأنّه لیس متأخّرا عنه، وإنّما هو فی عرضه وفی رتبته، وإن کان متأخّراً رتبة عن نفس العلم التفصیلی، ولکن لیس معنی ذلک أنّه یکون متأخّراً رتبة عن تنجیز العلم الإجمالی، فهما فی رتبةٍ واحدةٍ وفی عرضٍ واحدٍ ینجّزان معاً؛ حینئذٍ یکون حال العلم التفصیلی فی محل الکلام والعلم الإجمالی کحال ایّ علمٍ تفصیلیٍ وعلمٍ إجمالیٍ فی موارد أخری.

ص: 548

الاعتراض الثانی: علی الوجه الأوّل هو أن یقال أنّ هذا الانحلال المدّعی فی الوجه الأوّل، انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل إمّا بوجوبٍ نفسی، أو بوجوب غیری، هذا الانحلال مرّة یُدّعی علی أساس أنّه انحلال حقیقی للعلم الإجمالی وأخری یُدّعی علی أساس أنّه انحلال حکمی للعلم الإجمالی، إذا کان المقصود هو الانحلال الحقیقی، فنحن نعرف أنّ من شروط الانحلال الحقیقی أن یتعلّق العلم التفصیلی بأحد طرفی العلم الإجمالی؛ لأنّ أحد الطرفین یصبح معلوماً بالتفصیل، وأمّا إذا فرضنا أنّ العلم التفصیلی لم یتعلّق بأحد طرفی العلم الإجمالی کما هو الحال فی محل الکلام، حیث العلم التفصیلی المذکور لم یتعلّق بأحد طرفی العلم الإجمالی؛ لأنّ طرفی العلم الإجمالی هما وجوب الأکثر بالوجوب النفسی، أو وجوب الأقل بالوجوب النفسی، هذا هو العلم الإجمالی الذی شکّلناه اساساً، أنا أعلم بأنّه إمّا الأقل واجب أو الأکثر واجب، وهذا الوجوب هو الوجوب النفسی، ما أعلمه هو أنّه إن کانت السورة جزءاً من الصلاة، فالأکثر واجب بوجوب نفسی، وإن لم تکن جزءاً من الصلاة فالأقل واجب وجوب نفسی، فالمعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسی لأحد الأمرین، الأقل أو الأکثر. إذن: طرفاه هما عبارة عن الوجوب النفسی للأقل والوجوب النفسی للأکثر. العلم التفصیلی لم یتعلّق بأحد هذین الطرفین، لم یتعلّق بالوجوب النفسی للأقل، وإنّما تعلّق العلم التفصیلی بالوجوب الجامع بین الوجوب النفسی وبین الوجوب الغیری للأقل، ما أعلمه تفصیلاً هو وجوب الأقل، لکنّه لیس الوجوب النفسی؛ لأنّه لیس لدیّ علم تفصیلی بالوجوب النفسی للأقل، وإنّما لدی علم تفصیلی بالوجوب، اعم من أن یکون نفسیاً، أو غیریاً. هذا العنصر الإضافی الذی دخل وهو الوجوب الغیری معناه أنّ العلم التفصیلی لم یتعلّق بأحد طرفی العلم الإجمالی، فإذا لم یتعلّق بأحد طرفی العلم الإجمالی؛ فحینئذٍ لا یکون موجباً للانحلال الحقیقی؛ لأنّ شرط الانحلال الحقیقی هو أن یتعلّق العلم التفصیلی بأحد طرفی العلم الإجمالی، فإذا کان معلومی هو الوجوب النفسی للأقل وتعلّق به العلم التفصیلی؛ فحینئذ یکون موجباً للانحلال الحقیقی، وإلا فلا، وفی محل الکلام لم یتعلّق العلم التفصیلی بالوجوب النفسی للأقل، وإنّما تعلّق بالجامع بین الوجوب النفسی والوجوب الغیری. هذا إذا ادُعی الانحلال الحقیقی فی هذا الوجه الأوّل.

ص: 549

وأمّا إذا ادُعی الانحلال الحکمی بدعوی أنّ الأقل منجّز علی کل حال سواء کان واجباً بالوجوب النفسی الاستقلالی، أو کان واجباً بالوجوب النفسی الضمنی، علی کل حال هو منجّز وداخل فی العهدة وهذا معناه عدم جریان البراءة فیه؛ إذ لا شک فی تنجیزه، فتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارض، وهذا یکون موجباً للانحلال الحکمی. صحیح أنّ العلم الإجمالی لا ینحل حقیقة؛ لأنّ العلم التفصیلی لم یتعلّق بأحد الطرفین علی ما قلنا، لکن هذا العلم الإجمالی یسقط حکماً؛ لأنّ الأقل نعلم تفصیلاً بکونه منجّزاً علی کل تقدیر، فلا تجری فیه البراءة، فتجری البراءة فی الأکثر بلا معارضٍ، وهذا یعنی الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، فیسقط عن التأثیر. إذا ادُعی الانحلال الحکمی بهذا البیان، فجوابه: أنّ الوجوب الغیری لا یصلح للتنجیز، الوجوب النفسی هو الذی یکون صالحاً للتنجیز، وهذا ما تقدّم فی بحث مقدّمة الواجب، وبناءً علی هذا یکون المنجّز هو فقط الوجوب النفسی؛ حینئذٍ یقال: ما معنی أن یقال فی مقام بیان الانحلال الحکمی أنّ الأقل منجز علی کل حال وعلی کل تقدیر، والحال أنّ أحد تقدیریه هو أن یکون متعلقاً للوجوب الغیری، والوجوب الغیری لیس صالحاً للتنجیز ؟ فإذن: لا یمکن أن نقول أنّنا نعلم بأنّ الأقل منجّز علی کل تقدیر، فیمتنع جریان البراءة فیه، فتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ الأقل علی أحد التقدیرین یکون منجّزاً، وهو ما إذا کان وجوبه وجوباً نفسیاً، أمّا علی تقدیر أن یکون وجوب الأقل وجوباً غیریاً مبنیّاً علی افتراض أن الواجب هو الأکثر فیکون وجوب الأقل وجوباً غیریاً بناءً علی هذا الوجه المذکور؛ فحینئذٍ لا یکون الأقل منجزاً؛ لأنّ الوجوب الغیری لا یصلح لتنجیز متعلّقه.

ص: 550

فإذن: لا یصح أن یقال أنّ الأقل منجّز علی کل تقدیر، فلا تجری فیه البراءة، فتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارض حتّی یتحقق الانحلال الحکمی، ومن هنا یظهر أنّ الوجه الأوّل لا ینهض لإثبات انحلال العلم الإجمالی حقیقة، کما لا ینهض لإثباته حکماً.

وأمّا الوجه الثانی الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) کتفسیرٍ لکلام الشیخ(قدّس سرّه) وأنّ مراده هو الوجه الثانی لا الوجه الأوّل والذی هو انحلال العلم الإجمالی فی المقام بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل إمّا وجوباً نفسیاً استقلالیاً، أو وجوباً ضمنیاً. بعض الإشکالات المتقدّمة علی الوجه الأوّل لا ترد علی هذا الوجه؛ لأنّ هذا الوجه لا یدعی أنّ الأقل واجب بالوجوب الغیری، وإنّما یدّعی أنّ الأقل واجب بالوجوب النفسی، غایة الأمر أنّه مرّة یکون استقلالیاً، ومرّة یکون ضمنیاً.

تقریب دعوی الانحلال بهذا الوجه: هو أن یقال أنّ معنی هذا الکلام(أننا نعلم تفصیلاً بوجوب الأقل، إمّا بوجوب استقلالی، أو بوجوبٍ ضمنی) أنّ الأقل قطعاً تعلّق به الوجوب النفسی، سواء کان هو الواجب استقلالاً أو کان الواجب الاستقلالی هو الأکثر، علی کلا التقدیرین الوجوب تعلّق باّلأقل، فیکون تعلّق الوجوب النفسی بالأقل معلوماً تفصیلاً، وإنّما الشک فی اتّساع هذا الوجوب وامتداده لیشمل الجزء المشکوک، وإلاّ الأقل قطعاً انبسط علیه الوجوب النفسی، سواء کان هو الواجب استقلالاً، أو کان الواجب استقلالاً هو الأکثر، والشک فی کونه هو الواجب استقلالاً، أو أنّ الواجب استقلالاً هو الأکثر یعنی الشک فی أنّ هذا الوجوب الذی تعلّق بالأقل هل امتدّ إلی الجزء العاشر، أو لم یمتد إلیه ؟ هذا هو الشک، وإلاّ، کون الأقل متعلّقاً للوجوب النفسی هذا أمر متیقن ولاشک فیه، فینحل العلم الإجمالی بهذا العلم التفصیلی بالوجوب النفسی للأقل؛ وحینئذٍ لا یرد الإشکال السابق من أنّ العلم التفصیلی هنا لم یتعلّق بأحد طرفی العلم الإجمالی حتی یحله؛ لأنّه فی العلم الإجمالی ما نعلمه هو الوجوب النفسی للأقل، یعنی أحد الطرفین هو الوجوب النفسی للأقل، وفی العلم التفصیلی لا أعلم بالوجوب النفسی للأقل، وإنّما أعلم بوجوب مردد بین الوجوب النفسی وبین الوجوب الغیری فی الوجه الأوّل، هذا الکلام لا یجری هنا؛ لأنّ العلم التفصیلی یتعلّق بالوجوب النفسی للأقل، سواء کان هو الواجب استقلالاً، أو کان الواجب استقلالاً هو الأکثر، والشک هو فی وجوب الزائد، یعنی فی امتداد هذا الوجوب النفسی إلی الجزء العاشر أو عدم امتداده، فینحل العلم الإجمالی بهذا العلم التفصیلی.

ص: 551

هذا التقریب بهذا البیان مرجعه إلی دعوی الانحلال الحقیقی، کأنّما یدّعی أنّ العلم الإجمالی ینحل بالعلم التفصیلی بهذا البیان انحلالاً حقیقیاً؛ لأنّ العلم التفصیلی تعلّق بأحد طرفی العلم الإجمالی الذی هو الوجوب النفسی للأقل، هذا علمت به تفصیلاً، فانحل العلم الإجمالی؛ وحینئذٍ لا یکون هناک تردید إمّا الوجوب النفسی متعلّق بالأقل، وإمّا متعلّق بالأکثر، قطعاً هو متعلّق بالأقل وشک فی ما زاد علیه، فمرجعه إلی دعوی الانحلال الحقیقی، ویمکن أن یقرّب الوجه الثانی بما یرجع إلی دعوی الانحلال الحکمی، بأن یقال: أنّ الأقل منجّز علی المکلف وفی عهدته قطعاً من دون فرقٍ بین أن یکون هو الواجب استقلالاً، أو یکون الواجب استقلالاً هو الأکثر، الأقل داخل فی العهدة ومنجّز علی المکلف علی کل تقدیر بخلاف الأکثر؛ لأنّه لا یُعلَم بکونه منجّزاً، وبهذا ینحل العلم الإجمالی، لکن انحلالاً حکمیاً؛ لأنّ أحد طرفیه وهو الأقل تنجّز علی المکلّف علی کل تقدیر، قطعاً هذا دخل فی العهدة، فلا تجری فیه البراءة، فتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارض، فینحل انحلالاً حکمیاً.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

الوجه الثانی لانحلال العلم الإجمالی المدعی فی المقام والذی اعتبر المانع الأوّل من جریان البراءة فی محل الکلام، الوجه الثانی لانحلال هذا العلم الإجمالی، وبالتالی ارتفاع المانع من جریان البراءة فی محل الکلام، الوجه الثانی الذی انتهی الکلام إلیه کان هو دعوی انحلاله بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل إمّا بالوجوب النفسی الاستقلالی، أو بالوجوب النفسی الضمنی، فینحل العلم الإجمالی بهذا العلم التفصیلی.

ص: 552

أجیب عن الوجه الثانی بعدة أجوبة:

الجواب الأوّل: هو أن یقال أنّ العلم التفصیلی لم یتعلّق بأحد طرفی العلم الإجمالی حتّی یکون موجباً لانحلاله حقیقة کما هو المدعی، تقدّم سابقاً أنّ شرط الانحلال الحقیقی أن یتعلّق العلم التفصیلی بأحد طرفی العلم الإجمالی بحیث یصبح أحد طرفی العلم الإجمالی معلوماً بالتفصیل، فینحل العلم الإجمالی قهراً إلی علم تفصیلی بأحد الطرفین وشک فی الطرف الآخر، وهذا غیر متحقق فی محل الکلام، باعتبار أنّ طرفی العلم الإجمالی هما عبارة عن الوجوب الاستقلالی للأقل، والوجوب الاستقلالی للأکثر؛ لأنّ المکلّف یعلم بوجوب الأقل، أو الأکثر، یعلم بوجوب الأقل استقلالاً، أو بوجوب الأکثر استقلالاً، فطرفا العلم الإجمالی هما الوجوب الاستقلالی للأکثر، والوجوب الاستقلالی للأقل، وما یعلمه تفصیلاً لیس هو أحد الطرفین، وإنّما العلم التفصیلی تعلّق بوجوب الأقل المردّد بین کونه استقلالیاً وبین کونه ضمنیاً، وهذا غیر المعلوم بالعلم الإجمالی، المعلوم بالعلم الإجمالی هو الوجوب النفسی الاستقلالی، والمعلوم بالعلم التفصیلی لیس هو هذا، وإنّما هو الوجوب النفسی الأعم من کونه استقلالیاً، أو ضمنیاً، وهذا بالتالی لا یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم التفصیلی لم یتعلّق بأحد طرفی العلم الإجمالی، فلا یوجب الانحلال الحقیقی.

یمکن دفع هذا الجواب الأوّل: بأنّه مبنی علی فرض الاستقلالیة والضمنیة، وهکذا کما سیأتی الإطلاق والتقیید واللابشرطیة والبشرط شیء، مبنی علی افتراض أنّ هذه الأمور کلّها تکون دخیلة فی ما تشتغل به ذمّة المکلّف، فیقال أنّ ما نعلم به إجمالاً هو الوجوب النفسی الاستقلالی المردّد بین أن یتعلّق بالأکثر، أو یتعلّق بالأقل، فکأنّه أخذ الاستقلالیة، هذا الوصف قیداً فی المعلوم بالإجمال، فما نعلمه بالإجمال لیس هو الوجوب النفسی، وإنّما الوجوب النفسی الاستقلالی؛ وحینئذٍ جاء هذا الجواب؛ لأنّ المعلوم بالتفصیل لیس هو هذا، المعلوم بالتفصیل هو الوجوب النفسی الأعم من الاستقلالی والضمنی؛ ولذا رتّب علی ذلک هذه النتیجة المتقدّمة وأنّ هذا لا یوجب انحلال العلم الإجمالی، بینما إذا ألغینا قید الاستقلالیة وقید الضمنیة، وقلنا بأنّ الاستقلالیة هی حدٌ للوجوب، بمعنی أنّ الوجوب لا ینبسط علی ما زاد علی ذلک، وإلاّ هی لیست دخیلة فی ما تشتغل به العهدة، الاستقلالیة والضمنیة لیست قیوداً فیها، لوضوح أنّه لا معنی لأن تکون الاستقلالیة داخلة فی عهدة المکلّف، أن تکون الاستقلالیة ممّا یکلّف به المکلّف، الاستقلالیة خارجة عن دائرة ما یکلّف به المکلّف، ففی العلم الإجمالی الموجود فی محل الکلام ما یعلمه بالإجمال هو عبارة عن وجوب نفسی متعلّق إمّا بالأقل وإمّا بالأکثر، الاستقلالیة والضمنیة هی من حدود الوجوب ولیست هی داخلة فی ما یدخل فی العهدة ولا لها علاقة فی ما یُکلّف به المکلّف، ما یُکلّف به المکلّف هو عبارة عن ذات الواجب، أمّا أنّ کونه واجباً مستقلاً أو واجباً ضمنیاً، هذه أمور لا تدخل فی العهدة ولا یُکلّف بها المکلّف ولا تشتغل بها الذمّة، ولا معنی لاشتغال الذمة بهذه الأمور، ما تشتغل به الذمّة هو عبارة عن ذات الواجب، أی نفس الواجب، إذا لاحظنا الواجب وما تشتغل به الذمة، سنجد أنّ ما تشتغل به الذمة، المکلّف یعلم علماً تفصیلیاً بأنّ الأقل قد اشتغلت به الذمّة بوجوب نفسی، فی محل الکلام الأقل یُعلم تفصیلاً بتعلّق الوجوب النفسی به، وأنّ الذمّة اشتغلت به جزماً وعلی کل تقدیر وعلی کل حال سواء کان الواجب هو الأکثر أو کان الواجب هو الأقل، علی کلا التقدیرین، یعنی التسعة فی محل الکلام هی ما اشتغلت به الذمّة، وممّا وجبت علی المکلّف بوجوب نفسیٍ، وشکّنا فی امتداد هذا الوجوب النفسی لما زاد علی التسعة، وإلاّ لا أقل هو معلوم الوجوب قطعاً، فإذن: بالإمکان أن نقول أنّ العلم الإجمالی انحل بهذا العلم التفصیلی، بأنّ الأقل واجب علی کل تقدیر، وواجب وجوباً نفسیاً، غایة الأمر أننا لا ندری هل أنّ التسعة واجبة لوحدها، أو أنّها واجبة مع إضافة، وجود الإضافة وعدم وجودها لا یؤثر فی أنّ التسعة معلومة الوجوب، قطعاً تعلّق بها الوجوب النفسی، لکن هل تعلّق بها وحدها، أو تعلّق بها بإضافة جزءٍ آخر ؟ بالنتیجة التسعة مطلوبة علی کل حال وممّا تجب علی المکلّف ودخلت فی عهدة المکلّف، فإذا دخلت فی عهدة المکلّف، إذن: یمکن أن یقال أنّ العلم الإجمالی الموجود فی المقام منحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل بوجوب نفسی، صحیح هو مرددّ بین أن یکون وجوباً استقلالیاً، أو وجوباً ضمنیاً، لکن بالنتیجة هو یعلم بوجوبٍ نفسیٍ متعلّقٍ بالأقل قطعاً، وهذا علم تفصیلی یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی هو عبارة عن وجوبٍ نفسیٍ متعلّق إمّا بالأقل أو بالأکثر، وقلنا أنّ الاستقلالیة لیست دخیلة فی ذلک، لا تدخل فی العهدة بلحاظ ما یدخل فی عهدة المکلّف یمکن للمکلّف أن یقول: ما دخل فی عهدتی یقیناً هو تسعة أجزاء، هذا قطعاً دخل فی العهدة، قطعاً اشتغلت به الذمّة علی کل تقدیر، وهذا موجب للانحلال؛ لأنّه علم تفصیلی بوجوب الأقل قطعاً وعلی کل تقدیر، وهذا یوجب انحلال العلم الإجمالی. والنکتة فی هذا أنّ الاستقلالیة المعلومة بالإجمال لیست دخیلة فی المعلوم بالإجمال، لا تدخل فی عهدة المکلّف؛ بل لا معنی لاشتغال الذمة بها، وإنّما الذی یدخل فی العهدة هو ذات الواجب، هذا هو الذی یدخل فی العهدة، بلحاظ ذات الواجب وبلحاظ ما یدخل فی العهدة یمکن للمکلّف أن یقول أنّی أعلم قطعاً وبالتفصیل أنّ الأقل قد دخل فی العهدة واشتغلت به الذمّة علی کل تقدیر، هذا علم تفصیلی یوجب انحلال العلم الإجمالی.

ص: 553

الجواب الثانی: هو ما یُستفاد من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) ذکره فی مقام بیان عدم انحلال العلم الإجمالی؛ لأنّه لا یری انحلال العلم الإجمالی، ویری عدم جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، ویُفصّل بین البراءة العقلیة وبین البراءة النقلیة، وحاصل ما ذکره هو: أنّ العلم التفصیلی المذکور الذی یُراد أن یُجعل موجباً لانحلال العلم الإجمالی، یقول هذا العلم التفصیلی هو عین العلم الإجمالی ولیس شیئاً غیره، فیستحیل أن یکون هو موجباً لانحلال العلم الإجمالی؛ لأنّه عینه؛ لأنّ هذا یؤدی إلی أن یکون العلم الإجمالی حالاًّ لنفسه، وهذا محال، یقول: أنّ العلم التفصیلی المذکور فی الوجه الثانی هو نفس العلم الإجمالی ولیس شیئاً غیره؛ لأنّ العلم الإجمالی هو عبارة عن العلم بوجوب إمّا الأقل أو الأکثر، والعلم التفصیلی هو أن أعلم بوجوب الأقل، إمّا بوجوبٍ استقلالی، أو بوجوب ضمنیٍ، وجوب الأقل، وجوب التسعة بالوجوب الاستقلالی هو عبارة عن وجوب الأقل فی العلم الإجمالی، وجوب الأقل بالوجوب النفسی الاستقلالی فی العلم الإجمالی هو عبارة عن وجوب التسعة بوجوب استقلالی ولیس شیئاً غیره، وجوب التسعة، إمّا بوجوب استقلالی، أو بوجوب ضمنی، وجوب التسعة بوجوب ضمنی یعنی وجوب الأکثر، فصار العلم التفصیلی الذی هو مردّد بین أن یکون استقلالیاً أو ضمنیاً هو عبارة عن العلم الإجمالی بوجوب إمّا الأکثر، أو الأقل؛ لأنّ وجوب الأکثر معناه وجوب التسعة ضمناً، وجوب الأقل وجوب ضمنی، وجوب الأقل فی العلم الإجمالی معناه وجوب التسعة بوجوبٍ استقلالی، فإذن: ما أعلمه بالتفصیل وهو أنّ التسعة واجبة علی کل تقدیر کما قیل أنّ التسعة واجبة وجوب نفسی لکنّه مردد بین أن یکون استقلالیاً أو یکون ضمنیاً، هذا التردید نفسه موجود فی العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی هو العلم إجمالاً بوجوب إمّا الأقل أو الأکثر، وجوب الأقل یعنی وجوب استقلالی للتسعة، أمّا وجوب الأکثر فیعنی وجوب ضمنی للتسعة؛ فحینئذٍ یکون العلم التفصیلی هو نفس العلم الإجمالی ویستحیل أن یکون موجباً لانحلاله؛ لأنّ الشیء لا یحل نفسه. هذا ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وجعله إشکالاً علی من یدّعی انحلال العلم الإجمالی بالوجه الثانی، یعنی بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل المردد بین الوجوب الضمنی وبین الوجوب الاستقلالی.

ص: 554


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص159.

یُلاحظ علی هذا الجواب نفس الملاحظة السابقة، یعنی هذا الجواب مبنی علی افتراض أنّ هذا التردد بین التسعة المقیدة بانضمام العاشر الذی هو الأکثر وبین التسعة المطلقة غیر المقیدة بانضمام الجزء العاشر الذی هو عبارة عن الأقل، هذا التردد کأنّه أخذ الإطلاق والتقیید دخیلاً فی المعلوم بالإجمال، أو بالتعبیر الذی ذکره صاحب الحاشیة علی المعالم أنّ الأمر یدور بین الماهیة بشرط شیء وبین الماهیة لا بشرط، الماهیة بشرط شیء هی عبارة عن المقید، الذی هو الأکثر، والماهیة لا بشرط هی عبارة عن التسعة المطلقة الغیر المقیدة بالجزء العاشر، والماهیة بشرط شیء تختلف وتباین الماهیة لا بشرط، أو الإطلاق والتقیید بینهما تباین، کأنّهم افترضوا أنّ الإطلاق والتقیید، الماهیة بشرط شیء والماهیة لا بشرط کلّها دخیلة فی المعلوم بالإجمال، عندما لاحظوا المعلوم بالإجمال بعد فرض أنّ هذه الأمور دخیلة فیه انتهوا إلی نتیجة أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام دائر بین المتباینین لا بین الأقل والأکثر، بناءً علی هذه التصورات یأتی جواب المحقق النائینی(قدّس سرّه) عن هذا الوجه، وهو أنّ العلم التفصیلی هو نفس العلم الإجمالی ولیس شیئاً آخر، فی العلم الإجمالی أنا أعلم بوجوب ماهیة إمّا بشرط شیء، وإمّا لا بشرط، الأکثر هو عبارة عن الماهیة بشرط شیء، ولنسمه (المقیّد)، الأقل هو عبارة عن ماهیة لا بشرط، ولنسمّه (المطلق)، فالأمر یدور بین المطلق وبین المقید فی العلم الإجمالی بین الماهیة بشرط شیء وبین الماهیة لا بشرط، فیقول أنّ العلم التفصیلی هو نفس العلم الإجمالی، ما أعلمه بالعلم التفصیلی هو وجوب نفسی متعلّق بالأقل، لکنّه مردد بین أن یکون استقلالیاً وبین أن یکون ضمنیاً، یعنی أنا أعلم بوجوب التسعة إمّا مقیّدة بالجزء العاشر، فیکون ماهیة بشرط شیء، ومقیّداً، وإمّا غیر مقیّدة بالجزء العاشر الذی هو استقلالی، التسعة واجبة إمّا ضمناً، یعنی مقیّدة بالجزء العاشر وهو الأکثر، وهی الماهیة بشرط شیء، وإمّا استقلالاً، یعنی غیر مقیّدة بالجزء العاشر، یعنی ماهیة لا بشرط، وبعبارة أخری مطلقة، وهذا نفس العلم الإجمالی ولیس شیئاً آخراً غیر العلم الإجمالی، لکن هذا کلّه مبنی علی افتراض أنّ الإطلاق والتقیید، أو الماهیة بشرط شیء والماهیة لا بشرط....وهکذا سائر ما یمکن أن یقال فی المقام هو دخیل ویلحظ عندما نرید أن نحل العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، وأمّا إذا قلنا أنّ هذه الأوصاف، الإطلاق والتقیید، والاستقلالیة والضمنیة، والبشرط شیئیة واللا بشرط شیئیة ....الخ هذه الأوصاف لا تکون قیوداً فی المعلوم بالإجمال بما هو منجّز علی المکلّف، وبما هو داخل فی العهدة، لیست قیوداً فیه بما هو منجّز علی المکلّف الاستقلالیة والضمنیة والإطلاق والتقیید لیس دخیلاً فی المعلوم بالإجمال باعتباره منجّزاً وداخلاً فی العهدة، والسر فی هذا أنّها أوصاف غیر قابلة للتنجیز، ما معنی أنّ وصف الاستقلالیة یکون منجّزاً علی المکلّف ؟ لا معنی لذلک، وهکذا الإطلاق، وهکذا التقیید، وهکذا الضمنیة، هذه أوصاف لا تقبل التنجیز علی المکلّف؛ ولذا لا تکون دخیلة فی المعلوم بالإجمال بما هو منجّز. نعم، یکون دخیلاً فی المعلوم بالإجمال، لکن لا بما هو منجّز، بأن یقال أنا أعلم بوجوب إمّا استقلالی، وإمّا ضمنی، أو أعلم بوجوب استقلالی إمّا ثابت للأقل، أو للأکثر، لکن بما هو منجّز وداخل فی العهدة الاستقلالیة لیست دخیلة فیه، وهذا معناه أنّ المعلوم بالإجمال لابدّ من أن نرفع عنه وصف الاستقلالیة، وصف الاستقلالیة لیس دخیلاً فی المعلوم بالإجمال بما هو منجّز وداخل فی العهدة، فإذا لاحظنا ما هو داخل فی العهدة ما یتنجّز علی المکلّف بالعلم الإجمالی سنجد أنّه ینحل بالعلم التفصیلی، ما یدخل فی العهدة وما یُکلّف به المکلّف دائر فی الحقیقة بین تسعة أجزاء وبین عشرة أجزاء، یعنی تسعة أجزاء بلا إضافة، أو تسعة أجزاء بإضافة. هذا واقع المطلب. صحیح، إذا غضضنا النظر عن هذه النکتة؛ حینئذٍ نقول أنّ ما أعلمه هو إمّا وجوب استقلالی للأقل، أو وجوب استقلالی للأکثر، الاستقلالیة لیست دخیلة، إذا نظرنا إلی ما یتنجّز علی المکلّف بهذا العلم الإجمالی نجد أنّه دائر بین الأقل والأکثر لا بین المتباینین، وهذا هو معنی أنّ المکلّف یعلم بالتفصیل بوجوب الأقل، ویشک فی وجوب ما زاد علیه، وهذا موجب لانحلال العلم الإجمالی.

ص: 555

إذن: تارة نلحظ المعلوم بالإجمال مع وصف کونه استقلالی، أو صف کونه لا بشرط، أو بشرط شیء، أو هذه الأمور التی ذُکرت، وأخری لا نلحظ ذلک، إذا لاحظنا هذه الأمور یصح کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه)، العلم التفصیلی هو نفس العلم الإجمالی ولیس شیئاً آخر غیره؛ لأنّ ما أعلمه بالإجمال هو وجوب استقلالی للأکثر، أو وجوب استقلالی للأقل، هذا یمکن أن نبدله بعبارة أخری: أنا أعلم بوجوب التسعة إمّا بوجوب استقلالی، الذی هو الأقل، وإمّا وجوب التسعة بوجوبٍ ضمنی، یعنی هو عبارة عن وجوب استقلالی للأکثر، فیکون إشکال المحقق النائینی(قدّس سرّه) وارداً، لکن إذا قلنا بأنّ الاستقلالیة لیست دخیلة فی ما یتنجّز علی المکلّف، فی ما یدخل فی عهدته نتیجة العلم الإجمالی أو العلم التفصیلی؛ حینئذٍ الأمر لیس هکذا، یمکن أن نقول بأنّ العلم الإجمالی ینحل بالعلم التفصیلی؛ بل فی الحقیقة نستطیع أن نقول أنّه أصلاً لیس لدینا علم إجمالی من البدایة، أصلاً من البدایة لا یتشکّل لدینا علم إجمالی حتّی نبحث أنّه هل هناک ما یوجب انحلاله أو لیس هناک ما یوجب انحلاله، إذا لاحظنا مقدار ما یتنجّز علی المکلّف سنجد أنّ الأمر یدور بین الأقل والأکثر من البدایة، المکلّف یعلم أنّ ذمّته اشتغلت بالتسعة ویشکّ فی أنّه اشتغلت بشیء أزید من ذلک أو لا ؟ فلا یوجد علم إجمالی حتّی نبحث فی انحلاله أو عدم انحلاله، وإنّما هناک شک دائر بین الأقل والأکثر بالضبط کما هو الحال فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر الاستقلالیین.

الجواب الثالث: ما قد یُفهم من کلام صاحب الحاشیة علی المعالم، حاصل هذا الجواب هو أنّ الدوران فی محل الکلام لیس بین الأقل والأکثر، وإنّما هو بین المتباینین ولا یوجد لدینا علم تفصیلی یوجب انحلال هذا العلم الإجمالی. أمّا أنّ الأمر دائر بین المتباینین لا بین الأقل والأکثر فبما أشرنا إلیه من أنّ الأمر یدور بین الماهیة بشرط شیء، أو الماهیة لا بشرط، نستطیع أن نعبر بأنّ الأمر یدور بین الإطلاق وبین التقیید، والإطلاق یباین التقیید والماهیة بشرط شیء تباین الماهیة لا بشرط، فإذن الأمر یدور بین المتباینین، وأمّا أنّه لا یوجد علم تفصیلی یوجب انحلال هذا العلم الإجمالی، فلما تقدّم أیضاً من انّ الانحلال مشروط بأن یتعلّق العلم التفصیلی بأحد طرفی العلم الإجمالی، وهنا لا یوجد لدینا علم تفصیلی بأحد الطرفین؛ لأنّ طرفی العلم الإجمالی هما عبارة عن الوجوب الاستقلالی للأقل والوجوب الاستقلالی للأکثر ولا یوجد علم تفصیلی بوجوب الأقل استقلالاً، وإنّما المُدعی هو وجوب الأقل وجوباً أعم من کونه استقلالیاً، أو ضمنیاً، ولا أحد یدّعی أنّ هناک علماً تفصیلیاً بوجوب الأقل استقلالاً، وإنّما المدعی فی الوجه الثانی أننا نعلم تفصیلاً بوجوب الأقل وجوب نفسی مردد بین الاستقلالی وبین الضمنی، وهذا غیر طرف العلم الإجمالی، فلا یوجب انحلاله.

ص: 556

هذا الجواب أیضاً نفس الجواب تقریباً وهو أنّ هذا مبنی أیضاً علی افتراض أنّ الإطلاق والتقیید، أو البشرط شیء أو اللابشرط مأخوذ قیداً ودخیلاً فی المعلوم بالإجمال ویُلحظ هذا فی المعلوم بالإجمال عندما یُراد ملاحظة نسبته إلی العلم التفصیلی، وأنّ العلم التفصیلی هل یکون موجباً لانحلاله أو لا یکون موجباً لانحلاله؛ حینئذٍ یقال أنّ الأمر یدور بین المتباینین، بین الإطلاق والتقیید، ولعلّه یبنی علی أنّ الإطلاق هو عبارة عن لحاظ عدم القید والتقیید هو عبارة عن لحاظ القید، لحاظ عدم القید ولحاظ التقیید أمران متباینان؛ فحینئذٍ یقال بأنّ الأمر یدور بین المتباینین، ولیس هناک أقل وأکثر، لکن هذا مبنی علی لحاظ الإطلاق فی المعلوم بالإجمال، فلدینا معلوم بالإجمال مردد بین ماهیة مطلقة وبین ماهیة مقیّدة، بین ماهیة بشرط شیء وبین ماهیة لا بشرط...وهکذا. لکن کما قلنا إذا لاحظنا ما یتنجّز علی المکلّف وما یدخل فی عهدته بالعلم الإجمالی الأوّل المتقدّم، فسنجد أنّ الأمر لا یدور بین المتباینین، الحصیلة النهائیة عندما یفکر المکلّف بینه وبین نفسه باعتبار هذا العلم الإجمالی، سیجد أنّه یعلم قطعاً بوجوب الأقل ویشک فی وجوب ما زاد علیه. هذا قطعاً داخل فی عهدته، هل هناک شیء آخر أیضاً دخل فی عهدته، أو لا ؟ فمن البدایة کما قلنا لا یوجد علم إجمالی؛ لأنّ قوام العلم الإجمالی هو الدوران بین المتباینین، فی المقام لا یوجد علم إجمالی یدور بین المتباینین، وإنّما من البدایة یدور الأمر بین الأقل والأکثر، الأقل معلوم بالتفصیل، والأکثر مشکوک بالشک البدوی فلا مانع من جریان البراءة فیه.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

ص: 557

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

تمّ الکلام عن المانع الأوّل عن جریان البراءة فی محل الکلام فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر وتبیّن بأنّ هذا المانع لیس مانعاً؛ بل فی الحقیقة هو غیر موجود أصلاً، والمقصود به هو العلم الإجمالی، وتبیّن من الدرس السابق أنّه فی الواقع لا یوجد علم إجمالی، وإنّما الأمر من البدایة دائر بین الأقل والأکثر ولیس بین المتباینین حتی یتشکل علم إجمالی ویدعی کونه مانعاً من جریان البراءة فی محل الکلام.

المانع الثانی: ما هو المنقول والمعروف عن صاحب الفصول(قدّس سرّه) حیث ذکر هذا المانع من جریان البراءة فی محل الکلام، وحاصل ما ذکره هو أننا لو سلّمنا أنّ العلم الإجمالی الموجود بین الأقل والأکثر ینحل بالعلم التفصیلی المتقدّم؛ فحینئذٍ یزول المانع الأوّل علی أساس انحلال هذا العلم الإجمالی، فلا یکون مانعاً من جریان البراءة، لو سلّمنا ذلک، یقول: نفس العلم التفصیلی هو بنفسه یکون مانعاً من جریان البراءة فی محل الکلام، والمقصود بالعلم التفصیلی هو العلم التفصیلی بوجوب الأقل إمّا بالوجوب الاستقلالی، أو بالوجوب الضمنی، نفس هذا العلم التفصیلی یُعد یقیناً بالاشتغال، وهذا معناه أنّ المکلّف یکون علی یقین من اشتغال ذمّته بهذا الوجوب، ودخول الأقل فی عهدته وفی ذمّته، هو یقین باشتغال الذمّة بالأقل؛ لأنّه علم تفصیلاً بوجوب الأقل، إذا صار هذا یقیناً باشتغال الذمّة، وسلّمنا بأنّه اشتغال للذمّة بالأقل؛ حینئذٍ تأتی قاعدة الاشتغال وتقول أنّ(الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی) الفراغ الیقینی من التکلیف بالأقل المردد بین کونه استقلالیاً أو ضمنیاً لا یتحقق إلاّ بالإتیان بالأکثر؛ لأنّ وجوب الأقل الذی اشتغلت به الذمّة یقیناً بحسب الفرض هو مردد بین الاستقلالی وبین الضمنی علی تقدیر أن یکون هذا الوجوب استقلالیاً؛ حینئذٍ تفرغ الذمّة منه بالإتیان بالأقل، لکن علی تقدیر أن یکون وجوب الأقل وجوباً ضمنیاً، فهذا الوجوب الأقل لا تفرغ الذمّة منه إلاّ بالإتیان بالأکثر؛ لأنّ معنی کون الأقل واجباً بالوجوب الضمنی هو أنّه واجب فی ضمن مجموع مرکب منه ومن غیره، وهذا الأقل الذی علمت بوجوبه تفصیلاً واشتغلت به الذمّة تفصیلاً علی تقدیر أن یکون وجوبه ضمنیاً فامتثاله وتفریغ الذمّة من عهدته لا یکون إلاّ بالإتیان بالأکثر، إذا جاء بالأکثر؛ حینئذٍ یکون قد أفرغ ذمّته عن ما اشتغلت به یقیناً؛ لأنّ الذمّة اشتغلت بالأقل المردد بین کونه استقلالیاً، او ضمنیاً، أمّا إذا اقتصر علی الأقل لا یکون هناک تفریغ ذمّة یقینی لما اشتغلت به ولیس للمعلوم بالإجمال؛ بل للمعلوم بالتفصیل، ما اشتغلت به الذمّة هو وجوب الأقل، لکنّه مردد بین الاستقلالی وبین الضمنی، علی تقدیر أن یکون الأقل ما اشتغلت به الذمّة ویکون وجوبه وجوباً ضمنیاً لا یتحقق امتثاله إلاّ بالإتیان بالأکثر، فإذا جاء بالأکثر یکون حینئذٍ قد أفرغ ذمّته عمّا اشتغلت به یقیناً، وأمّا إذا اقتصر علی الأقل واکتفی بالتسعة أجزاء هو لا یقطع بفراغ الذمّة. نعم، علی تقدیر أن یکون وجوب الأقل وجوباً استقلالیاً، فإذا اقتصر علی الأقل یقطع بفراغ الذمّة، أمّا علی تقدیر أن یکون وجوب الأقل وجوباً ضمنیاً، هو واجب فی ضمن مجموع مرکب منه ومن غیره، امتثال الأقل لا یکون بالإتیان به، وإنّما امتثاله لا یتحقق الإّ بالإتیان بالأکثر؛ للترابط الموجود بین الواجبات الضمنیة، حیث أنّ الواجبات الضمنیة متلازمة فی الثبوت وفی السقوط، وفی الامتثال، لا یکون ممتثلاً لواجب ضمنی إلاّ إذا امتثل باقی الواجبات الضمنیة، فلا یتحقق امتثال الأقل إلاّ بالإتیان بالأکثر، وهذا معناه أنّ اشتغال الذمّة یقیناً بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل المردد بین الاستقلالی والضمنی یستدعی الفراغ الضمنی لقاعدة الاشتغال، والفراغ الیقینی من هذا التکلیف الذی اشتغلت به الذمّة قطعاً لا یکون إلاّ بالإتیان بالأکثر، وهذا معناه أننا نصل إلی نتیجة وجوب الإتیان بالأکثر، ولا تجری حینئذٍ البراءة؛ لأنّ هذا المورد لیس من موارد البراءة، وإنّما هو مورد لقاعدة الاشتغال؛ لأنّ الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، وهنا لا یلاحظ صاحب الفصول(قدّس سرّه) المعلوم بالإجمال، وإنّما یلاحظ المعلوم بالتفصیل، یعنی یفترض انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی ویسلّم الانحلال، فالمانع من جریان البراءة لیس هو العلم الإجمالی؛ لأنّه انحل بالعلم التفصیلی، لکن نفس هذا العلم التفصیلی بوجوب الأقل المردد بین الاستقلالی والضمنی هو علم تفصیلی بالتکلیف هو یعنی اشتغال الذمّة جزماً بالأقل، فإذن: هذا من موارد اشتغال الذمّة بالتکلیف جزماً یقیناً، الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، والفراغ الیقینی من مثل هذا التکلیف المردد بین الاستقلالی والضمنی لا یکون إلاّ بالإتیان بالأکثر، فیجب الإتیان بالأکثر ولا مجال لجریان قاعدة البراءة، فیکون هذا مانعاً من إجراء قاعدة البراءة فی محل الکلام.

ص: 558

هذا المانع الثانی أجاب عنه المحققون ممّن علّق علی کلام صاحب الفصول(قدّس سرّه) وننقل کلام السید الخوئی(قدّس سرّه)، خلاصة کلامه، (1) یقول: أنّ هذا الکلام وقع فیه خلط بین مقامین، بین سقوط التکلیف واقعاً وبین سقوط التکلیف بحکم العقل، الواجب علینا هو الثانی، لیس ما یحکم به العقل هو عنوان إسقاط التکلیف، إسقاط التکلیف لیس من الواجبات العقلیة ولا من الواجبات الشرعیة، العقل یحکم بلزوم الإتیان بما یعلم من التکلیف، التکلیف المعلوم یجب الإتیان به، فکل شیءٍ عُلم تعلّق التکلیف به یحکم العقل بلزوم الإتیان به، یقول: لیس هناک دلیل علی أنّ عنوان(إسقاط التکلیف) من الواجبات الشرعیة، أو الواجبات العقلیة، فالعقل لا یحکم بلزوم إسقاط التکلیف واقعاً، العقل یقول: العلم منجّز، فإذا علمت بتعلّق التکلیف بشیء؛ حینئذٍ یقول العقل یجب علیک الإتیان بذلک الشیء الذی عُلم تعلّق التکلیف به، هذا هو المقدار الذی یحکم به العقل ولیس للعقل حکم آخر أزید من هذا، لا یحکم العقل بوجوب إسقاط التکلیف علی ما هو علیه فی الواقع، وإنّما ما یحکم به العقل هو أنّ التکلیف إذا کان معلوماً، تنجّز بالعلم بحیث أصبح الشیء یُعلم تعلّق التکلیف به، هذا یحکم العقل بلزوم الإتیان به فراراً من العقاب علی المخالفة؛ لأنّ هذا التکلیف المعلوم تنجّز علی المکلّف فاستحق المکلّف العقاب علیه علی تقدیر المخالفة، العقل فراراً من استحقاق العقاب علی المخالفة یحکم بلزوم الإتیان بذلک الشیء، هذا هو الذی یحکم به العقل. إذن: فی محل الکلام حصل خلط بین إسقاط التکلیف واقعاً وبین إسقاط التکلیف الذی عُلم تعلقه بالشیء، فُرض العلم بتعلّق التنجیز، تنجّز ذلک الفعل بتعلّق التکلیف به، هذا الثانی هو الواجب عقلاً دون الأوّل، فی محل الکلام صحیح، أنّ إسقاط التکلیف واقعاً علی ما هو علیه فی الواقع فی محل الکلام واضح أنّه یتوقف علی الإتیان بالأکثر؛ إذ لا جزم بسقوط التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع إلاّ بالإتیان بالأکثر؛ لأنّ المکلّف یعلم بوجوب الأقل، صحیح، لکنّ هذا الأقل دائر بین الاستقلالی وبین الضمنی، وعلی تقدیر أن یکون وجوبه وجوباً ضمنیاً کما قلنا، أو کما قال صاحب الفصول(قدّس سرّه)هذا لا یتحقق امتثاله إلاّ بالإتیان بالأکثر؛ إذ لا یکفی فی امتثال الأقل بعد فرض کون وجوبه وجوباً ضمنیاً إلاّ إذا جاء بالأکثر، لکن هذا إسقاط للتکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع، هل هذا هو المطلوب منّا عقلاً ؟ أو أنّ المطلوب عقلاً هو إسقاط التکلیف بالمقدار المنجّز ؟ إذا کان هناک فعل یعلم المکلّف بتعلّق التکلیف به، العقل یحکم بوجوب امتثاله ووجوب إسقاط هذا التکلیف الذی علِم بتعلّقه بذلک الفعل، فیحکم بلزوم الإتیان بالفعل فراراً من محذور المخالفة واستحقاق العقاب، الذی یحکم به العقل هو الثانی لا الأوّل، وفی محل الکلام صحیح أنّ التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع لا یتحقق امتثاله إلاّ بالإتیان بالأکثر، لکن بمقدار ما تنجّز علی المکلّف؛ حینئذٍ یمکن التفصیل، فنقول: العلم التفصیلی بوجوب الأقل اشتغلت به الذمّة، وعلم به المکلّف، فالأقل ممّا علم المکلّف بتعلّق التکلیف به، فإذا علم المکلّف بتعلّق التکلیف به، العقل یحکم بوجوب الإتیان به، ما زاد علی ذلک لا یعلم المکلّف بتعلّق التکلیف به، صحیح هو محتمل ولا یخرج من عهدة الواقع جزماً إلاّ إذا جاء بالأکثر وراعی هذا الاحتمال، احتمال وجوب الزائد علی الأقل، لکنّه لم تقم علیه البیّنة، ولم یتنجّز بالعلم؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف یشک فی وجوب الزائد، یشک فی وجوب ما زاد علی الأقل، فإذن: هو لم یتنجّز بالعلم حتّی یحکم العقل بلزوم الإتیان به، ما تنجّز بالعلم هو عبارة عن الأقل بعد فرض انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، العلم التفصیلی یتعلّق بالأقل. إذن: اصبح الأقل ممّا یعلم المکلّف بتعلّق التکلیف به، العقل یحکم بلزوم الإتیان به، فراراً عن محذور المخالفة، هذا صحیح، ما زاد علی الأقل لا یعلم المکلّف بتعلّق التکلیف به، لم یتنجّز علی المکلّف بعلم بحسب الفرض، فإذا لم یتنجّز بعلم تجری فیه أصالة البراءة ولا یکون من موارد الاشتغال، ما اشتغلت به الذمّة حتماً وجزماً هو عبارة عن الأقل، هذا هو الذی تنجّز علی المکلّف بالعلم، والعقل یحکم بلزوم الإتیان به، ما زاد علیه لیس مورداً لحکم العقل بلزوم مراعاته ولزوم أن یکون هناک امتثال یُراعی فیه احتمال أن یکون الواجب هو الأقل، العقل لا یحکم بذلک؛ بل العقل فی هذه الحالة یحکم بالبراءة، یحکم العقل فی هذه الحالة بقبح العقاب بلا بیان، باعتبار أنّ العقاب علی مخالفة هذا الزائد المحتمل هو عقاب بلا بیان؛ لأنّه لم یصل البیان للمکلّف علی وجوب الزائد، وإنّما الذی وصل إلیه هو بیان علی وجوب الأقل، علی وجوب تسعة أجزاء، فالعقاب علی مخالفة التکلیف بالزائد لو کان ثابتاً فی الواقع هو عقاب بلا بیان تؤمّن منه قاعدة البراءة؛ بل حتّی البراءة الشرعیة أیضاً تؤمّن من ناحیته.

ص: 559


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص424.

وبعبارةٍ أخری: الشک فی تحقق الامتثال بالإتیان بالأقل، لا یمکن إنکار أنّ المکلّف فی محل الکلام إذا اقتصر علی الأقل یبقی شاکّاً فی تحقق الامتثال للتکلیف الواقعی بلا إشکال؛ لأنّه لا یعلم التکلیف الواقعی ما دام یحتمل الأکثر؛ فحینئذٍ لا یستطیع أن یقول أنّ ما جئت به هو امتثال للتکلیف الواقعی، فیبقی الشکّ فی تحقق الامتثال علی حاله عند الإتیان بالأکثر، لکن بعد الإتیان بالأقل هذا الشک فی تحقق الامتثال یکون ناشئاً من أنّ الشارع هل جعل التکیف بالزائد بعد أن جعل التکلیف بالأقل ووصل التکلیف بالأقل إلی المکلّف هل هو أیضاً حکم بوجوب الأقل ؟ هل حکم بارتباط هذا الأقل الذی هو التسعة بالجزء العاشر وبوجوبه ؟ هذا نشک فیه، فتجری البراءة لنفیه، فتکون القضیة شرعیة، أنّ الشارع تارة یحکم بوجوب التسعة فقط، وأخری یحکم بوجوب التسعة بالإضافة إلی الجزء العاشر، إضافة الجزء العاشر وصیرورة الواجب هو الأکثر هذا حکم شرعی ینشأ من جعل الشارع وهو مشکوک، المکلّف یشک فی أنّ الشارع هل قیّد الأجزاء التسعة بالجزء العاشر ؟ هل حکم بوجوب الجزء العاشر ؟ هذا جعلٌ مشکوک؛ فحینئذٍ تجری البراءة لنفیه، لیس هناک یقین باشتغال الذمّة بما زاد علی الأقل، وإنّما ما یتیقن المکلّف باشتغال ذمّته فیه هو الأقل؛ لأنّ العلم التفصیلی تعلّق بالأقل. صحیح أنّ الأقل المعلوم وجوبه تفصیلاً مردد بین الضمنی وبین الاستقلالی، لکن ما یتنجّز علی المکلّف وما تجری فیه قاعدة الاشتغال وما یحکم العقل بلزوم الإتیان به ولزوم تفریغ الذمّة منه هو التکلیف المنجّز علی المکلّف بالعلم وأمثاله، وما یعلم المکلّف به فی محل الکلام هو تعلّق التکلیف بالأقل، أی بالتسعة، هذا هو الذی یعلمه بحسب الفرض تفصیلاً، ما زاد علیه لیس معلوماً للمکلّف، احتمال عدم تحقق الامتثال وعدم فراغ الذمّة واقعاً موجود، لکنّ هذا الاحتمال ینشأ من جعل الشارع، احتمال أنّ الشارع جعل التکلیف بالجزء العاشر زائداً التکلیف بالأقل، وهذا غیر واصل ولم یتم علیه البیان، یشک المکلّف فیه، فتجری البراءة لنفیه، ویقتصر فی مقام الامتثال علی الإتیان بالأقل، والحاصل أنّ المکلّف لیس مطالباً عقلاً بأن یأتی بأزید من الأقل، فیمکنه أن یکتفی بالأقل، ویجری البراءة لنفی ما زاد علی الأقل، فهذا لا یمنع من جریان البراءة فی محل الکلام؛ لأنه کما یقول السید الخوئی(قدّس سرّه) فیه خلط بین إسقاط التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع وبین إسقاط التکلیف بفعلٍ یعلم التکلیف، الواجب علی المکلّف عقلاً هو الثانی، وأن یسقط التکلیف المنجّز، کل تکلیف علم بتعلّقه بشیء العقل یحکم بوجوب إسقاطه وتفریغ الذمّة منه، لکن لا یحکم العقل بوجوب إسقاط التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع، وذاک وإن کان یتوقّف علی الإتیان بالأکثر، لکن العقل لا یحکم بلزوم مراعاته وبوجوب الاحتیاط من ناحیته.

ص: 560

المانع الثالث: ما أشار إلیه الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الرسائل، وذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی الکفایة، (1) وحاصله: إذا سلّمنا الانحلال من ناحیة الوجوب، باعتبار أنّ الوجوب المردد بین الأقل والأکثر ینحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل، لو سلّمنا هذا الانحلال من ناحیة الوجوب، فلا نسلّم الانحلال من ناحیة الغرض، وذکر صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أنّه بناءً علی ما بنا علیه مشهور العدلیة من تبعیة الأحکام من أوامر ونواهی للمصالح والمفاسد وأنّ هذه المصالح والمفاسد موجودة فی المأمور به والمنهی عنه بحیث یکون الداعی إلی الأمر الشرعی هو وجود مصلحة تترتب علی لإتیان بالفعل، والداعی علی النهی الشرعی هو وجود مفسدة تترتب علی الفعل، فتکون الأوامر والنواهی تابعة للمصالح والمفاسد فی متعلّقاتها. إذن: الأمر بشیء هو لأجل المصلحة التی تترتب علی فعل ذلک الشیء کما أنّ النهی عن شیء هو لأجل المفسدة التی تترتب علی ذلک الشیء. وحیث أنّه یجب تحصیل غرض المولی الذی لأجله صدر منه الأمر، أو صدر منه النهی، یجب علی المکلّف تحصیل غرض المولی وهذا ممّا یحکم به العقل، فالعقل یحکم بلزوم تحصیل أغراض المولی، ففی هذه الحالة لا محیص عن الاحتیاط فی محل الکلام، والاحتیاط یکون بالإتیان بالأکثر وعدم الاقتصار علی الأقل؛ وذلک لأنّه لا یُعلم بحصول الغرض الذی جعل الشارع الوجوب لأجله إلاّ بالإتیان بالأکثر؛ لأنّ المکلّف إذا لم یأتِ بالأکثر واقتصر علی الأقل؛ حینئذٍ لا یعلم بحصول وترتّب الغرض؛ لاحتمال أن یکون الجزء الزائد الذی لم یأتِ به المکلّف دخیلاً فی تحقق غرض المولی؛ لأنّ هذا الاحتمال موجود بلا إشکال، مادام المکلّف یحتمل وجوب الأکثر، فهذا یعنی أنّه یحتمل أنّ الزائد علی الأقل دخیل فی تحقق غرض المولی. إذن: هو لا یعلم بتحصیل الغرض إلاّ إذا جاء بالأکثر، وإلاّ لیس له علم بتحقق غرض المولی من التکلیف، وحیث أنّ تحصیل غرض المولی واجب بحکم العقل، فیجب علی المکلّف الإتیان بالأکثر حتّی یقطع بتحقق غرض المولی، فالانحلال مسلّم بلحاظ الوجوب، الوجوب ینحل إلی علم بوجوب تفصیلی وشک بدوی فی ما زاد، لکن الغرض الذی من أجله جُعل التکلیف أساساً المردد عندنا بین الأقل وبین الأکثر، هذا التکلیف باعتبار أنّه تابع للمصلحة بالنتیجة له غرض یترتب علی الفعل، هذا الغرض أنا لا أعلم بتحققه إلاّ إذا جئت بالأکثر، وأمّا إذا اقتصرت علی الأقل؛ حینئذٍ لا علم بتحقق هذا الغرض. نعم، احتمال أن یتحقق هذا الغرض لکن لا علم بتحققه، وحیث أنّ تحصیل غرض المولی واجب بحکم العقل مثلاً، ففی هذه الحالة لابدّ من الاحتیاط والإتیان بالأکثر من باب الاحتیاط.

ص: 561


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص364.

والذی یبدو أنّ هذا المانع الذی ذُکر مرجعه إلی دعوی الشک فی المحصل الذی یحکم العقل فیه بالاشتغال، غایة الأمر أنّ هذا الشک فی المحصل لیس من ناحیة التکلیف والوجوب، وإنّما من ناحیة الغرض؛ لأنّ نفس الفکرة التی تُطبق علی التکلیف عندما یکون هناک شک فی المحصل، نفسها تطبق علی الغرض، کان هناک تکلیف یشک المکلّف فی أنّه هل امتثله أو لا ؟ یجب علیه امتثاله، نفس هذا یُطبق علی الغرض، هناک غرض من التکلیف والمکلّف مسئول تجاه هذا الغرض، فیجب علیه تحصیله وتحصیله لا یکون إلاّ بالإتیان بالأقل، لو فرضنا أنّ المکلف کان یعلم بوجوب الأکثر علماً تفصیلیاً وشک فی الإتیان به، یجب علیه الإتیان به؛ لأنّه لا یعلم هل امتثل هذا التکلیف، أو ؟ فیجب علیه الإتیان به، والعقل هنا یحکم بوجوب الاحتیاط ووجوب الإتیان به، الغرض هو من هذا القبیل، یشک فی حصوله إذا اقتصر علی الأقل، فیجب علیه تحصیله بالإتیان بالأکثر وعدم الاکتفاء بالإتیان بالأقل.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

کان الکلام فی المانع الثانی عن جریان البراءة فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر، وکان هذا المانع یتمثّل فی أننا إذا سلّمنا انحلال العلم الإجمالی ______________ والمراد بالعلم الإجمالی فی محل الکلام هو العلم بوجوب أحد الأمرین، إمّا الأقل، أو الأکثر ______________ بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل، إمّا استقلالاً، أو ضمناً، فهذا یعنی العلم القطعی الیقینی بوجوب الأقل، وهذا یعنی الیقین باشتغال الذمّة بالأقل؛ لأنّه معلوم تفصیلاً، والاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی ولا یقین بفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به یقیناً إلاّ إذا جاء بالأکثر؛ لأنّ أحد محتملات الأقل بحسب الفرض هو أنّ وجوبه وجوب ضمنی، ومن الواضح أن الأقل إذا کان وجوبه وجوباً ضمنیاً، فهو لا یسقط بالإتیان به؛ لأنّ معنی أنّ وجوبه وجوب ضمنی هو أنّه واجب فی ضمن مجموع مرکّب منه ومن غیره، هذه الارتباطیة تمنع من تحقق الامتثال إذا جاء علی تقدیر أن یکون وجوبه وجوباً ضمنیاً؛ بل لا یمتثل الأقل إلاّ بالإتیان بالأکثر کما هو الحال فی کل جزءٍ من أجزاء الفعل المرکب، امتثال الرکوع لا یحصل إلاّ إذا انضم إلیه سائر الأجزاء، وإلاّ لا یکون ممتثلاً للرکوع؛ لأنّ وجوب الرکوع وجوب ضمنی مرتبط بباقی الأجزاء، فالأقل علی تقدیر أن یکون وجوبه وجوباً ضمنیاً، فهو لا یُمتثل إلاّ بالإتیان بالأکثر. إذن: یجب الإتیان بالأکثر لحکم العقل بأنّ الیقین بالاشتغال یستدعی الفراغ الیقینی ولا یقین بالفراغ إلاّ بالإتیان بالأکثر، فوصلنا إلی نفس النتیجة وهی وجوب الإتیان بالأکثر وجریان قاعدة الاشتغال وعدم جریان البراءة فی محل الکلام.

ص: 562

وقد ذکرنا فی الدرس السابق جواباً عن هذا المانع، وهذا الجواب یتلخّص فی أنّ هناک فرقاً بین سقوط التکلیف واقعاً وبین سقوط التکلیف بمقدار ما یتم علیه البیان فی محل الکلام، صحیح أنّ سقوط التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع یتوقّف علی الإتیان بالأکثر؛ لأنّه لا یقین للمکلّف بسقوط التکلیف الواقعی إذا اقتصر علی الأقل وجاء بالأقل مقتصراً علیه، لکنّ الکلام فی أنّ العقل بماذا یحکم ؟ فی قاعدة الاشتغال هل العقل یحکم بلزوم سقوط التکلیف علی ما هو علیه فی الواقع، والخروج عن عهدة التکلیف بمقدار ما یتمّ علیه البیان، بمقدار العلم والتنجیز؟

وبعبارةٍ أخری: أنّ التکلیف الذی تشتغل به الذمة یقیناً یجب علی المکلّف أن یُفرغ ذمّته منه یقیناً، وفی محل الکلام ما تشتغل به الذمّة یقیناً هو الأقل، فالأقل قطعاً اشتغلت به الذمّة، سواء کان واجباً وجوباً استقلالیاً، أو واجباً وجوباً ضمنیاً، قطعاً اشتغلت به الذمّة، وإنّما یُشک فی وجوب شیءٍ آخرٍ یزید علیه ویکون الأقل مرتبطاً به، هذا أمر مشکوک، وهذا الشک هو الذی یکون منشئاً فی أنّ المکلّف إذا اقتصر علی الأقل یبقی شاکاً فی سقوط التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع، یبقی شاکاً فی ذلک؛ لأنّه یحتمل وجوب شیءٍ آخر غیر الأقل وجوباً شرعیاً مرتبطاً بالأقل، وهذا احتمال موجود؛ ولذا لا یجزم بسقوط التکلیف علی ما هو علیه فی الواقع، لکنّه بمقدار ما تم علیه العلم هو لیس مکلّفاً بنظر العقل أکثر من إسقاط ما یعلم اشتغال الذمة به، وهو الأقل، ارتباط الأقل بالزائد وإن کان محتملاً، لکنّه لم یتم علیه البیان، هو لا یعلم به ولیس هناک ما یوجب تنجّزه علی المکلف، واشتغال ذمّة المکلّف به حتّی یقال لابدّ من الفراغ الیقینی بلحاظه، وإنّما العقل یحکم بلزوم الفراغ الیقینی بلحاظ ما عُلم اشتغال الذمّة به، وما یعلم المکلّف اشتغال الذمّة به هو الأقل. أمّا ارتباط هذا الأقل بجزءٍ زائد، أو بالجزء العاشر، بحیث لا یسقط هذا التکلیف ولا یمتثل هذا التکلیف إلاّ إذا جاء بذلک الجزء العاشر، هذا أمر مشکوک من قِبل المکلّف تجری فیه البراءة، هذا أمر شرعی یشک فیه المکلّف؛ لأنّه ینشأ من جعل هذا الارتباط، یعنی من جعل جزئیة الجزء العاشر من قِبل لشارع لهذا المرکّب، الشارع إذا جعل جزئیة الجزء العاشر؛ حینئذٍ یحصل هذا الارتباط بین الجزء العاشر وبین الأقل، إذا لم یجعل هذه الجزئیة للجزء العاشر لا یحصل الارتباط. إذن: الشک فی محل الکلام هو شک فی الواقع فی الجعل الشرعی، فی أنّ الشارع جعل العاشر جزءاً من هذا المرکب بحیث یکون الأقل مرتبطاً به، أو لم یجعل ذلک ؟ فهو شک فی الجعل، فتجری فیه البراءة؛ لأنّ المکلّف لیس عالماً به، وهذا معناه فی الحقیقة أنّه لا یصح ما ذُکر من أنّ الاشتغال الیقینی بالأقل بعد فرض العلم التفصیلی بوجوب الأقل فی محل الکلام یستدعی الإتیان بالأکثر؛ لأنّه حینئذٍ یحصل الفراغ الیقینی ممّا اشتغلت به الذمّة یقیناً. کلا هذا لیس صحیحاً بناءً علی هذا الکلام؛ لأنّ العقل لا یحکم بلزوم تفریغ الذمّة بلحاظ التکالیف الواقعیة علی ما هی علیه فی الواقع وإن لم یعلم بها المکلّف. کلا الأمر لیس هکذا، وإنّما العقل یحکم بلزوم تفریغ الذمّة بمقدار ما یعلم المکلّف اشتغال الذمّة به لا أزید من ذلک، وما یعلم المکلّف به هو عبارة عن الأقل، ویشک فی اشتغال الذمّة بما هو أزید من الأقل؛ فحینئذٍ لا یحکم العقل إلاّ بتنجّز الأقل ولزوم الخروج من عهدته، وهذا یتحقق بالإتیان بالأقل. هذا هو الجواب الذی ذکرناه فی الدرس السابق والآن أوضحناه بعبارةٍ أخری.

ص: 563

قد یُجاب عن هذا الوجه: الذی ینتج أنّ المانع الثانی لیس مانعاً من جریان البراءة فی محل الکلام. قد یُجاب عنه کما یُستفاد من بعض کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) وحاصل هذا الجواب هو أن یقال: أنّ البراءة العقلیة التی محل الکلام فعلاً، إنّما تجری فی مقام الشک فی الاشتغال الذی نعبّر عنه بالشک فی التکلیف، عندما یشک المکلّف فی اشتغال الذمّة بالتکلیف تجری البراءة، وهذا هو مورد البراءة العقلیة، باعتبار أنّه لم یتم البیان علی التکلیف وقاعدة قبح العقاب بلا بیان تقول(مع عدم البیان یقبح العقاب) وهو معنی البراءة. فإذن: قاعدة البراءة العقلیة موردها الشک فی التکلیف والشک فی الاشتغال. وأمّا الشک فی الفراغ، فمن الواضح أنّه لیس مورداً لقاعدة ا لقاعدة البراءة العقلیة من دون فرقٍ بین أن یکون هذا الشک فی الفراغ ناشئاً من الشک فی الاشتغال، أو لیس ناشئاً من الشک فی الاشتغال، الشک فی الفراغ حتّی لو کان ناشئاً من الشک فی الاشتغال هذا لیس مورداً لقاعدة البراءة العقلیة، وإنّما هو مورد لقاعدة الاشتغال؛ لأنه شک الفراغ، فأنت تشک فی فراغ ذمّتک عمّا اشتغلت به. صحیح، فی بعض الأحیان قد یکون الشک فی فراغ الذمّة ناشئاً من الشک فی الاشتغال کما فی محل الکلام علی ما أوضحناه سابقاً، فی محل الکلام بعد الإتیان بالأقل، المکلّف یشک فی فراغ ذمّته عمّا اشتغلت به، هذا الشکّ فی الفراغ ینشأ من الشک فی الاشتغال، أنّ الذمّة هل اشتغلت بالجزء العاشر، أو لا ؟ هل جعل الشارع جزئیة الجزء العاشر، أو لا ؟ هذا الشک فی الاشتغال یکون سبباً للشک فی الفراغ. یقول: أنّ الشک فی الفراغ مورد لقاعدة الاشتغال حتی لو کان ناشئاً من الشک فی الاشتغال کما فی محل الکلام، هو یبقی مورداً لقاعدة الاشتغال ومورد قاعدة البراءة العقلیة هو الشک فی الاشتغال من دون افتراض الشک فی الفراغ، هو شک فی الاشتغال، وما دام هناک شک فی الاشتغال تجری فیه قاعدة البراءة، أمّا إذا کان لدینا شک فی الفراغ هذا مورد لقاعدة الاشتغال العقلی حتی لو کان ناشئاً من الشک فی الاشتغال کما فی محل الکلام، فی محل الکلام الشک فی الفراغ بعد الإتیان بالأقل ینشأ من الشک فی جعل الشارع لجزئیة الجزء العاشر، إن جعل الجزء العاشر جزءاً من هذا المرکب، فلا تفرغ الذمّة بما أتی به، وإن لم یجعله جزءاً، فتفرغ الذمّة بما أتی به وهو الأقل ما عدا الجزء العاشر، فهو ینشأ من الشک فی الاشتغال. یقول: هذا مورد لقاعدة الاشتغال؛ لأنّه شک فی الفراغ، وکل شک فی الفراغ هو مورد لقاعدة الاشتغال. فی محل الکلام المفروض أنّ الذمّة قطعاً اشتغلت بالأقل جزماً؛ فحینئذٍ لابدّ من الیقین بفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به، وهذا مورد لقاعدة الاشتغال علی ما ذکر؛ وحینئذٍ یجب تفریغ الذمّة قطعاً، وقیل سابقاً لا یقین بفراغ الذمّة إلاّ بالإتیان بالأکثر.

ص: 564

یقول: نعم، لا مانع من جریان البراءة لنفی اعتبار الجزء الزائد، باعتبار أنّ وجوب الزائد هو وجوب مشکوک لا یعلم به المکلّف، فیکون موضوع البراءة العقلیة متحققاً؛ لأنّه شکٌ فی الاشتغال _____________ الشکّ فی الاشتغال یعنی الشکّ فی التکلیف _______________ وذکر أنّه مورد لقاعدة البراءة العقلیة ___________ وکما ذُکر سابقاً ____________ المکلّف یشک واقعاً فی وجوب الجزء العاشر، هذا الوجوب وجوب شرعی، بمعنی أنّ الشارع هل قیّد الأقل بالجزء العاشر، أو لا ؟ تقیید الأقل بالجزء العاشر أمر شرعی، جزئیة الجزء العاشر من هذا المرکب هو أمر شرعی، وهذا مشکوک یشک فیه المکلّف، فیکون موضوع قاعدة البراءة العقلیة متحققاً، فتجری البراءة لنفی وجوب الجزء العاشر، یقول: لا مشکلة فی جریان البراءة لنفی وجوب الجزء الزائد؛ لأنّ موضوعها متحقق وهو الشک والجهل، لکن هذا لا ینفع فی حصول الفراغ بالإتیان بالأقل، لا ینفعنا فی إثبات أنّ من جاء بالأقل یکون قد أفرغ ذمته من الأقل الذی یعلم باشتغال الذمّة به، لا ینفع فی إثبات الفراغ من جهة الأقل، باعتبار أنّ العقاب الذی یحکم العقل بقبحه إنّما هو علی ترک الجزء الزائد الذی جرت فیه البراءة العقلیة، واعترف بعدم المانع من جریان البراءة العقلیة لنفی الجزء الزائد. یقول: جریان البراءة العقلیة لنفی الجزء الزائد، أو قبح العقاب الذی یحکم به العقل بلحاظ وجوب الجزء الزائد لا ینافی حکم العقل بلزوم تحصیل الیقین بالفراغ عمّا اشتغلت به الذمّة یقیناً وهو الأقل، وقلنا أنّ تفریغ الذمّة یقیناً لا یحصل إلاّ بالإتیان بالأکثر، یقول: هذا لا ینافی أن تجری البراءة لنفی الجزء الزائد، ویقول: یقبح العقاب علی مخالفة وجوب الزائد؛ لأنّ وجوب الزائد أمرٌ محتمل ومشکوک ولم یتم علیه البیان، والعقل یحکم بقبح العقاب من ناحیته، لکن من جهةٍ أخری لا مانع من أن یحکم العقل بالتنجیز وبلزوم تفریغ الذمّة واستحقاق المکلّف العقاب لو لم یفرّغ ذمته عمّا اشتغلت به یقیناً، وهو الأقل؛ لأنّ هذا أمر مسلّم أنّ الأقل ممّا یُعلم اشتغال الذمّة به، هذا هو المفروض فی محل الکلام، العقل یقول: بلحاظ ما اشتغلت به الذمّة یقیناً لابدّ من الإتیان بالأکثر؛ لأنّ الأکثر هو الذی یوجب الیقین بفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به یقیناً، وإن کان من ناحیة الشک فی وجوب الزائد علی الأقل البراءة العقلیة تجری، وتقول: لا تستحق العقاب أیّها المکلّف من ناحیة هذا الوجوب الزائد المحتمل، من ناحیة الأقل الذی تعلم اشتغال الذمّة به، والذی بحسب الفرض أنّ الیقین بفراغ الذمّة منه لا یحصل إلاّ بالإتیان بالأکثر، العقل یحکم بالاشتغال وبلزوم الإتیان بالأقل، یقول: لا توجد منافاة بینهما، وهذا معناه أنّه رجوع إلی أصل المانع والتزام بالمانع فی محل الکلام، وأنّ المقام من موارد قاعدة الاشتغال، أنّ قاعدة الاشتغال فی محل الکلام تجری لإثبات وجوب الإتیان بالأکثر، وبالتالی ننتهی إلی نتیجة وجوب الإتیان بالأکثر، وهذا علی خلاف من یقول أنّ البراءة تجری فی المقام؛ لأنّ غرضه من جریان البراءة فی المقام هو إثبات جواز الاقتصار علی الأقل وعدم لزوم الإتیان بالأکثر. هذا ما یُفهم من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه). لکنّ الکلام فی أنّ العقاب الذی یحکم العقل بقبحه هل هو علی ترک الزائد ؟ یعنی العقل یحکم بقبح العقاب علی ترک الزائد ؟ لأنّه لم یتم البیان علی وجوب الزائد .

ص: 565

وبعبارةٍ أخری: أنّ المکلّف لو جاء بالأقل؛ حینئذٍ یحکم العقل بقبح العقاب؛ لأنّ العقاب علی ترک الزائد قبیح. هل الأمر کذلک، أو لا ؟

قد یقال: أنّ الأمر لیس هکذا؛ لأنّ هذا الکلام معناه خروج عن المفروض فی محل الکلام، نحن نتکلّم بناءً علی الارتباطیة، انّ هناک ارتباطاً بین الأجزاء، محل کلامنا فی الأقل والأکثر الارتباطیین، هذا الکلام الذی یقال کأنّه یفترض الاستقلالیة، بمعنی أنّ المکلّف لو اقتصر علی الأقل وجاء بالأقل، یأتی العقل ویحکم بقبح العقاب علی ترک الزائد علی الأقل، فإذا اقتصر المکلّف علی الأقل یکون ممتثلاً؛ وحینئذٍ لا شیء علیه. کأنّ هذا شکٌ فی باب الأقل والأکثر الاستقلالیین، إذا وفّی الدرهم فی باب الدین الدائر بین الدرهم والدرهمین، إذا دفع الدرهم تجری البراءة لنفی وجوب دفع الدرهم الآخر، هذا خُلف فرض الارتباطیة، هذا معناه فی الحقیقة أن العقاب الذی یحکم العقل بقبحه هو فی الحقیقة لیس علی ترک الزائد، وإنّما هو فی الحقیقة علی ترک الأقل المقیّد بالزائد، عندما یقتصر علی الأقل ویترک الزائد یقبح عقابه علی ترک الأقل المقیّد بالزائد؛ لأنّه إذا اقتصر علی الأقل، معناه أنّه ترک الأقل المقیّد بالزائد، یعنی جاء بالأقل من دون زیادة، البراءة هنا تجری، البراءة تقول: أن المکلّف إذا اقتصر علی الأقل، فهو یقبح عقابه علی ترک الأربعة المقیدة بالجزء الآخر، هذا هو الذی یحکم العقل بقبح العقاب علیه لا أنّ العقل یحکم بقبح العقاب علی ترک الزائد، وإنّما فی الواجبات الارتباطیة العقل یحکم بقبح العقاب علی ترک الأقل المقیّد بالزائد عندما یقتصر المکلّف علی الأقل، فتجری البراءة لنفی ذلک، لإثبات قبح العقاب علی ترک الأربعة المقیّدة بالجزء الزائد، هذا هو الذی یؤمّن العقل من ناحیته، فإذا فرضنا أنّ البراءة تجری بهذا الشکل، یعنی تجری البراءة لإثبات أنّ العقاب علی ترک الأقل المقیّد بالزائد قبیح، فهذا نفعنا فی محل الکلام، یعنی نفعنا فی إثبات جواز الاقتصار علی الأقل وعدم وجوب الإتیان بالأکثر؛ لأننا نرید أن ننتهی إلی هذه النتیجة، المانع الثانی یقول: لابدّ من الإتیان بالأکثر؛ لأنّ قاعدة الاشتغال تجری فی المقام. نقول: أنّ البراءة تجری، المحقق النائینی(قدّس سرّه) اعترف بجریان البراءة فی محل الکلام، لکنّه قال: أنّ البراءة تجری بلحاظ الجزء الزائد، فی الواقع لا تجری لنفی وجوب الجزء الزائد، وإنّما فی محل الکلام، فی الواجبات الارتباطیة تجری البراءة العقلیة، وقبح العقاب بلا بیان یجری باعتبار أنّ المکلّف لم یتم عنده البیان علی وجوب الأقل المقیّد بالزائد، هذا لم یتم علیه؛ لأنّ أمره یدور بین وجوب التسعة المطلقة ووجوب التسعة المقیدة بالعاشر، یدور بین وجوب الأقل وبین وجوب الأقل المقیّد بالجزء الزائد، هذا المقید بالجزء الزائد لم یتم علیه البیان، فیقول العقل یقبح العقاب من جهته، فهو یؤمّن من العقاب من ناحیة وجوب التسعة المقیدة بالجزء الزائد، وهذا معناه أنّ البراءة تجری فی محل الکلام، فیجوز له أن یقتصر علی الأقل ولا ملزم له عقلاً ___________ لأنّ الکلام فی البراءة العقلیة ____________ بالإتیان بالأکثر والإتیان بالأقل المقید بالجزء العاشر، وفی الحقیقة هذا شک فی الاشتغال ولیس شکّاً فی الفراغ، أنّ الذمّة هل اشتغلت بالأقل المقیّد بالزائد، أو لا ؟ هذا شک فی التکلیف وهو مورد للبراءة، ولیس شکّاً فی الفراغ حتّی یکون مورداً لقاعدة الاشتغال. (1) هذا الجواب الأخیر فی روحه یرجع إلی الجواب السابق عن أصل المانع، وهو انّ الأمر فی الواقع والحقیقة هو من موارد قاعدة البراءة العقلیة لا الاشتغال العقلی؛ لما تقدّم سابقاً من أنّ المکلّف وإن کان یشکّ واقعاً فی الخروج عن العهدة بلحاظ التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع، لکن بلحاظ ما یعلم اشتغال الذمّة به هو لیس مطالباً إلاّ بأن یأتی بالأقل ولیس مطالباً من قبل العقل من هذه الناحیة بأن یأتی بالأکثر.

ص: 566


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للمحقق الکاظمی الخراسانی، ج4، ص161.

المانع الثالث: المانع الذی ذکره الشیخ الأعظم(قدّس سرّه)، وإن کان(قدّس سرّه)قد ناقشه، لکن تبنّاه صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بحسب الظاهر؛ ولذا قلنا أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یری التفصیل بین البراءة العقلیة وبین البراءة الشرعیة، یری أنّ البراءة العقلیة فی المقام لا تجری، وإنّما الذی یجری هو البراءة الشرعیة، هو یری أنّ هذا مانعٌ من جریان البراءة فی محل الکلام. والمانع الثالث هو أنّه إذا سلمنا أنّ العلم الإجمالی المدّعی فی المقام بین الأقل والأکثر منحل، لکن هذا نسلمه بلحاظ التکلیف أی بلحاظ الوجوب، نقول التکلیف المردد بین الأقل وبین الأکثر منحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل والشک فی وجوب الزائد، لکن لا نسلّم الانحلال بلحاظ الغرض الذی من أجله جُعل هذا التکلیف، (1) بلحاظ الغرض لا یوجد انحلال. نعم، بلحاظ التکلیف لیکن هذا العلم الإجمالی منحلاً بلحاظه، لکن بلحاظ الغرض لا نسلّم الانحلال بناءً علی ما یذهب إلیه مشهور العدلیة کما یقول الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من أنّ الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد، وأنّ الأوامر والنواهی تابعة للمصالح والمفاسد فی المأمور به والمنهی عنه، ولیس المصالح فی نفس الجعل، جعل الأمر وجعل النهی، کلا، فی المأمور به هناک مصلحة تقتضی وغرض یقتضی جعل الوجوب له وإلزام المکلّف به، کما أنه فی المنهی عنه هناک مفسدة تقتضی إلزام المکلّف بترکه، أی النهی عنه، فبناءً علی ما ذهب إلیه مشهور العدلیة؛ حینئذٍ یکون الداعی لجعل الوجوب لشیءٍ هو وجود مصلحة تقتضی جعل الوجوب له، هذا یُعبّر عنه بالغرض، أنّ الغرض من جعل الوجوب هو وجود هذه المصلحة فی المأمور به، هذه المصلحة التی تترتب علی الإتیان بالمأمور به هی التی تکون غرضاً ومصلحة تدعو المولی لجعل المأمور به....وهکذا النهی، هذا الغرض یقول نحن مسئولون عنه بحکم العقل، یعنی لیس فقط أننا مسئولین عن التکلیف؛ بل عن الغرض الذی من أجله شُرّع التکلیف، نحن عقلاً ملزمین بتحصیله وتحصیل الغرض من الأمر فی محل الکلام لا یتم إلاّ إذا جاء بالأکثر؛ لأنّه یحتمل أنّ الزائد دخیل فی الغرض، وأنّ الغرض لا یتحقق بالاقتصار علی الأقل، لو کان الأکثر هو الواجب، بلحاظ الغرض لابدّ من الإتیان بالأکثر حتی نحرز تحصیل الغرض من الأمر، وإلا بدون الإتیان بالأکثر، أی لو اقتصر علی الأقل هو لا یحرز تحقق هذا الغرض الذی یحکم العقل بلزوم تحصیله.

ص: 567


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص364.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

کان الکلام فی المانع الثانی عن جریان البراءة فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر، وکان هذا المانع یتمثّل فی أننا إذا سلّمنا انحلال العلم الإجمالی ______________ والمراد بالعلم الإجمالی فی محل الکلام هو العلم بوجوب أحد الأمرین، إمّا الأقل، أو الأکثر ______________ بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل، إمّا استقلالاً، أو ضمناً، فهذا یعنی العلم القطعی الیقینی بوجوب الأقل، وهذا یعنی الیقین باشتغال الذمّة بالأقل؛ لأنّه معلوم تفصیلاً، والاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی ولا یقین بفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به یقیناً إلاّ إذا جاء بالأکثر؛ لأنّ أحد محتملات الأقل بحسب الفرض هو أنّ وجوبه وجوب ضمنی، ومن الواضح أن الأقل إذا کان وجوبه وجوباً ضمنیاً، فهو لا یسقط بالإتیان به؛ لأنّ معنی أنّ وجوبه وجوب ضمنی هو أنّه واجب فی ضمن مجموع مرکّب منه ومن غیره، هذه الارتباطیة تمنع من تحقق الامتثال إذا جاء علی تقدیر أن یکون وجوبه وجوباً ضمنیاً؛ بل لا یمتثل الأقل إلاّ بالإتیان بالأکثر کما هو الحال فی کل جزءٍ من أجزاء الفعل المرکب، امتثال الرکوع لا یحصل إلاّ إذا انضم إلیه سائر الأجزاء، وإلاّ لا یکون ممتثلاً للرکوع؛ لأنّ وجوب الرکوع وجوب ضمنی مرتبط بباقی الأجزاء، فالأقل علی تقدیر أن یکون وجوبه وجوباً ضمنیاً، فهو لا یُمتثل إلاّ بالإتیان بالأکثر. إذن: یجب الإتیان بالأکثر لحکم العقل بأنّ الیقین بالاشتغال یستدعی الفراغ الیقینی ولا یقین بالفراغ إلاّ بالإتیان بالأکثر، فوصلنا إلی نفس النتیجة وهی وجوب الإتیان بالأکثر وجریان قاعدة الاشتغال وعدم جریان البراءة فی محل الکلام.

ص: 568

وقد ذکرنا فی الدرس السابق جواباً عن هذا المانع، وهذا الجواب یتلخّص فی أنّ هناک فرقاً بین سقوط التکلیف واقعاً وبین سقوط التکلیف بمقدار ما یتم علیه البیان فی محل الکلام، صحیح أنّ سقوط التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع یتوقّف علی الإتیان بالأکثر؛ لأنّه لا یقین للمکلّف بسقوط التکلیف الواقعی إذا اقتصر علی الأقل وجاء بالأقل مقتصراً علیه، لکنّ الکلام فی أنّ العقل بماذا یحکم ؟ فی قاعدة الاشتغال هل العقل یحکم بلزوم سقوط التکلیف علی ما هو علیه فی الواقع، والخروج عن عهدة التکلیف بمقدار ما یتمّ علیه البیان، بمقدار العلم والتنجیز؟

وبعبارةٍ أخری: أنّ التکلیف الذی تشتغل به الذمة یقیناً یجب علی المکلّف أن یُفرغ ذمّته منه یقیناً، وفی محل الکلام ما تشتغل به الذمّة یقیناً هو الأقل، فالأقل قطعاً اشتغلت به الذمّة، سواء کان واجباً وجوباً استقلالیاً، أو واجباً وجوباً ضمنیاً، قطعاً اشتغلت به الذمّة، وإنّما یُشک فی وجوب شیءٍ آخرٍ یزید علیه ویکون الأقل مرتبطاً به، هذا أمر مشکوک، وهذا الشک هو الذی یکون منشئاً فی أنّ المکلّف إذا اقتصر علی الأقل یبقی شاکاً فی سقوط التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع، یبقی شاکاً فی ذلک؛ لأنّه یحتمل وجوب شیءٍ آخر غیر الأقل وجوباً شرعیاً مرتبطاً بالأقل، وهذا احتمال موجود؛ ولذا لا یجزم بسقوط التکلیف علی ما هو علیه فی الواقع، لکنّه بمقدار ما تم علیه العلم هو لیس مکلّفاً بنظر العقل أکثر من إسقاط ما یعلم اشتغال الذمة به، وهو الأقل، ارتباط الأقل بالزائد وإن کان محتملاً، لکنّه لم یتم علیه البیان، هو لا یعلم به ولیس هناک ما یوجب تنجّزه علی المکلف، واشتغال ذمّة المکلّف به حتّی یقال لابدّ من الفراغ الیقینی بلحاظه، وإنّما العقل یحکم بلزوم الفراغ الیقینی بلحاظ ما عُلم اشتغال الذمّة به، وما یعلم المکلّف اشتغال الذمّة به هو الأقل. أمّا ارتباط هذا الأقل بجزءٍ زائد، أو بالجزء العاشر، بحیث لا یسقط هذا التکلیف ولا یمتثل هذا التکلیف إلاّ إذا جاء بذلک الجزء العاشر، هذا أمر مشکوک من قِبل المکلّف تجری فیه البراءة، هذا أمر شرعی یشک فیه المکلّف؛ لأنّه ینشأ من جعل هذا الارتباط، یعنی من جعل جزئیة الجزء العاشر من قِبل لشارع لهذا المرکّب، الشارع إذا جعل جزئیة الجزء العاشر؛ حینئذٍ یحصل هذا الارتباط بین الجزء العاشر وبین الأقل، إذا لم یجعل هذه الجزئیة للجزء العاشر لا یحصل الارتباط. إذن: الشک فی محل الکلام هو شک فی الواقع فی الجعل الشرعی، فی أنّ الشارع جعل العاشر جزءاً من هذا المرکب بحیث یکون الأقل مرتبطاً به، أو لم یجعل ذلک ؟ فهو شک فی الجعل، فتجری فیه البراءة؛ لأنّ المکلّف لیس عالماً به، وهذا معناه فی الحقیقة أنّه لا یصح ما ذُکر من أنّ الاشتغال الیقینی بالأقل بعد فرض العلم التفصیلی بوجوب الأقل فی محل الکلام یستدعی الإتیان بالأکثر؛ لأنّه حینئذٍ یحصل الفراغ الیقینی ممّا اشتغلت به الذمّة یقیناً. کلا هذا لیس صحیحاً بناءً علی هذا الکلام؛ لأنّ العقل لا یحکم بلزوم تفریغ الذمّة بلحاظ التکالیف الواقعیة علی ما هی علیه فی الواقع وإن لم یعلم بها المکلّف. کلا الأمر لیس هکذا، وإنّما العقل یحکم بلزوم تفریغ الذمّة بمقدار ما یعلم المکلّف اشتغال الذمّة به لا أزید من ذلک، وما یعلم المکلّف به هو عبارة عن الأقل، ویشک فی اشتغال الذمّة بما هو أزید من الأقل؛ فحینئذٍ لا یحکم العقل إلاّ بتنجّز الأقل ولزوم الخروج من عهدته، وهذا یتحقق بالإتیان بالأقل. هذا هو الجواب الذی ذکرناه فی الدرس السابق والآن أوضحناه بعبارةٍ أخری.

ص: 569

قد یُجاب عن هذا الوجه: الذی ینتج أنّ المانع الثانی لیس مانعاً من جریان البراءة فی محل الکلام. قد یُجاب عنه کما یُستفاد من بعض کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) وحاصل هذا الجواب هو أن یقال: أنّ البراءة العقلیة التی محل الکلام فعلاً، إنّما تجری فی مقام الشک فی الاشتغال الذی نعبّر عنه بالشک فی التکلیف، عندما یشک المکلّف فی اشتغال الذمّة بالتکلیف تجری البراءة، وهذا هو مورد البراءة العقلیة، باعتبار أنّه لم یتم البیان علی التکلیف وقاعدة قبح العقاب بلا بیان تقول(مع عدم البیان یقبح العقاب) وهو معنی البراءة. فإذن: قاعدة البراءة العقلیة موردها الشک فی التکلیف والشک فی الاشتغال. وأمّا الشک فی الفراغ، فمن الواضح أنّه لیس مورداً لقاعدة ا لقاعدة البراءة العقلیة من دون فرقٍ بین أن یکون هذا الشک فی الفراغ ناشئاً من الشک فی الاشتغال، أو لیس ناشئاً من الشک فی الاشتغال، الشک فی الفراغ حتّی لو کان ناشئاً من الشک فی الاشتغال هذا لیس مورداً لقاعدة البراءة العقلیة، وإنّما هو مورد لقاعدة الاشتغال؛ لأنه شک الفراغ، فأنت تشک فی فراغ ذمّتک عمّا اشتغلت به. صحیح، فی بعض الأحیان قد یکون الشک فی فراغ الذمّة ناشئاً من الشک فی الاشتغال کما فی محل الکلام علی ما أوضحناه سابقاً، فی محل الکلام الشک فی الاشتغال، أنّ الذمّة هل اشتغلت بالجزء العاشر، أو لا ؟ هل جعل الشارع جزئیة الجزء العاشر، أو لا ؟ هذا الشک فی الاشتغال یکون سبباً للشک فی الفراغ. یقول: أنّ الشک فی الفراغ مورد لقاعدة الاشتغال حتی لو کان ناشئاً من الشک فی الاشتغال کما فی محل الکلام، هو یبقی مورداً لقاعدة الاشتغال ومورد قاعدة البراءة العقلیة هو الشک فی الاشتغال من دون افتراض الشک فی الفراغ، هو شک فی الاشتغال، وما دام هناک شک فی الاشتغال تجری فیه قاعدة البراءة، أمّا إذا کان لدینا شک فی الفراغ هذا مورد لقاعدة الاشتغال العقلی حتی لو کان ناشئاً من الشک فی الاشتغال کما فی محل الکلام، فی محل الکلام الشک فی الفراغ بعد الإتیان بالأقل ینشأ من الشک فی جعل الشارع لجزئیة الجزء العاشر، إن جعل الجزء العاشر جزءاً من هذا المرکب، فلا تفرغ الذمّة بما أتی به، وإن لم یجعله جزءاً، فتفرغ الذمّة بما أتی به وهو الأقل ما عدا الجزء العاشر، فهو ینشأ من الشک فی الاشتغال. یقول: هذا مورد لقاعدة الاشتغال؛ لأنّه شک فی الفراغ، وکل شک فی الفراغ هو مورد لقاعدة الاشتغال. فی محل الکلام المفروض أنّ الذمّة قطعاً اشتغلت بالأقل جزماً؛ فحینئذٍ لابدّ من الیقین بفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به، وهذا مورد لقاعدة الاشتغال علی ما ذکر؛ وحینئذٍ یجب تفریغ الذمّة قطعاً، وقیل سابقاً لا یقین بفراغ الذمّة إلاّ بالإتیان بالأکثر.

ص: 570

یقول: نعم، لا مانع من جریان البراءة لنفی اعتبار الجزء الزائد، باعتبار أنّ وجوب الزائد هو وجوب مشکوک لا یعلم به المکلّف، فیکون موضوع البراءة العقلیة متحققاً؛ لأنّه شکٌ فی الاشتغال _____________ الشکّ فی الاشتغال یعنی الشکّ فی التکلیف _______________ وذکر أنّه مورد لقاعدة البراءة العقلیة ___________ وکما ذُکر سابقاً ____________ المکلّف یشک واقعاً فی وجوب الجزء العاشر، هذا الوجوب وجوب شرعی، بمعنی أنّ الشارع هل قیّد الأقل بالجزء العاشر، أو لا ؟ تقیید الأقل بالجزء العاشر أمر شرعی، جزئیة الجزء العاشر من هذا المرکب هو أمر شرعی، وهذا مشکوک یشک فیه المکلّف، فیکون موضوع قاعدة البراءة العقلیة متحققاً، فتجری البراءة لنفی وجوب الجزء العاشر، یقول: لا مشکلة فی جریان البراءة لنفی وجوب الجزء الزائد؛ لأنّ موضوعها متحقق وهو الشک والجهل، لکن هذا لا ینفع فی حصول الفراغ بالإتیان بالأقل، لا ینفعنا فی إثبات أنّ من جاء بالأقل یکون قد أفرغ ذمته من الأقل الذی یعلم باشتغال الذمّة به، لا ینفع فی إثبات الفراغ من جهة الأقل، باعتبار أنّ العقاب الذی یحکم العقل بقبحه إنّما هو علی ترک الجزء الزائد الذی جرت فیه البراءة العقلیة، واعترف بعدم المانع من جریان البراءة العقلیة لنفی الجزء الزائد. یقول: جریان البراءة العقلیة لنفی الجزء الزائد، أو قبح العقاب الذی یحکم به العقل بلحاظ وجوب الجزء الزائد لا ینافی حکم العقل بلزوم تحصیل الیقین بالفراغ عمّا اشتغلت به الذمّة یقیناً وهو الأقل، وقلنا أنّ تفریغ الذمّة یقیناً لا یحصل إلاّ بالإتیان بالأکثر، یقول: هذا لا ینافی أن تجری البراءة لنفی الجزء الزائد، ویقول: یقبح العقاب علی مخالفة وجوب الزائد؛ لأنّ وجوب الزائد أمرٌ محتمل ومشکوک ولم یتم علیه البیان، والعقل یحکم بقبح العقاب من ناحیته، لکن من جهةٍ أخری لا مانع من أن یحکم العقل بالتنجیز وبلزوم تفریغ الذمّة واستحقاق المکلّف العقاب لو لم یفرّغ ذمته عمّا اشتغلت به یقیناً، وهو الأقل؛ لأنّ هذا أمر مسلّم أنّ الأقل ممّا یُعلم اشتغال الذمّة به، هذا هو المفروض فی محل الکلام، العقل یقول: بلحاظ ما اشتغلت به الذمّة یقیناً لابدّ من الإتیان بالأکثر؛ لأنّ الأکثر هو الذی یوجب الیقین بفراغ الذمّة عمّا اشتغلت به یقیناً، وإن کان من ناحیة الشک فی وجوب الزائد علی الأقل البراءة العقلیة تجری، وتقول: لا تستحق العقاب أیّها المکلّف من ناحیة هذا الوجوب الزائد المحتمل، من ناحیة الأقل الذی تعلم اشتغال الذمّة به، والذی بحسب الفرض أنّ الیقین بفراغ الذمّة منه لا یحصل إلاّ بالإتیان بالأکثر، العقل یحکم بالاشتغال وبلزوم الإتیان بالأقل، یقول: لا توجد منافاة بینهما، وهذا معناه أنّه رجوع إلی أصل المانع والتزام بالمانع فی محل الکلام، وأنّ المقام من موارد قاعدة الاشتغال، أنّ قاعدة الاشتغال فی محل الکلام تجری لإثبات وجوب الإتیان بالأکثر، وبالتالی ننتهی إلی نتیجة وجوب الإتیان بالأکثر، وهذا علی خلاف من یقول أنّ البراءة تجری فی المقام؛ لأنّ غرضه من جریان البراءة فی المقام هو إثبات جواز الاقتصار علی الأقل وعدم لزوم الإتیان بالأکثر. هذا ما یُفهم من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه). لکنّ الکلام فی أنّ العقاب الذی یحکم العقل بقبحه هل هو علی ترک الزائد ؟ یعنی العقل یحکم بقبح العقاب علی ترک الزائد ؟ لأنّه لم یتم البیان علی وجوب الزائد .

ص: 571

وبعبارةٍ أخری: أنّ المکلّف لو جاء بالأقل؛ حینئذٍ یحکم العقل بقبح العقاب؛ لأنّ العقاب علی ترک الزائد قبیح. هل الأمر کذلک، أو لا ؟

قد یقال: أنّ الأمر لیس هکذا؛ لأنّ هذا الکلام معناه خروج عن المفروض فی محل الکلام، نحن نتکلّم بناءً علی الارتباطیة، انّ هناک ارتباطاً بین الأجزاء، محل کلامنا فی الأقل والأکثر الارتباطیین، هذا الکلام الذی یقال کأنّه یفترض الاستقلالیة، بمعنی أنّ المکلّف لو اقتصر علی الأقل وجاء بالأقل، یأتی العقل ویحکم بقبح العقاب علی ترک الزائد علی الأقل، فإذا اقتصر المکلّف علی الأقل یکون ممتثلاً؛ وحینئذٍ لا شیء علیه. کأنّ هذا شکٌ فی باب الأقل والأکثر الاستقلالیین، إذا وفّی الدرهم فی باب الدین الدائر بین الدرهم والدرهمین، إذا دفع الدرهم تجری البراءة لنفی وجوب دفع الدرهم الآخر، هذا خُلف فرض الارتباطیة، هذا معناه فی الحقیقة أن العقاب الذی یحکم العقل بقبحه هو فی الحقیقة لیس علی ترک الزائد، وإنّما هو فی الحقیقة علی ترک الأقل المقیّد بالزائد، عندما یقتصر علی الأقل ویترک الزائد یقبح عقابه علی ترک الأقل المقیّد بالزائد؛ لأنّه إذا اقتصر علی الأقل، معناه أنّه ترک الأقل المقیّد بالزائد، یعنی جاء بالأقل من دون زیادة، البراءة هنا تجری، البراءة تقول: أن المکلّف إذا اقتصر علی الأقل، فهو یقبح عقابه علی ترک الأربعة المقیدة بالجزء الآخر، هذا هو الذی یحکم العقل بقبح العقاب علیه لا أنّ العقل یحکم بقبح العقاب علی ترک الزائد، وإنّما فی الواجبات الارتباطیة العقل یحکم بقبح العقاب علی ترک الأقل المقیّد بالزائد عندما یقتصر المکلّف علی الأقل، فتجری البراءة لنفی ذلک، لإثبات قبح العقاب علی ترک الأربعة المقیّدة بالجزء الزائد، هذا هو الذی یؤمّن العقل من ناحیته، فإذا فرضنا أنّ البراءة تجری بهذا الشکل، یعنی تجری البراءة لإثبات أنّ العقاب علی ترک الأقل المقیّد بالزائد قبیح، فهذا نفعنا فی محل الکلام، یعنی نفعنا فی إثبات جواز الاقتصار علی الأقل وعدم وجوب الإتیان بالأکثر؛ لأننا نرید أن ننتهی إلی هذه النتیجة، المانع الثانی یقول: لابدّ من الإتیان بالأکثر؛ لأنّ قاعدة الاشتغال تجری فی المقام. نقول: أنّ البراءة تجری، المحقق النائینی(قدّس سرّه) اعترف بجریان البراءة فی محل الکلام، لکنّه قال: أنّ البراءة تجری بلحاظ الجزء الزائد، فی الواقع لا تجری لنفی وجوب الجزء الزائد، وإنّما فی محل الکلام، فی الواجبات الارتباطیة تجری البراءة العقلیة، وقبح العقاب بلا بیان یجری باعتبار أنّ المکلّف لم یتم عنده البیان علی وجوب الأقل المقیّد بالزائد، هذا لم یتم علیه؛ لأنّ أمره یدور بین وجوب التسعة المطلقة ووجوب التسعة المقیدة بالعاشر، یدور بین وجوب الأقل وبین وجوب الأقل المقیّد بالجزء الزائد، هذا المقید بالجزء الزائد لم یتم علیه البیان، فیقول العقل یقبح العقاب من جهته، فهو یؤمّن من العقاب من ناحیة وجوب التسعة المقیدة بالجزء الزائد، وهذا معناه أنّ البراءة تجری فی محل الکلام، فیجوز له أن یقتصر علی الأقل ولا ملزم له عقلاً ___________ لأنّ الکلام فی البراءة العقلیة ____________ بالإتیان بالأکثر والإتیان بالأقل المقید بالجزء العاشر، وفی الحقیقة هذا شک فی الاشتغال ولیس شکّاً فی الفراغ، أنّ الذمّة هل اشتغلت بالأقل المقیّد بالزائد، أو لا ؟ هذا شک فی التکلیف وهو مورد للبراءة، ولیس شکّاً فی الفراغ حتّی یکون مورداً لقاعدة الاشتغال. (1) هذا الجواب الأخیر فی روحه یرجع إلی الجواب السابق عن أصل المانع، وهو انّ الأمر فی الواقع والحقیقة هو من موارد قاعدة البراءة العقلیة لا الاشتغال العقلی؛ لما تقدّم سابقاً من أنّ المکلّف وإن کان یشکّ واقعاً فی الخروج عن العهدة بلحاظ التکلیف الواقعی علی ما هو علیه فی الواقع، لکن بلحاظ ما یعلم اشتغال الذمّة به هو لیس مطالباً إلاّ بأن یأتی بالأقل ولیس مطالباً من قبل العقل من هذه الناحیة بأن یأتی بالأکثر.

ص: 572


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للمحقق الکاظمی الخراسانی، ج4، ص161.

المانع الثالث: المانع الذی ذکره الشیخ الأعظم(قدّس سرّه)، وإن کان(قدّس سرّه)قد ناقشه، لکن تبنّاه صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بحسب الظاهر؛ ولذا قلنا أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یری التفصیل بین البراءة العقلیة وبین البراءة الشرعیة، یری أنّ البراءة العقلیة فی المقام لا تجری، وإنّما الذی یجری هو البراءة الشرعیة، هو یری أنّ هذا مانعٌ من جریان البراءة فی محل الکلام. والمانع الثالث هو أنّه إذا سلمنا أنّ العلم الإجمالی المدّعی فی المقام بین الأقل والأکثر منحل، لکن هذا نسلمه بلحاظ التکلیف أی بلحاظ الوجوب، نقول التکلیف المردد بین الأقل وبین الأکثر منحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل والشک فی وجوب الزائد، لکن لا نسلّم الانحلال بلحاظ الغرض الذی من أجله جُعل هذا التکلیف، (1) بلحاظ الغرض لا یوجد انحلال. نعم، بلحاظ التکلیف لیکن هذا العلم الإجمالی منحلاً بلحاظه، لکن بلحاظ الغرض لا نسلّم الانحلال بناءً علی ما یذهب إلیه مشهور العدلیة کما یقول الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من أنّ الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد، وأنّ الأوامر والنواهی تابعة للمصالح والمفاسد فی المأمور به والمنهی عنه، ولیس المصالح فی نفس الجعل، جعل الأمر وجعل النهی، کلا، فی المأمور به هناک مصلحة تقتضی وغرض یقتضی جعل الوجوب له وإلزام المکلّف به، کما أنه فی المنهی عنه هناک مفسدة تقتضی إلزام المکلّف بترکه، أی النهی عنه، فبناءً علی ما ذهب إلیه مشهور العدلیة؛ حینئذٍ یکون الداعی لجعل الوجوب لشیءٍ هو وجود مصلحة تقتضی جعل الوجوب له، هذا یُعبّر عنه بالغرض، أنّ الغرض من جعل الوجوب هو وجود هذه المصلحة فی المأمور به، هذه المصلحة التی تترتب علی الإتیان بالمأمور به هی التی تکون غرضاً ومصلحة تدعو المولی لجعل المأمور به....وهکذا النهی، هذا الغرض یقول نحن مسئولون عنه بحکم العقل، یعنی لیس فقط أننا مسئولین عن التکلیف؛ بل عن الغرض الذی من أجله شُرّع التکلیف، نحن عقلاً ملزمین بتحصیله وتحصیل الغرض من الأمر فی محل الکلام لا یتم إلاّ إذا جاء بالأکثر؛ لأنّه یحتمل أنّ الزائد دخیل فی الغرض، وأنّ الغرض لا یتحقق بالاقتصار علی الأقل، لو کان الأکثر هو الواجب، بلحاظ الغرض لابدّ من الإتیان بالأکثر حتی نحرز تحصیل الغرض من الأمر، وإلا بدون الإتیان بالأکثر، أی لو اقتصر علی الأقل هو لا یحرز تحقق هذا الغرض الذی یحکم العقل بلزوم تحصیله.

ص: 573


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص364.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

کان الکلام فی الجواب الثانی عن المانع الثالث، وهو للمحقق النائینی(قدّس سرّه)، وبیّنا ما هو المراد به، وحاصله هو أنّ المسئولیة تجاه الغرض والمصلحة المترتبة علی الفعل المأمور به، هذه المسئولیة إنّما تکون حینما تکون نسبة الغرض إلی فعل المکلّف نسبة المسبب التولیدی إلی سببه التولیدی؛ عندئذٍ تکون هناک مسئولیة ملقاة علی عاتق المکلّف تجاه هذا الغرض من دون فرقٍ بین أن یؤمر بالفعل، أو یؤمر بنفس الغرض، قد یُفترض بعض الأحیان أن لسان الدلیل یتضمّن الأمر بنفس الغرض، وقد یُفترض أن یتضمن الأمر بالفعل کما هو متعارف، لکن حیث أنّ النسبة بینهما هی نسبة المعلول إلی العلة والمسبب التولیدی إلی سببه التولیدی، یُفهم من الأمر بالفعل أنّ الغرض هو المأمور به، ما یترتب علیه مباشرةً ویکون معلولاً له یکون هو المأمور به فی الواقع والحقیقة؛ ولذا یکون الغرض داخلاً فی عهدة المکلّف حتّی لو تعلّق الأمر بالفعل؛ لأنّ الفعل یعتبر بمثابة العلّة والسبب التولیدی للغرض. هذا هو الذی یکون المکلّف مسئولاً عن إیجابه وتحصیله، فإذا شک فی حصول هذا الغرض؛ حینئذٍ یجب علیه الاحتیاط ویجب علیه أن یحرز الحصول علی ذلک الغرض؛ لأنّ الغرض دخل فی عهدته وأصبح مسئولاً عن تحصیله، فلابدّ من الاحتیاط، فإذا شکّ فی أنّ هذا الغرض الداخل فی عهدته هل یتحقق بالأقل، أو لا یتحقق بالأقل ؟ یجب علیه الاحتیاط، فیجب علیه الإتیان بالأکثر لإحراز تحصیل ذلک الغرض.

ص: 574

وأمّا إذا کان الغرض لیس من هذا القبیل، لیست نسبة الغرض إلی الفعل المأمور به نسبة المعلول إلی العلّة، وإنّما فعل المأمور به یکون من قبیل المقدّمات الإعدادیة التی یتوقف حصول الغرض علی انضمام مقدّمات أخری تکون خارجة عن اختیار المکلّف فی هذه الحالة التکلیف والعهدة والمسئولیة لا تتعلّق إلاّ بفعل المأمور به الذی هو فعل المکلّف، هو لا یتعلّق بالغرض؛ لأنّ الغرض بحسب الفرض یتوقف علی مقدّمات غیر مقدورة للمکلّف، فالمکلّف مسئول عن الفعل المأمور به، وفی هذه الحالة حینئذٍ لا تجری قاعدة الاشتغال لأنّ المفروض فی محل الکلام هو أنّه یشک فی أنّه بماذا أُمر ؟ هل أنّه أُمر بالأقل، أو أمر بالأکثر ؟ وهو یعلم بکونه مأموراً بالأقل ویشک فی کونه مأموراً بما زاد علی الأقل، وبهذا تجری البراءة لنفی وجوب الزائد المشکوک والغیر المعلوم ویجوز له الاقتصار علی الأقل، وذکر قضیة إثباتیة أنّه فی مقام الإثبات یمکن أن یُستکشف کون الغرض من قبیل الأوّل بما إذا تعلّق الأمر فی لسان الدلیل بنفس الغرض، عندما یتعلّق الأمر فی لسان الدلیل بالغرض، أو یتعلّق الأمر فی لسان الدلیل بالفعل مع کون نسبة الفعل إلی الغرض هی نسبة العلّة إلی المعلول؛ حینئذٍ یُستکشف أنّه من قبیل الأوّل، ویکون الغرض داخلاً فی العهدة ویکون المکلّف مسئولاً عن تحصیله، کما أنّ الأمر فی لسان الدلیل لو تعلّق بالفعل، یقول: یمکن أن یُستکشف أنّ الغرض لیس داخلاً فی العهدة، وإنّما الداخل فی العهدة هو خصوص الفعل. هذه قضیة جانبیة لیست مهمّة فی أصل المطلب.

وفی مقام تطبیق هذا الذی قاله علی محل الکلام ذکرنا فی الدرس السابق أنه یقول أنّ المصالح والمفاسد المترتبة علی المأمور به والمنهی عنه هی من قبیل الأغراض من القسم الثانی لا من قبیل الأغراض من القسم الأوّل، بمعنی أنّها لیست مسببات تولیدیة لفعل المکلف، وإنّما هی تتحقق نتیجة فعل المکلّف وانضمام أمور أخری تکون دخیلة فی تحقق تلک المصلحة وذاک الغرض وهی أمور خارجة عن اختیار المکلّف فتکون من قبیل القسم الثانی وعرفت أنّه ما کان من قبیل القسم الثانی، فهو لا یدخل فی العهدة ولا یکون المکلف مسئولاً عن تحصیله وتحقیقه، وما نحن فیه من هذا القبیل؛ ولذا لا معنی لأن یقال أنّ الغرض من الأمر دخل فی العهدة واشتغلت به ذمّة المکلّف، فلابدّ من الاحتیاط لأجل تحصیله، الغرض بمعنی المصلحة المترتبة علی الفعل التی هی ملاک الأمر، هذه من قبیل الأغراض التی لا تکون نسبتها إلی فعل المأمور به نسبة المعلول إلی العلّة، وإنّما فعل المأمور به یکون مقدّمة اعدادیة لحصولها ولا یکون المکلّف مسئولاً عن تحقیق الغرض، وإنّما یکون مسئولاً تجاه ما کُلّف به، وهو لا یعلم بأنّه کُلّف أکثر من الأقل، فیجوز له الاقتصار علی الأقل.

ص: 575

اعترض علی الجواب الثانی علی المانع الثالث، وننقل الاعتراض عن السید الخوئی(قدّس سرّه)، والظاهر أنّه موجود قبله، یقول(قدّس سرّه) (1) فی الاعتراض أنّ هذا الجواب عن المانع الثالث غیر صحیح، وذلک لأنّه فی الحقیقة لا یوجد عندنا غرض واحد، یعنی نتعامل معه علی أساس أنّه غرض واحد، وهذا الغرض الواحد یقال أنّه فی محل الکلام نسبته إلی فعل المأمور به کنسبة الفعل إلی مقدّماته الاعدادیة، کلا لیس هکذا، وإنّما یوجد عندنا فی الواقع غرضان، غرض أقصی وغرض أدنی، الغرض الأقصی یصح فیه ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، هذا الغرض الأقصی تکون نسبته إلی فعل المأمور به نسبة المُعدّ، فینطبق علیه ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من أنّ هذا لا یدخل فی العهدة؛ لأنّ هذا الغرض الأقصی یتوقف علی مقدمات أخری غیر فعل المکلّف وهی خارجة عن قدرة المکلّف، فلا معنی لإدخاله فی العهدة مع توقفه علی مقدمات غیر مقدورة. هذا صحیح، لکن هناک غرض أدنی نسبته إلی فعل المکلّف نسبة المعلول إلی علّته، نسبة المسبب التولیدی إلی سببه التولیدی، وهذا الغرض الأدنی هو عبارة عن إعداد المکلّف نفسه لتحصیل الغرض الأقصی، فهی مقدّمة إعدادیة لحصول الغرض الأقصی، لکنّها تترتب علی الفعل ترتّب المعلول علی العلّة، وترتّب المسبب التولیدی علی سببه، هذا الغرض الأدنی نستطیع أن نعبّر عنه بتهیئة المکلّف وإعداده لتحصیل الغرض الأقصی، بمعنی أنّ المکلّف عندما یأتی بالواجب الذی أُمر به، هذا الإتیان بما أُمر به یخلق فی المکلّف حال تهیؤ واستعداد لتحصیل الغرض الأقصی، بحیث لو أنّ المکلف ترک فعل المأمور به لما حصل علی الغرض الأقصی، صحیح الغرض الأقصی یتوقف علی مقدّمات غیر اختیاریة وخارجة عن القدرة، لکن لا مانع من أن نقول أنّ الإتیان بالمأمور به یهیئ المکلّف ویعدّه لتحصیل الغرض الأقصی فیما لو انضمت إلی ذلک سائر المقدمات الغیر الأختیاریة بحسب الفرض ولنقل بعبارةٍ أخری: أنّ فعل المأمور یسد باب عدم الغرض الأقصی من ناحیته، عدم الغرض الأقصی تارة ینشأ من ناحیة فعل المکلف إذا ترک الإتیان بالمأمور به، وتارة أخری المکلّف یأتی بالمأمور به، فمن ناحیة المأمور به هو سدّ باب عدم الغرض الأقصی، لکن قد لا یحصل الغرض الأقصی نتیجة عدم حصول المقدّمات الأخری الخارجة عن اختیاره، المکلّف لا مانع من أن یُکلّف بسدّ باب العدم الأقصی من ناحیة فعل المأمور به، بأن یُطلب منّه فعل المأمور به ویترتب علی هذا الفعل غرض، ونسبة هذا الغرض إلی الفعل المأمور به نسبة المعلول إلی العلّة، والغرض الذی یترتب علی فعل المأمور به هو الاستعداد والتهیؤ لتحصیل الغرض الأقصی فی ما لو تمّت سائر المقدّمات الأخری؛ لأنّه لولا ذلک، ای لو لم یأتِ بالمأمور به لما کان مهیئاً ومستعداً لتحصیل الغرض الأقصی، وهذا غرض قد یکون ملحوظاً وهو غرض یترتب علی فعل المأمور به ترتب المعلول علی العلّة، لیس فعل المکلّف بمثابة المقدمة الإعدادیة لهذا الغرض الأدنی، نعم، هو بمثابة المقدمة الإعدادیة، لکن بالنسبة إلی هذا الغرض الأدنی هو لیس مقدمة إعدادیة، وإنّما هو علّة ومعلول، الإتیان بالواجب وبالمأمور به یسد باب عدم الغرض الأقصی من ناحیته، قهراً یسده، ترتب معلول علی العلّة، لا یمکن أن یتخلّف، هو یسد باب عدم الغرض الأقصی من ناحیة هذه المقدمة، الغرض الأقصی یتوقف علی مقدّمات، منها فعل المکلّف ومنها مقدمات أخری غیر اختیاریة، المکلّف بإتیانه بالمأمور به یسد باب عدم الغرض الأقصی من ناحیة هذه المقدمة، هذا غرض أدنی یترتب علی فعل المأمور به ترتب المعلول علی العلّة، وهذا غرض ملحوظ، وقد اعترف المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّ الغرض إذا کان من قبیل الأوّل یکون المکلّف مسئولاً عن تحصیله وتحقیقه، کل غرضٍ تکون نسبته إلی فعل المأمور به نسبة المعلول إلی العلّة یقول أنّ المکلّف مسئول عن تحصیله وتحقیقه، هذا الغرض الأدنی المکلّف مسئول عن تحقیقه، یعنی یجب علیه أن یسدّ باب عدم الغرض الأقصی من ناحیة هذه المقدّمة الأختیاریة الداخلة تحت قدرة المکلّف، فإذا شک المکلّف بین الأقل والأکثر، مرجع هذا الشک فی الحقیقة إلی أنّ هذا الغرض الأدنی هل یحصل بالإتیان بالأقل، أو لا یحصل ؟ لأنّه علی تقدیر أن یکون ما کُلف به هو الأکثر الغرض الأدنی لا یتحقق إذا اقتصر علی الأقل؛ لأنّ الجزء الزائد بناءً علی وجوب الأکثر یکون دخیلاً فی الواجب وبالتالی یکون دخیلاً فی تحقق الغرض الأدنی، ویکون دخیلاً فی سد باب عدم الغرض الأقصی من ناحیته، فإذا شک فی وجوب الجزء الزائد لا یجوز له الاقتصار علی الأقل؛ بل یجب علیه الاحتیاط لکی یضمن حصول الغرض الأدنی بأن یسد باب عدم الغرض الأقصی من ناحیة ما هو داخل تحت اختیاره، وهذا مردد بین الأقل والأکثر، فإن جاء بالأکثر فأنّه یحرز تحقق الغرض الأدنی، بینما إذا اقتصر علی الأقل لا یحرز الغرض الأدنی، هو مسئول عن هذا الغرض وداخل فی عهدته بحسب ما قال المحقق النائینی(قدّس سرّه)، فیجب علیه الاحتیاط. المحقق النائینی(قدّس سرّه)نظره إلی الغرض الأقصی، صحیح أنّ الغرض الأقصی لا یدخل فی العهدة؛ لأنّه یتوقف علی مقدمات غیر اختیاریة، لکن هناک غرض قبل ذلک وهو الغرض الأدنی کما سمّاه، وهذا نسبته إلی الفعل نسبة المعلول إلی العلّة ویکون داخلاً فی العهدة والمکلّف مسئول عن تحصیله فإذا شکّ فی حصوله بالأقل کان شکّاً فی المحصّل، الغرض دخل فی العهدة، وأصبح المکلّف مسئولاً عن تحقیقه بحسب اعتراف المحقق النائینی(قدّس سرّه)، (2) فإذا شک فی تحققه بالأقل کان من قبیل الشک فی المحصّل، ولا إشکال فی جریان قاعدة الاشتغال فیه، فلا یتم جواب المحقق النائینی(قدّس سرّه). وبناءً علی هذا یظهر أنّ المانع الثالث وهو مسألة مراعات الغرض لم یتم الجواب عنه، لا بما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، ولا بما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 576


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص429.
2- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج2، ص293 __ 294.

الجواب الثالث عن المانع الثالث: یتلخص هذا الجواب فی انّه لابدّ أن نراجع دعوی أنّ العقل یحکم بلزوم تحصیل غرض المولی من الأمر، هذه القضیة لابدّ من مراجعتها، هل یحکم العقل بلزوم تحصیل غرض المولی من الأمر مطلقاً وفی جمیع الموارد، أو أنّ هناک حدوداً لهذه القضیة التی یحکم بها العقل ؟ إن قلنا أنّ العقل یحکم بلزوم تحصیل غرض المولی مطلقاً وبلا حدود فقد یصح ما ذُکر فی المانع الثالث؛ لأنّ القضیة مرتبة کما ذکرنا، نحن نؤمن بأنّ الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد فی المتعلّقات، وأنّ المصالح والمفاسد فی المتعلّقات هی العلّة فی الحقیقة للأحکام الشرعیة، ثبوتاً الأحکام الشرعیة معلولة للملاکات والمصالح الموجودة فی متعلّقاتها، فإذا حکم العقل بلزوم تحصیل غرض المولی، والشیء الذی أمر بالفعل لأجله، یجب تحصیله بحکم العقل؛ حینئذٍ ترد قضیة المانع الثالث ویقول بأنّه لابدّ من الاحتیاط؛ لأنّ هذا یکون من موارد قاعدة الاشتغال، لکن الظاهر أنّ العقل لا یحکم بلزوم تحصیل غرض المولی مطلقاً، وإنّما یحکم بلزوم تحصیل غرض المولی ____________ وکلامنا عن الغرض الملزم ولیس عن الغرض الغیر ملزم __________ فی حالة ما إذا تصدّی نفس المولی لتحصیل ذلک الغرض بأن یجعل حکماً علی طبق ذلک الغرض أو حتّی یأمر بنفس ذلک الغرض، عندما یتصدی المولی لتحصیل الغرض، العقل یحکم بلزوم تحصیله، بأیّ لسانٍ کان تصدّی المولی لتحصیل ذلک الغرض مع فرض تمکن المولی من التصدّی لتحصیله، هذا مولی یتمکن من أن یتصدّی لتحصیل الغرض؛ حینئذٍ نقول هذا المولی فی هذه الحالة إذا لم یتصدَ لتحصیل الغرض کما إذا فرضنا کما هو فی کثیر من الموارد أمر بالفعل فقط، أمر بالصلاة، أمر بأجزاء معینة مجموعها یُسمّی صلاة، لم یتصدَ لتحصیل الغرض، لم یأمر بالغرض، ولم یجعل حکماً علی وفق الغرض إطلاقاً مع تمکنه من ذلک، هل یحکم العقل فی هذه الحالة بلزوم تحصیل الغرض لمجّرد أننا نؤمن بأنّ الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح والمفاسد فی المتعلّقات، أو لا ؟

ص: 577

الجواب الثالث یعتمد علی إنکار حکم العقل بلزوم تحصیل الغرض الملزم للمولی إذا لم یتصدَ المولی لتحصیله والأمر به مع تمکنه من ذلک، لا یحکم العقل بلزوم تحصیل ذلک الغرض، ومن ألسنة تصدی المولی لتحصیل الغرض هو أنّ یأمر بالاحتیاط مثلاً، فالشارع یمکنه أن یأمر بالغرض، یمکنه أن یخبر عن اهتمامه بالغرض، بإمکانه أن یأمر بالاحتیاط حتی یضمن الوصول إلی الغرض، مع کل ذلک هو ترک التصدّی لذلک، لم یأمر بالغرض، ولم یأمر بالاحتیاط، ولم یجعل حکماً علی طبق الغرض، وإنّما فقط أمر بالفعل، فی هذه الحالة المُدّعی أنّ العقل لا یحکم بلزوم تحصیل الغرض الملزم، لیس هناک دلیل علی لزوم تحصیل الغرض الملزم، العقل فی هذه الحالة لا یحکم بذلک، ولا تشتغل الذمّة بذلک الغرض، وإنّما ما تشتغل به الذمّة هو عبارة عن ما تصدّی المولی للأمر به، وما تصدّی المولی للأمر به هو عبارة عن الفعل بأجزائه، الشیء الذی لم یتصدَ له لا یحکم العقل بلزوم تحصیله ولا تشتغل به الذمّة، وإنّما الذمّة تشتغل بالمقدار الذی تصدّی المولی للأمر به ولتحصیله، إذا تصدّی لتحصیل الغرض تشتغل به الذمّة بلا إشکال، لکن إذا لم یتصدّ لذلک مع تمکنه من التصدّی العقل لا یحکم حینئذٍ بلزوم تحصیل ذلک الغرض الملزم للشارع وبالتالی لا تجری فیه قاعدة الاشتغال؛ لأنّ ما تشتغل به الذمّة هو ما تصدّی المولی للأمر به وما تصدّی المولی للأمر به بحسب الفرض هو عبارة عن الفعل، عبارة عن الصلاة، هذا هو الذی تصدّی المولی للأمر به، هذا تشتغل به الذمّة، فإذا دار ما تشتغل به الذمّة وما أمر به الشارع بین الأقل والأکثر؛ حینئذٍ یأتی الکلام السابق، وهو أننا نعلم بأنّ المولی أمر بالأقل وتصدّی للأمر به، فیدخل فی العهدة جزماً، وأمّا ما زاد علی ذلک، فلا علم لنا بتصدّی المولی له وبالأمر به وبکونه واجباً، فیمکن إجراء البراءة لنفیه. الجواب الثالث یعتمد علی أنّه لا وضوح فی حکم العقل بلزوم تحصیل غرض المولی الملزم بحیث یدخل هذا الغرض فی العهدة ویکون الشک بین الأقل والأکثر من قبیل الشک فی المحصّل، فتجری قاعدة الاشتغال، لا وضوح فی هذا الجانب، وإنّما العقل یقول ما یتصدّی المولی للأمر به یدخل فی العهدة، وأنا غیر مسئول عن أشیاء لا یتصدَی المولی لبیانها ولا للزوم تحصیلها مع تمکنه من ذلک، فلا وضوح فی وجود حکمٍ عقلی من هذا القبیل حتّی یتفرّع علیه ما ذکروه فی محل الکلام.

ص: 578

بعبارةٍ أخری: أنّ المولی إذا أمر بالغرض أو أمر بشیءٍ علی وفق الغرض کالاحتیاط وأمثاله، وترک کیفیة تحصیل هذا الغرض بعهدة المکلّف، ولم یتصدَ لبیان کیفیة الوصول للغرض، وإنّما ترکها للمکلّف، فی هذه الحالة العقل یحکم بلزوم تحصیل الغرض ولزوم الاحتیاط وجریان الاشتغال؛ لأنّ الشارع أمر بالغرض ودخل فی العهدة، وکیفیة تحصیله متروکة للمکلّف، فإذا شک المکلّف بین الأقل والأکثر، أنّ الأقل یوصل إلی الغرض، أو لا یوصل إلی الغرض یجب علیه الاحتیاط بحکم العقل بلا إشکال، وأمّا إذا فرضنا أنّ القضیة معکوسة وأنّ الشارع لم یأمر إلاّ بالفعل ونحن نعلم بأنّ هناک غرضاً ملزماً یترتب علی الفعل وأنّ الشارع إنّما أمر بهذا الفعل لأجل حصول ذلک الغرض، لکن ما تصدّی الشارع لبیانه لیس هو الغرض وإنما هو الفعل، فی هذه الحالة لیس من الواضح کما قلنا حکم العقل بلزوم تحصیل ذلک الغرض الملزم ولا مجال للالتزام بجریان قاعدة الاشتغال، وإنّما المکلّف یکون مسئولاً عن الفعل فقط، والفعل دائر بین الأقل والأکثر، إذن: لا مسئولیة إلاّ بالأقل وأمّا الزائد فیُنفی بأصالة البراءة العقلیة.

تطبیق هذا الجواب علی محل الکلام واضح؛ لأنّه فی محل الکلام نحن نفترض أنّ الأمر توجّه إلی الفعل ولا نفترض أنّه توجّه إلی الغرض، أنّ الأمر وقع بالصلاة، یعنی تعلّق الصلاة وتعلّق بالوضوء، تعلّق بهذه الأفعال، فهذه هی التی یکون المکلّف مسئولاً عنها وهی دائرة بین الأقل والأکثر ویمکن إجراء البراءة، ولا تجری فیها قاعدة الاشتغال. هذا هو الجواب الثالث عن المانع الثالث. وهناک أجوبة أخری لا ندخل فیها ونکتفی بهذا المقدار من الأجوبة عن المانع الثالث. إلی هنا یتم الکلام عن البراءة العقلیة، وتبیّن ممّا ذکرناه أنّ الظاهر أنّ المقتضی لجریان البراءة العقلیة فی محل الکلام موجود، کما بیّنا فی بدایة البحث، المقتضی هو تحقق موضوع البراءة العقلیة فی موارد دوران الأمر بین الأقل والأکثر؛ لأنّ احتمال العقاب موجود والشک موجود، وهذا هو موضوع البراءة العقلیة، فتجری البراءة العقلیة لنفی احتمال العقاب باعتبار الشک فی وجوب الأکثر، فالمقتضی لجریان البراءة العقلیة موجود، والمانع مفقود؛ لأنّ المانع من جریان البراءة العقلیة هو أحد أمور ثلاثة تقدّم ذکرها، أمّا أن یکون المانع هو العلم الإجمالی بین الأقل والأکثر، وتبیّن أنّه لیس مانعاً؛ لأنّه منحل؛ بل فی الحقیقة کما تقدّم لا علم إجمالی بهذا الشکل فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر من البدایة، لا أنّه هناک علم إجمالی ولکنّه ینحل بالعلم التفصیلی والشک البدوی؛ بل من البدایة أساساً لیس هناک علم إجمالی، وإنّما هناک علم بوجوب الأقل تفصیلاً وشک فی وجوب ما زاد علیه، ولا المانع الثانی الذی طرحه صاحب الفصول(قدّس سرّه) مانعاً من جریان البراءة، وهو أنّ العلم التفصیلی بوجوب الأقل یعتبر یقیناً باشتغال الذمّة، والذمّة إذا اشتغلت یقیناً، فلابد من تفریغها یقیناً ولا تفرغ الذمّة یقیناً ممّا اشتغلت به یقیناً، یعنی من الأقل إلاّ بالإتیان بالأکثر؛ لأنّ الأقل الذی نعلم باشتغال الذمّة به مردد بین أن یکون استقلالیاً أو ضمنیاً، وعلی تقدیر کونه ضمنیاً لا تفرغ الذمّة منه إلاّ بالإتیان بالأکثر، ولا المانع الثالث الذی أشار إلیه الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) وهو مسألة الغرض. کلّ هذه لا تمنع من جریان البراءة العقلیة، بعد ذلک ننتقل إلی البراءة الشرعیة.

ص: 579

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

الکلام فی البراءة الشرعیة: هل تجری البراءة الشرعیة فی موارد دوران الأمر بین الأقل والأکثر، أو لا ؟ وذکرنا بأنّ ما عدا أصحاب القول الذی ینکر جریان البراءة مطلقاً الباقون متفقون علی جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، سواء من التزم بجریان البراءة مطلقاً، أو من التزم بالتفصیل؛ لأنّ من التزم بالتفصیل یقول بجریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام وإن أنکر جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام. ومن هنا یقع الکلام فی أنّه إذا أنکرنا جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، هل هناک مجال لجریان البراءة الشرعیة، أو لا ؟ الذی یبدو من القائلین بالتفصیل هو أنّ هناک مجالاً لجریان البراءة الشرعیة؛ لأنّهم بالرغم من أنّهم ینکرون جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام یقولون بجریان البراءة الشرعیة فی المقام. إذن: هناک مجال لجریان البراءة الشرعیة بالرغم من إنکار جریان البراءة العقلیة.

صاحب الکفایة (قدّس سرّه) الذی اختار القول بالتفصیل بعد أن منع من جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، باعتبار العلم الإجمالی، وهو یری أنّ العلم الإجمالی لیس منحلاً، وباعتبار الغرض، وأنّ الغرض لابدّ من تحصیله عقلاً، وهذا یستلزم الإتیان بالأکثر ویکون مورداً لقاعدة الاشتغال لا البراءة العقلیة، بعد أن ذکر هذا ذکر بأنّه لا محذور فی التمسّک بالبراءة الشرعیة مثل حدیث الرفع فی محل الکلام لنفی جزئیة ما یُشکّ فی جزئیته، نحن کلامنا فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر، یعنی نشک فی جزئیة السورة بالنسبة للصلاة، فلا مانع من التمسّک بحدیث الرفع لنفی جزئیة السورة فی محل الکلام، یقول یرتفع الإجمال والتردد ویتعیّن أن یکون الواجب هو الأقل، إذا جرت البراءة لنفی جزئیة السورة المشکوک جزئیتها؛ حینئذٍ الإجمال الذی کان موجوداً قبل إجراء البراءة وهو مسألة أنّ الواجب هو الأقل أو الأکثر، أنّ السورة جزء أو لیست جزءاً، حدیث الرفع یرفع هذا الإجمال ویعیّن أنّ الأقل هو الواجب وأنّ السورة لیست جزءاً من هذا المرکب، ثمّ بعد ذلک تعرّض إلی إشکالات أوردها علی نفسه وأجاب عنها لا نذکرها الآن، ربما نذکرها فی بعض الأبحاث الآتیة. المهم هو أنه یری جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، لکن لنفی جزئیة ما یُشک فی جزئیته.

ص: 580

المحقق النائینی(قدّس سرّه) أیضاً ممّن یری التفصیل، هو یری أنّ البراءة العقلیة لا تجری فی محل الکلام باعتبار العلم الإجمالی الذی هو یری أنّه غیر منحل وصالح لتنجیز معلومه علی کل تقدیر، قال لا محذور فی جریان البراءة الشرعیة مثل حدیث الرفع فی محل الکلام وذکر أنّه إذا جرت البراءة الشرعیة فی محل الکلام لنفی وجوب الأکثر؛ حینئذٍ ینحل العلم الإجمالی حکماً، فیثبت هناک انحلال حکمی لهذا العلم الإجمالی الذی فرغ عن عدم انحلاله حقیقة بالعلم التفصیلی الذی ذُکر هناک باعتباره موجباً لانحلال العلم الإجمالی، هو لا یری أنّ العلم الإجمالی ینحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل؛ لأنّه یری أنّ العلم التفصیلی بوجوب الأقل المردد بین الاستقلالیة والضمنیة هو نفس العلم الإجمالی ولیس شیئاً آخر غیره، فلا یعقل أن ینحل به؛ إذ لا یُعقل أن ینحل العلم الإجمالی بنفسه. یقول: العلم التفصیلی بوجوب الأقل المردد بین الاستقلالیة والضمنیة هو نفس العلم الإجمالی؛ ولذا هو لا یری انحلال العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، لکنّه یقول لا مانع من افتراض انحلال العلم الإجمالی حکماً بإجراء البراءة الشرعیة وحدیث الرفع فی محل الکلام. وذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) توجیه جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام بمسألة أنّ العلم الإجمالی بشکل عام ینحل بجریان الأصل الشرعی کحدیث الرفع فی أحد أطرافه، ینحل العلم الإجمالی حکماً لا حقیقة إذا جری الأصل فی أحد أطرافه وفی محل الکلام یجری الأصل الشرعی فی الأکثر؛ لأنّ موضوع الأصل الشرعی متحقق فی الأکثر؛ لأنّه یُشک فی وجوبه، وموضوع الأصل الشرعی هو الجهل والشک فی الحکم الواقعی، فیجری الأصل الشرعی فی الأکثر، وهذا الأصل الشرعی الجاری فی الأکثر کما ذکر یوجب رفع الإجمال ویثبت إطلاق الأمر بالأقل، بمعنی أنّ وجوب الأقل لم یتقید متعلّقه بالجزء الزائد المشکوک، یعنی لیس مقیداً بانضمام الجزء الزائد، فتجری البراءة الشرعیة فی الأکثر ویتعیّن حینئذٍ وجوب الأقل. وبعبارة أخری یتعیّن أن یکون وجوب الأقل وجوباً مطلقاً من ناحیة انضمام الجزء العاشر، فیثبت الإطلاق، فیثبت أنّ الأقل مطلوب من دون تقییده بالجزء المشکوک، وهذا هو معنی وجوب الأقل، بمعنی أنّ الأقل واجب لا بشرط ولیس بشرط لا، فالبراءة النافیة للأکثر هی بنفسها تثبت الإطلاق فی الأقل، بمعنی عدم تقید متعلّق وجوب الأقل بالجزء المشکوک، هو مطلق من ناحیته، یعنی لا بشرط تجاه الجزء العاشر فیثبت الإطلاق بالنسبة إلی الأقل. هو یرید أن یثبت أنّ الأصل الشرعی الذی هو حدیث الرفع ____________ مثلاً _____________ کما ننفی به وجوب الأکثر نثبت به أیضاً وجوب الأقل.

ص: 581

حینئذٍ: أورد علی نفسه إشکالاً هو، کیف تثبت الأقل بالأصل الجاری لنفی وجوب الأکثر ؟ لأنّ هذا معناه فی الحقیقة أنّنا نرید أن نثبت الإطلاق بالأصل الجاری لنفی التقیید، الأصل الجاری لنفی الأکثر هو عبارة عن الأقل المقید بالجزء المشکوک، فالأصل الذی ینفی وجوب الأکثر، یعنی ینفی کون الأقل مقیّداً بانضمام الجزء المشکوک، بالأصل الذی یجری لنفی التقیید کیف یمکن إثبات أنّ الأقل مطلق من ناحیة الجزء المشکوک ؟! هذا یتوقف علی القول بالأصل المثبت، نفی التقیید یلازم ثبوت الإطلاق، فالأصل الشرعی ____________ أصالة البراءة، حدیث الرفع ____________ الذی ننفی به التقیید یعنی ننفی به وجوب الأکثر لا یمکنه أن یثبت الإطلاق فی الأقل إلاّ بناءً علی القول بالأصل المثبت، یوجه علی نفسه هذا الإشکال ویجیب عنه بأنّ هذا الإشکال مبنی علی افتراض أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید هو تقابل الضدین، فیکون الإطلاق والتقیید کالضدّین الذین لا ثالث لهما، فالأصل الذی یجری لنفی أحد الضدّین لا یمکنه إثبات الضدّ الآخر إلاّ بناءً علی القول بالأصل المثبت، بینما الصحیح هو یری أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید هو تقابل الملکة والعدم ولیس تقابل الضدّین؛ لأنّه یقول أنّ الإطلاق عبارة عن عدم لحاظ القید ولیس الإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القید فی مقابل لحاظ القید حتّی یکون هما عبارة عن لحاظین أحدهما یتعلّق بالقید والذی نسمیه التقیید والآخر یتعلّق بعدم القید والذی نسمیه الإطلاق، الإطلاق لیس عبارة عن لحاظ عدم القید، وإنما هو عبارة عن عدم لحاظ القید، فالأصل الذی ینفی التقیید هو یثبت الإطلاق، الإطلاق هو عبارة عن عدم التقیید ولیس شیئاً آخر لازم عدم التقیید، الإطلاق هو عبارة عن عدم التقیید، فلا مشکلة فی إثبات الإطلاق بالأصل الشرعی الجاری لنفی التقیید؛ لأنّ الإطلاق هو عبارة عدم التقیید، فیثبت بهذا الأصل من دون أن یتوقف ذلک علی القول بالأصل المثبت. هذا ملخّص کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 582

فإذن: کل من صاحب الکفایة والمحقق النائینی(قدّس سرّهما) یؤمّن بأنّه بالرغم من عدم جریان البراءة العقلیة لا مانع من جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام. (1)

السید الخوئی(قدّس سرّه) اختلف معهما فی ذلک، (2) حیث ذکر بأنّه مرّة نبنی علی ما هو الصحیح من جریان البراءة العقلیة؛ حینئذٍ لا ینبغی التشکیک فی جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، وهذه قضیة مفروغ منها وحیث أنّ الصحیح عنده هو جریان البراءة العقلیة، إذن لا إشکال فی جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، وإنّما یقول أنّ البحث والکلام یقع إذا لم نقل بجریان البراءة العقلیة فی محل الکلام کما ذهب إلیه هذان العلمان، إذا لم نقل بجریان البراءة العقلیة هل هناک مجال لجریان البراءة الشرعیة، أو لا ؟ یقول: هذا هو محل الکلام. یظهر من صاحب الکفایة والمحقق النائینی(قدّس سرّهما) أنّ هناک مجالاً لجریان البراءة الشرعیة، بینما هو یقول أنّ الصحیح هو أنّه لا مجال لجریان البراءة الشرعیة إذا قلنا بعدم جریان البراءة العقلیة؛ وذلک لأنّه یدّعی أنّ هناک ملازمة بین جریان البراءة العقلیة وجریان البراءة الشرعیة وجوداً وعدماً، بمعنی أنّه إذا قلنا بجریان البراءة العقلیة، فلابدّ أن نقول بجریان البراءة الشرعیة، وإذا قلنا بعدم جریان البراءة العقلیة لابدّ أن نقول بعدم جریان البراءة الشرعیة، فمن یقول بجریان البراءة العقلیة لابدّ أن یقول بجریان البراءة الشرعیة کما هو رأیه، ومن یقول بعدم جریان البراءة العقلیة لابدّ أن یقول بعدم جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، وذکر لتوضیح هذه الملازمة ما حاصله: أنّ الموانع التی ذکرت فی کلمات من لا یری جریان البراءة العقلیة فی موارد دوران الأمر بین الأقل والأکثر، عمدة هذه الموانع أثنان: المانع الأوّل هو مسألة الغرض، والمانع الثانی هو مسألة العلم الإجمالی بدعوی أنّ هذا العلم الإجمالی الموجود فی المقام دائر بین الأقل والأکثر، وهذا العلم الإجمالی یمنع من إجراء البراءة العقلیة فی أحد الطرفین کما هو الحال فی أی علم إجمالی آخر منجّز، المانع الأوّل هو لزوم رعایة الغرض وتحصیله علی کل تقدیر، وهذا لا یحصل إلاّ بالأکثر؛ لأنّ المقام یدخل فی باب الشک فی المحصّل، وموارد الشک فی المحصّل حتّی بلحاظ الغرض، فضلاً عن التکلیف هی فی الحقیقة مجری لقاعدة الاشتغال ولیست مجری لقاعدة البراءة، فالمانع من جریان البراءة فی محل الکلام هو أحد هذین الأمرین: غرض لابدّ من تحصیله، وإجراء البراءة ونفی أحد الطرفین ینافی لزوم تحصیل غرض المولی الملزم، وإمّا مسألة العلم الإجمالی، هذا علم إجمالی موجود دائر بین الإطلاق والتقیید، دائر بین أن یکون الأقل طبیعة مطلقة الذی نعبّر عنه بالأقل، أو یکون الأقل طبیعة مقیّدة بالجزء الآخر والذی نعبّر عنه بالأکثر، هذا علم إجمالی ینجّز طرفیه ویمنع من إجراء البراءة فی أحد طرفیه.

ص: 583


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج4، ص162.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص430.

یقول السید الخوئی(قدّس سرّه): إذا کان هذا مانعاً حقیقیاً یمنع من إجراء البراءة العقلیة، فهو أیضاً لابدّ أن یکون مانعاً من جریان البراءة الشرعیة، أمّا أن نفصّل ونقول أنّ هذا المانع یمنع من جریان البراءة العقلیة ولا یمنع من جریان البراءة الشرعیة، فهذا غیر صحیح، إذا منع فهو یمنع منهما معاً، وإذا لا یمنع فهو لا یمنع من کلٍ منهما، التفصیل لا مورد له. أمّا بالنسبة إلی الغرض، فإذا قلنا بأنّ الغرض واجب التحصیل ممّا یحکم العقل بلزوم تحصیله علی کل تقدیر، فلابدّ من تحقیق الغرض المولوی من ذلک الشیء؛ وحینئذٍ أیّ فائدةٍ فی إجراء البراءة الشرعیة ؟ ماذا یترتب علی إجراء البراءة الشرعیة ؟ غایة ما یترتب علی إجراء البراءة الشرعیة فی محل الکلام هو نفی ورفع جزئیة الجزء المشکوک الجزئیة، فحدیث الرفع والبراءة الشرعیة ترفع جزئیة الجزء المشکوک، وهذا هل یترتب علیه إحراز حصول الغرض بالإتیان بالأقل ؟ لأنّ المفروض أنّ لدینا غرض، وهذا الغرض منع من إجراء البراءة العقلیة، یعنی غرض لازم التحصیل علی کل تقدیر، لابدّ أن تحرز تحقق الغرض، أجری البراءة الشرعیة لنفی وجوب الأکثر، أو لنفی جزئیة الجزء المشکوک، فارتفعت جزئیة الجزء المشکوک الجزئیة ظاهراً؛ لأننا نتکلم عن حدیث الرفع، فارتفعت جزئیته ظاهراً، هل معنی ذلک أنّ المکلّف إذا اقتصر علی الأقل یحرز تحقق الغرض بإتیانه الأقل ؟ کلا، النافی للجزئیة لا ینفیها واقعاً، لو کان ینفیها واقعاً کما سیشیر لا مشکلة هو ینفی الجزئیة واقعاً، فنقول أنّ الإتیان بالأکثر نحرز به الحصول علی الغرض، لکن الرافع للجزئیة فی المقام هو حدیث الرفع وبراءة شرعیة وأصل عملی، هو یرفع جزئیة ظاهراً، ولا علاقة له بالواقع، هذا رفع الجزئیة ظاهراً لا یترتّب علیه إحراز الغرض بالإتیان بالأقل، لا یترتب علیه إطلاقاً، لیس فیه فائدة، یبقی العقل یلزم المکلّف بلزوم تحصیل الغرض، وإذا اقتصر علی الأقل لا یحرز تحصیل الغرض، فیجب علیه الإتیان بالأکثر. إذن: ماذا انتفعنا من إجراء البراءة الشرعیة فی محل الکلام ؟!

ص: 584

إذن: هو یقول إذا کان المانع من إجراء البراءة العقلیة هو الغرض، فهو أیضاً یمنع من إجراء البراءة الشرعیة فی محل الکلام ببیان أنّه لا یمکن إجراء البراءة الشرعیة فی محل الکلام والالتزام بالاقتصار علی الأقل؛ لأنّ إجراء البراءة الشرعیة تنفی جزئیة الجزء المشکوک الجزئیة، وإذا نفینا جزئیته نقتصر علی الأقل، وبلحاظ الغرض لا یجوز الاقتصار علی الأقل؛ لأنّ الذی یرفع جزئیة الجزء المشکوک الجزئیة هو أصل عملی ینظر إلی الظاهر ویرفعها ظاهراً ولا یرفعها واقعاً. إذن: لا فائدة فی إجراء البراءة ولا معنی لإجراء البراءة الشرعیة فی محل الکلام إذا قلنا بأنّ المانع وهو مسألة الغرض تمنع من إجراء البراءة العقلیة. نعم، یمکن الاقتصار علی الأقل وعدم وجوب الإتیان بالأکثر فی حالتین:

الحالة الأولی: إذا کان النافی لجزئیة الجزء المشکوک أمارة، خبر ثقة قام علی أنّ السورة لیست جزءً من الصلاة، دائماً الإمارة تکون ناظرة إلی الواقع، فهی تنفی جزئیة السورة واقعاً، فی هذه الحالة یقول لا مانع من الاقتصار علی الأقل ویحرز المکلف حینئذٍ الحصول علی الغرض إذا جاء بالأقل؛ لأنّ هذه حجّة معتبرة ناظرة إلی الواقع، وتنفی جزئیة الجزء المشکوک الجزئیة واقعاً، فیقتصر علی الأقل ویحرز بذلک الحصول علی الغرض.

الحالة الثانیة: ما إذا کان دلیل البراءة الشرعیة وارداً فی خصوص مسألة الدوران بین الأقل والأکثر، نفترض أنّ دلیل حدیث الرفع لیس فیه إطلاق یشمل جمیع موارد الشک فی التکلیف؛ بل خصوص الشک فی التکلیف فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر، فی هذه الحالة یتعین الحکم بکفایة الاقتصار علی الأقل فی مقام الامتثال صوناً لکلام المتکلّم الحکیم عن اللّغویة؛ لأنّ دلیل البراءة وارد فی هذه المسألة، فإذا قلنا لیس فیه فائدة ولا ینتج لنا جواز الاقتصار علی الأقل؛ حینئذٍ یکون لغواً، جعل البراءة فی خصوص هذه المسألة یکون لغواً وجعل البراءة مطلقا فیه فائدة، فی موارد أخری تظهر فیه فائدة ولا یلزم منه اللّغویة، لکن افتراض أنّ دلیل البراءة الشرعیة وارد فی خصوص مسألتنا، مع افتراض أنّه لا ینتج جواز الاقتصار علی الأقل، وإنّما بلحاظ الغرض یجب الإتیان بالأکثر ولا یجوز الاقتصار علی الأقل، فلصون کلام المتکلم الحکیم عن اللّغویة لابدّ أن نقول جعل البراءة فی مسألتنا فیه فائدة، وفائدته أنّه یجوّز لنا الاقتصار علی الأقل، بأن نفترض أنّ الشارع فی هذه الحالة یقول لا یجب علیک إحراز الحصول علی الغرض، یکفیک أن تقتصر علی الأقل، وهذا یکفی فی هاتین الحالتین، أمّا فی غیرهما کما هو المفروض فی محل کلامنا حیث لم نفترض النافی لجزئیة الجزء أمارة، وإنّما افترضنا أنّ النافی لجزئیة الجزء حدیث الرفع أصل عملی، ولا یصح أن یقال أنّ أدلة البراءة الشرعیة مختصّة بخصوص دوران الأمر بین الأقل والأکثر، کل منهما فرضان غیر متحققین فی محل الکلام، ففی غیر هاتین الحالتین یتعیّن الالتزام بمراعاة الغرض ولزوم الإتیان بالأکثر، وهذا معناه أنّ أصالة البراءة الشرعیة لا تجری فی المقام، کما لا تجری البراءة العقلیة کذلک لا تجری البراءة الشرعیة فی محل الکلام. هذا کلّه إذا کان المانع من جریان البراءة العقلیة هو مسألة الغرض، والمانع الثانی هو العلم الإجمالی. فی العلم الإجمالی قالوا أنّه علم إجمالی یدور بین الأقل والأکثر، ومعناه فی الحقیقة هو أنّ الأقل یُعلم بوجوبه، لکن یدور أمر الأقل بین أن یکون مطلقاً أو مقیداً، یدور أمره بین طبیعة مطلقة وبین طبیعة مقیدة، الطبیعة المطلقة التی یعبّر عنها بالأقل، والطبیعة المقیدة بالجزء المشکوک الاعتبار یُعبّر عنها بالأکثر، فهو علم إجمالی بوجوب دائر بین طبیعة مطلقة وبین طبیعة مقیدة، هذا العلم الإجمالی الدائر بین التقیید وبین الإطلاق یکون منجّزاً، فهو علم إجمالی منجز ولا یرتفع هذا العلم الإجمالی عن التنجیز إلاّ إذا أحرزنا الإطلاق، لکن ما دام لا نحرز الإطلاق الذی هو أحد طرفی العلم الإجمالی؛ حینئذٍ یبقی العلم الإجمالی علی تنجیزه فی هذه الحالة، وإذا بقی علی تنجیزه ویمنع من جریان البراءة العقلیة فی أحد طرفیه.

ص: 585

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

کان الکلام فی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)وما اعتُرض علیه بالاعتراضات التی ذُکرت فی کلماتهم، بالنسبة للاعتراض الأول، واضح أنّ الاعتراض الأوّل مبنی علی افتراض أنّ مراد المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی کلامه المتقدّم هو إثبات الإطلاق الثبوتی الواقعی، بمعنی کون الواجب واقعاً هو الأقل مطلقاً من ناحیة الجزء المشکوک، إذا کان هذا غرضه، یعنی هو بإجراء أصالة البراءة فی الأکثر، أو إجراء أصالة البراءة فی الجزء المشکوک بلحاظ وجوبه؛ لأنه یبدو أنّ کلماته مختلفة، فی أحد تقریریه یبدو أنّه یجری أصالة البراءة فی الأکثر، وفی التقریر الآخر کأنّه یجری البراءة فی الزائد، فی الجزء المشکوک، لکن فی کلٍ منهما الظاهر أنّه لا یجری البراءة بلحاظ جزئیة الجزء المشکوک، هذا شیء ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وسیأتی التعرض له.

علی کل حال، هو إمّا أن یجری البراءة لنفی وجوب الأکثر، أو یجری البراءة لنفی وجوب الجزء المشکوک؛ صحیح أنّه ذکر فی البدایة أنّ البراءة تجری لنفی التقیّد، لکنه ذکر فی البدایة أنّ التقیّد له منشأ انتزاع، والتقیّد إنّما یرفع برفع منشأ انتزاعه ومنشأ انتزاعه هو الأمر بالأکثر، فبالتالی یجری البراءة فی وجوب الأکثر. علی کل حال، بناءً علی أن یکون مراده أنّه بإجرائه البراءة الشرعیة الثابتة بحدیث الرفع لنفی وجوب الأکثر نثبت وجوب الأقل واقعاً مطلقاً من ناحیة الجزء المشکوک.

إذا کان هذا مراده، فالاعتراض الأوّل یرد علیه؛ لأنّ حدیث الرفع لیس ناظراً إلی الواقع، وإنّما مفاده نفی وجوب الاحتیاط من ناحیة وجوب الجزء المشکوک، وهذا لا یثبت وجوب الأقل واقعاً مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر، هو فقط یرفع الاحتیاط من ناحیة الجزء العاشر ولا علاقة له بکونه ثابتاً واقعاً، أو لا، وأنّ الأقل من ناحیته مطلق فی الواقع، أو أنّ الأقل مقید به فی الواقع، هو لیس له نظر إلی ذلک، فلا معنی لأن نثبت وجوب الأقل واقعاً مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر بإجراء البراءة الشرعیة لنفی وجوب الأکثر، فیرد علیه هذا الاعتراض.

ص: 586

أمّا إذا قلنا أنّه لا یرید إثبات الإطلاق الواقعی الثبوتی، لا یرید إثبات وجوب الأقل واقعاً علی نحو الإطلاق من ناحیة الجزء المشکوک، لیس له نظر إلی الواقع أصلاً، وإنّما هو یرید إثبات الإطلاق الظاهری کما عُبّر عنه، یرید إثبات أنّ المکلّف یجب علیه أن یتعامل مع الدلیل معاملة المطلق، أن یبنی علی أنّ الواجب هو الأقل مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر، وجوب البناء علی أنّ الواجب هو الأقل مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر غیر إثبات أنّ الواجب مطلقاً واقعاً من ناحیة الجزء العاشر، هذا غیر ذاک.

بعبارةٍ أخری: أنّ أصالة البراءة الشرعیة(حدیث الرفع) یثبت به التأمین من ناحیة ما یجری فیه، فإذا أجریناه فی الأکثر، فهو یثبت التأمین من ناحیة الأکثر، إذا أجریناه فی الجزء المشکوک فهو یثبت التأمین من ناحیة الجزء المشکوک، هذا الذی یرید إثباته المحقق النائینی(قدّس سرّه)، یرید أن یقول لا إشکال أنّ أصالة البراءة الشرعیة إذا جرت فی الجزء المشکوک، فهی تؤمّن من ناحیة الجزء المشکوک، ومعنی أنّها تؤمّن من ناحیة الجزء المشکوک هو أنّ المکلّف عملاً یبنی علی أنّ الواجب هو الأقل مطلقاً من ناحیة الجزء المشکوک؛ لأن التأمین من ناحیة الجزء المشکوک یعنی فی الحقیقة أنّک أیّها المکلّف الثابت فی حقک هو الأقل المطلق من ناحیة الجزء العاشر، لکن هذا ثبوت ظاهری لیس له نظر إلی مرحلة الواقع؛ فحینئذٍ بناءً علی هذا وأن یکون مقصوده هو هذا وهو إثبات التأمین بحدیث الرفع، إثبات أنّ المکلّف لا یجب علیه إلاّ الأقل مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر، لا أنّ هذا هو الثابت واقعاً، بناءً علی هذا؛ حینئذٍ لا یرد الاعتراض السابق، الاعتراض السابق کان یقول أنّ حدیث الرفع لیس له نظر إلی مرحلة الثبوت ومقام الواقع، فکیف نثبت به وجوب الأقل المطلق واقعاً، وهذا لا یرد علیه إذا فسّرنا کلامه بهذا التفسیر؛ لأنّه لا ینظر إلی الواقع، هو لا یرید إثبات وجوب الأقل المطلق من ناحیة الجزء المشکوک واقعاً حتّی یُعترض علیه بهذا الاعتراض وإنّما یرید إثباته ظاهراً، یرید إثبات أنّ المکلّف یبنی علی هذا المقدار، علی أنّ الواجب علیه فعلاً هو ما یُکلّف به فی مقام إداء الوظیفة العملیة عند الشک هو أن یبنی علی عدم وجوب شیء أزید من الأقل، بمعنی أنّ الأقل یکون مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر، هذا هو ما یجب علیه أن یبنی علیه اعتماداً علی أصالة البراءة الجاریة بلحاظ الجزء العاشر؛ حینئذٍ لا یرد علیه هذا الاعتراض؛ لأنّ الاعتراض مبنی علی أن یکون نظره إلی إثبات الواقع، وبناءً علی هذا التفسیر المحقق النائینی لیس له نظر إلی إثبات الواقع إطلاقاً، فلا یرد علیه هذا الاعتراض.

ص: 587

ونفس الکلام یقال عن الاعتراض الثانی وهو إشکال المثبتیة الذی کان یقول بأنّ نفی وجوب الأکثر، أو نفی وجوب الجزء المشکوک لا یعنی وجوب الأقل، وإنّما یلازم وجوب الأقل بناءً علی علمنا الإجمالی هو أحد الأمرین إمّا الأقل أو الأکثر؛ فحینئذٍ یکون نفی أحدهما ملازماً لثبوت الآخر، لکن هذه الملازمة کما هو واضح، والأصل العملی البراءة الشرعیة لا یمکنها إثبات هذا اللازم العقلی، لازم نفی وجوب الأکثر، لازم نفی وجوب الجزء المشکوک بضمیمة العلم الإجمالی من الخارج هو أنّ الأقل هو الذی یکون واجباً، فإثبات وجوب الأقل بإجراء البراءة لنفی وجوب الأکثر، أو نفی وجوب الأکثر، أو نفی وجوب الجزء المشکوک لا یتم إلاّ بناءً علی القول بالأصل المثبت، هذا کان الاعتراض الثانی. هذا الاعتراض أیضاً لا یرد إلاّ إذا قلنا بأنّ نظر المحقق النائینی(قدّس سرّه) کان إلی إثبات وجوب الأقل واقعاً، باعتبار أن نفی وجوب الأکثر بحدیث الرفع ونفی وجوب الجزء المشکوک بحدیث الرفع یلازم وجوب الأقل بضیمیة العلم الإجمالی الذی ذکرناه، وأمّا إذا قلنا لیس هذا مراده، وإنّما مراده ما ذکرناه، مراده هو إثبات التأمین، إثبات السعة من ناحیة الجزء العاشر، الجزء المشکوک، وأنّ المکلّف عملاً لیس مسئولاً عن الجزء الآخر، إذا کان هذا هو مقصوده؛ فحینئذٍ لا یلزم إشکال المثبتیة، وذلک لأنّ هذا المعنی، وهو التأمین من ناحیة الجزء العاشر وعدم المسئولیة تجاهه مدالیل مطابقیة لحدیث الرفع ولیست مدالیل التزامیة، إذا فرضنا أنّ المحقق النائینی (قدّس سرّه) لا یرید أن یثبت بإجراء البراءة الشرعیة فی الجزء العاشر إلاّ التأمین بلحاظ الجزء العاشر ونفی المسئولیة فی مقام العمل من ناحیة الجزء المشکوک، إذا کان غرضه إثبات هذا المعنی الذی نستطیع أن نعبّر عنه بعبارة أخری: أنّ ما یجب علیه هو ما عدا الجزء المشکوک ظاهراً، إذا کان هذا هو مقصوده، فهذا یشکّل مدلولاً مطابقیاً لحدیث الرفع؛ لأنّ حدیث الرفع مفاده هو التأمین وإثبات السعة وعدم المسئولیة تجاه ما یُشک فی وجوبه، أنّک لست مسئولاً تجاه ما یُشک فی وجوبه، المکلّف لا یحتاج إلی أکثر من هذا، لا یحتاج إلی أکثر من أن یکون مؤمّناً من ناحیة العقاب الذی یترتب علی ترک الجزء العاشر فی ما لو کان ثابتاً فی الواقع، یحتاج إلی مؤمن ولا یحتاج إلی أکثر من هذا؛ حینئذٍ یکون فی أمن إذا جرت البراءة یکون فی سعة من ناحیة الجزء العاشر، إذا کان مقصوده هو إثبات هذا المفاد الذی یمکن أن نصوغه بعبارة أخری: هو إثبات وجوب الأقل مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر ظاهراً وبحسب الوظیفة العملیة هو لیس مسئولاً إلاّ عن الإتیان بالأقل ولیس مسئولاً من ناحیة الجزء المشکوک. إذا کان مقصوده إثبات هذا المعنی بإجراء حدیث الرفع بالنسبة إلی الجزء المشکوک، فهذا لا یلزم منه إشکال المثبتیة؛ لأنّ هذا هو المدلول المطابقی لحدیث الرفع لا أنّ حدیث الرفع یدل علی شیءٍ ولازمه هذا التأمین، ولازمه إثبات عدم المسئولیة تجاه الجزء المشکوک؛ بل هذا هو مدلوله المطابقی فلا یلزم إشکال المثبتیة.

ص: 588

وأمّا الاعتراض الثالث: هو کان ملتفتاً إلی أنّ أصالة البراءة الشرعیة تجری فی الأکثر؛ لأنّه یرید أن یثبت أنّ البراءة الشرعیة تجری فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر، فتجری فی الأکثر ولا تُعارض بالبراءة فی الأقل؛ لأنّ الأقل معلوم الوجوب علی کل تقدیر؛ لأنّ التکلیف بالأقل معلوم علی کل تقدیر. هکذا أجاب علی إشکال المعارضة. الاعتراض الثالث کان یقول: کیف نقول أنّ الأقل معلوم الوجوب علی کل تقدیر وأنّ البراءة الشرعیة لا تجری فیه، وأنّ البراءة فی الأکثر لا تُعارض بالبراءة فی الأقل؛ لأنّ الأقل لا تجری فیه البراءة؛ لأنّه معلوم الوجوب علی کل تقدیر؟ الاعتراض یقول لیس معلوم الوجوب علی کل تقدیر؛ لأنّ أحد تقدیریه هو أن یکون وجوب الأقل وجوباً ضمنیاً وعلی هذا التقدیر لا یُکتفی بالأقل؛ بل یجب علیه أن یأتی بالأکثر، علی تقدیر أن یکون الأقل واجباً بوجوبٍ ضمنی، واضح أنّه لا یکتفی بالإتیان بأحد أجزاء الواجب المرکب من عدّة أجزاء، الإتیان بالأقل مع فرض کون وجوبه وجوباً ضمنیاً الذی یعنی أنّ هناک مرکّباً من الأقل ومن غیره هو الذی تعلّق به الوجوب فی الحقیقة وأنّ الوجوب الذی یتعلّق فی الحقیقة هو وجوب ضمنی مثل الوجوب الضمنی الذی یتعلّق بالجزء الآخر، بناءً علی وجوب الأکثر؛ حینئذٍ واضح أنّه لا یکتفی فی امتثال هذا الوجوب الضمنی الإتیان بالأقل؛ بل یجب لامتثاله الإتیان بالأکثر؛ لأنّه وجوب ضمنی ولیس وجوباً استقلالیاً. إذن: أحد تقدیری وجوب الأقل هو أن یکون وجوبه وجوباً ضمنیاً، ومع کونه وجوباً ضمنیاً لا یُکتفی فی امتثاله بالأقل؛ بل لابدّ من الأکثر، فکیف یمکن أن نقول: نحن نعلم بوجوب الأقل علی کل تقدیر ونکتفی بالإتیان بالأقل ولا یجب علینا الإتیان بالأکثر ؟ مع أنّه علی أحد التقدیرین لا یُکتفی فی مقام الامتثال بالإتیان بالأقل؛ بل لابدّ من الإتیان بالأکثر.

ص: 589

وبعبارةٍ أخری: أنّ الوجوب الاستقلالی لکلٍ من الأقل والأکثر مشکوک ولا یوجد عندنا علم بأحدهما، کما أنّ الوجوب الاستقلالی للأکثر غیر معلوم الوجوب الاستقلالی للأقل أیضاً غیر معلوم، فالوجوب الاستقلالی للأقل مشکوک، فتجری البراءة لنفیه وتعارض البراءة الجاریة فی الأکثر، البراءة التی یرید أن یجریها المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی الأکثر هی لنفی وجوبه الاستقلالی، هذه البراءة معارضة بالبراءة لنفی الوجوب الاستقلالی للأقل، والوجوب الاستقلالی للأقل لیس معلوماً؛ بل هو أمر مشکوک؛ لأننا بالوجدان نحتمل أنّ وجوبه وجوب ضمنی ولیس وجوباً استقلالیاً. إذن: لا مانع من جریان البراءة فی الأقل ومعارضتها للبراءة فی الأکثر.

یبدو أنّ هذا الاعتراض الثالث وارد علی المحقق النائینی(قدّس سرّه) لأوّل وهلة؛ لأنّه لا معنی للقول أنّ البراءة تجری فی الأکثر ولا تُعارض بالبراءة فی الأقل؛ لأنّ الأقل معلوم الوجوب علی کل تقدیر، فأن قیل: علی ما تقدّم سابقاً فی أصل البحث بأنّ حدیث الرفع إنما یجری بلحاظ ما یدخل فی العهدة، وبلحاظ ما یتنجّز علی المکلّف، فیجری حدیث الرفع لرفع هذا الشیء الذی یُشک فی دخوله فی العهدة وعدم دخوله، یُشک فی تنجّزه علی المکلّف بحیث یستحق العقاب علی مخالفته أو عدم تنجّزه، فیجری حدیث الرفع فیه، فلابدّ حینئذٍ، لکی نجری حدیث الرفع فی مورد، لابدّ أن نلحظ أنّ هذا الشیء الذی نجری فیه حدیث الرفع لابدّ أن یکون قابلاً للدخول فی العهدة وقابلاً لأن یکون منجّزاً حتی یجری فیه حدیث الرفع، ما یقبل الدخول فی العهدة وما یقبل أن یکون منجّزاً فی الحقیقة هو أصل التکلیف، أمّا حدود هذا التکلیف، تقدّم هذا سابقاً، الاستقلالیة والضمنیة البشرط شیئیة واللابشرطیة، هذه أمور غیر قابلة لأن تدخل فی عهدة المکلّف، لا معنی لأن تکون الاستقلالیة داخلة فی عهدة المکلّف؛ لأنّها حدٌ للوجوب، وکذلک الضمنیة لا معنی لأن تدخل فی عهدة المکلّف، الذی یدخل فی عهدة المکلّف هو أصل التکلیف، وبلحاظ ذات التکلیف الذی یقبل الدخول فی عهدة المکلّف نحن نجری البراءة، هذا هو المیزان فی جریان البراءة؛ لأنّ التکلیف بشیء یقبل الدخول فی عهدة المکلّف ویقبل أن یکون منجّزاً. إذا جئنا إلی التکلیف سنجد أنّ ما یقوله المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو الصحیح، باعتبار أنّ من حقّه أن یقول أنّی أشک فی وجوب الأکثر فأجری فیه البراءة الشرعیة ولا تُعارض هذه البراءة فی الأکثر بالبراءة فی الأقل؛ لأنّی أعلم بوجوب الأقل علی کل تقدیر، سواء کان استقلالیاً، أو کان ضمنیاً، الضمنیة والاستقلالیة لا تدخل فی العهدة، الذی یدخل فی العهدة هو ذات التکلیف وذات الوجوب، بلحاظ ذات الوجوب الدوران لیس بین متباینین، وإنّما الدوران بین الأقل والأکثر، بمعنی أنّ الأقل معلوم الوجوب بلا إشکال، ودخل فی عهدة المکلّف، سواء کان ضمنیاً أو کان استقلالیاً. یعنی بعبارة أخری : انضم إلیه شیء أو لم ینضم إلیه شیء، علی کل حال هو دخل فی العهدة،، وتنجّز علی المکلف، هذا مما نعلم به بالتفصیل، وجوب الأقل نعلم به تفصیلاً وبالتالی لا مجال لجریان البراءة فی أصل التکلیف بالنسبة إلی الأقل، وإن کنّا لا نعلم بکونه ضمنیاً، أو کونه استقلالیاً؛ لأنّ الضمنیة والاستقلالیة لا تدخل فی العهدة ولیست قابلة للتنجیز ولا یجری فیها الرفع، حدیث الرفع یجری فی الأکثر ولا یُعارض بجریانه فی الأقل. هذا صحیح، وهذا معناه أنّه سوف یثبت رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، لکن هذا خُلف الفرض؛ لأنّ المفروض فی محل کلامنا فعلاً هو أننا فرغنا عن عدم جریان البراءة العقلیة فی موارد دوران الأمر بین الأقل والأکثر. نحن کلامنا فعلاً وفتحنا هذا البحث بعد فرض الفراغ عن عدم جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، وإنّما نفتح بحث فی أنّه علی تقدیر عدم جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر، هل هناک مجال لجریان البراءة الشرعیة أو لا ؟ هذا محل کلامنا، فإذن: عندما نتکلّم عن جریان البراءة الشرعیة أو عدم جریانها فی المقام لابدّ أن نفرغ عن المنع من جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، ومن الواضح أنّ الفراغ عن عدم جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام هو فرع عدم انحلال العلم الإجمالی، وإلاّ إذا أنحل العلم الإجمالی فی البحث السابق لا مانع من جریان البراءة العقلیة، إنّما یقال بالمنع من جریان البراءة العقلیة فی المقام إذا افترضنا أنّ العلم الإجمالی باقٍ وغیر منحل، ویکون العلم الإجمالی باقیاً وغیر منحل إذا أخذنا بنظر الاعتبار مسألة الاستقلالیة والضمنیة، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار البشرط شیئیة واللابشرطیة حتّی یکون دوران بین المتباینین، فیبقی العلم الإجمالی ولا ینحل ویمنع من جریان البراءة العقلیة، فکأنّ المفروض فی کلامنا فعلاً عندما نتکلّم عن جریان البراءة الشرعیة أننا أخذنا بنظر الاعتبار الضمنیة والاستقلالیة وقلنا بأنّ الأمر فی العلم الإجمالی نعلم إجمالاً بوجوب التسعة المطلقة، أو التسعة المقیّدة، وهما متباینان، التسعة المطلقة مباینة للتسعة المقیدة، فعلم إجمالی یدور بین متباینین یکون منجّزاً لکلا الطرفین، وهذا ما یمنعهم من إجراء البراءة العقلیة فی أحد الطرفین، فیمنع جریان البراءة العقلیة فی موارد العلم الإجمالی فی موارد الدوران بین الأقل والأکثر؛ لأنّ مردّه إلی العلم الإجمالی بین المتباینین، فیمنع من جریان البراءة العقلیة، ومعنی هذا الکلام أننا أخذنا الاستقلالیة والضمنیة بنظر الاعتبار، وأخذنا الإطلاق والتقیید والبشرط شیئیة واللابشرطیة بنظر الاعتبار وقلنا أنّ العلم الإجمالی لم ینحل؛ ولذا منعنا من جریان البراءة العقلیة، عندما نأتی إلی محل الکلام، ما معنی أن نلغی الاستقلالیة والضمنیة ونقول أنّها لا تدخل فی العهدة ولیست قابلة للتنجیز أصلاً ؟ وإذا کانت غیر قابلة للتنجیز ولا تدخل فی العهدة؛ حینئذٍ لا معنی لأن نقول لا تجری البراءة العقلیة، لابدّ أن لا نمنع من جریان البراءة العقلیة، المنع من جریان البراءة العقلیة فرع عدم انحلال العلم الإجمالی، وعدم انحلال العلم الإجمالی فرع أن تؤخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار، وإلاّ إذا لم نأخذها بنظر الاعتبار ینحل العلم الإجمالی، کما قلنا سابقاً، الصحیح هو أنّه لا یوجد فی المقام علم إجمالی، من البدایة یوجد شک بدوی وعلم تفصیلی إذا ألغینا هذه الأمور ولم نأخذها بنظر الاعتبار، یوجد علم تفصیلی بوجوب الأقل وشک بدوی فی وجوب ما زاد علیه، فتنحل المشکلة، وعلی هذا الأساس قلنا لا مانع من جریان البراءة العقلیة، فإذا کان مبنی الکلام فعلاً علی افتراض المنع من جریان البراءة العقلیة المتوقف علی بقاء العلم الإجمالی وعدم انحلاله المتوقف کذلک علی أن تؤخذ الاستقلالیة والضمنیة والإطلاق والتقیید بنظر الاعتبار؛ حینئذٍ فی محل الکلام لا معنی لأن نلغی ذلک؛ بل لابد أن نحافظ علیه، أخذناه بنظر الاعتبار، وعندما نأخذه بنظر الاعتبار؛ حینئذٍ لا یصح کلام المحقق النائینی (قدّس سرّه) من أنّ أصالة البراءة الشرعیة تجری فی الأکثر ولا تُعارض بالبراءة الشرعیة بالنسبة إلی الأقل، کلٌ منهما تجری فیه البراءة الشرعیة وتتحقق المعارضة بینهما کما هو الحال فی البراءة العقلیة بالنسبة إلی کلٍ من الطرفین؛ لوجود العلم الإجمالی، وهذا العلم الإجمالی یمنع من إجراء البراءة فی کلٍ من الطرفین.

ص: 590

یبقی کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، وکلامه لا یخلو من تعقید ومن تفسیرات متعددة، صاحب الکفایة (قدّس سرّه) کما اتضح ممّا تقدّم هو أیضاً من القائلین بالتفصیل، کما قال المحقق النائینی(قدّس سرّه) بالتفصیل قال صاحب الکفایة (قدّس سرّه) قبله بالتفصیل بین البراءتین، منع من جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، لکنّه أرتأی جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام. غایة الأمر أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) صریح، مباشرة قال أنّ البراءة الشرعیة تجری فی جزئیة الجزء المشکوک، وبعد أن ذکر هذا اعترض علی نفسه بأنّ الجزئیة لیست أمراَ مجعولاً ولا تنالها ید الجعل فکیف تجری فیها البراءة ویشملها حدیث الرفع ؟ والحال أنّ حدیث الرفع یختص بما هو قابل للجعل وقابل للرفع، والجزئیة بنفسها لیست قابلة للجعل ولیست قابلة للرفع، فکیف یشملها حدیث الرفع ؟ وجّه علی نفسه هذا الاعتراض.

وأجاب عنه، قال: لیس هناک مشکلة، الجزئیة لیست قابلة بنفسها للرفع، لکن هی قابلة للرفع والوضع برفع ووضع منشأ انتزاعها. تقریباً نفس الکلام الذی نقلناه عن المحقق النائینی(قدّس سرّه). ومنشأ انتزاع الجزئیة هو الأمر الضمنی المتعلّق بها، وهذا الأمر الضمنی المتعلّق بها قابل للرفع، وهذا المقدار یکفی فی صحّة جریان حدیث الرفع، فنجری حدیث الرفع لرفع الجزئیة برفع منشأ انتزاعها الذی هو عبارة عن الأمر الضمنی، یعنی نشک فی وجوب السورة؛ حینئذٍ نقول منشأ انتزاع جزئیة السورة من الصلاة هو الأمر الضمنی المتعلّق بالسورة؛ لأنّ السورة لو کانت جزءاً، فهناک أمر استقلالی یتعلّق بالمجموع المرکب، وهناک أوامر ضمنیة بعدد الأجزاء، هذا الأمر الضمنی المتعلّق بالسورة نحن نشک فیه، فنسلط حدیث الرفع علیه، فنرفع هذا الأمر الضمنی، وبالتالی نرفع جزئیة السورة.

ص: 591

حینئذٍ وجّه علی نفسه إشکالاً آخر وهو أنّ هذا الأمر الضمنی إذا أجرینا فیه حدیث الرفع ورفعنا الأمر الضمنی، الأمر الضمنی لا یمکن رفعه إلاّ برفع الأمر بالمرکب، الأمر بالمرکّب من عشرة أجزاء هذا إذا رفعناه؛ حینئذٍ یرتفع الأمر الضمنی المتعلّق بالسورة، فإذا کان رفع الأمر الضمنی بحدیث الرفع یتوقف علی رفع الأمر بالکل؛ حینئذٍ یرد هذا الإشکال وهو أنّه إذا رفعنا الید عن الأمر بالکل، فکیف نثبت الأمر بالباقی لتصحیح الإتیان بالأقل والاجتزاء به بعد إجراء البراءة عن جزئیة الجزء المشکوک ؟ ما هو الدلیل علی وجود أمر بالباقی ؟ نحن لا نعلم بوجود أمر بالباقی، فما هو الدلیل علی الأمر بالباقی ؟

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

فی الدرس السابق ذکرنا أنّ المحقق الخراسانی(قدّس سرّه) فی الکفایة ذهب إلی التفصیل وذکر أنّه لا مشکلة فی إجراء حدیث الرفع فی جزئیة الجزء المشکوک ونفی جزئیة الجزء المشکوک، وقلنا بأنّه اعترض علی نفسه بأنّ الجزئیة لیست من الأمور المجعولة ولا تنالها ید الجعل ولا الرفع، فذکر بأنّه یمکن رفع منشأ انتزاعها، ومنشأ انتزاعها هو عبارة عن الأمر الضمنی کما ذکر المتعلّق بالجزء، ثمّ أشکل علی نفسه بأنّه إذا جری حدیث الرفع لرفع الأمر الضمنی بالجزء، فمن الواضح أنّ الأمر الضمنی لا یرتفع إلاّ برفع الأمر بالکل، فلابدّ من الالتزام برفع الأمر بالکل؛ إذ لا معنی لرفع الأمر الضمنی مع بقاء الأمر بالکل، الأمر بالکل المؤلف من عشرة أجزاء لا معنی لبقائه مع رفع الأمر الضمنی المتعلّق بواحدٍ من هذه الأجزاء العشرة؛ بل لابدّ من افتراض رفع الأمر بالکل، وإذا ارتفع الأمر بالکل؛ حینئذٍ ما الدلیل علی الأمر بالباقی من دون ذلک الجزء ؟ حینئذٍ لا دلیل علی أنّ الباقی من دون ذلک الجزء، وهو الأقل قد تعلّق به الأمر حتّی یکون الاتیان به مجزیاً وصحیحاً وکافیاً، لا دلیل علی الأمر بالباقی، نحن لا یوجد عندنا إلاّ الأمر بالکل، حدیث الرفع جری ورفع الأمر بالکل، ما الدلیل علی تعلّق الأمر بالباقی ؟ کیف نثبت هذا المقدار ؟ (1)

ص: 592


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص367.

بعد أنّ أشکل علی نفسه بذلک، أجاب: بأنّ نسبة حدیث الرفع إلی أدلة الأجزاء نسبة الاستثناء إلی المستثنی منه، ومقصوده کما هو ظاهر العبارة أنّه إذا ورد عندنا دلیل یدلّ علی جزئیة شیءٍ فی حالة من الحالات، من الواضح أنّ الجزئیة بمقتضی هذا الدلیل لا تثبت إلا فی ذلک الحال الذی دلّ الدلیل علی جزئیة شیء فیها، فتثبت الجزئیة فی ذلک الحال، وفی غیر ذلک الحال لا تثبت الجزئیة، ترتفع الجزئیة فی غیر ذلک الحال، کما لو فرضنا أنّه دلّ دلیل خاص علی أنّ السورة جزء من الصلاة فی حال العلم، وهذا معناه أنّ الجزئیة تختص بحال العلم وترتفع فی حال الجهل، هذا فی حال الجهل ارتفعت جزئیة السورة، ما الدلیل علی وجوب الباقی ؟ ما الدلیل علی وجوب سائر الأجزاء من دون ذلک الجزء الذی ارتفعت جزئیته بحسب الفرض ؟ ما الدلیل علی وجوب الأقل ؟ هو یقول أنّ الدلیل هو عبارة عن مجموع أمرین: أحدهما حدیث الرفع، والآخر هو أدلّة الأجزاء، إذا ضممنا حدیث الرفع إلی أدلّة الأجزاء، هذا ینتج الأمر بالأقل، أو الأمر بالفاقد لذلک الجزء؛ لأنّ ذلک الفاقد لذلک الجزء لنفترض أنّه مکون من أجزاء تسعة، کل جزء من تلک الأجزاء، کل جزء من هذه الأجزاء له دلیله، أدلّة هذه الأجزاء التسعة بضمیمة حدیث الرفع یثبت الأمر بالفاقد لذلک الجزء، فیکون الفاقد لذلک الجزء مأموراً به، فإذا ثبت أنّه مأمور به یکون مجزیاً؛ وحینئذٍ یُکتفی بالأقل فی محل الکلام استناداً إلی حدیث الرفع الذی یرفع الجزئیة فی حال الجهل، أو استناداً إلی الدلیل الخاص الذی ذکرناه، فرضاً دلیل خاص دلّ علی جزئیة السورة فی حال العلم، هذا معناه أنّ الجزئیة ترتفع فی حال الجهل.

ص: 593

إذن: هذا الدلیل دلّ علی ارتفاع الجزئیة فی حال الجهل، هذا (فی حال الجهل) ارتفعت الجزئیة فی السورة، ما الدلیل علی وجوب باقی الأجزاء، یقول الدلیل هو : حدیث الرفع رفع جزئیة السورة فی حال الجهل، أدلّة الأجزاء الأخری تثبت فعلیة التکلیف لهذه الأجزاء الأخری فی حال الجهل، فیثبت الأمر بالأقل والأمر بالفاقد لذلک الجزء فی حال الجهل، وبذلک نصل إلی النتیجة التی یریدها، وهی أنّ أصالة البراءة الشرعیة جرت فی الجزئیة واستطعنا بمعونة حدیث الرفع وبانضمام أدلّة الأجزاء أن نثبت وجوب الأقل وأن نثبت الأمر بالأقل، فیجوز للمکلّف أن یقتصر علی الأقل. هذا هو الذی ذکره فی الکفایة؛ وحینئذٍ، معنی الاستثناء الذی ذکره أن نسبة حدیث الرفع إلی أدلة الأجزاء نسبة الاستثناء إلی المستثنی منه، مقصوده بحسب ظاهر عبارته هو أنّ أدلة الأجزاء هی فی حد نفسها لو کان لها ثبوت هی مطلقة بلحاظ حال العلم وحال الجهل، دلیل یدلّ علی وجوب جزء فی الصلاة هو یکون مطلقاً شاملاً لحالتی العلم والجهل، هذا الإطلاق فی أدلة الأجزاء یقیده حدیث الرفع؛ لأن مفاده هو رفع الجزئیة فی حال الجهل، فکأنّه یُخرج صورة الجهل من إطلاق دلیل جزئیة الجزء، وهذا یکون بمثابة الاستثناء، کأنّه یستثنی صورة الجهل من دلیل جزئیة الجزء، فیکون بمثابة الاستثناء، فحدیث الرفع باعتبار أنّه یرفع الجزئیة فی حال الجهل کما هو مفاد(رُفع عن أمّتی ما لا یعلمون) یرفع جزئیة الجزء فی حال الجهل یکون مقیداً لإطلاق دلیل جزئیة الجزء، فتختص جزئیة الجزء بحال العلم وترتفع فی حال الجهل. إذن: فی حالة الجهل لدینا دلیل یقول أنّ السورة لیست جزءاً من الصلاة فی حال الجهل، ولدینا أدلّة الأجزاء الأخری موجودة وهی تدل علی فعلیة التکلیف بتلک الأجزاء فی حال الجهل؛ فحینئذٍ لابدّ من الالتزام بأنّ الأقل هو المأمور به، الواجب هو الأقل، فیکتفی به فی مقام الامتثال، وهذا هو السبب فی تعبیره بأنّه یکون حدیث الرفع نسبته إلی أدلّة الأجزاء نسبة الاستثناء إلی المستثنی منه.

ص: 594

لو فرضنا أنّ احدهم استشکل علی المحقق الخراسانی(قدّس سرّه)، وکما هو معروف أنّ المحقق الخراسانی(قدّس سرّه) یبنی علی مسلک العلّیة التامّة للعلم الإجمالی ولا یری الاقتضاء؛ بل یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وأنّه یمنع من إجراء الأصول ولو فی بعض الأطراف حتّی إذا لم یکن لها معارض، حتّی لو لم یکن لجریان الأصل فی هذا الطرف معارض مع ذلک الأصل لا یجری فیه؛ لأنّه یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فإذن: بناءً علی هذا المبنی قد یُستشکل علی کلام المحقق الخراسانی(قدّس سرّه) الذی ذکرناه، ویقال أنّ مقتضی العلیة التامّة أنّه یجب بحکم العقل علی المکلّف الاحتیاط وتحصیل الموافقة القطعیة بحکم العقل، باعتبار أنّه یری العلیة التامّة للعلم الإجمالی؛ حینئذٍ یقال له کیف یحصل الیقین بالموافقة القطعیة إذا اقتصر المکلّف علی الإتیان بالأقل؛ لأنّه هو اثبت جواز الاقتصار علی الأقل؛ لأنّ البراءة الشرعیة تجری فی الجزئیة وتنفی الجزئیة، فیجوز الاقتصار علی الأقل، ......... عقلاً لابدّ من تحصیل الیقین بالفراغ ومن الواضح أنّه لا یحصل الیقین بالفراغ إذا اقتصر علی الاتیان بالأقل مع علمه الإجمالی بوجوب الأقل أو الأکثر.

حینئذٍ المحقق الخراسانی(قدّس سرّه) یمکنه الجواب عن هذا الإشکال، هو یدفع هذا الإشکال؛ لأنّ هذا الکلام متین وصحیح ولابدّ من تحصیل الیقین بالفراغ، لکنّ الفراغ لا یُراد به خصوص الفراغ الوجدانی؛ بل یعم الفراغ الوجدانی والفراغ التعبدی أو الفراغ الجعلی کما یسمّوه، الفراغ الجعلی هو یقین بالفراغ، وفی المقام حیث أنّ الذی دلّ علی جواز الاقتصار علی الأقل وکفایة الإتیان بالأقل فی محل کلامنا هو الدلیل الشرعی هو وجود دلیلین شرعیین صادرین من الشارع کان مقتضی ضم بعضهما إلی البعض الآخر الوصول إلی هذه النتیجة والاجتزاء بالأقل؛ حینئذٍ الأقل یعتبر فراغاً ممّا اشتغلت به الذمّة یقیناً وخروج عن العهدة یقیناً، لکنه فراغ جعلی، فراغ تعبّدی باعتبار الدلیل الشرعی، وهذا یکفی بلا إشکال بحکم العقل، یعنی العقل لا یُلزم بتحصیل خصوص الفراغ الوجدانی، ویقول أن الفراغ التعبدی المجعول من قبل الشارع الذی دلّ الدلیل علی أنّ الشارع یکتفی به، هذا لا یکفی، بلا إشکال العقل إنّما یحکم بهذه الأشیاء رعایة لمولویة المولی، فإذا کان هو نفس المولی إذن فی الخروج عن عهدة التکلیف بالإتیان بهذا المحتمل، فیکون هذا فراغاً تعبدیاً جعلیاً بنظر العقل یکون کافیاً، وفی المقام الاکتفاء بالأقل قد دلّ علیه الدلیل الشرعی، فیکون فراغاً جعلیا وتعبدیاً ولا یکون منافیاً للبناء علی مسلک العلّیة التامّة.

ص: 595

هذا الکلام کلّه مرجعه إلی دعوی تخصیص أدلة الأجزاء، دلیل جزئیة الجزء، دعوی تخصیصه بحدیث الرفع، بالنتیجة فسّرنا کلامه بهذا الشکل: أنّ حدیث الرفع تکون نسبته إلی دلیل جزئیة الجزء نسبة الاستثناء من المستثنی منه، باعتبار أنّ مقتضی دلیل جزئیة الجزء هو ثبوت الجزئیة مطلقاً فی حال العلم وفی حال الجهل، دلیل حدیث الرفع یرفع الجزئیة فی حال الجهل ویوجب اختصاص دلیل الجزئیة بحال العلم، بالنتیجة هذا تخصیص وتقیید، فمرجع کلامه إلی القیام بعملیة تخصیص بین الدلیلین، والتقیید بینهما، ولکن من الواضح أنّ تخصیص دلیلٍ بدلیلٍ وتقیید دلیلٍ بدلیلٍ هو إنّما یکون إذا کان بین الدلیلین تنافٍ وتعارض، ولو کان تعارضاً بدویاً، لکن لابدّ أن یکون هناک تنافٍ بین الدلیلین حتی یجمع بینهما بالتخصیص أو بالتقیید. وأمّا إذا فرضنا أنّ هناک دلیلین لا یوجد بینهما تنافٍ أصلاً؛ حینئذٍ لا معنی للتصرّف فی أحدهما لصالح الآخر مع عدم وجود تنافٍ بینهما، لا معنی لتخصیص أحدهما بالآخر مع عدم وجود التنافی بینهما، وفی المقام لا یوجد تنافٍ بین هذین الدلیلین، بین دلیل جزئیة الجزء وبین حدیث الرفع، والسرّ فی ذلک أنّ دلیل جزئیة الجزء یتضمّن حکماً واقعیاً بینما دلیل حدیث الرفع یتضمّن حکماً ظاهریاً ولا تنافی بینهما علی ما تقدّم فی باب الجمع بین الأحکام الواقعیة والأحکام الظاهریة، لا یوجد بینهما تنافٍ أصلاً، الحدیث الذی یرفع الجزئیة فی مرحلة الظاهر لا ینافی الدلیل الذی یثبت الجزئیة واقعاُ، ینافی الدلیل الذی یثبت الجزئیة واقعاُ حتّی فی حال الجهل هو الدلیل الذی ینفی الجزئیة فی حال الجهل واقعاً، إذا کان حدیث الرفع ینفی الجزئیة فی حال الجهل واقعاً یکون منافیاً لدلیل الجزئیة؛ لأنّ ذاک یثبت واقعاً وهذا ینفی واقعاً، بینما حدیث الرفع لا یتکفّل رفع الجزئیة واقعاً، وإنّما یتکفّل رفع الجزئیة ظاهراً، أی فی مرحلة الظاهر، ورفع الجزئیة فی مرحلة الظاهر لا ینافی الدلیل الدال علی ثبوت الجزئیة واقعاً حتی فی حال الجهل، أیّ ضیرٍ فی أن تکون الجزئیة ثابتة واقعاً فی حال الجهل، لکن المکلّف فی مقام الوظیفة العملیة بنی علی عدم ثبوتها ظاهراً والذی مرجعها کما قلنا إلی نفی وجوب الاحتیاط تجاه الجزء المشکوک، هذا لا ینافی ثبوت ذلک الجزء واقعاً، فلا تنافی بین الدلیلین، وبالتالی لا مجال لتخصیص أحدهما بالآخر، أو تقیید أحدهما بالآخر. هذه أول ملاحظة علی ما ذکره المحقق الخراسانی(قدّس سرّه)

ص: 596

الملاحظة الثانیة: وهی ملاحظة فنّیة، أنّ هذا الوجه الذی ذکره لا یظهر منه لماذا عدل عمّا هو المتعارف بینهم من إجراء حدیث الرفع فی وجوب الزائد، عادة یجرون حدیث الرفع فی الجزء المشکوک، صاحب الکفایة عدل عن هذا، ولم یجرِ حدیث الرفع فی الزائد المشکوک، ولم یجرِ حدیث الرفع فی الأکثر المشکوک وجوب، یعنی لم یجرِ حدیث الرفع لنفی وجوب الأکثر، ولا لنفی وجوب الجزء المشکوک، وإنّما أجری حدیث الرفع فی الجزئیة، هذا العدول لا یبرره ما ذکره. یعنی بعبارة أکثر وضوحاً: أنّ ما ذکره کما یتم إذا أجرینا حدیث الرفع فی الجزئیة، کذلک یتم ما ذکره إذا أجرینا حدیث الرفع لنفی وجوب الجزء المشکوک، نفس الکلام یجری، نشک فی وجوب السورة، فنجری حدیث الرفع لنفی الوجوب لا لنفی الجزئیة کما هو اقترح، یأتی الکلام السابق، فیقال: لا مشکلة فی جریان حدیث الرفع لنفی وجوب الجزء المشکوک؛ لأنّ نسبة حدیث الرفع بالنسبة إلی أدلة وجوب الأجزاء نسبة الاستثناء من المستثنی منه، بمعنی أنّ الدلیل الدال علی وجوب السورة هو فی حدّ نفسه یدل علی وجوب السورة مطلقاً فی حال العلم وفی حال الجهل، یأتی حدیث الرفع فیرفع وجوب السورة فی حال الجهل، فیکون موجباً لتخصیص دلیل وجوب السورة بحال العلم لا محالة، فیکون مقیداً ومخصصاً لذلک الدلیل، فیختص الدلیل الدال علی وجوب السورة فی الصلاة بحال العلم ویرتفع هذا الوجوب فی حال الجهل. أیضاً نقول بضم حدیث الرفع الرافع لوجوب الإتیان بالسورة فی الصلاة فی حال الجهل إلی أدلة وجوب الإتیان بالأجزاء الأخری، ضم هذا إلی هذا ینتج وجوب الإتیان بالأجزاء الباقیة. إذن: لماذا هذا العدول ؟ لابدّ أن یکون سبباً وجیهاً لدوله عن إجراء أصالة البراءة فی وجوب الزائد، عن وجوب الجزء المشکوک إلی إجراء أصالة البراءة عن الجزئیة، هذا لا یبرر هذا العدول. هذه ملاحظة فنیة.

ص: 597

الملاحظة الثالثة: أنّ الذی یبدو أنّ سبب عدوله عن إجراء البراءة فی الجزء المشکوک إلی إجراء البراءة فی الجزئیة، قالوا أنّ سبب عدوله أنّ وجوب الإتیان بالأکثر لعلّه یکون معارضاً بالبراءة فی الأقل، یعنی هو لا یجری البراءة فی الأکثر لأنّها معارضة بالبراءة فی الأقل، فعدل عن هذا وأجری البراءة فی موردٍ لیس له معارض وهو الجزئیة، البراءة لنفی جزئیة الجزء المشکوک لیس له معارض؛ فلذا أجری البراءة فی الجزء المشکوک لتلافی إشکال المعارضة فیما لو أجری البراءة لنفی وجوب الأکثر، فیقال أنّه معارض بالبراءة فی الأقل؛ فلذا عدل عنه إلی إجراء البراءة فی الجزئیة. الاعتراض یقول هو لم یصنع شیئاَ؛ لأنّ البراءة فی الجزئیة معارضة أیضاً بالبراءة لنفی کلّیة الأقل. هذا الإشکال ذکره المحقق العراقی، یقول البراءة الجاریة فی الجزئیة معارضة بالبراءة الجاریة لنفی کلیة الأقل؛ لأنّه إذا سلّمنا أنّه یصح إجراء البراءة فی الجزئیة کما هو یقترح باعتبار أنّ جزئیة السورة أمر منتزع من الأمر بالأکثر، فإذا کان یمکن إجراء البراءة فی الجزئیة المنتزعة من الأمر بالکل، إذن: یمکن إجراء البراءة فی کلّیة الأقل المنتزعة من الأمر بالأقل، کون کلّیة الأقل تنتزع من الأمر بالأقل، کما أنّ جزئیة السورة من الصلاة تنتزع من الأمر بالأکثر، کلّیة الأقل وکون هذا هو الکل والمجموع الذی أمر به الشارع، هذا ینتزع من الأمر بالأقل، عندما یأمر الشارع بالأقل، بتسعة أجزاء یُنتزع منه عنوان أنّ هذا الأقل هو المجموع، کلیة الأقل تنتزع من الأمر بالأقل، إذا کان البناء علی إجراء البراءة فی الجزئیة، فهذا یکون معارضاً بالبراءة فی الأقل، لا یقین بکلّیة الأقل، کما لا یقین بجزئیة السورة فی الصلاة المنتزعة من الأمر بالأکثر، کذلک لا یقین بکلیة الأقل، من قال أنّ هذا المجموع المعبّر عنه بالصلاة یتألف من تسعة أجزاء ؟ احتمال أن یکون مؤلفاً من عشرة أجزاء ؟! والتسعة لیست هی الکل، ولیست هی المجموع المأمور به، فکلّیة الأقل مشکوکة وأنا لا أعلم بها، فإذا صار البنا علی إجراء البراءة فی الجزئیة، لاتجهت البراءة فی مقابلة کلّیة الأقل ویقع التعارض بینهما، وبذلک هو لا یسلم مما فر منه من الإشکال؛ لأنّه بناءً علی أنّه إنّما عدل إلی هذا فراراً عن إشکال التعارض، هو وقع فی هذا الإشکال ویکون إجراء البراءة فی الجزئیة معارض بإجراء البراءة فی کلّیة الأقل، ویتعارضان حینئذٍ.

ص: 598

لعلّه لهذه الملاحظات أو غیرها علی هذا التفسیر الذی ذکرناه لکلام صاحب الکفایة ذکر المحقق العراقی تفسیرین آخرین لکلامه وقلنا أنّ الکلام ینصب علی تفسیر الاستثناء الذی ذکره فی کلامه، أنّه ما هو المقصود بالاستثناء ؟ التفسیر الأوّل فسره بما تقدم، المحقق العراقی ذکر تفسیرین آخرین لکلامه وللاستثناء فی کلامه، نقتصر علی ذکر أحد التفسیرین، وهو أنّ المحقق العراق یدّعی أنّه یمکن تفسیر کلامه ومقصوده بدعوی الملازمة العرفیة بین الدلیل الدال علی نفی جزئیة السورة فی حال الجهل وبین وجوب الإتیان بالأقل، الملازمة بینهما هی ملازمة عرفیة ولیست ملازمة حقیقیة ولا ملازمة دقیّة، إذا دلّ دلیل علی أنّ السورة فی حالة ضیق الوقت لیست واجبة فی الصلاة، یُفهم من هذا الدلیل عرفاً الأمر بالباقی، وبهذا یثبت الأمر بالباقی بهذه الملازمة العرفیة.

وبعبارة أخری: أنّ الدلیل الدال علی نفی جزئیة السورة فی حالة الجهل، وإن کان بالنظرة التحلیلیة الدقیقة، هو لیس فیه دلالة علی وجوب الباقی؛ لإمکان أن یکون هذا الدلیل یرفع جزئیة السورة فی حال الجهل، هذا ینسجم مع افتراض ارتفاع الأمر بالکل؛ لأنّ هذا الدلیل یرفع جزئیة السورة، یقول السورة لیست جزءاً، فیسقط الأمر بالکل فی حال الجهل، لکن هذا بالنظر الدقّی التحلیلی، لکن بالنظر العرفی، العرف یفهم أنّ هذا أمرٌ بالباقی، هذه ملازمة عرفیة تُدّعی فی محل الکلام، هذه الملازمة العرفیة، أو هذا التفسیر الثانی لکلام صاحب الکفایة أو علیه المحقق العراقی بأنّ هذا إنّما یتم عندما یکون الدلیل الدال علی نفی الجزئیة دلیل خاص وارد فی هذا الجزء الذی نرید رفعه بأن یأتی دلیل ویدل علی أنّ السورة لیست جزءاً من الصلاة فی حال الجهل؛ حینئذٍ یمکن أن نقول أنّ المفاد العرفی لهذا الدلیل هو الأمر بالباقی بحیث تکون هناک ملازمة عرفیة بین نفی جزئیة السورة للصلاة فی حال الجهل وبین الأمر بالباقی فی حال الجهل، لکنّ الکلام لیس هکذا، فی محل الکلام لیس لدینا دلیل خاص یدل علی رفع جزئیة السورة بعنوانها فی الصلاة فی حال الجهل، لدینا حدیث الرفع، وحدیث الرفع حدیث واسع عام یطبّق علی جزئیة الجزء وحسب تعبیره یقول: عقلاً، یکون جزئیة الجزء مصداقاً له، وإلاّ هو لم یرد فی جزئیة السورة ویرفع جزئیة السورة فی حالة الجهل، مثل هذا الحدیث العام الوارد بعنوان(رُفع ما لا یعلمون) الذی یشمل کثیراً من الموارد له ظهور عرفی وملازمة عرفیه فی الأمر بالباقی.

ص: 599

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

انتهی الکلام إلی التفسیر الثانی لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) احتُمل أن یکون مقصوده دعوی الملازمة بین نفی الجزئیة وبین الأمر بالباقی، نفی الجزئیة فی حال الجهل یلازم الأمر بالباقی، فیثبت الأمر بالباقی بالدلیل الدال علی نفی الجزئیة باعتبار الملازمة العرفیة بین مدلول ذلک الدلیل الذی هو نفی الجزئیة وبین الأمر بالباقی.

اعترضوا علی هذا التفسیر بأنّ هذا إنّما یتم لو کان النافی للجزئیة دلیلاً خاصّاً ینفیه بعنوان الجزئیة، کأن یقول أنّ هذا الواجب الارتباطی وهو الصلاة أنا أرفع جزئیة السورة منه فی حال الجهل، هذا یکون له ظهور عرفی فی الأمر بالباقی؛ لأنّه یتحدث عن مرکب من عشرة أجزاء والدلیل النافی ینفی جزئیة سورة فی حال الجهل، هذا معناه أنّه فی حال الجهل یؤمر بباقی الأجزاء فیکون له هذا الظهور العرفی، لکن فی محل الکلام الأمر لیس هکذا، الدلیل النافی هو حدیث الرفع و حدیث الرفع لم یرد بعنوان الجزئیة، وإنّما ورد بعنوان(ما لا یعلمون) الذی ینطبق علی الجزئیة وغیر الجزئیة من الموارد الکثیرة جداً، مثل هذا الحدیث الذی ورد فیه النفی بعنوان(ما لا یعلمون) لا یکون له ظهور فی الأمر الباقی، یمکن أن یکون الباقی غیر مأمور به والجزئیة مرفوعة، وبالتالی یتحقق رفع الجزئیة برفع الأمر بالکل، فلا یکون الکل مأموراً به لا أنّه یُرفع الجزئیة ویُؤمر بالباقی، لیس له ظهور عرفی فی الأمر بالأقل.

نُقل عن بعض المحققین بعنوان أنّه ذکر تفسیراً آخر غیر التفسیر المعروف لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، وحاصل ما ذکره هو أنّه یرید أن یقول أنّ مقصود صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی کلامه الموجود فی الکفایة لیس هو إثبات الأمر بالأقل بتوسط إجراء حدیث الرفع فی الجزئیة، هو لا یرید أن یثبت الأمر بالأقل بتوسط إجراء حدیث الرفع فی الجزئیة حتی ترد الاعتراضات المتقدّمة، وإنّما هو ینظر إلی شیء آخر، وتمام نظره إلی دفع الإشکال الذی وجهه علی نفسه، هو وجّه علی نفسه هذا الإشکال: أنّ رفع الجزئیة إنّما یکون ویتم برفع منشأ انتزاعها، ومنشأ انتزاع الجزئیة هو الأمر بالأکثر، بعد أن ذکر هذا، وجّه علی نفسه إشکالاً، یقول: إذا قلنا برفع الأمر بالفعل وهو الصلاة مثلاً؛ حینئذٍ لا دلیل علی الأمر بالباقی، کیف نثبت الأمر بالباقی بعد أن نفترض أنّ الأمر بالعمل ارتفع أساساً ؟! لأنّ حدیث الرفع عندما رفع الجزئیة هو یرفع الجزئیة برفع منشأ انتزاعها، ومنشأ انتزاعها هو الأمر بالکل، فإذا ارتفع الأمر بالعمل؛ حینئذٍ ما الدلیل علی الأمر بالباقی حتّی نقول للمکلف بأنّک إذا جئت بالباقی صح منک العمل فی حال الجهل بجزئیة السورة ؟ هذا الإشکال الذی وجهه علی نفسه .

ص: 600

یقول فی عبارته فی مقام الجواب یرید أن یدفع هذا الإشکال: لا ملازمة بین رفع الأمر بالکل وبین عدم وجود الأمر بالأقل، رفع الأمر بالکل لا یعنی عدم الأمر بالأقل، صحیح أنّ رفع الأمر بالکل لازم أعم، بمعنی أنّه یمکن أن یتحقق برفع الأمر بالأقل ویمکن أن یتحقق بالأمر بالأقل، ینسجم مع کلٍ منهما، رفع الأمر بالکل قد یتحقق بالأمر بالأقل؛ لأنّه عندما یؤمر بالأقل یمکن أن یرفع الأمر بالکل، وقد یرفع الأمر بالکل ولا أمر بالأقل؛ لأنّ الأمر یرتفع أساساً بلحاظ کل الأجزاء، هذا الشیء یمنعنا من أن نقول هناک ملازمة بین رفع الأمر بالکل وبین عدم بقاء الأمر بالأقل، یرکز کلامه علی نفی هذه الملازمة، أنّ رفع الأمر بالکل لا یعنی بالضرورة رفع الأمر بالأقل؛ بل یمکن أن یتم ذلک مع افتراض بقاء الأمر بالأقل، وإثبات الأمر بالأقل یکون بشیءٍ آخر، لا یثبت الأمر بالأقل عن طریق إجراء حدیث الرفع فی الجزئیة، هو لا یثبت ذلک حتی تلزم الاعتراضات السابقة، وإنّما یثبت الأمر بالأقل باعتبار العلم التفصیلی بوجوب الأقل، نحن نعلم بأنّ الأقل واجب علی کل حال، ولنعبّر عنه بالعلم الإجمالی کما یعبّر السید الخوئی(قدّس سرّه) حیث یقول أنّ الأمر بالأقل لا یحتاج إلی مثبت، یکفی فی إثباته علمنا الإجمالی بوجوب الأقل، إمّا علی نحو الاستقلال وإمّا علی نحو الضمنیة، المهم أن نرفع جزئیة السورة فی حال الجهل، أمّا الأمر بالأقل فی حال الجهل هذا لا یحتاج إلی إثبات؛ بل یکفی فیه العلم التفصیلی کما ذکر هذا المحقق، أو یکفی فیه العلم الإجمالی بوجوب الأقل علی کل حال، والدلیل دلّ علی أنّ السورة لیست جزءاً من الصلاة فی حال الجهل، والباقی نعلم بوجوبه تفصیلاً، أو إجمالاً، علی کل حال نحن نعلم بوجوب الأقل، فیثبت علی هذا الأساس. (1)

ص: 601


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد سرور الواعظ الحسینی، ج2، ص441.

فإذن: هو یرید أن یقول لیس بصدد إثبات الأمر بالأقل بتوسّط إجراء البراءة عن الجزئیة، وإنّما هو یرید نفی الجزئیة فی حال الجهل وإثبات وجوب الأقل یکون بشیءٍ آخر، یکون باعتبار العلم التفصیلی بوجوب الأقل. هذا تفسیر آخر لکلام صاحب الکفایة (قدّس سرّه). لکن هذا التفسیر الظاهر أنّه لا یختلف عن التفسیر المطروح سابقاً لکلامه، بعبارة أخری: أنّه فی التفسیر الأوّل لکلامه لم نفترض أنّ صاحب الکفایة (قدّس سرّه) یرید إثبات وجوب الأقل والأمر بالأقل عن طریق إجراء حدیث الرفع فی الجزئیة، التفسیر السابق هو أنّ الأمر بالأقل یثبت بمجموع دلیلین: أحدهما حدیث الرفع، والآخر هو أدلّة الأجزاء الباقیة غیر السورة، یثبت بضم أحد هذین الدلیلین إلی الآخر لا أنّه یثبت بإجراء حدیث الرفع عن الجزئیة، فی التفسیر الأوّل لم نذکر ذلک، وإنّما لبّ المطلّب هو أنّ التفسیر الأوّل یقول أنّ مقصود صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هو نفی جزئیة السورة فی حال الجهل بها، إذن: فی حال الجهل بالسورة السورة لیست جزءاً من الصلاة، باقی الأجزاء التسعة کیف یثبت الأمر بها ؟ یقول یتکفّل ذلک أدلّة تلک الأجزاء نفسها؛ لأنّ أدلة تلک الأجزاء فیها إطلاق یشمل هذه الحالة، یشمل حالة الجهل بالسورة، وحدیث الرفع لا یرفع جزئیة تلک الأجزاء فی حالة الجهل بغیرها، وإنّما هو یرفع جزئیة تلک الأجزاء فی حالة الجهل بها نفسها، أمّا إذا لم تکن جاهلاً بجزئیة الرکوع والسجود والتشهد والتکبیر .......الخ، وإنّما هناک جهل بجزئیة السورة، حدیث الرفع یرفع جزئیة السورة للجهل بها فقط ولا یرفع جزئیة سائر الأجزاء الأخری، فإذن: تبقی أدلّة الأجزاء الأخری مطلقة تشمل حتی حالة الجهل بجزئیة السورة، والمکلّف جاهل بجزئیة السورة، أدلة الأجزاء ثابتة وتدل علی وجوب الإتیان بالأجزاء الأخری، یقول: بضم هذا إلی هذا سوف ننتهی إلی نتیجة أنّ هذا المکلّف مأمور بتسعة أجزاء من دون السورة؛ لأنّ السورة لیست جزءاً من الصلاة فی حالة الجهل بها، والمفروض أنّه جاهل بجزئیة السورة، فالسورة لیست جزءاً ویکون مأموراً بسائر الأجزاء الأخری. هذا البیان لکلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لا یعنی أنّه یرید إثبات الأمر بالأقل عن طریق إجراء حدیث الرفع فی جزئیة الجزء، أصلاً هو لیس بهذا الصدد، أصلاً هو یصرّح بأنّ هذا مع هذا یثبت الأمر بالأقل والأمر بالباقی. هذا هو الذی ینبغی أن یُفسّر به کلام صاحب الکفایة (قدّس سرّه). غایة الأمر هذا الذی ذکره قد یکون ناظراً إلی إثبات الأمر بالباقی بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل، أو العلم الإجمالی بوجوب الأقل. صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ناظر إلی أدلّة الأجزاء، أنّ أدلة الأجزاء فیها من الإطلاق ما یشمل حالة الجهل بالسورة، أدلّة جزئیة الرکوع فیه إطلاق یشمل حالة الجهل بالسورة، وأدلّة السجود کذلک، وسائر الأدلّة الأخری، فیتمسّک بهذه الأدلّة لإثبات وجوب تلک الأجزاء، فیجب علیه الإتیان بتلک الأجزاء ولا یجب علیه الإتیان بالسورة؛ لأنّ حدیث الرفع تکفل نفی الجزئیة فی حال الجهل بها.

ص: 602

بناءً علی هذا الکلام؛ حینئذٍ یرد الاعتراض الأوّل المتقدّم، ومصب الاعتراض فی الحقیقة علی دعوی تخصیص دلیل الجزئیة بحدیث الرفع، الأعتراض الأوّل ناظر إلی هذه الجهة، لیس ناظراً إلی کیفیة إثبات الأمر بالأقل، الاعتراض الأوّل یقول أنّ مدلول ومفاد حدیث الرفع حکم ظاهری، بینما مدلول دلیل الجزئیة ومفاده حکم واقعی، کیف یمکن أن یکون دلیل مفاده حکم ظاهری مقیّداً ومخصصّاً لدلیلٍ مفاده حکم واقعی، مع أنّه لا تنافی بینهما ؟ لا تنافی بین الدلیل المثبت للجزئیة کحکم واقعی وبین الدلیل الذی ینفی الجزئیة کحکم ظاهری، باعتبار عدم المنافاة بین الأحکام الواقعیة والأحکام الظاهریة کما ثبت فی محله، فلا تنافی ولا تعارض بینهما حتّی نلتزم بالتقیید أو التخصیص، وبالتالی التقیید والتخصیص فیه مخالفة للدلیل بنحوٍ من أنحاء المخالفة، وهذه إنّما یصار إلیها عندما یکون هناک تنافٍ، ونکون بصدد رفع التنافی، أمّا حیث لا تنافی بینهما، فلیکن ذلک الدلیل یثبت الجزئیة واقعاً وهذا ینفیها ظاهراً، لماذا یکون حدیث الرفع الذی یرفع الجزئیة رفعاً ظاهریاً مخصصاً لذاک الدلیل الواقعی ؟ وموجباً لاختصاصه بحالة العلم بحیث أنّ الجزئیة لا تکون جزءاً من الصلاة إلاّ فی حالة العلم وترتفع جزئیتها فی حالة الجهل ؟ هذا هو الإشکال، الإشکال أنّه کیف یکون حدیث الرفع ومفاده حکم ظاهری مخصصاً ومقیداً للدلیل الواقعی؟ هذا هو الاعتراض الأوّل. هذا الاعتراض لا علاقة له بکیفیة إثبات الأمر بالأقل، لیس ناظراً إلی هذه الجهة، وإنّما هو ناظر إلی جهة کیف یمکن تخصیص الدلیل الواقعی بالدلیل الظاهری الذی یتضمّن حکماً ظاهریاً ؟ ومن هنا یظهر أنّ هذا الاعتراض لا یرتفع بإبراز أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لا یثبت الأمر بالأقل بإجراء حدیث الرفع فی الجزئیة کمّا رکّز علیه هذا المحقق فی کلامه، لا یرتفع هذا الاعتراض، هو یقول نحن نفسّر کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بتفسیر یسلم من الاعتراضات، ما ذکره لا یرفع الاعتراض؛ لأنّ الاعتراض لیس علی کیفیة إثبات الأمر بالأقل، وبمَ یثبت الأمر بالأقل ؟ وما هو الشیء الذی یثبت به الأمر بالأقل ؟ حتی إذا قلنا أنّ الأمر بالأقل یثبت باعتبار العلم التفصیلی بوجوب الأقل، أو العلم الإجمالی بوجوب الأقل یرتفع الاعتراض، الاعتراض الأوّل أصلاً لا علاقة له بهذه الجهة، الاعتراض الأوّل یقول أنّ هذا التخصیص، تخصیص حدیث الرفع لدلیل جزئیة السورة، قلنا أنّ دلیل جزئیة سائر الأجزاء الأخری لا أحد أدعی أنّ حدیث الرفع یقیدها أو یخصّصها، تبقی هی علی إطلاقها لحالة الجهل بجزئیة السورة، تبقی مطلقة وحدیث الرفع لا یخصّصها. نعم، یخصصها إذا کان هناک جهل بها، إذا کان هناک جهل بجزئیة الرکوع یخصّصها حدیث الرفع علی ما هو المدّعی، لکن حیث یکون الجهل بجزئیة السورة فقط تبقی تلک الأدلّة علی حالها، حدیث الرفع لا ینظر إلیها ولا یخصّصها ولا یقیّدها، الاعتراض علی تخصیص حدیث الرفع لدلیل جزئیة السورة حیث فُرِض أنّ السورة یشک فیها المکلّف کما هو المفروض فی أصل المسألة؛ لأنّ الدوران بین الأقل والأکثر، یعنی لدیک جزء أنت تشک فی جزئیته، حیث أنّ هناک جزءاً وهو السورة مثلاً یُشک فی جزئیته حدیث الرفع یخصص دلیل جزئیة ذلک الجزء ویوجب اختصاص دلیل جزئیته بحالة العلم الذی عبّر عنه صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بالاستثناء، بمعنی أنّه یُخرج حالة الجهل من ذاک الدلیل، الاعتراض یقول أنّ هذا غیر معقول؛ لأنّ ذاک الدلیل دلیل واقعی یتکفّل حکماً واقعیاً بینما حدیث الرفع یتکفّل حکماً ظاهریاً، یرفع الجزئیة فی حال الجهل ظاهراً، وهذا کیف یکون مخصصاً لذاک الدلیل الواقعی الذی یقول أنّ الجزئیة ثابتة مطلقاً بحیث یوجب تخصیصها بحالة العلم وإخراج حالة الجهل من ذلک الدلیل الواقعی، حدیث الرفع لیس فیه قابلیة لذلک. وهذا الاعتراض الأوّل یرد علی صاحب الکفایة (قدّس سرّه)، سواء فسّرنا کلامه بالتفسیر السابق، أو فسّرناه بما فسّره هذا المحقق.

ص: 603

وأمّا الاعتراض الآخر الذی ذکرناه؛ لأننا قلنا أنّ الاعتراض الثانی اعتراض هامشی، الاعتراض الآخر هو مسألة المعارضة؛ لأنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یرید أن یجری حدیث الرفع فی جزئیة الجزء المشکوک الجزئیة. الاعتراض یقول أنّ هذا معارض بإجراء البراءة فی کلّیة الأقل، ومقتضی المعارضة أن یتساقطا؛ وحینئذ نصل إلی نتیجة أنّه لا یمکن إجراء أصالة البراءة فی جزئیة الجزء المشکوک الجزئیة؛ لأنّها معارضة بالبراءة فی کلّیة الأقل، هذا الاعتراض ذکره المحقق الأصفهانی (قدّس سرّه) فی حاشیته، (1) وذکر فی مقام تقریبه أنّ جزئیة الجزء مشکوک الجزئیة بینها وبین کلّیة الأقل تعارض وتناف، وهذا واضح؛ لأنّه لا یمکن الالتزام بکلٍ منهما، یعنی لا یمکن الالتزام بکون الجزء المشکوک جزءاً من الصلاة وفی نفس الوقت نلتزم بأنّ الأقل هو الکل؛ لأنّ معنی کلّیة الأقل یعنی أنّ متعلّق الأمر هو الأقل، تمام متعلّق الأمر هو التسعة أجزاء، وهذا ینافی افتراض جزئیة الجزء العاشر؛ لأنّ جزئیة الجزء العاشر تعنی أن الأقل لیس هو تمام المتعلّق، وإنّما هو بعض المتعلّق، فإذن: یوجد تعارض وتنافٍ بین جزئیة الجزء المشکوک وبین کلّیة الأقل، وهذا التنافی والتعارض، الجزئیة والکلّیة لازمان للوجوب النفسی، الجزئیة لازمة لوجوب نفسی، والکلیة لازمة لوجوب نفسی، لنقل بعبارة أخری: منتزع من وجوب نفسی، هذا أیضاً منتزع من وجوب نفسی، وهما فی عرض واحد، جزئیة السورة من الصلاة منتزعة من الوجوب النفسی بالأکثر، کلّیة الأقل منتزعة بالأمر النفسی المتعلّق بالأقل، أی بالتسعة، إذا فرضنا أنّ الأمر النفسی الاستقلالی تعلّق بالأقل؛ فحینئذٍ معناه أنّ الأقل هو تمام متعلّق الوجوب الذی یُعبّر عنه بالکلّیة.

ص: 604


1- نهایة الدرایة فی شرح الکفایة، الشیخ الأصفهانی، ج4، ص320.

إذن: هما أمران متعارضان فی عرضٍ واحد، کلٌ منهما منتزع من الوجوب النفسی وکلٌ منهما مشکوک بإضافة العلم الإجمالی، یعنی هو مشکوک من جهة ومعلوم بالإجمال من جهة، جزئیة الجزء العاشر مشکوکة، أنا اشک بها ولا علم لی بها، لکن أعلم بها إجمالاً، یعنی شک مقرون بالعلم الإجمالی، کما أنّ کلیة الأقل التی تعنی أنّ الأقل هو تمام متعلق الوجوب، هذا أمر مشکوک لا علم لی به وأیضاً هو مقرون بالعلم الإجمالی، هذا معناه أنّ کلّیة الأقل طرف للعلم الإجمالی کما أنّ جزئیة الجزء العاشر طرف للعلم الإجمالی، فکل منهما مشکوک ومقرون بالعلم الإجمالی، بالنتیجة سوف نصل إلی أنّ البراءة إذا جرت فی الجزئیة، فهی تجری أیضاً فی کلّیة الأقل؛ لأنّ کلاً منهما مشکوک، إذا کان هذا الشک بالرغم من کونه مقروناً بالعلم الإجمالی یسمح بإجراء أصالة البراءة لنفی جزئیة الجزء العاشر، إذن، هو یسمح بإجراء أصالة البراءة فی کلّیة الأقل، فیتعارض هذان الأصلان فی الطرفین ویتساقطان، فإجراء أصالة البراءة فی جزئیة الجزء العاشر معارضة بإجرائها فی کلّیة الأقل.

هذا الإشکال وإن ذکره المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه) بهذا البیان، لکنّ الظاهر أنّه هو أجاب عنه، لکن فی موضع آخر، وقال ما استشکلناه فی جریان البراءة فی الجزئیة من أنّها معارضة بالبراءة الجاریة فی کلّیة الأقل، (1) هذا الإشکال نرفع الید عنه ولیس وارداً. وذکر فی کلام له غامض ولیس بذاک الوضوح ما یمکن أنّ یُبین به هو أنّ طرف العلم الإجمالی الذی یوجب توهّم المعارضة هو فی الحقیقة الوجوب النفسی للأقل بحدّه، هذا هو طرف العلم الإجمالی لا أصل الوجوب النفسی وذات الوجوب النفسی، والطرف الآخر هو وجوب الأکثر بحدّه. هذا هو الطرف الآخر للعلم الإجمالی الذی یُعبّر عنه بجزئیة الجزء العاشر الذی ینتهی إلی أنّ المأمور به هو عبارة عن عشرة أجزاء فیما لو کانت السورة جزءاً من الصلاة، هذه الجزئیة تعنی أنّ هناک وجوباً نفسیاً استقلالیاً یتوجّه إلی مجموع العشرة أجزاء. إذن: ما أعلمه هو وجود وجوب نفسی مردد بین أن یکون متعلّقاً بالأقل بحدّه والذی نعبّر عنه بالاستقلالیة واللابشرطیة، وبین أن یکون متعلّقاً بالأکثر بحدّه، أیضاً الاستقلالیة وأنّ مجموع الأجزاء هو عبارة عن عشرة أجزاء، فطرف العلم الإجمالی هو عبارة عن وجوب الأقل بحدّه، یقول: أنّ هذا وجوب الأقل بحدّه لیس له أثر، باعتبار أنّ کلّیة الأقل الذی هو الحد، وکون الأقل هو تمام متعلّق الوجوب لا اثر له؛ لأنّ ذات الأقل مما نعلم بوجوبه سواءً کان هذا الحد موجوداً، او لم یکن هذا الحد موجوداً، ذات الأقل نعلم بوجوبه، ولا إشکال نقطع بأنّ المکلّف یستحق المؤاخذة علی ترک ذات الأقل، سواء کان هذا الحد موجوداً أو غیر موجود، علی کل حال عندما یترک الأقل یستحق العقاب ویستحق المؤاخذة بلا إشکال، وممّا یعلم بوجوبه بلا إشکال علی کل تقدیر، هذا الحد لیس له اثر، الحد هو أنّ هذا تمام المتعلّق، الأقل واجب ونعلم بوجوبه ویستحق المکلّف المؤاخذة علی ترکه، کونه تمام المتعلّق أو لیس تمام المتعلّق لیس له أی اثر فی مقام العمل الخارجی، ومن هنا یختلف کلّیة الأقل عن جزئیة السورة، جزئیة السورة لها أثر عملی، یظهر فی استحقاق المؤاخذة علی ترک السورة، کون السورة جزءاً من الصلاة له أثر عملی وأثره العملی هو استحقاق المؤاخذة والعقاب علی ترک السورة، أمّا هل نستطیع أن نقول أنّ هناک استحقاق مؤاخذة علی ترک کلّیة الأقل، علی ترک کون الأقل هو تمام المتعلق ؟ کلا هذا لیس له أثر، تمام الأثر هو لذات الأقل، وهذا ممّا نعلم بوجوبه، أمّا کونه هو تمام المتعلّق الذی هو معنی الکلیة، هذا ممّا لا أثر له، ومن هنا نستطیع أن نقول أنّ البراءة تجری فی الجزئیة لرفع استحقاق المؤاخذة والعقاب، وللتأمین من ناحیة المؤاخذة علی ترک الجزء، فإذا أجری المکلّف البراة فی الجزئیة یکون فی راحة من ناحیة الجزء؛ لأنّ البراءة أمّنت من ناحیة العقاب علی ترک الجزء ولا تعارض هذه البراءة بإجراء البراءة عن کلّیة الأقل؛ لأنّ هذه البراءة لا یترتب علیها شیء ولا تترتب علیها ثمرة عملیة، أنا أجری البراءة عن کلّیة الأقل، أو عن کون الأقل الذی أعلم بوجوبه علی کل حال، عن کونه تمام المتعلّق، لیس لهذه البراءة أیّ أثر؛ لأنّه إن أُرید بها التأمین من ناحیة المؤاخذة علی ترک الأقل، فهذا غیر معقول؛ لأننا نعلم بترتب المؤاخذة علی ترک الأقل علی کل حال، وإن أرید بها التأمین من ناحیة کونه تمام المتعلق، قلنا أنّ هذا لا یترتب علیه استحقاق العقاب والمؤاخذة حتی تجری البراءة للتأمین من ناحیته. وبناءً علی هذا یقول المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه) الصحیح هو أنّ البراءة الجاریة فی السورة لا تُعارض بالبراءة فی کلیة الأقل، لکن یبقی الاعتراض الأوّل علی حاله. نأنّ

ص: 605


1- نهایة الدرایة فی شرح الکفایة، الشیخ الأصفهانی، ج4، ص325.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

کان البحث السابق کلّه بحث مبنی علی فرضٍ تقدّم عدم قبوله وهو عدم انحلال العلم الإجمالی وعدم جریان البراءة العقلیة، وقد تقدّم أنّ الصحیح هو انحلال العلم الإجمالی وجریان البراءة العقلیة؛ بل فی الحقیقة کما تقدّم لا علم إجمالی من البدایة فی موارد دوران ألأمر بین الأقل والأکثر لا یتشکل علم إجمالی أساساً، وإنّما هناک علم تفصیلی بوجوب الأقل وشک بدوی فی وجوب الزائد، ومن هنا النتیجة هی جواز جریان البراءة العقلیة والشرعیة.

بعد ذلک ننتقل إلی بحث ذُکر فی هذا المقام فی کلماتهم وهو مسألة التمسّک بالاستصحاب فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر، نتمسّک بالاستصحاب إمّا لإثبات الاشتغال ووجوب الإتیان بالأکثر، وإمّا لإثبات البراءة وعدم وجوب الإتیان بالأکثر، کل منهما قد یستدل بالاستصحاب علیه، من یقول بالاشتغال قد یستدل بالاستصحاب، ومن یقول بالبراءة قد یستدل ایضاً بالاستصحاب لکن بتقریبات مختلفة.

أمّا القائل بالاشتغال فقد استدل بالاستصحاب باعتبار أنّ الوجوب المعلوم المردد بین الأقل والأکثر، أو بین الأقل علی نحو الإطلاق من ناحیة الجزء المشکوک، أو الأقل المقید بالجزء المشکوک، هذا الوجوب یتردد فی الحقیقة بین ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع؛ لأنّه علی تقدیر وجوب الأکثر بعد الإتیان بالأقل یکون الوجوب باقیاً حتماً. نعم، علی تقدیر أن یکون الواجب هو الأقل، فالوجوب یکون مقطوع الارتفاع، فالوجوب مردد بین أن یکون مقطوع البقاء وبین أن یکون مقطوع الارتفاع؛ فحینئذٍ یستصحب جامع التکلیف؛ لأنّه یُشک فی سقوط التکلیف المتیقن ثبوته سابقاً وعنده یقین بثبوت التکلیف، هذا التکلیف المردد بین أن یکون متعلّقه الأقل مطلقاً أو الأقل مقیّداً بالجزء العاشر، بعد الإتیان بالأقل یشک فی أنّ هذا التکلیف الذی اشتغلت به الذمّة جزماً هل سقط، أو لم یسقط ؟ فإن کان الواجب هو الأقل سقط، وإن کان الواجب هو الأکثر بعدُ لم یسقط؛ فحینئذٍ یُستصحب جامع التکلیف المتیقن ثبوته قبل الإتیان بالأکثر، المکلّف عنده یقین بثبوت جامع التکلیف، هذا التکلیف صحیح مردد بین التکلیف بالأکثر أو التکلیف بالأقل، لکن جامعه متیقن واشتغلت به الذمّة جزماً وبعد الإتیان بالأقل هو لا یقطع بأنّه قد امتثل هذا التکلیف؛ فحینئذٍ یستصحب جامع التکلیف، وهذا الاستصحاب یجری بناءً علی ما یُذکر فی باب الاستصحاب من أنّ الاستصحاب فی القسم الثانی من أقسام استصحاب الکلّی یجری، وهذا من القسم الثانی من أقسام استصحاب الکلّی، أن یکون علی یقین من ثبوت الکلّی، لکنّه مردد بین فردین أحدهما یقطع بارتفاعه، والآخر یقطع ببقائه، علی تقدیر أن یکون هذا الفرد هو المعلوم فهو باقٍ قطعاً، وعلی تقدیر أن یکون هذا هو المعلوم فهو مرتفع قطعاً وفی مثله قالوا لا مانع من جریان استصحاب الکلی، یستصحب کلّی الحدث، فیما لو تردد أمره بین الحدث الأصغر المرتفع قطعاً بعد الوضوء، أو الحدث الأکبر الباقی قطعاً بعد الوضوء؛ وحینئذٍ بالنسبة إلی الأفراد لا یمکن إجراء الاستصحاب فیها؛ لأنّ الحدث الأصغر مرتفع قطعاً لا یجری فیه الاستصحاب، الحدث الأکبر لا یقین بحدوثه، فلا یجری الاستصحاب فی الأفراد، لکن لا مانع من جریان الاستصحاب فی الجامع لتوفّر أرکان الاستصحاب فیه من الیقین السابق والشک اللاحق بعد الوضوء فی هذا المثال وبعد الإتیان بالأقل فی محل الکلام، بعد الإتیان بالأقل یقول أنا علی یقین من ثبوت التکلیف الجامع واشتغال الذمّة به وأشک فی سقوط التکلیف بعد الإتیان بالأقل، فیستصحب کلّی التکلیف فی محل الکلام. وبعد إجراء استصحاب الکلی؛ حینئذٍ یثبت وجوب الإتیان بالأکثر؛ من باب حکم العقل لا من باب أنّ استصحاب الکلی أثبت وجوب الإتیان بالأکثر حتّی یُعترض ویقال أن هذا یتوقف علی القول بالأصل المثبت، أنّ استصحاب کلی التکلیف بعد الإتیان بالأقل، لازمه أنّ الوجوب متعلّق بالأکثر، وإلاّ لو کان الوجوب متعلّق بالأقل لسقط بالإتیان بالأقل، فبقاء کلّی التکلیف بعد الإتیان بالأقل لازمه أنّ التکلیف متعلّق بالأکثر، فیتوقف علی الأصل المثبت. تقریب هذا الاستصحاب فی محل الکلام یقول نحن لا نرید أن نثبت باستصحاب بقاء الکلی وجوب الإتیان بالأکثر، وإلاّ یلزم المثبتیة، وإنّما نحن نرید أن نثبت فقط أنّ التکلیف باقٍ، بالاستصحاب لا نثبت إلاّ مؤداه ولا ننتقل إلی لازم مؤداه، وإنّما مؤداه بقاء جامع التکلیف، هذا نثبته فقط، وجوب الإتیان بالأکثر نثبته بحکم العقل، العقل یحکم حینئذٍ بأنّه یجب علیک تحصیل فراغ الذمّة ممّا اشتغلت به وهذا لا یکون إلاّ عن طریق الإتیان بالأکثر. هذا هو تقریب التمسّک بالاستصحاب فی محل الکلام لإثبات الاشتغال ووجوب الإتیان بالأکثر.

ص: 606

أجیب عن هذا التقریب بوجوه:

الوجه الأوّل: هو أن یقال أن الاستصحاب لا یجری فی موارد الشک فی الاشتغال؛ لأنّه ما هو الغرض من إجراء الاستصحاب فی المقام، إن کان المقصود بذلک إثبات وجوب الأکثر، فهذا أصل مثبت، وأمّا إذا کان المقصود إثبات اشتغال الذمّة ولزوم تفریغها یقیناً، فالجواب یقول لا داعی لتکلّف إجراء الاستصحاب لإثباته؛ لأنّ هذا ثابت بالوجدان فی موارد الشک فی الاشتغال؛ فحینئذٍ لا مجال للتعبّد به بالاستصحاب، لا مجال لأن نجری الاستصحاب ونتعبّد بالاشتغال ووجوب الاحتیاط، بینما الاشتغال ووجوب الاحتیاط ثابت بالوجدان فی موارد الشک فی الاشتغال، وقد تقدّم عن الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) أنّ هذا من أسوأ أنحاء التعبّد بالاستصحاب، أنّ ما یکون ثابتاً بالوجدان نثبته تعبّداً، هذا بلا معنی.

أجابوا عن هذا الاعتراض بأنّ هذا کلام متین وصحیح جدّاً فی موارد دوران الأمر بین المتباینین، وغیر تام ولیس صحیحاً فی محل الکلام، یعنی فی موارد دوران الأمر بین الأقل والأکثر. أمّا أنّه تام فی موارد دوران الأمر بین المتباینین، فواضح کما لو فرضنا أنّه علم إجمالاً بوجوب أحد الأمرین، إمّا الظهر، أو الجمعة، ثمّ صلّی الجمعة، بعد الإتیان بأحد الطرفین، فی هذا المثال لا إشکال فی أنّه یشک فی سقوط التکلیف عنه؛ لأنّه إن کان التکلیف واقعاً هو الجمعة، فقد سقط عنه بالإتیان بالجمعة، أمّا إذا کان التکلیف واقعاً هو صلاة الظهر، فهو لم یسقط عنه. إذن: هو یشک فی سقوط التکلیف عنه بعد الإتیان بصلاة الجمعة، فیستصحب جامع التکلیف المتیقن قبل الإتیان بصلاة الجمعة المردد بین الجمعة والظهر، هذا هو علی یقین منه وهو الآن یشک فی سقوطه، فیستصحب بقاء جامع التکلیف بعد الإتیان بصلاة الجمعة، فهنا یتم الاعتراض المتقدّم علی من یستصحب جامع التکلیف المتقدّم، بأن یقال له: أنت باستصحاب جامع التکلیف ماذا ترید ؟ نستصحب بقاء جامع التکلیف بعد الإتیان بصلاة الجمعة، هل ترید إثبات وجوب صلاة الظهر؟ فهذا أصل مثبت، وأمّا إذا کان المقصود إثبات الاشتغال وإثبات وجوب الاحتیاط، فهذا ثابت بلا حاجة إلی الاستصحاب، بنفس العلم الإجمالی الموجود بحسب الفرض الدائر بین المتباینین والشک فی امتثاله، هو یشک فی امتثال التکلیف المعلوم بالإجمال بعد الإتیان بصلاة الجمعة، هذا وحده کافٍ فی أن یحکم العقل بوجوب الاحتیاط، یحکم العقل بأنّ هذا الاشتغال الیقینی الذی کان موجودا عندک سابقاً یستدعی الفراغ الیقینی الذی هو معنی وجوب الاحتیاط، هذا ثابت بالوجدان، هذا ثابت بمجرّد أن یکون هناک اشتغال یقینی وشک فی فراغ الذمّة ممّا اشتغلت به یقیناً، فنستصحب هنا بقاء کلّی التکلیف لغرض إثبات هذا تعبّداً عن طریق الاستصحاب، بینما هو ثابت بالوجدان ولا داعی لإثباته عن طریق التعبّد الاستصحابی؛ حینئذٍ یکون هذا الإشکال وارداً.

ص: 607

وأمّا فی محل الکلام، الطرف المقابل المستدل بهذا الدلیل یرید أن یقول فی محل الکلام نحن نرید أن نثبت الاشتغال ووجوب الاحتیاط بعد الإتیان بالأقل باستصحاب بقاء التکلیف الجامع المتیقن قبل الإتیان بالأقل، الجواب الأوّل یقول له، ما هو غرضک من هذا الاستصحاب ؟ هل غرضک إثبات وجوب الأکثر، فهذا أصل مثبت، أو کان غرضک إثبات الاشتغال وإثبات وجوب الاحتیاط، فالجواب الأوّل یقول له إنّ هذا ثابت بالوجدان. وفی مقام الرد علی هذا الجواب یقول: کلا هذا لیس ثابتاً بالوجدان؛ لأنّه لیس لدینا علم إجمالی، الفرق بین دوران الأمر بین المتباینین الذی یتم فیه هذا الجواب وبین محل الکلام الذی هو دوران الأمر بین الأقل والأکثر هو أنّ هناک یوجد ما یکون منجّزاً للتکلیف وهو العلم الإجمالی، هناک علم إجمالی بوجود أحد الأمرین إمّا صلاة الظهر وإمّا صلاة الجمعة، فإذا جاء بصلاة الظهر یبقی العقل یطالب هذا المکلّف بتحصیل الیقین بفراغ الذمّة، وهو لا یکون إلاّ عن طریق الإتیان بصلاة الظهر، فهناک من یحکم بالاشتغال وجداناً، هناک من یحکم بوجوب الاحتیاط وجداناً، علم إجمالی والعقل یقول لابدّ من امتثال هذا التکلیف المعلوم، غایة الأمر لیس علماً تفصیلیاً وإنّما علم إجمالی، من هذه الناحیة لا فرق بینهما، بالنتیجة هذا تکلیف دخل فی العهدة واشتغلت به الذمّة، فیجب تحصیل الفراغ الیقینی منه، الاکتفاء بصلاة الجمعة لیس فراغاً یقیناً من ذلک، فإذن: الاشتغال ثابت بالوجدان ووجوب الاحتیاط هناک ثابت بالوجدان؛ لأنّ هناک علم إجمالی، بینما فی محل الکلام لیس لدینا علم إجمالی، وإنّما لدینا صورة علم إجمالی دائر بین الأقل والأکثر، مثل هذا العلم الإجمالی فی الحقیقة هو لا ینجّز إلاّ الأقل الذی بحسب الفرض المکلّف جاء به، هذا الشخص الذی یرید أن یثبت الاشتغال بعد الإتیان بالأقل یحتاج إلی الاستصحاب إذا تمّ وقطعنا النظر عن الأجوبة الآتیة، یحتاج إلی إثباته بالاستصحاب؛ لأنّه لا مثبت للاشتغال ولا مثبت لوجوب الاحتیاط بعد الإتیان بالأقل إلاّ الاستصحاب، فلا یکون إجراء الاستصحاب حینئذٍ من باب تحصیل الحاصل؛ لأنّه لا یوجد ما ینجز وجوب الاحتیاط ووجوب الإتیان بالأکثر بعد الإتیان بالأقل إلاّ الاستصحاب؛ لأنّه لدینا دوران الأمر بین الأقل والأکثر وهذا لا ینجّز إلاّ الأقل؛ فحینئذٍ إثبات التنجیز بالنسبة إلی الأکثر بعد الإتیان بالأقل، وإثبات وجوب الاحتیاط بعد الإتیان بالأقل ینحصر أن یکون ذلک عن طریق الاستصحاب، یعنی یقول أنّ الذمّة لو کانت مشغولة بالتکلیف، بعد الإتیان بالأقل أشک فی سقوط هذا التکلیف، فاستصحب بقاء کلّی التکلیف _______________ لأنّه یدخل فی باب استصحاب الکلّی من القسم الثانی __________ بعد الإتیان بالأقل لغرض إثبات وجوب الاحتیاط؛ حینئذٍ هذا لا یُعترض علیه بأنّه من باب تحصیل الحاصل وأنّ وجوب الاحتیاط والاشتغال ثابت بالوجدان، فلا معنی لأثباته بالتعبّد الاستصحابی. إلی هنا لا یرد هذا الجواب، وإنّما یرد علی من یتمسّک باستصحاب الاشتغال فی موارد دوران الأمر بین المتباینین، هناک یصح هذا الکلام لوجود علم إجمالی ینجّز کلا الطرفین، بینما فی محل الکلام لا یوجد علم إجمالی. إذن: ما الذی ینجّز وجوب الاحتیاط بعد الإتیان بالأقل ؟ ما الذی ینجّز الاشتغال بعد الإتیان بالأقل ؟ هو الاستصحاب؛ فلذا لا یکون هذا الحواب وارداً علی التقریب السابق.

ص: 608

الجواب الثانی: أن یقال ماذا یثبت لنا هذا الاستصحاب ؟ من الواضح أنّه لا یثبت أکثر من بقاء جامع التکلیف، عندما أجری الاستصحاب فأنا استصحب جامع التکلیف، أنا علی یقین من جامع التکلیف قبل الإتیان بالأقل، وبعد الإتیان بالأقل أشکّ فی سقوطه، فاستصحب بقاء جامع التکلیف، یعنی استصحب التکلیف المردد بین أن یکون متعلّقه هو الأقل مطلقاً، أو الأقل مقیداً بالجزء العاشر، ما یثبت بالاستصحاب هو هذا ولیس أکثر. هذا الذی یثبت بالاستصحاب هو علم تعبّدی، وهو لیس أحسن حالاً من العلم الوجدانی بالتکلیف المردد بین أن یکون متعلّقه هو الأقل مطلقاً، أو الأقل مقیداً بالجزء العاشر، نحن قد فرغنا سابقاً عن أنّ العلم الإجمالی الذی هو علم وجدانی، لا ینفع لإثبات وجوب الاحتیاط، یعنی لا ینفع لإثبات وجوب الإتیان بالأکثر؛ لأننّا قلنا أنّ هذا العلم منحل ولا أثر له فی إثبات وجوب الأکثر ولا ینجّز إلا الأقل، فلو أردنا الاستغناء عن العلم الوجدانی، وأن نثبت هذا بعد الإتیان بالأقل تعبداً عن طریق إجراء الاستصحاب؛ حینئذٍ سوف یثبت شیء لا یزید عن العلم الوجدانی بالتکلیف المردد بین الأقل والأکثر، ولا یثبت لنا شیئاً أزید من هذا، ونحن عندما کان هناک علم وجدانی مردد بین الأقل والأکثر، قلنا أنّ هذا لا ینجز شیئاً بالنسبة إلی الأکثر، لا ینجّز إلاّ الأقل فقط، ویعجز عن تنجیز ما هو أزید من الأقل؛ بل البراءة العقلیة والبراءة الشرعیة تجری فی الزائد المشکوک، فما فائدة إثبات هذا التکلیف الجامع المردد تعبّداً عن طریق الاستصحاب ؟ لا فائدة فیه إطلاقاً.

وبعبارةٍ أخری: بعد إجراء الاستصحاب بعد الإتیان بالأقل، الاستصحاب یثبت بقاء الجامع تعبّداً، هذا ینجّز ماذا ؟ لا معنی لأن ینجز الأقل؛ لأنّه قد جاء بالأقل بحسب الفرض، فلا معنی لأن یکون الاستصحاب وبقاء الجامع تعبّداً ینجز الأقل؛ لأنّ المفروض أنّه قد أتی به، ولیس من المعقول أن ینجّز شیئاً آخر غیر الأقل؛ لأنّ العلم الوجدانی بهذا التکلیف الجامع لم ینجز شیئا آخر أزید من الأقل، فکیف بالعلم التعبّدی ببقاء هذا الجامع. هذا هو الجواب الثانی عن الاستدلال بالاستصحاب فی محل الکلام. وهو جواب تام.

ص: 609

الجواب الثالث: ذکره السید الخوئی(قدس سرّه) فی (مصباح الأصول) (1) وما ذکره هو أنّ استصحاب جامع التکلیف معارَض باستصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف بالأکثر، لکن یقول:(لو لم نقل بکونه محکوماً)، یعنی هو معارض به إذا لم نترّق ونقول أنّ استصحاب جامع التکلیف محکوم لاستصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف بالأکثر؛ وحینئذٍ لا یجری استصحاب جامع التکلیف، إمّا للمعارضة، أو لوجود أصلٍ حاکم علیه، وعلی کلا التقدیرین لا یجری، وهذا هو الجواب عن التقریب، لا یجری هذا الاستصحاب إمّا لوجود معارض له یمنع من جریانه، أو لوجود أصل حاکم علیه، أیضاً یمنع من جریانه. المعارضة یمکن تصویرها بأن یقال: هناک تنافٍ محسوس بین بقاء جامع التکلیف بعد الإتیان بالأقل وبین عدم تعلّق التکلیف بالأکثر. إذا کان جامع التکلیف باقیاً بعد الإتیان بالأقل، فهذا معناه أنّ التکلیف متعلّق بالأکثر؛ لأنّه لو کان متعلّقاً بالأقل لما بقی جامع التکلیف بعد الإتیان بالأقل، فبقاء جامع التکلیف بعد الإتیان بالأقل یتنافی مع افتراض عدم تعلّق التکلیف بالأکثر، إذا کان الجامع باقیاً بعد الإتیان بالأقل، فلابد أن یتعلّق بالأکثر، إذا لم یکن التکلیف متعلّقاً بالأکثر، فلابدّ أن لا یبقی الجامع بعد الإتیان بالأقل، فیوجد بیننهما تنافٍ؛ فحینئذٍ تکون هناک معارضة بین الأصل الذی یثبت بقاء جامع التکلیف بعد الإتیان بالأقل وبین الأصل الذی ینفی تعلّق التکلیف بالأکثر، فتقع المعارضة بین استصحاب بقاء جامع التکلیف بعد الإتیان بالأقل، وبین استصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف للأکثر، وهذان الاستصحابان یتعارضان ویتساقطان، وبالتالی لا یمکن أن نستدل فی محل الکلام باستصحاب بقاء جامع التکلیف لوجود المعارض له .

ص: 610


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد سرور الحسینی، ج2، ص444.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

انتهی الکلام إلی الجواب الثالث وهو للسید الخوئی(قدّس سرّه) ذکر أنّ استصحاب جامع التکلیف بعد الإتیان بالأقل مُعارَض باستصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف بالأکثر؛ بل یقول: لو لم نقل بکونه محکوماً له، أی لو لم نقل بأنّ استصحاب جامع التکلیف محکوم لاستصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف بالأکثر، وعلی کلا التقدیرین لا یجری استصحاب جامع التکلیف کما هو المدّعی فی المقام لمن یرید إثبات الاشتغال ووجوب الإتیان بالأکثر. یقول: استصحاب جامع التکلیف ساقط، إمّا بالحکومة أو بالمعارضة، وعلی کلا التقدیرین لا یصح الاستدلال به لإثبات الاشتغال بعد الإتیان بالأقل. المعارضة بیّنا الوجه فیها؛ إذ من الواضح أنّ هناک تنافیاً بین بقاء جامع التکلیف وبین عدم تعلّق التکلیف بالأکثر، هذان أمران لا یجتمعان. نعم، قد یُستشکل فی مسألة الحکومة، باعتبار أنّ الحکومة هنا غیر متصورة؛ لأنّ الحکومة إنّما تتصور عندما نفترض أن یکون الجامع مترتباً علی الفرد نفیاً وإثباتاً ترتبا شرعیاً؛ حینئذٍ تکون الحکومة متصورة، فإذا أثبتنا الفرد یترتب علیه الجامع، وإذا نفینا الفرد یترتّب علیه نفی الجامع، لکن هذا الترتب لکی یجری الاستصحاب لابدّ أن یکون ترتباً شرعیاً، وفی المقام لا یوجد ترتب شرعی بین الجامع وبین الفرد إثباتاً ونفیاً، وإنّما الترتب عقلی محض، فی محل الکلام بعد الإتیان بالأکثر استصحاب عدم تعلّق الجعل بالأکثر هذا استصحاب فی الفرد، الجامع له فردان، تعلّق الجعل بالأکثر وتعلّق الجعل بالأقل، نحن باستصحاب عدم تعلّق الجعل بالأکثر نرید أن ننفی الجامع، وهذا معنی الحکومة، بمعنی أن استصحاب عدم تعلّق الجعل بالأکثر یکون رافعاً لموضوع استصحاب بقاء الجامع، موضوع استصحاب الجامع هو الشک فی بقاء الجامع، المکلّف بعد الإتیان بالأقل یشک فی بقاء الجامع وارتفاعه، هذا الشک الذی هو موضوع استصحاب بقاء الجامع یرتفع تعبّداً باستصحاب عدم تعلّق الجعل بالأکثر، وهذا الارتفاع التعبّدی یکون عندما یکون هناک ترتب للجامع علی الفرد إثباتا ونفیاً؛ فحینئذٍ إذا کان هناک ترتب شرعی، فالتعبّد بالفرد هو تعبد بالجامع، والتعبّد بنفی الفرد هو تعبد بنفی الجامع، فعندما یتعبد بالفرد فکأنه تعبد بنفی الجامع، فینتفی الشکّ تعبداً الذی هو موضوع استصحاب بقاء الجامع، فالحکومة تتوقف علی افتراض أن یکون ترتب الجامع علی الفرد نفیاً وإثباتاً ترتباً شرعیاً حتی تجری فیه الحکومة ویثبت التعبّد ویکون الاستصحاب الثانی رافعاً للشک الذی هو موضوع استصحاب بقاء الجامع، وهذا غیر تام؛ لأنّه وإن کان هناک ترتب، لکنّه ترتب عقلی؛ لأنّه له فردان إما هذا أو هذا، فإذا جاء بأحد الفردین، بقاء الجامع بعد ذلک یکون مرهوناً بوجود الفرد الثانی، فإذا نفینا الفرد الثانی بعد الإتیان بالأوّل؛ حینئذٍ یرتفع الجامع، فالترتب موجود، لکنّه عقلی محض ولیس ترتباً شرعیاً؛ ولذا لا تکون الحکومة متصورة فی محل الکلام، لکن السید الخوئی(قدّس سرّه)عندما ذکر هذا ذکر الحکومة کاحتمال، قال(لو لم نقل بکونه محکوماً) وإلاّ هو ذکر المعارضة أولاً، أن استصحاب بقاء الجامع معارَض باستصحاب عدم تعلّق الجعل بالأکثر؛ فحینئذٍ الاستصحاب المستدل به فی المقام حتّی لو فرضنا أنّه لا یسقط علی أساس الحکومة، لکنّه یسقط علی أساس المعارضة.

ص: 611

نعم، قد یقال: فی محل الکلام لماذا لا نجوّز الرجوع إلی استصحاب بقاء الجامع من دون أن یکون معارَضاً باستصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف بالأکثر، وذلک بدعوی أنّ هذا الاستصحاب المعارِض مبتلی هو بالمعارضة، باعتبار أن استصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف بالأکثر معارَض استصحاب عدم تعلّق الجعل بالأقل، فکل منهما لا نعلم به، الأقل بحدّه، الأقل لا بشرط، الأقل علی نحو الإطلاق لا نعلمه، فکما لا علم لنا بتعلّق التکلیف بالأکثر لا علم لنا أیضاً بتعلّق التکلیف بالأقل، فکما أنّ ذاک مشکوک_ هذا أیضاً مشکوک، وکل منهما مسبوق بالعدم، فاستصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف بالأکثر یُعارض باستصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف بالأقل، فیتعارضان ویتساقطان فنرجع إلی استصحاب بقاء الجامع، هذا المعارض الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) له معارض، ومعارضه هو استصحاب عدم تعلّق جعل التکلیف بالأقل؛ لأننا لا یقین لنا بتعلّق جعل التکلیف بالأقل بحدّه، هو أمر مشکوک، کما أنّ تعلّق جعل التکلیف بالأکثر بحدّه مشکوک، کذلک تعلّق جعل التکلیف بالأقل بحدّه مشکوک، فیتعارض الاستصحابان ویتساقطان، فیسلم استصحاب بقاء الجامع عن المعارض ولا یتم کلام السید الخوئی(قدّس سرّه).

هذا الإشکال فی الحقیقة غیر وارد؛ بل لعلّه خلاف المفروض فی محل الکلام، المفروض فی محل الکلام أنّ استصحاب عدم تعلّق التکلیف بالأقل لا یجری فی الأقل، باعتبار أننا فرغنا عن أنّ وجوب الأقل متیقن وأنّ حدود هذا الوجوب، الاستقلالیة والضمنیة والشرطیة واللا بشرطیة والبشرط شیئیة.... قلنا أنّها لا تدخل فی العهدة ولا تشتغل بها الذمّة، بحدود ما تشتغل به الذمة الأقل یکون معلوم الوجوب، فلا مجال لاستصحاب عدم تعلّق التکلیف به، هو قطعاً تعلّق التکلیف به، إذا أدخلت الحدود فی البین، نقول أنّ إدخالها غیر صحیح؛ لأنّها لا تدخل فی العهدة ولا تشتغل بها الذمّة، فی حدود ما تشتغل به الذمة الأمر دائر بین الأقل والأکثر لا بین المتباینین، وهذا معناه أنّه لا علم إجمالی فی الحقیقة، وإنّما هناک علم تفصیلی بوجوب الأقل ودخول الأقل فی العهدة واشتغال الذمّة به وشک فی اشتغال الذمّة بما زاد علیه. فإذن: لا یمکن إجراء استصحاب عدم تعلّق التکلیف بالأقل حتی یعارض استصحاب عدم تعلّق التکلیف بالزائد، ویتساقطان ویرجع إلی استصحاب بقاء الجامع. ومن هنا یظهر أنّ الظاهر أنّ ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) من هذا الجواب یکون تامّاً، لکن بلحاظ المعارضة لا بلحاظ الحکومة. ومن هنا یظهر أنّ الاستدلال بالاستصحاب لإثبات الاشتغال وإثبات وجوب الإتیان بالأکثر استدلال مردود بالجواب الثانی والجواب الثالث.

ص: 612

ثمّ أنّه قبل أن ننتقل إلی الاستدلال بالاستصحاب علی البراءة، نذکر أنّه قد یُستدل علی الاشتغال باستصحابٍ آخر غیر الاستصحاب المتقدّم، یُستبدل الاستصحاب السابق الذی هو استصحاب حکمی، استصحاب بقاء جامع التکلیف، یُستبدل باستصحاب موضوعی یثبت نفس النتیجة وهی الاشتغال ووجوب الإتیان بالأکثر، وهذا الاستصحاب الموضوعی فی المقام هو عبارة عن استصحاب عدم الإتیان بالواجب المردد بین الأقل والأکثر؛ لأنّ المکلّف لا محالة یشک بعد الإتیان بالأقل فی أنّه هل جاء بالواجب الذی علم به إجمالاً المردد بین الأقل والأکثر، أو لم یأت به؟ إذا کان الواجب فی الواقع هو الأکثر، هو لم یأتِ بالواجب. نعم، إذا کان الواجب هو الأقل یکون قد جاء به، فإذن: هو بعد الإتیان بالأقل یشک فی أنّه جاء بالواجب المعلوم إجمالاً المتیقن سابقاً المردد بین الفردین، أو لم یأتِ بهذا الواجب ؟ فیستصحب عدم الإتیان بهذا الواجب، فیثبت تعبّداً أنّه لم یأتِ بالواجب الذی علم به واشتغلت به الذمّة، هنا أیضاً یحکم العقل بلزوم تفریغ الذمّة ممّا اشتغلت به، العقل یحکم بما یُفرغ الذمّة قطعاً، ومن الواضح أنّ هذا لا یکون إلاّ إذا جاء بالأکثر، فیجب الإتیان بالأکثر علی هذا الأساس لا علی أساس استصحاب بقاء جامع التکلیف، هو لم یأتِ بالواجب، الواجب علی إجماله، الواجب المردد الذی کان یعلم به سابقاً علماً إجمالیاً، هذا بعد الإتیان بالأقل هو لا یعلم بأنّه قد جاء به، فیستصحب عدم الإتیان به، بمجرّد أن یثبت عدم الإتیان به تعبّداً بالاستصحاب یحکم العقل بلزوم تحصیل الفراغ الیقینی الذی لا یکون ولا یتحقق إلاّ بالإتیان بالأکثر، فیجب الإتیان بالأکثر. لا مجال للاستشکال فی هذا الاستصحاب، کل أرکان الاستصحاب متوفرة فیه، یقین سابق بعدم الإتیان بالواجب، قبل الإتیان بالأقل هو علی یقین بأنّه لم یأتِ بالواجب المردد، وشکّ لاحق فی الإتیان بالواجب المردد علی إجماله، والمتیقن أیضاً هو نفس المشکوک، ما تیقّنه وهو الواجب المردد بین هذا وهذا، هذا هو الذی یشک فی أنّه جاء به أو لا، المشکوک هو نفس ما تیقّن به سابقاً، فأرکان الاستصحاب متوفرة فیجری الاستصحاب، ویثبت الاشتغال ووجوب الإتیان بالأکثر علی حد ما ثبت الاشتغال فی الطرح الأوّل، هناک أیضاً کنّا نستصحب بقاء جامع التکلیف، لکن قلنا أنّ الذی یحکم بوجوب الإتیان بالأکثر هو العقل لا أن ننتقل من بقاء جامع التکلیف لإثبات وجوب الأکثر، وإلاّ هذا یکون أصلاً مثبتاً، وإنّما نکتفی بمؤدّی الاستصحاب وهو بقاء جامع التکلیف، تعبّداً بقاء جامع التکلیف، العقل یحکم بلزوم الإتیان بالأکثر وتفریغ الذمّة قطعا. نفس هذا الکلام یقال فی هذا الاستصحاب الموضوعی، هذا الاستصحاب مشکلته هی أنّ المتیقن هو عبارة عن العنوان الإجمالی، وهو عنوان(أحد الأمرین) إمّا الأقل أو الأکثر، إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، إمّا صلاة التمام، أو صلاة القصر، المتیقن هو هذا العنوان الإجمالی، والمشکوک هو أیضاً هذا العنوان الإجمالی، لدینا فی باب الاستصحاب شرط لجریان الاستصحاب، وهو أن یکون للمستصحب اثر شرعی، أن یترتب علیه أثر شرعی، یجری الاستصحاب ویُعقل التعبّد به بلحاظ ذلک الأثر الشرعی، یکون الغرض من الاستصحاب هو إثبات الأثر الشرعی تعبداً، وهذا یعنی أنّه لابدّ أن یکون المستصحب ممّا له اثر شرعی، هناک أثر شرعی ترتب علی المستصحب حتی یجری الاستصحاب بلحاظه، أمّا إذا فرضنا أنّ المستصحب لیس له أثر شرعی لا یجری الاستصحاب ولا تشمله أدلة الاستصحاب، هذا الاستصحاب لا یجری؛ لأنّ من شرائط جریان الاستصحاب علی ما یُذکر فی محله هو أن یکون المستصحب له أثر شرعی. فی محل الکلام المستصحب لیس هو الأقل، أو الأکثر، هذه تمثّل أفراداً، وإنّما المستصحب فی محل الکلام هو عبارة عن العنوان الإجمالی، هو عبارة عن عنوان(أحد الأمرین) إمّا الظهر، أو الجمعة، هذا هو المستصحب الذی أنا علی یقین سابق منه وعلی شک لاحق به، هذا لیس له أثر شرعی، عنوان(أحد الأمرین) لیس له أثر شرعی، الآثار الشرعیة تترتب علی الأفراد، تترتب علی صلاة الظهر وعلی صلاة الجمعة، تترتب علی وجوب تسعة أجزاء(الأقل)، أو علی عشرة أجزاء منضمّاً إلیها الجزء العاشر، الآثار الشرعیة تترتب علی الأفراد ولا تترتب علی عنوان( أحد الأمرین)، عنوان أحد الأمرین عنوان انتزاعی لم یقع موضوعاً لحکم شرعی أصلاً. ومن هنا یظهر أنّ إجراء استصحاب عدم الإتیان بالواجب علی إجماله، أنا لا استصحب عدم الإتیان بصلاة الظهر، هذا جید جداً ولیس فیه مشکلة، إذا توفرت أرکان الاستصحاب فیه جید، إذا افترضنا أنّه صلّی صلاة الجمعة یستصحب عدم الإتیان بصلاة الظهر، هذا الاستصحاب یجری ویترتب علیه الأثر؛ لأنّ الأثر یترتب علی صلاة الظهر نفیاً، أو إثباتاً، لکن المدعی فی المقام أنّی استصحب العنوان الإجمالی، استصحب عدم الإتیان بالواجب علی إجماله، بعبارة أکثر وضوحاً استصحب عدم الإتیان بأحد الأمرین، الإتیان بعنوان(أحد الأمرین) لا یترتب علیه أثر شرعی لا نفیاً ولا إثباتاً، ومن هنا یظهر أنّ جریان الاستصحاب فی المقام لیس واضحاً ومحل إشکالٍ، باعتبار أنّ ما تتوفّر فیه أرکان الاستصحاب الذی هو العنوان الإجمالی، عنوان(أحدهما) هذا لیس له أثر شرعی حتّی یجری فیه الاستصحاب، وما له أثر شرعی وثمرة شرعیة تترتب علیه وهو العناوین التفصیلیة، یعنی عنوان صلاة الجمعة، أو عنوان وجوب تسعة أجزاء، أو عنوان وجوب عشرة أجزاء، هذا له أثر شرعی، لکنّه لا تتوفّر فیه أرکان الاستصحاب، أرکان الاستصحاب لا تتوفر فی صلاة الظهر وصلاة الجمعة، لا تتوفر فی الأقل وفی الأکثر، أنا لیس لدی سابقاً یقین من الأقل ولا یقین من الأکثر، لا یوجد عندی یقین بوجوب صلاة الظهر أو بوجوب صلاة الجمعة، فلا یمکن أن نجری الاستصحاب فی الأقل وفی الأکثر باعتبار عدم توفّر أرکان الاستصحاب فی الأفراد وفی العناوین التفصیلیة بحسب الفرض، أنا ابتداءً لدی تردد وإجمال فی أنّ الواجب ما هو ؟ هل هو الأقل، أو الأکثر ؟ من البدایة، هذا هو فرض المسألة، فإذن ماله اثر شرعی یمکن أن یجری الاستصحاب بلحاظه لا تتوفر فیه أرکان الاستصحاب، وما تتوفّر فیه أرکان الاستصحاب الذی هو العنوان الإجمالی أو عنوان(أحد الأمرین) لا أثر شرعی یترتب علیه حتی یجری الاستصحاب بلحاظه. ومن هنا یظهر أنّ استبدال استصحاب بقاء الجامع لإثبات الاشتغال باستصحاب عدم الإتیان بالواجب المردد بین الأقل والأکثر، هذا غیر تام؛ بل کل منهما لا یجری لإثبات الاشتغال فی محل الکلام. وبهذا ننتهی عن الاستدلال بالاستصحاب لإثبات الاشتغال.

ص: 613

الاستدلال بالاستصحاب لإثبات البراءة

الاستدلال بالاستصحاب لإثبات عدم وجوب الإتیان بالأکثر، السید الخوئی(قدّس سرّه) ذکر لهذا الاستدلال تقریبین: (1)

التقریب الأوّل: أن نجری الاستصحاب بالنسبة إلی اللّحاظ، بأن نقول: نحن نشک فی أنّ الجاعل عندما جعل التکلیف هل لاحظ الأکثر أو لم یلاحظ الأکثر، فنجری استصحاب، أو أصالة عدم لحاظ الأکثر عند جعل التکلیف. هذا الاستصحاب إذا تمّ وجری؛ حینئذٍ ینفی وجوب الأکثر فی الحقیقة؛ لأنّ معنی أنّ الشارع عندما جعل التکلیف لم یلاحظ الأکثر، معناها عدم وجود وجوب علی الأکثر، یعنی لم یجعل الوجوب علی الأکثر؛ لأنّ جعل الوجوب علی الأکثر یستلزم لحاظ الأکثر، فإذا نفینا لحاظ الأکثر عند جعل التکلیف، معنی ذلک أنّه لا جعل للوجوب علی الأکثر، وهذا یثبت البراءة.

السید الخوئی(قدّس سرّه) أشکل علی هذا التقریب:

الإشکال الأوّل: عدم اللّحاظ لیس حکماً شرعیاً ولا موضوعاً لحکم شرعی إطلاقاً، ویعتبر فی جریان الاستصحاب أن یکون المستصحب حکماً شرعیاً، أو علی الأقل یکون موضوعاً یترتب علیه حکم شرعی، ولحاظ الأکثر وعدم لحاظه لیس حکماً شرعیاً ولا موضوعاً لحکم شرعی، فلا یجری فیه الاستصحاب.

الإشکال الثانی: أنّ الاستصحاب المذکور معارض باستصحاب عدم لحاظ الأقل، فکما نجری استصحاب عدم لحاظ الأکثر عند جعل التکلیف نجری استصحاب عدم لحاظ الأقل أیضاً عند جعل التکلیف، باعتبار أنّ الأمر یدور واقعاً بحسب الفرض بین لحاظ الأقل لا بشرط تجاه الجزء العاشر وبین لحاظ الأقل بشرط انضمام الجزء العاشر، الأوّل نسمیه (الأقل) والثانی نسمیه(الأکثر)، وکل منهما أمر یشک فیه ومسبوق بالعدم، لحاظ الأکثر، یعنی لحاظ الأقل منضمّاً إلیه الجزء العاشر أمر مشکوک الحدوث لا نعلم به، ومسبوق بالعدم، فیجری فیه استصحاب العدم، کذلک لحاظ الأقل مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر، هذا أیضاً مشکوک الحدوث ومسبوق بالعدم، فیجری فیه استصحاب عدم هذا اللّحاظ المشکوک الحدوث؛ فحینئذٍ یکون هذا الاستصحاب الذی ذُکر معارضاً باستصحاب عدم لحاظ الأقل عند جعل التکلیف، فلا یجری هذا الاستصحاب لأجل المعارضة.

ص: 614


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد سرور الحسینی، ج2، ص444.

ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) بالنسبة للإشکال الأوّل تام، اللحاظ وعدم اللحاظ هی أمور لا یجری فیها الاستصحاب، المستصحب لابدّ أن یکون إما هو بنفسه حکم شرعی أو موضوعاً لحکم شرعی، أو یکون له أثر شرعی ینفع المکلّف فی فراغ الذمّة وعدم فراغها. اللّحاظ وعدم اللّحاظ لیسا هکذا.

أمّا بالنسبة للإشکال الثانی الذی هو من ناحیة فنیة لابدّ أن نفترض أنّه مبنی علی التنزّل عن الإیراد الأوّل، هذا الإشکال الثانی غیر صحیح والمعارضة غیر صحیحة، بمعنی أنّ استصحاب عدم لحاظ الأکثر عند جعل التکلیف لا یعارَض باستصحاب عدم لحاظ الأقل عند جعل التکلیف. هذا الإشکال الثانی لیس صحیحاً؛ لأنّه ما هو المقصود بإجراء استصحاب عدم لحاظ الأقل عند جعل التکلیف ؟ وبعبارةٍ أخری ماذا یترتب علی هذا الاستصحاب ؟ وماذا یُراد إثباته بهذا الاستصحاب ؟ نقول إنّ هذا الاستصحاب لا یجری؛ لأنّه إن أرید به إثبات لحاظ الأکثر عند جعل التکلیف، فهذا أصل مثبت، أنت باستصحاب عدم لحاظ الأقل عند جعل التکلیف ترید إثبات لحاظ الأکثر عند جعل التکلیف، وهذا یکون أصلاً مثبتاً، وأمّا إذا أرید استصحاب عدم لحاظ الأقل عند جعل التکلیف الغرض منه هو التأمین من ناحیة ترک الأقل حتی یکون المکلّف فی أمان وراحة عندما یترک الأقل؛ لأنّ الاستصحاب یثبت له أنّ الشارع لم یلحظ الأقل عندما جعل التکلیف، وهذا قطعاً باطل وغیر صحیح؛ لأنّ فرض ترک الأقل هو فرض المخالفة القطعیة ولا یُعقل التأمین من ناحیة المخالفة القطعیة، وإنّما المعقول هو التأمین من ناحیة احتمال المخالفة والمخالفة الاحتمالیة ولیس المخالفة القطعیة، فإذن: ما هو الغرض من إجراء الاستصحاب ؟ الاستصحاب لا یجری فی الأقل؛ لأنّه لا یترتب علیه ثمرة، لیس هناک شیء یمکن إثباته باستصحاب عدم جعل التکلیف، بخلاف استصحاب عدم لحاظ الأکثر عند جعل التکلیف، هذا استصحاب لو تمّ وتنزلنا عن الملاحظة الأولی هذا یمکن أن یثبت به أنّ الزائد لم یتعلّق به التکلیف، وهذا یکفینا لإثبات التأمین من ناحیة الزائد، أنّه أنت من ناحیة التکلیف الزائد لست مؤاخذاً، الاستصحاب أثبت لک أنّ الشارع لم یلحظ الأکثر عندما جعل التکلیف، فله فائدة ویمکن إثبات شیءٍ به، بخلاف استصحاب عدم لحاظ الأقل عند جعل التکلیف فأنّه لیس کذلک، فالمعارضة لیست صحیحة. نعم اصل الإشکال الأوّل یکون وارداً.

ص: 615

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

کان الکلام فی الاستدلال بالاستصحاب علی البراءة وعدم وجوب الأکثر. قلنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) ذکر له تقریبین، ذکرنا التقریب الأوّل فی الدرس السابق والذی کان عبارة عن استصحاب عدم لحاظ الأکثر حین جعل الوجوب والتکلیف، والمقصود هو وجوب الأکثر. التقریب الثانی، هو استصحاب عدم تعلّق الأمر بالمرکب من هذا الجزء المشکوک الذی هو عبارة أخری عن استصحاب عدم وجوب الأکثر، أو عدم وجوب الزائد، والمقصود هو استصحاب عدم جعل الأکثر فی مقابل الأوّل الذی کان ناظراً إلی اللّحاظ، استصحاب عدم لحاظ الأکثر عند جعل التکلیف، هذا یستصحب عدم نفس التکلیف، باعتبار أنّ جعل التکلیف أمر حادث مسبوق بالعدم، فإذا شککنا فی حدوثه نستصحب عدمه، أی نستصحب عدم جعل وجوب الأکثر، أو عدم جعل وجوب الزائد.

السید الخوئی(قدّس سرّه) أورد علیه بأنّ هذا الاستصحاب معارَض بمثله، نظیر ما تقدّم فی التقریب الأوّل، باعتبار أنّ المتیقن هو تعلّق الأمر بالأقل، لکنّ أمره دائر بین الإطلاق وبین التقیید، بین الأقل مطلقاً من حیث الجزء العاشر، وبین الأقل المقید بالجزء العاشر، فالأقل نتیقن بتعلّق التکلیف به، لکنّ أمره دائر بین التقیید والإطلاق؛ حینئذٍ یأتی الحدیث السابق من أنّه کما أنّ التکلیف بالأقل علی نحو التقیید أمر مشکوک الحدوث ومسبوق بالعدم، کذلک الأمر بالأقل علی نحو الإطلاق أیضاً مشکوک الحدوث ومسبوق بالعدم، فإذا شککنا فیه یمکن أن نجری استصحاب عدم تعلّق التکلیف بالأقل واستصحاب عدم جعل التکلیف بالأقل علی نحو التقیید کما یمکن أن نجری استصحاب عدم جعل التکلیف بالأقل علی نحو الإطلاق؛ لأنّ جعل التکلیف علی نحو التقیید وجعل التکلیف بالأقل علی نحو الإطلاق کلٌ منهما أمر حادث مسبوق بالعدم، وحیث أننا نعلم بتحقق أحدهما، هذا یحقق حالة التعارض بین الاستصحابین؛ لأنّ إجراء الاستصحابین معاً فیهما هو خلاف العلم الإجمالی الذی نعلم بتحقق أحدهما قطعاً، فلا یجوز لنا أن ننفی کلاً منهما باستصحاب العدم، کما أنّ إجراء الاستصحاب فی أحدهما دون الآخر ترجیح بلا مرجح، وهذا یوجب تعارض الاستصحابین. إذن: استصحاب عدم جعل التکلیف بالأکثر معارض باستصحاب عدم جعل التکلیف بالأقل، فیتعارض الاستصحابان ویتساقطان، فلا یصح الاستدلال بالاستصحاب الأول علی البراءة فی محل الکلام.

ص: 616

أورد علی نفسه اعتراضاً وأجاب عنه، وحاصل هذا الاعتراض: ما هو الفرق بین محل الکلام وبین ما تقدّم منه ؟ حیث أنّه ذکر أنّ البراءة عن وجوب الأکثر لا تعارَض بالبراءة عن وجوب الأقل؛ بل تجری البراءة عن وجوب الأکثر ویُحکم بانحلال العلم الإجمالی حکماً؛ لأنّ الأصل نفی أحد الطرفین بلا معارض، فالبراءة لنفی وجوب الأکثر تجری ولیست معارضة للبراءة فی الأقل، وعلی هذا الأساس حکم بانحلال العلم الإجمالی حکماً. الاعتراض الذی أورده علی نفسه یقول: ما هو الفرق بین محل الکلام وبین ما ذکرته هناک ؟ إذا کانت البراءة الجاریة فی الأکثر لا تعارض بالبراءة الجاریة فی الأقل، فالاستصحاب الجاری فی الأکثر فی محل الکلام ینبغی أن لا یکون معارضاً بالاستصحاب الجاری فی الأقل، البراءة لنفی وجوب الأکثر لیست معارضة بالبراءة لنفی وجوب الأقل، لکن استصحاب عدم جعل التکلیف بالأکثر معارض باستصحاب عدم جعل التکلیف بالأقل، فما هو الفرق بینهما ؟ یجیب عن هذا الاعتراض لتکمیل جوابه الأساسی، یقول هذا الاعتراض غیر وارد للفرق بین البراءة والاستصحاب، الفرق هو أنّ البراءة إنّما تجری فی الأحکام الإلزامیة ولا معنی لإجرائها فی الأحکام الترخیصیة ! ومن الواضح أنّ الإطلاق لیس حکماً إلزامیاً، الإطلاق لیس حکماً إلزامیاً، الإطلاق هو عبارة عن ترخیص فی تطبیق المأمور به علی أفراد متعددة، الإطلاق مرجعه إلی السعة، بخلاف التقیید، التقیید فیه إلزام، فالفرق بین الأقل علی نحو الإطلاق وبین الأقل علی نحو التقیید هو أنّ البراءة تجری فی الأقل المقیّد، الذی هو الأکثر، تجری فی الأکثر لنفی وجوب الأکثر؛ لأنّه إلزام بضم الجزء العاشر إلی التسعة، فتجری فیه البراءة، بینما لا معنی لجریان البراءة فی الإطلاق، فیجب الأقل مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر، هذا لا یمکن إجراء البراءة فیه لنفی الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق فی واقعه ترخیص والبراءة لا تجری فی الأحکام الترخیصیة، بخلاف الاستصحاب، فأنّه یجری فی کل شیءٍ کنت علی یقین منه وشککت فیه لاحقاً، سواء کان إلزاماً أو ترخیصاً، أو موضوعاً لحکم شرعی، یجری فی جمیع الموارد، فافترض أنّ الإطلاق المقابل للتقیید هو أمر ترخیصی، لکن عندما تشک فی ثبوته وهو مسبوق بالعدم لا مانع من استصحاب عدمه، فیجری فیه الاستصحاب ویعارض الاستصحاب الجاری فی الأکثر. فإذن: استصحاب عدم جعل وجوب الأکثر یُعارَض باستصحاب عدم جعل وجوب الأقل. هذا هو الجواب الذی ذکره علی التقریب الثانی.

ص: 617

هذا الجواب عن التقریب الثانی یمکن أن یُلاحظ علیه بأنّ استصحاب عدم جعل الوجوب ______________ وجوب الأقل مطلقاً، أو وجوب الأقل، والمقصود بوجوب الأقل فی قبال الأکثر یعنی الوجوب المطلق من ناحیة الجزء العاشر ______________ لا یجری و لا یُعارَض ولا یُعارِض استصحاب عدم جعل التکلیف للأکثر؛ لأنّه لیس له أیّ اثرٍ ولا تترتب علیه أی ثمرة عملیة حتی یجری الاستصحاب بلحاظه؛ لأنّه ماذا یراد بهذا الاستصحاب ؟ تارة یُراد بهذا الاستصحاب إثبات وجوب الزائد، نستصحب أنّ وجوب الأقل لیس مطلقاً من ناحیة الجزء العاشر، یعنی مقید بالجزء العاشر، فیکون الغرض من إجراء هذا الاستصحاب هو إثبات وجوب الزائد. إذا کان هذا هو الغرض، فإشکاله واضح، أنّ هذا أصل مثبت، باعتبار أنّ ثبوت الجزء الزائد والتکلیف بالجزء الزائد من لوازم عدم جعل التکلیف بالأقل بنحوٍ مطلق من ناحیة الجزء العاشر، من لوازمه أنّ هناک تکلیفاً بالجزء العاشر، أنّ وجوب الأقل مقید بالجزء العاشر، لکن هذا لازم ولا یثبت بالاستصحاب.

وأمّا إذا کان الغرض من إجراء هذا الاستصحاب فی الأقل المطلق من ناحیة الجزء العاشر هو التأمین من ناحیة ترک الأقل، نستصحب عدم جعل وجوب الأقل المطلق من ناحیة الجزء العاشر لغرض التأمین من ناحیة ترک الأقل، هذا یرد علیه الإشکال السابق، وهو أنّ فرض ترک الأقل هو فرض المخالفة القطعیة ولا یعقل التأمین من ناحیة المخالفة القطعیة، وإنّما المعقول هو التأمین من ناحیة المخالفة الاحتمالیة لیس إلاّ، بینما ترک الأقل لا إشکال أنّه مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، فکیف یُعقل إجراء الاستصحاب لغرض التأمین من ناحیة هذا الترک، ولیس هناک شیء آخر یمکن تصوّره فی المقام لتصحیح جریان الاستصحاب فی الأقل المطلق من ناحیة الجزء العاشر سوی أنّه یعارض ذلک الاستصحاب، یعنی لیس له أثر سوی المعارضة وهذا لا یکفی لإجراء الاستصحاب فیه، فمن هنا لا یُعارض هذا الاستصحاب الذی أُبرِز فی هذا التقریب لغرض إثبات البراءة باستصحاب الأقل المطلق من ناحیة الجزء العاشر. هذا الإیراد الذی ذکره یبدو أنه لیس وارداً.

ص: 618

هناک إیراد ثانٍ ذُکر فی أحد تقریری المحقق النائینی(قدّس سرّه) وهو (فوائد الأصول)، هذا الإیراد یقول أنّ هذا الاستصحاب لا یجری، باعتبار أنّ مسألة إجراء الاستصحاب فی الجعل إثباتاً ونفیاً هو محل تأمّل من قِبل المحقق النائینی(قدّس سرّه)، یقول لا معنی لإجراء الاستصحاب فی الجعل لا إثباتاً ولا نفیاً، نحن فی المقام مقصودنا إجراء الاستصحاب فی الجعل نفیاً، استصحاب عدم جعل التکلیف، هو یقول أنّ الاستصحاب أصلاً لا یجری فی الجعل، لا نفیاً ولا إثباتاً، باعتبار أنّ الآثار الشرعیة والآثار العقلیة من قبیل وجوب الطاعة وحرمة المعصیة وما یترتب علیهما من استحقاق العقاب واستحقاق الثواب..... کل هذه لآثار تترتب علی المجعول لا علی الجعل، الجعل المجرّد عن المجعول لا أثر له یقول: لو أمکن التفکیک بین الجعل والمجعول، وکان هناک فقط جعل بلا مجعول، ولو من باب فرض المحال لیس محال، لا یترتب علی الجعل أیّ أثر، وإنّما الآثار وجوداً وعدماً ترتب علی المجعول، یعنی الحکم الفعلی عندما یتحقق موضوعه یصبح الحکم فعلیاً، فإذا صار الحکم فعلیاً ترتب علیه الآثار الشرعیة وتترتب علیه الآثار العقلیة، الذی یجب علی المکلف طاعته هو المجعول(الحکم الفعلی) إذا صار الحکم فعلیاً یُعبّر عنه بالحکم المجعول، أمّا الجعل جعل وجوب الحج علی المستطیع البالغ، هذا مجرّد جعل لا یترتب علیه شیء، إذا لم یصل إلی مرحلة الفعلیة فلا اثر له، غیر المستطیع لا یؤثر فیه شیء هذا الجعل الموجود، فالآثار الشرعیة إنّما تترتب علی المجعول لا علی الجعل. یثبّت هذه المقدّمة، وبناءً علی هذا یقول: أنّ استصحاب عدم جعل وجوب الأکثر الذی ذُکر فی التقریب الثانی لغرض إثبات البراءة، لا أثر له، إلاّ اللّهم إذا کان المقصود بإجراء هذا الاستصحاب هو إثبات المجعول، أو نفیه، إذا کان هذا المقصود نعم، یترتب، لکن هذا یکون أصلاً مثبتاً، ترتب المجعول علی الجعل، وترتب عدم المجعول علی عدم الجعل ترتب عقلی ولیس ترتباً شرعیاً، فالاستصحاب الذی یثبّت الجعل لازمه ثبوت المجعول، فإذا کان الغرض من استصحاب الجعل إثبات المجعول، فهذا سوف یکون أصلاً مثبتاً؛ لأنّ هناک تلازماً بینهما ولیس هناک ترتب شرعی بین المجعول وبین الجعل، وکذلک إذا أردنا باستصحاب عدم الجعل نفی المجعول، فهذا أیضاً یکون أصلاً مثبتاً، إذا لم یکن هذا هو الغرض، فلیس هناک أیّ غرضٍ یترتب علی الجعل لا ثبوتاً ولا عدماً، الجعل المجرّد عن المجعول لیس له أیّ أثر، وعدم الجعل أیضاً لیس له أی أثر، وبناءً علی هذا أساساً لا یجری استصحاب عدم جعل التکلیف بالأکثر حتی یستدل به علی البراءة فی محل الکلام.

ص: 619

المحقق العراقی(قدّس سرّه) نقل هذا الإیراد الثانی عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) وأجاب عنه، وحاصل ما فُسّر به جوابه: أنّ الأثر غیر الشرعی الذی یُراد إثباته بالاستصحاب یمکن تصوره علی نحوین:

النحو الأوّل: أن یکون هذا أثر للمستصحب بوجوده الواقعی. ومثاله التقلیدی هو نبات اللّحیة بالنسبة إلی حیاة زید، واضح أنّ نبات اللّحیة أثر غیر شرعی لحیاة زید، فهو أثر للوجود الواقعی للمستصحب ولیس أثراً للوجود الظاهری للمستصحب، إذا ثبتت حیاة زید ظاهراً لا یترتب علیها نبات اللّحیة، وإنّما نبات اللّحیة یترتب علی حیاة زید واقعاً لا علی حیاته ظاهراً وبالتعبد الاستصحابی وأمثاله، ومن هنا لا یمکن إثبات نبات اللحیة باستصحاب حیاة زید.

النحو الثانی: قد یکون الأثر غیر الشرعی أثراً للمستصحب بوجوده الأعم من الواقعی والظاهری، هو یترتب علی وجود المستصحب من دون فرقٍ بین أن یکون وجوداً واقعیاً، أو ظاهریاً، کما یترتب علی الوجود الواقعی للمستصحب کذلک یترتب علی الوجود الظاهری للمستصحب، ومثاله الأحکام العقلیة، وجوب الطاعة، حرمة المعصیة، بالنسبة إلی التکالیف الشرعیة، واضح انّ ما یحکم العقل بطاعته لیس هو خصوص الوجود الواقعی للحکم الشرعی، وإنّما هو یترتب علی الوجود الأعم من الواقعی أو الظاهری، یعنی التکلیف الشرعی إذا ثبت ظاهراً بتعبدٍ من قبل الشارع یحکم العقل بوجوب إطاعته ویحکم بحرمة معصیته، لیس حکم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصیة متوقف علی الوجود الواقعی للتکلیف، کلا، هو کما یترتب علی الوجود الواقعی للتکلیف کذلک یترتب علی الوجود الظاهری للتکلیف، فی مثل هذا، لیس هناک أیّ ضیر فی إجراء الاستصحاب لإثبات هذا الأثر، لا مشکلة فی أن نجری الاستصحاب فی التکلیف الشرعی ونثبت التکلیف الشرعی ظاهراً ویترتب علیه ذلک الأثر غیر الشرعی وهو وجوب الطاعة وحرمة المعصیة؛ لأنّ وجوب الطاعة وحرمة المعصیة عقلاً تترتب علی الوجود الأعم من الظاهری والواقعی، وهذا وجوب ظاهری للتکلیف ثبت بالتعبّد بالاستصحاب، فیترتب علیه هذا الحکم العقلی، هذا الأثر غیر الشرعی فیثبت هذ الأثر، ولا یکون الأصل حینئذٍ مثبتاً. یقول: أنّ ما نحن فیه من هذا القبیل، بمعنی أنّ إثبات المجعول باستصحاب الجعل، أو إثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل الذی هو محل کلامنا فعلاً، یقول: کل منهما یکون من قبیل الثانی، بمعنی أنّ المجعول وجوداً وعدماً یترتب علی الجعل وجوداً وعدماً الأعم من الجعل الواقعی أو الجعل الظاهری، ترتب فعلیة المجعول، حتی تترتب علیه آثاره، هذه الفعلیة لیست مترتبة فقط علی الواقع، الفعلیة کما تترتب علی الوجود الواقعی للجعل تترتب علی الوجود الظاهری للجعل، فلو أثبتنا الجعل بالتعبد الاستصحابی یترتب المجعول کترتب وجوب الطاعة علی التکلیف الثابت ظاهراً، وقلنا أنّ هذا لیس أصلاً مثبتاً، هنا المجعول أیضاً یترتب علی الجعل ولو بوجوده الظاهری، فإذا جری الاستصحاب فی الجعل وأثبتنا الجعل بالتعبد بالاستصحاب یترتب علیه المجعول ولا یکون أصلاً مثبتاً، إذا نفینا الجعل بالاستصحاب وتعبّدنا الشارع بالاستصحاب بعدم الجعل یترتب علیه عدم المجعول؛ لأنّ المجعول وجوداً وعدماً لیس من آثار الوجود الواقعی للجعل، وإنّما هو من آثار الوجود الأعم من الواقعی والظاهری، فیکفی فی إثبات المجعول إثبات الجعل ظاهراً بالاستصحاب، کما یکفی فی إثبات عدم المجعول إثبات عدم الجعل بالاستصحاب من دون أن یلزم من ذلک إشکال المثبتیة. ثمّ ذکر فی ذیل کلامه أنّه تعجّب أنّه کیف یمکن المنع من إجراء استصحاب عدم الجعل، إشارة إلی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، کیف یمکن المنع من إجراء استصحاب عدم الجعل بحجّة أنّه لا یترتب علیه أی أثر، إلاّ باعتبار إثبات المجعول، أو نفیه، وهذا أصل مثبت، بالنتیجة یمنع من استصحاب الجعل، أو استصحاب عدم الجعل، هو یتعجب، یقول: کیف یمکن هذا، والحال أنّ لازم ذلک هو المنع من جریان استصحاب عدم الجعل فی الأحکام الکلیة التی عُلم بعدمها قبل تشریع الأحکام، وشُک فی ثبوتها بعد التشریع مع أنّ جریانه من المسلّمات. یقول: إذا منعنا من استصحاب عدم الجعل فی محل الکلام کیف نجری استصحاب عدم الجعل فی الأحکام الکلّیة التی نعلم بعدمها قبل الشریعة ونشک فی ثبوتها بعد الشریعة ؟ ماذا نصنع ؟ نستصحب عدم الجعل، نشک فی أنّ هذا الحکم هل جُعل فی الشریعة أو لا ؟ نستصحب العدم المتیقن قبل الشریعة، وهذا استصحاب عدم جعل، فإذا منعنا من استصحاب عدم الجعل فی محل الکلام، فلابدّ أن نمنع من استصحاب عدم الجعل فی الأحکام الکلّیة عندما تتوفر شروط هذا الاستصحاب، ویقول: أنّ هذا لا یمکن الالتزام به؛ لأنّ القضیة مسلّمة، أنّ استصحاب عدم الجعل فی القضایا الکلّیة من الأمور المسلّمة عندهم. هذا ما قد یُفهم من کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) بهذه الصیاغة.

ص: 620

یمکن أن یُصاغ هذا المطلب بصیاغة أخری وهی صیاغة مهمّة قد تکون مارة علیکم، وهی أنّ الأصل إنّما یکون مثبتاً عندما یکون الغرض هو إثبات لوازم المستصحب به، یعنی إثبات الآثار غیر الشرعیة للمستصحب بالاستصحاب. المستصحب له آثار علی قسمین: آثار شرعیة وآثار غیر شرعیة، حیاة زید لها آثار شرعیة وهی من قبیل عدم جواز تقسیم أمواله ....الخ وله آثار غیر شرعیة من قبیل نبات اللّحیة، الأصل المثبت هو إذا کان الغرض من استصحاب الحیاة هو إثبات الأثر غیر الشرعی. وأمّا إذا کان الغرض من الاستصحاب هو إثبات لوازم نفس الاستصحاب ولیس المستصحب، لدینا آثار للمستصحب إن لم تکن شرعیة فالاستصحاب یعجز عن إثباته ویکون بلحاظها أصلاً مثبتاً. ولدینا آثار غیر شرعیة لنفس الاستصحاب، لنفس التعبّد الاستصحابی، هذا لیس هناک أیّ ضیرٍ فی إثباتها بالاستصحاب، ولا یکون الأصل مثبتاً؛ لأنّ هذه لوازم الاستصحاب، وما دل علی الاستصحاب هو دلیل اجتهادی، روایة زرارة دلّت علی التعبّد الاستصحابی، نحن لا ننظر إلی المستصحب، إثبات لوازم المستصحب یلزم منه أن یکون الأصل أصلاً مثبتاً، لکن عندما نرید إثبات نفس لوازم التعبّد الاستصحابی، لا مشکلة فیه، فأنّ التعبّد الاستصحابی دلّ علیه الدلیل الاجتهادی، ومثبتات الأمارة حجّة، مثبتات الأصل العملی لیست حجّة، لکن الأمارة حجّة فی مدالیلها المطابقیة وفی مدالیلها الالتزامیة، روایات زرارة مدلولها المطابقی التعبّد الاستصحابی، ومدلولها الالتزامی شیء آخر، إذا کان الغرض من إجراء الاستصحاب إثبات المدالیل الالتزامیة لنفس الاستصحاب، إثبات لوازم الاستصحاب ولیس لوازم المستصحب، هذا لا یکون الأصل بلحاظه أصلاً مثبتاً أصلاً من قبیل نفس المثال الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) وجوب الطاعة وحرمة المعصیة، هذا أثر غیر شرعی کما هو واضح، لکن هذا أثر غیر شرعی لیس للمستصحب، وإنّما للتعبّد الاستصحابی ومن لوازم نفس التعبّد الاستصحابی وجوب الطاعة وحرمة المعصیة، یعنی عندما یتعبّدنی الشارع بشیء یحکم العقل بوجوب الإطاعة وحرمة المعصیة، لیس هو من لوازم المستصحب وإنّما هو من لوازم التعبّد الاستصحابی، أو بعبارة أخری: هو من لوازم الاستصحاب، والاستصحاب ثابت بدلیلی اجتهادی ومثبتات الأمارة والأدلّة الاجتهادیة حجّة، وتکون حجّة فی مدالیلها المطابقیة ومدالیلها الالتزامیة. هذا تعبیر آخر لما یریده المحقق العراقی(قدّس سرّه) وما نحن فیه من هذا القبیل، بادِعاء أنّ المجعول فی محل الکلام هو من لوازم نفس التعبّد الاستصحابی لا من لوازم المستصحب، فلا یکون إثبات المجعول بالاستصحاب من باب الأصل المثبت.

ص: 621

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

ما تقدّم کلّه کان فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الأجزاء، ویتحقق عندما نشک فی جزئیة جزءٍ من مرکبٍ واجبٍ کالشک فی وجوب السورة فی الصلاة. الآن ننتقل إلی دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الشرائط لا فی الأجزاء، ویتحقق فی موارد احتمال شرطیة شیءٍ فی الواجب، کما أنّ ذاک یتحقق فی مورد احتمال جزئیة شیء فی المرکب الواجب هذا یتحقق فی صورة احتمال شرطیة شیءٍ فی الواجب.

قبل أن نبیّن ما هو حکم هذا التردّد من حیث البراءة والاشتغال نذکر الصوّر التی ذکروها لما یحتمل کونه شرطاً، فأنّهم ذکروا أنّ الشرط المحتمل یمکن تصوّره علی أنحاء؛ لأنّ الشرط المحتمل: تارةً یکون شرطاً لمتعلّق التکلیف. وأخری: یکون شرطاً لمتعلّق المتعلّق، الذی قد یسمّی بالموضوع، شرطیة الطهارة فی الصلاة لو کانت شرطاً فی الصلاة علی المیت، فهی شرط فی متعلّق التکلیف، یعنی فی الصلاة، والصلاة هی التی یتعلّق بها الوجوب، وأخری یکون شرطاً فی متعلّق المتعلّق کما بالنسبة إلی احتمال اشتراط الإیمان فی الرقبة التی یجب عتقها، فأنّ الإیمان علی تقدیر اعتباره واشتراطه یکون شرطاً فی متعلّق المتعلّق؛ لأنّ التکلیف تعلّق بالعتق فهو المتعلّق، والعتق تعلّق بالرقبة، والإیمان شرط فی الرقبة، یعنی یشترط فی الرقبة أن تکون مؤمنة. هذا من جهة.

من جهةٍ أخری: أنّ الشرط المحتمل تارةً یُفرض أمراً مستقلاً، وله وجود مستقل ومنحاز عن المشروط کما فی مثال الطهارة بالنسبة إلی الصلاة، فأنّ الطهارة لها وجود مستقل، وقد یُفرض أمراً غیر مستقل، وإنّما هو من تبعات وأنحاء وحالات المشروط ولیس له وجود مستقل عنه کما بالنسبة إلی الإیمان بالنسبة إلی الرقبة، الإیمان لیس شرطاً منحازاً عن المشروط، وإنّما یعتبر حالة من حالات المشروط، وهکذا اشتراط الطمأنینة فی الصلاة، فرقٌ بین اشتراط الطهارة فی الصلاة وبین اشتراط الطمأنینة فی الصلاة، الطهارة لها وجود متمیّز منحاز، بینما الطمأنینة هی حالة من حالات الصلاة.

ص: 622

ومن جهةٍ أخری: أنّ الشرط المحتمل قد یکون أمراً وجودیاً من قبیل الطهارة بالنسبة للصلاة والإیمان فی عتق الرقبة وأمثال هذه الشرائط الوجودیة، وهی التی یُعبّر عنها اصطلاحاً (بالشرط) وأخری یکون الشرط عدم أمر وجودی، هو فی نفسه لیس أمراً وجودیاً، وإنّما هو عدم أمر وجودی وهو الذی یصطلح علیه(بالمانع) المانع فی الحقیقة مرجعه إلی اشتراط عدم ذلک الشیء، فیکون الشرط هو عدم ذلک الشیء، وبطبیعة الحال یکون وجوده مانعاً من قبیل شرطیة عدم الکلام فی الصلاة، وشرطیة عدم الضحک فی الصلاة وأمثال ذلک، فأنّ الشرط هو عدم ذلک الأمر الوجودی، فیکون هو الشرط، فیکون الشرط أمراً عدمیاً. الذی یبقی أنّ هذه الأقسام کلّها الظاهر أنّ الحکم الذی سنذکره لا یختلف باختلافها، بمعنی أنّ من یری الاشتغال فأنّه یری الاشتغال فی جمیع هذه الأقسام، أو ینبغی أن یقول بالاشتغال فی جمیع هذه الموارد، والذی یقول بجریان البراءة أیضاً ینبغی أن یقول بجریان البراءة فی جمیع هذه الأقسام، لا یوجد فرق واضح بین هذه الأقسام التی سیأتی الکلام عنها، لا فرق فی الشرط بین أن یکون مستقلاً أو یکون غیر مستقل، ولا فرق فی الشرط بین أن یکون شرطاً للمتعلّق وبین أن یکون شرطاً لمتعلّق المتعلّق، ینبغی أن یکون الحکم الذی سیُذکر لهذه المسألة لا یُفرّق فیه بین هذه الأقسام، فی جمیع هذه الأقسام الحکم یکون واحداً حتی بالنسبة إلی المانع؛ لأنّ المانع فی الحقیقة یرجع لاشتراط عدم الأمر الوجودی، فیرجع للشرطیة، فیقع الکلام فیه کما یقع الکلام فی ما إذا کان الشرط أمراً وجودیاً. هذه مقدّمة.

بالنسبة إلی أصل الحکم، ما هو الحکم فی المقام ؟ إذا شکّ فی شرطیة شیءٍ فی الواجب، هل یمکن إجراء البراءة، أو أنّ القاعدة التی تکون جاریة فی المقام هی الاشتغال ؟ ولا مجال للبراءة فی محل الکلام ؟

ص: 623

الظاهر أنّ نفس الکلام الذی قیل فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الأجزاء یقال فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الشرائط، نفس الکلام السابق یجری فی محل الکلام، الاختلاف والأقوال فی المسألة، والأدلّة المستدل بها علی اختیار أحد الأقوال فی تلک المسألة أیضاً تجری نفسها فی محل الکلام. والسرّ فی هذا، هو أنّه فی واقع المطلب أنّ الشک فی شرطیة شیء یرجع إلی الشک بین الأقل والأکثر، باعتبار أنّ شرطیة شیء وتقیّد شیءٍ بشیءٍ هو فی الحقیقة مرجعه إلی انبساط الأمر علی التقیّد مضافاً إلی تعلّقه بذات المقید بحیث یکون المأمور به فی حالات الاشتراط والتقیّد، وما یتعلّق به التکلیف هو عبارة عن أمرین، ذات المقیّد زائداً تقیّده بذلک الشیء، تقیّده بالطهارة، أو تقیّده بعدم الضحک، أو بالشرائط الأخری، فشکّنا فی الحقیقة یکون فی أنّ الأمر الذی نعلم بتقیّده بذات المقیّد الذی هو الصلاة فی هذا المثال ________ مثلاً_______ نعلم بتعلّق الأمر والتکلیف بذات المقیّد، أی بالصلاة، هل هذا الأمر انبسط واتسع وشمل تقیّد الصلاة بالطهارة أیضاً، تعلّق به الوجوب، أو لا ؟ إذا فسّرنا الأمر بهذا التفسیر؛ حینئذٍ یکون مرجع الشک فی الشرطیة إلی دوران الأمر بین الأقل والأکثر کما هو الحال فی مسألة دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی باب الأجزاء، بلا فرق بینهما، غایة الأمر أنّ ما نشک فی انبساط الوجوب علیه أو ما نشک فی وجوبه هناک کان هو عبارة عن وجوب الزائد، وجوب هذا الجزء المشکوک الجزئیة، نشکّ فی کونه معروضاً للوجوب، أنّ الوجوب هل عرض علی ذات الأقل، أو عرض علی الأقل زائداً الجزء المشکوک ؟ بینما ما نشک فی محل الکلام فی کونه معروضاً للوجوب ومتعلّقاً للوجوب هو عبارة عن التقیّد، انّ الصلاة هل تقیّدها بالطهارة مطلوب، أو لیس مطلوباً ؟ إن کانت الطهارة شرطاً فی الصلاة علی المیت، فالمطلوب أمران، الصلاة علی المیت زائداً تقیّدها بالطهارة، هذا التقیّد الذی یتحقق بالإتیان بالطهارة خارجاً، إذا تطهّر وصلّی معناه أنّه جاء بالتقیّد. هل هذا مطلوب، أو لا ؟ إن کان شرطاً فالتقیّد مطلوب ولیس المطلوب ذات الصلاة علی المیت کما هو الحال فی صلاة الفریضة، وإنّما المطلوب ذات المقیّد والتقیّد، وإن لم تکن شرطاً فالمطلوب هو ذات المقیّد وهو الصلاة علی المیت ولا یُطالب المکلّف بشیء أکثر من هذا، أن یصلّی علی المیت مع الطهارة، أو بدون الطهارة، فإذن: مرجع الشک فی محل الکلام فی الحقیقة إلی الشک فی انبساط الوجوب علی التقید، هل تقیّد الصلاة بهذا الشیء مطلوب، أو لیس مطلوباً ؟ فهذا شک فی تکلیفٍ زائدٍ، شک فی تعلّق الوجوب بأمرٍ یُشک فی تعلقه به، فتجری فیه البراءة إذا قلنا بجریان البراءة فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی باب الأجزاء. ما نختاره هناک یجری فی محل الکلام. کما أنّ القائل بالاشتغال هناک الذی یرفض فکرة جریان البراءة فی محل الکلام ینبغی أن یرفض أیضاً جریان البراءة فی محل الکلام؛ لأنّهما من وادٍ واحد، الذی رفض إجراء البراءة هناک کان عمدة دلیله عبارة عن أمرین علی ما تقدّم سابقاً، عبارة عن وجود علم إجمالی، وهو غیر منحل ویدور بین الطبیعة المطلقة والطبیعة المقیدة، بین الطبیعة المقیدة بشرط شیء، وبین الطبیعة لا بشرط المطلقة، وهذان بینهما تباین، فالعلم الإجمالی موجود ولا ینحل. نفس هذا البیان الذی منع من أجله من جریان البراءة هناک یجری فی محل الکلام، هنا أیضاً یقال بأنّ أمر الواجب دائر بین الطبیعة المطلقة والطبیعة المقیدة، بین الصلاة المطلقة من ناحیة هذا الشرط المحتمل الشرطیة وبین الصلاة المقیدة بذلک الشرط، فهنا أیضاً یمکن تصوّر العلم الإجمالی الدائر بین المتباینین والذی یمنع من إجراء البراءة فی أحد أطرافه علی ما تقدّم سابقاً، یمکن تصوّره فی محل الکلام، فیقال فی المقام یوجد علم إجمالی بوجوب إمّا الصلاة المطلقة، أو الصلاة المقیدة بالطهارة والطمأنینة وبعدم الضحک، إذا کان مورداً للشک ومورداً للاحتمال.

ص: 624

الأمر الثانی الذی کان یُستدَل علیه هناک علی عدم جریان البراءة هو هذا الذی أُبرز فیما بعد هو مسألة الغرض، أنّ الغرض بسیط الذی یترتب علی الواجب، وهذا یجب علی المکلّف تحصیله بحکم العقل، یجب علی المکلّف تحصیل الغرض من الأمر ومن الوجوب، ومن الواضح أنّ المکلّف لا یحرز تحصیل الغرض إلاّ إذا احتاط، إلاّ إذا جاء بالجزء المحتمل هناک، وهنا أیضاً یقول لا یقطع بحصول الغرض إلاّ إذا جاء بالشرط المحتمل، یعنی إلاّ إذا جاء بالمقیّد بما هو مقیّد، وإلاّ إذا اقتصر علی ذات المقیّد لا یقطع بترتب ذات الغرض لاحتمال أن یکون هذا الشرط دخیلاً فی حصول الغرض کما کان هناک یقال باحتمال أن یکون الجزء المشکوک دخیلاً فی حصول الغرض، فلا یقین ولا إحراز لتحقق الغرض وحصوله إلاّ بالاحتیاط والإتیان بالأکثر الذی هو عبارة عن المقیّد والتقیّد، أو بعبارةٍ أخری: عبارة عن الإتیان بالمقیّد بما هو مقیّد . فنفس الأدلّة التی استُدل بها علی عدم جریان البراءة هناک تجری فی محل الکلام. ونفس المناقشات التی ذُکرت هناک لهذه الأدلة لمن یری جریان البراءة هناک هی بنفسها أیضاً تجری فی محل الکلام . أنّ هذا العلم الإجمالی علم إجمالی صوری، واقع المطلب لیس هکذا، واقع المطلب أنّ الأمر دائر بین الأقل والأکثر لا بین المتباینین، وذلک إذا لاحظنا ذات الوجوب وذات التکلیف مع إلغاء حدوده، الحدود التی تقدّمت الإشارة إلیها من الاستقلالیة والضمنیة واللابشرطیة والبشرط شیئیة، هذه الحدود إذا ألغیناها، وإلغاءها مبرّر علی ما تقدم سابقاً باعتبار أنّها أمور لا تدخل فی العهدة ولا معنی لأن یدخل مفهوم الاستقلالیة فی العهدة، أو مفهوم اللابشرطیة فی العهدة وتشتغل به الذمّة، هذه أمور انتزاعیة تنتزع من الأمر بشیء، ولا یتعلّق بها الجعل، هی لیست مجعولة من قِبل الشارع، الشارع لا یجعل فی الحقیقة الوجوب بقید الإطلاق للأقل، وإنّما یجعل الوجوب للأقل، لا یجعل وجوباً بقید الإطلاق وبهذه الصفة، هذا غیر مجعول شرعی أصلاً، فإذا ألغینا الحدود باعتبار أنّها لا تدخل فی العهدة ولا تشتغل بها الذمّة، إذا ألغیناها ولاحظنا ذات التکلیف سنجد أنّه یدور بین الأقل والأکثر، معروض الوجوب هو إمّا التسعة أو العشرة، ما یعرض علیه الوجوب هو إمّا ذات المقید فی محل الکلام، أو هو زائداً التقیّد، هذا هو واقع المطلب فی ما یعرض علیه الوجوب وما یدخل فی العهدة، أنا لا أدری أنّ ذمّتی اشتغلت بذات المقید أو لا ؟ مضافاً إلی ذلک اشتغلت بشیءٍ آخر وهو تقیّد هذا المقیّد بذاک القید، هذا لا أعلم، فإذن : دائماً لدینا علم تفصیلی بأنّ الأقل هو معروض الوجوب وشک فی انبساط هذا الوجوب علی ما زاد علیه، سواء کان ما زاد علیه هو الجزء العاشر، أو کان ما زاد علیه هو عبارة عن التقیّد، لیس هناک فرق بینهما، فی کلٍ منهما لا علم إجمالی بحسب الحقیقة، هناک صورة علم إجمالی، وإلاّ هو فی الواقع یدور بین الأقل والأکثر، الأقل معلوم تفصیلاً والباقی یکون مشکوکاً، فتجری البراءة فی ما یُشک فی عروض الوجوب علیه وتعلّق الوجوب به.

ص: 625

نعم، إذا أخذنا الحدود بنظر الاعتبار هناک علم إجمالی دائر بین المتباینین کما ذکروا؛ یدور الأمر بین الطبیعة المطلقة والطبیعة المقیدة، بین الماهیة لا بشرط وبین الماهیة بشرط شیءٍ، وهما متباینان، لکن لا وجه لأخذ هذه الحدود بنظر الاعتبار؛ لأنّها لا تدخل فی العهدة، نحن نتکلّم عمّا یدخل فی عهدة المکلّف، بلحاظ ما یدخل فی عهدة المکلّف، بلحاظ ذات التکلیف الذی هو الذی یدخل فی عهدة المکلّف وتشتغل به الذمّة الأمر دائر بین الأقل والأکثر، فلا علم إجمالی.

إذن: لا یوجد ما یمنع من إجراء البراءة عندما نشک فی وجوب الزائد، ونفس الاعتراض الوارد علی المانع الثانی الذی هو الغرض أیضاً یجری فی المقام، نفس الکلام السابق الذی ذُکر مفصلاً فی مسألة الغرض وانتهینا إلی نتیجة أنّ الغرض لا یمنع من إجراء البراءة فی محل الکلام؛ لأنّ المکلّف غیر مسئول عن الغرض إلاّ بمقدار ما یحدده ویأمر به الشارع وبمقدار ما تم علیه البیان، وما تم علیه البیان هو الأقل، ما یقطع المکلّف بتعلّق الوجوب به وأنّ الشارع کلّف به هو الأقل، علیه أن یحقق الغرض من هذا الأقل بأن یأتی به، أمّا ما لم یتم علیه البیان وهو المشکوک، فلیس المکلّف مکلّفاً بتحصیل الغرض من ناحیته.

نعم، هو یحتمل أنّه دخیل فی الغرض، لکن المکلّف لیس مسئولاً عن تحقیق ذلک الغرض الذی ینشأ من احتمال دخالة شیءٍ لم یتم علیه البیان، وهذا تقدّم مفصلاً. نفس ذلک الکلام یأتی فی محل الکلام وعلی اساسه نمنع من هذه الموانع ونلتزم بجریان البراءة.

إذن: بالنتیجة لیس هناک فرق بین تلک المسألة وبین هذه المسألة، یعنی ینبغی أن لا یکون هناک فرق بین المسألتین لا بلحاظ الأقوال ولا بلحاظ أدلة تلک الأقوال ولا بلحاظ مناقشة تلک الأدلّة، فبالنتیجة ما یُختار هناک لابدّ أن یُختار فی هذه المسألة. هذا ما یرتبط بحکم دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی باب الشرائط.

ص: 626

إلی هنا تبیّن أنّ من یقول بالاشتغال هناک یقول بالاشتغال فی محل الکلام بلا تفصیل، ومن یقول بالبراءة هناک یقول بالبراءة فی المقام بلا تفصیل. هناک تفصیل یظهر من المحقق العراقی(قدّس سرّه) وهو تفصیل بین حالتین، کأنّه یفصّل بین حالة ما إذا کان الشرط المشکوک أو القید المشکوک بنحوٍ یکون کل فردٍ من أفراد الطبیعة قابلاً للاتصاف به، من قبیل الإیمان بالنسبة إلی الرقبة، الرقبة هی الطبیعی وکل فردٍ من أفراد الطبیعة قابل لأن یتصف بالإیمان، والقسم الثانی ما لا یکون کل فردٍ من أفراد الطبیعی قابلاً للاتصاف به، وإنّما هذا الشرط المحتمل بعض الأفراد قابلة للاتصاف به وبعض أفراد الطبیعی لیست قابلة للاتصاف به، ویمثّل لذلک بالهاشمیة کشرط للفقیر الذی یجب إکرامه وإطعامه، الهاشمیة لیس کل فردٍ من أفراد الطبیعی قابلاً للاتصاف بها، وإنّما یتصف بها جماعة ولا یتصف بها جماعة آخرون، (1) لا نستطیع القول بأنّ هذا الفرد غیر الهاشمی یمکن أن یتصف بالهاشمیة، لا یمکن أن یتصف بالهاشمیة، بینما هناک الرقبة حتّی لو کانت کافرة یمکن أن تتصف بالإیمان، بأن یتحول من کونه کافراً إلی کونه مؤمناً، بینما الفرد غیر الهاشمی لا یمکن أن یکون هاشمیاً. یقول: هناک فرق بین القسمین، فی القسم الأوّل هو یری جریان البراءة کما فی مثال الرقبة المؤمنة عندما نشک فی شرطیة الإیمان تجری البراءة، بینما فی القسم الثانی یمنع من جریان البراءة ویری الاشتغال، یُفهم من عبارته تعلیل ذلک بأنّ الشرطیة المحتملة فی القسم الأوّل علی تقدیر اعتبار الإیمان فی الرقبة، علی تقدیر الإتیان بالأقل ماذا تستدعی من المکلّف هذه الشرطیة علی تقدیر اعتبارها ؟ فی الحقیقة تستدعی من المکلّف إضافة شیء، لا تطلب منه تبدیل ما جاء به بفردٍ آخر، وإنّما تطلب منه أن یضیف شیئاً جدیداً لم یکن موجوداً، عند إرادة الإتیان بعتق الرقبة، شرطیة الإیمان علی تقدیر ثبوتها تقول له: حوّل هذا إلی مؤمنٍ ثم اعتقه، یعنی تطلب منه إضافة شیءٍ جدید وهو جعل هذه الرقبة مؤمنة، وهو قادر علی جعلها مؤمنة، ففیما لو کان هناک رقبة کافرة، شرطیة الإیمان لا تطلب منه التبدیل والانصراف عن هذا الفرد والإتیان بفردٍ آخر، وإنّما تطلب منه أن یضیف إلی هذا الفرد عنصراً آخر، یعنی أن یحوّل هذه الرقبة من کونها کافرة إلی کونها مؤمنة، ویرتّب أثراً علی هذا وهو جریان البراءة، یقول باعتبار أنّ البراءة فی المقام تجری؛ لأنّ الشک یکون شکاً فی تکلیفٍ إضافی؛ لأننا قلنا علی تقدیر شرطیة الإیمان، فهذه الشرطیة المحتملة علی تقدیر ثبوتها تتطلب من المکلّف أن یضیف شیئاً إلی ما جاء به وهو أن یجعل هذه الرقبة مؤمنة، وهو بمکان من الإمکان بحسب الفرض، وهذا شک فی التکلیف الزائد، هل یُطلب منّی هذا الشیء، أو لا یُطلب منّی هذا الشیء ؟ علی تقدیر أن تکون الشرطیة ثابتة فهو مطلوب من المکلّف، ولیس فقط أصل العتق مطلوب منه، وإنّما العتق وأن تکون الرقبة مؤمنة، فیُطلب منه ذلک، وعلی تقدیر أن لا یکون الإیمان معتبراً، ولیس شرطاً، فلا یُطلب منه ذلک. إذن: شک فی التکلیف، شک فی المطلوبیة _____________ ما شئت فعبّر ___________ فتجری البراءة لنفی هذا التکلیف المشکوک الزائد.

ص: 627


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج3، ص399.

فی القسم الثانی المفروض أنّ الشرط علی تقدیر ثبوت الشرطیة لا یمکن أن یتصف به جمیع أفراد الطبیعی کالهاشمیة، فی هذه الحالة المکلّف عندما یأتی بالأقل الذی هو أن یطعم فقیراً غیر هاشمی، أو یرید إطعام فقیرٍ غیر هاشمی، هذا هو الأقل فی المقام، الشرطیة علی تقدیر ثبوتها لا تتطلب من المکلّف أن یضیف شیئاً إلی هذا؛ لأنّه غیر قادر علی أن یضیف شیئاً، هو غیر قادر علی أن یجعل الفقیر غیر الهاشمی هاشمیاً، وإنّما تتطلب منه الإتیان بفردٍ آخر، تتطلب منه أن یطعم فقیراً هاشمیاً وینصرف عن هذا الفرد الذی جاء به، أو یرید الإتیان به، ینصرف من إطعام الفقیر غیر الهاشمی إلی فردٍ آخر وهو الفرد الهاشمی؛ لأنّ الشرطیة علی تقدیر ثبوتها لا تتطلب منه إضافة شیء حتّی یکون شکاً فی وجوب هذه الإضافة وتجری البراءة لنفی هذا الوجوب المحتمل، وإنّما تتطلب منه التبدیل وإلغاء ذلک الفرد بالمرّة؛ لأنّه لا اثر له أصلاً، فما أطعمه أطعم الفقیر غیر الهاشمی، فالشرطیة علی تقدیر ثبوتها تتطلب منه إلغاؤه والتعویض عنه بفردٍ آخر واجدٍ لذلک الشرط وتتحقق فیه الشرطیة، یقول: هذا الثانی لا تجری فیه البراءة؛ لأنّ الشکّ لیس شکّاً فی وجوب أن یضیف إلی ما جاء به أو أراد أن یأتی به شیئاً آخر حتی یکون شکاً فی التکلیف، وإنّما الشک فی الحقیقة فی استبدال ما جاء به، إلغاء ذاک والإتیان بفردٍ آخر، هل یکفی ما جاء به، أو لابدّ من الإتیان بالفرد الآخر ؟ الأمر یدور بین المتباینین، بین إطعام فقیر غیر هاشمی وبین إطعام فقیر هاشمی، فالأمر یدور بین متباینین، لا یوجد شک فی إضافة شیءٍ جدیدٍ إلی ما جاء به، أو یرید الإتیان به، وإنّما الشک فی أنّه یؤمر بالانصراف عن ذلک الشیء والإتیان بفردٍ آخر، والنسبة بینهما هی نسبة التباین، إطعام فقیر غیر هاشمی مباین لإطعام فقیر هاشمی، بینهما تباین؛ وحینئذٍ لا یوجد أقل وأکثر، فإذا لم یکن هناک أقل وأکثر والتباین هی النسبة المحکمة بینهما؛ حینئذٍ لا یمکن أن تجری البراءة ولابدّ من الاشتغال.

ص: 628

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

الکلام فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الشرائط، عندما نحتمل شرطیة شیء فی الواجب، فما هو الحکم فی المقام ؟ هل تجری البراءة لنفی الشرطیة المحتملة، أو لا تجری البراءة؛ بل لابدّ من الاشتغال والاحتیاط ؟

قلنا أنّ الصحیح هو ما تقدّم من أنّ البراءة تجری ولا فرق بین الأجزاء والشرائط من هذه الجهة، فی کلٍ منهما تجری البراءة بالبیان الذی ذکرناه فی الدرس السابق، لکن نقلنا عن المحقق العراقی(قدّس سرّه) تفصیلاً فی المسألة یتضح هذا التفصیل بالأمثلة، هو یفرّق بین اشتراط الهاشمیة وبین اشتراط الإیمان، یقول: جعل الرقبة الکافرة مؤمنة أمر ممکن، بینما جعل الفقیر غیر الهاشمی هاشمیاً هذا أمر غیر ممکن، ومن هنا یقول فی المثال الأوّل الذی هو مثال الإیمان: المکلّف یشک فی إضافة شیء أکثر مما جاء به، أو یرید أن یأتی به، هو یرید أن یعتق رقبة، یشک فی أنّه هل یُکلّف أکثر من ذلک مضافاً إلی عتق الرقبة، هل هو مکلّف بأن یجعل الرقبة مؤمنة، أو لا؟ فیکون الشک شکّاً فی التکلیف، ویکون الأمر دائراً بین الأقل والأکثر؛ لأنّه مکلّف قطعاً بعتق الرقبة، وهو یشک فی أنّه هل هو مکلّف بأن یضیف إلی عتق الرقبة أن یجعلها مؤمنة، أو لیس مکلّفاً بذلک ؟ فتجری البراءة لنفی هذه الشرطیة وهذا التکلیف الزائد المشکوک؛ لأنّ جعل الرقبة الکافرة مؤمنة أمر ممکن، هو یشک فی تکلیفه بذلک، وهو شکّ فی التکلیف تجری فیه البراءة. بینما فی مثال الهاشمیة الأمر یختلف؛ لأنّه لیس باستطاعته أن یجعل الفقیر غیر الهاشمی هاشمیاً، فعندما یرید أن یطبّق التکلیف علی الفقیر غیر الهاشمی، أو یکون قد عمل بذلک وأطعم الفقیر غیر الهاشمی، اشتراط الهاشمیة یستدعی منه التبدیل لا أنّه یستدعی منه إضافة شیء إلی ما جاء به، أو یرید الإتیان به، وإنّما یستدعی إلغاء ما جاء به بالمرّة، ثمّ الإتیان بفردٍ آخر یکون واجداً للشرط، یقول: هذا الثانی فی واقعه هو دوران الأمر بین المتباینین؛ لأنّ الفقیر غیر الهاشمی بالنسبة إلی الفقیر الهاشمی لیس بینهما قدر متیقّن، هما متباینان وبهذا یختلف عن مثال الرقبة المؤمنة والرقبة غیر المؤمنة، فی مثال عتق الرقبة هناک متیقن فی البین وهو عتق الرقبة، وإنّما یُشک فی اعتبار الإیمان، لکنّه فی محل الکلام یقول حیث أنّه یمکنه الإتیان بالشرط فیشک فی تکلیفه بهذه الإضافة ویکون مرجع ذلک إلی الشک فی التکلیف، فتجری فیه البراءة، بینما فی مثال الهاشمیة اشتراط الهاشمیة لا یتطلب منه إضافة شیء إلی ما جاء به أو ما یرید أن یأتی به، هو أطعم الفقیر غیر الهاشمی، اشتراط الهاشمیة لا یقول له أضف شیئاً جدیداً إلی هذا، وإنّما یقول له ألغِ هذا الفرد الذی جئت به، أو ترید الإتیان به واستبدله بفردٍ آخر. هو یفرّق بین الحالتین، یقول: فی الحالة الأولی تجری البراءة وفی الحالة الثانیة لا تجری البراءة عن الشرطیة، باعتبار أنّ الشک فی الحقیقة فی الحالة الثانیة هو شک فی وجوب هذا الفرد أو هذا الفرد، هو فی الخارج لا یعلم هل الواجب علیه أن یطعم هذا الفقیر الغیر الهاشمی، أو یجب علیه أن یطعم الفقیر الهاشمی ؟ فلیس هناک قدر متیقن، وإنّما هناک شکّ بین المتباینین، الفقیر الهاشمی مباین للفقیر غیر الهاشمی، إذا أطعم الفقیر غیر الهاشمی اشتراط الهاشمیة یقول له أترک هذا الفرد ویجب علیک أن تأتی بفردٍ آخر مباین للفقیر غیر الهاشمی، فالأمر یدور بین المتباینین، والمکلّف لا یعلم هل أنّ الواجب علیه هذا، أو هذا ؟ فیدور بین المتباینین، فلابدّ من الاحتیاط ولا مجال لجریان البراءة. هذا التفصیل الذی یُفهم من کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 629

هذا التفصیل لا مجال له بناءً علی ما تقدّم من الانحلال بلحاظ نفس التکلیف وبلحاظ ما یدخل فی العهدة وتشتغل به الذمة، لا مجال لهذا التفصیل؛ لأنّه بلحاظ نفس التکلیف، وبلحاظ عالم العهدة إذا جرّدنا التکلیف من حدوده، الاستقلالیة، اللابشرطیة، الإطلاق، وما یقابلها، إذا جرّدناه من هذه الحدود، هذا التکلیف فی عالم الجعل کتکلیف تشتغل به الذمّة فی عالم العهدة نجد أنّ الأمر دائر بین الأقل والأکثر؛ لأنّ المکلّف یعلم أنّ ذمته قطعاً اشتغلت بالأقل ویشک فی تکلیفها بما زاد علیه من دون فرقٍ بین الأجزاء کما ذکرنا سابقاً وبین الشرائط، ومن دون فرقٍ أیضاً فی باب الشرائط فی الأمثلة بین شرطیة الإیمان وبین شرطیة الهاشمیة، فی کلٍ منهما بلحاظ ما یدخل فی العهدة الأمر دائر بین الأقل والأکثر، وبالوجدان یعلم بأنّ ذمّته اشتغلت قطعاً بعتق رقبة ویشک فی أنّه هل هو مکلّف بالتقیّد، بمعنی أنّه یشک فی أنّ الأمر بالتکلیف هل ینبسط علی التقیّد مضافاً علی ذات المقیّد، أو لا ینبسط علی التقیّد، وإنّما یختص بذات المقیّد ؟ علی تقدیر أن یکون الإیمان شرطاً، فالتکلیف منبسط علی التقیّد الذی لا یتحقق إلاّ بالإتیان بالقید، إذا کانت الهاشمیة شرطاً، فمعناه أنّه مکلّف بأمرین، مکلّف بذات المقیّد ومکلّف بتقیّد الفقیر بأن یکون هاشمیاً، فالشک فی الواقع والحقیقة یدور بین الأقل والأکثر، ولا مجال لأن نقول بأنّ الشک بلحاظ عالم ما یدخل فی العهدة هو دائر بین المتباینین، هناک شیء یقطع المکلّف بأنّه مکلّف به واشتغلت به الذمّة ودخل فی عهدته وهو التکلیف بالتسعة أجزاء فی المسألة السابقة، فی التکلیف بعتق رقبة، ذمّته اشتغلت قطعاً بعتق رقبة، وکذلک التکلیف بإطعام الفقیر، بلا إشکال وقطعاً یجب علیه إطعام فقیر، وإنّما یشک فی أنّه هل یُعتبر فی الفقیر أن یکون هاشمیاً ؟ وهل یعتبر فی الرقبة أن تکون مؤمنة ؟ وهل یعتبر فی التسعة أجزاء فی المسألة السابقة أن یضم إلیها الجزء العاشر، أو لا یعتبر ذلک ؟ فبلحاظ ما یدخل فی العهدة والذی علیه المناط علی ما تقدّم؛ لأنّ الحدود لا تدخل فی العهدة، وإن کنّا نعترف بوجود علم إجمالی، إذا أخذنا الحدود بنظر الاعتبار وهذا العلم الإجمالی الدائر بین المتباینین، لکن إذا أخذنا الحدود بنظر الاعتبار، لکنّ هذه الحدود هی أوصاف لا تدخل فی العهدة ولا تشتغل بها الذمّة؛ بل لا معنی لاشتغال الذمّة بها، وإنّما الذمّة تشتغل بذات التکلیف وذات المحدود والمحدود أمره دائر بین الأقل والأکثر من دون فرقٍ بین القسم الثانی الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) وبین القسم الأوّل؛ لأنّنا قلنا أنّ دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی محل کلامنا الذی هو باب الشرائط یرجع إلی أنّ الشک فی الشرطیة یعنی الشک فی تقیّد الواجب بالقید.

ص: 630

إذن: هناک واجب نعلم بتعلّق التکلیف به ودخوله فی العهدة ونشک فی تقیّده بالقید، إذا کانت الشرطیة ثابتة فهناک دخل فی العهدة تقیّد الواجب بالقید، وإذا لم تکن الشرطیة ثابتة، فهذا التقیّد لا یدخل فی العهدة. إذن: الأمر دائر بین الأقل والأکثر بلحاظ عالم الجعل، بلحاظ عالم العهدة، بلحاظ عالم اشتغال الذمّة الأمر یدور بین الأقل والأکثر من دون فرقٍ بین القسمین المذکورین فی کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه).

نعم، هذا التفصیل یکون له مجال عندما ننتقل من عالم الجعل وعالم العهدة واشتغال الذمّة إلی عالم التطبیق الخارجی والامتثال، حینما ننتقل إلی الخارج؛ حینئذٍ هناک مجال لهذا التفصیل ببیان أن یرفض الإنسان انحلال العلم الإجمالی بلحاظ عالم الجعل وعالم العهدة واشتغال الذمة ویدّعی أنّه حتی فی ذاک العالم الأمر دائر بین المتباینین بین الطبیعة المطلقة وبین الطبیعة المقیّدة، بین الماهیة لا بشرط وبین الماهیة بشرط شیء وهما متباینان، بأن یأخذ الحدود بنظر الاعتبار ویصر علی ذلک ویقول: بناءً علی هذا فالعلم الإجمالی لا ینحل بلحاظ ذاک العالم، لکن یأتی إلی عالم التطبیق، إلی علم الامتثال والخارج، سوف یضطر إلی القول بالانحلال، باعتبار أنّ فی عالم الخارج توجد تسعة أجزاء قطعاً یجب علیه الإتیان بها، ویشک فی وجوب الجزء العاشر، فی أنّه هل یجب علیه أن یضم إلی التسعة أجزاء الجزء العاشر، أو لا ؟ فینحل العلم الإجمالی بلحاظ عالم التطبیق الخارجی وعالم الامتثال؛ لأنّه عملاً هو یعلم بأنّه یجب علیه الإتیان بتسعة أجزاء ویشک وجداناً فی أنّه هل یجب علیه أن یضم إلیها شیئاً آخر، أو لا ؟ فرضاً بلحاظ عالم الجعل یوحد تباین بین الطرفین ویوجد علم إجمالی غیر منحل وأمره دائر بین المتباینین، لکن بلحاظ عالم التطبیق والامتثال الانحلال یکون واضحاً؛ لأنّه فی الخارج قطعاً یستطیع أن یقول أنّ هذه واجبة قد تعلّق بها الوجوب قطعاً ویشک فی أنّه یجب علیه أن یضیف إلیها الجزء العاشر، أو لا ؟ بناءً علی هذا الکلام إذا قلنا بذلک؛ حینئذٍ یکون هناک مجال للتفصیل الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، باعتبار أنّ الظاهر أنّ کلامه أیضاً ناظر إلی عالم التطبیق وعالم الامتثال، فیفرّق بین القسمین الذین ذکرهما فی کلامه، بین القسم الأوّل وبین القسم الثانی، باعتبار أنّه فی القسم الأوّل الذی مثاله الإیمان بالنسبة إلی الرقبة، فی عالم التطبیق والامتثال هناک رقبة تکون موجودة فی الخارج یعلم بوجوب عتقها قطعاً، لکن یشک فی وجوب أن یضم ____________ حسب ما قال ___________ إلیها قید الإیمان، یشک فی أنّه هل یجب علیه أن یجعلها مؤمنة، أو لا یجب علیه ذلک ؟ إذن: هناک قدر متیقن یُعلم بتعلّق التکلیف به وهو عتق الرقبة، إن کانت مؤمنة فلا إشکال، وإن کانت کافرة هو یشک فی أنّه هل یجب علیه أیضاً أن یجعلها مؤمنة، أو لا یجب علیه ذلک ؟ وهذا شک بین الأقل والأکثر بلحاظ عالم التطبیق والامتثال، فیمکن الالتزام بجریان البراءة فیه، بینما فی القسم الثانی یقول المحقق العراقی(قدّس سرّه) الأمر لیس هکذا؛ لأنّه فی القسم الثانی لیس لدینا فی الخارج فرد من أفراد الفقیر نعلم بوجوب إطعامه ونشک فی وجوب أن نضیف إلیه شیئا، حتی یکون لدینا قدر متیقن وجوب قطعاً کما فی المثال الأوّل، فی المثال الأوّل لدینا قدر متیقن معلوم الوجوب قطعاً وهو هذا الفرد من الرقبة، وإنّما نشک فی وجوب أن نضیف إلیه شیئاً، فی وجوب أن نجعل الرقبة الکافرة مؤمنة، فیوجد شیء متیقن نعلم بتعلق الوجوب به ونشک فی وجوب إضافة إلیه. فی مثال الفقیر الهاشمی لیس لدینا هکذا شیء، فی الخارج لا یوجد فرد من أفراد الفقیر یمکن أن نشیر إلیه ونقول هذا یجب إطعامه قطعاً ونشک فی وجوب إضافة إلیه، الأمر لیس هکذا؛ لأنّ الفقیر غیر الهاشمی والفقیر الهاشمی لیس بینهما قدر متیقّن بحیث یکون هذا القدر المتیقن معلوم الوجوب قطعاً ونشک فی وجوب ما زاد علیه؛ بل الأمر یدور بین أن یکون هذا واجباً وبین أن یکون هذا واجباً، إذا أطعم الفقیر غیر الهاشمی وکانت الهاشمیة شرطاً علی تقدیر أن تکون شرطاً، هذا حکمه حکم العدم، ولیس أنّه قدر متیقن موجود فیه ویُشک فی وجوب شیءٍ زائد حتی نحافظ علی الشرطیة، کلا لیس هکذا، وإنّما کما قال أنّ الشرطیة لو کانت ثابتة تقتضی التبدیل وإلغاء هذا التطبیق واستبداله بتطبیقٍ آخر، ومن هنا یمکن أن یقال أنّ الأمر یدور بین المتباینین، فیُفرّق بین القسم الأوّل وبین القسم الثانی کما قال المحقق العراقی(قدّس سرّه) لکن بلحاظ عالم التطبیق الخارجی لا بلحاظ عالم الجعل. هذا ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 631

لکن الصحیح کما اتضح من الکلام السابق أننا فی مقام التنجیز والتعذیر نلحظ ذات التکلیف مجرّداً عن کل حدوده، نلحظ ذات التکلیف وعالم العهدة وعالم اشتغال الذمّة وبلحاظ هذا العالم کما قلنا أنّ العلم الإجمالی ینحل انحلالاً حقیقیاً إن لم ننکر أصل تشکیل العلم الإجمالی، فهو ینحل انحلالاً حقیقیاً بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل والشک فی وجوب الزائد، ولیس الأمر دائراً فی ذلک العالم بین المتباینین؛ وحینئذٍ یتحقق الانحلال الحقیقی للعلم الإجمالی، فتجری البراءة لنفی الوجوب الزائد المحتمل ولنفی الشرطیة المحتملة من دون فرقٍ بین القسم الأوّل الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) وبین القسم الثانی، فی کلٍ منهما هناک متیقن فی عالم الجعل ویشک فی وجوب شیء زائد، أو إضافة زائدة، وبعبارة أخری: یُشَک فی التقیّد. وهذا هو الصحیح، أنّ المناط علی ذاک، فینحل العلم الإجمالی، فتجری البراءة لنفی وجوب التقیّد الذی نعبّر عنه بأنّ البراءة تجری لنفی الشرطیة المحتملة، ولا تصل النوبة إلی ملاحظة التطبیق الخارجی وعالم الامتثال.

وبعبارةٍ أخری: یمکن أن نقول أننا حتّی لو سلّمنا دوران الأمر بین المتباینین فی القسم الثانی علی ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، أنّ الأمر یدور بین المتباینین فی عالم الامتثال، فی عالم التطبیق، لکن فی عالم الجعل وفی عالم العهدة الأمر لیس هکذا، أی فی القسم الثانی الأمر لیس دائراً بین المتباینین، وإنّما الأمر دائر بین الأقل والأکثر، فتجری البراءة لنفی الزائد، یعنی لنفی التقیّد، تقیّد ما اشتغلت به الذمّة بهذا القید، ولنفترض أنّه فی عالم التطبیق الأمر فی القسم الثانی یبدو بین المتباینین، لکن المهم الذی یجب ملاحظته والاعتناء به هو هناک الأمر دائر بین الأقل والأکثر حتی فی القسم الثانی ولیس بین المتباینین. هذا ما یرتبط بکلام المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 632

صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أیضاً لدیه کلام فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الشرائط، حاصل ما یُفهم من کلامه أنّه یستشکل فی جریان البراءة فی باب الشرائط، یقول: حتّی إذا التزمنا بجریان البراءة فی باب الأجزاء، وإن کان هو لا یلتزم بذلک، وإنّما هو یری أنّ البراءة العقلیة لا تجری فی باب الأجزاء، وإنّما التزم بجریان البراءة الشرعیة فی باب الأجزاء وفصّل بینهما علی ما تقدم، لکنّه یقول حتی لو التزمنا بجریان البراءة العقلیة فی باب الأجزاء، فنحن نستشکل فی جریان البراءة العقلیة فی باب الشرائط باعتبار أنّ من الواضح أنّ جریان البراءة لا یجتمع مع بقاء العلم الإجمالی، فلابدّ من فرض انحلال العلم الإجمالی حتی یمکن إجراء البراءة. إذن: إنّما یتم إجراء البراءة إذا فرضنا انحلال العلم الإجمالی، إذا انحل العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل والشک فی وجوب الزائد. یقول: أنّ المقام لیس من هذا القبیل، یعنی حتّی لو سلّمنا انحلال العلم الإجمالی فی باب الأجزاء بالعلم التفصیلی والشک البدوی فی الزائد فلا نسلّم ذلک فی محل الکلام، فی محل الکلام العلم الإجمالی موجود ولا ینحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل والشک فی الزائد، یختلف الأمر بینهما یمکن لقائل هناک أن یقول أنّ العلم الإجمالی منحل؛ لأنّ لدینا أجزاء تسعة وهناک جزء عاشر مشکوک الوجوب فینحل العلم الإجمالی، لکن فی محل الکلام فی باب الشرائط الأمر لیس هکذا، باعتبار أن وجود الطبیعی فی ضمن الفرد المقیّد متحد مع هذا القید؛ بل هو عینه خارجاً، الطبیعی یوجد فی ضمن فرده، فطبیعی الفقیر یوجد فی ضمن الفرد المقیّد الذی هو الرقبة المؤمنة، أو الفقیر الهاشمی؛ بل هو عین الفرد المقیّد ولیس شیئاً آخر غیره، هو متحقق ومتحد معه فی الوجود، هذا الطبیعی فی ضمن الفرد المقیّد، باعتبار أنّ وجود الطبیعی هو عین وجود فرده، فی حین أنّ وجود الطبیعی فی ضمن غیر المقیّد، وجود الفقیر فی ضمن الفقیر غیر الهاشمی، أو وجود الرقبة فی ضمن الرقبة الکافرة غیر المؤمنة ممّا یکون فاقداً للقید، هذا یکون مبایناً للأوّل، هذا فرد وهذا فرد، هذه طبیعة متحدة فی الوجود مع فردها وهو المقید، وهذه طبیعة متحدة فی الوجود مع فردها وهو غیر المقیّد، ومن هنا لا یکون هناک قدر مشترک بینهما حتّی یُدعی العلم به تفصیلاً وانحلال العلم الإجمالی، باعتبار العلم بوجوب هذا القدر المشترک؛ بل الأمر قطعاً یدور هنا بین المتباینین ولا ینحل العلم الإجمالی، الأمر یدور بین ماهیتین متباینتین، بین ماهیة بشرط شیء وبین ماهیة لا بشرط وهما متباینان، وهذا بخلاف باب الأجزاء، فی باب الأجزاء الصلاة مع السورة لیست مباینة للصلاة دون سورة، یوجد قدر مشترک بینهما، الصلاة مع السورة لیست مباینة للصلاة بدون السورة، یوجد قدر مشترک بینهما وهی التسعة أجزاء؛ ولذا یقول هناک مجال لانحلال العلم الإجمالی فی باب الأجزاء، وهناک قدر مشترک یمکن أن نشیر إلیه ونقول أنّ هذا نعلم بوجوبه قطعاً ونشک فی وجوب غیره، فینحل العلم الإجمالی بالعلم التفصیلی، لکن فی محل الکلام فی باب الشرائط لیس هناک قدر مشترک بین الرقبة المؤمنة وبین الرقبة الکافرة؛ لأنّ الطبیعی یوجد بوجود فرده؛ بل هو عین وجود الفرد، وهذا معناه التباین بین الطبیعة المتحققة فی ضمن هذا الفرد والطبیعة المتحققة فی ضمن غیره، إذا لاحظناهما لا نجد هناک قدراً مشترکاً بینهما، فیدور الأمر بین المتباینین فلا تجری البراءة حتی لو قلنا بجریانها فی باب الأجزاء. هذا خلاصة ما یقوله صاحب الکفایة(قدّس سرّه). (1)

ص: 633


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص367.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.

الکلام فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الشرائط، انتهی الکلام إلی رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی هذه المسألة، اشرنا فی الدرس السابق إلی أنّه یظهر من صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أنّه یقول حتّی إذا سلّمنا إجراء البراءة العقلیة فی المسألة السابقة، فلا نسلّم جریانها فی هذه المسألة، إذا قلنا بأنّ البراءة تجری فی الأجزاء فی المسألة السابقة، فهی لا تجری فی باب الشک فی الشرطیة، وذلک باعتبار أنّ جریان البراءة متوقف کما هو واضح علی انحلال العلم الإجمالی، ما دام العلم الإجمالی لا ینحل فالبراءة لا تجری، وإنّما تجری إذا انحل العلم الإجمالی، وانحلال العلم الإجمالی یکون بدعوی أنّنا نعلم بوجوب الأقل علی کل تقدیر، فیکون علماً تفصیلیاً بوجوب الأقل علی کل تقدیر وشک فی وجوب الزائد، فینحل العلم الإجمالی، یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أنّ المقام لیس من هذا القبیل حتماً حتّی إذا قلنا أنّ المسألة السابقة فی باب الأجزاء من هذا القبیل، باعتبار أنّه یمکن هناک أن یقال: أننا نعلم بوجوب الأقل علی کل تقدیر، نعلم بوجوب التسعة أجزاء علی کل تقدیر ونشک فی وجوب الجزء العاشر، فینحل العلم الإجمالی، یقول: حتّی إذا قلنا بذلک هناک، هنا لا مجال لهذا الکلام، وذلک بنکتة أنّ الطبیعی لا یوجد إلاّ فی ضمن فرده ولا یتحصّل له وجود إلاّ فی ضمن فرده؛ بل فی الحقیقة وجود الطبیعی هو عین وجود الفرد ولیس شیئاً آخر، وبناءً علی هذا، فالطبیعی فی ضمن الفرد مثل طبیعی عتق الرقبة المقیّدة بالإیمان، هذا فی الحقیقة یکون موجوداً فی ضمن وجود فرده، والطبیعی فی ضمن غیر المقیّد یکون مبایناً للطبیعی فی ضمن المقیّد، الطبیعی فی ضمن الرقبة المؤمنة هو غیر الطبیعی فی ضمن الرقبة غیر المؤمنة؛ لأنّ الکلّی الطبیعی یتّحد مع فرده، فیحصل بینهما تباین، هذا التباین هو یستفید منه ویقول: لا یمکن أن نقول بأنّ الطبیعی فی ضمن غیر المقیّد هو بعض الطبیعی فی ضمن المقیّد حتّی تکون النسبة بینهما نسبة الأقل والأکثر، وإنّما هو مباین له تماماً، هذا شیء وهذا شیء آخر وبینهما تمام المباینة والإتیان بالطبیعی فی ضمن غیر المقید علی تقدیر أن یکون الواجب هو المقیّد هو فی الحقیقة إتیان بأمر مباین للواجب لا أنّه جاء بجزء الواجب، علی تقدیر أن یکون الواجب هو عتق الرقبة المفیّدة بالإیمان، علی هذا التقدیر الإتیان بالرقبة غیر المؤمنة هو إتیان بفردٍ مباین للواجب لا أنّه جاء بجزء الواجب باعتبار أنّ المقیّد یترکّب من أمرین: من ذات الطبیعی ومن التقیّد؛ بل هو إتیان بما هو مباین للواجب، وفی مثل هذا یدور الأمر بین المتباینین ولا مجال فیه للرجوع إلی البراءة، لیس هناک قدر متیقن فی البین نشیر إلیه ونقول أنّ هذا تعلّق الوجوب به معلوم، وإنّما یُشک فی وجوب ما زاد علیه، هذا الشیء فی باب الأجزاء یمکن تصوره؛ لأنّه لدینا تسعة أجزاء نستطیع أن نقول أنّها متیقنة الوجوب. فی محل الکلام لا یوجد هکذا شیء، الفرد الطبیعی فی ضمن المقید هو مباین للطبیعی فی ضمن غیر المقیّد.

ص: 634

أو بعبارة أکثر وضوحاً: الرقبة المؤمنة مباینة للرقبة الکافرة لا أننا نقول أنّ الرقبة الکافرة هی جزء أو بعض من الرقبة المؤمنة بحیث أنّ الرقبة المؤمنة تتألف من ذاک الفرد وزیادة، کما کنّا نقول فی باب الأجزاء الأکثر یتألف من الأقل وزیادة، هنا علی تقدیر أن یکون الواجب هو المقید ونعتبر الإیمان لا نستطیع أن نقول أنّ هذا مؤلّف من الرقبة الغیر المؤمنة وزیادة، وإنّما هما متباینان؛ وحینئذٍ لا مجال للرجوع إلی البراءة فی مثل ذلک. هذا ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) اعتراضاً علی إجراء البراءة فی محل الکلام.

السید الخوئی (قدّس سرّه) له تعلیق علی هذا الکلام، اعترض علیه بأمرین:

الأمر الأوّل: ذکر مسألة الانحلال الحکمی التی یکررها فی هذه المقامات، هو دائماً یقول بأنّ العلم الإجمالی فی المسألة السابقة وفی هذه المسألة هو منحل حکماً، (1) باعتبار أنّه یؤمن بمسلک الاقتضاء ویری أنّ ملاک الانحلال هو جریان البراءة فی أحد الطرفین بلا معارض، متی ما جرت البراءة فی أحد الطرفین بلا معارض ینحل العلم الإجمالی، لکن لیس انحلالاً حقیقیاً وإنما انحلال حکمی، هو فی المقام نفس الفکرة یطبّقها فی محل الکلام ویقول بأنّ العلم الإجمالی فی المقام منحل حکماً، باعتبار أنّ المکلّف فی محل الکلام یعلم بوجوب عتق رقبةٍ ما مرددة بین أن تکون مطلقة من ناحیة الإیمان وبین أن تکون مقیدة بالإیمان، ما یعلمه المکلّف هو أنّه یجب علیه عتق رقبةٍ حتماً، أو یجب علیه إطعام فقیر حتماً، لکنّه مردد بین أن یکون الفقیر الذی یجب إطعامه هو مطلق من ناحیة الهاشمیة، أو مقیّد بالهاشمیة، هذا هو واقع المطلب. یقول: وحیث أنّ الإطلاق لا یقبل جریان البراءة لما تقدّمت الإشارة إلیه من أنّ الإطلاق توسعة علی المکلّف ولیس فیه کلفة أو ضیق علی المکلّف، هو تخییر للمکلّف فی تطبیق الطبیعی علی أفراد کثیرین، فلا یقبل جریان البراءة، لا معنی لإجراء البراءة عن الإطلاق، بعد أن فرض أنّ الواجب هو عتق رقبة ما مرددة بین المطلقة وبین المقیّدة، یقول: البراءة لا تجری فی الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق توسعة ولیس فیه ضیق ولیس فیه کلفة، فلا معنی لجریان البراءة فیه؛ حینئذٍ تجری البراءة فی الطرف الآخر، أی فی التقیید، تجری البراءة لنفی تقیّد الواجب الطبیعی الذی نحن نعلم بوجوبه، لنفی تقیّده بالإیمان، أو لنفی تقیّده بالهاشمیة، وهذه البراءة لنفی التقیید لا معارض لها؛ لأنّ المعارض لها المتصوّر هو البراءة عن الإطلاق، ولا معنی لجریان البراءة عن الإطلاق باعتبار الإطلاق توسعة علی المکلّف ولیس فیه ضیق، والبراءة لا تجری إلاّ حینما یکون هناک ضیق وکلفة من التکلیف المحتمل، فتجری البراءة لنفی التقیید بلا معارض وبهذا ینحل العلم الإجمالی، فلا وجه لما ذهب إلیه صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من منع جریان البراءة فی محل الکلام؛ بل البراءة تجری فی محل الکلام کما تجری فی المسألة السابقة. هذا هو کما قلنا الانحلال الحکمی.

ص: 635


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد سرور الواعظ، ج2، ص447.

کلامنا فی أنّ النوبة هل تصل إلی الانحلال الحکمی ؟ أن نحتاج فی سقوط العلم الإجمالی فی انحلال العلم الإجمالی وبالتالی إمکان إجراء البراءة، هل یتوقف هذا المطلب علی الانحلال الحکمی بالنحو الذی ذکره أو أنّ المسألة محلولة قبل الانحلال الحکمی ؟ الصحیح علی ضوء ما تقدّم هو أنّ الانحلال متحقق فی المقام حقیقة، أنّ العلم الإجمالی علی تقدیر وجود علم إجمالی، وهذا لیس صحیحاً؛ إذ أساساً لا یوجد علم إجمالی، أساساً یوجد علم تفصیلی بوجوب الأقل وشک بدوی فی الزائد. علی تقدیر أن یکون هناک علم إجمالی فهذا العلم الإجمالی منحل حقیقة بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل والشک فی وجوب ما زاد علی ذلک، وذلک باعتبار أننا قلنا أنّ الذی ینبغی أن یلحظ فی باب التنجیز والتعذیر، جریان البراءة الذی یعنی التعذیر، والاشتغال وعدم جریان البراءة الذی یعنی التنجیز، الذی ینبغی أن یُلحظ هو عالم الدخول فی العهدة، هو ذات التکلیف مجرّداً عن حدوده، المکلّف بلحاظ عالم التکلیف فی الواقع والحقیقة الأمر عنده یدور بین الأقل والأکثر؛ لأنّه یعلم قطعاً بأنّه یجب علیه أن یعتق رقبة، هذا لا یشک فیه المکلّف، وإنّما یشک فی أنّه هل هو مکلّف بأنّ یضم إلی ذلک التقیّد بالإیمان، أو لا ؟ أو هل یضم إلی ذلک التقیّد بالهاشمیة، أو لا ؟ هو الذی عبّرنا عنه سابقاً بأنّ هناک علماً بالمقیّد وشکاً فی التقیّد، ذات المقیّد معلوم بالتفصیل لا المقیّد بما هو مقیّد، ولا یشک المکلّف فی ذات المقیّد ویقسم علی اشتغال عهدته به واشتغال ذمّته به، وإنّما یشک فی تقیّد هذا بهذا القید، هذا شک فی دخول شیء فی العهدة وهو مجری للبراءة، وبهذا ینحل العلم الإجمالی حقیقة بلا حاجة إلی ادعاء الانحلال الحکمی فی محل الکلام، بالضبط کما قلنا فی المسألة السابقة فی باب الأجزاء. هذا الأمر الأوّل الذی ذکره.

ص: 636

الأمر الثانی: الذی اعترض به علی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هو أنّ هذا الإشکال الذی ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) إذا تمّ فی باب الشرطیة، فینبغی أن یکون تاماً فی باب الجزئیة؛ إذ لا وجه للتفرقة بینهما، حتّی احتمال التفرقة لا وجه له؛ لأنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) کما یقال یحتمل التفرقة، یقول: حتّی إذا قلنا بجریان البراءة فی المسألة السابقة فلا نقول بجریان البراءة فی محل الکلام، إذن هو یحتمل التفکیک بینهما. الإشکال الثانی الذی یذکره السید الخوئی (قدّس سرّه) یقول: أصلاً التفکیک بینهما غیر معقول، إذا قلنا بعدم جریان البراءة فی محل الکلام فی الشرطیة؛ بل یتعیّن الاشتغال، فلابدّ أن نقول بذلک فی الجزئیة. بعبارة أخری: أنّ هذا الإشکال الذی ذکره فی محل الکلام یجری بعینه فی المسألة السابقة باعتبار أنّ کل واحد من أجزاء الواجب المرکب من أجزاء متعددة، کل جزءٍ من هذه الأجزاء له اعتباران:

الاعتبار الأوّل: الذی یعبّر عنه باعتبار الجزئیة، الشارع یعتبر هذا جزءاً من المرکب وأنّ الوجوب الذی یتعلّق بالمرکب یتعلّق بهذا الجزء، غایة الأمر یتعلّق به وجوب ضمنی. یعنی الشارع یعتبر وجوب هذا الجزء فی ضمن المرکب.

الاعتبار الثانی: وهو اعتبار فی کل جزء تعتبر جزئیته ویعتبر وجوبه ضمناً، فی کل جزء من هذا القبیل هناک اعتبار ثانٍ وهو ما یسمّیه باعتبار الشرطیة، بمعنی أنّه شرط فی سائر الأجزاء، کل جزء هو شرط فی سائر الأجزاء؛ لأننا نتحدث عن واجبات ارتباطیة ولا نتحدث عن واجبات استقلالیة، واجبات ارتباطیة یعنی هی مرتبطة فیما بینها، فکل جزءٍ من أجزاء الصلاة هو شرط فی سائر الأجزاء، بمعنی أنّ سائر الأجزاء لا یتعلّق بها الوجوب ولا تصح من دون ذلک الجزء، من دون السورة سائر الأجزاء لا أمر بها فی الحقیقة والاتیان بها لا یکفی فی مقام الامتثال، وهذا مرجعه إلی أنّ کل جزءٍ من أجزاء الصلاة هو شرط فی سائر الأجزاء، یقول التفکیک بین الجزئیة والشرطیة غیر صحیح فکل جزء هو فی نفس الوقت یکون شرطاً، إذا کان کل جزءٍ یکون شرطاً ولا یمکن التفکیک بینهما بالنتیجة البراءة التی تجری لنفی الجزئیة فی المسألة السابقة، أو لا أقل نحتمل جریانها لنفی الجزئیة فی المسألة السابقة لابدّ أن تجری لنفی الشرطیة ولا یمکن التفکیک بینهما بأن نجری البراءة فی الجزئیة ولا نجریها فی الشرطیة بهذا المعنی، التفکیک بینهما غیر صحیح والسر هو أنّ الشرطیة منشأها هو جزئیة الجزء فی المرکب من أجزاء علی نحو الارتباط، فإذن: منشأ الشرطیة هو الجزئیة، فإذا جرت البراءة لنفی الجزئیة لازمه ان تجری البراءة لنفی الشرطیة؛ لأنّ الشرطیة ناشئة من افتراض أنّ هذا جزء فی ضمن مرکب الذی یعنی أنّ سائر الأجزاء مشروطة به، فهو شرط فی سائر الأجزاء، إذن: عندما أشک فی جزئیة السورة یعنی أشک فی کونها شرطاً فی سائر الأجزاء، هو یقول أنا أجری البراءة لنفی الجزئیة ولا تجری البراءة فی الشرطیة. هذا التفکیک غیر صحیح؛ لأنّ جزئیة الجزء تلازم ولا تنفک عن سائر الأجزاء، فالبراءة إمّا أن تجری فیهما أو لا تجری فیهما، هذا التفکیک أو احتمال التفکیک لیس صحیحاً. هذا ما یُستفاد من کلامه فی مصباح الأصول. (1)

ص: 637


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد سرور الواعظ، ج2، ص447.

هذا الأمر الثانی الذی ذکره یوجد هکذا عبارات أنّ کل جزء هو شرط بالنسبة إلی سائر الأجزاء، لکن الکلام فی أن المراد بالشرطیة التی تُطلق فی هذا المقام هل هی نفس الشرطیة التی نتکلم عنها ؟ هل هی نفس الشرطیة التی تعنی التوقف فی الوجود، هذا هو کلامنا، ما یکون شرطاً فی الواجب یعنی یتوقف علیه وجود الواجب. کلامنا فی أنّ الشرطیة هل هی بهذا المعنی، أو لا ؟ بمعنی أنّ وجود الواجب الذی هو (عتق الرقبة) یتوقف علی أن تکون الرقبة مؤمنة، الشرطیة التی یشیر إلیها السید الخوئی (قدّس سرّه) هل هی بهذا المعنی ؟ أو أنّ الشرطیة فی المقام فی باب الأجزاء تعنی شیئاً آخر، یبدوا __________ والله العالم _________ أنّ المراد بالشرطیة فی المقام شیئاً آخر، المراد بالشرطیة هو الارتباطیة، هذا هو الذی یُفهم من کون الأجزاء ارتباطیة فیما بینها، بمعنی أنّ هذا الجزء لیس جزءاً فی ضمن المرکب کیفما اتفق حصوله وکیفما تحقق، وإنّما المقصود هو کونه جزءاً لکن بوجودٍ خاصٍ له، وهو __________ مثلاً ____________ فی باب السورة، السورة التی تکون ملحوقة بالرکوع ومسبوقة بالتکبیر، هذه السورة تکون جزءاً من هذا المرکب، هذا هو معنی الارتباطیة والشرطیة، یعنی السورة بوجودها الخاص تکون جزءاً من الصلاة لا أنّ السورة بمطلق وجودها تکون جزءاً من الصلاة، السورة بمطلق وجودها لیست جزءاً من الصلاة، السورة بالنحو الخاص وبموقع معیّن مسبوقة بهذا الجزء وملحوقة بذاک الجزء تکون جزءاً من الصلاة، هذا هو المقصود بالارتباطیة، وهذا هو المقصود ظاهراً بالشرطیة التی قد تُطلق فی هذا المقام، المقصود أنّ السورة بوجودٍ خاصٍ لها تکون جزءاً خاصّاً من الصلاة، وإلاّ لا معنی لأن نفترض الشرطیة بالمعنی المتعارف فی محل الکلام؛ لأنّ هذا یؤدی فی الحقیقة لأن نقول أنّ السورة شرط فی سائر الأجزاء، بمعنی أن وجود سائر الأجزاء یتوقّف علی السورة، فی نفس الوقت بمقتضی هذا البیان والارتباطیة، کما أنّ السورة شرط فی سائر الأجزاء، سائر الأجزاء أیضاً تکون شرطاً فی السورة؛ لأنّ کل جزءٍ هو شرط فی سائر الأجزاء، فکما أنّ السورة شرط فی الرکوع، الرکوع أیضاً شرط فی السورة، یعنی تعقّب السورة للرکوع شرط فی السورة، وهذا غیر معقول، أن تکون السورة شرطاً فی سائر الأجزاء، بمعنی أنّ وجودها یتوقف علی السورة وفی نفس الوقت سائر الأجزاء تکون شرطاً فی السورة، بمعنی أنّ وجود السورة یتوقّف علی سائر الأجزاء، وهذا محال وغیر ممکن تصوّره، ولیس المراد بالشرطیة هذا المعنی کما هو المقصود فی هذه المسألة الثانیة، وإنّما الظاهر (والله العالم) أنّ المقصود بذلک هو ما یُستفاد من الارتباطیة، بمعنی أنّ الجزء لیس جزءاً بمطلق وجوده، وإنّما الجزء یکون جزءاً بوجودٍ خاصٍ، وبناءً علی هذا حینئذٍ لا معنی لأن نقول أنّ الجزئیة تلازم الشرطیة بالمعنی المبحوث عنه، وأنّ البراءة التی تجری لنفی الجزئیة لابدّ أن تجری لنفی الشرطیة، کلا، الشرطیة التی نشک بها فی محل الکلام هی شرطیة بمعنی توقف الواجب علیها من قبیل الإیمان ومن قبیل الهاشمیة فی الأمثلة السابقة وغیرها من الأمثلة. هذا هو المقصود بالشرطیة والشک فی الجزئیة لا یلازم الشک فی الشرطیة بهذا المعنی حتی یقال أنّک إذا أجریت البراءة فی الجزئیة لابدّ أن تجری البراءة فی الشرطیة. فالصحیح فی مقام جواب صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هو أن نلتزم بما تقدّم ولا نزید علیه، وهو أنّ الأمر بلحاظ ذات التکلیف وبلحاظ ما یدخل فی العهدة دائر بین الأقل والأکثر، وهذا أمر ینبغی أن یکون واضحاً ولیس الأمر دائراً بین المتباینین حتّی یستشکل فی جریان البراءة فی محل الکلام، حتّی إذا سلّمنا تنزلاً أنّ الأمر یدور بین المتباینین بلحاظ عالم الامتثال والتطبیق، مع ذلک نقول أنّ هذا العالم لیس هو الملحوظ فی مقام التنجیز والتعذیر، وإنّما الذی ینبغی أن یکون ملحوظاً هو عالم العهدة وعالم اشتغال الذمّة وذات التکلیف، وبلحاظ هذا العالم الأمر بالوجدان یدور بین الأقل والأکثر لا بین المتباینین، ما یعلمه المکلّف هو أنّه یجب علیه أن یعتق رقبة ویشک فی أنّه هل لابدّ أن تکون الرقبة مؤمنة أو لا ؟ هل ذمّته مشتغلة بأن تکون الرقبة مؤمنة أو لا ؟ فیمکن إجراء البراءة لنفیه. إلی هنا الظاهر یتم الکلام عن دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی باب الشرائط.

ص: 638

دوران الأمر بین التخییر والتعیین

أیضاً وقع الکلام فی أنّه فی موارد دوران الأمر بین التخییر والتعیین هل تجری البراءة، أو لا ؟ هل یتعیّن الاشتغال، أو لا ؟ البراءة التی تجری فی هذا المقام هی البراءة التی تجری لنفی التعیین؛ إذ التعیین هو الذی فیه ضیق، فتجری البراءة لنفی التعیین وإثبات السعة علی المکلّف والتخییر وأنّه لیس الواجب علیه معیناً.

فی هذا المورد ذکروا أنّ التخییر تارةً یکون عقلیاً وأخری یکون شرعیاً؛ ولذا تکلّموا فی مقامین: دوران الأمر بین التعیین والتخییر العقلی. ودوران الأمر بین التعیین والتخییر الشرعی. الفرق بینهما هو أنّه مرّة نفترض أنّ الأفراد التی یُخیّر المکلّف بینها هی أفراد لجامعٍ عرفی لها، نسبة هذا الجامع إلی هذه الأفراد نسبة متساویة؛ وحینئذٍ یأمر بالجامع ویترک التخییر بین أفراد ذلک الجامع التی یکون نسبتها إلی الجامع ونسبة الجامع إلیها نسبة متساویة بلا تفاوت إطلاقاً ویترک التخییر بینها إلی المکلّف نفسه، فیتخیّر المکلّف بین إطعام هذا الفقیر أو ذاک الفقیر، بین أن یعتق هذه الرقبة أو تلک الرقبة أو تلک الرقبة، هذا تخییر عقلی؛ لأنّ الأمر تعلّق بجامعٍ عرفی له أفراد متعددة ولا توجد میزة فی انطباق الجامع علی هذا الفرد دون بقیة الأفراد_، نسبتها متساویة إلی الجامع، فیکون التخییر بینها تخییراً عقلیاً، بمعنی أنّ الحاکم بالتخییر فی هذا المقام لیس هو الشارع، وإنّما الحاکم بالتخییر هو العقل، والشارع فقط یحکم بالعنوان الکلّی، یأمر بالجامع، والتخییر یحکم به العقل. وأخری لا یکون هناک جامع عرفی بین هذه الأفراد بحیث تکون نسبة الجامع إلیها نسبة واحدة، فی هکذا حالة إذا أراد الشارع أن یبیّن التخییر، فبأیّ لسانٍ یبینه ؟ لا یمکن أن یبینه بأن یأمر بالجامع العرفی الذی هذه أفراده؛ لأنّ المفروض لیس هناک جامع عرفی بین هذه الأفراد، بین إطعام ستین مسکیناً، وبین صیام شهرین متتابعین وبین عتق رقبة، لا یوجد جامع عرفی بین هذه الأفراد، فالشارع فی هذا المقام عندما یرید ان یبیّن التخییر یضطر إلی أن یستخدم أسلوبا آخر من قبیل أن یخترع عنواناً انتزاعیاً کعنوان(أحد هذه الأمور) وأمثاله، أو یعطف بعضها علی بعض بکلمة(أو) فیقول: یجب علیک عتق رقبة، أو صوم شهرین متتابعین، أو إطعام ستین مسکیناً، فیکون هناک تخییر بین الأفراد، لکنّ هذا التخییر تخییر شرعی ولیس تخییراً عقلیاً.

ص: 639

بالنسبة إلی التخییر العقلی یمکن أن یُقسّم إلی قسمین بلحاظ أنّ التخییر تارةً یکون بلحاظ متعلّق التکلیف، وأخری یکون بلحاظ الموضوع الذی هو متعلّق المتعلّق، مثلاً: الواجب هو إکرام زید، الإکرام الذی هو متعلّق التکلیف یدور أمره بین مطلق الإکرام أو الإکرام بالإطعام، فیدور الأمر بین أن یکون الواجب هو مطلق الإکرام، أو إکرام خاص، مطلق الإکرام هو الذی یمثّل التخییر العقلی، الإکرام هو عنوان کلّی له أفراد متعددة، العقل یخیّر بین أفراده، یدور الأمر بین التخییر العقلی وبین التعیین، التعیین یثبت بالنسبة إلی هذا الفرد بالخصوص وهو الإکرام بالإطعام، أو أنّ الواجب هو مطلق الإکرام، بالإطعام أو بغیره من أفراد الإکرام.

وأخری یکون التخییر بلحاظ الموضوع ولیس بلحاظ متعلّق التکلیف، أی بلحاظ متعلّق المتعلّق، یعنی بلحاظ الفقیر الذی هو متعلّق المتعلّق، أو بلحاظ الرقبة التی هی متعلّق العتق الذی هو متعلّق الوجوب، الفقیر یدور أمره بین التخییر والتعیین، أو فی مثال یکون الانطباق علیه أوضح، إذا أمره بأن یذبح حیوان، هنا لدینا أمر یتعلّق بالذبح الذی هو متعلّق التکلیف، ولدینا حیوان الذی هو متعلّق المتعلّق، هذا الحیوان یدور أمره بین أن یکون مطلق الحیوان أو حیوان خاص، فالحیوان یدور أمره بین التعیین یعنی حیوان خاص، وبین التخییر الذی مطلق الحیوان.

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین التعیین والتخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین التعیین والتخییر.

الکلام فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر العقلی.

من دون فرقٍ بین أن یکون التخییر العقلی بلحاظ متعلّق التکلیف کما فی مثال الإکرام الواجب ودورانه بین مطلق الإکرام وبین الإکرام بالإطعام بالخصوص، وبین أن یکون التخییر بلحاظ متعلّق المتعلّق کما فی مثال إذا أمر بذبح حیوانٍ ودار أمر الحیوان بین مطلق الحیوان، أو حیوان خاص، لا فرق بین هذین القسمین فی ما سیأتی.

ص: 640

هنا نقل السید الخوئی(قدّس سرّه) عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّه استشکل فی جریان البراءة عن التعیین فی محل الکلام، وذکر فی مقام تعلیل ذلک بأنّه یری أنّ الجنس لا تحصّل له فی الخارج إلاّ فی ضمن الفصل ومن هنا لا یُعقل تعلّق التکلیف به إلاّ مع أخذه متمیزاً بفصلٍ، وإلاّ کیف یُعقل تعلّق التکلیف بالجنس من دون أن یکون متمیزاً بفصلٍ خاصٍ ؟! ومن هنا یدور أمر الجنس الذی تعلّق به التکلیف بین أن یکون متمیزاً بفصلٍ معیّن وبین أن یکون متمیزاً بفصلٍ ما من فصوله، الدوران یکون بین أن یکون الجنس الواجب الذی تعلّق به التکلیف، لنفترض أنّه من قبیل الإکرام فی مثالنا، أو الحیوان فی مثال الأمر بذبح حیوان، هذا الجنس یدور أمره بین أن یکون متمیزاً بفصلٍ خاص، لنفترض من باب التوضیح أنّه الإطعام فی مثال الإکرام، أو أنّه ____________ فرضاً ____________ فصل الحیوان الخاص الذی هو الفرس کونه صاهلاً، أو الإنسان کونه ناطقاً مثلاً، فیدور أمره بین أن یکون متمیّزاً بفصلٍ خاصٍ معیّنٍ، وبین أن یکون متمیزاً بأحد فصوله، أیّاً کان هذا الفصل الذی یتمیّز به بعد فرض استحالة تحصّل الجنس من دون فصلٍ. ویقول بأنّ هذا فی الحقیقة لیس من دوران الأمر بین الأقل والأکثر حتّی یقال بإمکان جریان البراءة لنفی التعیین، هذا لیس کذلک؛ بل یتعیّن فیه الاحتیاط، وذلک باعتبار أنّه لا نستطیع أن نقول فی هذا المثال بأنّ التکلیف بالجنس متیقن، وإنّما الشک فی تقیّده بفصلٍ، هذا الکلام لا معنی له حینئذٍ، یمکننا أن نقول هذا الکلام فی المسائل السابقة، نستطیع أن نقول بأنّ التکلیف بالأقل متیقن وإنّما الشک فی وجوب الزائد، لکن هنا لا یمکننا أن نقول أنّ التکلیف بالجنس متیقّن، وإنّما نشک فی تقیّده بالفصل، هذا غیر صحیح؛ لأنّ الجنس لا وجود له من دون الفصل؛ بل الصحیح أن نقول أنّنا نتیقن أنّ التکلیف تعلّق بالجنس بفصلٍ معیّنٍ، لکن هذا الفصل یتردد بین التعیین والتخییر، یعنی بین أن یکون هو فصل معیّن لا غیر یتحقق الجنس فی ضمنه وبین أن یکون هو مطلق الفصل، أحد فصول هذا الجنس، سواء کان هذا الفصل، أو کان هذا الفصل، أو هذا الفصل، أو ذاک الفصل، فالأمر یدور بین التعیین والتخییر بلحاظ الفصل الذی یتحقق فی ضمنه الجنس، وفی مثل ذلک یقول لا مجال للرجوع إلی البراءة لنفی التعیین؛ بل اللازم هو الاحتیاط والإتیان بذلک الجنس فی ضمن الفصل الذی نحتمل کونه هو الفصل المعیّن الذی أُخذ فی الجنس حینما تعلّق به التکلیف، فلابد من الاحتیاط عن طریق الإکرام بالإطعام فی المثال الأوّل وعن طریق ذبح الحیوان الخاص الذی هو ___________ فرضاً ___________ الغنم، وهذا هو التعیین، فلابدّ من الاحتیاط والالتزام بالتعیین وعدم جریان البراءة لنفی التعیین، ویبدو من هذا الکلام أنّ السر هو، هذه المسألة الرئیسیة، وهی أنّ الجنس لا یتحصّل فی الخارج إلاّ فی ضمن فصل، فلیس عندنا جنس موجود ونقول تعلّق به التکلیف قطعاً ونشک فی تقیّده بفصلٍ حتّی ینفی هذا التقیّد بالبراءة، وإنّما الجنس المتمیّز بفصلٍ معیّن هذا نتیقن به، قطعاً نعلم بأنّ التکلیف تعلّق بالجنس المتمیّز بفصلٍ خاصٍ، لکن شکّنا فی أنّ هذا الفصل الذی یتمیّز به الجنس الذی تعلّق به التکلیف، هل هو عبارة عن فصلٍ خاصٍ کالإطعام بالنسبة إلی الإکرام ______________ مثلاً ______________ أو الناطقیة بالنسبة إلی الحیوان، أو الصاهلیة بالنسبة إلی الحیوان، أو لا، أنّ الجنس عندما تعلّق به التکلیف لا یتمیّز بفصلٍ خاصٍ، وإنما أی فصلٍ من الفصول یکفی فی مقام الامتثال، وفی مقام الاتیان بالواجب، الأمر لا یدور بین الأقل والأکثر، وإنّما یدور بین التعیین والتخییر وفی مثله العقل یحکم بالاحتیاط وعدم جریان البراءة. الموجود فی تقریرات المحقق النائینی(قدّس سرّه) شیء آخر یختلف عمّا ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) حیث ذکر أنّ التردید بین الجنس والنوع، أو بین الجنس والفصل، الظاهر لا فرق بینهما، أنّ التردید بین الجنس والنوع وإن کان بحسب الدقّة والتحلیل العقلی یرجع إلی الأقل والأکثر، لکن هذا بحسب التحلیل العقلی والدقّة العقلیة، لکنّه خارجاً ینظر العرف إلیه علی أنّه تردید بین المتباینین، عندما یدور الأمر بین الجنس وبین النوع، بالدقة العقلیة الأمر دائر فیه بین الأقل والأکثر، لکن بنظر العرف الأمر یدور بین المتباینین، هو یمثّل النوع بالإنسان باعتبار أنّ الإنسان بما له من معنیً مرتکز فی الذهن مباین تماماً للحیوان بنظر العرف، فإذا علم المکلّف بأنّه یجب علیه إطعام إمّا الإنسان، أو الحیوان، فاللازم بنظر العرف هو الاحتیاط ولا تجری البراءة، فیجب علیه إطعام خصوص الإنسان، باعتبار أنّ نسبة البراءة إلی کلٍ من وجوب إطعام الإنسان ووجوب إطعام الحیوان نسبة واحدة وتجری فیهما البراءة وتتعارض البراءات فیهما وتتساقط البراءات ویبقی العلم الإجمالی علی حاله، فلابدّ من الاحتیاط. هذا کلّه، افتراض أن تکون نسبتهما إلی البراءة نسبة واحدة، وجریان البراءة فیهما والتعارض والتساقط، هذا کلّه مبنی علی ما ذکره من أنّه بالنظر العرفی هناک تباین بین الجنس وبین النوع، هما متباینان بالنظر العرفی وإن کان بالنظر الدقّی بینهما نسبة الأقل والأکثر.

ص: 641

یمکن أن یُلاحظ علی ما ذکره: أنّه تقدّم سابقاً أکثر من مرّة بأنّ المیزان فی محل الکلام هو ملاحظة ذات التکلیف وعالم العهدة وما یدخل فی عهدة المکلّف وما تشتغل به الذمّة. هذا هو المیزان فی التنجیز والتعذیر وهو المیزان فی الانحلال وعدمه، لابدّ من ملاحظة هذا العالم، بلحاظ هذا العالم سنجد أن الأمر دائر بین الأقل والأکثر لا بین المتباینین؛ وذلک لأنّه فی بعض الأحیان یکون التباین بین الجنس والفصل تبایناً فی عالم اللّحاظ فی أنّ أحدهما بلحاظٍ یباین الآخر بلحاظٍ آخر، بمعنی أنّ الإنسان بنظرةٍ إجمالیةٍ وباللّحاظ الإجمالی هو فی الواقع یستبطن الجنس، أی یستبطن الحیوان؛ لأنّ الحیوان موجود فی ضمن النوع، فالإنسان بهذا اللّحاظ الإجمالی یباین الحیوان باللّحاظ التفصیلی، فالاختلاف بینهما فی اللّحاظ التفصیلی، فیختلفان ویتباینان بهذا اللحاظ، الإنسان الذی یستبطن ویتضمّن الجنس یباین الجنس إذا نظرنا إلیه بنظرة تفصیلیة ولاحظناه باللحاظ التفصیلی، بینهما تباین، لکن باعتبار اختلاف اللّحاظ التفصیلی والإجمالی، الإنسان بنظرة إجمالیة یوجد فی ضمنه الحیوان، یوجد فیه جنسه، وهو بهذه النظرة یختلف عن الحیوان الذی یُلحظ باللّحاظ التفصیلی، فیوجد بینهما تباین، لکن هذا التباین موجود فی عالم اللّحاظ باعتبار اللّحاظ التفصیلی واللّحاظ الإجمالی یقال بینهما تباین، لکن بناءً علی ما تقدّم من أنّ حدّ اللحاظ الإجمالی وحد اللّحاظ التفصیلی وسائر الحدود الأخری لا تدخل فی العهدة، الذی یدخل فی العهدة هو ذات المحدود وذات الملحوظ. هذا هو الذی ینبغی أن یحسب حسابه، وهذا هو الذی ینبغی أن یُلاحظ فی دعوی الانحلال وعدم الانحلال، ودعوی جریان البراءة وعدم جریانها، لا ینبغی أن نأخذ بنظر الاعتبار الحدود واللحاظات التی یُلحظ بها الشیء وعلی أساسها یکون هناک تباین بین المفهومین، وإنّما الذی ینبغی أن یُلحظ هو ذات المحدود وذات الملحوظ، إذا أتینا إلی ذات المحدود وذات الملحوظ سنجد أنّ الأمر لیس دائراً بین المتباینین؛ بل الأمر دائر بین الأقل والأکثر، ذات المحدود بلحاظ عالم العهدة وبلحاظ عالم اشتغال الذمّة إمّا أن یکون عبارة عن الجنس، وإمّا أن یکون عبارة عن النوع الذی هو عبارة عن الجنس وزیادة، الذی یدخل فی العهدة إمّا الحیوان علی إطلاقه، الحیوان یجب علیه أن یذبحه، أو الإکرام، یجب علیه إکرام الفقیر، وإمّا أن یکون الداخل فی العهدة هو الإکرام مع زیادة، یعنی الإکرام المقیّد بأن یکون بنحو الإطعام، هذه زیادة، وهذا أکثر فی مقابل ذات الإکرام، ذات الإکرام یمثل الجنس والإطعام یمثّل النوع.

ص: 642

وبعبارة أخری: ذات الإکرام یمثل الأقل، والنوع یمثل الأکثر؛ لأنّ النوع یمثّل إضافة، إکرام متقیّد بأن یکون بنحو الإطعام، فبلحاظ الملحوظ الأمر یدور بین الأقل والأکثر ومن هنا یکون هناک مجال لإجراء البراءة لنفی التکلیف بالزائد؛ لأنّ المکلّف یتیقّن بأنّه مکلّف بأن یکرم زیداً، أو متیقن بأنّه مکلّف بأن یذبح حیواناً، وإنّما یشک فی أنّه هل هو مکلّف بالإضافة إلی ذلک أن یجعل الحیوان من نوعٍ خاصٍ أو لا ؟ هذا هو واقع المطلب، إذا لاحظنا عالم ما یدخل فی العهدة، ما یدخل فی العهدة دائر بین الأقل والأکثر، إمّا أن یذبح حیواناً، أو أن یذبح حیواناً بإضافة أنّه مقیّد بأن یکون من نوع خاصٍ، فالأمر یدور بین الأقل والأکثر بهذا اللحاظ، ومن هنا یکون الداخل فی العهدة قطعاً هو عبارة عن الجنس ویُشَک فی وجوب النوع، یعنی یُشَک فی وجوب تقیّد هذا الجنس بقیدٍ خاص، أو تحصّله بفصلٍ خاصٍ معیّن دون باقی الفصول، هذا یشک فیه، فیمکن إجراء البراءة لنفی هذا التقیّد المشکوک. هذا هو الحال فی الجنس والنوع علی ما ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه)، فالتباین الموجود بینهما تباین صحیح، لکنّه باعتبار اللحاظات، أی عندما یؤخذ اللحاظ بنظر الاعتبار، تلحظ النوع باللحاظ الإجمالی وتلحظ الجنس باللحاظ التفصیلی یوجد بینهما تباین، الجنس بنظرة تفصیلیة یباین النوع بنظرة إجمالیة، لکن اللحاظ لیس داخلاً فی العهدة علی ما ذکرنا، وإنّما الداخل هو ذات الملحوظ وبلحاظ ذات الملحوظ الأمر یدور بین الأقل والأکثر کما هو الحال فی المسائل السابقة.

نعم، فی بعض الأحیان یکون التغایر بین المفهومین تغایراً واضحاً وإن کان أحد المفهومین أضیق صدقاً فی الخارج من الآخر، یعنی یصدق علی مصادیق أقل ممّا یصدق علیه الآخر، لکن بینهما یوجد تباین، باعتبار أنّ أحدهما لا یستبطن الآخر ولیس محفوظاً فیه، وهذا یمکن تطبیقه علی مسألة الإکرام والإطعام، فی مسألة الإکرام والإطعام قد یقال فی ذات الملحوظ یوجد هناک تباین بقطع النظر عن اللحاظ، حتّی إذا قطعنا النظر عن اللحاظ فی ذات الملحوظ یوجد هناک تباین بین مفهومین، بین مفهوم الإکرام وبین مفهوم الإطعام، لو وجب علی المکلّف أن یکرم الفقیر کیفما اتفق وبأیّ نحوٍ کان، وبین أن یجب علیه إکرامه بخصوص الإطعام، هنا یوجد تباین بلحاظ نفس الملحوظ، تباین بین الإکرام وبین الإطعام، باعتبار أنّ مفهوم الإطعام هو مفهوم آخر غیر مفهوم الإکرام، وإن کان بینهما فی الصدق الخارجی هناک تلاقی فی الجملة، بمعنی أنّ الإکرام أوسع صدقاً من الإطعام، أحدهما أخصّ بلحاظ الصدق الخارجی من الآخر، والآخر أعمّ بلحاظ الصدق الخارجی، لکن بین نفس الملحوظین، بین نفس ذات الإکرام ونفس ذات الإطعام لا یُبعد أنّ یوجد بینهما تباین، هذا التباین یعنی أنّ ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) یمکن أن یصح فی هذا المثال؛ لوجود تباین بینهما، ولعلّه هو مقصوده حینما ذکر الجنس والنوع، یعنی یقول فی مثال الإکرام وفی مثال الإطعام یوجد بینهما تباین، مفهومان متباینان. نعم، فی الصدق الخارجی یلتقیان فی الجملة، لکن هما مفهومان متباینان کأیّ مفهومین آخرین لیس أحدهما یتضمّن الآخر کما هو الحال فی الجنس والنوع، وفی الجنس والفصل، أحدهما یتضمّن الآخر ویستبطنه، الإکرام والإطعام لیسا من هذا القبیل، فإذا قلنا بذلک؛ حینئذٍ یکون العلم الإجمالی باقیاً علی حاله ولا ینحل؛ لأنّ الأمر یدور بین المتباینین حتّی بلحاظ ما یدخل فی عالم العهدة الذی هو ذات الملحوظ کما قلنا، حتی بلحاظ هذا العالم الأمر یدور بین المتباینین؛ لأنّهما مفهومان متباینان؛ بل أکثر من هذا یمکن أن یقال؛ لأنّهما متباینان حتی بلحاظ عالم التطبیق الخارجی وعالم الامتثال علی ما تقدّم، هناک فرق بین أن یجب علیّ الإکرام وأشک فی اعتبار شیءٍ فیه مثل أنّ الإکرام هل یجب فیه أن یتعقبه الدعاء الخاص أو یسبقه الدعاء الخاص، أو لا ؟ فی هذا نستطیع أن نقول بلحاظ عالم التطبیق وعالم الامتثال لا یوجد بینهما تباین؛ بل الأمر یدور بین الأقل والأکثر؛ لأنّه فی عالم الامتثال والتطبیق الخارجی استطیع أن أشیر إلی إکرام معیّن وأقول بأنّ هذا متیقّن الوجود، وإنّما اشک فی أنّه أقرأ قبله الدعاء، أو بعده، وإلاّ هو لا إشکال فی وجوبه، وهذا معناه أنّ الأمر یدور بین الأقل والأکثر بلحاظ عالم الامتثال وعالم التطبیق، لکن فی مثال دوران الأمر بین الإکرام والإطعام الأمر لیس هکذا، عندما اشیر إلی الخارج إلی إکرام من نوع خاص لا استطیع أن أقول أنّ هذا الإکرام متیقن الوجوب، بأی نحو من الأنحاء التی یتحقق بها الإکرام، أی إکرام بالخارج أُشیر إلیه بأی نحوٍ کان لا استطیع أن أقول ب_أنّ هذا متیقن الوجوب وأشک فی إضافة شیءٍ آخر إلیه، وإنّما فی الحقیقة إمّا أن یکون هو واجب هذا الإکرام من نوعٍ خاص، وإمّا أن یکون الواجب تبدیله والإتیان بفردٍ آخر من أنواع الإکرام، یجب تبدیله، لا أنّه یکون متیقن الوجوب ویُشک فی إضافة شیءٍ إلیه کما هو الحال عندما أشک فی وجوب الدعاء عند الاتیان بالإکرام الواجب، وإنّما الأمر یدور بین متباینین علی غرار ما تقدّم سابقاً فی عالم الامتثال التطبیق والخارجی، الأمر یدور بین إمّا هذا الفرد، یعنی إکرام الفقیر بدفع المال إلیه وإمّا إکرام الفقیر بإطعامه، علی تقدیر أن یکون الواجب هو الإطعام، هذا لغو وینبغی تبدیله، لا أنّه هو متیقن وأضیف إلیه شیئاً، وإنّما هو شیءٌ یجب تبدیله وإلغاؤه علی تقدیر أن یکون الواجب هو الإطعام، فالأمر دائر بین المتباینین فی هذا المثال لیس فقط فی عالم العهدة؛ بل حتی فی عالم الامتثال والتطبیق الخارجی الأمر دائر بین المتباینین، ومن هنا لو بقینا نحن ومسألة الانحلال الحقیقی بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل والشک فی ما زاد علیه، لعلّه فی هذا المثال یُلتزم بعدم الانحلال وببقاء العلم الإجمالی، ولو بقینا نحن وهذا لالتزمنا بعدم جربان البراءة لنفی وجوب التعیین أی بوجوب الإطعام؛ بل لابدّ من الاحتیاط، لکن فی المقام یمکن الاستعانة بما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) سابقاً من دعوی الانحلال الحکمی، یعنی بعد أن نعجز عن إثبات الانحلال الحقیقی یمکن أن یُذکر فی المقام الانحلال الحکمی المبنی علی مسلک الاقتضاء کما هو واضح، ونطبّق کلام السید الخوئی(قدّس سرّه) فی محل الکلام، فنقول: هنا البراءة بناءً علی مسلک الاقتضاء، وأنّ الانحلال منوط بجریان البراءة فی أحد الطرفین بلا معارض، فی المقام یمکن أن یقال أنّ أصالة البراءة تجری لنفی وجوب الإطعام ولا تُعارَض بالبراءة لنفی وجوب الإکرام علی غرار ما تقدّم سابقاً، وذلک لعدم ترتب أیّ أثرٍ معقولٍ علی جریان البراءة فی الإکرام؛ لأنّه إن کان الغرض من إجراء البراءة فی وجوب الإکرام هو التأمین فی حالة ترک الإکرام بالمرّة، یعنی ترک الإکرام بکل أنحائه حتّی بالإطعام، فهذا غیر معقول؛ لأنّ هذا الفرض هو فرض المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال والبراءة لا تؤمّن عن المخالفة القطعیة، وإن کان الغرض من إجراء البراءة فی الإکرام هو التأمین من ناحیة ترک الإکرام مع الإتیان بالإطعام، نقول بأنّ هذا غیر متصوّر؛ لأنّ نفی الإکرام یستبطن نفی الإطعام؛ لأنّ نفی الأوسع دائرة یستبطن نفی الأضیق دائرة، فلا معنی لأن نؤمّن بإجراء البراءة فی الإکرام من ناحیة ترک الإکرام مع الإتیان بالإطعام، هذا غیر معقول؛ لأنّ ترک الأعم یستلزم ترک الأخص، فمن هنا لا یکون هناک أثر معقول لجریان البراءة فی الإکرام، فتجری فی الإطعام بلا معارض، وهذا معناه الانحلال الحکمی، فعندما نعجز عن إثبات الانحلال الحقیقی یمکن المصیر إلی إثبات الانحلال الحکمی. نعم، هذا کما هو واضح یتوقّف علی القول بمسلک الاقتضاء. وأمّا إذا قلنا بمسلک العلّیة التامّة، فیبدو أنّ الأمر یقف حینئذٍ؛ لأنّه لا یوجد انحلال حقیقی ولا انحلال حکمی، ونکتة المطلب هی أنّه فی بعض الأمثلة التی تُذکر فی محل الکلام یکون هناک تباین بین المفهومین حتّی بلحاظ عالم العهدة وبلحاظ عالم ما تشتغل به الذمّة، بلحاظ هذا العالم یوجد تباین بین المفهومین، بلحاظ ذات الملحوظ وبقطع النظر عن اللحاظات والحدود مع ذلک یکون بینهما تباین؛ لأنّ مفهوم الإکرام غیر مفهوم الإطعام، وإن کان بینهما تلاقٍ فی الصدق الخارجی فی الجملة، وبهذا یختلفان عن مفهوم الإنسان ومفهوم الحیوان، مفهوم الإنسان یستبطن ویتضمن جنسه، بینما الأمر لیس هکذا فی مثال الإکرام والإطعام، وعلیه؛ فحینئذٍ تکون المسألة مرتبطة بأنّ المفهومین عندما یدور الأمر بین مفهومین من هذا القبیل فی مسألة دوران الأمر بین التعیین والتخییر لابدّ أن نلحظ أنّه هل هناک تباین بینهما بلحاظ عالم العهدة وبلحاظ عالم اشتغال الذمة، أو لا ؟ مع قطع النظر عن الحدود واللحاظات، ذات المحدود وذات الملحوظ هل یوجد بینهما تباین أو لا ؟ إذا کان یوجد بینهما تباین؛ فحینئذٍ نضطر إلی إثبات إمکان جریان البراءة عن طریق الانحلال الحکمی.

ص: 643

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین التعیین والتخییر العقلی. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین التعیین والتخییر العقلی.

الکلام فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر العقلی. فی هذا المقام ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) أنّ مرجع ذلک إلی کون ما یحتمل دخله فی الواجب مقوّماً له بأن تکون نسبته إلیه نسبة الفصل إلی الجنس، أو نسبة النوع إلی الجنس بحیث یکون هذا الشیء الذی یُحتمل دخله فی الواجب مقوّماً للواجب، وذکر بأنّ صاحب الکفایة والمحقق النائینی(قدّس سرّهما) ذهبا إلی عدم جریان البراءة فی المقام، وذکر بأنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذهب إلی ذلک بناءً علی ما تقدّم منه فی بحث دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی الشرائط، هناک ذکرنا رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) الذی کان یتلخّص فی أنّ الطبیعی فی ضمن المقیّد هو متّحد معه؛ بل هو عینه خارجاً، کما أنّ الطبیعی فی ضمن غیر المقید أیضاً کذلک متّحد معه؛ بل هو عینه خارجاً، وهذا ینتج التباین بین الطبیعی فی ضمن المقیّد والطبیعی فی ضمن غیر المقیّد، ومن هنا لا یکون هناک قدر مشترک بینهما؛ بل الأمر یدور بین المتباینین، فیجب الاحتیاط ولا یمکن الرجوع إلی البراءة؛ لعدم وجود قدر متیقّن، یکون هذا القدر المتیقن معلوم الوجوب ومتیقن الوجوب، وإنّما یُشَک فی الزائد عنه حتّی تجری فیه البراءة، الأمر لیس هکذا، وإنّما الأمر یدور بین هذا المقیّد وبین ذاک غیر المقیّد، یعنی بین الطبیعی الموجود فی ضمن المقیّد وبین الطبیعی الموجود فی ضمن غیر المقیّد وهما متباینان، فلابدّ من الاحتیاط. هذا رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه). (1)

ص: 644


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص436 __ 437.

وأمّا المحقق النائینی (قدّس سرّه)، فقد نقل عنه البیان الذی ذکرناه فی الدرس السابق، (1) وحاصله هو : أنّ الجنس لا یتحصّل فی الخارج إلاّ فی ضمن فصل، أصلاً لا یُعقل تحقق الجنس فی الخارج إلاّ فی ضمن فصلٍ من الفصول، وبناءً علی هذا لا یُعقل تعلّق التکلیف بالجنس وحده، وإنّما المعقول أن یتعلّق التکلیف بالجنس مع فرض تمیّزه بفصلٍ، فیدور أمر الجنس الذی یتعلّق به التکلیف حینئذٍ فی محل الکلام بین کونه متمیزاً بفصلٍ معیّن وبین أن یکون متمیزاً بواحدٍ من فصوله، واقع المطلب فی المقام هو هذا، فی محل کلامنا فی مثال(أذبح حیوان) مثلاً، دار الأمر بین أن یکون التکلیف متعلّقاً بمطلق الحیوان، أو بخصوص الحیوان الخاص البقر ____________ مثلاً ___________ هنا یقول بعد فرض أنّ التکلیف لا یُعقل أن یتعلّق بالجنس وحده من دون فصلٍ، إذن: لابدّ أن یتعلّق التکلیف بالجنس مع فصلٍ، والشک یکون فی أنّ هذا الفصل الذی لابدّ أن یتمیز به الجنس عندما یتعلّق به التکلیف، هل هو فصل معین، أو هو واحد من فصول هذا الحیوان، أیّ واحدٍ تحقق الجنس بواحدٍ من هذه الفصول تعلّق به التکلیف والنتیجة أنّ المکلّف یکون مخیّراً بین أن یذبح بقراً، أو غنماً، أو........الخ؛ لأنّ المأمور به هو الجنس المتمیّز بأی فصلٍ من فصوله، هذا طرف للشک، والطرف الآخر أن یکون المأمور به هو الجنس المتمیّز بفصلٍ خاصٍ، یقول: أنّ هذا عندما یکون الأمر دائر بین هذین النحوین الذین ذکرهما؛ حینئذٍ یکون المقام من باب دوران الأمر بین التعیین والتخییر ولیس من باب دوران الأمر بین الأقل والأکثر، وإنّما من باب دوران الأمر بین التعیین والتخییر، ویقول: أنّه لا مجال لأن نقول أنّ تعلّق التکلیف بالجنس متیقّن وإنّما نشک فی تقیّده بالفصل حتی نطبق علیه أنّه یدخل فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر، هذا غیر صحیح، أن نقول أنّ تعلّق التکلیف بالجنس متیقّن؛ لما تقدم سابقاً من استحالة تعلّق التکلیف بالجنس وحده، وإنّما یُعقل تعلّق التکلیف بالجنس فی ضمن فصلٍ من فصوله، فلا یصح أن نقول أنّ التکلیف یتعلّق قطعاً بالجنس، وإنّما نشک فی تقیّده بفصلٍ حتّی یدخل فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر، وإنّما الصحیح أن نقول بأننا نعلم بتعلّق التکلیف بالجنس بفصلٍ، وهذا الفصل یدور بین أن یکون هو عبارة عن فصلٍ معیّن، وبین أن یکون هو واحد من الفصول التی یمکن أن یتحقق بها ویتحصّل بها الجنس، فیدور الأمر بین التعیین والتخییر ویقول: فی مثله یحکم العقل بالتعیین، ولا یجوز إجراء البراءة لنفی التعیین ونفی کلفة التعیین. هذا البیان الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) نقلاً عن المحقق النائینی (قدّس سرّه).

ص: 645


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج3، ص437.

هذا البیان لمنع جریان البراءة فی المقام قد یُلاحظ علیه: بأنّ غایة ما فعله المحقق النائینی (قدّس سرّه) فی المقام هو أنّه أدخل محل الکلام فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر، أخرجه من دوران الأمر بین الأقل والأکثر وأدخله فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر، لکن الکلام أنّه قد یقال: ما الدلیل علی أنّ هذا المورد هو من موارد حکم العقل بالتعیین والاحتیاط وأنّه لیس مورداً من موارد البراءة ؟ البیان الذی ذکره استناداً إلی أنّ الجنس لا یُعقل تعلّق التکلیف به وحده، هو أنّه أخرج محل الکلام من دوران الأمر بین الأقل والأکثر وأدخله فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر، لکن من قال بأنّ العقل حکم بالتعیین فی مثل ذلک ؟ لأنّه قد یقول قائل: الأمر لیس هکذا؛ بل العقل یحکم فی مثل ذلک بجریان البراءة، باعتبار أنّ المکلّف یتیقن بأنّ ذمّته مشغولة بوجوب ذبح حیوانٍ، هذه قضیة متیقنة ولا یمکن الشک فیها، أنّه یجب علیه أن یذبح حیواناً، ویشکّ فی وجوب تقیّد هذا الحیوان بفصلٍ معیّنٍ؛ وحینئذٍ یمکن إجراء البراءة، یعلم المکلّف بلحاظ ذات التکلیف وبلحاظ ما تشتغل به الذمّة بأنّ ذمّته اشتغلت بذبح حیوانٍ، هذا لا یشک فیه، فی فرض المسألة لاشک فی أنّه یجب علیه أن یذبح حیواناً، وإنّما یشک فی أنّ هذا الحیوان الذی یجب علیه ذبحه، هل هو مقیّد بفصلٍ خاصٍ، أو لا ؟ وهذا شک فی التقیید یمکن إجراء البراءة لنفیه، فلیس من الواضح بأنّ العقل یحکم فی محل الکلام بلزوم التعیین وعدم إجراء البراءة؛ بل یمکن أن یُصاغ الکلام بهذا الشکل ویکون هذا شکاً فی التکلیف الزائد ویمکن إجراء البراءة لنفی هذا التکلیف الزائد، ویکون نظیر ما تقدّم فی دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی باب الشرائط، فی باب الشرائط کنت أعلم بأنّ الذمّة مشغولة بعتق رقبة، وإنّما أشک فی تقیّد الرقبة التی اشتغلت الذمّة بعتقها بالإیمان، هل هی مقیدة بهذا القید أو لیست مقیدة بهذا القید ؟ کیف هناک قلنا لا مانع من جریان البراءة لنفی التقیید المحتمل کذلک فی محل الکلام قد یقال لا مانع من جریان البراءة لنفی تقیّد الحیوان الذی اشتغلت الذمّة بذبحه بأن یکون مقیّداً بفصلٍ خاصٍ، هذا یُنفی بالبراءة، والنتیجة هی إثبات التخییر لا التعیین.

ص: 646

لکن یمکن أن یکون المحقق النائینی (قدّس سرّه) ناظراً إلی إثبات عدم کون المقام من باب دوران الأمر بین الأقل والأکثر هو نفی حتّی هذا الاحتمال الذی ذکرناه قبل قلیل؛ وذلک باعتبار أنّه یرید أن یقول فی المقام لا یوجد قدر متیقن فی البین؛ بل کل الاحتمالات المطروحة هی احتمالات ولا قطع بواحدٍ منها حتی یکون قدراً متیقناً فی البین، المحقق النائینی (قدّس سرّه) یرید أن یقول بعد فرض استحالة تعلّق التکلیف بالجنس وحده من دون فصل؛ حینئذٍ یدور الأمر بین أن یکون الفصل الذی یتمیز به الجنس عندما یتعلّق به التکلیف، هل هو فصل معیّن، أو هو واحد من فصوله؟ أحد هذه الفصول الذی یمکن أن یتحقق ویتحصّل به الجنس، الأمر یدور بین هذین الاحتمالین، وهذان الاحتمالان لا قطع بأحدهما، هذا المحتمل لا قطع به، وذاک المحتمل أیضاً لا قطع به، کون الجنس مقیّد بفصلٍ خاصٍ، هذا محتمل لا جزم به، وکون الجنس لیس مقیّداً بفصلٍ محتمل؛ بل یکفی فیه تحققه فی ضمن أحد فصوله، هذا أیضاً لا قطع به؛ لأننا لا نقطع بأنّ الجنس الذی تعلّق به التکلیف یکفی فیه تحققه فی ضمن واحدٍ من فصوله، هذا لا قطع به؛ لأننا نحتمل أنّ الجنس الذی تعلّق التکلیف به مقیّد بأن یتحقق فی ضمن هذا الفصل المعین، فإذن: کما لا یقین بتعلّق التکلیف بالجنس المقیّد بفصلٍ معیّن، کذلک لا یقین بتعلّق التکلیف بالجنس فی ضمن أی واحد من فصوله، هذا لا یقین عندنا به؛ لوضوح أننا نحتمل الاحتمال الآخر الذی یقول الجنس لیس مأموراً به فی ضمن أی فصلٍ من فصوله؛ بل هو أمر به إذا تحقق فی ضمن هذا الفصل الخاص، هذا کاحتمال موجود، هذا الاحتمال الموجود یمنع من القطع بالاحتمال الأوّل، الاحتمال الأوّل لا قطع به، والثانی أیضاً لا قطع به، فکل منهما محتمل، فلا قطع فی البین، فلا قدر متیقن فی البین، فإذا لم یکن هناک قدر متیقن فی البین فلا یمکن إدراج المسألة فی باب الأقل والأکثر، وإنّما تخرج عن باب دوران الأمر بین الأقل والأکثر وتدخل فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر وفی مثله یکون العقل حاکماً بالتعیین لا بالتخییر، لا یحکم العقل بجریان البراءة؛ لأنّه فی الحقیقة لا یوجد قدر متیقن نقول بأنّ هذا نتیقن بتعلّق التکلیف به ونشک فی ضم شیءٍ زائدٍ إلیه حتّی یُعقل جریان البراءة لنفی المحتمل الزائد، وإنّما الأمر یدور بین أمرین لا یقین بهما، کل منهما محتمل، تعلّق التکلیف بالجنس فی ضمن أی واحدٍ من فصوله، هذا محتمل، وتعلق التکلیف بالجنس فی ضمن فصل معیّن أیضاً محتمل، فلا قدر متیقن، فیجب الاحتیاط حینئذٍ، لعلّ هذا هو مقصود المحقق النائینی (قدّس سرّه)؛ وحینئذٍ لا یرد علیه الإشکال السابق الذی ذکرناه.

ص: 647

نعم، سیأتی ذکر ما یمکن أن یکون جواباً عن هذا الوجه الذی نقله السید الخوئی(قدّس سرّه) عن المحقق النائینی (قدّس سرّه)، فی (فوائد الأصول) یمکن أن یُستفاد من کلامه وجهاً آخر لعدم جریان البراءة فی موارد التخییر العقلی، وهذا الوجه الآخر نقلناه فی الدرس السابق، وکان حاصله هو أنّ التردید بین الجنس والنوع وإن کان بالتحلیل الدقّی العقلی یرجع إلی الأقل والأکثر، لکنّه خارجاً بنظر العرف یکون من التردید بین المتباینین؛ لأنّ الإنسان بما له من المعنی المرتکز فی الذهن مباین للحیوان عرفاً، فلو دار الأمر بین إطعام الحیوان أو إطعام الإنسان __________ مثلاً ____________ العرف یری أنّ الأمر دائر بین المتباینین، واللازم فی مثل ذلک هو الاحتیاط بإطعام خصوص الإنسان فی هذا المثال؛ لأنّ نسبة حدیث الرفع إلی کلٍ من وجوب إطعام الإنسان ووجوب إطعام الحیوان نسبة واحدة، فحدیث الرفع یجری فی هذا وأیضاً یجری فی ذاک، فیتعارضان، فیسقط حدیث الرفع فی کلٍ منهما بسبب التعارض؛ لأنّه لا یمکن إجراء حدیث الرفع لنفی وجوب إطعام وإجراؤه فی نفس الوقت لنفی وجوب إطعام الحیوان؛ لأننا نعلم بوجوب إطعام أحدهما بلا إشکال، فتسقط البراءة فی کلٍ منهما؛ وحینئذٍ یبقی العلم الإجمالی علی حاله، وهو یقتضی الاحتیاط. هذا بیان آخر غیر البیان السابق، یعتمد هذا البیان بعد الاعتراف بأنّه بالنظر الدقّی الأمر یدور بین الأقل والأکثر، لکنّه بالنظر العرفی الأمر یدور بین المتباینین، وذکر مثالاً لذلک الإنسان مع الحیوان ولیس بالبقر مع الحیوان، أو الغنم مع الحیوان. هذا ما ذکره فی فوائد الأصول.

هذا الذی ذکره یجاب عنه وهذا الجواب یصلح أیضاً أن یکون جواباً عن البیان الأوّل الذی نقله عنه السید الخوئی(قدّس سرّه)، کما یصلح أن یکون جواباً عن الدلیل الذی ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لمنع جریان البراءة فی محل الکلام. هو جواب واحد إذا تمّ یصلح أن یکون جواباً عن کل الوجوه التی ذُکرت لمنع جریان البراءة فی محل الکلام. هذا الوجه ذکرناه فی الدرس السابق الآن نعیده، وحاصله: أنّ التباین بین الجنس والنوع، وبین الجنس والفصل إنّما هو تباین فی اللحاظ باعتبار أنّ النوع یتضمّن الجنس، والجنس مستبطن فی نفس النوع، هذا الجنس المستبطن فی نفس النوع إذا لاحظناه باللحاظ الإجمالی، هذا یباین الجنس الذی یلحظ باللحاظ التفصیلی، هناک تباین بین الجنس باللحاظ التفصیلی وبین الجنس المستبطن فی النوع الذی یُلحظ باللحاظ الإجمالی، وبطریقة اللّف والنشر، وبنظرة إجمالیة عندما نلحظ النوع نلحظ الجنس بلحاظ إجمالی فی ضمنه، هذا الجنس الذی یُلحظ باللحاظ الإجمالی فی النوع هو یباین الجنس الذی یُلحظ باللحاظ التفصیلی، هو مباین له، هذا صحیح، وهذا التباین بهذا المقدار موجود، لکن هذا التباین هو تباین فی اللحاظ الإجمالی وفی اللحاظ التفصیلی، لکن إذا جرّدنا الأمر من هذه اللحاظات باعتبار ما تقدّم من أنّ هذه اللحاظات هی حدود للملحوظ ولیست داخلة فی العهدة ولا تشتغل بها الذمّة، وإنّما الذی تشتغل به الذمّة ویدخل فی العهدة هو ذات الملحوظ وذات المحدود، إذا لاحظنا ذات المحدود، نفس ما یُکلّف به المکلّف ما تشتغل به الذمّة، اللحاظ لا تشتغل به الذمّة ولا یدخل فی العهدة، إذا لاحظنا ما تشتغل به الذمّة؛ حینئذٍ یمکن أن یقول المکلّف بکل وضوح بأنّی أقطع بأنّ ذمّتی اشتغلت بإطعام حیوان، المکلّف لا یشک فی أنّ عهدته اشتغلت بإطعام حیوان ویشک فی أنّه هل اشتغلت کذلک مضافاً إلی ذلک بأنّ الحیوان هو من نوعٍ خاص ؟ هل اشتغلت أیضاً بأن یکون الحیوان متمیزاً بفصلٍ خاص، أو لا ؟ هذا شک فی التکلیف بلحاظ ما تشتغل به الذمة، هذا شک فی التکلیف فی عالم العهدة، شک فی تکلیف زائد، شک فی إضافة شیءٍ إلی ما یعلم اشتغال الذمّة به؛ فحینئذٍ تجری البراءة ولا مانع من جریانها، ولیس الأمر دائراً بین المتباینین کما فی التقریب الثانی لکلام المحقق النائینی(قدّس سرّه)، ولیس دائراً بین التعیین والتخییر کما فی التقریب الأوّل الذی نقله السید الخوئی(قدّس سرّه) نقلاً عنه ولا دائر بین المتباینین کما یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه) إذا أخذنا اللحاظات بنظر الاعتبار یمکن أن یکون هذا دائر بین المتباینین، لکن إذا جرّدنا المسألة عن باب اللحاظات باعتبار أنّها لا تشتغل بها الذمّة ولاحظنا نفس ما تشتغل به الذمّة سنجد أنّ المکلّف بإمکانه أن یقول أنا جازم بأنّ ذمّتی اشتغلت بإطعام حیوان، هذا قطعاً لا یشک فیه، وإنّما یشک فی أنّه هل اشتغلت ذمّته مضافاً إلی ذلک بأن یکون الحیوان من نوع معیّن، أو متمیزاً بفصلٍ معین، أو لا ؟ هذا شک فی التکلیف الزائد تجری فیه البراءة، قلنا أنّ هذا بالضبط من قبیل ما تقدّم فی باب الشرائط، هما من وادٍ واحد، أیّ فرقٍ بینهما ؟ فی باب الشرائط هناک یعلم المکلّف بأنّه أُمر بعتق رقبة ویشک فی أنّه هل یعتبر الإیمان فی تلک الرقبة، أو لا ؟ نفس الکلام یقال مع حفظ الفوارق، لکن هما من باب واحد، هو یعلم بأنّه قد اشتغلت ذمّته قطعاً بعتق رقبة، وشک فی أنّه هل یشترط فی هذه الرقبة أن تکون مؤمنة، أو لا ؟ قلنا هناک أنّ البراءة تجری لنفی التقیید الزائد المحتمل بلحاظ عالم العهدة، بلحاظ ما تشتغل به الذمّة، فی المقام أیضاً یمکن أن یقال بذلک، فی المقام یعلم المکلّف قطعاً بأنّ ذمّته اشتغلت بإطعام حیوان ولا یمکن إجراء البراءة لنفی هذا؛ لأنّ ذمته قطعاً اشتغلت بإطعام حیوان، وإنّما یشک فی أنّه هل یعتبر فی هذا الحیوان أن یکون من نوعٍ خاص أو متمیّزاً بنوعٍ خاص، أو لا ؟ هذا شک فی التقیید الزائد، شک فی التکلیف بأمرٍ إضافی فی ضمن شیء إضافی إلی ما یتقین باشتغال الذمّة به، فیمکن أن تجری فیه البراءة وتنفی هذا التقیید الزائد. إذا تمّ هذا الجواب، یمکن الجواب به عن کل ما تقدّم، یکون الجواب عن ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وعن ما نقل عن المحقق النائینی (قدّس سرّه) فی کلا الموضعین.

ص: 648

نعم، فی الدرس السابق قلنا أنّ فی مثال الإطعام والإکرام یمکن أن یقال أنّ الأمر یدور بین المتباینین، یعنی لا یجری فیه الکلام الذی قلناه قبل قلیل، هذا یجری فی الجنس مع الفصل، فی الجنس مع النوع، لکن فی باب الإطعام والإکرام عندما یدور الأمر بین إطعام زید وبین إکرام زید هنا هذا الکلام السابق لا یجری؛ بل یمکن أن یقال الأمر یدور بین مفهومین متباینین، وذکرنا فی الدرس السابق وإن کان بینهما التقاء فی الصدق الخارجی وقد تکون النسبة بینهما هی العموم والخصوص المطلق بأن کل ما یصدق علیه الإطعام یصدق علیه الإکرام لکن لا عکس، لیس کل ما یصدق علیه الإکرام یصدق علیه الإطعام، بالرغم من الصدق الخارجی فی الجملة، لکنّه یبقی المفهومان متباینین مفهوم الإطعام ومفهوم الإکرام، عندما یدور الأمر بینهما، بأن یکون الواجب هل هو الإطعام، أو یکون الواجب هو الإکرام، هما مفهومان متباینان، التقاؤهما فی الصدق الخارجی لا یبرر عدم التباین بین المفهومین، ولعلّ السر فی الفرق بین هذا المثال والأمثلة السابقة، بین الجنس مع النوع والجنس مع الفصل، السر هو أنّ الجنس هناک أُخذ فی مفهوم النوع، بینما فی محل الکلام فی باب الإطعام والإکرام الأمر لیس هکذا، لم یؤخذ فی مفهوم الإطعام مفهوم الإکرام، بینما فی مفهوم الإنسان أُخذ فی مفهومه الجنس(الحیوان)، بینما فی باب الإطعام والإکرام لم یؤخذ فی مفهوم الإطعام مفهوم الإکرام؛ ولذا صارت النسبة بینهما التباین، وصارا مفهومان متباینان من قبیل مفهوم الخشب مع مفهوم الشجرة، هناک تلاقی فی الصدق الخارجی؛ لأنّ کل شجرة من خشب ولا عکس، لکن هذا لا یعنی أنّ الشجر أخذ فی مفهومه الخشب، لم تؤخذ الخشبیة فی مفهوم الشجر، وهکذا الحدید مع المسمار، لم یؤخذ فی مفهوم المسمار مفهوم الحدید، وإنّما هو شیء آخر غیر الحدید وإن کانا یلتقیان فی الخارج، لم یؤخذ فی مفهومه مفهوم الحدید ولذا یُری أنّهما أمران متباینان الحدید کمفهوم هو مباین لمفهوم المسمار، الخشب کمفهوم هو مباین لمفهوم الشجرة، الإکرام فی محل الکلام أیضاً هو مفهوم مباین لمفهوم الإطعام، هذا هو السر فی عزل هذا المثال والاعتراض بأنّه یکون بینهما تباین ولیس هناک قدر متیقن بینهما، المکلّف هو یشک فی أنّه هل یجب علیه إکرام زید أو یجب علیه إطعامه ؟ مفهومان متباینان؛ حینئذٍ القاعدة الأولیة فی مثله هو أنّه یجب علیه الاحتیاط، ویجب إطعامه، هذا الأخص صدقاً یجب الإتیان به باعتبار أنّ الأمر دائر بین المتباینین، ومن هنا قلنا باّنه نحتاج لعدم الإلزام بالتعیین وحل العلم الإجمالی لابدّ نحتاج للاستعانة بالانحلال الحکمی لحل هذا العلم الإجمالی فی هذا المثال، انحلال حقیقی غیر موجود؛ لأنّ الأمر دائر بین المتباینین، لکننا نحتاج لحل هذا العلم الإجمالی وتجویز إجراء البراءة إلی الانحلال الحکمی بالبیان الذی ذکرناه فی الدرس السابق، وهو أنّه فی المقام أصالة البراءة لنفی وجوب الإطعام تجری؛ لأنّ موضوعها متحقق، تکلیف مشکوک، فتجری البراءة لنفی وجوب الإطعام ولا تُعارض بجریان البراءة لنفی وجوب الإکرام لما قلناه من أنّه إن کان الغرض من إجراء البراءة لنفی وجوب الإکرام هو التأمین من ناحیة ترک الإکرام مع ترک الإطعام، فهذه مخالفة قطعیة، البراءة لا تجری للتأمین عن المخالفة القطعیة، وإنّما تجری للتأمین عن المخالفات الاحتمالیة، وإن کان الغرض من إجراء البراءة فی الإکرام هو التأمین من ناحیة ترک الإکرام مع الإتیان بالإطعام، هذا غیر معقول؛ لأنّ نفی ما هو أعم صدقاً یستلزم نفی ما هو أخص صدقاً، فافتراض أنّه فی الخارج یکون هناک إطعام بلا إکرام، هذا غیر صحیح وغیر معقول، فإذن: البراءة فی الإکرام لا تجری، یعنی لیس لجریانها أثر معقول، فتجری البراءة لنفی الإطعام وهذا یتحقق به الانحلال الحکمی وبذلک نصل إلی نفس النتیجة وهی أنّ البراءة تجری فی محل الکلام ولا یتعیّن الرجوع إلی التعیین .

ص: 649

الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین التعیین والتخییر العقلی. بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة / تنبیهات العلم الإجمالی/ دوران الأمر بین التعیین والتخییر العقلی.

بعد أن أکملنا الکلام فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر العقلی، یقع الکلام فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر الشرعی، المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر أنّ دوران الأمر بین التعیین والتخییر الشرعی یمکن تقسیمه إلی أقسام ثلاثة:

القسم الأوّل: ما إذا دار الأمر بین التعیین والتخییر فی مرحلة الجعل فی الأحکام الواقعیة، مثّل لذلک بما إذا شککنا فی أنّ صلاة الجمعة فی عصر الغیبة هل هی واجبة تعییناً، أو هی واجبة تخییراً بینها وبین الظهر. أو شککنا فی أنّ العتق الواجب عند الإفطار العمدی هل هو واجب تعییناً، أو أنّ المکلّف مخیر بینه وبین إطعام ستین مسکیناً، هذا سمّاه دوران الأمر بین التعیین والتخییر فی مرحلة الجعل فی الأحکام الواقعیة.

القسم الثانی: ما إذا دار الأمر بینهما فی مرحلة الجعل لکن فی الأحکام الظاهریة ومقام الحجّیة، وهو الذی یُسمی بدوران الأمر بین التعیین والتخییر فی الحجیّة لا فی الحکم الواقعی کما إذا شککنا فی أنّ تقلید الأعلم بالنسبة للعامی الغیر القادر علی الاحتیاط، أنّه هل هو واجب تعییناً، أو هو تخییراً بینه وبین غیر الأعلم. العامی هل هو مخیّر بین أن یقلد الأعلم أو یقلد غیر الأعلم، أو أنّ قول الأعلم هو الذی یکون حجّة فی حقه، ولا یجوز له مع التمکن من تقلید الأعلم أن یقلد غیر الأعلم ؟ هنا الدوران بین التخییر والتعیین، بین الأعلم وبین غیره، لکن هذا التخییر فی مقام الجعل بالحکم الظاهری وفی مقام الحجّیة، أیّهما هو الحجّة ؟ الحجّة أمّا أن یکون هو قول الأعلم فقط تعییناً، أو یکون الحجّة هو أحد القولین: إمّا الأعلم أو غیر الأعلم. من هذا القبیل أیضاً یدخل تعارض النصّین مع احتمال وجود مزیة توجب الترجیح فی أحدهما دون الآخر بحیث یُحتمل أن تکون هذه المزیة موجبة لترجیح صاحب المزیة علی النص المعارض له. هنا أیضاً یدور الأمر بین أن یکون صاحب المزیة حجّة تعیناً، وبین أن یکون حجّة تخییراً، إذا کانت هذه المزیة موجبة للترجیح، فیکون حجّة تعییناً، وإن لم تکن موجبة للترجیح فهما متساویان، فیکون المکلّف مخیراً بینهما، فصاحب المزیة یدور أمره بین أن یکون حجّة تعییناً أو یکون حجّة تخییراً.

ص: 650

القسم الثالث: دوران الأمر بین التعیین والتخییر فی مقام الامتثال من أجل التزاحم کما إذا کان هناک واجبان یُعلم بکلٍ منهما ولا شک فی مقام الجعل من جهتهما، هذا واجب وهذا واجب، کل منهما تام الوجوب وتام الملاک، لکن المکلّف غیر قادر علی امتثالهما معاً کما إذا کان هناک غریقان لا یتمکن المکلّف إلاّ أن ینقذ احدهما، إنقاذ هذا الغریق واجب، وإنقاذ هذا الغریق أیضاً واجب، لکن المکلّف غیر قادر علی الجمع بین امتثالهما؛ لأنّ قدرته قدرة واحدة إمّا أن یصرفها فی امتثال هذا وإمّا أن یصرفها فی امتثال ذلک، فإذا فرضنا أنّ أحدهما کان أحدهما محتمل الأهمیة کما إذا احتملنا أنّ أحدهما ولیاً من الأولیاء، أو نبیاً من الأنبیاء، فی حالة التزاحم وعدم إمکان امتثالهما أیضاً یدور الأمر بین التعیین والتخییر، إمّا یجب علیه إنقاذ هذا الغریق الذی یحتمل کونه نبیاً وإمّا أن یکون مخیّراً بینه وبین الآخر، فوجوب إنقاذ هذا إمّا أن یکون ثابتاً تعییناً، وإمّا أن یکون ثابتاً تخییراً، فیدور الأمر بین التعیین وبین التخییر، لکن فی مقام الامتثال لا فی مقام الجعل، لا بلحاظ الأحکام الواقعیة، ولا بلحاظ الأحکام الظاهریة، هذه الأمور واضحة ولا شک فیها، وإنّما المسألة مسألة تزاحم فی مقام الامتثال، فأیّهما یقدّم، فیدور أمر محتمل الأهمیة بین التعیین وبین التخییر.

عندما نتکلّم فی التعیین والتخییر الشرعی، محل الکلام هو القسم الأول، یعنی ما إذا کان الأمر دائراً بین التعیین والتخییر فی مقام الجعل بلحاظ الأحکام الواقعیة، بأن یکون هناک حکم لا شک فیه، وإنّما یکون الشک فقط من ناحیة أنّ هذا هل هو واجب تعییناً، أو یکون واجباً تخییراً ؟ صلاة الجمعة واجبة قطعاً ولیس هناک شک فی ذات الواجب وإنّما یتمحّض الشک فی أنّه هل هی واجبة تعییناً، أو واجبة تخییراً ؟ فالمناط فی محل الکلام هو ما إذا علمنا بتعلّق تکلیف بأمرٍ معیّن وشککنا فی أنّه هل هو واجب بخصوصه، أو أنّه لیس واجباً بخصوصه ؟ وإنّما له عِدل أو بدیل یمکن أن یقوم مقامه، أی أنّه هل هو واجب تعییناً، أو هو واجب تخییراً ؟ هذا هو محل الکلام .

ص: 651

ومن هنا یظهر الفرق بین محل الکلام وبین المسألتین المتقدمتین، یعنی دوران الأمر بین الأقل والأکثر فی باب الأجزاء، ودوران الأمر بین الأقل والأکثر فی باب الشرائط، الفرق بینهما هو أنّه فی محل الکلام لا نفترض أیَّ شکٍ فی الواجب، هذا واجب قطعاً ولیس لدینا شک فیه فی أخذ خصوصیة فیه أو عدم أخذ خصوصیة فیه بحیث تجعلنا فی شکٍ من أنّ الواجب ما هو، هل هو هذا أو ذاک ؟ کلا، هذا هو الواجب، صلاة الجمعة واجبة ولا یوجد عندنا شکٌ فی أخذ خصوصیةٍ فیها، هی واجبة قطعاً، ویترکّز شکّنا فی أنّه هل هو واجب وحده، أو هو أحد طرفی التخییر ؟ وإلاّ هو فی ذاته واجب، نعلم بوجوبه ونفرغ عن وجوبه، وإنّما نشک فی أنه واجب تعییناً أو تخییراً ؟ هل له عِدل یقوم مقامه، أو لیس له عِدل یقوم مقامه ؟ هذا محل الکلام . بینما فی المسألتین السابقتین الأمر لیس هکذا، کنّا نشک فی الواجب نفسه من ناحیة أنّه هل هذه الخصوصیة مأخوذة فیه، أو لیست مأخوذة فیه ؟ وهذا معناه أننا عندنا شک فی الواجب، وحدود الواجب مشکوکة لا نعلم أنّ هذا الواجب هل هو مقیّد بخصوصیة الإیمان، کما فی عتق الرقبة ؟ أو هل هو الأقل مقیّد بالجزء العاشر، أو هو الأقل لا بشرط الجزء العاشر ؟ فنفس الواجب یکون هناک شک فیه، وهو غیر واضح عندنا من ناحیة أنّ الخصوصیة هل اُخذت فیه أم لم تؤخذ فیه الخصوصیة ؟ الشک هنا کان من هذه الجهة، سواء کان فی باب الأجزاء أو فی باب الشرائط، کلٌ منهما الواجب لیس معلوماً ولیس مفروغاً عنه، وإنّما الشک فی نفس الواجب، وفی حدود الواجب وسعته، وإن کان هناک أیضاً نستطیع أن نقول أنّ الأمر یدور بین التعیین والتخییر؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون الواجب هو عتق الرقبة المؤمنة، أو یکون الواجب هو عتق الرقبة مطلقاً، فیدور الأمر بین التعیین والتخییر، بین أن یکون الواجب هو عتق رقبة مؤمنة فقط، أو یتخیر المکلّف بین عتق الرقبة المؤمنة، أو عتق الرقبة الکافرة، فأیضاً بالنتیجة یمکن إرجاعه إلی الدوران بین التعیین والتخییر، لکن الفرق هو أنّه هناک کان الشک فی نفس الواجب وما اُخذ فیه، هناک شک فی أخذ شیء فی الواجب، أو عدم أخذه، هل اُخذت هذه الخصوصیة فی الواجب، أو لم تؤخذ فی الواجب ؟ فی باب الأجزاء کذلک، الجزء الزائد هل اُخذ فی الواجب علی نحو الجزئیة، أو لم یؤخذ ؟ هل اُخذ الإیمان فی الواجب علی نحو القیدیة، أو لم یؤخذ ؟ بینما فی محل الکلام لا یوجد عندنا مثل هذا الشک، الواجب واضح بحدوده ولا یوجد عندنا شک فی أخذ خصوصیة فیه، العتق عند الإفطار فی شهر رمضان واجبٌ لا شک فی أخذ خصوصیة فیه أو عدم أخذ خصوصیة فیه، وإنّما الشک فقط فی أنه واجب بخصوصه، أو أنّ هناک شیئاً یقوم مقامه ویؤدی غرضه، فیکون الفرق بین ما نحن فیه وبین المسألتین السابقتین من هذه الجهة. إذن: محل الکلام هو القسم الأول من الأقسام الثلاثة التی ذکرها المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 652

وأمّا القسم الثانی الذی ذکره، وهکذا القسم الثالث الذی ذکره فالظاهر أنّه لیست هی محل الکلام، وإن تکلموا فیها استطراداً، لکن محل الکلام لیس القسم الثانی ولیس القسم الثالث، القسم الثانی هو عبارة عن دوران الأمر بین التخییر والتعیین فی الحجیة، حجیة النص صاحب المزیة عندما یعارضه نص آخر، هنا یدور الأمر بین التعیین والتخییر فی الحجیة، هل قول الأعلم حجّة تعییناً، أو هو حجّة تخییراً بینه وبین قول غیر الأعلم ؟ هذه المسألة خارجة عن محل الکلام، فی هذه المسألة الظاهر أنهم یتفقون علی أنّ الحکم هو التعیین، یعنی المکلّف لا یکون معذوراً إذا أخذ بالحجة الأخری؛ بل لابدّ أن یأخذ بما حجة إمّا تعییناً أو تخییراً ویترک الطرف الآخر والسر فی ذلک واضح؛ لأنّ قول الأعلم فی المثال الأول، أو النص صاحب المزیة التی یُحتمل أن تکون موجبة لترجیحه علی معارضه بحیث هذه المزیة غیر موجودة فی النص الآخر، وإنما هی موجودة فی أحد النصّین، هذا النص صاحب المزیة، قول الأعلم، هذا مقطوع الحجیة، قطعاً هو حجة علی کل تقدیر، سواء کانت هذه المزیة موجبة للترجیح، أو لم تکن موجبة للترجیح، إذا کانت موجبة للترجیح، فیکون قوله حجّة تعییناً، وإن لم تکن موجبة للترجیح، فهما متساویان والمکلف مخیّر بینهما .

إذن: الأخذ بقول صاحب المزیة، بقول الأعلم فی المثال الأول، العمل بالنص صاحب المزیة قطعاً حجة ومبرء للذمة، مقطوع الحجیة علی کل تقدیر، بینما الطرف الآخر لیس هکذا، وإنّما الطرف الآخر یکون حجة فی صورة کون المزیة فی ذاک الطرف لیست موجبة للترجیح، إذا لم تکن موجبة للترجیح یتساویان، فیکون کل منهما حجّة، فیتخیّر المکلّف بینهما، أمّا علی تقدیر أن تکون المزیة موجبة لترجیح ذاک، فلا یکون هذا حجّة حینئذٍ. إذن: لا یقطع بکون الطرف الآخر حجة، بینما صاحب المزیة، أو قول الأعلم فی المثال الأول هو حجّة قطعاً وهو مقطوع الحجیة علی کل تقدیر، سواء کانت المزیة الموجودة فیه موجودة حقیقة وموجبة لترجیح قوله، أو لم یکن کذلک؛ لأنّه إذا لم یکن کذلک، فأنه یتساوی مع الآخر، إذن: هو حجة علی کل حال، بخلاف الآخر، فأنه لیس کذلک. ومن هنا قالوا بأنّ الثانی لا یکون حجّة؛ لأننا نشک فی حجیته بالوجدان؛ لأنّه علی أحد التقدیرین لا یکون حجّة، فنشک فی حجیته، والشک فی الحجیة یساوق القطع بعدمها، فإذا شککنا فی حجّیة شیء لا یمکن الاعتماد علی ذلک الشیء ولا ترتیب آثار الحجیة علیه، فیجب بحکم العقل الأخذ بما هو مقطوع الحجیة، ومقطوع الحجیة هو قول الأعلم فی المثال الأول، والنص صاحب المزیة التی یحتمل أن تکون موجبة للترجیح فی المثال الثانی؛ لأنّ المکلّف حینئذٍ یکون مأموناً من المؤاخذة ومن استحقاق العقاب لو عمل بهذا؛ لأنّه حجة علی کل تقدیر، وهذا معناه الحکم بالتعیین فی القسم الثانی، وهذه المسألة خارجة عن محل الکلام ومتّفق علیها ظاهراً.

ص: 653

وأمّا بالنسبة للقسم الثالث الذی هو عبارة عن دوران الأمر بین التعیین والتخییر فی مقام الامتثال؛ لأجل التزاحم، عندما یحتمل کون أحد الواجبین المتزاحمین أهم، إذا کان أحد الواجبین المتزاحمین معلوم الأهمیة؛ فحینئذٍ یکون هو الواجب فقط، أی الوجوب الفعلی یکون له، ویسقط الوجوب الفعلی عن الآخر، فیجب تقدیم معلوم الأهمیة بلا إشکال، لکن هذا حینما یکون معلوم الأهمیة؛ حینئذٍ لا یدور الأمر بین التعیین والتخییر؛ بل هو یجب تعییناً عندما یکون معلوم الأهمیة، وإنّما الکلام فی ما إذا کان احدهما محتمل الأهمیة، فی هذه الحالة یدور الأمر بین التعیین والتخییر؛ لأنّ هذا إمّا یجب إنقاذه تعییناً، وإمّا أن یتخیّر المکلف بین انقاذه وبین إنقاذ الغیر. هنا أیضاً لا کلام عندهم فی أنّ الحکم هو التعیین، بمعنی أنّ هذا المکلّف فی هذا المثال یجب علیه أن ینقذ من توجد فیه هذه المزیة الموجبة لاحتمال أهمیة الملاک، هذا أیضاً واضح عندهم وخارج عن محل الکلام، والسر فی هذا __________ علی ما یُذکر فی محله __________ هو أنّ الواجبین المتزاحمین إذا کان أحدهما معلوم الأهمیة، لا إشکال فی أنّ الوجوب الفعلی ینعقد علی طبقه ویسقط الوجوب الفعلی عن الواجب الآخر، باعتبار أنّ المکلّف یکون معذوراً فی تفویت الواجب الآخر وفی تفویت ملاکه، وإن کان ملاک الواجب الآخر أیضاً ملزم، لکن المکلّف عندما یعلم بأهمیة هذا، هذا معناه أنّ الشارع نفسه یأمره بصرف قدرته فی امتثال هذا الأهم؛ لأنّه لیست لدیه قدرة علی امتثال کل منهما بحسب الفرض، باعتبار التزاحم، فالشارع عندما یکون أحدهما معلوم الأهمیة عند الشارع، معناه أنّ الشارع یأمر المکلف بأن یصرف قدرته لامتثال هذا، فیصبح بذلک عاجزاً عن امتثال الطرف الآخر؛ لأنه عاجز عن امتثال الطرف الآخر تشریعاً لا تکویناً، هو قادر تکویناً علی امتثال الطرف الآخر، لکن تشریعاً هو عاجز عن امتثال؛ لأنّ الشارع أمره أن یصرف قدرته فی امتثال التکلیف الأول، فی إنقاذ الغریق الذی یعلم بکونه أهم فی نظر الشارع؛ فحینئذٍ یسقط الوجوب الفعلی عن ذاک ولا یکون تفویت ذاک الواجب، ولا یکون تفویت ملاکه بالنسبة إلی المکلف موجباً لاستحقاق العقاب؛ بل المکلف یکون معذوراً فی هذا التفویت ولیس علیه شیء أصلاً من ناحیة العقل، فیمتثل هذا التکلیف ویترک ذاک التکلیف ولیس علیه شیء، باعتبار عجزه کما قلنا، عجزه التکوینی عن امتثال کلا التکلیفین، وعجزه التشریعی عن امتثال هذا التکلیف؛ لأنّ الشارع أمره بصرف قدرته فی امتثال هذا التکلیف. هذا إذا کان یعلم بأهمیة أحدهما فی باب التزاحم. وأمّا إذا کان یعلم بتساویهما فی الأهمیة، فی هذه الحالة لیس من المعقول افتراض أن یتعلّق التکلیف الفعلی بأحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجیح بلا مرجح وهو قبیح، وفی هذه الحالة إمّا أن یُلتزم بتعلّق التکلیف بکلٍ منهما مشروطاً بترک الآخر، وإمّا أن یُفترض وجوب کلٍ منهما تخییراً، وسیأتی توضیح هذا عند التکلم عن تفسیر حقیقة الوجوب التخییری، علی کلا التقدیرین لا إشکال ولا خلاف بحکم العقل فی أنّه یجوز للمکلف أن یکتفی بامتثال أحد التکلیفین باعتبار أنّ قدرته لا تسع لامتثال کلٍ منهما، فلا محالة یکون مکلفاً بأن یمتثل أحدهما، إمّا هذا وإمّا هذا، سواء قلنا بوجوبین مشروطین بترک الآخر، أو قلنا بالوجوب التخییری کما سیأتی، علی کل حال، هو یمکنه أن یکتفی بامتثال أحدهما؛ لأنه غیر قادر علی أن یأتی بما هو أکثر من ذلک. أو بعبارة أخری هو غیر قادر علی تحصیل کلا الغرضین الملزمین فی هذین الواجبین لضیق قدرته، وإنما هو قادر علی تحصیل أحد الغرضین، فیجب علیه تحصیل أحد الغرضین بلا ترجیح، فیتخیّر بینهما.

ص: 654

هذا کلّه لیس محل کلامنا، وإنّما محل کلامنا فیما إذا احتملنا أهمیة أحد الواجبین المتزاحمین، لیس لدینا علم بالأهمیة ولا علم بالتساوی، وإنّما لدینا احتمال أهمیة أحد الواجبین المتزاحمین، هذا الذی نتکلم عنه، هنا یدور الأمر بین التعیین والتخییر فی مقام الامتثال. هنا أیضاً الظاهر أنّه لا إشکال عندهم فی أنه یجوز للمکلف أن یأتی بهذا الواجب الذی یحتمل أن یکون أهم، ولا شیء علیه فی تفویت الملاک الملزم الموجود فی الواجب الآخر، باعتبار أنّ هذا الذی فیه احتمال الأهمیة أمره یدور بین أن یکون واجباً تعییناً، أو یکون واجباً تخییراً، وعلی کل حال لا محذور فی الإتیان به ولا یستتبع شیئاً إطلاقاً، إذا انقذ الغریق الذی یحتمل کونه نبیاً، هذا لا یستتبع شیئاً بلا إشکال ولیس فیه محذور؛ لأنّه إمّا واجب تعییناً، أو أنه واجب تخییراً، علی کلا التقدیرین لا محذور فی الإتیان به، بخلاف العکس، بخلاف ما إذا أراد امتثال انقاذ الغریق الآخر، فأنّ الإتیان به وتفویت الملاک الملزم فی الطرف الآخر فیه محذور، وهو احتمال أنّ الشارع لا یریده منه؛ لاحتمال أنّ الشارع یرید إنقاذ هذا الغریق؛ لأنّ فیه خصوصیة تستدعی احتمال الأهمیة، فالإتیان به یکون فیه محذور، لا یکون مأمون الجانب، بینما لا محذور فی الإتیان بالطرف الأول، فیتعین الإتیان به؛ لأنّه لا محذور فیه علی کل تقدیر، سواء کانت الأهمیة المحتملة موجودة واقعاً، أو غیر موجودة، علی کل حال یجوز الإتیان به، فیُکتفی به، ولا یترتب علیه أی محذور، بخلاف العکس.

علی کل حال، یمکن أن نقول فی هذه الحالة الأمر یدور بین التعیین والتخییر، والعقل هنا یحکم فی هذا المثال بلزوم انقاذ الغریق الذی یُحتمل کونه أهم؛ لأنّه لا یستتبع استحقاق العقاب ولا محذور فیه، بینما الاکتفاء بالآخر فیه احتمال محذور المخالفة، فیه محذور تفویت الغرض الملزم؛ لأنّه عندما یأتی بهذا الثانی هو قادر تکویناً وتشریعاً علی الإتیان بالأول؛ لأنّ الشارع لم یأمره بامتثال هذا حتی یصبح عاجزاً عن امتثال الأول؛ بل المحتمل أن یأمره بالإتیان بالأول؛ لأنّه محتمل الأهمیة، فالشارع یأمره بصرف قدرته فی إنقاذ من یحتمل کونه نبیاً؛ إذ کیف للمکلف أن یترک امتثال هذا ویترک امتثال الطرف الآخر والحال أنه یحتمل أنّ الشارع لا یجوز له ترک الغرض الملزم الموجود فی الواجب الأول المحتمل الأهمیة، فیحکم العقل بالتعیین فی هذه الحالة؛ وحینئذٍ یکون هذا الحکم فی القسم الثالث هو نفس الحکم الموجود فی القسم الثانی، وهو الحکم بالتعیین.

ص: 655

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.