آرشیو دروس خارج اصول آیت الله شیخ هادی آل راضی35-34

اشارة

سرشناسه:آل راضی، هادی

عنوان و نام پدیدآور:آرشیو دروس خارج اصول آیت الله شیخ هادی آل راضی35-34/هادی آل راضی.

به همراه صوت دروس

منبع الکترونیکی : سایت مدرسه فقاهت

مشخصات نشر دیجیتالی:اصفهان:مرکز تحقیقات رایانه ای قائمیه اصفهان، 1396.

مشخصات ظاهری:نرم افزار تلفن همراه و رایانه

موضوع: خارج اصول

درس الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب

تکلّمنا قبل التعطیل عن الاستدلال علی بالبراءة بالاستصحاب، ولم نکمل هذا الموضوع، ذکرنا سابقاً أنّ الاستدلال علی البراءة بالاستصحاب له ثلاثة تقریبات:

التقریب الأوّل: أنْ نجری الاستصحاب بلحاظ ما قبل البلوغ؛ إذ لا إشکال فی أنّه هناک یمکن استصحاب عدم الجعل وعدم الحرمة؛ لأنّها متیقنة سابقاً قبل البلوغ، فإذا شُکّ فی ثبوتها بعد البلوغ یمکن إجراء استصحاب عدم الحرمة وعدم الجعل.

التقریب الثانی: أنْ نجری الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشریعة؛ إذ لا إشکال فی عدم الجعل وعدم الحرمة، أو عدم الحکم المشکوک قبل ثبوت الشریعة، فإذا شککنا فی الجعل بعد الشریعة؛ فحینئذٍ نجری استصحاب عدم الجعل، وعدم الحکم المشکوک.

التقریب الثالث: أنْ نجری الاستصحاب بلحاظ ما قبل تحقق موضوع التکلیف وقیوده، یعنی شرائط التکلیف الخاصّة، کالاستطاعة فی باب وجوب الحج ----- مثلاً ----- فقبل الاستطاعة لم یکن التکلیف ثابتاً، وبعد أنْ تتحقق، شیء نشکّ علی ضوء تحققّه ----- مثلاً ----- بانتفاء التکلیف، أو بقائه، فیمکن إجراء استصحاب عدم التکلیف الثابت قطعاً قبل تحقق هذا الشرط؛ لأنّ هذا الشرط سواء کان معتبراً، أو لم یکن معتبراً، قبل تحققّه لم یکن هناک تکلیف، وإنّما نشک فی ثبوت التکلیف علی تقدیر تحققّه، فنستصحب عدم التکلیف المتیقن قبل تحقق الاستطاعة؛ وحینئذٍ هذا یثبت البراءة، ویثبت التأمین، وهذا هو المطلوب فی المقام.

ص: 1

وقد تقدّم الکلام فی توضیح هذه التقریبات، فلا نعید. وتقدّم الکلام أیضاً عن التقریب الأوّل، یعنی إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل البلوغ، والاعتراضات الواردة علیه، وما یرتبط بهذه الاعتراضات.

ثمّ تکلّمنا عن الاعتراضات الخاصّة علی التقریب الثانی، وهو إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشریعة، وذکرنا الاعتراض الأوّل علی هذا التقریب، علی التمسّک باستصحاب عدم الجعل، أو عدم الحرمة المشکوکة، وعدم الوجوب المشکوک بلحاظ ما قبل الشارع والشریعة. یطلب فی المقام إجراء استصحاب عدم الجعل الآن، یعنی بعد ثبوت الشریعة، وطبعاً إذا جری الاستصحاب سوف یثبت به البراءة والتأمین، وهذا هو المقصود بالاستدلال علی البراءة بالاستصحاب بهذا التقریب.

اعتُرض علی هذا التقریب باعتراضات:

الاعتراض الأوّل: وحاصله: أنّ استصحاب عدم الجعل فی محل الکلام؛ بل استصحاب الجعل فی غیر محل الکلام هو أصل مثبت، فلا یکون معتبراً، ولا یکون صحیحاً، فلا یصح إجراء الاستصحاب، باعتبار أنّ الأثر الذی یُراد إثباته فی المقام لا یترتّب علی نفس الجعل، وإنّما یترتب علی الفعلیة والمجعول، ومن الواضح أنّ المجعول یتحقق بتحقق الموضوع، فعندما یتحقق الموضوع یکون الحکم فعلیاً، وهو الذی یُعبّر عنه بالمجعول، ولذلک لا أثر ----- کما یقول المعترض ----- لجعل وجوب الحج علی المستطیع بالنسبة للمکلّف الذی لیس مستطیعاً، وإنّما یکون له أثر إذا تحققّت الاستطاعة بالنسبة إلیه، وتحقق الموضوع؛ فحینئذٍ یصبح لهذا المجعول أثر، فالأثر لیس لجعل التکلیف، وإنّما للتکلیف الفعلی الذی لا یکون فعلیاً، إلاّ بعد تحقق الموضوع، فالجعل لیس له أثر، وإنّما تمام الأثر هو للمجعول ولفعلیة التکلیف؛ حینئذٍ یقول المعترض: إذا أُرید باستصحاب الجعل فی غیر المقام ----- لأنّ اعتراض المعترض هو علی استصحاب الجعل ثبوتاً وعدماً ------ أو استصحاب عدم الجعل کما فی محل الکلام، إذا أُرید به مجرّد إثبات الجعل من دون أن نثبت المجعول، أو أُرید به مجرّد نفی الجعل من دون أن ننفی المجعول؛ فحینئذٍ هذا لیس له أثر حتّی یجری الاستصحاب بلحاظه، الجعل لیس أثراً، فلا معنی لإجراء الاستصحاب لإثبات شیءٍ لا أثر له، ونفی الجعل لیس له أثر؛ لأنّ الأثر هو للمجعول وللفعلیة، أمّا نفس الجعل، فلیس له أثر، فإن کان المقصود بالاستصحاب الجاری فی الجعل نفیاً، أو إثباتاً هو إثبات مجرّد الجعل، أو نفی مجرّد الجعل، فهذا لا یجری فیه الاستصحاب؛ لأنّه لا یترتب علیه أثر، وأمّا إذا أُرید باستصحاب الجعل، أو استصحاب عدم الجعل کما فی محل الکلام، إثبات المجعول فی الأول، أو نفی المجعول فی الثانی؛ فحینئذٍ سوف یکون الاستصحاب أصلاً مثبتاً؛ لأنّ لازم بقاء الجعل مع فرض تحقق الموضوع هو ثبوت المجعول، هذا لازم عقلی، فإثبات المجعول باستصحاب الجعل أو نفی المجعول باستصحاب عدم الجعل یجعل الاستصحاب من الأصول المثبتة؛ لأنّ إثبات المجعول باستصحاب الجعل هو من لوازم بقاء الجعل مع فرض تحقق الموضوع یصبح المجعول فعلیاً، فیثبت المجعول، لکن هذا لازم، ولا یمکن أنْ نثبت المجعول بمجرّد استصحاب الجعل مع الشکّ فیه. کما أنّه لا یمکن نفی المجعول باستصحاب عدم الجعل؛ لأنّ استصحاب عدم الجعل لا یثبت نفی المجعول إلاّ باعتبار الملازمة العقلیة بین نفی الجعل وبین نفی المجعول.

ص: 2

هذا المطلب الذی یذکره المعترض مطلبٌ عام، ذکره المحققّ النائینی(قدّس سرّه) (1) وبه دفع إشکال المعارضة المعروف بین استصحاب عدم الجعل وبین استصحاب المجعول فی الشبهات الحکمیة. وهناک مسألة معروفة، وهی أنّه فی الشبهات الحکمیة ومثالها الذی یذکروه هو ما إذا شکّ فی حرمة الوطء بعد النقاء وقبل الغسل، فیراد فی المقام إجراء الاستصحاب فی الشبهة الحکمیة، فیقال أنّه لا إشکال فی حرمة الوطء قبل النقاء، فإذا شک بعد النقاء وقبل الغسل فی بقاء الحرمة، أو ارتفاعها، فیستصحب الحرمة التی کانت ثابتة قبل النقاء، وهذا استصحاب حکمی، هنا اعترض علی هذا الاستصحاب باعتراض معروف، وهو أنّ استصحاب بقاء المجعول معارض باستصحاب عدم الجعل الزائد، بمعنی أننّا إذا لاحظنا ناحیة الجعل، لیس لدینا علم بجعل الحرمة بعد النقاء وقبل الغسل، وإنّما لدینا علم بجعل الحرمة قبل النقاء، لکن هل جُعلت الحرمة شرعاً بعد النقاء أیضاً وقبل الغسل، أو لا؟ لیس لدینا علم بهذا الجعل، فیجری استصحاب عدم هذا الجعل الزائد، فما معنی جعل الحرمة بعد النقاء وقبل الغسل ؟ هذا یکون معارضاً لاستصحاب الحرمة المتیقنة بعد النقاء وقبل الغسل، استصحابان متعارضان، الأوّل یثبت الحرمة، والثانی ینفی الحرمة؛ لأنّه یقول لا جعل للحرمة بعد النقاء وقبل الغسل، الاستصحاب یقول ذلک؛ لأنّ أرکان الاستصحاب متوفّرة، قبل النقاء هناک علم بالجعل، لکن ما أعلمه من الجعل هو جعل الحرمة قبل النقاء، حیث قبل النقاء قطعاً الحرمة مجعولة، لکن هل جعل الله الحرمة بعد النقاء أیضاً وقبل الغسل، أو لا؟ لا أعلم بذلک، والمتیقن سابقاً ولو قبل الشریعة هو عدم الجعل، فیستصحب عدم جعل الحرمة الزائد علی القدر المتیقن، ویکون معارضاً لاستصحاب المجعول، أی الحرمة المتیقنة قبل النقاء.

ص: 3


1- (1) أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 216.

مرّة نعتنی بهذا التعارض ونتممّه، کما هو رأی السید الخوئی(قدّس سرّه) یقول:( استصحاب بقاء المجعول یعارضه باستصحاب عدم الجعل فی المقدار الزائد علی المتیقن). (1) فیتعارضان ویتساقطان، فلا یمکن إجراء استصحاب المجعول)، وبذلک نفی صحة إجراء الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة، واختار هذا التفصیل المعروف الذی هو جریان الاستصحاب فی الشبهات الموضوعیة، وعدم جریانه فی الشبهات الحکمیّة؛ لأنّه دائماً استصحاب الحکم، الذی نُعبّر عنه باستصحاب المجعول یکون مُعارضاً لاستصحاب عدم الجعل الزائد.

أمّا المحقق النائینی(قدّس سرّه)، فلا یرضی بذلک، یقول:(إنّ إشکال المعارضة یندفع بما ذکره من الاعتراض، وهو أنّ استصحاب عدم الجعل لا یجری أساساً حتّی یکون معارضاً لاستصحاب المجعول؛ وذلک لأنّه أصل مثبت). لأنّه إذا کان الغرض من استصحاب عدم الجعل هو فقط نفی الجعل؟ فهذا لا أثر له. وإن کان الغرض منه نفی الجعل استطراقاً إلی نفی المجعول، فهذا یجعل الاستصحاب أصلاً مثبتاً؛ لأنّ نفی المجعول باستصحاب عدم الجعل هو من اللوازم العقلیة التی لا تثبت بالاستصحاب؛ ولذا دفع المحقق النائینی(قدّس سرّه) إشکال المعارضة بهذا الاعتراض الذی ذکرناه، وهو أنّ الأصول الجاریة فی الجعل نفیاً، أو إثباتاً هی أصول مثبتة.

الجواب عن هذا الاعتراض: ما هو الأثر الذی یُراد إثباته عندما نجری الاستصحاب فی الجعل نفیاً أو إثباتاً؟ لنری أنّ هذا الأثر هل هو أثر للمجعول، أو هو أثر للجعل نفیاً أو إثباتاً؟ فی محل الکلام عندما یُطرَح هذا التقریب لإجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشریعة باستصحاب عدم الجعل، عدم جعل الحرمة المشکوکة ---- مثلاً ---- الأثر الذی یُراد إثباته هو عبارة عن التأمین، نرید إثبات التأمین لهذا المکلف الشاک، أنت فی أمان إذا ترکت هذا الفعل الذی تشکّ فی وجوبه، أو فعلت الفعل الذی تشکّ فی حرمته. هذا التأمین هل یتوقف علی إثبات المجعول ؟ تقدّم فی أبحاث سابقة أنّه یکفی فی إثبات التأمین وإثبات التنجیز وصول الجعل، أو نفیه، فإذا فرضنا أنّ الجعل وصل للمکلّف، بأی طریق من الطرق، علم بالجعل، أو ثبت عنده تعبّداً، وضُمّ إلی ذلک تحقق الموضوع هذا یکفی فی إثبات التنجیز، کما أنّ عدم الجعل إذا وصل إلی المکلّف بالعلم الوجدانی، أو بالعلم التعبّدی کما إذا قام علیه الاستصحاب، فأنّه یترتّب علیه التأمین، ولا یتوقف ترتّب التأمین علی نفی المجعول، کما أنّ التنجیز لا یتوقف علی إثبات المجعول، التنجیز یترتّب علی وصول الجعل إلی المکلّف مع تحقق الموضوع، إذا علم المکلّف بحرمة شرب الخمر، وتحقق الموضوع خارجاً؛ فحینئذٍ یکون منجّزاً علیه، وتکون المنجّزیة ثابتة بالعلم بالجعل، أو وصول الجعل مع فرض تحقق الموضوع، ویکفی فی التأمین ------ الذی هو محل کلامنا ------ وصول عدم الجعل إلی المکلّف، من یعلم بعدم الجعل ----- العلم الأعم من العلم الوجدانی، أو التعبّدی ----- یکون مؤمّناً، إذا علم بعدم الجعل ولو تعبّداً هذا یترتّب علیه التأمین، التأمین والمعذّریة والبراءة لا تتوقف علی نفی المجعول حتّی نقول أنّ نفی المجعول باستصحاب عدم الجعل یکون من الأصول المثبتة؛ بل یکفی فی إثبات التأمین والبراءة وصول عدم الجعل ولو کان وصوله عن طریق التعبّد الاستصحابی. فالاشتباه کان فی أنّه فُرض أنّ الأثر لیس هو التأمین، وإنّما هو الاثار الأخری التی تترتب علی المجعول، وفعلیة التکلیف، فیرد هذا الإشکال، أمّا إذا قلنا أنّ الأثر هو إثبات التأمین، فمن الواضح أنّ غرضنا فی محل الکلام هو إثبات البراءة والتأمین، وهذا شیء یترتب علی نفی الجعل، أی علی وصول عدم الجعل، فإذا أجری المکلّف الاستصحاب فی عدم الجعل، فهذا یعنی أنّه وصل إلیه عدم الجعل، أی أصبح عالماً تعبّداً بعدم الجعل، ومع عدم الجعل هناک تأمین بلا إشکال، عندما یثبت شرعاً، ویقال للمکلّف لم یجعل الشارع الحرمة فی هذا الظرف، ویثبت هذا شرعاً، فهذا معناه أنّه یترتب علی ذلک التأمین، فالأثر الذی یُراد إثباته هو عبارة عن المعذریّة والتأمین، وهذه لا تتوقف علی نفی المجعول فی محل الکلام، وإنّما یکفی فیها نفی الجعل، فإذا وصل نفی الجعل، فأنّه یکفی فی إثبات التأمین بلا مثبتیة؛ لأننّا لا نرید أن نثبت لازم عدم الجعل، ونفی الجعل، أی نفی المجعول؛ بل نکتفی بنفی الجعل نفسه، وتترتّب علیه المعذریة والتأمین والبراءة.

ص: 4


1- (2) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسیّد الشاهرودی، ج 4، ص 65.

درس الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب

الاعتراض الثانی علی استصحاب عدم الجعل: مذکور فی أجود التقریرات (1) وفی الدراسات، (2) وحاصله: أنّ عدم الجعل المتیقّن فی السابق الذی یُراد استصحابه هو عدم أزلی غیر مستند إلی الشارع، وهو الذی یُعبّر عنه بالعدم المحمولی، فی حین أنّ العدم المشکوک الذی یُراد إثباته بالاستصحاب هو عبارة عن العدم النعتی، أی العدم بعد الشریعة وبعد إمکان الجعل، یعنی العدم المنسوب إلی الشارع؛ حینئذٍ یُفهم من کلام المحققّ النائینی(قدّس سرّه) أنّ هناک جهتین للإشکال.

بعد أنْ اتضحت هذه المقدّمة، أنّ العدم المتیقّن سابقاً هو العدم المحمولی، بینما العدم الذی یُراد إثباته بالاستصحاب هو عدم نعتی؛ حینئذٍ یُبیّن جهتین للإشکال:

الجهة الأولی: أنّ الاستصحاب لا یجری لأنّ العدم المتیقن سابقاً لا یُحتمَل بقاؤه؛ بل هو مقطوع الارتفاع الآن بعد مجیئ الشریعة، فلا یجری فیه الاستصحاب؛ لأنّ من شروط الاستصحاب وأرکانه الشکّ فی البقاء، یعنی أنْ یشکّ فی بقاء ما کان متیقناً له سابقاً، وفی المقام لا شک فی البقاء؛ بل هناک قطع بالارتفاع، فلا یجری الاستصحاب لأجل ذلک، أی لا یمکن استصحاب عدم الجعل؛ لأنّه مقطوع الارتفاع بعد الشریعة، وسببه واضح؛ لأنّ العدم المتحقق بعد الشریعة هو عدم نعتی، ولیس عدماً محمولیاً، العدم المحمولی ینتهی بمجرّد مجیئ الشریعة، فأنّ العدم المحمولی هو العدم قبل الشارع والشریعة، وقبل إمکان الجعل، وینتهی بمجرّد مجیئ الشریعة؛ لأنّه أیّ عدم یُفرض بعد مجیئ الشریعة، فهو عدم نعتی، ولیس عدماً محمولیاً.

ص: 5


1- (1) أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسیّد الخوئی، ج 2، ص 190.
2- (2) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسیّد الشاهرودی، ج 3، ص 269.

إذن: العدم المتیقن سابقاً، وهو العدم المحمولی غیر محتمل البقاء، ویُقطع بارتفاعه، فلا معنی لاستصحابه؛ لاختلال هذا الرکن المقوّم للاستصحاب.

الجهة الثانیة: أنّ هذا مبنی علی التنزّل علی الإشکال الأوّل، بمعنی أننّا لو أغمضنا النظر عن الإشکال الأوّل، وسلّمنا جریان استصحاب العدم المحمولی المتیقن سابقاً فی محل الکلام؛ فحینئذٍ یأتی الإشکال الثانی، والذی یقول: أنّ هذا الاستصحاب من الأصول المثبتة؛ وذلک لأنّ المقصود فی محل کلامنا هو إثبات العدم النعتی، أی إثبات عدم جعل الشارع للحرمة المشکوکة، وهذا هو المقصود بالاستصحاب، أن نثبت أنّ الشارع لم یجعل الحرمة إذا شککنا فی الحرمة، ولم یجعل الوجوب إذا شککنا فی الوجوب، فالغرض من الاستصحاب هو إثبات عدم الجعل الشرعی المستلزم للإباحة والبراءة والتأمین، وعدم الجعل من قِبل الشارع عدم نعتی، یقول: أنّ إثبات العدم النعتی باستصحاب العدم المحمولی یجعل الاستصحاب أصلاً مثبتاً. لو سلمنا جریان الاستصحاب فی العدم المحمولی، فإثبات العدم النعتی باستصحاب العدم المحمولی غیر صحیح؛ لأنّ استصحاب العدم المحمولی یکون مثبتاً، والسر هو أنّه لیس غرضنا إثبات العدم المحمولی الآن، وإنّما غرضنا هو إثبات عدم جعل الشارع للتکلیف المشکوک، یعنی إثبات العدم النعتی، والحال أننّا لا نستصحب العدم النعتی، وإنّما نستصحب العدم المحمولی، وباستصحاب العدم المحمولی لا یمکن إثبات العدم النعتی، فالإشکال الثانی هو أنّ هذا الاستصحاب هو أصل مثبت.

من خلال هذا التوضیح یتبیّن أنّ الإشکال الثانی مترتّب علی الإشکال الأوّل، بمعنی أنّ الإشکال الأوّل هو إشکال فی أصل جریان الاستصحاب، وبقطع النظر عن ترتب الآثار علیه وإشکال المثبتیّة، أصل الاستصحاب لا یجری؛ لأنّه لا شک فی البقاء. لو تنزّلنا وسلّمنا بوجود الشکّ فی البقاء؛ فحینئذٍ یرد إشکال المثبتیة، وهو الإشکال الثانی.

ص: 6

السید الخوئی(قدّس سرّه) بعد أن ذکر هذا الاعتراض فی تقریرات بحثه فی الدراسات والمصباح أجاب عنه بجوابین:

الجواب الأوّل: (1) هذا الجواب إذا تم، فأنّه یرفع الإشکال من أساسه، یقول: من قال بأنّ العدم المتیقن الذی یُراد استصحابه هو عدم محمولی، نحن ندّعی أنّ العدم المتیّقن الذی یُراد استصحابه هو عدم نعتی، یعنی عدم جعل الحکم بعد الشریعة، باعتبار أنّ من الأمور المسلّمة أنّ الأحکام تدریجیّة، ولم تُبیّن دفعة واحدة، وبعد صدور الشریعة مضی زمان لم یُجعل فیه هذا الحکم المشکوک قطعاً، فإذا شککنا فی حرمة لحم الأرنب ------ مثلاً ------ نحن نقطع بأنّ الشارع بعد الشریعة لم یجعل الحرمة لأکل لحم الأرنب، وقطعنا بعدم جعل الشارع للحرمة المشکوکة بعد الشریعة یدخله فی باب العدم النعتی؛ وحینئذٍ نستصحبه، ولا یرد الاعتراض السابق بکلا جهتیه:

أمّا الجهة الأولی: فواضح؛ لأنّه هناک شک فی بقائه، ولا یوجد قطع بارتفاع هذا العدم؛ حیث کانت الجهة الأولی من الإشکال هی أننّا نقطع بارتفاع هذا المتیّقن، فکیف یجری استصحابه ؟ هذا إذا کان المقصود بالعدم هو العدم المحمولی، فنقطع بارتفاعه بمجیئ الشریعة، أمّا إذا کان المقصود به العدم النعتی، أی العدم المتیّقن فی صدر الشریعة، عدم جعل الحرمة المشکوکة فی صدر الشریعة، واقعاً أنا أشکّ فی بقاء هذا العدم؛ لأنّی احتمل أنّ الشارع جعل الحرمة بعد ذلک للشیء المشکوک، فإذن: هذا العدم محتمل البقاء، ولیس هناک قطع بانتفائه وارتفاعه حتّی یُستشکل فی جریان هذا الاستصحاب من هذه الجهة.

کما أنّ الجهة الثانیة من الإشکال أیضاً ترتفع بهذا البیان؛ وذلک باعتبار أنّه لیس هناک مثبتیة، فالمثبتیة إنّما تلزم عندما نرید استصحاب إثبات شیء غیر المستصحب؛ بل هو یلازمه، کما إذا استصحبنا العدم المحمولی وأردنا إثبات العدم النعتی؛ حینئذٍ یلزم إشکال المثبتیة، أمّا إذا کان المستصحب هو نفس العدم النعتی، وما نرید إثباته بالاستصحاب هو نفس العدم النعتی، أی عدم جعل الشارع لهذه الحرمة؛ فحینئذٍ لا یرِد إشکال المثبتیّة، فما نرید إثباته هو نفس المستصحب، لا لازمه حتّی یلزم من ذلک أنْ یکون الاستصحاب أصلاً مثبتاً.

ص: 7


1- (3) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسیّد الشاهرودی، ج 3، ص 269.

هذا الجواب إذا تمّ فأنّه یدفع الاعتراض من أساسه؛ لأنّ أساس الاعتراض کان مبنیّاً علی افتراض أنّ المستصحب هو العدم المحمولی، فترِد هذه الاعتراضات.

هذا هو الجواب الأوّل، وهو جواب تام، فنحن لا نرید استصحاب عدم الجعل المحمولی الأزلی، وإنّما المقصود هو الأحکام التی نشکّ بها والتی نرید إثبات التأمین فیها تمسّکاً بالاستصحاب، نستصحب فیها عدم جعل ذلک الحکم المشکوک، وهذا متیّقن بعد الشریعة، لما أشار إلیه من أنّ الأحکام تدریجیّة الحصول، ولم تنزل دفعة واحدة؛ فحینئذٍ یستطیع الإنسان أنْ یلتفت إلی صدر الشریعة ویقول أنا أقطع بأنّ أکل لحم الأرنب المشکوک لم یجعل الشارع له الحرمة، قطعاً لم تُجعل له الحرمة، إذا جُعلت الحرمة، فهی إنّما جُعلت فی زمانٍ متأخّر عن ذلک، فیستصحب المتیّقن السابق ویثبّت عدم جعل الحرمة الآن، وهذا یکفی لإثبات التأمین.

الجواب الثانی: (1) حتّی لو فرضنا أنّ العدم المتیّقن والمستصحَب هو العدم المحمولی الأزلی الغیر المنتسب إلی الشارع، لکن لا یلزم من هذا أنْ یکون الاستصحاب أصلاً مثبتاً؛ لأنّ الانتساب إلی الشارع یثبت بنفس الاستصحاب، وهذا لا یجعل الاستصحاب مثبتاً، بناءً علی ما هو واضح، وما سیأتی مفصّلاً فی مباحث الاستصحاب(إنْ شاء الله تعالی) من أنّ اللّوازم التی لا تثبت بالاستصحاب هی اللّوازم المترتبة علی المستصحب، هذه هی اللّوازم التی لا تثبت بالاستصحاب، ویعجز الاستصحاب عن إثباتها؛ لأنّه یکون أصّلاً مثبتاً بلحاظها، وأمّا اللّوازم المترتبة علی نفس الاستصحاب، أی اللّوازم العقلیّة المترتبة علی التعبّد الاستصحابی، فلا أحد یقول بأنّ الاستصحاب بلحاظها یکون أصّلاً مثبتاً؛ لأنّها هی مفاد الاستصحاب، ومفاد الاستصحاب یثبت علی القاعدة وتثبت لوازمه؛ لأنّ مفاد الاستصحاب هو مفاد إمارة، ولیس مفاد أصلٍ عملی، فالتعبّد الاستصحابی مفاد روایة زرارة، وروایة زرارة من الإمارات التی یثبت بها لوازمها، ومثبتات الإمارات حجّة، لکن مثبتات الأصول العملیة لیست حجّة. التعبّد الاستصحابی إذا کان له لازم عقلی کالتنجیز والتعذیر، التعبّد الاستصحابی بالحکم الشرعی لازمه التنجیز، والتعبّد الاستصحابی بعدم الحکم الشرعی لازمه التعذیر، ولا أحد یقول أنّ الاستصحاب لا یثبت المعذریّة لأنّه یکون أصلاً مثبتاً، باعتبار أنّها لوازم للاستصحاب، یعنی لمفاد روایات زرارة التی هی إمارة، والإمارة کما تکون حجّة فی مدلولها المطابقی، تکون حجّة فی مدالیلها الالتزامیة. هو یقول: ما نحن فیه من هذا القبیل، فلا یُستشکَل علینا بالمثبتیة، بأنْ یقال: أننّا نستصحب العدم المحمولی غیر المنتسب إلی الشارع، ونرید أنْ نثبت العدم النعتی، یعنی العدم المنتسب إلی الشارع، فیکون هذا اصلاً مثبتاً. کلا، هذا لیس أصلاً مثبتاً؛ لأنّ هذا الانتساب والإضافة إلی الشارع تثبت بنفس الاستصحاب؛ لأنّها من لوازمه، لا من لوازم المستصحب، لیس من لوازم عدم جعل الحرمة بنحو العدم المحمولی، وإنّما الانتساب هو من لوازم التعبّد الاستصحابی، فأنّ التعبّد الاستصحابی إذا ثبت؛ حینئذٍ یثبت الانتساب إلی الشارع قهراً؛ فحینئذٍ لا مشکلة فی استصحاب العدم المحمولی، وإثبات الانتساب إلی الشارع من دون أنْ یلزم من ذلک إشکال المثبتیة؛ لأنّ الإشکال مبنی علی افتراض أنّ الانتساب یثبت باعتباره لازم للمستصحب الذی هو عدم الجعل، بینما الانتساب لیس من آثار المستصحب، وإنّما هو من آثار نفس التعبّد الاستصحابی، ولا إشکال فی ثبوت لوازم التعبّد الاستصحابی باعتباره مدلول إمارة.

ص: 8


1- (4) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسیّد الشاهرودی، ج 3، ص 265.

هذا الجواب إذا تمّ، فهو یدفع الإشکال من الجهة الثانیة، أی لا تکون هناک مثبتیّة، لکنّه لا یدفع الإشکال من الجهة الأولی، التی هی عدم وجود الشکّ فی بقاء المستصحب؛ بل هناک قطع بارتفاع المستصحب؛ لأنّ المفروض أنّ المستصحب هو العدم المحمولی، والعدم المحمولی یرتفع قطعاً بمجرّد مجیئ الشریعة، وأیّ عدمٍ یُفرض هو عدم نعتی، فلا یمکن أنْ نجیب عن إشکال القطع بارتفاع المتیّقن وعدم الشک فی بقائه، بجواب أنّ الانتساب یثبت بالاستصحاب، هذا شیء آخر. فإذن: هو لا یدفع الإشکال من کلا جهتیه، وإنّما یدفعه من الجهة الأولی

الصحیح فی مقام الجواب عن أصل الاعتراض هو الجواب الأوّل الذی ذکره السیّد الخوئی(قدّس سرّه)، والذی هو أننّا لا نستصحب عدم الجعل کعدم محمولی، وإنّما نستصحبه کعدم نعتی؛ لأننّا نتیقن بأنّ الشارع فی بدایة الشریعة لم یجعل هذه التکالیف المشکوکة، فنقطع بعدم ثبوتها، وهذا عدم نعتی، وکما قلنا هذا الجواب یدفع الإشکال من کلتا الجهتین.

مع التنزّل عن هذا الجواب الصحیح، ولم نقل بأنّ الأحکام تدریجیة، أو لیس هناک قطع بعدم جعل التکلیف المشکوک فی بدایة الشریعة حتّی یکون العدم المستصحب عدم نعتی؛ حینئذٍ الجواب الصحیح عن هذا الاعتراض هو أنْ یقال: أنّ هذا الاعتراض بکلا وجهیه مبنی علی افتراض تعدّد العدم، ووجود عدمین، واحد نسمیه عدم محمولی، والآخر نسمیه عدم نعتی، واحد من العدمین هو العدم غیر المنتسب إلی الشارع، والآخر هو العدم المنتسب إلی الشارع؛ حینئذٍ یرِد الإشکال السابق بکلا جهتیه، أنّ هناک یقین بارتفاع العدم المحمولی غیر المنتسب، ولیس هناک شکّ فی بقائه، وإشکال المثبتیّة أیضاً یرِد؛ لأننّا نرید أنْ نثبت عدماً منتسباً باستصحاب عدم غیر منتسب. وأمّا إذا أنکرنا هذا التعدّد، وقلنا بأنّ هذا الافتراض غیر صحیح، ولیس هناک تعدّد فی العدم، وقد تقدّم سابقاً فی بحث قریب أنّ العدم یتعدّد بتعدّد ما یضاف إلیه، أمّا بتعدّد ملاکات العدم، وبتعدّد صفاته، وبتعدّد الزمان لا یتعدّد العدم، إذا تعدّد ما یُضاف إلیه العدم یتعدّد العدم، ویکون هناک عدمان متغایران، عدم زیدٍ ----- مثلاً ----- وعدم الدار، أمّا إذا فرضنا تعدّد ملاک العدم، العدم یبقی واحد ولا یتعدّد، وإنّما اختلف ملاکه، أو فی محل کلامنا ما هو المتعدّد ؟ وما هو الفرق بین العدم المحمولی والعدم النعتی ؟ لا فرق بینهما إلاّ أنّ هذا عدم یصدر فی زمان ما قبل الشریعة، وهذا عدم یصدر فی زمان ما بعد الشریعة، فهل تعدّد الزمان هذا یعنی تعدّد العدم ؟ وهل لدینا عدمان متغایران حتّی یرد هذا الاعتراض؟ أو أنّ ما لدینا هو عدم واحد فی زمانین؟ أی أنّه عدم واحد وجد فی زمان ثمّ استمر إلی ما بعد صدور الشریعة، هو بالنظر العرفی نشیر إلیه، وبکل وضوح، لو فرضنا أنّ عدم جعل الحرمة کان باقیاً بعد الشریعة، نقول هذا هو بقاء للعدم السابق، یعنی نفس العد السابق استمر وبقی، غایة الأمر أنّه بقی فی زمان، نسمی هذا العدم بلحاظه عدم نعتی، أو عدم منتسب إلی الشارع، أی عدم مع إمکان الجعل من قِبل الشارع، ولیس أنّه عدم آخر مغایر للعدم الأوّل، وإنّما هو نفس العدم السابق، من قبیل عدم التکلیف بالنسبة إلی الصبی قبل البلوغ، وبالنسبة إلیه بعد البلوغ، نقول أنّ العدم لو ثبت للصبی بعد البلوغ فهو نفس العدم السابق ولیس غیره، وإنّما الذی اختلف هو ملاکه، سابقاً کان یثبت عدم التکلیف بملاک الصبا، وعدم البلوغ، والآن عدم التکلیف یثبت بملاکٍ آخر، تعدّد الملاکات، وتعدّد الزمان، وتعدّد الصفات لا یوجب تعدّد العدم، وإنّما الذی یوجب تعدّد العدم هو تعدّد ما یُضاف إلیه العدم، فی محل الکلام لا یوجد تعدّد فی العدم، هو عدم واحد ثبت فی زمان ویُراد استصحابه إلی زمان آخر؛ فحینئذٍ لا یرِد الاعتراض بکلا جهتیه؛ لأنّ الاعتراض کان مبنیّاً علی تعدّد العدم، أنّ هناک عدمین متغایرین، فیرِد الإشکال السابق، أمّا إذا قلنا أنّه عدم واحد تبدّل مع تبدّل الزمان؛ فحینئذٍ لا یِرد الإشکال الأوّل الذی هو عدم وجود الشک فی البقاء، ولا یرد الإشکال الثانی الذی هو دعوی الأصل المثبت؛ لأنّه شیء واحد لا نرید أنْ نثبت باستصحابه شیئاً آخر.

ص: 9

ومن هنا یظهر أنّه لا مشکلة فی الأحکام التی نقطع بعدم جعل الشارع لها فی بدایة الشریعة؛ لأننّا نستصحب العدم النعتی، فلا یرد الاعتراض حینئذٍ، وهذا موجود فی معظم الأحکام، إنْ لم نقل کلّها، یقطع المکلّف بأنّه بعد نزول الشریعة هذه الأحکام لم یجعلها الشارع، لو فرضنا أننّا شککنا فی حکمٍ أنّه مجعول أو لا، ولیس لدینا یقین بعدم جعله بعد نزول الشریعة؛ حینئذٍ یکون الجواب هو أنّه لیس لدینا تعدّد فی العدم، وهناک عدم واحد اختلف الزمان فیه، وهذا یدفع الاعتراض السابق بکلتا الجهتین.

الاعتراض الثالث: ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) فی الدراسات، (1) وفی المصباح، (2) وحاصله: أنّ استصحاب عدم جعل الإلزام فی الشبهات الحکمیة معارَض باستصحاب عدم جعل الترخیص، فلا یجری استصحاب عدم جعل الحرمة؛ لأنّه معارَض باستصحاب عدم جعل الترخیص؛ للعلم الإجمالی بثبوت أحد الأمرین فی الشیء المشکوک، إمّا الحرمة ----- مثلاً ----- إذا شککنا فی الحرمة، وإذا کانت الشبهة تحریمیة، وإمّا الحلّیّة، فاستصحاب عدم جعل الحرمة معارَض باستصحاب عدم جعل الحلّیّة، ولا یمکن أنْ یجری کلا الاستصحابین؛ للعلم الإجمالی بثبوت أحدهما، أکل لحم الأرنب ----- مثلاً ----- إمّا حرام، أو حلال، هذا هو معنی الشبهة التحریمیّة، یدور أمره بین أنْ یکون حراماً، وبین أنْ یکون حلالاً، فهو إمّا حرام، وإمّا حلال، وهذا علم إجمالی، ولا نستطیع أنْ ننفی الحرمة، وفی نفس الوقت ننفی الحلّیّة؛ لأنّه مخالف للعلم الإجمالی، وهذا یوقع التعارض بین استصحاب عدم جعل الحرمة، وبین استصحاب عدم جعل الحلّیّة؛ لأنّه کما أنّ الحرمة مشکوکة، الحلیّة أیضاً مشکوکة، فإذا جری الاستصحاب لنفی جعل الحرمة، یجری الاستصحاب لنفی جعل الحلّیّة، ولا یمکن إجراءهما معاً للعلم الإجمالی بأنّ أحدهما ثابت فی الشیء الذی أشک به، حرمة وحلّیّة فی الشبهات التحریمیة، ووجوب وحلّیّة فی الشبهات الوجوبیّة، فدائماً هو معارَض، فلا یجری لأنّه معارَض بعدم جعل الإباحة.

ص: 10


1- (5) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للسیّد الشاهرودی، ج 3، ص 271.
2- (6) مصباح الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 290.

درس الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب

لازال الکلام فی استصحاب عدم الجعل لإثبات التأمین والبراءة، وانتهی الکلام إلی الاعتراض الثالث علی هذا الاستصحاب، وهو الذی أشار إلیه السیّد الخوئی(قدّس سرّه) فی تقریراته، وحاصله: أنّ استصحاب عدم جعل التکلیف المشکوک مُعارَض باستصحاب عدم جعل الترخیص والإباحة والحلّیّة. والوجه فی هذه المعارضة هو أننّا نعلم إجمالاً بأنّ هذا الشیء الذی نشک فی حرمته وحلّیّته فی الشبهات التحریمیّة، هو إمّا حرام وإمّا حلال، ولا یمکن نفی کلا الاحتمالین فیه بأنْ نجری استصحاب عدم التحریم فننفی التحریم، ونجری استصحاب عدم الحلّیّة فننفی الحلّیّة، لا یمکن ذلک؛ لأننّا نعلم إجمالاً بثبوت أحدهما، وهذا العلم الإجمالی بثبوت أحدهما یوجب وقوع المعارضة والتکاذب بین استصحاب عدم جعل التحریم، الذی هو المقصود إثباته فی المقام، وبین استصحاب عدم جعل الحجّیّة. إذن: لا یجری استصحاب عدم جعل التحریم، وذلک بسبب المعارضة.

السیّد الخوئی(قدّس سرّه) أجاب عن هذا الاعتراض بجوابین:

الجواب الأوّل: أنّ هذا الاعتراض إنّما یتم إذا کان المراد بالإباحة الواقعة طرفاً للعلم الإجمالی هی الإباحة الخاصّة الثابتة للشیء بعنوانه الأوّلی، نظیر التحریم المحتمل الطرف الآخر للعلم الإجمالی أیضاً یثبت للشیء بعنوانه الأوّلی، الإباحة المحتملة إذا کانت ثابتة للشیء بعنوانه الأوّلی، فحینئذٍ یتمّ هذا الاعتراض، فیقع التعارض بین استصحاب عدم جعل التحریم، واستصحاب عدم جعل الإباحة، والوجه فی تمامیة الاعتراض هو لأنّ هذا الشیء، أکل لحم الأرنب ----- مثلاً ----- هو بعنوانه الأوّلی إمّا حرام، وإمّا حلال، ولا یمکن نفیهما معاً، فیقع التعارض بین الاستصحابین.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الإباحة الواقعة طرفاً للعلم الإجمالی هی إباحة ثابتة بملاک أنّه لم یرِد فیه نهی، الإباحة المحتملة فی هذا الشیء لیست إباحة خاصّة، وإنّما هی ثابتة بملاک إنّه لم یرِد فیه نهی، یقول: إذا کانت الإباحة من هذا القبیل؛ فحینئذٍ نجیب عن إشکال الاعتراض بأنّ استصحاب عدم جعل التحریم یجری ولا یُعارَض باستصحاب عدم جعل الترخیص والإباحة؛ لأنّ استصحاب عدم جعل التحریم حینئذٍ یکون حاکماً علی استصحاب عدم جعل الإباحة؛ لأنّه أصل موضوعی بالنسبة إلیه؛ لأنّ هذا الفرض معناه فی الحقیقة أنّ ملاک الحلّیّة وموضوعها هو الترخیص، وملاکه وموضوعه هو عدم جعل التحریم؛ لأنّه ثابت بملاک لم یرِد فیه نهی، فموضوعها هو ما لم یرد فیه نهی، کل ما لم یرِد فیه نهی فهو مباح، فإذا جاء استصحاب عدم جعل التحریم وأثبت عدم ورود النهی؛ فأنّه حینئذٍ یکون حاکماً علی استصحاب عدم جعل الحلّیّة؛ لأنّه ینقّح موضوع الحلّیّة الذی هو(لم یرد فیه نهی)، وهذا الاستصحاب یثبت عدم ورود النهی، وهو ینقّح موضوع الحلیّة، وبالتالی یثبت الحلّیّة، وبالتالی یرفع الشکّ الذی هو موضوع استصحاب عدم جعل الإباحة، فمن الواضح أنّ موضوع الاستصحاب هو الشکّ، وعندما تشکّ فی الإباحة وعدمها تستصحب عدم الإباحة، هذا الاستصحاب ----- استصحاب عدم التحریم ----- یرفع الشکّ تعبّداً؛ لأنّه ینقّح موضوع الترخیص والإباحة، فلا معنی لجریان استصحاب عدم الترخیص، واستصحاب عدم الإباحة؛ بل یکون استصحاب عدم جعل التحریم حاکماً علی استصحاب عدم جعل الإباحة. فیقول: هذه المعارضة مبنیّة علی افتراض أنْ تکون الإباحة المحتملة إباحة خاصّة، ثابتة بالعنوان الأوّلی للشیء، وإلاّ إذا کانت ثابتة بملاک أنّه لم یرد فیه نهی، فلا معارضة بین الاستصحابین؛ لأنّ استصحاب عدم جعل التحریم ینقّح موضوع الإباحة ویثبتها، وإذا أثبت الإباحة تعبّداً؛ فحینئذٍ لا شکّ حتّی یجری استصحاب عدم الإباحة.

ص: 11

هذا الجواب کما هو قال أیضاً، مبنی علی هذا الافتراض، لکنّه فی الواقع، وفیما نشکّ فیه، الإباحة المحتملة لیست من هذا القبیل، الإباحة المحتملة هی إباحة خاصّة ثابتة فی هذا الشیء بعنوانه الأوّلی، ومثلنا بأکل لحم الأرنب وأنّه یحتمل فیه التحریم وتُحتمَل فیه الإباحة، کما أنّ التحریم المحتمل ثابت لأکل لحم الأرنب بعنوانه الأوّلی کذلک الإباحة المحتملة ثابتة لأکل لحم الأرنب بعنوانه الأولی، ولیست ثابتة له بعنوان أنّه(لم یرِد فیه نهی) هذا یحتاج إلی دلیل، وهو ذکر بعض الأدلّة، لکنّها کلّها لیست ناهضة لإثبات ذلک، وإنّما ما نشک فیه فی الخارج، أکل لحم الأرنب، أو شرب التتن أو غیرها من الشبهات الحکمیة التی تُذکر کأمثلة للشبهات الحکمیة، الإباحة المحتملة فیها إباحة خاصّة ثابتة لأکل لحم الأرنب بعنوان أنّه(أکل لحم الأرنب) ، ولیس بعنوان أنّه(لم یرِد فیه نهی) حتّی تثبت الحکومة ویندفع الإشکال کما ذکر.

إذن: الجواب الأوّل عن الاعتراض الثالث لیس تامّاً.

الجواب الثانی: من قال أنّ الاستصحابین متعارضان ؟ لا مانع من إجراء کلا الاستصحابین لعدم أدائهما إلی المخالفة العملیة القطعیّة للتکلیف الإلزامی، فلو أجرینا استصحاب عدم التحریم، وأجرینا استصحاب عدم الإباحة، هذا لا یؤدی إلی المخالفة القطعیّة للتکلیف المعلوم بالإجمال، والسبب واضح، وهو أنّ علمنا الإجمالی المُدّعی فی المقام هو لیس علماً بالتکلیف علی کل تقدیر کما فی الأمثلة المعروفة، هل أنّ صلاة الظهر واجبة علیه، أو صلاة الجمعة؟ أو مثال من لا یعلم أنّ هذا الإناء فیه خمر، أو أن ذاک الإناء فیه خمر؟ فهنا یوجد علم بالتکلیف علی کلا التقدیرین، فسواء کانت صلاة الظهر هی الواجبة علیه فهی تکلیف، أو کانت الجمعة هی الواجبة علیه فهی أیضاً تکلیف. وسواء کان هذا خمر یوجد تکلیف، أو کان ذاک خمر فأیضاً یوجد تکلیف. إذن: هناک علم إجمالی بالتکلیف علی کل تقدیر، مثل هذا العلم الإجمالی لا یجوز إجراء الأصول النافیة والمؤمنة فی أطرافه؛ لأنّ إجراء الأصول النافیة والمؤمنة یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف الإلزامی المعلوم بالإجمال، فلا تجری الأصول فی أطرافه. بینما فی محل الکلام الأمر لیس کذلک؛ لأنّه فی محل الکلام لا یوجد عندنا علم بالتکلیف علی کل تقدیر، وإنّما عندنا علم بالتکلیف علی تقدیر، وأمّا علی التقدیر الآخر لا یوجد تکلیف؛ لأنّ التقدیر الآخر هو الترخیص والإباحة، وفی الترخیص والإباحة لا یوجد تکلیف. إذن: هناک تکلیف علی أحد التقدیرین لوضوح أنّ المحتمل فی المقام أنّ الأمر دائر بین الحرمة والإباحة فی الشبهات التحریمیة، وبین الوجوب والإباحة فی الشبهات الوجوبیة. إذن: علی أحد التقدیرین یوجد تکلیف، وعلی التقدیر الآخر أصلاً لا یجد تکلیف.

ص: 12

یقول: مثل هذا العلم الإجمالی الذی لا یتحقق فیه العلم بالتکلیف علی کل تقدیر لا یمنع من إجراء الأصول المؤّمنة فی أطرافه، فلا محذور فی إجراء کلا الاستصحابین، استصحاب عدم التحریم، واستصحاب عدم الإباحة. صحیح أنا أعلم بثبوت أحدهما، لکن لا محذور فی جریان الأصلین معاً؛ لأنّه لا یؤدّی إلی المخالفة القطعیة للتکلیف بالإلزام المعلوم، فإذا صحّ إجراء استصحاب عدم جعل التحریم ----- بحسب الفرض ------ کفی هذا الاستصحاب لإثبات التأمین والبراءة، وهو المقصود فی المقام؛ لأنّ البراءة والتأمین یکفی فیها نفی التحریم، یکفی للتأمین من جهة أکل لحم الأرنب أن تقوم الحجّة علی نفی التحریم، وهذا لا یتوقّف علی إثبات الإباحة حتّی یقال أنّ استصحاب عدم التحریم لا یثبت الإباحة إلاّ علی القول بالأصل المثبت، لا نحتاج إلی إثبات الإباحة لإثبات التأمین؛ بل یکفی لإثبات التأمین نفی التحریم، استصحاب عدم جعل التحریم یتکفّل نفی التحریم ویترتب علیه إثبات التأمین والبراءة.

ویُلاحظ علی هذا الجواب: أنّه لا وجه للتنزّل وتسلیم جریان الاستصحابین فی المقام، حیث هناک مشکلة فی إجراء أحد الاستصحابین بقطع النظر عن الجواب الأوّل، قلنا أنّ الجواب الأوّل غیر تام؛ لأنّه مبنی علی افتراض أنّ الإباحة ثابتة بملاک عدم ورود النهی، وقلنا أنّ هذا خلاف الظاهر فی الأمثلة التی تُذکر فی هذا المقام، لکن هناک شیء آخر یمنع من إجراء استصحاب عدم الترخیص، وهذا الشیء هو أنّ استصحاب عدم الترخیص لا اثر له، فلا یجری لأنّه لا یترتّب علیه أثر، ومن الواضح أنّ من شروط جریان الاستصحاب هو أنْ یترتب علیه أثر، استصحاب عدم التحریم یترتب علیه أثر، فیجری، وأثره هو التأمین والبراءة؛ لأننّا قلنا أنّ البراءة والتأمین لا تتوقّف علی إثبات الإباحة؛ بل یکفی فیها نفی التحریم، بینما استصحاب عدم الترخیص لا أثر له، ولا یستطیع أن یثبت المنجزیّة؛ لأنّ المنجزیّة من آثار التحریم والمنع والنهی، ومن الواضح أنّ التحریم والمنع والنهی لا یثبت باستصحاب عدم الإباحة، إلاّ بناءً علی القول بالأصل المثبت؛ إذ لازم عدم الإباحة ----- فرضاً ----- التحریم. إذن: استصحاب عدم الإباحة لا یستطیع أن یثبت المنجزیّة مباشرة حتّی یجری بلحاظه؛ إذ لا یکفی فی التنجیز عدم الإباحة، ولا یستطیع أنْ یثبت موضوع المنجزیّة الذی هو التحریم والمنع، إلاّ بناءً علی القول بالأصل المثبت، فالصحیح أنّ استصحاب عدم الإباحة لا یجری فی حدّ نفسه، لا أنْ نقول أنّه یجری ویعارض استصحاب عدم جعل التحریم، لکن نقول لا مانع من جریانهما؛ لأنّ هذا لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیّة والتکلیف الإلزامی، فی مرحلة سابقة یوجد مانع یمنع من جریان استصحاب عدم الترخیص وعدم الإباحة.

ص: 13

هذا هو الجواب الصحیح عن الاعتراض الثالث. وبهذا یتمّ الکلام عن الصیغة الثانیة لتقریب الاستصحاب، الصیغة الأولی کانت هی إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل البلوغ، وتکلّمنا عنها کثیراً، والصیغة الثانیة هی إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل الشرع والشریعة.

الصیغة الثالثة التی طرحناها فی بدایة البحث هی أنْ یجری الاستصحاب بلحاظ ما قبل تحقق بعض الأمور التی یُحتمَل أنّها شرائط فی التکلیف، هناک شیء معیّن، قبل تحققّه قطعاً لا یوجد تکلیف، وبعد تحققّه نحتمل حدوث التکلیف، فنلتفت إلی فترة ما قبل تحققّ ذلک الشیء، ونقول: قطعاً الحکم لم یکن ثابتاً، فنستصحب عدم الحکم الثابت قبل تحققّ هذا الشیء. نفترض أننّا شککنا أنّ الاستطاعة البذلیّة هل تحققّ وجوب الحج ؟ فنقول : هل یکفی فی وجوب الحج الاستطاعة البذلیّة أو لا ؟ یمکن ببساطة إجراء الاستصحاب بلحاظ ما قبل تحققّ الاستطاعة البذلیّة، فنقول: هذا قبل تحقق البذل لم یجب علیه الحج قطعاً، والآن بعد تحققّ البذل نشکّ فی أنّه وجب علیه الحج، أو لا ؟ فنستصحب عدم وجوب الحج المتیّقن قبل تحققّ البذل. أو صلاة الجمعة ------ مثلاً ------ هی علی تقدیر وجوبها هی مشروطة بالزوال، وبعد الزوال نشکّ فی أنّه هل وجبت صلاة الجمعة فی زمان الغیبة، أو لا ؟ فیمکن إجراء استصحاب عدم الوجوب الثابت قبل الزوال.

هذا التقریب جید، وکثیر من الملاحظات السابقة لا ترِد علیه. نعم یُلاحظ علیه شیء واحد، وهو أنّه فی بعض الأحیان قد یکون هذا الأمر، وهذه الخصوصیّة التی نحتمل أنّها محققّة للتکلیف، قد تکون فی بعض الأحیان مقوّمة للمستصحب، بحیث أنّ الأمر بعد حصولها هو غیر الأمر قبل حصولها، نظیر ما تقدّم فی الاستصحاب بلحاظ ما قبل البلوغ، حیث طُرح هذا الإشکال هناک، وهو أنّ عدم الوجوب کان ثابتاً للشخص بعنوان أنّه غیر بالغ، بینما عدم الوجوب لو ثبت بعد البلوغ، فأنّه یثبت بعنوان آخر، بعنوان أنّه بالغ، فهنا أیضاً یُطرح هذا الأمر، أنّه قبل البذل لم یجب علیه الحج باعتبار عدم وجود الاستطاعة البذلیّة أصلاً، لکن بعد البذل تحققّ شیء، وهذا الشیء قد یکون مقوّماً للحالة، وموجباً لتعدّد الموضوع، أو تعدّد القضیّة المتیّقنة، والقضیّة المشکوکة، وهذا لابدّ من الالتفات إلیه، فإنْ لم یکن کذلک، کما لعلّه فی بعض الأمثلة، الظاهر أنّه لا مانع من إجراء هذا الاستصحاب.

ص: 14

وبهذا یتمّ الکلام عن التقریبات الثلاثة للاستصحاب، وما قیل من الاعتراض علیها، وأجوبة ذلک، وقد تبیّن من خلال هذا الاستعراض الطویل أنّ الظاهر أنّه لا مانع من إجراء الاستصحاب، ولو ببعض تقریباته؛ لأننّا قلنا أنّ الاعتراضات المطروحة غیر واردة علی استصحاب عدم الجعل، أمّا استصحاب عدم التکلیف قبل البلوغ، فالظاهر أنّ الخصوصیة التی یُحتمل کونها موجبة لثبوت التکلیف لا تمنع من إجرائه.

إذن: لا مانع من إجراء الاستصحاب ببعض تقریباته وإثبات البراءة، ولو عجزنا عن إثبات البراءة بالکتاب، والسُنّة، والإجماع، والعقل ----- مثلاً کما ذکروا ----- یمکن إثبات البراءة استناداً إلی الاستصحاب.

بعد ذلک ندخل فی بعض الأمور المتعلّقة بهذا المطلب:

الأمر الأوّل: قد یقال: بأنّ التزامکم بجریان الاستصحاب لإثبات البراءة یلغی مورد البراءة، وأنّه فی کل موردٍ من موارد البراءة یجری فیه الاستصحاب، وهذا معناه عملاً إلغاء للبراءة، فلا یبقی للبراءة مورد تختصّ به بحیث لا یجری فیه الاستصحاب. الإلغاء مبنی علی فکرة أنّ الاستصحاب مقدّم علی البراءة، وذکروا، وسیأتی أنّ تقدیم الاستصحاب علی البراءة بالحکومة، أو بالورود، أو بأیّ شیءٍ کان لا یُفرّق فیه بین أنْ یکون مفاد الاستصحاب متّفقاً مع البراءة، أو یکون مختلفاً معها، علی کل حالٍ هو مقدّم علی البراءة حتّی فی صورة اتّحاد المفاد، کما فی محل الکلام، حیث الاستصحاب فی محل الکلام یثبت التأمین، وأدلّة البراءة أیضاً تثبت التأمین، حتّی فی هذه الحالة یقدّم الاستصحاب علی البراءة، ویکون حاکماً علیها، ورافعاً لموضوعها، فلا یبقی للبراءة شیء، وفی کل مورد نرید أنْ نتمسّک بالبراءة یجری فیه الاستصحاب، ویکون حاکماً علی البراءة، ورافعاً لموضوعها؛ وحینئذٍ أی فائدة فی أدلّة البراءة الکثیرة الدالّة علی البراءة، وبعبارة أخری: سوف تبقی البراءة بلا مورد؛ لأنّ الاستصحاب یکون مقدّماً علیها، ویرفع موضوعها؛ وحینئذٍ لابدّ من الإجابة عن هذا الإشکال.

ص: 15

درس الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب

الکلام یقع فی بعض الأمور التی ترتبط بالبحث السابق وهو إثبات البراءة بالاستصحاب:

الأمر الأوّل: ما أثرناه فی الدرس السابق من أنّ الالتزام بجریان الاستصحاب فی المقام یؤدی بالنتیجة إلی إلغاء دلیل البراءة، بمعنی أنّ دلیل البراءة دائماً یجری فی موردٍ یجری فیه الاستصحاب، ففی جمیع الموارد التی تجری فیها البراءة یجری الاستصحاب، وهی عبارة عن جمیع الشبهات الحکمیّة، ومع جریان الاستصحاب یکون الاستصحاب حاکماً علی البراءة، ومقدّماً علیها، وبالتالی یکون موجباً لإلغاء دلیلها، فهل یُلتزَم بهذا ؟ بمعنی أنّ دلیل البراءة لا یبقی له مورد؛ إذ فی کل موردٍ تجری فیه البراءة یجری فیه الاستصحاب، وهو مقدّم علی البراءة، وحاکم علیها، ومانع من جریانها، فلا یبقی مورد للبراءة حتّی تکون الأدلّة الدالّة علیها، وهی کثیرة، منزّلة علی تلک الموارد، فلا یبقی مورد للبراءة إطلاقاً.

أجاب السیّد الخوئی(قدّس سرّه) عن هذا الإشکال بجوابین: (1)

الجواب الأوّل: حاصل ما ذکره هو: لیس لأدلّة البراءة عنوان یوجب اختصاصها بغیر موارد الاستصحاب؛ بل یمکن أنْ تکون الحکمة فی ثبوت الترخیص والبراءة فی جملة من مواردها هو عدم جواز نقض الحالة السابقة.

توضیح المراد: الظاهر أنّ مراده(قدّس سرّه) هو أنّ دلیل البراءة من المحتمل أنْ تکون البراءة المجعولة فیه هی البراءة بملاک الاستصحاب، أی البراءة بملاک عدم نقض الحالة السابقة، باعتبار أنّ دلیل البراءة لم یؤخذ بشرط لا من حیث الاستصحاب، ولیس فیه دلالة علی ذلک؛ وحینئذٍ لا یوجد عندنا أصلان متمایزان منحازان أحدهما البراءة، والآخر الاستصحاب، وکل منهما یثبت بدلیله، حتّی یقال إذا تمّ الاستصحاب، فلا یبقی مورد للبراءة، کلا، الأمر لیس هکذا، أو لا أقلّ من أنّ هذا هو الاحتمال المطروح فی المقام، أنّ دلیل البراءة لم یؤخذ بشرط لا من حیث الاستصحاب حتّی یکون هو أصل متمیّز عن الاستصحاب، هذا یثبت بدلیله، وذاک یثبت بدلیله، وهذا یثبت بملاک، وذاک یثبت بملاکٍ آخر، البراءة تثبت بملاک الشکّ فی التکلیف من دون لحاظ الحالة السابقة، بینما الاستصحاب یثبت بملاک عدم نقض الحالة السابقة. یقول: الأمر لیس هکذا، أو لا أقل من أننّا نحتمل أنْ یکون الملاک فی البراءة هو نفس عدم نقض الحالة السابقة، وبناءً علی هذا لا یکون عندنا أصلان متمایزان منحازان حتّی یقال: إذا جری هذا الأصل لا یبقی مورداً للأصل الآخر، وإنّما من المحتمل أنْ تکون أصالة البراءة راجعة بحسب الروح والجوهر إلی نفس الاستصحاب؛ فحینئذٍ لا یِرد هذا الإشکال أنّه إذا التزمنا بجریان الاستصحاب لا یبقی مورد للبراءة، هذا مبنی علی افتراض أنّ هنا أصلان متمایزان، وکل منهما یثبت بملاکٍ ودلیل، أمّا إذا أنکرنا ذلک، أو احتملنا عدمه؛ حینئذٍ لا یرِد هذا الإشکال؛ إذ لا محذور فی أنْ یثبت دلیلان فی موردٍ واحد، کلٌ منهما یثبت بملاکٍ واحد، وهو عدم نقض الحالة السابقة؛ حینئذٍ لا معنی لأنْ یقال: إذا جری الاستصحاب یلغی البراءة؛ إذ البراءة لیست شیئاً آخراً غیر الاستصحاب؛ لأنّ البراءة ثابتة بنکتة عدم نقض الحالة السابقة.

ص: 16


1- (1) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 272.

لکنْ یمکن أنْ یقال: أنّ هذا مجرّد احتمال لا واقع له، ولا یُفهم من ألسنة أدلّة البراءة، وإنّما الذی یُفهم من ألسنة أدلّة البراءة من قبیل(رُفع ما لا یعلمون) ومن قبیل(الناس فی سعةٍ ما لم یعلموا) وأمثال هذه الأدلّة، أنّ ملاک البراءة هو الشک فی التکلیف، أو عدم العلم بالتکلیف فقط من دون لحاظ الحالة السابقة، ومن دون لحاظ أنّ عدم التکلیف له حالة سابقة، وإنّما ملاکه الشک فی التکلیف، وعدم العلم بالتکلیف(رُفع عن أمّتی ما لا یعلمون) مجرّد الشک بالتکلیف، وعدم العلم بالتکلیف هو ملاک جعل البراءة. هذا هو الذی یُفهم من أدلّة البراءة، فلا معنی لأنْ یقال: أنّ البراءة المجعولة فی أدلّتها مجعولة بنکتة عدم نقض الحالة السابقة، بنکتة ملاحظة الحالة السابقة، یعنی بنکتة أنّ الحالة السابقة هی عدم التکلیف، فأدلّة البراءة تجعل البراءة باعتبار أنّ عدم التکلیف متیّقن فی المرحلة السابقة، لیس بهذا الشکل، وإنّما الذی یُفهم من أدلّة البراءة أنّ ملاک أدلّة البراءة هو عدم العلم بالتکلیف، بینما الاستصحاب لیس ملاکه عدم العلم بالتکلیف، وإنّما ملاکه هو ملاحظة الحالة السابقة، وأنّ هناک حالة متیّقنة سابقاً یُشکّ فی بقائها، فالاستصحاب یقول ابن علی بقاء الحالة السابقة، فالملاک مختلف، والنکتة مختلفة، والدلیل مختلف. إذن: هما أصلان متمایزان مختلفان، وکلٌ منهما ثابت بنکتة، تأتی أدلّة تثبت البراءة بملاک عدم العلم بالتکلیف، وأدلّة تثبت البراءة بملاک عدم نقض الحالة السابقة، فیرجع الإشکال کما کان فی السابق أنّه فی کل موردٍ تجری فیه البراءة یجری فیه الاستصحاب، وإذا جری الاستصحاب یلغی البراءة. إذن: فی أیّ موردٍ تجری البراءة ؟ کل موارد جریان البراءة یجری الاستصحاب فیها، ویکون حاکماً علی البراءة، ورافعاً لموضوعها، وهذا هو معنی أنّ الالتزام بجریان الاستصحاب فی المقام یؤدی إلی إلغاء دلیل البراءة، بمعنی أنّ دلیل البراءة یبقی بلا موردٍ، وهذا لا یمکن الالتزام به؛ لأنّ دلیل البراءة لیس دلیلاً واحداً، أو دلیلین؛ بل هناک أدلّة کثیرة علی البراءة، ولا یمکن أنْ تبقی کلّها بلا مورد، فالجواب الأوّل لیس تامّاً؛ لأنّه مبنی علی احتمال ثبوتی لا یمکن إثباته فی مقام الإثبات؛ بل هو علی خلاف ظاهر أدلّة البراءة.

ص: 17

الجواب الثانی: ذکر(قدّس سرّه) أنّ هناک موارد لدلیل البراءة لا یجری فیها الاستصحاب، فلا یصحّ القول بأنّ جمیع موارد البراءة یجری فیها الاستصحاب، ویؤدی ذلک إلی إلغاء دلیل البراءة؛ بل هناک موارد تجری فیها البراءة ولا یجری فیها الاستصحاب.

ثمّ ذکر(قدّس سرّه) جملة من الموارد التی تجری فیها البراءة ولا یجری فیها الاستصحاب لتصحیح جعل البراءة فی أدلّتها، ولدفع الاعتراض السابق بأنّ الاستصحاب یلغی دلیل البراءة، کلا، الاستصحاب لا یلغی دلیل البراءة؛ لأنّ هناک موارد یتمّ فیها دلیل البراءة، وتجری فیها البراءة، ولا یجری فیها الاستصحاب. ذکر(قدّس سرّه) ثلاثة موارد:

المورد الأوّل: موارد تعارض الاستصحابین، کما فی موارد توارد الحالتین، کالطهارة والنجاسة، أو حدث وطهارة، لکن لا یعلم من هو المتقدّم، ومن هو المتأخّر؛ حینئذٍ استصحاب الأوّل یُعارَض باستصحاب الآخر، فیتعارض الاستصحابان، وفی موردٍ من هذا القبیل لا یجری الاستصحاب؛ للمعارضة، فتجری البراءة؛ وحینئذٍ لا یجری الاستصحاب حتّی یکون حاکماً علی البراءة، فإذا کان الاستصحاب لا یجری لأجل المعارضة؛ حینئذٍ یکون هذا من الموارد التی تجری فیها البراءة من دون جریان الاستصحاب؛ وإذا ضممنا الموارد الأخری إلی هذا المورد؛ فحینئذٍ نلتزم بجریان الاستصحاب، لکن لا یؤدی ذلک إلی إلغاء دلیل البراءة؛ لأنّ دلیل البراءة یبقی له موارد یجری فیها الدلیل، وتثبت فیها البراءة من دون أنْ یجری فیها الاستصحاب.

المورد الثانی: ما إذا کان الأثر المطلوب والمراد إثباته مترتّب علی الإباحة بعنوانها؛ حینئذٍ لابدّ من إجراء أصالة البراءة، عندئذٍ لا ینفعنا إجراء استصحاب عدم المنع، وعدم جعل التحریم لترتیب ذلک الأثر؛ لأنّ المفروض أنّ ذلک الأثر مترتّب علی الإباحة بعنوانها، ولا یترتّب علی مجرّد عدم المنع وعدم التحریم حتّی نرتّب ذلک الأثر باستصحاب وعدم جعل التحریم؛ بل الأثر لا یترتب إلاّ علی الإباحة والبراءة بعنوانها.

ص: 18

إذن: فی هکذا حالة، لترتیب ذلک الأثر، لابدّ من إجراء أصالة البراءة، ولا یجری فیها الاستصحاب. نعم، إذا فرضنا أنّ الأثر الذی یُراد ترتیبه یکفی فیه عدم التحریم، وعدم المنع؛ حینئذٍ یجری فیه استصحاب عدم المنع، واستصحاب عدم التحریم، ویترتب ذلک الأثر؛ وحینئذٍ یرِد ذلک الإشکال.

المورد الثالث: موارد دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین، کما إذا شکّ فی جزئیّة شیء فی المرکب، أو فی شرطیة شیء فی المرکب، هنا یدور الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین، الصلاة واجب ارتباطی، ویدور الأمر بین أنْ یکون الواجب عشرة أجزاء، أو تسعة أجزاء، مثلاً، إذا شککنا فی وجوب السورة فی الصلاة، عندنا تسعة أجزاء متیّقنة، لکننّا لا نعلم أن الجزء العاشر هل هو واجب أو لا ؟ فیدور أمر الصلاة بین الأقلّ(تسعة أجزاء)، والأکثر(عشرة أجزاء) الارتباطیین. هنا الرأی السائد، خصوصاً عند المتأخرین هو جریان البراءة لنفی الوجوب الزائد، أو قل لنفی وجوب الأکثر، وبالتالی یثبت بها جواز الاکتفاء بالأقل. هنا تجری البراءة، کما هو الصحیح، ولا یجری الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب المتصوّر جریانه فی المقام بعد العلم بالتکلیف هو عبارة عن استصحاب عدم التقیید؛ لأنّ المکلّف فی هذه الحالة یعلم بوجوب الأقل علیه جزماً، وعلی کل تقدیر، فالتسعة أجزاء قطعاً هی واجبة علیه، وإنّما شکّه فی وجوب التسعة أجزاء هل هو مقیّد بالجزء العاشر المشکوک الذی هو وجوب السورة فی المثال، أو هو مطلق من ناحیته ؟ إذا کان مقیّداً بالسورة، فهذه الأجزاء التسعة تجب علیه لیس لوحدها، وإنّما مقیّدة بانضمام السورة، وهذا هو معنی وجوب الأکثر، أو أنّ وجوب التسعة أجزاء علیه مطلق من ناحیة السورة، وهذا معناه وجوب الأقّل، ولا یُشترط فی ذلک الإتیان بالسورة. إذن: هو أمره دائر بین أنْ تجب علیه السورة أو لا، یعنی أنّ ما وجب علیه هل هو مقیّد بالجزء الآخر المشکوک، أو هو مطلق ؟ الاستصحاب الذی یجری فی المقام هو استصحاب عدم التقیید، ویثبت البراءة، والاکتفاء بالأقل التی هی نتیجة البراءة، حیث قلنا أنّ البراءة تجری ویثبت بها الاکتفاء بالأقل، استصحاب عدم التقیید هذا معناه، ویثبت نفس النتیجة؛ لأنّ عدم التقیید یثبت أنّ التسعة الواجبة علیک حتماَ لیست مقیّدة بالجزء الآخر فیکفی الاتیان بالأقل. الاستصحاب المتصوّر جریانه فی المقام لإثبات البراءة والاکتفاء بالأقل هو عبارة عن استصحاب عدم التقیید. یقول السید الخوئی(قدّس سرّه) أنّ هذا الاستصحاب مُعارَض باستصحاب عدم الإطلاق؛ لأنّی کما أشکّ فی تقیید الواجب المتیقن الذی هو الأقل بالجزء العاشر، اشکّ أیضاً فی إطلاقه من ناحیة الجزء العاشر، فکما یجری استصحاب عدم التقیید، یجری أیضاً استصحاب عدم الإطلاق، فیتعارض الاستصحابان، استصحاب عدم التقیید واستصحاب عدم الإطلاق فیتساقطان؛ وحینئذٍ تجری البراءة من دون أنْ یجری الاستصحاب فی موردها، فیکون هذا من الموارد التی تجری فیها البراءة من دون جریان الاستصحاب.

ص: 19

هذا هو الجواب الثانی، وهو عبارة عن محاولة للتفتیش عن موارد تجری فیها البراءة من دون جریان الاستصحاب حتّی یقال أنّ أدلّة البراءة منزّلة علی هذه الموارد. فالالتزام بجریان الاستصحاب فی موارد أخری، وإلغاءه للبراءة، وحکومته علیها لا یوجب إلغاء دلیل البراءة؛ لأنّه هناک موارد تجری فیها البراءة، ویمکن تنزیل دلیل البراءة علی تلک الموارد.

هذا الجواب یتمّ فی بعض الموارد التی ذکرها، فی المورد الأوّل، وهو مورد تعارض الاستصحابین کما فی توارد الحالتین، تجری البراءة ولا یجری الاستصحاب، لکن فی الموارد الأخری لا تتمّ هذه الدعوی، أمّا المورد الثانی الذی ذکره، وهو مسألة ما إذا کان الأثر مترتباً علی الإباحة بعنوانها، فقال: فی هذا المورد لا نتمکن من إجراء الاستصحاب؛ لأنّ استصحاب عدم التحریم لا ینفع لإثبات ذلک الأثر؛ لأنّ المفروض أنّ الأثر یترتّب علی الإباحة بعنوانها، فلابدّ من إجراء أصالة البراءة، وعدم إجراء الاستصحاب؛ لأنّه لا أثر لهذا الاستصحاب. فی هذا المورد الثانی، الأمر لیس هکذا، ویمکن إجراء الاستصحاب، لکن لا أجری استصحاب عدم التحریم، وعدم المنع حتّی یقال أنّ هذا الاستصحاب لا أثر له؛ لأنّ الأثر المطلوب مترتّب علی الإباحة بعنوانها، وعدم التحریم لا یثبت الإباحة إلاّ بناءً علی الأصل المثبت، وإنّما یمکن إجراء الاستصحاب فی نفس الإباحة، باعتبارها متیّقنة سابقاً، کما أنّ عدم المنع متیّقن قبل البلوغ فی التقریب الأوّل للاستصحاب، أو قبل الجعل فی التقریب الثانی للاستصحاب، أو قبل تحققّ الشرائط الخاصّة للتکلیف فی التقریب الثالث للاستصحاب، کذلک الإباحة والبراءة أیضاً متیّقنة، فیمکن إجراء استصحاب البراءة، واستصحاب الإباحة المتیقنة قبل البلوغ، أو قبل الجعل، أو قبل تحقق الشرط الخاص من شرائط الحکم المحتملة؛ وحینئذٍ یمکن ترتیب الأثر؛ لأنّ الأثر مترتب علی الإباحة بعنوانها، ونحن استصحبنا الإباحة، الإشکال إنّما یرِد إذا أجرینا استصحاب عدم التحریم المتیّقن قبل البلوغ، فیقال: کیف یترتب الأثر ؟ لأنّ الأثر مترتّب علی الإباحة بعنوانها، واستصحاب عدم المنع لا یثبت الإباحة بعنوانها إلاّ بناءً علی الأصل المثبت. نقول: نحن لا نجری استصحاب عدم المنع؛ لأنّه کما أنّ عدم المنع متیقن قبل البلوغ، کذلک الإباحة متیقنة قبل البلوغ، هذا الصبی قبل بلوغه قبل البلوغ کان یُباح له هذا الفعل، وکانت هناک براءة متیّقنة قبل البلوغ، بمعنی أنّه لو ارتکب هذا الفعل لا یؤاخذ، ولا یُعاقَب، فهذه إباحة متیّقنة قبل البلوغ، فاستصحب هذه الإباحة، وإذا استصحبت الإباحة؛ فحینئذٍ یمکن ترتیب الأثر بلا أنْ یلزم منه إشکال المثبتیّة؛ لأنّ الاستصحاب جری فی نفس الإباحة المتیّقنة، فیعود الإشکال، وهو أنّ هذا المورد الذی تجری فیه البراءة جری فیه الاستصحاب، والاستصحاب حاکم علی البراءة، فلا یبقی مورد للبراءة.

ص: 20

درس الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب

کان الکلام فی الجواب الثانی علی الإشکال، وذکرنا أنّ الموارد التی ذکرها السید الخوئی(قدّس سرّه) فی هذا الجواب لیست کلّها ممّا لا یجری فیها الاستصحاب، بعضها لا یجری فیه الاستصحاب، فتجری فیه البراءة، ویصحّ ما ذکره، لکنّ الباقی لیس هکذا، قلنا أنّ المورد الثانی الذی ذکر فیه بأنّ فی بعض الأحیان الأثر یترتّب علی الإباحة بعنوانها، هنا لا فائدة فی إجراء الاستصحاب؛ لأنّ استصحاب عدم المنع لا یثبت الإباحة بعنوانها، إلاّ بناءً علی الأصل المثبت، وبالتالی لا یمکن ترتیب الأثر، وهنا تجری أصالة البراءة ویترتب ذلک الأثر، فیختصّ المورد بجریان البراءة، ولا یجری فیه الاستصحاب، فیُنزّل علیه دلیل البراءة. قلنا أنّ هذا لیس تامّاً؛ لأنّه بالإمکان إجراء الاستصحاب فی نفس الإباحة، وعلیه: فکما تجری البراءة یجری استصحاب البراءة؛ لأنّ البراءة متیّقنة فی الزمان السابق، سواء کان الزمان السابق هو زمان قبل البلوغ، أو کان زمان قبل الجعل، أو کان قبل تحققّ شرائط الحکم الخاصّة. إذن: هنا کما تجری البراءة یجری استصحاب البراءة، ولا نجری استصحاب عدم المنع حتّی یقال: هذا أصل مثبت، وإنّما یجری الاستصحاب فی نفس البراءة المتیّقنة سابقاً.

وهکذا الحال فی المورد الثالث الذی هو عبارة عن دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین، هنا ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) بأنّ هنا لا یجری الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب الذی یُتوقع جریانه لکی یثبت البراءة، والاکتفاء بالأقل هو عبارة عن استصحاب عدم التقیید، أنّ الأقل الواجب علی کل حال لم یُقیّد بالجزء العاشر، فیکفی الإتیان بالأقلّ، وهذا هو عبارة عن نتیجة البراءة، فأنّ نتیجتها هی الاکتفاء بالأقلّ. قال: استصحاب عدم التقیید مُعارض باستصحاب عدم الإطلاق، فلا یجری الاستصحاب، ولکی نثبت الاکتفاء بالأقل لابدّ من إجراء أصالة البراءة.

ص: 21

هذا الکلام لا یتمّ بناءً علی مبنی السید الخوئی(قدّس سرّه) فی أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید هو تقابل الضدّین؛ فحینئذٍ نقول أنّ کلامه لا یجری؛ لأنّ استصحاب عدم الإطلاق أصلاً لا یجری حتّی یکون معارضاً لاستصحاب عدم التقیید؛ لأنّه ماذا یُراد بإجراء استصحاب عدم الإطلاق ؟ هل یُراد به إثبات التقیید، ثمّ إثبات أثر التقیید، وهو عدم الاکتفاء بالأقل، ووجوب الإتیان بالزائد، هذا هو أثر التقیید، أنّ الأقلّ واجب مقیّد بالجزء العاشر، فیجب الإتیان بالجزء العاشر، هل المراد باستصحاب عدم الإطلاق إثبات التقیید، ثمّ إثبات أثره، أو المراد هو إثبات الأثر مباشرة ؟ وکلٌ منهما لا یمکن الالتزام به، أمّا إذا کان المقصود باستصحاب عدم الإطلاق إثبات التقیید، فهذا أصل مثبت، باعتبار أنّ التقیید لازم عقلی لعدم الإطلاق. وأمّا إذا أُرید باستصحاب عدم الإطلاق إثبات الأثر مباشرة، أی أننّا نجری استصحاب عدم الإطلاق لإثبات لزوم الإتیان بالأکثر، أی لزوم الإتیان بالجزء العاشر؛ فحینئذٍ نقول: أنّ هذا موضوع الأثر هو التقیید، ولیس موضوعه عدم الإطلاق حتّی یترتّب هذا الأثر علی عدم الإطلاق الثابت بالاستصحاب؛ بل هذا الأثر موضوعه التقیید، ومالم نثبت التقیید، لا یکون هذا الأثر ثابتاً، وقد عرفت أنّ التقیید لا یمکن إثباته باستصحاب عدم الإطلاق.

إذن: استصحاب عدم الإطلاق لا یجری فی حدّ نفسه لعدم ترتّب الأثر علیه، بخلاف أصالة عدم التقیید، فأنّها تنفی هذا الأثر، یعنی تنفی وجوب الإتیان بالجزء العاشر؛ لأنّ وجوب الإتیان بالجزء العاشر موضوعه التقیید، فإذا نفینا التقیید بالأصل، فسوف ینتفی أثره، فلا یجب الإتیان بالجزء العاشر، فیثبت بأصالة عدم التقیید عدم وجوب الإتیان بالجزء العاشر، بینما اصالة عدم الإطلاق لا یمکن أنْ تجری لما ذکرناه.

ص: 22

إذن: لا مانع من جریان استصحاب عدم التقیید، فیکون هذا من الموارد التی تجری فیها البراءة والاستصحاب، فیعود الإشکال السابق، وهو أنّ الاستصحاب یکون حاکماً علی البراءة، ورافعاً لموضوعها، وبالتالی یکون موجباً لإلغاء دلیل البراءة.

الصحیح فی الجواب هو أنْ یقال: أنّ الموارد التی لا یجری فیها الاستصحاب، وتجری فیها البراءة فقط موارد نادرة جدّاً ولا معنی لتنزیل أدلّة البراءة الکثیرة جدّاً، وذات السعة جدّاً علی هذه الموارد النادرة. مضافاً إلی أنّ ظاهر کلامه فی الجواب الثانی هو الالتزام بالإشکال فی غیر هذه الموارد التی ذکرها، وهی عبارة عن معظم حالات الشکّ فی التکلیف، یعنی لابدّ أنْ یلتزم بأنّ معظم حالات الشکّ فی التکلیف لا تجری البراءة الشرعیة فیها، فهل یلتزم بذلک ؟ فی الحالات الاعتیادیة غیر هذه الحالات الأربعة، إذا سلّمناها، کما لو شکّ فی حرمة أکل لحم الأرنب، أو شکّ فی حرمة شرب التتن، فهل یلتزم هنا بعدم جریان البراءة الشرعیّة ؟ کما هو ظاهر کلامه فی الجواب الثانی، حیث تخلّص من الإشکال فی هذه الموارد التی تجری فیها البراءة، ولا یجری فیها الاستصحاب، کأنّه الموارد الأخری، وهی جلّ الموارد من الشکّ فی التکلیف یلتزم فیها بالإشکال، یعنی یجری الاستصحاب، ویلغی البراءة، ویرفع موضوعها، فهل یلتزم بعدم جریان البراءة الشرعیّة فی هذه الموارد ؟ لا أظنّه یلتزم بذلک.

الصحیح فی الجواب عن أصل الإشکال هو ما ذکره السیّد الشهید (قدّس سرّه)، حیث أجاب عن أصل الإشکال بأجوبة عدیدة : (1)

الجواب الأوّل: أننّا حتّی لو سلّمنا أنّ دلیل الاستصحاب حاکم علی دلیل البراءة، ورافع لموضوعه، حتّی لو سلّمنا بالحکومة التی ستأتی المناقشة فیها، لکن هذا لا یوجب إلغاء دلیل البراءة؛ إذ یبقی دلیل البراءة مؤثراً فی حقّ من لم یصل إلیه دلیل الاستصحاب، ویکون له أثر، وفائدة، ولا یمکن أنْ نقول أنّ دلیل البراءة یُلغی؛ بل یُجعل دلیل البراءة ویکون مؤثراً فی حقّ من لم یصل إلیه دلیل الاستصحاب. وبعبارة أخری: یکون نظیر الحکم الواقعی مع البراءة؛ إذ لا إشکال أنّ الحکم الواقعی إذا وصل إلی المکلّف یرفع موضوع البراءة؛ لأنّ موضوع البراءة هو الشکّ فی الحکم الواقعی، فإذا وصل الحکم الواقعی إلی المکلّف یرتفع موضوع البراءة، لکن هذا لا یعنی إلغاء دلیل البراءة؛ بل یبقی دلیل البراءة علی حاله ویکون مؤثراً فی حقّ من لم یصل إلیه الحکم الواقعی، ویثبت له البراءة، لکن کون الحکم الواقعی بوصوله رافعاً لموضوع البراءة لا یعنی إلغاء دلیل البراءة. دلیل الاستصحاب من هذا القبیل، دلیل الاستصحاب لو سلّمنا الحکومة، وأنّه یرفع موضوع البراءة لا یوجب إلغاء دلیل البراءة؛ لأنّ دلیل البراءة یبقی مؤثراً فی حقّ من لم یصل إلیه دلیل الاستصحاب، وما أکثر الناس الذین لم یصل إلیهم دلیل الاستصحاب، لا من العوام؛ بل من العلماء، وربما مرّ علیکم أنّ أوّل من استدلّ علی الاستصحاب بالأخبار هو والد الشیخ البهائی الشیخ حسین عبد الصمد، وقبله لم یکن قد وصل إلیهم دلیل الاستصحاب، فیکون دلیل البراءة مؤثراً فی حقّهم، وکون دلیل الاستصحاب إذا وصل حاکماً علی دلیل البراءة، ورافعاً لموضوعه لا یعنی إلغاء دلیل البراءة، وبقائه بلا فائدة، وبلا مورد.

ص: 23


1- (1) بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 73.

الجواب الثانی: (1) أنّ الحکومة علی تقدیر تسلیمها هی واقعاً ولبّاً وروحاً مرجعها إلی التخصیص، لکن الّلسان هو لسان رفع الموضوع، وإلاّ هی فی الواقع تخصیصٌ، یعنی إخراجٌ من الحکم من دون الإخراج من الموضوع، لا ترفع الموضوع، وإنّما هی تخرج من الحکم. هذه النظریة یؤمن بها السیّد الشهید(قدّس سرّه)، ویقیم القرائن علیها، ویقول أنّ الحکومة إذا ثبتت فی مواردها فهی فی روحها التخصیص، لا ربا بین الوالد والولد، صحیح هو ورد بلسان رفع الموضوع، أی بلسان(لا ربا)، لکن هو فی الواقع إخراجٌ من الحکم، یقول هذا الربا الواقع بین الوالد والولد لیس حراماً، وناظر إلی الآیة(حرّم الربا) فیقول هذا الربا الواقع بین الوالد والولد لیس حراماً، لکن بُیّن هذا الإخراج من الحکم بلسان رفع الموضوع. هذا إذا سلّمنا أنّ الحکومة فی واقعها بحسب اللّب والواقع هی تخصیص؛ حینئذٍ فی المقام لا یمکن أنْ نقول أنّ دلیل الاستصحاب حاکم علی دلیل البراءة؛ لأنّ التخصیص إنّما یمکن الالتزام به إذا کان بین الدلیلین تنافٍ وتعارض، ولو بدوی، بین الدلیل العام، وبین التخصیص یوجد تنافٍ، هذا یقول أکرم العلماء، وذاک یقول فسّاق العلماء، فهناک تنافٍ بینهما، فیأتی التخصیص ویقول هذا خارج من الحکم. أمّا غذا کان الدلیلان متوافقین، ولا تنافی ولا تعارض بینهما إطلاقاً؛ فحینئذٍ لا معنی للتخصیص، أی لا معنی للحکومة، کما هو الحال فی محل الکلام؛ إذ أنّه فی محل الکلام لا یوجد تنافٍ بین دلیل البراءة ودلیل الاستصحاب النافی للتکلیف؛ لأننّا نتکلّم عن استصحاب عدم التحریم، هذا یوافق بحسب النتیجة مع البراءة، فلماذا نلتزم بالتخصیص، والحال أنّه لا یوجد تنافٍ بین الدلیلین ؟ ویمکن أنْ نأخذ بکلٍ منهما کما لو قال(أکرم کل العلماء)، ثمّ قال(أکرم زید العالم)، هنا لا معنی لتخصیص العام؛ لأنّ التخصیص فرع التنافی والتعارض بین مدلولی الدلیلین، ولو کان تعارضاً غیر مستقرّ، أمّا حینما یتوافق الدلیلان فی مدلولیهما، لامعنی للتخصیص، وبالتالی لا معنی للحکومة؛ لأنّ الحکومة حسب هذا المبنی مرجعها بحسب الحقیقة إلی التخصیص.

ص: 24


1- (2) بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 73.

إذن: الحکومة فی المقام غیر صحیحة؛ لعدم التنافی بینهما.

الجواب الثالث: (1) وهو أیضاً مبنی علی مبنیً یؤمن به هو (قدّس سرّه)، وحاصله: أنّ تقدیم الأدلّة التی یقال أنّ فیها حکومة لیس قائماً علی أساس الحکومة؛ بل هو قائم علی نکتة الأظهریّة، أو الجمع العرفی بین الدلیلین، حتّی بین(لا ربا بین الوالد والولد) وبین أدلّة تحریم الربا. وبعبارة أخری: هو لا یتعامل مع الدلیل الحاکم والمحکوم معاملة دلیل حاکم ومحکوم، وإنّما یتعامل معهما معاملة الدلیلین المتعارضین، فی موارد التنافی التعامل مع الدلیلین یکون تعامل مع دلیلین متعارضین، کأی دلیلین متعارضین، فلابدّ من تقدیم الأقوی والأظهر، هو یری، کما أثبت، واستدل علی ذلک بقرائن أنّ دلیل الاستصحاب فیه نکتة الأظهریة، فیُقدّم علی دلیل البراءة علی أساس الأظهریة، ولیس علی أساس الحکومة ورفع الموضوع، ومن الواضح بناءً علی هذا المعنی أنّ هذا التقدیم علی أساس الأظهریة، أو علی أساس الجمع العرفی أیضاً فرع التنافی، کما فی (لا ربا بین الوالد والولد) حیث یوجد تنافٍ بینه وبین (حرّم الربا)، أمّا حیث لا یکون تنافی بین الدلیلین، وکانا متوافقین بالنتیجة؛ فحینئذٍ لا معنی للتقدیم؛ بل نلتزم بکلٍ منهما فی مورده، وأیّ ضیر فی أنْ تتکثّر التأمینات علی المکلّف، فهذا یثبت التأمین بملاکٍ، وذاک أیضاً یثبت التأمین، ولکن بملاکٍ آخر، تعدّد الخطابات المثبتة للتأمینات بملاکات متعدّدة لا محذور فیه، فلیکن دلیل البراءة المثبت للتأمین بملاک الشکّ فی التکلیف، ودلیل الاستصحاب مثبت للتأمین أیضاً بملاک الیقین بالحالة السابقة، وهذا لا ضیر فیه، فنأخذ بکلٍ منهما، أصلاً لا یوجد فی المقام أنّ هذا رافع لموضوع ذاک، أو أنّه یلغی دلیل الآخر، وإنّما یوجد دلیلان، وکلٌ منهما مثبت للتأمین، ولا معنی لتقدیم أحدهما علی الآخر؛ لأنّ هذا التقدیم، ولو بملاک الأظهریة، أو الجمع العرفی، إنّما یکون فی حالات التنافی والتعارض، وفی المقام لیس ثمّة تنافٍ، أو تعارض؛ بل نأخذ بکلا الدلیلین. غایة الأمر أنّ التأمینات تکون متعدّدة، لکن من دون أن یکون الأخذ بالاستصحاب لإثبات التأمین بملاک الیقین بالحالة السابقة یلغی موضوع البراءة؛ بل یبقی دلیل البراءة علی حاله، ویجری، ونأخذ به، ونثبت تأمیناً قائماً علی أساس دلیل البراءة، وبهذا نتخلّص من أصل الإشکال؛ لأنّ فکرة الإشکال قائمة علی أساس الحکومة بمعنی إلغاء دلیل الاستصحاب، ورفعه لموضوع البراءة، فإذا رفع موضوع البراءة؛ فحینئذٍ تُلغی البراءة، وتکون أدلّة البراءة بلا فائدة، حیث فی کلّ موردٍ تجری فیه البراءة یجری فیه الاستصحاب، وهو حاکم علی البراءة، ورافع لموضوعها، فلا یبقی موردٌ للبراءة. الإشکال قائم علی هذه الفکرة، وهذه الأجوبة تجیب عن هذه الفکرة علی تقدیر تسلیم الحکومة، وعلی تقدیر إنکار الحکومة بمعنی رفع الموضوع.

ص: 25


1- (3) بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 73.

السرّ فی إنکار السیّد الشهید(قدّس سرّه) للحکومة، ودائماً یقول أنّ التقدیم إنّما یکون فی موارد التنافی، حیث أنّه فی موارد عدم التنافی یقول أصلاً لا داعی للتقدیم، وإنّما نعمل بکلا الدلیلین کما فی محل الکلام، فیکون خارجاً عن محل کلامنا، لکن فی موارد التنافی بین الدلیلین، السبب الذی جعله لا یقول بالحکومة، وإنّما یقول بأنّ التقدیم قائم علی أساس الأظهریة والجمع العرفی، السر هو أنّ حکومة دلیل الاستصحاب علی دلیل البراءة مبتنیة علی الفکرة المعروفة، والمسلک الذی یؤمن به المحقق النائینی(قدّس سرّه)، وهو مسلک الطریقیّة فی باب الإمارات والأصول، بمعنی أنّ الإمارة تجعل الظنّ علماً، وتتمم کشف الدلیل الناقص، وتعتبره طریقاً تامّاً، الشارع یعتبر الظنّ علماً، فإذا اعتبره علما،ً فی أدلة البراءة لاحظنا أنّ البراءة مُغیّاة بالعلم(الناس فی سعة حتّی یعلموا) وهذا قد لا یُصرّح به فی بعض أدلّة البراءة، لکن هو مقصود بلا إشکال، فعند حصول العلم لا معنی للبراءة، وذلک لارتفاع موضوعها. إذن: البراءة مغیّاة بالعلم، وترتفع عند العلم بالحکم الواقعی، ودلیل الاستصحاب یقول أنّ الاستصحاب علم، وبهذا یکون رافعاً لموضوع البراءة؛ لأنّ موضوع البراءة هو عدم العلم؛ لأنّها مغیّاة تنتهی عند حصول العلم، معناه أنّها تثبت عند عدم العلم، أی عند الشکّ، یعنی موضوعها الشکّ أو عدم العلم، الاستصحاب، بناءً علی مسلک جعل الطریقیة، واعتبار الاستصحاب علماً، یکون بجعله الاستصحاب علماً رافعاً لموضوع البراءة؛ لأنّ موضوعه الشکّ، وعندما یعتبر الاستصحاب علماً، یعنی یرفع موضوع البراءة تعبّداً، وهو معنی الحکومة، لکنّ هذا مبنی علی مسلک جعل الطریقیّة فی الإمارات والاستصحاب، لکنّه(قدّس سرّه) یرفض هذا المسلک؛ إذ لا یستفاد من أدلّة اعتبار الإمارة جعلها علماً، واعتبارها طریقاً تامّاً. نعم، یُستفاد منها المعذریّة والمنجّزیة، والحجّیّة، لکن اعتبارها علماً، هذا لا یُستفاد منها فی الإمارات، فضلاً عن الاستصحاب الذی هو محل کلامنا. علی تقدیر التسلیم بالطریقیّة، فهی ناظرة إلی تنزیل هذه الأمور منزلة القطع الطریقی، ولیست ناظرة إلی تنزیل هذه الأمور منزلة القطع الذی یقع موضوعاً للحکم الشرعی، والذی یُسمّی بالقطع الموضوعی، هی تقوم مقام القطع الطریقی، لا أنّها تقوم مقام القطع الموضوعی، فیما نحن فیه العلم الذی جُعل الاستصحاب رافعاً لموضوع البراءة المقیّد بعدمه هو علم موضوعی، البراءة جُعلت مقیّدة بعدم العلم(الناس فی سعةٍ مالم یعلموا)، فالعلم أُخذ قیداً فی هذا الحکم، فهو موضوع لهذا الحکم، عدم العلم موضوع للبراءة، فالعلم یکون علماً موضوعیّاً، حتّی لو آمنا بالطریقیة، فالطریقیّة تُنزّل علی أنْ تقوم الإمارة أو الاستصحاب مقام القطع الطریقی فی المنجّزیّة والمعذّریّة، کما أنّ القطع الطریقی منجّز ومعذّر، الاستصحاب أیضاً یکون منجّزاً ومعذراً، أمّا إذا کان هناک حکم شرعی موضوعه العلم أیضاً دلیل حجّیّة الإمارة أو الاستصحاب ینزّل الاستصحاب أو الإمارة منزلة العلم فی ترتیب ذلک الحکم الشرعی بحیث یصبح موضوع ذلک الأثر الشرعی العلم والاستصحاب، کما أنّ العلم یحققّ موضوع ذلک الأثر، الاستصحاب أیضاً یحققّ موضوع ذلک الأثر، هذا لا یُستفاد من جعل الطریقیة، ما یفهم من جعل الطریقیة هو تنزیله منزلة القطع الطریقی والعلم الطریقی لا تنزیله منزلة العلم الموضوعی کما هو الحال فی محل الکلام.

ص: 26

درس الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ أدلّة البراءة الشرعیة/ الاستصحاب

قلنا أنّ الکلام یقع فی بعض الأمور المرتبطة بالبحث السابق، وهو بحث الاستدلال علی البراءة بالاستصحاب. وقد تکلّمنا عن الأمر الأوّل وأنهینا الکلام عنه.

الأمر الثانی: هناک قضیّة طرحها السیّد الخوئی(قدّس سرّه)، (1) وهی أنّ هذا الاستصحاب، بناءً علی جریانه لإثبات البراءة فی الشبهات الحکمیّة، کما تقدّم، هل یجری فی الشبهات الموضوعیّة، أو لا ؟ ما کنّا نتکلّم عنه هو جریانه فی الشبهات الحکمیّة، لو شککنا فی حرمة أکل لحم الأرنب، هل یمکن إثبات البراءة بالاستصحاب بأحدّ تقریباته الثلاثة السابقة، أو لا؟

أمّا إذا کان الشکّ فی شبهة موضوعیة حکمیّة، کما لو شککنا فی أنّ هذا المایع المُعیّن، هل هو خمر، أو لا ؟ فهل یمکن إثبات البراءة بالاستصحاب، أو لا ؟ هذا هو محل الکلام.

أصل التوقّف، أو الإشکال فی الاستصحاب فی الشبهات الموضوعیّة ناشئ من أنّ الاستصحاب الذی یُراد إجراءه، هو الاستصحاب بالتقریب الثانی المتقدّم، وهو استصحاب عدم الجعل، ومنشأ الإشکال هو أنّ استصحاب عدم الجعل لا یجری فی الشبهات الموضوعیّة؛ لأنّ الجعل لیس مشکوکاً فی الشبهات الموضوعیّة، والمکلّف لیس لدیه شکّ فیما یرتبط بما یجعله الشارع، بخلاف الشکّ فی حرمة أکل لحم الأرنب، فالمکلّف یشک فی أنّ الشارع جعل الحرمة، أو لا ؟ بینما هنا عندما تشکّ فی أنّ هذا المائع هل هو خمر، أو ماء ؟ هنا لا یوجد عندی شکّ فی الجعل، فیما یرتبط بالشارع أنا أعلم بأنّ الشارع جعل حرمة شرب الخمر، وجعل إباحة شرب الماء، ولا شکّ فیه، وإنّما الشک یکون فی أنّ هذا المائع المعیّن هل هو مصداق للخمر، حتّی تثبت له الحرمة ؟ أو هو ماء حتّی لا تثبت له الحرمة، وتثبت له الإباحة ؟ هذا هو الشکّ فی الشبهة الموضوعیة.

ص: 27


1- (1) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للسیّد الشاهرودی، جزء 3، صفحة 271.

إذن: لیس هناک شک فی الجعل. وبعبارة أکثر وضوحاً: أنّ الحکم لشخص المشکوک لیس فیه جعل، علی تقدیر أنْ یکون هذا خمر، الشارع لا یجعل له حرمة بخصوصه، وإنّما یجعل الحرمة علی طبیعی الخمر، فإذن: هناک حرمة مجعولة علی الطبیعی، وهناک حرمة تتعلّق بخصوص المشکوک، الحرمة المتعلّقة بالطبیعی لا شکّ فیها حتّی یجری فیها الاستصحاب، الحرمة المتعلّقة بخصوص هذا المورد المشکوک نقطع بعدمها؛ لأنّ الشارع لا یجعل حرمة لخصوص هذا الفرد، فإذن: فی أیّ شیءٍ یجری الاستصحاب ؟ یجری الاستصحاب بلحاظ الحرمة المتعلّقة بالطبیعی ؟ لکننّا قلنا أنّ هذه الحرمة لا شکّ فیها، لا یوجد هناک شکّ فی الجعل فی الشبهات الموضوعیّة؛ فحینئذٍ لا مانع من استصحاب عدم الجعل فی الشبهات الموضوعیّة، بخلاف الشبهات الحکمیّة؛ لأنّ الشک هو فی الجعل الزائد، لو کان أکل لحم الأرنب حرام، فهذا معناه أنّ هناک جعل للحرمة من قِبل الشارع أزید ممّا نعلمه؛ وحینئذٍ حیث أنّه مسبوق بالعدم یمکن إجراء استصحاب عدم جعل الحرمة فی هذا، وهو المسمّی ب--- (استصحاب عدم الجعل) وهو یثبت البراءة. هذا هو الإشکال فی إجراء الاستصحاب فی الشبهات الموضوعیّة، وحاصله: أنّ الجعل لیس مشکوکاً فی الشبهات الموضوعیّة، فلا معنی لإجراء الاستصحاب بلحاظ الجعل. هذا تقریب الإشکال.

السیّد الخوئی(قدّس سرّه) عندما طرح هذا الإشکال فی الدراسات أجاب عنه بهذا الجواب: قال بأنّ الأحکام مجعولة بنحو القضیّة الحقیقیّة، ولیس بنحو القضیّة الخارجیّة، یُفرض موضوع، ثمّ یُجعَل الحکم علی ذلک الموضوع المفترض الوجود، وعندما نفترض أنّ الأحکام مجعولة علی نهج القضیّة الحقیقیّة لازم ذلک الانحلال، بمعنی أنّ الحکم المجعول علی نهج القضیّة الحقیقیّة ینحلّ إلی أحکامٍ متعدّدةٍ بعدد أفراد موضوعه، فکلّما تحققّ فرد ومصداق من موضوعه فی الخارج ثبت له الحکم، وإذا تحققّ مصداق آخر ثبت له الحکم أیضاً.....وهکذا. (لله علی الناس حجّ البیت من استطاع إلیه سبیلا) (1) هذه قضیّة حقیقیّة، علی تقدیر الاستطاعة، وتوفر سائر الشروط الأخری یجب الحج، هذا الحکم المجعول علی نهج القضیة الحقیقیة یتکثّر بتکثّر أفراد موضوعه فی الخارج، فإذا وجد مستطیع یثبت له وجوب الحج، وإذا وجد مستطیع آخر یثبت له وجوب الحج أیضاً.....وهکذا. ویقول أنّ هذا هو مبنی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیّة، وجریان البراءة فی الشبهات الموضوعیّة هی قضیّة مسلّمة، ولکن عندما نفترض جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیّة، فلابدّ من فرض أنّ هناک شکّاً فی التکلیف؛ لأنّ مورد البراءة هو الشک فی التکلیف. إذن: لابدّ أنْ یکون فی الشبهة الموضوعیة تکلیف مشکوک؛ ولذا تجری فیه البراءة. ما هو التکلیف المشکوک فی الشبهة الموضوعیّة ؟ من الواضح أنّه لیس هو الجعل؛ لأنّ الجعل متیّقن فی الشبهة الموضوعیّة، ولا یوجد شکّ فیه، التکلیف المشکوک فی الشبهة الموضوعیّة والذی سمح لنا بإجراء البراءة فی الشبهة الموضوعیة بلا إشکال هو مبنی علی فکرة الانحلال، أی أنّ الحکم المجعول علی نهج القضیّة الحقیقیّة ینحل إلی أحکام جزئیة متعدّدة بعدد ما للموضوع من أفراد. إذن: هناک حکم جزئی متعلّق بهذا الفرد، فالحکم ینحل بعدد أفراد موضوعه، فإذا کان أفراد موضوعه مائة ینحل إلی مائة حکم، ثمّ یقول: فإذا شککنا فی أنّ هذا فرد من الموضوع، أو لا ------ وهو معنی الشبهة الموضوعیّة ------ فهذا عبارة أخری عن أننّا نشک فی حکمه الشخصی، هل ثبتت له حرمة شخصیّة انحلالیّة، باعتبار أنّ الحکم مجعول علی نهج القضیّة الحقیقیّة، أو لا ؟ هذا هو معناه بالنتیجة، عندما أعلم أنّ هذا خمر، أعلم بثبوت حرمة له، لکن هذه الحرمة حرمة انحلالیّة، هی التی نسمیها بالمجعول، فتثبت حرمة لشخصه عندما أعلم بأنّه مصداق للموضوع، وعندما أشکّ بأنّه مصداق للموضوع یعنی أشکّ فی ثبوت هذه الحرمة له.

ص: 28


1- (2) آل عمران/سوره3، آیه97

إذن: یوجد شکّ فی التکلیف حتّی فی الشبهة الموضوعیّة؛ ولذا جرت البراءة کما قال، وعلی هذا الأساس نقول بأنّ الاستصحاب یجری فی المقام، استصحاب عدم الجعل فی الشبهة الموضوعیّة؛ لأنّه من الواضح أنّ تکثّر الأفراد یعنی سعة الجعل، وقلة الأفراد تعنی نقص الجعل، وعدم سعته، هذا الجعل علی نهج القضیة الحقیقیة هو یتکثّر وینقص بتکثّر ونقصان عدد أفراده، فإذا علمنا أنّ هذا الموضوع للحکم المجعول علی نهج القضیة الحقیقیة قطعاً له عشرة مصادیق، وشککنا فی مصداقٍ آخر، وشکّنا فی الحقیقیة یرجع إلی الشکّ فی أنّ الجعل هل له سعة بحیث ینحل ویشمل أحد عشر فرداً، أو لیست له هذه السعة، وإنّما هو ینحل إلی عشرة أحکام تثبت لعشرة أفراد. إذن: شکّ فی سعة الجعل وضیقه، فإذا أرجعناه إلی الشک فی سعة الجعل وضیقه، فمن الممکن إجراء الاستصحاب فی الجعل، فیقال: أنّ جعل الحکم بنحوٍ یشمل هذا الفرد المشکوک متیّقن العدم سابقاً، فنستصحب عدم الجعل.

وبهذا دفع الإشکال، وانتهی إلی هذه النتیجة، وهی أنّ الاستصحاب الذی نثبت به البراءة کما یجری فی الشبهات الحکمیّة یجری أیضاً فی الشبهات الموضوعیّة بلا فرقٍ بینهما، مع کونه نفس الاستصحاب، لا نستصحب المجعول؛ بل نستصحب عدم الجعل، لکن بالبیان الذی ذکره. هذا أصل الإشکال وجوابه الذی ذکره السیّد الخوئی(قدّس سرّه).

لکنّ هذا الجواب فیه مشکلة ترتبط برأیٍ للسیّد الخوئی(قدّس سرّه) هو یتبناه، ونقلناه عنه سابقاً، وسیأتی تحقیقه فی باب الاستصحاب، وهو أنّه لا یری جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة؛ لأنّه مُعارَض باستصحاب عدم الجعل. هذا إشکال معروف، ویمثّلون له بمسألة وطء المرأة بعد النقاء وقبل الغسل، الاستصحاب الحکمی الذی یجری فی المقام هو استصحاب الحرمة المتیّقنة قبل النقاء، حیث قبل النقاء قطعاً کانت حرمة ----- هذا استصحاب المجعول، والحرمة بمعنی فعلیّة التکلیف ----- وبعد النقاء، وقبل الغسل نشکّ فی أنّه هل ارتفعت الحرمة، أو لا ؟ فنستصحب الحرمة المتیّقنة سابقاً. هذا الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة فی هذا المورد، وهکذا فی غیره.

ص: 29

هو یقول بأنّ هذا الاستصحاب لا یجری؛ لأنّه مُعارَض باستصحاب عدم الجعل؛ لأننّا متیقنین بأنّ الشارع قد جعل حرمةً قبل النقاء، لکن هل جعل الشارع حرمةً تمتد إلی ما بعد النقاء ؟ هذا مشکوک بالنسبة إلینا. إذن: شکنّا هو فی الجعل الزائد، وحیث أنّ هذا الجعل الزائد مسبوق بالعدم، فنستصحب عدمه، وهذا الاستصحاب ------ استصحاب عدم الجعل الزائد ------ یُعارض استصحاب المجعول، یعنی یعارض استصحاب الحرمة المتیّقنة قبل النقاء؛ لأنّ مقتضی هذا الاستصحاب هو إثبات الحرمة والتنجیز، بینما استصحاب عدم الجعل الزائد یقتضی التعذیر، وعدم الحرمة بعد النقاء، فیکون معارضاً له؛ ولذا ذهب إلی عدم جریان استصحاب المجعول؛ لأنّه معارض باستصحاب عدم الجعل الزائد.

هذا الکلام الذی یقوله(قدّس سرّه) هنا فی مقام توجیه بیان استصحاب عدم الجعل فی الشبهات الموضوعیّة یوقعه فی هذا الإشکال: أنّ إشکال المعارضة المانع من إجراء استصحاب المجعول سوف یسری من الشبهات الحکمیّة إلی الشبهات الموضوعیّة أیضاً؛ لأنّه أیضاً یجری استصحاب عدم الجعل الزائد، حیث أنّه وجّه جریان استصحاب عدم الجعل فی الشبهات الموضوعیّة، فإذا کان استصحاب عدم الجعل یجری فی الشبهات الموضوعیّة؛ حینئذٍ یکون معارِضاً لاستصحاب المجعول فی الشبهات الموضوعیّة. هذا المایع الذی أشک فی کونه خمراً، أو ماءً لنفترض أنّ حالته السابقة کانت هی الخمریّة، فإذا کانت حالته السابقة هی الخمریة، فالمجعول الذی هو الحرمة الفعلیة تثبت له. بعد ذلک شککت فی أنّه هل هو حرام، أو لا ؟ بنحو الشبهة الموضوعیّة، لا أعلم هل أنّه خرج عن کونه خمراً وصار ماءً، أو لا زال خمراً، هنا یجری استصحاب الحرمة المتیّقنة سابقاً، وهذا نُعبّر عنه باستصحاب المجعول، الحرمة المتیّقنة سابقاً قبل التحوّل الذی أوجب الشکّ، وهذا الاستصحاب یُعارَض باستصحاب عدم الجعل الزائد؛ لأنّ استصحاب عدم الجعل علی ضوء ما ذکره لا یختّص بالشبهات الحکمیّة؛ بل یجری حتّی فی الشبهات الموضوعیّة، أنّ الشارع هل جعل الحرمة بنحوٍ تنحلّ حتّی إلی هذا الفرد، أو لا ؟ الأصل عدمه، فیکون معارَضاً باستصحاب عدم الجعل الزائد، وهذا یؤدی إلی أنْ یلتزم ----- ولا أظنّه یلتزم بذلک ------ بأنّ استصحاب المجعول لا یجری فی الشبهات الحکمیّة، ولا فی الشبهات الموضوعیّة، ومن المؤکّد أنّه لا یلتزم بهذا؛ لأنّ المتیّقن من روایات الاستصحاب هو إجراء الاستصحاب فی الشبهات الموضوعیّة، والأمثلة التی ذُکرت فی روایات زرارة هی الشک فی الطهارة وأمثالها بنحو الشبهة الموضوعیّة، وهی القدر المتیّقن من روایات زرارة. بقطع النظر عن هذا الإشکال لا تواجهنا مشکلة فی الشبهات الحکمیة، حیث نخرجها من روایات زرارة، ونقول أنّ روایات زرارة مختصّة بالشبهات الموضوعیّة، ویجری استصحاب الحکم فی الشبهات الموضوعیّة، لکن بعد هذا لابدّ أنْ نخرج منها أیضاً الشبهات الموضوعیّة، ولا اعتقد أنّه یلتزم بذلک. هذا من جهة.

ص: 30

ومن جهة أخری: اصل المطلب هو غیر واضح، فکأنّه یرید أنْ یفترض أنّ التکثّر یکون بلحاظ عالم الجعل، وهذا الافتراض غیر صحیح، حیث لیس لدینا تکثّر بلحاظ عالم الجعل، الجعل لا یتکثّر بتکثّر أفراد موضوعه، الجعل أمر واقعی، وهو شیء واحد، وحالة خاصّة قائمة فی نفس الجاعل، ولا تتکثّر بتحققّ فرد، أو تنقص بعدم تحققّه، یعنی لا تعرض علیها الزیادة والنقیصة بحیث أنّ تحقق أفراد فی الخارج یؤثر فی زیادة الجعل، وعدم تحققّها یؤثر فی نقیصة الجعل، أصلاً لا معنی لأنْ نفترض أنْ یتکثّر الجعل بتکثّر أفراد موضوعه، وإنّما هذا التکثر، والتعدّد قائم فی عالم المجعول، والفعلیّة، فی المجعول یوجد تکثّر بلا إشکال؛ یعنی عندما یوجد فرد مستطیع یثبت له وجوب الحج فعلاً، والذی نعبّر عنه بالمجعول، وهذا لیس معناه أنّ الشارع جعل فیه وجوباً خاصّاً به، فأنّ الشارع قال:(للّه علی الناس حجّ البیت) ولیس أکثر من هذا، ولا ینتظر بعد ذلک کلّما تحققّ موضوع فی الخارج، فیجعل له حکماً ووجوباً، وإنّما نحن بالتحلیل نقول أنّ الحکم مجعول علی نهج القضیّة الحقیقیّة کهذا المثال، عندما یتحققّ مصداق لموضوعه یصبح الحکم فعلیّاً فی حقّه، هذه الفعلیة لیست جعلاً، وهذه نقطة مهمّة، وهی أنّ التکثّر لا یرتبط بعالم الجعل، وإنّما یرتبط بعالم المجعول، فالجعل شیء واحد لیس فیه تکثّر، ولا یتعدّد بتعدّد أفراد موضوعه. هذا الجعل الواحد، الأمر الواقعی الواحد إذا کنّا شاکّین به؛ حینئذٍ تکون الشبهة حکمیّة، وقلنا أنّه لا مشکلة فی إجراء البراءة، ولا مشکلة فی إجراء استصحاب عدم الجعل؛ لأننّا شاکّین فی الجعل، والحالة السابقة هی العدم، فنستصحب عدم الجعل. أمّا إذا کنّا عالمین بالجعل، ولا نشکّ فیه، وإنّما نشکّ فی المجعول، أی نشک فی الأحکام التی عبّر عنها هو ب---(الأحکام الجزئیّة)، والتی تثبت لأفراد الموضوع عندما تتحققّ، والتی نعبّر عنها بالمجعول، الذی هو أمر تحلیلی لیس له واقع، ما له واقع هو الجعل الصادر من المولی، شکّنا إنّما هو فی المجعول، ولیس فی الجعل، الشک فی کون هذا مصداق للموضوع لا یعنی تکثّر وتعدّد فی الجعل حتّی نقول أنّ هذا الشکّ فی التکثّر مسبوق بالعدم، فیجری استصحاب العدم، وإنّما الشکّ فی المجعول، وهذا یعنی أنّ استصحاب عدم الجعل لا یجری فی الشبهات الموضوعیّة لسببٍ بسیط وهو أنّه بلحاظ الجعل لا یوجد تکثّر، لا الأفراد التی نتیّقن أنّها داخلة فی الموضوع توجب تکثّر فی الجعل، ولا الأفراد التی نشکّ فی دخولها فی الموضوع توجب الشکّ فی سعة الجعل وضیقه، الجعل أمر واحد لا یتکثّر، وإنّما الذی یتکثّر هو المجعول. وعلیه: فاستصحاب عدم الجعل لا یجری فی الشبهات الموضوعیّة، وإنّما یجری فی الشبهات الحکمیّة، والذی یجری فی الشبهات الموضوعیّة هو استصحاب المجعول عندما تتوفّر أرکانه، هذا الشیء کان حراماً سابقاً وأشک فی بقاء الحرمة، أو أنّه کان مباحاً سابقاً، وأشک فی بقاء الإباحة، فاستصحب إباحته سابقاً، هذا استصحاب المجعول، ومن هنا لا یکون معارَضاً باستصحاب عدم الجعل فی الشبهات الموضوعیّة، حتّی لو تمّ إشکاله ----- إشکال المعارَضة ------ فی الشبهات الحکمیّة، فهو لا یرد فی الشبهات الموضوعیّة.

ص: 31

وأمّا المسألة التی طرحها هو(قدّس سرّه) من أنّه لولا الشک فی التکلیف لما جرت البراءة فی الشبهات الموضوعیّة، وهی جاریة بلا إشکال؛ لأنّ مبنی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیّة هو أنّ هناک شکّ فی التکلیف. هذا مطلب صحیح، لکن الشکّ فی التکلیف لا یعنی الشکّ فی الجعل، وإنّما یعنی الشک فی المجعول، ففی الشبهات الموضوعیّة یجری الاستصحاب، لکن الذی یجری فیه هو استصحاب المجعول، وتجری البراءة؛ لأنّ الشک فی المجعول، أی فی التکلیف الفعلی المتیّقن سابقاً، فالبراءة تجری فی الشبهات الموضوعیّة، واستصحاب المجعول یجری فی الشبهات الموضوعیّة، ولا یجری فیه استصحاب عدم الجعل؛ ولذا لا إشکال فیه من جهة المعارضة علی ما ذکر.

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی

بما تقدّم نختم الکلام عن أصالة البراءة وأدلّتها، وما یرتبط بهذه البحوث، وندخل بعد ذلک فی الاحتیاط وأدلّته، أدلّة الاحتیاط التی استدلّ بها علماؤنا الأخباریون(رضوان اللّه علیهم)، نحن نتکلّم عن هذه الأدلّة وعن غیرها ممّا لم یستدلوا به، لکن قد یُستدَل به علی أصالة الاحتیاط.

وما ننبه علیه کنتیجةٍ لذلک البحث الطویل فی البراءة هو أنّه تبیّن تمامیّة بعض أدلّة البراءة بنحوٍ تکون حاکمة علی أدلّة الاحتیاط لو تمّت، وما تمّ من أدلّة البراءة لیس هو فقط أدلّة البراءة بلسان قبح العقاب بلا بیان ممّا یکون معارضاً لأدلّة الاحتیاط، وإنّما تمّ من الأدلّة ما یکون حاکماً علی أدلّة الاحتیاط لو تمّت أدلّته، فحتّی لو تمّت أدلّة الاحتیاط الآتیة، عندنا من أدلّة البراءة ما یکون حاکماً علیها. أدلّة الاحتیاط نتکلّم فیها علی غرار ما تکلّمنا عن أصالة البراءة، الکلام هناک کان یقع فی مقامین، فی البراءة العقلیة، وفی البراءة النقلیّة الشرعیة. هنا أیضاً الکلام یقع أولاً فی الاحتیاط العقلی الذی یدرکه العقل و یحکم به، وثانیاً یقع فی الاحتیاط النقلی الشرعی الثابت بالأدلّة الشرعیّة.

ص: 32

أمّا المقام الأوّل فی الاحتیاط والاشتغال العقلی، قُرّب وجوب الاحتیاط عقلاً بعدّة تقریبات کما ذکرها الشیخ(قدّس سرّه) فی الرسائل، وصاحب الکفایة(قدّس سرّه) أیضاً ذکرها، نقتصر علی بعض هذه التقریبات المذکورة:

التقریب الأوّل: أنّ الأصل فی الأشیاء الحظر، ویُدّعی أنّ هذا ممّا یستقل به العقل، حیث إذا لم یرد دلیل من الشارع علی الجواز، والإباحة، وتجویز الارتکاب، فالعقل یستقل بأنّ الأصل فی الأشیاء هو الحظر. أصالة الحظر، أو أصالة التوقّف، کما اقترح الشیخ الطوسی(قدّس سرّه) فی العُدّة، حیث کانت لدیه مشکلة فی التعبیر عن هذا بأصالة الحظر، کأنّه یقول أنّ هذه تدخل فی باب الفتوی من غیر علمٍ، کیف نلتزم بالحظر ؟ والمفروض أنّه لا دلیل علی الحظر، فأبدل تسمیة هذه الأصالة، وسمّاها بأصالة التوقّف، أی التوقف عن التحریم المحتمل، وعن الإباحة، التوقّف عن کل منهما، عن التحریم، وعن الإباحة فی الشبهة التحریمیّة، وعن الوجوب والإباحة فی الشبهة الوجوبیة، لکن النتیجة واحدة، یعنی کمن یقول بأصالة الحظر، یؤمن بأنّ الأصل فی الأشیاء إذا لم یرد دلیل علی الإباحة، هو الامتناع وعدم الارتکاب، وهذا معناه احتیاط.

إذن: أصالة الحظر، أو أصالة التوقّف التی تنتج الاحتیاط، ولزوم التوقف وعدم الإقدام، فی الشبهات التحریمیة تنتج لزوم الامتناع عن الفعل وفی الشبهات الوجوبیة تنتج لزوم الاتیان بالفعل، هذه الأصالة تُجعل تقریب أوّل للاحتیاط العقلی، باعتبار أنّها من مدرکات العقل العملی، العقل یستقلّ بذلک کما یُدّعی؛ وحینئذٍ ینتج وجوب الاحتیاط عقلاً علی اساس هذا التقریب، وقلنا أنّ هذا الأصل قد آمن به المتقدّمون، یعنی ذُکر فی کلمات المتقدّمین وأهمهم الشیخ الطوسی(قدّس سرّه)، فأنّه ذکر هذا المطلب فی کتاب (عُدّة الأصول) (1) .

ص: 33


1- (1) عُدّة الأصول، الشیخ الطوسی، ج 1، ص 152.

هناک بعض التعلیلات لهذا المدرک العقلی قد لا تکون مقبولة، لکنّ هذا لا یعنی أنّ اصل المدرک، وأصل دعوی استقلال العقل بذاک أیضاً یکون غیر مقبول. ذُکر أنّ هذا باعتبار أنّ العبد ملکٌ لمولاه، فکل تصرفاته هی ملک للمولی(سبحانه وتعالی)، فإذا تصرّف تصرّفاً من دون إذن من قبل نفس المولی والمالک الحقیقی، فهذا یعتبر تصرّف فی سلطان المولی من دون إذنه، والعقل یدرک قبح هذا؛ لأنّه نوع من التعدّی، والخروج عن زیّ العبودیّة، وتمرّد علی المولی والمالک الحقیقی(سبحانه وتعالی)، باعتباره هو مالک کل التصرّفات، فأیّ تصرّف یتصرّفه العبد یحتاج إلی إذن من المولی، وإلاّ یکون تصرّفاً فی سلطان المولی من دون إذنه، وهذا أمر قبیح، والعقل یستقل بقبحه.

هذا الدلیل الأوّل تعرّض له الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الرسائل، وتعرّض له الشیخ الآخوند(قدّس سرّه) فی الکفایة وأجاب عنه بعدّة أجوبة:

أولاً: اصالة الحظر محل خلافٍ وکلامٍ؛ لأنّ هناک من لم یذهب إلی أنّ الأصل فی الأشیاء هو الحظر؛ بل بالعکس ذهب إلی أنّ الأصل فی الأشیاء الإباحة، فمسألة الحظر هی محل خلاف ونقاشٍ، فلا معنی لجعلها دلیلاً علی لزوم الاحتیاط فی محل الکلام؛ لأنّها لیست أمراً مسلّماً، وإنّما هی محل خلافٍ، إنّما یمکن جعل الشیء دلیلاً فی محل النزاع عندما یکون ذلک الشیء مسلّم بین الطرفین، فیُجعل دلیلاً علی الاحتیاط العقلی. أمّا إذا کان أصل الشیء هو محل کلامٍ وخلافٍ؛ فحینئذٍ لا یکون ملزماً للطرف الآخر المثبت لوجوب الاحتیاط عقلاً علی نحوٍ یکون مفحماً للطرف المقابل.

ثانیاً: الإباحة شرعاً ثبتت بالأدلّة المتقدّمة؛ إذ لا إشکال کما قلنا أنّ بعض أدلّة البراءة تمّ سنداً ودلالة، ومع وجود الإباحة الشرعیّة، مع الترخیص الشرعی فی الإباحة والإقدام، وفی عدم الاحتیاط؛ حینئذٍ هذا الدلیل لا یکون تامّاً، وحتّی لو سلّمنا أصالة الحظر کما ذُکر، لکن من الواضح أنّ أصالة الحظر منوطة ومعلّقة علی عدم ورود الترخیص الشرعی، العقل یحکم بلزوم الحظر، والتوقّف؛ لأنّه تصرّف فی سلطان المولی. إذن: هو حکم جهتی، یعنی یحکم بلزوم الاحتیاط مراعاة لمولویة المولی، ومن الواضح أنّ مثل هذا الحکم الاحترامی یکون منوطاً وموقوفاً علی عدم إذن نفس المولی فی المخالفة؛ إذ مع إذن المولی نفسه لا معنی لإصرار العقل علی لزوم الاحتیاط ومراعاة المولی، فیقول أنّ الإباحة ثبتت بالأدلّة المتقدّمة؛ حینئذٍ ترتفع أصالة الحظر، ولا یبقی أیّ أثر له فی محل الکلام.

ص: 34

ثالثاً: مسألة أصالة الحظر تختلف عن محل الکلام، والبناء علی لزوم الاحتیاط، أو التوقف فی مسألة أصالة الحظر لا یلازم ولا یعنی البناء علی الاحتیاط؛ بل هما مسألتان مختلفتان مدرکاً وملاکاً، فالبناء علی التوقف فی أحدهما لا یعنی لزوم البناء علی التوقف والاحتیاط فی الأخری، ویستفاد من کلامه أنّ الفرق بینهما هو أنّ أصالة الحظر عند من قال بها هی مخصوصة بما قبل وجود الشارع، وعدم التمکّن من بیان الأحکام الشرعیة؛ لأسباب لا ترتبط بالشارع نفسه، وإنّما ترتبط بالأوضاع العام، یعنی لأسباب خاصّة الشارع لا یتمکّن من بیان هذه المحرّمات، فی حالة عدم قابلیّة المکلّف لأنْ تبیّن له الأحکام الشرعیّة، هنا یقال بأنّ هذا المکلّف الذی هو غیر قابل لأنْ تبیّن له الأحکام الشرعیّة إذا شکّ فی التکلیف؛ حینئذٍ لابدّ من التوقّف والاحتیاط والحظر؛ لأنّ الأصل هو الحظر، بینما فی محل کلامنا نحن نرید أنْ نثبت أنّ المکلّف الذی یمکن أنْ یُبیّن له التشریع وهو قابل لأنْ یُبیّن له الأحکام الشرعیة، فإذا لم تُبیّن له الأحکام الشرعیّة، فالاحتیاط هناک لا یلازم الاحتیاط هنا؛ لأنّه فی المقام یمکن أنْ یتمسّک بقاعدة قبح العقاب بلا بیان، حیث أنّ الشارع یمکنه البیان، والمکلّف صالح لأنْ یُبیّن له التکلیف، ومع ذلک الشارع لم یبیّن، هناک یحکم العقل بأنّه یقبح العقاب مع عدم البیان، ویکون هو المؤمّن، ولا منجّزیة حینئذٍ ولا احتیاط، والاحتیاط هناک حیث لا تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف غیر صالح لأنْ یُبیّن له، والشارع غیر متمکّن من البیان، فلا معنی حینئذٍ لحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، فهو إنّما یقبح حیث یکون المولی متمکناً من البیان، ولا یُبیّن، فیقال بأنّ العقاب مع عدم البیان قبیح، أمّا حیث لا یمکنه البیان، ولو باعتبار عدم صلاحیة المکلّفین لبیان التکلیف، ففی هذه الحالة لا تجری هذه القاعدة، والاحتیاط هناک لا یلازم الاحتیاط فی محل الکلام، فلا معنی للاستدلال علی الاحتیاط فی محل الکلام الذی هو بعد فرض الشارع، وبعد فرض التمکن من البیان، وصلاحیّة المکلّف لأنْ یُبیّن له التکلیف؛ ولذا نزلت الشریعة، المسألتان مختلفتان، البناء علی لزوم الاحتیاط هناک لا یلازم البناء علی لزوم الاحتیاط هنا.

ص: 35

هذه مناقشات صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی أصالة الحظر، ولمن تمسّک بها لإثبات وجوب الاحتیاط عقلاً عند الشک فی التکلیف، ولنا تعلیق علی ما ذکره (قدّس سرّه): المفروض أننّا نتکلّم عن أحکامٍ کلّیّة مستقلّة یستقل بها العقل، والشیء الذی یُطرح هو: العقل تجاه التکالیف المشکوکة والمحتملة مع عدم ورود تخصیص من قِبل الشارع، هل یستقل بالعقل، أم یستقل بالبراءة ؟ هذا هو محل البحث بین مسلکین معروفین من قدیم الزمان، مسلک یؤمن بأنّ العقل یستقل بالبراءة، والذی یسمّی بقاعدة قبح العقاب بلا بیان، ومسلک آخر یؤمن بأنّ العقل یستقل بالاحتیاط، وهو المسلک الذی سمّاه السیّد الشهید(قدّس سرّه) بمسلک(حق الطاعة) (1) والذی هو الاشتغال العقلی، وکلامنا هو فی أنّ العقل بماذا یستقل ؟ هل یستقل بالبراءة تجاه التکالیف المحتملة والمشکوکة، أو أنّه یستقل بالاحتیاط والاشتغال ؟ المُدّعی فی هذا الدلیل هو أنّه یستقل بالاحتیاط وبالتوقّف، بمعنی أنّه یستقل بأنّه لابدّ من إطاعة التکالیف المحتملة والمشکوکة، فالتکالیف المحتملة والمشکوکة بنظر أصحاب هذا المسلک هی کالتکالیف المعلومة، کما أنّ العقل یستقل فی التکلیف المعلوم بلزوم إطاعته، کذلک یستقل فی التکالیف المحتملة والمشکوکة بلزوم إطاعتها.

نعم، هذا الحکم العقلی عند من یقول به بلا إشکال هو مقیّد بعدم ورود الترخیص الشرعی؛ لما قلناه من أنّ هذا حکم یدرکه العقل من باب إدراک مولویة المولی وعبودیة العبد، فهو حکم احترامی، ولا معنی للإصرار علی هذا الاحترام حتّی إذا رخّص نفس المولی فی المخالفة لمصالح یراها، ورخّص فی عدم الاحتیاط. فإذن: حتماً هو حکم معلّق علی عدم ورود الترخیص الشرعی، ولیس حکماً مطلقاً. فی الحقیقة هناک ملاحظات علی بعض أجوبة صاحب الکفایة (قدّس سرّه)، منها أنّ مسألة الحظر هی محل خلاف ونزاع، فلا معنی لجعلها دلیلاً فی محل الکلام؛ لأنّ هذا لا یُفحم الخصم، ولا یوافق علی أصل المبنی، هذا الإیراد لا یرِد فی المقام؛ لأنّ کونها محل خلاف هذا أمر واضح، حیث أننّا قلنا فی البدایة أنّ هناک مسلکین فیما نحن فیه، وهناک خلاف بین العلماء فی ذلک، لکن المشکلة هی أنّ کلاً من أصحاب المسلکین لیس لدیه برهان علی إثبات مدّعاه کما تقدّم بحث ذلک مفصّلاً فی بدایة مباحث البراءة، حیث قلنا هناک أنّه لیس هناک برهان علی البراءة کما أنّه لیس هناک برهان علی مسلک حقّ الطاعة، لا توجد براهین فی المقام، وکل ما ذُکر من صورة برهان هو فی الحقیقة غیر ثابت وغیر ناهض لإثبات هذا المسلک، أو ذاک المسلک، وهذا معناه أنّ الدعوی هی دعوی وجدانیّة، من یقول بالحظر وبمسلک حق الطاعة لیس لدیه غیر وجدانه، فیقول: أنّ وجدانی یدرک أنّ المولی مولی حتّی فی تکالیفه المحتملة والمشکوکة، وصاحب مسلک قبح العقاب بلا بیان یقول: أنا أدرک بأنّ العقل یستقل بقبح العقاب بلا بیان، بمعنی أنّه یقبح من المولی أنْ یعاقب مع عدم البیان، وهذا مؤمّن، فلا یجب الاحتیاط. هی دعاوی وجدانیة، ولا تخرج عن کونها کذلک، وکل برهانٍ وقیمة لإثبات أحدهما هو غیر ناهضٍ، ولیس برهاناً.

ص: 36


1- (2) بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 79.

إذن: هی دعاوی وجدانیة، فلا معنی للمناقشة فی هذا بأنْ نقول أنّ کلامک محل خلافٍ؛ لأنّ هناک من لا یرضی بکلامک، لا معنی لهذا؛ لأنّه لا یستدلّ بشیء، وأصل أصالة الحظر التی یدّعیها هی عبارة عن مسلک حقّ الطاعة، وهی عبارة عن الاحتیاط العقلی، وهو لا یستدلّ علیه بشیء، إنّما یدعیه کأمر وجدانی، فیقول: أنا أدرک بعقلی أنّ الأصل فی الأشیاء هو الحظر، بینما الطرف المقابل یقول: أنا أدرک أنّ الأصل فی الأشیاء هو الإباحة والبراءة؛ حینئذٍ لا یمکن إلزام هذا بوجدان هذا، ولا یمکن إلزام هذا بوجدان هذا؛ بل یبقیان مختلفین فی إدراکهما الوجدانی لهذه الأحکام العقلیة. نحن سابقاً ذکرنا بأنّ الشیء الذی یمکن أنْ یُتفوه به فی هذا المقام هو تجمیع مؤشرات ومنبهات علی صحّة أحد الوجدانین، هذا ممکن، وقد ذکرنا هناک بأنّه، إنصافاً أنّه یمکن أنْ یُستفاد من بعض الآیات الشریفة صحّة مسلک قبح العقاب بلا بیان، والمقصود بالآیات القرآنیة هی قوله تعالی:(وما کنّا معذبین حتّی نبعث رسولاً). (1) یُستفاد منها أنّ العذاب من دون بعث الرسول الذی هو کنایة عن بیان الأحکام الشرعیّة، أنّ هذا شیء لا یلیق بساحته(سبحانه وتعالی)، وهذا شیء لا ینبغی أنْ یصدر منه، یعنی أنّه أمر قبیح بالنسبة إلیه(سبحانه وتعالی)، والتعبیر ب--(ما کنّا) یُستفاد منه أنّه لا ینبغی أنْ یصدر منه ذلک، ولیس مناسباً لشأنه(سبحانه وتعالی). وقوله تعالی:(وما کان اللّه لیضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّی یبیّن لهم ما یتّقون). (2) وقوله تعالی:(رسلاً مبشّرین ومنذرین لئلا یکون علی اللّه حجّة بعد الرسل). (3) ویستفاد منها أنّه قبل الرسل تکون الحجّة للناس علی اللّه(سبحانه وتعالی)، وإنّما هو أرسل الرسل مبشّرین ومنذرین لیُبیّنوا الأحکام لئلاّ یکون علی اللّه حجّة بعد الرسل.

ص: 37


1- (3) سورة الإسراء، آیة 15.
2- (4) توبه/سوره9، آیه115
3- (5) نساء/سوره4، آیه165

إذن: یمکن أنْ نعتبر هذه الأدلّة وغیرها منبّهات ومؤشرات علی صحّة مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، بقطع النظر عن أنّها أمور وجدانیة کما قلنا، فلا یمکن إلزام أحد الطرفین بوجدان الطرف الآخر.

المناقشة فی الجواب الثالث الذی ذکره، وهو أنّ المنظور بهذا هو ما قبل الشرع، والمنظور بالثانی هو ما بعد الشرع، فی الحقیقة هذا تحجیم للمسألة، أفرض أنّه فی کلماتهم کانوا یطرحون مسألة الحظر بلحاظ ما قبل الشرع، بالنتیجة هذا لا یُعفینا من أنْ نبحث، بلحاظ ما بعد الشرع هناک من یقول بلزوم الاحتیاط، ولزوم التوقّف، وبمسلک حقّ الطاعة، هذا بحث بلحاظ ما بعد الشرع، لکن کیف نجیب عن دعوی بلحاظ ما بعد الشرع ؟.

علی کل حال، هذا هو التقریب الأوّل، ونسمّیه(مسلک حقّ الطاعة) ویُعبّر عنه ب---(أصالة الحظر)، أو (أصالة التوقّف) وأمثال هذه الأمور، وکلّها تنشأ من شیءٍ واحد وهو استقلال العقل بلزوم الاحتیاط عند التکالیف المحتملة والمشکوکة.

التقریب الثانی: التمسّک بالعلم الإجمالی علی غرار ما تقدّم من التمسّک بالعلم الإجمالی لإثبات حجّیّة خبر الواحد، بمعنی وجوب العمل بالتکالیف التی یتضمّنها خبر الثقة، والتی تنتج نتیجة الحجّیّة؛ لأنّ خبر الثقة یکون حجّة؛ لأنّه یجب العمل بالتکالیف التی یتضمّنها خبره؛ تمسّکاً بالعلم الإجمالی.

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی

ذکرنا فی الدرس السابق أنّ التقریب الثانی لوجوب الاحتیاط عقلاً هو التمسّک بالعلم الإجمالی، بأنْ یُدّعی أننّا نعلم إجمالاً بوجود واجبات ومحرّمات کثیرة فی موارد الشکّ فی التکلیف، فلابدّ من الاحتیاط فی أطراف هذا العلم الإجمالی التی هی جمیع الشبهات، والشبهات فی کل مورد یُشکّ فیه فی التکلیف، تکون طرفاً من أطراف العلم الإجمالی. إذا لاحظنا موضوع مجموع الشبهات وجمیع موارد الشک فی التکلیف الإلزامی نحن نعلم إجمالاً بثبوت تکالیف فی تلک الموارد، فیجب الاحتیاط فی جمیع الأطراف، أنّه کل شبهةٍ نحتمل فیها التکلیف الالزامی هی طرف للعلم الإجمالی، یعنی یُحتمَل أنْ یکون التکلیف المعلوم بالإجمال ثابتاً فیها، وهذا هو المیزان فی طرفیّة الطرف للعلم الإجمالی، ویترتّب علی ذلک أنّه لابدّ من فعل کل ما یحتمل وجوبه، وترک کل ما یحتمل حرمته، ونصل إلی نتیجة معنی الاحتیاط، فی کل شبهة وجوبیة لابدّ من الفعل، وفی کل شبهة تحریمیةٍ لابدّ من الترک وهو معنی الاحتیاط، فالعقل یحکم بالاحتیاط فی موارد الشبهة لأجل هذا العلم الإجمالی.

ص: 38

والجواب عنه: هو بادعاء الانحلال، أی أنّ العلم الإجمالی منحل، فلا مانع من إجراء الأصول فی موارد الشک فی التکلیف، وهذا الانحلال للعلم الإجمالی تارةً یُبیّن بلسان الانحلال الحقیقی، وأخری یُبیّن بلسان الانحلال الحکمی، وهو عبارة عن إلغاء منجّزیة العلم الإجمالی، یعنی العلم الإجمالی لا یبقی منجزاً، وإنْ کان العلم الإجمالی باقیاً علی حاله، ولا ینحل، لکنّه لیس منجّزاً، فیسقط عن التأثیر، ویسقط عن المنجّزیة، وهذا یعبّر عنه ب----(الانحلال الحکمی)،وسرّ تسمیته بذلک واضح، باعتبار أنّه فی الواقع لا یوجد انحلال، والعلم الإجمالی باقٍ علی حاله، لکنّه لا یکون منجّزاً للأطراف، فیسقط عن الحکم؛ لأنّ حکم العلم الإجمالی هو التنجیز، العلم الإجمالی فی موارد الانحلال الحکمی لا یعود منجّزاً، بینما الانحلال الحقیقی هو أنّ نفس العلم الإجمالی ینحل.

أمّا الانحلال الحقیقی، فادُعی الدعوی المعروفة والمشهورة وهی، صحیح أننّا نعلم إجمالاً بثبوت واجبات ومحرّمات وتکالیف إلزامیة فی ضمن جمیع الشبهات، ومنشأ هذا العلم الإجمالی وسببه هو العلم بوجود شریعة، فکل من یعلم بوجود شریعة، فهو یعلم بوجود تشریعات فی تلک الشریعة، وإلاّ لا معنی لتلک الشریعة من دون تشریعات، ومن دون واجبات ومحرّمات، فالعلم بوجود شریعة یلازم العلم بوجود أحکام إلزامیة فی تلک الشریعة علی الإجمال، فهذا العلم الإجمالی وإن کان موجوداً، ودائرته هی عبارة عن جمیع الشبهات، وکل الشبهات هی أطراف لهذا العلم الإجمالی، لکن هذا العلم الإجمالی فی دائرة الشبهات منحل إلی علم إجمالی أصغر منه فی دائرة الطرق والإمارات؛ بل أدُّعی أنّ هناک علماً إجمالیاً أصغر من هذا العلم الإجمالی الثانی، وهو العلم الإجمالی فی دائرة الإمارات المعتبرة بالخصوص.

توضیح المطلب: هناک یُدّعی أنّ لدینا ثلاثة علوم إجمالیة:

ص: 39

العلم الإجمالی الأوّل: هو العلم الإجمالی المُدّعی اساساً، وهو العلم بثبوت واجبات ومحرّمات فی الشریعة، وأطراف العلم الإجمالی هی جمیع الشبهات، سواء قامت إمارة فی تلک الشبهة، أو لم تقم، وسواء کانت الإمارة معتبرة، أو لم تکن معتبرة، کل شبهةٍ حتّی إذا لم تکن فیها إمارة إطلاقاً هی طرف فی هذا العلم الإجمالی، ومنشأ هذا العلم الإجمالی کما قلنا هو العلم بوجود شارع وشریعة، فأنّه یستلزم العلم بوجود تشریعات، ووجود أحکام وواجبات ومحرّمات فی تلک الشریعة.

العلم الإجمالی الثانی: هو عبارة عن العلم بوجود تکالیف إلزامیة فی دائرة الطرق والإمارات، أعم من أنْ تکون معتبرة، أو غیر معتبرة، بمعنی أننّا إذا عزلنا موارد الطرق والإمارات والأصول أیضاً، إذا لاحظناها، فسوف نعلم بأنّ هناک أحکاماً واقعیّة إلزامیة ثابتة فی هذه الموارد، ومدرک هذا العلم هو حساب الاحتمالات، أی أنّ هذه الطرق والإمارات لمّا کانت کثیرة، وکثیرة جدّاً، الأعم من المعتبرة وغیر المعتبرة، ونحن لا نحتمل کذبها جمیعاً، بأنْ تکون جمیع هذه الطرق والإمارات کاذبة، وعدم احتمال کذب الجمیع هو عبارة أخری عن القطع بصدق البعض، والقطع بصدق البعض هو الذی یولّد لنا علماً إجمالیاً بأنّ بعض هذه الطرق والإمارات مصیبة للواقع یعنی أنّ ما تتضمّنه من أحکامٍ إلزامیة ثابت وموجود.

إذن: نحن نعلم بأنّ هناک تکالیفاً إلزامیة فی ضمن هذه الطرق والإمارات المعتبرة وغیر المعتبرة؛ لأننّا لا نحتمل کذب الجمیع بحساب الاحتمالات، یعنی نقطع بصدق البعض، یعنی نعلم بثبوت أحکامٍ إلزامیة فی ضمن هذه الطرق والإمارات المعتبرة وغیر المعتبرة. هذا العلم الإجمالی الثانی دائرته أضیق من دائرة العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ أطراف العلم الإجمالی الثانی لیست کل شبهة، وإنّما الشبهة التی تقوم علی ثبوت التکلیف فیها إمارة، أو طریق، ولو لم یکن معتبراً، فتکون دائرته أضیق من دائرة العلم الإجمالی الأوّل.

ص: 40

العلم الإجمالی الثالث: وهو فی خصوص الإمارات المعتبرة؛ بل أدعی أنّه فی خصوص أخبار الثقات بنفس الملاک السابق، وهو أننّا إذا التفتنا إلی الإمارات المعتبرة، خبر الثقة، أو غیره إذا وجدت إمارة معتبرة، فسنجد أننّا نعلم بأنّ بعض هذه الأخبار مصیب للواقع بحساب الاحتمالات أیضاً؛ لأننّا لا نحتمل أنّ جمیع أخبار الثقات کاذبة وغیر مطابقة للواقع، هذا احتمال منفی بحساب الاحتمالات، وهذا یوجب القطع بصحّة بعض أخبار الثقات ومطابقتها للواقع، ممّا یعنی العلم الإجمالی بوجود أحکام إلزامیة فی ضمن أخبار الثقات. وهذا العلم الإجمالی الثالث بطبیعة الحال تکون دائرته أضیق من العلمین السابقین؛ لأنّ دائرته هی عبارة عن الشبهات التی قام خبر الثقة علی ثبوت التکلیف فیها، أو قامت إمارة أخری معتبرة علی ثبوت التکلیف فیها، فالشبهة التی یقم فیها خبر معتبر لیست طرفاً لهذا العلم الإجمالی، فضلاً عن الشبهة التی لم تقم فیها أیّ إمارة.

إذن: لا یجوز لنا أنْ نقصر النظر علی العلم الإجمالی الأوّل ونقول أنّه یقتضی الاحتیاط فی جمیع الشبهات، وبالتالی یثبت لنا لزوم الاحتیاط عقلاً؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی الأوّل منحل بعلمٍ إجمالی أصغر منه، وهو العلم الإجمالی الثانی؛ بل الثانی أیضاً ینحل بعلم إجمالی أصغر منه، وهو العلم الإجمالی الثالث. ذکروا فی محلّه وسیأتی إنْ شاء اللّه تعالی مفصّلاً أنّ شرط الانحلال هو :

أوّلاً: أنْ تکون أطراف العلم الإجمالی الصغیر هی بعض أطراف العلم الإجمالی الکبیر، لا أنْ یکون علماً إجمالیاً آخراً لا علاقة له به

ثانیاً: أنْ لا یزید المعلوم بالعلم الإجمالی الکبیر علی المعلوم بالعلم الإجمالی الصغیر، وإلاّ إذا زاد المعلوم بالعلم الإجمالی الکبیر علی المعلوم بالعلم الإجمالی الصغیر لا ینحل العلم الإجمالی، ومثاله المعروف هو مثال قطیع الغنم، إذا علم الإنسان بوجود خمس شیاهٍ مغصوبة فی هذا القطیع الکبیر من الغنم، ثمّ علم بأنّ خمسة من الشیاه البیض من هذا القطیع مغصوبة أیضاً، فأصبح لدیه علمان، وهنا توفرت شرائط الانحلال، حیث أنّ أطراف العلم الإجمالی الصغیر هی بعض أطراف العلم الإجمالی الکبیر، وهی الشیاه البیض من القطیع، والمعلوم بالعلم الإجمالی الکبیر لا یزید علی المعلوم بالعلم الإجمالی الصغیر، هنا قهراً یتحققّ الانحلال، بمعنی أنّ الإنسان یصبح عالماً بوجود خمس شیاه محرّمة فی ضمن البیض، إذا عزل البیض لیس لدیه علم إجمالی بوجود شیاه محرّمة، أمّا إذا فرضنا أنّه علم بوجود ثلاثة شیاه محرّمة مغصوبة فی البیض من القطیع، فسوف لن ینحل العلم الإجمالی؛ لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالی الکبیر أزید من المعلوم بالعلم الإجمالی الصغیر؛ لأنّه إذا عزل البیض فسوف یبقی لدیه علم إجمالی بوجود شیاه محرّمة فی الباقی، فلا یُحل ذاک العلم الإجمالی، ویُحتّم علیه أنْ یحتاط لیس فقط فی البیض؛ بل حتّی فی السود.

ص: 41

هذان الشرطان متوفّران فی محل الکلام؛ لأنّ العلم الإجمالی الصغیر، سواء کان الثانی أو الثالث أطرافه هی بعض أطراف العلم الإجمالی الکبیر؛ لأنّ الشبهات حکمیّة، لکن هذه الشبهات الحکمیة مرّة تقوم إمارة علی ثبوت الحکم فیها، ومرّة لا تقوم إمارة، والشبهات التی تقوم الإمارة علی ثبوت التکلیف فیها أیضاً تارةً تکون الإمارة معتبرة، وأخری تکون غیر معتبرة، فدائماً أطراف العلم الإجمالی الصغیر هی بعض أطراف العلم الإجمالی الکبیر. والشق الثانی متوفّر، وهو أنّ ما نعلمه بالعلم الإجمالی الکبیر لا یزید علی ما نعلمه بالعلم الإجمالی الصغیر، بمعنی أنّ الإنسان بوجدانه ------ هذه القضیة وجدانیة لا یمکن إثباتها ببرهان ------ إذا التفت إلی جمیع الشبهات لا یعلم إجمالاً بوجود محرّمات أزید ممّا یعلمه إذا التفت إلی خصوص أخبار الثقات، نظراً لکثرة أخباراً الثقات، وأنّ معظم الأحکام الشرعیة ثابتة عن طریق أخبار الثقات، أهم إمارة تثبت لنا الأحکام الشرعیة هی عبارة عن خبر الثقة، فلا یستطیع الإنسان أنْ یقول أنا أعلم بوجود تکالیف إلزامیة بالعلم الإجمالی الکبیر أزید ممّا أعلمه بالعلم الإجمالی الصغیر حتّی الثالث، لیس هناک یقین، نعم، الاحتمال موجود، لکن المناط لیس علی الاحتمال، بحیث إذا عزلت أخبار الثقات تعلم بثبوت تکالیف أخری غیر ما أثبته خبر الثقة، الاحتمال موجود، لکن لا یوجد علم، فتتوفّر الأرکان وشرائط الانحلال، فینحل العلم الإجمالی الأوّل بعلمٍ إجمالی أصغر منه، هذا لا یثبت لنا المطلوب، بعد الانحلال العلم الإجمالی الصغیر یُنجّز أطرافه، لکن هذا لا یثبت المطلوب الذی هو أنْ نقول للمکلّف فی الشبهة التی تعرض علیک، والتی لا تقوم فیها الحُجّة علی ثبوت التکلیف، هذا هو کلامنا، وإلاّ، الشبهة التی تقوم الحُجّة علی ثبوت التکلیف فیها قد فرغنا منها سابقاً، وقلنا بأنّ الحُجّة معتبرة، وتثبت التکلیف ویجب حینئذٍ العمل بمقتضی هذا التکلیف، کلامنا لیس فی هذا، وإنّما کلامنا فی الشبهة التی لیس فیها إمارة، والشبهة التی فیها إمارة لکنّها غیر معتبرة، هنا هل یجب الاحتیاط، أو لا یجب الاحتیاط ؟ بعد الانحلال لا یثبت وجوب الاحتیاط فی مثل هذه الشبهات. نعم، یجب العمل بالاحتیاط فی أطراف الشبهة فی أطراف العلم الإجمالی الصغیر، لکن هذا لا داعی لإثبات الاحتیاط فیه؛ لقیام الحجّة المعتبرة شرعاً علی ثبوت التکلیف فی تلک الموارد.

ص: 42

دعوی الانحلال هذه تقدّمت مفصلاً فی مسألة الاستدلال علی حُجّیّة خبر الواحد بالدلیل العقلی؛ لأنّ هناک تقدّم أنّ خبر الواحد قد یُستدل علیه بالکتاب، والسُنّة، والإجماع، والعقل، أحد البیانات المذکورة للاستدلال علی حُجّیّة خبر الواحد بالعقل هو أنْ یُدعی علم إجمالی فی دائرة خبر الواحد؛ فحینئذٍ یجب العمل بخبر الواحد للعلم الإجمالی، فتثبت نتیجة الحجّیّة الخاصّة الثابتة لخبر الواحد. تقدّم هذا مفصلاً، وتقدّم أنّ هناک مناقشات فی دعوی الانحلال فی محل الکلام، وإنْ کان السید الخوئی(قدّس سرّه) تبعاً لأستاذه المیرزا(قدّس سرّه) یلتزمون بهذا الانحلال الحقیقی، لکن تقدّمت هناک مناقشات فی دعوی الانحلال الحقیقی فی محل الکلام لا داعی لإعادتها؛ لأنّها تقدّمت مفصّلاً.

أصحاب الانحلال الحقیقی قالوا: إذا ناقشتم فی الانحلال الحقیقی ولم ترضوا به، فیمکن إدّعاء الانحلال الحکمی، أنّ هذا العلم الإجمالی المُدعی فی المقام، والذی نرید أنْ نثبت به وجوب الاحتیاط فی الشبهات منحل حکماً لا حقیقةً.

خلاصة الانحلال الحکمی: أنّ العلم الإجمالی یزول عن قابلیة التنجیز، لا یصبح قابلاً لأنْ یُنجّز الأطراف، یسقط عن قابلیة التنجیز، وإنْ کان العلم الإجمالی باقٍ فی نفسه، لکنّه یسقط عن قابلیة التنجیز، فیکون وجوده وعدمه سواء. وبعبارة أخری(کما سیأتی): هو لا یمنع من إجراء الأصل المؤمّن فی بعض أطرافه، لو کان منجّزاً لکل الأطراف، فأنّه یمنع من إجراء الأصول المؤمّنة فی أطرافه؛ لأنّ التأمین لا ینسجم مع التنجیز فی کل الأطراف.

هذا التقریب للانحلال الحکمی یختلف بیانه باختلاف المسالک المعروفة فی منجّزیة العلم الإجمالی لوجوه الموافقة القطعیّة، یعنی الاحتیاط. المعروف أنّ هناک مسلکین فی منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الاحتیاط، أو لوجوب الموافقة القطعیة، المسلک الأوّل هو مسلک الاقتضاء، والمسلک الثانی هو مسلک العلّیّة التامّة، هناک رأی یقول بأنّ العلم الإجمالی مقتضی لوجوب الموافقة القطعیّة، لکن فعلیّة وجوب الموافقة القطعیّة، والتنجیز مبنیّة علی تعارض الأصول المؤمّنة فی الأطراف، فالتنجیز لیس نتیجة لنفس العلم الإجمالی، وإنّما هو من نتائج تعارض الأصول المؤمّنة فی الأطراف.

ص: 43

وبعبارة أکثر وضوحاً: أصحاب مسلک الاقتضاء یقولون: لا مانع من إجراء الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین، لا مانع من إجراء أصالة البراءة فی حدّ نفسها فی أحدّ الطرفین، وإنّما یمنع من إجرائها فی هذا الطرف معارضتها بالأصل المؤمّن فی الطرف الآخر؛ لأنّ نسبة کلا الطرفین إلی دلیل الأصل المؤمّن نسبة واحدة، ولیس هناک خصوصیّة لأحد الطرفین بحیث یختصّ دلیل الأصل المؤمن به دون صاحبه، وإجراء الأصل المؤمّن فی کلا الطرفین غیر ممکن؛ للعلم الإجمالی بثبوت التکلیف، نعلم بنجاسة أحد الإناءین، فکیف نجری أصالة الطهارة فی کلا الطرفین ؟! فلا یمکن إجراء الأصل المؤمّن؛ لأنّه منافٍ للعلم الإجمالی، وإجراءه فی أحد الطرفین بخصوصه دون الآخر ترجیح بلا مرجّح بعد تساوی نسبة الطرفین إلی دلیل الأصل المؤمّن، وهذا ینتج تعارضاً الأصول فی الطرفین، بمعنی أنّ شمول دلیل المؤمّن لهذا الطرف یُعارَض بشموله للطرف الآخر، فتسقط الأصول المؤمّنة فی الأطراف؛ فحینئذٍ یُنجّز العلم الإجمالی کلا الطرفین. إذن: تنجیز کلا الطرفین، ووجوب الاحتیاط، ووجوب الموافقة القطعیّة هو من نتائج تعارض الأصول، لا أنّ العلم الإجمالی لوحده یثبّت وجوب الموافقة القطعیّة، العلم الإجمالی لیس فیه هکذا حالة، وإنّما هو فیه مجرّ اقتضاء لوجوب الموافقة القطعیة، وإذا اقترن بتعارض الأصول وعدم جریان الأصل المؤمّن فی الطرف؛ فعندئذٍ یُنجّز وجوب الموافقة القطعیّة. أمّا إذا لم یقترن بتعارض الأصول، فلا مانع من إجراء الأصل المؤمّن فی هذا الطرف، لو فرضنا لسببٍ من الأسباب ----- کما سیأتی ----- عدم جریان الأصل المؤمّن فی ذاک الطرف؛ فحینئذٍ لا مانع من جریان الأصل المؤمّن فی هذا الطرف.

علی مسلک الاقتضاء یُبیّن الانحلال الحکمی بهذا اللّسان: أنّ الشبهات الحکمیّة فی غیر موارد الإمارات المعتبرة تجری فیها الأصول المؤّمنة بلا معارض؛ لأنّ الأصل المؤمّن لا یجری فی الشبهات الحکمیة التی قامت علیها الإمارات المعتبرة المنجّزة للتکلیف فی مواردها، عندما تقوم إمارة معتبرة علی أنّ هذا نجس، وهذا واجب، أو هذا حرام، فهنا لا تجری البراءة؛ لأنّ الإمارة المعتبرة حجّة حاکمة علی البراءة، ومانعة من جریانها. إذن: الأصل المؤمّن لا یجری فی الموارد التی تقوم الإمارة المعتبرة علی ثبوت التکلیف فیها؛ وعندئذٍ لا مانع من جریانه فی غیر هذه الموارد بلا معارض، فیجری فی غیر موارد الإمارات المعتبرة الذی هو محل کلامنا بلا معارض؛ لأننّا قلنا أننّا لا نتکلم عن الموارد التی فیها إمارات معتبرة؛ لثبوت التکلیف فیها بلا إشکال، وإنّما کلامنا فی الشبهات التی لیس فیها إمارة، أو فیها إمارة غیر معتبرة، هنا لا یجب الاحتیاط علی مسلک الاقتضاء؛ لأنّ الأصل المؤمّن یجری فیها بلا معارض، وبحسب الفرض علی هذا المسلک لا مانع من إجراء الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین؛ لأن هذا المسلک هو مسلک الاقتضاء، ولیس العلّیّة التامّة للتنجیز ولوجوب الموافقة القطعیة، وإنّما یثبت وجوب الموافقة القطعیة بعد افتراض التعارض، والمفروض لا تعارض فی المقام؛ فحینئذٍ لا مانع من إجراء الأصل المؤمّن فی الشبهات فی غیر موارد الإمارات المعتبرة، وإذا جرت الأصول المؤمّنة، فهذا معناه أنّه انحل العلم الإجمالی حکماً، یعنی أصبح غیر صالحٍ لأنْ ینجّز کل الأطراف، ولو بضمیمة تعارض الأصول المؤمّنة، فالعلم الإجمالی باقی، ویبقی المکلّف یعلم إجمالاً بأنّ هناک تکالیف فی دائرة الشبهات التی قامت علیها الإمارات المعتبرة وغیر المعتبرة، أو فی أوسع دائرةً، العلم الإجمالی الأوّل فی جمیع الشبهات أعلم إجمالاً بوجود تکالیف إلزامیة، لکن هذا العلم الإجمالی لا یثمر ثمرة؛ لأنّه لا یوجب تنجیز کل الشبهات؛ لأنّه یمکن إجراء الأصول المؤمّنة فی الشبهات التی لم تقم علیها الإمارات المعتبرة. هذا بیان الانحلال بناءً علی مسلک الاقتضاء.

ص: 44

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی

کان الکلام فی الدلیل الثانی علی وجوب الاحتیاط عقلاً، وهو عبارة عن الاستدلال بالعلم الإجمالی، وأجیب عن هذا الدلیل بالانحلال، أنّ هذا العلم الإجمالی منحل، ولا ینجّز وجوب الاحتیاط، ووجوب الموافقة القطعیّة. الانحلال تارةً یبیّن بتقریب الانحلال الحقیقی وقد تقدّم الکلام فیه. وأخری یبیّن بتقریب الانحلال الحکمی، وقلنا أنّ الانحلال الحکمی یختلف باختلاف المسلک المتبنی فی باب منجّزیة العلم الإجمالی بوجوب الموافقة القطعیة، فأنّه بناءً علی مسلک الاقتضاء یبیّن الانحلال بهذا الشکل: أنّ الأصل یجری فی الشبهات الحکمیة فی غیر مورد الإمارات بلا معارض، والتنجیز فرع المعارضة بین الأصول المؤمّنة فی الأطراف بناءً علی مسلک الاقتضاء، ولا یعارض بالأصل فی مورد الإمارات؛ لأنّ أصالة البراءة لا تجری فی موارد قیام الإمارة المعتبرة علی ثبوت التکلیف.

إذن: الأصل المؤمّن یجری فی الشبهات الخالیة من الإمارات المعتبرة بلا معارض، فلا یجب الاحتیاط، فی الشبهة التی یشتبه فیها فی أکل لحم الأرنب لا توجد إمارة معتبرة علی حرمة أکل لحم الأرنب، فتجری فیه البراءة. وأمّا بناءً علی مسلک العلّیّة، فلابدّ أنْ یختلف التقریب؛ لأنّه علی مسلک العلّیة لا یجوز إجراء الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین بقطع النظر عن المعارضة، ولا علاقة له بالمعارضة، فنفس العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة. إذن: هو یمنع من إجراء البراءة فی الطرفین بقطع النظر عن المعارضة، بمعنی أنّه حتّی لو لم نُجری الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین، العلم الإجمالی نفسه یمنع من إجرائه فی الطرف الآخر، فتقریب الانحلال بناءً علی مسلک العلّیة لابدّ أنْ یختلف عن تقریبه بناءً علی مسلک الاقتضاء، وحاصل ما یقال فی المقام: هناک مطلب مسلّم عندهم، وهو أنّه یُشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أنْ یکون صالحاً للتنجیز علی کل تقدیر، کل علمٍ إجمالی یکون صالحاً للتنجیز علی کل تقدیر، وکل علمٍ لا یکون صالحاً للتنجیز إلاّ علی أحد التقدیرین دون الآخر فی باب العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، مثلاً فی مثال الإناءین المعروف، العلم الإجمالی یکون منجّزاً؛ لأنّه صالح للتنجیز علی کلا التقدیرین، أی سواء کان المعلوم بالإجمال فی هذا الطرف، یتنجّز، ولا مشکلة فی تنجیزه، أو کان فی الطرف الآخر أیضاً یتنجّز، فهذا العلم الإجمالی یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیّة. وأمّا إذا کان العلم الإجمالی لیس صالحاً لتنجیز أحد الطرفین؛ لأنّ أحد الطرفین هو منجَّز، أی یوجد فیه منجِّز للتکلیف، فالعلم الإجمالی حینئذٍ لا ینجِّز التکلیف؛ لأنّ المتنجِّز لا یتنجَّز مرّة أخری، إذا کان أحد الطرفین قد تنجَّز التکلیف فیه بمنجِّزٍ ما، فهذا معناه أنّ العلم الإجمالی عندما یأتی لا یستطیع أنْ ینجِّز علی کلا التقدیرین، وإنّما ینجز علی أحد التقدیرین دون الآخر، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً، ولا یمنع من إجراء البراءة فی الطرف الآخر. وما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ المفروض قیام الإمارة فی بعض الشبهات بمقدار المعلوم بالإجمال علی ثبوت التکلیف فیها، فیکون التکلیف فی موارد قیام الإمارة قد تنجّز بالإمارة، بناءً علی هذا الکلام یجری الأصل المؤمّن فی غیر موارد قیام الإمارة؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی لا یصلح للتنجیز علی کلا التقدیرین، وإنّما یصلح للتنجیز علی أحد التقدیرین، علی تقدیرٍ أنْ یکون المعلوم بالإجمال ثابتاً فی موارد قیام الإمارات، فالعلم الإجمالی لا ینجّز التکلیف؛ لأنّ التکلیف قد تنجّز بالإمارة المعتبرة.

ص: 45

نعم، علی تقدیر أنْ یکون المعلوم بالإجمال ثابتاً فی غیر موارد قیام الإمارات یکون العلم الإجمالی منجّزاً للتکلیف. إذن: هو ینجّز التکلیف علی أحد التقدیرین، لا علی کل تقدیر، مثل هذا العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز، وینحل حکماً، بمعنی أنّه لا ینجّز الطرف الآخر، فلا یجب الاحتیاط فی الطرف الآخر الذی هو عبارة عن الشبهات الغیر خالیة عن الإمارة المعتبرة، هذه لا تتنجّز، فیجوز إجراء البراءة فیها بعنوان الانحلال الحکمی. هذا تقریب الانحلال بناءً علی مسلک العلّیّة.

إذن: الجواب هو أنّه یُدّعی الانحلال الحکمی علی کلا المسلکین، مسلک الاقتضاء، ومسلک العلّیّة، وأنّ هذا العلم الإجمالی یسقط عن قابلیة التنجیز، وإنْ کان باقیاً بحسب الصورة والظاهر، العلم الإجمالی نفسه باقٍ، لکن لا یکون له أثر فی التنجیز.

ولکن اعتُرض علی هذا الجواب: الظاهر أنّ هذا الاعتراض لا یختصّ بأحد المسلکین، والاعتراض هو أنّ الانحلال الحکمی إنّما یتم إذا کانت الإمارة المعتبرة علی التکلیف واصلة إلی المکلّف حین حصول العلم الإجمالی له، بأنْ کان هناک تقارن بین حصول العلم الإجمالی، وبین وصول الإمارة المثبتة للتکلیف فی بعض الشبهات، فإذا تقارنا، أو کانت الإمارة واصلة قبل حصول العلم الإجمالی؛ فحینئذٍ یتم هذا الجواب؛ لأنّه عندما یحصل العلم الإجمالی سیجد أنّ بعض أطرافه قد تنجّز بمنجّزٍ، وهو الإمارة المعتبرة علی ثبوت التکلیف، فتجری أصالة البراءة فی الطرف الآخر علی مسلک الاقتضاء بلا معارضٍ؛ لأنّ أصالة البراءة فی هذا المورد ----- قیام الإمارة المعتبرة ----- لا تجری، أو نقول تجری البراءة فی الطرف الآخر؛ لأنّ العلم الإجمالی سقط عن قابلیة التنجیز؛ لأنّه لا ینجّز معلومه علی کل تقدیر، وإنّما یُنجّز معلومه علی أحد التقدیرین؛ لأنّ العلم الإجمالی لا ینجّز معلومه علی تقدیر أنْ یکون موجوداً فی الشبهات التی قامت علیها الإمارة المعتبرة؛ لأنّ المتنجّز لا یتنجّز مرة أخری، فیتم هذا الکلام.

ص: 46

وأمّا إذا فرضنا أنّ وصول الإمارة القائمة علی ثبوت التکلیف کان متأخّراً عن العلم الإجمالی، بأنْ حصل العلم الإجمالی للمکلّف فی زمانٍ، ثمّ بعد فترة طویلة، أو قصیرة وصلته الإمارات القائمة علی التکلیف فی بعض الشبهات.

یقول المعترِض: أنّ قیام الإمارات بهذا الشکل لا یُسقِط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ بل یبقی منجّزاً لکلا الطرفین، ویمنع من إجراء البراءة فی هذا الطرف، باعتبار أنّ العلم الإجمالی حینما حصل لم یکن هناک شیء یمنع من تنجیزه لکلا الطرفین، لا علی مسلک الاقتضاء، ولا علی مسلک العلّیّة، عندما حصل العلم الإجمالی قبل وصول الإمارات المعتبرة علی التکلیف إلی المکلّف، لم یکن هناک شیء یمنع من تنجیزه لکلا الطرفین، أمّا علی مسلک الاقتضاء، فلأنّ أصالة البراءة فی هذا الطرف مُعارَضة بأصالة البراءة فی الطرف الآخر، یعنی فی الشبهات التی ستصل إلی المکلّف بعد ذلک الإمارات المعتبرة المثبتة للتکلیف فیها، لکن قبل وصول الإمارات هذا طرف وهذا طرف، هنا شبهات حکمیّة وهنا شبهات حکمیة، فتکون البراءة فی هذه الأطراف فی غیر موارد الإمارات التی ستقوم مُعارَض بأصالة البراءة فی الشبهات التی ستقوم الإمارة المعتبرة علی ثبوت التکلیف فیها، قبل قیام الإمارة لا مانع من إجراء البراءة فی هذه الشبهات، فتعارض البراءة فی الشبهات الأخری، فیتنجّز العلم الإجمالی علی مسلک الاقتضاء؛ لأنّ منجزیة العلم الإجمالی علی مسلک الاقتضاء ینجز معلومه؛ لأنّ هذا التقدیر لم یتنجز بعد. إذن: هو ینجز معلومه علی کل تقدیر، وهذا هو شرط المنجزیة، فیکون العلم الإجمالی منجزاً لکلا الطرفین، ومانعاً من إجراء البراءة فی هذا الطرف، فیجب الاحتیاط.

إذن: الانحلال الحکمی إنّما یتم فی غیر هذه الصورة، أمّا فی هذه الصورة، فلا یتم الانحلال الحکمی؛ لأنّ العلم الإجمالی عندما یحصل لا یمنع من تنجیزه لجمیع الأطراف أی مانع فی صورة تأخّر وصول الإمارات المثبتة للتکلیف عن زمان حصول العلم الإجمالی.

ص: 47

ویقال حینئذٍ: فی مقام تطبیق الجواب عن الانحلال فی محل الکلام، أنّ محل کلامنا هو من قبیل هذه الصورة، بمعنی أنّه فی محل کلامنا وصول الإمارات المثبتة للتکلیف متأخّر زماناً عن حصول العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی یحصل للمکلّف من حین بلوغه، والتفاته إلی وجود شرع وشریعة، یحصل له علم إجمالی بثبوت واجبات ومحرّمات فی هذه الشریعة، وهو مسئول عن تطبیقها، فمن حین البلوغ یحصل له العلم الإجمالی، لکن الإمارات المعتبرة علی ثبوت التکلیف فی شبهات حکمیّة تصله بعد ذلک تباعاً. إذن: وصول الإمارات المعتبرة إلی المکلّف متأخّر زماناً عن حصول العلم الإجمالی، فیأتی هذا الاعتراض علی الانحلال، هنا لا یوجد انحلال؛ بل یبقی العلم الإجمالی منجزاً لکلا الطرفین، ومجرّد أنّ بعض أطراف هذا العلم الإجمالی ورد فیه منجز بعد ذلک، لا یرفع منجزیّة العلم الإجمالی لکلا الطرفین. وهذا مطلب یذکروه، وسیأتی مفصّلاً، لو فرضنا أنّه حصل عنده علم إجمالی ثمّ خرج أحد الطرفین عن کونه مورد ابتلاءٍ، أو تلف أحد الطرفین، أو أریق هذا الماء فی أحد الإناءین الذی أعلم بأنّ أحدهما نجس، هذا لا یمنع من منجزیّة العلم الإجمالی للطرف الباقی؛ بل یبقی العلم الإجمالی منجز للطرف الباقی بالرغم من خروج أحد الطرفین عن محل الابتلاء، أو تلف، أو أریق، بالرغم من هذا یبقی العلم الإجمالی منجزاً للطرف الآخر. قیام الإمارة فی زمان متأخّر علی ثبوت التکلیف فی بعض الشبهات هو من هذا القبیل، هذا یُخرج هذا عن کونه مورداً للبراءة بعد حصول العلم الإجمالی، بعد منجزیّة العلم الإجمالی لکلا الطرفین، وهذا من قبیل ما إذا تلف، فیخرج عن کونه مورداً للبراءة، ولا معنی لإجراء البراءة فی التالف، أو خرج عن کونه مورداً للابتلاء، أیضاً لا معنی لإجراء البراءة فی الطرف الخارج عن الابتلاء، لکن هذا الخروج عن الموردیة للبراءة لمّا کان فی زمانٍ متأخّرٍ عن العلم الإجمالی، فأنّه لا یمنع من منجزیّة العلم الإجمالی للطرف الباقی، فیبقی العلم الإجمالی منجزاً للطرف الباقی بالرغم من خروج هذا عن کونه مورداً للبراءة. ما نحن فیه من هذا القبیل، فالشبهات التی تنجزت بالعلم الإجمالی سابقاً بقیام الإمارات المعتبرة علی ثبوت التکلیف فیها ورد فیها منجز، فخرجت عن کونها مورداً للبراءة، هذا الخروج لا یمنع من منجزیة العلم الإجمالی للأطراف الأخری، فتبقی الأطراف الأخری ینجز العلم الإجمالی فیها الاحتیاط، ولا یجوز إجراء البراءة فیها.

ص: 48

إذن: الانحلال فی محل الکلام لا یصح؛ لأنّ محل الکلام لم یُقارن وصول الإمارة حصول العلم الإجمالی، ولم یتقدّم علیه؛ بل هو متأخّر عنه، وقد عرفت أنّه فی صورة تأخّر قیام الإمارة یکون حاله حال ما إذا تنجز أحد الأطراف بمنجزٍ متأخّر زماناً عن حصول العلم الإجمالی فأنّ هذا لا یمنع من منجزیّة العلم الإجمالی.

هذا الجواب عن الانحلال الحکمی مبتنی علی فکرة أنّ الإمارات منجزة بوصولها، وحیث أنّ وصول الإمارة فی محل کلامنا ----- بحسب الفرض ----- متأخّر زماناً عن حصول العلم الإجمالی، فالإمارات لا تنجز بوجوداتها الواقعیة، وإنّما تنجز بوصولها إلی المکلّف، ومن الواضح أنّ وصول الإمارات إلی المکلّف متأخّر زماناً عن حصول العلم الإجمالی، وقلنا أنّ هذا المتأخّر لا یمنع من منجزیة العلم الإجمالی لجمیع الأطراف. نعم، خصوص هذا الطرف الذی قامت علیه الإمارة هذا تنجز بمنجزٍ وهو الإمارة، لکنّ الطرف الآخر یبقی العلم الإجمالی ینجز التکلیف فیه ویمنع من إجراء البراءة فیه.

المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) تعرّض إلی هذا الانحلال الحکمی، وأجاب عنه جواباً مبنائیاً، وحاصله أنّ هذا الاعتراض إنّما یرد إذا قلنا أنّ المجعول فی باب الإمارات هو المنجزیة والمعذّریة، وقد اعترف بورود الاعتراض بناءً علی ذلک، وأمّا بناءً علی مسلکه القائل بأنّ المجعول فی باب الإمارات هو الطریقیة والمحرزیّة، والشارع یجعل الإمارة محرزة للواقع، بناءً علی هذا المسلک لا یرد هذا الاعتراض، باعتبار أنّ قیام الإمارة ------ بناءً علی هذا المسلک ------ یوجب العلم بالواقع تعبّداً؛ حینئذٍ یکون من قامت عنده الإمارة کمن علم بالواقع وجداناً؛ حینئذٍ یقول: کما أنّ من یعلم بالواقع وجداناً ینحل عنده العلم الإجمالی بهذا العلم الوجدانی بالواقع التفصیلی فی بعض الأطراف، کذلک من یعلم بالواقع تعبّداً؛ لأنّ الإمارة مُنزّلة منزلة العلم الوجدانی، جُعلت فیها المحرزیّة والطریقیة، فإذا علم بالواقع وجداناً، فعلمه بالواقع وجداناً، تفصیلاً یوجب انحلال العلم الإجمالی، ولیست مسألة منجزیّة؛ بل هو علِم وجداناً بأنّ المائة تکلیف التی یعلمها اجمالاً بالعلم الإجمالی، حتّی إذا کان متقدّماً، أنّ هناک مائة تکلیف موجودة فی الشبهات هذه، نفس العدد المعلوم بالإجمال هی موجودة هنا، وقد علمها تفصیلاً، وهذا لیس علماً إجمالیاً صغیراً؛ بل هو علمها تفصیلاً بمقدار المعلوم بالعلم الإجمالی، أنّ هذه الشبهة فیها تکلیف، وهذه الشبهة أیضاً فیها تکلیف، بلا إشکال ینحلّ العلم الإجمالی، سواء هذا العلم الإجمالی التفصیلی کان مقارناً للعلم الإجمالی، أو متأخّراً عنه. یقول المیرزا(قدّس سرّه): أنّ قیام الإمارة هو بمثابة العلم الوجدانی؛ لأنّ قیام الإمارة هو علم تعبّدی بالواقع تفصیلاً، وکما أنّ العلم الوجدانی التفصیلی ینحل به العلم الإجمالی، کذلک العلم التعبّدی التفصیلی ینحل به العلم الإجمالی حتّی لو کان متأخّراً عن حصول العلم الإجمالی، فیقول: بناءً علی هذا المبنی لا یرد هذا الاعتراض؛ بل یثبت الانحلال الحکمی. نعم، بناءً علی أنّ المجعول فی باب الإمارات هو المنجزیة والمعذریة من دون تنزیل الإمارة منزلة العلم الوجدانی، ومن دون جعل الطریقیة والمحرزیة، وإنّما یجعل الإمارة منجزة إذا قامت علی التکلیف، ومعذّرة إذا قامت علی نفی التکلیف، هنا الاعتراض یکون وارداً، والانحلال الحکمی یکون فی غایة الإشکال، وعللّ ذلک بما نصّه تقریباً(بأنّ حکم الشارع بمنجزیة الإمارة فی أحد طرفی العلم الإجمالی ----- التی هی هذا المقدار من الشبهات الذی قامت به الإمارة ----- من دون الحکم بکونها محرزة للواقع، ومن دون تنزیلها منزلة العلم لا یترتب علیه الانحلال؛ بل العلم الإجمالی باقٍ علی حاله بعد قیام الإمارة أیضاً). هذا الکلام احتمال قوی أنْ یکون ناظراً إلی ما ذکرناه من أنّ التنجیز بالإمارة المتأخّر عن العلم الإجمالی لا یوجب الانحلال؛ لأنّ الإمارة إنّما تکون منجزة بوصولها لا بوجودها الواقعی، وحیث أنّ وصول الإمارة متأخّر عن العلم الإجمالی، وفرضنا أنّ المحرزیة والطریقیة غیر مجعولة؛ لأننّا بنینا علی المسلک الآخر، ومجرّد أنّ الإمارة منجزة هذا لا یوجب انحلال العلم الإجمالی، قام فی أحد الطرفین منجز، لکن متأخّر عن حصول العلم الإجمالی، هنا لا یوجب انحلال العلم الإجمالی؛ بل یبقی العلم الإجمالی علی منجزیته للطرفین، فالطرف الآخر الذی لم تقم فیه الإمارة، العلم الإجمالی فیه منجز، ولا یجوز إجراء البراءة فیه.

ص: 49


1- (1) اجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 193.

السید الخوئی(قدّس سرّه) (1) أجاب عن الاعتراض علی الانحلال بإنکار المبنی الذی یبتنی علیه الاعتراض، بإنکار أن یکون منجزیة الإمارة لمؤدّاها موقوف علی الوصول؛ بل أنّها تنجز فی مرتبة سابقة علی الوصول، هی قبل وصولها تنجز، والاعتراض مبنی علی أنّ الإمارة تکون منجزة بوصولها، بحیث أنّ وصولها متأخّراً لا یمنع من تنجیز العلم الإجمالی، فلا انحلال. هو یقول أنّ الإمارة تنجز قبل وصوبها، ویکفی فی منجزیة الإمارة لمؤدّاها کون الإمارة فی معرض الوصول، ولو لم تصل إلی المکلّف. والإمارة التی تقوم لدی المکلّف بعد ذلک لا إشکال فی أنّها تکشف عن أنّ الإمارة فی معرض الوصول من حین حصول العلم الإجمالی، هذه المعرضیة للوصول موجودة من حین حصول العلم الإجمالی، بمعنی أنّ المکلّف من حین بلوغه، لو فحص عن الإمارة لعثر علیها، بدلیل أنّها وصلت إلیه بعد فترة. إذن: هی إمارة موجودة فی معرض الوصول، ولو بحث عنها لعثر علیها. إذن: هی إمارة فی معرض الوصول، فإذا اکتفینا فی التنجیز بکون الإمارة فی معرض الوصول، کونها فی معرض الوصول مقارن للعلم الإجمالی، فإذا کان مقارناً للعلم الإجمالی، ومنجز، فهذا یمنع من منجزیة العلم الإجمالی.

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی

ذکرنا فی الدرس السابق أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) أجاب عن الاعتراض علی الانحلال الحکمی بجوابٍ مبنائی، لکنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) أجاب عن الاعتراض بإنکار الأصل الموضوعی الذی یبتنی علیه الاعتراض وهو مسألة أنّ تنجیز الإمارات یکون بوصولها، هذا هو المبنی الذی بُنی علیه الاعتراض؛ لأنّه یعنی التفکیک بین زمان حصول العلم الإجمالی وبین ثبوت المنجِّز، فیکون المتنجِّز متأخّراً عن زمان حصول العلم الإجمالی، وهذا یؤدی إلی عدم انحلال العلم الإجمالی. هو یقول: أنّ منجّزیّة الإمارات لا تکون بوصولها، فالوصول لیس شرطاً فی تنجّز الإمارة؛ بل کونها فی معرض الوصول هو الذی یکون معتبراً فی التنجیز، وکل إمارةٍ تکون فی معرض الوصول، وإنْ لم تصل إلی المکلّف هی تنجِّز مؤدّاها ومضمونها؛ لأنّه یجب علیه الفحص، والشبهة حینئذٍ تکون شبهة قبل الفحص، ولا إشکال عندهم فی أنّ الشبهة قبل الفحص تکون منَجّزة ولا تجری فیها الأصول المؤمّنة، وکون الإمارة فی معرض الوصول هذا یحصل من حین حصول العلم الإجمالی، ومن حین البلوغ تکون الإمارة فی معرض الوصول، بدلیل أنّها وصلت إلیه بعد ذلک، وهذا معناه أنّه لو فحص عنها لعثر علیها، فإذن هی فی معرض الوصول من حین حصول العلم الإجمالی.

ص: 50


1- (2) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 286.

وعلیه: لا یرد هذا الاعتراض؛ بل ینحل العلم الإجمالی حکماً علی کلا المسلکین السابقین، مسلک الاقتضاء، ومسلک العلّیّة، باعتبار التعارض علی مسلک الاقتضاء؛ لأنّه عندما حصل العلم الإجمالی کان هناک منجّز لبعض أطرافه، فهذا الطرف الذی ورد فیه المنجّز وهی الإمارة التی هی فی معرض الوصول، لا تجری فیه البراءة، فتجری البراءة فی الطرف الآخر بلا معارض، وبهذا یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز حکماً، وهو معنی الانحلال الحکمی. أو علی مسلک العلّیّة، أنّ هذا العلم الإجمالی لا ینجّز معلومه علی کلا التقدیرین؛ بل ینجّزه علی أحد التقدیرین دون التقدیر الآخر، هذا أیضاً یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، فیتم الاعتراض بناءً علی هذا الکلام الذی ذکره السید الخوئی (قدّس سرّه).

هذا هو الاعتراض علی الانحلال الحکمی، وهذا هو جوابه، وهو جواب صحیح، والمسلک الصحیح من المسلکین المتقدّمین الذی بنا علیه تقریباً مشهور المتأخّرین هو مسلک الاقتضاء، وأنّ منجّزیة العلم الإجمالی من آثار تعارض الأصول المؤمّنة فی الأطراف، فإذا لم یجری اصلٌ مؤمّن فی أحد الطرفین، جری الأصل الآخر فی الطرف الآخر بلا معارض، وبذلک یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، وهو معنی الانحلال الحکمی.

إذن: الجواب عن التقریب الثانی لوجوب الاحتیاط عقلاً الذی یُستدل علیه بالعلم الإجمالی بوجود أحکام إلزامیّة فی الشریعة، الجواب هو أنّ هذا العلم الإجمالی منحلٌ حکماً؛ لأنّ الانحلال الحقیقی فی الجواب الأوّل فیه مناقشات کما أشرنا إلیه فی بحث تقدّم، لکن الانحلال الحکمی تام، فلا أثر لهذا العلم الإجمالی فی التنجیز، فهو لا یمنع من إجراء الأصول المؤمّنة فی الشبهات الحکمیة التی لم ترد فیها إمارة معتبرة، وهذا هو المطلوب فی المقام، حیث أننّا نرید أنْ نثبت أنّه عندما یشکّ المکلف بنحو الشبهة الحکمیة فی وجوب شیءٍ، أو حرمة شیءٍ، ولم تقم عنده إمارة معتبرة تدل علی الوجوب، فبإمکانه أنْ یجری البراءة؛ لأنّ البراءة فی هذه الشبهة وأمثالها لیست معارَضة بالبراءة فی الشبهات التی وردت فیها الإمارة المعتبرة.

ص: 51

التقریب الثالث: لوجوب الاحتیاط العقلی هو دعوی أنّ ارتکاب الشبهة فیه احتمال الوقوع فی الضرر، والعقل یستقل بلزوم دفع الضرر المحتمَل. یتألف هذا التقریب من صغری وکبری:

أمّا الصغری فهی أنّ مخالفة التکلیف المحتمل فیه احتمال الضرر، وهی صغری واضحة، باعتبار أنّ مخالفة التکالیف الشرعیة توجب احتمال العقاب الأخروی، واحتمال الوقوع فی المفسدة، المعبّر عنه بالضرر الدنیوی. إذن: العلم بالتکلیف یستلزم العلم بالضرر الدنیوی والأخروی، ویستلزم الوقوع فی العقاب، والمفسدة عند المخالفة، والظن بالتکلیف یستلزم الظن بهما، واحتمال التکلیف یستلزم احتمالهما، وکل درجات التصدیق إذا ثبتت فی أحد المتلازمین تثبت بنفس الدرجة فیما یلازمه؛ للملازمة الواقعیة الثابتة بین نفس التکلیف، وبین ترتّب العقاب علی مخالفته، والوقوع فی المفسدة عند مخالفته، هذه ملازمة واقعیة ثابتة بینهما، فالعلم بأحدهما یستلزم العلم بالآخر، فإذا ظنّ المکلّف بالتکلیف ظنّاً غیر معتبر، إذا کان ظنّاً معتبراً فلا مشکلة، ولیس هو محل کلامنا، وإنّما نحن نرید أنْ نجری البراءة، أو الاحتیاط فی الظنّ بالتکلیف الذی یقم دلیل علی اعتباره، الذی حکمه حکم احتمال التکلیف، وحکم الشکّ فی التکلیف، فإذا ظنّ بالتکلیف ظنّاً غیر معتبر، هذا الظنّ بالتکلیف یلازم الظن بالضرر، والظن بالوقوع فی المفسدة، وإذا احتمل التکلیف، فهذا الاحتمال یلازم احتمال الضرر الأخروی، واحتمال الضرر الدنیوی.

وأمّا الکبری: فهی ممّا یحکم بها العقل ویستقل بها العقل علی ما قالوا، وذکر فی الکفایة (1) بأنّ هذه الکبری مسلّمة ویستقلّ بها العقل بقطع النظر عن مسألة التحسین والتقبیح العقلیین؛ ولذا یؤمن باستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، أو المظنون حتّی من ینکر التحسین والتقبیح العقلیین کالأشاعرة، وسرّه هو أنّه حکم عقلی فطری جِبِلّی غیر مبتنی علی مسألة التحسین والتقبیح العقلیین، فیستقلّ العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل أو المظنون، فتتم الکبری والصغری، وإذا تمّت الکبری والصغری؛ فحینئذٍ العقل یلزم المکلّف عندما یحتمل التکلیف، أو یشکّ فیه، أو یظنّ به ظنّاً غیر معتبر یلزم العقل المکلّف بأنْ یحتاط، فإذا کانت شبهة تحریمیة فأنّه یلزمه بالترک، وإذا کانت شبهة وجوبیة یلزمه بالفعل؛ لأنّه بذلک یتخلّص من الضرر المحتمل، والضرر المحتمل یجب دفعه بحکم العقل، ودفعه لا یکون إلاّ عن طریق الاحتیاط. فیکون الاحتیاط واجباً عقلاً.

ص: 52


1- (1) کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 308.

الجواب المعروف عن هذا التقریب، هو: تقدّم فی بحث الانسداد أنّ أحد الأدلّة علی حجّیّة مطلق الظن هو هذا الدلیل، والجواب عنه هو، ما هو المقصود بالضرر فی هذا الدلیل ؟ هل المراد به الضرر الأخروی، أو المراد به الضرر الدنیوی ؟ إذا کان المراد بالضرر هو الضرر الأخروی، فالکبری مسلّمة؛ إذ لا إشکال فی وجوب دفع الضرر الأخروی المحتمل، أو المظنون، والعقل یحکم بوجوب دفع العقاب الإلهی حتّی لو کان محتملاً، أو مظنوناً، فیجب دفعه، لکنّ الکلام فی الصغری، وهی أنّ الظن بالتکلیف هل یلازم الظنّ بالعقاب الأخروی، والضرر الأخروی ؟ هذه الصغری محل کلامٍ ومناقشةٍ، باعتبار أنّ هذه الصغری مبنیّة علی دعوی الملازمة الواقعیة بین التکلیف الواقعی، وبین استحقاق العقاب علی مخالفته حتّی یکون الظنّ بالتکلیف مستلزماً للظن باستحقاق العقاب علی المخالفة، وللظنّ بالضرر الأخروی، واحتمال التکلیف یکون ملازماً لاحتمال الضرر الأخروی، ودعوی الملازمة هذه غیر تامّة.

وأجیب عنها:

أوّلاً: بما ذکروه من أنّ افتراض الملازمة یقتضی البناء علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات البدویة، کما هو الحال فی الشبهات الحکمیّة حتّی بعد الفحص، باعتبار أنّ التکلیف فیها محتمل، والفحص یورث العلم بعدم ثبوت التکلیف، فیبقی التکلیف محتملاً، فإذا بقی التکلیف محتملاً، والمفروض أنّ الملازمة ثابتة بین التکلیف الواقعی، وبین استحقاق العقاب علی المخالفة، فاحتمال التکلیف یستلزم احتمال الضرر الأخروی، ولا إشکال فی أنّ العقل یستقل بلزوم دفع الضرر الأخروی. إذن: یجب الاحتیاط حتّی فی الشبهات البدویة بعد الفحص.

وبعبارةٍ أخری: أنّ الاحتیاط لا یختص بالشبهات البدویة قبل الفحص؛ بل حتّی بعد الفحص أیضاً یجب الاحتیاط فیها، وهذا ممّا لا یمکن الالتزام به، وإنّما یمکن الالتزام بوجوب الاحتیاط فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، أو الشبهات البدویة قبل الفحص، لکن بعد الفحص وعدم العثور علی ما یثبت التکلیف فی تلک الشبهة، مقتضی هذا الدلیل أنْ نلتزم بوجوب الاحتیاط حتّی فی هذا المورد، وهذا ممّا لا یمکن الالتزام به.

ص: 53

ثانیاً: أنّ أصل الملازمة بین التکلیف الواقعی وبین استحقاق العقاب علی المخالفة غیر ثابت، وإنّما الملازمة التی ندرکها هی ملازمة بین التکلیف المنجّز وبین استحقاق العقاب علی المخالفة، ولیس کل تکلیف مطلقاً، وإنْ لم یکن منجَزاً یلازم استحقاق العقاب علی المخالفة، فاستحقاق العقاب علی المخالفة من لوازم تنجّز التکلیف، فالتکلیف إذا تنجّز بأیّ منجّزٍ کان، یلازم استحقاق العقاب علی المخالفة، واستحقاق العقاب علی المخالفة هو من لوازم مرتبةٍ خاصّةٍ من التکلیف، وهو أنْ یصل التکلیف إلی مرتبة المنجّزیة، تنجّز التکلیف یلازمه استحقاق العقاب علی المخالفة. إذن: الملازمة لیست بین ذات التکلیف الواقعی، ولو لم یکن منجّزاً، وبین استحقاق العقاب علی المخالفة، وإنّما الملازمة التی نؤمن بها هی ملازمة بین التکلیف المنجّز، وبین استحقاق العقاب علی المخالفة، وحیث أننّا نتکلّم عن شبهةٍ بدویةٍ لم یتنجّز فیها التکلیفٍ بأیّ منجّزٍ، فلا نستطیع أنْ نقول أنّ احتمال التکلیف یلازم احتمال الضرر الأخروی حتّی نتمّم الصغری، أو أنّ الظنّ بالتکلیف یلازم الظنّ بالضرر الأخروی؛ لأنّ هذا مبنی علی افتراض الملازمة بین التکلیف الواقعی، وبین استحقاق العقاب علی المخالفة، وقد عرفت أنّه لا ملازمة بینهما.

هذا الجواب الثانی الذی ذُکر عن تمامیة الصغری، بناءً علی أنْ یکون المقصود بالضرر هو الضرر الأخروی، والکبری تامّة، لکن الصغری غیر تامّة؛ لهذین الوجهین.

وأمّا إذا کان المقصود بالضرر فی الدلیل هو الضرر الدنیوی، أی أنّ احتمال التکلیف یلازم احتمال الضرر الدنیوی عند المخالفة، والظنّ بالتکلیف یلازم الظنّ بالوقوع فی الضرر الدنیوی عند المخالفة، ویُعبّر عنه بالوقوع فی المفسدة؛ حینئذٍ قالوا: أنّ کلتا المقدّمتین، الصغری والکبری ممنوعتان علی تقدیر، والکبری ممنوعة فقط علی تقدیرٍ آخر.

توضیح ذلک: قالوا بأنّ الشبهة تارةً تکون شبهةً وجوبیة، وأخری تکون شبهةً تحریمیّة، والشبهة التحریمیّة تارةً ینشأ التحریم فیها من مفاسد نوعیّة کلّیّة راجعة إلی اختلال النظام من قبیل حرمة قتل النفس المحترمة، فهذا التحریم لا ینشأ من ضررٍ یلحق شخص المرتکب عندما یُقدِم علی هذا العمل، وإنّما ینشأ من مفسدةٍ نوعیّةٍ ترجع إلی حفظ النظام، وعدم جواز الإخلال به، فتوضع جملة من التشریعات لأجل حفظ النظام وعدم الإخلال به، وإلاّ القاتل لا یلحقه ضرر شخصی ومفسدة شخصیة تعود إلیه، ولعله من هذا الباب الغصب أیضاً. إذن: هذا نوع من التحریمات لم ینشأ من ضرر شخصی یلحق المرتکب عند ارتکابه ، وإنّما ینشأ من مفاسد نوعیّة کلّیة تؤثر فی حفظ النظام وتوجب اختلاله. وأخری تنشأ من ضررٍ شخصی، ومفسدةٍ شخصیّة موجودة فی نفس من یرتکبه، هو إذا ارتکب هذا الفعل الحرام سوف یتضررّ، ومن هذا القبیل شرب الخمر، هناک مفسدة شخصیة فیه، هو یتضررّ ویصیبه ----- مثلاً ----- الداء الفلانی، وأکل السم أیضاً مفسدة شخصیة وضرر شخصی یلحق ویعود إلی شخص المرتکب.

ص: 54

قالوا: لأنّ الشبهات الوجوبیة عندما نشکّ فی وجوب شیء، لا معنی لأنْ نقول أنّ فی مخالفتها یترتب الضرر الدنیوی، ففی مخالفة التکالیف الوجوبیة فوات مصلحة؛ لأنّ الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد فی متعلّقاتها، والتحریم فی بعض الأحیان کما عرفت ینشأ من مفسدة فی المتعلّق، والوجوب ینشأ من مصلحة فی المتعلّق، فلا نستطیع أنْ نقول أنّ مخالفة الوجوب توجب الوقوع فی الضرر الدنیوی، وإنّما هی توجب فوات المصلحة وفوات الملاک علی المکلف، وهناک فرق بین أنْ تفوت المصلحة علی المکلّف عند المخالفة، وبین أنْ یقع فی الضرر عند المخالفة، فی التکالیف الوجوبیة لا یُتصَوّر معنیً للوقوع فی الضرر عند مخالفتها، وإنّما المتصَوّر هو أنّ المصالح تفوت، والملاک یفوت عندما یخالف التکلیف الوجوبی، وفوات المصلحة غیر الوقوع فی الضرر. إذن: هذا الدلیل لا یمکن تطبیقه فی محل الکلام، فهو غیر تام صغریً وکبریً فی الشبهات الوجوبیة.

أمّا عدم تمامیته صغریً؛ فلأنّ احتمال الوجوب لا یلازم احتمال الوقوع فی الضرر الدنیوی، وإنّما یلازم فوات المصلحة والملاک، وفوات المصلحة والملاک لیس ضرراً.

وأمّا الکبری: فواضح؛ لأنّ الأضرار الدنیویة لا یستقل العقل بوجوب دفعها، خصوصاً إذا کانت من قبیل فوات المصلحة، وسوف نقول أنّها إذا کانت من قبیل الأضرار الشخصیّة التی تلحق المکلّف لا دلیل علی وجوب دفعها عقلاً، فما ظنّک إذا کان المقصود بالضرر هو فوات المصلحة ؟ لا یستقلّ العقل هنا بأنّه یجب علی المکلّف تحصیل المصلحة، ویحرم علیه تفویت تلک المصلحة. ونفس الکلام یقال إذا کانت الشبهة تحریمیة وکان التحریم ناشئ من مفسدة نوعیّة ترجع إلی لزوم حفظ النظام، وعدم الإخلال به، من قبیل تحریم القتل، أیضاً یقال نفس الشیء، کلتا المقدّمتین ممنوعتان، أمّا الصغری؛ فلأنّ الظنّ بحرمة فعلٍ، إذا کانت حرمته من هذا القبیل، أو تنشأ من مفسدةٍ نوعیةٍ، لا من مفسدة تعود إلی شخص المرتکب، أنّ الظنّ بالتحریم لا یلازم الظنّ بالضرر الدنیوی؛ بل بالعکس فی بعض الأحیان قد یکون نفعاً دنیویاً بالنسبة له، هذا الذی یغصب مال الغیر ینتفع دنیویاً، ولا یلحقه ضرر دنیوی عندما یرتکب ذلک الشیء، وإنّما هناک مفاسد نوعیة لاحظها الشارع عند التحریم، فلا نستطیع أنْ نقول أنّ الظنّ بتحریم من هذا القبیل یلازم الظنّ بالضرر الدنیوی، أو أنّ احتمال من هذا القبیل یلازم احتمال الضرر الدنیوی، فهنا الصغری غیر تامّة، والکبری أیضاً غیر تامّة، فلا یستقل العقل بلزوم دفع الضرر بهذا المعنی، یعنی لا یستقل العقل بلزوم تحصیل تلک المصالح النوعیة، وأنّه یجب تحصیلها، فلابدّ من الاحتیاط.

ص: 55

نعم، فیما إذا کان التحریم فی الشبهة التحریمیة ناشئ من ضررٍ شخصی من قبیل شرب الخمر، إذا کان ناشئاً من ضررٍ شخصی، هنا الصغری تکون تامّة؛ لأنّ الظنّ بتحریم من هذا القبیل یلازم الظنّ بالوقوع فی الضرر الدنیوی، والمفسدة الدنیویة، احتمال التحریم من هذا القبیل أیضاً یلازم احتمال الوقوع فی الضرر الدنیوی، لکنّ الکبری غیر مسلّمة؛ إذ لا دلیل علی وجوب دفع الضرر الدنیوی المظنون، فضلاً عن المحتمل؛ بل قالوا أنّه لا دلیل علی تحریم ارتکاب ما فیه ضرر دنیوی حتّی لو کان مقطوعاً به، فضلاً عمّا إذا کان مظنوناً أو محتملاً، العقل لا یحکم بذلک. نعم، العقل قد یمنع عن الإقدام علی ما فیه ضرر کبیر جدّاً بحیث یصدق علیه إلقاء النفس فی التهلکة، وإهلاک النفس وأمثاله، امّا الأضرار الدنیویة الأخری کحمّی یومٍ مثلاً، أو یصیبه الزکام، وأضرار من هذا القبیل إذا کانت أضراراً، العقل لا یستقلّ بلزوم دفعها، وحرمة الإقدام علی ما فیه ضرر من هذا القبیل. نعم، قلنا إذا وصل إلی مرحلة إهلاک النفس، أو إلقاء النفس فی التهلکة، هناک أدلّة تدل علی حرمته، أمّا إذا لم یصل إلی هذه المرحلة، فلا دلیل علی حرمة ذلک. قالوا: ثبت فی موارد خاصّة الإقدام علی ما فیه ضرر، من قبیل الانتحار، دلّ دلیل علی حرمة الإقدام علی هذا الضرر، فی موارد خاصّة أیضاً ثبت حرمة ارتکاب ما یُخاف ضرره فی موارد خاصّة کالصوم، والوضوء، والغُسل، إذا کان فیها ضرر، قالوا ورد حرمة ارتکاب ما یُخاف ضرره فی هذه الموارد، لکنّه یٌقتصَر علیها ولا نستفید منها قاعدة عامّة بحیث نعممّ هذا الحکم، ونقول: کل ما یُخاف فیه الضرر لا یجوز ارتکابه.

ص: 56

هذا غایة ما یقال فی مناقشة التقریب الثالث لإثبات وجوب الاحتیاط عقلاً.

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی

کان الکلام فی التقریب الثالث علی وجوب الاحتیاط عقلاً، وذکرنا الجواب عن هذا التقریب المذکور فی کلماتهم، هناک ملاحظات علی هذا الجواب:

الملاحظة الأولی: أنّ إنکار الصغری، بناءً علی إرادة الضرر الأخروی، حیث ذُکر فی الجواب بأنّه إذا کان المراد بالضرر هو الضرر الأخروی والعقاب، فالکبری مسلّمة؛ إذ یجب دفع الضرر الأخروی المظنون والمحتمل بلا إشکال، لکنّ الصغری ممنوعة، بمعنی أنّ الظنّ بالتکلیف لا یستلزم الظنّ بالضرر الأخروی، کما أنّ احتمال التکلیف لا یستلزم احتمال الضرر الأخروی.

أقول: إنّ إنکار الصغری بناءً علی إرادة الضرر الأخروی مبنی علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ إذ یمکن بناءً علیه أنْ یکون هذا الکلام تامّاً؛ لأنّ الظنّ بالتکلیف، فضلاً عن احتماله، إذا لم یکن معتبراً ومنجزاً لا یوجب الظنّ بالعقاب، ولا احتمال العقاب؛ بل العقاب مقطوع بعدمه استناداً إلی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فقاعدة قبح العقاب بلا بیان تقول مع عدم البیان للتکلیف یقبح العقاب، فلو ظنّ المکلّف بالتکلیف، فهذا الظنّ بالتکلیف لا یکون ملازماً للظنّ بالعقاب؛ بل العقاب یکون مؤمّناً عنه بقاعدة قبح العقاب بلا بیان، فهو لیس مظنوناً ولا محتملاً، بمعنی أنّ المکلّف الذی یتمسّک بقاعدة قبح العقاب بلا بیان یقطع بعدمه حتّی مع الظنّ بالتکلیف، أو احتماله، فیتم هذا الجواب، وهو إنکار الصغری بناءً علی إرادة الضرر الأخروی بناءً علی مسلک قبح العقاب بلا بیان، هذا شیء صحیح.

وأمّا إذا بنینا علی المسلک الآخر الذی ینکر قبح العقاب بلا بیان، وینکر حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، ویؤمن بمسلک حق الطاعة الذی هو عبارة عن منجّزیة الاحتمال، بمعنی أنّ احتمال التکلیف یکون منجّزاً، فضلاً عن الظنّ بالتکلیف، وأنّه فی هذه المرحلة لا یحکم العقل بقبح العقاب؛ بل یحکم العقل بلزوم الطاعة، ولزوم الإتیان بالتکلیف المحتمل، فضلاً عن التکلیف المظنون، وبناءً علی ذلک لا وجه لإنکار الصغری؛ لأنّ الظنّ بالتکلیف یلازم الظنّ بالعقاب، واحتمال التکلیف یلازم احتمال العقاب، ولا مؤمّن من ناحیة العقاب حتّی یُقطع بعدمه، ویقال أنّ الظنّ بالتکلیف لا یلازم الظنّ بالعقاب؛ بل علی العکس، فأصحاب هذا المسلک یرون أنّ احتمال التکلیف منجِّز، فمع احتمال التکلیف، والظنّ به یتنجّز التکلیف علی المکلّف بحکم العقل، فلا معنی لأنْ یقال لا ظنّ بالعقاب؛ بل هناک ظنّ بالعقاب، والعاقل یری أنّه لا مانع من العقاب؛ لأنّه لا یراه قبیحاً ----- بحسب الفرض ----- بناءً علی هذا المسلک، اصحاب مسلک قبح العقاب بلا بیان یرونه قبیحاً فیُقطع بعدمه، فلا یکون الظنّ بالتکلیف ملازماً للظنّ بالعقاب؛ بل هو مقطوع بعدمه. أمّا القائل بمسلک حقّ الطاعة، فلا یری أنّ هناک مؤمّناً من ناحیة العقاب، فیکون الظنّ بالتکلیف ملازماً للظنّ بالعقاب، واحتمال التکلیف ملازماً لاحتمال العقاب، وبناءً علی هذا المسلک تکون الصغری تامّة.

ص: 57

إذن: هذا الجواب هو جواب مبنائی مبنی علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

بعبارةٍ أخری: أنّ صاحب مسلک قبح العقاب بلا بیان یؤمن أیضاً أنّ استحقاق العقاب من لوازم تنجّز التکلیف کما یقول الطرف المقابل أنّ استحقاق العقاب لیس من لوازم التکالیف الواقعیة بوجوداتها الواقعیة؛ بل هو من لوازم تنجّز التکلیف، لکنّه یری أنّ التکلیف بالاحتمال منجَّز، ولا یتوقّف تنجّز التکلیف علی العلم، أو الإمارة المعتبرة، کما یقول صاحب مسلک قبح العقاب بلا بیان؛ بل یری أنّ التکلیف یتنجّز بالاحتمال، وهذا المسلک مرجعه فی الحقیقة إلی منجّزیّة الاحتمال، أنّ احتمال التکلیف منجِّز، فاستحقاق العقاب یکون ثابتاً؛ لأنّ استحقاق العقاب من لوازم تنجّز التکلیف، وهو یری أنّ احتمال التکلیف یکون منجّزاً، ولا یتوقف تنجّز التکلیف علی العلم والعلمی، فإذا کان احتمال التکلیف منجّزاً؛ فحینئذٍ لا یمکن إنکار الصغری، والقول بأنّ احتمال التکلیف لا یلازم احتمال العقاب، أو الظنّ بالتکلیف لا یلازم الظنّ بالعقاب؛ بل هو قطعاً یلازم الظنّ بالعقاب.

الملاحظة الثانیة: أنّ التکالیف الوجوبیة التی ذُکرت فی الجواب فی الدرس السابق، لأنّ المصلحة التی تفوت بمخالفتها هی مصلحة شخصیّة فی المتعلّق، ولا یصدق الضرر علی فوات المصلحة، فالظنّ بالوجوب لا یلازم الضرر علی تقدیر مخالفة التکلیف، وإنّما تفوته المصلحة، وفوات النفع غیر الوقوع فی الضرر.

یظهر من الجواب أنّه دائماً یفترض أنّ المصلحة التی تنشأ منها الأحکام التکلیفیة الوجوبیة هی مصلحة شخصیّة ثابتة فی المتعلّق، وأنّها تفوت بمخالفة الوجوب. والملاحظة هی أنّه لا یجب فی المصلحة الداعیّة إلی الوجوب أنْ تکون مصلحة قائمة فی المتعلّق؛ بل قد تکون المصلحة موجودة فی نفس الجعل؛ بل یظهر من الأدلّة أنّ المصلحة التی ینشأ منها الوجوب، ویُجعَل الوجوب علی أساسها قد تکون مصلحة قائمة فی نفس الجعل، بقطع النظر عن المتعلّق، قد لا یکون فی المتعلّق مصلحة؛ بل قد تکون فیه مفسدة، لکن حیث أنّ جعل الوجوب تترتّب علیه المصلحة، جُعل الوجوب. الذی أرید أنْ أقوله هو: أنّ الوجوب لا یجب دائماً أنْ ینشأ من مصلحةٍ فی الملاک والمتعلّق؛ بل قد ینشأ من مصلحةٍ وملاکٍ فی نفس الجعل بقطع النظر عن المتعلّق، وهذا موجود حتّی فی التحریمات، فقد ینشأ التحریم من مصلحةٍ فی نفس جعله، لا من مفسدةٍ فی متعلّقه، قد لا یکون فی المتعلّق مفسدة؛ بل قد تکون فیه مصلحة، ومع ذلک یحرَّم؛ لأنّ هناک مصلحةً تترتّب علی جعل التحریم لاحظها الشارع عندما جعل وشرّع التحریم، ولعلّه یرشد إلی ذلک قوله تعالی:(فبظلمٍ من الذین هادوا حرّمنا علیهم طیباتٍ أُحلت لهم) (1) هی طیبات حلال لهم؛ ولأنّهم ظلموا حرّمناها علیهم، وکأنّ التحریم نوع من أنواع العقوبة، هذا لیس ناشئاً من مفسدةٍ فی المتعلّق، وإنّما ناشئ من مصلحةٍ فی جعل التحریم لاحظها الشارع فجعل التحریم، ولیس له علاقة بوجود مفسدةٍ فی نفس المتعلّق. الذی أرید أنْ أقوله هو: أنّ هذه الأحکام لا یجب أنْ تنشأ من ملاکات فی متعلّقاتها، قد تنشأ من ذلک، وقد تنشأ من ملاکات قائمة فی نفس الجعل، أو مصالح، أو مفاسد لاحظها الشارع لا ربط لها بالملاکات والمصالح والمفاسد فی نفس المتعلّق.

ص: 58


1- (1) نساء/سوره4، آیه160

الملاحظة الثالثة: ذُکر فی الجواب أنّه ورد حرمة ارتکاب ما یُخاف ضرره فی بعض الموارد، ومُثّل لذلک بالصوم، والوضوء، والغسل، أنّه فی هذه الموارد ورد ما یدل علی حرمة ارتکاب ما یُخاف ضرره، الصوم إذا خیف ضرره یکون حراماً، والغُسل إذا خیف ضرره یکون حراماً.

هذا لیس واضحاً؛ لأنّ الأدلّة الواردة فی هذه الموارد لیس فیها دلالة علی حرمة الفعل تکلیفاً بحیث یکون الفعل حراماً، لیست ناظرة إلی هذا إطلاقاً، وإنّما هی تدل علی عدم صحّة الفعل لو جاء به المکلّف، هی ناظرة إلی بطلان الغُسل لو خاف معه الضرر علی نفسه، لا یصح منه الغُسل، وفی الصوم لا یصحّ منه الصوم، أی أنّ صومه باطل یجب علیه قضاؤه، أمّا أنّه لو فعله یرتکب حراماً، ویقع فی الإثم، ویستحق العقاب، هذا لیس واضحاً من الأدلّة. الذی یُستفاد من الأدلّة ------ مثلاً ------ فی باب الصوم أنّ الخلو من المرض ----- لأنّهم اعتبروا المرض من جهة أنّه مُضر ----- هو شرط فی وجوب الصوم وفی صحّته، فإذا کان مریضاً، أو کان هناک ضرر لا یجب علیه الصوم، لا أنّه لا یجوز له الصوم کما هو المُدّعی، لا یصحّ منه الصوم لو جاء به، فالخلو من المرض شرط فی وجوب الصوم وفی صحّته، فمع المرض، ومع الضرر لا یجب الصوم، ولا یصحّ منه لو جاء به، وأین هذا من عدم جوازه، کما هو المُدّعی ؟! أنّه ورد ما یدلّ علی حرمة ارتکاب ما یُحتمَل فیه الضرر، لا یستفاد ذلک من الأدلّة، أو لا أقل أنّه محل تشکیک.

علی کل حال، التقریب الثالث حتّی لو تمّ علی بعض المسالک، کمسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فهو لا یثبت به إلاّ مفاد مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، یعنی الاحتیاط العقلی، ومن الواضح أنّ الاحتیاط العقلی محکوم بأدلّة البراءة المتقدّمة. حتّی القائل بمسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، عندما تأتی أدلّة البراءة الشرعیة، فأنّه یرفع یده عن الاحتیاط العقلی، غایة ما یثبت بهذا الدلیل هو مفاد الاحتیاط العقلی، بمعنی أنّ العقل یحکم بلزوم دفع الضرر المحتمل، أو المظنون، لکن مالم یرِد ترخیص من الشارع یؤمّن من ناحیة العقاب، والأدلّة الشرعیة الدالّة علی البراءة تکون حاکمة علی الاحتیاط العقلی، وعلی هذا التقریب الذی ذُکر. فإذن: الاحتیاط یثبت، لکنّه لا ینفع شیئاً؛ لأننّا فرغنا عن ثبوت أدلّة تدلّ علی البراءة الشرعیة، وتکون تلک الأدلّة حاکمة علی هذا الاحتیاط العقلی.

ص: 59

هذا کلّه فی المقام الأوّل، حیث قلنا أنّ الکلام فی أدلّة الاحتیاط تارةً یکون فی أدلّة الاحتیاط العقلی، وله تقریبات ثلاثة علی ما تقدّم، وقد فرغنا منه، والمقام الثانی فی ما یدلّ علی وجوب الاحتیاط شرعاً.

المقام الثانی: فی ما یدلّ علی وجوب الاحتیاط شرعاً، یعنی فی الأدلّة الشرعیة علی وجوب الاحتیاط فی الشبهة. وقد أُستدلّ علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات بالکتاب والسُنّة:

من الکتاب: أُستدلّ بعدّة آیات، قیل أنّ مفادها ومدلولها هو وجوب الاحتیاط فی الشبهات.

الآیة الأولی: قوله تعالی:(ولا تقفُ ما لیس لک به علم). (1)

تقریب الاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط هو أنْ یقال أنّ صریح الآیة هو حرمة القول بغیر علمٍ، وعلیه: ففی الفعل المشتبه، وفی الشبهة الحکمیة لا یجوز للأصولیین أنْ یحکموا بالإباحة، أو یحکموا بالترخیص والبراءة؛ لأنّ الحکم بالترخیص والإباحة حکم بغیر علم، والآیة الشریفة تنهی عن القول بغیر علم. فالمستدل یقول: أنّ الأصولیین یحکمون فی الشبهة الحکمیّة، وبالخصوص الشبهة الحکمیة التحریمیّة الذی هو مورد النزاع، یحکمون بالإباحة والترخیص، بینما هی شبهة تحریمیة، یعنی یُحتمَل فیها الحرمة، ویُحتمَل فیها الإباحة، فالحکم بالإباحة هو حکم بدون علمٍ، والآیة الشریفة تنهی عن القول بغیر علمٍ. الأخباریون یقولون: هذا لا یرِد علینا؛ لأننّا لا نحکم بالاحتیاط، ولا نفتی به، وإنّما نلتزم بترک المشکوک فی الشبهات الحکمیّة التحریمیّة، وهذا الالتزام بالترک لا یعنی الفتوی بالإباحة والترخیص، ولا الفتوی بالاحتیاط، وإنّما نلتزم بترک الفعل الذی یُشتبه أنّه حرام، ویُشتبه أنّه حلال من دون أنْ نقول أنّ الشارع ألزم بترکه، أو أنّ الشارع أمرنا بالاحتیاط فیه حتّی یکون هذا قولاً بغیر علم، هناک فرقٌ بین الأصولی وبین الأخباری، الأصولی یجوّز الارتکاب، بینما نحن نتوقّف، ونترک المشتبه، وهناک فرق بین ارتکاب الفعل المشتبه، وبین ترکه، ارتکاب الفعل المشتبه لا یکون إلاّ مع الترخیص، کیف یجوّز للمکلّف أنْ یرتکب الفعل المشتبه ؟ لابدّ أنْ یفتی له بالترخیص وعدم المنع، ومن هنا کان الأصولی مضطراً إلی أنْ یُسند شیئاً إلی الشارع کالترخیص وعدم المنع، وهذا قول بغیر علم، فتنطبق علیه الآیة التی تنهی عن القول بغیر علم، بینما یقول الأخباری أنّا لا أفتی بشیء، ولا أجوّز الارتکاب، وإنّما أنا امتنع من فعل المشتبه، وأقول للمکلّف أترک الفعل المشتبه، هذا الترک لا یحتاج إلی الفتوی بالاحتیاط، وإلی الفتوی بالتحریم، فلا یوجد هنا أسناد من غیر علمٍ، فلا یکون مشمولاً للآیة الشریفة. هذا تقریب الاستدلال بالآیة الشریفة.

ص: 60


1- (2) سورة الإسراء، آیة 36.

من الواضح أنّ الأصولیین یعترفون بأنّ القول بالترخیص والإباحة من دون أنْ یکون هناک مستند للقول بالترخیص والإباحة هو قول بغیر علم، وهو تشریع محرّم بلا إشکال، الجمیع یعترف بهذا، الأخباریون والأصولیون، لکنّ الأصولی یدّعی أنّ لدیه علم ومستند یدلّ علی الترخیص وعدم المنع، وهو أدلّة البراءة الشرعیة المتقدّمة، فهی دلیل علی الترخیص الشرعی فی الإقدام علی المُشتبَه، فعندما یفتی مجتهد بالترخیص، واستند فی فتواه بالترخیص وعدم المنع إلی دلیلٍ شرعی، فلا یکون قولاً من غیر علم، فلا یکون مشمولاً للآیة الشریفة، حتّی من یُفتی بالترخیص العقلی هو استند أیضاً إلی دلیلٍ، وهو قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فعند من یؤمن بها ویُفتی بالترخیص العقلی هو یستند إلی دلیل، وهو قاعدة قبح العقاب بلا بیان، ومن یُفتی بالترخیص الشرعی هو أیضاً یستند إلی دلیلٍ وهو أدلّة البراءة الشرعیة المتقدّمة.

وبعبارةٍ أخری: أنّ مضمون الآیة الشریفة هو النهی عن التشریع المحرم، والقول من غیر علمٍ هو تشریع محرّم بالأدلّة الأربعة، فمفاد الآیة هو حرمة التشریع، أنْ تسند شیئاً إلی الشارع من دون أنْ تعلم بأنّه قاله، هذا هو مفاد الآیة. الأصولی عندما یثبت الترخیص وعدم المنع، فهذا لیس تشریعاً؛ لأنّه یستند فی إثبات الترخیص وعدم المنع إلی أدلّة شرعیّة دلّت علی الترخیص وعدم المنع، فلا یکون قوله قولاً بغیر علم، ولا یکون تشریعاً محرّماً، فلا تشمله الآیة، بالضبط کالأخباری، فالأخباری أیضاً عندما یلتزم بالاحتیاط، فهو یستند إلی أدلّة، والأصولی أیضاً عندما یُفتی بالترخیص وعدم المنع هو أیضاً یستند إلی أدلّة.

ویمکن أنْ یُصاغ الجواب بهذا الشکل: الأصولی لا یُثبت الإباحة الواقعیة إطلاقاً، ولو أثبت الإباحة الواقعیة لورد علیه هذا الإشکال؛ لأنّه یکون قولاً من غیر علم؛ لأنّ المفروض أنّه یشکّ فی الإباحة کما یشکّ فی التحریم، لا الإباحة الواقعیة وصلت إلیه، ولا التحریم الواقعی وصل إلیه، فإذا کان المنظور هو الفتوی بالترخیص الواقعی، فالأصولی لا یُفتی بالترخیص الواقعی حتّی یکون قولاً من غیر علم، الأصولی لا یُسند الترخیص الواقعی إلی الشارع لیقول أنّ هذا المشتبَه حکمه الواقعی هو الإباحة، هو لا یقول ذلک، وإنْ کان المقصود هو الترخیص الظاهری، فالأصولی یُفتی بالترخیص، لکن استناداً إلی أدلّة البراءة، أو استناداً إلی حکم العقل القائل بقبح العقاب بلا بیان. إذن: علی أحد التقدیرین هو لا یُفتی بالإباحة الواقعیة، وعلی التقدیر الآخر هو یُفتی بالإباحة الظاهریة والترخیص الظاهری، لکنّ هذا لیس تشریعاً محرّماً؛ بل هو حکم مستند فیه إلی الدلیل، وهو عبارة عن الأدلّة السابقة.

ص: 61

إذن: لا یصحّ الاستدلال بهذه الآیة الشریفة علی وجوب الاحتیاط، وعلی بطلان ما ذهب إلیه الأصولیون من البراءة وعدم المنع.

الآیة الثانیة: قوله تعالی:(ولا تُلقوا بأیدیکم إلی التهلکة) (1) ، وتقریب الاستدلال بهذه الآیة الشریفة هو أنّ هذه الآیة الشریفة تنهی عن إلقاء النفس، والاقتحام فی التهلُکة، ویقال بأنّ ارتکاب ما یُحتمَل أنْ یکون مخالفة للمولی(سبحانه وتعالی) هو اقتحام فی التهلکة، فیکون محرّماً بمقتضی إطلاق الآیة؛ لأنّ الآیة مطلقة من هذه الجهة، فکأنّ اقتحام المشتبَه وارتکابه، هو کأنّ الإنسان یُلقی بنفسه فی ما یحتمل أنّ فیه مخالفة لله(سبحانه وتعالی)، وهذا إلقاء للنفس فی التهلکة. هذا غایة ما یُمکن أنْ یُبیّن به تقریب الاستدلال بالآیة الشریفة.

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی

الکلام فی الآیة الثانیة التی استُدلّ بها علی وجوب الاحتیاط شرعاً، وهی قوله تعالی:(ولا تُلقوا بأیدیکم إلی التهلکة) (2) ، وتقریب الاستدلال بهذه الآیة الشریفة هو أنّ المستفاد من الآیة الشریفة هو أنّها تنهی عن إلقاء النفس فی التهلُکة، وأنّ تعریض الإنسان نفسه للهلاک منهی عنه بمقتضی الآیة الشریفة، ومن الواضح أنّ اقتحام الشبهات ومحتمل الحرمة فیه تعریض للنفس للهلاک والعقاب، والآیة الشریفة تنهی عن تعریض النفس لذلک، وتنهی عن الاقتحام فی الشبهة، وهذا هو مقصود الأخباریین، أنّ الشبهات لابدّ من التوقّف وعدم الاقتحام فیها، خلافاً للأصولیین الذین یجوّزون اقتحام الشبهة.

ویلاحظ علی هذا الاستدلال:

الملاحظة الأولی: ذکروا بأنّه إذا کان المقصود بالتهلکة فی الآیة الشریفة هی التهلکة الدنیویة، فمن الواضح أنّه لیس فی ارتکاب الشبهة ومحتمل التحریم احتمال التهلکة، فضلاً عن القطع بها، لا یوجد احتمال التهلکة فی ارتکاب محتمل التحریم حتّی تکون الآیة الشریفة ناهیة عن الاقتحام فی الشبهة التحریمیة، وارتکاب محتمل الحرمة، لیس فیها احتمال التهلکة إطلاقاً، وإنّما الذی یمکن أنْ یقال أنّ المحتمل هو الضرر الدنیوی، ومن الواضح أنّه لیس کل ضررٍ دنیوی یقال له تهلکة، فالتهلکة یُراد بها الضرر الواصل إلی حدّ الموت، ومن الواضح أنّ اقتحام محتمل الحرمة لیس فیه تهلکة، وإنّما فیه احتمال الضرر الدنیوی، وهذا نسلّم به، لکن لا نسلّم أنّ فیه احتمال التهلکة، بمعنی احتمال الموت، فإذا کان المقصود بالتهلکة فی الآیة الشریفة هو التهلکة الدنیویة، فجوابه هو أنّ فی ارتکاب محتمل التحریم لا یوجد احتمال التهلکة الدنیویة، فضلاً عن القطع بها، فلا تکون الآیة الشریفة شاملة لذلک؛ لعدم وجود التهلکة، وإنّما الموجود هو الضرر الدنیوی، بمعنی أنْ یترتّب علی ارتکاب هذا الفعل، علی تقدیر أنْ یکون حراماً، الضرر الدنیوی، لکن لیس کل ضرر دنیوی یُعدّ من التهلکة حتّی تکون الآیة الشریفة شاملة لمحل الکلام.

ص: 62


1- (3) بقره/سوره2، آیه195
2- (1) بقره/سوره2، آیه195

وأمّا إذا أرید بالتهلکة التهلکة الأخرویة، یعنی العقاب الأخروی؛ حینئذٍ قالوا: صحیح أنّ هذا محتمل فی ارتکاب محتمل الحرمة، أی أنّه یحتمل أنّ هذا حرام، وبالتالی یقع فی العقاب الأخروی، والتهلکة الأخرویة، لکنّ هذا الاحتمال منفیٌ بأدلّة البراءة المتقدّمة، فأنّ أدلّة البراءة المتقدّمة تکون رافعة لموضوع هذه الآیة؛ لأنّ موضوع هذه الآیة الشریفة هو أنّ المکلّف یُعرّض نفسه للعذاب الأخروی إذا ارتکب الشبهة، وأدلّة البراءة تقول: هذا لیس فیه تعریض النفس للعذاب الأخروی، فهی تنفی العذاب الأخروی؛ بل تقول أنّ العذاب قبیح ولا یصدر من الشارع، فتکون رافعة لموضوع هذه الآیة، فکیف تشمل محل الکلام ؟ إذ فی الشبهات یوجد مؤمّن یؤمّن من العذاب الأخروی، ومع وجود المؤمّن لا معنی لأنْ یقال لا یجوز الارتکاب باعتبار هذه الآیة الشریفة.

لکن یمکن أنْ یقال شیء آخر: وهو، أنّ الآیة الشریفة ظاهرة فی افتراض ثبوت الهلکة فی مرتبة سابقة علی الآیة، الآیة تفترض وجود هلکة، وخطر وتأمر بحرمة إلقاء النفس فی التهلکة وفی هذا الخطر. إذن: مفاد الآیة هو أنّ التهلکة الثابتة بقطع النظر عن الآیة هی تنهی عن إلقاء النفس فیها. بعبارةٍ أخری: أنّ مفاد الآیة هو أنّ هذا الشیء الذی یکون فی اقتحامه تهلکة وخطر، لا یجوز إلقاء النفس فیه، فهی لا تشمل إلاّ الموارد التی ثبت وجود التهلکة والخطر فیها بقطع النظر عن الآیة، وفی مرتبةٍ أسبق من الآیة، وهذا لا یکون إلاّ فی موارد التنجیز، إذا کانت الشبهة منجّزة بمنجّزٍ، مهما کان هذا المنجّز، سواء کان علماً، أو علمیاً، أو شبهة قبل الفحص، أو شبهة مقرونة بالعلم الإجمالی، المهم أنْ تکون الشبهة منجّزة فی حدّ نفسها بقطع النظر عن الآیة؛ حینئذٍ یقال: هناک تهلکة؛ لأنّ هذه الشبهة تنجّزت بحیث أنّ المکلّف إذا خالفها یستحق العقاب؛ حینئذٍ تأتی الآیة الشریفة، وبلسان الإرشاد، ولیس بلسان المولویة، وتقول لا تلقی نفسک فی التهلکة. وأمّا إذا فرضنا أنّ الشبهة لم تتنجّز بمنجّزٍ سابقٍ، کما هو فی محل الکلام؛ لأننّا نتکلّم عن الشبهة غیر المقرونة بالعلم الإجمالی، وبعد الفحص ولیس قبله، ولا یوجد فیها علم یثبت التکلیف، ولا إمارة معتبرة، أی أنّ کلامنا فی الشبهات البدویة التی لم یقم علی ثبوت التکلیف فیها علم، ولا علمی، هنا هل یجوز الاقتحام، أو لا یجوز ؟ الآیة الشریفة لا تدلّ علی عدم جواز الاقتحام؛ لأنّها تقول ما ثبت فیه الخطر لا یجوز اقتحامه وإلقاء النفس فیه، وفی هذه الشبهة التی نتکلّم عنها لم یثبت وجود الخطر، وأنّ اقتحام هذه الشبهة تهلکة بقطع النظر عن الآیة؛ لعدم وجود المنجّز فی مرتبةٍ أسبق من وجود الآیة، فالآیة حینئذٍ لا تکون دالّة علی وجوب الاجتناب وعدم جواز الاقتحام فی محل الکلام، وإنّما هی ناظرة إلی شبهات تنجّزت بمنجّزٍ سابقٍ علیها، وهی بلسان الإرشاد تقول أنّ هذا الشیء فیه خطر، وتنهی عن اقتحامه.

ص: 63

هذا الکلام یکون واضحاً بناءً علی مسلک قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ الشبهة البدویة غیر المقرونة بالعلم الإجمالی، والتی لم یقم فیها دلیل، یکون العقاب مؤمّناً بحکم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بیان. وأمّا بناءً علی مسلک حقّ الطاعة، فقد یقال: بناءً علی مسلک حقّ الطاعة لا فرق بین الشبهة قبل الفحص، والشبهة بعد الفحص، علی کلٍ منهما یکون احتمال التکلیف منجِّزاً. إذن: الشبهة تنجّزت بمنجِّزٍ سابقٍ، فلتکن الآیة الشریفة شاملة لمحل الکلام بناءً علی هذا المسلک، باعتبار أنّ الشبهة تنجّزت بمنجِّزٍ سابقٍ، والمفروض أننّا قلنا أنّ الآیة الشریفة ناظرة إلی الشبهات التی تنجّزت بمنجزٍ فی مرتبةٍ سابقةٍ علیها.

نقول: حتّی لو صحّ هذا الکلام، لکن هذا لیس معناه أننّا نستفید التنجیز ووجوب الاحتیاط بعد جواز الارتکاب من الآیة، وإنّما استفدنا ذلک بدلیلٍ آخر قبل الآیة، وبقطع النظر عنها، وهو حکم العقل بوجوب الاحتیاط، هذا نجّز الشبهة. إذن: المنجّز للشبهة لیس هو الآیة.

وبعبارةٍ أخری: أنّ الاستدلال بالآیة لإثبات التنجیز، وإثبات وجوب الاحتیاط، لا مجال له علی کلا المسلکین؛ للنکتة المتقدّمة، وهی أنّ مفاد الآیة هو افتراض وجود الهلکة بقطع النظر عن الآیة الشریفة، وقلنا أنّ لسان الآیة هو أنّ ما فیه هلکة لا یجوز اقتحامه، وتنهی عن إلقاء النفس فی ما فیه الهلکة. إذن: هی تفترض وجود هلکة ووجود خطر، هذه النکتة تقتضی أنّه لابدّ من حمل الآیة الشریفة علی أنّها فی مقام الإرشاد إلی حکم العقل بعدم جواز ارتکاب ما تنجّز بمنجّزٍ سابقٍ، مع افتراض وجود منجّز، العقل یستقل بعدم جواز الارتکاب ووجوب الاحتیاط، سواء کان هذا المنجّز إمارة، أو علم قبل الفحص مقروناً بالعلم الإجمالی، أو بعد الفحص بناءً علی مسلک حقّ الطاعة، بالنتیجة احتمال التکلیف یبقی منجّزاً، والعقل ینهی عن الاقتحام مع التنجیز. إذن: هذه الشبهة بعد الفحص فی محل کلامنا بناءً علی مسلک حق الطاعة تنجّزت بقع النظر عن الآیة، لا یمکن أنْ نقول أنّ الآیة نجّزت هذه الشبهة، لا نستفید من الآیة وجوب الاحتیاط فی هذه الشبهة، وإنّما الآیة تقول الشیء المنجّز فی مرتبة سابقة هی بلسان الإرشاد ترشد إلی عدم جواز الاقتحام وحرمة ارتکابه حتّی بناءً علی مسلک حق الطاعة.

ص: 64

الملاحظة الثانیة علی الاستدلال بالآیة الشریفة: یوجد احتمال لیس ببعید أنّ التهلکة لا یُراد بها ما ذُکر من التهلکة الدنیویة، والتهلکة الأخرویة، یعنی العقاب والضرر الدنیوی البالغ إلی درجة الموت والقتل، لیس المقصود بها هو هذا، وإنّما المقصود بها بکل وضوح هو الفقر والإفلاس، وذلک بقرینة صدر الآیة الشریفة؛ لأنّ صدر الآیة الشریفة یقول:(وانفقوا فی سبیل الله) فهو أمر بالإنفاق فی سبیل الله تعالی موجّه إلی المسلمین، ثمّ تأتی الآیة بعدها مباشرةً(ولا تُلقوا بأیدیکم إلی التهلکة) بعضهم استفاد من هذا بقرینة الترابط الموجود بین صدر الآیة وذیلها، أنّ التهلکة لیس المقصود بها شیء یرتبط بالعذاب الأخروی، أو الدنیوی، وإنّما المقصود بها هو الشیء المرتبط بالإنفاق، کأنّ الآیة ترید أنْ تقول لهم بأنّه یجب علیکم الإنفاق، أو تطلب منهم الانفاق، لکن بحدوده وقواعده، ولیس الإسراف فی الانفاق بحیث أنّ الإنسان ینفق تمام أمواله ویبقی فقیراً ومفلساً، ویکون عالة علی الغیر، الآیة لا ترید منهم ذلک، وإنّما المطلوب هو الانفاق باعتدالٍ. فمن الممکن أنْ یکون المقصود بالتهلکة هو هذا، أی حالة الإفلاس التی هی حالة قد تسبب الکثیر من المشاکل للإنسان نفسه، وبهذا تکون الآیة أجنبیة عن محل الکلام بالمرّة.

الآیة الثالثة: هی قوله تعالی:(فاتّقوا الله ما استطعتم). (1)

الآیة الرابعة: هی قوله تعالی:(واتّقوا الله حقّ تقاته). (2)

تقریب الاستدلال بالآیة الثالثة: الآیة تدل علی وجوب التقوی بالمقدار المستطاع، ومن الواضح أنّ الاجتناب عن الشبهات یعتبر مصداقاً واضحاً للتقوی، وهو مستطاع للإنسان، والآیة تأمر بتقوی الله(سبحانه وتعالی) ما استطعتم، والاجتناب عن الشبهات مستطاع، فیکون واجباً، فیُفهم من هذا وجوب الاجتناب وعدم الاقتحام فی الشبهات.

ص: 65


1- (2) تغابن/سوره64، آیه16
2- (3) آل عمران/سوره3، آیه102

وبنفس البیان یقرّب الاستدلال بالآیة الرابعة :(واتّقوا الله حقّ تقاته) التی یُفهم منها الأمر بالتقوی بأقصی درجاتها؛ وحینئذٍ یقال أنّ الاقتحام فی الشبهة هو خلاف التقوی، والامتناع عن ارتکاب الشبهات هو داخل فی التقوی المأمور بها لهذه الآیة الشریفة، فیکون مطلوباً ومأموراً به، والاجتناب بالنتیجة بحسب ظاهر الآیة یکون لازماً.

ویُجاب عن ذلک:

الجواب الأوّل: من قال بأنّ اقتحام الشبهة خلاف التقوی ؟ بحیث أنّ الذی یقتحم بالشبهة یکون قد خالف الآیة الشریفة، الأصولیون یقولون بعد قیام الأدلّة الشرعیة المعتبرة الدالة علی البراءة، وعلی التأمین والترخیص فی اقتحام الشبهة؛ حینئذٍ لا یکون اقتحام الشبهة مخالفاً للتقوی، حاله حال أیّ شیءٍ أباحه الشارع للمکلّف، مرّة یبیحه بعنوانه الأوّلی، ومرّة یبیحه بعنوان أنّه مشکوک حکمه، أی بالعنوان الثانوی. الأدلّة السابقة دلّت علی الإباحة والترخیص وعدم المنع وجواز الارتکاب، وعدم المنع بالعنوان الثانوی، لکن بالنتیجة هناک إباحة وترخیص شرعی، کما أنّ ارتکاب المباح الواقعی لیس خلاف التقوی، کذلک ارتکاب ما أباحه الشارع، ولو ظاهریاً، أیضاً لیس خلاف التقوی بحیث یکون المکلّف قد خالف الأمر بالتقوی فی الآیتین الشریفتین.

الجواب الثانی: الذی هو أهم من السابق هو أنّ التقوی تعنی التحرّز والتحفّظ، ومن هنا لابدّ من أنْ نفترض فی مرتبة سابقة وجود شیءٍ یُتحرّز ویُتحفَّظ منه، عندما یؤمر بالتقوی، فلابدّ أنْ یکون هناک شیء یُتقی منه، والآیة حینئذٍ تأمر بالتقوی. إذن: لابدّ من فرض شیء یُتّقی منه ویُتحرّز منه، بقطع النظر عن الآیة.

وبعبارة أخری: أنّ مفاد الآیة هو لزوم الحذر عند وجود الخطر والعقاب، وهذا معناه کما قلنا فی الآیة السابقة أنّه لابدّ من فرض وجود خطرٍ وعقابٍ فی مرتبةٍ سابقةٍ علی الآیة بقطع النظر عنها، وهذا لا ینطبق علی محل الکلام؛ لعدم وجود خطرٍ ولا عقاب فی الشبهات التی نتکلّم عنها وهی الشبهات بعد الفحص غیر مقرونة بالعلم الإجمالی، لم یقم فیها علم، فلا یوجد خطر بقطع النظر عن الآیة، فهی تختص بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، والشبهات المنجّزة بمنجّزٍ ما، فهی تقول أحذر من هذا الخطر، وهنا فی محل الکلام لا یوجد خطر مفروغ عنه بقطع النظر عن الآیة، والمکلّف مأمون من ناحیة العقاب المحتمل، إمّا لحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ------ إذا التزمنا به ------- وإمّا لأدلة البراءة المتقدّمة عند من لا یؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا بیان.

ص: 66

إذن: فی محل کلامنا، وهی الشبهات بعد الفحص لا یمکن فرض وجود خطر وعقاب وما یتقی منه بقطع النظر عن الآیة، وفی مرتبةٍ سابقة علیها، فلا تکون الآیة شاملة لمحل الکلام، وإنّما تختص بالشبهات التی تنجّزت بقطع النظر عن الآیة الشریفة.

هذا مضافاً إلی ما تقدّم فی الآیة السابقة من أنّ الآیة حیث تفترض وجود خطر فی مرتبةٍ سابقةٍ علی الآیة؛ حینئذٍ لا یُعقل أنْ نستدل بالآیة علی وجوب الاحتیاط کما قلنا فی الآیة السابقة؛ لأنّ الآیة تفترض المنجّز فی مرتبةٍ سابقةٍ علیها، فکأنّ وجود منجّزٍ موضوع لهذه الآیة أُخذ فی موضوعها، ومن الواضح أنّه لا یمکن أنْ تکون الآیة مثبتة لموضوعها، وکل دلیلٍ لا یمکن أنْ یکون مثبتاً لموضوعه، وإنّما الموضوع یؤخذ مفروض الوجود، والدلیل غرضه إثبات المحمول لهذا الموضوع المفترض الوجود، لکن لا یمکن أنْ نستفید من الدلیل أنّه هو ینقّح موضوعه ویثبته، هذا غیر معقول، ------ مثلاً ----- إذا کان الدلیل یقول(الخمر حرام)، لا معنی لأنْ یکون الدلیل هو الذی یثبت أنّ هذا خمر، وإنّما هو یقول(علی تقدیر أنْ یکون هذا خمراً تثبت له الحرمة) کل دلیل لا یمکن أنْ یکون منقّحاً لموضوعه؛ لأنّ موضوعه یؤخذ مفروض الوجود. فی المقام الآیة أخذت الخطأ وما یُتّقی مفروض الوجود، وفی مرتبة أسبق عن الآیة، فلا یعقل أنْ تکون الآیة هی التی تثبت الخطأ، الآیة أخذت التنجیز مفروض الوجود، فلا یعقل أنْ تکون الآیة هی المثبتة للتنجیز؛ لأنّ التنجیز أُخذ فی موضوعها، أُخذ مفروض الوجود بقطع النظر عنها.

إذن: هذه الآیة لا یمکن الاستدلال بها فی محل الکلام، علی کل التقادیر، علی مسلک قبح العقاب بلا بیان، وعلی مسلک حقّ الطاعة، لا یمکن الاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط الذی یعنی التنجیز؛ لأنّ التنجیز أُخذ مفروض فی مرتبةٍ سابقةٍ علیها، فلا یُعقَل أنْ تکون هی مثبتة للتنجیز، فلا یصح الاستدلال بها فی محل الکلام.

ص: 67

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی

الآیة الأخیرة التی استُدل بها علی وجوب الاحتیاط: هی قوله تعالی:(فأنْ تنازعتم فی شیءٍ فردّوه إلی الله، والرسول). (1) ، بتقریب أنّ الأمر بالرد إلی الله(سبحانه وتعالی)، وإلی الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم) کنایة عن الأمر بالتوقّف، وعدم الإقدام والاقتحام، نظیر(قف عند الشبهة)، فتدلّ الآیة حینئذٍ علی وجوب التوقّف، وعدم جواز الاقتحام، وأنّ الآیة أمرت بالرد إلی الله(سبحانه وتعالی)، وإلی الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، الذی هو بمعنی التوقّف.

یُلاحظ علی الاستدلال:

أولاً: أنّ موضوع الآیة الشریفة هو المنازعة والمخاصمة، ولم یُفرَض فی موضوع الآیة الشریفة الشکّ وعدم العلم بالحکم الشرعی الذی هو محل کلامنا، حیث أننّا نتکلّم عن وجوب الاحتیاط عند الشک فی الحکم الشرعی، هذه الآیة لم تأمر بالتوقف ------ علی تقدیر تسلیم ما ذُکر فی الاستدلال ------ عند الشکّ فی الحکم الشرعی، وإنّما أمرت بالرد عند المنازعة والمخاصمة، فلا یثبت بها حینئذٍ وجوب التوقف، لو دلّت علی وجوب التوقّف فی محل الکلام، محل الکلام غیر الموضوع الذی أُخذ فی الآیة الشریفة، فالموضوع المأخوذ فی الآیة هو المنازعة والخصومة، بینما فی محل الکلام لا توجد منازعة وخصومة، وإنّما یوجد شکّ فی التکلیف الشرعی، فأین هذا من هذا ؟! وجوب التوقّف عند المنازعة والمخاصمة لا یدلّ علی وجوب التوقّف عند الشکّ فی الحکم الشرعی وعدم العلم به.

ثانیاً: یحتمل أنْ یکون المراد بالأمر بالردّ إلی الله(سبحانه وتعالی)، وإلی الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم) لیس هو التوقّف کما قیل فی الاستدلال، وإنّما یکون المراد به هو تحکیم رأی الشارع المقدّس فی موضوع الآیة، (فردّوه إلی الله) یعنی خذوا الحکم من الله(سبحانه وتعالی)، ومن الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، فتکون فی مقام الإرشاد إلی أنّ الأحکام الشرعیة ------ علی تقدیر أنْ تکون الآیة ناظرة إلی محل الکلام ------ یجب أخذها من مصادرها الحقیقیة التی هی عبارة عن الله(سبحانه وتعالی)، والرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، لا بمعنی التوقّف حتّی یُستدَل بها علی وجوب التوقّف عند الشکّ فی الحکم الشرعی.

ص: 68


1- (1) نساء/سوره4، آیه59

هذا هو تمام الکلام فی الآیات الشریفة التی استُدلّ بها علی وجوب الاحتیاط، وتبیّن أنّ لا شیء یتمّ منها فی محل الکلام.

وأمّا السُنّة، فقد أستدلّ علماؤنا الأخباریون(رضوان الله علیهم)بمجموعة کبیرة جدّاً من الروایات والأخبار، قسم من هذه المجموعة واضحة الضعف من حیث الدلالة، یعنی دلالتها لیست تامّة بشکلٍ واضح؛ ولذلک لعلّه لم یتعرّض علماؤنا(رضوان الله علیهم) لهذا القسم، وإنّما رکّزوا کلامهم ومناقشتهم لطوائف من الأخبار یأتی التعرّض لها إنْ شاء الله تعالی، حیث رکّزوا کلامهم علی أخبار التثلیث، وأخبار التوقّف عند الشبهة، والأخبار الآمرة بالاحتیاط عند الشکّ فی التکلیف، لکن الأخبار الأخری المتفرّقة التی قلنا بأنّ دلالتها لیست ناهضة، أهملت من قِبل العلماء ولم تُذکر، ولعلّ الأخباریون ذکروها واستدّلوا بها علی مدّعاهم من وجوب الاحتیاط.

القسم الأوّل من الروایات: نحن نذکر نماذج من هذا القسم من الأخبار المُستدَل بها علی وجوب الاحتیاط للإشارة إلی أنّه أین تکون المناقشة فیها:

الروایة الأولی: ما روی عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) من قوله لکمیل بن زیاد(أخوک دینک، فاحتط لدینک بما شئت). (1)

الملاحظة علی الاستدلال بهذه الروایة: صحیح أنّ الروایة أمرت بالاحتیاط، لکن أمرت بالاحتیاط وقیّدته بما شئت، فالروایة معلّقة علی مشیئة المکلّف، بمعنی أنّ مقدار الاحتیاط المأمور به موکول إلی مشیئة المکلّف، وهذا یشکّل قرینة علی أنّ الأمر فی الروایة لیس للإلزام، لا نرید أنْ نقول لاستحالة ذلک، أو غیر معقولیة أنْ یُعلّق الأمر الوجوبی علی مشیئة المکلّف، وإنْ کان هذا أیضاً یمکن تصوّره، وإنّما المناسبة العرفیة تقتضی أنْ لا یکون الأمر للوجوب، الأمر الإلزامی، أو الوجوبی لا یُترَک الأمر فی أصل فعله، أو مقدار فعله عندما یکون واجباً، لا یُترک إلی مشیئة المکلّف، فی أصل الفعل عندما یکون واجباً لا معنی لترک أصل الفعل إلی مشیئة المکلّف؛ للمنافاة الواضحة بینهما، لا معنی لأنْ یکون الفعل واجباً لکنّه متروک إلی مشیئة المکلّف، إنْ شاء فعل، وإنْ شاء لم یفعل، فیکون إیکال الأمر فی أصل الفعل إلی مشیئة المکلّف قرینة علی عدم الوجوب، ونفس الکلام یقال فی إیکال المقدار الواجب إلی المکلّف، کما فی هذه الروایة لم یوکل أصل الاحتیاط إلی المکلّف، هنا أیضاً نفس الکلام یمکن أنْ یقال فیها، عندما یکون هناک مقدار واجب ولازم من الاحتیاط، هذا لا یناسب إیکال تعیین المقدار إلی مشیئة المکلّف من حیث الزیادة والنقیصة. وبعبارةٍ أکثر وضوحاً: أنّ وجوب مقدارٍ معیّنٍ من الاحتیاط علی تقدیر أنْ یکون المقدار المعیّن من الاحتیاط الواجب هو الزیادة، فالنقیصة تخرج عن حدّ الوجوب، فلا تکون واجبة، وإذا کان المقدار الواجب هو النقیصة، فالزیادة تخرج عن الوجوب، بینما ظاهر الروایة هو أنّ إیکال تعیین المقدار إلی المکلّف معناه أنّ المکلّف مخیّر فی أیّ مقدار یأتی به، وکل مقدار یأتی به یکون هو الواجب وهو المطلوب بناءً علی الوجوب، أنّ أیّ مقدار یختاره المکلف یکون هو الواجب، ویکون قد جاء بالواجب، فإذا اختار النقیصة فقد جاء بالواجب، وإذا اختار الزیادة فقد جاء بالواجب، وهذا غیر معقول؛ لأنّه عندما یکون الواجب هو الزیادة، فالنقیصة تخرج عن حدّ الوجوب، وهکذا العکس، فإذن: لا مجال للجمع بین وجوب مقدارٍ معیّنٍ، وبین التخییر بما شئت، التخییر بما شئت حتّی فی المقدار لا ینسجم مع افتراض الالزام؛ بل لابدّ من افتراض الرجحان، یعنی الاستحباب وأمثاله، أخوک دینک فاحتط لدینک بما شئت، کل احتیاط تفترضه هو أمر حسن وراجح کما هو الحال بالنسبة إلی الاحسان إلی الأخ؛ ولذا مُثّل الدین بالأخ، کما أنّ الإحسان إلی الأخ بأی مرتبةٍ یأتی بها الإنسان هو أمر راجح ومستحسن، کذلک الاحتیاط فی الدین أیضاً یکون أمراً راجحاً ومستحسناً؛ لأنّ الاحتیاط یعنی الرعایة، یعنی الاهتمام والتحفّظ، هذا بأی مقدارٍ أنت تأتی به، فلسانک لسان الاستحباب والرجحان، لا لسان الوجوب والإلزام.

ص: 69


1- (2) وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 27، ص 167.

الروایة الثانیة: الروایة المعروفة المرسلة عن النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم) أنّه قال:(من اتّقی الشبهات فقد استبرأ لدینه). (1) لو سلّمنا أنّ هذه الروایة واردة فی محل الکلام، یعنی ناظرة إلی الشبهات الحکمیة، غایة ما نفهم منها هو أنّ اتقاء الشبهة هو استبراء للدین، لکن هذه وحده لا یکفی لإثبات وجوب الاحتیاط ووجوب التقوی ما لم نضم إلی هذه الصغری کبری مفادها أنّ الاستبراء إلی الدین واجب، فیکون قیاساً مؤلفاً من صغری وکبری أنّ اتقاء الشبهة هو استبراء للدین، والاستبراء للدین یکون واجباً، إذن: یجب اتقاء الشبهة واجتنابها، وهو المطلوب. فلابدّ من تألیف هذا القیاس حتّی یکون منتجاً ومثمراً، بینما الروایة لیس فیها دلالة علی هذه الکبری، ولا تقول أنّ الاستبراء للدین واجب، وإنّما هی تقول أنّ من اتقی الشبهات استبرأ لدینه، لکن هل الاستبراء للدین واجب فی جمیع المجالات، أو لا ؟ هذا لا یثبت بالروایة، ولعلّه لا یثبت أیضاً بأدلّة أخری. إذن: الروایة لا تصلح أنْ یُستدَل بها علی وجوب الاجتناب والاحتیاط فی الشبهات.

الروایة الثالثة: مرفوعة أبی شعیب المرویّة فی الخصال، قال:(أورع الناس من وقف عند الشبهة). (2) والکلام فیها نفس الکلام فی الروایة السابقة، لکن ما الدلیل علی وجوب الأورعیّة ؟ وما الدلیل علی أنّه یجب علی الإنسان أنْ یکون أورع الناس، حتّی تدل علی أنّه یجب أنْ یقف عند الشبهة ؟ الروایة لیس فیها دلالة علی ذلک، غایة الأمر هو أنّها تقول أنّ أورع الناس هو من وقف عند الشبهة، وهذا صحیح، لکن الروایة لا یثبت بها وجوب الأورعیة حتّی یثبت بضمّ هذه الکبری إلی الصغری المستفادة من الروایة وجوب الوقوف عند الشبهة.

ص: 70


1- (3) وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 27، ص 173.
2- (4) الخصال، الشیخ الصدوق، ص 16.

الروایة الرابعة: مرسلة الطبرسی أرسلها فی تفسیره الصغیر:(دع ما یریبک إلی ما لا یریبک). (1) الشبهة تریبک، دعها إلی ما لا یریبک، بالنتیجة لا تقدم علی عملٍ فیه ریب، والإقدام علی الشبهة هو إقدام علی عملٍ فیه ریب.

ویناقش فی هذه الروایة: بأنّه غیر معلوم أنّها ناظرة إلی محل الکلام؛ وذلک لأنّه لم یؤخذ الشکّ فی الحکم فی موضوعها حتّی تکون ناظرة إلی محل الکلام، وإنّما المأخوذ فیها هو عنوان(الریب)، ومن قال أنّ الریب المقصود فی المقام هو الریب المضاف إلی التکلیف حتّی تکون ناظرة إلی محل الکلام، یعنی دع التکلیف الذی یریبک وتشکّ فیه، حتّی یُستدل بها علی وجوب الاحتیاط والتوقّف فی محل الکلام، الشکّ فی التکلیف لم یؤخذ بشکلٍ واضحٍ فی موضوع هذه الروایة، وإنّما المأخوذ هو الریب، ولا دلیل علی إضافة الریب فی الروایة إلی الحکم الشرعی، حتّی یقال أننّا مأمورون بترک الأحکام الشرعیة التی فیها ریب وشکّ وشبهة، وعدم الإقدام علیها، فیستدَلّ بها علی وجوب الاحتیاط، بینما هذا لم یؤخذ فی الروایة، ولعلّ الریب مضاف إلی شیءٍ آخر، ولعلّها فی مقام تقریر قضیة ومطلبٍ آخر لا علاقة لها بمحل الکلام، وهی أنّ الأعمال التی یقوم بها الإنسان إذا دار أمرها بین عملٍ فیه ریب، وبین عملٍ لا ریب فیه، إرشاد إلی أنّه دع ما یریبک إلی ما لا یریبک، اقدم علی أعمالٍ لیس فیها شبهة وریب وتردّد، ولیست ناظرة إلی الشکّ فی الحکم الشرعی الذی هو محل الکلام فی الشبهات الحکمیة، وترید أنْ تأمر بالتوقف وعدم الإقدام، ناظرة إلی قضیة عامّة، أنّ الإنسان عندما یؤمر من باب النصیحة ومن باب التعلیم بأنْ لا تقدم علی الأمور المریبة، دعها إلی الأمور التی لیس فیها ریب، فتکون الروایة أجنبیة عن محل الکلام.

ص: 71


1- (5) تفسیر جوامع الجامع، الشیخ الطبرسی، ج 1، ص 63.

هناک روایات أخری من هذا القبیل لا داعی لذکرها، فنکتفی بهذا المقدار

القسم الثانی من الروایات: المُستدل بها علی وجوب الاحتیاط، والتی تعرّض لها علماؤنا، ورکّزوا الکلام علیها، وبیّنوا کیفیّة الاستدلال بها، والمناقشات الواردة علیها، وقسّموا هذا القسم من الروایات المستدل بها إلی ثلاثة طوائف من الأخبار:

الطائفة الأولی: الطائفة الآمرة بالتوقّف عند الشبهات، الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، وأمثالها.

الطائفة الثانیة: الأخبار الآمرة بالاحتیاط فی الشبهات، لسانها لیس لسان الوقوف عند الشبهة، وإنّما لسانها لسان الأمر بالاحتیاط(فعلیکم بالاحتیاط) کما فی بعض الروایات الآتیة، أو(فعلیک بالحائطة لدینک)، وأمثالها کما سیأتی.

الطائفة الثالثة: أخبار التثلیث المعروفة(حلال بیّن، وحرام بیّن، وشبهات بین ذلک).

نتکلّم أولاً عن الطائفة الأولی التی هی الأخبار الآمرة بالتوقف: هذه الأخبار کلّها وردت بلسان الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، وهذا اللّسان وارد فی عدّة روایاتٍ إدّعی أنّها مستفیضة؛ بل قیل أنّها متواترة، لکن الظاهر أنّه من الصعب جدّاً إثبات التواتر، ولا یبُعد أنّها مستفیضة، ولعلّه بعجالة عثرنا علی ستّ روایات، لکنّ لعلّ هناک روایات أخری. هناک أربع روایات مرویّة فی الباب الثانی عشر من أبواب صفات القاضی، وهی الحدیث 2، و13، و15، و57، کل هذه الروایات ورد فیها هذا العنوان(الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة). (1) وفی الباب التاسع هناک حدیثان، الحدیث الأوّل من الباب التاسع من نفس الأبواب، والحدیث الخامس والثلاثون، أیضاً ورد فیها هذا التعبیر، وبقطع النظر عن التواتر والاستفاضة لا إشکال فی وجود ما هو صحیح سنداً من هذه الأخبار، کالحدیث الأخیر، فأنّه صحیح سنداً بلا إشکال. إذن: هذا اللّسان ثابت بحسب الموازین المعتبرة فی إثبات الروایات.

ص: 72


1- (6) وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 27، ص 155. و ص 158. و ص 159. و ص 171.

تقریب الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار علی وجوب الاحتیاط: یکون بدعوی أنّ هذه الأخبار ظاهرة فی وجوب التوقّف عند الشبهة. نعم، هی لم تأمر بالتوقّف بشکلٍ صریح(قف عند الشبهة) لکنّها ظاهرة فی وجوب التوقّف عند الشبهة، غایة الأمر أنّها بیّنت ذلک بلسان الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، ممّا یُفهم منها أنّها ترید أنْ تقول أنّ اقتحام الشبهة فیه هلکة، وفی معرض الهلکة، وأنّ وقوفک عند الشبهة أحسن من أنْ تقع فی الهلکة عند اقتحامک لها، فالوقوف لیس فیه هلکة، والاقتحام فیه احتمال الهلکة، یعنی الإنسان یُعرّض نفسه إلی الهلکة، فیُفهم منها وجوب التوقّف، لکن بُیّن بلسان أنّ هذا خیر من هذا، لیس خیراً بمعنی أفعل التفضیل؛ بل هنا مجرّدة عن أفعل التفضیل، وإنّما هذا یکون هو المعیّن وهو الوقوف عند الشبهة لئلا تقع فی الهلکة. هذا الاستدلال بهذه الروایة ویستفاد منها وجوب الوقوف عند الشبهة، وهذا هو مقصود الأخباریین، أنْ یثبتوا أنّ الشبهات لابدّ من التوقّف فیها، وعدم الاقتحام کما یقول الأصولیین

هناک عدّة مناقشات فی الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار، واهتمّ بها علماؤنا(رضوان الله علیهم):

المناقشة الأولی: مناقشة معروفة مستفادة من کلمات الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) (1) وذکرها من تأخّر عنه، وخصوصاً السید الخوئی(قدّس سرّه) (2) ، ذُکرت فی کلا تقریریه(الدراسات والمصباح) کمناقشة مستقلّة، لکن أساسها هو الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الرسائل. حاصل هذه المناقشة هو: أنّ الوارد فی هذه الأخبار هو عنوان (الشبهة). یُدّعی أنّ الشبهة ظاهرة فی الأمر الذی یکون ملتبساً ومشتبهاً بقولٍ مطلق من جمیع الجهات، یعنی الأمر الذی یکون ملتبساً واقعاً وظاهراً. بعبارةٍ أخری: ما لا یُعرف حکمه الواقعی، ولا حکمه الظاهری؛ عندئذٍ یکون هذا ملتبساً، وشبهة. هذا هو موضوع الروایات، أی ما یکون ملتبساً بلحاظ الحکم الواقعی والحکم الظاهری، وتدلّ علی وجوب التوقّف فی شبهةٍ من هذا القبیل. وأمّا إذا کان الشیء ملتبساً بلحاظ حکمه الواقعی ولیس کذلک بلحاظ حکمه الظاهری، هذا یخرج عن موضوع الروایات، ولا تدلّ الروایات علی وجوب التوقّف فیه؛ لأنّه لیس شبهةً، وما یُعلم حکمه الظاهری کما یُعلم حکمه الواقعی، کما لو علمنا حکمه واقعاً، فإذا علمنا بحکم الشیء ظاهراً خرج عن کونه شبهة، إنّما یبقی شبهة إذا قلنا أنّ الشبهة تختص بما لا یُعلم حکمه الواقعی، لکن إذا عممّناه إلی ما لا یُعلم حکمه الواقعی، وما لا یُعلم حکمه الظاهری، فإذا علمنا حکم شیء ظاهراً، فأنّه یخرج عن کونه شبهة، ویخرج عن الروایات ولا یمکن الاستدلال بالروایات علی وجوب التوقّف فیه. وبناءً علی هذا لا یصح الاستدلال فی محل الکلام بالروایات فی محل الکلام؛ لأنّه فی محل الکلام، أی فی الشبهات الحکمیة البدویة بعد الفحص، فی هذه الشبهات قامت الأدلّة علی الترخیص فی الارتکاب، وهی أدلّة البراءة المتقدّمة، فأثبتت فیه حکماً ظاهریاً مفاده البراءة، فتکون هذه الشبهة محل الکلام ممّا یُعلم حکمه الظاهری، فإذا علمنا حکمه الظاهری باعتبار أدلّة البراءة؛ حینئذٍ لا یکون مشمولاً لهذه الروایات الآمرة بالتوقّف؛ لأنّه بقیام الأدلّة علی البراءة فیه، وعلی الترخیص فیه یخرج عن کونه شبهة؛ لأنّه عُلم حکمه الظاهری عن طریق تلک الأخبار، وإذا خرج عن کونه شبهة، یعنی خرج عن موضوع هذه الروایات، فکیف یُستدَل بهذه الروایات والأخبار علی وجوب التوقّف فیه ؟!

ص: 73


1- (7) فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 71.
2- (8) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 277. و مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 299.

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط العقلی

کان الکلام فی الطائفة الأولی من الأخبار التی اُستدل بها علی وجوب الاحتیاط وهی ما دلّ علی وجوب التوقّف عند الشبهة بلسان الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، وقلنا أنّ هذا الاستدلال واجه عدّة اعتراضات ومناقشات، وقد ذکرنا المناقشة الأولی فی الدرس السابق، وکان حاصلها هو: أنّ هذه الأخبار مختصّة بغیر موارد العلم بالترخیص الظاهری. یعنی بعبارة أخری: مختصّة بمن لا یعلم بالحکم الواقعی، ولا بالحکم الظاهری؛ لأنّ الوارد فیها هو عنوان(الشبهة) والشبهة یراد بها ما یکون الشیء مشتبهاً أو ملتبساً، سواء من ناحیة الحکم الواقعی ، أو من ناحیة الحکم الظاهری.

إذن: هی لا تشمل محل الکلام، یعنی لا تشمل ما إذا کان الترخیص الظاهری ثابتاً، وفی محل الکلام أدلّة البراءة السابقة تثبت الترخیص الظاهری، فلا تکون مشمولة لأدلّة التوقف.

السید الخوئی(قدّس سرّه) بعد أنْ ذکر هذا، حاول الاستدلال علی اختصاص هذه الأخبار، أوقل عدم شمول هذه الأخبار لما إذا عُلم الترخیص الظاهری فی الشبهة کما فی محل الکلام، (1) استَدلّ علی اختصاص الأخبار وعدم شمولها لمحل الکلام بأنّ الدلیل هو: لا إشکال ولا خلاف فی عدم وجوب التوقّف فی الشبهات الموضوعیة بالاتفاق، وکذلک الشبهات الحکمیة الوجوبیة بالاتفاق، وهذا معناه أنّ هناک اتفاقاً علی أنّ الشبهات الموضوعیة والوجوبیة خارجة عن أخبار باب التوقّف، لا بدّ أن تکون خارجة عن أخبار باب التوقّف، وإلاّ، کیف اتُفق علی عدم وجوب التوقف فیها. یقول(قدّس سرّه): هذا الخروج ----- خروج الشبهة الموضوعیّة والوجوبیة ----- عن أخبار التوقف، لیس من باب التخصیص والإخراج الحکمی؛ لأنّ لسان هذه الروایات لسان آبٍ عن التخصیص، لسانها لسان أنّ الوقوف عند الشبهة خیر من أنْ تقع فی الهلکة، هنا لا معنی لأنْ یقال بأننّا نخصصّ هذا فی موردٍ، ونلتزم بأنّ الوقوع فی الهلکة هنا یجوز، وهنا لا یجوز، أی نرخّص فی الوقوع فی الهلکة، هذا هو معنی التخصیص الحکمی، فهو لسان یأبی عن التخصیص، فإذا کان آبیاً عن التخصیص؛ فحینئذٍ یتعیّن أنْ یکون الخروج من باب التخصصّ، والإخراج الحکمی، والإخراج الموضوعی.

ص: 74


1- (1) مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 299.

بعبارة أخری: إنّ ما دلّ علی الترخیص فی هذه الشبهات الموضوعیّة والوجوبیّة یکون مخرجاً لمورده عن موضوع أدلّة التوقّف، بمعنی أنّ هذه لیست شبهة، لا أنّه یقول أنّها شبهة لکن لا یجب التوقّف فیها الذی هو معنی التخصیص، الذی هو معنی الإخراج الحکمی، کلا، وإنّما أدلّة الترخیص تقول: هذه لیست شبهة، إخراجٌ من الموضوع، الشبهة الوجوبیة، والشبهة الموضوعیة لیست شبهة؛ لأنّه قام فیها دلیل یدلّ علی الترخیص الظاهری. إذن: هی تخرج عن موضوع أدلّة التوقّف. یقول(قدّس سرّه): نفس هذا الکلام ندّعیه فی مقامنا، یعنی فی الشبهة الحکمیّة التحریمیّة بعد الفحص، الذی هو محل النزاع، فالمناقشة تدّعی بأنّ أدلّة الترخیص والبراءة المتقدّمة سابقاً تدلّ علی أنّ هذه لیست شبهة، تُخرج موردها عن موضوع أدلّة التوقّف؛ لأنّ موضوع أدلّة التوقف هی الشبهة، والشبهة هی ما لا یُعلم حکمه الواقعی، ولا الظاهری، وأدلّة الترخیص تثبت الحکم الظاهری، فإذن: یخرج موردها عن کونه شبهة، وهذا معنی الإخراج الموضوعی، ومعنی التخصصّ. هذا کما هو موجود فی الشبهات الوجوبیّة والموضوعیّة؛ لأنّه قال أنّ خروجها لیس من باب التخصیص، فهی لیست شبهة مع جواز اقتحام الهلکة فیها؛ لأنّ لسان اقتحام الهلکة لسان یأبی عن التخصیص، وإنّما مرجعه إلی أنّها لیست شبهة، أی إلی الإخراج الموضوعی، هذا نفسه ندّعیه فی محل الکلام، أدلّة الترخیص کما تجری فی الشبهات الوجوبیّة والموضوعیّة، أیضاً هی شاملة لمحل الکلام، فتکون مخرجة لمحل الکلام عن موضوع أدلّة التوقفّ، فإذن: لا یصح الاستدلال بأدلّة التوقّف علی وجوب التوقّف فی محل الکلام؛ لأنّها بأدلّة الترخیص خرجت عن موضوع أدلّة التوقّف.

ویُلاحظ علی هذه المناقشة:

الملاحظة الأوّلی: الظاهر أنّ وجوب التوقّف عندهم المستفاد من أخبار التوقّف هو حکم ظاهری مثل البراءة، والقضیّة واضحة عندهم أنّ موضوع الحکم الظاهری هو الشکّ فی الحکم الواقعی، أخبار البراءة تقول إذا شککت فی حرمة شیءٍ واقعاً، أنا أجعل لک البراءة، وهذه الأخبار تقول إذا شککت فی حرمة شیءٍ أنا أجعل لک وجوب التوقف. إذن: هی أحکام ظاهریّة، وینبغی أنْ یکون موضوعها هو الشک فی الحکم الواقعی، فلا وجه لتعمیم موضوعها للشک فی الحکم الواقعی، والشکّ فی الحکم الظاهری، وإنّما موضوعها الشکّ فی الحکم الواقعی، کل من یشکّ فی الحکم الواقعی، هذه تجعل له وجوب التوقّف، وتلک تجعل له البراءة، فیقع التعارض بینهما، ولا نستطیع أنْ نقول أنّ موضوع أخبار التوقّف هو الأعم من الشکّ فی الحکم الواقعی، والحکم الظاهری، یعنی کما أنّ العلم بالحکم یخرج عن موضوعها، الحکم الظاهری أیضاً إذا ثبت بدلیل أیضاً یخرج عن موضوعها. نعم، هناک دلیلان، واحد یدلّ علی أنّه عند الشکّ فی الحکم الواقعی هناک براءة، والآخر یدلّ علی أنّه عند الشکّ فی الحکم الواقعی هناک احتیاط، هنا یحصل تعارض بلا حکومة، ولا نستطیع القول أنّ أخبار البراءة تکون مخرجة لموردها عن أخبار التوقّف؛ لأنّ موضوع أخبار التوقّف هو الجهل بالحکم الواقعی، والحکم الظاهری؛ بل أخبار التوقّف محمولها حکم ظاهری، وموضوع الأحکام الظاهریّة هو الشکّ فی الحکم الواقعی.

ص: 75

الملاحظة الثانیة: أنّ مرجع هذا الشیء الذی ذُکر فی هذه المناقشة إلی دعوی أنّ أدلّة البراءة حاکمة أو واردة علی أخبار التوقف، فأخبار البراءة عندما تجعل الترخیص فی موردها، فأنها تکون رافعة لموضوع أدلّة وجوب التوقّف، سواء کان رفعاً تعبّدیاً، أو رفعاً حقیقیاً، هی إمّا حاکمة، أو واردة علی أدلّة التوقّف، مرجع کل هذه المناقشة إلی أنّ أخبار التوقّف لمّا کان موضوعها هو الشکّ فی الحکم الواقعی والظاهری، أخبار الترخیص تقول لیس هناک شکّ فی الحکم الظاهری؛ لأنّها تجعل الترخیص کحکمٍ ظاهری، وبهذا تکون رافعة لموضوع أدلّة التوقّف، کالدلیل الدال علی الحکم الواقعی، کما أنّ الدلیل الدال علی الحکم الواقعی یکون رافعاً لموضوع أدلّة التوقّف، کذلک الدلیل الدال علی الترخیص أیضاً یکون رافعاً لموضوع أدلّة التوقّف، إمّا بالحکومة، وإمّا بالورود؛ حینئذٍ الملاحظة الثانیة تقول: هذا لیس أولی من العکس؛ إذ یمکن أنْ ندّعی أنّ مفاد أدلّة البراءة هو البراءة عند الشکّ فی الحکم الشرعی، هنا یمکن أنْ ندّعی بأنّ الجهل وعدم العلم والشکّ الذی أُخذ فی موضوع دلیل البراءة أعمّ من الشکّ فی الحکم الواقعی والشکّ فی الحکم الظاهری، بمعنی أنّ أدلّة البراءة لا تجعل البراءة لمن یعلم وجوب التوقّف فی هذه الشبهة، أی لا تجعل البراءة لمن یعلم الحکم الظاهری فی هذه الشبهة، کما لا تجعل البراءة لمن یعلم الحکم الواقعی فی هذه الشبهة؛ لأنّ موضوعها الشکّ فی الحکم الشرعی، وبالإمکان أنْ ندّعی أنّ الشکّ فی الحکم الشرعی هو أعم من الحکم الواقعی والحکم الظاهری.

إذن: أدلّة التوقّف عندما تجعل الحکم الظاهری فی موردها تکون رافعة لموضوع أدلّة البراءة؛ لأنّ موضوع أدلّة البراءة هو الشکّ فی الحکم الشرعی الأعم من الحکم الواقعی والحکم الظاهری، وأدلّة التوقّف تجعل حکماً ظاهریاً فی موردها، وبذلک ترفع موضوع أدلّة البراءة، فتکون حاکمة، أو واردة علیها، کما أدُعی أنّ أدلة البراءة تکون حاکمة علی أدلّة التوقّف؛ لأنّ موضوع أدلّة التوقّف هو الأعم، یمکن دعوی ذلک نفسه فی أدلّة البراءة؛ لأنّ موضوع أدلّة البراءة هو عدم العلم مطلقاً،(ما کنّا معذبین حتّی نبعث رسولا)، کنایة عن البیان، والبیان أعم من بیان الحکم الواقعی، أو بیان الحکم الظاهری، ایضاً تُدّعی هذه الدعوی، وعلی هذا تکون أخبار التوقّف حاکمة أو واردة علی أدلّة البراءة، بینما هو یدّعی أنّ أدلّة البراءة هی التی تکون حاکمة، أو واردة علی أخبار التوقّف، فلا داعی لترجیح هذا علی هذا، إذا کان البناء علی أنْ نقول بأنّ هذه الأحکام الظاهریّة فی هذه الأدلّة لیس موضوعها هو الشکّ فی الحکم الواقعی، وإنّما موضوعها هو الأعم من الشکّ فی الحکم الواقعی، والشکّ فی الحکم الظاهری، فهذا یرفع موضوع هذا، وهذا یرفع موضوع هذا. الالتزام بأنّ أدلّة البراءة هی التی تکون حاکمة، أو واردة، وبالتالی نلتزم فی محل الکلام بالبراءة وعدم وجوب التوقّف خلافاً للأخباریین لا وجه له بهذا البیان.

ص: 76

الملاحظة الثالثة: أنّه لماذا لا یُلتزم بالتخصیص ؟ بأنْ یُدّعی بأنّ أدلّة البراءة تتقدّم، کمناقشةٍ لما ذکره فی الاستدلال بأخبار التوقّف علی وجوب الاحتیاط فی محل کلامنا، المناقشة تکون بأنها لا تشمل محل الکلام؛ لأنّ محل الکلام خرج بالتخصیص، یعنی أدلّة البراءة تتقدّم علی أدلّة التوقّف بالتخصیص، والمحذور الذی ذکره هو أنّ أخبار التوقّف تأبی عن التخصیص؛ ولذا لابدّ أنْ یکون الخروج خروجاً من الموضوع الذی یستلزم الحکومة، فالخروج من الموضوع یعنی أنّ هذه لیست شبهة، ومورد دلیل البراءة أصلاً هو لیس شبهة، فإذا قلنا أنّ دلیل البراءة یشمل محل الکلام، ففی محل کلامنا لا توجد شبهة، فلا تشمله أخبار التوقّف لخروجه عن موضوعه. هذا اللّسان هل یأبی عن التخصیص ؟ صحیح أنّ مسألة الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، هذا اللّسان یأبی عن التخصیص، فلا معنی لأنْ نفرّق بین موردٍ وموردٍ، فنقول هنا الوقوف عند الشبهة خبر من الاقتحام فی الهلکة، وهنا الوقوف عند الشبهة لیس خیراً من الاقتحام فی الهلکة؛ بل لعلّ الاقتحام فی الهلکة یکون خیراً من الوقوف عند الشبهة، لکن الذی یُلاحظ هو أنّ تقریب الاستدلال بأدلّة التوقّف کان بهذا الشکل: یُستفاد منها صغری وکبری، الصغری بمضمون أنّ الاقتحام فی الشبهة فیه مضنّة الوقوع فی الهلکة، والمقصود بالهلکة عندهم، الهلاک الأخروی، یعنی العذاب، أمّا الکبری فهی بمضمون أنّ الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، فنستفید من هذا وجوب التوقّف عند الشبهة؛ لأنّ الاقتحام فی الشبهة مضنّة للهلکة، والوقوف عند الشبهة خیر، فیتعیّن الوقوف عند الشبهة وعدم الاقتحام فی الهلکة، فی دلیل الترخیص عندما یقوم دلیل الترخیص علی البراءة والترخیص فی محل الکلام، هذا لیس تخصیصاً للکبری حتّی یقال أنّ هذه الکبری تأبی عن التخصیص، فلا یمکن الالتزام بالتخصیص، دلیل الترخیص لا یرید أنْ یقول بأنّ هذه الشبهة التی هی محل الکلام، الوقوف فی الشبهة لیس خیراً من الاقتحام فی الهلکة، وإنّما هو تخصیص من الصغری؛ لأنّ الترخیص یجعل التأمین والبراءة، یعنی یقول للمکلّف فی اقتحامک لهذه الشبهة لا مضنّة للهلکة، أدلّة البراءة کلّها بلسان قبح العقاب بلا بیان، فهو یؤمّن من ناحیة الهلاک، کأنّه یرید أنْ یقول أنّ الاقتحام فی هذه الشبهة لیس فیه مضنّة للهلاک والعقاب الأخروی؛ لأنّه یؤمّن من ناحیته، وهذه الصغری قابلة للتخصیص، ولیست آبیةً عن التخصیص، ولا محذور فی أنْ نقول أنّه ورد أنّ الاقتحام فی الشبهة مضنّة للوقوع فی الهلکة، إلاّ هذه الشبهة، فأنّ الاقتحام فیها لیس فیه مضنّة للهلکة، الکبری لسانها لسان یأبی عن التخصیص، أمّا الصغری فلسانها لا یأبی عن التخصیص، والمدّعی فی المقام بناءً علی التخصیص، ------ وسیأتی طرح هذا الشیء فی ما بعد ------ بناءً علی أنّ أدلّة البراءة تتقدّم علی أدلّة التوقّف بالتخصیص، هذا لا یمکن دفعه بالقول أنّ أدلّة التوقّف آبیة عن التخصیص؛ لأنّ تقدیم دلیل البراءة بالتخصیص علی دلیل التوقّف لا یستلزم تخصیص الکبری الآبیة عن التخصیص، وإنّما هو یستلزم تخصیص الصغری الغیر آبیة عن التخصیص.

ص: 77

وبهذا نصل إلی المناقشة الثانیة فی أصل الاستدلال: ممّا تبیّن أنّ ادّعاء التقدیم علی أساس الورود، أو الحکومة بالبیان الذی ذُکر من أنّ أدلّة البراءة تکون رافعة للشبهة فی محل الکلام ومُخرجة لمحل الکلام عن أدلّة وجوب التوقّف، فلا یصح الاستدلال بأدلّة وجوب التوقّف علی وجوب التوقّف فی محل الکلام، هذه المناقشة لیست تامّة.

المناقشة الثانیة: ادّعاء التخصیص فی المقام، بأنْ یقال: أنّ دلیل البراءة یتقدّم علی أدلّة التوقّف بالتخصیص، بمعنی أنّ محل الکلام وإنْ کان مشمولاً لإطلاق أدلّة التوقّف، إلاّ أنّه یخرج عنها بأدلّة البراءة من باب التخصیص؛ وحینئذٍ یبطل الاستدلال؛ لأنّ محل الکلام خرج عن أخبار التوقّف. إذن: النتیجة واحدة، وهی عدم صحة الاستدلال بأخبار التوقّف فی محل الکلام؛ لأنّ محل الکلام حسب المناقشة الأولی خرج موضوعاً عن أخبار التوقّف، وحسب هذه المناقشة خرج حکماً عن أخبار التوقّف، فبالنتیجة لا یجری التوقّف فی محل الکلام، وهو المطلوب.

لکن یقال: أنّ التقدیم بالتخصیص یتوقّف علی أنْ تکون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، علی أنْ تکون النسبة بینهما هی نسبة العموم والخصوص المطلق، أنْ تکون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف فتتقدّم علیها بالتخصیص، لکن کیف یمکن إثبات هذا ؟ وما هو الدلیل علی اختصاص أخبار البراءة فی محل الکلام حتیّ یقال أنّ أخبار التوقّف تشمل محل الکلام بالإطلاق، بینما أخبار البراءة مختصّة بمحل الکلام، فتکون أخصّ مطلقاً ؟ مع أنّ لسانها لسان عام، کما أنّ أخبار التوقّف تشمل کل الشبهات، أخبار البراءة أیضاً تشمل کل الشبهات، ولیست مختصّة بمحل الکلام، (رُفع ما لا یعلمون)، و(ما کنّا معذبین حتی نبعث رسولاً)....الخ من الأدلّة التی تقدّم الاستدلال بها علی البراءة، فهی لیست مختصّة بمحل الکلام، بالشبهة الحکمیّة التحریمیّة التی یقع فیها الکلام؛ بل أنّها تشمل کل الشبهات، وکل شیء لا یُعلم حکمه الواقعی، ولا یختصّ بالشبهة التحریمیّة دون الوجوبیة، لسانها لسان عام؛ وحینئذٍ تکون النسبة بینهما هی التباین، لا العموم والخصوص المطلق حتّی نقدّم أخبار البراءة علی أخبار التوقّف بالتخصیص کما یُدّعی فی المناقشة، ومن هنا لابدّ من توجیه هذه المناقشة، أی التقدیم علی أساس التخصیص لابدّ من توجیهه بتوجیهٍ یعتمد علی کبری انقلاب النسبة حتّی تکون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، فتتقدّم علیها بالتخصیص، وذلک بأنْ یقال أنّ أخبار البراءة خرج منها الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، وخرج منها الشبهة قبل الفحص، وخرج منها شبهات أخری کما فی الموارد التی قام الدلیل فیها علی وجوب الاحتیاط، کالدماء، والفروج؛ بل حتّی الأموال، هذه شبهات خرجت عن أخبار البراءة، بمعنی أنّه قام الدلیل علی وجوب الاحتیاط فیها. إذن: هذه شبهات خرجت عن أخبار البراءة.

ص: 78

حینئذٍ یقال: بعد خروج هذه الشبهات عن أخبار البراءة؛ حینئذٍ تنقلب النسبة؛ حینئذٍ تکون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف؛ لأنّ هذه الشبهات التی خرجت من أخبار البراءة باقیة علی دخولها تحت أدلّة التوقّف، فلا مانع من شمول أخبار التوقف للشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، وأخبار التوقّف أیضاً تشمل محل الکلام، وتشمل هذه الشبهات، بینما هذه الشبهات خرجت عن أخبار البراءة، وعلیه: سوف تکون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، فتتقدّم علیها بالتخصیص بناءً علی کبری انقلاب النسبة.

وبعبارةٍ أکثر وضوحاً: فی المقام، بناءً علی هذا الکلام یوجد عندنا ثلاثة أدلّة، ولابدّ أنْ نتعامل مع هذه الأدلة الثلاث، لدینا دلیل یدلّ علی البراءة، ودلیل ثانٍ یدلّ علی وجوب الاحتیاط فی شبهات معیّنة مقرونة بالعلم الإجمالی، فی الدماء، وفی الفروج، وقبل الفحص، وثالثاً لدینا أخبار التوقّف. النسبة بین أخبار البراءة وأخبار التوقّف قبل تخصیص أخبار البراءة بأخبار الاحتیاط هی نسبة التباین، لکن عندما نخصصّ أخبار البراءة بأخبار الاحتیاط فی الشبهات المذکورة المعیّنة، ونخرج منها الشبهات المذکورة؛ حینئذٍ تنقلب النسبة بین أخبار البراءة، وأخبار التوقّف من التباین إلی العموم والخصوص المطلق، بمعنی أنّ أخبار البراءة تکون أخص مطلقاً من أخبار التوقّف، فتتقدّم علیها بالتخصیص.

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

قد یُعترَض علی تخریج المناقشة الثانیة التی ذکرناها فی الدرس السابق بأنّ نفس الکلام الذی تقولونه فی أخبار البراءة یمکن أنْ یقال فی أخبار التوقّف، فکما أنّ هناک شبهاتٍ قام الدلیل علی خروجها من أخبار البراءة، وعلی هذا الأساس تکون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، کذلک قام الدلیل علی خروج بعض الشبهات من أخبار التوقّف، کالشبهة الموضوعیّة، والشبهة الحکمیّة الوجوبیّة؛ لأنّ الإجماع قائم علی عدم وجوب التوقّف فی هذه الشبهات. إذن: هی خرجت عن أخبار التوقّف للإجماع علی عدم وجوب الاحتیاط فیها، وهذا یجعلها أخصّ مطلقاً من أخبار البراءة، لیست هناک أولویّة لافتراض أنّ أخبار البراءة أخصّ من أخبار التوقّف؛ بل قد نلحظ هذا الجانب، ونقول: أخبار التوقّف أیضاً خرجت منها بعض الشبهات، وهذه الشبهات مشمولة لأدلّة البراءة، کالشبهة الموضوعیّة، والشبهة الحکمیّة الوجوبیّة، بینما خرجت من أخبار التوقّف، وبهذا الاعتبار تکون أخبار التوقّف أخصّ مطلقاً من أخبار البراءة.

ص: 79

وبعبارةٍ أخری: بناءً علی هذین التخصیصین، والإخراجین تکون النسبة بین أخبار البراءة وأخبار التوقّف هی العموم والخصوص من وجهٍ، فهما یجتمعان فی محل الکلام، أی فی الشبهة الحکمیّة التحریمیّة بعد الفحص، أخبار البراءة تختصّ بالشبهة الموضوعیّة، والشبهة الوجوبیّة؛ لأنّها خرجت من أخبار التوقّف، بینما تختصّ أخبار التوقّف بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، والشبهة قبل الفحص، والشبهة فی الدماء والفروج، فأنّها غیر مشمولة بأخبار البراءة، فتکون النسبة هی العموم والخصوص من وجهٍ، فلا داعی حینئذٍ للتقدیم بالأخصیّة، فلا نستطیع حینئذٍ أنْ نقول أنّ أخبار البراءة تتقدّم علی أخبار التوقّف بالأخصیّة؛ لأنّ النسبة بینهما ----- بناءً علی هذا الکلام ------ سوف تکون هی نسبة العموم من وجه، ویحصل التعارض بینهما فی مادّة الاجتماع التی هی محل الکلام.

لکن قد یُدفع هذا الاعتراض بما ذکره بعض المحققین من أنّ الإجماع القائم علی خروج الشبهة الموضوعیّة، والشبهة الحکمیّة الوجوبیّة من أخبار التوقّف لیس دلیلاً مستقلاً فی قِبال الأدلّة التی هی بأیدینا؛ بل هو یرجع إلی أخبار البراءة، بمعنی أنّ الأصولیین عندما یقولون بعدم وجوب الاحتیاط والتوقّف فی الشبهة الموضوعیّة، فأنّهم یتمسّکون بأخبار البراءة، باعتبار أنّ أخبار البراءة شاملة للشبهة الموضوعیّة وللشبهة الحکمیّة الوجوبیّة، فدلیل إخراج هذه الشبهات من أخبار التوقّف هی أخبار البراءة؛ بل الظاهر أنّ ذلک هو مستند الأخباریین عندما یلتزمون بعدم وجوب التوقّف فی الشبهة الموضوعیّة، وعدم وجوب التوقّف فی الشبهة الحکمیّة الوجوبیّة، الظاهر أنّه لیس لدیهم دلیل علی عدم وجوب التوقّف بعد شمول أخبار التوقّف لهذه الشبهات، خصوصاً الشبهة الحکمیّة الوجوبیّة؛ إذ لا فرق بینها وبین الشبهة الحکمیّة التحریمیّة، فالظاهر أنّه لا مستند لهم فی هذا الإخراج إلاّ التمسّک بأخبار البراءة. فإذن: الإجماع لیس دلیلاً مستقلاً فی قِبال هذه الأدلّة؛ بل الصحیح هو ما ذُکر سابقاً فی أصل المناقشة، وهو أنّ ما بأیدینا من الأخبار هو عبارة عن ثلاثة أخبار، أخبار البراءة والأخبار التی تأمر بالاحتیاط فی شبهاتٍ معیّنة، فی الدماء، وفی الفروج، وفی الشبهة قبل الفحص ما یستدلّ به علی ذلک مقرونة بالعلم الإجمالی وأخبار التوقّف، ولا یوجد لدینا دلیل آخر. نعم، یُدّعی الإجماع، لکنّه إجماع مستند إلی أخبار البراءة، النسبة بین أخبار البراءة، وأخبار التوقّف وإنْ کانت هی التباین علی ما ذکرنا، لکن بعد تخصیص أخبار البراءة بأخبار الاحتیاط، بما دلّ علی وجوب الاحتیاط فی شبهات معیّنة تنقلب النسبة، وتکون أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف.

ص: 80

هذا غایة ما یمکن أنْ یُقال فی بیان هذه المناقشة. نعم هذه المناقشة مبنیّة علی کبری انقلاب النسبة، فإذا أنکرنا انقلاب النسبة کما هو الظاهر؛ فحینئذٍ لا تتمّ هذه المناقشة، ولا یصحّ أنْ یقال أنّ أخبار البراءة أخصّ مطلقاً من أخبار التوقّف، لا قبل الانقلاب، ولا بعد الانقلاب؛ لأننّا لا نقول بانقلاب النسبة، فهی مبنیّة علی دعوی انقلاب النسبة.

المناقشة الثالثة: هی المناقشة المعروفة التی تکررّت فی جملة من الأخبار بأنْ یدّعی أنّ المستفاد من هذه الأخبار هو فرض مضنّة الهلکة فی مرتبةٍ سابقةٍ علی هذه الأخبار، وبقطع النظر عنها؛ ولذا نجد أنّ هذه الأخبار عللّت وجوب التوقّف، أو ما یُفهم منها من حرمة الاقتحام فی الشبهة بأنّ الاقتحام فیها هو اقتحام فی ما فیه هلکة، أو ما فیه مظنّة الهلکة، فکأنّها فرضت أنّ هذه الشبهة فیها مظنّة الهلکة فی مرتبةٍ سابقةٍ علی أخبار التوقّف، أخبار التوقّف جاءت لتأمر بالتوقّف، وتنهی عن الاقتحام، عللّت ذلک بأنّ فیه مظنّة الهلکة. إذن: لکی تشمل هذه الأخبار مورداً، لابدّ من افتراض أنّ اقتحام الشبهة فی هذا المورد فیها مظنّة الهلکة، وأنّ هذا شیء ثابت بقطع النظر عن هذه الأخبار. هذا واضح من أخبار التوقّف، فأخبار التوقّف تقول أنّ الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة. لکنْ من قال أنّ اقتحام هذه الشبهة فیه هلکة ؟ إذن: أخبار التوقّف افترضت أنّ الشبهة التی تأمر بالتوقّف فیها هی شبهة فی اقتحامها مظنّة الهلکة، فهی لا تشمل إلاّ الشبهات التی تکون من هذا القبیل، یعنی الشبهات التی تنجّزت فی مرتبةٍ سابقةٍ علی هذه الأخبار، وبقطع النظر عنها، فإذا تنجّزت یکون فیها عقاب وهلکة، أخبار التوقف تقول بوجوب الوقوف عند هذه الشبهة، فهی تشمل الشبهات التی تنجّزت فی مرتبةٍ سابقةٍ علیها، وفرغنا فیها عن المنجّزیّة، وأنّ الاقتحام فیها اقتحام فی ما فیه مظنّة الهلکة، فتشملها الأخبار. وأمّا الشبهات التی لم نفرغ عن تنجّزها فی مرتبةٍ سابقةٍ، وإنّما نحن الآن فعلاً نرید أنْ نتکلّم عن أنّها منجّزة، ویجب فیها الاحتیاط، أو لا ؟ فتجری فیها البراءة. مثل هذه الأخبار لا تشملها أخبار التوقّف، وما نحن فیه من هذا القبیل، نحن نتکلّم عن شبهةٍ حکمیّةٍ تحریمیّةٍ بعد الفحص، لا قبله؛ لأنّ الاحتمال قبل الفحص یکون منجّزاً، وشبهة بدویّة غیر مقرونة بالعلم الإجمالی حتّی یکون العلم الإجمالی هو المنجّز للواقع فی مورد الشبهة، نتکلّم عن شبهةٍ من هذا القبیل، هذه لم نفرغ عن تنجّزها فی مرتبةٍ سابقةٍ، مثل هذه الشبهة لا تشملها هذه الأخبار.

ص: 81

وبعبارة أخری: أنّ الأمر بالتوقّف فی هذه الأخبار یتعیّن أنْ یکون أمراً إرشادیاً، ولا یُعقل أنْ یکون مولویاً منجِّزاً للواقع فی مورد الشبهة؛ لأنّ هذه الأخبار افترضت التنجیز فی مرحلةٍ سابقةٍ علیها، فکیف یُعقل أنْ یکون الأمر بالتوقّف فیها أمراً مولویاً تترتّب علیه المنجّزیّة کما هو شأن الأوامر المولویّة ؟ الأوامر المولویّة تترتّب علیها المنجزیّة، ویترتّب علیها استحقاق العقاب علی المخالفة، یأتی الأمر المولوی فیترتّب علیه التنجیز الواقع، واستحقاق العقاب علی المخالفة، بینما هذه الأخبار فرضت التنجیز فی مرحلةٍ سابقةٍ، فکیف تقول أنّه أمر مولوی ؟ المأخوذ فی الأمر المولوی هو أنّ التنجیز واستحقاق العقاب علی المخالفة هو فی طول ذلک الأمر المولوی، بینما هذه الأخبار فرضت التنجیز، واستحقاق العقاب والهلکة علی المخالفة فی مرحلةٍ سابقةٍ علیها، فلا یُعقل أنْ تکون هذه الأوامر أوامر مولویّة ویتعیّن حملها علی أنّها مجرّد إرشاد، والأوامر الإرشادیة کما نعلم هی لیست أوامر فی الحقیقة، وإنّما هی أخبار، ونُصْح، ولا یترتّب علیها أیّ إلزام سوی الإلزام الموجود فی نفس المُرشَد إلیه إذا کان بإلزام، وإذا لم یکن فیه إلزام، فلا یترتب علیه إلزام، فهو مجرّد إرشاد إلی أنّ هذا منجّز علیک بمنجِّزٍ سابقٍ، فلا تُقدِم علیه ولا تقتحمه، إرشاد إلی لزوم التوقّف عقلاً عندما یثبت المنجّز فی مرحلةٍ سابقةٍ، فإذن: لا نستطیع أنْ نستدلّ بها علی وجوب الاحتیاط کما هو مدّعی الأخباریین؛ لأنّ معنی أننّا نستدلّ بها علی وجوب الاحتیاط هو أنّها أوامر مولویة یُستفاد منها وجوب الاحتیاط، (1) فإذا لم تکن أوامر مولویّة؛ فحینئذٍ لا یمکن أنْ نستدلّ بها علی وجوب الاحتیاط؛ لأنّها لیست أوامر مولویّة، وإنّما هی ترشد إلی لزوم التوقّف فی الشبهات المنجّزة بمنجّزٍ فی مرتبةٍ سابقةٍ علیها، ولیس فیها دلالة علی وجوب الاحتیاط فی شبهةٍ لم تتنجّز، وإنّما نرید کما هو مُدّعی الأخباریین أنْ نثبت التنجیز، واستحقاق العقاب علی المخالفة بنفس هذه الأخبار.

ص: 82


1- (1) طبعاً الأوامر المولویّة أعمّ من أنْ تکون نفسیة، أو طریقیّة، کل منهما أوامر مولویّة، فإذا دلّ دلیلٌ علی وجوب الاحتیاط فی الدماء، فهو أمر مولوی، لکنّه طریقی غرضه تنجیز الواقع.

صیاغة المناقشة بصیاغةٍ أخری

هذه المناقشة قد تُصاغ بصیاغةٍ أخری، لکن الروح واحدة، حیث هناک صیاغة أخری معروفة منقولة عنهم، وهی أنّ الأمر فی أخبار التوقّف لا یخلو إمّا أنْ یکون أمراً نفسیاً، أو أمراً طریقیاً، أو أمراً إرشادیاً.

أمّا الاحتمال الأوّل والذی هو أنْ یکون أمراً نفسیّاً، فهو مقطوع العدم؛ إذ لا نحتمل أنّ الأمر بالتوقّف هو أمر نفسی علی غرار الأمر بالصلاة والصوم، قطعاً لیس أمراً نفسیاً، وإنّما هو أمر ینظر به الواقع، هو ینجّز الواقع، یعنی طریق لتنجیز الواقع، وهناک فرق بین الأمر بالصلاة، فهو لیس طریقاً لشیء؛ بل هو أمر بالصلاة لوجود ملاکٍ قائمٍ فی نفس الصلاة، بینما الأمر بالاحتیاط لیس لوجود ملاکٍ قائمٍ فیه، وإنّما لغرض إدراک الواقع، فهو أمر طریقی.

کما أنّه ------ أی الأمر فی أخبار التوقّف ------ لیس أمراً مولویاً طریقیّاً؛ للنکتة المتقدّمة المذکورة فی البیان السابق؛ إذ لا یُعقل أنْ یکون أمراً مولویّاً أصلاً، حتّی لو کان طریقیاً؛ لأنّ الأمر المولوی من شأنه أنْ تکون المنجّزیّة واستحقاق العقاب فی طوله، بینما هذه الأخبار ظاهرة فی أنّ الأمر بالتوقّف هو فی طول المنجزیة، الأمر بالتوقّف هو معلول للمنجّزیة المفروضة فی مرتبةٍ سابقةٍ. إذن: لا یُعقل أنْ یکون الأمر بالتوقّف أمراً طریقیاً مولویاً؛ لأنّ الأمر الطریقی المولوی تترتّب علیه المنجّزیّة، لا أنّه یترتب علی فرض التنجیز فی مرتبةٍ سابقةٍ کما هو ظاهر هذه الأخبار، فیتعیّن أنْ یکون الأمر بالتوقّف أمراً إرشادیاً، وکونه أمراً إرشادیاً یعنی أنّه إرشاد إلی لزوم التوقّف والنهی عن اقتحام الشبهة المنجّزة فی مرتبةٍ سابقةٍ، ومثل هذا اللّسان لا یشمل محل الکلام، وإنّما یشمل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، أی المنجّزة، یشمل الشبهات قبل الفحص؛ لأنّها تنجّزت بمنجّزٍ سابقٍ، ولا یشمل محل الکلام ممّا لم یُفرض فیه التنجیز فی مرتبةٍ سابقةٍ، فلا یصحّ الاستدلال بها فی محل الکلام.

ص: 83

من الواضح أنّ هذه المناقشة تفترق عن المناقشتین السابقتین فی شیءٍ وهو أنّ کلاً من المناقشتین السابقتین تفترض، أو تعترف ضمناً بأنّ أخبار التوقّف تشمل محل الکلام، بإطلاقها، أو بعمومها تشمل محل الکلام، یعنی تشمل الشبهة البدویّة التحریمیّة بعد الفحص، لکنّ المناقشة الأولی تدّعی أنّها خارجة عنها بالحکومة، والمناقشة الثانیة تدّعی أنّها خارجة عنها بالتخصیص، لکنّ أساساً هی تعترف بأنّ أخبار التوقّف شاملة بإطلاقها لمحل الکلام، لکنّها خارجة عنها بالحکومة، أو بالتخصیص، بینما المناقشة الثالثة أساساً لا تعترف بشمول أخبار التوقّف لمحل الکلام، وإنّما هی تشمل خصوص الشبهات المنجّزة فی مرتبةٍ سابقةٍ علی أخبار التوقّف، وبقطع النظر عنها، فهی لا تشمل محل الکلام؛ لأننّا فی محل الکلام لم نفترض التنجیز، ثمّ نأتی إلی أخبار التوقّف.

المناقشة الثالثة هی المناقشة المهمّة فی الحقیقة للاستدلال بأخبار التوقّف؛ ولذا صار هناک نوع من العنایة بها.

أجیب عن هذه المناقشة بعدّة أجوبة:

الجواب الأوّل: هو ما فی الکفایة. حیث أجاب الشیخ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) عن هذه المناقشة بأننّا نستکشف من الأمر بالوقوف فی هذه الأخبار بنحو الإن، یعنی استکشاف العلّة من المعلول، والملزوم من الّلازم، نستکشف إیجاب الاحتیاط من قبل أخبار التوقّف، وبقطع النظر عنها، لتصحّ به العقوبة علی المخالفة؛ لأنّ العقوبة علی المخالفة لیست من أخبار التوقّف، وإنّما علی مخالفة ما استکشفناه من أخبار التوقّف من إیجاب الاحتیاط، فیکون ما استکشفناه، وهو وجوب الاحتیاط هو المنجّز لهذه الشبهة، وهو المصححّ للعقوبة والهلکة علی تقدیر المخالفة. (1)

هذا الکلام یحتاج إلی شیءٍ من التوضیح: إنّ مقصوده بهذا الکلام کما فُسّر فی کلماتهم هو: أنّ هناک أمرین مستفادین من أخبار التوقّف:

ص: 84


1- (2) کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 346.

الأمر الأوّل: هو إطلاق أخبار التوقّف لمحل الکلام، بمعنی أنّ أخبار التوقّف بإطلاقها هی شاملة للشبهة، فتشمل الشبهة فی محل الکلام، قبل أنْ نُعمل هذا التفسیر حتّی نخرج الشبهة فی محل الکلام عن هذه الأخبار هی بإطلاقها تشمله.

الأمر الثانی: ثبوت مظنّة الهلکة فی موارد الشبهة، وأنّ الاقتحام فی کل شبهةٍ هو اقتحام فی الهلکة، أو ما فیه مظنّة الهلکة. إذن: أخبار التوقّف تقول: إنّ کل شبهةٍ فیها مظنّة الهلکة، وأنّ الاقتحام فیها هو اقتحام فی ما فیه مظنّة الهلکة، وأنّ أخبار التوقّف بإطلاقها تشمل الشبهة البدویّة بعد الفحص التی هی محل کلامنا، فإذا شملتها بإطلاقها، إذن: هی تدل علی أنّه حتّی شبهتنا فی محل الکلام الاقتحام فیها اقتحام فی ما فیه مظنّة الهلکة، من قبیل أنْ یقول(لا تأکل الرمّان لأنّه حامض) هذا مطلق یشمل کلّ رمّان، ویدلّ علی أنّ هذه العلّة، وهی الحموضة موجودة فی کل فردٍ من أفراد الرمّان، بقطع النظر عن أننّا نعلم فی الخارج بوجود رمّان لیس حامضاً، ظاهر الدلیل أنّ هذا یشمل کل الرمّان، وأنّ العلّة موجودة فی کل أفراد الرمّان، ما نحن فیه من هذا القبیل، الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة، الشبهة مطلقة، وتشمل محل الکلام، وأخبار التوقّف تدلّ علی وجود العلّة فی کلّ شبهةٍ، والعلّة هی مظنّة الهلکة، واحتمال الهلکة. إذن: الشبهة فی محل کلامنا، أیضاً الاقتحام فیها هو اقتحام فی ما فیه مظنّة الهلکة کسائر الشبهات الأخری.

إذا استفدنا هذا فی محل کلامنا، فسوف نستکشف من وجود الهلکة فی اقتحام هذه الشبهة أنّ الشارع جعل وجوب الاحتیاط فیها، وإلاّ، کیف یمکن تصحیح الهلاک واستحقاق العقاب علی تقدیر المخالفة ؟ وکیف یمکن إثبات أنّ الاقتحام فی هذه الشبهة اقتحامٌ فی ما فیه الهلاک، لو لم تتنجّز هذه الشبهة بمنجّزٍ فی مرحلةٍ سابقةٍ علی هذه الأخبار ؟ غایة الأمر أننّا نستکشف وجوب الاحتیاط المجعول شرعاً من ما دلّت علیه أخبار التوقّف من أنّه فی شبهتنا أیضاً بالإطلاق یوجد هلاک، من باب استکشاف العلّة من المعلول؛ لأنّ الهلاک واستحقاق العقاب معلول للتنجیز، فإذا دلّ دلیل علی ثبوت المعلول نستکشف بطریق الإنْ أنّ العلّة موجودة، والعلّة هی إیجاب الاحتیاط؛ لأنّه فی شبهتنا لا یوجد ما یُنجّز هذه الشبهة سوی إیجاب الاحتیاط، فلو لم تکن هذه الشبهة منجّزة، فلا مجال لاستحقاق العقاب علی تقدیر المخالفة، مع عدم التنجیز تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فتؤمّن من ناحیة العقاب والهلاک، بینما هذه الأخبار تقول یوجد هلاک فی اقتحام هذه الشبهة، وهذا لا یُعقل أنْ یکون إلاّ مع افتراض وجود علّة موجبة لهذا، وهی عبارة عن التنجیز، فمن المعلول نستکشف العلّة وهی التنجیز، من اللازم وهو الهلاک والعقاب نستکشف الملزوم الذی هو عبارة عن التنجیز، والتنجیز لا یُتصوّر فی شبهةٍ من هذا القبیل، إلاّ بإیجاب الاحتیاط، فیُستکشَف أنّ الشارع جعل وجوب الاحتیاط فی محل کلامنا من أخبار التوقّف.

ص: 85

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

الکلام فی أدلّة التوقّف والاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام، والمقصود بمحل الکلام هو الشبهة الحکمیّة البدویّة بعد الفحص، وقد بیّنّا تقریب الاستدلال علی وجوب الاحتیاط فی هذه الروایات، ثمّ ذکرنا المناقشات والاعتراضات التی ذُکرت علی الاستدلال بها فی محل الکلام، وتقدّمت المناقشات الأولی والثانیة والثالثة، والمناقشة الثالثة کانت ترتکز علی هذه الدعوی المعروفة والمشهورة وهی عمدة المناقشات، وحاصلها: أنّ الذی یظهر من أخبار التوقّف هو افتراض وجود هلکة فی الاقتحام لتلک الشبهة، وهذا یعنی أنّ تلک الشبهة التی تتحدّث عنها الروایة، وتأمر بالتوقّف فیها، هی شبهة منجّزة بمنجّزٍ ثابتٍ بقطع النظر عن أخبار التوقّف؛ لأنّ أخبار التوقّف لا تصلح أنْ تکون هی المنجّزة کما هو مقتضی الاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط، فمقتضی الاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط هو أنْ یکون وجوب الاحتیاط منجَّزاً بسببها، فتکون هی المنجِّزة لوجوب الاحتیاط بلحاظ الواقع، بینما لسان الأخبار هو أنّ الشبهة تنجّزت بمنجِّزٍ سابقٍ، هو یقول أنّ الشبهة التی تُقدِم علیها فیها مظنّة الهلکة، فتوقّف، فلابدّ من حمل الأمر بالتوقّف فی هذه الروایات علی الإرشاد لا علی المولویّة، فتسقط عن إمکانیّة الاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام، وإنّما تکون ناظرة إلی الشبهات المنجَّزة بقطع النظر عنها؛ ولذا حملوها علی الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، والشبهة قبل الفحص، فهناک العقل یحکم بمنجّزیّة الاحتمال فی هاتین الشبهتین.

ذکرنا فی الدرس السابق أنّ هناک اعتراضات علی هذه المناقشة. الاعتراض الأوّل الذی أشار إلیه الشیخ الآخوند(قدّس سرّه) فی الکفایة، (1) لا أقول أنّه التزم به، لکنّه أشار إلیه، وحاصله: أننّا نسلّم أنّ الأمر إرشادی، لکن یمکن مع ذلک إثبات وجوب الاحتیاط عن طریق استکشافه أنّیّاً، أی عن طریق استکشاف العلّة من المعلول، بأنْ نسلّم أموراً:

ص: 86


1- (1) کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 346.

الأمر الأوّل: أنّ أخبار التوقّف فیها من الإطلاق ما یسع محل الکلام؛ إذ لا موجب لقصر النظر علی بعض الشبهات دون بعض. إذن: هی بإطلاقها شاملة لمحل الکلام.

الأمر الثانی: أنّ المراد بالهلکة فیها هو العقاب الأخروی، ولیس المفسدة وأمثالها من الأضرار الدنیویّة.

الأمر الثالث: أنّ ظاهر الروایات هو وجود مظنّة الهلکة فعلاً فی الشبهات التی تتحدّث عنها هذه الروایات.

ونتیجة هذا کلّه: أنّ اقتحام الشبهة فی محل الکلام فیه مظنّة الهلکة؛ لأنّ الروایات مطلقة تشمل محل الکلام، والمراد بالهلکة هو العقاب، والروایة تدلّ علی وجود فعلیّة مظنّة الهلکة عند اقتحام الشبهات التی تتحدّث عنها هذه الروایات. إذن: فی شبهتنا فی محل الکلام، هذه الروایات تقول فی اقتحامها مظنّة الهلکة، ولا یُعقل أنْ تکون هناک هلکة وعقاب أخروی، إلاّ إذا کان هناک ما یُنجِّز الواقع فی هذه الشبهة؛ لأنّ الهلکة والعقاب معلول لکون الواقع منجَّز علی المکلّف؛ ولذا یُحاسَب علی فوات الواقع، فإذا أقدم علی الشبهة وصادف الواقع؛ فحینئذٍ یکون هناک هلاک وعقاب، فعندما یقتحم المکلّف الشبهة هناک مظنّة الهلاک، وهذا معلولٌ لتنجیز الواقع، وتنجیز الواقع فی الشبهة محل الکلام یحصل بإیجاب الاحتیاط، فیکون إیجاب الاحتیاط المنجّز للواقع فی محل الکلام علّة لترتّب مظنّة الهلکة علی ارتکاب هذه الشبهة. ونحن أثبتنا أنّ اقتحام الشبهة فیه مظنّة الهلکة، والذی هو معلول، ومنه نستکشف وجود العلّة التی هی أنّ الشارع أوجب الاحتیاط فی هذه الشبهة. وهو المطلوب؛ وعندئذٍ لا یتوقّف إیجاب الاحتیاط علی أنْ یکون الأمر بالتوقّف فی هذه الروایات مولویاً حتّی یقال أنّ هذا الأمر لیس مولویاً، ولسانه لسان الإرشاد ولیس فیه مولویة، فکیف یمکن أنْ نستدلّ به علی إیجاب الاحتیاط ؟ حتّی لو سلّمنا أنّ الأمر إرشادی، هذا لا یمنع من إثبات إیجاب الاحتیاط عن طریق هذا الاستکشاف لا عن طریق التمسّک بنفس الأمر لإثبات وجوب الاحتیاط، فحتّی لو کانت الأوامر إرشادیة، لکن بهذا البیان الذی ذُکر یمکن استکشاف إیجاب الاحتیاط فی محل الکلام؛ فحینئذٍ ترتفع المناقشة فی الاستدلال بهذه الروایات علی وجوب الاحتیاط.

ص: 87

هذا الجواب فی حدِّ نفسه یصلح أنْ یکون تقریباً ثانیاً للاستدلال بروایات التوقّف علی وجوب الاحتیاط، بأنْ یکون ما تقدّم هو التقریب الأوّل، وهو أنْ یُستدَل بأوامر التوقّف فی هذه الروایات بناءً علی أنّها أوامر مولویة یُستدَل بها علی وجوب الاحتیاط؛ لأنّها هی تأمر بالتوقّف، فتکون منشئاً لوجوب الاحتیاط. هذا التقریب الأوّل الذی وردت فیه المناقشة المتقدّمة، وهذا تقریب ثانٍ للاستدلال بهذه الروایات، بأنْ یقول الأخباریون فی مقام الاستدلال بها: نحن لا نقول بأن الأمر فیها مولویاً، وإنّما الأمر فیها للإرشاد، لکن بهذا البیان یمکن إثبات إیجاب الاحتیاط والاستدلال بها علی إیجاب الاحتیاط. إذن: کما أنّه جواب عن المناقشة الثالثة، کذلک یصلح أنْ یکون استدلالاً آخراً علی وجوب الاحتیاط بأخبار التوقّف . هذا الجواب الأوّل عن المناقشة الثالثة، وهو ما ذکره صاحب الکفایة(قُدّس سرّه).

الجواب الثانی: هو ما ذکره المحققّ الأصفهانی(قُدّس سرّه) فی حاشیته علی الکفایة (1) لردّ المناقشة الثالثة، وبالتالی هذا یصبّ فی صالح الأخباریین، وفی صالح صحّة الاستدلال بهذه الروایات علی وجوب الاحتیاط. حاصل ما ذکره هو: استکشاف الأمر بوجوب الاحتیاط، أو ما یسمّیه ب--(الأمر الطریقی بالاحتیاط) من الأمر بالتوقّف المعللّ بأنّه خیر من الاقتحام فی الهلکة، وذلک بأنْ یکون أمر المخاطبین بالتوقّف فی هذه الأخبار کاشفاً عن وصول الأمر الطریقی بالاحتیاط إلیهم؛ لأنّ هذه الأخبار تأمر المخاطَبین بالتوقّف عند الشبهة، وهذا معناه أنّ الأمر بالاحتیاط واصل إلیهم؛ لأنّ الأمر بالتوقّف یکشف عن فعلیّة الهلکة فی حقّهم، وبالدلالة الالتزامیّة نستکشف علّة هذه الهلکة، وهو وصول الأمر الطریقی بالاحتیاط إلیهم، ولا محذور فی افتراض وصول الأمر بالاحتیاط إلی المخاطَبین؛ وحینئذٍ بمقتضی قاعدة الاشتراک ------ الکلام لا یزال للمحقق الأصفهانی ------ مع المخاطَبین فی التکلیف، یعنی غیر المخاطبین یشترکون مع المخاطبین فی التکالیف، نستکشف الأمر الطریقی بالاحتیاط فی حقّ غیرهم بقاعدة الاشتراک؛ لعدم احتمال الفرق فی وجوب الاحتیاط فی الشبهات البدویّة بین أفراد المکلّفین، فلو ثبت تکلیفٌ، ولو کان ظاهریّاً فی حقّ فئةٍ من المکلّفین، فقاعدة الاشتراک تعممّ هذا التکلیف إلی غیرهم. فی المقام یقول(قُدّس سرّه) لا محذور فی أنْ نستکشف وصول وجوب الاحتیاط إلی المخاطبین بهذه الخطابات الشرعیة، بأوامر التوقّف فی أخبار التوقّف، هؤلاء المخاطبون، قیل لهم یجب علیکم التوقّف فی هذه الشبهة؛ لأنّ فیها اقتحام الهلکة. إذن: فُرض وجود هلکة، والهلکة معلولة لوجوب الاحتیاط، فکیف قیل لهم أنّ هذه الشبهة منجّزة، وفیها هلکة، ولم یصل إلیهم التنجیز ؟ فلابدّ من فرض وصول المنجّز، أی وصول وجوب الاحتیاط إلیهم حتّی یُعقل مخاطبتهم بهذا الخطاب، بأنْ یُقال لهم قف عند هذه الشبهة؛ لأنّ الاقتحام فیها هو اقتحام فی الهلکة، وهذا لا یمکن فرضه، إلاّ بفرض وصول وجوب الاحتیاط إلیهم، ووصول المنجِّز لهذه الشبهة إلیهم، فیقول لا مانع من فرض وصول المنجِّز إلی المخاطبین، فإذا فُرض وصول وجوب الاحتیاط إلیهم، وکان حکمهم الظاهری هو وجوب الاحتیاط فی هذه الشبهة؛ فحینئذٍ یثبت هذا الحکم فی حقّ غیرهم بقاعدة الاشتراک. وبذلک استطعنا أنْ نستکشف وجوب الاحتیاط فی حقّ جمیع المکلّفین بضمیمة أخبار التوقّف إلی قاعدة الاشتراک.

ص: 88


1- (2) نهایة الدرایة فی شرح الکفایة، الشیخ الأصفهانی، ج 2، ص 476.

هذا الجواب أیضاً یصلح أنْ یکون تقریباً ثالثاً للاستدلال بأخبار التوقّف علی وجوب الاحتیاط فی حقّ الجمیع. التقریب الأوّل کان مبنیّاً علی أنّ الأمر مولوی، والتقریب الثانی کان مبنیّاً علی أنّ الأمر إرشادی، لکن یُستکشف وجوب الاحتیاط من باب استکشاف العلّة من المعلول، وفی هذا التقریب الثالث نفترض أنّ وجوب الاحتیاط وصل إلی المخاطَبین بأوامر التوقّف، ثمّ نثبته فی حقّ الغیر بقاعدة الاشتراک.

الظاهر أنّ هذا الجواب الثالث إنّما طرحه المحققّ الأصفهانی(قُدّس سرّه) کجوابٍ عن المناقشة الثالثة، ونحن قلنا أنّه یصلح کتقریبٍ لأصل الاستدلال بأخبار التوقّف، إنّما طرحه هو یهدف إلی دفع إشکالٍ مقدّرٍ، وإیرادٍ قد یورد علی الجواب الأوّل لصاحب الکفایة(قُدّس سرّه)، وحاصل هذا الإشکال الذی یرِد هو أنّ الأمر الطریقی بالاحتیاط، إنّما یُنجِّز الواقع علی المکلّف بحیث یوصله إلی مرحلة استحقاق العقاب علی تقدیر المخالفة، إنّما یُنجِّز بوجوده الواصل لا بوجوده الواقعی، فبوجوده الواقعی لا یصلح للتنجیز بناءً علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فبناءً علی هذه القاعدة، وجوب الاحتیاط لا یُنجّز الواقع إلاّ بوجوده الواصل الذی تمّ علیه البیان حتّی یخرج من موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، أمّا بوجوده الواقعی فلا یکون منجِّزاً؛ وحینئذٍ یقال: إنْ فُرض وصول وجوب الاحتیاط إلی المکلّف بقطع النظر عن هذه الأخبار؛ حینئذٍ یکون هو المثبت للمطلوب، لا أخبار التوقّف، إذا فرضنا أنّ وجوب الاحتیاط هو الذی وصل إلی المکلّف؛ حینئذٍ یثبت المطلوب للأخباریین بلا حاجة إلی الاستعانة بأخبار التوقّف؛ لأنّ وجوب الاحتیاط فُرض وصوله إلی المکلّف، فیکون هو الذی یثبت المطلوب لا أخبار التوقّف، ولا أثر لهذه الأخبار فی ذلک. وإنْ فُرض عدم وصوله إلی المکلّف؛ حینئذٍ لا یمکن استکشاف الهلکة ووجوب الاحتیاط، وبالتالی الانتقال من المعلول إلی العلّة وهو وجوب الاحتیاط؛ لأنّ العقل حاکم بعدم الهلکة والعقاب فی ظرف عدم وصول المنجِّز الذی هو وجوب الاحتیاط، فالمکلّف یقطع بعدم الهلکة، فکیف یُعقل أنْ یقال أنّ الهلکة موجودة، ومن المعلول نستکشف العلّة کما ذکر صاحب الکفایة(قُدّس سرّه).

ص: 89

هذا الإشکال الذی یرید المحقق الأصفهانی(قُدّس سرّه) دفعه عن الجواب الأوّل. حیث أنّ صاحب الکفایة(قُدّس سرّه) کان یقول فی الجواب الأوّل: حتّی لو سلّمنا أنّ الأوامر بالتوقّف إرشادیة، نحن لا نرید أنْ نثبت وجوب الاحتیاط من الأمر بالتوقّف باعتباره أمراً مولویاً، وإنّما نسلّم أنّها أوامر إرشادیة، لکن الأخبار ظاهرة فی وجود هلکة فی الاقتحام فی هذه الشبهة بحسب الإطلاق. إذن: هذه شبهة فی اقتحامها هلکة، والهلکة معلولة للمنجِّز الذی هو وجوب الاحتیاط، فنستکشف العلّة من المعلول. هذا هو الجواب الأوّل. والإشکال کان یقول: لا یُعقل أنْ یکون وجوب الاحتیاط بوجوده الواقعی هو المنجّز، وإنّما المعقول هو أنْ یکون وجوب الاحتیاط بوجود الواصل منجّزاً؛ وحینئذٍ: إمّا أنْ نفترض وصول وجوب الاحتیاط إلی المکلّف، أو نفترض عدم وصوله، فإذا افترضنا وصول وجوب الاحتیاط إلی المکلّف؛ فحینئذٍ تتنجّز الشبهة ویجب الاحتیاط فیها بلا إشکال، لکنّ الدلیل علی ذلک لیس هو أخبار التوقّف، وإنّما الدلیل علی ذلک هو وجوب الاحتیاط الّذی فُرض وصوله إلی المکلّف، فأنّه هو الذی یُنجّز الشبهة، أمّا أخبار التوقّف فلا تأثیر لها. وأمّا إذا فرضنا عدم وصول وجوب الاحتیاط؛ فحینئذٍ بمسلک قبح العقاب بلا بیان یُقطع بعدم الهلکة فی ارتکاب هذه الشبهة؛ لعدم تمام البیان علی ما یستوجب العقاب، فیکون العقاب مؤمّناً، ویُقطع بعدم الهلکة، ومع القطع بعدم الهلکة فی الشبهة محل الکلام لعدم وصول البیان علی وجوب الاحتیاط بحسب الفرض؛ حینئذٍ لا مجال لأنْ یقال نحن نستکشف من وجود الهلکة العلّة وهی وجوب الاحتیاط؛ لأنّه لیس هناک هلکة، فکیف تستکشف وجود الهلکة، ثمّ تنتقل منها إلی العلّة، بینما بناءً علی عدم وصول وجوب الاحتیاط إلی المکلّف، حینئذٍ لا هلکة، ولا عقاب فی اقتحام الشبهة؛ بل یُقطع بعدم العقاب فی اقتحام الشبهة. فلا معنی لأنْ نستکشف وجوب الاحتیاط من الهلکة. هذا الإشکال علی الجواب الأوّل.

ص: 90

کأنّ المحقق الأصفهانی(قُدّس سرّه) ناظر إلی دفع هذا الإشکال، فیرید أنْ یُقرّب الجواب الأوّل تقریباً بحیث یدفع عنه هذا الإشکال، وحاصل ما یرید أنْ یقوله فی مقام التخلّص من هذا الإشکال هو: أنْ یفترض أنّ من وصل إلیه وجوب الاحتیاط غیر من یرید استکشاف وجوب الاحتیاط من أخبار التوقّف، الذی وصل إلیه وجوب الاحتیاط هو المخاطَب بأخبار التوقّف، والذی یرید استکشاف ذلک هو غیر المخاطَب بالبیان الذی ذکرناه، باعتبار أنّ المخاطبین بأخبار التوقّف یجب علیهم الاحتیاط لوصول وجوب الاحتیاط إلیهم، وهو ما ذکره بقوله لا محذور فی أنْ نفترض أنّ وجوب الاحتیاط وصل إلی المخاطَبین بأخبار التوقّف، والموجودین فی زمان صدور هذه الأخبار الذین یوجّه لهم خطاب(قف عند الشبهة)، وغیر المخاطَب بهذا الخطاب یجب علیهم الاحتیاط لاستکشاف الأمر الطریقی من أخبار التوقّف بضمیمة قاعدة الاشتراک؛ فحینئذٍ لا یرِد الإشکال السابق.

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

الکلام فی المناقشة الثالثة فی الاستدلال بأخبار التوقّف والأجوبة التی أوردت علی هذه المناقشة، ذکرنا الجواب الأوّل والجواب الثانی. وقد ذکرنا أنّ الجواب الثانی منهما هو محاولة لتصحیح الجواب الأوّل ودفع ما یمکن أنْ یورد علیه.

والذی یُلاحظ علی الجواب الأوّل، والذی یقول فیه صاحبه بأنّه یمکن استکشاف وجوب الاحتیاط فی محل الکلام، وإنْ کان الأمر بالتوقّف أمراً إرشادیاً، وذلک عن طریق استکشاف العلّة من المعلول؛ لأنّ الروایات تشمل محل الکلام بإطلاقها، وتدلّ علی وجود الهلکة فی الاقتحام فی الشبهة فی محل الکلام، ووجود الهلکة معلولٌ لوجوب الاحتیاط، فنستکشف وجوب الاحتیاط بالرغم من أنّ الأمر الوارد فی هذه الروایات هو أمر إرشادی.

ص: 91

الملاحظة علی هذا الجواب: أنّ المشکلة فی الحقیقة تکمن فی أنّه کیف یمکن تصوّر اجتماع أمر إرشادی مع أمرٍ مولویٍ فی کلامٍ واحدٍ، المشکلة لیست فی أنّه هل یمکن أنْ یستکشَف هذا، أو لا، وإنّما المشکلة إثباتیة فی أنّه لا یمکن افتراض اجتماع الأمر الإرشادی والأمر المولوی فی کلامٍ واحدٍ، هذا غیر مقبول. نعم، یمکن تصوّر ذلک فی کلامین، ولو لشخصٍ واحد، أنّ الشارع یرشد بأوامر إلی إطاعة أوامر مولویّة قیلت فی مقامٍ آخرٍ، فهو یرشد إلی تلک الأوامر، ویُحذّر من مخالفة تلک الأوامر المولویّة. هذا لا بأس به، أمّا فی کلامٍ واحد، فهذا غیر مقبول، بمعنی أنّ الأمر الإرشادی فی الکلام الواحد یرشد ویحذّر من مخالفة الأمر المولوی فی نفس ذلک الکلام الواحد، هذا غیر مستساغ. الجواب الأوّل یقع فیه هذا المحذور؛ لأنّ الجواب الأوّل یقرّ ویعترف بأنّ الأمر بالتوقّف هو أمر إرشادی، والجواب الأوّل مبنی علی تسلیم أنّ الأمر بالتوقّف هو أمر إرشادی، ویدّعی فی نفس الوقت أنّ التعلیل بأنّ (الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة) یُستکشَف منه الأمر المولوی الطریقی بالاحتیاط، بحیث یکون هذا التعلیل هو بیانٌ بنحوٍ من الانحاء لوجوب الاحتیاط المولوی، یعنی أنّ الشارع بدلاً من أنْ یأمر بالاحتیاط مباشرةً، یُبیّن وجوب الاحتیاط بذکر لازمه، وهو العقوبة علی المخالفة، کما هو الحال فی الواجبات النفسیّة، فکأنّه یرید أنْ یُبیّن وجوب الاحتیاط المولوی لکن بذکر لازمه، هذا هو مدّعی الجواب الأوّل، وهذا معناه أنّ الکلام الواحد اجتمع فیه الأمر المولوی والأمر الإرشادی، یعنی أوامر التوقّف ترشد إلی أوامر مولویة موجودة فی نفس الکلام، هذا الذی یُتوقّف فی قبوله، وحمل الروایات علیه قد یجعلها مخالفة للظاهر، هذا معقول فی کلامین لشخصین، أو لشخصٍ واحد، لکن فی نفس الکلام أنْ یکون الأمر الإرشادی فی کلامٍ واحدٍ صادرٍ من متکلّم واحد هو یُرشد إلی أمرٍ مولوی موجود فی نفس ذلک الکلام هو أمر غیر مستساغ.

ص: 92

وأمّا الجواب الثانی: فأنّه یُراد فیه حمل القضیّة علی أنّها قضیّة خارجیّة، وهذا خلاف الظاهر، فظاهر القضیّة أنّها قضیّة حقیقیّة ولیست خارجیّة، هو یرید أنْ یقول أنّ الخطاب فی أوامر التوقّف موجّه إلی المخاطَبین، ولا مانع من افتراض أنّ المخاطبین قد وصل إلیهم وجوب الاحتیاط، ثمّ نعممّ وجوب الاحتیاط لغیر المخاطبین بقاعدة الاشتراک، فکأنّه یرید أنْ یقول أنّ القضیّة فی المقام قضیّة خارجیّة، والخطاب فیها موجّه إلی أشخاص مُعیّنین وهم المخاطبون بهذا الخطاب. حمل الروایات علی أنّها قضیّة خارجیّة، والخطاب فیها موجّه إلی خصوص المخاطَبین بها هو خلاف الظاهر؛ لأنّ ظاهر الأخبار أنّها قضایا حقیقیّة، والخطاب فیها لا یختصّ بخصوص المخاطَبین.

الجواب الثالث علی المناقشة الثالثة: ما ذکره السیّد الشهید الصدر(قُدّس سرّه) (1) وحاصله: أنّ أصل المناقشة غیر تامّة لا مبنی، ولا بناءً:

أمّا من جهة المبنی؛ فلأنّ أصل المناقشة تبتنی علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، باعتبار أنّ أخبار التوقّف یُدّعی فی المناقشة أنّها ظاهرة فی وجود الهلکة فی مرتبةٍ سابقةٍ علی نفس الأخبار وبقطع النظر عنها، فلابدّ من حملها علی الشبهات المنجَّزة فی مرتبةٍ سابقةٍ مثل الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، والشبهة قبل الفحص، ولا تشمل محل الکلام؛ لأنّ الشبهة فی محل الکلام لیست منجَّزة بقطع النظر عن أخبار التوقّف؛ لأنّ الشبهة بعد الفحص تجری فیها قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وبهذا استطاع فی المناقشة أنْ یُخرج محل الکلام عن أخبار التوقّف، فلا یصحّ الاستدلال بأخبار التوقّف علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام.

ص: 93


1- (1) بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 93.

وأمّا بناءً علی المسلک الآخر الذی یُنکر قاعدة قبح العقاب بلا بیان، ویؤمن بمسلک حقّ الطاعة، ومنجّزیّة الاحتمال، الذی یؤمن بذلک کقاعدة عقلیّة أولیّة هذه المناقشة لا تصحّ؛ إذ لا فرق بین الشبهة بعد الفحص التی هی محل الکلام، وبین الشبهة قبل الفحص، وبین الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی فی أنّ المنجِّز العقلی موجود فیها جمیعاً، هذه الشبهة ولو بعد الفحص منجَّزة بحکم العقل بمنجّزیّة الاحتمال، حیث أنّ احتمال التکلیف موجود، والعقل یحکم بأنّه منجِّز بقطع النظر عن هذه الأخبار. إذن: لا فرق بین محل الکلام وبین سائر الشبهات بناءً علی مسلک حقّ الطاعة فی أنّ الواقع تنجَّز علی المکلّف بقطع النظر عن هذه الأخبار، فلا معنی لحمل هذه الأخبار علی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، أو الشبهة قبل الفحص وإخراج محل الکلام عنها، وإنّما یصحّ هذا عندما نؤمن بمسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

وأمّا من جهة البناء؛ فلأنّا لو تنزّلنا وسلّمنا قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وبنینا علی ذلک، بالرغم من هذا یمکن أنْ نستفید من هذه الأخبار وجوب الاحتیاط، باعتبار أنّ هذا الکلام هو بیان عرفی مألوف لبیان الحکم المولوی الإلزامی، یعنی بیان الحکم الإلزامی بلسان بیان ترتّب العقاب علی الفعل، أو الترک، ومثله رائج (1) فی مقام بیان الأحکام الواقعیّة، یُبیّن الحکم الواقعی بلسان ترتّب العقاب عل الفعل، فیُستفاد منه الحرمة الواقعیّة، أو یبیّن الوجوب الواقعی بلسان ترتّب العقاب علی الترک، وأیّ فرقٍ بین الأحکام الواقعیّة والأحکام الظاهریّة، کما أنّ الحرمة الواقعیّة یمکن أنْ تُبیّن بلسان ترتّب العقاب علی الفعل، الحرمة الظاهریة أیضاً یمکن أنْ تُبیّن بلسان ترتّب الهلکة والعقاب علی الاقتحام فی الشبهة، یُبین وجوب الاحتیاط بلسان ترتّب الهلکة علی الإقدام علی الفعل، فالتوقّف واجب، والاحتیاط واجب، وهذا لسان عرفی ومتعارف ولیس فیه مشکلة، فإذن: یمکن أنْ نستکشف وجوب الاحتیاط من هذا اللّسان، باعتبار أنّ هذا اللّسان لسان أنّ الاقتحام فی الشبهة فیه مظنّة للهلاک، هذا اللّسان لغرض بیان الحکم الظاهری لوجوب الاحتیاط، وهذا لسان متعارف، فلا مشکلة فی أنْ نستفید من أخبار التوقّف وجوب الاحتیاط فی محل الکلام.

ص: 94


1- (2) بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 94.

المشکلة فی هذا الجواب الثانی ----- البنائی ----- هی نفس المشکلة الإثباتیّة التی أشرنا إلیها، وهی أنّه لیست المشکلة فی أنّه هل یمکن أنْ یُبیّن الحکم الواقعی، أو الحکم الظاهری بلسان ترتّب العقاب علی المخالفة، أو لا یمکن ذلک، المشکلة لیست فی هذا حتّی یقال: أیّ ضیر فی أنْ یُبیّن وجوب الاحتیاط کحکم ظاهری بلسان أنّ الاقتحام فی الشبهة هو اقتحام فی الهلکة، هذا مُسلّم ولیس فیه مشکلة، فی الحقیقة المشکلة هی أنّه کیف نجمع بین الأمر بالتوقّف الذی سلّمنا أنّه أمر إرشادی وبین وجوب الاحتیاط المولوی المُستکشّف من التعلیل الوارد لتعلیل وجوب التوقّف الإرشادی، وقلنا أنّ هذا الجمع بینهما غیر مستساغ وغیر مقبول عرفاً، فحمل الروایات علی ذلک والاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط بدعوی استکشاف ذلک هو أمر غیر مستساغ عرفاً. نعم، یمکن أنْ یکون فی کلام آخر، أنْ یُبیّن بلسانٍ إرشادی(أنا أحذّرک من أنْ تفعل الأمر الفلانی من العقاب الذی یترتّب علی الفعل) نستکشف حرمة ذلک الفعل، لکن هذه الحرمة غیر مذکورة فی نفس الکلام، وإنّما مذکورة فی کلامٍ آخر، لکن المُدعی فی المقام أنّ هذه حرمة، أو وجوب ظاهری موجود فی نفس الکلام، وبُیّن بذکر لازمه. هذه هی المشکلة الموجودة فی هذا الجواب. هذا بالنسبة إلی المناقشة الثالثة، وممّا تقدّم یظهر أنّ المناقشة الثالثة فی الاستدلال بأخبار التوقّف تامّة.

المناقشة الرابعة: ما ذکره السیّد الشهید أیضاً(قُدّس سرّه) (1) وحاصله: أنّ المقابلة بین الوقوف والاقتحام فی أخبار التوقّف عند الشبهة(فأنّ الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة) جُعلت المقابلة بین الوقوف وبین الاقتحام. یقول: أنّ المقابلة بین الوقوف وبین الاقتحام فی هذه الروایات لا یُراد بها المقابلة بین اجتناب الشبهة وبین ارتکابها حتّی نستفید من الروایات أنّ الاجتناب واجب، وأنّ الارتکاب منهیٌ عنه، علی خلاف أدلّة البراءة، فهی تقول أنّ الارتکاب جائز ولیس علیه نهی، والاجتناب لیس واجباً، بینما هذه الأخبار تقول أنّ الارتکاب منهی عنه، والاجتناب لازم، المقابلة بینهما لا یُراد بها ذلک، وإنّما الوقوف له معنیً آخر غیر الاجتناب، کما أنّ الاقتحام له معنیً آخر غیر الارتکاب، والظاهر أنّ المراد بالمقابلة هو المقابلة بین التریّث والتمهّل فی موارد الشبهة، وبین الإقدام بلا تروٍ ولا تأمّل، باعتبار أنّ الوقوف لا یعنی الإحجام فقط، وإنّما هو کنایة عن التریّث والتمهّل ودراسة الوضع، والإعراض والإحجام عن الشیء لا یقتضی الوقوف، وإنّما یقتضی ترک الشیء والانصراف عنه، الوقوف یعنی أنّه فی حالة تمهّل وتریّث ودراسة حتّی یتّضح الموقف، کما أنّ الاقتحام هو عبارة عن الإقدام بلا تدبّرٍ ولا تروّی عرفاً ولغةً، فلا یُراد به مطلق الإقدام، وإنّما الإقدام من دون تروٍ وتمهّل؛ وعندئذٍ تکون هناک مقابلة بین الوقوف بمعنی التریّث والتأمّل ودراسة الموقف وبین الاقتحام الذی یعنی الإقدام من دون ذلک.

ص: 95


1- (3) بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 91.

إذن: بناءً علی هذا، الأخبار تنهی عن الإقدام من دون تریّثٍ، لا أنّها تنهی عن الإقدام مطلقاً، وتأمر بالوقوف بمعنی التریّث والتأمّل ودراسة الموقف. هذا المضمون ----- أنّ الإمام علیه السلام ینهی عن الإقدام علی الشبهة بلا تریّث، ویأمر بالتریّث والتروّی ------ إذا حملناه علی النهی عن الإقدام بلا مستندٍ ودلیلٍ، فقد یُفهم من النهی عن الاقتحام یعنی النهی عن الإقدام بلا مستندٍ ولا دلیلٍ، والأمر بالتریّث یعنی أنت تریّث وتأمّل وادرس الموقف إلی أنْ تحصل علی مستندٍ ودلیلٍ یجوّز لک الاقتحام فی الشبهة، إذا حُملا علی ذلک؛ فحینئذٍ هذا المعنی لا یضر الأصولی أصلاً، باعتبار أنّ هذا اللّسان لا یُعارض أدلّة البراءة العقلیّة؛ بل الشرعیّة أیضاً التی یستند إلیها الأصولی فی إقدامه علی الشبهة؛ بل تکون فی الحقیقة أخبار البراءة العقلیّة والشرعیّة واردة علی هذا اللّسان، ورافعة لموضوعه؛ لأنّ هذه الأخبار تنهی عن الإقدام من دون مستندٍ ولا دلیلٍ، وأخبار البراءة مستند، والبراءة العقلیّة أیضاً مستند ودلیل یستند إلیه الأصولی فی تجویز الإقدام علی هذه الشبهة، فتکون رافعة لموضوع هذه الأخبار؛ لأنّها إقدام مستند إلی دلیل؛ فحینئذٍ تکون مقدّمة علیها بالورود، وأمّا إذا لم نحمله علی هذ، وحملناه علی أنّ القضیّة حقیقیّة واقعیّة وجدانیّة بمفاد أنّه یأمر بالتروّی والتمهّل وینهی عن الإقدام من دون تروٍ وتأمّلٍ؛ فحینئذٍ تکون أجنبیّة عن محل الکلام؛ وحینئذٍ لا یُستفاد منها وجوب الاحتیاط فی محل الکلام.

نکتفی بهذه المناقشات؛ لأنّ هناک مناقشات أخری أعرضنا عن ذکرها، وتبیّن من خلال هذا أنّ الطائفة الأولی التی استدلّ بها الأخباریون علی وجوب الاحتیاط، وهی أخبار التوقّف غیر تامّة، علی الأقل لورود المناقشة الثالثة علیها، وهذه المناقشة الرابعة التی هی تامّة ظاهراً.

ص: 96

وأمّا الطائفة الثانیة من الأخبار التی استدلّ بها الأخباریون علی وجوب الاحتیاط: فهی الأخبار الآمرة بالاحتیاط فی موارد معیّنة بحیث یُفهم منها کما یدّعی المستدلّ وجوب الاحتیاط فی غیر مواردها ممّا یشبه ذلک المورد من حیث کونه شبهة حکمیّة بعد الفحص، فکما أوجب الإمام(علیه السلام) الاحتیاط فی هذه الروایات فی موردٍ خاصٍّ، هو یوجب أیضاً ------ بعد التعدّی ------ الاحتیاط فی سائر الشبهات الحکمیّة بعد الفحص، وهذا هو المطلوب للأخباریین. عمدة هذه الطائفة روایتان:

الروایة الأولی: صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج المعروفة، قال:(سألت أبا الحسن "علیه السلام" عن رجلین أصابا صیداً وهما محرمان، الجزاء بینهما، أو علی کل واحدٍ منهما جزاء ؟ فقال: لا؛ بل علیهما أنْ یجزی کل واحدٍ منهما الصید، قلت: أنّ بعض أصحابنا سألنی عن ذلک، فلم أدری ما علیه، فقال "علیه السلام" : إذا أصبتم بمثل هذا، فلم تدروا، فعلیکم بالاحتیاط حتّی تسألوا عنه وتعلموا). (1)

الاستدلال بالروایة مبنی علی أنْ تکون الإشارة فی قوله(علیه السلام):(إذا أصبتم بمثل هذا، فلم تدروا، فعلیکم بالاحتیاط) إلی نفس واقعة الصید التی هی شبهة حکمیّة بلا إشکال. وإنْ کانت دائرة بین الأقلّ والأکثر، فهو لا یدری أنّ الواجب علیه جزاء کامل، أو نصف جزاء، لکن کون المورد شبهة حکمیّة من نوعٍ معیّن لیس مشکلةً؛ إذ یمکن أنْ نلغی خصوصیّة کونه دائر بین الأقلّ والأکثر، ونستعین علی إلغائه بقول الإمام(علیه السلام) (إذا اُصبتم بمثل هذا)، ولم یقل (إذا اُصبتم بهذا)، فجعل موضوع وجوب الاحتیاط هو(مثل هذا)، ولیس(هذا) أی نفس الواقعة، وهذا یسمح لنا أنْ نلغی واقعة الصید نفسها، وأنْ نتعدّی إلی کل الشبهات الحکمیّة، ونلغی خصوصیّة أنْ تکون الشبهة دائرة بین الأقلّ والأکثر، المثلیّة بین واقعة الصید الدائرة بین الأقل والأکثر وبین غیرها ممّا أوجب الإمام(علیه السلام) فیه الاحتیاط هی عبارة عن کونها شبهة حکمیّة ؛ لأنّه لم یقل(إذا اُصبتم بهذا) حتّی یقال أنّ واقعة الصید لها خصوصیّة، أو کونه دائر بین الأقل والأکثر له خصوصیّة، وإنّما قال(إذا اُصبتم بمثل هذا)، فهذا الشیء الذی هو غیر واقعة الصید، وغیر دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر، الذی هو (مثل هذا)، هذه المثلیّة عادةً تکون ------- بحسب ما یُفهم ------- باعتبار أنّ الشبهة شبهة حکمیّة.

ص: 97


1- (4) وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 13، ص 46، أبواب کفارات الصید، باب 18، ح 6. و ج 27، ص 154، أبواب صفات القاضی، باب 12، ح 1.

وبعبارةٍ أخری: القدر الجامع والمشترک بین واقعة الصید المذکورة وبین مثله، الذی عممّ الإمام(علیه السلام) وجوب الاحتیاط إلیه، القدر المشترک هو کونها شبهة حکمیّة، فیُفهم من ذلک وجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیّة.

درس الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی الطائفة الثانیة التی استُدلّ بها علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام، قلنا أنّ عمدة أخبار هذه الطائفة روایتین معتبرتین سنداً، الروایة الأولی هی صحیحة عبد الرحمن بن الحجّاج التی قرأناها فی الدرس السابق، وبیّنّا کیفیّة الاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط فی المقام.

لوحظ علی الاستدلال بهذه الروایة: بأنّ الإشارة فی قول الإمام(علیه السلام):(إذا أصبتم بمثل هذا) هی لا تخرج عن أحد احتمالین:

الاحتمال الأوّل: أنْ یرجع ذلک إلی واقعة الصید کما هو مبنی تقریب الاستدلال بهذه الروایة علی وجوب الاحتیاط.

الاحتمال الثانی: أنْ تکون الإشارة راجعة إلی السؤال الأخیر للسائل، بمعنی أنّه قال للإمام(علیه السلام):(أنّ بعض أصحابنا سألنی عن ذلک، فلم أدری ما علیه)، فأجابه الإمام(علیه السلام):( إذا أصبتم بمثل هذا، فلم تدروا، فعلیکم بالاحتیاط حتّی تسألوا عنه وتعلموا)، یعنی إذا سُئلتم عن حکم مسألةٍ، ولم تعرفوا ما هو حکم تلک المسألة، فعلیکم بالاحتیاط.

فالاحتمال الأوّل یقول: إذا اصبتم بواقعة الصید، یعنی بالشبهة الحکمیّة، إذا عرضت علیکم شبهة حکمیّة یجب علیکم الاحتیاط. بینما الاحتمال الثانی یقول: إذا سُئلتم عن حکم مسألةٍ ولم تعرفوا ما هو الحکم، فعلیکم بالاحتیاط. الاعتراض یرید أنْ یقول علی کلا التقدیرین لا یصحّ الاستدلال بالروایة فی محل الکلام.

أمّا بالنسبة للاحتمال الأوّل، وهو أنْ تعود الإشارة فی الروایة إلی واقعة الصید کما ذُکر فی تقریب الاستدلال، یقول المعترض بأنّ غایة ما تدلّ علیه الروایة هو وجوب الاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة قبل الفحص والسؤال مع افتراض إمکانهما، وأمّا وجوب الاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة بعد الفحص والسؤال وعدم العثور علی حکم المسألة، فالروایة لا تدلّ علیه، والقرینة علی هذا التقیید هو نفس قول الإمام(علیه السلام) فی الروایة:(علیکم بالاحتیاط حتّی تسألوا عنه فتعلموا)، فالمفروض فی الروایة عدم الفحص، والسؤال فی الشبهة الحکمیّة ماذا نعمل هو قبل الفحص؛ ولذا قال الإمام(علیه السلام) احتاط إلی أنْ تفحص وتعلم حکم المسألة، فالروایة تدلّ علی وجوب الاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة، لکن قبل الفحص والسؤال مع التمکّن منهما، وأین هذا من محل الکلام ؟! الذی هو عبارة عن الموقف فی الشبهة الحکمیّة بعد الفحص والیأس عن العثور علی ما یدلّ علی حکم تلک المسألة، هذه الروایة لا تدلّ علی وجوب الاحتیاط فی هذه الحالة، وإنّما تکون دالّة علی وجوب الاحتیاط قبل الفحص والسؤال، وهذا أمر مسلّم، یسلّمه الجمیع، وحتّی الأصولیین یسلّمون وجوب الاحتیاط قبل الفحص، وإنّما الکلام فیما بعد الفحص وعدم العثور علی شیء، الروایة لیس فیها دلالة علی هذا؛ لأنّها تقول یجب علیکم الاحتیاط حتّی تسألوا وتعلموا، وفی محل الکلام افترضنا أنّ السائل فحص وسأل ولم یصل إلی شیء، فإیجاب الاحتیاط قبل الفحص والسؤال لا یعنی إیجاب الاحتیاط بعد الفحص والسؤال وعدم العثور علی دلیل.

ص: 98

وأمّا إذا أُرید بالإشارة الاحتمال الثانی بأنْ تکون راجعة إلی السؤال الأخیر الذی سأله السائل(أنّ بعض أصحابنا سألنی عن ذلک، فلم أدری ما علیه)، وعلی هذا یقول الاعتراض یکون مفاد الروایة هو الاحتیاط فی الفتوی؛ لأنّ الإمام(علیه السلام) أمره بالاحتیاط فی الفتوی، حیث قال: (إذا أصبتم بمثل هذا، فلم تدروا، فعلیکم بالاحتیاط حتّی تسألوا عنه وتعلموا) بمعنی أنّه فی حالة عدم العلم إذا سُئلت عن حکم مسألةٍ ولم تعلم ما هو حکمها فعلیک بالاحتیاط فی الفتوی، بمعنی أنّه لا یجوز لک أنْ تُفتی من دون علمٍ، ومن دون مستندٍ، فتکون ظاهرة فی حرمة الفتوی من دون علمٍ؛ وحینئذٍ تکون أجنبیّة عن محل الکلام، باعتبار أنّ هذه الروایة دالّة علی حرمة الفتوی من دون علمٍ، وهذا أمر مسلّم عند الطرفین، فکل من الأخباریین، والأصولیین یؤمنون بحرمة الفتوی من دون علمٍ، الروایة تقول یحرم الفتوی من دون علمٍ، وقوله (علیه السلام):(علیک بالاحتیاط) یعنی توقّف عن الجواب، والجواب فی المقام یُمثّل الفتوی، هو سُئل عن حکم مسألةٍ، وهو لا یعلم ما هو حکمها، فیجیبه الإمام(علیه السلام) علیک بالاحتیاط، وأنْ لا تجیب بشیءٍ، فتدلّ علی حرمة الفتوی من دون علمٍ، وهذا لیس محل النزاع؛ لأنّه مسّلم بین الطرفین.

یمکن صیاغة هذا الإشکال بعبارةٍ أخری: بناءً علی الاحتمال الثانی الذی هو أنْ تکون الإشارة راجعة إلی السؤال الأخیر. یمکن أنْ یقال أنّ الروایة أجنبیة عن محل الکلام ببیانٍ آخر، وهو أنْ یقال: أنّ مفاد الروایة کما ذُکر، الاحتیاط فی الفتوی فی نفس الواقعة التی سُئل عنها کما هو ظاهر الروایة، یقول أنا سُئلت عن هذه المسألة، وهی أنّ أثنین أصابا صیداً وهما محرمان، فما هو حکمهما ؟ هل علیهما الجزاء معاً، أو علی کلٍ منهما الجزاء ؟ هذه الواقعة فیها حکم واقعی، سُئل هذا الشخص عن حکم الواقعة، یقول الإمام(علیه السلام) إذا سُئلت عن حکم واقعةٍ، ولم تعلم ما هو حکمها یجب علیک الاحتیاط فی الفتوی فی هذه الواقعة، إذا سُئل عن حکم أکل لحم الأرنب، وهو لا یعلم ما هو حکمه، الروایة تقول یجب علیک الاحتیاط، بمعنی أنْ لا تفتی بالحلّیّة، ولا تفتی بالحرمة، فی نفس الواقعة التی سُئل عن حکمها تقول الروایة احتاط، ولا یجوز لک أنْ تجیب عن حکمها من دون مستندٍ ودلیلٍ. هذا المضمون وحده لیس فیه دلالة علی وجوب الاحتیاط فی الشبهة التی لا یُعرف ما هو حکمها؛ بل لابدّ أنْ نستفید ما هو الموقف الشرعی تجاه الشبهة التی لا نعرف حکمها، أنْ نستفیده من دلیلٍ آخر غیر هذه الروایة، هذه الروایة تقول أنّ نفس الواقعة لا یجوز لک أنْ تفتی بحکمها الواقعی؛ لأنّک لا تعرف ما هو حکمها الواقعی. هذا هو مضمون الروایة، لکن حینما نأتی إلی الواقعة باعتبارها مجهولة الحکم، ما هو موقفنا العملی تجاهها ؟ هل یجب علینا أنْ نحتاط، ولا نُقدِم علی ارتکاب الشبهة ؟ أو تجری البراءة ؟ کلٌ منهما لابدّ أنْ یستند إلی دلیلٍ بقطع النظر عن هذه الروایة، مفاد هذه الروایة هو عدم جواز الفتوی فی الحکم الواقعی فی الواقعة المسئول عنها عند عدم العلم بذلک الحکم، لا یجوز لک أنْ تفتی بالحرمة، ولا یجوز لک أنْ تفتی بالحلّیّة فی هذا السؤال، لکن مسألة الإقدام، وعدم الإقدام علی الشبهة، جواز الإقدام کما یقول الأصولیون، أو عدم جواز الإقدام کما یقول الأخباریون لابد من التماسه من دلیلٍ آخر، ولو ادّعی الأخباریون أنّ هناک ما یدلّ علی وجوب التوقّف والاحتیاط؛ حینئذٍ نقول کان هو الدلیل علی وجوب الاحتیاط لا هذه الروایة، بینما المفروض فی محل الکلام هو الاستدلال علی وجوب الاحتیاط بهذه الروایة، وهذه الروایة لیس فیها دلالة علی وجوب الاحتیاط، وإنّما مفادها هو حرمة الفتوی فی الواقعة المسئول عنها من دون علمٍ، أمّا الموقف العملی تجاه هذه الشبهة، وهذه الواقعة التی لا یُعرف حکمها، فلابدّ أنْ یُلتمس من دلیلٍ آخر، ولو دلّ دلیل علی وجوب الاحتیاط؛ فحینئذٍ یکون هو الدلیل علی وجوب الاحتیاط، ولیس هذه الصحیحة؛ لأنّها لیس فیها دلالة علی تحدید الموقف العملی تجاه الواقعة المشکوکة، وإنّما هی ناظرة إلی حرمة الإفتاء بالحکم الواقعی فی الواقعة المسئول عنها، وبذلک تکون أجنبیّة عن محل الکلام علی کلا التقدیرین، سواء کان أسم الإشارة راجعاً إلی واقعة الصید، أو کان راجعاً إلی السؤال عن حکم مسألةٍ لا یُعرف حکمها، علی الأوّل فیها دلالة حینئذٍ علی وجوب الاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة، لکن قبل الفحص بقرینة(حتّی تسألوا فتعلموا)، وهذا غیر محل الکلام. وعلی الثانی لیس فیها دلالة علی وجوب الاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة، وإنّما هی ناظرة إلی حرمة الفتوی بالحکم الواقعی للواقعة من دون علمٍ، لیس لها نظر إلی وجوب الاحتیاط کموقفٍ عملی فی الشبهة والواقعة التی لا یُعلم ما هو حکمها؛ بل هذا لابدّ من أنْ یؤخذ من دلیل آخر؛ وحینئذٍ الأخباری یقول لدیّ أدلّة تدلّ علی وجوب الاحتیاط، والأصولی یقول لدیّ أدلّة تدل علی البراءة، لو سلّمنا ما یقوله الأخباری، نرجع ونقول بأنّه یکون هو الدلیل علی وجوب الاحتیاط، ولیس هذه الصحیحة.

ص: 99

الروایة الثانیة: موثّقة عبد الله بن وضّاح، یرویها الشیخ الطوسی، بإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن سلیمان بن داوود، عن عبد الله بن وضاح، قال:(کتبت إلی العبد الصالح "علیه السلام" یتواری القرص، ویُقبل اللّیل، ثمّ یزید اللّیل ارتفاعاً، وتستتر عنّا الشمس، وترتفع فوق اللّیل حُمرة، ویُؤذّن عندنا المؤذنون، أفأصلّی حینئذٍ وأفطر إنْ کنت صائماً، أو انتظر حتّی تذهب الحُمرة التی فوق الجبل، فکتب إلی: أری لک أنْ تنتظر حتّی تذهب الحُمرة وتأخذ بالحائطة لدینک). (1) باعتبار أنّ ذیل الروایة جُعل من أدلّة وجوب الاحتیاط.

السند تام، الروایة موثّقة، سند الشیخ الطوسی إلی الحسن بن محمد بن سماعة صحیح، والحسن بن محمد بن سماعة ثقة، ومن شیوخ الواقفة، منصوص علی وثاقته، وسلیمان بن داوود المنقری منصوص علی وثاقته، وهکذا عبد الله بن وضاح، فالروایة معتبرة سنداً، وموثّقة لوجود الحسن بن محمد بن سماعة فیها؛ لأنّه من الواقفة.

یمکن أنْ یُقرّب الاستدلال بالروایة بهذا التقریب: بقوله(علیه السلام) فی جواب الکتاب(أری لک أنْ تنتظر حتّی تذهب الحُمرة وتأخذ بالحائطة لدینک) بقطع النظر عن السؤال، بالنتیجة الإمام (علیه السلام) أمره فی الجواب بالانتظار إلی أنّ تذهب هذه الحمرة، وعللّه بأنّه(تأخذ بالحائطة لدینک). یُفهم من هذا أنّ الأخذ بالاحتیاط، والحائطة للدین هو شیء مطلوب للشارع مطلقاً بقطع النظر عن مورد الروایة کما هو شأن التعلیل، حینما یُعلّل شیئاً بشیءٍ، فهذه العلّة لا تختص بذلک الشیء، إنّما هی علّة عامّة، فلو قیل ----- مثلاً ----- لشخصٍ(أدِّ هذا الدین الذی علیک لزیدٍ، لتفرغ ذمّتک)، فأنّه یُفهم منه التعلیل، بمعنی أنّ الأمر بأداء الدین عُلّل فی هذا الکلام بتفریغ الذمّة، ویُفهم منه مطلوبیة تفریغ الذمّة، من دون أنْ یختص هذا بخصوص مورد الکلام، وإنّما تفریغ الذمّة أمر مطلوب علی الإطلاق، وبقولٍ مطلقٍ، من دون أنْ یختص بمورد الکلام کما هو شأن العلّة، کأنّه یُدّعی فی المقام هذا(أری لک أنْ تنتظر حتّی تذهب الحمرة) هذا أمر بالانتظار، (وتأخذ بالحائطة لدینک) هذا بمثابة التعلیل بهذا الأمر، فیُفهَم منه أنّ الأخذ بالحائطة للدین هو أمر مطلوب للشارع، وعُللّ به الأمر بالانتظار، فیُفهم منه أنّ الاحتیاط فی الدین واجب، وأنّه مطلوب؛ حینئذٍ تکون الروایة من أدلّة وجوب الاحتیاط فی موارد الشبهات.

ص: 100


1- (1) وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 4، ص 176، أبواب المواقیت، باب 16، ح 14.

ناقشوا فی دلالة هذه الروایة بهذه المناقشة: قالوا بأنّ الحمرة الواردة فی الروایة، والمتکررّة ثلاث مرات فیها یوجد فیها احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أنْ یکون المقصود بالحمرة هی الحمرة المشرقیّة، ولیس المغربیّة، وهی التی ترتفع فی الأفق عندما یستتر القرص من جهة المغرب، فأنّه عندما یستتر القرص من جهة المغرب ترتفع حمرة من الشرق تُسمّی ب---- (الحمرة المشرقیّة)، کأنّ السائل فی الروایة یحتمل أنْ یکون لذهاب هذه الحمرة دخل فی تحقق الغروب الشرعی ------ کما هو المعروف بین الفقهاء أنّه یعتبر ذهاب الحمرة المشرقیة حتّی یتحققّ الغروب الشرعی، ولا یکفی فیه استتار القرص ------ وهو شاکّ فی أنّها دخیلة، حتّی ینتظر، والحمرة موجودة وبعدُ لم تذهب، فیجب علیه الانتظار، أو أنّها لیست دخیلة؛ فحینئذٍ یجوز له أنْ یفطر؛ لأنّ الاستتار متحققّ، وإنْ کانت الحمرة باقیة؛ حینئذٍ بناءً علی هذا الکلام تکون الشبهة حکمیّة، لا موضوعیة، ولیس هناک مشکلة فی أنّ الحمرة باقیة، أو لیست باقیة، وأنّ القرص استتر، أو لم یستتر، ویُفترض أنّه یعلم أنّ القرص استتر، لکنّ الحمرة المشرقیة باقیة، فلا یوجد شکّ فی الموضوع، وإنّما شکّ فی اعتبار زوال الحمرة المشرقیة فی تحققّ الغروب الشرعی؛ وحینئذٍ تکون شبهة حکمیّة، وعلی هذا الکلام الإمام(علیه السلام) سُئل عن شبهةٍ حکمیّةٍ(ما تقولون فی الحمرة المشرقیّة، هل هی دخیلة فی تحقق الغروب الشرعی، أو لا ؟ وکان المفروض والمناسب أنْ یُجیب الإمام(علیه السلام) عن شبهةٍ حکمیّة، بأنْ یزیل الجهل والشکّ عن المکلّف بأنْ یُبیّن له الحکم الواقعی، فإمّا أنْ یقول له لیست معتبرة فی تحققّ الغروب الشرعی، ویکفی فیه استتار القرص، أو أنْ یقول له أنّ الحمرة معتبرة، بینما الذی نلاحظه فی الروایة أنّ الإمام(علیه السلام) لم یُجِب بذلک، وإنّما أمره بالاحتیاط، هذا لیس جواباً عن السؤال، ولا یرفع الجهل، والشبهة؛ بل تبقی الشبهة علی حالها، والأمر بالاحتیاط هو شأن الشخص الغیر العالم بالأحکام الواقعیة، أمّا الإمام(علیه السلام) الذی یعلم بالحکم الواقعی، والسؤال عن الحکم الواقعی، فکان المناسب أنْ یجیب بالحکم الواقعی، بینما الملحوظ أنّ الإمام(علیه السلام) أجابه بالحکم الظاهری حیث أمره بالاحتیاط، وهذا لن یحلّ مشکلة السائل.

ص: 101

بناءً علی هذا الکلام، قالوا: لا یمکن أنْ نحمل جواب الإمام(علیه السلام) علی الجِد، هو لا یرید هذا الجواب جدّاً، ویتعیّن حمله علی التقیّة؛ لأننّا إذا حملناه علی الجد، فأنّه یکون غیر مناسبٍ لمقام الإمام(علیه السلام)، بمعنی أنّ ما یریده الإمام(علیه السلام) جدّاً هو لزوم الانتظار، وأنّ الغروب لا یتحققّ إلاّ بذهاب الحمرة المشرقیّة، لکن هناک مشکلة فی بیان هذا الحکم الواقعی، خصوصاً بالکتابة، المشکلة هی أنّ العامّة، إمّا قاطبة، أو مشهورهم یذهبون إلی کفایة استتار القرص فی تحقق الغروب، فهذا الرأی ----- اشتراط ذهاب الحمرة المشرقیّة فی تحققّ الغروب ----- هو رأی مخالف للعامّة، وفقهاء العامّة، فکأنّ الإمام(علیه السلام) أراد أنْ یتدارک ذلک، وأنْ یتّقی، وهو موضع تقیّة، خصوصاً فی الکتابة، فالإمام(علیه السلام) بیّن الحکم الواقعی، لکن لیس بشکلٍ مباشرٍ، وإنّما بیّنه بلسان(أری لک أنْ تنتظر وتأخذ بالحائطة لدینک)، وهذا بیانٌ جیّدٌ یحققّ هدف الإمام(علیه السلام)، الغایة المطلوبة من کون الحمرة المشرقیّة شرط فی تحققّ الغروب سوف تتحققّ، وأنّه أمره بالاحتیاط والانتظار. إذن: بالنتیجة هذا السائل سوف لن یفطر قبل ذهاب الحمرة المشرقیّة؛ لأنّه أمره بالاحتیاط والانتظار، فالغرض یتحققّ من دون أنْ یظهر منه المخالفة للعامّة؛ لأنّهم سوف یقرأون هذا الکلام ویفهمونه علی أنّه أمرٌ بالاحتیاط لغرض إحراز استتار القرص الذی یکفی فی نظرهم فی تحققّ الغروب، بینما الغرض الواقعی للإمام(علیه السلام) لیس هذا، وإنّما غرضه هو أنّه أمره بالاحتیاط حتّی یُحرز ما یعتبر فی تحققّ الغروب وهو زوال الحمرة المشرقیّة، لکنّه لم یبیّنه بشکلٍ مباشرٍ، وإنّما بیّنه بلسان الاحتیاط.

النتیجة التی ننتهی إلیها هی: أنّه بناءً علی الاحتمال الأوّل ----- أنْ یکون المراد بالحمرة هی الحمرة المشرقیّة ------ حینئذٍ لا یصح الاستدلال بالروایة؛ لأنّ قوله(أری لک أنْ تنتظر وتأخذ بالحائطة لدینک) لیس الغرض منه هو إیجاب الاحتیاط بالمعنی الذی نتکلّم عنه، وإنّما هو کنایة عن أنّ زوال الحمرة المشرقیّة شرط فی تحققّ الغروب، فلا مجال للاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیّة.

ص: 102

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی الطائفة الثانیة التی استُدلّ بها علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیّة، وبالخصوص الشبهة الحکمیّة التحریمیّة، وأنتهی الکلام إلی الروایة الثانیة، وهی موثّقة عبد الله بن وضاح، قرأناها فی الدرس السابق وذکرنا کیفیّة الاستدلال بها، وذکرنا المناقشة فی دلالتها، وتتلخّص المناقشة فی أنّه ما هو المقصود بالحمرة التی ذُکرت فی الروایة، والتی أمر الإمام(علیه السلام) السائل بأنْ ینتظر حتّی تذهب الحمرة، ما هو المقصود بالحمرة ؟

هناک احتمالان طُرحا فی الدرس السابق فی الحمرة:

الاحتمال الأوّل: أنْ تکون الحمرة هی الحمرة المشرقیّة، وبناءً علی هذا الاحتمال تکون الشبهة شبهة حکمیّة؛ لأنّ هذا الشخص یحتمل أنْ یکون ذهاب الحمرة المشرقیّة دخیل فی تحققّ الغروب، وبالتالی جواز الإفطار، فهی شبهة حکمیّة، أنّ الغروب هل یتوقّف علی زوال الحمرة المشرقیّة ؟ أو لا یتوقّف؛ بل یکفی فی تحققّ الغروب استتار القرص ؟ فهذه شبهة حکمیّة بلا إشکال.

لکنْ قلنا: أنّهم ذکروا أنّه لابدّ من حمل الروایة علی التقیّة؛ لأنّ الإمام(علیه السلام) لم یجب هذا السائل عن سؤاله، ولم یرفع جهله، ولم یرفع شکّه، وبالنتیجة لم یعرف أنّ زوال الحمرة المشرقیّة دخیلٌ فی تحققّ الغروب، أو لا ؟ لأنّ الإمام(علیه السلام) أجابه بالاحتیاط(أری لک أنْ تنتظر حتّی تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدینک)، وهذا لا یُفهم منه ما هو الحکم الواقعی فی الشبهة الحکمیة التی یسأل عنها السائل؛ ولذا لابدّ من أنْ لا یکون جواب الإمام(علیه السلام) جواباً جدّیّاً، ولا یحمل علی الجد، وإنّما یُحمَل علی التقیّة، فکأنّ ما یریده الإمام(علیه السلام) جدّاً فی الواقع هو بیان أنّ زوال الحمرة المشرقیّة دخیلٌ فی تحققّ الغروب، لکن هذا یمنع منه مانع، وهو أنّه خلاف الرأی السائد عند العامّة، فالإمام(علیه السلام) لا یستطیع أنْ یُبیّن هذا بشکلٍ صریحٍ، فبیّنه بشکلٍ غیر صریحٍ، وغیر مباشرٍ، بأنْ أمره بالاحتیاط، وهذا یحققّ الغرض من التقیّة، أنّ السامع یتخیّل أنّ انتظار ذهاب الحمرة المشرقیّة لیس لأجل أنّ الغروب یتوقّف علی ذهابها، وإنّما لأجل تحصیل الیقین بتحققّ استتار القرص، فالإمام(علیه السلام) استخدم أسلوب التقیّة لبیان الحکم الواقعی، ومن هنا لا یصحّ الاستدلال بالروایة؛ لأنّ الأمر بالاحتیاط فی الروایة لا یُراد به معناه الحقیقی، یعنی الأمر بالاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة، وإنّما هو ذُکر کطریقٍ لبیان الحکم الواقعی الحقیقی، وهو مقصوده، فیقول له:( أری لک أنْ تنتظر حتّی تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدینک)، وهذا لا یُفهم منه أنّه یجب الاحتیاط فی کلّ شبهةٍ حکمیّةٍ بعد حمله علی التقیّة.

ص: 103

الاحتمال الثانی: أنْ یکون المقصود بالحمرة هو الحمرة المغربیّة التی وردت روایات کثیرة فی لعن أبی الخطاب، حیث أحدث الخطابیّة بدعاً فی المذهب، ومن جملة البدع التی أحدثوها هی أنّهم کانوا لا یصلّون المغرب، إلاّ بعد زوال الحمرة المغربیّة التی تتأخّر بعد استتار القرص بمدّة طویلة، هذه من البدع التی نصّت الروایات علی أنّها من بِدعهم، ونهت عنها، وأصبح من المسلّمات أنّ الغروب لا یتوقّف علی ذهاب الحمرة المغربیّة، فحتّی لو فرضنا أنّ ظاهر الروایة هو توقّف الغروب علی ذهاب الحمرة المغربیّة، ولو باعتبار التقیّة، یعنی بلسان بیان الحکم الظاهری. علی کلّ حال لا یمکن الأخذ والعمل بهذه الروایة لو کان مفادها لزوم انتظار ذهاب الحمرة المغربیّة، ولو من باب الاحتیاط، وبیان الحکم الظاهری والحکم التقیّتی، هذا أمر مُسلّم الفساد فقهیاً، فلا یمکن الالتزام به.

الاحتمال الثالث: الذی یمکن أنْ یُضاف إلی هذین الاحتمالین، والذی تکون الشبهة موضوعیّة بلحاظه، هو أنْ یُقال: أنّ المراد بالحمرة لیس هو الحمرة المشرقیّة ولا الحمرة المغربیّة، وإنّما المراد بالحمرة هو ما یکتنف سقوط القرص، فأنّ القرص عندما یمیل إلی السقوط تکتنفه حمرة بلونٍ باهت، هذه هی المقصودة بالحمرة فی الروایة، فکأنّ السائل یجعل بقاء هذه الحمرة موجباً للشکّ فی استتار القرص؛ لأنّ هذه الحمرة تکتنف القرص حینما یمیل إلی السقوط، وتبقی بعده لمدّة قصیرة جدّاً، فهو عندما یری حمرة یشکّ فی أنّه هل استتر القرص، وبقیت هذه الحمرة، أو أنّ هذه الحمرة هی التی اکتنفت القرص قبل استتاره، فمن هنا یکون بقاء الحمرة ورؤیته لها، موجباً للشکّ فی استتار القرص وعدمه. إذن: هو یشکّ فی استتار القرص وعدمه، وهذه شبهة موضوعیّة، ولا یجب الاحتیاط فیها باعتراف الأخباریین؛ وحینئذٍ لابدّ من حمل الأمر بالاحتیاط فی هذه الروایة علی خصوصیّةٍ فی هذه الشبهة الموضوعیّة أوجبت الاحتیاط، وهذه الخصوصیّة هی عبارة عن أنّ الأصل الجاری فی المقام هو عبارة عن استصحاب بقاء الوقت، أو اشتغال الذمّة بالتکلیف المعلوم جزماً، والذی یستدعی الفراغ الیقینی، ولا فراغ یقیناً، إلاّ بأنْ یفطر بعد هذه الحمرة. هذه خصوصیّة فی نفس هذه الشبهة الموضوعیّة أوجبت الاحتیاط، ومن هنا لا یمکن تعمیم الأمر بالاحتیاط إلی سائر الشبهات الأخری، فلا یمکن الاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط، لا فی الشبهات الحکمیّة، ولا فی الشبهات الموضوعیّة الفاقدة لهذه الخصوصیّة.

ص: 104

حاصل الجواب هو: أنّ مورد الروایة هو إمّا شبهة حکمیّة، أو شبهة موضوعیّة، لا یخلو من أحد الأمرین: إمّا أنْ یکون مورد الروایة شبهة حکمیّة بلحاظ الحمرة المشرقیّة، أو بلحاظ الحمرة المغربیّة، فالسائل لا یعلم أنّ ذهاب الحمرة المشرقیّة، أو المغربیّة دخیلٌ فی تحققّ الغروب، أو لا ؟ وهذه شبهة حکمیّة. وإمّا أنْ یکون مورد الروایة شبهة موضوعیّة بهذا البیان الأخیر. وعلی کلا التقدیرین لا یصح الاستدلال بالروایة فی محل الکلام.

أمّا إذا کانت شبهة حکمیّة: فلِما قلناه من أنّ الأمر بالاحتیاط کجوابٍ علی شبهةٍ حکمیّةٍ لابدّ من حمله علی محملٍ غیر الجد، وأنّه لیس جواباً جدّیاً من قِبل الإمام(علیه السلام)؛ لأنّ وظیفة الإمام(علیه السلام) هی أنْ یُبیّن الحکم، ویرفع جهل السائل، ویرفع الشکّ عنه، ویُبیّن له ما هو الحکم الواقعی، فإمّا أنْ یجیبه بأنّ الحمرة دخیلة، أو أنّها غیر دخیلة، أمّا أنْ یأمره بالاحتیاط، فهذا لیس جدّیاً، وإنّما استدعته التقیّة بالبیان الذی ذکرناه؛ فحینئذٍ لا یکون جوابه إلاّ جواباً علی نحو التقیّة؛ وحینئذٍ کیف یمکن الاستدلال بالأمر بالاحتیاط الصادر منه من باب التقیّة علی وجوب الاحتیاط فی سائر الشبهات.

وأمّا إذا کان مورد الروایة هو شبهة موضوعیّة: فلما قلناه من أنّ الاحتیاط فی الشبهة الموضوعیّة لیس واجباً حتّی عند الأخباریین، وإنّما أمَرَ بالاحتیاط فی هذه الشبهة الموضوعیّة ------ إذا فسّرنا الروایة بذلک ------ باعتبار خصوصیّةٍ فیها، وهی أنّ هناک أصلاً، أو أصولاً تقتضی وجوب الانتظار، والأصل الواضح هو استصحاب بقاء الوقت، فکیف نجوّز له أنْ یفطر حتّی قبل ذهاب الحمرة ؟ یعنی مع الشکّ فی استتار القرص، فعلی کلا التقدیرین لا یصحّ الاستدلال بهذه الروایة.

ص: 105

الطائفة الثالثة: وهی أهم الطوائف التی استُدلّ بها علی وجوب الاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة التحریمیّة، وهی أخبار التثلیث، وعمدة هذه الأخبار ثلاث روایات:

الروایة الأولی: روایة جمیل بن صالح، (1) یرویها الشیخ الصدوق(قُدّس سرّه) فی الفقیه، وفی الخصال، وفی المجالس، ینفرد بروایتها الشیخ الصدوق(قُدّس سرّه)، لکنّه یرویها فی عدّة کتبٍ من کتبه، یرویها فی الفقیه بإسناده عن علی بن مهزیار، عن الحسین بن سعید، (2) عن الحارث بن محمد بن النعمان الأحول، عن جمیل بن صالح. هذا السند لا مشکلة فیه إلاّ من جهة الحارث بن محمد بن النعمان الأحول الذی هو من ذریة مؤمن الطاق، مجهول الحال، لم یرِد نص علی وثاقته.

نعم، هناک محاولة للوحید البهبهانی(قُدّس سرّه) لإثبات إمکان الاعتماد علیه، حیث ذکر فی تعلیقته (3) أنّه یمکن الاعتماد علیه لکونه صاحب أصلٍ، ولروایة عدّة من اصحابنا لکتابه، منهم الحسن بن محبوب، وغیر ذلک من الأمور التی ذکرها.

فی الخصال أیضاً فیه هذه المشکلة، وهکذا فی المجالس؛ لأنّ السند دائماً ینتهی إلی الحارث بن محمد بن النعمان الأحول، عن جمیل بن صالح، وجمیل ثقة، فالسند فیه هذه المشکلة.

الروایة طویلة، وهی موجودة فی الفقیه بتمامها، وفی ذیل الروایة یقول:(الأمور ثلاثة: أمر تبیّن لک رشده، فاتبعه، وأمر تبیّن لک غیّه، فاجتنبه، وأمر اختُلف فیه، فردّه إلی الله" عزّ وجل").

الاستدلال بالروایة علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام یتوقّف علی أمور:

ص: 106


1- (1) وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 27، ص 162، أبواب صفات القاضی، باب 12، ح 28.
2- (2) فی بعض النسخ (الحسن بن سعید).
3- (3) تعلیقة علی منهج المقال، الوحید البهبهانی، ص 113.

الأمر الأوّل: أنْ یکون المقصود ببیّن الرشد هو معلوم الحلّیّة، وأنْ یُراد ببیّن الغیّ هو معلوم الحرمة، فکأنّ الحدیث یقول معلوم الحلّیّة یجوز لک أنْ ترتکبه، ومعلوم الحرمة اجتنبه، وأمرٌ اختُلف فیه، فردّه إلی الله(عزّ وجل).

الأمر الثانی: أنْ یُراد من الأمر المختلَف فیه المشکوک والمشتبِه الذی یدور أمره بین الحرمة والحلّیّة.

الأمر الثالث: أنْ یُراد من الأمر بردّه إلی الله(عزّ وجل) وجوب الاحتیاط.

إذا تمّت هذه الأمور الثلاثة، فالاستدلال بالروایة یکون واضحاً؛ لأنّ الروایة بناءً علی تمامیة هذه الأمور یکون مفادها هو أنّ الأمور ثلاثة: أمرٌ معلوم الحلّیّة لا مانع من ارتکابه، وأمرٌ معلوم الحرمة، فاجتنبه، وأمرٌ مشتبه مردّد بینهما لا یُعلم هل هو حلال، أم حرام، والذی هو محل کلامنا، وهو الشبهة الحکمیّة التحریمیّة. هذا الأمر المردّد المشتبه، تقول الروایة ردّه إلی الله(عزّ وجل)، وقلنا أنّ الرد إلی الله(عزّ وجل) یُفسّر بوجوب الاحتیاط، فتدلّ علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات الحکمیّة التحریمیّة، وهذا هو المطلوب.

ولکن یمکن المناقشة فی کل أمرٍ من هذه الأمور الثلاثة التی یتوقّف الاستدلال بالروایة علیها:

أمّا الأمر الأوّل، فقد نوقش فیه، بأنّه من المحتمل، إنْ لم نستظهر ذلک، أنْ لا یُراد ببیّن الرشد هو معلوم الحلّیّة، فکیف یمکن تفسیر بیّن الرشد بمعلوم الحلّیّة ؟ وتفسیر بیّن الغی بمعلوم الحرمة ؟ هذا تفسیر یحتاج إلی قرینةٍ، فأنّ بیّن الرشد هو الأمر الواضح، فیکون إشارة إلی المستقلات العقلیّة، فالتعبیر بالرشد والغیّ هو أقرب إلی المستقلات العقلیّة منه إلی الحلّیّة والحرمة الشرعیّتین الواقعیتین، بیّن الرشد یعنی الأمر الذی یستقلّ العقل بحسنه ورشده، وبیّن الغیّ یعنی ما یستقلّ العقل بقبحه، وکونه غیّاً، فنحملهما علی هذا، ولا داعی لحملهما علی معلوم الحلّیّة، ومعلوم الحرمة، لا أقل من احتمال هذا، ولو باعتبار المناسبة بین الرشد والغیّ، وبین ما یدرک العقل حسنه، وما یدرک العقل قبحه؛ بل لعلّ من الصعب جدّاً إطلاق بَینّ الغیّ علی معلوم الحرمة، فالحرمة لیست غیّاً، وإنّما هی تشریع من التشریعات الإلهیّة التی هی عین الصلاح وعین الرشد، ولا فرق بین الحرمة والوجوب، فکلاهما حکم تشریعی الهی، ولا یُعبّر عنه بالغیّ. نعم، فعل الحرام یمکن أنْ یقال أنّ هذا غی، لکن لا یمکن أنْ نقول أنّ بیّن الغیّ یعنی بیّن الحرمة، وکأنّه نجعل الحرمة غیّاً، فإذا کان الشیء معلوم الحرمة یکون بیّن الغیّ، هذا غیر صحیح؛ لأنّ الحرمة لیست غیّاً، ولیست فساداً، فمن الصعب جدّاً أنْ نفسّر بیّن الرشد، وبیّن الغی بمعلوم الحرمة، ومعلوم الحلّیّة، لا أقل من احتمال أنّ المقصود لیس هذا، وإنّما المقصود هو أنّ الأمور التی یدرکها عقلک، وتجزم بها جزماً واضحاً، وبإدراک العقل العملی إذا أدرکت قبح شیءٍ، وأنّه غیّ اجتنبه، وإذا أدرکت حُسن شیءٍ، وأنّ الرشد فیه، فافعله، فالروایة ناظرة إلی المستقلات العقلیّة، ولیست ناظرة إلی معلوم الحرمة، وإلی معلوم الحلّیّة. (وأمر اختُلِف فیه) لابدّ من تفسیره علی ضوء هذا، إذا قلنا بذلک؛ حینئذٍ تُفسّر هذه الأمور بأنّها الأمور التی لا یدرک العقل حُسنها، ولا قُبحها، ولیس لدی العقل شیء جازم فی هذا الأمر، فلا یُدرک حُسنه، ولا یُدرک قبحه؛ حینئذٍ فی هذه الحالة یجب أنْ تتلقّی حکم هذا الشیء من الشارع، ولابدّ من ردّه إلی الله(عزّ وجل)، وبهذا تکون الروایة أجنبیة عن محل الکلام، وبناءً علی هذا هی فی الحقیقة ناظرة إلی الأمور التی تدرک أنّها غیّ، فاجتنبها، والأمور التی تدرک أنّها رشد، فافعلها، والأمور التی تتوقّف، وعقلک لیس لدیه إدراک لهذا الأمر، لا غیّه ولا رشده، لا حُسنه ولا قُبحه، هذه الأمور لا یجوز أنْ تعمل بها بالذوق والاستحسان والتخمینات والترجیحات الظنّیّة؛ بل لابدّ من ردّها إلی الله(عزّ وجل)، وبهذا تکون الروایة أجنبیّة عن محل الکلام، ولا علاقة لها بالشبهة الحکمیّة التحریمیّة، وإنّما هی أشبه بعدم جواز الاعتماد علی الاستحسانات والأذواق فی تشخیص الموقف تجاه ما لا یدرکه العقل؛ بل لابدّ من أخذ حکمه من الشارع(عزّ وجل)، فتکون من قبیل(أنّ دین الله لا یُصاب بالعقول) وأمثال هذه الأخبار.

ص: 107

قد یُعترض علی هذه المناقشة: قیل بأنّ هذه المناقشة غیر تامّة، باعتبار أنّ لازم هذه المناقشة هو أنْ نحمل الروایة علی الإرشاد، أنّها تکون فی مقام الإرشاد إلی ما استقلّ به العقل العملی، وهذا خلاف الظهور الأوّلی للخطاب الصادر من الشارع؛ إذ لا إشکال فی أنّ الظهور الأوّلی لکل خطابٍ یصدر من الشارع هو أنّه یصدر منه بما هو شارع. وبعبارة أخری: یصدر منه بما هو مولی، فحمل الخطاب الشرعی علی أنّه إرشاد هو خلاف الظهور الأوّلی، ویحتاج إلی قرینة، فکأنّه یقول: أنّ هذه المناقشة لازمها حمل الروایة علی أنّها فی مقام الإرشاد إلی ما استقل به العقل العملی، وهذا خلاف الظهور الأوّلی للخطاب الصادر من الشارع.

أقول: الظاهر أنّ هذا الاعتراض غیر وارد، وذلک باعتبار أنّه بناءً علی المناقشة یکون مفاد الحدیث فی الحقیقة هو حجّیّة حکم العقل العملی، وأنّ ما یستقل به العقل حجّة، فإذا استقل بقبح شیءٍ، فعلیک أنْ تجتنبه، کما لو أمرک الشارع باجتنابه، وإذا استقل العقل بحُسن شیءٍ، فافعله کما لو أمرک الشارع بفعله، فهی ناظرة إلی بیان حجّیّة العقل العملی فی المستقلات العقلیّة وعدم حجّیّة الاستحسانات والأذواق والعقول الظنّیّة فی غیر المستقلات العقلیّة. هذا یکون مفاد الحدیث بناءً علی المناقشة السابقة، ومن الواضح بأنّ هذا المفاد فیه إعمال مولویّةٍ، ولیس إرشاداً، فهو یُبیّن أنّ العقل العملی حجّة فی المستقلات العقلیّة، الظنون والاستحسانات لیست حجّة فی غیر المستقلات العقلیّة، وأیّ مولویّةٍ أکثر من إعمالها فی هذا المجال ؟ هناک فرق بین روایةٍ یأمر الشارع فیها بالعدل، وینهی عن الظلم، هذه نقول أنّها إرشادیّة؛ لأنّ الأمر بالعدل إرشاد إلی حکم العقل واستقلاله بحسن العدل، والنهی عن الظلم وتحریمه، هذا إرشاد إلی ما حکم به العقل من قُبح الظلم. وفی ما نحن فیه لیس هناک أمر بالعدل، ولا نهی عن الظلم حتّی نقول أنّ هذا خطاب إرشادی؛ لأنّ العقل یحکم بقبح الظلم وحسن العدل، فالروایة بناءً علی تمامیة المناقشة، الشارع یرید أنْ یؤسس أنّ العقل العملی فی المستقلات العقلیّة حجّة، وأنّ العقل الظنّی غیر القطعی، والاستحسانات وأمثالها فی غیر المستقلات العقلیة لیست حجّة؛ بل لابدّ من أخذ حکمها من الشارع، وأیّ مولویةٍ أکثر من هذه المولویة التی أعملها الشارع فی هذا الحدیث الشریف ؟

ص: 108

إذن: لا یلزم من هذه المناقشة حمل الروایة کما قیل علی الإرشاد؛ بل فیها إعمال مولویةٍ بشکل واضحٍ جدّاً، کالأدلّة الدالّة علی حجّیّة شیءٍ، أو عدم حجّیّة شیءٍ، هی أوامر مولویّة صدرت منه بما هو مولی، وبما هو مشرّع، فلا یلزم منها ذلک.

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی الروایة الأولی من الطائفة الثالثة وهی روایة جمیل بن صالح، وقد بیّنا کیفیة الاستدلال بها، وذکرنا المناقشة فی الاستدلال بها، وکان حاصل المناقشة هو أنّ الروایة أجنبیّة عن محل الکلام، أو لا أقل من احتمال ذلک، باعتبار أنّه من المحتمل أنْ تکون الروایة ناظرة إلی المستقلات العقلیّة ولیس لها علاقة بالحرمة والحلّیّة، باعتبار أنّ الرشد والغیّ یناسبان المستقلات وغیر المستقلات، ما یستقل العقل بقبحه، وما یستقل العقل بحسنه، ولا یناسبان الحرمة الواقعیة والحلّیّة الواقعیة کحکمین شرعیین واقعیین، فتکون أجنبیّة عن محل الکلام.

بعضهم حاول أنْ یردّ هذه المناقشة، الردّ الأوّل تقدّم فی الدرس السابق، وبیّنّا أنّه لا یلزم من هذه المناقشة أنْ تُحمل الروایة علی أنّها فی مقام الإرشاد، وإنّما واضح فیها إعمال المولویة، ولو باعتبار النهی عن الرجوع إلی غیر الشارع فی غیر المستقلات العقلیّة، فی غیر المستقلات العقلیّة أُمر بالردّ إلی الله(عزّ وجل)، وقلنا أنّ هذا معناه بناءً علی هذه المناقشة، یعنی لا یجوز إعمال الرأی والاستحسان والذوق وتحکیم هذه الأمور فی ما لا یدرک العقل حسنه ولا قبحه؛ بل لابدّ من ردّه إلی الشارع، وهذا فیه إعمال مولویةٍ بلا إشکال.

ص: 109

الردّ الثانی الذی ذُکر، حاصله: أنّ حمل الروایة علی المستقلات العقلیّة وغیرها لا ینسجم مع قوله(علیه السلام) فی ذیل الروایة(أو أمر اُختلف فیه)؛ إذ لا موضوع للاختلاف فی المستقلات العقلیّة؛ لأنّ العقل العملی إمّا أنْ یُدرک أنّ هذا الشیء حسن وعدل، وذاک قبیح وظلم، أو لا یُدرک، ولا رابع فی البین، فی باب المستقلات العقلیّة لا یوجد أمر اختلف فیه العقل، فقوله(وأمر اخُتلف فیه) لا ینسجم مع حمل الروایة علی المستقلات العقلیّة وغیرها، بخلاف ما إذا حملنا الروایة علی معناها المتقدّم وهو الحلّیّة الشرعیّة، والحرمة الشرعیّة، ویکون القسم هو أمر اُختلف فیه، هل هو حلال، أو هو حرام ؟ أمّا أنّه اختلف فیه العقل أنّه یدرک حسنه، أو لا یدرک حسنه، هذا لا وجه له فی باب العقلیات.

أقول: الظاهر أنّ هذا الردّ الثانی أیضاً غیر واردٍ علی المناقشة، وذلک باعتبار أنّ المراد من قوله(علیه السلام) (أو أمر اُختلف فیه) لیس هو ما یختلف فیه العقل نفسه حتّی یقال بأنّ العقل إمّا أن یُدرک حسن الشیء، أو یدرک قبحه، أو لا یدرک، ولا معنی لفرض الاختلاف فی إدراک العقل؛ بل المراد من (أمر اُختلف فیه) بناءً علی هذه المناقشة عدم إدراک العقل حسن شیء ولا قبحه، بمعنی أنّ العقل یدرک حسن شیءٍ فیتّبعه، وأخری یدرک قبح شیءٍ، فیجتنبه، وأخری لا یدرک لا حسنه ولا قبحه، عُبّر عن هذا بأنّه أمر اُختلِف فیه، یعنی لیس واضح المعالم، ولیس واضحاً بنظر العقل، لا هو یدرک حسنه بشکلٍ جازمٍ، ولا یدرک قبحه بشکلٍ جازمٍ، وهذا لا بأس به، أنْ نفترض قسماً ثالثاً بهذا المعنی؛ بل هو فی کلامه افترض هذا القسم الثالث؛ لأنّه قال: إمّا أنْ یدرک العقل حُسنه، أو یدرک العقل قبحه، أو لا یدرک حُسنه ولا قُبحه، ولا رابع. نحن نقول أنّ الغرض منه هو هذا القسم الثالث، بمعنی أنّ العقل لا یُدرک حُسن الشیء، ولا قبحه؛ فحینئذٍ فی هذا القسم الثالث عُبّر عنه فی الروایة بمقتضی المناقشة ----- إذا تمّت ----- بأنّه أمر اختُلف فیه، بمعنی أنّ العقول تختلف فیه، بعضهم یقول هذا شیء حسن، والآخر یقول هذا قبیح، فلا یوجد شیء جزمی بنظر العقل، وإنّما اختلف فیه الناس، فیمکن تفسیره بهذا التفسیر؛ وحینئذٍ لا یوجد عندنا اختلاف فی نفس العقل، أنّ العقل یختلف فی الشیء، هذا صحیح، لا مجال لأنْ نقول أنّ العقل یختلف فی إدراک قُبح شیء، أو إدراک حُسنه، وإنّما المقصود بأمرٍ اُختُلف فیه، یعنی لم یدرک العقل حُسنه ولا قُبحه؛ وحینئذٍ لا یرد هذا الإیراد علی المناقشة.

ص: 110

الردّ الثالث الذی ذکره:هو أنّه قال: بأنّ نسبة الرشد والغیّ إلی المخاطب فی هذه الشریعة(أمر تبیّن لک رشده)، و(أمر تبیّن لک غیّه)، أنّ ضمیر(لک) یعود إلی مسلمٍ مخاطَبٍ ملتزمٍ بهذه الشریعة، هذه النسبة تدلّ علی أنّ الرشد والغیّ أمران نسبیّان لا مطلقان، نسبة الرشد والغیّ إلی المسلم المخاطب الملتزم بهذه الشریعة تدلّ علی أنّ الرشد والغیّ أمران نسبیان لا مطلقان، وإذا کان المراد من الرشد والغیّ العقل العملی المستقل؛ فحینئذٍ هذا لا یناسب أنْ یکون الرشد والغیّ أمرین نسبیّین؛ لأنّه لا یمکن أنْ یکون الرشد والغی فی باب المستقلات العقلیّة أمرین نسبیّین، یعنی یثبت حُسن شیءٍ فی هذه الشریعة، ولا یثبت فی شریعةٍ أخری، أو یثبتعند هذه الطائفة ولا یثبت عند هذه الطائفة، الحُسن والقُبح فی المستقلات العقلیّة أمران مطلقان، فما یکون حسناً یکون حسناً عند الجمیع، وما یدرک العقل قبحه کالظلم یکون قبیحاً عند الجمیع، لا أنْ یقال أنّ الضمیر(لک) فی قوله(تبیّن لک رشده) لا یناسب حمل الروایة علی المستقلات العقلیّة، وإنّما یناسب الرشد النسبی، والغی النسبی، وفی باب المستقلات العقلیّة الرشد والغی، أی الحسن والقبح أمران مطلقان لا نسبیّان لا یثبتان عند المخاطب فقط دون الباقین، لا یثبتان عند هذه الشریعة دون الشرائع الأخری، وعند هذه الطائفة دون الطائفة الأخری. فإذن: هذا لا یناسب حمل الروایة علی المستقلات العقلیّة.

أقول: هذا أیضاً لیس واضحاً، باعتبار أنّ استفادة أنّ الرشد والغیّ امران نسبیان من قوله(علیه السلام)(تبیّن لک رشده)، أو(تبیّن لک غیّه) هذه الاستفادة غیر ظاهرة؛ بل لعلّها غیر صحیحة، باعتبار أنّ المخاطب بهذا الخطاب لا یُلحظ بما هو مسلم، وإنّما یُلحظ بما هو عاقل، الخطاب ----- بحسب المناقشة ----- فی باب المستقلات العقلیّة، فعندما یقال(تبیّن لک) یعنی بما أنت عاقل، لا بما أنت مسلم، صحیح أنّ الخطاب هو(تبیّن لک رشده، أو تبیّن لک غیّه) لکنّ الملحوظ فی هذا المخاطَب هو کونه عاقلاً لا کونه متعبّداً بشریعةٍ معیّنةٍ فی قبال سائر الشرائع، أو کونه منتمیاً إلی طائفةٍ فی قبال سائر الطوائف، وإنّما المقصود به خطابه بما هو إنسان عاقل، أمور ثلاثة: أمر تبیّن لک بما أنت عاقل رشده، فاتّبِعه، وأمر تبیّن لک غیّه، فاجتنبه، کل منهما یدخل فی باب المستقلات العقلیّة التی یدرک العاقل بما هو عاقل أنّها حسنة، أو قبیحة، بیّنة الرشد، أو بیّنة الغیّ، المقصود هذا، من قبیل أنْ تخاطب إنساناً(إذا أدرکت حُسن شیءٍ، فاتّبعه، وإذا أدرکت قُبح شیءٍ، فاجتنبه) المقصود بهذا الخطاب هو أنّک تخاطبه بما هو إنسان عاقل لا بما هو من أصحاب شریعةٍ حتّی یُفهم منها النسبیّة، أنّ الرشد والغیّ أمران نسبیان ثابتان فی هذه الشریعة دون سائر الشرائع، لا یُفهم منها هذا، وإنّما الخطاب یوجّه إلی الإنسان بما هو عاقل، فلا نسبیّة فی البین؛ بل یثبت الإطلاق، وهذا یناسب حمل الروایة علی المستقلات العقلیّة.

ص: 111

الصحیح أنّ هذه الردود علی المناقشة غیر تامّة، أمّا أصل المناقشة للاستدلال، فهی ----- إنصافاً ----- محتملة، یعنی أنْ تکون الروایة ناظرة إلی باب المستقلات العقلیّة، وغیر المستقلات العقلیّة، کما أنّه یُحتمَل فی الروایة أنْ تکون ناظرة إلی الأمور العقائدیّة فقط، فتقول: هذه المسائل العقائدیّة إذا کانت واضحة الرشد، فاتّبعها، أو واضحة الغیّ، فاجتنبها، أمّا الأمور العقائدیّة المُختلَف فیها، فلا تُحکّم فیها عقلک الناقص، وإنّما أرجع فیها إلی الله(عزّ وجل)، وإلی رسوله(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، فیمکن أنْ تکون ناظرةً إلی المسائل العقائدیّة. وعلی کلا التقدیرین، سواء کانت ناظرة إلی المستقلات العقلیّة، أو ناظرة إلی المسائل الاعتقادیّة، تکون أجنبیّة عن محل الکلام، ولا یصحّ الاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط عند الشکّ فی حرمة شیءٍ، أو حلّیته. وأمّا حملها علی محل الکلام فهذا خلاف الظاهر.

هذا کلّه بالنسبة إلی الأمر الأوّل الذی یتوقّف علیه الاستدلال، حیث قلنا أنّ الاستدلال بهذه الروایة یتوقّف علی أمورٍ ثلاثة:

الأمر الأوّل: هو أنْ یکون المقصود ب---(تبیّن لک رشده) هو تبیّن لک حلّیته، والمقصود ب---- (تبیّن لک غیّه) هو تبیّن لک حرمته، فبیّن الرشد یعنی بیّن الحلّیّة، وبیّن الغیّ یعنی بیّن الحرمة. وقلنا أنّ هذا الأمر الأوّل خلاف الظاهر، وأنّ المناقشة فیه تامّة.

الأمر الثانی: هو أنْ یُراد من الأمر المُختلَف فیه ----- القسم الثالث فی الروایة ----- الأمر المشکوک المشتبَه الدائر بین الحلّیّة والحرمة(وأمرٌ اختُلف فیه) یعنی المشتبهات. فتکون الأقسام ثلاثة، معلوم الحلّیّة، ومعلوم الحرمة ---- بناءً علی تمامیّة الأمر الأوّل ---- والثالث أمر اختُلف فیه، یعنی أمر مردّد مشکوک لا نعلم أنّه حلال، أو حرام، فیُفسّر(أمر اختُلف فیه) بالأمر المشکوک من حیث الحلّیّة والحرمة، حتّی ینطبق علی محل الکلام، حیث أنّ کلامنا هو فی الشکّ فی حرمة شیءٍ، أو إباحته، أی فی الشبهة التحریمیّة. هل یمکن أنْ نستفید من هذه العبارة (وأمر اُختلف فیه) یعنی أمرٌ شُکّ فیه ؟ هذا صعب، فإثبات الأمر الثانی مشکل؛ لأنّ القول بأنّ المقصود من(أمر اختُلف فیه) یعنی أمر شُکّ فیه، هو خلاف الظاهر، إلاّ بعنایة، بأنْ نقول: حیث أنّ الشکّ فی حرمة شیءٍ، أو إباحته یوجب الاختلاف عادةً، فعُبّر عن هذا الشیء المشکوک بما هو لازمه، وهو حصول الاختلاف عادةً، فقیل(أمر اختُلف فیه)، یعنی أمر شُک فی حلّیّته وحرمته، لکن حیث أنّ الشکّ فی ذلک عادةً یکون موجباً للاختلاف، فعُبّر عنه بأمرٍ اختُلف فیه، والمقصود به هو أمر شُکّ فیه.

ص: 112

أقول: هذه العنایة تحتاج إلی قرینةٍ، وبذل هذه العنایة لیس أولی من أنْ نقول شیئاً آخراً یجعل الروایة أجنبیّة عن محل الکلام، وذلک بأنْ نبقی القسم الثالث ----- أمر اختُلف فیه -----علی ظاهره، یعنی هناک اختلاف فیه، أو هناک أقوال فیه، أنْ نبقی هذا علی ظاهره، ونحمل قوله(تبیّن لک رشده)، أو(تبیّن لک غیّه) علی الاتّفاق علی الحلّیّة، والاتّفاق علی الحرمة ------ بعد التنزّل عن مناقشة الأمر الأوّل ------ فتکون الروایة ناظرةً إلی الأمر المتّفق علی حرمته، ونفسّر(الأمر الذی تبیّن لک غیّه) بالأمر المتّفق علی حرمته علی أساس نفس النکتة السابقة، وهو أنْ نقول: أنّ الاتّفاق علی حرمة شیءٍ یکون موجباً لتبیّن الحرمة، والاتّفاق علی حلّیّة شیءٍ یکون موجباً لتبیّن الحلّیّة، کما أننّا قلنا هناک بأنّ الشکّ فی حرمة شیءٍ وإباحته یکون موجباً للاختلاف، هنا أیضاً نقول: الاتّفاق علی حلّیّة شیءٍ یکون موجباً لتبیّن الحلّیّة، کما أنّ الاتّفاق علی حرمة شیءٍ یکون موجباً لتبیّن الحرمة، فبدل التعبیر بالاتّفاق عُبّر فی الروایة بنتیجة الاتّفاق، وهی تبیّن الحلّیّة وتبیّن الحرمة، فتکون النتیجة هی أنّ الروایة تقول: أنّ الشیء المتفّق علی حلّیّته، الذی عُبّر عنه بتبیّن الحلّیّة، أو المُتّفق علی حرمته، الذی عُبّر عنه بتبیّن حرمته، هذا اعملْ به علی أساس ذلک، تبیّن الحلّیّة اعملْ به علی أنّه حلال، وإذا اتّفق علی حرمته، تعامل معه علی أساس ذلک؛ لأنّ الاتّفاق والإجماع حُجّة، وامّا الأمر المُختلَف فیه، فنبقیه علی ظاهره، فلا یجوز لک أنْ تعمل بقول هذا، أو بقول هذا؛ لأنّه أمر مختلَف فیه لابدّ من ردّه إلی الله(عزّ وجل)، وإلی رسوله(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، وبهذا تکون الروایة أجنبیّةً عن محل الکلام، ولا علاقة لها بالشبهة الحکمیّة التحریمیّة، وإنّما هی ناظرة إلی الاتّفاق والاختلاف فی المسألة الشرعیّة الفرعیّة، الحرمة المتّفق علیها اعملْ بها علی أساس الاتفاق علی الحرمة، والحلّیّة المتّفق علیها أیضاً اعملْ بها علی أساس الحلّیّة المتّفق علیها، والأمر المختلَف فیه لابدّ من ردّه إلی الله(عزّ وجل)، وإلی رسوله(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، وهذا شیء لا علاقة له بمحل الکلام، فنحن لا نتکلّم عن حجّیّة الاتّفاق وعدم حجّیّته، وإنّما نتکلّم فی أنّ مکلّفاً یشکّ فی أنّ هذا الشیء حرام، أم حلال، شبهة حکمیّة، هذا هل یجب علیه الاحتیاط، أم لا ؟ بناءً علی هذا التفسیر تکون الروایة أجنبیّةً عن محل الکلام، ولا یُستفاد منها وجوب الاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة التحریمیّة.

ص: 113

الغرض هو: أنّ حمل (أمر اختُلف فیه) علی أنّه شُکّ فیه کما هو مبنی الاستدلال هو خلاف الظاهر، إلاّ بإعمال عنایةٍ، وهی أنّ الاختلاف فی الحرمة والحلّیّة عادةً یوجب الشکّ، فعُبّر عن الشکّ فی الحرمة والحلّیّة بالاختلاف، فقیل أمر اختُلف فیه، والمقصود هو أمر شُکّ فی حلّیّته وحرمته؛ حینئذٍ نقول: أنّ إعمال هذه العنایة لیس أولی من أنْ نُعمِل العنایة فی جانب تبیّن الغیّ وتبیّن الرشد، نفس العنایة، بأنْ نبقی(أمر اختُلف فیه) علی ظهوره، یعنی أمر اختلفوا فیه، بعضهم یقول حلال، وبعضهم یقول حرام، و(تبیّن لک غیّه) یعنی أمر اتّفق علی حرمته ----- بعد التنزّل والتسلیم بالأمر الأوّل ----- یعنی أمر اتّفق علی حرمته، أو أمر اتّفق علی حلّیّته، وعُبّر عن الاتّفاق عن الحرمة والحلّیّة بتبیّن الحرمة والحلّیّة؛ لأنّ الاتّفاق علی الحلّیّة عادةً یکون موجباً لتبیّن الحلّیّة، کما أنّ الاتّفاق علی الحرمة یکون موجباّ عادةً لتبیّن الحرمة، فعُبِّر عن الاتّفاق علی الحلّیّة بتبیّن الحلّیّة، وعن الاتّفاق علی الحرمة بتبیّن الحرمة، فتکون الروایة ناظرةً إلی الإجماع والاتّفاق، أمّا إذا تعدّدت الأقوال فی المسألة، ففی هذه الحالة لا یجوز أنْ تعمل بقول هذا، أو بقول هذا، وإنّما لابدّ من استنباط حکم المسألة من الأدلّة الشرعیّة الواردة عن الشارع، وبهذا تکون الروایة أجنبیّةً عن محل الکلام. علی کل حالٍ، حمل(أمر اُختلف فیه) علی أنّه أمر شُکّ فیه من حیث الحلّیّة والحرمة هو خلاف الظاهر. هذا بالنسبة إلی الأمر الثانی.

وأمّا الأمر الثالث الذی یتوقّف علیه الاستدلال: والذی هو أنّ قوله(فردّه إلی الله) یعنی احتط فیه، یعنی یجب علیک الاحتیاط، فهو أیضاً لیس واضحاً بذاک الشکل؛ بل لعلّ قوله(فردّه إلی الله) یعنی خُذ حکمه من الله (عزّ وجل)، فی قِبال أخذ الحکم من أحکام العقول الظنّیّة والعقول الناقصة.

ص: 114

إذن: الظاهر أنّ کل الأمور التی یتوقّف علیها الاستدلال بالروایة علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام لیست تامّة، ومن هنا یظهر عدم صحّة الاستدلال بهذه الروایة.

الروایة الثانیة من الطائفة الثالثة: الروایة المعروفة المرویّة بصیّغ متعدّدة، وروایاتها أیضاً متعدّدة، وکل روایاتها ضعیفة سنداً حسب الظاهر. صاحب الوسائل(قُدّس سرّه) ینقل هذه الروایة عن، ابن الشیخ الطوسی فی أمالیه، الحسن بن محمد بن الحسن الطوسی فی أمالیه، عن أبیه، عن علی بن احمد بن الحمامی، عن احمد بن محمد القطّان، عن إسماعیل بن أبی کثیر، عن علی بن إبراهیم، عن السری بن عامر، عن النعمان بن بشیر.

الظاهرأنّ المقصود بالنعمان بن بشیر هو الصحابی الأنصاری المعروف، وکان منحرفاً، والسرّ فی کون النعمان بن بشیر هو الصحابی المعروف هو أنّ هذه الروایة موجودة فی کتب العامّة، وأیضاً ینسبوها إلی النعمان بن بشیر، ولا یوجد غیره من الصحابة من یُسمّی ظاهراً بالنعمان بن بشیر غیره.

قال:(سمعت رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم یقول:إنّ لکل ملکٍ حمی، وإنّ حما الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بین ذلک، کما لو أنّ راعیاً رعی إلی جانب الحمی لم یثبت غنمه أنْ تقع فی وسطه، فدعوا المشتبهات). (1)

الاستدلال بالروایة: الرسول (صلّی الله علیه وآله وسلّم) ----- بناءً علی تمامیّة الروایة ----- یأمر بترک المشتبِهات، وهو یصرّح بأنّ المشتبِهات بین ذلک، حلال وحرام، هذا حمی الله(عزّ وجل) والمشتبهات بین ذلک، مرددّة بین أنْ تکون حلالاً، أو حراماً، وهی الشبهة الحکمیّة التحریمیّة التی هی محل الکلام، فیُفهم من هذا وجوب ترک الشبهة، والذی یعنی بعبارةٍ أخری وجوب الاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة التحریمیّة .

ص: 115


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 27، ص 167، أبواب صفات القاضی، باب 12، ح 45.

مضمون هذه الروایة موجود فی کثیرٍ من الروایات:

منها: مرسلة الصدوق(قُدّس سرّه) ، لا بأس بقراءتها لأنّ لسانها یختلف، قال الشیخ الصدوق(قُدّس سرّه) فی الفقیه:(إنّ أمیر المؤمنین(علیه السلام) خطب الناس، فقال فی کلامٍ ذکره: حلالٌ بیّن، وحرامٌ بیّن، وشبهات بین ذلک، فمن ترک ما اشتبه علیه من الإثم، فهو لما استبان له أترک، والمعاصی حمی الله، فمن یرتع حولها یوشک أنْ یدخلها). (1) (2)

ومنها: روایة سلام بن المستنیر، وهی روایة طویلة عن الإمام الباقر(علیه السلام)، قال:(قال جدّی رسول الله(صلّی الله علیه وآله وسلّم: أیّها الناس حلالی حلالٌ إلی یوم القیامة، وحرامی حرامٌ إلی یوم القیامة، إلا وقد بیّنهما الله(عزّ وجل) فی الکتاب، وبیّنتها لکم فی سُنّتی وسیرتی، وبینهما شبهات من الشیطان وبِدع بعدی من ترکها صلح له أمر دینه، وصلحت له مروته وعرضه، ومن تلبّس بها وقع فیها واتّبعها، کان کمن رعی غنمه قرب الحمی، ومن رعی ماشیته قرب الحمی نازعته نفسه أنْ یرعاها فی الحمی، إلا وإنّ لکل ملکٍ حمی، إلا وإنّ حمی الله(عزّ وجل) محارمه، فتوقّوا حمی الله ومحارمه.....الحدیث). (3)

هذه الروایات بأجمعهاغیر تامّة سنداً للإرسال، أو لضعف الرواة، أو لکونها عامّیّة...الخ، لکنّ المضمون متکررّ، خصوصاً فی کتب العامّة موجود نفس هذا المضمون، وإنْ کانت فی کتب العامّة هی أیضاً مرویّة عن النعمان بن بشیر، وکون الروایات المتعددّة تنتهی إلی راوٍ واحدٍ یمنع من تحققّ حتّی الاستفاضة بالشکل المطلوب. روایات عدیدة بهذا المضمون قد یمکن للإنسان أنْ یفحص أکثر، ویحققّ الاستفاضة بهذا المضمون.،أأ

ص: 116


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 27، ص 161، أبواب صفات القاضی، باب 12، ح 27.
2- من لا یحضره الفقیه، الشیخ الصدوق، ج 4، ص 75.
3- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحرّ العاملی، ج 27، ص 169، أبواب صفات القاضی، باب 12، ح 52.

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی الروایة الثانیة من روایات التثلیث وهی روایة النعمان بن بشیر، وقلنا أنّ مضمون هذه الروایة موجود فی روایاتٍ أخری ذکرنا بعضها.

الکلام یقع فی الاستدلال بهذه الروایات علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام. فی الواقع الاستدلال بهذه الروایة وما کان بمضمونها علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام یواجه مشکلة فی الدلالة، وذلک لأنّ المستفاد من هذه الروایة وما کان بمضمونها هو أنّ ارتکاب الشبهات یوجب اقتراب الإنسان من الوقوع فی الحرام، مفادها أنّ مرتکب الشبهة ----- کما فی بعض الروایات ----- مشرف علی الوقوع فی المحرّمات. الواضح من خلال التمثیل بالحمی (وراعی الغنم یوشک أنْ یقع فیه)، أو(کان لما استبان له من الإثم أترک)، وأمثال هذه العبارات، یُفهم منها أنّ ارتکاب الشبهة یوجب أنْ یقترب الإنسان من المحرمات بحیث یکون مشرفاً علی الدخول فی المحرّمات؛ وحینئذٍ من یستدل بهذه الروایات علی وجوب الاحتیاط لابدّ أنْ یثبت بأنّ الإشراف علی المحرّمات والاقتراب منها حرام، وأنّه یجب عدم الاقتراب من المحرّمات حتّی یکون بإمکانه أنْ یستدل بهذه الروایات علی وجوب اجتناب الشبهة والاحتیاط فی الشبهات؛ لأنّ مفاد هذه الروایات هو أنّ ارتکاب الشبهة یوجب الاقتراب من المحرّمات، لکن من قال أنّ الاقتراب من المحرّمات والإشراف علیها حرام یجب ترکه ؟ إذا ثبت وجوب ترکه؛ حینئذٍ یمکن الاستدلال بهذه الروایات علی وجوب ترک الشبهة؛ لأنّ ارتکاب الشبهة یوجب الاقتراب من الحرام، والاقتراب من الحرام حرام، لکن من الواضح أنّ هذا یتوقّف علی إثبات أنّ الاقتراب من المحرّمات حرام، وأنّ ترک الاقتراب من المحرّمات واجب. أمّا إذا لم نقل بوجوب ترک الاقتراب من المحرّمات، وقلنا بجواز الاقتراب، ولو علی نحو الکراهة؛ حینئذٍ لا یمکن إثبات وجوب الاحتیاط وحرمة ارتکاب الشبهة، وإنّما غایة ما یثبت هو الجواز علی نحو الکراهة، وهذا لیس هو المقصود للأخباریین، الأخباریون یریدون أنْ یثبتوا حرمة ارتکاب الشبهة، ووجوب الاجتناب عن الشبهة، بینما لا یُستفاد هذا المعنی من لسان هذه الروایات، وإنّما یُستفاد منه أنّ ارتکاب الشبهات یوجب الاقتراب من المحرّمات.

ص: 117

یمکن صیاغة هذا المطلب بصیاغةٍ أخری: أنّ الروایات واضحة فی أنّها تقول هناک أمور ثلاثة(حلال بیّن، وحرام بیّن، وشبهات لا یُعلم حرمتها ولا حلّیتها) والذی یُفهم من هذه الروایات(لو أنّ راعیاً رعی حول الحمی أوشک أنْ یقع فیها)، أو(فمن ترک ما اشتبه له من الإثم کان لما استبان له أترک) وأمثال هذه العبارات، الذی یُستفاد منها هذا المعنی الذی قلناه من أنّ ارتکاب الشبهات لیس فیه محذور ومانع نفسی، وإنّما محذوره هو أنّه یقرّب الإنسان من المحرّمات بحیث من یرتکب الشبهات یوشک أنْ یقع فی المحرّمات، باعتبار أنّ جرأة الإنسان علی ارتکاب محتمل الحرمة قد تُجرّئه علی أنْ یرتکب ما استبان له من الإثم کما فی بعض الروایات، ومن هنا یظهر أنّ ملاک النهی عن ارتکاب الشبهة، أو الترغیب فی ترک الشبهة المستفاد من هذه الروایة هو أنّ ارتکاب الشبهات یجرّأ الإنسان علی ارتکاب ما یعلم حرمته، إذا ارتکب الشبهات سوف یتجرّأ علی ارتکاب المحرّمات المعلومة لدیه. هذا مفاد الروایات، وهذا شیء آخر غیر ما یریده الأخباریون، ما یریده الأخباریون هو أنّ ارتکاب الشبهة حرام، یجب الاحتیاط فی الشبهات، لیس من باب أنّه یُجرّأ الإنسان علی ارتکاب المحرّمات المعلومة لدیه، هذا هو ملاک النهی فی هذه الروایات، بینما هم یثبتون حرمة الإقدام، ووجوب الاحتیاط بملاکٍ آخر، وهو ملاک أنّ هذا فیه احتمال الحرمة الواقعیّة، احتمال أنْ یقع فی الحرام یمنعه من ارتکاب تلک الشبهة، وإنْ لم یکن الحرام معلوماً لدیه. هذا ملاک آخر غیر ذاک الملاک، هناک فرق بینهما، مرّة نقول له لا ترتکب الشبهة لأنّه یجرّئک علی ارتکاب المحرّمات المعلومة لدیک، ما تکون حرمته معلومة لدیک، ارتکاب الشبهات یجرّئک علی ارتکابه(کان لما استبان له من الإثم أترک)، بینما إذا ارتکب الشبهات لا یکون أترک لما استبان له من الإثم؛ بل یکون أقرب إلی أنْ یرتکب ما استبان له من الإثم. هذا لیس هو المقصود للأخباریین، الأخباریون غیر ناظرین إلی هذا عندما یقولون بوجوب الاحتیاط فی الشبهات، أو حرمة ارتکاب الشبهات، وإنّما الملاک عندهم هو أنّ ارتکاب الشبهة یُحتمل فیه الوقوع فی الحرام الواقعی، احتمال أنْ یکون ما یرتکبه حراماً واقعیاً، هذا یمنع من ارتکاب الشبهة. هذا لسان آخر وملاک آخر لا یکاد یستفاد من هذه الأخبار، مفاد هذه الأخبار هو أنّ ارتکاب الشبهات یقرّب الإنسان من العصیان ومن التمرّد علی الله(سبحانه وتعالی) وارتکاب المحرّمات المعلومة لدیه، وقلنا سابقاً بأنّ هذا لا یمکن الاستدلال به علی حرمة ارتکاب الشبهة إلاّ إذا اثبتنا أنّ الاقتراب من المحرّمات، وأنْ یوشک علی ارتکاب الحرام یکون محرّماً، وإلاّ إذا قلنا أنّه غیر محرم، أو افترضنا أنّه مکروه، فلا یثبت حینئذٍ إلاّ الجواز، ولو علی نحو الکراهة، ولا یکاد یثبت به حرمة الارتکاب ووجوب الاحتیاط، وهذا یُستفاد من کل هذه الأخبار التی قرأناها، وحتّی الأخبار التی لم نقرأها.

ص: 118

الروایة الثالثة والأخیرة: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة الواردة فی الخبرین المتعارضین. الروایة طویلة، السائل یسأل فیها الإمام(علیه السلام) عن الخبرین المتعارضین. الإمام(علیه السلام) فی البدایة ذکر مرّجحات باب التعارض، الأصدقیّة، والأورعیّة.....الخ، وفی الأخیر ذکر الترجیح بالشهرة، والمقصود بالشهرة علی ما ذکروا واتّفقوا علیه هو الشهرة الروائیة، خبران متعارضان لم تتم فیهما مرجّحات باب التعارض ووصلت النوبة إلی الشهرة، فیقول له هذا الخبران المتعارضان إذا کان أحدهما مشهوراً شهرة روائیّة، وعُبّر عنه فی الروایة ب----(إذا کان مجمعاً علیه من أصحابک) إذا کان مشهوراً، والآخر بطبیعة الحال فی حالة التعارض یکون غیر مشهور، یکون شاذاً ونادراً کما عبّرت الروایة(ودع الشاذ النادر) یعنی الذی لا یکون مشهوراً ولا مجمعاً علیه من اصحابک. الإمام(علیه السلام) أمره بطرح الشاذ النادر، وعللّ الترجیح بالشهرة، ولزوم الأخذ بالروایة المشهورة، وترک الخبر الشاذ النادر، بقوله(علیه السلام):(أنّ المجمع علیه لا ریب فیه) وذُکر فی محلّه أنّ المقصود بالمجمع علیه هو المشهور، ولم یقل بعد ذلک أنّ الشاذ النادر ما هو ؟ هل الشاذ النادر هو ممّا لا ریب فی بطلانه ؟ أو هو ممّا فیه الریب ؟ الروایة لم تصرّح بذلک، لکن الذی یُفهم من الروایة، وبقرائن سیأتی ذکرُها أنّ الشاذ النادر هو ممّا فیه الریب، ولیس أنّه ممّا لا ریب فی بطلانه، یعنی معلوم البطلان، وإنّما هو ممّا فیه الریب.

الإمام(علیه السلام) فی هذا المقام ذکر حدیث التثلیث، قال:(یُنظر إلی ما کان من روایتهم عنّا فی ذلک الذی حکما به المجمع علیه من أصحابک، فیؤخذ به من حکمنا ویُترک الشاذ الذی لیس بمشهورٍ عند أصحابک، فأنّ المجمع علیه لا ریب فیه، وإنّما الأمور ثلاثة، أمر بیّن رشده، فیُتّبع، وأمر بیّن غیّه فیُجتنب، وأمر مشکل یُرَدّ علمه إلی الله ورسوله، قال رسول الله صلّی اللّه علیه وآله وسلّم :حلالٌ بیّن، وحرام بیّن، وشبهات بین ذلک، فمن ترک الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتکب المحرّمات وهلک من حیث لا یعلم). (1) هذا ما ذُکر فی هذه الروایات.

ص: 119


1- تهذیب الأحکام، الشیخ الطوسی، ج 6، ص 301.

ذکر الشیخ الأنصاری فی الرسائل جملة من القرائن علی أنّ الشاذ النادر هو ممّا فیه الریب، لا أنّه معلوم البطلان، والغرض من الاهتمام بهذا الشیء هو أنْ ندخل الشاذ النادر فی القسم الثالث الذی ذکره الإمام(علیه السلام) وهو الأمر المشکل، وإلاّ إذا کان الشاذ النادر ممّا لا ریب فی بطلانه، فسوف یدخل فی القسم الثانی، یعنی فی بیّن الغی الذی حکم الإمام(علیه السلام) بوجوب اجتنابه. نحن نقول لا یُفهم من الروایة أنّ الشاذ النادر هو ممّا لا ریب فی بطلانه حتّی یدخل فی القسم الثانی، وإنّما هو ممّا فیه الریب، فیدخل فی القسم الثالث الذی هو(الأمر المشکل).

القرینة الأولی: أنّ الترجیح بالشهرة فی الروایة ذُکر بعد أمورٍ أخری کالترجیح بالأصدقیّة والأعدلیّة، وبعد أنْ استنفذ مرجّحات باب التعارض ذکر أخیراً الترجیح بالشهرة. یقول(قدّس سرّه):( والمراد أنّ الشاذ فیه ریب لا أنّ الشهرة تجعل الشاذ ممّا لا ریب فی بطلانه، وإلاّ لم یکن معنی لتأخیر الترجیح بالشهرة عن الترجیح بالأصدقیّة والأعدلیّة، والأورعیّة، ولا لفرض الراوی الشهرة فی کلا الخبرین، ولا لتثلیث الأمور، ثمّ الاستشهاد بتثلیث النبی صلّی الله علیه وآله وسلّم) (1)

إذن: الشهرة لا توجب العلم ببطلان ما یعارض الخبر المشهور، وإنّما یکون ما یعارض الخبر المشهور ممّا فیه الریب، وهذا یناسب تقدیم الترجیح بالأصدقیّة والأعدلیّة وغیرها علی الترجیح بالشهرة.

القرینة الثانیة: أنّ الراوی بعد أنْ أکمل الإمام(علیه السلام) کلامه افترض الشهرة فی کلا الخبرین، بعد أنْ قال الإمام(علیه السلام) رجّح بالشهرة، واعمل بالمشهور، ودع الشاذ النادر، قال الراوی فی مقام التفریع: فإذا کان کل منهما مشهوراً، یعنی افترض الشهرة فی الخبرین المتعارضین. ومن الواضح أنّ هذا لا ینسجم مع افتراض أنّ الشهرة توجب العلم ببطلان ما یقابل المشهور، فکیف تُفرض الشهرة فی کلیهما ؟ هذا غیر معقول، أنْ نفترض الشهرة فی هذا الحدیث وفی هذا الحدیث معاً مع افتراض تعارضهما، والحال أنّ کون أحد الخبرین مشهوراً یوجب العلم ببطلان الآخر، فیسقط عن الاعتبار، فلا معنی لافتراض الشهرة فی کلٍ منهما، هذا لا ینسجم إلاّ مع افتراض ما قاله الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) وقالوه کلّهم من أنّ ما یقابل المشهور هو ممّا فیه الریب؛ فحینئذٍ یقال: أنّ هذا یدخل فی القسم الثالث الذی هو عبارة عن الأمر المشکل.

ص: 120


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 83.

القرینة الثالثة: أنّ الشیخ(قدّس سرّه) قال: أنّه علی تقدیر أنْ یکون الشاذ وغیر المشهور ممّا لا ریب فی بطلانه؛ حینئذٍ تکون الأمور اثنین لا ثلاثة؛ لأنّه سوف یکون لدینا أمر بیّن الرشد، وأمر بیّن الغی، وما یقابل المشهور یدخل فی بیّن الغی، فتکون الأمور اثنین لا ثلاثة، ولا داعی حینئذٍ لذکر أنّ الأمور ثلاثة فی کلام الإمام(علیه السلام)؛ إذ فی مورد الروایة لیس لدینا أمور ثلاثة، وإنّما لدینا أمران أمر بیّن الرشد الذی هو المشهور المجمع علیه، وأمر بیّن الغیّ الذی هو الخبر الشاذ النادر إذا کان موجباً للعلم ببطلانه، فیدخل فی بیّن الغیّ، فلا داعی لتثلیث الأمور فی کلام الإمام(علیه السلام)، ولا داعی لاستشهاده بکلام النبی(صلّی اللّه علیه وآله وسلّم) أیضاً الوارد فی التثلیث، کل هذا لا داعی له؛ لأنّ الأمور تکون اثنین لا ثلاثة، بینما إذا قلنا أنّ الشهرة لا توجب العلم بالبطلان؛ فحینئذٍ تکون الأمور ثلاثة، أمر بیّن الرشد، وأمر بیّن الغی، وأمر مشکل؛ وحینئذٍ ینطبق عنوان المشکل علی الخبر الشاذ الذی فیه ریب، لا أنّه معلوم البطلان.

الذی یمکن أنْ یقال: بقطع النظر عن أنّ هذه القرائن تامّة، أو لا، أنّ طبیعة القضیّة أیضاً تقتضی أنْ یکون ما یقابل المشهور ما فیه الریب، لا أنّه ممّا لا ریب فی بطلانه؛ لأنّ غایة ما تقتضی الشهرة هو أنْ یقطع الإنسان نتیجة الشهرة، بصدور هذه الروایة المشهورة والمجمع علیها من المعصوم(علیه السلام)، لکن بالرغم من هذا، هذا لا یوجب القطع ببطلان ما یقابلها؛ لأنّ هناک أموراً أخری غیر مسألة الصدور، هناک مسألة جهة الصدور، ومسألة الدلالة، هذه أمور لیست قطعیّة، الشهرة توجب القطع بالصدور، لکن هذه الروایة ما هی جهة الدلالة فیها، أو ما هی الدلالة فی هذه الروایة ؟ هذا یوجب أنْ لا نقطع ببطلان ما یقابلها، کیف نقطع ببطلانه ؟ والحال أنّه من الممکن أنْ یکون ما یقابلها صحیح وصادر من المعصوم (علیه السلام)، باعتبار أنّ الدلالة فی المشهور لیست واضحة، أی أنّ جهة الصدور فیه لیست واضحة، فلا نستطیع بمجرّد أنّ روایة مشهورة، حتّی لو قطعنا بصدورها أنْ نجزم بفساد ما یقابلها؛ بل من الممکن أنْ تکون هذه صادرة وهذه صادرة، ویُحلّ التعارض عن طریق افتراض التقیّة، أو عن طریق الجمع الدلالی بین الروایتین.

ص: 121

إذن: مجرّد الشهرة لا یقتضی الجزم ببطلان ما یقابها. نعم، یمکن أنْ نقول فیه ریب، أو لیس حجّة، أو لا یجوز العمل به، کل هذا صحیح، لکن هذا شیء، والجزم بالبطلان والفساد، والجزم بأنّه ممّا لا ریب فی بطلانه، هذا لا تقتضیه طبیعة الشهرة، بقطع النظر عن القرائن التی ذکرها الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه).

إلی هنا وصلنا إلی أنّ کل هذا هو محاولة فی مقام الاستدلال بالروایة علی إدخال الخبر الشاذ النادر فی القسم الثالث الذی هو الأمر المشکل. إذن: الخبر الشاذ النادر داخل فی الأمر المشکل، وفی الأمر المشکل أُمرَ بردّه کما فی الروایة إلی الله(سبحانه وتعالی)، وإلی الرسول(صلّی اللّه علیه وآله وسلّم)، والمقصود بذلک هو الاحتیاط ووجوب الاجتناب.

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی الروایة الثالثة من الطائفة الأخیرة، وهی مقبولة عمر بن حنظلة، بیّنّا کیفیّة الاستدلال بها علی وجوب الاحتیاط، وکان حاصله هو: أنّ الروایة قبل الاستشهاد بحدیث النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، الروایة تأمر بالاجتناب عن الخبر الشاذ النادر، وتُدخِل الخبر الشاذ النادر فی الأمر المشکِل فی مقابل بیّن الرشد وبیّن الغیّ، وتأمر الروایة باجتنابه، ویُطرح الخبر الشاذ النادر؛ لأنّ المجمع علیه لا ریب فیه، وقلنا أنّ المقصود أنّ ما یقابل المجمع علیه ممّا فیه الریب، فیدخل فی القسم الثالث الذی ذکره الإمام(علیه السلام) بکلامه وهو الأمر المشکِل، وحکمه هو الرد إلی الله(عزّ وجلّ) وإلی الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، وهو الذی یعنی طرح الخبر الشاذ وعدم الاعتداد به؛ لأنّه هو الشیء الذی أمر الإمام(علیه السلام)قبل التثلیث المذکور فی کلامه، أمر بطرح الشاذ النادر، وذکر التثلیث فی کلامه قبل أنْ یستشهد بحدیث الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، یُفهم من هذا أنّ الخبر الشاذ النادر یدخل فی القسم الثالث، أی فی الأمر المشکل، وأنّ الأمر المشکل یجب اجتنابه.

ص: 122

إلی هنا هذا لیس دلیلاً علی وجوب الاجتناب والاحتیاط فی الشبهة الحکمیّة التحریمیّة، خصوصاً أنّ الکلام الوارد فی کلام الإمام(علیه السلام) لیس هو(حلالٌ بیّن، وحرامٌ بیّن، وشبهات)، لم تُذکر الشُبهات فی کلام الإمام(علیه السلام)، وإنّما ذُکر(أمر تبیّن لک رشده، وأمر تبیّن لک غیّه، وأمر مشکل) لکن الاستدلال لیس بالتثلیث الوارد فی کلام الإمام(علیه السلام)، وإنّما الاستدلال بالتثلیث الذی استشهد به الإمام(علیه السلام) من الحدیث النبوی؛ لأنّ الوارد فیه(حلالٌ بیّن، وحرامٌ بیّن، وشبهات بین ذلک، فمن ترک الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشُبهات وقع فی المحرّمات وهلک من حیث لا یعلم)، الاستدلال یکون بهذا الشکل: لولا أنّ الحدیث فیه دلالة علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات، ووجوب ترک الشبهة، لما صحّ الاستشهاد به علی وجوب ترک الأمر المشکل الذی هو مورد الروایة؛ لأنّ الإمام(علیه السلام) یستشهد بالحدیث النبوی لإثبات ما یریده، کأنّه یستدلّ علی حکمٍ بیّنه بالحدیث النبوی، والذی بیّنه الإمام(علیه السلام) فی کلامه هو وجوب طرح الخبر الشاذ النادر، فلابدّ أنْ یکون الاستشهاد بحدیث یدلّ علی وجوب الطرح والترک ووجوب الاجتناب، فاستشهد الإمام(علیه السلام) بهذا الحدیث، فلابدّ أنْ یکون هذا الحدیث دالاً علی وجوب ترک الشبهات، وطبّقه الإمام(علیه السلام) علی الأمر المشکل الذی هو الخبر الشاذ النادر، هذا یجب ترکه، فلابدّ أنّ الحدیث یدلّ علی الوجوب والإلزام بترک الشبهة، وإلاّ لو لم یکن فی الحدیث دلالة علی وجوب ترک الشبهات، لما صحّ الاستشهاد به علی وجوب ترک الخبر الشاذ النادر.

إذن: من استشهاد الإمام(علیه السلام) بالحدیث النبوی نستکشف أنّ هذا الحدیث فیه دلالة علی وجوب الاحتیاط فی الشُبهات، ووجوب الاجتناب عن الشُبهة، وهذا هو المطلوب فی المقام.

ص: 123

لوحظ علی الاستدلال بالروایة الشریفة علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام: الظاهر أنّ الأمر بالردّ إلی الله(عزّ وجل) فی حدیث الإمام(علیه السلام)، (وأمر مشکل یُردّ إلی الله عزّ وجل) أنّ المقصود به لیس هو وجوب الترک والاجتناب کما هو مدّعی الأخباری، وإنّما المقصود به هو عدم الاعتماد علیه، وقوله: یُرد إلی الله(عزّ وجل) کنایة عن أنّ هذا الشیء لا یُعتمد علیه فی استنباط الحکم الشرعی، وأنّ مورد الروایة کما هو واضح خبران متعارضان، أحدهما مشهور لا ریب فیه، والآخر شاذ نادر فیه ریب، الإمام(علیه السلام) یقول أنّ هذا الشاذ النادر یدخل فی الأمر المشکل، وحکم الأمر المشکل هو أنّه یُرَد إلی الله(عزّ وجل)، ومعنی الردّ إلی الله(عزّ وجل) هو عدم الاعتماد علیه؛ لأنّه لیس حجّةً حتّی نستند إلیه فی إثبات الحکم الشرعی، وإنّما الحجّة هو الخبر المقابل له الذی هو مشهور. هذا هو المقصود بالردّ إلی الله(عزّ وجل) ، وفی بعض النسخ إلی الله(عزّ وجل)، ورسوله(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، لا الاجتناب والترک کما هو مقصود الأخباری، حیث أنّه یقول أنّ الحدیث یدلّ علی وجوب ترک الخبر الشاذ، بینما المُدّعی فی المناقشة هو أننّا لا نفهم هذا من الردّ إلی الله(عزّ وجل)، وإنّما الردّ إلی الله(عزّ وجل) هو کنایة عن عدم الاعتماد علی هذا الخبر، والقرینة علی ذلک:

أولاً: مسألة التطبیق، حیث أنّ الإمام(علیه السلام) طبّق التثلیث الذی ذکره فی کلامه علی الخبرین المتعارضین الذی هو مورد الروایة. إذن: نحن نتکلّم عن خبرین، وعن دلیلین وقع التعارض بینهما، ومن الواضح أنّ الدلیل یُستند إلیه لإثبات الحکم الشرعی، الإمام(علیه السلام) یقول له: هذا الدلیل یمکن أنْ تستند إلیه لإثبات حکمٍ شرعی، لکنّ هذا الشاذ النادر من الدلیلین المتعارضین لیس مورد اعتماد، ولا یمکن الاستناد إلیه لإثبات الحکم الشرعی، وهذا قرینة علی أنّ المقصود من الرد إلی الله(عزّ وجل) لیس هو الترک کما یقول الأخباری، وإنّما المقصود منه هو عدم الاعتماد بقرینة التطبیق علی دلیلین متعارضین.

ص: 124

ثانیاً: قرینة الاتّباع، أمرٌ تبیّن لک رشده، فاتّبعه، أو فمتّبع، نفس الاتّباع یناسب الدلیل، ولیس مناسباً للحکم الشرعی؛ لأنّ الحدیث عن دلیلٍ، الدلیل الذی تبیّن رشده وصحّته یُتّبع، یعنی یُعتمَد علیه لإثبات الحکم الشرعی، والدلیل الذی تبیّن غیّه وفساده یُجتنب، بمعنی لا یُعتمّد علیه لإثبات الحکم الشرعی، هذا شأن الأدلّة. فالمقصود بالرد إلی الله(عزّ وجل)، والرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم) هو عدم الاعتماد علیه، لا ترک الشیء واجتنابه، بمعنی عدم ارتکابه. الذی یُفهَم من الأمر المشکل هو الأمر الذی فیه احتمالان، له وجهان متساویان، فیقول له أنت فی مثل هذه الحالة لا تستطیع أنْ تعتمد علی هذا الوجه، ولا علی هذا الوجه، وهذا من شأن الأمر المشکل، أنْ یکون فیه احتمالان، وأنْ یکون له وجهان، والمقصود أنّه لا یجوز الاعتماد علی أحد الوجهین، فیکون الحدیث ناظراً إلی باب الأدلّة، وانّ الأدلّة إنْ کانت ممّا لا ریب فیها، فیمکن أنْ تتّبع، وأنْ یُستنَد إلیها لإثبات الحکم الشرعی، وأمّا إنْ کانت الأدلّة ممّا لا ریب فی بطلانها، أو ممّا فیها ریب، فلا یجوز الاعتماد علیها لإثبات الحکم الشرعی. غایة الأمر أنّ هناک فرقاً بینهما، الدلیل الذی لا ریب فی فساده وبطلانه، هذا واضح، لکنّ الأمر المردّد نُبّه علی أنّ حاله حال الدلیل الذی لا ریب فی بطلانه فی عدم إمکان الاعتماد علیه لإثبات الحکم الشرعی، فالروایة ناظرة إلی باب الأدلّة لا إلی باب الأحکام.

وأمّا ما استشهد به الإمام(علیه السلام) من التثلیث الوارد فی کلام النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، فأنّه یختلف، هذا(بیّن رشده، وبیّن غیّه، وأمر مشکل)، بینما ذاک صریح(حلال بیّن، وحرام بیّن، وشُبهات بین ذلک)، هذا الذی استشهد به الإمام(علیه السلام) من کلام النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، الذی یُبطل الاستدلال به علی وجوب الاحتیاط فی محل الکلام هو أنْ یقال: أنّ مجرّد الاستشهاد بهذا الحدیث الشریف لیس فیه دلالة علی أنّ المراد من الحدیث هو وجوب الاحتیاط فی الشبهات، والإلزام بذلک کما هو المقصود للأخباریین؛ بل یمکن أنْ نفترض صحّة الاستشهاد بالحدیث النبوی بالرغم من أنّ المورد یجب ترکه، ویجب اجتنابه، بالرغم من أنّ حکم الأمر المشکل الذی هو الخبر الشاذ هو الإلزام ----- سواء فُسّر الإلزام، بالترک، أو بعدم جواز الاعتماد علیه واستنباط الحکم الشرعی منه ----- مع ذلک، لا یلزم أنّ نقول أنّ الحدیث النبوی أیضاً فیه دلالة علی الإلزام بترک الشبهة کما هو مبنی الاستدلال، حیث أنّ مبنی الاستدلال هو أنّ الأمر المشکل حکمه إلزامی، والاستشهاد بالتثلیث النبوی لابدّ أنْ یکون دالاً علی الإلزام، وإلاّ لو لم یدل علی الإلزام لما صحّ الاستشهاد.

ص: 125

المناقشة تقول: مجرّد الاستشهاد لیس فیه دلالة علی ذلک؛ لأنّه یمکن أنْ نفترض أنّ الحدیث النبوی لا یدلّ علی الإلزام؛ بل یدلّ علی مطلق الرجحان الجامع بین الاستحباب والوجوب، الأعم من الاستحباب والوجوب، ومع ذلک یصحّ الاستشهاد به فی موردٍ یکون الاجتناب فیه لازماً وواجباً، ویمکن الجمع بینهما بأنْ نقول: أنّ الحدیث النبوی الشریف یقول أنّ من ترک الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات وقع فی المحرّمات، هذا فی مقام الإرشاد إلی أنّ ارتکاب الشبهة یوجب الوقوع فی الحرام علی غرار ما تقدّم فی الروایات السابقة. الروایة الشریفة فی مقام الإرشاد إلی أنّ ارتکاب الشبهة یلازم ----- بأیّ شیءٍ فسّرنا هذه الملازمة ----- الوقوع فی الحرام؛ حینئذٍ هذا یمکن تفسیره علی غرار ما تقدّم فی تفسیر الطائفة الأولی(الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة)؛ فحینئذٍ هذا یعتمد علی الهلکة الموجودة فی اقتحام تلک الشبهة، هل هی منجّزة، أو غیر منجّزة ؟ إذا کانت منجّزة، فالتحرّز عنها یکون لازماً، أمّا إذا لم تکن منجّزة، فالتحرّز عنها لا یکون لازماً، وهذا الحدیث حدیث إرشادی، إرشاد إلی التحرّز عن الحرام، وعن الهلکة، إذا فسّرنا الحدیث بهذا التفسیر؛ حینئذٍ یکون الحدیث أعم من الوجوب والاستحباب، یعنی یدلّ علی مطلق رجحان التحرّز عن الهلکة، هذا یختلف باختلاف الموارد، إذا کانت الهلکة منجّزة بمنجّزٍ سابق؛ حینئذٍ یکون التحرّز عنها لازماً وواجباً کما هو الحال فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، وأمّا إذا کانت هذه الشبهة لیست منجّزة بمنجّزٍ سابق کما فی الشبهات الموضوعیّة، أو الشبهات الحکمیّة الوجوبیّة التی اتّفق الجمیع علی عدم وجوب الاحتیاط فیها؛ حینئذٍ یشملها الحدیث ویکون التحرّز عنها راجحاً، إذا قلنا بأنّ الحدیث ما هو إلاّ إرشاد إلی التحرّز عن الهلکة، والتحرّز عن المحرّمات وأمثال هذه التعبیرات؛ حینئذٍ لا یکون الحدیث دالاّ علی الإلزام بالتحرّز، والاجتناب، وإنّما یکون دالاً علی الرجحان الأعم من الاستحباب والوجوب، لو حملنا الحدیث الشریف علی مطلق الرجحان هل ینافی هذا الاستشهاد به فی موردٍ یکون التحرّز فیه واجباً ؟ لا ینافیه، عندما یُفترّض أنّ التحرّز فی الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی واجب، هذا الحدیث یشمله؛ لأنّه إرشاد إلی التحرّز عن الشبهة، والضرر، والهلکة، فیمکن الاستشهاد به فی هذا المورد الذی یکون التحرّز فیه واجباً. فی محل الکلام سلّمنا أنّ الأمر المشکل یجب التحرّز عنه، لکنّ الاستشهاد بالنبوی الشریف لا یکون دلیلاً، أو قرینة علی أنّ الحکم فی الحدیث النبوی الشریف إلزامی؛ بل هذا ینسجم مع کونه إلزامیاً، وینسجم مع کونه بمطلق الرجحان الذی یمکن تطبیقه علی ما یکون التحرّز فیه واجباً، کما یمکن تطبیقه علی ما یکون التحرّز فیه لیس واجباً؛ بل راجحاً.

ص: 126

إذن: مجرّد استشهاد الإمام(علیه السلام) بالحدیث النبوی لیس دلیلاً علی أنّ الحدیث النبوی دالٌ علی وجوب اجتناب الشبهة وعلی الإلزام بالاحتیاط، بینما الاستدلال کان یبتنی علی أنّ مجرّد الاستشهاد بالحدیث النبوی لابدّ أنْ یکون مفاد الحدیث النبوی إلزامیاً حتّی ینطبق علی الإلزام بترک الأمر المشکل، وترک الخبر الشاذ. قلنا: مجرّد الاستشهاد لیس فیه دلالة علی ذلک.

وأمّا إذا لاحظنا الحدیث النبوی الشریف بقطع النظر عن الاستشهاد به، هو حدیث فی حدّ نفسه وصل إلینا، یقال فیه(حلالٌ بین، وحرامٌ بیّن، وشبهات بی ذلک) هل فیه دلالة علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات، أو لا ؟ قد یقال: أنّ فیه دلالة علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات.

الذی یمکن أنْ یقال فی هذا هو: من أین تأتی هذه الدلالة علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات ؟ الحدیث لیس فیه(اجتنب الشبهة)، أو(دع الشبهة)، وإنّما فیه(شبهات بین ذلک، فمن اجتنب الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات وقع فی المحرّمات، وهلک من حیث لا یعلم). الآن نأتی إلی هاتین الجملتین الّلتین ذکرتا فی الشبهات(شبهات بین ذلک).

أمّا الجملة الأولی: وهی من ترک الشبهات نجا من المحرمات. هذا أمر صحیح فی حدّ نفسه، والعقل یدرکه، أنّ الذی یترک الشبهات لا یرتکب المحرّمات. هذه الشبهات التی نعلم إجمالاً بأنّ فیها محرّمات واقعیّة، ورد أنّ الذی یترکها ----- کلامنا فی الشبهات الحکمیّة التحریمیّة ----- ینجو من المحرّمات، وسوف لا یرتکب حراماً. هذه قضیّة واقعیّة صحیحة، لا إشکال فیها، لکنّ هذا مجرّد إرشاد إلی قضیّة واقعیّة یدرک العقل صحّتها وواقعیتها بقطع النظر عن أیّ شیءٍ آخر. هذه الجملة لا تفید أکثر من أنّها إرشاد إلی هذه القضیّة الحقیقیّة الواقعیّة ولا یُستفاد منها الإلزام، إرشاد إلی مطلب عقلی یدرکه العقل، أنّ الذی یترک الشبهات ینجو من المحرّمات.

ص: 127

الکلام فی الجملة الثانیة: ومن أخذ بالشبهات وقع فی المحرّمات. هذه هی الجملة التی قد یُستدَل بها علی وجوب الاحتیاط، وحرمة اقتحام الشبهة؛ لأنّ الحدیث الشریف یقول أنّ الذی یأخذ بالشبهات، یعنی أنّ الذی یقتحم الشبهة التحریمیّة یقع فی المحرّمات، ولا إشکال أنّ الوقوع فی المحرّمات حرام، فیکون ارتکاب الشبهات حرام، یعنی یجب اجتناب الشبهات، فیثبت مقصود الأخباریین. هذه الفقرة هی المهمّة، الحدیث الشریف یقول من أخذ بالشبهات حتماً سیقع فی المحرّمات، ولا إشکال أنّ الوقوع فی الحرام أمر لا یریده الشارع، فیکون ارتکاب الشبهات أمراً غیر جائز، وهو معنی وجوب الاحتیاط. هل الفقرة تدلّ علی ذلک، أو لا ؟

نقول:أنّ هذه الفقرة إذا أخذنا بظاهرها کما هی من دون تأویلٍ، ومن دون حمل، ظاهرها أنّ الذی یرتکب جمیع الشبهات؛ لأنّه یقول(من أخذ بالشبهات)، إذا حملناها علی أنّ المقصود بها جمیع الشبهات، یعنی من أخذ بجمیع الشبهات وقع فی المحرّمات، وهلک من حیث لا یعلم، وأساسه أننّا نعلم علماً إجمالیاً بأنّ هناک محرّمات واقعیّة فی ضمن هذه الشبهات الکثیرة، فالذی یرتکب جمیع الشبهات یکون قطعاً قد وقع فی المحرّمات، یعنی أنّ الحدیث فی مقام تحذیر الإنسان من ارتکاب جمیع الشبهات، وأنّه یترتّب علی ذلک أنْ یقع فی المحرّمات. هذا هو الظهور الأوّلی لهذه الفقرة، لکن ما علاقة هذا الظهور الأوّلی بمحل الکلام ؟ هل یثبت مقصود الأخباری من وجوب الاحتیاط فی الشبهات ؟ کلا، الأخباری یرید أنْ یقول أنّ ارتکاب شبهة واحدة هو حرام، ویرید أنْ یثبت وجوب الاحتیاط فی کل شبهة شبهة، لا أنّه یرید أنْ یقول أنّ ارتکاب جمیع المحرّمات حرام وغیر جائز، محل کلامنا هو ارتکاب الشبهة الواحدة، هل یجب فیه الاحتیاط، أو لا ؟ هذا المعنی، بناءً علی أنْ تکون الروایة ناظرة إلیه، لا یثبت به مقصود الأخباری.

ص: 128

وبعبارة أخری: أنّ الأخباری یرید أنْ یقول بأنّ ارتکاب الشبهة غیر جائز لاحتمال الوقوع فی الحرام، أین هذا من ارتکاب الشبهات التی یعلم المکلّف بأنّه یقع فیها فی الحرام إذا کان المقصود جمیع الشبهات ؟! هذا شیءٌ، وهذا شیءٌ آخر، المبحوث عنه فی المقام هو لزوم ترک الشبهة لاحتمال الوقوع فی الحرام، ولیس لزوم ترک جمیع الشبهات لأنّه یؤدی إلی العلم بالوقوع فی المحرّمات؛ لأنّ هذا أمرٌ مسلّم، ولا إشکال فیه، وصحیح ولا یناقش فیه أحد، وإنّما الکلام فی ارتکاب الشبهة الواحدة التی یُحتمل، أو الشبهات التی لا یوجد فیها احتمال الوقوع فی الحرام.

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی الروایة الأخیرة، وهی مقبولة عمر بن حنظلة، وکان آخر الکلام فی ما استشهد به الإمام(علیه السلام) من حدیث التثلیث المروی عن النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، حیث قلنا بأنّ الحدیث فیه فقرتان:

الفقرة الأولی: قلنا أنّها واضحة فی الإرشاد إلی أنّ ترک الشبهات یؤدی إلی النجاة من المحرّمات، وهذا مطلب مسلّم وواضح، لکن لیس فیه دلالة علی الإلزام بترک الشبهة.

وأمّا الفقرة الثانیة: فیقول فیها(ومن أخذ بالشبهات وقع فی المحرّمات وهلک من حیث لا یعلم)، قلنا أنّ هذه العبارة تارةً نبقیها علی ظاهرها الأوّلی، وهو أنّ المقصود هو من أخذ بجمیع الشبهات وقع فی المحرّمات، وهذا مطلب صحیح وندرکه بقطع النظر عن الروایة، لکنّه لا یثبت المقصود فی محل الکلام؛ لأنّ المقصود فی محل الکلام هو أنّ ارتکاب الشبهة هل هو جائز، أو غیر جائز ؟ بملاک احتمال الوقوع فی الحرام، والأخباریون یقولون أنّ هذا الاحتمال لابدّ من الاعتناء به، ویجب الاحتیاط لاحتمال الوقوع فی الحرام، بینما الأصولیون یقولون لا یجب الاعتناء بهذا الاحتمال، فلا یجب الاحتیاط.

ص: 129

إذن: کلامنا فی ارتکاب الشبهة، ولو کانت واحدة بملاک احتمال الوقوع فی الحرام. وأین هذا ممّا یُفهم من الروایة من أنّ من یرتکب جمیع الشبهات یقع فی المحرّمات، وهذا لا إشکال فیه، باعتبار العلم الإجمالی بوجود محرّمات واقعیّة فی ضمن جمیع الشبهات، فمن یرتکب جمیع الشبهات یقع فی المحرّمات. هذا أمر واضح بلا إشکال. لکن هذا لا یثبت وجوب التجنّب عن الشبهة الواحدة التی لیس فیها إلاّ احتمال الوقوع فی الحرام. ومنه یظهر أنّه لابدّ من حمل الشبهات علی الجنس، یعنی أنّ المقصود لیس هو جمیع الشبهات، وإنّما علی الجنس، من أخذ بالشبهة وقع فی المحرّمات؛ وحینئذٍ لابدّ من تفسیرها بتفسیرٍ علی غرار ما تقدّم سابقاً فی بعض الروایات من أنّها تُفسّر بأنّ من ارتکب الشبهة وقع فی المحرّمات یعنی شارف علی الوقوع فی المحرّمات، لابدّ من ارتکاب تجوّزٍ من هذا القبیل، باعتبار أنّ ارتکاب الشبهة یقرّب الإنسان من المحرّمات، فیکون جریئاً علی ارتکاب المحرّمات، فیکون المراد بها هو نفس المراد بالروایات السابقة، وبناءً علیه: أیضاً لا یصحّ الاستدلال بهذه الروایة، لما تقدّم سابقاً فی تلک الروایات من أنّ هذا المعنی لا یثبت وجوب الاحتیاط، إلاّ إذا اثبتنا حرمة المشارفة والاقتراب من المحرّمات، لکنّ هذا أوّل الکلام، فمن قال أنّ الاقتراب من المحرّمات حرام ؟ وأنّ المشارفة علی المحرّمات حرام بحرمةٍ شرعیّة حتّی نستنبط من الروایة حرمة الإقدام علی الشبهة ووجوب الاحتیاط.

هذا تمام الکلام فی أدلّة وجوب الاحتیاط العقلیّة والنقلیّة. وقد تبیّن ممّا تقدّم عدم تمامیّة شیء من هذه الأدلّة، لا الدلیل العقلی، ولا الدلیل النقلی بکل تقریباته المتقدّمة، ومن هنا یظهر أنّه لا داعی للدخول فی بحثٍ مترتّب علی افتراض تمامیّة أدلة الاحتیاط، هناک بحث ذُکر، لکنّه مترتّب علی افتراض تمامیّة أدلّة الاحتیاط، وهذا البحث هو عبارة عن ما هی النسبة بین أدلّة الاحتیاط، وبین أدلّة البراءة ؟ من الواضح أنّ هذا البحث مبنی علی افتراض تمامیّة أدلّة البراءة، وهذا صحیح، ومبنی أیضاً علی افتراض تمامیّة أدلّة الاحتیاط؛ فحینئذٍ یقع الکلام فی ما هی النسبة بین أدلّة البراءة العقلیّة، وأدلة الاحتیاط ؟ أو بین أدلّة البراءة الشرعیّة من الآیات والروایات وبین أدلّة الاحتیاط العقلی والنقلی، فیقع الکلام فی أنّه عندما یتعارضان، بعد فرض تمامیّة کلٍ منهما، فأیّهما یُقدّم علی الآخر؟ هل تقدّم أدلّة البراءة ؟ أو تقدم أدلّة الاحتیاط ؟ هذا بحثٌ لا داعی للدخول فی تفاصیله، باعتبار أنّهم أیضاً انتهوا إلی نتیجة أنّ أدلّة الاحتیاط لیست تامّة، فتبقی أدلّة البراءة لا یوجد لها ما یعارضها؛ لذا نستغنی عن هذا البحث. ومن هنا یظهر أنّ ما تمّ من أدلّة البراءة من الکتاب والسُنّة لیس له ما یعارضه؛ لعدم تمامیّة شیءٍ من أدلة الاحتیاط التی استدلّ بها الأخباریون.

ص: 130

تنبیهات البراءة

إلی هنا یتمّ الکلام عن أصالة البراءة. یبقی الکلام فی تنبیهات البراءة، وتحت هذا العنوان ذکروا جملة من المباحث، کأنّ هذه التنبیهات ترتبط بشکلٍ، أو بآخر بالبراءة؛ فلذا ذُکرت هذه التنبیهات فی ذیل البحث عن أصالة البراءة.

التنبیه الأوّل: ما تعرّض إلیه الشیخ الأنصاری(قُدّس سرّه)، (1) حیث أنّه ذکر أنّ العمل بالبراءة وجریانها بعد الفراغ عن تمامیّة أدلّتها مشروط بشرط، وهو أنْ لا یکون هناک أصل موضوعی جارٍ فی موردها، وإلاّ إذا کان هناک أصل موضوعی یجری فی مورد البراءة؛ فحینئذٍ لا تصل النوبة إلی البراءة؛ لأنّ هذا الأصل الموضوعی یکون حاکماً، أو وارداً ------ علی الخلاف ------- علی أصالة البراءة، ومُثّل لذلک بالمثال المعروف وهو أصالة عدم التذکیة عند الشکّ فی حلّیّة حیوان، أو حرمته من جهة الشکّ فی قابلیته للتذکیة. یقول هنا لا مانع من الرجوع إلی البراءة فی حدّ نفسه کَشَکٍّ فی الشبهة الحکمیّة التحریمیّة، وقد قلنا سابقاً أنّ أدلّة البراءة تامّة فیها، لکن هنا یوجد ما یمنع من إجراء البراءة، وهو هذا الأصل الموضوعی الذی هو أصالة عدم التذکیة، أو استصحاب عدم التذکیة، فأنّ هذا الاستصحاب یحرز لنا عدم التذکیة، وبذلک یکون رافعاً لموضوع البراءة؛ لأنّ موضوع البراءة هو الشکّ فی الحرمة وفی الحلّیّة، واستصحاب عدم التذکیة تعبّداً یحرز لنا الحرمة، ویحرز لنا عدم التذکیة، یعنی یحرز لنا ما یترتّب علی عدم التذکیة، أی الأثر الشرعی وهو الحرمة، ومع إحراز الحرمة، ولو تعبّداً یرتفع موضوع أصالة البراءة الذی هو الشکّ فی الحرمة، فلا تصل النوبة إلی البراءة عند وجود أصلٍ موضوعی من هذا القبیل.

ص: 131


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 109.

الشیخ الأنصاری(قُدّس سرّه)بعد أنْ ذکر هذا کمثالٍ للأصل الموضوعی المانع من إجراء البراءة، دخل فی بحثٍ صغروی لیس له علاقة بأصل الفکرة، وإنّما هو بحث صغروی فی أصالة عدم التذکیة، وما هو المقصود بها ؟ وما هی المعانی الموجودة المتصوّرة للتذکیة ؟ فی فروع هذه المسألة، وکل ما یرتبط بتنقیح حال هذا الأصل، وهذه أبحاث أخذت منه مأخذاً کبیراً جدّاً وهی فی الحقیقة بحوث صغرویة، ومحلّها أنْ تُبحث فی الفقه، ولکنّها من الاستطرادات التی ذُکرت فی علم الأصول وهی کثیرة، کأنّهم لم یجدوا محلاً لبحثها، إلاّ فی هذا المکان، فوجدوا فرصة، فدخلوا فی هذه البحوث المُعمّقة والطویلة جدّاً، فدخل فی بحث أصالة عدم التذکیة، وما هی المعانی المتصوّرة لأصالة عدم التذکیة ؟ وما هو حکمه بالنسبة إلی الأدلّة الأخری ؟ ومتی یکون جاریاً، ومتی لا یکون جاریاً؟ یختلف هذا باختلاف التفسیرات المطروحة للتذکیة.....الخ ممّا لعلّه سنشیر إلیه ولو علی نحو الاختصار. بالنتیجة الفکرة فی أصلها هی فکرة صحیحة، ولیس لها اختصاص بالبراءة؛ بل هذا المطلب جارٍ فی جمیع الأدلّة؛ إذ لا إشکال فی أنّ العمل بأیّ دلیلٍ یکون مشروطاً بأنْ لا یکون هناک دلیل آخر حاکم أو وارد علیه، والعمل بأیّ دلیلٍ یکون مشروطاً، لیس فقط بهذا، وإنّما مشروط بأنْ لا یوجد معارض مساوٍ له یکون موجباً لسقوطه عن الحجّیّة، وکذا هو مشروط بأنْ لا یکون هناک دلیل رافع لموضوعه بالحکومة، أو بالورود، فهذا لیس شیئاً من مختصّات دلیل البراءة، وإنّما هو شیء عام، ومسلّم بلا إشکال، وإنّما طُبّق علی دلیل البراءة لغرض توضیح بعض الأمور، لعلّه لغرض توضیح أصالة عدم التذکیة، فالمطلب صحیح، أنّ إجراء أصالة البراءة یتوقّف علی عدم وجود أصلٍ موضوعی یجری فی موردها.

ص: 132

مدرسة المحقق النائینی(قدّس سرّه) اعترضت علی الشیخ الأنصاری(قُدّس سرّه) (1) بأنّه ما هو الوجه فی تخصیص الشرط بالأصل الموضوعی الذی یجری فی الموضوع کما هو ظاهر الأصل، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یقول لا وجه لهذا التخصیص؛ لأنّ الملاک فی تقدیم هذا الأصل علی البراءة هو الحکومة، الحکومة أیضاً بالتفسیر الذی هو یختاره، المبنیة علی مسلک الطریقیة وجعل العلمیّة والمحرزیّة، فکأنّ الأصل المجعول فیه العلمیّة والطریقیّة والمحرزیّة وبذلک یکون رافعاً لموضوع أصالة البراءة الذی هو الشک تعبّداً. إذن: الملاک فی هذا الشرط هو عدم وجود دلیل حاکم علی البراءة، ومن الواضح أنّ الدلیل الحاکم علی البراءة لا یختصّ بالأصول الموضوعیّة، أی لا یختصّ بخصوص الأصل الجاری فی الموضوع؛ بل یمکن أنْ یجری حتّی إذا کان أصلاً جاریاً فی الحکم فیما إذا کان رافعاً لموضوع البراءة، ورافعاً للشکّ حتّی إذا کان جاریاً فی الحکم لا فی الموضوع؛ إذ أیّ فرقٍ بین الأصل الجاری فی الموضوع، وبین الأصل الجاری فی الحکم إذا کان کل منهما رافعاً للشکّ الذی هو موضوع دلیل البراءة، العمل بأصالة لبراءة وجریانها کما یتوقّف علی عدم وجود أصل موضوعی حاکم علیها کذلک یتوقّف علی عدم وجود أصل حکمی حاکم علیها؛ لأنّ المناط هو الحکومة، ورفع الموضوع، هذا هو الذی یمنع من إجراء البراءة، وهذا لا یُفرّق فیه بین الأصل الموضوعی وبین الأصل الحکمی، وبناءً علی هذا یکون الشرط هو أنْ لا یکون هناک أصل حاکم یجری فی مورد البراءة، سواءً کان أصلاً موضوعیاً، کما فی مثال أصالة عدم التذکیة، أو کان أصلاً حکمیاً، من قبیل استصحاب الحرمة، فی بعض الأحیان قد یجری فی نفس المورد ما کان فی الحالة السابقة کالنجاسة، أو الحرمة، فیکون استصحاب الحرمة حاکماً علی البراءة والإباحة؛ لأنّه یعبّدنا بالحرمة، أو بالنجاسة، وبهذا یکون رافعاً لموضوع البراءة الذی هو الشکّ فی الحرمة، أو الشکّ فی النجاسة، مع أنّه أصل حکمی، أی أنّه أصل یجری فی مرتبة الحکم، لکن لمّا کان حاکماً بنفس الملاک الموجود فی الأصل الموضوعی؛ حینئذٍ لابدّ أنْ نشترط فی جریان البراءة عدم جریانه، کما نشترط فی جریان البراءة عدم جریان الأصل الموضوعی، فلا داعی لتخصیص هذا الشرط بالأصل الموضوعی کما ذکره الشیخ الأنصاری(قُدّس سرّه). هذا الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 133


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 380.

لکن ما هو مقصود الشیخ الأنصاری(قُدّس سرّه) بالأصل الموضوعی ؟ هل مقصوده خصوص الأصل الموضوعی الجاری فی الموضوع، أو مقصوده بالأصل الموضوعی هو الأصل الذی ینقّح موضوع أصالة البراءة ویرفع الشک ؟ یوجد احتمال أنّ هذا هو مقصود الشیخ الأنصاری(قُدّس سرّه)، فیعمّ الأصل الجاری فی الموضوع، والأصل الجاری فی الحکم؛ لأنّ الأصل الجاری فی الحکم ینقّح الموضوع، ویرفع الشک الذی أُخذ فی موضوع أصالة البراءة.

بعد أنْ ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) هذا المطلب، من الواضح أنّه افترض الحکومة بناءً علی مسلکه، یعنی حکومة الأصل الجاری فی الموضوع، أو الجاری فی الحکم، افترض أنّه حاکم علی أصالة البراءة، لکن افترض أنّ نکتة الحکومة هی مسلک الطریقیّة، وجَعْل العلمیّة وإلغاء احتمال الخلاف وأمثاله؛ لأنّ أصالة عدم التذکیة التی هی استصحاب عدم التذکیة، أو استصحاب الحرمة المتیّقنة سابقاً؛ لأنّ المجعول فی الاستصحاب الطریقیة؛ حینئذٍ یکون الاستصحاب حاکماً علی اصالة البراءة؛ لأنّ المجعول فی دلیل الاستصحاب هو الطریقیة، والعلمیّة والمحرزیّة، فیکون رافعاً للشکّ الذی هو موضوع البراءة، فیتقدّم علیه بالحکومة.

لکن یُلاحظ علیه: أنّنا فی بعض الأحیان نقدّم الأصل الجاری فی مورد البراءة، ولو لم یکن ممّا جُعلت فیه المحرزیّة، لم تُجعل فیه المحرزیّة باعتراف المحقق النائینی(قدّس سرّه)، مع ذلک هو یقدّمه علی البراءة، مع أنّه لا وجه لهذا التقدیم إذا کانت نکتة الحکومة هی الطریقیّة والعلمیّة؛ لأنّه لم تُجعل فیه المحرزیّة باعتراف المحقق النائینی(قدّس سرّه)، والمثال علی ذلک هو مسألة الماء المشکوک الطهارة، إذا حکمنا علیه بالطهارة استناداً إلی اصالة الطهارة، ولیس استصحاب الطهارة، بأنْ نفترض أنّه لیست له حالة سابقة کما فی توارد الحالتین، فلا نستطیع أنْ نستصحب الطهارة فی توارد الحالتین، فإذن: هو ماءٌ مشکوک الطهارة والنجاسة، حکمنا علیه بالطهارة استناداً إلی اصالة الطهارة، ثمّ هذا الماء الذی حکمنا علیه بالطهارة استناداً إلی اصالة الطهارة غسلنا به ثوباً نجساً، یعنی حالته السابقة هی النجاسة، وشککنا فی بقاء النجاسة وارتفاعها؛ لأننّا غسلنا الثوب بماءٍ نشکّ فی طهارته ونجاسته، هنا أیّهما الذی یتقدّم ؟ لا إشکال، وبلا خلاف، حتّی عند المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّ أصالة الطهارة تتقدّم علی استصحاب النجاسة فی الثوب؛ لأنّ أصالة الطهارة بمثابة الأصل الموضوعی السببی، بینما استصحاب النجاسة بمثابة الأصل المسببی الحکمی، یعنی أنّ أصالة الطهارة تجری فی مرتبة الموضوع، بینما الاستصحاب یجری فی مرتبة الحکم، فتتقدّم أصالة الطهارة علی استصحاب النجاسة، مع أنّه علی مبنی المحقق النائینی(قدّس سرّه) المفروض أنْ نعکس؛ لأنّ الاستصحاب هو الذی جُعلت فیه المحرزیّة، أمّا أصالة الطهارة، فلم تُجعل فیها المحرزیّة، لا أحد یقول أنّ العلمیّة والطریقیّة مجعولة فی أصالة الطهارة، العلمیة والطریقیة مجعولة فی الإمارات، وفی الاستصحاب علی رأیٍ، وإلاّ حتّی فی الاستصحاب هناک کلام فی أنّ الطریقیة لو تعقّلناها فی الإمارات هل هی مجعولة فی الاستصحاب، أو لا ؟ لو کانت نکتة الحکومة وتقدیم الأصل الجاری فی مورد أصالة البراءة هو الطریقیّة، إذن: فی أمثال هذا المثال لابدّ من عدم تقدیم أصالة الطهارة علی استصحاب النجاسة؛ بل لابدّ أنْ نحکم بالعکس؛ بأنْ نقدّم استصحاب نجاسة الثوب علی أصالة الطهارة الجاریة فی الماء؛ لأنّ الاستصحاب یحرز لنا نجاسة الثوب، فنکون قد أحرزنا نجاسة الثوب، فإذن: لا نستطیع أنْ نتمسّک بأصالة الطهارة لإثبات طهارة الثوب؛ لأنّ استصحاب النجاسة أحرز نجاسة الثوب تعبّداً. بینما هو لا یقول بذلک؛ بل الکل لا یقولون بذلک، هذا یکشف عن أنّ نکتة التقدیم فی محل کلامنا لیست هی جعل الطریقیّة وجعل العلمیّة، بهذا الدلیل، وإلاّ فی بعض الأحیان نقدّم الأصل الجاری فی الموضوع ولو لم یکن المجعول فیه هو المحرزیّة والطریقیّة والعلمیّة. النکتة فی التقدیم لیست هی الطریقیّة، وإنّما النکتة فی التقدیم قائمة فی نفس کون هذا الأصل یجری فی رتبة الموضوع، وکون الأصل الآخر یجری فی رتبة الحکم، النکتة فی التقدیم هی کون هذا الأصل سببی، وکون الأصل الآخر مسببی، فی محل کلامنا لماذا نشکّ فی حرمة هذا الحیوان الذی نشکّ فی حرمته وحلّیّته ؟ لأننّا نشکّ فی التذکیة. إذن: الشکّ فی التذکیة صار سبباً للشکّ فی حرمة الحیوان وحلّیّته، فذاک أصل سببی، وهذا أصل مسببی، نفس کون هذا أصل یجری فی رتبة الموضوع، وهذا أصل یجری فی رتبة الحکم، هذه هی النکتة للتقدیم فی نظر العرف، والتی تقتضی تقدیم الأصل الذی یجری فی رتبة الموضوع علی الأصل الذی یجری فی رتبة الحکم، بقطع النظر عن مسألة المحرزیّة وجعل الطریقیّة وأمثالها، وإنّما نفس کون هذا أصلاً سببیّاً یقتضی التقدیم؛ لأنّه فی رتبة السبب یجری وینقّح الموضوع ویرفع الشکّ فی مرتبة المسبب.

ص: 134

علی کل حال، نکات تقدیم الإمارات علی الأصول، وتقدیم بعض الأصول علی بعض، هذه النکات ستبحث مفصّلاً فی مباحث الاستصحاب والتعارض، والتعادل والتراجیح، ولیس هنا محل بحثها، وإنّما الغرض هو الإشارة إلی هذا الشیء علی وجهٍ سریع. فقلنا أنّهم دخلوا بعد إکمال هذا التنبیه فی بحث أصالة عدم التذکیة، وما هو المقصود بها ؟ وهل تکون أصالة عدم التذکیة حاکمة ومقدّمة علی البراءة وأصالة الحلّیّة فی جمیع الموارد، وبجمیع المعانی المطروحة له، أو لابدّ من التفصیل ؟ فدخلوا فی هذا البحث، ونحن تبعاً لهم أیضاً ندخل فی هذا البحث، لکن بشکلٍ مختصر.

ذکروا أنّ الحیوان الذی زُهقت روحه، یمکن تصوّر الشکّ فی حلّیّة لحمه وحرمته علی أنحاءٍ أربعة، وکلّ هذه الأنحاء تنقسم تارةً إلی شبهةٍ حکمیّةٍ، وإلی شبهةٍ موضوعیّةٍ تارة أخری، فتکون الصور المتصوّرة ثمانیة:

النحو الأوّل: أنْ یکون الشکّ فی حلّیّة لحمه وحرمته من جهة الشکّ فی أنّ هذا الحیوان هل هو محللّ الأکل، أو محرّم الأکل، ولیس من جهة التذکیة؛ بل نفترض فی هذا النحو أننّا نحرز التذکیة؛ بل نفترض أکثر من هذا، أننّا نحرز التذکیة، ونحرز قابلیة هذا الحیوان للتذکیة، لکن مع ذلک نشکّ فی حرمة لحمه وحلّیّته من جهة الشکّ فی أنّه من الحیوانات المحللّة الأکل، أو المحرّمة الأکل، هذا ینشأ من أننّا نعلم بأنّ التذکیة فی بعض الأحیان لا تنتج لنا حلّیّة الأکل، وإنّما تنتج فقط الطهارة، حتّی فی الحیوان القابل لها، أنّ هناک حیوانات قابلة للتذکیة إذا ذُکیت، ولکن لا یحل أکل لحمها کما فی السباع، وإنّما فقط یکون أثر التذکیة ظاهراً فی طهارة جلودها وأمثال ذلک، فهذا حیوانٌ زهقت روحه، ونعلم بوقوع التذکیة علیه، ونعلم بقابلیته للتذکیة، لکن لا ندری أنّ الشارع هل رتّب علی تذکیته حلّیّة أکل لحمه أیضاً، کما رتّب الطهارة، أو لم یرتّب ذلک ؟ فشککنا فی أنّه یحل أکل لحمه، أم لا ؟

ص: 135

وهذا النحو الأوّل تارةً یکون بنحو الشبهة الحکمیّة، وتارةً أخری یکون بنحو الشبهة الموضوعیّة.

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی استصحاب عدم التذکیة: وقلنا أنّهم ذکروا أربع أنحاء متصوّرة للشک فی حلّیة الحیوان وحرمته بعد زهاق روحه، حیوان زهقت روحه، نشکّ فی حلّیّته وحرمته، هذا الشکّ فی حلیته وحرمته له أربع أنحاء:

النحو الأوّل: تقدّم ذکرها وکان المراد بها هو الشکّ من جهة حرمة الأکل ذاتاً، أنّ هذا الحیوان هل هو محللّ الأکل ذاتاً، أو لا ؟ یعنی نحرز التذکیة، وقابلیة الحیوان للتذکیة، لکن نشکّ فی أنّ التذکیة هل تؤثر فی حلّیّة الأکل، أو لا تؤثر إلاّ فی طهارة جلده فقط ؟ ، هذا النحو من الشکّ قد یکون شبهة حکمیّة، وقد یکون شبهة موضوعیّة کما مثّلنا.

النحو الثانی: أنْ یکون الشکّ فی حلّیّة لحم الحیوان، أو حرمته من جهة الشکّ فی قابلیة الحیوان للتذکیة. فی النحو السابق کنّا نحرز قابلیة الحیوان للتذکیة فی الجملة، بینما هنا نشکّ فی أنّه یقبل التذکیة أو لا ؟ وهذا الشکّ ینشأ من أنّ هناک بعض الحیوانات الغیر القابلة للتذکیة أصلاً، ویُمثّل لها بالحشرات والمسوخات وأمثالها. هنا نشکّ فی أنّ أکل هذا الحیوان هل هو حلال، أو حرام؛ للشکّ فی أنّه قابل للتذکیة، او لا ؟ یعنی أننّا نحرز التذکیة، لکن نشکّ فی قابلیة الحیوان للتذکیة. هذا الشکّ أیضاً قد یکون بنحو الشبهة الحکمیّة، کما إذا شککنا فی أنّ أسد البحر هل هو قابل للتذکیة، أو لا ؟ هذه شبهة حکمیّة یُسئل عنها الشارع لحَلِّها. وقد یکون بنحو الشبهة الموضوعیّة، وهو فیما إذا شککنا فی أنّ هذا الحیوان المذکّی هل هو شاة، حتّی یکون قابلاً للتذکیة، أو أنّه من المسوخات حتّی لا یکون قابلاً للتذکیة، هذه شبهة موضوعیة لیس لها علاقة بالشارع، وإنّما هی شبهة موضوعیّة لابدّ من حلّها عن طریق الإمارات التی تحلّ بها الشُبه الموضوعیّة.

ص: 136

النحو الثالث: أنْ نشکّ فی حرمة الأکل وحلّیته من جهة الشکّ فی طرو ما یمنع من قبوله للتذکیة، حیث هناک أمور ثبت شرعاً أنّها إذا طرأت علی الحیوان القابل للتذکیة تمنع من قبوله للتذکیة، أی أنّ الحیوان بحسب ذاته قابل للتذکیة، لکن إذا طرأت هذه الموانع، فأنّها تمنع من قبوله للتذکیة کالجلل، فأنّه یمنع من قابلیّة الحیوان للتذکیة، وهذا أیضاً قد یکون بنحو الشبهة الحکمیّة، وقد یکون بنحو الشبهة الموضوعیّة، بنحو الشبهة الحکمیّة کما إذا شککنا فی مانعیة شیءٍ کالجلل، کما لو لم یکن لدینا دلیل علی مانعیته، وحدث الجلل، وشککنا فی أنّه هل یمنع من قبول الحیوان للتذکیة، أو لا یمنع، هذه شبهة حکمیّة، فأنّ مانعیة الجلل إنّما یحددها الشارع المقدّس. وأخری تکون الشبهة موضوعیّة، کما إذا شککنا فی حصول الجلل مع العلم بکونه مانعاً.

النحو الرابع: أنْ یکون الشکّ فی الحلّیّة والحرمة من جهة الشکّ فی تحققّ جمیع ما هو معتبر فی التذکیة خارجاً، کأنْ نشکّ بأنّ ما هو معتبر فی التذکیة هل هو متحققّ فیه، أو لیس متحققاً فیه. هذا یمکن تصوّره بنحو الشبهة الحکمیّة وبنحو الشبهة الموضوعیّة، بنحو الشبهة الحکمیّة کما إذا شککنا ----- مثلاً ----- فی اعتبار التسمیة فی التذکیة، ونعلم بأنّ هذا الحیوان لم یُسمَ علیه، بطبیعة الحال هذا الشکّ یوجب الشکّ فی حلّیّة أکل لحم هذا الحیوان، أو عدم حلیّته، بأنْ کانت التسمیة معتبرة، فهذا یحرم أکله، وإنْ لم تکن معتبرة فهذا یحلّ أکله. هذه الشبهة حکمیّة؛ لأنّ الشکّ هو فی اعتبار التسمیة فی التذکیة وعدم اعتبارها، وهذا شیء یُراجَع فیه الشارع. وأخری یکون بنحو الشبهة الموضوعیّة، کما إذا شککنا فی تحقق التسمیة مع العلم باعتبارها شرعاً، یعنی نعلم باعتبار التسمیة شرعاً، لکننّا نشکّ فی تحققّها خارجاً.

ص: 137

هذه هی الأنحاء الأربعة المذکورة فی کلامهم والتی بحثوا فی ضمنها أصالة استصحاب عدم التذکیة، أو ما یُسمّی بأصالة عدم التذکیة.

أمّا النحو الأوّل: فمن الواضح أنّه خارج عن محل الکلام الذی هو استصحاب عدم التذکیة، بطبیعة الحال أنّ استصحاب عدم التذکیة إنّما نتکلّم عن جریانه وعدمه حینما تکون التذکیة أمراً مشکوکاً، أو علی الأقل قابلیة الحیوان للتذکیة تکون أمراً مشکوکاً، بینما فی النحو الأوّل افترضنا انّ التذکیّة لیست مشکوکة، ولا قابلیة الحیوان للتذکیة مشکوکة، وإنّما المشکوک هو أنّ الشارع هل حکم بحلّیّة أکل لحم هذا الحیوان بعد تذکیته کما هو الحال فی الشاة والبقرة والجمل، أو لم یحکم بحلیّة أکل لحم هذا الحیوان بعد تذکیته کما هو الحال فی السباع، فالتذکیة معلومة، وقابلیة الحیوان للتذکیة فی الجملة، ولو لإثبات الطهارة أمر معلوم، وإنّما الشک فی تأثیر التذکیة فی حلّیة اللّحم وعدم تأثیرها، فلا معنی للکلام عن أنّه هل تجری أصالة عدم التذکیة؛ إذ لیس لدینا شکّ فی التذکیة حتّی نجری أصالة عدم التذکیة، لکن ذکرو هذا الفرع الأوّل استطراداً، وهو أننّا نشکّ فی حیوانٍ أنّه محرّم الأکل، أو محلل الأکل، فإذا کان محلل الأکل، فهذا یعنی أنّ التذکیة مؤثرة فی حلّیّة لحمه، کما هی مؤثرة فی طهارة جلده، أمّا إذا کان محرّم الأکل، فهذا یعنی أنّ التذکیة لیست مؤثرة شرعاً فی حلّیّة أکل لحمه، وهذا أیضاً قلنا أنّه یمکن تصوّره بنحو الشبهة الحکمیّة، وبنحو الشبهة الموضوعیّة، بنحو الشبهة الحکمیّة بأنْ لا نعلم أنّ تذکیة هذا الحیوان هل هی موجبة لحلّیّة أکل لحمه، أو لا ؟ هل حکم الشارع بأنّ التذکیة مؤثرة فی حلیة الأکل، أو لا، فقط التذکیة مؤثرة فی طهارته، هذا شکٌ فی الحکم الشرعی، یعنی شبهة حکمیّة. وأخری تکون الشبهة موضوعیّة، بأنْ لا نعلم أنّ هذا الحیوان هل هو شاة، أو هو من السباع، فإذا کان هذا الحیوان شاة، فأنّه یحلّ أکله؛ لأننّا نعلم أنّ الشارع جعل التذکیة فی الشاة موجبة لحلیة الأکل. أمّا إذا کان من السباع، فلا یحلّ أکله؛ لأننّا نعلم أنّ الشارع لم یجعل التذکیة فی السباع موجبة لحلیّة الأکل. فی هذا النحو الأوّل ذکروا أنّه إذا کانت الشبهة الحکمیّة کما مثّلنا؛ حینئذٍ لابدّ أنْ نفتّش عن عامّ فوقانی یدلّ علی حلّیّة الأکل، أو علی حرمته، قد نعثر علی عامّ فوقانی یدلّ علی حلّیة کل حیوان إلاّ أمور معیّنة استثناها الشارع، وقد نعثر ----- مثلاً ----- علی عامّ فوقانی یدلّ علی حرمة کل حیوانٍ إلاّ ما استُثنی، إذا عثرنا علی هکذا عمومات فوقانیة، فبلا إشکال یتعیّن حینئذٍ الرجوع إلیها؛ لأنّ الشبهة شبهة حکمیّة، فنسأل عنها الشارع، فإذا کان لدینا دلیل یقول أنّ کل حیوان هو محلل الأکل إلاّ ما استُثنی، فنتمسّک بهذا الدلیل فی هذه الشبهة الحکمیّة؛ لأنّ هذا لیس تمسّکاً بالعام فی الشبهة المصداقیة کما سیأتی فی الشبهة الموضوعیّة؛ لأننّا نحرز عدم انطباق ما استُثنی علی هذا الحیوان، فهو لیس داخلاً فی المستثنی قطعاً، فنتمسّک بهذا العام لإثبات حلّیة أکل لحمه، لکنّ الکلام فی أنّه هل یوجد هکذا عامّ فوقانی یمکن الرجوع إلیه واستنطاقه لمعرفة حکم هذا الحیوان الذی نشکّ فی أنّه حلال الأکل، أو لا ؟ إذا وجد، یتعیّن التمسّک به ولا تصل النوبة إلی الأصول العملیّة.

ص: 138

قد یقال: أنّ هناک ما یُستفاد منه هذا العموم، وهو قوله تعالی ﴿قل لا أجد فی ما أوحی ألیّ محرّم علی طاعمٍ یطعمه إلاّ أنْ یکون میتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزیر﴾. (1) فیُستفاد من هذه الآیة الشریفة أنّ کلّ حیوانٍ ما عدا ما استُثنی الغیر المنطبق علی محل الشکّ ----- بحسب الفرض ----- یکون حلالاً.

لکن هناک تأمّل فی إمکان التمسّک بالآیة ودلالة الآیة علی هذا العموم حتّی بالنسبة إلی مورد الشکّ بالنظر إلی ما ثبت عندهم من أنّ الأحکام بُیّنت بشکلٍ تدریجی، فبالنظر إلی تدریجیّة بیان الأحکام الشرعیة یمکن أنْ یقال أنّ الآیة لیست ناظرة إلی کلّ المحرّمات وفی جمیع الأزمنة، وإنّما هی ناظرة إلی المحرّمات فی زمان نزولها، وکأنّ الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم) عُلِّم أنْ یقول أنّی لا أجد فی هذه المحرّمات التی وصلت إلیّ فی زمان نزول الآیة محرّماً علی طاعمٍ یطعمه إلاّ أنْ یکون میتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزیر.....الخ. فلا یکون فیها عموم أو إطلاق یشمل کلّ الأزمنة، هو لیس ناظراً إلی جمیع المحرّمات وفی جمیع الأزمنة، وإنّما ناظر إلی المحرمات التی کانت موجودة ونازلة علی النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم) عند نزول الآیة الشریفة فی أوّل الشریعة، لکن لا یوجد فیها عموم بعدم وجود محرّم إلاّ هذه الأمور حتّی بلحاظ الأزمنة الآتیة؛ لأنّ الشریعة بُیّنت بشکلٍ تدریجی، وقد تُضاف إلی المُستثنیات بعض المحرّمات، ولعلّ هذا المشکوک منها. قد یُستشکل بدلالة الآیة بهذا الشکل.

علی کل حال. من ناحیة أصولیّة نقول: إنْ کان هناک عموم فوقانی یدلّ علی حلّیّة کل حیوان إلاّ ما استُثنی، أو یدلّ علی حرمة کل حیوان إلاّ ما استثنی، یتعیّن الأخذ به، ولا تصل النوبة إلی الأصول العملیّة. لکن إذا شککنا فی ذلک، أو منعنا من ذلک، وقلنا لا یوجد لدینا عموم قرآنی بهذه المثابة؛ حینئذٍ تصل النوبة إلی الأصول العملیّة، ما هو الأصل الذی یمکن التمسّک به فی المقام ؟ هنا احتمالات ثبوتیة:

ص: 139


1- انعام/سوره6، آیه145.

الاحتمال الأوّل: الرجوع إلی أصالة الحل(کل شیءٍ لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام) ولحم هذا الحیوان لا نعلم أنّه حرام، فنثبت حلّیّة لحم هذا الحیوان.

الاحتمال الثانی: استصحاب عدم التذکیة.

الاحتمال الثالث: استصحاب الحلّیّة الثابتة قبل التشریع.

الاحتمال الرابع: استصحاب الحرمة الثابتة فی حال الحیاة.

هذه الأصول محتملة، ولو احتمالات ثبوتیة، فأصالة الحل، واستصحاب الحلّیّة الثابتة قبل التشریع یثبتان حلّیة أکل لحم هذا الحیوان، واستصحاب عدم التذکیة، واستصحاب الحرمة الثابتة حال الحیاة، أی استصحاب الحرمة المتیّقنة حال حیاة هذا الحیوان تثبتان حرمة أکل لحم هذا الحیوان. أیّ أصل من هذه الأصول هو الذی یجری ؟

لا إشکال فی أنّ استصحاب عدم التذکیة لا یجری فی هذا الفرع؛ ولذا قلنا أنّ هذا الفرع لیس له ربط بمحل الکلام الذی هو عبارة عن استصحاب عدم التذکیة؛ لأنّه لیس لدینا شکّ من ناحیة التذکیة فی هذا الفرع حتّی نستصحب عدمها، فاستصحاب عدم التذکیة لا موقع له فی هذا المقام، ولا معنی لإجرائه لعدم الشکّ فی التذکیة. أو بعبارة أخری: لأننا نقطع بتحققّ التذکیة، فلا معنی لاستصحاب عدم التذکیة، إنّما یکون هناک معنی لهذا الاستصحاب إذا شککنا فی تحققّ التذکیة وعدم تحقّقها، أمّا مع العلم بعدم تحققّها، لا یجری هذا الاستصحاب. إذن: استصحاب عدم التذکیة ینبغی عزله علی حِدی.

وأمّا استصحاب الحلّیّة الثابتة قبل التشریع، فلا محذور فیه علی غرار ما تقدّم من استصحاب البراءة قبل التشریع، حیث قلنا أننّا إذا عجزنا عن إثبات البراءة بأدلّتها تصل النوبة إلی استصحاب البراءة، وقلنا أنّ استصحاب البراءة له تقریبات، استصحاب البراءة قبل البلوغ، استصحاب البراءة قبل عروض الحالة الخاصّة علی الموضوع، ومنها استصحاب البراءة الثابت قبل التشریع، باعتبار أنّ البراءة هی الثابتة قبل التشریع، إنّما الحرمة هی التی تحتاج إلی تشریع. فإذا شککنا أنّ هذه البراءة والحلّیّة الثابتة قبل التشریع هل لا زالت باقیة، أو ارتفعت بجعل الشارع تشریعاً للحرمة، حیث ترتفع البراءة والحلّیة إذا شرّع الشارع الحرمة، فشکّنا هو أنّ الشارع شرّع الحرمة أو لا ؟ فیجری استصحاب الحلّیة المتیقنة قبل زمان التشریع علی غرار استصحاب البراءة المتیقنة قبل التشریع، وإذا جری هذا الاستصحاب وآمنا به؛ حینئذٍ لا تصل النوبة إلی أصالة الحل؛ لأنّ الاستصحاب مقدّم علی أصالة الحل بالحکومة، أو بالورود، فلا تصل النوبة إلی أصالة الحل، وإنّما الذی یجری هو استصحاب الحل الثابت قبل التشریع، وهذا یثبت حلّیّة أکل لحم هذا الحیوان. وأمّا إذا ناقشنا فی جریان هذا الاستصحاب؛ حینئذٍ نتمسّک لإثبات الحلّیّة بأصالة الحل.

ص: 140

وأمّا استصحاب الحرمة الثابتة حال الحیاة، فقد یقال: أنّ الأصل الذی یجری فی المقام لیس هو استصحاب الحل الثابت قبل التشریع، وإنّما الذی ینبغی إجرائه هو استصحاب الحرمة الثابتة قبل زهاق الروح، یعنی فی حال الحیاة، حیث أنّ هذا الحیوان کان یحرم أکله، وبعد أنْ زُهقت روحه نشکّ فی أنّ هذه الحرمة ارتفعت، فیما إذا کانت التذکیة سبباً للحلّیة، أو لم ترتفع، فیما إذا کانت التذکیة لیست سبباً لحلّیته، فنستصحب الحرمة المتیقنة فی حال الحیاة، وهذا یثبت نتیجة معاکسة لاستصحاب الحلّیة قبل التشریع. هذا الاستصحاب یجری، أو لا ؟

قد یقال: بجریانه؛ بل لعلّه یظهر من بعضهم جریانه فی المقام، حیث نُسب إلی البعض أنّه تمسّک بهذا الاستصحاب ووصل إلی نتیجة أنّ الحیوان المشکوک بالنحو الأوّل فی الشبهة الحکمیّة یحرم أکله؛ لاستصحاب الحرمة المتیقنة حال الحیاة، ودلیله علی جریان هذا الاستصحاب هو أنّه کانت هناک حرمة ثابتة فی حال الحیاة ویُشک بها لاحقاً، فتکون أرکان الاستصحاب متوفرة، یقین سابق بالحرمة فی حال الحیاة، فهذا الحیوان فی حال حیاته کان یحرم أکله، وشکٌّ لاحق فی بقاء هذه الحرمة وزوالها، فتتوفّر أرکان الاستصحاب، فیجری الاستصحاب، وهذا الاستصحاب إذا جری فأنّه یمنع من استصحاب الحل الثابت قبل التشریع؛ لأنّه ناظر إلی حالة متأخّرة.

ولکن هناک عدّة مشاکل فی هذا الاستصحاب:

المشکلة الأولی: المناقشة فی الیقین السابق، من قال أنّ الحرمة ثابتة فی حال الحیاة ؟ أو فلنقل: من قال أنّ الحیوان الحی یحرم أکله ؟ لا دلیل علی هذا؛ لأنّ کلّ العناوین التی ثبتت فیها حرمة الأکل لا تنطبق علی هذا الحیوان فی حال الحیاة، لا عنوان المیتة ینطبق علیه، ولا عنوان غیر المذکی....الخ، فأنّ المُذکی وغیر المُذکی هو وصف للعنوان المیت، فالحیوان المیت یقال عنه أنّه مذکی، أو غیر مُذکی، أمّا الحیوان الحی لا یتّصف لا بالمُذکی، ولا بغیر المُذکی، فلا هو میتة، ولا هو غیر مذکّی؛ لأنّ غیر المذکّی من صفات الحیوان المیت بعد إزهاق روحه، ولیس من صفات الحیوان الحی، فلا دلیل علی حرمة أکل الحیوان وهو حی، وعلی هذا الأساس أفتی جماعة من فقهائنا؛ بل لعلّ المعروف جواز ابتلاع السمک الصغیر وهو حی، مع وضوح أنّ ذکاة السمک لیست بإخراجه من الماء، وإنّما بموته خارج الماء، ولیس بمجرّد إخراج السمک من الماء تکون هذه تذکیة له بحیث یقال یجوز ابتلاعه لأنّه ذُکی بإخراجه من الماء؛ بل تذکیته هی موته خارج الماء، فإذا بقی حیّاً وبلعه، فأنّه یکون قد بلع حیواناً قبل تذکیته، وقالوا بجوازه؛ لأنّه لا دلیل علی حرمة لحم الحیوان فی حال حیاته، فإذن: القضیة لیست مسلّمة حتّی یقال لدینا یقین سابق وشکّ لاحق، أنّ هذا الحیوان فی حال حیاته کان یحرم أکله، والآن یُشکّ فی بقاء الحرمة، فنستصحب الحرمة المتیّقنة فی حال الحیاة، فلا یوجد لدینا یقین بالحرمة سابقاً حتّی یجری هذا الاستصحاب.

ص: 141

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی الشکّ من النحو الأوّل: وبالتحدید کان الکلام فی ما إذا کان الشکّ بنحو الشبهة الحکمیّة، کما إذا شککنا فی حیوان أنّه محللّ الأکل، فتکون تذکیته موجبة لحلّیة أکل لحمه، أو محرّم الأکل، فتکون التذکیة غیر مفیدة لإثبات حلّیة لحمه. قلنا أنّه إنْ کان هناک عام یمکن الرجوع إلیه، فیتعیّن الرجوع إلیه باعتباره دلیلاً اجتهادیاً، وإنْ لم یکن عندنا عام من هذا القبیل؛ فحینئذٍ تصل النوبة إلی الأصول العملیّة، وقلنا أنّه لا معنی للتمسّک باستصحاب عدم التذکیة؛ لأنّه لا یوجد عندنا شکّ من ناحیة التذکیة؛ لأننّا نحرز أنّ هذا الحیوان قد ذُکّی، فیدور الأمر بین أصالة الحلّیة، أو استصحاب الحل الثابت قبل الشریعة، وبین استصحاب الحرمة المتیّقنة فی حال الحیاة. قلنا بأنّه لا تصل النوبة إلی أصالة الحلّیة إذا جری أحد الاستصحابین، إمّا استصحاب الحلّ الثابت قبل الشریعة، أو استصحاب الحرمة الثابتة فی حال الحیاة، وذلک لأنّ الاستصحاب یکون مقدّماً علی أصالة الحلّ بلا إشکال، وإنّما الکلام فی أنّ الاستصحاب الأخیر ------ استصحاب الحرمة الثابتة فی حال الحیاة ------ هل یجری، أو لا ؟ نُسب إلی البعض بأنّه لا بأس بأنْ یجری استصحاب الحرمة الثابتة فی حال الحیاة، وهذا یُثبت نتیجة معاکسة لما یُثبته استصحاب الحلّ الثابت قبل الشریعة. هذا الاستصحاب یُذکر بدعوی أنّ أرکان الاستصحاب تامّة فیه من الیقین السابق؛ لأنّه فی حال الحیاة کان یحرم أکله، والشکّ اللاحق، بعد أنْ ذُکّی نشکّ فی حرمة أکله وعدمها، فتستصحب الحرمة المتیقنة الثابتة فی حال الحیاة. هذا ما یُقال فی مقام تقریب هذا الاستصحاب.

ص: 142

لکن المشکلة هی: أنّ هناک تشکیکاً فی ثبوت الحرمة حال الحیاة، بمعنی أنّ الحیوان فی حال الحیاة لا یحرم أکله؛ ولذا قالوا أنّه ذهب جماعة من فقهائنا إلی جواز ابتلاع السمک وهو حی مع وضوح أنّ تذکیة السمک لیست بإخراجه من الماء، وإنّما هی بموته خارج الماء، فقبل موته خارج الماء لم یُذکَ ومع ذلک حکموا بجواز ابتلاعه، وهذا معناه أنّهم لا یرون أنّ هناک حرمة فی الأکل ثابتة فی حال الحیاة، فأصل المتیقن سابقاً لیس واضحاً؛ لأنّ الاستصحاب مبنی علی افتراض ثبوت حرمةٍ فی حال الحیاة، وهذه الحرمة متیّقنة، ویُشکّ فی بقائها بعد ذلک، فتُستصحب تلک الحرمة المتیّقنة، بینما أصل ثبوت الحرمة حال الحیاة لیس واضحاً، والسرّ فی هذا هو أنّنا لا نملک دلیلاً علی حرمة أکل الحیوان الحی؛ لعدم انطباق عنوان المیتة علیه، ولا غیر المذکّی؛ لأننّا قلنا أنّ توصیف الشیء بالمذکّی وغیر المذکّی إنّما یصح بلحاظ ما بعد زهاق الروح، فیُقال أنّ هذا مُذکّی وغیر مُذکّی، أمّا قبل زهاق الروح وفی حال الحیاة، فلا یصح وصف هذا الحیوان بأنّه مُذکّی، أو غیر مُذکّی، فالأدلّة الدالّة علی حرمة أکل المیتة لا تشمله، والأدلّة الدالّة علی حرمة أکل غیر المذکی أیضاً لا تشمله، فلا دلیل علی حرمة أکل لحم الحیوان فی حال الحیاة.

وأمّا الآیة الشریفة التی استُدلّ بها علی ذلک ﴿حُرّمت علیکم المیتة والدم ولحم الخنزیر وما أهل لغیر الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردیة والنطیحة وما أکل السبع إلاّ ما ذکیتم﴾ (1) بأنْ یُدّعی أنّ هناک إطلاقاً فی المستثنی منه یشمل الحیوان المیّت والحیوان الحی بحیث یکون مفاد الآیة هو أننّا حرّمنا علیکم أکل الحیوان إلاّ المُذکی، والمستثنی منه یشمل بإطلاقه الحیوان الحی والحیوان المیّت، بمعنی کل حیوانٍ حرّمناه علیکم إلاّ ما ذُکّی، وحیث أنّه فی حال الحیاة لا توجد تذکیة، فیکون الحیوان فی حال حیاته محرّماً.

ص: 143


1- مائده/سوره5، آیه3.

لکن الاستدلال بهذه الآیة الشریفة مردود؛ لأنّ الآیة الشریفة ناظرة إلی الحیوان المیّت، ولیست ناظرة إلی الحیوان الحی، فالآیة استثناء من المیتة وأمثالها، وهی ناظرة إلی الحیوان المیّت، إلی الحیوان الذی زهقت روحه، هذا الحیوان الذی زهقت روحه حرّمناه علیکم، إلاّ ما ذکّیتم، فهی ناظرة إلی الحیوان المیّت، ولیس فیها إطلاق، أو عموم یشمل الحیوان الحی حتّی یُستدل بها فی محل الکلام.

أمّا إذا تنزّلنا،وافترضنا أنّ هناک حرمة حال الحیاة بملاک عدم التذکیة؛ فحینئذٍ یقع الکلام فی أنّ هذا الاستصحاب المُدّعی ----- استصحاب الحرمة الثابتة فی حال الحیاة ----- فی المقام هل یمکن إجراؤه ؟ مع التنزّل وافتراض وجود حرمةٍ فی حال الحیاة، ولو تمسّکاً بإطلاق المستثنی منه(إلاّ ما ذکیتم)فی الآیة الشریفة. هل یجری هذا الاستصحاب، أو أنّه لا یجری ؟

قد یقال بجریان هذا الاستصحاب، بعد التنزّل وتسلیم ثبوت الحرمة فی حال الحیاة، لا مانع من استصحاب هذه الحرمة المتیّقنة فی حال الحیاة، وذلک باعتبار أنّ حرمة أکل لحم الحیوان فی حال حیاته إنْ کانت بملاک کونه حیّاً، فمثل هذه الحرمة لا شکّ فی بقائها؛ بل نقطع بارتفاعها بعد زهاق روحه کما هو محل الکلام؛ لأنّ هذا الاستصحاب متقوّم بالحیاة کما هو المفروض؛ أی أنّ هذه الحرمة متقوّمة بالحیاة، باعتبار أنّ المفروض أنّ هذه الحرمة ثبتت له بملاک الحیاة، باعتباره حیّاً، ولو من باب احترام الحی ------ مثلاً ------ فهذه الحرمة الثابتة بملاک الحیاة ترتفع بلا إشکال بزهاق روحه. إذن: لابدّ أنْ نفترض حرمة أخری یُراد استصحابها فی المقام یُشکّ فی بقائها؛ لأننّا نقطع بارتفاعها. وهذه الحرمة دائرة بین حرمتین:

ص: 144

الحرمة الأولی: هی الحرمة بملاک عدم التذکیة. لنفترض من باب التنزّل أنّ الحیوان الحی یحرم أکله لکونه غیر مُذکی.

الحرمة الثانیة: الحرمة الذاتیّة الثابتة فی الحیوان. بأنْ یکون الحیوان هو أصلاً محرّم الأکل، وهذه الحرمة ذاتیّة ثابتة فیه فی حال الحیاة، وثابتة فیه بعد زهاق روحه، باعتباره محرّم الأکل لا باعتباره غیر مُذکی، فسواء ذُکّی أم لم یُذکَ هو محرّم الأکل، والتذکیة فیه لا تنفع لإثبات حلّیة أکل لحمه.

إذن: هناک حرمتان یمکن افتراضهما فی المقام. أمّا الحرمة بملاک عدم التذکیة، فیُقطَع بارتفاعها؛ لأنّها ثابتة بملاک عدم التذکیة، والمفروض فی محل الکلام فی هذا النحو إحراز التذکیة، وإحراز قبول الحیوان للتذکیة، هذه أمور نحرزها، فما معنی أنْ نفترض حرمة ثابتة بملاک عدم التذکیة بعد التذکیة، وبعد إحراز قبول الحیوان للتذکیة، هذه الحرمة لو کانت ثابتة فی حال الحیاة، فهی مرتفعة بعد التذکیة؛ لأنّها ثابتة ----- بحسب الفرض ----- بملاک عدم التذکیة، فمع حصول التذکیة کما هو المفروض، ترتفع هذه الحرمة قطعاً.

وأمّا إذا کانت الحرمة المُدّعاة فی المقام والتی یُراد استصحابها هی الحرمة الذاتیة الثابتة للحیوان حتّی لو ذُکّی؛ حینئذٍ هذه الحرمة باقیة حتّی بعد زهاق روحه وتذکیته؛ لأنّ الحرمة الذاتیة لا ترتفع بالموت وزهاق الروح، فهی باقیة حتماً، ومنه یظهر أنّه یمکن إجراء استصحاب الحرمة من باب استصحاب الکلّی من القسم الثانی الذی لا إشکال عندهم فی جوازه، کما إذا ترددّ الثابت سابقاً بین فردٍ یُقطَع ببقائه وبین فردٍ یُقطَع بارتفاعه، بمعنی أنّه لو کان الحادث هو هذا الفرد، فهو باقٍ جزماً، ولو کان الحادث هو الفرد الآخر، فهو مرتفع جزماً، فی مثل هذه الحالة لا مانع من استصحاب الکلّی؛ لأنّه من قبیل استصحاب الکلّی من القسم الثانی الذی لا شکّ عندهم فی جواز استصحابه، من قبیل ما إذا ترددّ الحیوان الموجود فی مکان بین أنْ یکون فیلاً أو حشرة، وبعد مدّة لا تبقی الحشرات فیها عادةً؛ حینئذٍ یقال أننّا نشکّ فی أنّ الحیوان هل هو باقٍ فی هذا المکان، أو لا ؟ فیقال: أنّ هذا الحیوان إنْ کان فیلاً، فهو باقٍ، وإنْ کان حشرة، فهو مرتفع قطعاً، فی مثل هذه الحالة یجری الاستصحاب بلحاظ الجامع، ویُستصحَب کلّی الحیوان فی حال الشکّ؛ لتوفّر أرکان الاستصحاب بالنسبة إلی الکلّی، وإنْ لم تتوفّر بالنسبة إلی کلٍ من الفردین، لکن بالنسبة إلی الکلّی هناک یقین بحدوث الکلّی، وشکّ فی ارتفاعه، هذا الکلّی الذی نحن علی یقین من حدوثه ونشکّ فی ارتفاعه یمکن إجراء الاستصحاب فیه. ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ الحرمة الحادثة فی حال الحیاة المتیقنة سابقاً هی مرددّة بین فردین، بین حرمةٍ مرتفعةٍ قطعاً وهی الحرمة الثابتة بملاک عدم التذکیة؛ لأنّ المفروض التذکیة فی محل الکلام، وبین حرمةٍ باقیةٍ علی تقدیر حدوثها، وهی الحرمة الذاتیة الثابتة للحیوان باعتباره حیواناً محرّم الأکل شرعاً، هذه الحرمة الذاتیة علی تقدیر أنْ تکون هی الثابتة سابقاً تکون باقیة قطعاً، فیدخل فی باب استصحاب الکلّی من القسم الثانی المرددّ بین ما لا بقاء له وبین ما یبقی، فلا مانع حینئذٍ من إجراء هذا الاستصحاب.

ص: 145

لکن، هذا الاستصحاب مبنی علی الالتزام بشیءٍ وهو أنّ الحرمة بملاک عدم التذکیة تختصّ بمأکول اللّحم ولا تشمل غیر مأکول اللّحم، تختصّ بغیر المحرّم الأکل ذاتاً، فعندنا حرمتان، حرمة بملاک عدم التذکیة مختصّة بالحیوانات المحللّة الأکل، وعندنا حرمة ذاتیة ثابتة للحیوان محرّم الأکل، بناءً علی افتراض أنّ الحرمة الثابتة للحیوان الحی بملاک عدم التذکیة مختصة بالحیوان محللّ الأکل؛ حینئذٍ یجری هذا التقریب للاستصحاب، بمعنی أنّ الاستصحاب فی المقام یکون جاریاً باعتباره من باب استصحاب الکلّی من القسم الثانی؛ لأنّ الحرمة الحادثة الثابتة سابقاً مرددّة بین فردین من الحرمة، حرمة نقطع بارتفاعها علی تقدیر أنْ تکون هی الحادثة، وحرمة باقیة علی تقدیر أنْ تکون هی الحادثة، فیدخل فی باب استصحاب الکلّی من القسم الثانی؛ لأنّ هذا الحیوان الذی زهقت روحه إمّا أن یکون محلل الأکل ذاتاً، فالحرمة الثابتة فیه فی حال الحیاة هی الحرمة من جهة عدم التذکیة، وإمّا أنْ یکون محرّم الأکل، ففیه الحرمة الذاتیة فقط لا الحرمة من جهة عدم التذکیة؛ لأنّ المفروض أنّنا قلنا أنّ الحرمة بملاک عدم التذکیة مختصّة بمأکول اللّحم ولا تشمل غیره، یعنی ما یکون محرّماً بالذات.

إذن: الأمر یدور بین فردین للحرمة، أحدهما باقٍ علی تقدیر حدوثه، وهی الحرمة الذاتیة، والآخر مرتفع علی تقدیر حدوثه، وهی الحرمة بملاک عدم التذکیة، فیکون من قبیل استصحاب الکلّی من القسم الثانی، فیصحّ إجراء الاستصحاب بهذا البیان. وأمّا إذا قلنا أنّ الحرمة الثابتة بملاک عدم التذکیة لا تختصّ بمحلل الأکل، وأنّها کما تشمل محلل الأکل، کذلک تشمل محرّم الأکل، فکأنّه تجتمع فی محرّم الأکل حرمتان، حرمة ذاتیة وحرمة بملاک عدم التذکیة، بناءً علی هذا الکلام؛ حینئذٍ لا یصحّ إجراء الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب حینئذٍ لا یکون من قبیل استصحاب الکلّی من القسم الثانی الذی لا إشکال فی جریانه عندهم، وإنّما یکون من قبیل الاستصحاب من القسم الثالث الذی لا إشکال عندهم فی عدم جریانه، والذی هو أنْ یکون هناک کلّی نعلم بتحققّه فی ضمن فردٍ، ونعلم بأنّ هذا الفرد قد ارتفع، لکن نشکّ فی أنّه قبل ارتفاعه هل حدث فرد آخر للکلّی اقترن بوجود ذلک الفرد الآخر وقبل ارتفاعه بحیث أنّ الکلّی یبقی موجوداً ولا یرتفع؛ لأنّه وإنْ ارتفع هذا الفرد، لکنّه اقترن به قبل ارتفاعه حدوث فردٍ آخر للکلّی بحیث یبقی الکلّی موجوداً، فی هذه الحالة لا یجری استصحاب الکلّی بالاتفاق، کما لو کنّا نعلم بوجود حیوانٍ فی مکان ما، ثمّ رأیناه خارج ذلک المکان، فهذا الذی تحققّ الکلّی فی ضمنه یکون قد ارتفع قطعاً، لکن احتملنا أنّه قبل أنْ یخرج وُجد حیوان آخر بحیث بقی الکلّی فی هذا المکان، هل یمکن إجراء استصحاب الکلّی ؟ لا، هنا لا یجری استصحاب الکلّی، بالاتفاق.

ص: 146

أقول: بناءً علی هذا الاحتمال، وهو أنّ الحرمة الثابتة بملاک عدم التذکیة هی حرمة لا تختصّ بمأکول اللّحم، وإنّما تشمله وتشمل أیضاً محرّم الأکل، بمعنی أنّ ما نعلمه هو أحدی الحرمتین، وأحدی الحرمتین معلومة الحدوث ومعلومة الارتفاع وهی الحرمة بملاک عدم التذکیة، هذه حرمة معلومة الحدوث، سواء کان الحیوان محرّم الأکل، أو محللّ الأکل هذه الحرمة ثابتة له بحسب الفرض، نحن افترضنا أنّ الحرمة بملاک عدمالتذکیة لا تختصّ بمحلل الأکل، وإنّما هی کما تثبت لمحلل الأکل، کذلک هی تثبت لمحرّم الأکل. إذن: هذا الحیوان مهما کان، سواء کان محرّم الأکل، أو محللّ الأکل ثبتت له حرمة بملاک عدم التذکیة فی حال الحیاة، لکن هذه الحرمة نعلم بارتفاعها بحصول التذکیة کما هو المفروض فی محل کلامنا، فهذه حرمة معلومة الحدوث ومعلومة الارتفاع، وعندنا حرمة أخری وهی الحرمة الذاتیة، وهی مشکوکة الحدوث أساساً؛ لأنّ الحرمة الذاتیة مختصّة بالحیوان محرّم الأکل، ونحن نشکّ فی أنّ هذا الحیوان محرّم الأکل، أو محلل الأکل، إذن: عندنا حرمتان، حرمة معلومة الحدوث ومعلومة الارتفاع، والحرمة الثانیة هی مشکوکة الحدوث أساساً، وهذا یکون من قبیل استصحاب الکلّی من القسم الثالث، ولا یکون من قبیل استصحاب الکلّی من القسم الثانی حتّی یجری فیه الاستصحاب.

إذن: إجراء استصحاب الحرمة فی محل الکلام مع التنزّل عمّا قلناه أولاً، یتوقّف علی افتراض أنّ الحرمة بملاک عدم التذکیة مختصّة بالحیوان مأکول اللّحم حتّی یحصل الترددّ، أنّ الحرمة الثابتة سابقاً هی مرددّة بین فردین؛ لأنّ الحیوان إمّا محلل الأکل، أو محرّم الأکل، محرّم الأکل له حرمة واحدة وهی الحرمة الذاتیة، ومحللّ الأکل له حرمة واحدة وهی الحرمة بملاک عدم التذکیة، لو کان الحادث سابقاً هو الحرمة بملاک عدم التذکیة فهی مرتفعة، أمّا لو کان الحادث سابقاً هی الحرمة الذاتیة، فهی باقیة؛ لأنّ الحرمة الذاتیة لا تزول بالقتل وإزهاق الروح، فیدخل فی القسم الثانی، فهی مبنیّة علی هذا الاحتمال. وأمّا علی الاحتمال الآخر یکون الاستصحاب من قبیل استصحاب الکلّی من القسم الثالث، وهو لا یجری بالاتفاق.

ص: 147

لکن الظاهر ----- وفاقاً لهم ----- هو أنّ الاحتمال الأوّل هو الصحیح، بمعنی أنّ الحرمة من حیث عدم التذکیة مختصّة بمأکول اللّحم. وبعبارة أخری: أنّ محرم الأکل، ما کانت حرمته ذاتیة لا یحرم إلاّ من حیث کونه محرّم الأکل، لا أنّه تجتمع فیه حرمتان، حرمة ذاتیة، وحرمة أخری من جهة کونه غیر مُذکّی؛ لأنّ ما دلّ علی حرمة غیر المُذکّی هو ناظر فی الحقیقة إلی الحیوان المیّت المحلل الأکل ولیس له إطلاق یشمل الحیوان الحی، وهی المناقشة الأولی، وفی المناقشة الثانیة تنزّلنا عن ذلک، هنا أیضاً نقول أنّ ما دلّ علی حرمة غیر المُذکّی هو ناظر إلی الحیوان محلل الأکل، یعنی أنّ الحیوان المحلل الأکل إذا زهقت روحه ولم یُذکَ فهو یحرم أکله، فهی ناظرة إلی الحیوان محلل الأکل ولیست شاملة إلی ما کان محرّم الأکل.

وبعبارة أخری: أنّ الذی یُفهم من الأدلّة، الآیة الشریفة(إلاّ ما ذکّیتم)، أو الروایات الخاصّة الواردة فی المقام، الذی یُفهم منها هو أنّ التذکیة شرط فی حلّیة أکل اللّحم المحلل ذاتاً، ولا یحل أکل لحمه بعد زهاق روحه إلاّ بالتذکیة، التذکیة تکون موجبة لحلّیة أکل لحم ما کان حلال الأکل بالذات، فحلال الأکل بالذات إذا لم یُذکَ یحرم أکله، وإذا ذُکّی حلّ أکله، ولیس لها نظر إلی ما هو محرّم بالذات، ولا تقول أنّ المحرّم بالذات إذا لم یُذکَ فهو حرام من جهة عدم التذکیة. فالظاهر هو الاختصاص، وبناءً علی الاختصاص الظاهر أنّه لا مانع من إجراء استصحاب الحرمة فی المقام؛ لأنّه من قبیل استصحاب الکلّی من القسم الثانی. لکن هذا کلّه بناءً علی التنزّل عن الملاحظة الأولی، یعنی بناءً علی تسلیم أنّ هناک حرمة بملاک عدم التذکیة فی حال الحیاة، لکنّک عرفت بأنّ هذا أمر غیر مُسلّم، والأدلّة لا تُساعد علیه؛ لأنّ أدلّة حرمة غیر المذکّی ناظرة إلی الحیوان الذی زهقت روحه، وأنّ هذا إذا ذُکی یحل أکله، وإذا لم یُذکَ یحرم أکله، ولیس لها نظر إلی الحیوان الحی.

ص: 148

إذن: لا یقین بحرمةٍ سابقةٍ فی حال الحیاة حتّی تُستصحب.

هذا تمام الکلام فی الشبهة الحکمیة من النحو الأوّل.

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

انتهینا عن فرض الشبهة الحکمیّة من النحو الأوّل: ونؤکد مرةً أخری بأنّ هذا النحو هو أساساً خارج عن محل الکلام؛ لأنّ المفروض فیه إحراز التذکیة، وإحراز قبول الحیوان للتذکیة، وإنّما الشکّ من جهةٍ أخری، وتبیّن أنّ الصحیح فی هذا الفرض إذا کانت الشبهة حکمیّة هو الرجوع إلی أصالة الحل، أو استصحاب الحلّیة الثابتة قبل التشریع، وبالنتیجة یمکن الحکم بحلّیة هذا الحیوان المشکوک فی حلّیّة أکل لحمه، وحرمته بنحو الشبهة الحکمیة فی هذا النحو الأوّل.

وأمّا إذا کانت الشبهة موضوعیة، النحو الأوّل نفسه، نعلم فیه بتذکیة حیوانٍ، وبقبوله للتذکیة، لکننّا لا نعلم أنّ هذا الحیوان هل هو غنم حتّی یترتّب علی تذکیته حلّیة أکل لحمه ؟ أو أنّه من المسوخات، أو السباع حتّی لا یترتّب علی تذکیته حلّیة أکل لحمه بنحو الشبهة الموضوعیّة التی لا یکون الشکّ فیها مرتبطاً بالشارع ؟ وإنّما الشکّ فی أمورٍ خارجیّة وموضوعیّة. فی هذا الفرض یختلف فرض الشبهة الموضوعیة عن فرض الشبهة الحکمیّة فی أنّه فی فرض الشبهة الحکمیّة قلنا لا مانع من الرجوع إلی عامٍّ فوقانی ----- إذا وُجِد ----- یکون دالاً علی حلّیة کل حیوان، إلا ما استُثنی، لا مانع من الرجوع إلی هذا العام فی الشبهة الحکمیة، أمّا فی الشبهة الموضوعیّة فحتّی إذا وجد مثل هذا العام، فمن الواضح أنّه لا یجوز الرجوع إلیه؛ لأنّ التمسّک بالعام حینئذٍ یکون تمسّکاً بالعام فی الشبهة المصداقیّة للمخصصّ؛ لأنّ هذا العام الدال علی حلّیة کل حیوانٍ خرجت منه عناوین معیّنة، ونحن نشکّ فی أنّ هذا الحیوان المشتبه بنحو الشبهة الموضوعیّة هل هو شاة، أو هو من السباع، والسباع خرجت من دلیل(یحلّ أکل کل حیوان)، ونحن نشکّ أنّ هذا من السباع، أو لا ؟ إذن: هی شبهة مصداقیة للمخصصّ للعام، وفی الشبهة المصداقیّة بلا إشکال لا یجوز التمسّک بالعام. اللّهمّ إلاّ أنْ نحرز موضوع العام عن طریق إجراء أصالة عدم المخصص، یعنی أصالة عدم کونه من السباع، هذا الأصل یحرز لنا موضوع الحلّیّة؛ لأنّ موضوع الحلّیّة هو کل حیوان، وبعد التخصیص یکون ماعدا السباع، فیکون هذا هو موضوع الحلّیّة بعد التخصیص، هذا حیوان ونحرز أنّه لیس من السباع بأصالة عدم کونه من السباع، طبعاً هذا الأصل هو من باب استصحاب العدم الأزلی، یعنی من باب استصحاب العدم المحمولی، ولیس من باب استصحاب العدم النعتی، عدم کونه من السباع؛ لأنّ هذا الحیوان منذ وُلِد هو یُشکّ فی کونه من هذا، أو من هذا، ولیست هناک حالة متیقنة سابقة نحرز فیها بأنّ هذا لیس من السباع، فلابدّ من إجراء استصحاب العدم الأزلی، فیتنقّح موضوع الحلّیة، وهذا بحثٌ آخر وعام ویجری فی جمیع موارد التمسّک بالعام فی الشبهة المصداقیة، مثلاً إذا قال(أکرم کل عالم) وخرج منه الفُسّاق منهم، فأصبح موضوع الوجوب هو عبارة عن العالم غیر الفاسق، لا یجوز التمسّک بهذا العام فی مورد الشکّ فی الشبهة المصداقیة، أنّ هذا عالم، لکن نشکّ أنّه عادل، أو فاسق، بلا شکٍّ لا یجوز التمسّک بالعام لإثبات وجوب إکرامه، لکن یمکن إحراز موضوع الوجوب عن طریق إجراء أصالة عدم کونه فاسقاً، ولو بنحو استصحاب العدم الأزلی. هذا کلام آخر، لکن بالنتیجة لا یمکن الرجوع إلی العام الفوقانی ----- لو وُجِد ----- لأنّه تمسّکٌ بالعام فی الشبهة المصداقیة.

ص: 149

وأمّا إذا لم یوجد عام فوقانی من هذا القبیل یدلّ علی الحلّیّة فی الحیوان، أو بالعکس، قد یدلّ علی حرمة کل حیوان إلاّ ما استُثنی، المهم أنّه دلیل اجتهادی یمکن التمسّک بعمومه، أو بإطلاقه، نفترض أنّه غیر موجود؛ حینئذٍ یتعیّن الرجوع إلی الأصول العملیّة، والأصل الذی یُرجَع إلیه هو عبارة عن استصحاب الحل، أو اصالة الحل، لکن استصحاب الحل فی المقام أیضاً یکون بنحو استصحاب العدم الأزلی، ومعنی استصحاب الحل هو أنّ هذا الحیوان کان حلالاً، ما معنی کان حلالاً ؟ نحن لا نحرز أنّ هذا الحیوان بعد تولّده هو حلال، وإنّما من حین تولّده نشکّ فی أنّه من هذا القبیل، أو من هذا القبیل ؟ لا نعلم به، ولیس هناک حالة متیقنة کنّا نحرز أنّ هذا الحیوان کان حلالاً، ثمّ نشکّ بعدها هل هو باقٍ علی حلّیّته، أو ارتفعت حلّیّته حتّی نستصحب عدم الحرمة بنحو العدم النعتی، وإنّما هو کان من البدایة مشکوک، فلابدّ من استصحاب عدم الحرمة، أو نُعبّر عنه باستصحاب الحل بنحو استصحاب العدم الأزلی، یعنی عدم الحرمة الثابتة ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع، هذه قطعاً کانت ثابتة، هذا الحیوان ولو لأجل قبل وجوده کان حلالاً، یعنی لم تثبت له الحرمة ولو باعتبار عدم وجوده، فیمکن فی محل الکلام استصحاب عدم ثبوت الحرمة له ولو باعتبار عدم وجوده، وتثبت بذلک حلّیة هذا الحیوان. إذا عجزنا عن ذلک واستشکلنا فی جریان هذا الاستصحاب، فیمکن الرجوع إلی أصالة الحل؛ إذ لا إشکال فی جریانها فی الشبهات الموضوعیّة، وإنْ کان هناک کلام فی جریانها فی الشبهات الحکمیّة، هناک کلام فی أنّ أصالة الحل هل تجری فی الشبهات الحکمیّة، أو تختصّ بالشبهات الموضوعیّة، لکنّ جریانها فی الشبهات الموضوعیّة التی هی محل الکلام فعلاً هو أمر مسلّم، فیمکن الرجوع إلی أصالة الحل فی هذه الحالة. وهنا أیضاً نقول لا مجال ولا موقع للرجوع إلی استصحاب عدم التذکیة، لما قلناه من أنّه فی هذا النحو بکلا قسمیه لا یوجد هناک شکّ من جهة التذکیة؛ بل حتّی من جهة قبول الحیوان للتذکیة.

ص: 150

إذن: لا معنی لاستصحاب عدم التذکیة، أو استصحاب عدم قابلیة الحیوان للتذکیة؛ لأننّا نقطع بکلٍ منهما ----- بحسب الفرض ----- فیُرجَع إلی أصالة الحلّیّة، أو الاستصحاب الذی ذکرناه.

هناک أمر ینبغی التنبیه علیه، وهو أنّ الکلام فی جریان استصحاب الحرمة الثابتة فی حال الحیاة أیضاً یجری فی المقام، والکلام نفس الکلام السابق، نفس ما ذکرناه فی الشبهة الحکمیّة أیضاً یجری فی الشبهة الموضوعیّة بأنْ نقول أنّ هذا المرددّ بین أنْ یکون من الغنم، أو یکون من السباع، هذا حینما کان حیّاً کان یحرم أکله، والآن کما کان، هذا استصحاب الحرمة الثابتة فی حال الحیاة. نفس الإشکالات المتقدّمة علی جریان هذا الاستصحاب تجری فی محل الکلام، ونفس الکلام السابق یجری فی هذه الحالة، وانتهینا إلی نتیجة أنّ استصحاب الحرمة الثابتة فی حال الحیاة لا یجری، والصحیح هو الرجوع إلی أصالة الحل.

النحو الثانی من أنحاء الشکّ فی الحلّیّة والحرمة: وهو ما إذا کان الشکّ فی حلّیة أکل لحم هذا الحیوان الزاهق الروح، أو حرمة أکل لحمه من جهة الشکّ فی قبوله التذکیة، وعدم قبوله، وبهذا یختلف هذا النحو عن النحو الأوّل، حیث فی النحو الأوّل لم یکن لدینا شکّ من جهة قبول الحیوان للتذکیة، وإنّما شکّ فی أنّه محلل الأکل بالذات، أو محرّم الأکل، بینما الشک هنا هو من جهة أنّ هذا الحیوان یقبل التذکیة، أو لا ؟ من قبیل ما إذا شککنا فی أنّ أسد البحر هل یقبل التذکیة، أو لا یقبلها ؟ هل حکم الشارع علیه بحلّیة أکل لحمه بعد التذکیة ؟ هذا معناه أنّه یقبل التذکیة، أو أنّه لم یحکم علیه بذلک ؟ أو فی مثال آخر کما ذکروا حیواناً تولّد من حیوانین أحدهما کلب والآخر شاة، ولا یلحقهما فی الاسم، فلا یصدق علیه عنوان(کلب)، ولا عنوان(شاة)، وشککنا فی أنّه یقبل التذکیة، أو لا ؟ هنا أیضاً الشبهة تارة تکون حکمیّة، وأخری تکون موضوعیّة. أمّا کونها حکمیّة فکما مثّلنا بأننّا لا نعلم أنّ أسد البحر هل یقبل التذکیة، أو لا ؟ أو هذا الحیوان المتولّد من کلبٍ وشاة، لا نعلم هل حکم الشارع علیه بحلّیة أکل لحمه بعد التذکیة ؟ هذه شبهة حکمیّة، ویُسأل عنها الشارع لأجل حلّها، وأمّا کون الشبهة موضوعیّة، فذلک بأنْ یُشکّ بأنّ هذا الحیوان زاهق الروح الذی نشکّ فی حلّیة أکل لحمه وحرمته هل هو غنم ؟ حتّی یکون قابلاً للتذکیة، ویحل أکل لحمه بعد الذبح، أو هو من السباع ؟ حتّی لا یحل أکله، هذه شبهة موضوعیّة ولیست شبهة حکمیّة، یُشک فی الحلّیة والحرمة من جهة الشکّ فی قبول هذا الحیوان للتذکیة، أو عدمه، لکن بنحو الشبهة الموضوعیّة.

ص: 151

الکلام فعلاً فی الشبهة الحکمیّة، هنا لابدّ من افتراض إحراز التذکیة، یعنی لابدّ من إحراز أنّ هذا الحیوان قد ذُکّی، وإحراز فری الأوداج مع استقبال القبلة مع التسمیّة وإسلام الذابح، هذه الأمور التی تُعتبر فی التذکیة، هذه الأمور کلّها محرزة، شکّنا لیس من هذه الجهة، أی لیس من جهة أنّ الذابح سمّی أو لم یُسمِّ، ولا من جهة أنّه ذُبح بالحدید، أو لم یُذبح بالحدید، وإنّما من جهة أنّ هذا الحیوان أساساً هل یقبل التذکیة، أو لا یقبل التذکیة ؟ مع إحراز حصول التذکیة علیه، الکلام هنا یقع فی أنّه هل یجری استصحاب عدم التذکیة لإثبات حرمة أکل لحم هذا الحیوان، أو لا یجری هذا الاستصحاب ؟ هنا بالإمکان تصوّر جریان استصحاب عدم التذکیة، باعتبار أنّ الکلام فی قبول الحیوان للتذکیة، أو عدم قبوله، فهل یجری هذا الاستصحاب ؟

قبل الجواب عن هذا السؤال ذکروا أنّه لابدّ من تحدید معنی التذکیة، وما هو المراد بالتذکیة؛ لأنّ تحدید معنی التذکیة یؤثر فی الجواب عن هذا السؤال من حیث أنّه یجری استصحاب عدم التذکیة أو لا یجری. ذکروا احتمالات فی معنی التذکیة، ثمّ دخلوا فی هذا البحث، ونحن نری أنّ المناسب جدّاً أنْ نذکر آراء بعض المحققین فی الجواب عن هذا السؤال، ثمّ منه ننطلق إلی بحث هذه المسألة التی ذکروها.

فی البدایة من المناسب جدّاً أنْ نذکر رأیّ المحقق النائینی(قُدّس سرّه) فی الجواب عن هذا السؤال، هل یجری استصحاب عدم التذکیة، أو لا ؟ مع افتراض أنّ الشبهة حکمیّة، وأنّ الشکّ هو من جهة قبول التذکیة وعدمه بعد إحراز عملیة التذکیة وما یُعتبر فیها خارجاً. المحقق النائینی(قُدّس سرّه) کما ورد فی تقریرات المحقق الکاظمی(قُدّس سرّه) ذکر بأنّ التذکیة التی تکون موجبة للطهارة ولحلّیة اللّحم یوجد فیها احتمالان: (1)

ص: 152


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 381.

الاحتمال الأوّل: أنْ تکون عبارة عن أمرٍ بسیط یحصل من المجموع المرکّب من الأمور الخاصّة کفری الأوداج بالحدید مع الاستقبال والتسمیة، مع قابلیة المحل. إذن: هناک أمور خاصّة تتمثّل فی ما یفعله الذابح، ولنفترض أنّ ما یفعله الذابح واجدٌ لکلّ الشرائط، ویُضاف إلیه قابلیة المحل، إذا اجتمعت هذه الأمور، یعنی فعل المُذکّی زائداً قابلیة المحل للتذکیة، یترتّب علیها أمر بسیط وحدانی یُسمّی بالتذکیة، فالتذکیّة هی عبارة عن أمرٍ بسیطٍ یترتّب علی مجموعةٍ من الأمور بما فیها قابلیة المحل للتذکیة، لکن نفس التذکیة هی أمر بسیط مسبَّب عن مجموع فعل الذابح مع قابلیة المحل، کما یقال أنّ الطهارة أمر مسبَّب عن الأفعال الوضوئیّة، هناک أفعال وضوئیة هی الغسلات والمَسَحات یترتّب علیها عنوان بسیط هو عنوان(الطهارة).

الاحتمال الثانی: أنْ یکون المراد بالتذکیة هو نفس الأمور الخاصّة المتقدّمة، ولیس أمراً بسیطاً مسبَّباً عن هذه الأفعال والأمور الخاصّة، وإنّما هو عبارة عن نفس تلک الأمور الخاصّة، فالتذکیة عبارة عن فری الأوداج بالحدید مع الاستقبال والتسمیة، وکون الذابح مسلماً، وقابلیة المحل خارجة عن حقیقة التذکیة، وإنْ کان لها دخل فی تأثیر هذه الأمور فی الطهارة والحلّیة، وقابلیة المحل لیست داخلة فی مفهوم التذکیة، وإنّما هی شرط فی تأثیر هذه الأفعال والأمور الخاصّة فی الحلّیة، وهذه الأفعال لا تؤثر فی الحلّیة إلاّ بشرط أنْ یکون المحل قابلاً.

وبعبارةٍ أخری: أنّ قابلیة المحل تؤخذ فی التذکیة بنحو الشرطیة، فلا تکون داخلة فی حقیقة التذکیة، وإنّما هی شرط فی التذکیة علی غرار الشروط الأخری التی لا تدخل فی حقیقة المشروط، وإنّما هی شرط فی التأثیر. المحقق النائینی(قُدّس سرّه) دخل فی بحثٍ فقهی، وهو أنّه أیّ الاحتمالین هو الأرجح، هو رجّح الاحتمال الثانی، یعنی هو یری أنّ التذکیة هی مجموعة الأفعال التی یمارسها الذابح بما فیها من الشرائط، لا أنّ التذکیة أمر بسیط مسبَّب عن هذه الأفعال. ثمّ قال: فعلی الأوّل ----- أی إذا قلنا أنّها أمر بسیط ----- تجری أصالة عدم التذکیة، باعتبار أنّ الحیوان فی حال الحیاة لم یکن مُذکّی، فیُستصحب هذا العدم، یعنی عدم التذکیة، حیث أنّ له حالة سابقة متیّقنة فی حال الحیاة، قطعاً التذکیة غیر حاصلة، بعد ذلک نشکّ فی أنّه حصلت التذکیة، أو لا، فنستصحب عدم التذکیة إلی زمان خروج وزهاق روحه.

ص: 153

وبعبارةٍ أخری: إنّ هذا الأمر البسیط المتحصّل من هذه الأفعال الخاصّة بشرط قابلیة المحل قطعاً لم یکن موجوداً سابقاً فی حال الحیاة؛ لسببٍ بسیطٍ جدّاً وهو أنّ فی حال الحیاة لیس هناک تذکیة، حیث لا توجد عملیة الذبح وفری الأوداج، وإنّما هو أمر بسیط یحصل نتیجة مجموع هذه الأفعال الخاصّة زائداً قابلیة المحل، قطعاً فی حال الحیاة هذا الأمر البسیط ----- الذی هو التذکیة بناءً علی الاحتمال الأوّل ----- لم یکن حاصلاً؛ لما قلناه من أنّه بحسب الفرض لم تکن هناک تذکیة، یعنی لم تکن هناک عملیة فری الأوداج بشرائط، فقطعاً لم یکن هذا الأمر البسیط حاصلاً فی حال الحیاة، وبعد تذکیته وفری أوداجه الأربعة بالشرائط المعتبرة نشکّ فی أنّ هذا الأمر البسیط یحصل، أو لا ؟ وذلک لأننّا نشکّ فی أنّ هذا الحیوان قابل للتذکیة، أو لا ؟ لأننّا قلنا أنّ القابلیة هی أحد الأمور التی تکون التذکیة مسبّبة عنها، فهی مسبّبة عن مجموعة أمور، مسبّبة عن فری الأوداج الأربعة مع قابلیة المحل، وبعد فری أوداجه وذبحه نشکّ فی حصول التذکیة فی هذا الأمر المسبّب عن مجموعة أمور، وذلک لأننّا نشکّ فی قابلیته للتذکیة وعدمها، فنستصحب عدم حصول هذا الأمر المسبّب؛ لأنّ هذا العدم کان متیقّناً سابقاً، فنستصحبه.

نعم، یقول المحقق النائینی(قُدّس سرّه) فی مقام التعلیق علی هذا الاستصحاب الذی حکم بجریانه: (1) غایة الأمر أنّ جهة الیقین والشکّ تختلف، جهة الیقین بعدم حصول هذا الأمر البسیط المسبّب، والسبب فی یقینی بعدم حصول هذا الأمر البسیط سابقاً هو عدم فری الأوداج فی حال الحیاة، هذه جهة الیقین سابقاً، جهة الشکّ فعلاً اختلفت وهی لیست نفس الجهة السابقة؛ لأنّه فُریت أوداجه، وذُبح بالحدید، جهة الشکّ لیست من هذه الجهة وإنّما من جهة قابلیة المحل وعدم القابلیة. یقول: أنّ اختلاف جهة الیقین والشکّ لا یؤثر فی جریان الاستصحاب، ما دام وحدة الموضوع متحققّة، کون القضیة المشکوکة هی نفس القضیة المتیقنة، وهذا حاصل فی المقام، اختلاف جهة الشکّ لا یؤثر فی جریان الاستصحاب، فیجری استصحاب عدم التذکیة بهذا المعنی. هذا بناءً علی الاحتمال الأوّل.

ص: 154


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 383.

یقول: وأمّا علی الاحتمال الثانی ----- لا زال الکلام للمحقق النائینی(قُدّس سرّه) وهو أنّ التذکیة هی عبارة عن الأفعال التی یأتی بها والشرائط التی یُعبّر عنها(فعل المکلّف)، هذه الأمور هی عبارة عن التذکیة، وقابلیة المحل شرط فی تأثیرها فی الحلّیة والطهارة ----- لا تجری أصالة عدم التذکیة عند الشک فی قابلیة الحیوان للتذکیة وعدمها؛ لأنّ هذه القابلیة لیس لها حالة سابقة؛ لأنّ هذا الحیوان حینما وجد کان یُشک فی قابلیته للتذکیة وعدمها، ولم تمرّ علیه فترة کنّا نقطع بعدم قابلیته، ثمّ نشکّ فی قابلیته، وعدم قابلیته حتّی نستصحب عدم القابلیة المتیقنة سابقاً، وإنّما هذا الحیوان حینما وجد کان یُشکّ فی أنّه قابل، أو لیس قابلاً، فأسد البحر ----- مثلاً ------ حینما وُلد نحن نشکّ فی أنّه قابل، أو لا، أو هذا المتولّد من کلبٍ وشاة نشکّ من حینما وجد فی أنّه قابل للتذکیة، أو لا، فإذن: لا یجری استصحاب عدم التذکیة، لماذا ؟ (هذه نکتة مهمّة) نحن نجری استصحاب عدم التذکیة من أیّ جهة ؟ التذکیة بمعنی فعل الذابح محرزة ----- بحسب الفرض ----- استصحاب عدم التذکیة من جهة القابلیة وعدم القابلیة، هذه الجهة هی الجهة المشکوکة، فلنترک استصحاب عدم التذکیة، ونتمسّک باستصحاب عدم القابلیة، هذا هو مقصوده، یقول: استصحاب عدم التذکیة من جهة الشکّ فی القابلیة وعدمه الذی هو بمعنی استصحاب عدم القابلیة لا یجری؛ لأنّ عدم القابلیة لیس لها حالة سابقة متیقنة، لیس لدینا حالة سابقة نستطیع أنْ نقول هذا الحیوان لیس قابلاً للتذکیة، والآن نشکّ ونستصحب عدماً متیقّناً سابقاً، فلا یجری استصحاب عدم قابلیة الحیوان للتذکیة.

ص: 155

إذن: المحقق النائینی(قُدّس سرّه) فصّل بحسب ما یُختار فی تفسیر وتحدید معنی التذکیة، إنْ کانت أمراً بسیطاً یجری استصحاب عدم التذکیة، وإلاّ فلا یجری. هذا خلاصة ما قال المحقق النائینی(قُدّس سرّه) .

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

الکلام یقع فی النحو الثانی: وهو الشکّ فی الحلّیّة والحرمة من جهة الشکّ فی القابلیة وعدمها، وبنحو الشبهة الحکمیّة، والکلام یقع فی أنّه هل یمکن فی المقام إجراء استصحاب عدم التذکیة، أو لا یمکن ؟ والمقصود باستصحاب عدم التذکیة هو استصحاب عدم القابلیة؛ لأنّها هی الشیء المشکوک، وإلاّ التذکیة کأفعالٍ وشروط المفروض فی المقام تحققّها، بمعنی أنّ الحیوان قد ذُبح، وفُریت أوداجه بالحدید مع التسمیة والبسملة، هذا متیقن ولیس لدینا فیه شکّ، فنجری استصحاب عدم التذکیة بهذا المعنی، وإنّما المقصود باستصحاب عدم التذکیة یعنی التذکیة بالمعنی الشامل لقابلیة المحل التی ترجع بالحقیقة إلی استصحاب عدم القابلیة. هل یجری هذا الاستصحاب، أو لا ؟ نقلنا فی الدرس السابق کلاماً وتفصیلاً للمحقق النائینی(قُدّس سرّه).

نُعلّق علی هذا الکلام، ثمّ ننقل کلاماً آخر لبعض الأعلام، التعلیق قد لا یخرج عن کونه توضیحاً واستفهامات تُطرح فی المقام: بالنسبة إلی ما ذکره بناءً علی الاحتمال الأوّل فی تفسیر التذکیة، وهو أنّ التذکیة أمر بسیط مُسبَّب عن هذه الأفعال الخاصّة مع قابلیة الحیوان للتذکیة، فهی أمر بسیط، الآن نشکّ فی تحقق هذا الأمر البسیط ----- التذکیة ----- المسبّب عن مجموعة أفعالٍ بضمیمة قابلیة الحیوان للتذکیة، نشکّ فی أنّه هل تحققّ عندما فرینا أوداج هذا الحیوان بالشرائط المعتبرة، لکن لا نحرز قابلیته للتذکیة، هل یتحقق هذا الأمر البسیط، أو لا ؟ هنا یقول: لا مانع من استصحاب عدم التذکیة. وبعبارة أخری: عدم تحققّ هذا الأمر البسیط؛ لأنّه لا إشکال فی أنّه فی حال حیاة الحیوان قطعاً لم یکن هذا الأمر البسیط متحقّقاً، یعنی التذکیة بهذا المعنی لم تکن متحققّة قطعاً، ونشکّ فی تحققّها بعد ذلک، فنستصحب المتیّقنَ سابقاً وهو عدمَ تحققّ المعنی البسیط.

ص: 156

السؤال الذی یُطرح هو: أنّه(قُدّس سرّه) لم یُبیّن أنّ استصحاب عدم التذکیة بالمعنی البسیط هل هو بنحو العدم النعتی، أو هو بنحو العدم المحمولی الأزلی ؟ لکن یمکن أنْ یقال: أنّ الجواب عن هذا السؤال یرتبط ببحثٍ، حاصله: أنّ هناک کلاماً فی أنّه ما هو موضوع حرمة أکل اللّحم ؟ هل موضوعها هو عدم التذکیة المضاف إلی الحیوان ؟ أو موضوعها هو عدم التذکیة المضاف إلی زاهق الروح ؟ وهناک فرق بینهما وله ثمرة عملیّة، فعلی الأوّل عندما یکون موضوع الحرمة هو عدم التذکیة المضاف إلی الحیوان؛ حینئذٍ لأجل أنْ لا نقع فی محذورٍ تقدّمت الإشارة إلیه وهو أنّه لم تثبت حرمة الأکل فی حال حیاة الحیوان، وقد تقدّم بحثه، أنّه لا دلیل علی حرمة أکل لحم الحیوان فی حال حیاته، فإذا قلنا أنّ موضوع الحرمة هو عدم التذکیة المضاف إلی ذات الحیوان، فهذا یوجب أنْ نحکم بحرمة الحیوان فی حال حیاته، فلابدّ حینئذٍ أنْ یُضاف جزءاً آخراً للموضوع وهو عبارة عن زهاق الروح، فیکون موضوع الحرمة هو عبارة عن مجموع أمرین، أحدهما: هو زهاق الروح، والآخر: هو عدم التذکیة، وکل منهما یکون مضافاً إلی الحیوان، بمعنی أنّهما أُخذا فی عرضٍ واحدٍ موضوعاً للحرمة، فکأنّه قیل: الحیوان إذا زُهقت روحه ولم یُذکِّ، فهو حرام؛ فحینئذٍ یصبح موضوع عدم التذکیة هو الحیوان، لکن بإضافة جزءٍ آخر أیضاً مضافاً إلی الحیوان وهو زهاق الروح. بناءً علی هذا الاحتمال؛ حینئذٍ لا مانع من استصحاب عدم التذکیة بنحو العدم النعتی، وجریان هذا الاستصحاب فی المقام لا یتوقّف علی القول باستصحاب العدم الأزلی، فحتّی لو لم نقل بجریان العدم الأزلی، مع ذلک فی المقام یصحّ أنْ نقول بجریان استصحاب عدم التذکیة، والسرّ فی ذلک هو أنّ هذا عدمٌ نعتی، ولیس عدماً أزلیاً، ووضوح أنّ هذا الموضوع ------ الحیوان ------ کان موجوداً وکان غیر مُذکّی جزماً، هذا عدم نعتی؛ إذ أننّا افترضنا أنّ موضوع الحرمة هو الحیوان، هذا الموضوع قطعاً کان موجوداً، وقطعاً لم تثبت له التذکیة فی حال حیاته، قبل ذبحه وزهاق روحه لم یُذکَّ قطعاً، فنستصحب هذا العدم الذی هو عدم نعتی؛ لأنّ الموضوع هو الحیوان، والحیوان موجود فی فترةٍ معیّنةٍ ولم تثبت له التذکیة، وهذا متیقّن عندنا، فنستصحب هذا العدم الثابت للموضوع وهو عدم نعتی ولیس عدماً أزلیاً ومحمولیاً، فإذن: بناءً علی هذا الاحتمال یجری الاستصحاب لا بنحو استصحاب العدم الأزلی، وإنمّا بنحو العدم النعتی. وبعبارة أخری: تکون سالبة بانتفاء المحمول، یعنی موضوع ثابت ینتفی عنه المحمول، وهذا هو ملاک العدم النعتی.

ص: 157

وأمّا إذا قلنا بالرأی الثانی، أی قلنا بأنّ موضوع الحرمة هو زاهق الروح، فیکون زهاق الروح مع عدم التذکیة هو موضوع الحرمة، أی عدم التذکیة بما هو مضاف إلی زهاق الروح؛ حینئذٍ لابدّ أنْ یکون عدم التذکیة عدماً أزلیّاً، وعدماً محمولیّاً؛ لأنّ هذا الحیوان منذ زهاق روحه نحن نشکّ فی أنّه مُذکّی، أو غیر مُذکّی، لیس لدینا یقین بأنّ زهاق الروح متحققّ فی هذا الحیوان، ونعلم بعدم کونه مُذکّی حتّی نستصحب هذا العدم بنحو العدم النعتی، وإنّما هذا الحیوان منذ زهاق روحه هو مشکوک من حیث التذکیة وعدمها. نعم، عدم التذکیة ثابت له قبل زهاق الروح، وقبل تحققّ الموضوع، فیکون العدم عدماً أزلیّاً محمولیّاً لا نعتیّاً، یعنی عدم بانتفاء الموضوع وقبل تحققّ الموضوع، فیکون سالبة بانتفاء الموضوع، وهذا هو ملاک العدم الأزلی.

علی کلّ حال: من یبنی علی جریان الاستصحاب فی العدم الأزلی لا مشکلة لدیه فی إجراء الاستصحاب فی محل الکلام؛ لأنّه إنْ کان بالنحو الأوّل، فالاستصحاب یکون بنحو العدم النعتی الذی لا إشکال فی جریانه، وأمّا إنْ کان بالنحو الثانی، فیجری الاستصحاب بنحو العدم الأزلی، فمن یبنی علی جریان الاستصحاب فی الأعدام الأزلیّة لا یواجه مشکلة من إجراء استصحاب عدم التذکیة. هذا توضیح لمقطعٍ من کلامه.

الأمر الآخر: بالنسبة إلی الاحتمال الثانی فی معنی التذکیة وهو أنْ یکون المراد بالتذکیة هو مجموعة الأفعال الخاصّة مشروطة بقابلیة المحل، وذکر هو علی أنْ تکون قابلیة المحل لیست دخیلة فی مفهوم التذکیة، وإنّما هی شرط فی تأثیر الأفعال الخاصّة فی حلّیّة اللّحم. فإذن: التذکیة کمفهوم لا یشمل القابلیة، لکنّ القابلیة شرط فیه. بناءً علی هذا الاحتمال قال: أنّ استصحاب عدم التذکیة لا یجری؛ لما ذکره من أنّ هذا الحیوان من أوّل وجوده یُشَکّ فی أنّه له قابلیة للتذکیة، أو لیس له قابلیة ؟ فإذن: لیس هناک حالة نتیقّن فیها بعدم ثبوت التذکیة لهذا الحیوان حتّی نجری استصحاب عدم التذکیة.

ص: 158

حینئذٍ یُطرح سؤال: لماذا لا نجری استصحاب عدم التذکیة بنحو العدم الأزلی ؟ هذا الذی ذکره صحیح بلحاظ العدم النعتی؛ لأنّ هذا الحیوان لم تمر علیه حالة ثبت له فیها عدم التذکیة، وقطعنا بأنّه لم یکن مُذکّی، ثمّ شککنا فی التذکیة، حتّی نستصحب عدم التذکیة المتیقّن بنحو العدم النعتی؛ بل هذا الحیوان من حین وجوده هو نشکّ فی أنّه قابل للتذکیة، أو لیس قابلاً لها، أسد البحر من حین وجوده نشکّ فی أنّه قابل للتذکیة، أو لیس قابلاً لها، والحیوان المتولّد من کلبٍ وشاة هو من حین أصل وجوده نحن نشک فی أنّه قابل للتذکیة، أو لیس قابلاً لها، إذن: متی نحرز عدم التذکیة ؟ هذا إشکال علی جریان استصحاب عدم التذکیة بنحو العدم النعتی؛ حینئذٍ یُطرح هذا السؤال: لماذا لا نجری استصحاب عدم التذکیة بنحو العدم الأزلی ؟ صحیح هذا الحیوان من حین وجوده هو مشکوک التذکیة، ولیس له حالة سابقة نتیقّن فیها بعدم تذکیته، لکن قبل وجود الحیوان یمکن استصحاب عدم التذکیة بنحو العدم الأزلی، ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع الذی هو ملاک العدم الأزلی؛ وحینئذٍ نحکم بجریان استصحاب العدم الأزلی، ویترتّب علیه ما یترتّب علی استصحاب العدم فی الحالة السابقة وعلی الاحتمال الأوّل.

قالوا: بأنّ هذا الکلام صحیح، لکنّ جریان استصحاب العدم الأزلی فی محل الکلام یتوقّف علی إثبات أمرین، نحن نتکلّم بناءً علی أنّ المراد بالتذکیة هو الأفعال الخاصّة، والتذکیة شرط لتأثیر الأفعال الخاصّة فی حلّیّة اللّحم. فی هذه الحالة قال المیرزا(قدّس سرّه): (1) (لا یجری استصحاب عدم التذکیة؛ لأنّه لیست هناک حالة سابقة نتیقن فیها بکون الحیوان غیر مُذکّی). أمّا استصحاب العدم الأزلی، فلم یتعرّض له. هنا طُرح سؤال هو أنّه هل یمکن إجراء استصحاب العدم الأزلی ؟ أجابوا عنه بأنّه یمکن الالتزام بجریان استصحاب عدم التذکیة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع بشرطین:

ص: 159


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 382.

الشرط الأوّل: أنْ یکون موضوع الحکم، وهو الحرمة، المرکّب من عدم التذکیة وزهاق الروح، أنْ یکون موضوعه هذین الجزئین المأخوذین فی الموضوع بنحو الترکیب، لا بنحو التوصیف، بمعنی أنّ زهاق الروح جزء من الموضوع، والجزء الآخر هو عدم التذکیة. هذا فی قبال أنْ یکون الجزءان مأخوذین فی الموضوع علی نحو التوصیف، بمعنی أنّ الحیوان الزاهق الروح المتّصف بعدم التذکیة، بحیث یکون اتّصاف زاهق الروح بالتذکیة دخیلاً فی الموضوع، لا ذات الجزئین. بناءً علی الأوّل إذا قلنا به؛ حینئذٍ یکون الکلام صحیحاً ویمکن إجراء استصحاب العدم الأزلی؛ إذ لا مانع أو محذور منه؛ لأنّ موضوع الحرمة هو عبارة عن زهاق الروح زائداً عدم التذکیة، فیمکن أنْ نجری الاستصحاب فی عدم التذکیة بضمّه إلی الوجدان الذی یحرز لنا الجزء الأوّل وهو زهاق الروح، فیتألف موضوع الحکم بالحرمة؛ لأنّ موضوع الحکم بالحرمة هو زهاق الروح المحرز بالوجدان بحسب الفرض، وعدم التذکیة الذی یمکن إحرازه باستصحاب العدم الأزلی، فیتنقّح موضوع الحکم، ویُحکم بحرمة هذا الحیوان. وأمّا إذا کان المعتبر هو التوصیف، أُخذا علی نحو التوصیف فی موضوع الحرمة، بمعنی أنّ موضوع الحرمة هو عبارة عن الحیوان الزاهق الروح المتّصف بعدم التذکیة، قالوا بأنّه هنا لا یمکن إجراء استصحاب العدم الأزلی؛ لأنّ ترتّب اتصاف زاهق الروح بعدم التذکیة علی استصحاب العدم الأزلی مبنی علی القول بالأصل المثبت؛ لأنّک تستصحب عدم التذکیة، اتّصاف زاهق الروح بهذا العدم، هذا إنّما یثبت باللازم، فالاستصحاب لا یثبت هذا الاتّصاف إلاّ بناءً علی القول بحجّیّة الأصل المثبت، بینما علی الأوّل لا یحتاج إلی الاتّصاف، هو فقط یثبت مفاده وهو عدم التذکیة؛ لأنّ المفروض أنّ الموضوع مرکّب من ذات الجزئین، زهاق الروح المحرز بالوجدان، وعدم التذکیة المحرز بالاستصحاب ولا نحتاج إلی أکثر من هذا، لا یتوقّف علی القول بالأصل المثبت، بینما إذا کان الموضوع مأخوذاً بنحو الاتّصاف، فاستصحاب العدم الأزلی لا یمکنه إثبات الاتّصاف، إلاّ إذا قلنا بالأصل المثبت.

ص: 160

الشرط الثانی: یتوقّف علی أنْ نقول ----- کبرویاً ----- بجریان الاستصحاب فی الأعدام الأزلیّة مطلقاً، أو لا أقل نقول بالتفصیل ------ کما اختاره جماعة من المحققّین ------ بین ما إذا کان الوصف الذی نرید استصحاب عدمه بنحو العدم الأزلی من لوازم الذات، من لوازم الماهیّة وثابت فی مرتبة الذات، وبین ما إذا کان الوصف الذی نرید استصحاب عدمه بنحو العدم الأزلی من لوازم الوجود، وثابت فی مرتبة الوجود. مثال الأول: الزوجیّة بالنسبة إلی الأربعة، فأنّها من لوازم الذات، من لوازم الماهیة، التفصیل یقول: إذا کان من لوازم الماهیّة وثابت فی مرتبة الذات، هنا لا یجوز استصحاب العدم الأزلی، وأمّا إذا کان من لوازم الوجود من قبیل القرشیة بالنسبة إلی المرأة، فهنا یجری استصحاب العدم الأزلی، ویُضاف إلی هذا التفصیل فی الصغری، أنّه فی محل الکلام نستصحب عدم التذکیة المقصود به عدم القابلیّة، أنْ نلتزم أنّ القابلیة من لوازم الوجود لا من لوازم الذات، فلکی یجری الاستصحاب فی المقام نحتاج إلی: إمّا أنْ نقول بجریان الاستصحاب فی الأعدام الأزلیّة مطلقاً، ولا یوجد فرق بین لوازم الوجود وبین لوازم الذات، فیجری. أو نقول بالتفصیل، لکن نلتزم بأنّ القابلیة التی نرید إجراء استصحاب عدمها بنحو العدم الأزلی هی من لوازم الوجود، وفی التفصیل یقول: إذا کان من لوازم الوجود یجری فیها الاستصحاب.

وأمّا إذا قلنا أنّ استصحاب العدم الأزلی أصلاً لا یجری کما هو مختار جماعة، أو قلنا بالتفصیل، لکن أنکرنا أنْ تکون القابلیة من لوازم الوجود، وإنّما من لوازم الماهیّة، فأیضاً لا یجری استصحاب العدم الأزلی. إذن: جریان استصحاب العدم الأزلی فی المقام یتوقّف علی إثبات أمرین، أحدهما: أنْ یکون الجزءان مأخوذان علی نحو الترکیب، لا علی نحو التوصیف، وثانیهما: أنْ نقول باستصحاب فی الأعدام الأزلیّة مطلقاً، أو بالتفصیل، مع الالتزام بأنّ القابلیة هی من لوازم الوجود لا من لوازم الذات؛ وحینئذٍ یتوقّف علی هذین الأمرین، وهذان الأمران محل کلامٍ ومحلّ خلافٍ ولیسا أمرین مسلمین عند الجمیع.

ص: 161

لکن هناک مشکلة فی جریان استصحاب العدم الأزلی فی محل الکلام ولیس مطلقاً، وهذه المشکلة ----- إذا تمّت ----- تمنع من جریان استصحاب العدم الأزلی حتّی إذا قلنا أنّ استصحاب العدم الأزلی یجری ولا مانع منه کبرویاً، أو قلنا بالتفصیل، أو أنکرنا التفصیل، لا علاقة له بالمختار فی مسألة استصحاب العدم الأزلی، حتّی إذا قلنا بجریان استصحاب العدم الأزلی مطلقاً، أو قلنا بالتفصیل وقلنا بأنّ القابلیة من لوازم الوجود، حتّی إذا قلنا بذلک، مع ذلک هناک مشکلة فی خصوص المقام تمنع من جریان الاستصحاب، وهذه المشکلة هی : بالتحلیل فرض المسألة هو الشکّ فی قابلیة الحیوان للتذکیة، وعدم قابلیته للتذکیة بنحو الشبهة الحکمیة، قابلیة الحیوان للتذکیة ماذا تعنی ؟ هی لا تعنی إلاّ أنّ الشارع حکم علی هذا الحیوان بحلّیة لحمه إذا ذُکی، لا أکثر، ونحن ننتزع من هذا الحکم عنوان القابلیة، وعدم القابلیة تعنی أنّ الشارع حکم علی هذا الحیوان بعدم حلّیة لحمه إذا ذُکّی، من هذا نفهم أنّ هذا الحیوان ----- الشاة، البقر، الجمل ----- قابل للتذکیة شرعاً، یعنی إذا ذُکی یحل لحمه، وهذا الحیوان لیس قابلاً للتذکیة، یعنی إذا ذُکّی لا یحل أکل لحمه، فقسّمنا الحیوانات إلی قسمین، قابل للتذکیة، وغیر قابل لتذکیة، هذه مجرّد عناوین لحکم الشارع بحلیة أکل لحم هذا عند ذبحه وفری أوداجه بالشرائط المعتبرة، وعبارة عن حکم الشارع بحرمة اللّحم عند تذکیة هذا، یعنی عندما تُفری أوداجه بالشرائط المعتبرة، هذا هو معنی القابلیة، وعدم القابلیة.

إذن: واقع المطلب أنّ القابلیة وعدم القابلیة ترجعان إلی حکم الشارع، وحکم الشارع لیس عبثیاً؛ بل لابدّ أنْ تکون فی الحیوان الذی حکم الشارع علیه بقابلیة التذکیة وبحلیة لحمه عندما یُذکّی، أنْ تکون فیه خصوصیّة أوجبت ذلک، ومن غیر المعقول أنْ لا نقول بذلک؛ لأننّا إذا لم نقل بذلک، فهذا معناه أنّ فری الأوداج بالشرائط المعتبرة یوجب حلّیّة اللحم، بینما الشارع فرّق فی ذلک بین هذا وبین هذا، فی هذا قال نفس العملیة التی تُجری علی هذا التی توجب حلّیة لحمه، فی هذا قال أنّ هذه العملیة إذا جرت علی هذا لا توجب حلّیة اللّحم، إذن: لماذا اختصّ هذا بهذا الحکم، إذا صارت تذکیته موجبة لحلّیة لحمه، ففیه خصوصیّة تستوجب ذلک، ولنفترض خصوصیة کونه غنماً، هذه خصوصیة موجودة فی هذا الحیوان تقتضی حلّیة لحمه بعد ذبحه، أو خصوصیّة أعمّ من کونه غنماً، ولنفترض أنّ الخصوصیة هی کونه حیواناً أهلیاً لا وحشیّاً، هذه خصوصیّة فی لحم الغنم ویشارکه فیها غیره، هذه أوجبت أنْ یکون ذبحه وفری أوداجه موجباً لحلّیة لحمه. هذه الخصوصیة لیست موجودة فی السباع، وإذا کانت غنماً، لیست موجودة فی غیر الغنم، إذا کانت الخصوصیة هی کونها أهلیة، فهی لیست موجودة فی الوحشیة. هذا معناه فی الحقیقة أنّ شکّنا فی القابلیة وعدم القابلیة یرجع إلی الشکّ فی أنّ هذا الحیوان(أسد البحر)، أو الحیوان المتولّد من کلبٍ وشاة هل توجد فیه الخصوصیّة التی تکون موجبة لحلّیة أکل لحمه عند فری أوداجه، أو لیست فیه هذه الخصوصیة ؟ شکّنا یرجع إلی هذا، هل هذا فیه تلک الخصوصیة، أو لیس فیه تلک الخصوصیة، الشک فی الحقیقة یرجع إلی الشکّ فی وجود الخصوصیة وعدم وجود الخصوصیة، ولا نعلم ما هی الخصوصیّة حتّی تکون الشبهة حکمیة، لا أنْ تکون الخصوصیة موجودة فی هذا، أو لا مع العلم بها، هذه تکون شبهة موضوعیة وسیأتی الکلام عنها. یدور أمر الخصوصیة بین أنْ تکون خصوصیة موجود فی هذا الحیوان الذی نشکّ فیه، أو خصوصیة غیر موجودة فی هذا الحیوان الذی نشکّ فیه. (مثلاً) إذا ذبحنا حماراً، أو خیلاً، وشککنا فی أنّه یقبل التذکیة، أو لا یقبلها، بنحو الشبهة الحکمیة، هذا الشک مرجعه کما قلنا إلی الشک فی أنّ الخصوصیة التی توجب حلّیة اللّحم عند تحققّها موجودة، أو لا ؟ نقول: إنْ کانت الخصوصیة هی کونه غنماً ----- مثلاً ----- أو کونه بقراً، أو کونه جملاً، فهی لیست موجودة فیه حتماً، فأنّ خصوصیته هی کونه خیلاً. نعم، إنْ کانت الخصوصیة التی أوجبت الحکم بحلّیة أکل لحم الغنم عندما یُذبح لیست هی کونه غنماً، وإنّما هی کونه حیواناً أهلیاً، هذه الخصوصیة موجودة فی هذا، فیُحکم بحلّیة أکل لحمه.

ص: 162

إذن: شکّنا فی الحقیقة أنّ الخصوصیة التی أوجبت حلّیة اللّحم فی حیوانات نعلم بأنّها محللّة الأکل، هل هی موجودة هنا، أو لیست موجودة هنا ؟ إنْ کانت الخصوصیة فی مثالنا هی الغنمیة، والبقریة، وأمثال هذه الأمور، فهی لیست موجودة قطعاً، وأمّا إذا کانت أوسع منها، کما لو کانت هی کونها حیواناً أهلیّاً، فهی موجودة قطعاً. إذن: یدور أمر الخصوصیة بین ما یُقطع بوجوده، وبین ما یُقطع بانتفائه، فی مثل هذه الحالة لا یجری الاستصحاب، حتّی لو قلنا بجریان الاستصحاب فی الأعدام الأزلیة، أو قلنا بالتفصیل المتقدّم، لا علاقة له بهذا البحث، هذه الخصوصیة یدور أمرها بین أنْ تکون مقطوعة الثبوت ، وبین أنْ تکون مقطوعة الانتفاء، إنْ کانت غنمیة فهی مقطوعة الانتفاء، وإن کانت هی کونها أهلیّة فهی مقطوعة الثبوت، فکیف نُجری الاستصحاب ؟

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی الشبهة الحکمیّة، وذکرنا آراء المحقق النائینی(قدّس سرّه) وذکرنا بأنّ الصحیح فی الشبهة الحکمیّة هو عدم جریان استصحاب عدم التذکیّة، بقطع النظر عن ما نختاره فی استصحاب العدم الأزلی، فالقضیّة لیست مبنیّة علی القول باستصحاب العدم الأزلی، فحتّی لو قلنا بجریان استصحاب العدم الأزلی مطلقاً وبلا تفصیل، مع ذلک فی خصوص المقام نقول أنّ الاستصحاب لا یجری؛ لما أشرنا إلیه فی الدرس السابق من أنّ الشک فی القابلیة مرجعه فی الحقیقة إلی الشک فی أنّ الخصوصیة الموجودة فی هذا الحیوان المذبوح الذی نشکّ فی قابلیته للتذکیة وعدمها، هل اعتبرها الشارع؟ هل هی خصوصیّة موجبة لحلّیّة اللّحم علی تقدیر التذکیة، أو لا؟

ص: 163

إنْ قلنا أنّ حکم الشارع بالقابلیة، یعنی حکمه بحلّیة اللّحم علی تقدیر التذکیّة، وأنّ هذا الحکم لا یأتی اعتباطاً، وإنّما ینشأ من وجود خصوصیّة فی الحیوان؛ فلأنّ هذا الحیوان فیه هذه الخصوصیّة، کانت تذکیّته موجبّة لحلّیة لحمه؛ ولأنّ ذاک الحیوان لا توجد فیه هذه الخصوصیّة؛ لذا لم تکن تذکیته موجبة لحلّیة لحمه، فعندما نشک فی حیوان علی نحو الشبهة الحکمیّة، فهذا معناه أنّ الخصوصیّة موجودة فی هذا الحیوان؛ لأنّ الشبهة لیست موضوعیة، وإنّما هی شبهة حکمیّة، أنّ الخصوصیة الموجودة فی هذا الحیوان هل توجب حلّیة اللّحم علی تقدیر التذکیة، أو لا ؟ حتّی تکون الشبهة حکمیّة، مثلاً الخیل المذبوحة، خصوصیة الخیلیّة متوفّرة فیها، وهی خصوصیة معروفة، وهی أنّه حیوان أهلی، لکننا لا نعلم أنّ الخصوصیة التی توجب حلّیة اللّحم علی تقدیر التذکیة هی خصوصیة کونه أهلیاً حتّی تکون موجودة فی هذا الحیوان، ویُحکم بحلّیة لحمه، أو أنّ الخصوصیة هی لیست کونه أهلیّاً، وإنّما الخصوصیة هی کونه ----- فرضاً ----- غنماً، أو بقراً، أو کونه من الدواب الثلاثة المعروفة، هذه هی الخصوصیة التی اوجبت حلّیة اللّحم علی تقدیر التذکیّة، هذه الخصوصیّة لیست موجودة فی هذا الحیوان المشکوک.

إذن: مرجع الشکّ فی القابلیة وعدمها إلی الشکّ فی أنّ الخصوصیّة الموجودة فی الحیوان المذبوح هل هی موجبة لحلّیة اللّحم علی تقدیر التذکیة، أو لا؟ إذا أرجعنا هذا الشکّ إلی هذا الشکّ؛ حینئذٍ یتبیّن أنه لا یصح إجراء استصحاب عدم الخصوصیّة؛ وذلک لأنّ الخصوصیة مردّدة بین ما هو مقطوع البقاء، وبین ما هو مقطوع الانتفاء، الخصوصیة إنْ کانت خصوصیة غنمیّة وبقریّة وأمثالها، فهی مقطوعة الانتفاء فی الخیل، وإنْ کانت الخصوصیة هی کونه أهلیاً فهی مقطوعة البقاء، فما معنی أنْ نجری الاستصحاب فی الخصوصیة ؟ هل نجری أصالة عدم الخصوصیة الغنمیة ؟ لیس لدینا شکّ فی هذه الخصوصیة حتّی نستصحب عدمها؛ لأننّا نقطع بعدم کونه من الغنم، فلا معنی لاستصحاب عدم هذه الخصوصیة، کما لا معنی لإجراء الاستصحاب بلحاظ خصوصیة الأهلیّة، یعنی استصحاب عدم کونه حیواناً أهلیاً؛ لأننّا نقطع بوجود هذه الخصوصیة، ونقطع بأنّ هذا حیوان أهلی. إذن: واقع الخصوصیة مردّد بین ما یکون معلوم الوجود، وبین ما یکون معلوم الانتفاء، فلا مجال لجریان الاستصحاب فی الخصوصیة.

ص: 164

أمّا العناوین، کعنوان الخصوصیة وغیره، فلیس لها دخل فی الحکم الشرعی، هذه العناوین هی عناوین انتزاعیة لیست دخیلة فی الحکم الشرعی، وإنّما الدخیل فی الحکم الشرعی هو واقع الخصوصیة، وأمّا عنوان الخصوصیة، فلیس له دخل فی الحکم الشرعی، فبلحاظ ما یکون دخیلاً فی الحکم الشرعی لا یجری الاستصحاب، وفی المقام لا یجری استصحاب عدم الخصوصیة الذی یرجع إلیه استصحاب عدم القابلیة. وهذا لا یُفرّق فیه بین أنْ نقول بجریان الاستصحاب فی العدم الأزلی، أو لا نقول بجریانه. هذا ما یرتبط بکلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) مع بعض التعلیقات علیه.

ذکر المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی نهایة الأفکار (1) نفس ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) تقریباً، أنّ التذکیّة إنْ کانت أمراً بسیطاً یجری استصحاب عدم التذکیّة، وإنْ کانت أمراً مرکّباً من هذه الأفعال الخاصّة، وکانت القابلیة شرطاً فی تأثیر هذه الأفعال الخاصّة فی حلّیة اللّحم بحیث تکون القابلیة خارجة عن مفهوم التذکیة، وإنّما هی مأخوذة علی نحو الشرطیّة والقیدیّة، هنا أیضاً قال بعدم جریان استصحاب عدم التذکیة کما ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه).

نعم، هو أضاف معنیً ثالثاً فی معنی التذکیة غیر الاحتمالین الذین ذکرهما المحقق النائینی(قدّس سرّه)، وهذا الاحتمال هو نفس الاحتمال الثانی، لکنّه افترض أنّ القابلیة مأخوذة علی نحو الجزئیّة ولیس علی نحو الشرطیّة، فیکون الفرق بین الثانی والثالث هو أنّهما یشترکان فی أنّ التذکیّة أسم لهذه الأفعال الخاصّة من فری الأوداج وغیرها، لکن القابلیة تارة تؤخذ بنحو الشرطیّة فتکون خارجة عن مفهوم التذکیة کما فی الاحتمال الثانی، وتارة تکون جزءاً من مفهوم التذکیة، فتکون داخلة فی مفهوم التذکیة بحیث یکون مفهوم التذکیة عبارة عن مجموع الأفعال زائداً قابلیة الحیوان للتذکیّة. ذکر الاحتمال الثالث، وذکر أنّ حکمه هو نفس حکم الاحتمال الثانی، وهو عدم جریان استصحاب عدم التذکیّة، والتعلیل هو نفس التعلیل السابق، وهو عدم وجود حالة متیقنة کان فیها الحیوان وکنّا نحرز عدم التذکیة؛ لأنّنا أخذنا القابلیة قیداً، أو شرطا،ً حتّی نستصحب عدم القابلیة، لم یمر علی الحیوان زمان نقطع فیه بعدم التذکیّة؛ لأنّ الحیوان حینما وجد هو یُشک فی کونه مذکّی، أو غیر مذکّی، فأیّ عدم نستصحبه ؟ بعد وجود الحیوان لیس لدینا یقین بعدم التذکیة، لأنّ هذا الحیوان حینما وجد هو مشکوک فی کونه مذکّی، أو غیر مذکّی، وفی کونه قابلاً للتذکیة، أو غیر قابلٍ لها، فلیس لدینا یقین بعدم تذکیة هذا الحیوان حتّی نقول أننّا نشکّ الآن، فنستصحب عدم التذکیة، أو عدم القابلیة المتیّقن فی زمان وجود الحیوان، فقال(قدّس سرّه) بأنّ هذا یمنع من جریان الاستصحاب.

ص: 165


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث آقا ضیاء للبروجردی، ج 2، ص 256.

الکلام هو الکلاممع إضافة، وهی أنّ الاحتمال الثالث الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) یبدو أنّه لیس محتملاً حتّی ثبوتاً، فکون القابلیة شرطاً فی التذکیة هو أمر معقول، فتکون خارجة عن مفهوم وحقیقة التذکیة، أمّا أنْ تکون القابلیة جزءاً من مفهوم التذکیة، فهذا لیس مقبولاً؛ لأنّه لا معنی لأنْ یقال أنّ قابلیة التذکیة جزء من مفهوم التذکیة؛ إذ أنّ قابلیة الحیوان للتذکیة هی شیء غیر التذکیة، القابلیة لا تکون جزءاً من مفهوم التذکیة، وإنّما الذی یکون جزءاً من مفهوم التذکیة هو التذکیة بمعنی فری الأوداج وأمثالها من الأمور، أما القابلیة للتذکیة، فهی خارجة عن مفهوم التذکیة ولیست جزءاً منه؛ ولذا الأصح هو أنْ یقال أنّ الاحتمال الثانی هو أنّ القابلیة غیر التذکیة، فتکون شرطاً فیها وهو الاحتمال الثانی المتقدّم، لا أنّ القابلیة جزء من التذکیة؛ لأنّ القابلیة للتذکیة غیر التذکیة، ولا تکون جزءاً من مفهوم التذکیة.

ثمّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) اختار الاحتمال الثانی کالمحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی قال بأنّه إما أنْ یکون أمراً بسیطاً، أو أمراً مرکباً، واختار أنّه أمر مرکب، وهذا أیضاً بحث فقهی، بحث استنباطی من الأدلّة، أننّا ماذا نفهم منها، هل التذکیة أمر بسیط، أو أنّها أمر مرکب ؟ أی عبارة عن الأفعال الخاصّة، هذا بحث استنباطی فقهی، هو اختار الاحتمال الثانی کالمحققّ النائینی(قدّس سرّه).

والأمر الآخر هو أنّه نصّ علی أنّ استصحاب عدم القابلیة بنحو العدم الأزلی لا یجری، (1) باعتبار أنّ المختار فیه هو التفصیل بین ما إذا کانت الصفة من لوازم الماهیة، وبین ما إذا کانت من لوازم الوجود، وهذا الاستصحاب لا یجری إلاّ إذا کانت الصفة من لوازم الوجود، وهو یری أنّ القابلیة لیست من لوازم الوجود، وإنّما هی من لوازم الماهیّة؛ لذا یقول حتّی لو قلنا بجریان استصحاب العدم الأزلی، فهو لا یجری فی المقام؛ لأننّا لا نقول بجریانه مطلقاً، وإنّما نقول بجریانه حینما تکون الصفة المشکوکة من لوازم الوجود، والقابلیة فی محل الکلام لیست من لوازم الوجود، وإنّما هی من لوازم الماهیّة. هناک کلمات أخری لمحققّین آخرین کالمحققّ الأصفهانی(قدّس سرّه) لا داعی للتعرّض لها، فنکتفی بهذا المقدار فی الشبهة الحکمیّة.

ص: 166


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث آقا ضیاء للبروجردی، ج 2، ص 258.

الآن ننتقل إلی الشبهة الموضوعیة: مثال الشبهة الموضوعیّة هو ما إذا علمنا بأنّ الغنم قابل للتذکیة، وأنّ الخنزیر لیس قابلاً للتذکیة، لکننّا لا نعلم أنّ هذا الّلحم الموجود أمامنا، هل هو لحم شاةٍ حتّی تکون قابلیة التذکیة موجودة فیه، أو هو لحم خنزیر ؟ وهذا الشک هو شکّ فی شبهة موضوعیّة، سببّها ---- فرضاً ---- ظلمة الهواء، فلا یعلم بسبب هذه الظلمة بأنّ هذا اللّحم لحم خنزیر، أو لحم شاة ؟ أو أنّ هذا الحیوان قد ذُبح بشکلٍ بحیث تقطّعت أوصاله وأصبح قطعاً صغیرة من اللّحم، فلا یُمیّز بین لحم الخنزیر وبین لحم الشاة، فیُشکّ بأنّ هذا اللّحم المذبوح والمُذکّی هل هو لحم شاة حتّی یکون حلالاً، أو هو لحم خنزیر حتّی لا یکون حلالاً، أو أنّه لحم سباعٍ حتّی لا یکون حلال الأکل؟

مثال آخر لهذه الشبهة الموضوعیّة: وهو ما إذا علمنا أنّ الخصوصیة التی حکم الشارع بأنّ الحیوان الواجد لها یحلّ أکله إذا ذُکّی، علمنا أنّ هذه الخصوصیة هی کونه أهلیّاً، لکننّا نشکّ فی کون هذا اللّحم المُذکّی الموجود فی الخارج لحم حیوان أهلی حتّی تکون الخصوصیة موجودة فیه، وبالتالی یُحکم بحلّیة لحمه، أو هو حیوان وحشی، حتّی لا یکون قابلاً للتذکیّة، وبالتالی لا یحل أکله ؟ هذه هی أیضاً شبهة موضوعیّة؛ إذ لیس لدینا شک من جهة الشارع، فنحن نعلم بأنّ هذه الخصوصیّة توجب حلّیة اللّحم علی تقدیر تذکیته، والوحشیّة لا توجب ذلک، لکنّنا نشکّ فی أنّ هذا اللّحم هل هو لحم حیوان وحشی، أو لحم حیوانٍ أهلی، بنحو الشبهة الموضوعیّة.

ص: 167

الذی یظهر من کلمات المحققّین، خصوصاً المحقق العراقی(قدّس سرّه) أنّ نفس ما تقدّم فی الشبهة الحکمیّة یجری فی المقام، وصرّح(قدّس سرّه) بأنّه لا فرق بین الشبهتین.

لکن یمکن أنْ یقال: أنّ هناک فرقاً بین الشبهة الحکمیّة وبین الشبهة الموضوعیّة، وهذا الفرق یظهر بناءً علی الاحتمال الثالث الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) ------ إذا تعقّلناه ----- وهو أنْ تکون القابلیة جزءاً من مفهوم التذکیة، لا أنّها مأخوذة علی نحو الشرطیّة؛ بل إنّما تکون مأخوذة علی نحو الجزئیة، فی هذه الحالة، فی الشبهة الموضوعیّة یمکن استصحاب عدم تلک الخصوصیة بنحو العدم الأزلی، بخلاف الشبهة الحکمیّة المتقدّمة، فأنّه هناک کان لا یجری استصحاب عدم الخصوصیة علی ما تقدّم، والفرق یکمن فی أنّه فی الشبهة الموضوعیّة عندما نشکّ فی الخصوصیة یمکن استصحاب عدمها، وذلک لأنّ الشکّ فی وجود الموضوع شکّ فی وجود الخصوصیة، وهذا الوجود مسبوق بالعدم، ولو العدم الأزلی ولیس العدم النعتی، فأننّا لا نحرز العدم النعتی، فلیس لدینا یقین بأنّ هذا الحیوان وجد ولم تکن فیه هذه الخصوصیة، بعد وجود الحیوان لیس لدینا یقین؛ لأنّ الحیوان حینما وجد هو مشکوک من حیث أنّ فیه هذه الخصوصیة، أو لیس فیه هذه الخصوصیة، وهل أنّه قابل للتذکیة، أو لیس قابلاً لها، لکن بنحو العدم الأزلی یمکن استصحابه، بأن نستصحب عدم الخصوصیّة بنحو العدم الأزلی، حیث لا مانع منه فی الشبهة الموضوعیّة؛ لأنّ الشکّ فی وجود الخصوصیة، وهذا الوجود مسبوق بالعدم، ولو بنحو العدم الأزلی، ولو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، فلا مانع من استصحابه بناءً علی المبانی فی استصحاب العدم الأزلی، فإذا قلنا بجریان استصحاب العدم الأزلی مطلقاً، فأنّه یجری فی المقام، وإذا قلنا بالتفصیل المتقدّم، فیجری فی المقام إذا کانت الخصوصیة من لوازم الوجود لا من لوازم الماهیّة.

ص: 168

وأمّا فی الشبهة الحکمیة، فلا یجری استصحاب العدم الأزلی، باعتبار أنّ الشکّ فی الشبهة الحکمیّة لیس فی وجود الموضوع، أی لیس فی وجود الخصوصیة، وإنّما الشکّ هو فی موضوعیّة هذا الموجود، الشکّ هو فی أنّ هذا الموجود الذی لا شکّ فیه، هل هو موضوع لحلّیة اللّحم علی تقدیر التذکیة، أو لیس موضوعاً ؟ فالشک فی المقام هو فی موضوعیة الموجود لا فی وجود الموضوع، ومن هنا لا شکّ فی الشبهة الحکمیّة فی الخصوصیة، حیث فی الشبهة الحکمیّة نعلم بأنّ هذا الحیوان خیل، وأنّه حیوان أهلی، وإنّما الشکّ هو فی أنّ الأهلیة هل ثبت أنّها موضوعاً لحلّیة اللّحم علی تقدیر التذکیة، أو لا ؟ لیس الشکّ فی وجود الخصوصیة حتّی نستصحب عدمها، ولو بنحو العدم الأزلی کما فی الشبهة الموضوعیّة، وإنّما الموضوع محرز، بمعنی أنّ هذه الخصوصیة نعلم بوجودها بلا إشکال، وإنّما نشکّ فی حکمها الشرعی، وهل اعتبرها الشارع خصوصیة موجبة لحلّیة اللّحم، أو لا ؟ فلا مجال لجریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة، بینما هناک مجال لإجراء الاستصحاب فی الشبهة الموضوعیّة.

قلنا بأنّ جریان الاستصحاب فی الشبهة الموضوعیّة بنحو العدم الأزلی یبتنی علی أنْ لا تکون الخصوصیة من لوازم الماهیة، فإذا کانت من لوازم الوجود وقلنا بجریان استصحاب العدم الأزلی؛ فحینئذٍ یجری الاستصحاب، وأمّا إذا کانت من لوازم الماهیة، فالقول بجریان الاستصحاب فیها مبنی علی القول بجریان الاستصحاب فی العدم الأزلی مطلقاً.

نکتفی بهذا المقدار من النحو الثانی الذی هو عبارة عن حلّیة اللّحم وعدم حلّیته من جهة الشکّ فی قابلیة التذکیة وعدمها، وهو النحو المهم فی هذا البحث؛ لأنّه فی هذا البحث بحثنا عن استصحاب عدم التذکیة، فأنّه إنّما یُتصوّر جریانه عندما یکون هناک شکّ فی القابلیة، فعندما نشکّ فی قابلیة الحیوان للتذکیة، فهذا الشکّ یکون موجباً للشک فی حلّیة اللّحم وعدم حلّیته؛ وحینئذٍ یقع هذا الکلام. وإلاّ قلنا أنّ النحو الأوّل خارج عن محل الکلام، ولا کلام لنا فیه بالنسبة إلی أصالة عدم التذکیة.

ص: 169

النحو الثالث: هو ما إذا کان الشکّ فی الحلّیّة والحرمة من جهة الشکّ فی طرو المانع، یعنی نحن نعلم بأنّ هذا الحیوان قد ذُکّی، ونعلم بأنّه قابل للتذکیة، إمّا بلحاظ کلا الأثرین، حلّیة اللّحم والطهارة، أو بلحاظ أحدهما، لکن بالنتیجة نعلم بأنّ هذا الحیوان قابل للتذکیة، فلیس لدینا شکّ فی أصل التذکیة، ولا فی قابلیة الحیوان للتذکیة، وإنّما نشک فی أنّه هل حدث مانع یمنع من تأثیر هذه القابلیة فی حلّیة اللّحم ؟ حیث هناک موانع تمنع من تأثیر التذکیة فی حلّیة اللّحم، حتّی فی الحیوان القابل، من قبیل الجلل، فأنّه یمنع من تأثیر الذبح والتذکیة فی حلّیّة اللّحم، فنشکّ فی أنّ هذا الحیوان هل هو من الحیوانات الجلالة، أو لا ؟ هذ أیضاً قد یکون بنحو الشبهة الحکمیّة، وقد یکون الشبهة الموضوعیّة. أمّا بنحو الشبهة الحکمیّة، فهو کما إذا شککنا فی أنّ الجلل مانع، أو لا، مع إحراز الجلل فی هذا الحیوان. وأمّا بنحو الشبهة الموضوعیّة فهو أنْ نشکّ فی تحققّ الجلل، مع العلم بکونه مانعاً

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

کان الکلام فی النحو الثالث من أنحاء الشکّ فی حلّیة الحیوان وحرمته، وهو ما إذا کان الشکّ ناشئاً من الشکّ فی وجود المانع من التذکیة، إمّا بنحو الشبهة الحکمیّة التی کان فیها الکلام، وإمّا بنحو الشبهة الموضوعیّة، وکلامنا فعلاً هو فی الشبهة الحکمیّة، کما إذا شککنا فی أنّ الجلل مانع، أو لیس بمانع، مع فرض إحراز أنّ هذا الحیوان الذی نشکّ فی حلّیته وحرمته هو حیوان جلاّل، لکننّا نشکّ فی أنّ الجلل مانع شرعاً، أو لیس بمانع.

ص: 170

قلنا أخیراً بأنّ الصحیح هو أننّا تارة نفترض وجود دلیل اجتهادی یمکن الرجوع إلیه لنفی اعتبار عدم الجلل فی حلّیة أکل لحم الحیوان، أو لنفی أنّ الشارع اعتبر الجلل مانعاً، فإذا کان هناک إطلاق دلیل یثبت لنا أنّ الجلل لیس مانعاً، وأنّ عدم الجلل لم یؤخذ قیداً ولا جزءاً فی التذکیة والحلّیة؛ حینئذٍ یمکن الرجوع إلی هذا الدلیل لإثبات أنّ الجلل لیس مانعاً؛ وحینئذٍ یُلتزَم بتحقق التذکیة فی الحیوان، وبالتالی یکون مُحلّل الأکل.

وأمّا إذا فرضنا عدم وجود دلیلٍ اجتهادی یمکن أنْ نتمسّک به لنفی اعتبار عدم الجلل، فبقی الشکّ علی حاله، وبقینا نشکّ فی أنّ الجلل هل هو مانع، أو لیس بمانع ؟ فإنْ کان مانعاً، فهذا الحیوان غیر مُذکی، وبالتالی لا یکون حلالاً، وإنْ لم یکن مانعاً، فهذا الحیوان مُذکی، وبالتالی یکون حلالاً؛ حینئذٍ تصل النوبة إلی الأصول العملیة، وفی مقام تحدید ما هو الأصل العملی الذی یجری فی المقام یأتی هذا الکلام الذی أُشیر إلیه سابقاً، وهو أنّ هذا یختلف باختلاف ما نختاره فی تفسیر معنی التذکیة، فتارة نفترض أنّ التذکیة هی عبارة عن مجموعة من الأفعال والشروط الخاصّة، نفس الأفعال، فری الأوداج بالحدید، واستقبال القبلة، والتسمیّة.... وهکذا. وأخری نفترض أنّ التذکیة هی عبارة عن أمرٍ بسیطٍ مُسَببّ عن هذه الأفعال، بمعنی أنّ هذه الأفعال تکون سبباً فی تحققّ هذا المفهوم البسیط المُعبّر عنه بالتذکیة، فبناءً علی الأوّل وأنّ المراد بالتذکیّة هی نفس الأفعال الخاصّة الخارجیّة وما یعتبر فیها؛ حینئذٍ لا مجال لاستصحاب عدم التذکیّة، باعتبار أننّا لا نشکّ فی التذکیة بهذا المعنی؛ لأنّ المفروض أننّا نحرز تحقق کل الأفعال الخاصّة، کما لاشکّ فی الجلل، فأننّا أیضاً نحرز تحقّقه فی الخارج وأنّ هذا الحیوان هو حیوان جلاّل.

ص: 171

إذن: لا معنی لجریان استصحاب عدم التذکیّة بهذا المعنی؛ لعدم الشکّ فی الأعمال والشرائط، فلا یوجد عندنا شکّ فی الأعمال والشرائط حتّی یجری استصحاب عدم التذکیّة؛ بل الأعمال کلّها محرزة، والجلل أیضاً محرز ------ بحسب الفرض ------ فلا مجال فی محل الکلام لاستصحاب عدم التذکیّة بهذا المعنی، بمعنی الأفعال الخاصّة الخارجیّة مع الشرائط المعتبرة.

نعم، یمکن فی المقام الرجوع إلی ما ذکرناه سابقاً وهو استصحاب عدم اعتبار الجلل مانعاً شرعاً، بمعنی استصحاب أنّ الشارع لم یعتبر الجلل مانعاً شرعاً من التذکیّة؛ لأنّ الشکّ هو فی ذلک، فالشکّ لیس فی تحققّ الجلل، المفروض أنّ الشکّ هو فی مانعیة هذا الشیء المتحققّ، هل هو مانع؟ أو لیس بمانع ؟ یعنی هل اعتبره الشارع مانعاً من التذکیة، أو لا ؟ وقلنا أنّه یجری استصحاب عدم المانع، یعنی عدم اعتبار هذا الجلل مانعاً من التذکیة، باعتباره أمراً مشکوکاً مسبوقاً بالعدم، کما هو الحال فی استصحاب عدم الجعل الذی تکلّمنا عنه سابقاً، حیث أنّ استصحاب عدم الجعل لإثبات البراءة کان أحد الطرق لإثبات البراءة، والاستدلال علیها کان هو التمسّک باستصحاب عدم الجعل، بمعنی أننّا حینما نشکّ أنّ الشارع هل جعل هذا الحکم، أو لم یجعله ؟ نستصحب عدم جعل هذا الحکم الثابت قبل الشریعة، وهذا أیضاً جعل واعتبار، ونشکّ فیه، هل اعتبر الشارع الجلل مانعاً من التذکیة أو لا ؟ هذا أمر مسبوق بالعدم، فیمکن إجراء الاستصحاب فیه؛ وحینئذٍ یکون الحکم هو الحلّیة اعتماداً علی هذا الاستصحاب، وهو استصحاب عدم کون الجلل مانعاً من التذکیة، والمفروض أنّ بقیة الأمور کلّها محرزة، فیُحکم بتذکیة الحیوان، ویُحکم بحلّیته، ولو ناقشنا فی هذا الاستصحاب، ومنعنا من جریانه؛ فحینئذٍ لا مشکلة فی إثبات الحلّیّة؛ لأنّه یمکن حینئذٍ التمسّک بأصالة الإباحة؛ لأنّ هذا حیوان نشکّ فی إباحته وحرمته، وأنّ لحمه هل هو مباح، أو لیس مباحاً ؟ وکل شیءٍ یُشکّ فی حرمته وحلّیته، فالأصل فیه هو الإباحة، فیمکن الرجوع إلی أصالة الإباحة، باعتبار أنّ هذا الحیوان یُشکّ فی حرمة أکل لحمه وإباحته؛ لأنّه إنْ کان الجلل مانعاً، فهو محرّم الأکل، وإلاّ، إذا لم یکن الجلل مانعاً، فلا یکون محرّم الأکل؛ بل یکون محلّل الأکل؛ لأنّه حاله حال سائر الأمور التی یُشکّ فی حرمتها وحلّیتها. هذا کلّه إذا کانت التذکیة عبارة عن نفس الأفعال الخاصّة الخارجیّة.

ص: 172

وأمّا إذا کانت التذکیة عبارة عن أمر بسیط یترتّب علی هذه الأفعال، فتکون هذه الأفعال سبباً لتحقّقه. فی هذه الحال الظاهر أنّه لا مانع من إجراء استصحاب عدم التذکیّة؛ لأننّا نشکّ فی تحققّ التذکیة بهذا المعنی، بالمعنی السابق لم یکن عندنا شکّ فی تحقق التذکیة؛ لأنّ المعنی السابق کان یقول أنّ التذکیة عبارة عن الأفعال، ولا شکّ فی الأفعال، والشرائط أیضاً لا شکّ فیها، المحرزة والمحتملة، لکن عندما یکون المراد بالتذکیة هو النتیجة، الأمر الذی تکون هذه الأفعال سبباً لتحققّه، نحن بالوجدان نشکّ فی تحققّ هذا الأمر البسیط، ولا ندری أنّ هذا الأمر البسیط متحققّ، أو غیر متحقق ؟ لأنّه إنْ کان الجلل مانعاً، فهذا الأمر البسیط غیر متحققّ، وإنْ لم یکن مانعاً، فالأمر البسیط متحققّ، فعندنا شکّ وجدانی فی تحققّ هذا الأمر البسیط، وإذا شککنا فی تحققّ هذا الأمر البسیط، فالأصل عدمه؛ لأنّه أمر مسبوق بالعدم قطعاً، نشکّ فی تحققّه، فنستصحب العدم المتیقّن سابقاً، وهذا هو معنی استصحاب عدم التذکیّة، لکن استصحاب عدم التذکیّة بناءً علی أنّ المراد بالتذکیة أمر بسیط مسَببّ عن هذه الأفعال، فی قباله یوجد أمران:

الأمر الأوّل: ما ذکرناه من استصحاب عدم کون الجلل مانعاً من تحقق التذکیّة، باعتبار أنّ الشکّ فی التذکیة مسَببّ عن الشکّ فی اعتبار الشارع الجلل مانعاً، أو عدم اعتباره، لماذا نشکّ فی أنّ هذا الحیوان المذبوح مذکی، أو غیر مذکی ؟ لأننّا نشکّ فی أنّ الجلل مانع، أو لیس بمانع، والأصل الجاری فی الشکّ السببی یکون حاکماً علی الأصل الجاری فی الشکّ المسَببّی، فیکون استصحاب عدم التذکیّة ------ الذی قلنا لا مانع من جریانه أساساً ------ محکوماً باستصحابٍ هو عبارة عن نفس الاستصحاب السابق الذی هو استصحاب عدم کون الجلل مانعاً من التذکیة شرعاً.

ص: 173

الأمر الثانی: یمکن إبراز استصحاب تعلیقی أیضاً یکون مقدماً علی استصحاب عدم التذکیّة علی بعض الآراء، أو یکون معارضاً له، وعلی کلا التقدیرین لا یجری استصحاب عدم التذکیّة، وهذا الاستصحاب التعلیقی یکون باعتبار أنّ هذا الحیوان قبل الجلل تصدق فی حقّه هذه القضیة الشرطیة، وهی أنّ هذا الحیوان لو ذُبح بالشرائط المعروفة لکان مذکی بلا إشکال، فنستصحب هذه القضیة الشرطیة، وهو معنی الاستصحاب التعلیقی، فنقول: هذا الآن کما کان سابقاً، فکما أنّ هذا سابقاً لو ذُبح لکان مذکی، الآن أیضاً کذلک لو ذبح لکان مذکی، ونحن نحرز الذبح بحسب الفرض بالأفعال والشروط المعتبرة، فنقول أنّ هذا یکون مذکی، وهذا الاستصحاب التعلیقی، إمّا أنْ یکون معارضاً لاستصحاب عدم التذکیّة، وإمّا أنْ یکون مقدّماً علی استصحاب عدم التذکیّة بناءً علی أنّ الاستصحاب التعلیقی یکون حاکماً علی الاستصحاب التنجیزی کما هو أحد الآراء فی المسألة والذی اختاره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، والاستصحاب التنجیزی فی محل کلامنا هو استصحاب عدم التذکیّة؛ لأننّا قلنا لا مانع من جریانه، والاستصحاب التعلیقی هو أنّ هذا لو ذُبح قبل الجلل لکان مذکی، وهو الآن کما کان.

إذن: علی کل حال لا یمکن الالتزام بحرمة أکل لحم هذا الحیوان وبعدم کونه مذکّی، فالظاهر أنّه فی الشبهة الحکمیة بالنحو الثالث، علی کلّ التقادیر وعلی کلّ الاحتمالات لابدّ من الالتزام بالتذکیة وبالحلّیة، فیحکم بحلّیة هذا الحیوان، فی النحو الثالث بنحو الشبهة الحکمیة.

وأمّا إذا کانت الشبهة موضوعیة فی النحو الثالث، کما إذا شککنا فی أنّ هذا الحیوان جلاّل، أو لا، مع إحراز أنّ الجلل مانع من التذکیة، ولا شکّ لدینا من ناحیة الحکم الشرعی فی أنّ الجلل مانع، لکن لا نعلم أنّ هذا الحیوان الذی زهقت روحه هل هو جلاّل ؟ حتّی یکون غیر مذکّی ومحرّم الأکل، أو أنّه لیس بجلال ؟ حتّی یکون مذکّی ومحلّل الأکل.

ص: 174

هنا أیضاً نقول: تارة تکون التذکیة هی عبارة عن نفس الأفعال الخاصّة الخارجیّة، التذکیة مرکّبة من مجموعة هذه الأمور الخارجیة؛ حینئذٍ یمکن إجراء استصحاب عدم الجلل، وهذا استصحاب لا مانع من جریانه فی المقام؛ لأنّ الجلل حالة مسبوقة بالعدم، فإذا شککنا فی تحققّها، فالأصل عدمها.

وبعبارةٍ أخری: أنّ هذا الحیوان قطعاً مرّ علیه زمان لم یکن جلاّلاً، والآن نشکّ فی أنّه صار جلاّلاً، أو لم یصر جلاّلاً، هل تعنون بعنوان(الجلاّل) أو لا ؟ الأصل هو عدم تحققّ الجلل، فیمکن إجراء استصحاب عدم الجلل، وبضم هذا الاستصحاب إلی ما نحرزه وجداناً ویقیناً من تحققّ الأفعال الخاصة والشروط المعتبرة فی التذکیة؛ حینئذٍ یمکن إثبات التذکیة، وبالتالی إثبات حلّیة اللّحم؛ لأنّ التذکیة بحسب الفرض هی عبارة عن مجموعة الأفعال زائداً عدم الجلل؛ لأنّ المفروض أننّا نعلم بأنّ الجلل مانع.

إذن: التذکیة هی عبارة عن مجموعة الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل، الأفعال الخاصّة والشروط الأخری غیر عدم الجلل نحرزها بالوجدان، وبحسب الفرض لیس لدینا شکّ فیها، وعدم الجلل المعتبر فی التذکیة بحسب الفرض نحرزه بالاستصحاب، وبذلک نحرز التذکیة بضمّ الوجدان إلی التعبّد(الاستصحاب) فنحرز التذکیة، وبالتالی حلّیة أکل لحم هذا الحیوان، فیجری استصحاب عدم الجلل وبضمّه إلی الوجدان یمکن إحراز التذکیة وبالتالی حلّیة الأکل. هذا إذا کانت التذکیة عبارة عن نفس الأفعال الخاصّة والشروط المعتبرة فیها.

وأمّا إذا قلنا أنّ التذکیة أمر بسیط مسَببّ عن الأفعال الخاصّة؛ حینئذٍ یمکن إثبات نفس الکلام السابق الذی قلناه فی الاحتمال السابق، لکن فیما إذا فرضنا أنّ هذا الأمر البسیط هو عبارة حکمٍ شرعی، صحیح أنّ التذکیة هی أمر مسَببّ عن الأفعال الخاصّة، لکنّ هذا الأمر البسیط المسَببّ عن الأفعال الخاصّة هو جعل شرعی یتمثّل فی حکم شرعی، الشارع یحکم بالتذکیة عندما تتحققّ الأفعال الخاصّة، التذکیة غیر الأفعال الخاصّة، مترتّب علی الأفعال الخاصّة، لکنه عبارة عن حکم شرعی، وجعل شرعی یُعبّر عنه بالتذکیة. بناءً علی هذا الکلام هو نفس الکلام السابق؛ لأنّ معنی هذا الکلام هو أنّ هناک جعلاً وحکماً شرعیّاً وهو التذکیة، نفترض أنّ التذکیة حکم شرعی، وموضوع هذا الحکم الشرعی الذی یترتّب علیه ترتّب الحکم علی موضوعه هو عبارة عن الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل الذی هو بمثابة الموضوع للتذکیة التی هی حکم شرعی، والتذکیة تترتّب علی الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل ترتّب الحکم علی موضوعه؛ حینئذٍ یمکن إحراز هذا الحکم الشرعی بنفس ما قلناه سابقاً، بضمّ الوجدان إلی الاستصحاب؛ لأنّ موضوع هذا الحکم الشرعی هو الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل، الأفعال والشرائط الخاصّة محرزة بالوجدان، وبحسب الفرض، وعدم الجلل یمکن إحرازه بالاستصحاب، فبضمّ استصحاب عدم الجلل إلی ما نحرزه وجداناً، نحرز موضوع هذا الحکم الخاص وهو التذکیة، فالتذکیة بناءً علی هذا تکون حکماً شرعیاً موضوعه مرکّب من هذین الجزئین، أحد الجزئین نحرزه بالوجدان، والآخر نحرزه بالاستصحاب، فنحرز موضوع الحکم الشرعی، فیترتب الحکم الشرعی علی موضوعه بعد إحرازه، فیجری استصحاب عدم الجلل، ویترتّب علیه بعد ضمّه إلی الوجدان هذا الحکم الشرعی. غایة الأمر أنّ الفرق بینه وبین ما تقدّم هو أنّه فیما تقدّم لم نقل أنّ التذکیة حکم شرعی یترتّب علی الأفعال؛ بل التذکیة هی نفس الأفعال، فیمکن إحرازها بضم الوجدان إلی التعبّد، هنا نقول أنّ التذکیة حکم شرعی موضوعه مرکّب من الأفعال زائداً عدم الجلل، فنستطیع أنْ نحرز موضوع هذا الحکم الشرعی بضمّ الوجدان إلی التعبّد.

ص: 175

وأمّا إذا قلنا أنّ التذکیة أمر بسیط مسَببّ عن الأفعال الخاصّة، لکنها لیست حکماً شرعیاً، وإنّما هی أمر تکوینی واقعی یترتّب علی الأفعال الخاصّة، حالة من الحالات التکوینیة الواقعیة تترتّب علی هذه الأفعال الخاصّة من قبیل ترتّب الموت علی إطلاق النار، فالموت أمر تکوینی واقعی ولیس جعلاً شرعیاً، التذکیة هی من هذا القبیل، أمر تکوینی واقعی یترتّب علی هذه الأفعال الخاصّة، إذا قلنا بذلک؛ حینئذٍ تختلف المسألة، فی هذه الحالة لا یمکن إجراء استصحاب عدم الجلل لإثبات الحلّیة کما هو المطلوب فی المقام، لا یمکن إجراء استصحاب عدم الجلل إلاّ بناءً علی القول بحجّیة الأصل المثبت، باعتبار أنّ التذکیة لیست من اللّوازم الشرعیة لعدم الجلل حتّی یمکن إثباتها باستصحاب عدم الجلل، وإنّما هی من اللّوازم المترتبة علی عدم الجلل، لازم تکوینی، حیث قلنا أنّها مسَببّ تکوینی لهذه الأفعال الخاصّة بما فیها عدم الجلل. إذن: هی أمر تکوینی یترتّب علی عدم الجلل زائداً الأفعال الخاصّة، فهل یمکن بإجراء استصحاب عدم الجلل أنْ نثبت هذا الأمر التکوینی ثمّ نثبت الأثر الشرعی الذی هو حلّیّة الأکل ؟ فحلّیة الأکل تترتّب علی التذکیة، والتذکیة بحسب الفرض تترتب علی الأفعال الخاصّة زائداً عدم الجلل، باستصحاب عدم الجلل لا یمکن إثبات هذا الأمر التکوینی ثمّ الانتقال إلی الأثر الشرعی؛ لأنّ هذا اصل مثبت، إثبات الحلّیة اعتماداً علی استصحاب عدم الجلل لا یکون تامّاً، إلاّ بناءً علی القول بحجّیة الأصل المثبت، فالاستصحاب لا تثبت به الأمور التی تترتب علیه عقلاً وتکویناً، وإنّما تترتّب علیه خصوص الأمور التی تترتّب علیه شرعاً، یعنی تترتّب علیه آثاره الشرعیة، عدم الجلل إذا کانت له آثار شرعیة تترتّب علی الاستصحاب، ولا یکون الاستصحاب مثبتاً، أمّا آثاره العقلیة والتکوینیة فهی لا تترتّب علی استصحاب عدم الجلل، ومن هنا لا یمکن إجراء استصحاب عدم الجلل لإثبات حلّیة الأکل فی محل الکلام؛ وحینئذٍ الظاهر أنّ الأصل الجاری فی المقام هو استصحاب عدم التذکیة، باعتبار أننّا نشکّ فی تحققّ هذا الأمر التکوینی المسَببّ عن الأفعال الخاصّة، لیس لدینا أصل یحرز لنا تحققّه، فنشکّ فی تحققّه، والأصل عدم تحققّه، وهو عبارة عن استصحاب عدم التذکیّة، والمفروض أنّ الشبهة فی المقام موضوعیّة ولیست حکمیّة حتّی یجری استصحاب عدم جعل الشارع هذا مانعاً، لیس لدینا شکّ فی ذلک، قطعاً الجلل مانع شرعاً، وإنّما الشکّ فی تحققّه خارجاً، فتصل النوبة إلی استصحاب عدم التذکیّة، یعنی عدم الأمر المسَببّ، التذکیّة مسبوقة بالعدم، ونشکّ فی تحققّها والأصل عدم تحققّها.

ص: 176

إذن: لا یجری استصحاب عدم الجلل لغرض إثبات الحلّیة؛ لأنّه أصل مثبت، وتصل النوبة إلی استصحاب عدم التذکیة، باعتبار أنّ التذکیة حینئذٍ تکون أمراً مشکوکاً مسبوقاً بالعدم، فیجری استصحاب عدمها.

هذا تمام الکلام فی النحو الثالث.

درس الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ الاحتیاط/ الاحتیاط الشرعی

الکلام فی النحو الرابع من أنحاء الشکّ: وهو أنْ نفترض أنّ الشک فی حلّیّة الحیوان الزاهق الروح وحرمته ناشئة من الشکّ فی تحقق جمیع ما هو معتبر فی التذکیة، إمّا بنحو الشبهة الحکمیّة، أو بنحو الشبهة الموضوعیة، وکان کلامنا فیما إذا کان هذا الشکّ بنحوالشبهة الحکمیّة، ومثّلنا لذلک بما إذا شککنا فی شرطیة التسمیة فی التذکیة مع إحراز عدم التسمیة علی هذا الحیوان، وإلاّ إذا أحرزنا التسمیة؛ فحینئذٍ لا یوجد شکّ، فعلی تقدیر أنْ تکون التسمیة معتبرة فهی متحققّة، وإنّما یکون الشک فی الحلّیة والحرمة فیما إذا أحرزنا عدم التسمیة، أی أننّا نعلم بأنّ هذا الحیوان المذبوح لم یُسمّ علیه حین ذبحه، وشککنا فی أنّ التسمیة معتبرة أو لا، فإنْ کانت معتبرة، فهذا الحیوان غیر مذکی، ولا یحل أکله، وإنْ کانت غیر معتبرة، فهذا الحیوان حلال الأکل، فتکون هذه الشبهة شبهة حکمیّة.

فی هذه الشبهة الحکمیّة الظاهر أنّه یجری فیها نفس ما تقدّم فی الشبهة الحکمیّة من الشک فی النحو الثالث، وحاصل ما تقدّم أنّه إنْ کان هناک دلیل اجتهادی کالإطلاق وأمثاله یمکن الرجوع إلیه لنفی اعتبار ما یُشکّ فی اعتباره، أخذنا به، ونفینا اعتبار التسمیة فی التذکیة، ویترتّب علی ذلک أنّ هذا الحیوان یکون محلّل الأکل؛ لأنّ الدلیل دلّ علی أنّ التسمیة لیست معتبرة فی التذکیة بحسب الفرض، ولا تصل النوبة إلی الأصول العملیة.

ص: 177

وأمّا إذا لم یکن مثل هذا الدلیل موجوداً؛ حینئذٍ تصل النوبة إلی الأصول العملیة؛ وحینئذٍ نفرّق بین التفسیرین المتقدّمین للتذکیة، فإنْ قلنا بأنّ التذکیة عبارة عن نفس الأفعال الخاصّة والشرائط الخارجیة؛ حینئذٍ لا مجال لاستصحاب عدم التذکیة، لعدم الشکّ فی شیءٍ من هذه الأفعال والشرائط؛ لأنّ المفروض أننّا نحرز تحققّ جمیع الأفعال، والمفروض أننّا نحرز عدم التسمیة، فلا تجری اصالة عدم التذکیة، فالتذکیة عبارة عن مجموع هذه الأفعال والشرائط، ولا یوجد شکّ فی هذه الأفعال والشرائط؛ بل المفروض أننّا نحرز جمیع الأفعال والشرائط، ونحرز أیضاً ونقطع بعدم التسمیة، فأین یجری الاستصحاب ؟ إذا فسّرنا التذکیة بذلک؛ فحینئذٍ لا مجال لجریان أصالة عدم التذکیة؛ لعدم الشکّ فی الأفعال والشرائط.

نعم، تقدّم أنّه یمکن إجراء استصحاب عدم اعتبار التسمیة فی التذکیة شرعاً؛ لأننّا نشکّ فی أنّ الشارع هل اعتبر التسمیة فی التذکیة، أو لم یعتبر ذلک ؟ هذا اعتبار مشکوک فیه، والأصل عدمه، وإذا جرت أصالة عدم اعتبار التسمیة فی التذکیة؛ حینئذٍ یمکن إثبات الحلّیة اعتماداً علی هذه الأصالة، وقد تقدّم أننّا لو ناقشنا فی هذا الأصل؛ فحینئذٍ یکون المرجع هو أصالة الحلّیة؛ لأنّه حیوان نشکّ فی حرمته وحلیته، ولا یوجد أصل یُنقّح لنا الحرمة، ولا أصل یُنقّح لنا الحلّیة، ولا دلیل اجتهادی بحسب الفرض؛ فحینئذٍ تصل النوبة إلی الأصل العملی الذی هو عبارة عن أصالة الحلّیة، وهی أنّ کلَ شیء تشکّ فی حرمته وحلّیته، فهو لک حلال. هذا إذا کانت التذکیة عبارة عن نفس الأفعال والشرائط.

وأمّا إذا کانت التذکیة أمراً بسیطاً مُسَببّاً عن الأفعال ویحصل بتحققّ هذه الأفعال والشرائط، فی هذه الحالة لا مانع ابتداءً من جریان أصالة عدم التذکیة؛ لأننّا نشکّ واقعاً فی تحققّ هذا الأمر البسیط وعدم تحققّه، علی تقدیر أنْ تکون التسمیة معتبرة، فهذا الأمر البسیط غیر متحققّ، وعلی تقدیر أنْ تکون التسمیة غیر معتبرة، فهذا الأمر البسیط متحققّ، فنشکّ فی تحققّ هذا الأمر البسیط خارجاً، وعدم تحققّه، وحیث أنّه أمر حادث مسبوق بالعدم، فیجری استصحاب عدمه، فلا مانع من جریان أصالة عدم التذکیة بناءً علی ذلک، لکننّا قلنا سابقاً فی النحو الثالث بأنّ هذا الشکّ فی تحقق التذکیة بهذا المعنی وعدم تحققّها هو مُسببّ عن الشکّ فی اعتبار التسمیة فی التذکیة شرعاً، فعلی تقدیر أنْ تکون التسمیة معتبرة شرعاً، فالتذکیة غیر متحققّة فی الخارج، وعلی تقدیر أنْ لا تکون التسمیة معتبرة فی التذکیة شرعاً، فالتذکیة متحققّة فی الخارج، منشأ الشکّ فی تحقق التذکیة وعدم تحققّها هو الشکّ فی أن التسمیة التی نعلم بعدم تحققّها بحسب الفرض هل هی معتبرة، أو غیر معتبرة ؟ والأصل الجاری فی الشکّ السببی یکون حاکماً ومقدّماً علی الأصل الجاری فی الشکّ المسببّی، وقد قلنا بجریان أصالة عدم اعتبار الشارع التسمیة فی التذکیة شرعاً، وهذا الأصل یکون حاکماً علی أصالة عدم التذکیة علی تقدیر جریانه کما هو الصحیح.

ص: 178

قبل أنْ ننتقل إلی الشبهة الموضوعیة هنا مطلب ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) یرتبط بالرجوع إلی الدلیل الاجتهادی، فقد قلنا أنّه إنْ کان هناک دلیل اجتهادی مثل إطلاق دلیل یمکن التمسّک به لنفی ما یُشکّ فی اعتباره، باعتبار أنّ الشبهة حکمیّة، أخذنا به. السید الخوئی(قدّس سرّه) له تعلیق علی ذلک (1) ، وحاصله:

أنّه یقول ما نصّه:(أنّ دعوی الرجوع إلی إطلاق دلیل التذکیة لنفی اعتبار الأمر المشکوک فیه غیر مسموعة؛ لأنّ التذکیة لیس أمراً عرفیاً حتّی یُنزّل الدلیل علیه، ویُدفع احتمال التقیید بالإطلاق کما کان الأمر کذلک فی مثل قوله تعالی:﴿أحل الله البیع﴾. (2) یقول(قدّس سرّه) البیع أمر عرفی یمکن تنزیل الدلیل علیه، فإذا شککنا فی اعتبار شیءٍ فیه، أو فی تقییده بشیءٍ، یمکن نفی التقیید بإطلاق الدلیل. أمّا التذکیة، فلیست أمراً عرفیاً، وإنّما هی أمر شرعی؛ وحینئذٍ لا یمکن تنزیل الدلیل علیه والتمسّک بالإطلاق لنفی التقیید المحتمل.

اعتُرض علی هذا الکلام: بأنّ التمسّک بالإطلاق لنفی القید لا یتوقّف علی عرفیّة المدلول، بأنْ یکون المدلول أمراً عرفیّاً؛ بل یکفی فی نفی القید بالإطلاق عرفیّة الدلالة، بأنْ تکون الدلالة عرفیة، ولا إشکال فی أنّ الدلالة العرفیة موجودة فی المقام؛ لأنّ السکوت عن القید فی مقام البیان یدلّ عرفاً علی انتفاء التقیید، وانتفاء القید، هذه دلالة عرفیة، ما دام المتکلّم فی مقام البیان، فإذا سکت عن بیان القید، یُفهم منه عرفاً عدم إرادة القید، الدلالة عرفیة، لا نفترض أنّ التذکیة لیست أمراً عرفیاً، المدلول لیس أمراً عرفیاً، لکن نفی القید بالإطلاق لا یتوقف علی ذلک، وإنّما یُشترَط فیه أنْ تکون الدلالة علی الإطلاق وعدم إرادة القید أمراً عرفیاً، وهذا أمر ثابت فی المقام؛ وحینئذٍ لا فرق بین أحلّ الله البیع، وبین التمسّک بدلیل التذکیة لنفی اعتبار ما یُشکّ فی اعتباره کالتسمیّة کما مثّلنا.

ص: 179


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 313.
2- بقره/سوره2، آیه275.

أقول: فی مقام التعلیق علی هذا الکلام، یبدو ----- والله العالم ----- أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) یشیر إلی مطلبٍ آخر، وهو أنّ التمسّک بالإطلاق لنفی اعتبار ما یُحتمَل اعتباره، نفی القید المحتمل اعتباره، المشکوک الاعتبار إنّما یصح فی ما إذا شککنا فی اعتبار قیدٍ فی الموضوع لا یکون مقوّماً للموضوع، ولا مأخوذاً فی مفهومه؛ بل لا یُحتمل فیه ذلک، یعنی یعتبر فی التمسّک بالإطلاق أنْ لا نحتمل، فضلاً عن أنْ نعلم، بأنّ هذا القید الذی نشکّ فی اعتباره هو مقوّم للموضوع، ومأخوذ فی مفهومه، کما هو الحال فی مثال احتمال تقیید الرقبة بالإیمان فی قوله(اعتق رقبة)، فالإیمان لیس مقوّماً للرقبة؛ بل لا نحتمل أنّ الإیمان مقوّم للرقبة، أو مأخوذ فی مفهومها؛ حینئذٍ یصح التمسّک بالإطلاق لنفی القید؛ لأننّا نحرز انطباق مفهوم الموضوع علی الفرد الفاقد لذلک القید، وإنّما نشکّ فی اعتبار قیدٍ زائدٍ علی المفهوم، هل اعتبر فی الرقبة التی یجب عتقها أنْ تکون مؤمنة ؟ هذا القید علی تقدیر اعتباره هو قید زائد علی المفهوم، والمفهوم یصدق من دونه، ویُحرز صدقه علی الفرد الفاقد من دونه، وإنّما یُشکّ فی أنّ الشارع هل اعتبر قید الإیمان فی هذا المفهوم، أو لم یعتبر ذلک ؟ حینئذٍ من الواضح أنّه یجوز فیه التمسّک بالإطلاق ونفی اعتبار ذلک القید المشکوک الاعتبار. وأمّا إذا کان القید الذی نشکّ فی اعتباره دخیلاً فی المفهوم، ومأخوذاً فی مفهوم الموضوع، أو احتملنا أنّ القید الذی نشکّ فی اعتباره مأخوذ فی مفهوم الموضوع بحیث أنّ المفهوم علی تقدیر اعتباره لا یصدق علی الفرد الفاقد لذلک القید، فی هذه الحالة لا یکون التمسّک بالإطلاق جائزاً؛ لأنّ مثل هذا الشکّ مرجعه فی الحقیقة إلی صدق الموضوع؛ لأننّا نشکّ فی أنّ الموضوع متحققّ، أو غیر متحققّ؛ لأنّ القید نشکّ فی اعتباره، لکن المفروض أنّه دخیل فی مفهوم الموضوع، أو یُحتمل أنّه دخیل فی مفهوم الموضوع، فأننا لا نحرز انطباق الموضوع علی الفرد الفاقد للقید حتّی نتمسّک بالإطلاق لنفی اعتبار القید الزائد، وإنّما مرجع هذا فی الحقیقة إلی الشکّ فی تحققّ الموضوع، أنّ الموضوع أساساً ینطبق علی هذا الفرد الفاقد، أو لا ؟ وفی مثله من الواضح أنّه لا یجوز التمسّک بالدلیل لإثبات حکمه فی الفرد الفاقد، مع أنّ المفروض أننّا لا نحرز انطباق الموضوع علی ذلک الفرد الفاقد.

ص: 180

هذا المطلب مطلب کلّی، کأنّه ----- والله العالم ----- أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) یرید أنْ یُطبّق هذا فی محل الکلام، فیقول أنّ الموضوع إنْ کان أمراً عرفیاً من قبیل(أحلّ الله البیع) وکان القید المشکوک اعتباره لیس مقوّماً لهذا الموضوع العرفی، ولا مأخوذاً فی مفهومه؛ حینئذٍ یمکن التمسّک بالإطلاق لنفی اعتبار ذلک القید، کالإیمان بالنسبة إلی الرقبة. وأمّا إذا کان مقوّماً للموضوع، أو یُحتمل فیه ذلک، هنا لا یجوز التمسّک بالإطلاق، وکون الموضوع لیس عرفیّاً کما ادّعاه فی التذکیة حیث قال أنّ التذکیة لیست أمراً عرفیاً، وإنّما هو من المخترعات من قِبل الشارع، أمر تأسیسی ولیس عرفیاً، إذا کان الموضوع لیس عرفیاً، وإنّما کان تأسیسیاً، أو اختراعیاً من قِبل الشارع؛ حینئذٍ یکون حاله حال القید الذی نشکّ فی اعتباره مع احتمال کونه مأخوذاً فی مفهوم الموضوع؛ لأنّ الأمر الاختراعی هو عبارة عن الشیء الذی اخترعه الشارع، فإذا شککنا فی أنّ التسمیة هل هی معتبرة فی هذا الأمر الاختراعی، أو لا ؟ فأننّا لا نحرز انطباق هذا الأمر الاختراعی علی هذا الفرد الفاقد للتسمیة؛ لأنّ التسمیة علی تقدیر اعتبارها تکون دخیلة فی الموضوع الاختراعی التأسیسی الذی جعله الشارع، بمعنی أنّ هذا المفهوم الاختراعی التأسیسی لا یصدق من دون التسمیة علی تقدیر اعتبار التسمیة، ولا نحرز صدقه علی الفرد الفاقد للتسمیة علی تقدیر اعتبارها، فیکون الشکّ حینئذٍ شکّاً فی صدق الموضوع المخترع التأسیسی، ومعه لا یصح التمسّک بالإطلاق لنفی اعتبار ما یُشکّ فی اعتباره، کأنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) یُشیر إلی ذلک، فیقول بأنّ التذکیة لیست کالبیع، فالبیع أمر عرفی، والعرف یفهم ما هو المراد من البیع؛ حینئذٍ ما یشکّ فی اعتباره، إنْ کان یُحتمل، فضلاً عن ما إذا عُلم دخالته فی هذا الموضوع؛ فحینئذٍ لا یجوز التمسّک بالإطلاق. أمّا إذا أحرز الإنسان باعتباره هو العرف، بأنّ هذا القید المشکوک الاعتبار لیس دخیلاً فی مفهوم الرقبة کما هو واضح؛ فحینئذٍ یمکن التمسّک بالإطلاق، وإلاّ إذا احتمل دخالته لا یجوز التمسّک بالإطلاق؛ لأنّ هذا تمسّک بالدلیل فی الشبهة المصداقیة للدلیل، یعنی تمسّک بالدلیل مع عدم إحراز موضوعه الذی یُراد إثبات الحکم فیه تمسّکاً بذلک الدلیل، ومن الواضح أنّ التمسّک بالدلیل لإثبات حکمه هو فرع إحراز انطباق موضوعه علی ذلک الفرد، إذا کان الموضوع اختراعیاً ولیس عرفیاً کالتذکیة لا یجوز التمسّک بالدلیل؛ لأنّ أی شیء نشکّ فی اعتباره شرعاً یعنی نشکّ فی دخالته فی ذلک الموضوع المخترع، ولا نحرز انطباق ذلک الموضوع علی الفرد الفاقد لذلک الشیء الذی یُشکّ فی اعتباره.

ص: 181

هذا ما أراد السید الخوئی(قدّس سرّه) أنْ یقوله، وهذا الکلام له وجه، ولا علاقة له بعرفیّة الدلالة وعرفیة المدلول، هو یقول أنّ المدلول لابدّ أنْ یکون عرفیّاً بهذا المعنی فی مقابل الموضوع الاختراعی الذی یخترعه الشارع ویؤسّسه کما هو الحال فی التذکیة.

نعم، یمکن أنْ یُلاحظ علی ما ذکرهالسید الخوئی(قدّس سرّه) شیء آخر وهو أنْ یقال أنّ هذا الذی ذکره إنّما یتم فیما لو کان المدّعی هو التمسّک بالإطلاق اللّفظی لدلیل التذکیة فی محل الکلام؛ حینئذٍ یکون لهذا الکلام وجه، فیقال بأنّ التذکیة لیست أمراً عرفیاً، وإّنما هی أمر اختراعی، فأیّ شیء یُشکّ فی أخذه فی التذکیة شرعاً یمنع من التمسّک بالإطلاق. وأمّا إذا کان المقصود بالإطلاق الذی یمکن الرجوع إلیه هو الإطلاق المقامی ولیس الإطلاق اللفظی، بأنْ فرضنا أنّ الشارع هو فی مقام بیان التذکیة المخترعة التأسیسیة، لکن هو فی مقام بیان ما هی التذکیة التی یخترعها، وما هی الأمور المعتبرة فی هذا المفهوم المُخترع، إذا فرضنا أنّه فی هذا المقام وسکت، ذکر الاستقبال وفری الأوداج، وذکر أنّ الذبح بالحدید وسکت عن التسمیة، هنا یمکن التمسّک بالإطلاق المقامی لنفی اعتبار التسمیة، هذا الإطلاق المقامی غیر الإطلاق اللّفظی، ذاک الکلام یأتی فی الإطلاق اللّفظی؛ لأنّ هناک نتمسّک بالدلیل الذی یثبت الحکم لموضوعه، هنا عندما نرید أنْ نتمسّک بهذا الدلیل لإثبات الحکم فی فردٍ لابد أنْ نحرز انطباق الموضوع علی ذلک الفرد حتّی یمکن التمسّک بالدلیل لإثبات حکمه فیه، وهذا غیر متحققّ فیما إذا کان الموضوع مفهوماً اختراعیاً تأسیسیاً، أمّا عندما یکون المقصود بالإطلاق هو الإطلاق المقامی، فهذا حتّی فی المفاهیم المخترَعة التأسیسیة مع افتراض أنّ الشارع فی مقام بیان ذلک الأمر التأسیسی، وما هو المعتبر فیه، فإذا ذکر جملة من الأشیاء وسکت عن التسمیة، فهذا الإطلاق لا مانع من التمسّک به حتّی إذا کان الموضوع أمراً تأسیسیاً. هذا کلّه إذا کانت الشبهة حکمیّة بالنحو الرابغ.

ص: 182

وأمّا إذا کانت الشبهة موضوعیّة کما إذا شُکّ فی تحققّ التسمیة مع العلم باعتبارها شرعاً، بمعنی أننّا نعلم أنّ التسمیة معتبرة، لکننّا لا ندری أنّ هذا اللّحم الموجود هل هو لحم حیوانٍ سُمّی علیه عند ذبحه، أو لمْ یُسمّ علیه عند ذبحه ؟ فإذا سُمّی علیه، فهو حلال، وإنْ لم یُسمّ علیه، فهو محرّم، فنشکّ فی حلّیته وحرمته بنحو الشبهة الموضوعیة، فإنْ کانت التذکیة عبارة عن مجموعة الأفعال الخاصّة والشرائط الخاصّة؛ فحینئذٍ یمکن إجراء استصحاب عدم التسمیة؛ لأننّا نشکّ فی أنّ التسمیة متحققّة، أو غیر متحقّقة، التسمیة أمر حادث مسبوق بالعدم، والأصل عدمه، وینتج حرمة أکل لحم هذا الحیوان.

وأمّا إذا کانت التذکیة عبارة عن أمرٍ بسیط مُسببّ عن هذه الأفعال الخاصة؛ حینئذٍ یمکن استصحاب عدم التذکیة؛ لأنّ التذکیة أمر بسیط یحصل نتیجة الإتیان بهذه الأفعال الخاصّة بالشرائط الخاصّة، ونحن نشکّ فی تحققّ التذکیة وحصول هذا الأمر البسیط وهو کما قلنا أمر حادث بسیط مسبوق بالعدم، فیجری استصحاب عدم التذکیة، والنتیجة واحدة.

هذا تمام الکلام فی أصل التنبیه الأوّل، کلامنا واضح فی تنبیهات البراءة، حیث عقدوا باباً مستقلاًّ سمّوه بتنبیهات البراءة وکان التنبیه الأوّل هو أنّ البراءة عندما تصل النوبة إلیها عندما لا یکون هناک أصل موضوعی یکون حاکماً علیها، ومثّلوا للأصل الموضوعی بأصالة عدم التذکیة مانعاً من التمسّک بالإباحة والبراءة، ودخلوا فی بحث استصحاب عدم التذکیة. وفرغنا من أصل التنبیه الأوّل، ویبقی الکلام فی بعض الأمور التی ترتبط بذلک، وغالب هذه الأمور بسطوا الکلام فیه، لکنّها أبحاث فقهیّة إثباتیة تعتمد علی استنباط أمور معیّنة من الروایات، هذا بحث فقهی، لکنّنا ننبّه علی هذه الأمور بالنسبة إلی ما یرتبط بالبحث الأصولی ولا ندخل فی البحث الفقهی؛ لأنّه له مجال آخر.

ص: 183

الأمر الأوّل: نبحث فی الأمر الأوّل عن ما یترتّب علی استصحاب عدم التذکیّة فی موارد جریانه، فقد تبیّن من البحث السابق أنّ استصحاب عدم التذکیة یجری فی بعض الحالات ولا یجری فی حالات أخری، فی موارد جریان استصحاب عدم التذکیة ماذا یترتّب علیه ؟ قالوا بأنّه لا إشکال فی ترتّب حرمة الأکل علی استصحاب عدم التذکیة ؛ لأنّ حرمة الأکل مترتّبة فی لسان الأدلّة علی عدم التذکیة.

وبعبارة أخری: أنّ موضوع حرمة الأکل هو عدم التذکیة، ولو باعتبار قوله تعالی:﴿ حُرّت علیکم المیتة والدم ولحم الخنزیر وما أهل لغیر الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّیة والنطیحة وما أکل السبع إلاّ ما ذکّیتم ﴾ (1) یُفهم من ذلک أنّ موضوع هذه الحرمة هو عدم التذکیّة، فإذا أحرزنا الموضوع باستصحاب عدم التذکیة یترتّب الحکم علی ذلک، وهو حرمة الأکل، وإنّما یقع الکلام فی النجاسة، أنّ النجاسة هل تترتّب أیضاً علی استصحاب عدم التذکیة، أو أنّها لا تترتّب علی استصحاب عدم التذکیة.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الأوّل بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الأوّل

کان الکلام فی ما یترتّب علی استصحاب عدم التذکیّة فی موارد جریانه، ذکروا، ومنهم السیّد الخوئی(قدّ سرّه) أنّه لا إشکال فی ترتّب حرمة الأکل علی استصحاب عدم التذکیة، باعتبار أنّ حرمة الأکل مترتّبة فی لسان دلیلها علی عدم التذکیة، فیکون موضوع حرمة الأکل هو غیر المذکّی، فإذا ثبت هذا الموضوع باستصحاب عدم التذکیة یترتّب علیه الحکم بلا إشکال، واستُفید ذلک من قوله تعالی:﴿ حُرّمت علیکم المِیْتة والدمَ ولحمَ الخنزیر وما أُهلّ لغیر الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّیة والنطیحة وما أکل السبع إلاّ ما ذکّیتم ﴾. (2) فی مقام الاستثناء من حرمة الأکل، ویُفهم أنّ التذکیة هی موضوع الحلّیّة وأنّ عدمها هو موضوع الحرمة، فیکون موضوع الحرمة هو عدم التذکیة، فتثبت باستصحاب عدم التذکیّة.

ص: 184


1- مائده/سوره5، آیه3.
2- مائده/سوره5، آیه3.

وأمّا النجاسة، فإن کان موضوعها هو نفس موضوع حرمة الأکل، إذا ادُّعی بأنّ النجاسة أیضاً موضوعها هو غیر المذکی، وفی الأدلّة ثبتت حرمة الأکل لغیر المذکّی، وثبتت له فی الأدلّة أیضاً النجاسة، کما ادُّعی ذلک، حیث حُکی عن المحققّ الهمدانی(قدّس سرّه) أنّه یری أنّ موضوع النجاسة هو غیر المذکّی، (1) بناءً علی هذا أیضاً لا مشکلة؛ إذ یمکن إثبات النجاسة أیضاً باستصحاب عدم التذکیة، باعتبار أنّ موضوع النجاسة هو غیر المذکّی، ویثبت باستصحاب عدم التذکیّة، فباستصحاب عدم التذکیة تترتّب حرمة الأکل والنجاسة.

وأمّا إذا قلنا، کما هو الرأی المعروف والمشهور أنّ موضوع النجاسة لیس هو عدم التذکیة وغیر المذکی، وإنّما موضوع النجاسة هو المیتة، وفُسرّت المیتة بأنّها عبارة عن ما زهقت روحه من دون سببٍ محللٍ شرعی، فتشمل ما مات حتف أنفه، وتشمل ما مات بالضرب، أو بالشق، وتشمل ما ذُبح مع اختلال بعض الشرائط المعتبرة فی التذکیة، کلّ هذا یُعتبر میتة؛ لأنّ المیتة بناءً علی هذا التفسیر هی عبارة عن کلّ ما زهقت روحه من دون سببٍ شرعی محللٍ، وفی کلّ هذه الحالات لا یوجد سبب محللّ، والتذکیة بالمعنی الشرعی غیر متحققّة، فتکون میتة، هذا هو المراد بالمیتة، إذا کان موضوع النجاسة هو المیتة، وفُسّرت المیتة بذلک، أی بالمعنی العام الذی لا یختصّ بما مات حتف أنّفه؛ بل یشمل کل ما مات من غیر سبب محللّ، بناء علی ذلک؛ حینئذٍ لا یمکن إثبات النجاسة باستصحاب عدم التذکیة، إلاّ بناءً علی القول بالأصل المثبت، باعتبار أنّ المیتة بهذا المعنی المتقدّم هی أمر وجودی(ما مات بدون سببٍ شرعی محلل) ملازم لعدم التذکیة، ولا یمکن إثبات هذا الأمر الوجودی باستصحاب عدم التذکیة، وإنْ کان بینهما ملازمة، لکن لمّا کان موضوع النجاسة هو الأمر الوجودی، فاستصحاب عدم التذکیة لا یثبت به هذا الأمر الوجودی؛ لأنّ ما یثبت باستصحاب عدم التذکیة هو عدم التذکیة، ولازم عدم التذکیة هو کونه میتة، والأثر مترتّب علی هذا اللّازم الذی هو أمر وجودی، وهو کونه میتة، وهذا لا یثبت باستصحاب عدم التذکیة، إلاّ بناء علی القول بالأصل المثبت؛ بل قد یقال فی هذه الحالة ------ بناءً علی هذا الذی ذکرناه ------ بجریان أصالة عدم کونه میتة، ویکون هذا الأصل معارضاً لأصالة عدم التذکیة؛ لأنّ کلاً منهما أمر وجودی مسبوق بالعدم، فالتذکیة أمر وجودی مسبوق بالعدم، وکونه میتة هو أیضاً أمر وجودی مسبوق بالعدم، فکما یجری استصحاب عدم کونه مذکّی یجری أیضاً استصحاب عدم کونه میتة، وهذان أصلان متنافیان ومتعارضان، فیتساقطان، فإذا تساقطا؛ فحینئذٍ یمکن الرجوع إلی أصالة الطهارة عندما نشکّ فی طهارة هذا الحیوان ونجاسته، وبذلک نفکّک بین حرمة الأکل وبین النجاسة، فنلتزم بحرمة أکل لحم هذا الحیوان اعتماداً علی أصالة عدم التذکیة؛ لأنّ موضوع الحرمة هو عدم التذکیة، وهو یثبت بهذا الاستصحاب، ولا نلتزم بالنجاسة؛ بل نلتزم بالطهارة اعتماداً علی قاعدة الطهارة، باعتبار أنّ أصالة عدم التذکیة وأصالة عدم کونه میتة تتعارضان وتتساقطان، فلا یوجد عندنا ما یثبت النجاسة، أو ینفی الطهارة؛ لأنّ استصحاب عدم کونه میتة وإنْ کان ینفی النجاسة کما قلنا؛ لأنّ موضوع النجاسة هو کونه میتة، واستصحاب عدم کونه میتة ینفی النجاسة، لکنّ المفروض أنّ استصحاب عدم کونه میتة سقط بالمعارضة مع استصحاب عدم التذکیة؛ لأنّهما أصلان متنافیان، تعارضا فتساقطا، فبقینا نحن وهذا المشکوک الذی نشکّ فی أنّه طاهر، أو نجس، فنرجع إلی قاعدة الطهارة لإثبات طهارته.

ص: 185


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 314.

السید الخوئی(قدّس سرّه) (1) (4)ذکر فی هذا المقام بأنّه لا داعی لإیقاع التعارض بین هذین الأصلین والتنافی؛ بل من الممکن الالتزام بجریانهما معاً، فتجری أصالة عدم التذکیة وتجری أصالة عدم کونه میتة، کلّ منهما یجری؛ لأنّ کلاً منهما حادث مسبوق بالعدم، فیجریان معاً ولا مانع من ذلک، ونلتزم بمقتضی کلٍ منهما، فأصالة عدم التذکیة یترتّب علیها حرمة الأکل، وأصالة عدم کونه میتة یترتّب علیها الطهارة، أو قل بعبارة أخری: یترتّب علیها نفی النجاسة؛ لأنّ موضوع النجاسة هو المیتة، وأصالة عدم کونه میتة ینفی النجاسة بنفی موضوعها، فنلتزم بأنّ هذا یحرم أکله، لکنّه فی نفس الوقت هو لیس نجساً، أو نقول أنّه طاهر، فنلتزم بالطهارة وحرمة الأکل. ویقول: لا مانع من الالتزام بذلک وإجراء الاستصحابین؛ إذ لا یلزم من ذلک إلاّ التفکیک بین أمرین بینهما تلازم واقعی، یعنی نفکک بین حرمة الأکل والنجاسة، والحال أنّ حرمة الأکل والنجاسة أمران متلازمان فی الواقع، بلحاظ الواقع هذا الحیوان المشکوک إنْ کان مذکّی، فهو حلال الأکل وطاهر، وإنْ لم یکن مذکّی، فهو حرام الأکل ونجس، أمّا أنْ نلتزم بحرمة أکله وبطهارته، فهذا تفکیک بین أمرین بینهما تلازم فی الواقع. یقول: لا مشکلة فی ذلک؛ لأنّ هذا التفکیک تفکیکاً ظاهریّاً وبحسب الأدلّة الظاهریة، وبحسب الأصول العملیة، هذا التفکیک الظاهری بین أمرین بینهما تلازم واقعی لا محذور فیه ولا مانع منه، فبحسب الظاهر أننّا نلتزم بذلک للأدلّة التی دلّت علی أنّ هذا حرام الأکل وفی نفس الوقت هو طاهر، أو لیس نجساً، وقد ثبت هذا فی جملة من الموارد، ومثّل لذلک بما إذا توضأ بمایع مرددّ بین کونه ماءً، أو بولاً، هنا یُحکم علیه بالطهارة من الخبث، ولکن یُحکم علیه ببقاء الحدث اعتماداً علی الاستصحاب الجاری فی کلٍ منهما، فبلحاظ بدنه کان البدن قبل أنْ یتوضأ بهذا المایع طاهراً، وبعد أنْ توضأ بهذا المایع المرددّ بین البول والماء یشکّ فی أنْ بدنه هل تنجّس بنجاسة خبثیة، أو لا ؟ فیستصحب بقاء الطهارة من الخبث بالنسبة إلی بدنه، فیحکم بأنّ بدنه طاهر، لکن بالنسبة إلی الحدث کانت حالته السابقة هی أنّه محدث فکان یرید أنْ یتوضأ بهذا المایع، فیشکّ فی أنّ حدثه ارتفع، أو لا ؟ فیستصحب بقاء الحدث، فیُلتزَم بأنّ البدن طاهر، ویُلتزَم ببقاء الحدث مع أنّ هذین الأمرین بینهما تلازم واقعی، فبلحاظ الواقع هو إنْ توضأ بالماء، فبدنه طاهر وحدثه مرتفع، وإنْ توضأ بالبول، فحدثه باقٍ وبدنه نجس، وأمّا أنْ یُلتزم بطهارة البدن وبقاء الحدث، فهذا تفکیک بین أمرین لا یمکن التفکیک بینهما واقعاً. یقول: لا محذور فی أنْ نفکک بینهما بحسب الظاهر باعتبار جریان الأدلّة والأصول العملیة.

ص: 186


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 314.

هناک تعلیقان علی هذا الکلام:

التعلیق الأوّل: مسألة تفسیر المیتة بما تقدّم من زهاق الروح الغیر المستند إلی سبب شرعی بحیث أنّ عنوان(المیتة) لا یختصّ بما مات حتف أنفه، وإنّما یعمّ حتی ما ذُبح ولکن مع اختلال بعض الشرائط، وما مات بشقّ بطنه، أو بإلقائه من شاهق وأمثال هذه الأمور. الظاهر أنّ هذا التفسیر لیس هو باعتبار أنّ عنوان(المیتة) ظاهر فی ذلک، فالظاهر أنّ عنوان(المیتة) لیس له ظهور فی ذلک، وإنّما الظاهر منه أنّه ما مات حتف أنفه کما یشهد لذلک عطف المتردیّة والنطیحة والموقوذة علی المیتة فی الآیة الشریفة:﴿ حُرّمت علیکم المِیْتة والدمَ ولحمَ الخنزیر وما أُهلّ لغیر الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّیة والنطیحة وما أکل السبع إلاّ ما ذکّیتم ﴾. (1) هذا العطف لا وجه له إذا کان المراد بالمیتة هذا المعنی العام؛ لأنّ هذا المعنی العام یشمل المتردیّة والنطیحة والموقوذة، النطیحة یعنی ما ماتت بالنطح، والمتردّیة ما ماتت بالتردّی، المیتة بناءً علی هذا المعنی، یعنی کل ما مات بلا سبب شرعی محلل، وإنّما تکون هذه فی قبال المیتة إذا أردنا بالمیتة ما مات حتف أنّفه، وبالمتردّیة ما مات بالتردی، وبالنطیحة ما مات بالنطح.....وهکذا، وهذا یشهد لأنّ المراد بالمیتة هو ما مات حتف أنفه، والذی دعاهم إلی القول بأنّ المراد بالمیتة هو هذا المعنی العام، فی أدلّة النجاسة، باعتبار أنّهم ذکروا أنّ موضوع دلیل النجاسة هو المیتة، وفسّروا المیتة بهذا المعنی العام، الذی دعاهم إلی ذلک هو عدم إمکان الالتزام باختصاص النجاسة بخصوص ما مات حتف أنفه؛ إذ لا إشکال فقهیاً فی أنّ النجاسة لا تختصّ بخصوص ذلک، وإنّما هی کما تشمل ما مات حتف أنفه کذلک تشمل المتردیة والنطیحة وکل ما مات بغیر سببٍ شرعی، وکل ما مات بغیر تذکیة فهو نجس، فتفسیر المیتة بهذا المعنی العام إنّما هو بهذا الاعتبار لا علی أساس أنّه هو المعنی اللّغوی للمیتة، وإلاّ فالمعنی اللّغوی للمیتة کما قلنا بشهادة الآیة الشریفة لیس هو هذا، وإنّما هو عبارة عن ما مات حتف أنفه.

ص: 187


1- مائده/سوره5، آیه3.

التعلیق الثانی: أنّ مسألة کون موضوع حرمة الأکل هو غیر المُذکّی، الظاهر أنّه أمر لیس مسلّماً عند الجمیع، فهناک من یری أنّ حرمة الأکل کما رُت-ّبت فی بعض الأدلّة علی غیر المذکّی، رُتّبت أیضاً فی بعض الأدلّة الأخری علی عنوان(المیتة)، ولا نرید أنْ ندخل فی البحث الفقهی ونستعرض الروایات، هناک روایات التزم بعضهم بأنّ حرمة الأکل کما هی مرتّبة علی غیر المذکّی هی مرتّبة أیضاً علی عنوان(المیتة) بمعنی أنّ موضوع حرمة الأکل هو المیتة، وموضوع حلّیة الأکل هو المذکّی، ولیس موضوع حرمة الأکل نقیض المذکّی(عدم التذکیة)، أو(غیر المذکّی)، وإنّما موضوعها هو عنوان وجودی وهو عبارة عن المیتة.

إذن: لیس مُسلّماً أنّ موضوع حرمة الأکل هو غیر المذکّی حتّی نقول لا إشکال فی أنّ الحرمة تثبت باستصحاب عدم التذکیة، وإلاّ بناءً علی أنّ موضوعها المیتة فأننّا سوف نواجه نفس المشکلة التی واجهناها فی النجاسة بناءً علی أنّ موضوعها هو المیتة؛ لأنّ استصحاب عدم التذکیة یعجز عن إثبات الحرمة والنجاسة إذا کان موضوعهما المیتة، إلاّ بناءً علی القول بالأصل المثبت. ومن هنا قیل بوقوع التعارض بین استصحاب عدم التذکیة وبین استصحاب عدم کونه میتة؛ لأنّ استصحاب عدم التذکیة ینفی الحلّیة، واستصحاب عدم کونه میتة ینفی الحرمة؛ لأنّ موضوع الحرمة بحسب هذا الفرض، والاحتمال الأخیر هو المیتة، فاستصحاب عدم کونه میتة ینفی الحرمة، موضوع الحلّیة هو المُذکّی، فاستصحاب عدم کونه مذکّی ینفی الحلّیة، وهذان استصحابا متعارضان؛ لأنّ أحدهما ینفی الحرمة، والآخر ینفی الحلّیة، فیقع التعارض بینهما، فقد یقال بتساقطهما والرجوع إلی أصالة الحلّیة، وأصالة البراءة. هذا التعارض بهذا النحو کلّه مبنی علی أنْ یکون موضوع حرمة الأکل هو المیتة، وموضوع حلّیة الأکل هو المذکّی، فیجری استصحاب عدم التذکیة، واستصحاب عدم کونه میتة، ویقع بینهما التعارض فیتساقطان، فیُرجع إلی أصالة الحلّیة.

ص: 188

وقد یُستدل علی ذلک بالآیة الشریفة، ویقال بأنّ ظاهر الآیة الشریفة أنّ المیتة هی موضوع لحرمة الأکل کما هو الحال بالنسبة إلی الدم ولحم الخنزیر، وقلنا بأنّ المراد بالآیة بحسب الظاهر هو ما مات حتف أنفه، حرّمت علیکم المیتة والدم، فالدم هو نفسه موضوع لحرمة الأکل، ولحم الخنزیر أیضاً موضوع لحرمة الأکل، والمیتة هی أیضاً موضوع لحرمة الأکل، فیکون ظاهر الآیة هو أنّ موضوع حرمة الأکل هو المیتة.

إذن: لیس من الأمور المسلّمة أنّ کلّ الأدلّة التی ذُکرَت فیها الحرمة رُتبت فیها الحرمة علی غیر المذکّی؛ بل هناک من الأدلّة ما رُتّبت فیه الحرمة علی عنوان(المیتة).

وأمّا قوله تعالی فی ذیل الآیة:﴿إلاّ ما ذکّیتم﴾ یمکن أنْ یقال بأنّ هذا لیس استثناءً من المیتة، ولا من الدم، ولا من لحم الخنزیر، وإنّما هو استثناء ممّا أکل السبع، ویمکن أنْ یقال بأنّه یرجع إلی المتردّیة والنطیحة أیضاً، بمعنی المتردّیة یحرم أکلها إلاّ ما ذکّیتم، وما أکل السبع یحرم أکله إلاّ ما ذکّیتم، أمّا أنّ المیتة یحرم أکلها إلاّ ما ذکّیتم، فهذا لا وجه له، کما لا وجه إلی الرجوع إلی الدم وإلی لحم الخنزیر، فهو استثناء یرتبط بالأمور الأخیرة، وعلی کلّ حال یمکن أنْ یُدّعی بأنّ حرمة الأکل فی بعض الأدلّة رُتّبت علی عنوان(المیتة) کما رُتّبت فی أدلّةٍ أخری علی عنوان(غیر المذکّی).

لکن یمکن أنْ یقال فی قبال ذلک: أنّ الآیة الشریفة وإنْ جُعل عنوان(المیتة) فیها موضوعاً للحرمة، لکن یبدو أنّ ذلک باعتبار کونه مصداقاً لعنوان(غیر المذکّی)، یعنی أنّ موضوع الحرمة هو غیر المذکّی، والمیتة ذُکرت فی الآیة، أو فی أدلّة أخری إنّما هو باعتبار أنّ المیتة هی مصداق لغیر المذکّی بقرینة ذیل الآیة الذی یقول(إلاّ ما ذکّیتم) والذی فُهم منه أنّ موضوع الحرمة هو غیر المذکی، وأنّ موضوع الحلّیة هو المذکّی، فیقول یحرم علیکم ما أکل السبع ----- مثلاً ----- إلاّ ما ذکیتم، أخرج المذکّی وحکم علیه بالحلّیة، فیبقی غیر المذکّی وهو موضوع الحرمة الذی هو غیر ما خرج بالاستثناء، فالذی فُهم من الاستثناء فی ذیل الآیة هو أنّ موضوع الحرمة هو غیر المذکّی، ونحن نعلم من الخارج أنّ الحرمة حرمة واحدة، ولیس لدینا حرمتان، موضوع أحداهما هو غیر المذکّی، وموضوع الأخری هو المیتة بمعنی ما مات حتف أنفه کما فی الآیة، هذه الحرمة إمّا أنْ یکون موضوعها غیر المذکّی الذی هو أعمّ من المیتة، وأمّا أنْ یکون موضوعها المیتة، وإلاّ لا توجد عندنا حرمتان، وفی حالة من هذا القبیل، مقتضی الجمع بین الدلیلین، ومقتضی الأخذ بکلا الدلیلین هو الالتزام بأنّ موضوع الحرمة هو العنوان الأعمّ، والالتزام بأنّ العنوان الأخص إنّما ذُکر موضوعاً للحرمة باعتباره مصداقاً للموضوع الأعم؛ لأنّه بهذا یتحقق العمل بکلا الدلیلین، وأمّا إذا لم نلتزم بذلک؛ فحینئذٍ قد یلزم من ذلک طرح وإلغاء أحد الدلیلین إذا قلنا أنّ الموضوع هو المیتة، یعنی ما مات حتف أنفه، مقتضی الجمع بین الدلیلین هو أنّ یُحمل الأوّل ------ ذکر العنوان الخاص ------ علی أنّه مصداق للعنوان العام، وأنّ الاعتبار بالعنوان العام، ولا محذور فی أنْ یفرض مصداقاً للعنوان العام ویجعله موضوعاً للحرمة، فلا محذور فی ذلک کما لو فرضنا أنّ وجوب الإکرام رُتّب فی دلیلٍ علی الفقیه(أکرم الفقیه)، وفی دلیل آخر رُتّب علی مطلق العالم(أکرم العالم) فی حالةٍ من هذا القبیل واضح أنّ مقتضی الجمع بینهما هو حمل الفقیه علی أنّه ذُکر باعتباره مصداقاً لمطلق العالم، ولا خصوصیّة له فی قبال سائر أفراد العالم، وإنّما باعتباره مصداقاً للعالم؛ لأنّه بذلک یمکن الجمع بین الدلیلین، والأخذ بکلیهما، بینما إذا قلنا بأنّ موضوع الحکم هو خصوص الفقیه یلزم إلغاء الدلیل الآخر، وهذا بلا وجه، الجمع العرفی بینهما یقتضی الالتزام بأنّ موضوع الحکم هو الأعم، ففی محل الکلام یُلتزم بأنّ موضوع الحکم هو غیر المذکّی، والمیتة وإنْ ذُکرت فی الآیة، أو حتّی فی الروایات الأخری، لکن الظاهر أنّها ذُکرت باعتبار أنّها مصداق لغیر المذکّی، فیکون موضوع الحکم بالحرمة هو عبارة عن غیر المذکّی. هذا کلّه إذا أرید بالمیتة الواردة فی الآیة کما هو الظاهر، أو الواردة فی الروایات کما أشار إلیه القائل الذی یقول بأنّه ورد فی بعض الروایات أنّ الحکم بالحرمة مرتّب علی عنوان(المیتة) إذا أرید بالمیتة ما مات حتف أنفه، فیرد فیه الکلام السابق.

ص: 189

وأمّا إذا کان المراد بالمیتة المعنی العام کما فُسّرت به، یعنی ما مات بلا سببٍ شرعی محلّل الذی هو أعمّ ممّا مات حتف أنّفه، إذا کان هذا المراد؛ فحینئذٍ هکذا یکون الحال: فی بعض الأدلّة الحرمة مرتّبة علی غیر المذکّی، وفی بعض الأدلّة الحرمة مرتّبة علی عنوان( المیتة) والمراد بالمیتة المعنی العام، هنا لا یرِد فیه الکلام السابق؛ لأنّ المیتة بهذا المعنی هی مساویة لغیر المُذکّی، ولیست أخص منه؛ لأنّ المراد بالسبب الشرعی الذی أُخذ عدمه فی معنی المیتة هو التذکیة، والمیتة ه ما مات بلا سببٍ شرعی، یعنی بلا تذکیة، فإذن: بحسب الروح معناهما واحد، غیر المذکّی والمیتة بهذا المعنی الواسع، لا یکون هذا أخص من هذا، وإنّما هو مساوی له.

نعم هذا الفرق یؤثّر فی مقام الإثبات وکیفیّة التعامل مع الأدلّة، یؤثّر فی أنّه إذا کان موضوع حرمة الأکل هو غیر المذکّی، فهذا عنوان عدمی یمکن إثباته باستصحاب عدم التذکیة، ولا یکون بلحاظه أصلاً مثبتاً؛ لأننّا نثبت نفس العنوان، أی عنوان(غیر المذکّی)، فیترتّب علیه الحکم بالحرمة؛ لأنّ موضوع الحرمة هو غیر المذکّی، فلا یکون الأصل الجاری ----- اصالة عدم التذکیة ----- لإثبات حرمة الأکل بناءً علی أنّ الموضوع یکون هو غیر المذکّی لا یکون مثبتاً، بینما إذا کان الموضوع هو المیتة، ولو بالعنوان العام وهو عنوان وجودی، یکون استصحاب عدم التذکیة لإثبات الحرمة یکون بلحاظه أصلاً مثبتاً؛ لأنّ استصحاب عدم التذکیة یعجز عن إثبات الحرمة، إلاّ باعتبار التلازم الموجود بین عدم التذکیة وبین عنوان المیتة، والمفروض أنّ موضوع الحرمة هو عنوان(المیتة).

ص: 190

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی

کان الکلام فی الأمر الثانی: وهو تحدید معنی التذکیة، وذکرنا رأیین فی معناها والکلام الذی یدور حول ذلک. هناک رأی ثالث تبنّاه جماعة من المتأخّرین، وهو أنّ التذکیة عبارة عن النقاء والطهارة لا أنّها شیء تثبت له الطهارة، واستُشهد علی ذلک :

أولاً: أنّ ادّعائنا هذا هو المفهوم عرفاً من معنی التذکیة والذُکاة، فالمفهوم عرفاً منها هو الطهارة والنقاء والطیب.

ثانیاً: استعمال الذُکاة والتذکیة فی عدید من الأخبار ولا یُحتمل أنْ یُراد بها الذبح ونفس الأعمال الخارجیة ممّا یدل علی أنّ التذکیة لیست مرادفة للعملیة وللذبح، حیث استُعملت فی موارد لا یُحتمل أنْ یُراد بها ذلک، مثلاً: ورد فی مقام بیان عدم الانفعال بملاقاة الیابس فی بعض الروایات أنّ الیابس ذکی، (1) من الواضح هنا أنّه لا یُعقل إرادة الذبح وما یشبه هذا المعنی، وإنّما المراد بالذکی هو الطاهر والنقی والملائم للطبع وأمثال هذه العبارات، وکذا ورد فی بعض الجلود أنّ الجلد الذکی یجوز الصلاة فیه، (2) وعُبّر هنا عن الجلد بأنّه ذکی، ومن الواضح أنّ الذکاة فی هذا النص جُعلت صفة للجلد، وهذا لا معنی لأنْ یکون المراد به الذبح إلاّ بالتأویل بأنْ یکون المقصود هو جلد حیوان ذکی، فلا معنی لأنْ یقال عن نفس الجلد بأنّه ذکی بمعنی الذبح، إلاّ بالتأویل، وهو خلاف الظاهر، ومنه یظهر أنّ إطلاق الذکی علی الجلد إنّما هو بمعنی الطهارة والنقاء وأمثال هذه العبائر، وکذا ورد فی ما لا تحلّه الحیاة من المیتة کالصوف والبیض من أنّه ذکی، (3) هذا کلّه وارد فی روایات ثابتة، وهنا الذکاة بمعنی الذبح لا معنی لها حتّی بالتأویل الذی ذُکر فی النصّ السابق، وذلک لأنّ نفس الحیوان لیس بذکی؛ لأنّ المفروض أنّه میتة، الروایة تتحدّث عن ما لا تحلّه الحیاة من المیتة، فحتّی التأویل السابق فی نسبة الذکی إلی الصوف لا یتأتّی فی هذه الحالة، ولا نستطیع أنْ نقول صوف حیوان ذکی کما قلنا فی السابق؛ لأنّ المفروض أنّه صوف میتة، فإذن: لا یمکن أنْ یُراد بالذکی فی المقام ما یساوق الذبح، وکذا ورد فی الجنین من أنّ ذکاته ذکاة أمّه، (4) فأیضاً أطلق الذکی علی الجنین، فیُفهم من ذلک أنّ التذکیة تُطلق علی ما یساوق الطهارة والنقاء. هذا من جهة.

ص: 191


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 1، ص 351، باب 31 من أبواب أحکام الخلوة، ح 5.
2- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 4، ص 347، باب 2 من أبواب لباس المصلّی، ح 8.
3- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 180، باب 33 من أبواب الأطعمة المحرّمة، ح 3، و4، و5.
4- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 33، باب 18 من أبواب الذبائح، ح 2،و3، و6، و7، و8، و11، و12.

ومن جهةٍ أخری: أننّا وجدنا أنّ الذکاة أطلقت فی بعض الأخبار علی نفس العملیة، ونفس الأفعال الخارجیّة، فقیل التسمیة ذُکاة، والتسمیة فعل خارجی، وقیل إخراج السمک من الماء ذُکاة. (1) من هذا وهذا یُعرّف أنّ ذلک العنوان البسیط الذی هو عبارة عن الطهارة والنقاء هو عنوان ینطبق علی نفس العملیة، وإنّما قیل أنّ هذه الأعمال ذُکاة باعتبار أنّ هذا العنوان ینطبق علیها، فکون إخراج السمک من الماء حیّاً تذکیة لا یعنی أنّ التذکیة هی عبارة عن هذه الأفعال، وإنّما یعنی أنّ التذکیة بما لها من المعنی البسیط الذی هو النقاء والطهارة ینطبق علی هذه الأفعال.

النتیجة: أنّ التذکیة هی عبارة عن أمر بسیط، لیس هو عبارة عن الأفعال، ولا هو أمر مسبّب عن الأفعال کما فی الرأیین المتقدّمین، وإنّما هو أمر بسیط یساوق الطهارة والنقاء والملائمة للطبع، وأمثال هذه العبارات، ینطبق علی الأفعال وعلی عملیة الذبح بالشرائط، فهذا هو المراد بالتذکیة.

لکن الذی یُبعّد هذا الاحتمال أمران:

الأمر الأوّل: أنّ المُلاحظ أنّه لم تستعمل التذکیة بمعنی الطهارة وبمعنی الطیب فی غیر الحیوان وما یتبع الحیوان، إلاّ نادراً، وباقی تلک الموارد قابلة للتأویل، لو کان معنی التذکیة والذُکاة هو الطهارة والطیب؛ فحینئذٍ لا داعی لعدم استعمالها فی غیر الحیوان وتوابع الحیوان کالصوف والبیض والشعر کما تقدّم، استعمال التذکیة بمعنی الطهارة فی غیر الحیوان وتوابعه معدوم أو نادر، وهذا یُبعّد هذا الاحتمال، إذا کان معناها الطیب، فلماذا لا یقال أنّ الماء ذکی ؟ بل لا یصحّ هذا التعبیر، علی الأقل هو غیر متعارف وغیر مستعمل، ولا یقال أنّ الثوب ذکی، وأنّ الید ذکیة، فعدم استعمال الذُکاة والتذکیة بمعنی الطهارة والطیب فی غیر الحیوان وتوابعه یشکّل قرینة معاکسة علی أنّه لا یُراد بالتذکیة فی موارد الحیوان وتوابعه ذاک المعنی؛ بل لابدّ أنْ یُراد بها معنیً آخر، وإلاّ لو کان هذا هو معناها لوصل إلینا هذا الاستعمال، ولکان استعمالاً صحیحاً ومُتعارفاً.

ص: 192


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 75، باب 31 من أبواب الذبائح، ح 8.

الأمر الثانی: ما ذکره من أنّ التذکیة أطلقت فی بعض الأخبار علی نفس العملیة، کما ذکر إخراج السمک من الماء ذُکاة، وفی بعض الروایات(التسمیة ذُکاة)، وفی بعض الروایات(صیده ذُکاته)، وفی بعض الروایات(قتله ذُکاة) إطلاق الذُکاة والتذکیة علی نفس العملیة ولا داعی للتأویل، وافتراض أنّ التذکیة بمعنی الطهارة، وأنّ الطهارة تنطبق علی هذه العملیة هو خلاف الظاهر، فالظهور الأوّلی عندما یقول أنّ التسمیة ذُکاة، فالظاهر هو أنّ التذکیة هی نفس هذه العملیة، أو علی الأقل أنّ هذه العملیة هی سبب للتذکیة، فیثبت أحد القولین السابقین من أنّ التذکیة هی إمّا نفس الأعمال الخارجیة، وإمّا هی أمر مُسببّ عن الأعمال الخارجیة، وإنْ کان الأظهر بلحاظ الروایات التی تستعمل هذه المادّة أنّها عبارة عن نفس العملیّة، ویؤیّد ذلک:

أولاً: تفسیر اللّغویین للتذکیة بالذبح، وهذا لا ینافی أنّ التذکیة قد لا تتمثّل بخصوص الذبح، فقد تکون بأرسال الکلب المُعلّم للصید، فهو أیضاً تذکیة، وقد تکون بإطلاق السهم أو الحیوان، هذه أیضاً تذکیة، لکن بالنتیجة التذکیة عمل یصدر من المکلّف فی الخارج یترتب علیه الحکم بحلّیة الحیوان، أو طهارته، وهذا لا یخرج عن کون التذکیة هی عبارة عن نفس العمل. اللّغویّون فسّروه بخصوص الذبح، لعلّهم ناظرین إلی التذکیة بالمعنی اللّغوی الأصلی، لکن هذا لا یمنع من أنْ یکون المقصود بالتذکیة الأعمّ من هذا ولا یختصّ بالذبح.

وبعبارةٍ أخری: أنّ التذکیة عبارة عن الأعمال التی تترتّب علیها شرعاً الحلّیة والطهارة، وهذا یناسب المعنی اللّغوی.

ثانیاً: الروایات الظاهرة فی أنّ التذکیة هی عبارة عن نفس العملیة، الذبح وغیره، هناک روایات عدیدة یُستفاد من مجموعها أنّ التذکیة هی عبارة عن نفس العملیة لا أنّها عنوان بمعنی الطهارة ینطبق علی نفس العملیة؛ بل التذکیة هی نفس هذا العمل، مثلاً:

ص: 193

ورد فی روایة محمد بن مسلم وغیر واحد، عنهما (علیهما السلام) أنّهما قالا:(فی الکلب یرسله الرجل ویسمّی، قالا: إنْ أخذه فأدرکت ذُکاته فذکّه). (1) الظاهر منها أنّ قوله(علیه السلام) (فذکّه) یعنی أذبحه.

وأیضاً عن أبی بکر الخضرمی، قال:(سألت أبا عبد الله علیه السلام عن صید البزاة والصقورة والفهد والکلب، قال: لا تأکل صید شیءٍ من هذه إلاّ ما ذکیتموه). (2)

وفی روایة زرارة عن أبی عبد الله(علیه السلام) فی حدیث أنّه قال:(وأمّا خلاف الکلب ممّا تصید الفهود والصقور وأشباه ذلک، فلا تأکل من صیده إلاّ ما أدرکت ذُکاته). (3)

وفی روایة جمیل بن درّاج، قال:(سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل یرسل الکلب علی الصید، فیأخذه ولا یکون معه سکین فیذکّیه بها). (4) یعنی یذبحه بها.

وفی روایة أخری لجمیل بن درّاج، قال:(قلت لأبی عبد الله علیه السلام أرسل الکلب فأسمی علیه فیصید، ولیس معی ما أذکّیه به). (5) یعنی ما أذبحه به، ولیس معه آلة جارحة یذبحه بها.

ص: 194


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 341، باب 4 من أبواب الصید، ح 2.
2- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 393، باب 4 من أبواب الصید، ح 2.
3- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 340، باب 4 من أبواب الصید، ح 3.
4- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 347، باب 8 من أبواب الصید والذباحة، ح 1.
5- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 348، باب 9 من أبواب الصید والذباحة، ح 2.

وفی روایةٍ عبد الرحمن بن أبی عبد الله، قال:(سألت أبا عبد الله علیه السلام عن رجلٍ لأرسل بازیه، أو کلبه، فأخذ صیداً، فأکل منه، آکل من فضلهما ؟ فقال: ما قتل البازی فلا تأکل منه إلاّ أنّ تذبحه) (1) ، وهی تفسّر أنّ المقصود بالتذکیة فی الروایات الأخری هو الذبح.

وعن محمد بن مسلم، قال:(سألت أبا جعفر علیه السلام عن الذبیحة باللّیطة، وبالمروة، فقال: لا ذُکاة إلاّ بحدیدة). (2)

وعن سماعة بن مهران، قال:(سألته عن الذکاة، فقال لا تُذکِ إلاّ بحدیدة). (3)

لا أرید أنْ أقول أنّها نصّ فی أنّ المراد بالتذکیة فی هذا هو نفس العملیة، یمکن تفسیرها بمعنیً آخر تکون العملیة سبباً للتذکیة، لکن الظهور الأوّلی بهذا الشکل(لا تذکی إلاّ بحدیدة) یعنی لا تذبح إلاّ بحدیدة، (لا ذُکاة إلاّ بحدیدة).

وفی روایة أبی بکر الحضرمی، عن أبی عبد الله(علیه السلام) أنّه قال:(لا یؤکل ما لم یذبح بحدیدة). (4)

وفی روایة درست، عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال:(ذکرنا الرؤوس من الشاء، فقال: الرأس موضع الذُکاة) (5) ، یعنی موضع الذبح.

ص: 195


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 351، باب 9 من أبواب الصید والذباحة، ح 9.
2- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 7، باب 1 من أبواب الذبائح، ح 1.
3- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 8، باب 2 من أبواب الذبائح، ح 4.
4- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 8، باب 2 من أبواب الذبائح، ح 3.
5- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 11، باب 3 من أبواب الذبائح، ح 3.

وعن الفضیل بن یسار، قال:(سألت أبا جعفر علیه السلام عن رجلٍ ذبح، فتسبقه السکین، فتقطع الرأس، فقال: ذُکاة وحِیّة ---- یعنی سریعة ---- لا بأس بأکله). (1)

وفی روایة محمد الحلبی، قال:(قال أبو عبد الله علیه السلام فی ثورٍ تعاصی، فابتدره قوم بأسیافهم وسمّوا، فأتوا علیاً علیه السلام فقال: هذه ذُکاة وحِیّة، ولحمه حلال). (2) یعنی ذُکاة سریعة.

وفی روایة عمّار بن موسی(عن أبی عبد الله علیه السلام ----- فی حدیث ----- أنّه سأله عن الشاة تُذبح، فیموت ولدها فی بطنها، قال: کله، فأنّه حلال؛ لأنّ ذُکاته ذُکاة أمّه، فإنْ هو خرج وهو حیّ، فاذبحه وکل). (3) یعنی إذا خرج وهو میّت، فالشارع اعتبر أنّ ذُکاته ذُکاة أمّه، فیکون حلالاً، أمّا إذا خرج وهو حیّ، فذکّه، فهنا یحتاج إلی تذکیة، بینما هناک لم یحتج إلی تذکیة، وعبّر عن التذکیة بقوله(أذبحه). إلی غیرها من الروایات التی لها ظهور فی أنّ المراد بالتذکیة هو نفس العملیة. نعم، أشرنا إلی أنّه لیس المقصود بذلک خصوص الذبح؛ بل هی عبارة عن الأعمال التی اعتبرها الشارع موجبة لحلّیة الحیوان وطهارته.

فی روایات أخری رُتبت الحلّیة علی نفس الأعمال ولیس علی التذکیة، کما فی صحیحة سلیمان بن خالد، قال:(سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرمیة یجدها صاحبها، أیأکلها ؟ قال: إنْ کان یعلم أنّ رمیته هی التی قتلته، فلیأکل). (4) علی القتل المستند إلی الرمیة، یعنی علی نفس الأفعال، فالحلّیة ----- حلّیة الأکل) رتّبت علی نفس الأفعال.

ص: 196


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 17، باب 9 من أبواب الذبائح، ح 1.
2- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 19، باب 10 من أبواب الذبائح، ح 1.
3- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 24، ص 35، باب 18 من أبواب الذبائح، ح 8.
4- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 365، باب 18 من أبواب الصید، ح 1.

وفی صحیحة حریز، نفس العبارة السابقة، حیث قال:(سُئل أبو عبد الله علیه السلام عن الرمیة یجدها صاحبها من الغد أیأکل منه ؟ قال: إنْ علم أنّ رمیته هی التی قتلته، إنْ کان سمّی). (1) فرتّب الحلّیة علی الرمیة مع التسمیة وهی عبارة عن الأفعال.

فی معتبرة سُماعة بن مهران، قال:(سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل یرمی الصید وهو علی الجبل، فیخرقه السهم حتّی یخرج من الجانب الآخر، قال: کله). (2) رتّب حلّیة الأکل علی نفس الأفعال.

وعن أبی عبیدة، عن أبی عبدالله علیه السلام قال:(إذا رمیت بالمعراض فخرق فکل). (3) رتّب الحلّیة علی الرمی بالمعراض إذا خرق ولم یصب عرضاً إلی غیر ذلک فهو کثیر.

وممّا تقدّم یتبیّن أنّ حلّیة الأکل مترتّبة فی الأدلّة علی أمرین، أحدهما: التذکیة. والثانی: الأفعال الخاصّة بالشروط الخاصّة.

قد یقال: احتمال أنْ یکون الترتّب علی الأفعال فی بعض الروایات باعتبارها محققّة ومحصّلة للتذکیة. صحیح فی هذه الروایات رتبت الحلّیة علی العملیة الخارجیة، لکن لیس لخصوصیّة فی العملیة، وإنّما باعتبار أنّها محققّة للتذکیة بمعنی الطهارة ----- مثلاً ----- التی هی شیء آخر غیر الأفعال.

أقول: هذا الاحتمال لیس بأولی من تفسیر التذکیة بالأفعال الخارجیة، أنّ المراد بالتذکیة فی الأخبار الأخری التی رتبت الحلّیة علی التذکیة هی عبارة عن نفس الأفعال والشرائط الخاصة؛ بل الظاهر من الروایات السابقة أنّ هذا هو الأقرب والمتعیّن، أی أنْ نفسّر التذکیة بالأفعال الخاصّة؛ وحینئذٍ ینتهی الکلام عن هذا الأمر الثانی الذی هو تحدید معنی التذکیة، والأقرب من هذه الأقوال هو ما ذکرناه من أنّها نفس العملیة.

ص: 197


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 365، باب 18 من أبواب الصید، ح 2.
2- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 369، باب 20 من أبواب الصید، ح 1.
3- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 370، باب 22 من أبواب الصید، ح 1.

نعم، قد یرد فی بعض الأخبار إطلاق آخر، لکنّه أیضاً قابل للتأویل، والأغلب فی الإطلاقات أنْ یکون معنی التذکیة هو عبارة عن نفس الأفعال الخاصّة.

الأمر الثالث: قد یقال: أنّ هناک بعض الأخبار التی تنافی استصحاب عدم التذکیة؛ بل تکون دلیلاً علی بطلانه وعدم جریانه؛ وحینئذٍ ینبغی ملاحظة هذه الأخبار؛ لأننّا انتهینا إلی أنّ استصحاب عدم التذکیة یجری، علی الأقل فی بعض الموارد لا مانع من جریانه، ویترتّب علیه الأثر، لکن قد یقال أنّ هناک بعض الأخبار المعتبرة سنداً التی تنافی ذلک وتقتضی إبطال استصحاب عدم التذکیة، من هذه الروایات:

الروایة الأولی: معتبرة عیسی بن عبد الله القمّی. الروایة معتبرة سنداً، وإذا کان توقّف من جهة عیسی بن عبد الله القمّی من جهة أنّه لم یُنص علی وثاقته، لکن قیل بأنّه شیخ جلیل القدر، عظیم المنزلة، وتعبیرات من هذا القبیل التی تفید المدح، وهذا یکفی فی اعتبار الروایة، قال:(قلت لأبی عبد الله علیه السلام: أرمی بسهمی، فلا أدری سمّیت، أم لم أسمّی، قال: کل، لا بأس). (1) فبالرغم من أنّه یشکّ فی التذکیة؛ لأنّ التسمیة معتبرة فی التذکیة، فشکّه فی التسمیة یعنی شکّ فی التذکیة، لم یقل له الإمام(علیه السلام) اعتنِ باستصحاب عدم التذکیة، وابنِ علی الحرمة، وإنّما قال له کل، لا بأس، وهذا ینافی استصحاب عدم التذکیة.

الروایة الثانیة: روایة علی بن أبی حمزة، وبناءً علی أنّ علی بن أبی حمزة یمکن الاعتماد علیه تکون الروایة معتبرة سنداً کما هو الظاهر؛ لأنّ باقی الرواة فی السند لیس فیهم خدشة. ورد فی هذه الروایة قوله(علیه السلام):(ما علمت أنّه میتة، فلا تصل فیه). (2) ومفهومها هو(ما لم تعلم، أو ما تشکّ فی أنّه میتة تجوز الصلاة فیه) علی إبطال وإلغاء استصحاب عدم التذکیة؛ لأنّ ما لم یعلم أنّه میتة یعنی یشکّ فی أنّه مذکّی، أو میتة، ومقتضی استصحاب عدم التذکیة هو عدم جواز الصلاة فیه، بینما الإمام(علیه السلام) جوّز الصلاة فیه. وفی روایة أخری صُرّح بهذا المفهوم وهی روایة سُماعة بن مهران، ورد فیها(لا بأس ----- یعنی بالصلاة فیه ----- ما لم تعلم أنّه میتة) والمستفاد من مفهوم النصّ الأوّل ومنطوق النصّ الثانی هو جواز الصلاة بالرغم من الشکّ فی کونه میتة، أو مذکّی، وهذا علی خلاف استصحاب عدم التذکیة.

ص: 198


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 23، ص 377، باب 25 من أبواب الصید، ح 1.
2- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 3، ص 491، باب 50 من أبواب النجاسات والأوانی والجلود، ح 4.

بالنسبة إلی الروایة الأولی یمکن الجواب عنها بأنّ الروایة إنّما حکمت بالحلّیة باعتبار أنّ ترک التسمیة فیها إنّما هو لأجل النسیان، هذا هو ظاهر الروایة، بضمیمة ما ثبت بالأدلّة من أنّ التسمیّة شرط ذکری، بمعنی أنّ هذه الشرطیة ترتفع أصلاً فی حالة النسیان، بمعنی أنّ التذکیة فی حالة النسیان لیست التسمیة شرطاً فیها، وبضمیمة هذا؛ حینئذٍ یکون الحکم بالحلّیة علی وفق القاعدة، وهو(علیه السلام) لم یحکم بالحلّیة فی ظرف الشکّ، لم یحکم بحلّیة ظاهریة حتّی یقال أنّ هذا ینافی استصحاب عدم التذکیة الذی یقتضی عدم الحلّیة ظاهراً، وإنّما یحکم بحلّیة واقعیة، باعتبار أنّ المکلّف ترک التسمیة ناسیاً، والتسمیة شرط ذکری إنّما یعتبر فی حال الالتفات والذکر، وفی حال النسیان لا یعتبر أصلاً، فهذه تذکیة واقعیة حقیقیة، والتذکیة الواقعیة الحقیقیة تترتّب علیها الحلیة الواقعیة.

فإذن: الروایة لیست ناظرة أساساً إلی فرض الشکّ فی التذکیة وعدمها الذی هو مورد جریان استصحاب عدم التذکیة حتّی یقال بأنّ الإمام(علیه السلام) لم یحکم باستصحاب عدم التذکیة، وحکم بالحلّیة الظاهریة حتّی یکون هذا إبطال وإلغاء لاستصحاب عدم التذکیة، وکلا الأمرین ثابتان، أمّا الأمر الأوّل الذی هو أنّ ترک التسمیة فی الروایة علی تقدیره یکون من باب النسیان، فهذا واضح فی الروایة؛ لأنّه یقول لا أدری سمّیت، أم لم أسمِ، فإذا کان قد سمّی، فلا مشکلة حینئذٍ، وإذا لم یسمِّ، فترکه للتسمیة یکون من باب النسیان لا من باب العمد، إذن: هو علی کلا التقدیرین، سمّی، أو لم یسمِّ حصلت منه التذکیة الواقعیة، فالحکم بالتذکیة حینئذٍ یکون حکماً واقعیاً لا حکماً ظاهریاً.

ص: 199

إذن: الروایة لا تصلح أنْ تکون دلیلاً علی إبطال استصحاب عدم التذکیة.

وأمّا الروایة الثانیة، فی مقام الجواب عنها قیل أنّ مورد هذه الروایة هو وجود إمارات دالة علی التذکیة من قبیل سوق المسلمین، وید المسلم وأمثالها، ومن الواضح أنّه مع وجود الإمارات الدالّة علی التذکیة لا یجری الاستصحاب؛ إذ لا معنی لأنْ نقول أنّ هذه الروایة تکون معارضة للاستصحاب وموجبة لإبطاله، فی مورد الروایة أصلاً لا یجری الاستصحاب؛ لوجود إمارات دالّة علی التذکیة، فلا معنی لأنْ نلتزم باستصحاب عدم التذکیة فی موارد الشکّ حیث لا إمارة علی التذکیة کما هو المدّعی، المقصود هو أنّ استصحاب عدم التذکیة یمکن التمسّک به فی موارد الشکّ حیث لا إمارة علی التذکیة، وإلاّ مع وجود الإمارة علی التذکیة، لا إشکال فی أنّ هذا یمنع من جریان الاستصحاب. إذن، هذه الروایة لا تمنع من الالتزام بجریان استصحاب عدم التذکیة حیث لا إمارة علی التذکیة، وهذا هو المدّعی،

إذن: هذه الروایة لا تبطل جریان الاستصحاب بالمعنی المقصود؛ لأنّه لا أحد یلتزم باستصحاب عدم التذکیة حتّی فی موارد وجود الإمارة علی التذکیة، لکن المشکلة أنّ هاتین الروایتین لیس فیهما أی إشارة علی التذکیة. نعم فی روایات الباب یفترض السائل أنّه اشتری شیئاً من السوق، لکن فی هاتین الروایتین لا توجد أیّ إشارة فیهما إلی وجود إمارة علی التذکیة من قبیل سوق المسلمین، وید المسلم وأمثالهما، مقتضی إطلاق هذه الروایة هو أنّ هذا إذا لم تعلم أنّه میتة تجوز الصلاة فیه مطلقاً، یعنی سواء قامت إمارة علی التذکیة، أو لم تقم إمارة علی التذکیة، وهذا هو الذی یکون منافیاً لاستصحاب عدم التذکیة، حتّی إذا لم تقم إمارة علی التذکیة تجوز الصلاة فیه؛ لأنّ مقتضی استصحاب عدم التذکیة عدم جواز الصلاة فیه، فهذا فی الحقیقة ما یمنع من الأخذ بهذا الجواب وهو أنّ الروایات لیس فیها إشارة إلی اختصاصها بصورة وجود إمارة علی التذکیة، ومقتضی إطلاقها هو شمولها لحالتی وجود الإمارة وعدم وجود الإمارة علی التذکیة، وهذا یبطل جریان استصحاب عدم التذکیة.

ص: 200

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی

کان الکلام فی وجود بعض الروایات التی قد یقال بأنّها منافیةلاستصحاب عدم التذکیة، وانتهی الکلام إلی روایتی علی بن أبی حمزة، وروایة سُماعة بن مهران، حیث یُفهم منهما الجواز والحلّیة مع الشکّ فی جواز الصلاة فیه مع الشکّ فی التذکیة، وهذا معناه عدم جریان استصحاب عدم التذکیة.

فی الدرس السابق ذکرنا جواباً عن ذلک، لکن بینّا أنّ الروایات لیس فیها ما یُشیر إلی أنّ الحکم بالحلّیة فیها إنّما هو لأجل وجود إمارة علی التذکیة، وإلاّ ظاهرها الإطلاق، أنّها تحکم بالحلّیة والجواز مطلقاً، أی سواء کانت هناک إمارة علی التذکیة، أو لم تکن هناک إمارة علی التذکیة، وهذا مُنافٍ لاستصحاب عدم التذکیة فی صورة عدم العلم بالتذکیة وعدم وجود إمارة علی التذکیة، هذه الروایات تحکم بالجواز والحلّیة، فی حین أنّ مقتضی الاستصحاب هو عدم الجواز وعدم الحلّیة.

الذی یمکن أنْ یقال فی المقام هو أنّ هذه الروایة وإنْ کان ظاهرها المنافاة مع استصحاب عدم التذکیة، لکن هذه الروایة معارضة بأکثر من روایةٍ فی نفس المورد تدلّ علی أنّ الحکم هو عدم الجواز، وفی هذا الصدد تُذکر موثقة ابن بُکیر، عن زرارة، عن أبی عبد الله(علیه السلام) قال:(إنْ کان ممّا یؤکل لحمه، فالصلاة فی وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه، وکل شیءٍ منه جائز إذا علمت أنّه ذکی). (1) فقیّد الجواز بما إذا علمت أنّه مذکّی، ومفهومها هو إذا لم تعلم أنّه مذکّی، یعنی شککت فی تذکیته، تکون الصلاة منه فی هذه الأمور جائزة، فتکون هذه الروایة معارضة للروایات السابقة، باعتبار أننّا فی نفس المورد نحکم فی صورة الشکّ بعدم الجواز خلافاً لتلک الروایات. هذه الروایة إنْ جعلناها معارضة للروایات السابقة؛ حینئذ بعد فرض التعارض وعدم وجود المرجّح لا یمکن الاستناد إلی کلٍ منهما، فیتساقطان للتعارض؛ وحینئذٍ لا مانع من الرجوع إلی أصالة عدم التذکیة فی حالة الشکّ کما هو محل الکلام؛ لأنّ الروایة التی فُرض کونها مانعة من جریان أصالة عدم التذکیة سقطت بالمعارضة مع الروایة الأخری، فکأنّه نبقی نحن وأصالة عدم التذکیة من دون أنْ یوجد ما یمنع من استصحاب عدم التذکیة، فیُلتزم باستصحاب عدم التذکیة إذا جعلناها معارضة لتلک الروایات. ونفس الکلام یقال، أنّ النتیجة نفس النتیجة إذا فرضنا أنّ هذه الروایة مطلقة من حیث وجود إمارة علی التذکیة وعدم وجود إمارة علی التذکیة، بمعنی أنّ الروایة الأخیرة بمفهومها تدلّ علی عدم الجواز فی حالة الشکّ وعدم العلم بالتذکیة، فی حالة الشکّ یُحکم بعدم الجواز، ومقتضی إطلاقها هو أنّه یُحکم بعدم الجواز فی صورة وجود إمارة علی التذکیة وصورة عدم وجود إمارة علی التذکیة، هذا الإطلاق لا یمکن الالتزام به، ولابدّ من تخصیصها؛ لأنّه فی صورة وجود إمارة علی التذکیة لا یمکن الحکم بعدم الجواز استناداً إلی استصحاب عدم التذکیة؛ إذ لا إشکال أنّه فی صورة وجود إمارة علی التذکیة لا یجری الاستصحاب، فحکم الروایة بعدم الجواز لابدّ من تخصیصه وإنْ کان مطلقاً بحسب الظاهر یشمل صورة وجود الإمارة علی التذکیة وصورة عدم وجود الإمارة علی التذکیة، لکن لابدّ من تخصیصها بصورة عدم وجود الإمارة علی التذکیة حتّی یمکن أنْ نلتزم بعدم الجواز استناداً إلی استصحاب عدم التذکیة، یعنی نُخرج منها صورة وجود الإمارة علی التذکیة، فتبقی هذه الروایة بعد التخصیص بعد إخراج صورة وجود الإمارة علی التذکیة تبقی مختصّة بصورة عدم وجود الإمارة علی التذکیة؛ حینئذٍ نلاحظ نسبة هذه الروایة بعد هذا التخصیص إلی الروایات السابقة التی تحکم بالحلّیة، سوف نجد أنّ النسبة بینهما هی العموم والخصوص المطلق؛ لأنّ الروایات السابقة الحاکمة بالحلّیة تحکم بالحلیة مطلقاً، سواء وجدت الإمارة علی التذکیة، أم لم توجد الإمارة علی التذکیة؛ ولذا جُعلت منافیة لاستصحاب عدم التذکیة، فهی تحکم بالحلّیة مطلقاً، بینما هذه الروایة تحکم بالحرمة بعد التخصیص فی صورة عدم وجود إمارة علی التذکیة، وتکون نسبتها إلی تلک الروایات نسبة الخاص إلی العام، تلک الروایات تحکم بالحلّیة مطلقاً، بینما هذه تحکم بالحرمة فی صورة عدم وجود إمارة علی التذکیة، فتخصّص تلک الروایات، یعنی نحمل تلک الروایات علی صورة وجود إمارة علی التذکیة، وبهذا لا تکون حینئذٍ منافیة لاستصحاب عدم التذکیة، یعنی سوف نصل إلی نفس النتیجة التی ذُکرت فی الجواب السابق الذی لم نرتضه وناقشنا فیه، وهو أنّ هذه الروایات مختصّة بصورة وجود الإمارة علی التذکیة، قلنا أنّ هذا إذا استفید من نفس الروایات، فالروایات لیس فیها إشارة إلی اختصاص الحکم بالحلّیة فی صورة وجود إمارة علی التذکیة، وإنّما هی مطلقة، لکن عندما أبرزنا هذه الروایة الدالّة علی الحرمة وعدم الجواز، قلنا أنّ هذه الروایة إنْ کانت معارضة لتلک الروایات، بأنْ کنّا لا نؤمن بانقلاب النسبة الذی هو مبنی الوجه الآخر الذی ذکرناه؛ حینئذٍ یتعارضان ویتساقطان؛ فحینئذٍ لا مانع من الالتزام بأصالة عدم التذکیة ولیس هناک ما یمنع من جریانه؛ لأنّ المانع من جریانه هو تلک الروایات وقد سقطت بالمعارضة.

ص: 201


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 3، ص 408، باب 9 من أبواب النجاسات والأوانی والجلود، ح 6.

وأمّا إذا آمنّا بکبری انقلاب النسبة، فسوف تکون النسبة بین هذه الروایة الأخیرة وبین تلک الروایات هی نسبة العموم والخصوص المطلق؛ لما قلناه من أنّ هذه الروایة وإنْ کانت مطلقة تدّل علی الحرمة مطلقاً، یعنی سواء قامت إمارة علی التذکیة، أو لم تقم، لکن هذا لا یمکن الالتزام به، لأنّ فی صورة قیام الإمارة علی التذکیة کیف یُلتزَم بعدم الجواز اعتماداً علی استصحاب عدم التذکیة ؟ إذن: لابدّ أنْ نخرج منها صورة قیام الإمارة علی التذکیة ونحملها علی صورة عدم قیام الإمارة علی التذکیة. إذن: هی تدلّ علی عدم الجواز فی صورة عدم قیام الإمارة علی التذکیة، إذا اختصّت بصورة عدم قیام الإمارة علی التذکیة تکون أخصّ مطلقاً من تلک الروایات وهذا معناه انقلاب النسبة؛ لأنّ تلک الروایات تدلّ علی الحلّیة مطلقاً سواء کانت هناک إمارة علی التذکیة أو لم تکن هناک إمارة علی التذکیة، فتخصص هذه الروایة الأخیرة تلک الروایات، یعنی نخرج من تلک الروایات صورة عدم وجود الإمارة علی التذکیة؛ لأنّ صورة عدم وجود الإمارة علی التذکیة هذه الروایة تحکم بعدم الجواز، تلک تحکم بالحلّیة، لکن تحکم بالحلّیة مطلقاً، لا أنّها تحکم بالحلّیة فی هذه الصورة حتّی تعارضها، وإنّما تحکم بالحلّیة مطلقاً فنخصصّها ونحمل تلک الروایات الدالّة علی الحلّیة علی صورة وجود الإمارة علی التذکیة، وحملها علی صورة وجود الإمارة علی التذکیة لا ینافی استصحاب عدم التذکیة؛ لأننّا لا نتکلّم فی صورة وجود إمارة علی التذکیة؛ إذ لا إشکال فی تقدّم الإمارة علی الاستصحاب، فیثبت المطلوب، سواء قلنا بالمعارضة، أو قلنا بانقلاب النسبة، النتیجة هی نفس النتیجة وهی أنّه لا مانع من إجراء استصحاب عدم التذکیة، ولا مانع منه من جهة هذه الروایات.

ص: 202

هذا تمام الکلام فی استصحاب عدم التذکیة.

التنبیه الثانی: یقع فی حسن الاحتیاط واستحبابه. وذلک لأنّه بعد أنْ تقدّم فی أصل البحث عدم تمامیة ما استدلّ به الأخباریون علی وجوب الاحتیاط فی الشبهات البدویة التحریمیة، أو مطلقا، علی الخلاف فی أنّه یجب مطلقاً، أو فی خصوص الشبهات التحریمیة. بعد أن فرغنا من ذلک، أنّ ما أقاموه من أدلّةٍ علی وجوب الاحتیاط فی هذه الشبهات غیر تام، فلا نلتزم بوجوب الاحتیاط؛ حینئذٍ ینفتح المجال للبحث فی أنّه هل الاحتیاط الذی فرغنا عن عدم وجوبه هل یمکن الالتزام بحسنه عقلاً ؟ واستحبابه شرعاً؟ أو لا ؟ ذکروا بأنّ الحسن العقلی للاحتیاط لا إشکال فیه، ولا ینبغی أنْ یقع الکلام فیه، بمعنی أنّه لا إشکال فی حُسن الاحتیاط فی جمیع أقسام الشبهة البدویة التحریمیة والوجوبیة وحتّی الشبهة الموضوعیة، لا إشکال فی حُسن الاحتیاط عقلاً، باعتبار أنّ الاحتیاط یمثّل إدراک الواقع، والوصول إلی مطلوب الشارع ومراده، والعقل یحکم بحُسن هذا الشیء بلا إشکال. فحُسن الاحتیاط ورجحانه عقلاً ممّا لا إشکال فیه ولا بحث فیه، وإنّما یقع الکلام فی استحبابه شرعاً، هل یمکن أنْ نلتزم باستحبابه بحیث أنّ المفتی یفتی بأنّ الاحتیاط مستحب شرعاً، حاله حال المستحبات الأخری. الکلام الذی طرحوه تکلّموا عن إمکان هذا الشیْ، هل یمکن فرض الاستحباب الشرعی للاحتیاط ؟ وتکلّموا عن کیفیّة استفادته، وإثباته. البحث الأوّل بحث ثبوتی، فی أنّه هل یمکن فرض استحبابٍ شرعی متعلّق بالاحتیاط، أو أنّه غیر ممکن ؟ البحث الثانی یحث إثباتی فی کیفیّة استفادة الاستحباب، فی إثبات الاستحباب، ما هو الدلیل علی الاستحباب، فرضاً أنّ الاستحباب الشرعی المولوی للاحتیاط أمر ممکن؛ إذ لا محذور فیه ثبوتاً، لکن ما هو الدلیل علیه، هذا بحث إثباتی.

ص: 203

فی کلماتهم وقع خلط بین البحثین، ولم یُمیّز أحدهما عن الآخر، بینما ینبغی التمییز بینهما، ولو من ناحیة منهجیة. ثمّ أنّ البحث فی حکم الاحتیاط فی الشبهات البدویة وإن کان یعمّ العبادات وغیر العبادات، فی کلٍ منهما یجری هذا الکلام، الاحتیاط فی العبادات لیس واجباً، فیقع الکلام فی أنّه هل یمکن أنْ یکون مستحبّاً ؟ أو لا یمکن أنْ یکون مستحبّاً ؟ شیء یدور أمره بین أنْ یکون واجباً، أو غیر واجب، فرضاً قلنا أنّه لا یجب الاحتیاط، هذا قد یُتصوّر فی غیر العبادة، وقد یُتصوّر فی العبادة، أنّ صلاة رکعتین عند دخول المسجد واجبة، أو لیست بواجبة ؟ فیقع الکلام فی أنّ هذا الاحتیاط هل هو مستحب فی العبادة، أو لیس مستحبّاً فی العبادة ؟ الکلام کما یقع فی هذا یقع فی غیره أیضاً، فی غیر العبادات ممّا یدور أمره بین الوجوب وغیره، لکن حیث أنّ العبادات تختصّ بنکاتٍ خاصّة لیست موجودة فی غیرها ناسب ذلک إیقاع هذا البحث فی مقامین، المقام الأوّل فی الشبهات البدویة بشکلٍ عام من دون أنْ نبحث عن خصوصیّة کون المشکوک عبادة. والمقام الثانی عن حکم الاحتیاط فی خصوص العبادات؛ لأننّا قلنا أنّ العبادات فیها بعض النکات التی تختصّ بها.

المقام الأوّل: فی الشبهات البدویة بشکلٍ عام، من دون ملاحظة خصوصیة کون المشکوک عبادة.

الکلام یقع فی بحثین:

البحث الأوّل: فی البحث الثبوتی، فی إمکان فرض استحبابٍ شرعی مولوی للاحتیاط، هل یمکن فرضه، أو لا یمکن فرضه ؟

البحث الثانی: بعد فرض الإمکان فی البحث الأوّل یقع الکلام فی کیفیّة استفادة هذا الاستحباب، وما هو الدلیل علی هذا الاستحباب ؟

ص: 204

قبل أنْ نتکلّم عن هذین البحثین الثبوتی والإثباتی لابدّ من الإشارة إلی أنّ المقصود بالاستحباب فی المقام الذی نبحث عن إمکانه، وعن کیفیة إثباته، هو الاستحباب المولوی الطریقی لا الاستحباب المولوی النفسی، الاستحباب الطریقی الذی یکون ملاکه هو نفس ملاک الواقع، ویکون الغرض منه هو الوصول إلی الواقع المشکوک، والتحفّظ علی ملاکات الواقع المشکوک، هذا الاستحباب الطریقی هو طریق لإدراک الواقع المشکوک، فیؤمر بالاحتیاط علی نحو الاستحباب لغرض الوصول إلی إدراک الواقع، والتحفّظ علی ملاکات الواقع، فیکون هذا الاستحباب استحباباً طریقیاً، هذا هو محل کلامنا؛ لأننّا نتکلّم عن الاحتیاط الذی تکلّمنا فیه سابقاً، والذی عجزت أدلّة الإخباریین عن إثبات وجوبه، وذاک الاحتیاط احتیاط طریقی الغرض منه هو إدراک الواقع المشکوک والتحفّظ علیه، هذا إذا لم تنهض الأدلّة لإثبات وجوبه؛ حینئذٍ لا یقع الکلام فی أنّه مستحب، أو غیر مستحب.

وأمّا الاستحباب المولوی النفسی الذی ینشأ من ملاکات لیس لها علاقة بالواقع المشکوک؛ بل ینشأ من ملاکات أخری، لیس الغرض منه إدراک الواقع المشکوک، والتحفّظ علی ملاکه؛ بل له ملاک آخر من قبیل ما أشارت إلیه بعض الروایات المتقدّمة حینما تقول من ترک ما اشتبه علیه من الإثم فهو لما استبان له أترک، هذا ملاک للاستحباب وهو أنّ الاحتیاط یخلق فی نفس الإنسان حالة الاقتدار علی ترک ما یعلم حرمته، أی المحرّمات المعلومة، ومن الواضح أنّ الذی یترک ما یحتمل کونه حراماً یکون أقدر بلا إشکال علی ترک ما یعلم کونه حراماً، هذا ملاک للاستحباب، ملاک لترک ما یحتمل حرمته، وفعل ما یحتمل وجوبه، لکن لیس الملاک فی هذا هو مسألة إدراک الواقع المشکوک، وإنّما الملاک هو خلق حالة الاقتدار علی ترک المحرّمات المعلومة، وفعل الواجبات المعلومة، کلامنا لیس فی هذا؛ لأنّ مثل هذا الاستحباب النفسی المولوی لا إشکال فی إمکانه، کما أنّه لا ینبغی الإشکال فی إمکان استفادته من بعض نصوص الباب کهذا الحدیث الذی ذکرناه؛ إذ من الواضح أنّه ظاهر فی هذا الشیء، فلیس هو مورداً للبحث أنّ الاستحباب المولوی النفسی الشرعی للاحتیاط ممکن، أو لیس ممکناً ؟ هو ممکن بلا إشکال؛ لأنّ المحذور الذی سنذکره علی الاستحباب المولوی الطریقی لیس موجوداً فی الاستحباب المولوی النفسی الذی هو کما سیأتی أنّه یستلزم محذور اللّغویة، لیس هناک لغویة فی جعل استحباب نفسی مولوی للاحتیاط، ولا یلزم منه لغویة بالرغم من أنّ العقل یحکم بحسنه، فأنّ اللغویة إنّما ترد من جهة أنّ العقل یحکم بحسنه، فما هو الداعی لجعل الاستحباب ؟ هذا إنّما یُتصوّر فی الاستحباب الطریقی المولوی، أمّا الاستحباب المولوی النفسی للاحتیاط لا یلزم منه لغویة بالرغم من أنّ العقل یحکم بحسن الاحتیاط، لکن الملاک للاحتیاط اختلف، حیث أنّ العقل یحکم بحسن الاحتیاط باعتبار إدراک الواقع المشکوک، الشارع یحکم باستحبابه بملاک آخر، ملاک نفسی لیس له علاقة بالواقع حتّی یلزم من جعل الاستحباب ----- مثلاّ ----- توهّم محذور اللّغویة، فإذن: الاستحباب النفسی المولوی خارج عن محل الکلام، نحن نتکلّم عن الاستحباب المولوی الطریقی، هل هو أمر ممکن، أو لا ؟

ص: 205

أمّا الکلام فی البحث الثبوتی: وهو الإمکان وعدمه، فقد یقال بعدم الإمکان، باعتبار لزوم اللّغویة من جعله بعد فرض حکم العقل بحُسنه؛ لأنّ الغرض من جعل الاستحباب هو جعل ما یحرّک المکلّف نحوه لا علی نحو الإلزام، والمفروض وجود هذا المحرّک، أی وجود ما یحرّک المکلّف نحو الإتیان بما یحتمل وجوبه، وترک ما یحتمل حرمته، وهو حکم العقل بحسن الاحتیاط، عقل الإنسان یحکم بحسن الاحتیاط وهذه قضیّة مسلّمة، وهذا یکون محرّکاً له نحو الإتیان بما یحتمل وجوبه، وترک ما یحتمل حرمته، ومع فرض وجود المحرّک لا معنی لأنْ یجعل الشارع استحباباً لغرض إیجاد المحرّک لتحریک المکلّف؛ إذ هناک ما یحرّک المکلّف وهو حکم العقل الذی ذکرناه؛ وحینئذٍ یکون جعل الاستحباب من قِبل الشارع لنفس الغرض، لإیجاد ما هو حاصل یکون لغواً وبلا فائدة. وهذا المحذور الثبوتی الذی إذا تمّ سوف یستوجب الحکم باستحالة جعل الاستحباب المولوی الطریقی للاحتیاط، هنا واضح عدم تعددّ الملاک فی هذین المحرّکین، حکم العقل بحُسن الاحتیاط ملاکه إدراک الواقع المشکوک، والاستحباب المولوی الطریقی أیضاً ملاکه إدراک الواقع المشکوک، فالملاک واحد وغیر متعددّ؛ ولذا قلنا أنّه إذا کان الاستحباب نفسیاً فلا إشکال فی إمکانه؛ لأنّ الملاک متعدد، ملاک إدراک الواقع، وملاک أنْ یکون أقدر علی ترک المحرّمات المعلومة، فلا یلزم اللّغویة، بینما هنا ترد شبهة اللّغویة؛ لأنّ الملاک واحد، فی کلٍ منهما ملاک واحد، هذا یُحرک المکلّف، فما هو الداعی لجعل محرّک آخر للمکلّف ؟!

لکن الذی یُلاحظ علی هذا الکلام هو أنّ جعل الاستحباب الطریقی من قِبل المولی إنّما هو لغرض إدراک الواقع المحتمل والتحفّظ علی ملاکاته، فإذا فرضنا أنّ الواقع المحتمل وملاکاته فی نظر المولی واصل إلی درجة من الأهمیة لیست بذاک المقدار الذی لا یرضی بتفویته؛ إذ أنّ أهمیّة الواقع المحتمل، وأهمیّة ملاکاته فی نظر المولی، مرّة نفترض أنّه واصل إلی درجة من الأهمّیة بحیث لا یرضی بتفویته، فی هذه الحالة سوف یجعل وجوب الاحتیاط علی المکلّف حتّی یدرک الواقع؛ لأنّه لا یرضی بتفویت الواقع. نحن نفترض أنّ الواقع وملاکاته بالغة إلی درجة من الأهمّیة مهمّة فی نظر المولی، لکنها لیست واصلة إلی حدٍّ بحیث لا یرضی بتفویته؛ بل هو یرضی بتفویته، لکنّه یهتم به، واصلة إلی درجة من الأهمیّة تتناسب مع استحباب الاحتیاط، یعنی تتناسب مع حثّ العبد نحو إدراک الواقع وتحصیل ملاکاته، لکنّه یرضی بتفویته، إلاّ أنّه من الأهمّیة بمکان بحیث یطلب من المکلّف طلباً غیر إلزامی بأنْ یُدرک الواقع؛ فحینئذٍ یجعل استحباب الاحتیاط.

ص: 206

أقول: هذا الفرض یمکن فرضه ثبوتاً ولیس هناک مانع منه، فی هذه الحالة لا مانع من جعل استحباب مولوی طریقی للاحتیاط ولا یلزم من جعله فی هذا الفرض اللّغویة؛ وذلک لأنّ مثل هذا الاستحباب یوجب تأکید حکم العقل بحسن الاحتیاط، ویوجب إیجاد محرّک آخر للمکلّف، ولو علی مستوی الاستحباب، ومع کونه یحقق هذین الأمرین، تأکید المحرّکیة الموجود باعتبار حکم العقل بحسن الاحتیاط، وکونه یوجد محرّکاً آخراً غیر محرّکیة حکم العقل، هذا یرفع محذور اللّغویة؛ وحینئذٍ لا یکون جعله لغواً، فمن دون جعل الاستحباب المولوی الطریقی هذین الأمرین لا یحصلا، لا حکم العقل بالاحتیاط یکون حکماً مؤکّداً، ولا المحرّکیة تکون متعدّدة؛ بل تکون المحرّکیة واحدة وهی محرّکیة حکم العقل، هذا یُضیف إلی المحرّکیة محرّکیة أخری، ولو بنفس الملاک.

وبعبارة أخری: أنّ حکم العقل وإنْ کان یوجد داعٍ عند المکلّف بالتحرّک علی المستوی المناسب للرجحان والاستحباب، لکن هذا لا یعنی لغویّة جعل داعٍ آخر عند المکلّف للتحرّک، یعنی یجعل الشارع داعٍ آخر عند المکلّف للتحرّک، وذلک بجعل استحباب الاحتیاط؛ بل یمکن أنْ یقال أنّه یکفی فی عدم لغویّة هذا الاستحباب الطریقی المولوی هو أنّه قد یکون محرّکاً بالفعل بالنسبة إلی بعض الناس الذین لا یتحرّکون من الحکم العقلی؛ إذ من الممکن فرض أنّ بعض الناس لا یتحرّکون من الحکم العقلی، بالفعل لا یتحرّک للإتیان بالاحتیاط لمجرّد أنّ العقل یدرک حُسنه، لکن إذا قال له الشارع هذا مستحب فأنّه قد یتحرّک نحو الإتیان بالاحتیاط، وهذا یکفی فی رفع لغویّة جعل الاستحباب المولوی الطریقی للاحتیاط، والظاهر أنّ الجماعة لم یهتموا بهذا الإشکال، وفرغوا عن إمکان جعل الاستحباب الطریقی للاحتیاط، وهذا هو الصحیح، یعنی فی عالم الثبوت لا توجد مشکلة فی افتراض استحبابٍ مولویٍ طریقیٍ للاحتیاط.

ص: 207

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی

الکلام الإثباتی: فی کیفیّة استفادة هذا الاستحباب، هناک طریقان لإثبات هذا الاستحباب:

الطریق الأوّل: دعوی استفادته من أدلّة الاحتیاط، باعتبار أنّ أدلّة الاحتیاط تدلّ علی وجوب الاحتیاط، وبعد صرفها عن ظاهرها کما تقدّم سابقاً، ولو باعتبار أدلّة تدلّ علی البراءة؛ وحینئذٍ لا یمکن الأخذ بهذا الظاهر؛ وحینئذٍ تُحمل علی الاستحباب، ویُستفاد منه الاستحباب، أو المطلوبیة، لکن لا علی نحو الإلزام؛ بل قد یُدّعی أنّ بعض الروایات السابقة فیها دلالة علی الاستحباب مباشرة، هی لا تدلّ علی أکثر من الاستحباب؛ فحینئذٍ یثبت الاستحباب باعتبار تلک الأدلّة.

الطریق الثانی: أنْ یُستفاد الاستحباب من حکم العقل بحُسن الاحتیاط بناءً علی الملازمة بین ما یحکم به العقل وما یحکم به الشرع، فإذا حکم العقل بحُسن الاحتیاط؛ حینئذٍ بناءً علی الملازمة یمکن أنْ یُستفاد من ذلک استحباب الاحتیاط شرعاً، یعنی مطلوبیة الاحتیاط شرعاً.

أمّا الطریق الأوّل وهو استفادة استحباب الاحتیاط من أدلّة الاحتیاط، فقد استشکل المحققّ النائینی(قدّس سرّه) فی ذلک، وقال فی وجه الإشکال:(وفی استحبابه الشرعی من جهة أوامر الاحتیاط إشکال لاحتمال أنْ تکون الروایات الواردة فی الباب ----- علی کثرتها ----- للإرشاد إلی ما یستقلّ به العقل من حُسن الاحتیاط تحرّزاً عن الوقوع فی المفسدة الواقعیة وفوات المصلحة النفس الأمریة، وحکم العقل برجحان الاحتیاط وحسنه إنّما یکون طریقاً إلی ذلک، لا أنّه نشأ عن مصلحة فی نفس ترک ما یحتمل الحرمة، وفعل ما یحتمل الوجوب بحیث یکون ترک المحتمل وفعله بما أنّه محتمل ذا مصلحة یحسن استیفائها عقلاً). (1)

ص: 208


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 398.

وبناءً علی حمل هذه الروایات علی الإرشاد؛ حینئذٍ لا یمکن أنْ نستفید منها الاستحباب المطلوب فی محل الکلام؛ لأننّا نتکلّم عن الاستحباب الشرعی المولوی للاحتیاط، ومثل هذا الاستحباب المولوی الشرعی للاحتیاط لا یمکن أنْ یُستفاد من الأوامر إذا حُملت علی الإرشاد، أوامر إرشادیة لا یُعمِل الشارع فیها المولویة، فکیف نستفید منها الطلب والاستحباب المولوی؛ بل هذه الأخبار فی الحقیقة لا تزید عن حکم العقل بحُسن الاحتیاط، وهی ترشد إلی ذلک لا أزید، فاستشکل(قدّس سرّه) فی استفادة استحباب الاحتیاط من الأخبار السابقة الدالّة علی وجوب الاحتیاط.

مسألة حمل الأوامر علی الإرشاد لاحتمال أنْ تکون هذه الأوامر إرشادیة لا ینفع فی المقام؛ لأنّ الظهور الأوّلی للأوامر الصادرة من الشارع أنّها أوامر مولویة، بمعنی أنّ الشارع أعمل فیها المولویة، وحملها علی خلاف ذلک، أی علی أنّها إرشادیة، وأنّ الشارع لم یُعمِل فیها المولویة یحتاج إلی قرینة، لا بأس به إذا کانت هناک قرینة تدلّ علی ذلک، وهذه القرینة قد تکون موجودة فی بعض الأخبار السابقة علی ما تقدّم، لکن الظاهر أنّها غیر موجودة بشکل واضح فی جمیع الأخبار السابقة، بحیث نحمل جمیع أخبار الاحتیاط بطوائفها الکثیرة السابقة علی أنّها فی مقام الإرشاد، المحقق النائینی(قدّس سرّه) لم یبرز قرینة وإنّما الذی ذکره هو احتمال أنْ تکون هذه الأوامر أوامر إرشادیة ولم یذکر القرینة.

أقول: هذا الاحتمال وحده لا یبررّ لنا رفع الید عن الظهور الأوّلی للأوامر الصادرة من المولی فی أنّها أوامر مولویة.

قد یقال: أنّ القرینة علی حمل الأوامر علی الإرشاد فی المقام موجودة وهی نفس حکم العقل بحُسن الاحتیاط، باعتبار أنّ حکم العقل بحُسن الاحتیاط یمنع من حمل هذه الأوامر علی الاستحباب المولوی للاحتیاط ویقتضی أنْ تُحمل هذه الأوامر علی الإرشاد.

ص: 209

الجواب عن ذلک: إنّ هذا فی الحقیقة بحسب الروح راجع إلی ما تقدّم سابقاً من دعوی اللّغویة، بمعنی أنّ حکم الشارع مولویاً باستحباب الاحتیاط، بعد فرض حکم العقل بحُسن الاحتیاط، یکون لغواً وبلا فائدة، فإذا کان لغواً؛ فحینئذٍ لابدّ من حملها علی الإرشاد، فیکون ورود هذه الأوامر فی مورد حکم العقل هو بنفسه قرینة علی الإرشاد کما قیل؛ لأنّ کون هذه الأوامر مولویة فی مورد حکم العقل لغو، فلابدّ من حملها علی الإرشاد. وأجیب عن ذلک سابقاً بمنع اللّغویة، وأنّه لا توجد لغویة فی أنْ یطلب الشارع طلباً مولویاً بالاحتیاط، ولو علی نحو الاستحباب، فلا توجد لغویة بذاک المعنی؛ لأننّا قلنا سابقاً بأنّه من الممکن افتراض فوائد وآثار تترتّب علی الطلب الشرعی بالرغم من کون المورد مورداً لحکم العقل بحُسن الاحتیاط، بالرغم من ذلک هناک فوائد یمکن تصوّرها فی المقام لرفع المحذور الثبوتی، یمکن تصوّر فوائد للطلب الشرعی المولوی بحیث یمنعنا من أنْ نقول أنّ هذا مستحیل؛ لأنّه لغو وبلا فائدة، بل یمکن تصوّر ترتّب فوائد علی الطلب الشرعی کما بیّنّا سابقاً، فإذن: هذا بحسب الروح یرجع إلی دعوی اللّغویة بحیث یکون ورود هذه الأوامر فی موارد حکم العقل هو قرینة علی حملها علی الإرشاد، فنکررّ ما قلناه من أنّ هذا ممنوع ویرجع کلامنا السابق من عدم وجود قرینة واضحة فی جمیع تلک الأخبار علی أنّها للإرشاد، قد تکون هذه القرینة موجودة فی بعض الأخبار، لکنّ دعوی وجودها فی جمیع هذه الأخبار هذا غیر واضح، والظهور الأوّلی للأوامر أنّها أوامر مولویة.

وأمّا الطریق الثانی، وهو استکشاف الاستحباب الشرعی المولوی علی أساس الملازمة لحکم العقل بحُسن الاحتیاط بعد الإیمان بالملازمة. من الواضح أنّ هذا الطریق مبنی علی الإیمان بالملازمة بین ما حکم به العقل وما حکم به الشرع، أی بین الحکم العقلی وبین الحکم الشرعی، وقد تقدّم فی بحث التجرّی إنکار هذه الملازمة، وأنّه لا توجد ملازمة تحتّم بالضرورة أنْ یحکم الشارع فی مورد حکم العقل بحُکم شرعی؛ لأنّه من الممکن ثبوتاً اکتفاء الشارع بما حکم به العقل، وبالإدراک العقلی للحسن والقبح، ویمکن افتراض عدم وجود داعٍ یدعو الشارع إلی أنْ یحکم علی طبق ما حکم به العقل، لو فرضنا أنّ الشارع لا یهتم بذاک الأمر اهتماماً أزید ممّا یقتضیه الحکم العقلی، الحکم العقلی یحرّک المکلّف نحو الفعل، أو نحو الترک بمقدارٍ ما، إذا فرضنا أنّ الشارع لا یهتم بذاک المطلب أزید من هذا المقدار، فیترک الأمر لحکم العقل، ولا یری داعیاً لأنْ یجعل هو حکماً شرعیاً علی طبق الحکم العقلی، فی أحیان أخری نجد أنّ الشارع یری أنّ هناک مبررّاً لأنْ یحکم بحکم شرعی فی مورد حکم العقل، وذلک حینما یکون مهتمّاً بذلک الفعل، أو بذلک الترک بدرجة أکبر ممّا یحققّه الإدراک العقلی، وما یقتضیه الإدراک العقلی، هو یهتم بذلک المورد؛ فحینئذٍ یجعل حکماً علی طبقه، هذا لا یعنی وجود ملازمة بأنّه کلمّا حکم العقل بشیءٍ، فلابدّ أنْ یکون هناک حکم شرعی علی طبقه، کلا، الأمر لیس هکذا، لیس هناک ملازمة تثبت بالضرورة وجود حکم شرعی فی مورد حکم العقل. إذن: أساساً الطریق الثانی مبنی علی دعوی الملازمة.

ص: 210

الآن نُسلّم الملازمة، لنفترض أنّ الملازمة ثابتة بین الحکم العقلی والحکم الشرعی، بناءً علی الملازمة هل هذا الطریق تام ؟ هل یمکن استکشاف استحباب الاحتیاط من حکم العقل بحُسن الاحتیاط، أو لا یمکن استکشاف ذلک ؟

المحقق النائینی(قدّس سرّه) أیضاً استشکل فی ذلک، (1) وحاصل ما ذکره فی مقام الإشکال علی هذا الطریق لاستکشاف استحباب الاحتیاط هو أنّ المورد لیس مورداً لقاعدة الملازمة، وذلک باعتبار الرأی المعروف عنه والذی تبنّاه السید الخوئی (قدّس سرّه)، وحاصله : أنّه یُفرّق بین نوعین من الأحکام العقلیة، یُفرّق بین حکم عقلی واقع ---- حسب تعبیره ----- فی سلسلة علل الأحکام الشرعیة، وهو الحکم العقلی الذی یثبت بقطع النظر عن الحکم الشرعی، لا أنّه یثبت فی طوله، هذا نوع من الأحکام العقلیة، وهناک نوع آخر من الأحکام العقلیة وهو الحکم العقلی الذی یثبت فی سلسلة معلولات الأحکام الشرعیة، یعنی یثبت فی مرحلة امتثال الحکم الشرعی، أو قل هو الحکم العقلی الواقع فی طول الحکم الشرعی. الأوّل من قبیل حکم العقل بحُسن العدل، وقُبح الظلم، فهذا الحکم العقلی لا علاقة له بالحکم الشرعی، فهو یثبت بقطع النظر عن افتراض وجود حکم شرعی، سواء وجد حکم شرعی، أو لم یوجد، العقل یحکم بحُسن العدل وقُبح الظلم. الأمر الثانی هو من قبیل حکم العقل بحُسن الطاعة وقُبح المعصیة، یقول هذا واقع فی سلسلة معلولات الأحکام الشرعیة، یعنی واقع فی طول الحکم الشرعی، وفی مرحلة امتثاله، ومعنی حُسن الطاعة الذی یحکم به العقل هو أنّ الشارع إذا حکم بشیء؛ فحینئذٍ یحسُن منک طاعته، وتقبح منک معصیته، فهو حکم واقع فی طول الحکم الشرعی، وفی مرحلة امتثاله، یقول(قدّس سرّه) هناک فرق بینهما: الملازمة ثابتة فی القسم الأوّل، العقل یحکم بحُسن العدل، الملازمة تثبت حکماً شرعیاً بوجوب العدل، العقل یدرک قبح الظلم، هذه الملازمة أیضاً تثبت حکماً شرعیاً بأنّ الظلم حرام شرعاً، هذا لا مانع منه، فتُطبّق الملازمة فی القسم الأوّل ویُستنبط منها حکم شرعی مولوی. وأمّا فی القسم الثانی، فیقول القسم الثانی لیس مورداً لقاعدة الملازمة، وذلک باعتبار أنّ صیرورة الحکم العقلی فی القسم الثانی منشئاً للحکم الشرعی یلزم منه محذور التسلسل؛ لأنّ الحکم العقلی فی القسم الثانی واقع فی طول الحکم الشرعی، یعنی هو یفترض حکماً شرعیاً، وأمراً مولویاً، وهو یقول بأنّه تحسُن إطاعته وتقبح معصیته، وهذا معناه أننّا لابدّ أنْ نفترض أنّ هناک حکماً شرعیاً ----- فرضاً ----- بوجوب الصلاة، أو حرمة شرب الخمر، العقل یحکم بحُسن إطاعتهما، وقُبح معصیتهما، هذا الحکم العقلی بحُسن إطاعة هذا التکلیف الشرعی لو کان منشئاً لحکم شرعی مولوی؛ حینئذٍ یلزم التسلسل، فإذن صیرورة الحکم العقلی فی القسم الثانی منشئاً للحکم الشرعی المولوی یلزم منه التسلسل؛ لأنّه إذا جعل الشارع حکماً شرعیاً مطابقاً للحکم العقلی بمضمون تجب إطاعة الأوامر الشرعیة؛ لأنّ ما یحکم به العقل هو حسن الإطاعة وقبح المعصیة، هذا الحکم العقلی إذا استلزم حکماً شرعیاً، فأنّه سوف یکون حکماً شرعیاً مولویاً بمضمون یجب إطاعة الأوامر الشرعیة ویحرم معصیة الأوامر الشرعیة، وهذا الحکم الشرعی المستکشَف من الحکم العقلی هو حکم شرعی مولوی صادر من الشارع بما هو مولی، وأیضاً یحکم العقل بحُسن إطاعته؛ إذ لا فرق بینه وبین الحکم الشرعی الأوّل الذی فرضناه بوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر، کل منهما حکم مولوی صادر من الشارع بما هو مولی، العقل أیضاً یحکم بحُسن إطاعته وقُبح معصیته، فإذا حکم بحُسن إطاعته وقُبح معصیته، والمفروض أنّ هذا الحکم العقلی یستلزم ویُستکشَف منه حکم شرعی، فأیضاً یستلزم جعل حکم شرعی آخر..... وهکذا یلزم التسلسل؛ لأنّه لا نهایة له؛ ولذا هنا تقف المسألة، یعنی لا یمکن استکشاف الحکم الشرعی المولوی من الحکم العقلی فی القسم الثانی، وإنّما یمکن ذلک فی خصوص القسم الأوّل.

ص: 211


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 399.

یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّ ما نحن فیه، وهو حکم العقل بحُسن الاحتیاط هو من قبیل القسم الثانی؛ لأنّ الاحتیاط طریق محض ----- حسب تعبیره ----- للتخلّص من فوات المصلحة والوقوع فی المفسدة الواقعیة، یقول: فهو نظیر حکمه بحُسن الإطاعة وقُبح المعصیة وهو فی القسم الثانی، یعنی من قبیل الأحکام العقلیة الواقعة فی طول الأحکام الشرعیة، من قبیل الأحکام العقلیة الواقعة فی مرحلة امتثال الحکم الشرعی، یعنی هناک حکم شرعی ناشئ من مصلحة واقعیة، أو من مفسدة واقعیة، الاحتیاط یقول یحسُن الاحتیاط تجنّباً لتفویت المصلحة، أو تجنّباً للوقوع فی المفسدة الواقعیة، فیکون حاله حال أوامر الطاعة، وحکم العقل بحُسن الطاعة وحکمه بقبح المعصیة، فإذا کان ما نحن فیه من قبیل القسم الثانی؛ حینئذٍ حتّی لو آمنّا بالملازمة لا یمکن استکشاف الاستحباب الشرعی للاحتیاط من حکم العقل بحُسن الاحتیاط.

لکن استُشکل فی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) کبرویاً وصغرویاً، هذا کلّه بقطع النظر عن الملازمة؛ لأننّا إذا أنکرنا الملازمة؛ فحینئذٍ لا یأتی هذا الکلام؛ بل ینتفی الطریق الثانی أصلاً؛ لأنّ الطریق الثانی مبنی علی التسلیم بالملازمة، فإذا أنکرنا الملازمة؛ فحینئذٍ کیف یمکن استکشاف الحکم الشرعی من حکم العقل بحُسن الاحتیاط ؟ لا یمکن استکشافه، کلامنا کلّه مبنی علی تسلیم الملازمة، کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) المبنی علی تسلیم الملازمة استُشکل فیه کبرویاً وصغرویاً.

المراد من الکبری هو التفصیل بین نوعین من الأحکام العقلیة، هل هذه الکبری تامّة بعد تسلیم الملازمة ؟ هل أنّ هناک فرقاً بین الأحکام العقلیة من القسم الأوّل التی یکون مورداً للملازمة ویستکشف منها الحکم الشرعی المولوی وبین الحکم العقلی من قبیل القسم الثانی الذی لا یمکن فیه ذلک، هل هذا صحیح ؟ هذه الکبری.

ص: 212

أمّا الصغری فهو فی تطبیق ذلک علی محل الکلام وأنّ محل الکلام وهو حکم العقل بحُسن الاحتیاط هو من قبیل القسم الثانی، یعنی من قبیل الأحکام العقلیة الواقعة فی طول الأحکام الشرعیة وفی سلسلة معلولاتها کما یسمّیه. هذه الصغری. کل منهما استُشکل فیها.

أما الکبری: فقد تقدّم الکلام عنها أیضاً فی بحث التجرّی، علی تقدیر تسلیم الملازمة هل هناک فرق بین نوعین من الأحکام العقلیة، أو لا ؟ والذی انتهینا إلیه فی ذاک البحث أنّها تامّة، بمعنی أنّ الأحکام الشرعیة من قبیل القسم الأوّل یمکن استکشاف الحکم الشرعی من الحکم العقلی فیها، بخلاف القسم الثانی، والسرّ فی ذلک هو أنّ استکشاف الحکم الشرعی من الحکم العقلی فی القسم الثانی، یعنی فی الأحکام العقلیة الواقعة فی طول الأحکام الشرعیّة یلزم منه اللّغویة، افتراض حکم شرعی فی مورد الحکم العقلی من قبیل القسم الأوّل الذی مثاله حکم العقل بحُسن الإطاعة، وقُبح المعصیة، یلزم من استکشاف الحکم الشرعی المولوی فی هذا المورد اللّغویة، فیصح کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه)، بمعنی أنّه فی القسم الثانی لا یمکن استکشاف الحکم الشرعی، بخلاف القسم الأوّل، باعتبار أنّ المفروض فی القسم الثانی وجود تکلیفٍ شرعی مولوی کما قلنا، ونمثّل له بوجوب إقامة الصلاة، أو حرمة شرب الخمر، والعقل یحکم بحُسن إطاعة هذا الحکم الشرعی، وقُبح معصیته، هذا التکلیف المولوی الذی افترضناه لا إشکال فی أنّه یُحرّک المکلّف ویوجد عنده داعٍ للتحرّک لکنّه بتوسط حکم العقل بحُسن إطاعته وقُبح معصیته، وإلاّ التکلیف وحده، وبقطع النظر عن إدراک العقل للزوم إطاعته وقُبح معصیته لا یکون محرّکاً للمکلّف، فالذی یُحرّک المکلّف هو التکلیف بتوسّط حکم العقل بحُسن الإطاعة وقُبح المعصیّة، وإلاّ من دون إدراک العقل لا یکون التکلیف محرّکاً له، فإذا فرضنا کما یقول من یُنکر علی المحقق النائینی(قدّس سرّه) هذا التفصیل، إذا فرضنا جعل حکم مولوی شرعی وطبّقنا الملازمة واستکشفنا حکماً شرعیاً مولویاً بمضمون وجوب إطاعة هذا التکلیف، وحرمة معصیته، الکلام هو فی أنّ هذا لغو، أو لیس لغواً ؟ أنّ مثل هذا التکلیف الشرعی المولوی الذی یُراد استکشافه بوجوب إطاعة ذلک التکلیف وحرمة معصیته، هل هذا لغو، أو لا ؟ المُدّعی هو أنّ هذا لغو وبلا فائدة، وذلک لأنّ الفائدة المتوخاة من وجوبٍ من هذا القبیل هو الداعویة، أی جعل داعٍ للتحرّک، وقلنا أنّ أیّ تکلیفٍ شرعی لا یدعو المکلّف للتحرّک إلاّ بتوسّط إدراک العقل للزوم الإطاعة وقبح المعصیة، وهذا التکلیف المستکشف له داعویة بتوسّط حکم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصیة، هذه الداعویة الثابتة بهذا التکلیف الشرعی المولوی المستکشف بتوسّط حکم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصیة هی نفس الداعویة الموجودة بقطع النظر عن هذا التکلیف الشرعی المستکشف، ولیس شیئاً آخراً غیرها، سابقاً کان هناک تکلیف یدعو المکلّف للتحرک، وهذا التحرّک لا یحصل عند المکلّف فعلاً، إلاّ بتوسّط حکمه العقلی وإدراکه العقلی لحُسن الإطاعة وقبح المعصیة. نفس هذه الداعویة هی التی سوف یحققّها التکلیف الجدید إذا استکشفناه من الحکم العقلی فی هذا القسم ولیس شیئاً إضافیاً، أو جدیداً، وبهذا یختلف الکلام هنا عن ما قلناه بالنسبة إلی استحباب الاحتیاط، هنا نفترض وجود تکلیف شرعی، وفی مسألة استحباب الاحتیاط لم نفترض وجود تکلیف شرعی، هنا نفترض وجود تکلیف شرعی یأمر بالصلاة، وحکم عقلی یقول تلزم إطاعة هذا التکلیف ویقبح معصیته، هذا سوف یخلق داعیاً عند المکلّف للتحرّک بلا إشکال، هذا التکلیف الذی یُستکشف هو لا یزید علی ذلک، غایة الأمر أنّ العبارة قد تبدّلت، بدل أنْ یأمر بالصلاة یأمر بوجوب إطاعة الأمر بالصلاة، فلا فرق بینهما، وإلاّ المضمون واحد، ذاک یقول أقیموا الصلاة، وهذا التکلیف المستکشف ------- بحسب الفرض ------- بناءً علی ثبوت الملازمة فی القسم الثانی مضمونه وجوب إطاعة وأقیموا الصلاة، هذا أیضاً یحرّک المکلّف ویوجد داعیاً عند المکلّف بتوسّط حکم العقل بحُسن الطاعة وقُبح المعصیة باعتباره أیضاً تکلیفاً مولویّاً شرعیّاً، هذه الداعویة التی یخلقها هذا التکلیف الجدید بضمیمة حکم العقل هی نفس الداعویة التی کانت ثابتة سابقاً ولیست شیئاً جدیداً، أو أضافیاً حتّی نقول أنّ هذا التکلیف تکون له فائدة؛ لأنّه یضیف شیئاً جدیداً، ومنه یظهر الفرق بین هذا وبین الحکم العقلی الذی لا یُفترض فیه وجود حکم شرعی مسبق یدعو المکلّف للتحرّک بتوسّط الحکم العقلی، وعلی هذا الأساس تقدّم سابقاً أنّ جعل استحباب شرعی للاحتیاط لیس لغواً؛ لأننّا لم نفترض مسبقاً أنّ الشارع بتکلیف شرعی مولوی حرّک المکلّف نحو الاحتیاط، وإنّما نرید استکشاف ذلک من نفس حکم العقل بحُسن الاحتیاط. الآن نرید أنْ نستکشفه، ولم نفترضه فی مرحلةٍ سابقة، لو کنّا نفترض فی مرحلةٍ سابقة أنّ الشارع حکم باستحباب الاحتیاط؛ فحینئذٍ کل هذا الکلام لا یأتی؛ لأنّ الشارع حکم باستحباب الاحتیاط، وإنّما نتکلّم عن استحباب الاحتیاط شرعاً باعتبار أننّا لم نفترض الحکم باستحباب الاحتیاط، وإنّما فقط افترضنا حکماً عقلیّاً بحُسن الاحتیاط، ونرید أنْ نستکشف من هذا الحکم العقلی حُسن الاحتیاط الشرعی، وهذا لیس فیه لغویة، لا أرید أنْ أقول نستکشف من ذلک، وإنّما الکلام عن افتراض استحباب الاحتیاط شرعاً لیس فیه لغویّة، ولیس محالاً؛ لأنّ هذا الاستحباب المولوی الشرعی یحققّ داعویة وتحریک غیر ما تحقق بمجرّد افتراض الحکم العقلی. أمّا فی القسم الثانی الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وهو حکم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصیة، وقلنا أنّه فی طول الحکم الشرعی، یعنی لابدّ أنْ نفترض حکماً شرعیّاً من الشارع یدعو المکلّف نحو فعل یحکم العقل بحسن إطاعته وبقبح معصیته؛ ولذا یمکن أنْ یقال أنّ کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) ثابت وصحیح باعتبار أنّ الحکم الشرعی یحققّ فائدة ویحققّ داعویة غیر ما تقدّم سابقاً حتّی فی القسم الثانی؛ ولذا لا یکون لغواً ولا محذور فیه، فإذا دفعنا إشکال التسلسل؛ حینئذٍ یکون لا بأس به، هذا الکلام منظور فیه.

ص: 213

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی

کان الکلام فی الطریق الثانی لاستکشاف الاستحباب الشرعی المولوی للاحتیاط، وذکرنا بأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) استشکل فی هذا الطریق، ببیان أنّ لیس جمیع الأحکام العقلیة یُستکشف منها الحکم الشرعی، وإنّما الذی یستکشف منه الحکم الشرعی هو خصوص الحکم العقلی الثابت بقطع النظر عنالحکم الشرعی لا الثابت فی طوله؛ لأنّ الحکم العقلی الثابت فی طول الحکم الشرعی لا یستکشف منه، ولا یکون منشئاً للحکم الشرعی، وذلک للزوم التسلسل علی ما ذکرنا، والمقام من قبیل الثانی، ما نحن فیه ----- حُسن الاحتیاط ----- هو حکم عقلی ثابت فی مرحلة الامتثال وفی طول الحکم الشرعی، فیکون حاله حال حکم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصیة، وکما أنّ هناک لا یمکن استکشاف الحکم الشرعی من هذا الحکم العقلی(حسن الطاعة وقبح المعصیة) هنا أیضاً لا یمکن استکشاف الاستحباب الشرعی للاحتیاط من حکم العقل بُحسن الاحتیاط.

قلنا أنّ هذا الکلام نوقش فیه کبرویاً وصغرویاً:

أمّا کبرویاً فقد نوقش فیه بمناقشات تقدّم ذکرها فی بحث التجرّی، لکن قلنا الظاهر أنّ هذه الکبری تامّة لا من جهة التسلسل الذی یذکره؛ لأنّ إجراء التسلسل والالتزام التام بالتسلسل فی الأمور الشرعیة الاعتباریة لا یخلو من إشکال، قد یمکن افتراض التسلسل فی التکوینیات، لکن فی الأمور الاعتباریة التسلسل لیس محذوراً، وإنما الوجه فی صحّة هذه الکبری والتفرقة بین النوعین من الأحکام العقلیة هو ما ذکرناه فی الدرس السابق من أنّه فی الأحکام العقلیة الواقعة فی طول الحکم الشرعی من قبیل حکم العقل بحُسن الطاعة وقُبح المعصیة یلزم من استکشاف الحکم الشرعی منها محذور اللّغویة؛ لأنّ الحکم الشرعی المستکشف لا یترتّب علیه شیء غیر ما هو حاصل وفُرض حصوله فی مرحلة سابقة، الداعویة التی کانت موجودة بافتراض الحکم الشرعی بوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر بضمیمة حکم العقل بلزوم طاعة المولی وقبح معصیته، هذه الداعویة المفروض وجودها لا یثبت بالحکم الشرعی المستکشف شیء غیر ذلک، وشیء أزید من ذلک حتّی لا یکون جعل مثل هذا الحکم الشرعی لغواً؛ بل الظاهر أنّه بلا فائدة، ولا یثبت به شیء أزید ممّا هو ثابت سابقاً کما وضّحنا فی الدرس السابق، بخلاف الأحکام العقلیة الثابتة بقطع النظر عن الحکم الشرعی من قبیل حکم العقل بحسن العدل وقبح الظلم، هنا لا یلزم من افتراض استکشاف حکم شرعی بوجوب العدل وحرمة الظلم من هذا الحکم العقلی لا یلزم منه اللّغویة؛ لأننّا لم نفترض محرّکیة فی مرحلة سابقة ثابتة بحکمٍ شرعی بضمیمة الحکم العقلی، وإنّما الذی افترضناه فقط هو حکم العقل بحُسن العدل وقبح الظلم، وقلنا سابقاً بأنّ هذا لا ینافی ولا یجعل الحکم الشرعی فی مورد هذا الحکم العقلی لغواً؛ بل تتصوّر له فوائد علی ما بیّنّا سابقاً فلا یکون لغواً، فلا محذور فی استکشاف حکم شرعی من هذه الأحکام العقلیة الثابتة بقطع النظر عن الحکم الشرعی، بخلاف الأحکام العقلیة الثابتة فی مرحلة امتثال الحکم الشرعی وفی طوله، فإنّ افتراض ثبوت حکم شرعی مستکشف من الحکم العقلی یکون لغواً وبلا فائدة ولا یترتّب علیه أثر فی مقام الداعویة والمحرّکیة؛ لأنّ الداعویة هی بنفسها موجودة سابقاً ولا یثبت بالحکم الشرعی أزید من ذلک حتّی یرتفع محذور اللّغویة.

ص: 214

إذن: الکبری التی یذکرها المحقق النائینی(قدّس سرّه) بحسب الظاهر تامّة.

وأمّا الصغری: یعنی تطبیق هذه الکبری علی محل الکلام لإثبات أنّ حکم العقل بُحسن الاحتیاط لا یُستکشف منه الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط. المحقق النائینی(قدّس سرّه) طبّق هذه الکبری فی محل الکلام وأدخل محل الکلام فی القسم الثانی، یعنی أدخل محل الکلام فی الأحکام العقلیة الثابتة فی طول الحکم الشرعی، وقد ذهب إلی استحالة استکشاف الحکم الشرعی فی هذه الحالة، إمّا للزوم التسلسل کما ذکره، أو لعدم الفائدة وللغویة کما ذکرنا. بالنتیجة إذا طبّقنا هذه الکبری علی محل الکلام والتزمنا بأنّ حکم العقل بحسن الاحتیاط هو من قبیل حکم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصیة؛ حینئذٍ یثبت المطلب وهو أنّه لا یمکن استکشاف استحباب الاحتیاط الشرعی المولوی من حکم العقل بحسن الاحتیاط.

هذه الصغری أیضاً وقعت محل مناقشة، بمعنی أنّه علی تقدیر تسلیم الکبری، وقد عرفت أنّها صحیحة وثابتة، إمّا أنْ نعترف بثبوت الکبری، وإمّا أنْ نأخذها ثابتة ومسلّمة، وعلی تقدیر ثبوتها نتکلّم فی انطباق هذه الکبری علی محل الکلام. استُشکل أیضاً فی هذا الانطباق بأمرین:

الأمر الأوّل: أنْ یقال بأنّها لیست مصداقاً لهذه القاعدة، بمعنی أنّها لیست صغری لهذه الکبری، وذلک باعتبار الفرق الواضح بین حکم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصیة وبین حکم العقل بحسن الاحتیاط، فأننّا نجد أنّ المحذور الذی لأجله قیل باستحالة استکشاف الحکم الشرعی من حکم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصیة لا یجری فی استکشاف الحکم الشرعی لاستحباب الاحتیاط من حکم العقل بُحسن الاحتیاط، المحذور لا یجری فی محل الکلام، فلا یقع المقام صغری لتلک الکبری، فی تلک الکبری قلنا أنّ الحکم العقلی الواقع فی طول الأحکام الشرعیة لا یُستکشف منه الحکم الشرعی، إمّا للزوم التسلسل، أو للزوم اللّغویة، والمثال الواضح لذلک هو ما تقدّم من حکم العقل بُحسن الطاعة وقبح المعصیة، أمّا حکم العقل بُحسن الاحتیاط لا یلزم من استکشاف الحکم الشرعی منه، أی استحباب الاحتیاط، لا یلزم کلا المحذورین، لا یلزم اللّغویة کما لا یلزم محذور التسلسل، وهذا معناه أنّ هذا الحکم العقلی بُحسن الاحتیاط لیس مصداقاً وصغری لتلک الکبری، فی الکبری نسلّم التفصیل، لکنّ المقام لیس صغری لتلک الکبری. وأمّا عدم لزوم محذور اللّغویة، فباعتبار أننّا لم نفترض فی هذا الحکم العقلی الذی هو محل الکلام، أی حکم العقل بُحسن الاحتیاط، لم نفترض فیه وجود داعویة شرعیة فی مرحلة سابقة بضمیمة حکم العقل بُحسن الطاعة، بینما افترضنا ذلک فی حکم العقل بُحسن الطاعة وقبح المعصیة، فی حکم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصیة هذا یستبطن افتراض تکلیف شرعی کما مثّلنا من قبیل(أقیموا الصلاة)، و(یحرم شرب الخمر) العقل یقول بلزوم إطاعة هذا التکلیف وقبح معصیته، وبضمیمة حکم العقل إلی الحکم الشرعی؛ حینئذٍ تثبت داعویة ومحرّکیة للمکلّف نحو الامتثال، إذا استکشفنا حکماً شرعیاً من حکم العقل بُحسن الطاعة، هذا الحکم الشرعی هو لا یزید عن ما کان ثابتاً سابقاً، والداعویة التی تثبت به أیضاً تحتاج إلی ضمیمة حکم العقل؛ لأننّا قلنا أنّ التکلیف وحده، مجرّد التکلیف من دون إدراک العقل للزوم الإطاعة وقبح المعصیة لا یکون محرّکاً للعبد، وإنّما یکون التکلیف محرّکاً للعبد بضمیمة حکم العقل، هذه الداعویة والمحرّکیة الثابتة باعتبار التکلیف الشرعی بضمیمة الحکم العقلی هی بنفسها سوف تثبت لو استکشفنا حکماً شرعیاً بوجوب الطاعة وحرمة المعصیة، ولا یثبت به شیء أزید ممّا ثبت سابقاً؛ لأنّ هذا الحکم الشرعی علی تقدیر استکشافه هو عبارة عن حکم بوجوب الطاعة وحرمة المعصیة، هذا لا یکون داعیاً إلاّ بضمیمة حکم العقل، فلا یثبت داعویة إضافیة أزید ممّا ثبت سابقاً، کان عندنا(أقیموا الصلاة) بضمیمة حکم العقل له درجة من الداعویة، استکشفنا حکماً شرعیاً بوجوب الطاعة وحرمة المعصیة، هذا أیضاً لا یکون له داعویة إلاّ بضمیمة حکم العقل بُحسن الطاعة وقبح المعصیة؛ لأنّ التکلیف المجرّد لا یدعو المکلّف للتحرّک إلاّ بضمیمة داعویة العقل ومحرّکیته، وهذا الشیء کان ثابتاً سابقاً، کان هناک حکم شرعی افترضنا وجوده یدعو المکلّف بضمیمة حکم العقل، وداعویته تکون ثابتة، ولا نستکشف شیئاً إضافیاً بالحکم الشرعی الجدید؛ ولذا یکون لغواً، وهذا بخلاف محل الکلام، فی محل الکلام نحن لم نفترض إلاّ حکم العقل بُحسن الاحتیاط، لم نفترض داعویة فی مرحلة سابقة غیر داعویة العقل وإدراک العقل بُحسن الاحتیاط، بینما إذا استکشفنا والتزمنا بأنّ هذا الحکم العقلی بُحسن الاحتیاط یُستکشف منه حکم الشرع باستحباب الاحتیاط لا یلزم من استحباب الاحتیاط المستکشف لغویة؛ لأنّ الداعویة التی تثبت علی تقدیر أنْ یحکم الشارع باستحباب الاحتیاط لم یُفرض وجودها فی مرحلة سابقة حتّی یکون استکشاف هذا الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط لغواً کما هو الحال فی استکشاف وجوب الطاعة وحرمة المعصیة من الحکم العقلی بحسن الطاعة وقبح المعصیة، هنا کان هذا الاستکشاف یلزم منه اللّغویة، بینما فی محل الکلام هذا الاستکشاف لا یلزم منه اللّغویة، لم نفترض داعویة سابقة هی نفس الداعویة التی نثبتها باستکشاف الحکم الشرعی، وإنّما الداعویة التی نثبتها باستکشاف الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط لم تکن موجودة ومفروضة سابقاً حتّی یلزم اللّغویة، بخلاف أصل الکبری فی القسم الثانی من الأحکام العقلیة، فأنّ افتراض استکشاف الحکم الشرعی یلزم منه اللّغویة علی ما ذکرنا سابقاً، ومن هنا لا یکون المقام مصداقاً لهذه الکبری. هذه الکبری صحیحة، ونفرّق علی اساسها بین نوعین من الأحکام العقلیة، لکن الحکم العقلی الذی لا یُستکشف منه الحکم الشرعی هو ما کان من قبیل حُسن الطاعة وقبح المعصیة، لا ما کان من قبیل حکم العقل بُحسن الاحتیاط، المناط فی الحقیقة لیس هو فی وقوع الحکم العقلی فی طول الحکم الشرعی، وإنّما المناط فی التفرقة بین الحکمین العقلیین، وهو أنّه هل یلزم من جعل الحکم الشرعی فی مورد الحکم العقلی محذور ثبوتی من قبیل التسلسل کما قال، أو اللّغویة کما قلنا ؟ هل یلزم ذلک، أو لا یلزم ؟ هذا هو المناط. فی حکم العقل بُحسن الطاعة وقبح المعصیة یلزم من استکشاف الحکم الشرعی فی موردهما هذان المحذوران، التسلسل علی ما قال، أو اللّغویة، بینما من استکشاف استحباب الاحتیاط من حکم العقل باستحباب الاحتیاط لا یلزم اللّغویة؛ لأننّا لم نفترض داعویة فی مرحلة سابقة، وإنّما افترضنا فقط فی المقام إدراک العقل لحُسن الاحتیاط، هل یلزم اللّغویّة من جعل الشارع حکماً مولویّاً باستحباب الاحتیاط؟ لأنّ هذه الداعویة باعتبار الحکم الشرعی، لم تکن مفروضة فی مرحلة سابقة وإنّما المفروض فی مرحلة سابقة هو فقط حکم العقل بُحسن الاحتیاط، فلا مانع من أنْ نستکشف من هذا الحکم العقلی حکماً شرعیاً باستحباب الاحتیاط، کما لا یلزم التسلسل الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، باعتبار أنّ الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط الذی یُراد استکشافه من حکم العقل بحُسن الاحتیاط، هذا الحکم الشرعی لا یترتّب علیه حکم عقلی بلزوم الاحتیاط حتّی یُدّعی التسلسل، باعتبار أنّ العقل لا یستقل بلزوم الاحتیاط فی جمیع الموارد، قد فی موارد معینة من قبیل موارد العلم الإجمالی یستقل بلزوم الاحتیاط، لکن لا یستقل بلزوم الاحتیاط فی جمیع الموارد، فإذن: لو استکشفنا الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط من حکم العقل بحُسن الاحتیاط لا یلزم محذور التسلسل؛ لأنّ هذا الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط لا یترتب علیه حکم عقلی بلزوم الاحتیاط حتّی یتسلسل الحکم العقلی بلزوم الاحتیاط یلازم الحکم الشرعی ...وهکذا حتّی یتسلسل؛ لأنّ العقل لا یحکم بلزوم الاحتیاط فی جمیع الموارد، ما نستکشفه هو حکم الشرع باستحباب الاحتیاط، استکشفناه من حکم العقل بحُسن الاحتیاط، هذا الحکم الشرعی المستکشف باستحباب الاحتیاط لا یترتّب علیه حکم عقلی حتّی یلزم محذور التسلسل.

ص: 215

نعم، قد یقال: بأنّ العقل یحکم بحُسن إطاعة هذا التکلیف المولوی الشرعی المستکشف؛ لأننّا استکشفنا من حکم العقل بحسن الاحتیاط استحباب الاحتیاط شرعاً، قد یقال بأنّ هذا الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط یترتّب علیه حکم عقلی بحُسن إطاعته، ولیس بلزوم إطاعته، وینبغی أنْ نفرّق بین الحُسن وبین اللّزوم، هذا حکم مولوی باستحباب الاحتیاط، یحکم العقل بحُسن إطاعته، بالنتیجة هذا حکم صادر من الشارع بما هو مولی، ویطلب من العبد الاحتیاط، فیحکم العقل بأنّه یحُسن من العبد أنْ یطیع مثل هذا الطلب. إذن: یترتّب علی الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط المستکشف من حکم العقل بحُسن الاحتیاط یترتّب حکم عقلی، لکن نسأل أنّ هذا الحکم العقلی هل هو ثابت بنفس ملاک الحکم العقلی الذی فرضنا وجوده سابقاً، أو بملاکٍ آخر ؟ الجواب أنّه ثابت بملاک آخر، الحکم العقلی الذی فرضناه هو عبارة عن حکم العقل بحُسن الاحتیاط، بملاک الاحتیاط، بملاک إدراک الواقع، وإدراک ملاکات الواقع، بینما هذا الحکم العقلی ------- علی تقدیر ثبوته ------ الذی یترتّب علی حکم الشارع باستحباب الاحتیاط هو حکم عقلی ثابت بملاک حُسن الطاعة للمولی، بملاک قبح المعصیة بمستوً من المستویات، ثابت بملاک إطاعة المولی؛ لأنّ المولی حکم باستحباب الاحتیاط، فهناک استحباب مولوی شرعی للاحتیاط، العقل یقول هذا التکلیف المولوی، ولو علی مستوی الاحتیاط یحسُن إطاعته، هو لا یثبت بملاک الاحتیاط، وإنّما یثبت بملاک الطاعة، فإذن: هذا الحکم العقلی، علی تقدیر استکشافه، وإلاّ فقد قلنا لا یوجد هکذا حکم عقلی، فالعقل لا یحکم بلزوم الاحتیاط، ولا یحکم بقُبح معصیة هذا التکلیف، ولا یحکم بحُسن الاحتیاط مطلقاً، وإنّما یحکم بحُسن الاحتیاط فی موارد معیّنة. فإذن: هذا الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط لا یوجد حکم عقلی علی طبقه فی مورده بأنْ یحکم العقل بلزوم الاحتیاط، فالعقل لا یحکم بلزوم الاحتیاط مطلقاً، وإنّما الذی یمکن أنْ یقال هو أنّ العقل یحکم بحُسن إطاعة هذا التکلیف الشرعی المولوی، فیکون هذا الحکم العقلی ثابت بملاک الطاعة، بینما الحکم العقلی السابق ثابت بملاک الاحتیاط، العقل یحکم بحُسن الاحتیاط، هذا الذی فرضناه سابقاً، بینما الحکم العقلی الذی یُفترض وجوده، ثابت بملاک الطاعة، وهذا غیر ذاک، فلا یلزم التسلسل، بناءً علی ما هو الصحیح وهو أنّ العقل لا یحکم، ولا یوجد عنده حکم حینئذٍ، عنده حکم بحُسن الاحتیاط، وهذا استکشفنا منه استحباب الاحتیاط وانتهی المقام، ولا یترتب علی هذا الحکم الشرعی المستکشف حکم عقلی حتّی یلزم التسلسل، وعلی تقدیر أنْ یثبت حکم عقلی، هو یثبت أیضاً بملاک الطاعة لا بملاک الاحتیاط، فیکون هذا الحکم العقلی غیر ذاک الحکم العقلی، وهذا حتّی لو تسلسل، فأنّه یتسلسل بملاک الطاعة.

ص: 216

وبعبارةٍ أخری: یلزم التسلسل باعتباره مصداقاً لتلک الکبری التی هی أنّ الأحکام العقلیة بحُسن الطاعة وقبح المعصیة، استکشاف الحکم الشرعی منها یلزم منه المحذور لا أنّه یتسلسل بالملاک الذی نتحدّث عنه وهو أنّ العقل یحکم بحُسن الاحتیاط، هذا الحکم العقلی بحُسن الاحتیاط استکشاف الحکم الشرعی منه باستحباب الاحتیاط لیس فیه محذور اللّغویة ولیس فیه محذور التسلسل، ومن هنا لا یقع صغری لتلک الکبری.

الملاحظة الثانیة: علی جعل المقام صغری لتلک الکبری ومنع استکشاف الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط من حکم العقل بحُسن الاحتیاط، تتلخّص الملاحظة الثانیة فی أنّ الحکم الذی یقع مورداً لهذه الکبری هو عبارة عن الحکم العقلی الذی یکون الحکم الشرعی الذی یُراد استکشافه منه علی أساس الملازمة فی القسم الأوّل من القسمین العقلیین السابقین، أو یُمنع من استکشافه من الحکم العقلی کما فی القسم الثانی من الحکمین العقلیین یلزم أنْ یکون من سنخ الحکم العقلی. الحکم الشرعی الذی یُراد استکشافه من الحکم العقلی، أو یُراد نفی استکشافه، یلزم أنْ یکون هذا الحکم الشرعی من سنخ الحکم العقلی حتّی یمکن فرض الاستکشاف، وإلاّ لامعنی للاستکشاف، ولا لنفی الاستکشاف، حتّی یمکن فرض استکشاف هذا من ذاک لابدّ أنْ یکون من سنخه.

إذن: لابدّ أنْ یکون محل الکلام هو عبارة عن حکم شرعی نتکلّم عن استکشافه من الحکم العقلی، أو عدم استکشافه، أنْ یکون من سنخ الحکم العقلی حتّی یدخل مصداقاً لهذه الکبری ومورداً لهذه القاعدة، من قبیل حکم العقل بحسن العدل، وحکم العقل بقبح الظلم، هنا ما یراد استکشافه هو عبارة عن حکم الشارع بوجوب العدل وهو من سنخ حکم العقل بحسن العدل. ما یُراد استکشافه هو حکم الشارع بحرمة الظلم وهو من قبیل حکم العقل بقبح الظلم ومن سنخه، فیدخل فی القاعدة. وهکذا فی القسم الثانی ما یُراد نفی استکشافه، ایضاً هو من قبیل الحکم العقلی، الحکم العقلی فی القسم الثانی یحکم بحُسن الطاعة، وقبح المعصیة، وما یُراد نفی استکشافه هو حکم الشارع بوجوب العدل، وهو من قبیل حکم العقل بحُسن العدل، ما یراد نفی استکشافه هو حکم الشارع بحرمة الظلم، وهو من قبیل حکم العقل بقبُح الظلم.

ص: 217

وأمّا إذا کان من غیر سنخه، فهذا لا یصلح أنْ یکون صغری لهذه الکبری، ومانحن فیه من هذا القبیل، باعتبار أنّ الاستحباب الشرعی للاحتیاط الذی یُراد استکشافه من حکم العقل بحُسن الاحتیاط لیس من سنخ حکم العقل بحُسن الاحتیاط، وذلک باعتبار أنّ هناک فرقاً بین الاستحباب الشرعی للاحتیاط وبین حکم العقل بحُسن الاحتیاط، حکم العقل بحُسن الاحتیاط لا یثبت للاحتیاط مطلقاً، وإنّما یدرک العقل حُسن الاحتیاط إذا جیء به علی نحو قربی، أی إذا جاء به العبد متقرّبا إلی الله(سبحانه وتعالی) حینئذٍ یدرک العقل حُسن الاحتیاط، أمّا إذا جاء به لا علی نحو التقرّب إلی الله(سبحانه وتعالی) وإنّما جاء به لغرضٍ آخر من قبیل التحرّز عن الضرر ------ مثلاً ------، مثل هذا لا یحکم العقل بحُسنه. ترک شرب العصیر العنبی الذی یحتمل حرمته تارةً یکون هذا الترک بداعٍ قربی، فهذا احتیاط حسن بنظر العقل. وأخری لا یکون بداعٍ قربی، وإنّما یکون لغرضٍ آخر، مثل هذا الترک والاحتیاط لا یحکم العقل بحُسنه، والغالب أنّه بنکتة أنّ ما یحکم به العقل هو حُسن التقرّب إلی الله(سبحانه وتعالی)، فالاحتیاط إنْ تعنون بهذا العنوان یحکم العقل بحُسنه، وإنْ لم یتعنون بهذا العنوان، فلا یحکم العقل بحسنه.

إذن: حکم العقل بحُسن الاحتیاط لیس مطلقاً، وإنّما هو مقیّد بذلک. هذا الحکم العقلی. أمّا إذا أتینا إلی الحکم الشرعی الذی یُراد استکشافه وهو استحباب الاحتیاط، فسنجد أنّ الاستحباب ثابت لمطلق الاحتیاط، ولیس مشروطاً فی الاستحباب أنْ یکون المکلّف قد جاء بالاحتیاط علی نحوٍ قربی، وإنّما الاحتیاط مطلقاً مستحب، سواء إنْ جاء به المکلّف بنحو قربی، أو جاء به لا بذلک النحو، وذلک باعتبار أنّ الاحتیاط عبارة عن إدراک الواقع وتجنّب مخالفة الواقع، فإذا دلّ دلیل علی استحباب الاحتیاط وثبت استحباب الاحتیاط شرعاً، فهذا هو المطلوب، أنْ یتجنّب مخالفة الواقع، وأنْ یدرک الواقع علی کل حال، وهذا یتحققّ سواء جاء به بنحوٍ قربی وبداعٍ مقرّب، أو جاء به لغرضٍ آخر لا یتقرّب به إلی الله(سبحانه وتعالی) علی کل حال هو یدرک الواقع، ویتجنّب مخالفة الواقع، فیکون مستحبّاً، الحکم بالاستحباب لا یختص بخصوص الاحتیاط الذی یؤتی به بداعٍ قربی بل یثبت مطلقاً.

ص: 218

إذا تمّ هذان الأمران فی الحکم العقلی وفی الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط؛ حینئذٍ یثبت أنّ الحکم الشرعی الذی یُراد استکشافه هو لیس من سنخ الحکم العقلی المفروض ثبوته فی المقام، فإذا لم یکن من سنخه أصلاً لا یکون مورداً لهذه الکبری؛ لأننّا قلنا أنّ ما یکون مورداً للکبری هو عبارة عن الحکم الشرعی الذی یُراد استکشافه، أو یُنفی استکشافه، إذا کان هذا الحکم الشرعی من سنخ الحکم العقلی الذی یراد استکشاف هذا الحکم الشرعی منه، أو یُراد نفی استکشافه؛ لِما قلناه، وإلاّ لا معنی للاستکشاف، لا معنی لأنْ نستکشف هذا من هذا إذا لم یکن من سنخه، إنّما الاستکشاف یکون له معنی، ونفی الاستکشاف أیضاً کذلک، إنّما یکون له معنی عندما یکون من سنخه، وإلاّ فلا معنی لاستکشافه، أو نفی استکشافه. فی محل الکلام الحکم الشرعی الذی نتکلّم عن استکشافه هو لیس من سنخ الحکم العقلی.

فإذن: لا یکون صغری لهذه الکبری؛ وحینئذٍ تکون هذه ملاحظة ثانیة علی الصغری التی ذکرها المحقق النائینی(قدّس سرّه).

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی

الکلام فی أنّ حکم العقل باستحباب الاحتیاط هل هو من قبیل حکم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصیة فی أنّه لا یمکن استکشاف الحکم الشرعی منه بقاعدة الملازمة، هل هو من قبیل القسم الثانی من القسمین المتقدّمین فی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) أو أنّه لیس من هذا القبیل ؟ هذه المناقشة الصغرویة.

قلنا بأنّه استُشکل فی ذلک بإشکالین:

الإشکال الأوّل: فی کون المقام من قبیل حکم العقل بحسن الطاعة الذی فرغنا عن إمکان استکشاف الحکم الشرعی منه، هل هو من هذا القبیل أو لا ؟ الأشکال الأوّل کان مبنیّاً علی أنّه لیس من قبیله؛ لأنّ المناط فی التقسیم السابق للحکمین العقلیین وإنْ ذُکر فی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه)، لیس المناط هو کون الحکم العقلی واقعاً فی طول الحکم الشرعی، أو واقعاً بقطع النظر عنالحکم الشرعی، لیس هذا هو المیزان حتّی یقال بأنّ حکم العقل بحسن الطاعة بالنتیجة أیضاً واقع فی طول الأحکام الشرعیة المحتملة، المیزان فی القسم الثانی لیس هو کونه واقعاً فی طول الحکم الشرعی حتّی نقول أنّ حکم العقل بحسن الطاعة کذلک، وإنّما المیزان فی التفرقة بین القسمین من الأحکام العقلیة هو أنّ الحکم العقلی إنْ کان هناک محذور فی استکشاف الحکم الشرعی منه، فهو من قبیل القسم الثانی، وإنْ لم یکن هناک محذور؛ فحینئذٍ لا مانع من استکشاف الحکم الشرعی منه، وإنّما قلنا بأنّ الحکم العقلی بحُسن الطاعة وقبح المعصیة یختلف عن الحکم العقلی بحُسن العدل وقبح الظلم، الاختلاف بینهما یکون فی أنّ استکشاف الحکم الشرعی من الحکم العقلی بحُسن الطاعة فیه محذور التسلسل کما یقول المیرزا(قدّس سرّه)، أو اللّغویة کما تقدّم، بینما لا یلزم ذلک من استکشاف الحکم الشرعی من الحکم العقلی بحُسن العدل وقبح الظلم، بناءً علی الملازمة کما هو المفروض، لا یلزم ثبوت محذور، فهذا هو الفارق بینهما، ولیس الفارق بینهما فی أنّ الأوّل واقع وثابت بقطع النظر عن الأحکام الشرعیّة، والثانی ثابت فی طول الأحکام الشرعیّة حتّی یقال أنّ حکم العقل بحُسن الطاعة لابدّ أنْ یکون من قبیل الثانی؛ لأنّه أیضاً واقع بمعنیً من المعانی فی طول الأحکام الشرعیة المحتملة، المیزان هو أنّه هل یلزم محذور من استکشاف الحکم الشرعی من الحکم العقلی، أو لا ؟ بناءً علی هذا الکلام یتّضح أنّ حکم العقل بحُسن الاحتیاط لیس من قبیل حکم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصیة؛ لأنّه لا یلزم محذور من استکشاف الحکم الشرعی منه، لا اللّغویة کما بیّنا فی الدرس السابق ولا التسلسل، فإذن: هو لیس مصداقاً للکبری، لیس مصداقاً للقسم الثانی الذی فرغنا عن أنّه لا یمکن استکشاف الحکم الشرعی منه.

ص: 219

الظاهر أنّ هذه الملاحظة تامّة وتوجب الإشکال فی کون محل الکلام من قبیل حکم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصیة فی عدم إمکان استکشاف الحکم الشرعی منه؛ بل الصحیح عدم وجود محذور ثبوتی فی هذا الاستکشاف، لا التسلسل، ولا اللّغویة.

الإشکال الثانی: وقد بیّناه فی الدرس السابق وکان حاصله: إنّما یکون المورد مورداً للکبری المتقدّمة فیما إذا کان الحکم الشرعی الذی یراد استکشافه من الحکم العقلی، أو یراد نفی استکشافه من الحکم العقلی هو من سنخ الحکم العقلی، وأمّا إذا کان من غیر سنخه، فلا معنی لهذا الاستکشاف، ولا معنی لنفی الاستکشاف، الاستکشاف یعنی أنّ هذا ناشئ من هذا، فلابدّ أنْ یکون من قبیله حتّی یکون مستکشفاً منه. الإشکال یقول: أننّا نلاحظ أنّ الحکم العقلی بحُسن الاحتیاط لیس من سنخ الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط، الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط ثابت للاحتیاط مطلقاً وإنْ لم یأتِ به بقصد القربی، بینما الحکم العقلی بحُسن الاحتیاط لیس ثابتاً للاحتیاط مطلقاً، وإنّما هو ثابت له بقید أنْ یأتی به بقصد القربی، إذن: هو لیس من سنخه، فإذا لم یکن من سنخه یخرج عن موضوع القاعدة، وعن الکبری المتقدّمة والتقسیم المتقدّم. إذن: هو لیس صغری لما تقدّم.

من الواضح أنّ هذا الإشکال یتوقّف علی الالتزام بأنّ الحکم العقلی بحُسن الاحتیاط لیس مطلقاً؛ بل هو مقیّد بما إذا کان بقصد التقرب إلی الله(سبحانه وتعالی).

قد یقال: أنّ هذا لا یمکن الالتزام به؛ لأنّ هذا یؤدی فی الحقیقة والواقع إلی إنکار هذا الحکم العقلی، یؤدی إلی أننّا ننکر أنْ یکون هناک حکم عقلی بحُسن الاحتیاط، مآله إلی إنکار وجود حکم عقلی بحُسن الاحتیاط، وإنّما الذی یحکم العقل به هو حُسن التقرّب إلی الله(سبحانه وتعالی)، هذا الذی یدرکه العقل، التقرّب إلی الله(سبحانه وتعالی) هو حسن بنظر العقل، فإذا انطبق هذا علی الاحتیاط؛ حینئذٍ یکون الاحتیاط حسناً عقلاً، وإنْ لم ینطبق، فلا یکون حسناً عقلاً. إذا جاء المکلّف بالاحتیاط قربةّ إلی الله(سبحانه وتعالی) یکون حسناً، وإذا جاء بالاحتیاط لا لذلک؛ بل لغرضٍ آخر لا یکون حسناً، هذا معناه فی الحقیقة والواقع إنکار أنْ یکون للعقل حکم بحُسن الاحتیاط، فإذن: لا خصوصیة للاحتیاط حتّی یحکم العقل بحُسنه، وإنّما یحکم العقل بحُسنه باعتباره تقرّباً إلی الله(سبحانه وتعالی)، فلابدّ أنْ یقصد المکلّف التقرّب حتّی یقال بأنّه حسن بنظر العقل، فی حین أنّ الصحیح بحسب ما ندرکه هو أنّ العقل یدرک حُسن الاحتیاط بعنوانه لا باعتباره تقرّباً إلی الله(سبحانه وتعالی)، وإنّما بعنوانه یدرک حُسنه حتّی لو لم یأتِ به بنحوٍ قربی، باعتباره إدراکاً للحکم الواقعی المحتمل، حرمة، أو وجوباً، وتجنّباً لمخالفة الواقع، ولیس باعتباره مقرّباً إلی المولی، وإنّما الاحتیاط فی حدّ نفسه هو إدراک للواقع، وإحراز للواقع، وفیه تجنّب عن مخالفة الحکم الواقعی المحتمل، هذا فی حدّ نفسه هو أمر حسن سواء جاء به بنحو قربی، أو لم یأتِ به بنحوٍ قربی، هذا أمر حسن یدرکه العقل، فلا داعی لأنکار أنْ یکون هناک حکم عقلی بحُسن الاحتیاط بما هو احتیاط، ولیس باعتبار کونه مقرباً إلی الله(سبحانه وتعالی).

ص: 220

وبعبارةٍ أخری: أنّ الکلام لیس فی العبادات، العبادات سیقع الکلام فیها فی المقام الثانی، نحن نتکلّم عن الاحتیاط فی الشبهات بقطع النظر عن أنْ یکون المحتمل عبادة، فیمکن أنْ نفترضه واجباً توصّلیاً، أو حراماً توصّلیاً بقطع النظر عن العبادة، شخص یحتمل أنّ شرب النبیذ حرام، فیترک شرب النبیذ احتیاطاً، هذا یمکن تصوّره علی نحوین:

النحو الأوّل: أنْ یحتاط بترک شرب النبیذ الذی یحتمل حرمته قربة إلی الله(سبحانه وتعالی)، ولاحتمال أنْ یکون الشارع قد حرّم هذا؛ حینئذٍ یکون قد جاء بالاحتیاط بنحوٍ قربی.

النحو الثانی: أنْ یترک شرب النبیذ لا لذلک؛ بل لغرض آخر، لا لکونه محتمل الحرمة شرعاً الذی یحققّ القربیة، وإنّما لغرضٍ الآخر. هذا الثانی فرضاً لا یحققّ القربیة، ولا یجعل العمل عبادة؛ لأنّه لم یقصد به التقرّب، لکن هذا الاحتیاط فیه إدراک للواقع، وفیه تجنّب لمخالفة الواقع، وفیه إدراک للملاکات الواقعیة التی تدور الأحکام الشرعیة مدارها، هذا فی حدّ نفسه أمر حسن یحکم العقل بحُسنه، فلماذا ننکر حکم العقل وإدراکه لحُسن الاحتیاط؟ هذا رأی.

نتیجة هذا الرأی هو: أنّه لا فرق حینئذٍ بین الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط وبین حکم العقل بحُسن الاحتیاط فی أنّهما من سنخ واحد؛ لأنّ کلاً منهما ثابت للاحتیاط مطلقاً، الاستحباب ثابت للاحتیاط مطلقاً، والحُسن العقلی أیضاً ثابت للاحتیاط مطلقاً لا للاحتیاط بقید أنْ یؤتی به بقصد التقرّب؛ بل الأعم من هذا، فیکونان من سنخ واحد؛ فحینئذٍ یرتفع هذا الإشکال الثانی.

فی المقابل قد یقال: أنّ التحقیق فی هذه المسألة منوط بتحدید معنی الاحتیاط أوّلاً. ما هو الاحتیاط ؟ هل قصد القربی مأخوذ فی مفهوم الاحتیاط، أو لیس مأخوذاً فی مفهوم الاحتیاط ؟ هل الاحتیاط یُراد به التحرّز عن مخالفة الواقع بترک ما یُحتمل حرمته، أو فعل ما یُحتمل وجوبه لاحتمال الحرمة شرعاً ولاحتمال الوجوب شرعاً ؟ أو أنّ الاحتیاط هو عبارة عن التحرّز عن مخالفة الواقع من دون قید موافقة الوجوب المحتمل، أو الحرمة المحتملة ؟ الاحتیاط هو أنْ یترک ما یحتمل حرمته موافقة للواقع، ولیس أنْ یترک ما یحتمل حرمته لاحتمال أنْ یکون حراماً شرعاً، وإنّما الاحتیاط عبارة عن إدراک الواقع، والتحرّز عن مخالفته، وإدراک المصالح الواقعیّة، لکن لیس مأخوذاً فیه أنْ یفعل ذلک قربة إلی الله(سبحانه وتعالی)، احتمالان:

ص: 221

الاحتمال الأوّل: یقتضی أنْ یکون التقرّب مأخوذاً فی مفهوم الاحتیاط، الاحتیاط هو عبارة عن إدراک الواقع والتحرّز عن مخالفته لاحتمال أنْ یکون حراماً، أو أنْ یکون واجباً، هذا معناه أنّه یأتی به تقرّباً إلی الله(سبحانه وتعالی)؛ لأنّه یأتی به لاحتمال التحریم، فکأنّ قصد القربی مأخوذ فی مفهوم الاحتیاط.

الاحتمال الثانی: قصد القربة لیس مأخوذاً فی مفهوم الاحتیاط، الاحتیاط عبارة عن التحرّز عن مخالفة الواقع، إذا ترک شرب النبیذ فقد تحرّز عن مخالفة الواقع، وادرک المصالح الواقعیة، وتجنّب المفاسد الواقعیة حتّی إذا جاء به لا لأجل احتمال حرمته، أو ترکه لا لأجل احتمال حرمته، وإنّما ترکه لغرض آخر، هذا هو الاحتیاط. ما هو الصحیح منهما، وما معنی الاحتیاط ؟

الظاهر أنّه لا یُفهم من الاحتیاط إلاّ المعنی الثانی، بمعنی أننّا لا نفهم من الاحتیاط أخذ قصد القربی فی مفهومه، الاحتیاط عبارة عن تجنّب مخالفة الواقع، وفعل ما یکون موافقاً للواقع، وإدراک الواقع، وتجنّب مخالفته، وإدراک المصالح الواقعیة، لکن لا یُشترط فیه أنْ یفعل ذلک بداعی قربی، وبقصد القربی، مادة الاحتیاط لا تساعد علی ذلک، وإنمّا هو عبارة عن التحرّز کما قلنا عن مخالفة الواقع ولیس أکثر من ذلک.

إذن: قصد التقرّب لم یؤخذ فی مفهوم الاحتیاط؛ ولذا لو تمّت مقدّمات الاستکشاف واستکشفنا الاستحباب، أو لنقل أنّ الاستحباب الشرعی علی تقدیر ثبوته للاحتیاط یثبت مطلقاً، لا أنّه یثبت له بقصد أنْ یأتی به بداعٍ قربی؛ لأنّ الاحتیاط معناه مطلق ولم یؤخذ فیه قصد التقرّب.

هناک بحث آخر أیضاً یتوّقف علیه الوصول إلی النتیجة، وهو أنّه علی التقدیر الثانی الذی هو الظاهر، وهو أنّ قصد التقرّب لم یؤخذ فی مفهوم الاحتیاط، نأتی إلی الحکم العقلی بالحُسن، العقل ماذا یدرک ؟ العقل عندما یحکم بحُسن الاحتیاط، هذا الاحتیاط الذی یحکم العقل بحُسنه، أو یدرک حُسنه، أیّ احتیاطٍ هو ؟ هل هو عبارة عن الاحتیاط بقصد التقرّب ؟ بأی نحو من أنحاء التقرّب، ولو کما قلنا یترک الفعل المحتمل الحرمة لاحتمال الحرمة، أو یفعل الفعل المحتمل الوجوب لاحتمال الوجوب، هذا أیضاً قصد قربی، هل ما یحکم العقل بحُسنه هو هذا فقط ؟ موافقة الواقع وتجنّب مخالفته، وإدراک الملاکات الواقعیة، لکن إذا جاء بها بداعٍ قربی، أو أنّ العقل یحکم بحُسن الاحتیاط مطلقاً ؟ حتّی لو قلنا بأنّ الاحتیاط هو عبارة عن ذات التجنّب وذات الموافقة للواقع ولم یؤخذ فیه قصد القربی، فیُثار هذا البحث؛ لأننّا نحتمل أنّ ما یحکم العقل بحُسنه لیس هو الاحتیاط بمفهومه الذی تقدّم؛ بل یضیف له قیداً، وهو أنْ یؤتی به بقصد القربی، وإنْ لم یؤخذ فی مفهومه. یحکم العقل بحُسن إدراک الواقع وتجنّب مخالفته، والاحتیاط بمعناه المتقدّم السابق، هذا الذی یحکم العقل بحُسنه، سواء کان بقصد القربی، أو لم یکن بقصد القربی.

ص: 222

الظاهر فی هذا البحث الثانی: أنّ العقل لا یدرک حسن الاحتیاط مطلقاً، وإنّما ما یدرکه العقل هو حُسن الاحتیاط إذا جاء به المکلّف بداعی التقرّب إلی الله(سبحانه وتعالی)، هذا هو الذی یدرکه العقل، وأمّا أزید من ذلک، أنْ یدرک العقل حُسن الاحتیاط ولو لم یأتِ به المکلّف بقصد قربی، فهذا غیر واضح، وإنْ کنّا نسلّم بأنّ الاحتیاط فیه إدراک للواقع وللمصالح الواقعیة، وتجنّب مخالفة الواقع والأحکام التکلیفیة الواقعیة المحتملة، لکن الکلام فی أنّ المحتاط لماذا یأتی بذلک ؟ هل یقصد التقرّب، أو لا ؟ إذا قصد التقرّب، فلا إشکال فی أنّ العقل یحکم بحُسن الاحتیاط حینئذٍ، أمّا إذا لم یقصد التقرّب، لا یترک ما یحتمل حرمته لاحتمال حرمته، وإنّما یترک ما یحتمل حرمته ریاءً، أو سمعة، أو یترک ما یحتمل حرمته غافلاً، بالنتیجة هو أدرک الواقع، تجنّب المفاسد الواقعیة؛ لأنّه ترک ما یحتمل حرمته، کل هذه المعانی متوفرة فیه، لکن هل یمکن أنْ نقول أنّ العقل یحکم بحُسن هذا الاحتیاط ؟ من غیر الواضح وجود حکم عقلی جزمی بحُسن الاحتیاط فی هذه الحالة، خصوصاً فی حالات الریاء والسمعة والغفلة، وفی حالات ما إذا جاء بالاحتیاط لغرضٍ دنیوی آخر لیس له علاقة بالمولی إطلاقاً، لا أنّه یترک بالفعل لاحتمال أنّه حرام، فترک الفعل لاحتمال أنّه حرام هو من أرقی أنواع الطاعة ویحکم العقل بحُسنه بلا إشکال، وإنّما یترکه لغرض آخر، هل یحکم العقل بحُسنه ؟ لا یمکن القول بأنّ العقل یحکم بحُسنه حینئذٍ. الذی یمکن الجزم به هو أنّ العقل یحکم بحُسن الاحتیاط إذا أضیف هذا الاحتیاط إلی المولی(سبحانه وتعالی) بنحوٍ من أنحاء الإضافة، وما عدا ذلک لا وضوح فی وجود حکم عقلی بالحُسن.

ص: 223

وبعبارة أکثر وضوحاً: أنّ الظاهر أنّ حکم العقل بحُسن الاحتیاط المسلّم بلا إشکال، ملاکه الانقیاد إلی أمر المولی، ومن الواضح أنّ هذا الانقیاد لا یتحققّ إلاّ إذا أضیف الاحتیاط إلی المولی بنحوٍ من أنحاء الإضافة، وأمّا إذا جاء به لا بهذا النحو؛ فحینئذٍ هذا لیس انقیاداً، الانقیاد مأخوذ فیه أنْ یترکه لاحتمال أنّ الشارع حرّمه، أو یأتی به لاحتمال أنّ الشارع أوجبه هنا یتحققّ قصد القربی، فتکون فیه إضافة، هذا یحکم العقل بحُسنه بلا إشکال، کلامنا فی ما عدا ذلک، فی غیر هذه الحالة، هل یحکم العقل بالحُسن، أو لا ؟ وبهذا نصل إلی أنّ الإشکال الثانی أیضاً وارد علی کون المقام صغری للکبری السابقة، بمعنی أنّ الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط الذی یراد استکشافه من الحکم العقلی هو لیس من سنخ الحکم العقلی؛ لأنّ الاستحباب علی تقدیره هو استحباب ثابت للاحتیاط مطلقاً، وإنْ لم یکن بقصد القربی، بینما ما یحکم العقل بحسنه هو عبارة عن الاحتیاط إذا قُصد به التقرّب وأُضیف إلی المولی(سبحانه وتعالی).

ومن هنا یظهر أنّه علی تقدیر الإیمان بالملازمة بین ما حکم به العقل وما حکم به الشرع لا محذور فی صیرورة الحکم العقلی بحُسن الاحتیاط منشئاً لاستحبابه شرعاً حتّی لو سلّمنا الکبری المیرزائیة المتقدّمة، فی القسم الثانی ممّا یقوله المیرزا(قدّس سرّه) نسلّم أنّه لا یمکن استکشاف الحکم الشرعی من حکم العقل بحُسن الطاعة وقبح المعصیة، إمّا للزوم اللّغویة، أو التسلسل کما یقول، حتّی علی تسلیم الکبری فی المقام لا مانع من استکشاف الحکم الشرعی؛ لأنّ المقام لیس صغری لتلک الکبری، فإذا سلّمنا الملازمة، فلا محذور فی استکشاف استحباب الاحتیاط من حکم العقل بحُسن الاحتیاط، حتّی إذا سلّمنا تلک الکبری، وبالنتیجة کل هذا موقوف علی التسلیم بالملازمة، لکنّک عرفت أنّ الملازمة أساساً لیست ثابتة، وبهذا یبطل الطریق الثانی لاستکشاف الاستحباب؛ لأنّ الطریق الثانی لاستکشاف الاستحباب کان مبنیّاً علی الملازمة بین ما یحکم به العقل وبین الحکم الشرعی، فإذا أنکرنا الملازمة لا مجال لاستکشاف الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط من حکم العقل بحُسن الاحتیاط.

ص: 224

نعم، یبقی الطریق الأوّل، وهو استکشاف الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط من الأخبار المتقدّمة التی استدل بها الأخباریون علی وجوب الاحتیاط، فأنّه بعد أنْ فرغنا عن عدم إمکان حملها علی ظاهرها وهو الوجوب لما تقدّم سابقاً؛ حینئذٍ تُحمل علی الاستحباب، فیُستکشف الاحتیاط من هذه الأخبار، واستکشاف الاحتیاط من هذه الأخبار خالٍ عن الإشکال، فتکون هی المنشأ لاستحباب الاحتیاط، ولا مشکلة فی استکشاف استحباب شرعی مولوی طریقی الذی هو محل کلامنا، حیث أنّ محل کلامنا فی الاستحباب الطریقی ولیس فی الاستحباب النفسی؛ لأنّ الاستحباب النفسی خارج عن محل الکلام ولا إشکال فی إثباته، افتراض استحباب شرعی للاحتیاط لا محذور فیه علی ما تقدّم، نستکشف کون هذا الاستحباب مولویاً من نفس الأخبار، بناءً علی القاعدة المتقدّمة أنّ الأصل فی کلام الشارع فی هذا المجال هو أنْ یکون صادراً منه بما هو مولی لا أنّه صادر منه بما هو مرشد ومنبّه، فنأخذ بهذا الظهور الأوّلی ما لم تقم قرینة علی الإرشاد، وحیث لا قرینة علی الإرشاد، فنأخذ بهذا الأصل الأوّلی ونحمل الاستحباب علی کونه مولویّاً، وأمّا أنّه طریقی الغرض منه هو التحرّز عن مخالفة الواقع، فهذا واضح؛ لأنّ هذا شیء مأخوذ فی نفس الاحتیاط، فالاحتیاط عبارة عن التحفّظ علی الواقع والتحرّز عن مخالفته، والمنظور فی الاحتیاط هو إدراک الواقع وتجنّب مخالفته، وهذا معنی أنّ الاحتیاط المستحب احتیاط طریقی، هذا لا مانع من استکشافه من الأخبار بشکل عام من دون التدقیق فی الأخبار وأنّه من أیّ لسانٍ یُستفاد، لکن إذا فرضنا أنّ هناک أخباراً تدل علی وجوب الاحتیاط وتعذّر حملها علی الوجوب لوجود أخبار تدلّ علی البراءة؛ حینئذٍ لا یبقی محذور فی حملها علی الاستحباب، ولا مشکلة فی افتراض الاستحباب المولوی الطریقی. هذا کلّه فی المقام الأوّل.

ص: 225

المقام الثانی: حکم الاحتیاط فی العبادات.

العبادات لها خصوصیّة، الکلام فی هذا المقام یقع بعد أنْ فرغنا فی المقام الأوّل عن حُسن الاحتیاط عقلاً؛ بل فرغنا ----- إذا تمّ الکلام الأخیر ----- عن استحبابه شرعاً، إذن، الاحتیاط حسن عقلاً، ومستحب شرعاً علی ما تقدّم، یقع الکلام فی أنّه کیف یمکن تصوّر الاحتیاط فی العبادات؛ لأنّ تصوّر الاحتیاط فی الواجبات التوصّلیة لا مشکلة فیه؛ لأنّ المطلوب فی التوصّلیات هو تحققّ الفعل فی الخارج بأیّ نحوٍ افتُرض تحققّه، مجرّد أنْ یتحققّ الفعل فی الخارج؛ حینئذٍ هذا هو المطلوب فی باب التوصّلیات، ولا یُشترط فی تحققّه ------ فی المطلوب فی التوصّلیات ------ أنْ یؤتی به بقصد القربی، فلا مشکلة فی الاحتیاط فی التوصّلیات، یحتمل أنّ هذا حرام، فیترکه، أو یحتمل أنّه واجب، فیفعله، لکن المشکلة موجودة فی ما إذا کان الشیء عبادة وأردنا أنْ نحتاط فی تلک العبادة، وفرضنا أننّا شککنا فی أنّ هذه العبادة واجبة، أو لا ؟ ویجب أنْ نفترض أنّ الأمر لا یدور بین الوجوب والاستحباب، وإلاّ أیضاً لا توجد مشکلة فی العبادات إذا دار الأمر بین الوجوب والاستحباب؛ لأنّه فی هذه الحالة یحرز المکلّف الطلب من المولی، غایة الأمر أنّه یشکّ فی أنّ هذا الطلب، أو الأمر وجوبی، أو استحبابی، لکن الطلب موجود، فلا مشکلة فی تصوّر الاحتیاط فی العبادة حینئذٍ؛ لأنّه بإمکانه أنْ یأتی بهذه العبادة المحتملة الوجوب بقصد امتثال أمرها؛ لأنّه یحرز تعلّق الأمر بهذه العبادة، وإنْ کان یشکّ أنّه واجب، وأنّه علی نحو الوجوب، أو علی نحو الاستحباب ؟ الکلام لیس فی هذا، الکلام فیما إذا دار الأمر بین الوجوب والإباحة ----- مثلاً ----- أو بین الوجوب واللّغویة کما فی تقریرات السید الخوئی(قدّس سرّه) (1) یعنی أنّ هذه العبادة إمّا أن تکون واجبة، أو تکون لغواً.

ص: 226


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 296.

الإشکال یقول: کیف یمکن تصویر الإتیان بما یشکّ فی وجوبه ویحتمل أنّه لیس واجباً، وإنّما هو مباح أو لغو، یأتی به علی نحو عبادی، والحال أنّ العبادة مشروطة بقصد امتثال الأمر، ولا یستطیع المکلّف أنْ یقصد امتثال الأمر إلاّ إذا جزم بوجوده، فتتحققّ العبادیة، وأمّا إذا کان شاکّاً بالأمر وغیر عالم به؛ حینئذٍ کیف یمکن أنْ یأتی به علی نحو عبادی؛ لأنّ کونه عبادة مشروط بقصد امتثال الأمر، وهذا إنّما یمکن عندما یکون جازماً بالأمر، وأمّا مع عدم الجزم بالأمر والشکّ فیه، فلا یمکن الإتیان بالفعل علی نحو عبادی، إذن: لا یمکن الاحتیاط فی باب العبادات.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثانی

الکلام فی الإشکال الذی أورد علی إمکان الاحتیاط فی العبادات، والذی کان یقول بأنّ قصد القربة، والإتیان بالعبادة کعبادة غیر ممکن فی حال الشکّ وعدم العلم بالأمر الذی هو المفروض فی محل الکلام، فلا یمکن تصوّر الاحتیاط فی العبادات.

الجواب عن هذا الإشکال: وهو جواب صحیح، وهو أنّ هذا الإشکال إنّما یتوجّه ویکون له وجه عندما نفترض أننّا نختار القول بأنّ عبادیة العبادة تتوقّف علی الاتیان بها بقصد أمرها الجزمی، واشترطنا فی صحّة العبادة قصد امتثال الأمر الجزمی؛ حینئذٍ یتوجه الإشکال کما هو واضح؛ لأنّه لا یتمکّن من امتثال الأمر الجزمی؛ لأنّه لا جزم بالأمر حتّی یقصد امتثاله، والمفروض أنّ عبادیة العبادة تتوقّف علی ذلک، وهو غیر ممکن، إذن، الاحتیاط غیر ممکن فی ظرف الشکّ وعدم العلم.

لکن هذا القول لیس صحیحاً؛ بل الصحیح هو أنّه یکفی فی عبادیة العبادة مجرّد إضافتها إلی المولی(سبحانه وتعالی)، وهذه الإضافة تتحققّ بلا إشکال بالإتیان بالعبادة برجاء احتمال أنْ تکون مأموراً بها، یعنی قصد امتثال الأمر الاحتمالی کقصد امتثال الأمر الجزمی یکون محققّاً لعبادیة العبادة من دون أنْ یکون هناک فرق بینهما فی تحقق عبادیة العبادة، حیث لم یدل دلیل علی اعتبار قصد امتثال الأمر الجزمی فیها؛ بل ما یُستفاد من الدلیل هو أنْ یأتی بالعبادة قربة إلی الله تعالی، مضافة إلی الله تعالی، وکما أنّ هذا یتحقق بقصد امتثال الأمر الجزمی کذلک یتحقق بقصد امتثال الأمر الاحتمالی، بالنتیجة هو جاء بها لله(سبحانه وتعالی) ولم یأتِ بها لغیره، هذه إضافة، والإتیان بالعمل علی هذا ألأساس یُعتبر انقیاداً للمولی وتقرّباً إلیه، وهذا یکفی فی کون العبادة وقعت علی نحو قربی، ونحن لا نرید أکثر من أنْ یقع الفعل بنحوٍ قربی، والمکلّف قد جاء بالعبادة علی هذا النحو سواء قصد امتثال الأمر الجزمی عندما یکون عالماً بوجود الأمر، أو یقصد امتثال الأمر الاحتمالی عندما لا یکون عالما وجازماً بوجود الأمر، علی کلا التقدیرین انبعاثه وتحرّکه یصدق علیه أنّه نحو من التقرّب، وهذا المقدار یکفی فی عبادیة العبادة وصحّتها.

ص: 227

وعلیه: یرتفع الإشکال السابق؛ لأنّه کان مبنیّاً علی افتراض اعتبار قصد امتثال الأمر الجزمی، وأمّا إذا قلنا بعدم اعتبار ذلک، وکفایة قصد امتثال الأمر الاحتمالی، فهذا الإشکال یرتفع من أساسه ولا وجه له إطلاقاً، ولم یُناقش أحد فی کون هذا التحرّک والانبعاث من احتمال الأمر نوعاً من التقرّب إلی المولی، هذه قضیة مسلّمة عند الجمیع ولا إشکال فیها، فالجمیع یسلّمون أنّ الانبعاث عن احتمال الأمر هو نحو تقرّبٍ إلی المولی(سبحانه وتعالی) ویتحققّ به قصد القربة المعتبر فی العبادة.

نعم، تکلّموا فی ناحیة أخری أثارها الشیخ(قدّس سرّه) وهی أنّه هل هناک طولیة بین الامتثال الاحتمالی والاحتمال الجزمی، أو لا ؟ بمعنی أنّه هل یعتبر فی صحة الامتثال الاحتمالی، یعنی الإتیان بالعبادة لاحتمال تعلّق الأمر بها، الذی هو محل کلامنا، هل یعتبر فی ذلک عدم التمکّن من الامتثال الجزمی ؟ بحیث إذا تمکّن من الامتثال الجزمی لا یصح منه الامتثال الاحتمالی، أو لا یُعتبر ذلک ؟ وهذا کلام آخر، لکن الکل یتّفقون علی أنّ التقرّب یتحققّ بالامتثال الاحتمالی کما یتحقق بالامتثال الجزمی، والکل یتّفقون علی أنّ الانبعاث والتحرّک عن الأمر الاحتمالی کالانبعاث والتحرّک عن الأمر الجزمی، کل منهما تقرّب إلی المولی، وکل منهما یتحقق فیه قصد التقرّب المعتبر فی العبادة. وهذا الجواب عن الإشکال لا یُفرّق فیه بین ما یُختار فی باب قصد القربة المعتبر فی العبادة من أنّ الحاکم به هو العقل، أو أنّ الحاکم به هو الشارع، أنّه هل أنّ قصد القربة معتبر فی الغرض من دون أنْ یکون داخلاً فی الأمر ومتعلّق الأمر إطلاقاً بحیث یکون الأمر المتعلّق بالواجبات التوصّلیة کالأمر المتعلّق بالواجبات العبادیة، قصد القربة خارج عن کلٍ منهما، وکما هو خارج ------ قصد القربة ------ ولیس له علاقة بمتعلّق الأمر التوصّلی، أیضاً قصد القربة لیس مأخوذاً فی متعلّق الأمر العبادی، وإنّما قصد القربة فی العبادات دخیل فی الغرض، ویکون معتبراً من ناحیة الغرض، بمعنی أنّ المأمور به یتحققّ، لکن الغرض لا یترتّب علی الواجب العبادی إلاّ إذا جاء به علی نحو قربی، بخلاف الواجب التوصّلی، فأنّ الغرض یتحقق منه حتّی إذا جاء به لا بنحو قربی، ومن هنا یکون الحاکم باعتبار قصد القربة، ولا بدّیة قصد القربة هو العقل، فأنّه هو الذی یحکم باعتبار قصد القربة کما هو رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه). أو نقول أنّ قصد القربة مأخوذ فی متعلّق الأمر المتعلّق بالعبادة، سواء کان فی متعلّق نفس الأمر المتعلّق بالعبادة، أو فی متعلّق أمر آخر سمّاه المحقق النائینی(قدّس سرّه) بمتممّ الجعل بناءً علی استحالة أخذ قصد القربة فی متعلّق الأمر المتعلّق بالعبادة، فقال بأنّه أخذ فی متعلّق الأمر الآخر المتممّ للجعل، فکأنّه علی رأیه هناک أمران، (1) أمر یتعلّق بذات العبادة، وأمر یتعلّق بالعبادة مع قصد امتثال الأمر الأوّل المتعلّق بالعبادة، یعنی بالإتیان بها علی نحو قربی. أمر یتعلّق بذات العبادة فقط ولم یؤخذ فیه قصد القربة، والأمر الثانی یتعلّق بإتیانها علی نحو قربی. علی کل حال هنا یکون الحاکم باعتبار قصد القربة هو الدلیل والشارع. علی کل هذه التقادیر، سواء کان الحاکم هو العقل، أو کان الحاکم هو الشرع، وسواء أخذناه فی متعلّق الأمر المتعلّق بالعبادة، أو أخذناه فی متعلّق أمر آخر متمم للجعل، علی کل هذه التقادیر یصح هذا الجواب، وعند أصحاب کل هذه الأقوال لا إشکال فی أنّ الامتثال الاحتمالی والانبعاث عن احتمال الأمر هو کافی فی تصحیح العبادة، کما هو الحال فی الامتثال الجزمی والانبعاث عن الأمر الجزمی من دون فرقٍ بین هذه الأقوال.

ص: 228


1- أجود التقریرات، تقریرات بحث النائینی للسید الخوئی، ج 1، ص 116.

إذن: لا ینبغی التوقّف فی هذه المسألة، وبالتالی فی إمکان الاحتیاط فی العبادة التی لا یعلم المکلّف تعلّق الأمر بها، وإنّما هو یحتمل تعلّق الأمر بها. نعم، علی الاحتمال الآخر، بناءً علی أنّه یُشترط فی صحّة العبادة قصد الأمر الجزمی یکون هذا الإشکال وارداً لما تقدّم من عدم الجزم بالأمر فی محل الکلام الذی هو الشکّ فی تعلّق الأمر بالعبادة.

قد یقال: حتّی لو ذهبنا إلی الرأی الثانی الذی یقول باعتبار قصد الأمر الجزمی فی صحّة العبادة، مع ذلک یمکن تصحیح الإتیان بالعبادة احتیاطاً؛ بأنْ لا یقصد الأمر المتعلّق بالعبادة حتّی یقال بأنّه لا جزم فیه، فلا یمکن قصده إلاّ علی نحو التشریع، وإنّما ما یقصده هو الأمر المتعلّق بالاحتیاط، یقصد امتثال الأمر بالاحتیاط، فأنّ الأمر بالاحتیاط هو فی واقعه أمر بالعبادة لکن بعنوان الاحتیاط، حیث أنّه شاکّ فی أنّ هذه العبادة مأمور بها، أو لیست مأموراً بها، وهناک أمر بالاحتیاط ولو بنحو الاستحباب، هذا الأمر بالاحتیاط هو فی واقعه أمر بالإتیان بالعبادة، لکن بعنوان الاحتیاط، وهذا أمر جزمی لا شک فیه، تعلّق الأمر بالاحتیاط ولو علی نحو الاستحباب بحسب الفرض أیضاً جزمی نجزم به، أو لا أقل بناءً علی ثبوت استحباب الاحتیاط، هذا أمر معلوم للمکلّف؛ فیمکنه حینئذٍ أنْ یأتی بالعبادة قاصداً امتثال الأمر بالاحتیاط، باعتبار أنّ الأمر بالاحتیاط هو أمر بالعبادة لکن بعنوان الاحتیاط، فیأتی بالعبادة ویقصد امتثال هذا الأمر؛ وحینئذٍ تصح العبادة ویتحققّ الشرط المعتبر فیها وهو قصد الأمر الجزمی، وهنا قصد امتثال الأمر الجزئی، وبذلک یرتفع الإشکال حتّی علی الرأی الآخر.

تکلّموا عن هذا الطرح وعن التخلّص عن هذا الإشکال علی الرأی الآخر، هل هذا الطرح تام، وهل یلزم منه محذور، أو لا ؟ وقد ذکروا محذوراً عقلیاً لهذا الفرض، بأنْ یأتی المکلّف بالعبادة قاصداً امتثال الأمر بالاحتیاط بحیث یکون قصد امتثال الأمر بالاحتیاط هو المصحح لعبادیة العبادة کما هو المطلوب فی المقام؛ لأنّ المصحح لعبادیة العبادة هو قصد الأمر الجزمی المتعلّق بالعبادة، هنا کأنّه محاولة لإثبات تصحیح العبادة بقصد امتثال الأمر بالاحتیاط، قالوا أنّ هذا یلزم منه محذور، والمحذور هو محذور الدور، أو ما یشبه الدور، وذلک باعتبار أنّ الأمر بالاحتیاط یتوقف علی الاحتیاط توقف کل أمر علی متعلّقه، وتوقف کل عارض علی معروضه؛ لأنّ الأمر یعرض علی الاحتیاط، فیکون الأمر متوقفاً علی ما یعرض علیه وهو الاحتیاط، قالوا: فلو أردنا تصحیح الاحتیاط بالأمر لزم الدور؛ لأنّ معنی ذلک أنّ الاحتیاط یتوقف علی الأمر به، بینما الأمر بالاحتیاط کان متوقفاً بحسب الفرض علی الاحتیاط توقف کل عارض علی معروضه، فیلزم شیء یشبه الدور، الأمر بالاحتیاط یتوقف علی الاحتیاط، والاحتیاط لا یمکن أنْ یتوقف علی الأمر به، إذا أردنا تصحیح الاحتیاط فی المقام بالأمر بالاحتیاط، فهذا معناه أنّ الاحتیاط توقف علی الأمر به، والحال أنّ الأمر بالاحتیاط یتوقف علی الاحتیاط، فیلزم شیء من هذا القبیل. وتکلموا کثیراً فی هذه الناحیة، وأنّه ممکن، أو غیر ممکن، وأطالوا الکلام فی ذلک، ولا نری داعیاً فی الحقیقة للدخول فی تفاصیل ذلک باعتبار أنّ کل هذه التفاصیل وکل هذا الکلام مبنی علی فرض غیر صحیح، وهو افتراض اعتبار قصد الأمر الجزمی فی صحّة العبادة. بناءً علی هذا حاولوا التخلّص من الإشکال بقصد الأمر بالاحتیاط، بینما هذا الفرض غیر صحیح، ولیس هو غیر صحیح عند جماعة؛ بل عند الجمیع، الجمیع یتّفقون علی کفایة الأمر الاحتمالی، والظاهر أنّه لا أحد یستشکل فی صحّة العبادة إذا قصد الأمر الاحتمالی، أمّا أنّه مع تمکنه من قصد الأمر الجزمی هل یمکنه الامتثال الاحتمالی، أو لا ؟ فهذه مسألة أخری أشرنا إلیها، لکن لنفترض أنّ المکلّف غیر متمکن من الأمر الجزمی کما هو مفروض فی محل کلامنا، حیث المفروض فی محل کلامنا أنّ المکلّف لا علم له بتعلّق الأمر بتلک العبادة، الجمیع یتّفقون علی کفایة الامتثال الاحتمالی وأنّ الانبعاث عن احتمال الأمر یکون مقرّب إلی المولی سبحانه وتعالی، فیتحقق فیه قصد القربة والإتیان بالفعل بنحوٍ قربی، وکل الأمور المعتبرة فی العبادة تتحقق کذلک، فإذن: لا داعی للدخول فی هذه التفاصیل، ونختم البحث بذلک.

ص: 229

النتیجة: لا إشکال فی إمکان الاحتیاط فی العبادات کما هو ممکن فی غیر العبادات.

هذا تمام الکلام فی التنبیه الثانی من تنبیهات البراءة.

التنبیه الثالث من تنبیهات البراءة

التنبیه الثالث: ما یُسمّی بقاعدة(التسامح فی أدلّة السنن)، أو فی أحادیث من(بلغه). هذا البحث هو من توابع البراءة کما هو مقتضی التسلسل الموجود حیث ذُکر فی تنبیهات البراءة، یکون من توابع البراءة بناءً علی تفسیر الأحادیث التی هی مستند هذه القاعدة والتی هی المدرک فی هذا البحث، تفسیرها بتفسیر؛ فحینئذٍ من المناسب إدراج البحث عن هذه القاعدة فی ذیل البحث عن البراءة وجعلها من تنبیهات البراءة، وهذا التفسیر هو أنْ یقال: أنّ مفاد أخبار(من بلغ) التی هی مدرک هذه القاعدة هو الإتیان بالعمل برجاء موافقة الواقع مع الشکّ فی الحکم، عندما لا یعلم المکلّف بحکم هذا ویشکّ به ولا یثبت عنده ثبوتاً واضحاً، الأخبار تقول لیأتی به برجاء أنْ یکون هذا الشیء الذی بلغه ثابتاً، إذا احتمل استحباب شیءٍ، الذی هو مورد القاعدة، لم یثبت عنده الاستحباب، ولم یدل علیه دلیل تام السند، وإنّما دلّ علیه خبر ضعیف، لا یوجد إلاّ احتمال الاستحباب، الأخبار تقول لیأتی بالفعل برجاء أنْ یکون هذا الاستحباب ثابتاً، ویکون له ثواب حتّی إذا لم یکن ذلک الاستحباب ثابتاً. هذا یناسب جعله من تنبیهات البراءة؛ لأنّه ناظر إلی حثّ المکلّف علی الإتیان بالعمل المشکّوک حکمه، ولو کان حکمه حکماً غیر إلزامی کما هو مورد القاعدة. إذن: کأنّ الأخبار تتحدّث عن حکم الفعل الذی لا یُعلم ما هو حکمه، لیس حکمه الواقعی، وإنّما بمقدار أنّه لو جاء به برجاء أنْ یکون مستحبّاً یکون له ذلک الثواب، فهی تعالج هذه القضیة، فلعلّها تناسب جعلها من تنبیهات البراءة.

ص: 230

لکن إذا فُسّرت الأخبار بتفسیر آخر، بأنْ قیل أنّ المستفاد منها جعل الحجّیة للخبر الضعیف فی الأحکام غیر الإلزامیة، أمّا فی الأحکام الإلزامیة فالحجّة ثابت شرعاً فقط لخبر الثقة، لکن فی الأحکام غیر الإلزامیة تتّسع دائرة الحجّیة لتشمل خبر غیر الثقة، فیکون الخبر الضعیف حجّة لإثبات الحکم الغیر الإلزامی، فکما أنّ خبر الثقة حجّة لإثبات الحکم الإلزامی، خبر الضعیف أیضاً یکون حجّة لإثبات الخبر الغیر الإلزامی، بناءً علی هذا التفسیر؛ حینئذٍ یناسب أنْ تکون هذه القاعدة من توابع خبر الواحد، خبر الواحد إذا کان راویه ثقة، وعادلاً؛ حینئذٍ یکون حجّة ودلّت الأدلة علی حجّیتهّ فی الأحکام الإلزامیة، ویبحث بعد ذلک فی الأحکام غیر الإلزامیة حیث دلّت الأدلة علی أنّ دائرة الحجّیة أوسع من ذلک، وأنّ الحجّیة تثبت حتّی لخبر الضعیف، فالمناسب أنْ یبحث فی ذلک البحث.

علی کل حال، وردت روایات عدیدة وبعضها تام سنداً بلا إشکال، ذکر هذه الروایة الشیخ صاحب الوسائل(قدّس سرّه) فی مقدّمة العبادات فی الباب 18، حیث جمع معظم هذه الروایات وعقد لها باباً مستقلاً، وهذه الروایات بمضمون من بلغه ثواب علی عمل فعمله التماس ذلک الثواب الذی بلغه کان له ذلک الثواب وإنْ لم یکن کما بلغه. (1)

الکلام عن هذه القاعدة یقع فی جهات:

الجهة الأولی: تحدید مفاد هذه الأخبار، حتّی علی ضوء تحدید مفادها نستطیع أنْ نتکلّم فی الجهات الأخری، توجد عدّة احتمالات ثبوتیة فی تعیین وتحدید مفاد هذه الأخبار. السید الخوئی ذکر ثلاثة احتمالات، ورجّح أحد الاحتمالات علی الاحتمالات الباقیة، الاحتمالات التی ذکرها هی (2) :

ص: 231


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 1، ص 81، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح 1، و3، و4، و6، و7، و8، و9.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 301.

الاحتمال الأوّل: أنْ یکون المراد بها هو الإرشاد إلی حکم العقل بحسن الانقیاد والانبعاث من المطلوبیة الاحتمالیة، هناک روایات إرشادیة لا یُستفاد منها حکم مولوی تأسیسی، وإنّما مفادها الإرشاد الصرف إلی حکم العقل بحسن الانبعاث عن المطلوبیة الاحتمالیة، والعقل یحکم بحسن الانبعاث عن المطلوبیة الاحتمالیة، وقلنا سابقاً بأنّ العقل یحکم بحسن کل تقرّب إلی المولی سبحانه وتعالی.

الاحتمال الثانی: أنْ یکون مفاد هذه الأخبار ------ کما أشرنا قبل قلیل ------ هو جعل واسقاط شرائط حجّیة الخبر فی المستحبّات، حیث أنّ أخبار(من بلغ) تُسقط الشرائط المعتبرة فی حجّیة الخبر فی الأحکام الإلزامیة، فاشتراط العدالة والوثاقة، وکل ما نشترط فی حجّیة الخبر فی الأحکام الإلزامیة، أخبار(من بلغ) تُسقِط هذه الشرائط فی المستحبّات، یعنی فی الأحکام غیر الإلزامیة.

وبعبارة أخری: أنّ مفادها هو جعل الحجّیة للخبر الضعیف فی الأحکام غیر الإلزامیة.

الاحتمال الثالث: هو جعل استحباب نفسی موضوعه البلوغ، بمعنی أنّ العمل یکون مستحبّاً علی حدّ استحباب سائر الأفعال الأخری، فیکون العمل مستحباً لکن بالعنوان الثانوی، بعنوان أنّه بلغه ثواب علیه، لا أنّه مستحبّ بعنوانه الأوّلی، لکنّه یکون مستحبّاً نفسیاً بعنوان ثانوی، وهو عنوان أنّه بلغه ثواب علیه، کأنّ هذا العنوان الثانوی عندما عرض علی هذا العمل الذی هو لیس مستحبّاً بعنوانه الأوّلی، عندما عرض علیه أوجب حدوث ملاک ومصلحة فیه تقتضی أنْ یتعلّق به الاستحباب النفسی، فیکون العمل الذی بلغه ثواب علیه مستحبّاً علی حدّ سائر المستحبّات الأخری، وهذا لیس غریباً أنْ یکون عنوان ثانوی یوجب تغیّر الحکم، وهذا لا مشکلة فیه، حیث هناک الکثیر من هذه العناوین التی توجب تغیّر الحکم کعنوان الضرر وعنوان الحرج وغیرها من العناوین، فیکون هناک حکم یُعبّر عنه بالحکم الثانوی، بمعنی أنّه حکم نفسی ثابت بعنوان ثانوی، یعنی لولا العنوان الثانوی هذا الحکم النفسی لا یثبت لذات الفعل، فالبلوغ هو من هذا القبیل.

ص: 232

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثالث بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الثالث

کان الکلام فی تحدید مفاد أخبار(من بلغ) المتقدّمة، وهذه هی الجهة الأولی التی یقع الکلام فیها من هذا البحث، قلنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) فی المصباح ذکر احتمالات ثلاثة: (1)

الاحتمال الأوّل: أنْ تکون الأخبار إرشادیة، أی إرشاد إلی حکم العقل بحسن الانقیاد والاحتیاط.

الاحتمال الثانی: أنْ یکون مفادها استحباب العمل استحباباً نفسیاً واقعیاً، لکن بعنوان ثانوی، وهو بعنوان(البلوغ) العمل بعنوانه الأولی لیس مستحبّاً، لکن عندما یتعنون بعنوان(البلوغ) یکون مستحبّاً استحباباً واقعیاً ثانویاً کما قد تتّصف بعض الأفعال التی لا تکون واجبة بعنوانها الأوّلی، لکنّها قد تتّصف بالوجوب بالعنوان الثانوی، کما إذا أمر بالفعل من تجب طاعته.

الاحتمال الثالث: أنْ یکون مفادها جعل الحجّیّة للخبر الضعیف فی باب المستحبات.

ثمّ ذکر بأنّ المناسب لقاعدة التسامح فی أدلّة السنن هو الاحتمال الثالث، یعنی جعل الحجّیة للخبر الضعیف. وبعبارة أخری: اسقاط شرائط الحجّیة فی باب المستحبات، هذا الذی یناسب عنوان القاعدة الذی هو التسامح فی أدلّة السنن، السنن والأحکام غیر الإلزامیة نتسامح فی أدلّتها، فلا یُشترط فیها الشرائط التی تشترط فی الأحکام الإلزامیة. لکنّه استبعد هذا الاحتمال باعتبار أنّه لا یناسب لسان الحجّیة، أی أنّ لسان الأخبار لا یناسب لسان الحجّیة؛ إذ أنّ لسان الحجّیة هو لسان الواقع، وإلغاء احتمال الخلاف، فلا یناسبه التصریح بفرض أنّ هذا قد یکون مخالفاً للواقع، هذا المطلب ذکره المحقق النائینی أیضاً (2) قبل السید الخوئی(قدّس سرّهما)، ذکره بعد أنْ اختار الاحتمال الثالث فی أحدی دورتیه، لکن رجع فی الدورة الثانیة واستشکل فیه بهذا الإشکال، وأنّ الاحتمال الثالث لا یناسب لسان الأخبار؛ لأنّ لسان الأخبار یقول(کان له ذلک وإنْ لم یقله) هذا التصریح بأنّه ثابت حتّی إذا لم یکن مطابقاً للواقع لسانه لا یناسب لسان جعل الحجّیة، فلسان جعل الحجّیة لسان إحراز الواقع، وإلغاء احتمال الخلاف، فلا یناسب هذا اللّسان، فلذلک یکون حمل الأخبار علیه خلافاً لظاهر الأخبار، أو لا أقل ----- کما یقول السید الخوئی(قدّس سرّه) ------ من أنْ الأخبار لا تدل علیه، لا أقل من أنْ نقول أنّ الأخبار لیس فیها دلالة علی هذا الاحتمال الثالث.

ص: 233


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، 319.
2- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 208.

وهکذا الأمر فی الاحتمال الثانی وهو الاستحباب النفسی الثانوی للعمل بعنوان البلوغ، مثل هذا الاحتمال الثانی أیضاً لا نلتزم به، ولا دلالة للأخبار علی أنّ البلوغ ممّا یوجب حدوث مصلحة فی العمل یصیر بها العمل مستحبّاً کما هو مقتضی الاحتمال الثانی، حیث کان الاحتمال الثانی یقول بمجرّد أنْ یتعنون العمل بعنوان البلوغ؛ حینئذٍ تحدث فیه مصلحة، الاستحباب استحباب واقعی، لکنه ثانوی، بمعنی أنّه ثابت للفعل لیس بعنوانه الأوّلی، وإنّما بعنوانه الثانوی، هو استحباب واقعی ینشأ من مصلحة فی العمل، هذه المصلحة ناشئة من تعنونه بعنوان البلوغ. قال(قدّس سرّه):(فالمتعیّن هو الاحتمال الأوّل، فأنّ مفادها مجرّد الإخبار عن فضل الله(سبحانه وتعالی) وأنّه سبحانه بفضله ورحمته یعطی الثواب الذی بلغ العامل، وإنْ کان غیر مطابق للواقع، فهی ------ کما تری ------ غیر ناظرة إلی العمل وأنّه یصیر مستحبّاً لأجل طرو عنوان البلوغ، ولا إلی إسقاط شرائط حجّیة الخبر فی باب المستحبّات). (1) یعنی أنْ نحمل الأخبار علی الإرشاد إلی حکم العقل بحسن الاحتیاط وحسن الانقیاد.

ثمّ أشار(قدّس سرّه) إلی أنّه یترتّب علی ذلک ----- علی اختیار الاحتمال الأوّل ونفی الاحتمال الثانی والثالث ----- انتفاء جملة من المباحث التی ذکروها؛ لأنّ هذه المباحث کلّها مبتنیة علی الاحتمالین الثانی والثالث، فإذا نفینا هذین الاحتمالین، فلا داعی للبحث فی هذه المباحث، قال(قدّس سرّه):(فتحصّل أنّ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن ممّا لا أساس لها، وبما ذکرناه من عدم دلالة هذه الأخبار علی الاستحباب الشرعی سقط کثیر من المباحث التی تعرّضوا لها فی المقام): (2)

ص: 234


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، 319.
2- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، 320.

(منها) أنّ المستفاد من الأخبار هل هو استحباب ذات العمل، أو استحبابه إذا أتی به بعنوان الرجاء، واضح أنّ هذا البحث یلغو بناءً علی ما ذکره؛ لأنّه متفرّع علی الاحتمال الثالث، متفرّع علی الالتزام بأنّ الأخبار تدلّ علی استحباب العمل، فیقع الکلام فی أنّ هذا الاستحباب ثابت لذات العمل، أو ثابت للعمل المأتی به رجاءً، ولغرض التماس ذلک الثواب.

و(منها) ظهور ثمرة الاختلاف بین الاحتمالین الأخیرین، أنّه ما هی الثمرة التی تترتّب علی الاحتمالین الأخیرین، الثانی والثالث، ذکر أنّ الثمرة هی إذا دلّ خبر ضعیف علی استحباب شیءٍ ثبتت حرمته بإطلاق، أو عموم، قال أنّ الثمرة فی الاحتمالین الثانی والثالث تظهر فی هذا المورد، وذلک باعتبار أنّه علی الاحتمال الثالث الخبر الضعیف یکون مخصصاً للعموم، أو مقیّداً للإطلاق؛ لأنّه حجّة، فأنّ الخبر الضعیف فی المستحبات حجّة، وحیث أنّه أخصّ مطلقاً من العموم، وأخصّ مطلقاً من المطلق؛ فحینئذٍ یقیّد المطلق، ویخصص العام، فنرفع الید عن العام الدال علی حرمة هذا الشیء بالخبر الضعیف الدال علی استحبابه، ونلتزم باستحبابه. هذا علی الاحتمال الثالث. وأمّا علی الاحتمال الثانی، فهو یثبّت الاستحباب بعنوان البلوغ؛ فحینئذٍ یقع التزاحم بین الحکم التحریمی والحکم الاستحبابی، حکمان شرعیان یقع التزاحم بینهما؛ حینئذٍ النتیجة واضحة، حیث نقدّم الحکم الإلزامی التحریمی؛ لأنّ الحکم الاستحبابی لا یزاحم الحکم الإلزامی التحریمی، لکن لا یدخل فی باب التخصیص والإطلاق وأمثاله، فلا نخصص العام، وإنّما هذا یدلّ علی حرمة هذا، ودلیل آخر یُثبت لنا استحباب هذا ولیس حجّیة الخبر الضعیف، وإنّما هو بعنوان البلوغ یصیر مستحباً، فالعمل بمقتضی أخبار(من بلغ) مستحب، ومقتضی ذاک الإطلاق، أو العموم هو الحرام، فیتزاحمان، فیُقدم التحریم.

ص: 235

هذا أیضاً نقول لا داعی لبحثه؛ لأنّه مبتنٍ علی بیان الثمرة للقول الثانی والثالث، والمفروض أنّ کلاً منهما غیر ثابت، وإنّما أخبار(من بلغ) إنّما تدلّ علی الاحتمال الأوّل.

و(منها) البحث عن معارضة أخبار(من بلغ) لما دلّ علی اعتبار العدالة والوثاقة فی حجّیة الخبر، وقالوا أنّ هذه الأخبار تتقدّم علی ما دلّ علی اعتبار العدالة والوثاقة فی حجّیة الخبر بالأخصّیة. هذا البحث أیضاً متفرّع علی الاحتمال الثالث، هذا التقدیم إنّما یمکن تصوّره إذا التزمنا بأنّ مفاد الأخبار هو جعل الحجّیة للخبر الضعیف فی باب المستحبات، تلک الأخبار تقول أنّه یُشترَط العدالة والوثاقة فی حجّیة الخبر، یخرج عن هذه الأخبار فی باب المستحبّات بالخصوص؛ لأنّ أخبار(من بلغ) جعلت الحجّیة للخبر الضعیف، وإنْ لم یکن عادلاً، وإنْ لم یکن ثقة، جعلت له الحجّیة فی باب المستحبات، فیُقدّم علبها بالأخصّیة. هذا البحث أیضاً یلغو؛ لأنّه مبنی علی الاحتمال الثالث.

و(منها) البحث عن ثبوت الاستحباب بفتوی الفقیه، هل یثبت الاستحباب بفتوی الفقیه ؟ باعتبار صدق البلوغ؛ إذ لا یشترط فی تحقق عنوان(البلوغ) أنْ یکون بروایة، وإنّما یمکن أنْ یتحققّ بفتوی فقیه ، فلو افتی فقیه باستحباب فعل أیضاً یصدق أنّه بلغنی ثواب علیه. هذا البحث أیضاً یلغو؛ لأنّه متفرّع علی الاحتمال الثانی، متفرّع علی الالتزام بأنّ أخبار(من بلغ) تدلّ علی الاستحباب بعنوان البلوغ، فنتحدّث عن أنّ هذا هل یشمل فتوی الفقیه حتّی یکون الفعل الذی افتی الفقیه باستحبابه مستحبّاً بمجرّد البلوغ، أو لا ؟ هذا هو الموجود فی المصباح.

لکن فی التقریرات الأخری للسید الخوئی(قدّس سرّه) وهی(الدراسات) (1) جعل الاحتمال الثانی لیس ثبوت الاستحباب بعنوان(البلوغ)، وإنّما ثبوت الثواب علی العمل بعنوان(البلوغ)، یقول: أنّ مفاد الأخبار هو أنّه إذا بلغک ثواب علی عمل، فإذا عملته برجاء ذلک الثواب، فأنّه یحدث، ولیس الاستحباب، وإنّما ذلک الثواب یثبت، فمفادها هو جعل الثواب، وإعطاء الثواب للمکلّف الذی بلغه ثواب علی عمل وعمله لالتماس ذلک الثواب، وإنْ کان ذلک الثواب غیر مطابق للواقع، لکن الشارع یُعطی ذلک الثواب للمکلّف. ثبوت الثواب علی العمل بالعنوان الثانوی الطارئ، یعنی عنوان البلوغ، ولیس ثبوت الاستحباب النفسی کما هو الحال فی الاحتمال الثانی فی المصباح. ثمّ التزم فی الدراسات بتعیّن هذا الاحتمال الثانی فی قبال الاحتمالین الأوّل والثالث، بینما هناک التزم بتعیّن الاحتمال الأوّل، یعنی حمل الأخبار علی الإرشاد، وهنا التزم بتعیّن الاحتمال الثانی ونفی الاحتمال الأوّل وهو الإرشاد، باعتبار أنّ الأخبار واردة فی مقام الترغیب والحث علی العمل لا فی مقام الإرشاد، وإنّما هو یحثّ علی العمل، لا أنّه یرشد إلی ما حکم العقل به من حسن الانقیاد، فنفی الاحتمال الأوّل بذلک، والاحتمال الثالث أیضاً منفی بما تقدّم من أنّ لسان الأخبار لا یناسب لسان جعل الحجّیة، وعیّن الثانی، لکنّه طرح الثانی فی البدایة بهذا الشکل: أنّه یستفاد من الأخبار جعل ثواب لهذا الشخص الذی بلغه ثواب علی عمل، فعمله رجاء ذلک الثواب، مفاد الأخبار أنّه یعطی له ذلک الثواب، وإنْ کان ما بلغه غیر مطابق للواقع.

ص: 236


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 302.

ثمّ ذکر(قدّس سرّه) فی مقام الاستدلال علی الاحتمال الثانی الذی اختاره هنا أنّ هذا هو الذی یساعده الظهور العرفی والذوق الطبعی، قال(قدّس سرّه):(فالمتعیّن هو الاحتمال الثالث، وهو الذی یساعده الظهور العرفی والذوق الطبعی، فأنّ المناسب لعظمة الشخص أنّه إذا أسند إلیه الوعد بشیء أنْ یُنجّزه، وإنْ لم یکن الإسناد مطابقاً للواقع). (1) هذا معنی الاحتمال الثانی الذی ذکره فی الدراسات، أنّ الله(سبحانه وتعالی) یعطی ذلک الثواب وإنْ لم یکن ثابتاً. ومن هنا نستطیع أنْ نقول إلی هنا یظهر أنّ هناک فرقاً بین الاحتمال الثالث هنا وبین الاحتمال الثانی هناک، فالاحتمال الثانی هناک هو جعل استحباب واقعی ثانوی نفسی للعمل بعنوان البلوغ، بینما هنا مجرّد أشبه بإعطاء ثواب، والتزام بإعطاء ثواب فی هذه الحالة لا أکثر من هذا، والدلیل الذی ذکره أیضاً یؤیّد هذا الفهم، یؤیّد الفرق بین الاحتمال الثالث هنا وبین الاحتمال الثانی هناک، الدلیل هنا هو مسألة أنّ المناسب لعظمة الشارع أنّه إذا أُسند إلیه وعد أنْ یُنجّز هذا الوعد، القضیة مرتبطة بالثواب، إذا بلغ شخصاً ثواب من الله(سبحانه وتعالی) فهو یعطی ذلک الثواب، لکن فی الدراسات نفسها بعد أنْ طرح الثانی بهذا الشکل، عباراته الأخری واضحة فی أنّ المقصود من الاحتمال الثانی هو الاستحباب، وعبارته صریحة، قال:(وکیف کان فالظاهر من هذه الروایات هو استحباب العمل بمجرد بلوغ الثواب علیه)، (2) وبعد ذلک قال:(واما علی ما اخترناه من ثبوت الاستحباب الشرعی بالبلوغ فیقع التزاحم بین الحکم الاستحبابی و التحریمی). بعد ذلک عقد جهة مستقلّة تکلّم فیها عن البحث الأوّل الذی قال عنه فی المصباح بأنّه یلغو هذا البحث، بینما فی الدراسات عقد جهة مستقلّة تکلّم فیها عن ذلک البحث الذی هو أنّ الاستحباب هل یثبت لذات العمل، أو یثبت للعمل إذا جیء به رجاء ذلک الثواب، وهنا عقد جهة مستقلّة تکلّم فیها عن هذه الجهة، وهذا یعنی أنّه یختار القول بالاستحباب للعمل، غایة الأمر تکلّم فی أنّ الاستحباب یثبت لذات العمل، أو یثبت للعمل المقیّد بما إذا جیء به بعنوان الالتماس والرجاء وأمثاله. وهذا یؤیّد أنّ المقصود بالاحتمال الثالث فی الدراسات هو الاستحباب، ثمّ هناک أیضاً هو نفس المعنی السابق، لعلّه ذکر الثواب هنا فی الدراسات لعلّه تقیّداً بأخبار(من بلغ)، فأنّ أخبار(من بلغ) لا تذکر الاستحباب وإنّما تذکر الثواب، ومن جهة أخری لعلّه من باب أنّه یری الملازمة بین ترتّب الثواب وبین الاستحباب، أفرض أنّ الروایات تحدّثت عن ترتب ثواب، لکن هذا ترتّب الثواب یکشف عن مطلوبیة للعمل من قبل الشرع وهذا هو معنی الاستحباب، فتکون هناک ملازمة بین ترتّب الثواب وبین الاستحباب.

ص: 237


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 302.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 302.

إذن: لا فرق بین أنْ نقول أنّ أخبار(من بلغ) تثبت الاستحباب، وبین أنْ نقول أنّها تثبت إعطاء الثواب الذی بلغه کما بلغه فی هذه الحالة؛ لأنّ ترتب الثواب علی العمل الذی بلغه وجاء به برجاء ذلک الثواب، یستلزم افتراض استحباب العمل شرعاً، فیثبت استحباب العمل شرعاً باعتبار هذه الملازمة، لعلّه من هذا الباب.

نعم، یبقی هناک تنافٍ بین ما ذکره فی الدراسات وبین ما ذکره فی المصباح، حیث قال فی المصباح أنّ هذا البحث یلغو، وأنّه لا یری الاستحباب، قال أنّ هذا البحث أنّه هل یثبت الاستحباب لذات العمل، أو للعمل بقید الإتیان به رجاءً، قال یلغوا هذا البحث هناک، بینما هنا عقد جهة مستقلة تکلّم فیها عن ذلک، وهذا معناه أنّه یری الاستحباب ویقول به. هذا مضافاً إلی أنّه فی المصباح عیّن الاحتمال الأوّل وهو حمل الأخبار علی الإرشاد، بینما هنا لغی الاحتمال الأوّل وناقش فیه بأنّه خلاف ظاهر الأخبار؛ لأنّ ظاهر الأخبار أنّها فی مقام الحثّ والترغیب من قبل الشارع لا فی مقام الإرشاد. دعوی الملازمة بین ترّتب الثواب والاستحباب هذه فی المقام لیست واضحة، وسیأتی الحدیث عنها مفصّلاً، وأنّه هل توجد ملازمة بین ترتّب الثواب وبین الاستحباب، لا أقل فی خصوص المقام ؟ سیأتی الحدیث عنها مفصلاً إنْ شاء الله تعالی. هذا ما نُقل عن السید الخوئی(قدّس سرّه) فی تقریره.

السید الشهید الصدر(رضوان الله علیه) ذکر احتمالات أخری ثبوتیة غیر الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة: (1)

ص: 238


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 121.

الاحتمال الرابع: أنْ یکون مفاد أخبار(من بلغ) مجرّد الوعد لمصلحة فی نفس الوعد بإعطاء ذلک الثواب الذی بلغ هذا المکلّف، وبعد حصول الوعد نقطع بالوفاء بلا إشکال، فالشارع کأنّه یعد من بلغه ثواب علی عمل بإعطائه ذلک الثواب إذا عمله برجاء ذلک الثواب لمصلحةٍ فی نفس الوعد من دون أنْ تکون هناک مصلحة فی الفعل، ومن دون افتراض جعل حکم من قبل الشارع، ولا تحدث مصلحة فی العمل، وإنّما هناک مصلحة فی نفس الوعد، وأنّ هذا الثواب الذی أعدک أنا سوف أعطیه لک بالمقدار الذی بلغک، مجرّد وعد إلهی من قبل المولی بإعطاء هذا الثواب بهذه الشروط، إذا بلغه ثواب علی عمل فعمله رجاء ذلک الثواب، الله سبحانه یعده بإعطائه ذلک الثواب.

الاحتمال الخامس: أنْ یکون مفادها جعل الاحتیاط الاستحبابی فی موارد بلوغ الثواب، مفادها احتیاط لکن فی المستحبّات، الغرض منه التحفّظ علی الملاکات الواقعیة الراجحة الموجودة فی المستحبات الواقعیة فی موارد التزاحم الحفظی، علی أنّه هو یری أنّ الأحکام الظاهریة کلّها تعبّر عن ترجیح ملاکات واقعیة متزاحمة تزاحماً حفظیاً فی مقام حفظها عندما تتزاحم، الأحکام الظاهریة هی تعبیر عن اهتمام الشارع ببعض الملاکات لأهمیتها وترجیحها علی ملاکات أخری تزاحمها، مفاد أخبار(من بلغ) احتیاط استحبابی، احتیاط فی باب المستحبّات لإدراک المستحبّات الواقعیة وملاکاتها الواقعیة، یقول له إذا بلغک ثواب علی عمل، فاحتط وأتی بالعمل حتّی تدرک ملاکات المستحبات الواقعیة إذا کان الشارع یهتمّ بها.

هذه عمدة المحتملات الثبوتیة فی أخبار(من بلغ). الفوارق بین هذه الاحتمالات واضحة من خلال ما تقدّم، الفرق بین الاحتمال الأوّل وبین باقی الاحتمالات واضح؛ إذ أنّ الاحتمال الأوّل إرشاد صرِف، ولیس فیه إعمال مولویة، یعنی الشارع لم یعمل مولویته فی هذه الأخبار إطلاقاً، وإنّما هو إرشاد إلی حکم العقل بحسن الاحتیاط، بینما فی سائر الاحتمالات الأخری هناک إعمال مولویة، جعل حجّیة، وجعل استحباب، ووعد إلهی بإعطاء الثواب مثلاً، جعل احتیاط فی باب المستحبّات.

ص: 239

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

بعد أنْ استعرضنا الاحتمالات المتقدّمة الثبوتیة فی مفاد أخبار(من بلغ) تکلّمنا عن الفوارق بین هذه الاحتمالات، هناک کلام ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) ظاهره أنّه ینکر وجود ثمرة فقهیة بین الاحتمالین الثانی والثالث المتقدّمین، (1) یعنی بین القول بأنّ مفاد الأخبار هو جعل الاستحباب للعمل بعنوان(البلوغ)، وبین کون مفاد الأخبار هو جعل الحجّیة للخبر الضعیف فی المستحبّات، یقول لا ثمرة عملیة فقهیة بینهما؛ لأنّه علی کلا التقدیرین المجتهد یفتی باستحباب العمل، أمّا علی الثانی فواضح؛ لأنّ مفاد الأخبار علی الثانی هو استحباب العمل بالعنوان الثانوی. وأمّا علی الثالث، فأیضاً واضح؛ لأنّ الخبر الضعیف هو حجّة فی إثبات الاستحباب، فالفقیه ینتهی إلی نتیجة ثبوت الاستحباب ویفتی حینئذٍ باستحباب العمل علی کلا التقدیرین، غایة الأمر أنّ الاستحباب الثابت علی التقدیر الثانی هو استحباب واقعی ثانوی ثابت بعنوان(البلوغ)، بینما علی الثالث هو استحباب واقعی أوّلی ثابت للعمل باعتبار دلالة الخبر الضعیف الحجّة بناءً علی الاحتمال الثالث علی استحبابه.

ثمّ ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) وقال: قد یقال بظهور الثمرة فی مورد وهو ما إذا دلّ خبر ضعیف علی استحباب ما ثبتت حرمته بعمومٍ، أو إطلاق. تقدّم ذکر هذا عند نقل کلامه فی البحوث التی قال بأنّها مبنیّة علی اختیار أحد الاحتمالین الثانی، أو الثالث، وحیث أنّه فی المصباح ----- مثلاً ----- لم یرتضِ کلاً منهما، فقال حینئذٍ یلغو هذا البحث، ویکون بلا فائدة؛ لأنّه مبنی علی اختیار البحث الأوّل، أو البحث الثانی، إذا قام خبر ضعیف علی استحباب شیءٍ وکان مقتضی عموم دلیل، أو مقتضی إطلاق دلیل حرمة ذلک الشیء، هنا ذکروا بأنّه بناءً علی القول الثانی حینئذٍ یقع التزاحم بین الحکم الاستحبابی وبین الحکم التحریمی؛ لأنّ أخبار(من بلغ) تدلّ علی استحبابه، بینما العموم والإطلاق یدلّ علی تحریمه، فیقع التزاحم بین هذین الحکمین، ولا إشکال فی تقدیم الحکم الإلزامی فی هذا المجال، فیُحکم بحرمته، بینما علی الاحتمال الثالث، یعنی حجّیة الخبر الضعیف فی المستحبّات؛ حینئذٍ یکون هذا أخص مطلقاً من العموم، أو الإطلاق، فیخصصّ العموم، أو یقیّد الإطلاق، وبالتالی یُلتزم باستحبابه لا بحرمته، وهذه ثمرة بین القولین، السید الخوئی(قدّس سرّه) سابقاً کان یقول هذا البحث یلغو؛ لأنّه علی أحد الاحتمالین الثانی، أو الثالث، وکما قلنا أنّه فی المصباح لم یرتضِ کلاً منهما، الآن یقول قد یقال: بأنّ الثمرة بین القولین تظهر فی هذا الفرض؛ لأنّه علی الاحتمال الثانی یُحکم بحرمة الفعل، بینما علی الاحتمال الثالث یُحکم باستحبابه؛ لأنّه علی الاحتمال الثالث یکون الخبر الضعیف الحجّة ------ بحسب الفرض ------ مقیّداً للعموم والإطلاق، العموم یشمله بعمومه، فیخصصّه هذا الخبر، والإطلاق یشمله بإطلاقه، فیقیّده هذا الخبر، وبالتالی نلتزم بمضمون هذا الخبر، یعنی نلتزم بالاستحباب، وهذه ثمرة تظهر بین القولین، فقد یقال: بأنّ هناک ثمرة بین القولین تظهر فی هذا المورد.

ص: 240


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 302.

وأجاب عن ذلک: (1) بادعاء أنّ مثل هذا الخبر فی هذا المورد الخاص أصّلاً لا تشمله أخبار(من بلغ) حتّی نتکلّم أنّه بناءً علی الاحتمال الثالث فیها نلتزم بالتخصیص وبالتالی بالاستحباب، وأمّا علی الاحتمال الثانی فیها، فیُلتزم بالتزاحم وبالتالی یُلتزم بالتحریم، یقول هذا الخبر أصلاً لیس مشمولاً لأخبار(من بلغ)؛ لأنّه یری أنّ الأخبار منصرفة عن مثله، ومختصّة بمن بلغه الثواب فقط، أمّا من بلغه العقاب مضافاً إلی بلوغ الثواب کما هو فی هذا المورد؛ لأنّ هذا المورد بلغه الثواب بالخبر الضعیف، وبلغه العقاب بالعموم والإطلاق الدال علی حرمته بإطلاقه، أو بعمومه، فیکون المکلّف قد بلغه العقاب أیضاً علی هذا العمل، یقول الأخبار منصرفة عن ذلک، والأخبار لا تشمل إلاّ من بلغه الثواب فقط، أمّا من بلغه الثواب والعقاب، فهذا لا تکون الأخبار شاملة له؛ بل منصرفة عنه، وفی (المصباح) (2) ذکر وجهاً یمکن جعله هو الوجه فی دعوی الانصراف، وهو دعوی أنّ الأخبار لا تشمل مقطوع الحرمة، ولو قطعاً تعبّدیاً کما هو المفروض فی محل الکلام؛ لأننّا نفترض أنّ العموم والإطلاق ثابت اعتباراً؛ فحینئذٍ یکون موجباً للقطع بالحرمة، ولو قطعاً ----- کما قلنا ----- تعبّدیاً، والقطع بالحرمة یستلزم القطع بالعقاب واستحقاق العقاب، باعتبار الملازمة بین القطع بالحرمة والقطع باستحقاق العقاب؛ حینئذٍ کیف یمکن الالتزام بترتّب الثواب علی الاتیان به مع القطع باستحقاق العقاب علی الاتیان به، هذا غیر ممکن أصّلاً، ومن هنا، فإنّ أخبار(من بلغ) لا تشمل مقطوع الحرمة؛ لأنّ القطع بحرمته یساوق القطع بترتّب العقاب علی فعله، ومع القطع بالعقاب علی الفعل کیف یمکن الالتزام بترتّب الثواب علی الفعل، ومن هنا تختص أخبار(من بلغ) بخصوص من بلغه الثواب، فلا تشمل محل الکلام؛ لأنّه فی محل الکلام فرضنا بلوغ الثواب وبلوغ العقاب، وأخبار(من بلغ) منصرفة عن ذلک ولا تشمله، فإذن: لا یصح دعوی وجود الثمرة بالشکل الذی ثبوته فرع الالتزام بشمول أخبار(من بلغ) لذلک الخبر الضعیف حتّی یُفصَّل علی الاحتمال الثانی وعلی الاحتمال الثالث، بینما أخبار(من بلغ) أساساً هی لا تشمل مثل هذا الخبر؛ حینئذٍ هذه الثمرة لا تکون صحیحة.

ص: 241


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 303.
2- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 320.

هذا الکلام کأنّه غیر مقبول، أمّا علی الاحتمال الثالث، بناءً علی أنّ مفاد أخبار(من بلغ) هو جعل الحجّیة للخبر الضعیف؛ لأنّ الخبر الضعیف بناءً علی هذا الاحتمال یصیر حجّة فی إثبات الاستحباب، وإذا صار حجّة یکون موجباً للقطع بترتّب الثواب علی الفعل، کما أنّ دلیل الحرمة الحجّة یوجب القطع بترتّب العقاب علی الفعل، علی الاحتمال الثالث یکون الخبر الضعیف موجباً للقطع بترتّب الثواب علی الفعل، فیجب أنْ نتعامل معهما علی هذا الأساس، یوجب القطع بترتّب الثواب علی الفعل، ولا یمکن أنْ نقول أنّ الأخبار لا تشمل هذا المورد؛ لأنّ القطع بالحرمة یستلزم ترتّب العقاب علی الفعل؛ إذ لا فرق بین دلیل الحرمة ودلیل الاستحباب بناءً علی الاحتمال الثالث، فأنّ کلاً منهما حجّة، یعنی القطع بترتّب العقاب یقابله القطع بترتّب الثواب، فلا وجه لأنْ نقول بأنّ القطع بالحرمة یوجب القطع بترتّب العقاب، فلا تشمله هذه الأخبار، إبراز هذه النکتة وحدها فقط غیر کافیة لإثبات الانصراف؛ لأنّ القطع بترتّب العقاب یقابله القطع بترتّب الثواب علی الاحتمال الثالث؛ بل لعلّ الأمر کذلک علی الاحتمال الثانی أیضاً بناءً علی أنّ مفاد الأخبار هو ثبوت الاستحباب للفعل بالعنوان الثانوی، أی بعنوان(البلوغ)؛ لأنّه بناءً علیه الاستحباب فی الحقیقة لا یثبت للخبر الضعیف کما هو الحال بناءً علی الاحتمال الثالث، الاستحباب لا یثبت للخبر الضعیف علی الاحتمال الثانی؛ لأننّا لم نصل إلی نتیجة أنّ الخبر الضعیف حجّة فی المستحبات، وإنّما الاستحباب یثبت لأخبار(من بلغ) غایة الأمر أنّ الخبر الضعیف یحقق موضوع هذا الاستحباب وشرطه وهو عنوان(البلوغ) یحققه وجداناً، وإنْ کان خبراً ضعیفاً لیس حجّة، لکن یحقق عنوان(البلوغ)، فإذا تحققّ عنوان(البلوغ) حینئذٍ یثبت الاستحباب بأخبار(من بلغ) لا بالخبر الضعیف، بمعنی أنّ الاستحباب یثبت لا بالخبر الضعیف حتّی علی الاحتمال الثانی، وإنّما یثبت بأخبار(من بلغ) والمفروض أنّ أخبار(من بلغ) تامّة سنداً وحجّة ومعتبرة، ویکون هذا موجباً للقطع بالاستحباب بعد تحقق موضوعه وجداناً بالخبر الضعیف، والقطع بالاستحباب أیضاً یوجب القطع بترتّب الثواب، فکما أنّ هناک قطعاً بترتّب العقاب علی الفعل، هناک قطع بترتّب الثواب علی الفعل، دلیل الحرمة یوجب القطع بترتّب العقاب علی الفعل، الخبر الضعیف علی الاحتمال الثالث، أخبار من بلغ علی الاحتمال الثانی توجب القطع بترتّب الثواب، فیقع التعارض بینهما. إبراز هذه النکتة کنکتةٍ للانصراف لیس واضحاً.

ص: 242

نعم، یمکن إدّعاء الانصراف بنکتةٍ أخری، یعنی انصراف أخبار(من بلغ) عن مورد بلوغ العقاب علی العمل، مضافاً إلی بلوغ الثواب یُدّعی الانصراف بقرینة أخری وهی قوله(علیه السلام):(فعمله التماساً لذلک الثواب) هذا لا یبعد انصرافه إلی حالة بلوغ الثواب فقط، ولعلّ ظاهره أیضاً بلوغ الثواب فقط؛ لأنّ التماس ذلک الثواب تصوّره لیس صحیحاً عندما یکون الشخص بلغه ثواب وبلغه عقاب علی العمل، فعندما یبلغه ثواب علی العمل ویبلغه عقاب علی العمل، خصوصاً فی مورد الکلام الذی بلغه عقاب علی العمل بدلیلٍ معتبر، بینما بلغه الثواب بخبر ضعیف ------ بحسب الفرض ------ ونحن نرید أنْ نتکلّم عن أخبار(من بلغ) أنّها تدل علی حجّیة الخبر الضعیف، أو لا ؟ بالنتیجة هو بلغه ثواب بخبر ضعیف، وبلغه عقاب علی العمل بخبر معتبر بعموم، أو إطلاق، الخبر عندما یقول:(فعمله التماساً لذلک الثواب) منصرف عن هذه الحالة، ظاهر فی بلوغ الثواب فقط، هذا غیر بعید، ولا یبعُد أنْ یقال ذلک، أنّ الخبر منصرف عن حالة بلوغ العقاب مع بلوغ الثواب، فلا یکون شاملاً لذلک، وإنّما هو یختص بحالة بلوغ الثواب، أنّ الشخص الذی یبلغه العقاب علی عمل بخبر معتبر، ویبلغه الثواب علی العمل نفسه بخبر ضعیف عادةً لا یأتی بالعمل التماساً للثواب مع وصول العقاب علیه بدلیل معتبر، الأخبار لیست ناظرة إلی هذه الحالة، وإنّما ناظرة إلی حالة بلوغ الثواب فقط، جاءه خبر یدلّ علی ثبوت الثواب لشیءٍ، هذا تکون الأخبار شاملة له، وأمّا افتراض أنّه بلغه الثواب وبلغه العقاب بخبر المعتبر کما هو المفروض فی هذا المقام، لا یبعُد کما قال انصراف الأخبار عنه، فعلی کل حالٍ یمکن ذکر ثمرة، أو بعض الثمرات بین القولین الثانی والثالث غیر ما ذُکر، وتتفرّع هذه الثمرة علی ما قلناه من أنّ الاستحباب الثابت بناءً علی الاحتمال الثانی هو استحباب واقعی ثانوی، یعنی ثابت للفعل بعنوانه الثانوی، أی بعنوان(البلوغ) بینما الاستحباب إذا ثبت علی الاحتمال الثالث یکون استحباباً واقعیاً ثابتاً للفعل بعنوانه الأوّلی بناءً علی حجّیة الخبر الضعیف فی باب المستحبات، یترتب علی ذلک هذه الثمرة، وهی تظهر فیما إذا دلّ خبر ضعیف علی استحباب شیءٍ ودلّ خبر صحیح علی عدم استحبابه ولیس علی حرمته.

ص: 243

أمّا علی الاحتمال الثانی فلا توجد مشکلة، فنأخذ بکلا الخبرین، بمعنی أننّا نلتزم باستحباب الفعل بعنوانه الثانوی، وعدم استحبابه بعنوانه الأوّلی عملاً بالخبر الصحیح الدال علی عدم استحبابه، بأنّه ینفی الاستحباب عنه بعنوانه الأوّلی، وهذا لا ینافی أنْ نلتزم بأنّ نفس هذا الفعل، لکن بعنوانه الثانوی یکون مستحبّاً عملاً بأخبار(من بلغ) بعد أنْ نختار فی تفسیرها وتحدید مفادها الاحتمال الثانی الذی یثبت استحباب الفعل بعنوان(البلوغ)، ولا محذور فی أنْ نلتزم بأنّه مستحب بعنوانه الثانوی، ولیس مستحبّاً بعنوانه الأوّلی، فنأخذ بکلا الدلیلین، یعنی بالخبر الصحیح النافی للاستحباب، وبأخبار(من بلغ) الدالة علی الاستحباب بالعنوان الثانوی.

وأمّا علی الاحتمال الثالث، یعنی بناءً علی حجّیة الخبر الضعیف فی باب المستحبات؛ حینئذٍ یقع التعارض بین الخبرین؛ لأنّه علی الاحتمال الثالث الخبر الضعیف یکون حجّة فی باب الاستحباب، فیعارض الخبر الصحیح النافی للاستحباب، فیقع التعارض بینهما.

هذه ثمرة بین القولین علی الاحتمال الثانی نأخذ بکلا الدلیلین، ونلتزم بالاستحباب بالعنوان الثانوی، بینما علی الاحتمال الثالث یقع التعارض بین الخبرین، فالثمرة بین القولین الثانی والثالث تظهر فی هذا المورد وفی غیره من الموارد لا داعی للتعرّض لها.

نأتی إلی البحث الإثباتی، إنّ هذه الاحتمالات المتعددّة فی أخبار(من بلغ) ما هو الاحتمال الأقرب منها علی ضوء ما یُفهم من الأدلّة ؟ نتعرّض أولاً للاحتمال الثالث وهو أنّ مفاد الأخبار هو عدم اعتبار شرائط الحجّیة فی الخبر فی باب المستحبات، أو بعبارة أخری: جعل الحجّیة للخبر الضعیف فی باب المستحبات.

هذا الاحتمال الثالث استُشکل فی إفادته من أخبار(من بلغ) بهذا الإشکال المعروف، وهو أنّ دلیل الحجّیة لابدّ أنْ یکون ناظراً إلی الواقع، ومثبتاً للواقع بإلغاء احتمال الخلاف، بینما هذه الأخبار کما نفهمها صریحة فی إثبات ترتّب الثواب مع عدم التعرّض لإلغاء احتمال الخلاف؛ بل ------ وهو المهم ------ التعرّض لتقریر هذا الاحتمال بقوله:(وإنْ لم یکن کما بلغه) کما فی بعض الروایات، أو(وإنْ کان رسول الله لم یقله) هذا التصریح بأنّ هذا حجّة وطریق لإدراک الواقع، وإنْ لم یکن مطابقاً للواقع لا یناسب لسان الحجّیة، فلسان الحجّیة لسان إلغاء احتمال الخلاف، لسان أنّ هذا یحرز الواقع، هذا لا یناسبه أنْ یُصرّح بأنّ هذا حجّة وإنْ لم یحرز الواقع، هذا التصریح بأنّه وإنْ لم یکن مطابقاً للواقع یُعبر عنه فی الروایات(وإنْ لم یکن کما بلغه)، أو(وإنْ لم یکن کما قاله رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم) حسب اختلاف التعبیرات، هذا لا یناسب الحجّیة، فلسان الحجّیة أنّ هذا یحرز الواقع وموصل إلی الواقع، إلغِ احتمال الخلاف، ولا تعتنی باحتمال الخلاف، وتتمیم الکشف، وأمثال هذه التعبیرات، وکلّها ترجع إلی جعل هذا طریقاً موصلاً إلی الواقع، فما معنی أنْ یقول: أبنِ علی أنّ هذا طریق إلی الواقع، محرز للواقع، والغ احتمال الخلاف وإنْ کان غیر مطابقاً للواقع، هذا لا یناسب لسان الحجّیة، فاللّسان الموجود فی هذه الأخبار لا یناسب لسان الحجّیة. ومن هنا یکون هذا الاحتمال الثالث مستبعداً علی هذا الأساس. هذا الإشکال منقول عن المحقق النائینی(قدّس سرّه)، نقله عنه تلامذته. (1)

ص: 244


1- (4) أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 208. .

أجیب عن هذا الکلام: کما هو موجود فی کلامٍ للشیخ حسین الحلّی(قدّس سرّه) تعلیقاً علی کلام استاذه بعد أنْ نقله بهذا المضمون علّق علیه، ذکر ما حاصله: أنّ إبداء احتمال المخالفة وإنْ کان لا یناسب جعل الحجّیة کما ذکر؛ لأنّ المناسب له هو صرف نظر المکلّف عن احتمال المخالفة وتحویل نظره إلی البناء علی المطابقة لا جعل احتمال المخالفة نصب عینیه، وکأنّ الروایات تجعل احتمال المخالفة نصب عینیه عندما تقول(وإنْ لم یکن کما قاله)، أو (وإن کان لیس کما بلغک) یقول هذا لا یناسب جعل الحجّیة، إلاّ أنّه مع ذلک لعلّ المقام مقام إبداء ذلک الاحتمال، فیمکن أنْ نفترض أنّ المقام یستدعی إبداء ذلک الاحتمال وسدّه تعبّداً بأنْ یقال له هذا الخبر حجّة کاشف عن الواقع، فیلزمک البناء علی المطابقة للواقع وإنْ کنت وجداناً تحتمل المخالفة للواقع، حتّی إذا کنت تحتمل المخالفة للواقع أبنِ علی أنّ هذا مطابق للواقع، الذی هو معنی الحجّیة، وذکر بأنّ هذا یصح إذا فرض تشکیکه فی ذلک، ولو من جهة ظاهر حاله، أنّ المخاطَب فُرض فیه أنّه یشکّک فی جعل الحجّیة حتّی مع احتمال المخالفة للواقع، یُشککّ فی جعل الحجّیة، فیقال له هذا الکلام، فیُبرَز له هذا الاحتمال ویُحکم بإلغائه وأنّه لا قیمة له، أنّ هذا أجعله حجّة وطریقاً موصلاً إلی الواقع حتّی إنْ کنت تشکّ فی مطابقته للواقع، إبداء هذا الاحتمال وإبرازه قد یکون لغرض، صحیح طبیعة جعل الحجّیة یقتضی أنْ لا یُبرَز هذا الاحتمال وأنْ یُجعَل نصب عینیه کما قال، هذا هو المناسب لجعل الحجّیة، لکن لا مانع من فرض أنّه فی حالة معیّنة قد یستدعی المقام إبراز هذا الاحتمال من قبل نفس جاعل الحجّیة، فیبرز هذا الاحتمال له حتّی یسدّه، حتّی یحکم بإلغائه، فیقول له وإنْ کنت تحتمل المخالفة للواقع وعدم المطابقة للواقع، أنا أقول لک أجعله طریقاً للواقع، فیکون مناسباً لجعل الحجّیة، بناءً علی هذا لا یکون هذا اللّسان لساناً منافیاً لجعل الحجّیة.

ص: 245

هذا الکلام ----- فرضاً ----- ممکن، لکن المشکلة أنّ أخبار(من بلغ) عندما جعلت الحجّیة لا تنظر إلی خصوص هذا، وإنّما جعلت الحجّیة مطلقاً، جعلت الحجّیة لکل شخصٍ لا خصوص هذا الذی یفترض کونه یشککّ فی جعل الحجّیة مع المخالفة، لیس فقط لهذا، وإنّما جُعلت الحجّیة بهذا اللّسان بإبراز احتمال المخالفة للواقع مطلقاً، ولکل أحد، هذا یقال أنّه لا یناسب جعل الحجّیة، خصوصاً وأنْ الأخبار تقول(وإنْ لم یکن کما قاله)، ولیس أنّها تقول(وإن کنت تحتمل أنّها مخالفة) کما هو ذکر، وإنّما تقول(وإنْ لم یکن کما قاله رسول الله)، أو(وإنْ لم یکن کما بلغک) یعنی إبداء احتمال المخالفة الواقعیة لا أنّ المکلّف، وإن کنت تحتمل المخالفة للواقع وعدم المطابقة له، وإنّما اللّسان واضح فی أنّ جعل الحجّیة بمعنی الطریقیة، بمعنی الکشف عن الواقع، بمعنی أصالة الواقع وإلغاء احتمال الخلاف، وإنْ لم یکن مطابقاً للواقع، هذا مفاد الأخبار، التصریح بهذا لیس مناسباً لجعل الحجّیة، وإنّما المناسب لجعل الحجّیة أنْ یجعلها طریقاً، ولا یصرّح بأنّه حجّة حتّی إذا کان مخالفاً للواقع، هو فی الواقع هکذا، هو حجّة حتّی إذا کان مخالفاً للواقع، لکن الکلام لیس فی هذا، وإنّما الکلام فی تصریح الجاعل نفسه، کما ذکر هو(قدّس سرّه) بأنّ المناسب لیس أنْ یبرز هذا الاحتمال ویجعله أمام عینیه، المناسب أنْ یجعل هذا طریقاً إلی الواقع ویسکت، ویلغی احتمال الخلاف أمّا أنْ یقول أبنِ علی أنّ هذا مطابق للواقع، وإنْ کان مخالفاً فی الواقع، فهذا لا یناسب لسان جعل الحجّیة.

نعم، أصل الإشکال مبنی علی مسلک جعل الطریقیة فی تفسیر الحجّیة، بمعنی أنه بناءً علی جعل الطریقیة وتتمیم الکشف، وإلغاء احتمال الخلاف یأتی هذا الکلام، أنّ هذا اللّسان الموجود فی الأخبار لا یناسب جعل الحجّیة؛ لأنّ جعل الحجّیة یعنی تتمیم الکشف، یعنی جعله طریقاً إلی الواقع، فلا معنی لأنْ یقول له هذا طریق إلی الواقع، وإنْ لم یطابق الواقع.

ص: 246

وأمّا إذا فسّرنا الحجّیة بمسالک أخری من قبیل جعل الحکم المماثل، أو من قبیل المنجّزیة والمعذریة؛ فحینئذٍ لا یرد هذا الکلام، فلسان الأخبار لیس منافیاً للسان جعل الحجّیة بهذا المعنی، بمعنی جعل الحکم المماثل، لا علاقة له بالواقع، یجعل حکماً مماثلاً لمؤدّی الإمارة، أو أنّ مؤدّی الإمارة منجّز علیه، أو معذّر له، هذا لا یرد علیه الإشکال؛ لأنّ أصل الإشکال مبنی علی الطریقیة وتتمیم الکشف وأمثال هذه الأمور، لکن بالرغم من هذا ----- أنّ هذا مبنی علی مسلک جعل الطریقیة، وأننّا إذا فسّرنا الحجّیة بتفسیر آخر، فهذا الإشکال لا یرد ----- مع ذلک یمکن أنْ یقررّ الإشکال بتقریر آخر خالٍ من هذا، یأتی بیانه إنْ شاء الله تعالی ، یعنی یجری علی کل المسالک فی تفسیر الحجّیة.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

کان الکلام فی الاحتمال الثالث فی تفسیر أخبار(من بلغ) ویبدو أنّه تامّ،ولکنّه مبنی علی مسلک الطریقیة، مبنی علی مسلک تفسیر الحجّیة بإلغاء احتمال الخلاف والطریقیة؛ حینئذٍ الحجیة لا یناسبها هذا اللّسان الموجود فی هذه الأخبار، لسان إبداء احتمال المخالفة للواقع، ومن هنا لا یمکن أنْ نفسّر الأخبار بأنّ المقصود بها هو حجّیة الخبر الضعیف فی باب المستحبات. أمّا إذا اخترنا مسلکاً آخراً فی الحجّیة، لا ینافیه هذا اللّسان، هذا اللّسان لا یکون منافیاً لتفسیر الحجّیة بالمنجّزیة والمعذّریة، أو تفسیرها بجعل الحکم المماثل وأمثاله.

لکن قد یقال: یمکن الخدشة فی هذا الاحتمال باعتبار أنّه ینافی ظاهر بعض الأخبار وهی الأخبار التی تقیّد العمل بما إذا جاء به رجاء ذلک الثواب، أو رجاء أنْ یکون کما قاله الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، برجاء أنْ یکون مطابقاً للواقع. لا یبعد أنّ هذه قرینة علی عدم حدوث هذا الاحتمال؛ لأنّ هذا الاحتمال لا ینسجم مع الإتیان بالعمل رجاءً، والتماس ذلک الثواب، هذا موجود فی بعض أخبار الباب، هذا إنّما یکون عندما لا یکون الشیء ثابتاً، وإنّما هو احتمال صرف، مجرّد احتمال؛ فحینئذٍ یقال: یؤتی به برجاء ذلک الشیء الغیر الثابت، هو قال: من جاء بالعمل اعتماداً علی الخبر الضعیف برجاء أنْ یکون الثواب ثابتاً یکون له ذلک الثواب؛ لأنّ الخبر الضعیف حجّة، واستفیدت حجّیته من هذه الأخبار، هذا لا یناسب إلاّ ما إذا کان الشیء غیر ثابت، لا ثبوتاً وجدانیاً، ولا ثبوتاً تعبّدیاً، وإنّما هو احتمال صرف، الإتیان بالعمل رجاءً یناسب ذلک، أمّا إذا فرضنا أنّ الشیء کان ثابتاً وجداناً، أو کان الشیء ثابتاً ثبوتاً تعبّدیاً. أمّا إذا فرضنا الحجّیة، وأنّ مفاد الأخبار هو جعل الحجّیة للخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، تقیید العمل وترتّب الثواب علیه بما إذا جاء به رجاء ذلک الثواب، هذا لا یناسب جعل الحجّیة؛ لأنّه إذا قامت الحجّة علی الثواب وعلی الاستحباب، فلا معنی لأنّ یأتی به برجاء ذلک الثواب، کیف ؟ والثواب ثابت ------ بحسب الفرض ------ الثواب والاستحباب ثابت بالحجّة والدلیل المعتبر، فیأتی به لاستحبابه ولیس برجاء الاستحباب والثواب، هذا لا یناسب الحجّیة، وإنّما یقال: المناسب فی هکذا حالة أنْ یقال أنّ من بلغه ثواب علی عمل، فعمله، کان له مثل ذلک الثواب، ولا داعی لتقیید العمل بالرجاء، فأنّ تقیید العمل بالرجاء لا یناسب الحجّیة، وإنّما یناسب عدم الثبوت، وأنّه لیس هناک إلاّ الاحتمال الصرف کما هو الحال فی موارد الإتیان بالعمل رجاءً، أو لاحتمال المطلوبیة، أو رجاء أنْ یکون الثواب ثابتٍ، هذا لا معنی له عندما یکون ذلک الشیء ثابتاً ثبوتاً وجدانیاً، أو ثبوتاً تعبّدیاً، هذا لا ینسجم. هذا یمکن جعله قرینة علی نفی ذلک الاحتمال، وهذا لا یُفرّق فیه بین المسالک فی جعل الحجّیة، لا علاقة له بلسان جعل الحجّیة من الطریقیة، أو المنجّزیة، أو أیّ شیء آخر، لیس له علاقة بذلک، وإنّما یقول أنّ هذه الروایات، والمقصود بها الروایات التی تقیّد العمل الذی یُعطی علیه الثواب بما إذا جاء به رجاءً، التماس ذلک الثواب، هذه الروایات لا تناسب الاحتمال الثالث، ومن هنا یمکن أن یقال بأنّ الاحتمال الثالث خلاف ظاهر بعض أخبار الباب فی المقام. هذا فیما یخص الاحتمال الثالث، وسنرجع إلیه بعد ذلک.

ص: 247

قد یقال: أنّ نفس هذا الکلام الذی جری فی الاحتمال الثالث یجری أیضاً فی الاحتمال الخامس المتقدّم، والذی هو أنْ یکون مفاد الأخبار هو الاحتیاط لإدراک المستحبّات الواقعیة، فالشارع یطلب من المکلّف أنْ یأتی بکل عملٍ بلغه علیه الثواب، لا لأنّ الخبر الضعیف حجّة کما فی الثالث، وإنّما لأجل الاحتیاط وإدراک الملاکات الاستحبابیة الواقعیة، فأنّ طریقة إدراک الملاکات الواقعیة للمستحبّات یکون بجعل هذا الاحتیاط، بأنْ یقال له: کلّما بلغک استحباب شیءٍ أعمله، وبذلک یدرک المکلّف الملاکات الواقعیة للمستحبات الواقعیة، فهو مجرّد احتیاط لا یتضمّن جعل حجّیة للخبر الضعیف، وإنّما الغرض منه هو الحفاظ علی الملاکات الواقعیة للمستحبّات الواقعیة عندما یکون الشارع مهتمّاً بها، فعندما یکون هناک اهتمام من قِبل الشارع بهذه الملاکات الواقعیة، ولأجل أنْ لا تضیع هذه الملاکات یأمر بالاحتیاط بهذا النحو، یعنی إذا بلغک ثواب واستحباب فعل، أعمله، وبذلک یصل الشارع إلی غرضه وهو الحفاظ علی الملاکات الواقعیة للمستحبّات الواقعیة. هذا الاحتمال الخامس.

قد یقال: بأنّ نفس الکلام السابق یأتی فی الاحتمال الخامس باعتبار أنّ الاحتمال الخامس یشترک مع الاحتمال الثالث فی أنّ کلاً منهما حکم مولوی طریقی من أجل التحفّظ علی الملاکات الواقعیة، کل منهما یشترک فی هذا الجانب، جعل الحجّیة للخبر الضعیف أیضاً هو حکم مولوی طریقی الغرض منه الحفاظ علی الواقع، والوصول إلی الواقع، ویکون الغرض من الاحتیاط فی محل الکلام هو إدراک الملاکات الواقعیة الأهم بنظر المولی؛ وحینئذٍ، عندما یهتم بالملاکات الواقعیة، إمّا أنْ یجعل الخبر الضعیف الدال علی استحباب شیءٍ حجّة لکی یصل إلی الواقع، أو یجعل الاحتیاط بهذا المعنی الذی ذکرناه. إذن: فی الاحتمال الخامس جعل الاحتیاط فی مورد بلوغ الاستحباب إنّما هو لغرض امتثال المستحبّات الواقعیة، وإدراک ملاکاتها؛ وحینئذٍ یأتی نفس الإشکال السابق، فیقال: بأنّ هذا لا یناسب لسان الأخبار التی تصرّح بإبداء احتمال الخلاف کما هو الحال فی الاحتمال الثالث، یعنی أنّ غرض کلٍ منهما هو إدراک الواقع والحصول علی الملاکات الواقعیة، فکما أنّ لسان الأخبار التی تصرّح بإبداء احتمال الخلاف لا یناسب جعل الحجّیة أیضاً لا یناسب جعل الاحتیاط؛ لأنّ کلاً منهما حکم طریقی غرضه الوصول إلی الواقع، فلا یکون مناسباً له أیضاً.

ص: 248

لکن الظاهر أنّ الأمر لیس هکذا، فهناک فرق بین الاحتمال الثالث وبین الاحتمال الخامس؛ لأنّ عدم مناسبة لسان الأخبار فی الاحتمال الثالث إنّما هی باعتبار أنّ الحجّیة المفروضة فی الاحتمال الثالث تعنی إحراز الواقع، تعنی جعل الشیء طریقاً للواقع وإلغاء احتمال الخلاف وتتمیم الکشف، وهذا المعنی لیس موجوداً فی الاحتمال الخامس، هذا المعنی الذی علی أساسه وردت المناقشة السابقة علی الاحتمال الثالث، لیس موجوداً فی الاحتمال الخامس، ففی الاحتمال الخامس لا یوجد جعل شیءٍ طریقاً إلی الواقع، إنّما الاحتمال الخامس هو مجرّد احتیاط من قِبل المولی للتحفّظ علی الملاکات الواقعیة التی یهتم بها، لکنّه لم یجعل شیئاً کاشفاً عن الواقع، ولم یجعل شیئاً محرزاً للواقع حتّی یقال لا معنی لأنْ یقول هذا یحرز الواقع وإنْ لم یُصب الواقع، هذا یُحرز الواقع ویبدی احتمال مخالفته للواقع، هذا لا یناسبه، هذا الشیء لیس موجوداً فی الاحتمال الخامس، الاحتمال الخامس احتیاط، بمعنی أنّ الشارع لکی یتحفّظ علی الملاکات الواقعیة المهمّة فی نظره یأمر المکلّف بأنْ یأتی بکل عمل بلغه علیه الثواب، أو بلغه استحبابه من دون أنْ یکون هناک کاشف عن الواقع محرز للواقع، ومن دون جعل شیءٍ طریقاً ومحرزاً للواقع حتّی یقال بأنّ هذا لا یتناسب مع التصریح بإبداء احتمال الخلاف، الأمر لیس هکذا فی الاحتمال الخامس، الاحتمال الخامس هو عبارة عن طریقة یتحفّظ بها المولی علی إدراک الملاکات الواقعیة، فالاحتمال الخامس إنْ لم نقل أنّه یناسب التصریح بإبداء احتمال الخلاف، فأنّه لا ینافیه؛ لأنّه یقول أنا أجعل لک الاحتیاط وآمرک بأنْ تأتی بکل عمل بلغک علیه الثواب وإنْ لم یکن مطابقاً للواقع، وبهذا یتحفّظ المولی علی الملاکات الواقعیة. لو کان الاحتیاط والإتیان بالعمل یقتصر علی خصوص ما یکون مطابقاً للواقع، لما وصل إلی مقصوده وإلی غرضه، وإنّما یصل إلی مقصوده عندما یوسّع من دائرة الاحتیاط، فیجعل الاحتیاط فی موارد العلم، وفی موارد الاحتمال، وفی موارد الشکّ، وفی موارد الظنّ، حتّی یصل إلی مطلوبه وهو الوصول إلی الملاکات الواقعیة، إنْ لم نقل أنّ هذا الاحتمال الخامس یناسب التصریح بإبداء احتمال الخلاف، وإن کنت تحتمل المخالفة، أنا أجعل لک الاحتیاط ؛ لأنّ غرضی هو الحفاظ علی الملاکات الواقعیة، والحفاظ علی الملاکات الواقعیة لا یکون إلاّ بجعل الاحتیاط، وإنْ کنت شاکّاً فی الإصابة، أو کنت تحتمل الإصابة، فإذا لم نقل أنّ هذا مناسب، فهو لا ینافیه بشکل واضح، ویناسبه، ولا نستطیع أنْ نقول أنّ إبداء احتمال الخلاف الذی هو مضمون الأخبار لا یناسب الاحتمال الخامس کما کان یقال فی الاحتمال الثالث، فعدم المناسبة فی الاحتمال الثالث واضحة، بینما عدم المناسبة فی الاحتمال الخامس لیست هکذا.

ص: 249

نعم، یمکن أنْ یُناقش فی الاحتمال الخامس ویُستبعد هذا الاحتمال بأنْ یقال:

أوّلاً: لا یوجد فی أخبار الباب ما یمکن اعتباره قرینة علی الاحتمال الخامس، فیکون احتمالاً ثبوتیاً صرفاً، والظهور الأوّلی للأخبار لیس هذا الاحتمال، الظهور الأوّلی للأخبار هو الاحتمال الأوّل الذی کان هو الإرشاد إلی حکم العقل بحُسن الاحتیاط، أو الاحتمال الرابع الذی کان هو مجرّد الوعد الإلهی، وأنّ المصلحة هی فی نفس الوعد(من بلغه ثواب علی عمل، فعمله، أنا أعطیه هذا الثواب) بلا جعل استحباب، ولا حجّیة للخبر الضعیف؛ لأنّ هذا هو المناسب لشأن المولی(سبحانه وتعالی)کما نقلنا عن السید الخوئی(قدّس سرّه)، أنّه إذا أُسند إلیه ثواب، فأنّه یعطیه ولو لم یکن ذلک الثواب ثابتاً، وهذا هو المناسب لشأنه وعظمته، فالظهور الأوّلی لیس هو الاحتمال الخامس، وإنّما هو الاحتمال الأوّل أو الاحتمال الرابع، أو مُلفّق بینهما.

ثانیاً: نرجع إلی ما هو موجود فی بعض هذه الأخبار من تقیید العمل بأنْ یؤتی به برجاء ذلک الثواب، والتماس ذلک الثواب کما هو موجود فی بعض الأخبار. هذا التقیید أیضاً لا یناسب الاحتمال الخامس، کما کان لا یناسب الاحتمال الأوّل، أو الاحتمال الثالث حیث قلنا أنّه لا یناسب الحجّیة، ترتّب الثواب علی الإتیان بالعمل برجاء ثبوت الثواب، هذا لا یناسب الحجّیة، الحجّیة تعنی الثبوت، ولا معنی حینئذٍ لأنْ یقال بأنّ ترتّب الثواب یتوقّف علی أنْ یأتی به برجاء ذلک الثواب، هذا یناسب عدم الثبوت، کما قلنا ذلک، هنا أیضاً نقول فی الاحتمال الخامس بأنّ تقیید العمل بالإتیان به رجاءً، هذا أیضاً لا یناسب الاحتمال الخامس، حیث لا علاقة للاحتیاط بالإتیان بالعمل برجاء ذلک الثواب، الاحتیاط والغرض منه وهو إدراک المصالح الواقعیة والملاکات الواقعیة المهمّة لا یتوقّف علی الإتیان بالعمل برجاء ذلک الثواب إطلاقاً، إذا قال له(إذا بلغک ثواب علی عمل، فعملته، کان لک ذلک الثواب) والغرض من هذا نفسّره بالاحتیاط، لغرض إدراک المستحبّات الواقعیة، وبهذا یدرک المستحبّات الواقعیة، إذا ابتلی المکلّف بذلک وجاء بما یعلم أنّه مستحب، وما یحتمل أنّه مستحب، وما بلغه أنّه مستحب، بذلک یدرک المستحبّات الواقعیة، سواء جاء به لأجل التماس ذلک الثواب، أو جاء به لا لأجل التماس ذلک الثواب، تقیید العمل بالإتیان به برجاء ذلک الثواب لیس دخیلاً فی الاحتیاط الذی یکون الغرض منه هو الحفاظ علی الملاکات الواقعیة؛ لأنّ الحفاظ علی الملاکات الواقعیة یتحققّ بالإتیان بالعمل الذی بلغه علیه ثواب، فإذا جاء به فقد أدرک الملاکات الواقعیة. أمّا أنْ نقیّد ذلک بالتماس الثواب، فهذا لا یتناسب مع الاحتمال الخامس الذی هو عبارة عن الاحتیاط کما هو الحال فی الاحتیاط فی الأحکام الإلزامیة، الاحتیاط فی الشبهات التحریمیة لا یقیّد بأنْ یترک الفعل لاحتمال الحرمة، وإنّما هو إذا ترک الفعل فی الشبهات التحریمیة، فقد تحقق الغرض من الاحتیاط وهو اجتناب المفاسد الواقعیة، ونفس الکلام أیضاً یقال فی الشبهات الوجوبیة، الاحتیاط المجعول فی الشبهات الوجوبیة، إذا فسّرناه بأنّ الغرض منه هو الحفاظ علی المصالح الواقعیة بالواجبات الواقعیة، فیأمر بالاحتیاط فی کل شبهة وجوبیة، یتحققّ الغرض بلا حاجة إلی التقیید بأنْ یأتی بالفعل لاحتمال وجوبه، وأنْ یأتی بالفعل التماس ذلک الوجوب المحتمل، لا یتوقّف علی ذلک، بینما الروایات تصرّح بذلک، یعنی تقول بأنّ ترتّب الثواب وتحققّ الغرض یتوقّف علی الإتیان بالعمل الذی بلغه علیه الثواب التماس ذلک الثواب، أو رجاء أنْ یکون الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم) قد قاله، وأمثال هذه التعبیرات. هذا أیضاً لا ینسجم مع الاحتمال الخامس.

ص: 250

أورد علی الاحتمال الأوّل الذی هو الإرشاد، یعنی حمل الروایات علی أنّها فی مقام الإرشاد إلی حکم العقل بحُسن الانقیاد، أورد علیه بأنّه خلاف ظاهر الخطاب الصادر من المولی فی أنّه صادر منه بما هو مولی لا بما هو عاقل. الظهور الأوّلی للخطاب الصادر من المولی هو أنّه صادر منه بما هو مولی، أمّا أنْ نحمل هذا الخطاب علی أنّه صادر منه بما هو عاقل، فهذا خلاف الظهور الأوّلی للخطاب الصادر منه، من دون فرق بین أنْ یکون هذا الخطاب بلسان الطلب، أو الترغیب فی الفعل، أو أنْ یکون بلسان الوعد علی الثواب، کلٌ منهما مولوی، فالظهور الأوّلی یقتضی أنْ یکون المولی طلب الفعل بما هو مولی، ووعد بالثواب أیضاً بما هو مولی، هذا ما یقتضیه الظهور الأوّلی للخطاب، فحمله علی الإرشاد یکون خلاف الظاهر.

هذا المطلب وإن کان صحیحاً، فالظهور الأوّلی للخطاب هو أنّه صادر من المولی بما هو مولی، لکن قد تکون هناک قرینة یمکن إبرازها فی نفس هذه الروایات تقتضی أنّ الخطاب الصادر من المولی لم یصدر منه بما هو مولی، وإنّما صدر منه بما هو عاقل. قالوا: أنّ التماس ذلک الثواب هو الانقیاد الذی یحکم العقل بحُسنه، هذه هی القرینة، أنْ یأتی بالفعل لاحتمال أنّ الشارع یریده، هذا معنی رجاء ذلک الثواب، أو رجاء الاستحباب، أو التماس أنّ رسول الله(صلّی الله علیه وآله وسلّم) قد قاله، هذا انقیاد للمولی(سبحانه وتعالی)، هذا الانقیاد الذی یُفترض فی هذه الروایة بقرینة التماس ذلک الثواب، أو رجاء ذلک الثواب، وأمثال هذه التعبیرات، هذا ممّا یحکم العقل بحُسنه بقطع النظر عن الشارع، فالعقل یستقل بحُسن الانقیاد للمولی(سبحانه وتعالی)، والروایات هی إرشاد إلی ذلک ولیس أکثر من هذا، ولیس فیها إعمال مولویة، بقرینة أنّها واردة فی مورد یحکم العقل بحُسنه، وهذا یکون قرینة علی أنّ الخطاب الصادر من المولی لم یصدر منه بما هو مولی، وأنّ المولی هنا لم یعمل مولویة، وإنّما حکم وأرشد إلی ما یحکم به العقل من الحسن ولیس أکثر من هذا.

ص: 251

أقول: یمکن جعل هذه قرینة علی صرف الخطاب المولوی عن ظهوره الأوّلی کما قالوا، ولا یحتاج إلی تأمّل فی هذه القرینة. الشیء الآخر هو أنّ استبعاد هذا الاحتمال لمجرّد أنّ الظهور الأوّلی للخطاب المولوی هو أنّه صادر منه بما هو مولی لا بما هو مرشد وعاقل، استبعاد الاحتمال الأوّل لمجرّد ذلک هذا فیه نوع من الاستعجال؛ لأننّا لابدّ أنْ نلحظ سائر الاحتمالات الثبوتیة المحتملة فی تفسیر هذه الأخبار، فإنْ أمکن إثبات واحدٍ منها بدلیل وقرائن؛ فحینئذٍ نلتزم به ونقول أنّ الاحتمال الأوّل خلاف الظهور الأوّلی، فلا نستطیع أنْ نلتزم به ------ فرضاً ------ لعدم وجود قرینة علیه، فلا یمکن الالتزام به، فنلتزم بما دلّ الدلیل علیه من سائر الاحتمالات الأخری. أمّا إذا فرضنا فرضاً أننّا لم نصل إلی نتیجة فی الاحتمالات الأخری، بحیث لا یمکن إثبات الاحتمال الثانی، ولا الاحتمال الثالث، ولا الرابع ولا الخامس، کل هذه الاحتمالات لا یمکن إثباتها بدلیل وبقرائن واضحة؛ حینئذٍ تکون الأخبار مجملة من هذه الناحیة، أی أنّها تصاب بالإجمال، والإجمال یعطی نفس النتیجة التی یعطیها الاحتمال الأوّل؛ لأنّ الاحتمال الأوّل یقول: لیس هناک حکم مولوی فی هذا المورد، فلا نستطیع أنْ نستفید حکماً مولویاً، وإنّما هناک فقط حکم عقلی، وما صدر من الشارع هو مجرّد إرشاد إلی الحکم العقلی، لیس هناک حکم مولوی صادر من المولی بما هو مولی، فإذا وصلنا إلی الإجمال فی الأخبار، فأنّه یؤدی إلی هذه النتیجة أیضاً، یعنی لیس هناک حکم مولوی، فی موارد بلوغ الاستحباب لا یوجد حکم مولوی، فنبقی نحن والحکم العقلی بحسن الانقیاد؛ لأننّا لا نستطیع أنْ نستفید حکماً مولویاً صادراً من المولی بما هو مولی من هذه الأخبار لکونها مجملة ----- مثلاً ----- فاستبعاد هذا الاحتمال لمجرّد أنّه خلاف الظهور الأوّلی للخطاب الصادر من المولی، کأنّه لا یخلو من شیء.

ص: 252

نعم، الشیء الذی ذُکر، ونوقش به الاحتمال الأوّل هو مسألة أنّه یخالف ظاهر الأخبار من جهة أنّ الأخبار تکاد تکون صریحة فی إعطاء نفس الثواب الذی بلغه، بهذا المضمون(کان له ذلک الثواب)، یعنی هذا الثواب الذی بلغه من حیث الکم، ومن حیث الکیف، ومن حیث النوع، هذا یُعطی له، هنا لا نستطیع أنْ نقول أنّ هذا حکم إرشادی من قبل الشارع؛ لأنّ العقل لا یستقل بتحدید کمیة الثواب، أو نوعیته، العقل إنّما یستقل باستحقاق الثواب، أمّا کمیّة الثواب ونوعیته، ویستقل بأنّه یستحق ذلک الثواب الذی بلغه، وطبعاً هو یختلف باختلاف الأخبار واختلاف الموارد، فهذا ممّا لا یستقل العقل بإدراکه، ومن هنا یکون ما یدرکه العقل یختلف عن ما یُستفاد من الأخبار، الأخبار فیها إعطاء ذلک الثواب بکمّه ونوعه، إعطاء نفس ذلک الثواب، وهذا لا یمکن تفسیره إلاّ علی اساس إعمال مولویة، یعنی أنّ الشارع أعمل مولویته، فقال أنّ الثواب الذی بلغک أنا أعطیه لک، هنا لا یمکن أنْ یکون مرشداً، لا یمکن أنْ یکون هذا صادراً منه بما هو مرشد، وإنّما هو صادر منه بما هو مولی.

إذن: الاحتمال الأوّل یقول نحمل الأخبار علی الإرشاد إلی ما یحکم به العقل، وإنْ کان صحیحاً بالنسبة إلی حکم العقل بأصل استحقاق الثواب، لکن بلحاظ أنّ الروایات لا تحکم بأنّ له ثواب، فلو قالت الروایات(له ثواب) حینئذٍ یکون هناک تطابق بین ما فی الروایات وما فی الحکم العقلی، لکنّها لا تقول ذلک، وإنّما تحددّ الکم والنوع کما یُفهم من الأخبار، وهذا ممّا لا یدرکه العقل، فلا معنی لحمل الأخبار علی الإرشاد.

ص: 253

ومن هنا قد یقال: نحن نختار احتمالاً جدیداً غیر ما تقدّم، وهذا الاحتمال ملفّق من الاحتمال الأوّل والاحتمال الرابع الذی هو الوعد المولوی بإعطاء الثواب، یعنی نلتزم بإعمال المولویة بمقدار تحدید کمیّة الثواب ونوعیة الثواب المعطی، هنا نلتزم بالمولویة، وأمّا فی الباقی، فنلتزم بأنّ ما صدر من الشارع إنّما هو إرشاد إلی حکم العقل.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

أمّا الاحتمال الرابع، والذی هو أنّ مفاد أخبار(من بلغ)مجرّد وعد إلهی لمصلحة فی نفس الوعد بإعطاء ذلک الثواب، فقد اعتُرض علیه بأنّ ظاهر الأخبار کونها بصدد الحث والترغیب فی العمل ولیس مجرّد الوعد الصِرف.

قد یقال: بأنّ کون مفاد الأخبار الترغیب والحث علی العمل لا ینافی کون المراد بهذه الأخبار هو الوعد الصِرف، لا منافاة بینهما حتّی یقال أنّ ظهور الأخبار فی أنّها فی مقام الحث علی العمل ینافی حملها علی أنّه مجرّد وعد صرف، لوضوح أنّه قد یکون الغرض من الوعد بالثواب هو حث المکلّف علی العمل والترغیب فیه، فلا منافاة بینهما حتّی یقال أنّ الحمل علی الوعد الصِرف ینافی ظهور الأخبار فی أنّها فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل.

والجواب عنه هو: أنّ هذا الإشکال ناشئ من عدم استیضاح ما هو المقصود من الاحتمال الرابع، فأنّ المقصود به هو ما تقدّم من أنّه وعد إلهی صِرف لمصلحةٍ فی نفس الوعد، ولیس فی مقام الحثّ علی العمل، ومُثّل له بما تقدّم، باعتبار أنّ هذا هو المناسب لشأنّه(سبحانه وتعالی) ولعظمته، أنّه إذا بلغ الإنسان ثواب علی عمل، وأُسند الثواب إلیه تعالی؛ فحینئذٍ من المناسب لشأنه وعظمته هو أنْ یُعطی ذلک الثواب الذی بلغه.

ص: 254

وبعبارة أخری: أنّ المولی(سبحانه وتعالی) لا یُخیّب رجاء من رجاه، فیعطیه ذلک الثواب؛ لأنّ هذا هو المناسب لشأنه(سبحانه وتعالی)، فمعنی الاحتمال الرابع هو وعد إلهی لمصلحة فی نفس الوعد، ولیس فی مقام الحثّ علی العمل والترغیب فیه، من قبیل ما إذا فُرض أنّ شخصاً یقول(من بلغه أنّی أُطعم کل من جاءنی، وجاءنی هذا الشخص أنا أطعمه ولا أخیّب أمله)، هذا لیس فیه دلالة علی الحثّ علی العمل، لیس فیه دلالة علی الترغیب فی المجیئ إلی داره، وإنّما هو باعتبار أنّه بلغه أنّه یطعم کل من جاءه، فهذا المولی لیس من شأنه أنْ یحرمه من ذلک؛ بل من شأنه أنْ یستجیب لذلک. أمّا أنّه فیه دلالة علی العمل والترغیب فیه، فلا، فمجرّد الوعد لمصلحة فی نفس الوعد لیس فیه دلالة علی الحثّ علی العمل والترغیب فیه. یمکن أنْ یقال أنّ هذا الاحتمال هو خلاف ظاهر الروایات، باعتبار أنّ الروایات ------ إذا استظهرنا ذلک ------ هی فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل، فیکون هذا الاحتمال بهذا الاعتبار منافیاً للظاهر، إذا استظهرنا أنّ الروایات هی فی مقام الحث علی العمل والترغیب فیه. هذه هی المناقشة فی الاحتمال الرابع.

بقی عندنا الاحتمال الثانی: هذا الاحتمال أخذ حیّزاً أکبر من کلماتهم واهتمّوا به أکثر من غیره من الاحتمالات، باعتبار أنّ ظاهر المشهور هو اختیار هذا الاحتمال؛ ولذا أفتی المشهور بالاستحباب مستنداً إلی هذا الاحتمال، حیث یُدعی فیه بأنّ المستفاد من الأخبار هو جعل استحباب واقعی ثانوی للعمل بعنوان البلوغ.

الدلیل علی هذا الاحتمال الذی ذهب إلیه المشهور هو دعوی الملازمة بین ترتّب الثواب وبین الاستحباب. هذا هو أصل الدلیل ومنه تفرّعت الأبحاث الآتیة، أنّ هناک ملازمة بین ترتّب الثواب علی عمل وبین مطلوبیة ومحبوبیة ذلک العمل؛ ولذا کثیراً ما یُبیّن الاستحباب ببیان الثواب، نظیر کثرة بیان الحرمة ببیان العقاب علی العمل، فیُفهم من ترتّب العقاب علی العمل الحرمة؛ لأنّ هناک ملازمة بین ترتّب العقاب علی العمل وبین حرمته. نفس هذه الملازمة تُدّعی فی جانب الثواب، فیقال أنّ الدلیل الدال علی ترتّب الثواب علی عمل یُفهم منه مطلوبیة ذلک العمل واستحبابه، فیثبت الاستحباب، ولعلّه لذلک لم یتوقّف أحد فی استفادة الاستحباب من أحادیث کثیرة ترتّب الثواب علی بعض الأعمال، کما مثّلوا لذلک بما إذا قال(من سرّح لحیته فله کذا)، و(من أعان مسلماً فله کذا).....الخ. یُستفاد منه استحباب هذه الأعمال علی أساس هذه الملازمة، ولعلّ السرّ فی هذه الملازمة هو أنّ الثواب لا یکون جزافاً، وإنّما لابدّ أنْ یکون له سبب، والسبب هو عبارة عن الإتیان بما هو مطلوب ومحبوب للمولی، وهذا یکفی فی إثبات الاستحباب، فبمجرّد أنْ یکون مطلوباً ومحبوباً للمولی یکون مستحبّاً، فیُستکشف الطلب والأمر علی أساس أنّ الثواب لا یکون جزافاً. والذی یُفهم من هذا الاستدلال، أو هکذا یفهم المستدل أنّ الثواب فی الأخبار ------ إذا جاز لنا التعبیر ------ هو الثواب الاستحقاقی، ولیس الثواب التفضّلی، فالثواب التفضّلی جزاف ولیس له سبب کالإتیان بالمأمور به، وإنّما یعطیه المولی(سبحانه وتعالی) من باب التفضّل، فإذا کان الثواب فی الروایات ثواب تفضّلی ------ کما سیأتی التعرّض لذلک ------ فلیس هناک ملازمة بینه وبین الأمر والاستحباب، کأنّهم فرضوا فی الاستدلال أنّ الثواب ثواب استحقاقی بمعنیً من معانی الاستحقاق، وإلاّ، العبد لا یستحق شیئاً علی المولی مهما فعل، لکنّه بمعنیً من معانی الاستحقاق هو ثواب استحقاقی؛ حینئذٍ یقال أنّ الثواب الاستحقاقی لا یکون جزافاً، فلابدّ أنْ یکون له سبب، وسببه هو عبارة عن الإتیان بالمطلوب للمولی؛ وحینئذٍ یُفهم أنّ هذا متعلّق لطلب المولی ولإرادته، فیثبت الاستحباب. هذا أصل الاستدلال.

ص: 255

حینئذٍ یتوجه سؤال لتتمیم الاستدلال، کأنّه یُفترَض سؤال مُقدّر ویجیب عنه المستدل لتوضیح الاستدلال. السؤال المقدّر هو، فإنْ قیل: لا یظهر من الأخبار ترتّب الثواب علی نفس العمل حتّی نثبت استحباب العمل عن طریق الملازمة، مع وضوح أنّ مقصود المشهور الذی یفتی بالاستحباب مستنداً إلی هذا الاحتمال فی تفسیر الروایات، مقصوده استحباب ذات العمل، هذا العمل الذی بلغه علیه ثواب، وجاء به، هذا العمل یکون مستحبّاً؛ حینئذٍ یقال: لا یظهر من هذه الأخبار ترتّب الثواب علی ذات العمل حتّی نستفید علی أساس الملازمة المتقدّمة استحباب ذات العمل، ونفتی باستحباب ذات العمل، وإنّما المستفاد من الأخبار هو ترتّب الثواب علی العمل المأتی به بقصدٍ قربی، وبرجاء ثبوت ذلک الثواب، والتماساً لأنْ یکون النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم) قد قاله، فلم یترتب الثواب فی الأخبار علی ذات العمل، وإنّما ترتب الثواب علی العمل المقیّد بالرجاء والتماس الثواب، فعلی تقدیر تسلیم الملازمة المتقدّمة، ما یثبت بالملازمة هو استحباب الانقیاد؛ لأنّ الإتیان بالعمل برجاء کون العمل مطلوب، وبرجاء أنّه قد أمر به الرسول(صلّی الله علیه وآله وسلّم) هو انقیاد للمولی، فالعمل مترتب علی الانقیاد، فعلی تقدیر ثبوت الملازمة یثبت استحباب الانقیاد والاحتیاط، لا استحباب ذات العمل، فکیف تثبتون استحباب ذات العمل بهذه الملازمة.

الجواب عن هذا التساؤل هو: إنّهم یقولون بأنّ ترتّب الثواب علی العمل الخاص المقیّد وإنْ کان موجود فی بعض هذه الأخبار، لکنّ الأخبار الأخری خالیة من هذا القید؛ بل معظم أخبار الباب خالیة من هذا القید، القید موجود فی روایتین فقط من أخبار الباب، وأمّا الأخبار الأخری التی یبلغ عددها خمسة لیس فیها ذلک القید، وإنّما الموجود فیها هو ترتّب الثواب علی نفس العمل لا علی العمل المأتی به برجاء ثبوت الثواب وأمثال هذا(من بلغه ثواب علی عمل فعمله کان له ذلک الثواب).

ص: 256

اعتُرض علی هذا الاستدلال باعتراضین، أو أکثر:

الاعتراض الأوّل: إذا اعترفت أیّها المستدل بأنّ هناک أخباراً ترتّب فیها الثواب علی العمل المقیّد، وهناک أخبار ترتّب فیها الثواب علی ذات العمل؛ حینئذٍ مقتضی القاعدة هو حمل المطلق علی المقیّد، والنتیجة هی تقیید المطلق بالمقیّد، ویکون حاصل هذا هو أنّ العمل فی جمیع الأخبار یکون مقیّداً، وترتّب الثواب فی جمیع الأخبار یکون علی العمل المقیّد؛ وحینئذٍ کیف یمکن استکشاف استحباب ذات العمل علی أساس الملازمة ؟! هذا غیر ممکن؛ لأنّ الثواب فی جمیع الأخبار بعد حمل المطلق علی المقیّد مترتّب علی العمل المقیّد، وقلنا أنّ العمل المقیّد هو عبارة عن الانقیاد، والاحتیاط، فلا یمکن أنْ نستفید استحباب ذات العمل وإنْ لم یأت به بعنوان الانقیاد، وإنْ لم یأتِ برجاء وجود الثواب.

وبعبارة أخری: کأنّ المستدل قصر النظر علی الأخبار المطلقة، یقول أنّ الأخبار المطلقة ترتّب فیها الثواب علی ذات العمل، وبالملازمة یثبت استحباب ذات العمل، ولم یلاحظ الأخبار المقیّدة، أو لم یأخذها بنظر الاعتبار. الاعتراض الأوّل یقول لابدّ من أخذ الأخبار المقیّدة بنظر الاعتبار، وبالتالی مقتضی القاعدة هو حمل المطلق علی المقیّد، فلا تبقی عندنا أخبار مطلقة بعد التقیید؛ بل الثواب فی جمیع الأخبار یکون مترتّباً علی العمل المقیّد، فإذن: لا یمکن استکشاف استحباب ذات العمل علی أساس الملازمة.

من الواضح أنّ المطلق والمقیّد فی محل کلامنا من قبیل المطلق والمقیّد المثبتین، أخبار یترتب فیها الثواب علی مطلق العمل، وأخبار یترتب فیها علی العمل المقیّد، فیکون من قبیل(أکرم العالم)، و(أکرم العالم العادل) فهما مثبتان، فی المطلق والمقیّد المثبتین حمل المطلق علی المقیّد یثبت فی موارد:

ص: 257

المورد الأوّل: ما إذا فرضنا أنّ الحکم فی المطلقات والمقیّدات واحد، ولا یوجد تعددّ فی الحکم، فإذا افترضنا ذلک؛ حینئذٍ تتحققّ حالة التعارض بین الدلیلین، فیُحمل المطلق علی المقیّد، بمجرّد أنْ نفترض أنّ الحکم واحد؛ حینئذٍ یتعارض الدلیلان؛ لأنّ الحکم الواحد له موضوع واحد، ولا یُعقل أنْ یکون للحکم الواحد موضوعان، فموضوعه إمّا مطلق العالم، أو العالم العادل. أمّا أنْ یکون هذا الحکم الواحد موضوعه مطلق العالم، ویکون موضوعه العالم العادل، فهذا غیر ممکن أصلاً، هنا یقع التعارض بینهما؛ لأنّ المطلقات تقول أنّ موضوع الحکم هو مطلق العالم، بینما المقیّدات تقول أنّ موضوعه هو العالم العادل، فهی تنفی ذاک، فیتحققّ التکاذب بینهما والتعارض؛ وحینئذٍ لابدّ من حمل المطلق علی المقیّد لکی یکون للحکم موضوع واحد، وقوانین التعارض تقتضی حمل المطلق علی المقیّد، فیکون لهذا الحکم الواحد موضوع واحد وهو العالم العادل، فیُحمل المطلق علی المقیّد.

أمّا إذا لم نفهم وحدة الحکم، واحتملنا تعددّ الحکم احتمالاً معتداً به، أی أنّ هناک حکمان، أحدهما یثبت لمطلق العالم والآخر یثبت للعالم العادل؛ فحینئذٍ لا تعارض، ولا داعی لحمل المطلق علی المقیّد؛ بل نلتزم بکلٍ منهما، حکم ثابت للمطلق، وحکم ثابت للمقیّد.

إذا أردنا أنْ نطبّق هذا علی محل الکلام، نقول: فی محل الکلام لدینا روایات مطلقة وروایات مقیّدة، فإذا فهمنا وحدة الحکم، وأنّ الحکم فی المقام فی کل هذه الروایات واحد؛ حینئذٍ هذا الحکم الواحد إمّا أنْ یثبت لمطلق الفعل، أو یثبت للفعل الخاص، أی ترتّب الثواب الذی یُستفاد منه الاستحباب، إمّا أنْ یترتب علی مطلق الفعل، أو یترتب علی الفعل المقیّد، فتقع حالة التعارض بین الدلیلین، فیُحمَل المطلق علی المقیّد. وأمّا إذا لم نفهم ذلک، واحتملنا احتمالاً معتدّاً به أنّ الحکم متعددّ، بمعنی أنّ المطلقات تنظر إلی استحباب نفسی ثابت لذات الفعل بعنوان البلوغ، وأمّا المقیّدات فهی ناظرة إلی شیءٍ آخر ولیست ناظرة إلی الاستحباب النفسی، وإنّما تکون المقیّدات ناظرة إلی حکم العقل بحُسن الانقیاد.

ص: 258

وبعبارة أخری: إنّ المقیّدات ناظرة إلی الإرشاد إلی حکم العقل بحُسن الانقیاد، فعندما تقول(من بلغه ثواب علی عمل وعمله التماس ذلک الثواب، کان له ذلک الثواب) هنا الثواب ترتّب علی الانقیاد، وترتّب علی الإتیان بذلک العمل لاحتمال أنْ یکون مطلوباً للمولی(سبحانه وتعالی). هذا لا علاقة له بالاستحباب النفسی الثابت للعمل، ذاک شیء، وهذا شیء آخر، المطلقات ناظرة إلی الاستحباب النفسی للعمل، والمقیدات ناظرة إلی حکم إرشادی، إرشاد إلی ما یحکم به العقل من حُسن الاحتیاط واستحقاق الثواب علیه، وحُسن الانقیاد. إذا احتملنا تعددّ الحکم؛ حینئذٍ لا موجب لحمل المطلق علی المقیّد؛ بل نعمل بکلٍ منهما، وبهذا یثبت قول المشهور؛ لأنّ الأخبار المطلقة ناظرة إلی الاستحباب النفسی لذات العمل، فهی تدل علی ترتّب الثواب علی ذات العمل، فیثبت استحبابه النفسی.

إذن: لابدّ أنْ تُنقّح هذه الجهة، أنّ ما نفهمه من مجموع الأخبار المطلقات والمقیّدات، أنّ مفادها حکم واحد تشیر إلیه هذه الأخبار، لکن تارة تُثبِت الحکم الواحد لذات العمل، لمطلق العمل، وأخری تثبته للعمل المقیّد، لکنّه حکم واحد.

وبعبارة أخری: استبعدنا مسألة حمل المطلقات علی أنّها ناظرة إلی الاستحباب النفسی الثابت لذات العمل، وحمل المقیدات علی أنّها ناظرة إلی الإرشاد إلی حکم العقل بحُسن الانقیاد، استبعدنا هذا الاحتمال، ولا نحتمله، وهذا معناه أنّ الحکم واحد. هل الأمر هکذا ؟ هل یُحتمَل فی الأخبار أنْ یکون الحکم فیها متعدد ؟ یعنی تکون بعض الأخبار ناظرة إلی جهة، وبعض الأخبار ناظرة إلی جهة أخری، بعض الأخبار ناظرة إلی ترتّب الثواب علی نفس العمل واستحبابه، أمّا الأخبار الأخری فهی ناظرة إلی حکم العقل بحُسن الانقیاد، هذا التفکیک فی هذه الأخبار هل هو ممکن، أو غیر ممکن ؟ إذا اقتنعنا بأنّه ممکن؛ فحینئذٍ لا داعی إلی حمل المطلق علی المقیّد، ویصح کلام المشهور، ویصح کلام المستدل؛ لأنّه یستدلّ بتلک الأخبار الناظرة إلی الاستحباب النفسی، وترتّب الثواب علی ذات العمل، فبالملازمة یثبت استحبابه النفسی. وأمّا إذا لم نحتمل هذا التعدّد، واستظهرنا أنّ الحکم واحد فی هذه الأخبار من خلال قرائن موجودة فی هذه الأخبار کاشتراک الأخبار فی التعبیر، وفی اشتراط البلوغ، وکمیّة الثواب یُعطی له مثل ذلک الثواب. هذا قد یُبعّد مسألة التعدّد. فی الإرشاد إلی حکم العقل لیس هناک ضرورة لاشتراط البلوغ، فمجرّد أنْ یحتمل المکلّف أنّ هذا مراد للمولی ویأتی به لاحتمال أنّه مراد هذا یکفی فی حکم العقل بحُسن الانقیاد، سواء بلغه، أو لم یبلغه. ذِکر البلوغ فی کل هذه الأخبار، الثواب الخاص الذی یُعطی والذی قلنا أنّ العقل لا یدرکه، ولا یدرک تحدید کمیّة ونوعیّة الثواب، هذا کلّه قد یُفهم منه وحدة الحکم، فإذا فُهم وحدة الحکم؛ حینئذٍ یکون التعارض بین الأخبار ثابتاً؛ لأنّ الحکم الواحد لا یکون له موضوع متعدّد، فیقع التعارض بین الأخبار؛ وحینئذٍ نطبّق قوانین التعارض، فیُحمل المطلق علی المقیّد ولا یصح کلام المشهور؛ لأنّ الثواب لم یترتّب فی جمیع الأخبار علی ذات العمل حتّی نستفید استحبابه.

ص: 259

أمّا إذا قلنا بأنّه لا مانع من أنْ یکون الحکم متعدّد، ففی هذه الحالة یصح کلام المشهور. هذا المورد الأوّل الذی یتعیّن فیه حمل المطلق علی المقیّد، وهو ما إذا استفدنا من أیّ شیء، سواء من دلیل خارجی، أو من نفس المطلقات والمقیّدات أنّ الحکم واحد، بمجرّد أنّ نستفید أنّ الحکم واحد؛ حینئذٍ لابدّ من حمل المطلق علی المقیّد.

المورد الثانی الذی یتعیّن فیه حمل المطلق علی المقیّد هو ما إذا کان المقیّد له مفهوم؛ حینئذٍ هو ینفی المطلق ویعارضه، یعنی مرة یقول( أکرم العالم العادل) فی قبال(أکرم العالم)، ومرةً یقول(أکرم العالم إذا کان عادلاً)، وقلنا بأنّ الجملة الشرطیة لها مفهوم؛ حینئذٍ هی تنفی وجوب إکرام غیر العادل، وهذا یتنافی مع أکرم العالم مطلقاً، فیحصل التکاذب بینهما؛ وحینئذٍ لابدّ من حمل المطلق علی المقیّد.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

کان الکلام فی الاعتراض الأوّل علی الاستدلال علی الاحتمال الثانی، والاعتراض کان یقول أنّ الأخبار مطلقة ومقیّدة، فلنحمل المطلق علی المقیّد، وبالتالی إذا حملنا المطلق علی المقیّد تکون جمیع الأخبار مقیّدة برجاء الثواب، أی أنّ العمل الذی ترتّب علیه الثواب لیس هو ذات العمل، وإنّما العمل المأتی به برجاء الثواب، فلا یمکن استکشاف استحباب ذات الفعل بقاعدة الملازمة، وإنما علی تقدیر ثبوت الملازمة یُستکشف استحباب الانقیاد لا استحباب ذات الفعل.

ذکرنا أنّ حمل المطلق علی المقیّد له موازین، ویثبت فی موارد، وله ملاکات:

الملاک الأوّل: هو وحدة الحکم فیما إذا کانا مثبتین کما فی محل الکلام، فعندما نفترض أنّ الحکم واحد فی المطلقات وفی المقیّدات؛ حینئذٍ یقع التعارض بینهما بنکتة أنّ الحکم الواحد له موضوع واحد، والموضوع الواحد إمّا أنْ یکون مطلقاً، أو یکون مقیّداً، فیقع التعارض بین الدلیلین، وهذا لا یُفرّق فیه بین أنْ نقول بالمفهوم، أو لا نقول بالمفهوم.

ص: 260

أمّا التعارض علی تقدیر القول بالمفهوم، فواضح، وأمّا إذا لم نقل بالمفهوم، فالتعارض یکون من جهة أنّه حکم واحد لابدّ أنْ یکون له موضوع واحد، بینما المقیدات هی بالمنطوق تدل علی أنّ موضوع ذلک الحکم هو المقیّد، بینما المطلقات تدل علی أنّ موضوع ذلک الحکم هو المطلق، وهذا هو الذی یوجب التعارض حتّی إذا لم نقل بالمفهوم، وأهملنا جانب المفهوم أصلاً، یقع التعارض بینهما بالمنطوق؛ لأنّ هذا یدل علی أنّ موضوع الحکم هو المطلق والطبیعة، بینما هذا یدل علی أنّ موضوع الحکم هو المقیّد، أی أنّ موضوع الحکم هو الفعل المأتی به برجاء الثواب والمطلوبیة، هذا هو موضوع الحکم والذی یترتّب علیه الثواب، بینما تلک تقول أنّ الثواب یترتب علی ذات الفعل، سواء جیء به بهذا الرجاء والقصد، أو جیء به لا بهذا القصد، هذا یوجب التکاذب بینهما والتعارض، ومن هنا تکون وحدة الحکم ملاکاَ للتعارض.

نعم، إذا افترضنا تعدد الحکم، أو یکفینا عدم إحراز وحدة الحکم، ولیس بالضرورة أنْ نحرز تعدد الحکم، وإنّما إذا لم نحرز وحدة الحکم؛ حینئذٍ فی هذه الحالة لا یوجد تعارض بین الدلیلین، عدم التعارض بینهما فی حال تعدّد الحکم مبنی علی أنْ لا یکون للمقیّدات مفهوم أصلاً، کما إذا کان المقیِّد وارداً بعنوان الجملة الوصفیة، وقلنا بأنّ التقیید بالوصف لا یدل علی المفهوم أساساً، فی هذه الحالة لا تعارض بین الدلیلین، حکمان متعددان ------ بحسب الفرض ------- موضوع أحدهما هو المطلق، وموضوع الآخر هو المقیّد، والمفروض أنّ المقیّد لا ینفی طبیعی الحکم عن المورد الفاقد للقید لا مطلقاً، ولا فی الجملة، الذی هو المفهوم بنحو السالبة الجزئیة، لا ینفیه أصلاً، فلا تعارض بینهما إذا لم نقل بالمفهوم أصلاً. هذا هو الملاک الأوّل.

ص: 261

الملاک الثانی: أنْ یُدّعی وجود مفهوم للمقیّد، أی أنْ یکون للمقیّد مفهوم، ولو کان بنحو السالبة الجزئیة حتّی إذا فرضنا تعددّ الحکم، ولکی یکون ملاکاً مستقلاً فی قبال الملاک الأوّل نفترض أنّ الحکم متعدّد، لکن لمّا کان المقیّد له مفهوم، ولو کان بنحو السالبة الجزئیة؛ فحینئذٍ یقع التعارض بینهما، ویکون هذا موجباً لحمل المطلق علی المقید؛ لأنّ المقیّد ینفی طبیعی الحکم عن المورد الفاقد للقید، إمّا ینفیه مطلقاً، أو بنحو السالبة الجزئیة، وفی الجملة، وعلی کلا التقدیرین یکون منافیاً للمطلقات التی تثبت الحکم فی جمیع أفراد ذلک المطلق، تثبته مطلقاً، بینما هذه تنفی الحکم عن بعض أفراد ذلک المطلق وهی عبارة عن الأفراد الفائدة للقید، تنفی الحکم، ولو فی الجملة وبلحاظ بعض الموارد، وهذا خلاف المطلق الذی یثبت الحکم لجمیع أفراد المطلق، فیقع التعارض بینهما؛ وحینئذٍ یکون هذا ملاکاً لحمل المطلق علی المقیّد. هذا الملاک نفترضه حتّی إذا قلنا بتعدّد الحکم، هذا یکون ملاکاً مستقلاً للتعارض والتنافی، وبالتالی حمل المطلق علی المقیّد إذا قلنا بالمفهوم ولو بنحو السالبة الجزئیة، لِما قلناه من وجود تنافٍ بین المطلق وبین المقیّد، فالمطلق یثبت طبیعی الحکم بلحاظ کلّ الأفراد، بینما المقیّد ینفی ثبوت طبیعی الحکم بلحاظ بعض أفراد المطلق، فیتنافیان.

الملاک الثالث: أنْ یُدّعی أنّ اجتماع حکمین متماثلین علی موضوعین بینهما نسبة العموم والخصوص المطلق محال، کاستحالة اجتماع حکمین متماثلین علی موضوع واحد، یُدّعی بأنْ لا فرق بین اجتماع حکمین متماثلین علی موضوع واحد، وبین اجتماع الحکمین المتماثلین علی موضوعین بینهما عموم وخصوص مطلق، بأنْ یکون أحد الحکمین ثابتاً للمطلق، والآخر ثابت للمقیّد، هذا أیضاً یُدّعی استحالته، فإذا کان مستحیلاً؛ فحینئذٍ یتکاذب الدلیلان؛ لاستحالة أنْ یکون هناک حکمان أحدهما ثابت للمطلق، والآخر ثابت للمقیّد، حتّی لو کان الحکم متعدّداً، وحتّی لو قلنا بالمفهوم، أو أنکرنا المفهوم، اصلاً یستحیل أنْ یکون هناک حکمان متماثلان یثبتان لموضوعین بینهما عموم وخصوص مطلق، هذا ملاک خاص للتعارض والتنافی ولزوم حمل المطلق علی المقیّد حتّی ترتفع هذه الاستحالة، ویرتفع هذا التنافی. هذا الملاک الثالث لحمل المطلق علی المقیّد.

ص: 262

وأمّا إذا انتفت هذه الملاکات، کما إذا فرضنا أنّ الحکم متعدّد، وفرضنا عدم المفهوم رأساً، أصلاً لا مفهوم للمقیّد، وقلنا بعدم استحالة اجتماع حکمین علی موضوعین بینهما عموم وخصوص مطلق، فی هذه الحالة لا تعارض ولا موجب لحمل المطلق علی المقیّد؛ بل یبقی المطلق علی إطلاقه، والمقید کذلک، ونأخذ بکلا الدلیلین ونلتزم بهما؛ حینئذٍ یقع الکلام فی أنّ هذه الملاکات التی تقتضی حمل المطلق علی المقیّد، کما قیل فی الاعتراض، هل هی موجودة فی محل الکلام ؟

أمّا الملاک الأوّل: فی الدرس السابق أشرنا إلی أنّه قد یُدّعی تحققّ هذا الملاک فی المقام، وهو وحدة الحکم، المستظهر من مجموع الأخبار، باعتبار ورودها بلسان واحد وبطرزٍ واحدٍ من البیان مع ذکر البلوغ فیها، حیث ورد فیها کلّها(من بلغه)، و(کان له ذلک الثواب الذی بلغه) یعنی تحدید الثواب الذی یُعطی لهذا العامل کمّاً وکیفاً بأنّه مساوٍ للثواب الذی بلغه. هذه کلّها یمکن أنْ تعتبر قرائن علی وحدة الحکم فی هذه الروایات، تعددّ الحکم فی الروایات معناه أنّ الروایات المطلقة تقتضی ثبوت استحباب نفسی للفعل بعنوان(البلوغ) فتکون ناظرة إلی الاستحباب النفسی للفعل بعنوان(البلوغ)، فهی ناظرة إلی إثبات الاستحباب، الروایات المقیّدة ------ التی أسمیناها المقیّدات ------ التی فیها التماس ذلک الثواب، أو طلب قول النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم) التی تُصرّح بالقید، أنّ الثواب لا یُعطی لذات العمل، وإنّما یُعطی للمأتی به برجاء الثواب، تعددّ الحکم یعنی أنّ المقیّدات تکون ناظرة إلی حکم إرشادی، وبعبارة أخری: مفادها الإرشاد؛ لأنّ الإتیان بالعمل برجاء الثواب هو انقیاد، واحتیاط، فحینئذٍ یکون مفاد الروایة هو الإرشاد إلی حکم العقل، فتُحمل المطلقات علی أنّها فی مقام بیان حکم مولوی استحبابی، بینما تُحمَل المقیّدات علی أنّها إرشاد إلی استحقاق هذا الفاعل للثواب، هذا معنی تعدّد الحکم. نقول: أنّ هذه القرائن التی ذکرناها هی قرائن علی وحدة الحکم، أنّ الحکم فی کلّ الروایات واحد ولیس متعدّداً؛ لهذه القرائن، أسلوب البیان، ولسان الروایات کلّها لسان واحد، وذِکر البلوغ، مع أنّ دخالة البلوغ فی الحکم العقلی لیست واضحةً، والإرشاد إلی الحکم العقلی، الحکم العقلی ثابت ولو من دون بلوغ، مجرّد احتمال الشیء یکفی لإثبات حسن الانقیاد، من یأتی بالفعل لاحتمال الثواب، ولو لم یبلغه الثواب أصلاً، لکن إذا احتمل الثواب، یعنی احتمل أنّ الشارع یرید هذا فجاء به لاحتمال أنّ الشارع یریده، هذا انقیاد، واحتیاط، لیس مقیّداً بالبلوغ، کما أنّ مسألة تحدید کمیّة الثواب ونوعیته أیضاً لا مجال له فی الحکم العقلی. إذن: لابدّ أنْ یکون الحکم فی کل هذه الروایات حکماً واحداً، وهذا یؤیّد حمل المطلق علی المقیّد، یعنی یؤیّد وحدة الحکم فی کلّ الروایات، وهذا یتناسب مع هذه القرائن، یتناسب مع البلوغ المذکور فی کلّ الروایات، ومع تحدید کمیة ونوعیة الأجر المذکور فی کل الروایات أیضاً، المناسب لهذا الحکم الواحد لیس هو الاستحباب النفسی، المناسب له هو ترتّب الثواب علی الفعل الذی یأتی به برجاء الثواب، هذا حکم واحد، فلا تعدد فی الحکم، لهذه القرائن، وإلاّ لا وجه لذکر البلوغ فی الروایات المقیّدات، لو کان الحکم متعدداً، کما لا وجه لذکر اشتراط الأجر فی الروایات المطلقات. هذه مجموعة من القرائن قد یُستکشف منها أنّ الحکم واحد، فإذا کان الحکم واحداً، یقع التعارض؛ وحینئذٍ لابدّ من حمل المطلق علی المقیّد.

ص: 263

أقول: قد یُدّعی، وهذا یتبع ما یفهمه الإنسان من هذه الروایات عندما یتأمل فیها قد یحصل له نوع من الاطمئنان بوحدة الحکم، فیتحققّ الملاک الأوّل لحمل المطلق علی المقیّد. أمّا إذا لم یحصل اطمئنان ولا جزم بوحدة الحکم؛ فحینئذٍ یرتفع هذا الملاک، لو بقینا نحن وهذا؛ حینئذٍ نقول لا وجه لحمل المطلق علی المقیّد؛ لأنّ حمل المطلق علی المقیّد مبنی علی افتراض وحدة الحکم، علی افتراض إحراز هذا الملاک، فإنْ لم نحرز وحدة الحکم، حتّی إذا احتملناها، هذا لا یکفی لحمل المطلق علی المقیّد.

أمّا بالنسبة للملاک الثانی: فغایة ما یمکن أنْ یُدّعی فی المقام لتطبیق الملاک الثانی علی محل الکلام هو أنْ یقال: أنّ المستفاد من الجملة المتکرّرة فی کل الروایات(من بلغه ثواب علی عمل) أنّ(مَنْ) شرطیة، کأنّه قال(إنْ بلغه ثواب علی عمل)؛ فحینئذٍ تدلّ الجملة علی انتفاء الثواب بانتفاء هذا الشرط کما هو الحال فی الجملة الشرطیة، فتکون دالّة علی المفهوم، وقلنا أنّ الملاک الثانی إذا کان المقیّد دالاً علی المفهوم؛ حینئذٍ یقع التعارض؛ وحینئذٍ یحمل المطلق علی المقیّد، فیقال أنّ(مَنْ) شرطیة، ومقتضی کونها شرطیة أنّ الثواب ینتفی بانتفاء الشرط، والشرط الذی دخلت علیه أداة الشرط ------ بحسب الفرض ------ هو البلوغ، فترتّب الثواب ینتفی إذا انتفی البلوغ وملحقاته المذکورة فی الجملة؛ لأنّ الشرط لیس هو البلوغ وحده، وإنّما(من بلغه ثواب علی عمل، فعمله رجاء ذلک الثواب) وجواب الشرط هو(کان له ذلک)، فإذا انتفی الشرط، ولو بانتفاء واحدٍ من ملحقاته ینتفی الثواب. وانتفاء الشرط تارة ینتفی أصل البلوغ، أی لا یبلغه, وتارةً یبلغه، ولکنّه لا یعمل به، وتارة أخری یبلغه، ویعمل به، لکنّه لیس برجاء ذلک الثواب. هنا أیضاً مقتضی الشرطیة انتفاء الثواب، فالجزاء ینتفی بانتفاء الشرط، ولو بانتقاء بعض ملحقاته، وما عُطف علیه فی نفس الجملة، ومن جملة هذه الموارد هو محل کلامنا، أنّه إذا جاء بالفعل بعدما بلغه ثواب علیه لا برجاء الثواب، مقتضی الشرطیة أنّ هذا لا یترتّب علیه الثواب، وهذا معناه أنّه سوف یثبت مفهوم للمقیِّدات؛ لأنّها هی التی فیها(فعمله رجاء ذلک الثواب) فحینئذٍ هی تنفی ترتّب الثواب علی ذات العمل المأتی به بعد البلوغ لا برجاء الثواب، بینما المطلقات تثبت الثواب علی ذات العمل، وإنْ جاء به لا برجاء الثواب، فیتحقق التعارض بینهما، فیُحمل المطلق علی المقیّد. هذا غایة ما یمکن أنْ یقال، أنْ نلتفت إلی المقیّدات، و(مَنْ) شرطیة، صحیح هی شرطیة فی کل الروایات، لکن تلک لیس فیها محل کلامنا، لیس فیها رجاء الثواب، المقیّدات فیها رجاء الثواب، فإذا انتفی الشرط، ولو بانتفاء واحد من ملحقاته والتی منها رجاء الثواب؛ فحینئذٍ تدلّ الشرطیة علی انتفاء ترتّب الثواب علی ذات العمل، بینما مقتضی المطلقات هو ترتّب الثواب علی ذات العمل، وإنْ جاء به لا برجاء الثواب، فیقع التعارض بینهما، فیکون لهذه الجملة مفهوم، ویتحقق الملاک الثانی للتعارض والتکاذب وحمل المطلق علی المقیّد. هذا غایة ما یمکن أنْ یقال.

ص: 264

لکن هذا کما تری، فأنّ(من) فی المقام موصولة ولیست شرطیة، کما هو فی الاستعمالات الأخری، و(من بلغه) یعنی الذی بلغه ثواب علی عمل، ولعلّه یؤیّد أنها موصولة هو وجود الضمیر فی(بلغه)، فأنّه إذا کانت(من) شرطیة فعلی ماذا یعود الضمیر ؟ لیس هناک شیء یعود علیه الضمیر، فالجملة ابتدائیة، بینما (من بلغه) یعود علی أسم الموصول، بقطع النظر عن ذلک، واضح أنّ(من) فی المقام موصولة ولیست شرطیة.

وأمّا الملاک الثالث: فهناک کلام فی أصل الکبری، وهناک من المحققین من ذهب إلی استحالة اجتماع حکمین متماثلین علی موضوعین بینهما عموم وخصوص مطلق، بقطع النظر عن الکبری، نفترض تمامیة هذه الکبری، لکنّ الظاهر أنّها لا تنطبق فی محل الکلام لإثبات لزوم حمل المطلق علی المقیّد، والسرّ فی ذلک هو أنّه فی المقام لا یوجد عندنا حکمان متماثلان یجتمعان علی موضوعین بینهما عموم وخصوص مطلق، من الواضح أنّ المقیّدات لا ترید إثبات نفس الحکم الثابت فی المطلقات مع فرض التعدّد، حتّی نقول اجتمع حکمان متماثلان علی الفعل مطلقاً، وعلی الفعل المأتی به برجاء الثواب، وهذان بینهما عموم وخصوص مطلق، لا ترید إثبات مثل الحکم، وإنّما هی ناظرة إلی الإرشاد، المقیِّدات لا ترید أنْ تثبت نفس الاستحباب الثابت فی المطلقات بعد فرض تعدّد الحکم کما هو المفروض، فالحکمان فی المقام، بناءً علی التعدّد لیسا متماثلین، وإنّما المقیّدات هی مجرّد إرشاد إلی الحکم العقلی، وهذا لیس مثل الاستحباب الثابت بالمطلقات حتّی یقال بلزوم اجتماع حکمین متماثلین علی موضوع واحد، وهذا محال، فلابدّ من حمل المطلق علی المقیّد دفعاً لهذا المحال. انطباق هذه الکبری فی محل الکلام غیر تام، وعلیه: فالملاک الثالث غیر منطبق فی محل الکلام، والملاک الثانی أیضاً غیر منطبق؛ لأنّ الجملة محل الکلام لیس لها مفهوم، فیبقی الملاک الأوّل، والملاک الأوّل تختلف فیه الأنظار، ومن هذه القرائن یمکن أنْ یجزم الإنسان، أو یطمأن علی الأقل، أو یستظهر استظهاراً معتدّاً به مشمولاً لأدلّة حجّیة الظهور ----- مثلاً ----- بأنّ الحکم فی جمیع الروایات واحد ولیس متعدداً. هذا ما یرتبط بالاعتراض الأوّل.

ص: 265

الاعتراض الثانی: وهو اعتراض مهم، والأصل فیه هو الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الرسائل، (1) ولعلّه فی غیر الرسائل أیضاً، حیث لدیه رسالة خاصّة فی قاعدة التسامح فی أدلّة السنن. فی الرسائل واضح أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) بعد أنْ قرّب الاستدلال بالروایات علی الاحتمال الثانی، یعنی الاستحباب النفسی للفعل بعنوان البلوغ، أورد علی هذا الاستدلال إیرادات، وقد دفع هذه الإیرادات ما عدا الإیراد الأوّل، وقال أنّ الإنصاف أنّه وارد، والإیراد الأوّل هو عبارة عن الاعتراض الثانی الذی نرید أنْ نذکره، وحاصله: أنّ الروایات کلّها مقیّدة برجاء المطلوبیّة والثواب، وحتّی التی سمّاها مطلقات هی فی الحقیقة لیست مطلقات، وإنّما هی أیضاً مقیّدة برجاء المطلوبیة ورجاء الثواب، والمقیّدات هی أیضاً مقیدة، فمجموع الروایات هی مقیّدة ولیس فیها مطلقات حتّی یقال بوجود مطلقات وترتّب الثواب علی ذات الفعل، وبالملازمة نستکشف استحباب ذات الفعل کما هو المطلوب؛ بل کلّها مقیّدة ولیس فیها مطلقات، غایة الأمر أنّ الدلیل علی التقیید فی الروایات التی فیها التماس ذلک الثواب، ورجاء ذلک الثواب، والتماس قول النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم)، هذه تدل علی التقیید، بینما فی المطلقات نستفیده من فاء التفریع فی قوله(فعمله)، یُستفاد من فاء التفریع أنّ(عمله) یعنی برجاء الثواب، فتکون کل الروایات ناظرة إلی الانقیاد والاحتیاط، فلیس فیها دلالة علی استحباب ذات العمل حتّی إذا آمنّا بالملازمة. هذه فکرة الاعتراض ویأتی الحدیث عنه إنْ شاء الله تعالی. وصلّی الله علی محمدٍ وآله الطاهرین.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

ص: 266


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 155.

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

کان الکلام فی الاستدلال علی الاحتمال الثانی وهو أنّ المستفاد من هذه الأخبار هو الاستحباب النفسی للعمل الذی بلغ علیه الثواب، والدلیل کان هو دعوی الملازمة بین ترتب الثواب وبین الاستحباب، وحیث أنّ الثواب هنا ترتّب علی العمل، فبالملازمة یثبت استحباب العمل.

اعترض علی هذا الدلیل:

الاعتراض الأوّل: اعتراض الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، (1) وحاصل الاعتراض: أنّ الثواب لم یُرتّب علی ذات العمل حتّی نستفید استحباب العمل بالملازمة، وإنّما الثواب فی الأخبار رُتّب علی الإتیان بالعمل برجاء الثواب، وعبّرنا عنه بالحصّة الانقیادیة من العمل، یعنی رُتّب الثواب علی الإتیان بالعمل برجاء الثواب، فیکون الثواب مرتّب علی الحصّة الانقیادیة، ومثل هذا لا یکشف عن الاستحباب؛ إذ لا إشکال فی أنّ الانقیاد یترتّب علیه الثواب بقطع النظر عن الاستحباب، وبقطع النظر عن الأمر، فلا یمکن أنْ نستکشف من ترتّب الثواب علی الانقیاد أو الاحتیاط وأمثال هذه العناوین استحباب ذلک العمل، وإنّما یمکن استفادة الاستحباب عندما یکون الثواب مترتّباً علی ذات العمل. الاعتراض یقول: أنّ الثواب لم یترتّب علی ذات العمل، وإنّما ترتّب علی الإتیان بالعمل برجاء الثواب، وهذه الحصة انقیادیة لا یمکن أنْ نستکشف الاستحباب النفسی من ترتّب الثواب علیها. ویُدّعی فی نفس الاعتراض أنّ کل الأخبار تدلّ علی ترتّب الثواب علی الحصّة الانقیادیة، أمّا ما کان من قبیل(فعمله التماس ذلک الثواب) فواضح، وأمّا ما کان من المطلقات(بلغه ثواب علی عمل فعمله، کان له ذلک)، هذا أیضاً بقرینة التفریع أیضاً یکون ظاهراً فی أنّ العمل أُتی به برجاء الثواب الذی بلغه؛ لأنْ بالنتیجة کل الأخبار المطلقات والمقیّدات تدلّ علی ترتّب الثواب علی الحصّة الانقیادیة من العمل حتّی ما کان من قبیل(فعمله) من دون التماس ذلک الثواب، هذا أیضاً ظاهر فی أنّ العمل أُتی به برجاء ذلک الثواب، یعنی کان بلوغ الثواب هو الداعی له إلی العمل. إذن: الأخبار کلّها تدلّ علی ترتّب الثواب علی الحصّة الانقیادیّة من العمل وفی مثل ذلک لا یمکن أنْ نستکشف الاستحباب النفسی لذات العمل کما هو المطلوب.

ص: 267


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 155.

قلنا: أنّ هذا الاعتراض أجیب عنه بجوابین:

الجواب الأوّل: للمحققّ الخراسانی(قدّس سرّه) وقد تقدّم سابقاً.

الجواب الثانی: وهو للمحقق الأصفهانی(قدّس سرّه) ذکره فی حاشیته علی الکفایة، وحاصل ما ذکره: هو أنّ فاء التفریع کما یمکن أنْ تکون من باب تفریع الشیء علی علّته الغائیة وعلی داعیه، کذلک یمکن أنْ تکون لمجرّد الترتیب بین شیئین من دون أنْ یکون أحد الشیئین علّة غائیة للمفرّع علیه ولیس داعیاً للعمل وإنّما مجرّد أنّه یوجد بینهما ترتیب من دون فرض العلّة الغائیة والداعی، فاء التفریع لیس فیها دلالة علی الأوّل؛ بل یحتمل أنْ تکون فاء التفریع فی محل الکلام من قبیل الثانی. أصل الاعتراض بالنسبة إلی الروایات المطلقة کان مبنیّاً علی أنّ فاء التفریع هی من باب تفریع الشیء علی داعیه وعلّته الغائیة، وهذا هو الذی یستوجب اختصاص الثواب بخصوص الحصّة الانقیادیة؛ لأنّ العمل تفرّع علی ما یکون داعیاً له، فنفهم أنّ العمل الذی ترتّب علیه الثواب لیس هو ذات العمل، وإنّما العمل المأتی به برجاء الثواب؛ لأنّ التفریع هو القرینة علی ذلک، تفریع الشیء علی ما یکون داعیاً له. إذن: بلوغ الثواب هو الداعی للعمل، فهو یعمل لأنّه بلغه الثواب علی العمل، فهو یأتی بالعمل برجاء الثواب بعد أن بلغه. المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه) یقول: أنّ فاء التفریع کما یمکن أنْ تکون کذلک، یمکن أنْ تکون لمجرّد الترتیب بین شیئین من دون أنْ یکون الأوّل هو الداعی للإتیان بالثانی، وإنّما هناک ترتیب بینهما لسببٍ من أسباب الترتیب، ویُمثّل لذلک بما إذا قیل(سمع الأذان فبادر إلی المسجد) هنا یقول لا داعی لأنْ نقول أنّ سماع الأذان هو الداعی للإتیان بالصلاة فی المسجد، لیس هو الداعی، وإنّما الداعی هو الأمر المتعلّق بالصلاة، فهو الذی یدعو المکلّف للإتیان بالصلاة فی المسجد، سماع الأذان لیس داعیاً ولیس علّة غائیة للعمل، مع ذلک صحّ فیه الترتیب(سمع الأذان فبادر إلی المسجد) فاء التفریع جاءت هنا ولیس فیها دلالة علی أنّ سماع الأذان هو الداعی للإتیان بالصلاة، لکن هناک ترتیب بینهما لکن من دون أنْ یکون سماع الأذان هو علّة غائیة للعمل، أو یکون داعیاً للعمل، وإنّما هناک ترتیب بینهما، یقول: فی ما نحن فیه فاء التفریع فی(فعمله) فی المطلقات(من بلغه ثواب علی عمل فعمله کان له ذلک) لیست ظاهرة فی ترتّب الشیء علی داعیه حتّی یختص الثواب المترتّب علی العمل بخصوص الحصّة الانقیادیة من العمل، وإنمّا لعلّ هناک ترتّب بینهما ناشئ من طبیعة القضیة، باعتبار أنّ العمل الذی بلغه علیه الثواب متقوّم ببلوغ الثواب، فالتفرّع تفرّع طبیعی بین العمل الذی بلغه علیه الثواب وبین بلوغ الثواب؛ ولذا فُرّع العمل فی الروایة علی بلوغ الثواب، باعتبار أنّ المراد بالعمل هو العمل الذی بلغه علیه الثواب، والعمل الذی بلغه علیه الثواب متقوّم ببلوغ الثواب، فهناک ترتیب بینهما، فرُتّب العمل علی بلوغ الثواب، لکن من دون أنْ یکون بلوغ الثواب هو الداعی للإتیان بالعمل حتّی یقال بأنّ الثواب یختص بحسب هذه الروایات بخصوص الحصّة الانقیادیة من العمل؛ بل هذا ممکن وهذا ممکن، لیس فی مجرّد التفریع قرینة علی الأوّل، والنکتة هی أنّ العمل الذی بلغه علیه الثواب متقوّم ببلوغ الثواب، هذا الشیء هو الذی یصحح هذا التفریع والترتیب بینهما؛ وحینئذٍ لا یُستکشف من ذلک أنّ بلوغ الثواب هو الداعی للعمل حتّی یقال بأنّ الثواب الذی یُعطی لهذا الشخص إنّما أُعطی له لأنّه جاء بالعمل بداعی الثواب، فیختص بالحصّة الانقیادیة. فلیکن ما نحن فیه من قبیل(سمع الأذان فبادر إلی المسجد) لا نستکشف من هذا أنّه صلّی فی المسجد بداعی سماع الأذان. فی المقام أیضاً نقول: أنّ العمل الذی صدر من المکلّف الذی بلغه ثواب علیه، لا نفهم من الروایات المطلقة أنّه جاء بالعمل برجاء ذلک الثواب بحیث یکون الداعی له إلی العمل هو بلوغ الثواب، وعلیه: لا یمکن أنْ نقول أنّ کل الروایات ناظرة إلی الحصّة الانقیادیة کما ادعی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الاعتراض علی الاستدلال، وإنّما الروایات علی قسمین: قسم منها مقیّد بالتماس ذلک الثواب، وهذا واضح فی أنّه یرتّب الثواب علی الحصّة الانقیادیة، لکن هناک قسماً آخراً من الروایات لا یرتّب الثواب علی خصوص الحصّة الانقیادیّة؛ وحینئذٍ یمکن التمسّک بهذه الروایات بناءً علی تمامیة الملازمة بین ترتّب الثواب وبین الأمر لإثبات الاستحباب النفسی والأمر النفسی المتعلّق بذات العمل، وهذا هو الاحتمال الثانی. هذا ما یمکن أنْ یُبیّن به جواب المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه).

ص: 268

لکن الذی یُلاحظ علیه: أنّ التفریع وإنْ کان کما ذکر یمکن أنْ یکون هکذا ویمکن أنْ یکون هکذا، یمکن أنْ لا یدلّ إلاّ علی الترتیب بین شیئین من دون أنْ یکون المتقدّم منهما داعیاً وعلّة غائیة للثانی، لکنّ الظاهر فی محل الکلام أنّ الترتیب هو من باب ترتیب الشیء علی داعیه وعلی علّته الغائیة، ولیس مجرّد ترتیب عادی بینهما، والسر فی هذا هو لعلّ ترتب الشیء علی ما یصلح أنْ یکون داعیاً له ظهور عرفی فی أنّ هذا الشیء هو الداعی للإتیان بذلک الشیء، ومن هنا ظهر الفرق بین ما ذکره وبین ما نحن فیه، ففی ما نحن فیه بلوغ الثواب یصلح أنْ یکون داعیاً للإتیان بالعمل، فالعمل رُتّب علی بلوغ الثواب، وبلوغ الثواب یصلح أنْ یکون داعیاً للإتیان بالعمل، هذا له ظهور عرفی فی أنّ العمل أُتی به بداعی الثواب، وبین المثال الذی ذکره، فسماع الأذان لا یصلح أنْ یکون داعیاً مباشرة للعمل، وإنّما الداعی للعمل هو الأمر والتکلیف المتعلّق بالصلاة، سماع الأذان لا یصلح أنْ یکون داعیاً للعمل بخلاف ما نحن فیه، فأنّ بلوغ الثواب یصحّ أنْ یکون داعیاً للعمل، وهذا یکون له ظهوراً عرفیاً فی أنّ العمل جیء به بداعی بلوغ ذلک الثواب، کما لو قال:(أمرنی بکذا ففعلته)، أو(نهانی عن کذا فترکته)، هذا له ظهور عرفی فی أنّ الفعل(فعلته) بداعی الأمر الذی أمرنی به، یعنی أتیت به امتثالاً لهذا الأمر، ونهانی عن کذا فترکته، یعنی ترکت هذا امتثالاً للنهی، عندما یکون الذی رُتّب علیه العمل صالحاً لأنْ یکون داعیاً، یکون الترتیب ظاهراً عرفاً فی الداعویة وفی الحصّة الانقیادیة. صحیح أنّ فاء التفریع أعمّ من هذا، لکن فی المقام الظاهر أنّ له ظهوراً عرفی فی الداعویة وفی أنّ العمل قد جیء به برجاء إدراک ذلک الثواب الذی بلغه.

ص: 269

علی کل حال، الذی یمکن أنْ یُدّعی فی المقام هو أنّ الذی یُفهم عرفاً من هذا التعبیر(من بلغه ثواب علی عمل فعمله) أنّه جاء بالعمل برجاء إدراک ذلک الثواب، لا أنّه جاء بالعمل من دون هذا القید، وإنّما الذی یُفهم بحسب ما نفهم من الأدلّة هو أنّ من یأتی بالعمل إنّما یأتی به برجاء إدراک ذلک الثواب، فیختص بخصوص الحصّة الانقیادیة، وبذلک یصحّ کلام الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من أنّ الأدلّة کلّها، المطلقات والمقیّدات هی ناظرة إلی الحصّة الانقیادیة من العمل لا ترتّب الثواب علی ذات العمل حتّی یصحّ الدلیل الذی ذُکر لإفادة الاستحباب النفسی، وإنّما هی ترتّب الثواب علی خصوص الحصّة الانقیادیّة من العمل، وهذا الأمر واضح فی المقیّدات، وکذلک المطلقات بهذا البیان، ومنه یظهر أنّ هذا الجواب أیضاً لیس تامّاً عن اعتراض الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، کما أنّ جواب المحقق الخراسانی(قدّس سرّه) تبیّن سابقاً لا یتم لدفع ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه). ومن هنا یظهر أنّ هذا الاعتراض الثانی علی أصل الاستدلال علی الاحتمال الثانی، الظاهر أنّه تام.

الاعتراض الثانی: ما قیل من أنّ استکشاف الأمر والاستحباب النفسی فی موارد ترتّب الثواب علی عمل لیس قائماً علی أساس ملازمة عقلیة صرفة بین ترتب الثواب وبین الاستحباب والأمر یستحیل فیها التخلّف، وإنّما قد نفترض وجود الأمر ومع ذلک لا یترتّب الثواب، قد یکون هناک أمر حقیقی ثابتاً فی الواقع، لکن لا یترتب علیه الثواب، وقد نفترض عدم وجود أمر، لکن نفترض ترتب الثواب، فهذه القضیة مرتبطة بما یظنّه المکلّف نفسه، قد یکون هناک أمر والمکلّف لا یعلم به، أو یعتقد عدمه، فلا یترتب الثواب مع وجود الأمر، وبالعکس قد لا یکون هناک أمر، لکنّ المکلّف یتخیّل وجود أمر، فیأتی بالفعل امتثالاً لهذا الأمر الذی یتخیّله، فیترتّب الثواب مع أنّه لیس هناک أمر فی الواقع، فلا توجد ملازمة بین ثبوت الأمر واقعاً وبین ترتب الثواب، وإنّما الاستکشاف قائم علی أساس أحدی نکتتین:

ص: 270

النکتة الأولی: أنْ یکون العمل الذی بلغه علیه الثواب لیس له اقتضاء الثواب فی حدّ نفسه. فی مثل هذه الحالة عندما یکون العمل الذی دلّ الدلیل علی ترتب الثواب علیه لیس له اقتضاء الثواب فی حدّ نفسه؛ حینئذٍ یُستکشف استکشافاً عرفیاً تعلّق الأمر به؛ لأنّ العمل فی حدّ نفسه ------ بحسب الفرض ------ لیس فیه اقتضاء الثواب. إذن: کیف ترتّب الثواب علیه مع أنّه لیس فیه اقتضاء الثواب ؟ حینئذٍ یُستکشف أنّه لابدّ أنْ یکون ترتّب الثواب علیه باعتبار تعلّق الأمر به وتعلّق الاستحباب به، فیُستکشف حینئذٍ الاستحباب والأمر النفسی. وأمّا إذا فرضنا أنّ العمل الذی بلغه علیه الثواب هو فی حدّ نفسه فیه اقتضاء الثواب، وجاء دلیل یدلّ علی ترتب الثواب علی هذا العمل الذی فیه اقتضاء الثواب، فی هذه الحالة لا یمکن أنْ نستکشف تعلّق الأمر به؛ لأنّه من الممکن؛ بل من المقبول جدّاً أنْ یکون الثواب هو الثواب الذی یترتب علیه فی حدّ نفسه، أنّ العمل ------ بحسب الفرض ------ یترتّب علیه الثواب فی حدّ نفسه، له اقتضاء الثواب، فلعلّ الأخبار عندما ترتّب الثواب هی ناظرة إلی هذا الثواب الذی یقتضیه ذات العمل، فلا یمکن أنْ نستکشف من ترتّب الثواب علیه فی الأخبار أنّه تعلّق به الأمر والاستحباب.

هذه النکتة متحققّة فی قولهم ----- مثلاً ----- من سرّح لحیته فله کذا، تسریح اللّحیة فی حدّ نفسه لیس فیه اقتضاء الثواب، فعندما یأتی دلیل ویرتّب الثواب علی فعلٍ من هذا القبیل یُستکشف تعلّق الأمر به، ویُستکشف استحبابه. وأمّا عندما نفترض أنّ العمل الذی ترتّب علیه الثواب هو من قبیل عنوان(الطاعة)، و(الانقیاد)، و(الاحتیاط)، هذه عناوین هی فی حدّ نفسها لها اقتضاء الثواب، فالانقیاد هو یقتضی الثواب بقطع النظر عن الأمر. إذن: لا یمکن أنْ نستکشف من الدلیل الدال علی ترتب الثواب علی الانقیاد والاحتیاط أنّ هناک أمراً نفسیّاً استحبابیاً متعلّقاً بالعمل؛ إذ لعلّ الثواب الذی ورد فی هذه الروایات هو إشارة إلی الثواب الذی یقتضیه طبع الفعل وذات العمل، وأنّه بقطع النظر عن تعلّق الأمر به هو یقتضی الثواب؛ لأنّه انقیاد للمولی، والانقیاد هو من العناوین التی تقتضی الثواب، فلعلّ الروایات تشیر إلی هذا الثواب الثابت له فی حدّ نفسه لا الثابت له باعتبار تعلّق الأمر به.

ص: 271

النکتة الثانیة: أنْ نفترض أنّ الدلیل الدال علی ترتب الثواب علی العمل له ظهور فی أنّه فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل، إذا کان الدلیل الذی یرتّب الثواب علی العمل ظاهراً فی أنّه فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل؛ عندئذٍ نقول هذا یکفی لإثبات الطلب والاستحباب، واستکشاف الأمر؛ لأنّ الدلیل ظاهر فی أنّه فی مقام الترغیب والحث علی العمل، فإذا کان فی مقام الترغیب فی العمل، فهذا یعنی أنّ المولی یطلب هذا العمل ویریده، فیُستکشف الأمر.

هاتان نکتتان لاستکشاف الأمر ممّا کان من قبیل ما نحن فیه، یعنی من الدلیل الدال علی ترتّب الثواب علی العمل، ویقول المعترض بالاعتراض الثالث: أنّ کلتا النکتتین غیر تامّة فی محل الکلام:

أمّا النکتة الأولی: فباعتبار أنّ العمل فی محل الکلام هو العمل المأتی به برجاء الثواب، والعمل المأتی به برجاء الثواب یتعنون بعنوان الانقیاد والاحتیاط، فإذن: تختّل النکتة الأولی؛ لأنّ النکتة الأولی تقول أنّ الاستکشاف إنّما یتم عندما یکون العمل لیس فیه اقتضاء الثواب، فالدلیل الذی یأتی ویرتّب الثواب علی العمل الذی لیس فیه اقتضاء الثواب یُستکشف منه الأمر؛ لأنّ الثواب لا یکون جزافاً، أمّا عندما یکون العمل الذی رتّب الدلیل الثواب علیه متعنوناً بعنوان الانقیاد والاحتیاط؛ حینئذٍ لا یمکن أنْ نستکشف من ترتّب الثواب علیه فی الدلیل تعلّق الأمر النفسی والاستحباب النفسی به لاختلال النکتة الأولی.

وأمّا النکتة الثانیة: فهی أیضاً غیر تامّة؛ لأنّها مبنیة علی افتراض أنّ الدلیل الدال علی ترتّب الثواب ظاهر فی أنّه فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل، وهی غیر متحققّة فی محل الکلام؛ لأنّ الأخبار لیس لها ظهور فی أنّها فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل إطلاقاً، وإنّما هی فی مقام التفضّل المولوی، الولائی ----- تقدّم هذا المعنی سابقاً ----- حتّی لا یخیّب المولی أمل من رجاه لبیان عظمة المولی(سبحانه وتعالی)، ما دام هذا العبد جاء المولی برجاء شیءٍ، اللّه(سبحانه وتعالی) لا یُخیّب ظنّه؛ بل یعطیه ما أمّله. إذن: النکتة الثانیة أیضاً غیر متحققّة؛ لأنّها مبنیّة علی أنّ الأخبار فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل، بینما الروایات لیست فی هذا المقام، وإنّما هی فی مقام التفضّل المولوی علی العبد عندما یرجو العبد شیئاً من المولی، ولو کان هذا الشیء غیر موجود فی الواقع. وقد بیّنا سابقاً لماذا لا تکون فی مقام الحثّ إذا کانت من باب التفضّل، أنّ المقصود بالتفضّل فی کلماتهم هو أنّه مجرّد أنّ هذا اعتقد أنّ المولی یعطی الثواب، فجاء بالعمل برجاء الثواب، الله(سبحانه وتعالی) یعطیه ذلک الثواب حتّی لا یخیّب أمله، ولا علاقة له بالحثّ علی العمل، ومثّلنا لذلک سابقاً، وهذا المثال موجود فی کلماتهم أنّه من قال( من بلغه أنّ فی بیتی طعام وجاءنی برجاء ذلک الطعام اعطیته ذلک الطعام) هذا لا یُفهم منه أنّه فی مقام الحثّ علی المجیء إلی بیته وأکل الطعام، هو لا یرید أنْ یطلب من ذاک أنْ یأتی إلی بیته، وإنّما هو فی مقام التفضّل، وأنّه لا یخیّب رجاء ذلک الشخص الذی دخل بیته بأمل أنْ یعطیه الطعام، الروایات فی المقام هی من هذا القبیل(من بلغه ثواب علی عمل فعمله کان له ذلک الثواب) هذا لیس فیه دلالة علی الترغیب والحثّ علی العمل، وإنمّا هو تفضل محض لیس فیه طلب ولا أمر بالعمل الذی ذکرته الروایات.

ص: 272

وعلیه: فالنکتة الثانیة أیضاً لا تکون تامّة؛ وحینئذٍ یکون استکشاف الطلب والأمر والاستحباب علی أساس الملازمة غیر تام؛ لأنّ الملازمة إنّما تتم بإحدی هاتین النکتتین، إمّا النکتة الأولی، وإمّا النکتة الثانیة، وکلتا النکتتین فی محل الکلام غیر تامّة، فلا توجد ملازمة فی محل الکلام بین ترتّب الثواب وبین الأمر بالاستحباب

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

کان الکلام فی الاعتراض الثالث، وحاصله: أنّ استکشاف الأمر من الدلیل الدال علی ترتّب الثواب علی عمل منوط بتحققّ أحد أمرین علی سبیل منع الخلو:

الأمر الأوّل: أنْ یکون العمل الذی رُتب الثواب علیه ممّا لا اقتضاء له فی حدِّ نفسه للثواب.

الأمر الثانی: أنْ یکون الدلیل الدال علی ترتّب الثواب علی العمل فی مقام الحثّ علی العمل والترغیب فیه؛ حینئذٍ یستظهر من ذلک الأمر والاستحباب، وکل منهما غیر حاصل فی محل الکلام. أمّا الأمر الأوّل؛ فلأن العمل فی محل الکلام هو انقیاد واحتیاط، والانقیاد والاحتیاط فی حدّ نفسه فیه مقتضی للثواب بقطع النظر عن الأمر، وأمّا عدم تحقق الأمر الثانی، فباعتبار ما ذکر من أنّ ترتّب الثواب فی هذه الأخبار هو من باب التفضل والإحسان ولا یظهر من الروایات أنّها فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل.

هذا الکلام یمکن التأمّل فیه من جهات:

الجهة الأولی: أننّا مع المستدل بالدلیل، لم نفرغ بعد عن أنّ العمل الذی رُتب الثواب علیه هو خصوص العمل المأتی به برجاء الثواب، فافتراض هذا فی کلام المعترض هذا کأنّه أشبه بالمصادرة. المستدل یقول بأنّی استدل بالروایات المطلقة، وهو لا یؤمن بأنّ الروایات المطلقة(فعلمه)، یعنی عملها، یعنی جاء بها برجاء الثواب، المستدل لا یؤمن بذلک ویقول: المقیّدات بالتماس ذلک الثواب ظاهرة فی الحصة الانقیادیة من العمل، لکن المطلقات لیس لها ظهور فی ذلک، یقول أنا اتمسّک بالمطلقات التی ترتّب الثواب علی ذات العمل، ومن الواضح أنّ ذات العمل لیس فیه اقتضاء الثواب، هو لا یُسلّم أنّ العمل فی الروایات المطلقة هو خصوص الحصّة الانقیادیة من العمل حتّی یقال بأنّ الانقیاد فیه اقتضاء الثواب فی حدِّ نفسه، هو لا یُسلّم بذلک، فنحن نقول له أنّ الأمر الأوّل غیر متحقق فی محل الکلام؛ لأنّ الثواب مرتّب فی محل الکلام علی العمل المأتی به برجاء الثواب، وهذا انقیاد، والانقیاد له اقتضاء الثواب، فالأمر الأوّل غیر متحققّ.

ص: 273

أقول: هذا أوّل الکلام مع المستدل؛ لأنّه لا یؤمن بأنّ العمل جیء به برجاء الثواب فی الروایات المطلقة، والمستدل یتمسّک بالروایات المطلقة، یقول: صحیح هناک روایات ترتب الثواب علی العمل، علی الحصة الانقیادیة، لکن هناک روایات مطلقة ترتّب الثواب علی ذات العمل، وذات العمل لیس فیه اقتضاء، وعندما ترتّب الثواب علیه نستکشف من ذلک تعلّق الأمر به.

الأمر الثانی الذی ذکره: یبدو أنّه خروج عن محل الکلام، یعنی کبرویاً لا یصح أنْ نقول أنّ أحد الأمور، أو النکتة الثانیة التی توجب استکشاف الأمر من الدلیل الدال علی الثواب هو أنْ یکون الدلیل ظاهراً فی الترغیب والحثّ علی العمل، فإذا کان الدلیل ظاهراً فی ذلک، فأنّه حینئذٍ سوف یکون دالاً علی الأمر بلا إشکال ولا خلاف ولا معنی لوقوع النزاع، الکلام فی أنّ الدلیل لا یدل إلاّ علی ترتّب الثواب علی العمل، ولا یمکن أنْ نستکشف من ذلک بملازمة عقلیة، أو ملازمة عرفیة تعلّق الأمر بذلک العمل، أو لا. کلامنا فی هذا، أمّا إذا افترضنا أنّ الدلیل ظاهر فی الحثّ علی العمل والترغیب فیه، وهذا بمثابة أنْ یأمر بالعمل، هذا لیس هو محل الکلام، ولا معنی لأنْ یُجعل هو مناطاً لاستکشاف الأمر من الدلیل الدال علی ترتّب الثواب؛ لأنّ هذا بمنزلة أن یقال أننّا نستکشف من الأمر بالعمل الأمر به، یعنی الدلیل الدال علی ترتّب الثواب إذا کان ظاهراً فی الأمر بالعمل نستکشف الأمر بالعمل، هذا لا معنی له، لیس هو المناط فی استکشاف الأمر من الدلیل الدال علی ترتّب الثواب، وإنّما هو إذا دلّ علی الترغیب فی العمل والحثّ علیه کان مفاده هو ذلک، یکون مفاده مباشرة هو الأمر بالشیء والحثّ علیه وطلبه، فیُستفاد منه کما یُستفاد من العمل، کما نستفاد الأمر من الأمر بالعمل، فإذا قال أفعل ذلک یکون دالاً بشکل مباشر علی الأمر بالعمل، هنا إذا افترضنا الدلیل الدال علی ترتّب الثواب علی العمل ظاهر فی الحثّ علی العمل والترغیب فیه؛ حینئذٍ لا إشکال ولا خلاف، ولا ینبغی أنْ یقع الإشکال فی أننّا نستکشف من ذلک الأمر بالعمل، لکن لیس هذا هو محل النزاع، لیس هذا هو الذی یقع فیه الکلام، فیبدو أنّه أشبه بالخروج عن محل الکلام.

ص: 274

الجهة الثانیة: هو أنّه یظهر من هذا الکلام أنّه إذا سلّمنا تحققّ الأمر الثانی فی محل الکلام؛ حینئذٍ یُستکشف الأمر، والاستحباب النفسی المتعلّق بالعمل، هو یُنکر تحقق الأمر الثانی فی المقام؛ لأنّه یقول أنّ ظاهر الروایات هو أنّ ترتّب الثواب هو من باب التفضّل والإحسان، ولیست هی فی مقام الحثّ والترغیب فی العمل، لکن یظهر منه أنّه علی تقدیر أنْ تکون الروایات فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل هذا یکفی لإثبات الاستحباب.

لکن یُلاحظ علی هذا أنّه لا یکفی لإثبات الاستحباب النفسی لذات العمل ------ الذی هو محل کلامنا ------ مجرّد أنْ تکون الروایات فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل، وإنّما یجب أنْ نلاحظ أنّ کون الروایات فی مقام الترغیب والحثّ علی العمل فی مقابل أنْ تکون فی مقام التفضّل والإحسان، هذا وحده لا یکفی لإثبات الاستحباب النفسی للعمل، یجب أنْ نلاحظ أنّه ما هو الشیء الذی حثّت علیه الروایات ورغّبت فیه ؟ علی تقدیر أنْ تکون الروایات فی مقام الحثّ والترغیب ------ علماً أنّ المعترض لا یُسلّم بهذا الأمر ------ وما حثّت علیه الروایات هو ذات العمل؛ حینئذ یمکن أنْ یقال أننّا نستکشف من ذلک تعلّق الأمر بذات العمل، وهو معنی الاستحباب النفسی لذات العمل، وهو المطلوب. أمّا إذا فرضنا أنّ ما حثّت علیه الروایات لیس هو ذات العمل، وإنّما ما حثّت علیه الروایات هو الحصّة الانقیادیة من العمل، کما هو الصحیح علی ما تقدّم، سواء الروایات المقیّدة، أو الروایات المطلقة کما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، کل الروایات إذا سلّمنا أنّها فی مقام الحثّ والترغیب، ما تحثّ علیه هو الحصّة الانقیادیة من العمل(فعمله التماس ذلک الثواب)، أو(فعمله) هذا التفریع الذی قلنا أنّه من باب تفرّع الشیء علی داعیه، أی جاء بالعمل بداعی تحصیل الثواب، هذه الحصّة الانقیادیة. إذن: ما تحثّ علیه الروایات هو هذه الحصّة الانقیادیة ولیس ذات العمل، علی تقدیر أنْ نستفید الاستحباب، فالاستحباب یکون للانقیاد لا لذات العمل کما هو المفروض فی الاحتمال الثانی، فی الاحتمال الثانی نرید أنْ نثبت الاستحباب لذات العمل لا للانقیاد، فمجرّد کون الروایات فی مقام الترغیب والحثّ فی مقابل کونها فی مقام إعطاء الثواب من باب التفضل والإحسان، هذا وحده لا یثبت الاحتمال الثانی؛ بل لابدّ أنْ نضم إلی ذلک أنّ ما تحثّ علیه الروایات هو ذات العمل؛ حینئذٍ نستکشف من ذلک أنّ ذات العمل تعلّق به الأمر، وهو معنی الاستحباب النفسی له.

ص: 275

وأمّا إذا کان ما تحث علیه الروایات هو العمل المأتی به برجاء الثواب؛ فحینئذٍ لا یمکننا أنْ نستفید استحباب ذات العمل، وإنّما علی تقدیر أنْ نستفید الاستحباب، فالاستحباب یکون لعنوان الانقیاد والاحتیاط، العمل المأتی به بداعی رجاء الثواب، هذا هو الذی تحثّ علیه الروایات، فیکون هذا مستحبّاً، وأین هذا من الاحتمال الثانی الذی یعنی استحباب ذات العمل ؟ هذا ما یرتبط بالدلیل الأوّل للاحتمال الثانی.

الدلیل الثانی: حاصله: ادعاء أنّ الجملة الخبریة الموجودة فی کل هذه الروایات وهی(فعمله)، هذه الجملة الخبریة هی فی مقام الإنشاء، فتُحمل علی الإنشاء، فتکون هذه الجملة(فعمله)، أو(ففعله) بمثابة الأمر بالعمل، والأمر بالفعل، کما یقال ذلک فی غالب الجمل الخبریة التی تقع فی مقام بیان الأحکام الشرعیة(سجد سجدتی سهو)، یعنی یسجد سجدتی سهو، وکذلک(یُعید)، یعنی یجب علیه الإعادة، جمل خبریة تکون فی مقام الإنشاء، وجملة(فعمله) أیضاً تُحمل علی الإنشاء، وکأنّه قال(من بلغه ثواب علی عمل فلیعمله) فیکون أمراً بالعمل، وإذا کان أمراً بالعمل فقد وصلنا إلی النتیجة بلا حاجة إلی أیّ شیء آخر، فیثبت الأمر بهذا العمل، وهو معنی الاستحباب النفسی لذات العمل بعد حمل الجملة الخبریة علی الإنشاء کما وقع نظیره فی أمثلة کثیرة، وفی الروایات موجودة کثیراً أنّه یستعمل الجملة الخبریة فی مقام الإنشاء.

نعم، المحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی ذکر هذا المعنی، (1) وغیره أیضاً ذکر هذا المعنی کالمحققّ العراقی(قدّس سرّه) فی نهایة الأفکار. (2) المحققّ النائینی(قدّس سرّه) نبّه علی أنّ هذا الوجه ما یثبت به لیس هو خصوص الاحتمال الثانی الذی هو الاستحباب النفسی؛ بل ما یثبت به هو الجامع بین الاحتمال الثانی والاحتمال الثالث الذی هو الحجّیة للخبر الضعیف فی باب المستحبّات، وذلک باعتبار أنّ ما نستفیده علی أساس هذا الوجه هو الأمر بالفعل لیس أکثر، أنّ الشارع أمر بذلک الفعل الذی بلغه علیه ثواب، قال(فلیفعله)، وهذا الأمر بالفعل کما یمکن أنْ یکون من جهة استحباب الفعل بعنوان البلوغ، والذی هو معنی الاحتمال الثانی الذی هو محل کلامنا، یمکن أنْ یکون الأمر بالفعل علی أساس حجّیة الخبر الضعیف فی باب المستحبّات؛ لأنّ الخبر الضعیف إذا کان حجّة فی باب المستحبّات، فالشارع أیضاً یأمر بالفعل أمراً استحبابیاً، فالأمر بالفعل یجتمع مع افتراض الاستحباب النفسی ویجتمع مع افتراض حجّیة الخبر الضعیف فی باب المستحبّات، مجرّد الأمر بالفعل لا یعنی بالضبط ثبوت الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ؛ بل هو یتلائم مع ذلک، ویتلائم أیضاً مع افتراض حجّیة الخبر الضعیف فی باب الأحکام غیر الإلزامیة. نبّهنا سابقاً أنّ الفرق بین الاحتمال الثانی والثالث هو أنّ الاستحباب یثبت للفعل علی الاحتمال الثانی بعنوان ثانوی وهو عنوان(البلوغ)، بینما الاستحباب یثبت للعمل علی الاحتمال الثالث بعنوانه الأوّلی؛ لأنّ الخبر الضعیف یصیر أشبه بالخبر الصحیح فی باب المستحبّات، الاحتمال الثالث یعنی أنّه فی باب المستحبّات لا یعتبر وثاقة الراوی، الخبر مطلقاً حجّة فی باب المستحبّات سواء کان راویه ثقة، أو غیر ثقة، فیثبت الاستحباب للفعل بعنوانه الأوّلی، بینما غلی الاحتمال الثانی یثبت الاستحباب للفعل، لکن بعنوان(البلوغ)، أی بعنوان أنّه بلغه علیه ثواب، هذا هو الفرق بینهما؛ ولذا قلنا أنّ الفقیه علی کلا التقدیرین یفتی بالاستحباب، بالنتیجة الأمر بالعمل یتلائم مع کلا الاحتمالین، فلا یتعیّن أنْ یکون مثبتاً لخصوص الاحتمال الثانی فی مقابل الاحتمال الثالث. هذا هو الدلیل الثانی للاحتمال الثانی.

ص: 276


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 413.
2- نهایة الأفکار، تقریر بحث آقا ضیاء للبروجردی، ج 2، ص 278.

ویُلاحظ علیه: أنّ حمل الجملة الخبریة فی هذه الروایات علی الإنشاء هو خلاف الظاهر جدّاً، عندما تکون الجملة واقعة فی مقام الجزاء یمکن حملها علی الإنشاء، لکن الجملة الخبریة فی محل کلامنا لیست کذلک، الجملة الخبریة فی هذه الروایات هی من متممّات الشرط ومن توابعه(من بلغه ثواب علی عمل فعمله کان له ذلک) ومن الواضح أنّ الشرط وتوابعه ومتممّاته کلّها بمنزلة الموضوع للحکم الشرعی، والموضوع دائماً یؤخذ مفروض الوجود والتحقق ولیس المتکلّم فی مقام الدعوة إلیه والحثّ علیه، وإنّما یؤخذ مفروض الوجود والتحقق، ولا یتوهّم أحد أنّ الشرط یمکن أنْ یُفهم منه الطلب، سواء کان مباشرة، أو بواسطة کونه إخبار والإخبار فی مقام الإنشاء ویُحمل علی الإنشاء، علی کلا التقدیرین لا یُفهم منه ذلک، فإذا قیل(إذا سافرت فقصّر) لا یُفهم منها طلب السفر، وإنّما یُفهم منها أنّ السفر أُخذ مفروض الوجود والتحقق وحُمل علیه هذا الحکم، أی علی تقدیر السفر یُحمل علیه هذا الحکم؛ ولذا یکون الشرط وکل توابعه لا هی إنشاء ولا هی إخبار، فهی جملة غیر تامّة لا یصح السکوت علیها، لا نستطیع أنْ نقول أنّ(من سافر فلیُقصّر) هی إخبار عن السفر، وهذا الإخبار نحمله علی الإنشاء، فضلاً عن أنْ نقول أنّها ظاهرة فی طلب السفر وإن طلب السفر، کلاّ هی لیست کذلک، (فعمله) فی هذه الروایات هی من هذا القبیل، لأنّها من توابع الشرط ومن متممّاته، والشرط وتوابعه کلّها أُخذت مفروضة الحصول والتحققّ،(من بلغه ثواب علی عمل فعمله) یعنی افتُرض أنّه عمل ذلک العمل، بعد ذلک یأتی الجواب(کان له ذلک الثواب)، فلیس لها قابلیة علی أنْ تُحمل علی الإنشاء والطلب، وإنّما هی مأخوذة مفروضة الوجود والتحقق ولا معنی فیها للطلب والإنشاء؛ بل لا معنی فیها حتّی للإخبار، فهذا الوجه أیضاً لا یکون تامّاً لإثبات الاحتمال الثانی.

ص: 277

الذی یظهر من مطاوی الکلمات والدروس السابقة أنّ هناک شیئین ینبغی الالتفات إلیهما:

الأمر الأوّل: أننّا لا یمکننا إنکار ظهور هذه الروایات فی أنّها فی مقام الحثّ والترغیب علی العمل، وأمّا افتراض أنّ ترتّب الثواب فیها من باب التفضّل والإحسان، الظاهر أنّ هذا خلاف سیاقها، الذی یُفهم من سیاق هذه الروایات أنّها فی مقام الحثّ والترغیب علی العمل، یعنی یحثّه علی العمل الذی بلغه علیه الثواب.

الأمر الثانی: أننّا نستظهر أنّ الثواب فی کل هذه الروایات، فی المطلقات والمقیّدات، أنّ الثواب رُتب علی العمل الخاص لا علی ذات العمل، یعنی علی الحصّة الانقیادیّة من العمل، یعنی علی العمل المأتی به برجاء تحصیل الثواب الذی بلغه، استظهار هذا الأمر من المقیّدات واضح، أمّا من المطلقات تبعاً للشیخ الأنصاری(قدّس سرّه). إذن: العمل الذی رُتب علیه الثواب فی کل هذه الروایات هو الحصة الانقیادیة من العمل، أی العمل المأتی به بداعی تحصیل الثواب. إذا ضممنا الأمر الثانی إلی الأمر الأوّل وهو أنّ الروایات فی مقام الترغیب والحثّ علی الإتیان بالعمل الذی بلغه علیه الثواب، یکون أقرب الاحتمالات المتقدّمة لتفسیر هذه الروایات هو الاحتمال الأوّل، وهو أنّ هذه الروایات فی مقام الإرشاد إلی حُسن الانقیاد عقلاً، وحُسن الاحتیاط عقلاً، وحُسن الانبعاث من المطلوبیة الاحتمالیة، وهذا أمر یدرکه العقل، العقل یحکم بحُسن الانقیاد، الروایات ترشد إلی هذا، هذه الروایات هی فی مقام الإرشاد إلی ذلک، وهذا شیء یدرکه العقل، حُسن الانقیاد واستحقاق المنقاد للثواب، واستحقاق المحتاط للثواب هذا شیء یدرکه العقل، والروایات فی مقام الإرشاد إلی ذلک.

ص: 278

نعم، الذی یقف أمام أنْ یُلتزم بالاحتمال الأوّل فقط هو مسألة أنّ ظاهر الروایات هو إعطاء نفس الثواب الذی بلغه، وقلنا أنّ المقصود بها لیس هو نفسه من جمیع الجهات، وإنّما نفسه من جهة الکم والکیف، ما هو حجم الثواب الذی بلغک، ومقداره، هو نفسه یُعطی لک، هذا هو ظاهر الروایات، وهذا ظهور لا ینبغی إنکاره، من الواضح أنّ العقل لا یدرک ذلک، العقل یقول بأنّ الانقیاد حسن، والمنقاد یستحق الثواب، لکن لا یُشخّص کمیّة ونوعیة الثواب الذی یستحقه المنقاد، لا یدرک هذا، الروایات تعطی له نفس الثواب الذی بلغه، من هنا لابدّ ----- لکی نصل إلی نتیجة ----- من التلفیق بین الاحتمال الأوّل وبین الاحتمال الرابع الذی هو وعد من قبل المولی بإعطاء الثواب بأن یُقال: المولی فی هذه الخصوصیة، فی کمیة الثواب ونوعیته وعد المکلّف بإعطائه نفس ما بلغه، هنا أعمل المولویة فی هذا الجانب فقط، هو فی مقام الإرشاد إلی حسن الانقیاد، واستحقاق المنقاد لأصل الثواب، لکن فی مقام تحدید نوعیة وکمیّة الثواب هو أعمل مولویته ووعد العبد بأن یُعطیه نفس ذلک الثواب کمّاً وکیفاً الذی بلغه، هذا شیء لا یدرکه العقل، فلابدّ من تطعیم الاحتمال الأوّل بالاحتمال الرابع المتقدّم، وبالتلفیق بین هذین الاحتمالین یکون هو الوجه الأقرب فی تفسیر هذه الروایات، وبناءً علیه لا یثبت الاستحباب النفسی للفعل بعنوان(البلوغ)، وکذلک لا یثبت الاستحباب النفسی للفعل بعنوانه الأوّلی، یعنی لا الاحتمال الثانی ولا الاحتمال الثالث، وإنّما هو إرشاد إلی حُسن الانقیاد إلی المولی، وحُسن الانبعاث للمطلوبیة الاحتمالیة مع الالتزام بإعطاء نفس الثواب الذی بلغه للمکلّف. هذا تمام الکلام فی قاعدة التسامح فی أدلّة السنن.

ص: 279

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

بعد أنْ أکملنا الکلام عن أصل قاعدة التسامح فی أدلّة السنن یقع الکلام فی بعض الأمور المرتبطة بهذه القاعدة:

الأمر الأوّل: لا إشکال فی شمول أخبار(من بلغ) لحالة بلوغ الثواب بالدلالة المطابقیة کما إذا قام خبر ضعیف علی ترتّب الثواب علی عمل بحیث یدل بالمطابقة علی ترتّب الثواب علی العمل، هذا هو القدر المتیقّن من هذه الأخبار، لکن هل تشمل الأخبار حالة بلوغ الثواب بالدلالة الالتزامیة ؟ کما إذا قام خبر ضعیف علی استحباب فعل، هناک فرق بین أنْ یقوم الخبر الضعیف علی ترتّب الثواب علی عمل، هذا یدل علی ترتّب الثواب بالدلالة المطابقیة، وتارة یقوم الخبر الضعیف علی استحباب عمل، المدلول المطابقی للخبر هو استحباب الفعل، لکن المدلول الإلتزامی للخبر هو ترتّب الثواب علیه، فیکون الخبر دالاًّ علی ترتب الثواب لکن بالدلالة الالتزامیة، باعتبار الملازمة بین استحباب الفعل وبین ترتب الثواب علیه؛ فحینئذٍ هل یکون هذا أیضاً مشمولاً للأخبار، فیجری فیه الکلام السابق، أو لا ؟

الظاهر کما ذکر المحققون أنّه مشمول لتلک الأخبار، فلا فرق بین أنْ یقوم الخبر الضعیف علی ترتّب الثواب علی عمل، وبین أنْ یقوم الخبر الضعیف علی استحباب العمل، کلٌ منهما یکون داخلاً فی هذه الأخبار ومشمولاً لها، وذلک باعتبار أنّ الإخبار عن استحباب الفعل هو إخبار بالدلالة الالتزامیة عن ترتب الثواب علیه، فیصدق علی هذا أنّه بلغه ثواب علی عمل، فعمله کان له ذلک الثواب، فیدخل فی الأخبار؛ وحینئذٍ یجری فیه الکلام السابق.

ص: 280

لکن یبقی سؤال: وهو هل تشمل الأخبار حالة أخری وهی حالة قیام الخبر الضعیف علی الوجوب، الحالة الأولی التی هی القدر المتیقّن من الأخبار هی أنْ یقوم الخبر الضعیف علی ترتب الثواب علی عمل، الحالة الثانیة هی أنْ یقوم الخبر الضعیف علی استحباب الفعل، هذا أیضاً قلنا أنّه مشمول للأخبار؛ لأنّ الإخبار عن الاستحباب إخبار عن ترتب الثواب علی العمل المستحب، لکن لو دلّ الخبر الضعیف علی وجوب فعلٍ، هل تشمله هذه الأخبار، أو لا ؟

قد یقال: أنّه مشمول لتلک الأخبار، باعتبار أنّ الإخبار عن الوجوب أیضاً هو أخبار عن ترتّب الثواب علی الفعل بحکم الملازمة بین وجوب شیءٍ وبین رجحانه وترتب الثواب علیه کما هو الحال فی الإخبار عن الاستحباب لو قام الخبر الضعیف علی الاستحباب، کیف هناک جعلنا هذه الحالة داخلة فی الأخبار باعتبار الملازمة بین استحباب الفعل وبین رجحانه وترتّب الثواب علیه، کذلک ما إذا قام الخبر الضعیف علی وجوب شیءٍ، هنا أیضاً توجد ملازمة بین وجوب الشیء وبین ترتّب الثواب علی فعله، غایة الأمر أنّه فی هذه الحالة الأخیرة الخبر الضعیف علی الوجوب کما هو إخبار عن ترتّب الثواب علی الفعل، کذلک هو إخبار عن ترتّب العقاب علی الترک؛ لأنّه یدلّ علی الوجوب، وبالملازمة هو یدلّ علی ترتّب العقاب علی الترک کما یدلّ بالملازمة علی ترتّب الثواب علی الفعل، فیقال: إنّه وإنْ کان إخباراً عن ترتّب العقاب علی الترک، لکنّ هذا العقاب لا یثبت بالخبر الضعیف، وإنّما الذی یثبت علی تقدیر تمامیّة أخبار(من بلغ) وأنْ نستفید منها شیء هو إخبار عن الثواب لا الإخبار عن العقاب، فالخبر الضعیف الدال علی الوجوب وإنْ کان هو إخبار عن ترتّب العقاب علی الترک، لکنّ العقاب لا یثبت بالخبر الضعیف کما هو واضح، باعتبار أنّ القاعدة مختصّة بالإخبار عن الثواب لا الإخبار عن العقاب، وکون الخبر إخبار عن ترتب العقاب علی الترک لا یمنع من شمول القاعدة وأخبار(من بلغ) للخبر الضعیف الدال علی الوجوب باعتباره إخباراً عن ترتّب الثواب علی الفعل، فیترتب الثواب علی الفعل، وهذا الخبر یکون إخباراً عن ترتّب الثواب علی هذا الفعل، هو حکم بلسان الوجوب لا بلسان الاستحباب، فیکون مشمولاً للقاعدة ویُلتزم ------ بناءً علی بعض التفسیرات السابقة لأخبار(من بلغ) ------- أیضاً باستحباب الفعل الذی قام خبر ضعیف علی وجوبه، باعتبار أنّ أخبار(من بلغ) تشمله وتقول هذا بلغه ثواب علی عمل، فعمله کان له ذلک الثواب، فإذا استفدنا من تلک الأخبار بعض الاحتمالات السابقة وهو الاستحباب النفسی للفعل بعنوان البلوغ یُلتزم هنا باستحباب هذا الفعل الذی قام الخبر الضعیف علی وجوبه، ولعلّه لذلک أفتی بعض الفقهاء باستحباب الفعل إذا قام علی وجوبه خبر ضعیف، لعلّ الالتزام بالاستحباب هو من هذا الباب، باعتبار أنّهم یرون أنّ هذا الخبر الضعیف مشمول للقاعدة وبناءً علی بعض الاحتمالات السابقة یثبت به استحباب العمل.

ص: 281

هذا الذی یقال فی ما إذا قام الخبر الضعیف علی الوجوب وأنّ هذه الحالة أیضاً مشمولة للأخبار، هذا یمکن التأمّل فیه، باعتبار أنّ ما تقدّم سابقاً من أنّ ظاهر جمیع الأخبار، المطلقة والمقیّدة هو الإتیان بالعمل بداعی تحصیل الثواب، إمّا باعتبار تصریح الروایات بالتماس ذلک الثواب، وإمّا باعتبار التفریع الموجود فی المطلقات(فعمله) حیث قلنا أنّ الروایات فرّعت العمل علی بلوغ الثواب بحیث أنّ بلوغ الثواب یکون مؤثراً فی العمل، وقلنا أنّه لا معنی لتأثیر بلوغ الثواب فی العمل إلاّ باعتبار أنّ بلوغ الثواب یورث الاحتمال أو الظنّ، ویکون المکلّف قد جاء بالعمل بداعی ذلک الظن، وذلک الاحتمال؛ لأنّ بلوغ الثواب یورث احتمال الثواب، صدر العمل بداعی ذلک الاحتمال، فیکون العمل صادراً بداعی تحصیل الثواب أو برجاء إدراک ذلک الثواب، باعتبار أنّ بلوغ الثواب یورث احتمال الثواب، هذا معناه أنّ موضوع الأخبار هو العمل الذی یصدر من المکلّف بداعی تحصیل الثواب الذی بلغه، وهذا صدقه واضح جدّاً فی المستحبّات، یعنی عندما یقوم الخبر الضعیف علی الاستحباب وعلی ترتب الثواب صدقه واضح؛ لأنّ الذی بلغه الاستحباب بالخبر الضعیف یصدق علیه أنّه عمل ذلک العمل رجاء تحصیل ذلک الثواب؛ لأنّ الذی یأتی بالمستحب الذی قام علیه الخبر الضعیف یأتی به بداعی تحصیل ثوابه، وأمّا صدقه علی الخبر الضعیف الدال علی الوجوب، فلیس واضحاً، علی الأقل نشکک فی شمول الأخبار لهذه الحالة؛ لأنّ العمل الذی یصدر من المکلّف الذی دلّ الخبر الضعیف علی وجوبه عندما یصدر منه لا یصدر العمل منه عادة بداعی تحصیل الثواب، وإنْ کان یمکن فرض صدوره منه بداعی تحصیل الثواب، الامتثال والإتیان بالفعل فی الواجبات لا یصدر بداعی تحصیل الثواب علی الفعل، وإنّما عادة یصدر بداعی التخلّص وتجنّب العقاب الذی یثبت علی مخالفة هذا التکلیف؛ ولذا هناک فرق بین المستحبّات وبین الواجبات، امتثال المستحبّات عادة یکون بداعی تحصیل الثواب، الواجبات یأتی بها المکلّف عادة، ولیس دائماً، بداعی التخلّص من العقاب المترتب علی المخالفة. إذن: هو یمتثل ویأتی بالفعل للتخلّص من العقاب لا لتحصیل الثواب علی الفعل. هذا الشیء الذی نقوله أنّ المستحبّات تختلف عن الواجبات، العادة جاریة علی الإتیان بالمستحب برجاء تحصیل الثواب؛ ولذا یکون مشمولاً للأخبار؛ لأنّ موضوع الأخبار کما قلنا هو الإتیان بالفعل بداعی تحصیل الثواب، وفی الواجبات المکلّف لا یأتی بالفعل بداعی تحصیل الثواب، وإنّما یمتثل ویأتی بالفعل للفرار عن العقاب الذی یترتب علی المخالفة، فلا یکون صدق الأخبار علیه واضحاً، موضوع الأخبار هو العمل الذی یصدر من المکلّف بداعی تحصیل الثواب، هذا لا یأتی بالفعل بداعی تحصیل الثواب، وإنّما یأتی بالفعل الذی قام علیه الخبر الضعیف ودلّ علی وجوبه للتخلّص من العقاب علی المخالفة، للفرار من العقاب الذی یترتب علی المخالفة، ومن هنا یکون صدق الأخبار وشمولها له لیس واضحاً، علی الأقل نشکک فی شمول الأخبار لهذه الحالة الثالثة، وهی حالة ما إذا قام الخبر الضعیف علی الوجوب، وإثبات الاستحباب لو قلنا ببعض الاحتمالات السابقة یکون مشکلاً حینئذٍ، ومن هنا یظهر الحال فی الحالة الرابعة وهی حالة ما إذا قام الخبر الضعیف علی الحرمة. قد یُتخیّل أنّ هذه الحالة أیضاً مشمولة للأخبار، غایة الأمر أننّا لا نثبت بذلک استحباب الفعل کما هو واضح، وإنمّا نثبت بذلک استحباب الترک؛ لأنّ حرمة الشیء والنهی عنه تعنی طلب ترکه، ومن هنا یکون ترک الشیء الحرام راجحاً ومطلوباً، والملازمة ثابتة بین رجحان الشیء ومطلوبیته وبین ترتب الثواب علیه، ولا فلاق بین مطلوبیة الفعل ومطلوبیة الترک، الملازمة لا تفرّق بینهما، کما أنّ رجحان الفعل ومطلوبیته یلازم ترتب الثواب علی الفعل، رجحان الترک ومطلوبیته أیضاً تلازم ترتّب الثواب علی الترک، فکأنّه هذا بلغه ترتّب الثواب علی الترک، لکن بالدلالة الالتزامیة، فیکون مشمولاً للأخبار التی تقول(من بلغه ثواب علی شیء فجاء به، أو بلغه الثواب علی الترک، فترکه کان له ذلک) فیکون مشمولاً بالأخبار، فإن قلنا أنّ هذا یثبت الاستحباب، فهذا یثبت استحباب الترک، أو یثبت کراهة الفعل، لکن بالنتیجة هو یکون مشمولاً بالأخبار ببیان أنّ النهی والتحریم یعنی طلب الترک، وهذا یعنی أنّ ترک الحرام راجح ومطلوب، والمطلوبیة والرجحان یلازم ترتب الثواب علی الأمر الراجح، سواء کان فعلاً، أو کان ترکاً. الأمر الراجح فی محل الکلام هو الترک، والمطلوبیة ثابتة للترک، وترک الحرام مطلوب للشارع، وراجح، وعندما یکون راجحاً یکون ملازماً لترتّب الثواب علیه، فتشمله الأخبار، وإذا قلنا باستفادة الاستحباب النفسی؛ حینئذٍ نستفید استحباب الترک، فیثبت أنّ الترک مستحب.

ص: 282

أقول: قد یُتخیّل هذا الکلام، لکنّ الذی یدفعه عموماً، یعنی أنّ الصحیح فی هذا الفرض الرابع هو عدم شمول الأخبار لحالة ما إذا قام الخبر الضعیف علی التحریم، وذلک لعدّة أمور منها:

الأمر الأوّل: ما أشرنا إلیه فی الحالة السابقة وهی حالة ما إذا قام الخبر الضعیف علی الوجوب، فأننّا هناک إذا توقّفنا وتأملنا فی شمول الأخبار لهذه الحالة، فأنّ عدم الشمول فی المقام یکون أوضح، باعتبار أنّ فی المحرمات واضح أنّ الامتثال لا یکون لغرض تحصیل الثواب علی الترک، وإنّما یکون لغرض الفرار من العقاب المترتب علی الفعل، فالمکلّف إنّما یمتثل النهی ویترک الحرام لا لأجل أنْ یحصل علی مصلحة وثواب علی الترک، وإنّما لکی یتجنّب العقاب المترتب علی الفعل، هنا عدم شمول الأخبار لهذه الحالة أوضح من عدم شمولها للحالة السابقة، باعتبار أنّ من الواضح فی باب المحرّمات أنّ الامتثال یکون لغرض الفرار من العقوبة المترتبة علی الفعل، ولیس لأجل تحصیل الثواب، هذا بناءً علی تسلیم تحصیل الثواب ----- وستأتی مناقشته ----- المترتب علی ترک الحرام، ومن هنا یکون شمول الأخبار لهذه الحالة خلاف الظاهر جدّاً، فأنّ ظاهر الأخبار هو أنّ الإتیان بالعمل هو لغرض تحصیل الثواب، وهذا هو موضوع الأخبار، وهذا لا یصدق فی باب المحرّمات، یعنی فی باب قیام الخبر الضعیف علی حرمة شیء.

الأمر الثانی: التشکیک فی صدق بلوغ الثواب فی هذه الحالة حتّی لو سلّمنا تفسیر النهی والتحریم بطلب الترک ولم نفسّره بالزجر علی الفعل، لکن طلب الترک فی المحرّمات هل هو لأجل وجود مصلحة فی الترک تقتضی رجحانه، أو لأجل وجود مفسدة فی الفعل تقتضی مرجوحیة الفعل ؟ من الواضح أنّ الجواب هو الثانی، حتّی لو فسّرنا النهی والتحریم بطلب الترک، بمعنی أنّ الشارع یطلب ترک شرب الخمر، لکن یطلبه لیس لأجل وجود مصلحة فی الترک بحیث تقتضی رجحان الترک لوجود مصلحة فیه، وإنّما هو یطلب ترکه باعتبار وجود مفسدة فی الفعل تقتضی مرجوحیته، فطلب الترک فی المحرّمات لیس لأجل وجود مصلحة فی الترک لیس لأجل وجود مصلحة فی الترک ورجحان فیه حتّی نستفید من ذلک ترتب الثواب علیه باعتبار الملازمة بین مطلوبیة الترک وبین ترتب الثواب علیه، وندخله حینئذٍ فی أخبار(من بلغ)؛ لأنّ هذا یدل علی رجحان الترک ومطلوبیته وهی تلازم ترتب الثواب علیه، فیصدق علیه أنّه بلغه الثواب علی الترک؛ وحینئذٍ تشمله الأخبار ویثبت استحباب الترک. کلا، طلب الترک فی باب المحرّمات لو سلّمناه، فهو لیس لأجل وجود مصلحة فی الترک؛ بل لأجل مفسدة فی الفعل تقتضی مرجوحیته؛ ولذلک طُلب ترکه، فصدق بلوغ الثواب فی هذا الفرض ممنوع؛ بل لا یصدق أنّه بلغه ثواب علی هذا العمل، علی الأقل بالنظر العرفی فی ما نفهم عرفاً من هذا الدلیل أنّ موضوعه، بلوغ الثواب علی شیء، عندما یقوم الخبر الضعیف علی حرمة شیءٍ، لا یصدق علیه أنّه بلغه الثواب علی ترک ذلک الحرام؛ لأنّه إنْ فسّرنا النهی بالزجر، فواضح أنّه لا یوجد طلب الترک، والترک أصلاً لیس مطلوباً، وإنّما هو یزجر عن الفعل لمفسدةٍ فیه؛ بل حتّی إذا فسّرناه بطلب الترک فنقول أنّ طلب الترک لیس لأجل وجود ملاکٍ فی الترک اقتضی طلبه، ومحبوبیة ورجحان فی الترک، وإنّما هو لأجل وجود مفسدة ومرجوحیة فی الفعل اقتضت أنْ ینهی عنه، أی أنْ یطلب ترکه، فصدق بلوغ الثواب فی محل الکلام لأیضاً لیس واضحاً.

ص: 283

الأمر الثالث: وعلی ضوئه أیضاً نستبعد شمول الأخبار لحالة قیام الخبر الضعیف علی التحریم هو مسألة أنّ الذی یوجد فی الأخبار هو بلوغ الثواب علی العمل، والعمل ظاهر فی الأمر الوجودی، وتعمیمه للترک هذا غیر واضح، خصوصاً بعد هذا التفریع(من بلغه ثواب علی عمل، فعمله) صدقه واضح جدّاً فی باب المستحبّات، والواجبات، أی قیام الخبر الضعیف علی الاستحباب أو علی الوجوب، أو علی بلوغ الثواب؛ لأنّ العمل أمر وجودی بلغه ثواب علیه، فجاء به، فیصدق علیه. وأمّا عندما یقوم الخبر الضعیف علی تحریم شیء، فلکی تکون الأخبار شاملة له لابدّ أنْ نقول(من بلغه ثواب علی الترک) ثمّ یقال(فعمله) أی فعمل الترک، هذا خلاف الظاهر، فأنّ الظاهر من العمل، خصوصاً بعد تفریع(فعمله) علی ما قبلها، هو أنّ المقصود بالعمل الذی بلغه ثواب علیه هو الأمر الوجودی، أی الفعل کما هو الحال فی الواجبات والمستحبات، وأمّا فی التحریم، فشمول الأخبار له خلاف الظاهر، فلهذه الأمور یمکن أنْ نقول أنّ شمول الأخبار للخبر الضعیف الدال علی التحریم ممنوع.

یبقی الکلام فی حالة أخیرة، وهی الحالة الخامسة، وهی حالة قیام الخبر الضعیف علی الکراهة، هنا أیضاً قد یُتوهّم علی غرار ما فی الحالة السابقة أنّ هذه الحالة مشمولة لأخبار(من بلغ) بنفس البیان السابق، باعتبار أنّ الکراهة تعنی طلب الترک ورجحانه، وبالملازمة بین رجحان الترک وطلبه، ولو علی مستوی الکراهة، یثبت ترتّب الثواب علی الترک، لأجل کونه مطلوباً وراجحاً، فیصدق علیه أنّه بلغه ثواب علی الترک، فتشمله الأخبار، وقد ----- علی بعض التفسیرات ------ یثبت استحباب الترک، فإذا قام خبر ضعیف علی الکراهة نثبت به استحباب الترک، أو نثبت به الکراهة.

ص: 284

أقول: هذا الفرض الخامس أیضاً حاله حال الفرض الرابع؛ لأنّ کل النکات التی ذکرت هناک والتی منعت من شمول الأخبار للفرض الرابع تجری فی المقام وتمنع من شمول الأخبار للفرض الخامس أیضاً. النکتة الأخیرة التی ذکرناها جریانها فی المقام واضح؛ لأننّا قلنا أنّ ظاهر الأخبار هو من بلغه ثواب علی عمل، فعمله، هذا ظاهر فی أنّ المقصود به هو الأمر الوجودی وشمول ذلک للترک هو خلاف الظاهر من دون فرق بین أنْ یکون الترک لازم کما فی المحرمات، أو الترک غیر لازم کما فی المکروهات، الظاهر من الأخبار هو الأمر الوجودی، إذا بلغه ثواب علیه؛ فحینئذٍ یکون مشمولاً للأخبار، أمّا فی هذا الفرض فلم یبلغه ثواب علی الأمر الوجودی، وإنّما بلغه ثواب علی الترک، فشمول الأخبار له لیس واضحاً. والنکتة الثانیة أیضاً تجری فی المقام، وهی نکتة التشکیک فی صدق البلوغ، بقطع النظر عن العمل وکون الظاهر منه هو الأمر الوجودی، وإنّما أصل بلوغ الثواب فی المقام غیر واضح کما قلنا فی بحث التحریم، باعتبار أنّ الکراهة حتّی إذا فسّرناها بطلب الترک بمستوی الکراهة، هذه لم تنشأ من مصلحة فی الترک تقتضی طلبه علی مستوی الکراهة، وإنّما نشأت من مفسدة وحزازة فی الفعل، وهذا هو السبب فی النهی عنه نهیاً کراهتیاً، أو بعبارة أخری: طلب ترکه بنحو الکراهة، هو یطلب ترکه لا لمصلحة فی الترک، وإنّما یطلب ترکه لحزازة ومفسدة فی الفعل، فیکون نظیر الحرام، صدق بلوغ الثواب علیه یکون غیر واضح. والنکتة الأولی أیضاً تجری فی المقام، وهی نکتة التفریع، أنّ الأخبار ظاهرة فی أنّ العمل فُرّع علی بلوغ الثواب، واستفدنا من هذا أنّ موضوع الأخبار هو الإتیان بالعمل بداعی تحصیل الثواب، شمولها للمکروهات غیر واضح، وشمولها للمستحبّات غیر واضح؛ بل شککنا فی شمولها حتّی للواجبات؛ لأنّ من الواضح أنّه فی المکروهات والمحرمات ----- علی الأقل ----- الإنسان لا یترک المکروه بداعی تحصیل الثواب، وإنّما یترک المکروه بداعی الفرار عن الحزازة الموجودة فی الفعل کما هو الحال فی المحرّمات، یترک الحرام للفرار عن المفسدة الموجودة فی الفعل لا أنّه یترک الحرام لغرض تحصیل الثواب، هذا الشیء لو اتّفق حصوله، فهو نادر جدّاً، عادة المکلّف فی المحرّمات والمکروهات یمتثل، یعنی یترک الفعل لغرض الفرار عن المفسدة والحزازة الموجودة فیه لا لتحصیل الثواب الثابت فی الترک، لو سلّمنا ثبوته وتنزّلنا عن الملاحظات السابقة، مع ذلک نقول لا یکون مشمولاً للأخبار؛ لأنّ موضوع الأخبار هو من یأتی بما بلغه علیه الثواب لغرض تحصیل الثواب، هذا حتّی لو فرضنا أنّه بلغه الثواب علی الترک، لو تنزلّنا وسلّمنا ذلک، لکن هذا عادة لا یأتی بما بلغه علیه الثواب وهو الترک لغرض تحصیل الثواب، وإنّما یأتی به لغرض الفرار من المفسدة والعقاب الذی یترب علی الفعل.

ص: 285

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

الأمر الثانی: لا إشکال فی شمول أخبار(من بلغ) لحالة الإخبار عن بلوغ الثواب عن حسٍّ، وهذه الحالة أیضاً هی القدر المتیقن لهذه الأخبار، ویقع الکلام فی أنّه هل تشمل الأخبار البلوغ الناشئ عن الإخبار الحدسی لا الحسّی ؟ ومثّل لذلک بما إذا أفتی الفقیه بالاستحباب، فأنّه یخبر أیضاً عن ترتب الثواب علی ذلک الفعل الذی أفتی باستحبابه باعتبار الملازمة المتقدّمة بین الاستحباب وبین ترتب الثواب، غایة الأمر أنّ الملازمة هنا تکون بین الخبرین الحدسیین؛ لأنّه یخبر عن الاستحباب عن حدسٍ، وهذا الخبر الحدسی ----- الاستحباب ----- یلازم الخبر الحدسی عن ترتب الثواب، فهل تشمل الأخبار هذا النحو من البلوغ ؟

السید الخوئی(قدّس سرّه) (1) ذکر ذلک وذکر بأنّه لا یبعد شمول الأخبار لفتوی الفقیه، ویحقق ذلک البلوغ المعتبر فی هذه الأخبار، وذکر بأنّ دعوی انصراف هذه الأخبار إلی الإخبار الحسّی، أو انصرافها عن الإخبار الحدسی بعید جدّاً.

هذا الذی ذکره(قدّس سرّه) یبتنی علی أمرین:

الأمر الأوّل: ما أشار إلیه من شمول الأخبار للإخبار عن حدس وعدم اختصاصها بالإخبار عن حسٍّ، یعنی أنّ الإخبار یحقق البلوغ، فیصح للمنقول إلیه أنْ یقول بلغنی ثواب، أو بلغنی الاستحباب، هذا البلوغ المتقوّم بالإخبار لا یختص بالإخبار عن حسٍّ؛ بل یشمل الإخبار عن حدسٍ، فلکی نجعل الأخبار شاملة لفتوی الفقیه، لابدّ من هذا الافتراض، وإلاّ لو کانت الأخبار مختصّة بالبلوغ الناشئ عن حسٍ بالخصوص؛ فحینئذٍ لا تکون الأخبار شاملة لفتوی الفقیه.

ص: 286


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 309.

الأمر الثانی: أنّ معنی فتوی الفقیه إذا أفتی بالاستحباب هو الإخبار حدساً عن الاستحباب، یعنی یخبر عن الاستحباب، غایة الأمر أنّ إخباره لیس إخباراً حسّیاً، وإنّما هو إخبار حدسی. وأمّا إذا فسّرنا فتوی الفقیه بأنّها تعنی الإخبار عن رأیه واجتهاده، هنا قد یشکک فی شمول الأخبار لفتوی الفقیه، حتّی إذا قلنا أنّ الأخبار تشمل الإخبار عن حدسٍ، لکن شمولها لفتوی الفقیه مبنی علی تفسیر فتوی الفقیه بأنّها إخبار عن الاستحباب، أو عن ترتب الثواب لکن عن حدس، أمّا إذا فسّرنا فتوی الفقیه بأنّها لیست إخباراً عن ترتب الثواب، أو الاستحباب، وإنّما إخبار عن رأیه ونظره؛ حینئذٍ قد یشکک فی شمول الأخبار لفتوی الفقیه، باعتبار أنّ الملازمة بین نظره المؤدی إلی الاستحباب وبین ترتب الثواب لیست واضحة، فالملازمة قائمة بین الاستحباب الذی یحکی عن هذا الخبر وبین ترتب الثواب، وإذا قلنا قام الخبر الضعیف علی الاستحباب، فأنّه یکون مشمولاً للأخبار؛ للملازمة بین الاستحباب الذی یحکی عنه الخبر وبین ترتب الثواب، فتشمله الأخبار؛ لأنّ هذا یخبر عن ترتّب الثواب، لکن بالملازمة، فیصدق البلوغ، أمّا إذا فرضنا أنّ هذا لا یخبر عن الاستحباب، وإنّما یخبر عن نظره ورأیه، فلیس هناک ملازمة بین نظره وبین ترتّب الثواب، وإنّما الملازمة قائمة بین الاستحباب الواقعی المحکی بهذا الخبر وبین ترتب الثواب، أمّا نظر المجتهد، یُخبر عن رأیه ونظره، الملازمة غیر واضحة، ومن هنا قد یشککّ فی شمول الأخبار لفتوی الفقیه إذا فسّرنا فتواه بأنّها عن نظره واجتهاده، لنقل هی أخبار عن نظره واجتهاده ولیست إخباراً عن الحکم الواقعی.

فإذا تمّ هذان الأمران، یعنی قلنا بشمول الأخبار للإخبار عن حدسٍ وعدم اختصاصه بالإخبار عن حس. هذا أولاً، والثانی أننّا فسّرنا فتوی الفقیه بأنّها إخبار عن الحکم الواقعی، أی عن الاستحباب لکن عن حدسٍ، إذا تمّ هذان الأمران حینئذٍ یتمّ ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) من شمول الأخبار لفتوی الفقیه.

ص: 287

لکن یمکن التأمّل فی الأمر الأوّل علی الأقل، یعنی فی شمول الأخبار للإخبار عن حدسٍ، والتأمّل ینشأ من أنّه قد یقال: أنّ ظاهر الأخبار هو الاختصاص بالإخبار عن حسٍّ وعدم شموله للإخبار عن حدسٍ، علی الأقل نأخذ الروایة المعتبرة سنداً وهی صحیحة هشام بن سالم، والتی تقول:(من بلغه عن النبی "صلّی الله علیه وآله وسلّم" شیء من الثواب فعمله کان أجر ذلک له وإنْ کان رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم لم یقله). (1) یمکن تفسیرها بما هو أعم من الإخبار الحسّی والإخبار الحدسی، لکن الظاهر منها هو الإخبار عن حسٍ؛ لأنّ النقل عن شخص ظاهر فی النقل الحسّی، البلوغ عن النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم) یستبطن النقل عنه، والنقل عن النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم) هو فی حدّ نفسه ظاهر فی النقل الحسّی، وشموله للنقل الحدسی، ولو بمعنی أنّه یُفهم منه الأعم من النقل الحسّی والحدسی یحتاج إلی قرینة، الظهور الأوّلی للنقل والإخبار الذی هو مقوّم للبلوغ هو النقل عن حسٍّ لا النقل عن حدسٍ، وکذلک إذا قال:(نُقل لی عن فلان) هو ظاهر فی النقل الحسّی، افتراض النقل الحدسی یحتاج إلی قرینة، خصوصاً مع قوله فی الذیل:(وإنْ کان رسول الله صلّی الله علیه وآله وسلّم لم یقله) هذا یؤیّد أنّ المقصود فی المقام هو النقل الحسّی لا النقل الحدسی إلاّ بالتأویل، لکنّه خلاف الظاهر، فالظهور الأوّلی لهذه الروایات هو البلوغ الناشئ من النقل الحسّی.

نعم، لا نشترط فی النقل الحسّی أنْ یکون مباشراً؛ بل حتّی لو کان بواسطة، أو بوسائط، بالنتیجة هو نقل حسّی، ولیس نقلاً حدسیاً، شمول مثل هذه الألسنة فی الروایات لفتوی الفقیه لیس واضحاً، ولا أقل من التشکیک فی ذلک.

ص: 288


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 1، ص 81، أبواب مقدّمة العبادات، باب 18، ح 3.

وأمّا الأمر الثانی الذی ذُکر، وهو التفصیل فی فتوی الفقیه بین کونها إخباراً عن الحکم، وبین کونها إخباراً عن الرأی والنظر، فیبدو أنّه علی کلا التقدیرین یخبر عن الحکم الشرعی حتّی لو أخبر عن نظره، فحتّی لو فرضنا أنّه أخبر عن نظره ورأیه، لکن هو یخبر عن نظره، یعنی یخبر أنّ رأیه هو الاستحباب، لکنّ الاستحباب حکم شرعی واقعی، هو یقول نظری هو الاستحباب، یعنی الاستحباب کحکم شرعی واقعی. إذن: عندما یُخبر الفقیه عن نظره هو فی الحقیقة یخبر عن الحکم الشرعی الواقعی الذی هو عبارة عن الاستحباب، وبالنتیجة إخبار عن الاستحباب وعن الحکم الشرعی الواقعی، فسواء قلنا أنّ فتوی الفقیه هی عبارة عن الإخبار عن الحکم الشرعی الواقعی، أو إخبار عن نظره، بالنتیجة إخباره عن نظره هو إخبار عن الحکم الشرعی الواقعی الذی هو الاستحباب، فعندما یقول نظری هو الاستحباب یعنی أنّ حکم هذا العمل عند الشارع وفی الشریعة هو الاستحباب، غایة الأمر أنّه یُخبر عنه عن حدسٍ؛ إذ المفروض فی محل کلامنا أنّه لا ینقل هذا حسّاً، وإنّما ینقله حدساً، لکن هو إخبار عن الحکم الشرعی الواقعی، رأی الاستحباب یعنی رأی أنّ هذا العمل حکمه الشرعی الواقعی هو الاستحباب، فلا فرق بین التفسیرین لفتوی الفقیه، فعلی کلا التقدیرین هو إخبار عن الحکم الشرعی الواقعی حدساً، فإذا قلنا بتمامیة الأمر الأوّل؛ حینئذٍ یتم شمول الأخبار لفتوی الفقیه، وإذا ناقشنا فی الأمر الأوّل وتوقّفنا فیه؛ حینئذٍ من الصعب جدّاً شمول الأخبار لفتوی الفقیه.

الأمر الثالث: ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) فی الدراسات أنّ الأخبار لا تشمل موردین: (1)

ص: 289


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص309.

المورد الأوّل: الشبهات الموضوعیة، فالأخبار لا تشمل إلاّ الشبهات الحکمیة وتختصّ بها، ومثّلوا لذلک بما إذا دلّ خبر ضعیف علی کون مکان خاص مسجداً، هذا الخبر لا یخبر عن الحکم وإنّما یخبر عن الموضوع، فهل یثبت بذلک استحباب الصلاة فیه ؟ یقول لا، لا نستطیع بأخبار(من بلغ)، وبقاعدة التسامح أنْ نثبت بهذا الخبر الضعیف استحباب الصلاة فی المسجد. وعللّ ذلک بأنّ البلوغ المذکور فی الأخبار ظاهر فی اختصاصه بما یکون بیانه من وظیفة الشارع، ومن الواضح بأنّ هذا لا یشمل إلاّ الشبهات الحکمیة؛ لأنّ بیان الشبهة الحکمیة هو الذی یکون وظیفة للشارع، أمّا الشبهة الموضوعیة، مثل(هذا مسجد)، أو(هذا خمر) فهذا لیس وظیفة للشارع، والأخبار ظاهرة ----- کما یقول ----- فی اختصاص البلوغ بما یکون بیانه من وظائف الشارع، فتختص الأخبار لا محالة بخصوص الأخبار الواردة فی الشبهات الحکمیة، ولا تشمل الأخبار الواردة فی الشبهات الموضوعیة.

یمکن أنْ یقال: بأننّا لا نحتاج إلی هذا التعلیل، یعنی التوهّم أصلاً لا یرد فی شمول الأخبار للشبهات الموضوعیة، والسرّ فی ذلک هو أنّ موضوع الأخبار هو بلوغ الثواب علی عمل، فکل خبرٍ ضعیف مفاده ترتّب الثواب علی عمل یکون مشمولاً للأخبار، لنلاحظ هذا الخبر فی الشبهات الموضوعیة الذی یقول(هذا خمر)، و(هذا ماء مطلق)، أو (هذا مسجد) مثلاً، ما هو مفاده ؟ لیس مفاده ترتّب الثواب علی عمل بالمطابقة، مفاده هو أنّ هذا مسجد، ولیس مفاده ترتّب الثواب علی الصلاة فیه، وإلاّ لما وقع هذا الکلام فیه، ولکان داخلاً فی الأخبار بلا إشکال؛ لأنّه خبر وارد فی الشبهة الحکمیة، إذن: لیس مفاده ذلک بالمطابقة، کما أنّه لیس مفاده ذلک بالالتزام أیضاً، فعندما یقول الخبر(هذا مسجد) لیس معنی ذلک أنّه یدل بالدلالة الالتزامیة علی استحباب الصلاة فیه، وإنّما هذا الخبر یدّعی تحققّ موضوع دلیل آخر یدلّ علی استحباب الصلاة فی المساجد، وهذا الخبر یحقق موضوع هذا الدلیل، فیقول(هذا مسجد)، لکنّه لا یخبر حتّی بالدلالة الالتزامیة عن استحباب الصلاة فی هذا المسجد، وإنّما استحباب الصلاة فی هذا المسجد یثبت بذاک الدلیل بعد فرض إحراز موضوعه، إذا فرضنا أننّا أحرزنا موضوعه، کما إذا فرضنا أنّ الخبر الدال علی أنّ(هذا مسجد) هو خبر صحیح ومعتبر؛ حینئذٍ یثبت استحباب الصلاة فیه بذاک الدلیل، فأنّه هو الذی یدلّ علی استحباب الصلاة فیه لا هذا الدلیل، فأنّ هذا الدلیل یحرز الموضوع فقط، هذا الخبر الذی نتحدّث عنه لمّا کان خبر ضعیف، فهو لا یثبت موضوع ذاک الدلیل، المُدّعی فی المقام أننّا نرید أنْ نتمسّک بقاعدة التسامح وبأخبار(من بلغ) لإثبات مفاد هذا الدلیل، نقول هذا غیر صحیح؛ لأنّ مفاده لیس هو ترتّب الثواب علی عمل، لا بالدلالة المطابقیة ولا بالدلالة الالتزامیة، هو یثبت أنّ هذا مسجد ولا یخبر، ولو بالدلالة الالتزامیة عن استحباب الصلاة فی هذا المسجد، وإنّما هذا یدل بدلیله فیما لو أحرزنا تحقق موضوعه، وحیث أننّا فی المقام لا نحرز تحقق موضوعه؛ لأنّ المفروض أنّ الخبر ضعیف سنداً لا یمکن الاعتماد علیه، فلا یمکن إثبات استحباب الصلاة فی ذلک المکان الذی دلّ الخبر الضعیف علی کونه مسجداً، بلا حاجة إلی التعلیل الذی ذکره، أصلاً لا مجال لتوهّم الشمول للشبهات الموضوعیة، یعنی الخبر الوارد فی الشبهات الموضوعیة.

ص: 290

المورد الثانی: الذی لا تشمله الأخبار هو نقل فضائل أهل البیت(علیهم أفضل الصلاة والسلام) ومصائبهم، قال أنّ هذا لا تشمله الأخبار، فلا یمکن أنْ نثبت استحباب نقل فضیلة، أو مصیبة دلّ الخبر الضعیف علیها، لا یمکن أنْ نتمسّک بالقاعدة لإثبات ذلک.

أقول: توهّم شمول أخبار(من بلغ) إنّما یکون فی فرض ما إذا قام خبر ضعیف علی استحباب نقل فضائلهم ومصائبهم(علیهم أفضل الصلاة والسلام) حتّی لو لم تثبت بدلیلٍ معتبر؛ إذا کان لدینا خبر ضعیف یدلّ علی مثل ذلک، هنا یأتی مورد توهّم شمول الأخبار لذلک؛ لأنّ هذا خبر ضعیف دلّ علی ترتّب ثوابٍ علی عمل، فیصدق علی من جاءه هذا الخبر الضعیف أنّه بلغه ثواب علی عمل، وهو نقل فضیلة لأهل البیت(علیهم السلام)، وإنْ لم تثبت بدلیل معتبر، یعنی لو دلّ علی الفضیلة خبر ضعیف، یثبت عندنا ------ بناء علی بعض الاحتمالات فی تفسیر الأخبار ------ استحباب نقل هذه الفضیلة، وإنْ لم تثبت بدلیل معتبر؛ لأنّ هذا الاستحباب ثبت بخبر ضعیف وقاعدة التسامح وأخبار(من بلغ) تقول لا مانع من التعامل مع هذا الخبر الضعیف علی بعض الاحتمالات السابقة، إمّا یثبت بها الاستحباب النفسی للنقل، فیثبت أنّ النقل مستحب، أو الحجّیة، بمعنی أنّ الخبر الضعیف فی المستحبّات حجّة، فیثبت حجّیة هذا النقل، ویثبت استحباب نقل هذه الفضیلة وإنْ لم تثبت بدلیلٍ معتبر. لکن هذا الفرض غیر واقع، لیس لدینا دلیل یدلّ علی استحباب نقل فضائلهم حتّی لو لم تثبت الفضیلة بدلیل معتبر، وإنّما لدینا أدلّة تدل علی نقل فضائلهم ونشرها، لکن المقصود بفضائلهم هو الفضیلة الواقعة موضوعاً فی دلیل استحباب نقل الفضیلة، ولیس نقل الفضیلة مطلقاً حتّی وإنْ لم تثبت بدلیل معتبر کما هو الحال فی کل موضوع مع حکمه فی الدلیل، لا یمکن أنْ نثبت الحکم فی دلیل إلاّ بعد إحراز موضوعه، إمّا بالوجدان، أو بدلیل تعبّدی معتبر، وإمّا إذا شککنا فی الموضوع أنْ هذا هل هو خمر، أو لیس بخمر، ولم نحرزه؛ فحینئذٍ لا نستطیع أنْ نتمسّک بدلیل لإثبات حرمته، وإنّما یصحّ التمسّک بالدلیل لإثبات الحرمة عندما نحرز أنّ هذا خمر، وجداناً، أو تعبّداً، فنتمسّک بالدلیل لإثبات حکمه، وأمّا مع الشک وعدم إحراز الموضوع، والشک فیه، فالتمسّک بالدلیل یکون تمسّکاً بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة، وهذا بلا إشکال غیر جائز. فی محل الکلام الأدلّة الواردة والصحیحة تدل علی نقل فضائلهم، لکن ما هو المقصود بفضائلهم ؟ المقصود فضائلهم الثابتة بالوجدان، أو بدلیلٍ معتبر، بحیث لا نستطیع أنْ نتمسّک بهذا الدلیل الثابت بلا إشکال لإثبات الاستحباب إلاّ عندما نحرز أنّ هذه فضیلة لأهل البیت(علیهم السلام)، أو مصیبة لهم؛ عندئذٍ یثبت استحباب نقلها ونشرها. وأمّا إذا شککنا فی فضیلة أنها ثابتة لهم، أو لا، لا یمکن التمسّک بهذا الدلیل لإثبات استحباب نقل هذه الفضیلة؛ لأنّ هذا تمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة له، وهو غیر جائز بلا إشکال.

ص: 291

نعم، لو ثبت بالدلیل، ولو بخبر ضعیف، دلیل یدل علی استحباب نقل فضائلهم وإنْ لم تثبت بدلیل معتبر بحیث صرّح الدلیل بهذا الشکل، هذا الکلام صحیح، بمجرّد أن نری فضیلة لیس علیها دلیل معتبر؛ حینئذٍ یثبت استحباب نقلها وإشاعتها، لکن لیس لدینا هکذا دلیل یدل علی استحباب نقل الفضیلة حتّی إذا لم تثبت بدلیل معتبر، الدلیل یقول انقلوا فضائل أهل البیت(علیهم السلام)، والدلیل کسائر الأدلّة الأخری ظاهر فی أنّ المقصود بالفضائل هی الفضائل الثابتة لهم بقطع النظر عن هذا الدلیل. إذن: لا مجال للتمسّک بهذه الأحادیث والأخبار لإثبات استحباب نقل الفضیلة عند عدم إحراز کونها فضیلة لهم، وجداناً، أو تعبّداً.

الأمر الرابع: لوحظ أنّ المشهور الذی استفاد الاستحباب النفسی من اخبار(من بلغ) بفتی بالاستحباب مطلقاً، لمجرّد أنْ یقوم عند الفقیه من المشهور خبر ضعیف علی استحباب عمل هو یفتی بالاستحباب، هو یقوم عنده، هو یبلغه استحباب عمل، وترتب ثواب علیه، یفتی للعامّی بالاستحباب مطلقاً.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

بالنسبة إلی الأمر الثالث ------- نرجع إلی الأمر الثالث وبعده نکمل الأمر الرابع ------ الذی لا تشمله الأخبار، بالنسبة إلی نقل فضائل أهل البیت(علیهم أفضل الصلاة والسلام) ومصائبهم، دعوی شمول الأخبار لنقل فضائل أهل البیت(علیهم أفضل الصلاة والسلام)، قررّناه فی الدرس السابق بلحاظ الدلیل الضعیف الدال علی استحباب نقل فضائلهم، أو ترتب الثواب علی نقل فضائلهم، هکذا قررّناه، بأنْ یقوم خبر ضعیف علی استحباب نقل فضائل أهل البیت(علیهم السلام)، فتطبّق قاعدة التسامح علی هذا الخبر الضعیف؛ وحینئذٍ یقال: یثبت بها استحباب نقل فضائل أهل البیت(علیهم السلام). هذا الذی تقدّم مناقشته بأنّه إنّما یتم لو کان لدینا دلیل یدلّ علی استحباب نقل فضائلهم مطلقاً، یعنی وإنْ لم تثبت الفضیلة بمدرکٍ معتبر، فیثبت استحباب نقل الفضیلة وإنْ لم تثبت بمدرکٍ معتبر، لو کان الدلیل الضعیف هذا مفاده یثبت استحبابه علی بعض المبانی، فإذا جاءت روایة غیر معتبرةٍ دلّت علی فضیلةٍ، یثبت استحباب نقل هذه الفضیلة؛ لأنّ الدلیل الضعیف الأوّل دلّ علی استحباب نقل فضائل أهل البیت(علیهم السلام) وإنْ لم تثبت بدلیلٍ معتبر، لکن قلنا أنّه لا یوجد عندنا مثل هذا الدلیل، وإنّما الموجود هو استحباب نقل فضائلهم، والمقصود بذلک، کما هو الحال فی أیّ دلیلٍ آخر، فی أیّ موضوع ذُکر فی الدلیل، الموضوع هو الفضیلة الواقعیة التی تثبت إمّا بالوجدان، أو بدلیلٍ معتبر. هذا یثبت استحباب نقلها، وأمّا مع التشکیک وعدم إحراز ذلک، والتشکیک فی کونها فضیلة، قلنا أنّه لا یمکن إثبات الاستحباب؛ لأنّ هذا تمسّک بالدلیل فی الشبهة الموضوعیة للدلیل.

ص: 292

لکن هناک تقریباً آخراً لشمول أخبار(من بلغ) لنقل الفضائل، هذا التقریب منقول عن الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) وحاصله: هو تطبیق القاعدة والأخبار علی نفس الدلیل الضعیف الدال علی الفضیلة لا علی الدلیل الدال علی استحباب نقل فضائلهم، والفرق بینهما واضح، فذاک دلیل فی الشبهة الحکمیّة؛ لأنّ مفاده هو استحباب نقل الفضیلة، أو مفاده ترتّب الثواب علی نقل الفضیلة، هذه شبهة حکمیة، بینما الثانی هو دلیل ضعیف وارد فی الشبهة الموضوعیة، الحدیث یقول هذه فضیلة، فنطبّق قاعدة التسامح علی هذا الخبر، باعتبار أنّ الخبر وإنْ کان مفاده المطابقی هو نقل موضوع وهو الفضیلة، لکنّ مدلوله الإلتزامی هو نقل الحکم، الإخبار عن الموضوع هو إخبار عن استحباب نقل هذه الفضیلة بالملازمة، وقد تقدّم سابقاً أنّه لا فرق فی شمول الأخبار للبلوغ إذا تحقق بالدلالة المطابقیة والبلوغ إذا تحقق بالدلالة الالتزامیة، هذا خبر ضعیف یقول هذه فضیلة، هذا الخبر یحددّ موضوعاً، لکن بالملازمة کأنّه یقول یستحب نقلها، فیدلّ خبر ضعیف علی استحباب نقل هذه الفضیلة، فتشمله أخبار(من بلغ) وبذلک یثبت استحباب نقل هذه الفضیلة بالرغم من أنّها لم تثبت إلاّ بخبر ضعیف، باعتبار الملازمة بین نقل الموضوع وبین نقل الحکم المترتب علیه، وهذا الکلام هو نفس الکلام الذی ذکرناه فی الشبهات الموضوعیة فی المورد الأوّل، یقول الخبر الضعیف(هذا مسجد) ومن الواضح أنّ هذا لا یشمله؛ لأنّه یقول(هذا مسجد) وهذا لیس إخباراً بترتب الثواب، توهم الشمول کان مبنیّاً علی أنّ الخبر وإنْ کان یقول(هذا مسجد) بالمطابقة، لکنّه بالالتزام یقول(تستحب الصلاة فیه) فهو إخبار عن استحباب الصلاة فی هذا المسجد، فتشمله الأخبار بهذا الاعتبار. هنا أیضاً یقال بذلک، خبر ضعیف ینقل فضیلة لأهل البیت(علیهم السلام)، فهو بالالتزام کأنّه یقول(یستحب نقل هذه الفضیلة)؛ لأنّ استحباب النقل بالنسبة للفضیلة کاستحباب الصلاة بالنسبة إلی المسجد، هناک ملازمة بین کون الشیء مسجداً وبین الصلاة فیه، هنا أیضاً ملازمة بین کون هذه فضیلة وبین استحباب نقلها، فالإخبار عن الفضیلة هو إخبار عن استحباب نقلها، فإذا صار إخباراً عن استحباب نقلها، وترتّب الثواب علی نقلها تشمله الأخبار، ویثبت بذلک استحباب نقل هذه الفضیلة. هذا تقریب آخر غیر التقریب السابق.

ص: 293

جواب هذا التقریب هو نفس الجواب الذی ذکرناه فی الشبهات الموضوعیة، وهو أنّ هذا الخبر فی الشبهة الموضوعیة لیس نقلاً لترتب الثواب، لا بالمطابقة، ولا بالالتزام، وموضوع القاعدة وموضوع الأخبار هو بلوغ ترتّب الثواب علی عمل، هذا لا یحقق بلوغ ترتّب الثواب علی العمل، فهو لیس إخباراً بترتّب الثواب علی العمل، وإنّما إخبار بأنّ هذا مسجد، أو إخبار بأنّ هذه فضیلة، الإخبار بأنّ هذا مسجد لیس إخباراً عن ترتب الثواب علی الصلاة فیه، ولیس إخباراً عن استحباب الصلاة فیه؛ لأنّه لا توجد ملازمة عرفیة واضحة بین کون الشیء مسجداً وبین استحباب الصلاة فیه حتّی یکون الإخبار عن کونه مسجداً إخباراً عن استحباب الصلاة فیه ونقلاً لاستحباب الصلاة فیه، فیصدق البلوغ وتشمله الأخبار، وعلی تقدیر أنْ تکون هناک ملازمة فهی ملازمة شرعیة، هی ملازمة ثابتة بلحاظ الأدلّة، باعتبار أنّ الشارع حکم باستحباب الصلاة فی المساجد تکون ملازمة شرعیة ناشئة من الدلیل، وهکذا ملازمة لا تصحّح أنْ یکون الإخبار عن الموضوع إخباراً عن الحکم الثابت له، یعنی یکون محققّاً لصدق البلوغ؛ لأننّا قلنا مراراً أنّ البلوغ متقوّم بالإخبار، ولا یصح للمنقول إلیه أنْ یقول بلغنی إلاّ إذا أخبر من قبل شخصٍ، أو نقل له شخص بلوغ ترتب الثواب، فیقول بلغنی ترتّب الثواب، کون حکم هذا المسجد هو الصلاة فیه، أو کون الفضیلة حکمها شرعاً هو جواز النقل، هذا لا یعنی أنّ الإخبار بأنّ هذه فضیلة هو إخبار ونقل لاستحباب نقلها بحیث أنّ هذا الشخص الذی یقال له أنّ هذا مسجد یقول بلغنی استحباب الصلاة فیه، قوله بلغنی استحباب الصلاة فیه هذا غیر واضح، وهو الذی نشکک فیه، فهو لیس نقلاً عن ترتّب الثواب لا بالمطابقة کما هو واضح، ولا بالالتزام، فلا یکون شمول الأخبار له واضحاً، ومن هنا یظهر أنّ نقل فضائل أهل البیت(علیهم السلام) ومصائبهم، لا یمکن جعله مشمولاً للقاعدة لا بالتقریب الأوّل المتقدّم فی الدرس السابق، ولا بهذا التقریب.

ص: 294

الأمر الرابع: استشکل علی المشهور بأنّه کیف یفتی بالاستحباب مطلقاً وبلا قید، مع أنّه یبنی علی أنّ المستفاد من أخبار(من بلغ) هو الاستحباب النفسی للعمل لکن بعنوان البلوغ، العمل بعنوانه الأوّلی لیس مستحبّاً، وإنّما یکون مستحبّاً استحباباً نفسیاً بعنوانه الثانوی(البلوغ)، هذان الأمران لا یمکن الجمع بینهما، هذا هو الإشکال. أنّ المفروض بناءً علی هذا التفسیر للأخبار أنّ الاستحباب ثابت للعمل بالعنوان الثانوی، یعنی بعنوان البلوغ، یعنی العمل الذی یبلغک ثواب علیه یکون مستحبّاً استحباباً نفسیاً، فالبلوغ شرط فی ثبوت الاستحباب النفسی للعمل، وهذا الفقیه بلغه ثواب علی هذا العمل فلا یجوز له أنْ یفتی للعامّی بالاستحباب مطلقاً علی نحو ما یفتی ------ مثلاً ------ باستحباب صلاة اللّیل مطلقاً؛ لأنّه هو بلغه ثواب علیه، هذا لا یصح بناءً علی هذا المبنی والتفسیر للأخبار؛ لأنّ الاستحباب ثابت بعنوان(البلوغ)، فلا یثبت الاستحباب إلاّ فی حقّ من بلغه الثواب علی العمل، أمّا العامّی الذی لم یبلغه الثواب علی العمل أصلاً، فلا یثبت الاستحباب فی حقّه، فکیف یمکن للمشهور أنْ یفتی بالاستحباب مطلقاً ؟ هذا هو التساؤل.

نعم، لا إشکال فی أنّ المشهور یمکنه أنْ یفتی بالاستحباب علی نهج القضیة الحقیقیة، یعنی یقول للمکلّف العامّی إذا بلغک ثواب علی عمل، فأنا أفتی بالاستحباب، هذا لا بأس به، ویقلّده العامّی فی هذه المسألة؛ لأنّه استنبطها من الدلیل الذی هو أخبار(من بلغ)، وهی أخبار معتبرة، استفاد منها أنّ کل من بلغه ثواب علی عمل، فالعمل یکون مستحبّاً بالنسبة إلیه، فهو یقول أنّ کل من بلغه ثواب علی عمل، فالعمل یکون مستحبّاً بالنسبة إلیه، هذا لا محذور فیه؛ لأنّ هذه القضیة الحقیقیة مستنبطة من الدلیل المعتبر الذی هو عبارة عن أخبار(من بلغ)، فهو یفتی بمضمون هذا الدلیل المعتبر، فلا محذور فیه، وإنّما المحذور فی أنْ یفتی بالاستحباب مطلقاً وبلا قید، بحیث یثبت الاستحباب مطلقاً فی حق من بلغه الثواب وفی حقّ من لم یبلغه الثواب أصلاً، الإشکال من هنا ینشأ، فیقال کیف یمکن الجمع بینهما ؟ کما أنّ الإشکال کما ذکروا إنّما یتوجّه علی المشهور باعتبار أنّ المشهور یلتزم باستفادة الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ من أخبار(من بلغ)، وأمّا إذا فرضنا أنّ المشهور کان لا یلتزم بذلک، وإنّما یلتزم بالحجّیة، یعنی حجّیة الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، لو کان یلتزم بذلک، فلا محذور فی أنْ یفتی المشهور بالاستحباب مطلقاً، باعتبار أنّ الخبر الضعیف بناءً علی استفادة الحجّیة من أخبار(من بلغ) یکون حجّة ومعتبراً کالخبر الصحیح، فکما أنّ المجتهد لو قام عنده خبر صحیح علی استحباب عمل بإمکانه أنْ یفتی العامّی بالاستحباب مطلقاً بحیث یثبت الاستحباب فی حقّ الجمیع، کذلک إذا قام عنده خبر ضعیف علی استحباب عمل واستفاد من أخبار(من بلغ) جعل الحجّیة للخبر الضعیف الدال علی الاستحباب للتسامح فی أدلّة السنن، هذه أحکام غیر إلزامیة وهناک تسامح فیها، والشارع وسّع من دائرة الحجّیة وجعلها شاملة للخبر الضعیف بحیث یصبح الخبر الضعیف حجّة، فإذا صار عنده حجّة فبإمکانه أنْ یفتی بالاستحباب ویثبت الاستحباب فی حق الجمیع، ومن هنا فهذا الإشکال مبنی علی افتراض اختیار هذا الاحتمال فی أخبار من بلغ وهو استفادة الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ، وأمّا بناءً علی استفادة الحجّیة فالحجّیة ثابتة للخبر لا بعنوان البلوغ، یعنی أنّ هذا الخبر الضعیف حجّة ومعتبر، فإذا کان حجّة ومعتبراً؛ فحینئذٍ یثبت مفاده وهو استحباب العمل وترتب الثواب علیه.

ص: 295

فالنتیجة هی هذه: أنّ هذا الإشکال یتوجّه علی المشهور عندما یفتی بالاستحباب مطلقاً، وعندما یبنی المشهور علی استفادة الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ.

بالنسبة إلی أنّ الإشکال یتوجّه علی المشهور بناءً علی استفادة الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ، الظاهر أنّ هذا الإشکال وارد علی المشهور، فلا یمکن الجمع بین الافتاء بالاستحباب مطلقاً وبین البناء علی الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ؛ لأنّ الاستحباب بعنوان البلوغ معناه أنّ هذا العنوان هو الذی أوجب الاستحباب، من بلغه ثواب علی عمل یکون العمل له مستحبّاً، فلا یثبت الاستحباب حتّی فی حقّ من لم یبلغه الثواب علی العمل، وإنّما یختصّ الاستحباب بمن بلغه ثواب علی عمل.

وأمّا أنّ الإشکال یرتفع ولا یرد بناءً علی أنْ یستفاد من أخبار(من بلغ) حجّیة الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، بیّنا کیف یرتفع الإشکال، وحاصله: أنّ الخبر الضعیف بناءً علی هذا المبنی والتفسیر لأخبار(من بلغ) یصبح حجّة لإثبات مفاده، فیکون حاله حال الخبر الصحیح الدال علی استحباب عمل، فکما یمکن للمجتهد أنْ یفتی باستحباب الخبر الذی دلّ علیه الخبر الصحیح، کذلک بإمکانه أنْ یفتی للعامّی باستحباب هذا العمل الذی دلّ علیه الخبر الضعیف؛ لأنّ الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب حجّة فی إثبات الاستحباب.

لکنّه قد یقال: أنّ هذا غیر واضح؛ بل قد یناقش فیه بأنّه حتّی بناءً علی الحجّیة یرد الإشکال، وذلک باعتبار أنّ الحجّیة التی نستفیدها من أخبار(من بلغ) هی أیضاً مقیّدة بعنوان البلوغ، وثابتة بعنوان البلوغ، ولیس فقط الاستحباب بناءً علی أنّ الاستحباب النفسی ثابت بعنوان البلوغ، وإنّما الحجّیة أیضاً ثابتة بعنوان البلوغ، بنکتة أنّ الحجّیة فی أخبار(من بلغ) إنّما استفیدت من لحن الروایات التی یُفهم منها ------ علی ما تقدّم ------- الترغیب فی العمل والحثّ علیه، وهذا تقدّم سابقاً، وقلنا أنّه لا یمکن إنکار دلالة الروایات علی الترغیب فی العمل والحث علی الإتیان به، الحجّیة استفیدت من هذا الترغیب والحثّ، فیستفاد منه أنّ الشارع اعتبر هذا حجّة؛ ولذا رغّب فی العمل وحثّ علیه، ومن الواضح أنّ الترغیب والحثّ إنّما یثبت علی عمل من بلغه الثواب، وأمّا من لم یبلغه الثواب، فالشارع لم یرغّبه فی العمل، ولم یحثّه علی العمل، وإنّما رغّب الشارع علی عمل من بلغه ثواب علیه، فإذا کانت الحجّیة مستفادة من هذا الترغیب والحثّ المختص بمن بلغه ثواب علی عمل، فالحجّیة أیضاً تکون مختصّة به ولا تثبت للجمیع، هذا الذی بلغه الثواب علی العمل، باعتبار أنّ الشارع حثّه علی العمل استفدنا الحجّیة، فتکون الحجّیة مختصّة بمن بلغه الثواب علی العمل، فالخبر یکون حجّة فی حق من بلغه الثواب علی العمل ولا یکون حجّة فی حقّ الجمیع، فإذا لم یکن حجّة فی حقّ الجمیع؛ حینئذٍ یتعذّر علی المجتهد أنْ یفتی بالاستحباب مطلقاً وفی حقّ الجمیع حتّی بناءً علی الحجّیة؛ إذ لا فرق بین أنْ نبنی علی الاستحباب النفسی وبین أنْ نبنی علی الحجّیة، فکل منهما ثابت بعنوان البلوغ(من بلغه ثواب علی عملٍ فعمله کان له ذلک الثواب)، تارة نستفید منها الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ، وتارة نستفید منها الحجّیة أیضاً بعنوان البلوغ. ومن هنا لا یصح أن یقال أنّ هذا الإشکال علی المشهور مبنی علی ما یراه المشهور من الاستحباب النفسی للعمل بعنوان البلوغ؛ بل هو کما یرد علی هذا المبنی، یرد أیضاً علی استفادة الحجّیة للخبر الضعیف الدال علی الاستحباب فی محل الکلام.

ص: 296

لکن یمکن الخدشة فی ما قیل: بأنّ الذی یظهر ویُستفاد من أخبار(من بلغ) هو أنّ البلوغ لیس حیثیة تقییدیة فی دلیل الحجّیة التی هی أخبار(من بلغ) ------- بحسب الفرض ------- حتّی نقیّد هذه الحجّیة بالبلوغ بحیث لا تثبت الحجّیة إلاّ لمن بلغه الثواب بحیث یکون البلوغ هو موضوع الحجّیة، لیس هکذا، هذا لا یُستفاد من الأخبار بحیث یکون البلوغ کالاستطاعة بالنسبة إلی وجوب الحج، فکما أنّ وجوب الحج لا یثبت لکل أحد، وإنّما یثبت للمستطیع، کذلک الحجّیة لا تثبت إلاّ لمن بلغه الثواب علی عمل ولا تثبت لکل أحدٍ؛ بل الظاهر والمستفاد من الأخبار أنّ البلوغ أشبه بالحیثیة التعلیلیة للحجّیة، بمعنی أنّ الحجّیة تثبت لذات الخبر والبلوغ حیثیة تعلیلیة لثبوت الحجّیة لذات الخبر بحیث یکون البلوغ واسطة وسبباً لثبوت الحجّیة للخبر، صحیح أنّ البلوغ ذُکر فی الدلیل، لکن لا یُفهم من الدلیل أخذه قیداً وحیثیة تقییدیة فی دلیل الحجّیة، وإنّما الذی یُفهم منه أنّه واسطة فی ثبوت الحجّیة لذات الخبر نظیر ما إذا قیل(إذا أخبرک الثقة بشیء فهو حجّة)، هنا لا یُفهم من هذا الدلیل أنّ إخبار الثقة لک یکون حیثیة تقییدیة للحجّیة بحیث أنّ الحجّیة لا تثبت لذات الخبر، وإنّما تثبت الحجّیة للخبر لخصوص من أخبره الثقة به، أمّا الشخص الذی لم یخبره الثقة به لا یکون هذا الخبر حجّة بالنسبة إلیه، لا یُفهم ذلک، وإنّما یُفهم أنّ الحجّیة ثابتة لذات الخبر بعلّة کون المخبر به ثقة، فکون المخبر به ثقة واسطة فی ثبوت الحجّیة لذات الخبر، البلوغ أُخذ فی الدلیل بلا إشکال، لکن الظاهر أنّه لم یؤخذ علی نحو الموضوعیة والقیدیّة، وإنّما أُخذ علی نحو الطریقیة والحیثیة التعلیلیة، فتکون الحجّیة ثابتة لذات الخبر، إذا ثبتت الحجّیة لذات الخبر لا مقیّداً بالبلوغ؛ حینئذٍ یکون الإفتاء بالاستحباب مطلقاً فی حقّ الجمیع صحیحاً ولیس فیه أیّ إشکال، وبإمکان الفقیه أنْ یفتی بالاستحباب مطلقاً بلا أیّ قیدٍ، لا أنْ یقول له إذا بلغک أیّها المکلّف ثواب علی عمل فالخبر یکون حجّة فی إثبات الاستحباب، کلا، فسواء بلغه أمّ لم یبلغه هو ثابت فی حقّه الاستحباب؛ لأنّ الحجّیة عند المجتهد ثبتت لذات الخبر لا للخبر بقید البلوغ، وإنّما البلوغ أشبه بالحیثیة التعلیلیة علی ما ذکرنا. هذا هو الذی یُفهم من هذا الدلیل. بناءً علی هذا، إذا تمّ ما ذکرناه؛ حینئذٍ یصحّ ما ذکروه من أنّ الإشکال علی المشهور مبنی علی استفادة الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ، وأمّا بناءً علی استفادة الحجّیة للخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، فلا یرد علیه الإشکال عندما یفتون بالاستحباب مطلقاً.

ص: 297

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

ثمّ أنّه یمکن توجیه فتوی المشهور بالاستحباب مطلقاً بناءً علی استفادة الاستحباب النفسی للفعل بعنوان البلوغ إنْ قلنا بأنّه محل إشکال؛ إذ لا یمکن الجمع بین الفتوی بالاستحباب مطلقاً وبین البناء علی استفادة الاستحباب النفسی للفعل بعنوان البلوغ. قیل بإمکان توجیه ذلک بافتراض حصول بلوغ الاستحباب بالنسبة إلی المقلّد بنفس وصول الإفتاء إلیه، فالمشکلة کانت فی أنّ المقلّد لم یبلغه الثواب علی العمل، فکیف یثبت فی حقّه الاستحباب والمفروض أنّ الاستحباب ثابت بعنوان البلوغ، من بلغه ثواب علی عمل یکون العمل مستحبّاً فی حقّه، والعامّی المقلّد لم یبلغه الثواب علی العمل، فکیف یکون مستحبّاً فی حقّه کما هو مقتضی الإفتاء بالاستحباب مطلقاً، هذه کانت المشکلة.

التوجیه یقول: نستطیع أنْ نفترض تحققّ البلوغ بالنسبة إلی المقلّد؛ وذلک لأنّ بلوغ الثواب، أو بلوغ الاستحباب بالنسبة إلی المقلّد یحصل بنفس وصول الإفتاء إلیه، فإذا حصل بلوغ الثواب بالنسبة إلی المقلّد یرتفع الإشکال؛ إذ لا مشکلة حینئذٍ فی ثبوت الاستحباب بالنسبة إلی المقلّد؛ لأنّ المقلّد تحققّ الشرط بالنسبة إلیه؛ لأنّ الشرط کان هو بلوغ الاستحباب إلیه، والمفروض أنّه بوصول الإفتاء إلیه یبلغه الاستحباب، فإذا بلغه الاستحباب یکون ثبوت الاستحباب فی حقّه بلا محذور.

قد یُفسّر هذا التوجیه بأنّه فی إفتاء الفقیه باستحباب العمل مطلقاً یوجد أمران، ولو بالتحلیل:

الأمر الأوّل: الفتوی بالکبری الکلّیة، بمعنی استحباب کل عملٍ علی تقدیر بلوغ الثواب علیه، قضیّة کلّیة حقیقیّة. هذه الفتوی لا إشکال فی جوازها، علی القاعدة بلا محذور کما تقدّم سابقاً أنّ هذه الکبری الکلّیة مستنبطة من أخبار(من بلغ)، فیفتی باستحباب کل عملٍ علی تقدیر بلوغ الثواب علیه.

ص: 298

الأمر الثانی: أنْ نفهم من الفتوی إخبار المقلّد بأنّ العمل الفلانی قد ورد ثواب علیه، وبذلک یتحققّ البلوغ بالنسبة إلی المقلّد، فیثبت الاستحباب فی حقّه.

لکن یمکن التأمّل فی هذا التوجیه، باعتبار أنّ المفروض أنّ المشهور یفتی باستحباب العمل مطلقاً، فی حقّ من بلغه الثواب ومن لم یبلغه الثواب لا أنّه یفتی باستحباب العمل علی تقدیر البلوغ، ما یصل إلی المقلّد بحسب الفرض هو الفتوی باستحباب العمل من دون تقییده بالبلوغ، ومن الواضح أنّ هذه الفتوی من دون تقییدٍ بالبلوغ لا تنحلّ إلی هذین الأمرین المذکورین فی الکلام السابق؛ لأنّه من جهةٍ لیس فتوی بکبری کلّیة، ومن جهةٍ أخری هو لیس إخباراً بتحققّ صغری هذه الکبری بالنسبة إلی عملٍ معیّن، لیس إخباراً ببلوغ الثواب علی هذا العمل بحیث یصدق البلوغ فی حقّ المقلّد؛ لأنّه یفتی بالاستحباب مطلقاً، إذا افترضنا أنّ الفتوی هی فتوی بالکبری الکلّیة؛ فحینئذٍ لا تنسجم مع کونها إخباراً بتحققّ البلوغ؛ لأنّ الکبری الکلّیة مرجعها إلی قضیة شرطیّة، شرطها بلوغ الثواب وجزاؤها الاستحباب علی تقدیر البلوغ، ومن الواضح أنّ القضیة الشرطیة لا تحققّ شرطها ولا تتعرّض إلی شرطها، ولا تکون إخباراً عن تحققّه، وإنّما یؤخذ الشرط فیها علی نحو الفرض والتقدیر، علی تقدیر بلوغ الثواب یثبت الاستحباب، فکیف تکون الفتوی بالکبری الکلّیة تستبطن الإخبار بتحققّ موضوعها، یعنی تساهم فی تحققّ البلوغ وتکون إخباراً عن ترتب الثواب علی العمل حتّی یتحققّ البلوغ فی حقّ المقلّد؛ لأنّ القضایا الشرطیة لا تتعرّض إطلاقاً إلی تحققّ شرطها، وإنّما یؤخذ الشرط فیها علی نحو الفرض والتقدیر لا أنّها تکون محققّة لشرطها، فالفتوی إنْ کانت فتوی بالکبری الکلّیة؛ فحینئذٍ لا یمکن أنْ یقال أنّها تستبطن الإخبار عن ترتّب الثواب علی ذلک العمل، وبذلک تحققّ موضوعها الذی هو البلوغ. وأمّا إذا کانت الفتوی لیست بالکبری الکلّیة کما هو المفروض فی محل کلامنا، المفروض أنّ الفتوی باستحباب العمل مطلقاً من دون تقیید بالبلوغ، وهذا کیف ینحل إلی فتوی بالکبری الکلّیة، وإلی إخبار بترتّب الثواب علی العمل الذی یکون هو المحققّ للبلوغ بالنسبة إلی المقلّد؟

ص: 299

توضیح

فی المقام یوجد عندنا استحبابان، استحباب لا إشکال فی ثبوته، وهو الاستحباب المستفاد من أخبار(من بلغ) بناءً علی استفادة الاستحباب النفسی من أخبار(من بلغ) کما هو المفروض فی محل الکلام بناءً علی رأی المشهور الذی ذهب إلی استفادة الاستحباب النفسی من أخبار(من بلغ)، بناءً علی هذه الاستفادة یکون الاستحباب ثابتاً وتدلّ علیه الأخبار المعتبرة التی هی عبارة عن أخبار(من بلغ). وهناک استحباب مشکوک وغیر ثابت وهو الاستحباب الذی یدلّ علیه الخبر الضعیف؛ لأنّ الخبر الضعیف عندما یدلّ علی ترتب الثواب علی العمل یعنی یدلّ علی استحبابه بناءً علی الملازمة بین ترتّب الثواب علی العمل وبین استحبابه ورجحانه، هذا استحباب للعمل دلّ علیه الخبر الضعیف، هذا الاستحباب غیر ثابت؛ لأنّ ما یدلّ علیه هو الخبر الضعیف، والمفروض أننّا لا نستفید من أخبار(من بلغ) حجّیة الخبر الضعیف، وإنّما ما نستفیده من أخبار(من بلغ) هو الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ لا حجّیة الخبر الضعیف، فإذن: الاستحباب الذی هو مدلول الخبر الضعیف هو استحباب مشکوک فیه وغیر ثابت؛ لأنّ الخبر الضعیف هو الذی دلّ علیه.

وحینئذٍ نقول: تارةً نفترض أنّ المجتهد یفتی بالاستحباب الأوّل، یعنی الاستحباب الذی دلّت علیه أخبار(من بلغ) بناءً علی استفادة الاستحباب منها کما هو المفروض، فهو یفتی بالاستحباب الأوّل، یعنی یفتی بالاستحباب الذی هو مدلول أخبار(من بلغ) التی هی أخبار معتبرة، فهذه الفتوی جائزة بلا إشکال؛ لأنّ المفروض أنّ أخبار(من بلغ) حجّة ومعتبرة، فإذا کان هو قد استنبط أنّ مفادها هو هذا، فبإمکانه أنْ یفتی باستحبابها وهو أمر جائز بلا إشکال، لکن الإفتاء بمضمون أخبار(من بلغ) بناءً علی رأی المشهور، إنْ کانت ظاهراً ترجع إلی القضیة الشرطیة کما قلنا من أنّ مضمون أخبار(من بلغ) هو الاستحباب النفسی علی تقدیر البلوغ، فمفادها ثبوت الاستحباب علی نهج القضیة الشرطیة، فإذا کان هذا مفادها حینئذٍ ترد الملاحظة السابقة وهی أنّ مثل هذا الإفتاء لهذه القضیة الشرطیة، بهذه الکبری الکلّیة لا یمکن أنْ یکون محققّاً لموضوعه، أی للبلوغ بالنسبة إلی المقلّد حتّی نتجاوز الإشکال السابق ونقول یثبت الاستحباب فی حقّ المقلّد؛ لأنّه بلغه الثواب علی العمل بإفتاء المجتهد، بوصول الإفتاء إلیه بلغه الثواب، مع أننّا افترضنا أنّ ما یفتی به المجتهد هو القضیة الشرطیة، والقضیة الشرطیة لا تحقق شرطها، أصلاً هی لیست ناظرة إلی تحققّ شرطها. وأمّا إذا فُرض أنّ المجتهد یفتی بالاستحباب الثانی الذی هو مفاد الخبر الضعیف، فهذه الفتوی اساساً غیر جائزة، إذ کیف یفتی بمفاد خبرٍ لم تثبت حجّیته بحسب الفرض ؟ لأنّ المفروض أنّ المشهور لا یستفید جعل الحجّیة للخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، فیبقی هذا الخبر ضعیفاً، فکیف یفتی بمفاده مع عدم قیام دلیلٍ معتبرٍ علیه.

ص: 300

قد یقال: فی مقام تصحیح التوجیه لفتوی المشهور، نفترض فی المقام أنّ ما یفتی به المجتهد هو الاستحباب الأوّل، یعنی الاستحباب المستفاد من أخبار(من بلغ) حتّی تکون فتواه بدلیلٍ معتبر؛ لأنّ أخبار(من بلغ) معتبرة بحسب الفرض، فهو یفتی بالاستحباب الأوّل، لکن لا علی نهج القضیة الحقیقیة، وإنّما یفتی بالاستحباب الفعلی للعمل، فهو لا یفتی بالاستحباب الثانی حتّی لا نقع فی محذور أنّها فتوی بلا دلیل، ولا یفتی بالاستحباب الأوّل علی نهج القضیة الحقیقیة حتّی لا نقع فی محذور أنّ القضیة لا تثبت شرطها، وإنّما یفتی بالاستحباب الفعلی للعمل؛ وحینئذٍ یقال: أنّ هذا الإفتاء بالاستحباب الفعلی یحققّ البلوغ، بنکتة أنّ المقلّد یعرف أنّ المجتهد لا یفتی بالاستحباب الفعلی للعمل إلاّ إذا ورده خبر علی الاستحباب، أو دلیل یدلّ علی الاستحباب، وإلاّ إذا لم یرده أی خبرٍ علی الاستحباب هو لا یفتی بالاستحباب، بهذا الاعتبار یکون إفتاء المجتهد بالاستحباب الفعلی للعمل محققّاً للبلوغ بالنسبة إلی المقلّد؛ لأنّ المقلّد یعلم أنّ المجتهد لا یفتی بالاستحباب الفعلی إلاّ إذا ورده خبر علی الاستحباب وترتب الثواب؛ وحینئذٍ یتحققّ البلوغ بالنسبة إلی المقلّد بهذا الاعتبار ونتخلّص من إشکال الفتوی بدلیلٍ معتبر؛ لأنّه لیس الاستحباب الثانی، وإنّما الاستحباب الأوّل یستفاد من أخبار(من بلغ) غایة الأمر أنّه لا یفتی بالاستحباب علی نهج القضیة الشرطیة، وإنّما یفتی بالاستحباب الفعلی للعمل، وهذا الاستحباب الفعلی للعمل عند المقلّد لا یکون إلاّ إذا بلغ المجتهد خبر یدلّ علی استحباب الفعل، أو علی ترتب الثواب علیه، وبوصول الإفتاء إلی المقلّد یصدق فی حقّه البلوغ، أی أنّ المقلّد قد بلغه ثواب علی العمل؛ لأنّه یستکشف من الإفتاء وصول خبر إلی المجتهد یدلّ علی استحباب العمل وترتب الثواب علیه. هذا کأنّه یحقق البلوغ بالنسبة إلی المقلّد، فیکون المقلّد قد بلغه استحباب العمل، أو ترتّب الثواب علیه، فیثبت فی حقّه الاستحباب بمجرّد وصول الإفتاء إلیه. نعم، من لم یصله الإفتاء لا یتحققّ البلوغ فی حقّه، وبالتالی لا یثبت الاستحباب فی حقّه.

ص: 301

هذا التوجیه أیضاً قابل للملاحظة والتأمّل: باعتبار أنّه حتّی إذا فسّرنا الفتوی بما ذُکر، یعنی فتوی بالاستحباب الفعلی المستفاد من أخبار(من بلغ) لکن لا یفتی بالاستحباب علی نهج القضیة الشرطیة؛ بل یفتی بالاستحباب الفعلی، حتّی لو فسّرناه بذلک، فهو لا یحققّ البلوغ بالنسبة إلی المقلّد، وذلک لوضوح أنّ المقلّد من أین یعرف أنّ مدرک ومستند هذه الفتوی بالاستحباب الفعلی هو وصول خبر إلی المجتهد یدلّ علی ترتب الثواب علی ذلک العمل، وبالتالی استحباب ذلک العمل ؟ إذا کان المقلّد من أهل الإطّلاع، فینبغی أنْ یحتمل إلی جانب ذلک احتمال أنْ یکون مدرک هذه الفتوی هو ------ فرضاً ------ الشهرة، أو شیء آخر محتمل؛ بل هناک احتمالات أخری یستند إلیها المجتهد لإثبات الاستحباب.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ قاعدة التسامح فی أدلّة السنن

ذکرنا فی الدرس السابق بأنّ الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب إذا کان ممّا یُعلم بکذبه، فأنّه لا یکون مشمولاً لأخبار(من بلغ) فلا یمکن إثبات الاستحباب به لو استفدنا من أخبار(من بلغ) الاستحباب النفسی بعنوان البلوغ، وعُللّ ذلک إمّا بالانصراف، بدعوی أنّ أخبار(من بلغ) تنصرف عن مثل هذا الخبر الضعیف المعلوم الکذب، وإمّا بما ذکرناه من النکتة وهی أنّ موضوع الأخبار هو العمل الصادر برجاء تحصیل الثواب، هذا لا یمکن فرضه مع العلم بکذب الخبر الضعیف؛ لأنّ العلم بکذب الخبر الضعیف یعنی العلم بعدم ترتب هذا الثواب المذکور فیه، ومع العلم بعدم ترتب الثواب المذکور فیه کیف یمکن الإتیان بالعمل بقصد تحصیل ذلک الثواب، هذا لا یمکن فرضه أصلاً، مع العلم بالکذب وعدم ترتب ذلک الثواب المذکور فیه علی العمل لا یمکن للإنسان أنْ یأتی بالفعل برجاء تحصیل ذلک الثواب؛ ولذا لا تشمله الأخبار؛ لأنّ موضوعها غیر متحقق فی هذا المقام.

ص: 302

ویمکن أنْ تُذکر نکتة أخری فی المقام تمنع من شمول الأخبار لهذا الفرض وهی أنّ البلوغ لا یصدق فی هذه الحالة، بقطع النظر عن العمل الصادر، وتفرّع العمل علی بلوغ الثواب، لا یصدق بلوغ الثواب مع العلم بکذب الخبر، ومن الواضح أنّ موضوع هذه الأخبار هو بلوغ الثواب، ومع القطع بالکذب لا یصدق بلوغ الثواب؛ ولذا لا تکون هذه الأخبار شاملة له، وعدم شمول الأخبار للفرض الأوّل واضح.

الفرض الثانی: أنْ نفترض أنّه کان هناک فی مقابل الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب خبر صحیح یدلّ علی حرمة نفس الفعل الذی دلّ الخبر الضعیف علی استحبابه وترتّب الثواب علیه، فی هذه الحالة هذا الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب والمبتلی بالخبر الصحیح الدال علی التحریم، هل یکون مشمولاً لأخبار(من بلغ)، أو لا ؟ هنا أیضاً یقال بعدم الشمول، إمّا باعتبار الانصراف کما ادُعی أنّ الأخبار منصرفة عن الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب إذا دلّ خبر صحیح علی حرمة ذلک الفعل، وإنّما هی تشمل الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب الذی لا یوجد فی قباله خبر صحیح یدلّ علی الحرمة، إمّا للانصراف، وإمّا لنفس النکتة المتقدّمة، وهی أنّ الخبر الصحیح إذا نجّز الحرمة ------- کما هو المفروض ------- ؛ لأنّه خبر صحیح ومعتبر، فهو ینجّز حرمة الفعل، وصار الفعل علی المکلّف حراماً؛ حینئذٍ لا یمکن افتراض تفرّع العمل علی بلوغ الثواب، لا یمکن أنْ یصدر الفعل من المکلّف برجاء تحصیل الثواب، کیف یمکن له أنْ یأتی بالفعل برجاء تحصیل الثواب ؟ والحال أنّ الحرمة بالخبر الصحیح تنجّزت علیه، فصار الفعل علیه حراماً ! ومع کون الفعل حراماً کیف یمکن له أنْ یأتی به برجاء تحصیل الثواب ؟! وکیف یمکن افتراض تفرّع العمل علی بلوغ الثواب ؟! هذا التفرّع أیضاً غیر ممکن التحقق فی هذه الحالة؛ ولذا لا تکون الأخبار شاملة.

ص: 303

الفرض الثالث: وحاصل هذا الفرض: أنّ الخبر الصحیح الدال علی التحریم بناءً علی مسلک الطریقیة وجعل العلمیة یجعلنا عالمین بالحرمة، ویعبّدنا بالحرمة؛ لأنّ مسلک الطریقیة یعنی اعتبار الظنّ علماً وتنزیل هذه الإمارة منزلة العلم، وأنّ هذا هو معنی حجّیة الإمارة، تنزیلها منزلة العلم، فبقیام الخبر الصحیح الحجّة علی التحریم نصبح عالمین بالتحریم، لکن تعبّداً لا وجداناً، ومن الواضح أنّ العلم بالتحریم یستلزم العلم بعدم الاستحباب. أی بعبارةٍ أخری: یستلزم العلم بکذب الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، فإذا علمنا بکذب الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب؛ حینئذٍ یأتی فیه ما تقدّم فی الفرض الأوّل؛ لأننّا فرضنا فی الفرض الأوّل أنّ أخبار(من بلغ) لا تشمل الخبر الضعیف المعلوم الکذب، فهنا أیضاً نصبح عالمین بکذب هذا الخبر؛ لأنّ الخبر الصحیح یعبّدنا بالحرمة، وینزّل الإمارة منزلة العلم، فنصبح عالمین بالحرمة تعبّداً، والعلم بالحرمة یلازم العلم بعدم الاستحباب، أی یلازم العلم بکذب الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، فهو خبر ضعیف نعلم بکذبه، غایة الأمر أننّا لا نعلم بکذبه وجداناً، وإنّما نعلم بکذبه تعبّداً؛ حینئذٍ لا تشمله أخبار(من بلغ)؛ لأنّه خبر معلوم الکذب، فتجری فیه الوجوه السابقة کالانصراف ------ مثلاً ------ ونکتة عدم إمکان تفرّع العمل علی بلوغ الثواب، فتجری فیه هذه النکات؛ فحینئذٍ لا تکون الأخبار شامله له. هذا وجه ثالث غیر الوجهین المتقدّمین. ونفس الکلام یقال إذا دلّ الخبر الصحیح علی الکراهة، وبنفس البیان؛ إذ لا فرق فی ما ذکرناه بین ما إذا کان الخبر الصحیح دالاً علی التحریم وبین ما إذا کان دالاً علی الکراهة، علی الأقل بلحاظ بعض النکات السابقة من قبیل نکتة عدم إمکان تفرّع العمل علی بلوغ الثواب مع قیام الخبر الصحیح علی الکراهة وتنجّز الکراهة علی المکلّف، باعتبار الخبر الصحیح الدال علی الکراهة لا یمکن افتراض أنْ یصدر العمل من المکلّف متفرّعاً علی بلوغ الثواب مع تنجّز الکراهة علیه، فمع تنجّز الکراهة علیه لا معنی لصدور العمل من المکلّف متفرّعاً علی بلوغ الثواب؛ ولذا لا تکون الأخبار أیضاً شاملة له.

ص: 304

نعم، خصوص الفرض الثالث الذی مرجعه إلی الحکومة فیه مناقشة، الفرض الثالث الذی یقول أنّ الخبر الصحیح یجعلنا عالمین بالحرمة، والعلم بالحرمة یستلزم العلم بعدم الاستحباب، وهو معنی العلم بکذب الخبر، فنصبح عالمین بکذب الخبر وتقدّم فی الفرض الأوّل أنّ الأخبار لا تشمل الخبر الضعیف إذا علمنا بکذبه، هذا الفرض فیه مناقشة تأتی الإشارة إلیها فی الفرض الأخیر.

الفرض الرابع: ما إذا فرضنا أنّ الخبر الصحیح لم یدلّ علی الحرمة کما فی الفرض الثانی، ولم یدل علی الکراهة کما فی الفرض الثالث، وإنّما دلّ علی نفی الاستحباب، فخبر ضعیف یدلّ علی الاستحباب وفی قباله خبر صحیح ینفی الاستحباب، هل هذا أیضاً لا تشمله أخبار(من بلغ)، فلا یمکن إثبات الاستحباب للفعل بأخبار(من بلغ). الظاهر أنّ ما ذُکر فی الفروض السابقة من الوجوه التی کانت تمنع من شمول أخبار(من بلغ) لتلک الفروض، الظاهر أنّها لا تجری جمیعاً فی هذا الفرض، وعمدة الوجوه هو الوجه الثانی المتقدّم وهو عدم إمکان تفرّع العمل علی بلوغ الثواب، هذا الوجه یختصّ بما إذا دلّ الخبر الصحیح علی التحریم، أو دلّ الخبر الصحیح علی الکراهة، وأمّا إذا دلّ الخبر الصحیح علی الاستحباب، فیمکن تفرّع العمل علی بلوغ الثواب، فهو أمر ممکن بالرغم من قیام الخبر الصحیح علی نفی الاستحباب، وذلک باعتبار أنّ الخبر الصحیح بالرغم من کونه حجّة ومعتبر شرعاً، لکنّه بلا إشکال لا یوجب رفع احتمال الصدق فی الخبر الضعیف تکویناً، الخبر الصحیح خبر حجّة بلا إشکال وهو دال علی نفی الاستحباب، لکن یبقی الخبر الضعیف تکویناً ووجداناً محتمل الصدق، والشکّ فی الصدق فی الخبر الضعیف لا یرتفع وجداناً بقیام الخبر الصحیح علی نفی الاستحباب، بالرغم من کونه حجّة، ومن الواضح أنّه مع بقاء احتمال الصدق فی الخبر الضعیف وعدم ارتفاعه یعنی أنّ احتمال الثواب موجود، یعنی أنّ احتمال الصدق فی الخبر الضعیف الدال علی احتمال الثواب یعنی احتمالیة الثواب فی المقام، ومع احتمال الثواب یکون تفرّع العمل علی بلوغ الثواب أمراً ممکناً لا مانع منه، أنْ یقوم المکلّف بهذا العمل بداعی بلوغ هذا الثواب الذی ذکره الخبر الضعیف؛ لأنّه یحتمل صدق هذا الخبر؛ فحینئذٍ لا مانع من افتراض تفرّع العمل علی بلوغ الثواب، وبهذا لا یأتی هذا الوجه الذی ذُکر عندما یدلّ الخبر الصحیح علی التحریم، هناک کان یدلّ علی التحریم، وکان ینجّز الحرمة، ومع تنجّز الحرمة علی المکلّف، وصیرورة العمل محرّماً علیه لا یمکنه أنْ یأتی به بداعی تحصیل الثواب، بینما عندما یدلّ الخبر الصحیح علی نفی الاستحباب، فصحّة الخبر وحجّیته لا تعنی أنّه لا شکّ ولا احتمال للصدق فی الخبر الضعیف؛ بل یبقی احتمال الصدق فی الخبر الضعیف موجود، واحتمال الثواب فی الخبر الضعیف موجود؛ وحینئذٍ یکون التفرّع مقبولاً وممکناً ولیس فیه محذور، فیکون التفرّع حینئذٍ فی هذه الحالة ممکناً ولا یجری هذا الوجه فی هذا الفرض.

ص: 305

نعم، قد یدّعی جریان الوجه الثالث الذی ذکرناه فی المقام وقلنا أنّه سیأتی جوابه، وهو دعوی الحکومة، بأنْ یقال: أنّ الخبر الصحیح الدال علی عدم الاستحباب یعبّدنا بعدم الاستحباب، بناءً علی مسلک جعل الطریقیة والعلمیّة وتنزیل الإمارة منزلة العلم نصبح عالمین بعدم الاستحباب تعبّداً، ومعنی أننّا نصبح عالمین بعدم الاستحباب هو أننّا نصبح عالمین بکذب الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، یعنی هذا علم تعبّدی بعدم الاستحباب ملازم للعلم التعبّدی بکذب الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، وإذا علمنا بکذب الخبر الضعیف الدال علی الاستحباب؛ حینئذٍ یأتی فیه ما ذُکر فی المقام فی الفرض الأوّل من أنّه مع العلم بکذب الخبر الضعیف لا یکون مشمولاً للأخبار ولقاعدة التسامح فی أدلّة السنن.

الجواب: حتّی لو سلّمنا تفسیر الحجّیة بجعل الطریقیة وتنزیل الإمارة منزلة العلم، فأنّ العلم التعبّدی بعدم الاستحباب لا یوجب زوال الشکّ تکویناً، وإنّما یوجب زوال الشکّ تعبّداً، فأنّه بالوجدان یبقی شاکّاً فی صدق الخبر وکذبه، ولا یوجد عنده علم وجدانی بکذب الخبر حتّی لو قام خبر صحیح علی الحرمة، وقام خبر صحیح علی عدم الاستحباب، بالوجدان هو شاکّ فی صدق هذا الخبر الضعیف. إذن: الشکّ فی صدق الخبر الضعیف باقٍ بالوجدان، واحتمال الصدق فی الخبر الضعیف باقٍ بالوجدان، واحتمال ترتب الثواب علی العمل بالخبر الضعیف أیضاً باقٍ بالوجدان، فإذا کان هذا الشکّ باقٍ، والاحتمال باقٍ؛ حینئذٍ یکون التفرّع مقبولاً؛ لأنّ تفرّع العمل علی بلوغ الثواب من آثار الشکّ الوجدانی، والمفروض أنّه باقٍ، لیس من آثار الشکّ التعبّدی حتّی نقول أنّ العلم التعبّدی أزال الشکّ التعبّدی، وإنّما هو من آثار الشکّ الوجدانی والاحتمال الوجدانی، مادام المکلّف یحتمل وجداناً صدق الخبر، ویحتمل ترتب الثواب بإمکانه أنْ یأتی بالعمل برجاء تحصیل ذلک الثواب، إنّما لا یمکنه أنْ یأتی بالعمل برجاء ذلک الثواب فیما إذا علم وجداناً بکذب الخبر کما فی الفرض الأوّل، إذا زال الاحتمال وجداناً من نفسه؛ حینئذٍ لا یمکنه أنْ یأتی بالعمل برجاء تحصیل ذلک الثواب، أمّا إذا کان الشکّ باقیاً والاحتمال موجوداً بالوجدان، والعلم التعبّدی لا یوجب زوال هذا الاحتمال والشکّ الوجدانی؛ حینئذٍ یکون التفرّع معقولاً ومقبولاً ولیس فیه محذور.

ص: 306

إذن: لا یمکن أنْ نستدل بهذا الدلیل فی المقام لافتراض أنّ هذا لا یکون مشمولاً لأخبار(من بلغ) فالظاهر أنّ هذا الفرض الأخیر لا مانع من کونه مشمولاً لأخبار(من بلغ). اللّهم إلاّ أنْ یُدّعی الانصراف. الوجه الصناعی لإخراج الوجوه السابقة عن قاعدة(من بلغ) هو أنّ القاعدة مختصّة بالعمل الذی یصدر من المکلّف برجاء تحصیل الثواب، وهو معنی تفرّع العمل علی بلوغ الثواب، هذا التفرّع غیر ممکن فی الحالة الأولی، وفی الحالة الثانی، وفی الحالة الثالثة، أمّا فی الحالة الرابعة، فهو أمر ممکن حتّی إذا قلنا بالحکومة، أو قلنا بمسلک جعل الطریقیة وتنزیل الإمارة منزلة العلم؛ لأنّ هذا ------- کما قلنا -------- غایة ما یثبت به هو العلم التعبّدی بعدم الاستحباب وهو لا یوجب زوال الشکّ والاحتمال الوجدانی، والتفرّع یترتّب علی الشکّ الوجدانی والاحتمال الوجدانی الذی لا یزول بالعلم التعبّدی، یتفرّع علی الاحتمال والشکّ الوجدانیین، ما دام هو یحتمل ترتّب الثواب علی العمل بإمکانه أنْ یأتی بالعمل برجاء تحصیل ذلک الثواب.

الأمر السادس: أننّا ذکرنا سابقاً وتعرّضنا بمناسبةٍ إلی الثمرة بین القول بالاستحباب وبین القول بالحجّیة، یعنی بین القول بالاستحباب النفسی بعنوان البلوغ من أخبار(من بلغ) وبین القول باستفادة الحجّیة للخبر الضعیف الدال علی الاستحباب، حیث قیل هناک ما هی الثمرة بینهما؛ لأنّ المجتهد علی کلا التقدیرین بإمکانه أنْ یفتی بالاستحباب، فما هی الثمرة بینهما ؟

بینّا أنّ الثمرة هی علی القول بالاستحباب لا یمکن الفقیه أنْ یفتی باستحباب العمل مطلقاً، وإنّما یفتی باستحباب العمل بعنوان البلوغ، یقول للعامّی المکلّف إذا بلغک ثواب علی عمل، فذلک العمل یکون مستحبّاً، بینما بناءً علی الحجّیة یکون بإمکانه أنْ یفتی باستحباب العمل مطلقاً من دون تقیید بالبلوغ؛ لأنّ الاستحباب دلّ علیه الخبر الحجّة؛ لأنّ المفروض أنّ الخبر الضعیف فی المستحبّات یکون حجّة ومعتبراً، فیکون حاله حال الخبر الصحیح إذا دلّ علی استحباب فعلٍ، فبإمکان المجتهد أنْ یفتی بالاستحباب مطلقاً.

ص: 307

الآن نتعرّض إلی الثمرة بین القول بأنّ مفاد أخبار (من بلغ) هو الإرشاد إلی حسن الانقیاد عقلاً الذی هو احد الاحتمالات المتقدّمة، وبین أنْ یقال أنّ مفادها حکم مولوی، سواء کان الحکم المولوی بمعنی الاستحباب النفسی، أو بمعنی الحجّیة، علی کل التقادیر هو حکم مولوی مجعول من قبل الشارع، ما هی الثمرة بینهما ؟

الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) تعرّض فی الرسائل إلی هذا المطلب، (1) وذکر الثمرة فی موردین، وذکر فی مقام الجواب عن ما قد یقال من أنّه لا ثمرة بینهما، فلماذا نتعب أنفسنا فی إثبات الحکم المولوی ؟ فعلی کلا التقدیرین یترتب الثواب علی العمل، المکلّف إذا جاء بالعمل بعد أنْ بلغه الخبر الضعیف بالاستحباب وترتب الثواب، إذا جاء بالعمل برجاء تحصیل ذلک الثواب یُعطی له ذلک الثواب بلا إشکال، سواء استفدنا من أخبار(من بلغ) الحکم المولوی، أو لم نستفد حکماً مولویاً منها، بأنْ کانت مجرّد إرشاد، علی کل تقدیر لا إشکال فی ترتب الثواب علی العمل، یُعطی له ذلک الثواب بنصّ الأخبار الصحیحة المعتبرة؛ بل حتّی لو فرضنا الإجمال فی أخبار(من بلغ) بلحاظ الاحتمالات الستة المتقدّمة، حتّی لو فرضنا الإجمال، بما أننّا لم نستظهر احتمالاً من تلک الاحتمالات، وکانت الأخبار مجملة من هذه الناحیة، بالرغم من هذا لا إشکال فی ترتب الثواب علی العمل؛ لأنّ هذه الأخبار لیست مجملة من جهة ترتب الثواب علی العمل، هی صریحة، أو ظاهرة فی ترتب الثواب علی العمل، الأخبار تقول( کان له ذلک الثواب إذا عمله برجاء تحصیل الثواب). إذن: الثواب یترتب علی العمل سواء استفدنا الحکم المولوی، أو لم نستفد الحکم المولوی، وإنّما قلنا بأنّ مفادها الإرشاد إلی حکم العقل بحسن الانقیاد والاحتیاط. وقد ذکر الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) موردین قد یُدّعی ظهور الثمرة فیهما:

ص: 308


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 158.

المورد الأوّل: هو المورد المعروف الذی هو جواز المسح ببلل المسترسل من اللّحیة، یعنی الخارج عن المقدار الذی یجب غسله، فإذا دلّ خبر ضعیف علی استحباب غسل المسترسل من اللّحیة فی الوضوء، قال هنا تظهر الثمرة، فأنّه بناءً علی ثبوت الاستحباب، یعنی وجود حکم مولوی، إمّا بالحّجیة، أو بالاستحباب النفسی؛ لأننّا قلنا علی کل حالٍ یثبت الاستحباب؛ حینئذٍ یثبت جواز المسح ببلله، یجوز له أنْ یمسح لو احتاج أنْ یمسح رأسه أو قدمیه ببلل المسترسل من اللّحیة، یجوز له المسح بذلک؛ لأنّه یکون من أجزاء الوضوء؛ لثبوت استحباب غسله، فیکون من أجزاء الوضوء المستحبّة، فإذا کان من أجزاء الوضوء؛ فحینئذٍ یجوز المسح ببلله. هذا موقوف علی إثبات استحباب غسل المسترسل من اللّحیة. وأمّا إذا لم نقل بالاستحباب، وقلنا أنّ مفاد الأخبار هو مجرّد الإرشاد ولا یثبت بها الاستحباب؛ حینئذٍ لا یمکن إثبات جواز المسح ببلله؛ لأنّه لیس من أجزاء الوضوء؛ إذ لم یثبت استحباب غسل المسترسل حتّی یکون من أجزاء الوضوء ولو علی نحو الاستحباب، فإذا لم یثبت؛ فحینئذٍ کیف یجوز المسح ببلله ؟ والحال أنّ المسح لابدّ أنْ یکون ببلل الوضوء، وهذا لیس من أجزاء الوضوء، فلا یجوز المسح حینئذٍ ببلل المسترسل من اللّحیة.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

کان الکلام فی الثمرة بین القول بالاستحباب وبین القول بعدمه، وأنّه أیّ ثمرةٍ تترتب علی ثبوت الاستحباب للعمل ؟ مع أنّ العمل الذی یأتی به المکلّف الذی بلغه الثواب یترتب علیه الثواب حتماً سواء استفدنا الاستحباب، أو لم نستفده.

ص: 309

قلنا أنّ الشیخ(قدّس سرّه) (1) ذکر موردین لهذه الثمرة، المورد الأوّل هو جواز المسح ببلل المسترسل من اللّحیة بناءً علی ورود بعضالأخبار الضعیفة الدالة علی استحباب غسل المسترسل فی الوضوء، فیُستکشف منه أنّه من أجزاء الوضوء، فإذا کان من أجزاء الوضوء یجوز المسح ببلّته، وأمّا إذا نستفد الاستحباب ولم نبنِ علیه؛ حینئذٍ لا یمکن أنْ نستکشف أنّه من أجزاء الوضوء؛ لأننّا استکشفنا کون المسترسل من أجزاء الوضوء باعتبار استحباب غسله فی الوضوء، أمّا إذا لم یدل دلیل علی استحباب غسله، فلا یمکن أنْ نستکشف أنّه من أجزاء الوضوء حتّی یکفی المسح ببلله.

ذکر الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی مقام الإشکال علی هذه الثمرة أنّه یحتمل قویاً أنْ نمنع من المسح ببلل المسترسل وإن قلنا بصیرورته مستحبّاً شرعیّاً، یقول لا تظهر الثمرة سواء قلنا بالاستحباب، أو لم نقل بالاستحباب نمنع من المسح ببلله، حتّی علی القول بالاستحباب نمنع من ثمرته، ولم یُفسِّر مقصوده بهذا الکلام، لکن فُسّر کلامه بأنّه لا دلیل علی جواز المسح من بلل جمیع أجزاء الوضوء، الثمرة مبنیّة علی افتراض جواز المسح ببلل جمیع أجزاء الوضوء المستحبّة والواجبة؛ لأنّه إذا قیل باستحباب غسل المسترسل یکون المسترسل من أجزاء الوضوء، والکبری تقول بجواز المسح ببلل جمیع أجزاء الوضوء حتّی لو کانت مستحبّة. أمّا إذا منعنا هذه الکبری، وقلنا أنّه لم یدل دلیل علی جواز المسح ببلل تمام أجزاء الوضوء حتّی المستحبّة، وخصصّنا هذا الجواز فقط بالأجزاء الواجبة؛ حینئذٍ لا تظهر الثمرة، سواء قلنا باستحباب غسل المسترسل، أو لم نقل به، علی کلا التقدیرین لا یجوز المسح من بلله. فُسّر کلام الشیخ(قدّس سرّه) بهذا التفسیر، وعلیه: لا تکون الثمرة ظاهرة، والظاهر أنّ هذا التفسیر مقبول لدی الفقهاء، بمعنی أنّ الدلیل لم یدل علی جواز المسح بتمام أجزاء الوضوء، حتّی المستحبة، وإنّما المتیقّن من الدلیل هو جواز المسح من بلل الأجزاء الأصلیة فی الوضوء، فلا تظهر الثمرة.

ص: 310


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 158.

المورد الثانی: ترتب الآثار الشرعیة المترتبة علی المستحبّات الشرعیة، ومثّل للآثار بارتفاع الحدث المترتب علی الوضوء المأمور به شرعاً، فهذا أثر یترتب علی الوضوء المستحب شرعاً، فإذا دلّ خبر ضعیف علی استحباب الوضوء لغایةٍ معیّنة، کما لو فرضنا أنّه دلّ دلیل علی استحباب الوضوء للنوم، أو لقراءة القرآن، قیل بأنّه تظهر الثمرة حینئذٍ؛ لأنّه بناءً علی استفادة الاستحباب من أخبار(من بلغ)؛ حینئذٍ یترتب هذا الأثر، وهو ارتفاع الحدث علی الوضوء الذی یأتی به المکلّف لتلک الغایة؛ لأنّه ثبت استحبابه بناءً علی استفادة الاستحباب من أخبار(من بلغ)، فیکون الوضوء مستحبّاً مأمور به شرعاً، وکل وضوء مأمور به شرعاً یکون رافعاً للحدث. وأمّا إذا لم نستفد الاستحباب، وحملنا الروایات علی مجرّد الإرشاد إلی حسن الانقیاد والاحتیاط؛ فحینئذٍ لا یمکن الالتزام بترتب هذا الأثر، هذا الوضوء الذی یتوضأه الإنسان لغایةٍ معینةٍ لا یکون رافعاً للحدث؛ لأنّه لم یثبت استحبابه شرعاً حتّی یترتب علیه ذلک الأثر، فکأنّ الأثر یترتب علی الوضوء المأمور به شرعاً، ولو أمراً استحبابیاً، وهذا یتوقف علی إثبات استحبابه، فیکون رافعاً للحدث، وإلاّ فلا یکون رافعاً للحدث، فتظهر الثمرة هنا فی هذا المورد.

الشیخ(قدّس سرّه) بعد أنْ ذکر هذا المورد، ذکر(فتأمّل)، قیل فی تفسیر التأمّل: أنّ مراد الشیخ بالتأمّل هو أنّ التأمّل إشارة إلی عدم ثبوت کون کل وضوءٍ مستحبٍ رافعاً للحدث، فأنّه أوّل الکلام، الثمرة مبنیة علی کبری کلّیة، وهی أنّ کل وضوء مأمور به شرعاً ولو علی نحو الاستحباب یکون رافعاً للحدث، فتظهر الثمرة؛ فإنْ قلنا بالاستحباب یکون هذا الوضوء الخاص رافعاً للحدث، وإلاّ فلا یکون رافعاً للحدث، لکنّ هذا مبنی علی هذه الکبری، فقوله(فتأمّل) لعلّه إشارة إلی المناقشة فی هذه الکبری؛ إذ لم یدل دلیل علی أنّ کل وضوء مستحب یکون رافعاً للحدث، بدلیل أنّ هناک بعض الوضوء والذی ثبت استحبابه، ومع ذلک هو لا یکون رافعاً للحدث، ویمثّل لذلک بوضوء الحائض ووضوء الجنب یستحب لهما الوضوء، وثبت استحباب الوضوء لهما، لکنّه لا یکون رافعاً للحدث، ویُمثّل لذلک أیضاً بالوضوء التجدیدی، فهو وضوء ثبت استحبابه، لکنّه لیس رافعاً للحدث؛ لأنّ الحدث أساساً مرتفع بالوضوء الأوّل، فهذا الوضوء التجدیدی لا یکون له أثر ولا یکون رافعاً للحدث.

ص: 311

إذن: بهذا نستطیع أنْ نرفع الید عن الکبری الکلّیة؛ لأنّه لا دلیل علی أنّ کلّ وضوء مستحب یکون رافعاً للحدث.

لکنّ هذا التفسیر للتأمّل الذی ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) قابلٌ للتأمل، باعتبار أنّ الوضوء إنّما یرتفع به الحدث الأصغر لا الحدث الأکبر، ومن هنا النقض علی من یدّعی الکبری(کل وضوء یکون رافعاً للحدث) ینبغی أنْ یکون النقض بموردٍ قابل لرفع الحدث الأصغر، فی الموارد التی یکون الوضوء فیها قابلاً لرفع الحدث الأصغر، إذا دل دلیل علی أنّ هذا وضوء حاله حال سائر الوضوءات وفیه قابلیة رفع الحدث الأصغر هذا یکون نقضاً للکبری الکلّیة. وأمّا النقض بموارد أصلاً لا یکون المورد قابلاً فیه لرفع الحدث الأصغر، فهذا لیس نقضاً علی القاعدة الکلّیة، ویقال أنّ الوضوء فی هذین الموردین الذین ذُکر النقض فیهما لیس قابلاً لرفع الحدث الأصغر. أمّا المورد الأوّل، فباعتبار أنّ الشخص محدث بالأکبر، فهو مجنب، أو هی حائض، هذا لیس قابلاً لأنْ یرتفع به الحدث الأصغر؛ لأنّه محدث بالحدث الأکبر، وهکذا فی الوضوء التجدیدی حیث لیس هناک قابلیة فی المحل لرفع الحدث الأصغر، فلا تنتقض الکبری فی هذه الموارد، وإنّما تنتقض فی موارد یمکن أنْ یکون الوضوء فیها رافعاً للحدث، فیأتی دلیل یقول بأنّ هذا الوضوء لیس رافعاً للحدث، هذا یتحقق فیه النقض. وأمّا فی هذه الموارد، فقد یستشکل فی تحقق النقض للکبری الکلّیة بذلک.

لکن علی کل حال، یمکن دفع أصل الثمرة بما ذکره السیّد الخوئی(قدّس سرّه) (1) من أنّه إذا التزمنا بالاستحباب النفسی للوضوء، أی أنّ هذه الغسلات والمستحبّات فی حدِّ نفسها مستحبّة، یعنی أنّها تحقق غایة أخری --------- مثلاُ --------- حتّی إذا لم یکن الوضوء لغایةٍ هو فی حدّ نفسه مستحب استحباباً نفسیاً، إذا التزمنا بذلک؛ حینئذٍ یکون کل وضوءٍ مستحبّاً، سواء کان لغایة، أو لم یکن لغایة، فیثبت استحباب الوضوء فی نفسه، ویکون رافعاً للحدث، سواء قلنا باستحبابه لتلک الغایة، أو لم نقل باستحبابه لتلک الغایة، فلا تظهر الثمرة، الخبر الضعیف دلّ علی استحباب الوضوء إذا جاء به المکلّف لغایة قراءة القرآن ---------- مثلاً ---------- فکان یقال لبیان الثمرة أنّه: إنْ قلنا باستفادة الاستحباب من أخبار(من بلغ) فیثبت أنّ هذا مستحب، فیترتب علیه الأثر، وهو أنْ یکون رافعاً للحدث، وإنْ لم نقل باستفادة الاستحباب، فلا یکون مستحبّاً، فلا یکون رافعاً للحدث.

ص: 312


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 313.

الجواب هو: أنّ هذا الوضوء مستحب علی کل حال؛ لأنّ الوضوء مستحب فی حدّ نفسه استحباباً نفسیاً. إذن: هذا الوضوء مستحب فی نفسه، أی نفس الغسلات والمسحات هی مستحبّة استحباباً شرعیاً، فیکون رافعاً للحدث، سواء قلنا باستحبابه لتلک الغایة، کما دلّ علیه الخبر الضعیف، أو لم نقل باستحبابه لتلک الغایة، هو فی حدّ نفسه مستحب، فإذا کان الوضوء فی حدّ نفسه مستحب؛ حینئذٍ یترتّب علیه الأثر الذی هو ارتفاع الحدث من دون فرق بین أنْ نستفید الاستحباب النفسی من أخبار(من بلغ) أو نحملها علی الإرشاد. ومن هنا یظهر أنّ هذه الثمرات التی ذُکرت لا تترتب علی هذین القولین. هذا تمام الکلام فی التنبیه الثالث من تنبیهات البراءة، أی فی ما یُسمّی بقاعدة التسامح فی أدلّة السنن.

التنبیه الرابع: ذکرنا التنبیه الأوّل الذی هو مسألة اشتراط جریان البراءة بأنْ لا یکون هناک أصل موضوعی منجّز، فأنّه یکون مانعاً من إجراء البراءة، ومنه انطلق البحث إلی استصحاب عدم التذکیة فی اللّحم الذی یُشکّ فی تذکیته. التنبیه الثانی کان فی حُسن الاحتیاط، هل الاحتیاط حسن بالرغم من جریان البراءة، أو لا ؟ عقلاً، أو شرعاً ؟ التنبیه الثالث فی قاعدة التسامح فی أدلّة السنن. التنبیه الرابع الذی یقع الکلام فیه فی مبحث مهم جدّاً، وهو جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة. کان القدر المتیقّن من الکلام السابق هو الشبهات الحکمیة، وهو المقصود الأصلی فی هذه البحوث فی علم الأصول، هذا هو القدر المتیقّن من أدلّة البراءة، فهی تجری فی الشبهات الحکمیة، وإنّما الکلام یقع فی أنّ أدلّة البراءة هل تجری فی الشبهات الموضوعیة کما تجری فی الشبهات الحکمیة، أو لا ؟ هذا التنبیه معقود لبحث هذا المطلب.

ص: 313

الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) حکی عن بعضهم دعوی أنّ أدلّة البراءة لا تجری فی الشبهات الموضوعیة، وإنْ اعترض بجریانها فی الشبهات الحکمیة، لکنّه منع من جریانها فی الشبهات الموضوعیة وناقشه الشیخ(قدّس سرّه) فی ذلک، لکن یبدو أنّه، یعنی إذا استثنینا هذا الشخص الذی ینقل عنه الشیخ(قدّس سرّه) یبدو أنّ هناک اتّفاقاً علی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة فی الجملة، وحتّی ممّن ینکر جریان البراءة فی الشبهات الحکمیة یعترف بجریانها فی الشبهات الموضوعیة کعلمائنا الأخباریین(رضوان الله علیهم)، هؤلاء ینکرون جریان البراءة فی الشبهات الحکمیة فی الجملة، ولو فی الشبهة التحریمیة مثلاً، لکنّهم یعترفون بجریانها فی الشبهات الموضوعیة، ومن هنا الأمر لا یخلو من اتفاق، أو شبه اتفاق علی جریان البراءة الشبهات الموضوعیة. الشبهة التی جعلت هذا الشخص الذی ینقل عنه الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) أنّه یشککّ، أو یجزم بعدم جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة هی شبهة أنّ الشکّ فی الشبهات الموضوعیة هو لیس فی التکلیف الشرعی، لیس فی جعل الحکم، فأنّ الشکّ فی أصل الحکم وفی جعله یجعل الشبهة شبهة حکمیة، فالشک لیس فی أصل التکلیف، فأنّه واضح ومعلوم ولا شکّ فیه، والجعل الشرعی معلوم ولا شکّ فیه، وإنّما الشکّ فی مرحلة الانطباق، الشکّ فی الموضوع الخارجی، هل هذا خمر، أو خل ؟ هذا بول أو ماء. عندما نشکّ أنّ هذا خمر أو خل ؟ الحکم معلوم، یعنی إذا کان خمراً فهو معلوم الحرمة، وإذا کان خلاً فالحکم هو الحلّیة، لیس لدینا شکّ فی هذا، وإنّما الشکّ فی الموضوع الخارجی، ودخول الموضوع الخارجی فی هذا الموضوع المعلوم حکمه، أو ذاک الموضوع المعلوم حکمه أیضاً، هل هو خمر حتّی یکون حراماً، أو هو خل حتّی یکون حلالاً، فالشکّ فی انطباق الموضوع المعلوم حکمه علی هذا الفرد والموضوع الخارجی، وإلاّ لا شکّ فی الجعل، ولا فی أصل التکلیف، وعلی هذا الأساس بنی هذا الشخص علی عدم جریان أدلّة البراءة فی الشبهات الموضوعیة؛ لأنّ الشکّ فیها لیس شکّاً فی أصل التکلیف، ولا فی جعل الحکم الشرعی؛ ولذا لا تجری البراءة فی الشبهات الموضوعیة.

ص: 314

هذه الشبهة کأنّها تستبطن تحدید المیزان فی جریان البراءة، حیث أنّه یفترض أنّ المیزان فی جریان البراءة هو الشک فی أصل التکلیف، وهذا متحقق فی الشبهات الحکمیة؛ ولذا لا إشکال فی جریان البراءة فیها، وغیر متحققّ فی الشبهات الموضوعیة؛ ولذا یقول أنّ أدلّة البراءة لا تشمل الشبهات الموضوعیة، فکأنّ هذا الکلام یستبطن تحدید میزان جریان البراءة فی مورد، وأنّ المیزان هو کون الشکّ فی أصل التکلیف، وفی جعل الحکم من قبل الشارع، فإذا اختلّ هذا المیزان کما هو مختل کما یدّعی هو فی الشبهات الموضوعیة، فلا تجری البراءة.

البحث ینبغی أنْ یقع أوّلاً فی ما یدّعیه هذا الشخص من عدم جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة، وقلنا أنّه یبدو أنّه لا إشکال فی جریانها وبالاتفاق لا إشکال فی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة فی الجملة، ولا ینبغی إطالة البحث فی هذا کما سیتّضح من خلال البحثین القادمین. الکلام المهم ینبغی أنْ یقع فی جهتین:

الجهة الأولی: أنّ أدلّة البراءة هل تشمل الشبهات الموضوعیة بجمیع أقسامها، أو أنّ ما یجری فی الشبهات الموضوعیة هو بعض أقسام أدلّة البراءة ؟ بعد الفراغ عن أنّ أدلّة البراءة بجمیع أقسامها تجری فی الشبهات الحکمیة. هذه البراءة التی تجری بجمیع أقسامها فی الشبهات الحکمیة، هل تجری بجمیع أقسامها أیضاً فی الشبهات الموضوعیة، أو لا ؟ أنّ الشبهات الموضوعیة تختص ببعض أدلّة البراءة، وإلاّ کما قلنا أنّ جریان البراءة فی الجملة، ولو بلحاظ بعض أقسامها ممّا لا ینبغی أنْ یقع فیه الإشکال، وإنّما نتکلّم فی أنّ هذا الدلیل هل یجری فی الشبهة الموضوعیة، أو لا یجری ؟

ص: 315

الجهة الثانیة: فی تحدید الضابط للشبهة الموضوعیة التی تجری فیها البراءة، ما هو الضابط الذی علی أساسه تجری البراءة فی الشبهات الموضوعیة.

وبعبارة أخری: أنّ أدلّة البراءة هل تجری فی جمیع موارد الشبهات الموضوعیة، أی أنّه هل تجری البراءة فی کل شبهة موضوعیة، أو أنّ هناک ضابطاً لجریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة، إذا توفّر هذا الضابط فی شبهة موضوعیة التزمنا بجریان البراءة فیه، إمّا جمیع أقسام أدلّة البراءة، أو بعض أقسام أدلّة البراءة حسب النتیجة التی ننتهی إلیها فی البحث الأوّل. فیقع الکلام فی مقامین:

المقام الأوّل: أنّ أدلّة البراءة هل تجری بجمیع أقسامها فی الشبهات الموضوعیة کما هو الحال فی الشبهات الحکمیة، أو لا ؟

للجواب عن هذا السؤال: أوّلاً تکلّموا عن البراءة الشرعیة ثمّ تکلّموا عن البراءة العقلیة. أمّا البراءة الشرعیة، فقالوا أنّه لا إشکال فی أنّه علی الأقل بعض أدلتها فیها من الإطلاق والشمول ما یجعلها صالحة لإثبات البراءة فی الشبهات الموضوعیة کما هی صالحة لإثبات البراءة فی الشبهات الحکمیة، ومثّلوا لذلک بحدیث الرفع، وبقوله تعالی:﴿لا یکلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها﴾. (1) حدیث الرفع(رفع عن أمتی ما لا یعلمون). (2) لا داعی لتخصیصه بخصوص الشبهات الحکمیة، فی الشبهات الموضوعیة المکلّف أیضاً لا یعلم ما هو حکمه، وإنْ کان المشکوک هو الحکم الجزئی کما یعبرون عنه، یعنی لا یعلم ما حکم هذا المایع، یترددّ عنده بین أنْ یکون خمراً، أو یکون خلاً، بالنتیجة هو لا یعلم حکم هذا المایع، صحیح حکم هذا المایع الخارجی لیس حکماً کلّیاً، لا نتوقع أنْ یصدر فیه جعل، لکن بالنتیجة هو حکم مشکوک، فالحدیث یقول: رفع ما لا یعلمون، فالحکم الذی لا تعلم به مرفوع عنک، فیقال: أنّ هذا الحدیث بإطلاقه کما یشمل الشبهات الحکمیة یشمل أیضاً الشبهات الموضوعیة، لا یکلّف الله نفسا إلاّ ما آتاها، بناءً علی إمکان الاستدلال بها علی البراءة، مئالها إلی أنّ الله(سبحانه وتعالی) لا یکلّف نفساً إلاّ بما أعلمها، قالوا أنّ هذا أیضاً لا داعی لتخصیصه بخصوص الشبهات الحکمیّة؛ بل یشمل حتّی الشبهات الموضوعیة. أضافوا إلی ذلک أنّ هناک بعض أدلة البراءة ممّا هو مختص بالشبهات الموضوعیة، أو أدُعی فیه الاختصاص بالشبهات الموضوعیة، وإذا ناقشنا فی هذا فهو یشمل بإطلاقه الشبهات الموضوعیة من قبیل الحدیث المعروف وهو روایة عبد الله بن سنان التی یقول فیها: (کل شیء فیه حلال وحرام، فهو لک حلال حتّی تعرف أنّه حرام بعینه، فتدعه). (3) الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) فی الرسائل (4) ذکر جملة من القرائن علی اختصاص هذا الحدیث بالشبهات الموضوعیة، من هذه القرائن تقسیمه إلی أنّ الشیء المشکوک فیه حلال وحرام، وذکر أنّ الذی یظهر من الحدیث أنّ منشأ الاشتباه والشک والتردد هو وجود هذین القسمین وتحققّهما فی الخارج، وهذا لا یکون إلاّ فی الشبهات الموضوعیة، وجود قسمین فی الشبهات الموضوعیة أحدهما حلال والآخر حرام هو الذی دعانی إلی الاشتباه فی هذا، بأنْ لا أعلم هل أنّه یدخل فی هذا، أو فی ذاک، کما أنّ منشأ الشکّ فی الشبهات الحکمیة لیس هو وجود قسمین للشیء أحدهما حلال والآخر حرام، فشکک فی لحم الأرنب حلال، أو حرام لا علاقة له بوجود حرام آخر، أو وجود حلال آخر، أنت تشک فی أنّ لحم الأرنب حلال، أو حرام، لعدم النص، أو لتعارض النصّین، أو إجمال النص. هذه الروایة وأمثالها من الروایات إمّا أنْ یُدّعی أنّها مختصّة بالشبهات الموضوعیة، أو أننّا إذا تنزلنا عن ذلک فهی بإطلاقها تشمل الشبهات الموضوعیة حتماً . ومن هنا لا ینبغی إطالة الکلام فی أنّ بعض أدلّة البراءة تشمل الشبهات الموضوعیة.

ص: 316


1- سورة الطلاق، آیة 7.
2- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 15، ص 369، باب جملة ممّا عفی عنه، ح 1.
3- الکافی، الشیخ الکلینی، ج 5، ص 313، باب النوادر، ح 39.
4- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 47.

نعم، قد یستشکل فی استفادة البراءة من هذه الأخبار(کل شیء فیه حلال وفیه حرام) مع الاعتراف بأنّ موردها هو الشبهات الموضوعیة، ووجه الإشکال هو دعوی أنّ هذه الأخبار وإن کانت واردة فی الشبهات الموضوعیة، لکنّ موردها هو صورة العلم الإجمالی بقرینة قوله فی الروایة(فیه حلال وحرام، حتّی تعرف أنّه حرام) فیستفاد من الروایة اختصاصها بموارد العلم الإجمالی، عندما تعلم إجمالاً بأنّ هذا أمره مردد بین الحرام وبین الحلال، هذه الروایة تکون ناظرة إلی موارد العلم الإجمالی؛ حینئذٍ یقال: هذه الروایة علی تقدیر الالتزام بمضمونها، وإنْ کانت تدل علی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة البدویة غیر المقرونة بالعلم الإجمالی، تدل علی جریان البراءة فی محل الکلام بالأولویة؛ لأنّ البراءة إذا جرت مع العلم الإجمالی، فمن بابٍ أولی أنْ تجری من دون العلم الإجمالی، إذا جرت فی موارد الشکّ المقرون بالعلم، فمن باب أولی أنْ تجری فی موارد الشکّ الخالی، الشکّ غیر المقرون بالعلم الذی هو محل الکلام، لکن أصل جریانها فی موارد العلم الإجمالی ممنوع؛ لما سیأتی وما تقدّم أیضاً من أنّ البراءة لا تجری فی موارد العلم الإجمالی. إذن: المدلول المطابقی لهذا الخبر لا یمکن الالتزام به وهو جریان البراءة فی موارد العلم الإجمال، فإذا کان المدلول المطابقی لهذه الأخبار لا یمکن الالتزام به لا یمکننا أنْ نثبت بالأولویة جریان البراءة فی موارد الشکّ البدوی علی نحو الشبهة الموضوعیة الذی هو محل الکلام.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

کان الکلام فی التنبیه الرابع فی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة، قلنا أنّ الکلام یقع فی أنّه هل جمیع أقسام البراءة تجری فی الشبهات الموضوعیة کما کانت جاریة فی الشبهات الحکمیة، أو أنّ الشبهات الموضوعیة تختص ببعض أقسام البراءة ؟ فی هذا البحث الأوّل ذکرنا فی الدرس السابق أنّه لا ینبغی الإشکال فی أنّ بعض أدلّة البراءة الشرعیة تجری فی الشبهات الموضوعیة کما تجری فی الشبهات الحکمیة، إمّا لإطلاق بعض الأدلّة کحدیث الرفع علی ما تقدّم سابقاً، فأنّه لا یختص بالشبهات الحکمیة، وإمّا لوجود روایات خاصّة واردة فی خصوص الشبهات الموضوعیة، وذُکر کمثال للروایات المختصّة بالشبهات الموضوعیة الحدیث المعروف الذی یقول(کل شیء فیه حلال وحرام) وذُکرت قرائن تدل علی هذا الاختصاص بالشبهة الموضوعیة.

ص: 317

نعم، قد یُدعی أنّ هذه الأخبار ما کان من قبیل(کل شیء فیه حلال وحرام) مختصّة بموارد العلم الإجمالی، ولو باعتبار قوله(کل شیء فیه حلال وحرام) ممّا یُفهم منه وجود القسمین، وأنّ ذلک هو منشأ الاشتباه، ومن الواضح أنّ وجود القسمین مع کون ذلک هو منشأ الاشتباه لا یکون إلاّ مع افتراض الاختلاط وعدم التمییز، وإلاّ مع عدم الاختلاط ومع تمییز الحلال عن الحرام لا موجب للاشتباه، الاشتباه فی حالة فرض وجود القسمین لا یکون إلاّ مع افتراض الاختلاط وعدم التمییز، وهذا الاختلاط وعدم التمییز مع وجود القسمین هو المقصود بالعلم الإجمالی، اختلط الحرام بالحلال، فأصبح عالماً بأنّ هذا فیه الحرام کما هو عالم بأنّ فیه الحلال، فیکون المورد من موارد العلم الإجمالی، وهکذا قوله(بعینه) فی ذیل الروایات، أو فی ذیل معظم هذه الروایات، هذه أیضاً جُعلت قرینة علی اختصاص هذه الروایات بموارد العلم الإجمالی، باعتبار أنّ ما یقابلها هو معرفة الحرام لا بعینه(حتّی تعرف الحرام منه بعینه) یعنی تشخّص أنّ هذا حرام، هذا داخل فی الغایة، یعنی لا یُحکم فیه بالبراءة، ولا بالحلّیة، ما یقابله المغیّی هو معرفة الحرام لا بعینه، هنا تجری البراءة، وهذا هو المراد بالعلم الإجمالی، أنْ تعرف الحرام لا بعینه، أی من دون تشخیصه مع العلم بوجود الحرام، فیُدّعی أنّ هذه الروایات ظاهرها الاختصاص بموارد العلم الإجمالی؛ حینئذٍ یقال: أنّ هذا الحدیث وما یشبهه، وإنْ کان یدل بالدلالة الالتزامیة علی جریان البراءة فی محل الکلام الذی هو الشکّ البدوی علی نحو الشبهة الموضوعیة، لا یدری أنّ هذا خمر أو خل، وإنْ کان یدلّ علی جریان البراءة فی محل الکلام بالأولویة؛ لأنّ البراءة إذا کانت جاریة فی صورة الشکّ المقرون بالعلم، فجریانها فی صورة الشکّ الخالی المجرّد من بابٍ أولی، فتدلّ هذه الأخبار علی جریان البراءة فی محل الکلام، أی فی الشبهات الموضوعیة التی یکون الشکّ فیها لیس مقروناً بالعلم الإجمالی، لکن حیث لا یمکن جریان البراءة فی موارد العلم الإجمالی، أصلاً لا یمکن العمل بمضمون هذه الأخبار، وإنْ کان ظاهرها الاختصاص بموارد العلم الإجمالی، لکن لا یمکن العمل بهذا المضمون؛ لأنّ العقل یحکم باستحالة جریان البراءة فی أطراف العلم الإجمالی، هذا معناه أنّ هذه الروایات بلحاظ مدلولها المطابقی ساقط عن الحجّیة، بحکم العقل باستحالة جریان البراءة فی أطراف العلم الإجمالی، فإذا سقط المدلول المطابقی لهذه الأخبار عن الحجّیة یسقط مدلولها الالتزامی أیضاً، بناءً علی تبعیة الدلالة الالتزامیة للدلالة المطابقیة فی الحجّیة، وبالتالی لا یمکن الاستدلال بها لإثبات جریان البراءة فی محل الکلام؛ لأنّ جریان البراءة فی محل الکلام استفدناه من هذه الأخبار کمدلولٍ التزامی ثابت بالأولویة، وهذا المدلول الالتزامی تابع فی الحجّیة للدلالة المطابقیة لنفس الحدیث، وحیث أنّ الدلالة المطابقیة للحدیث سقطت عن الحجّیة بحکم العقل باستحالة جریان البراءة فی أطراف العلم الإجمالی، الدلالة الالتزامیة أیضاً تسقط عن الاعتبار، وتسقط عن الحجّیة، فلا تکون حجّة، فلا یمکن الاستدلال بالحدیث علی جریان البراءة فی محل الکلام. هذا قد یُستشکل فی الاستدلال بالحدیث علی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة التی هی محل کلامنا الخالیة عن العلم الاجمالی بهذه الأحادیث ما کان من قبیل(کل شیء فیه حرام وحلال).

ص: 318

الجواب عن هذا الإشکال، وتصحیح الاستدلال بهذه الأخبار یمکن أنْ یکون بهذا النحو: أننّا إذا سلّمنا اختصاص هذه الأخبار بموارد العلم الإجمالی، لکن هذه الأحادیث مطلقة تشمل نوعین من موارد العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی تارة یکون متحققّاً فی ضمن شبهة محصورة، وأخری یکون متحققّاً فی شبهة غیر محصورة ولا داعی لتخصیص هذه الأخبار بأحد القسمین، هذه الأخبار سلّمنا أنّها مختصّة بموارد العلم الإجمالی، لکن لا قرینة فیها علی اختصاصها بالشبهة المحصورة، إذن: هی مطلقة تشمل الشبهة المحصورة، وتشمل الشبهة غیر المحصورة، بالرغم من اعترافنا باختصاصها بموارد العلم الإجمالی.

حینئذٍ نقول: أنّ ما یحکم العقل باستحالته وعدم معقولیته إنّما هو جریان البراءة فی خصوص الشبهة فی خصوص الشبهة المحصورة من موارد العلم الإجمالی. هذا هو الذی یحکم العقل باستحالته، وأمّا فی موارد الشبهة غیر المحصورة، فلا یحکم العقل باستحالة جریان البراءة فی أطراف ذلک العلم الإجمالی؛ ولذا التزموا بجریان البراءة فی موارد العلم الإجمالی، ولم یکن ذلک عندهم منافیاً ومعارضاً لحکم العقل بالاستحالة، وهذا معناه أنّ الحکم العقلی یختصّ بخصوص الشبهة المحصورة من موارد العلم الإجمالی، وإذا اختصّ بهذا الشکل تکون نسبته إلی هذه الأخبار نسبة الخاص إلی العام، النسبة بینهما هی نسبة العموم والخصوص المطلق؛ لأنّ تلک الأخبار تدلّ علی جریان البراءة فی موارد العلم الإجمالی سواء کانت الشبهة محصورة، أو غیر محصورة، الحکم العقلی یقول: الشبهة المحصورة من موارد العلم الإجمالی یستحیل جریان البراءة فیها، فیخرج هذا بالحکم العقلی عن إطلاق تلک الأخبار.

والنتیجة هی: أنّ تلک الأخبار تبقی علی حالها، ومدلولها المطابقی یبقی حجّة، لکن فی غیر الشبهة المحصورة، یعنی یدلّ علی جریان البراءة فی موارد العلم الإجمالی فی غیر الشبهة المحصورة بعد إخراج الشبهة المحصورة بحکم العقل من هذه الأحادیث؛ وحینئذٍ یأتی الاستدلال السابق بأنّ هذه الأخبار الدالّة علی جریان البراءة فی موارد العلم الإجمالی إذا کانت الشبهة غیر محصورة. هذا یدلّ بالدلالة الالتزامیة علی جریان البراءة فی محل الکلام. بالأولویة أو المساواة یدل علی جریان البراءة فی محل الکلام؛ لأنّ البراءة إذا کانت جاریة فی موارد الشکّ المقرون بالعلم الإجمالی، ولو کان فی شبهة غیر محصورة، إذا کان تجری البراءة هناک کما یدل علیه الحدیث التام سنداً، فجریان البراءة فی موارد الشک المجرّد عن العلم کما هو محل الکلام یکون من بابٍ أولی، أو لا أقل من المساواة، فإمّا أنْ نستدل بالأولویة، أو بالمساواة؛ فحینئذٍ یتمّ الاستدلال ولا یرد علیه الإشکال السابق.

ص: 319

نعم، قد یُشککّ فی الأولویة؛ بل حتّی فی المساواة بین ما نحن فیه وبین الشبهة غیر المحصورة، وذلک باعتبار أنّ احتمال التکلیف فی أطراف الشبهة غیر المحصورة احتمال ضعیف جدّاً؛ لکونها شبهة غیر محصورة، بینما احتمال التکلیف فی محل الکلام لیس کذلک، لیس احتمالاً ضعیفاً؛ بل هو احتمال معتدّ به، فی محل الکلام هذا مائع أشکّ فی أنّه خمر، أو خل، إذن: نسبة احتمال التکلیف، احتمال کونه خمراً هی نسبة النصف، فهو احتمال معتدّ به، فجریان البراءة مع کون احتمال التکلیف احتمالاً ضعیفاً جدّاً لا یدل بالأولویة، ولا بالمساواة علی جریان البراءة فی موارد الاحتمال المعتد به للتکلیف، کما فی محل الکلام. هذا یشککّ فی الأولویة وفی المساواة بهذا الاعتبار.

هذا التشکیک أیضاً یمکن أنْ یُدفع بأننّا لا ننکر أنّ احتمال التکلیف فی أطراف الشبهة غیر المحصورة هو احتمال لیس معتدّاً به عادة، لکن لا یمکن إنکار أنّه فی بعض حالات الشبهة غیر المحصورة لا یکون احتمال التکلیف احتمالاً ضعیفاً؛ بل یکون احتمالاً معتدّاً به، قد یمکن فرض ذلک. نعم، طبیعة المسألة عندما تکون أطراف الشبهة کثیرة جدّاً، احتمال التکلیف فی هذا الطرف هو احتمال واحد من جمیع أطراف الشبهة، عادة هکذا، لکن فی بعض الأحیان قد یکون احتمال التکلیف فی طرفٍ، أو أطرافٍ احتمالاً معتدّاً به بالرغم من کون الشبهة غیر محصورة. هذا إذا سلّمناه، هذه الحالة قد تتحقق للشبهة غیر المحصورة، هذه تکون مشمولة لإطلاق الأخبار، بمعنی أنّ تلک الأخبار التی تدلّ علی جریان البراءة فی أطراف العلم الإجمالی بعد تخصیصها بحکم العقل وإخراج الشبهة المحصورة منها سوف تختصّ بالشبهة غیر المحصورة، هذه الأحادیث بإطلاقها کما تشمل الشبهة المحصورة التی یکون احتمال التکلیف فی أطرافها ضعیفاً جداً، کذلک تشمل الشبهة غیر المحصورة التی یکون احتمال التکلیف فی أطرافها معتدّاً به فی بعض الحالات. إذن: هی تشمل هذه الحالة، فإذا شملت هذه الحالة؛ حینئذٍ یکون الاستدلال تامّاً؛ بأنْ نقول أنّ هذه الأخبار الدالة علی جریان البراءة فی أطراف العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة مع کون احتمال التکلیف معتداً به، تدل علی ذلک بالمطابقة هی تدل بالأولویة، أو بالمساواة علی جریان البراءة فی محل الکلام، ولا یرد التشکیک عندئذٍ فی الأولویة والمساواة؛ لأنّ التشکیک کان مبنیاً علی افتراض أنّ کل موارد الشبهة غیر المحصورة احتمال التکلیف فی أطرافه احتمال ضعیف وغیر معتدّ به، بینما یمکن افتراض أنّ بعض الموارد یکون احتمال التکلیف فیها احتمالاً معتداً به، بالرغم من هذا، إطلاق الأخبار الدال علی جریان البراءة یشملها، وإذا شملها حینئذٍ یمکن الاستدلال بالأخبار الشاملة لهذا المورد وبالدلالة الالتزامیة علی جریان البراءة فی محل الکلام، أو بقیاس المساواة. هذا ما یرتبط بالبراءة الشرعیة، وتبیّن أنّ البراءة الشرعیة تجری فی الشبهات الموضوعیة کما کانت تجری فی الشبهات الحکمیة، غایة الأمر أنّ بعض ألسنة البراءة الشرعیة قد لا تجری فی الشبهات الموضوعیة، کما أنّ بعض ألسنة البراءة لا تجری فی الشبهات الحکمیة، لکن بالنتیجة هناک من الأدلة ممّا یدل علی البراءة الشرعیة تجری فی الشبهات الموضوعیة، إمّا بإطلاقها، وإمّا باختصاصها بالشبهات الموضوعیة. وإنّما الکلام یقع فی البراءة العقلیة.

ص: 320

هل تجری البراءة العقلیّة فی الشبهات الموضوعیة کما تجری فی الشبهات الحکمیة، أو لا ؟ طبعاً هذا البحث مبنی علی الإیمان بالبراءة العقلیة وفق قاعدة(قبح العقاب بلا بیان)، وإلاّ إذا أنکرنا هذه القاعدة، فلا مجال لهذا الحدیث؛ لأنّ إنکار القاعدة یعنی لا یوجد هکذا حکم عقلی لا فی الشبهات الموضوعیة ولا فی الشبهات الحکمیة، وإنّما نتکلّم عن جریان البراءة العقلیة فی الشبهات الموضوعیة علی تقدیر الإیمان بالقاعدة والالتزام بجریانها فی الشبهات الحکمیة الذی هو مبنی المشهور، بناءً علی مبنی المشهور قد یُمنع جریان البراءة العقلیة فی الشبهات الموضوعیة بعد الاعتراف بجریانها فی الشبهات الحکمیة، والوجه فی منع جریان البراءة العقلیة فی الشبهات الموضوعیة هو ما ذکر فی کلماتهم من أنّ المراد بالبیان الذی یحکم العقل بقبح العقاب مع عدمه، المراد بهذا البیان الذی أُخذ عدمه فی موضوع قاعدة(قبح العقاب بلا بیان) هو بیان الحکم المرتبط بالشارع، ومن الواضح أنّ ما یرتبط بالشارع هو الحکم الکلّی، هذا هو الذی یُطلب من الشارع بیانه؛ بل یُلزم الشارع ببیان الأحکام الشرعیة للمکلّفین، فالذی یلزم علی الشارع بیانه هو الحکم الکلّی، وأمّا الحکم الجزئی الثابت للموضوع الخارجی، فهذا لا یرتبط بالشارع؛ بل لیس من شأنه بیانه، ولیس علیه بیانه، ولا یُتوقع منه بیانه. بناءً علی هذا، ما یلزم بیانه علی الشارع إنّما هو الحکم الکلّی، والمفروض فی الشبهات الموضوعیة العلم بهذا الحکم الکلّی، ووصوله إلی المکلّف، ففی الشبهات الموضوعیة لیس لدی المکلّف مشکلة فی الحکم الکلّی، هو یعلم بأنّ الخمر حرام، والخل حلال، فوصل إلیه الحکم الکلّی، والشارع قد بیّن ما یرتبط به وخرج عن العهدة ووصل هذا الحکم الکلّی إلی المکلّف، فإذا وصل الحکم الکلّی الذی یرتبط بالشارع إلی المکلّف یتنجّز علی المکلّف، فإذا تنجّز هذا الحکم الکلّی الواصل إلی المکلّف والذی فرضنا أنّ المکلّف عالم به، فعلمه بهذا الحکم الکلّی یجعل الحکم منجّزاً علیه، فإذا تنجّز علیه؛ حینئذٍ یحکم العقل بلزوم ترک ما یشک فی کونه من أفراد الحرام لقاعدة الاشتغال العقلی من أنّ الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، وذمّة المکلّف بعد وصول الحکم إلیه اشتغلت بهذا الحکم الکلّی، وتنجّز علیه هذا الحکم الکلّی، فلابدّ أنْ یخرج من عهدته یقیناً، ولا یقین بالخروج عن عهدته ولا یقین بامتثاله، إلاّ إذا ترک ما یُشکّ فی حرمته، وأمّا إذا شکّ فی أنّ هذا خمر، أو خل، فارتکبه، هو لا یخرج من عهدة التکلیف الذی اشتغلت به الذمة یقیناً، بینما العقل یُحتّم علیه تفریغ ذمته ممّا اشتغلت به علی نحو الجزم والیقین، وهذا لا یحصل إلاّ إذا ترک ما یشکّ فی کونه من أفراد الحرام، ولهذا تکون القاعدة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة لیست هی البراءة، وإنّا القاعدة الجاریة فی الشبهات الموضوعیة هی قاعدة الاشتغال العقلی؛ لأنّ الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، ولا یقین بالفراغ إلاّ مع ترک هذا الفرد الذی یحتمل کونه حراماً. هذا هو الوجه الذی علی أساسه قد یمنع من جریان البراءة العقلیة فی الشبهات الموضوعیة، أنّ الشبهات الموضوعیة لیست من موارد قاعدة(قبح العقاب بلا بیان)، وإنّما هی من موارد الاشتغال العقلی ببیان أنّ ما هو وظیفة الشارع هو بیان الأحکام الکلّیة، ولیس من وظیفة الشارع بیان الأحکام الجزئیة، والمفروض فی الشبهات الحکمیة أنّ الشارع قد بیّن هذا الحکم الکلّی ووصل إلی المکلّف، وعلم به المکلّف، فیتنجّز علیه، (یحرم علیک شرب الخمر) یجب امتثال هذا التکلیف بحکم العقل، لابدّ من امتثال ذلک والخروج عن عهدة هذا التکلیف وهذا لا یکون عندما یرتکب شیء یحتمل أنّه خمر، لم یخرج من عهدة ذلک التکلیف یقیناً، وإنّما یخرج من عهدته یقیناً إذا اجتنب هذا الذی یُشکّ فی کونه من أفراد الحرام. هذا هو الوجه الذی یُمنع علی أساسه من جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة. طبعاً واضح أنّ المشکوک فی الشبهات الموضوعیة أوّلاً وبالذات هو الموضوع، لکن یستتبع الشکّ فی الموضوع فی الشبهات الموضوعیة الشکّ فی الحکم الجزئی، فیصبح الحکم الجزئی الثابت للموضوع الخارجی مشکوکاً، باعتبار الشکّ فی نفس الموضوع، مسألة أنّ الشارع لیس وظیفته بیان الأحکام الجزئیة، نفسها تقال فی بیان الموضوعات الخارجیة، یعنی کما أنّ الشارع لیس من شأنه أنْ یبیّن الأحکام الخارجیة، کذلک لیس من شأنه أنْ یُبیّن الأحکام الجزئیة لتلک الموضوعات الخارجیة، ولا هو ملزم بها، وإنّما هو ملزم فقط ببیان الأحکام الکلّیة. هذا هو اصل الوجه فی المنع، أو فی التوقّف علی الأقل.

ص: 321

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

کان الکلام فی شمول البراءة للشبهات الموضوعیة،وکانت الشبهة التی أوجبت التوقّف، أو المنع من الشمول هی عبارة عن أنّ الحکم والتکلیف لیس مشکوکاً فی الشبهات الموضوعیة؛ بل هو أمر معلوم تمّ علیه البیان، ووصل إلی المکلّف، وإنّما الشکّ یکون فی الموضوع الخارجی، أنّ هذا هل هو خمر، أو لا ؟ فحینئذٍ التکلیف المجعول من قبل الشارع الذی تمّ علیه البیان وصل إلی المکلّف، فإذا وصل التکلیف إلی المکلّف تنجّز علیه، وإذا تنجّز علیه؛ حینئذٍ یکون الأصل الجاری هو قاعدة الاشتغال؛ لأنّ التکلیف الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی ولا یکون هذا مورداً للبراءة العقلیة، وإنّما یکون مورداً للاشتغال العقلی.

هذا الوجه له جواب، وهذا الجواب مستفاد من کلمات المحققّ النائینی(قدّس سرّه) وخصوصاً فی(فوائد الأصول). المحققّ النائینی(قدّس سرّه) یقول:(أنّ مجرّد العلم بالکبریات المجعولة لا یکفی فی تنجّزها وصحّة العقوبة علی مخالفتها ما لم یُعلم بتحقق صغریاتها خارجاً، فأنّ تنجّز التکلیف الذی علیه تدور صحّة العقوبة إنّما یکون بعد فعلیة الخطاب). (1) الذی یُفهم من العبارة هو أنّه لا یکفی فی تنجّز التکلیف العلم بالکبری دون الصغری، کما لا یکفی فی تنجّز التکلیّف العلم بالصغری دون الکبری، إنّما یتنجّز التکلیف إذا علم المکلّف بالکبری التی هی --------- فرضاً --------- (یحرم شرب الخمر)، فإذا علم، مضافاً إلی علمه بالکبری، بالصغری(أنّ هذا خمر) عندئذٍ یتنجّز علیه التکلیف ویصل إلی مرحلة استحقاق العقاب علی المخالفة، فلا یکفی فی التنجّز ---------- وهذه نقطة مهمّة یُرکز علیها ---------- مجرّد العلم بالکبری من دون العلم بالصغری. الوجه فی ذلک ---------- علی ما ذکره ---------- هو أنّ الحکم الذی یتنجّز عند العلم به من قبل المکلّف هو الحکم الفعلی، ومن الواضح أنّ الحکم لا یکون حکماً فعلیّاً إلاّ بتحقق موضوعه وفعلیة موضوعه، وإلاّ فلا یکون ذلک الحکم فعلیّاً، وإنّما یکون معلّقاً علی تقدیر تحققّ موضوعه، یبقی حکماً أشبه بالأحکام الإنشائیة فی مرحلة الإنشاء، وإنّما یصل إلی مرحلة الفعلیة عند تحققّ موضوعه وفعلیّة موضوعه، أمّا قبل تحقق الموضوع، فالحکم حکم تعلیقی ولیس حکماً فعلیاً، وصیرورة الحکم فعلیاً المتوقفة کما قلنا علی تحقق الموضوع، هذا هو الذی یقوله من أنّ العلم بهذا الحکم الفعلی یوصله إلی مرحلة التنجّز واستحقاق العقاب علی المخالفة، لکن متی یصبح الحکم فعلیاً حتّی یکون العلم به منجّزاً له ؟ یکون فعلیاً لیس فقط عند العلم بکبراه، وإنّما عند العلم بکبراه والعلم بالصغری وتحقق الموضوع، فإذا علم بالکبری، أنّ الله(سبحانه وتعالی) حرّم شرب الخمر، وتحققّ موضوعه، وعلم بتحققّ موضوعه وهو الصغری؛ عندئذٍ یتنجّز علیه التکلیف، ویصل إلی مرحلة استحقاق العقاب علی المخالفة.

ص: 322


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 390.

إذن: التنجّز لا یکفی فیه مجرّد العلم بالکبری؛ لأنّ العلم بالکبری لیس علماً بالحکم الفعلی، وإنّما هو علم بالحکم التعلیقی، الحکم لا یکون فعلیاً إلاّ إذا تحققّ موضوعه وعُلم بتحققّ موضوعه؛ عندئذٍ یصبح فعلیاً، والعلم بالکبری والصغری یوجب تنجّز ذلک التکلیف، فیتنجّز ذلک التکلیف.

النتیجة: أنّ العلم بالکبری وحده لا یوجب تنجّز التکلیف. وعلیه: فی محل الکلام الذی هو الشبهات الموضوعیة بحسب الفرض لا یوجد إلاّ العلم بالکبری فقط، وإلاّ، إذا افترضنا العلم بالصغری، فحینئذٍ لا تکون الشبهة موضوعیة، وإنّما تکون الشبهة موضوعیة لأنّه لا یعلم بالصغری، لا یعلم أنّ هذا خمر، أو ماء، ففی الشبهات الموضوعیة التی هی محل الکلام فُرض عدم العلم بالصغری، والعلم بالکبری فقط، وعرفت أنّ العلم بالکبری فقط لا یوجب تنجّز التکلیف، فکیف یقول المستدل: بأنّ الحکم تنجّز علی المکلّف لأنّه عالم به، وإذا تنجّز علیه تجری قاعدة الاشتغال لا البراءة ؟

الجواب: أنّ الحکم لم یتنجّز فی الشبهات الموضوعیة؛ لأنّ المکلّف فی الشبهات الموضوعیة لیس عالماً إلاّ بالکبری، والعلم بالکبری وحده لا یکفی لتنجیز التکلیف، فلا یصح ما قاله المستدل من أنّ المورد مورد الاشتغال العقلی؛ لأنّه لا یقین بالتکلیف حتّی یستتبع ذلک الفراغ الیقینی.

هذا البیان بهذا المقدار لا شک أنّه یصلح لنفی جریان قاعدة الاشتغال فی المقام، باعتبار أنّه لم یتنجّز علیه شیء، ولم یدخل فی عهدته شیء، فلا یکون مورداً لقاعدة الاشتغال، لکنّه هل یصلح لإثبات البراءة وجریانها فی الشبهات الموضوعیة ؟ قد یقال: أنّ هذا البیان بهذا المقدار لا یصلح؛ لأنّ هذا البیان تمّ الترکیز فیه علی عدم تنجّز التکلیف فی الشبهات الموضوعیة؛ لأنّ التکلیف إنّما یتنجّز عند العلم بالکبری والصغری، وهذا غیر متحقق فی الشبهات الموضوعیة، فلا یتنجّز التکلیف، فإذا لم یتنجّز التکلیف فی الشبهات الموضوعیة لا یکون داخلاً فی قاعدة الاشتغال، فهو یصلح أنْ یکون مانعاً من جریان قاعدة الاشتغال فی الشبهات الموضوعیة، لکنّه هل یصلح لإثبات --------- کما هو المطلوب فی محل الکلام --------- جریان البراءة العقلیة فی الشبهات الموضوعیة ؟ قد یقال أنّه لا یصلح، باعتبار أنّ الطرف الآخر یمکنه أنْ یکررّ کلامه السابق والوجه الذی اعتمد علیه لمنع جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة، بأنْ یقول: أنّ موضوع البراءة العقلیة هو عبارة عن عدم بیان الحکم المرتبط بالشارع، والمراد بالبیان هو العلم، یعنی عدم العلم بالحکم المرتبط بالشارع، وهذا الموضوع غیر متحققّ فی الشبهات الموضوعیة، موضوع البراءة غیر متحققّ فی الشبهات الموضوعیة؛ لأنّ موضوع البراءة هو عدم العلم بالحکم الشرعی، فی حین أنّ الشبهات الموضوعیة فیها علم بالحکم الشرعی، وعدم العلم لیس متحققاً فی الشبهات الموضوعیة؛ لأنّ المکلّف فی الشبهات الموضوعیة عالم بالحکم المرتبط بالشارع والذی یُتوقع صدوره منه، وهو(الخمر حرام) والمفروض فی الشبهات الموضوعیة أنّه عالم بذلک، إذن: موضوع قاعدة البراءة العقلیة غیر متحققّ فی الشبهات الموضوعیة؛ ومن هنا لا یتحقق موضوع القاعدة الذی هو عدم العلم وعدم البیان، فلا تجری البراءة العقلیة. ما تقدّم لیس جواباً عن هذا، وإنّما ما تقدّم یمنع من کون الشبهات الموضوعیة مورداً للاشتغال العقلی، باعتبار عدم تنجّز التکلیف بمجرّد العلم بالکبری، لکنّه لیس صالحاً لإثبات جریان البراءة؛ لأنّه یمکن للطرف المقابل أنْ یقول أنّ موضوع البراءة هو عدم العلم بالتکلیف المرتبط بالشارع، وفی المقام ---------- الشبهات الموضوعیة ---------- یوجد علم بالتکلیف المرتبط بالشارع، فلا یمکن جریان البراءة العقلیة. ومن هنا یحتاج الجواب السابق إلی تتمیم، وهذا التتمیم بمکن أنْ یُستفاد من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ بل لعلّه هو مقصوده، وحاصل هذا التتمیم هو: دعوی أنّ الأحکام الشرعیة مجعولة علی نهج القضایا الحقیقیة، والقضایا الحقیقیة لبّاً وروحاً ترجع إلی قضایا شرطیة، مقدّمها هو الموضوع المقدّر الوجود، والتالی فیها هو عبارة عن الحکم لذلک الموضوع، فإذا قیل(الخمر حرام) مرجعها فی الحقیقة إلی أنّه (إذا کان المایع خمراً، فهو حرام)، وقوله تعالی ﴿لله علی الناس حجّ البیت من استطاع إلیه سبیلاً﴾، (1) مرجعها إلی أنّه (إذا تحققّت الاستطاعة لدی المکلّف وجب علیه الحج)، هذه قضیّة شرطیة، شرطها هو تحققّ الموضوع، وجزاؤها هو ثبوت الحکم له علی تقدیر تحققّه) هذا الحکم المجعول علی نهج القضیة الحقیقیة التی ترجع لبّاً إلی القضایا الشرطیة بطبیعة الحال ینحل إلی أحکام متعددّة بتعددّ ما یوجد من أفراد ذلک الموضوع المقدّر الوجود، فهو حکم انحلالی ینحلّ إلی أفراد متعدّدة وإلی أحکام متعدّدة بعدد ما یتحقق فی الخارج من أفراد ذلک الموضوع المقدّر الوجود، فی مثال حرمة الخمر(کلّما تحققّ خمر ثبتت له الحرمة)، وإذا تحققّ فرد آخر من أفراد الموضوع ثبتت له الحرمة أیضاً...وهکذا. وفی مثال الاستطاعة، إذا تحققّت الاستطاعة بالنسبة إلی زید ثبت له وجوب الحج، وإذا تحققّت بالنسبة إلی غیره أیضاً ثبت له وجوب الحج...وهکذا. الانحلالیة تقتضی هکذا؛ وحینئذٍ إذا علمنا بتحققّ الموضوع المقدر الوجود فی ضمن فرد فی الخارج، فقد علمنا بثبوت الحکم له، وإذا شککنا فی تحقق الموضوع فی ضمن هذا الفرد، بأنْ کنّا لا نعلم أنّ هذا الفرد خمر، أو لا ؟ هذا الشکّ یساوق الشکّ فی ثبوت الحکم له، أی یساوق الشکّ فی حرمته، هل هذا حرام، أو لیس حراماً، هذا بالوجدان نشعر به؛ لأنّه عندما یتحقق فرد من أفراد الموضوع تثبت له الحرمة، العلم بتحققّه یلازم العلم بثبوت الحرمة له، کما أنّ الشکّ فی تحققّه یلازم الشکّ فی ثبوت الحرمة له.

ص: 323


1- سورة آل عمران، آیة 97.

إذن: الشکّ فی تحققّ الموضوع فی ضمن هذا الموجود الخارجی هو شکّ فی التکلیف وفی الحکم الشرعی، فإذا کان شکّاً فی التکلیف یکون مورداً للبراءة، فتجری فیه البراءة؛ لأنّ موضوع البراءة هو عدم العلم بالتکلیف الشرعی، وأنا الآن غیر عالم بالتکلیف الشرعی لهذا الفرد، ولهذا الموضوع الخارجی، فإذا ثبت عدم العلم تثبت البراءة؛ لأنّ موضوع البراءة هو عدم العلم بالحکم الشرعی. أنّ الأحکام الشرعیة مجعولة علی نهج القضایا الحقیقیة، والحکم المجعول علی نهج القضیة الحقیقیة هو حکم انحلالی، ینحل إلی أحکام متعددّة بعددّ ما یوجد فی الخارج ممّا ینطبق علیه الموضوع المقدّر الوجود، فکل فردٍ یوجد فی الخارج یثبت له حکم، والفرد الآخر فی الخارج یثبت له حکم، العلم بتحقق الموضوع یلازم العلم بتحققّ حکمه، والشکّ فی تحققّ الموضوع کما هو موجود فی الشبهة الموضوعیة یلازم الشکّ فی تحقق الحکم الشرعی، یلازم الشکّ فی ثبوت الحرمة، وعند الشکّ فی ثبوت الحرمة یتحققّ موضوع البراءة العقلیة، فتجری البراءة العقلیة.

بعبارة أخری: بعد فرض انحلال الحکم المجعول علی نهج القضیة الحقیقیة، الحکم الثابت للموضوع الخارجی الذی یُعلم بکونه خمراً هذا حکم مرتبط بالشارع، ولا یمکننا إنکار ارتباطه بالشارع، هذا الحکم الثابت له عند العلم بتحققّ الموضوع، أی عند العلم بأنّه خمر یکون حراماً، هذا حکم مرتبط بالشارع؛ لأنّ الشارع هو قال(کلّما تحققّ فی الخارج خمر فهو حرام)، وکأنّه قال: یحرم هذا عندما یکون خمراً، وهذا عندما یکون خمراً.. وهکذا، فهذا شیء قاله الشارع ولیس شیئاً أجنبیاً عن الشارع؛ لذا لا یمکن إنکار أنّ الحرمة الثابتة للموضوع الخارجی علی تقدیر تحققّه هی حرمّة مرتبطة بالشارع؛ بل یمکن أنْ یُترقّی ویُقال أنّ بیان هذه الحرمة لا نستطیع أنْ نقول أنّه لیس من شأن الشارع؛ بل من شأن الشارع أنْ یُبیّن هذه الحرمة، لکن بیّنها بلسان القضیة الحقیقیة، مثلاً فی الأمثلة العرفیّة، المولی العرفی یخاطب عبده یقول له(کلّما جاءک عالم فأکرمه) فالعبد یفهم من ذلک أنّه عندما یجیئ هذا العالم یجب إکرامه، وعندما یجیئ ذاک العالم یجب إکرامه؛ بل وینسب ذلک الحکم إلی المولی، وإذا قیل له لماذا تکرم هذا ؟ فأنّه یقول: المولی أمرنی بذلک، المولی حکم بوجوب إکرامه عند مجیئه، وهذا جاء، المولی حکم بوجوب إکرامه، فلا یمکن إنکار أن هذا الحکم الثابت للموضوع المعلوم حکم مرتبط بالشارع، وبُیّن من قبل الشارع، لکن بلسان بیان القضیة الحقیقیة، هذا سوف یثبت أنّه عند العلم بتحققّ الموضوع هناک علم بثبوت الحکم الشرعی؛ وحینئذٍ لا مجال لجریان البراءة، لکن عند الشک بتحقق الموضوع ---------- الذی هو محل کلامنا الذی هو المفروض فی الشبهات الموضوعیة ----------- لا یمکن إنکار أنّ هذا شکّ فی التکلیف والحکم الشرعی المرتبط بالشارع، فیتحقق موضوع البراءة الذی هو الشک وعدم العلم بالتکلیف المرتبط بالشارع، فیتحقق موضوع البراءة، فتجری البراءة.

ص: 324

إذن: الجواب هو من جهة منعنا من کون المورد مورداً لقاعدة الاشتغال العقلی، ومن جهة أخری أثبتنا أنّ موضوع البراءة العقلیة متحققّ فی المقام، فتجری البراءة العقلیة ولا یجری الاشتغال العقلی، غایة الأمر أنّ الشک فی ثبوت الحکم الشرعی فی الشبهات الموضوعیة لا ینشأ من عدم النص، أو من إجمال النص، أو من تعارض النصّین، وإنّما ینشأ من اشتباه الأمور الخارجیة، لکن بالتالی هو شکّ فی الحکم الشرعی المرتبط بالشارع، وهذا أمر وجدانی فی الشبهات الموضوعیة یشعر به الإنسان فی وجدانه، أنّه لا یعلم أنّه حرام، أو حلال، هو شکّ فی الحکم الشرعی المرتبط بالشارع، فیتحقق فیه موضوع البراءة العقلیة، فتجری فیه البراءة العقلیة.

من هنا تبیّن ممّا تقدّم أنّ البراءة العقلیة تجری فی الشبهات الموضوعیة کما أنّ البراءة الشرعیة أیضاً تجری فی الشبهات الموضوعیة، کل منهما یجری فی الشبهات الموضوعیة کما أنّه یجری فی الشبهات الحکمیة، فإذن، لا فرق بین الشبهة الموضوعیة وبین الشبهة الحکمیة فی أنّ البراءة بأقسامها تجری فیهما.

المقام الثانی: (ویرتبط هذا المقام بموضوع مهم) وهو ضابط الشبهات الموضوعیة التی تجری فیها البراءة، والشبهات الموضوعیة التی لا تجری فیها البراءة؛ بل تجری فیها قاعدة الاشتغال العقلی، حیث لاحظ الأصولیون أنّ هناک بعض الشبهات الموضوعیة لا تجری فیها البراءة، وإنّما تجری فیها قاعدة الاشتغال، وهناک أمثلة کثیرة لهذا من قبیل ما إذا شکّ المکلّف فی هذا الحیوان هل هو واجد للشرائط المعتبرة فی الهدی، أو لا ؟ هذه شبهة موضوعیة، أنّه واجد للشرائط، أو لیس واجداً لها، الشرائط معلومة لدیه، هنا لا تجری فیه البراءة؛ بل یجری فیه الاشتغال. أو أنّه یشکّ مثلاً فی أنّ هذا هل هو ماء حتّی یجوز الوضوء به ؟ هذه أیضاُ شبهة موضوعیة، هل هذا ماء، أو لیس بماء، هنا أیضاً یجری الاشتغال ولا تجری البراءة؛ لأنّه لا یمکنه أنْ یتوضأ بهذا المائع الذی یشکّ فی أنّه ماء، أو لا. شکّ فی أنّه صلّی إلی القبلة، أو لا ؟ هنا أیضاً لا تجری البراءة؛ بل تجری أصالة الاشتغال، وهکذا فی موارد کثیرة. من هنا لابدّ من البحث فی أنّه ما هو المیزان فی کون هذه الشبهة الموضوعیة مورداً للبراءة، وهذه الشبهة الموضوعیة مورداً لقاعدة الاشتغال. هذا بحث مهم جداً، وهناک کلمات للمحقق النائینی(قدّس سرّه) نستعرضها إنْ شاء الله تعالی موجودة فی رسالته المعروفة فی اللّباس المشکوک یتعرّض إلی هذا الموضوع، ویبیّن ما هو الضابط من وجهة نظره .

ص: 325

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

المقام الثانی الذی یقع البحث فیه هو تحدید الضابط لجریان البراءة، أو الاشتغال فی الشبهات الموضوعیة، المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر ضابطاً فی رسالته فی اللّباس المشکوک وهو ضابط مفصّل، ونذکره بشکل مختصر. ذکر بأنّ متعلّق التکلیف الذی یتعلّق به الوجوب، أو التحریم، کالصلاة والصوم والإکرام فی(أکرم العادل) والوضوء فی(توضأ) مثلاً.....وهکذا. أنّ متعلّق التکلیف لابدّ وأنْ یکون عنوانه اختیاریاً؛ کی یتعلّق به التکلیف، والتکلیف إنّما یتعلّق بالأفعال الاختیاریة، لکن اختیاریته مرّة تکون بنفسه ومرّة تکون بواسطة، مرّة یکون المتعلّق اختیاری بنفسه مباشرة بلا توسّط شیء، ومرّة لا یکون اختیاریاً مباشرةً، وإنّما اختیاریته بتوسیط شیء یکون العنوان المتعلّق مسببّ تولیدی للفعل الاختیاری من قبیل القتل، أو الاحتراق الذی هو مسبب للإلقاء فی النار، المقدور مباشرة، والاختیاری مباشرة هو الإلقاء، أمّا الاحتراق فهو مسبب تولیدی، هو اختیاری ومقدور لکن بتوسیط الإلقاء، أو التطهیر المسبب عن الغسل؛ حینئذٍ یقول: إمّا إن کان المتعلّق اختیاریاً، فینقسم إلی قسمین: إمّا بنفسه، أو بتوسیط فعل یکون العنوان المتعلّق بمثابة المسبب التولیدی له، یقول: هذا المتعلّق مرّة یکون اختیاریاً کلّه ولا تعلّق له بموضوعٍ خارجٍ عن الاختیار أصلاً، وأخری یکون المتعلّق الاختیاری له تعلّق بموضوع خارج عن الاختیار، الأوّل من قبیل الأمر بالتکلّم والنهی عن الغناء، التکلّم متعلّق تعلّق به التکلیف الوجوبی، والغناء متعلّق تعلقت به الحرمة، وهذا التکلّم لا تعلّق له بموضوع خارج الاختیار، هذا التکلیف لیس له موضوع، وإنّما له متعلّق فقط، والمقصود بالموضوع هو متعلّق المتعلّق، (یحرم الغناء) لیس حاله حال(أکرم العالم)، المتعلّق وهو الإکرام الواجب فی(أکرم العالم) ارتبط بموضوع وهو العالم. (توضأ بالماء) المتعلّق وهو التوضؤ ارتبط بموضوع وهو الماء، بینما(یحرم الغناء) لیس هکذا، أو(یجب التکلّم) بلا موضوع، هذا لیس له موضوع، فمرّة یقول: أنّ المتعلّق الذی یتعلّق به الحکم مرّة لا یرتبط بموضوع، ومرّة یرتبط بموضوع. هذان قسمان.

ص: 326

أمّا القسم الأوّل: وهو المتعلّق الاختیاری الذی لا یرتبط بموضوع، لدینا تکلیف فیه متعلّق فقط، ولیس هناک ارتباط للمتعلّق بموضوع خارج عن الاختیار. ذکر فی القسم الأوّل أنّ فعلیة تکلیفٍ من هذا القبیل لا تتوقّف إلاّ علی اجتماع شرائط التکلیف، فإذا اجتمعت شرائط التکلیف العامة والخاصّة ----------- إذا افترضنا وجود شرائط خاصّة للتکلیف ----------- عندئذٍ یصبح التکلیف فعلیاً، فرضاً أنّ البلوغ من الشرائط العامّة للتکلیف، ونفترض تحققّه، والعقل من الشرائط العامّة للتکلیف نفترض تحققّه، والقدرة من الشرائط العامّة للتکلیف نفترض تحققّها، وإذا افترضنا شرائط خاصّة لهذا التکلیف أیضاً نفترض تحققها، إذا تحققّت شرائط التکلیف یصبح هذا التکلیف فعلیاً.

حینئذٍ نقول: الشبهة الموضوعیة التی نتکلّم عنها إن کانت راجعة إلی اجتماع شرائط التکلیف، کما إذا شکّ المکلّف فی تحقق بعض شرائط التکلیف فی مورد من الموارد بنحو الشبهة الموضوعیة، هذا یمکن فرضه، یشکّ فی تحققّ البلوغ، أو یشکّ فی تحقق شرائط التکلیف الأخری فی موردٍ معیّن تصیر شبهة موضوعیة من جهة اجتماع شرائط التکلیف، یقول: الشبهة الموضوعیة إذا رجعت إلی الشکّ فی تحقق اجتماع شرائط التکلیف، هذه الشبهة مرجعها فی الحقیقة إلی الشکّ فی التکلیف، وهذا واضح، أنّ الشکّ فی شرط التکلیف هو شکّ فی نفس التکلیف، ولا إشکال فی أنّ المرجع فیها هو البراءة لا الاشتغال، هو یقول لا یمکن أنْ نتصوّر شبهة موضوعیة من غیر شکّ فی اجتماع شرائط التکلیف؛ لأنّه لا یمکن؛ بل یستحیل، فرضاً أمره بالتکلّم، ما هی الشبهة الموضوعیة المتصوّرة فیه ؟ یعنی یشکّ فی هذا الفعل الاختیاری له وهو التکلّم، الذی یعرف ما هو مفهومه، لا یمکن تصوّر الشکّ فیه، بأنْه حین صدوره منه یشکّ فی أنّه یتکلّم، أو لا یتکلّم ! إذ یستحیل أنْ یشکّ من أراد شیئاً عند إرادته له فی هویة ما أراده، فی أنّ هذا تکلّم، أو لیس تکلّم حتّی تصیر الشبهة موضوعیة، أنّ هذا تکلّم، الذی هو یحقق المأمور به، ویتحقق به الامتثال، أو لیس تکلّماً، یقول هذا الشیء مستحیل، فلا یمکن تصوّر الشبهة الموضوعیة فی هذا القسم من غیر ناحیة الشکّ فی اجتماع شرائط التکلیف، وقلنا أنّ الشکّ من الشکّ فی اجتماع شرائط التکلیف المرجع فیه هو البراءة، شبهة موضوعیة أخری من غیر هذه الناحیة غیر متصوّرة.

ص: 327

نعم، هو یستثنی حالة، وهی حالة ما إذا کان متعلّق التکلیف لیس فعلاً اختیاریاً بنفسه، وإنّما اختیاریته بتوسط عنوان من قبیل الاحتراق الذی یکون اختیاریاً بتوسط عنوان الإلقاء، أو التطهیر والطهارة الذی یکون اختیاریته باختیاریة الغسل، أو الوضوء، هنا یقول یمکن تصوّر الشکّ فی العنوان الاختیاری الذی هو متعلّق للتکلیف کالقتل والتطهیر والاحتراق، یمکن تصوّر الشکّ فیه حال صدوره، أنّه یشکّ فی تحقق القتل حال صدوره، أمّا فی التکلّم فلا یمکن تصوّر الشکّ فی تحقق التکلّم فی حال صدوره مع کونه اختیاریاً ومع وضوح مفهومه عنده، لا معنی لأنْ یشکّ فی أنّه تکلّم، أو لم یتکلّم فی حال انشغاله وصدور الکلام منه لا بعد الفراغ عنه، فقد أخرج حالة صدور الکلام عنه بعد الفراغ، وقال أنّها مسألة أخری، وإنّما الکلام فی حال صدور التکلّم، یقول لا معنی للشکّ فی صدور التکلّم حال صدور التکلّم بنحو الشبهة الموضوعیة، لکن عندما یؤمر بقتل من یستحق القتل یمکن افتراض حال صدور الفعل منه هو یشکّ فی تحقق المأمور به وهو القتل، بأنْ یشکّ فی أنّ ما صدر منه هل یحققّ هذا، أو لا ؟ ما صدر منه هل هو سبب تولیدی للعنوان المأمور به للقتل، أو لیس سبباً تولیدیاً، قد یتحقق برصاصة واحدة، أو یحتاج إلی رصاصتین، یمکن افتراض حال الانشغال بالإتیان بهذا المتعلّق الاختیاری بتوسیط شیء یشکّ فیه بنحو الشبهة الموضوعیة، یمکن فرض هذا، کما إذا شکّ فی أنّ ما یصدر منه هل هو سبب تولیدی للقتل حتّی یتحقق المأمور به الذی هو القتل، أو لیس سبباً تولیدیاً یترتب علیه هذا العنوان، یمکن تصوّر هذا الشکّ، لکنّه یقول بأنّ هذا الشکّ فی الحقیقة هو شکّ فی المحصل، ولا إشکال فی أنّه مورد للاشتغال لا للبراءة، باعتبار أنّ الشکّ فی المقام یرجع إلی الشکّ فی الامتثال، فهو قد أُمر بالقتل وهو لا یعلم أنّ ما یصدر منه یحقق القتل، أو لا ؟ فهو شکّ فی المحصل، وهو یرجع إلی الشکّ فی الامتثال بما یصدر منه، ومن الواضح بأنّه فی موارد الشکّ فی المحصل والشکّ فی الامتثال المرجع هو أصالة الاشتغال. هذا کلّه فی القسم الأوّل الذی هو ما إذا کان المتعلّق اختیاریا لیس له تعلق بموضوع خارجی. والذی یُستفاد من کلامه هو أنّ الشبهة الموضوعیة المتصوّرة إذا کان الشک راجعاً إلی الشکّ فی تحقق شرائط التکلیف، وهذا یُرجع فیه إلی البراءة؛ لأنّه شکّ فی التکلیف، وفی غیرها لا یمکن تصوّر الشبهة الموضوعیة إلاّ فی المسببّات التولیدیة فیمکن افتراض الشبهة بنجو الشبهة الموضوعیة عند صدور الفعل، لکنّه شکّ فی المحصل، وشکّ فی الامتثال، والمرجع فیه هو أصالة الاشتغال.

ص: 328

وأمّا القسم الثانی: والذی هو ما إذا کان المتعلّق اختیاریاً، لکن له تعلّق بموضوع خارج عن الاختیار من قبیل(صلِ إلی القبلة)، متعلّق التکلیف هو الصلاة، لکن هذه الصلاة لیست مطلقة، وإنّما لها تعلّق بالقبلة التی هی خارجة عن اختیاره، أو(لا تشرب الخمر)، هنا أیضاً المتعلّق هو الشرب، لکن هذا الشرب له ارتباط وتعلّق بموضوع خارجی وهو الخمر، وکذلک(أکرم العالم) من هذا القبیل، المتعلّق هو الإکرام وله ارتباط بعالم. هذا القسم الثانی، أیضاً فیه فرضان، یقول: هنا تارةً نفترض أنّ متعلّق المتعلّق الذی هو الموضوع، تارةً نفترضه أمراً جزئیاً خارجیاً افتُرِض فیه تحققّه بالفعل، من قبیل القبلة کما فی المثال السابق، الموضوع هو القبلة، فهی لیست کلّیاً له أفراد، وإنّما هی جزئی خارجی ارتبطت به الصلاة التی هی متعلّق التکلیف الوجوبی، فالموضوع، الذی هو متعلّق المتعلّق جزئی خارجی متحقق فعلاً ومفروغ عن وجوده، وهکذا من قبیل(قف فی عرفة)، التکلیف الوجوبی متعلّقه الوقوف، لکنّ الوقوف ارتبط بعرفة، هذا هو الموضوع وهو جزئی خارجی فُرغ عن وجوده .....وهکذا ما کان من هذا القبیل. وتارة أخری نفترض أنّ الموضوع لیس أمراً جزئیاً خارجیاً فُرغ عن وجوده، وإنّما هو کلّی له أفراد مقدّرة الوجود من قبیل(لا تشرب الخمر)، أو(أکرم العالم)، الموضوع هنا هو کلّی الخمر، وهذا الکلّی له أفراد مقدّرة الوجود، وهکذا العالم فی(أکرم العالم)، فالموضوع هنا کلّی له أفراد، ولیس جزئیاً خارجیاً فُرغ عن وجوده.

الکلام فی الفرض الأوّل من القسم الثانی، یقول: حاله حال القسم الأوّل وهو ما إذا کان الحکم له متعلّق فقط، ولم یرتبط المتعلّق بموضوع من قبیل التکلّم وحرمة الغناء. هذا الفرض الأوّل الذی یکون المتعلّق فیه مرتبط بموضوع لکن موضوعه جزئی خارجی فُرغ عن وجوده، هذا حاله حال القسم الأوّل بنکتة أنّ الموضوع فی هذا الفرض افتُرض أنّه جزئی خارجی وفُرغ عن وجوده، ومن هنا لا یوجب تعلیقاً ولا شرطیة ولا حکماً یترتب علی موضوعٍ مقدّر الوجود کما هو الحال فی الفرض الثانی عندما یکون الموضوع کلّیاً له أفراد من قبیل أکرم العالم، الإکرام ارتبط بموضوع العالم وهذا یستدعی تقدیراً وشرطیة، ویستدعی أنْ یقول یجب إکرام الشخص إذا کان عالماً، ویحرم شرب المایع إذا کان خمراً، هذه الشرطیة وهذا التعلیق غیر متصوّر عندما یکون الموضوع جزئیاً خارجیاً فُرغ عن وجوده، ولیس هناک ارتباط زائد، فکأنّه فقط لدینا حکم مرتبط بمتعلّقه، لا یجوز أنْ نقول له إذا وجدت علیک قبلة علیک الصلاة إلیها؛ لأننّا فرغنا عن وجود القبلة، فهو لا یستدعی ولا یستلزم ارتباطاً جدیداً وتعلیقاً علی موضوع مقدّر الوجود؛ بل یکون وجود هذا الموضوع وربط المتعلّق به کعدمه، حاله حال عدمه؛ ولذا ذکر أنّه یجری فی هذا الفرض الأوّل ما ذکرناه فی القسم الأوّل، یعنی فی الحکم الذی لیس له إلاّ متعلّق، فکل ما ذکره هناک یجری فی هذا الفرض، وفی الحقیقة هو ذکر هناک أمرین:

ص: 329

الأمر الأوّل: أنّ الشبهة الموضوعیة إذا کانت من جهة الشکّ فی اجتماع شرائط التکلیف، فالمرجع فیها هو البراءة، وهذا واضح، یقول: هذا أیضاً یجری فی محل الکلام،(صلِ إلی القبلة) إذا شکّ بنحو الشبهة الموضوعیة فی تحقق شرائط التکلیف العامة والخاصّة إذا فُرض وجودها بنحو الشبهة الموضوعیة، هذا شکّ فی نفس التکلیف، وعند الشکّ فی التکلیف یکون المرجع هو البراءة من دون فرق بین أنْ یکون المثال هو مثال(تکلّم)، أو یکون المثال هو(صلِ إلی القبلة).

الأمر الثانی: أنّ الشبهة الموضوعیة تتصوّر إذا کان المتعلّق مسببّاً تولیدیاً کالقتل، وأنّ المرجع فیها هو الاشتغال؛ لأنّه شکّ فی المحصّل والامتثال، هذا أیضاً یجری فی محل الکلام، لو فرضنا أنّه أمره بقتل هذا الکافر، لم یجعل الموضوع الذی یرتبط به المتعلّق أمراً کلّیاً، وإنّما أمره بقتل هذا، أی الجزئی الخارجی الذی فُرغ عن وجوده حتّی یکون ما نحن فیه من قبیل الفرض الأوّل، هنا أیضاً یمکن تصوّر الشبهة الموضوعیة، باعتبار أنّ المتعلّق من المسببّات التولیدیة وهو القتل یمکن فرض الشبهة الموضوعیة بأنّ هذا بالرصاصة الواحدة التی أطلقها هل یتحقق القتل، أو لا یتحقق القتل ؟ هذه شبهة موضوعیة، فیکون شکّاً فی المحصّل والامتثال، فلابدّ من الاحتیاط والاشتغال، هذا أیضاً یجری فی محل الکلام، کما یجری فی القسم الأوّل یجری فی هذا الفرض من القسم الثانی.

نعم، الشبهة الموضوعیة لم تکن متصوّرة فی القسم الأوّل فی غیر ما تقدّم، فی غیر هاتین الشبهتین الموضوعیتین اللّتین ذکرناهما، الشبهة الموضوعیة من جهة الشکّ فی اجتماع شرائط التکلیف، والشبهة الموضوعیة فی المسببّات التولیدیة، فی غیر هاتین الشبهتین الشبهة الموضوعیة کانت غیر متصوّرة فی القسم الأوّل؛ لذا قال: لا معنی لأنْ یشکّ الإنسان حین صدور الکلام منه فی أنّه یتکلّم، أو لا بنحو الشبهة الموضوعیة، لکنّها متصوّرة فی الفرض الأوّل هنا؛ إذ یمکن افتراض الشبهة الموضوعیة فی الفرض الأوّل الذی هو(صلِ إلی القبلة) مثلاً، أو (قف فی عرفات)، أو(یحرم الإفاضة من عرفات قبل غروب الیوم التاسع)، هنا یمکن تصوّر الشبهة الموضوعیة زائداً علی ما تقدّم، لا من جهة الشکّ فی اجتماع شرائط التکلیف، ولا مع افتراض أنّ المتعلّق من المسببّات التولیدیة، وإنّما یمکن فرض الشبهة الموضوعیة باعتبار أنّه یمکن افتراض أنْ یکون الاشتباه فی المتعلّق حین صدوره باعتبار الشکّ فی نسبته إلی الموضوع، لا یدری أنّه وقف فی عرفات أو لا، وعلیه یظهر الفرق بین التکلّم وبین الوقوف، فالتکلّم هناک لم یرتبط بشیء، فلا معنی للشکّ فیه حین صدوره، لکن لمّا کان الوقوف مرتبطاً بشیء، الوقوف فی عرفات ولیس الوقوف مطلقاً، ارتبط بعرفات، فیمکن افتراض أنّه یشکّ فی أنّه وقف فی عرفات، أو لم یقف فی عرفات ؟ بنحو الشبهة الموضوعیة ممکن، ولیس بنحو الشبهة الحکمیة، کأن یشکّ فی حدود عرفات حتّی تکون الشبهة موضوعیة، کلا الشبهة حکمیة، فحدود عرفات واضحة لدیه، لکن لظلمةٍ، أو لسببٍ لا یستطیع معه أنْ یحدّد هل أنّ هذا داخل فی عرفات، أو لا ؟ بنحو الشبهة الموضوعیة؛ لأنّه یشکّ فی أنّ وقوفه هل هو فی عرفات، أو لا ؟ هذه شبهة موضوعیة یمکن تصوّرها باعتبار الشکّ فی نسبة المتعلّق إلی الموضوع، هل هذا وقوف فی عرفات، أو لیس وقوفاً فی عرفات ؟ بنحو الشبهة الموضوعیة من جهة الاشتباه بلحاظ الأمور الخارجیة من قبیل الظلمة وأمثالها. استقبال القبلة کذلک ممکن، ویجری فیه نفس الکلام(یجب استقبال القبلة)، المتعلّق هو الاستقبال، وارتبط بموضوع، وهو جزئی خارجی، وهو القبلة، هنا یمکن تصوّر الشبهة الموضوعیة بأنْ لا یعلم هل صلّی إلی القبلة، أو لم یصلِّ إلی القبلة ؟ اشتبهت علیه القبلة بسبب العوارض الخارجیة، کما لو کان الظلام شدیداً فلم یتمکن من تشخیص القبلة، فیشکّ حین الصلاة فی أنّ صلاته هل هی إلی القبلة، أو لیست إلی القبلة بنحو الشبهة الموضوعیة. ذکر هذا فی الفرض الأوّل، وقلنا أنّه قال أنّ الفرض الأوّل من القسم الثانی حاله حال القسم الأوّل، سوی أنّه یمکن تصوّر الشبهة الموضوعیة فیه باعتبار الشکّ فی نسیته إلی الموضوع الذی ارتبط به؛ حینئذٍ جاء إلی هذا الفرض الأوّل وقسّمه إلی قسمین، فقال:

ص: 330

تارة یُفترض دوران الأمر بین المتباینین کما فی اشتباه القبلة، عندما یؤمر بالصلاة اشتبهت علیه القبلة إلی جهتین بنحو الشبهة الموضوعیة، فالأمر هنا یدور بین المتباینین، أو أکثر من جهتین.

وتارة أخری یُفترض دوران الأمر بین الأقل والأکثر من قبیل ما فی مثال عرفات إذا تردّد الموقف فی عرفات من جهة الاشتباه الخارجی ---------- أیضاً نؤکّد "من جهة الاشتباه الخارجی" حتّی تکون شبهة موضوعیة ----------- بین أنْ تکون هذه البقعة داخلة فی عرفات، أو لیست داخلة فی عرفات، فیدور الأمر بین الأقل والأکثر من جهة الاشتباه الخارجی. هنا قال: علی الأوّل --------- دوران الأمر بین المتباینین ---------- یکون المرجع هو قاعدة الاشتغال، باعتبار أنّ هنا یوجد علم إجمالی، وجوب التوجّه إلی أحدی الجهتین فی باب استقبال القبلة، یعلم إجمالاً بأنّه مأمور بأنْ یتوجه إمّا إلی هذه الجهة، أو إلی تلک الجهة، هذا علم إجمالی منجّز، وحینئذٍ یجب الاحتیاط بلحاظه؛ لأنّ هناک اشتغال یقینی بالتکلیف المعلوم بالإجمال ولابدّ فیه من الاحتیاط، فتجری قاعدة الاشتغال، فیصلّی إلی جهتین.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

کان الکلام فی الضابط الذی ذکره المحققّ النائینی(قدّس سرّه) فی جریان البراءة فی الشبهة الموضوعیة وعدم جریانها. ذکرنا جزءاً من کلامه، ونکمله فی هذا الدرس إنْ شاء الله تعالی، انتهی الکلام إلی الفرض الأوّل وهو ما إذا کان المتعلّق فعلاً اختیاریاً، لکنّه مرتبط بموضوع، لکن فی الفرض الأوّل افترض الموضوع جزئیّاً خارجیّاً فُرغ عن وجوده. هنا قال بأنّه لا توجد مشکلة فی فرض الشبهة الموضوعیة فی المتعلّق، بأنْ یشکّ فی تحققّ المتعلّق بنحو الشبهة الموضوعیة من جهة الشکّ فی نسبته إلی موضوعه، ومثاله ما لو قال(استقبل القبلة)، فیشکّ فی الاستقبال، أو قال:(قف فی عرفات) یشکّ فی المتعلق بنحو الشبهة الموضوعیة من جهة نسبة الوقوف إلی عرفات، فلا مشکلة فی فرض الشبهة الموضوعیة. هنا قال: تارةً یُفترض دوران الأمر بین المتباینین کما فی مثال اشتباه القبلة، وأخری یُفترض دوران الأمر بین الأقل والأکثر کما فی مسألة الوقوف فی عرفات، إذا فرضنا أنّه تردّد فی بقعة من الأرض فی أنّها من عرفات، أو لا ؟ بنحو الشبهة الموضوعیة، لظلمة ---------- کما قلنا ---------- اشتبه فی بقعة من الأرض أنّها من عرفات، أو لیست من عرفات ؟ .

ص: 331

علی الأوّل، یعنی إذا کان الأمر دائراً بین المتباینین کما فی استقبال القبلة، ذکر أنّ المرجع فیها هو الاشتغال؛ للعلم الإجمالی بتوجّه التکلیف إلیه المرددّ بین المتباینین، بین استقبال هذه الجهة وبین استقبال هذه الجهة وبینهما تباین، فهناک علم إجمالی بالتکلیف علی کل حالٍ مردّد بین المتباینین ویتعیّن حینئذٍ الاحتیاط إذا کانت الشبهة وجوبیة کما فی مثال استقبال القبلة، فیتعین الاحتیاط بأنْ یصلّی إلی الجهتین، لکی یُفرغ ذمّته ممّا اشتغلت به یقیناً. وأمّا إذا کانت الشبهة تحریمیّة، ومثالها هو حرمة استقبال القبلة، لکن فی بعض الحالات کحالة التخلی ---------- مثلاً --------- یحرم استقبال القبلة، وشکّ بنحو الشبهة الموضوعیة فی القبلة وترددّ أمرها بین جهتین، أو کانت الظلمة شدیدة فشکّ فی القبلة ولم یعلم أنّها فی أیّ جهةٍ، فهنا یحتمل القبلة، والحرمة فی کل جهةٍ یتّجه إلیها، وفی هذه الحالة لا یتمکن من الاحتیاط، یقول: یجب علیه الفحص فی هذه الحالة، باعتبار أنّ امتثال التکلیف المتیقّن یتوقف علی الفحص حیث لا یمکن الاحتیاط. نعم، فی حالة تعذّر الاحتیاط فی الشبهة الوجوبیة، وتعذّر الفحص فی الشبهة التحریمیة، یتخیّر بین المتباینین، أو بین المتباینات. فهنا بالنتیجة فی کل هذه الحالات هو لم یحکم بالبراءة، إذا دار الأمر بین المتباینین، فی مثل هذه الحالة لیس هذا مورداً للبراءة، وإنّما هو مورد للاحتیاط، أو لوجوب الفحص. هذا إذا کان الدوران بین المتباینین.

وأمّا إذا کان بین الأقلّ والأکثر، یقول: هنا یتّجه التفصیل بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة، ففی الشبهة الوجوبیة کما فی وجوب الوقوف بعرفات، ودار الأمر بین الأقل والأکثر بالنحو الذی ذکرناه، کما إذا شکّ من جهة ظلمة، أو نحوها، فی بقعة من الأرض أنّها من عرفات، أو لیست من عرفات، فیدور الأمر بین الأقل والأکثر، والشبهة وجوبیة، یقول: فی الشبهة الوجوبیة تجری أصالة الاشتغال ولا مجری للبراءة، وفی الشبهة التحریمیة قال تجری البراءة، ومثالها هو ما إذا حرم علیه الإفاضة من عرفات قبل غروب یوم التاسع، وترددّ عرفات بین الأقل والأکثر بنحو الشبهة الموضوعیة، یقول هذا من موارد جریان البراءة، بینما إذا کانت الشبهة وجوبیة فی موارد دوران الأمر بین الأقل والأکثر هذا من موارد الاشتغال لا البراءة، ثم ذکر أنّ السرّ فی هذا التفصیل بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة هو أنّ الوجوب فی الشبهة الوجوبیة یتعلّق بهذا العنوان بنفسه، فالواجب هو هذا العنوان ---------- الوقوف بعرفات ---------- والذی یُطلب من المکلّف فی مثل هذا التکلیف(قف بعرفات) هو مطابقة العمل الذی یصدر من المکلّف للعنوان الواجب، أنّه لابدّ أنْ یکون العمل الصادر منک مطابقاً للعنوان الواجب، یعنی وقوف فی عرفات، یعنی أنّ المطلوب من المکلّف أنْ یکون وقوفه وقوفاً فی عرفات، فهذه المطابقة، وانطباق العنوان المأمور به علی الفعل المأتی به داخل فی دائرة الطلب، أی أنّه مطلوب من المکلّف، وهذا معناه أنّه یجب علی المکلّف أنْ یُحرز أنّ ما یصدر منه هو متعنون بذلک العنوان وینطبق علیه ذلک العنوان، لابدّ أنْ یُحرز أنّ وقوفه هو وقوف فی عرفات، ولا یجوز له أنْ یکتفی بالفرد المشکوک، إذا شکّ فی أنّ وقوفه هو وقوف فی عرفات، أو لا؛ لأنّ ذمته اشتغلت بأنْ یکون وقوفه وقوفاً فی عرفات، هذا داخل فی دائر الطلب ومطلوب منه، فتشتغل به الذمّة، فلابدّ من الخروج من هذا یقیناً، ولا یقین بالخروج من ذلک إذا اکتفی بالمشکوک؛ بل یتعیّن علیه أنْ یحتاط؛ لأنّ الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، فلا یجوز له الاکتفاء بالفرد المشکوک، بالوقوف الذی یشکّ فی کونه وقوفاً فی عرفات، أو لیس وقوفاً فی عرفات، فیکون مجری للاشتغال، ولیس مجری للبراءة.

ص: 332

وبعبارةٍ أخری: أنّ الشکّ فی المقام شکّ فی الامتثال، بعد إحراز اشتغال الذمّة بهذا المطلوب، إذا اکتفی بالفرد المشکوک؛ حینئذٍ یکون شکّاً فی الامتثال، فلا یعلم هل أنّه امتثل المطلوب، أو لم یمتثل المطلوب ؟ وفی موارد الشکّ فی الامتثال تجری قاعدة الاشتغال لا البراءة. یقول: وهذا بخلاف الشبهة التحریمیة، فی الشبهة التحریمیة یکون المطابقة للعنوان الحرام لیس داخلاً تحت دائرة الطلب، أی لیس مطلوباً، مطابقة الفعل الصادر منه للعنوان الحرام لیس مطلوباً منه، ومثال الشبهة التحریمیة فی ما نحن فیه هو حرمة الإفاضة من عرفات کما مثّلنا(تحرم الإفاضة من عرفات قبل یوم التاسع) هنا لا معنی لأنْ نقول أنّ المطلوب منه هو انطباق العنوان المذکور فی الدلیل علی الفعل المأتی به، هذا فی الشبهة الوجوبیة معقول، أنْ یکون المطلوب هو أنْ یکون وقوفه هو وقوفاً فی عرفات، لکن فی الشبهة التحریمیة لا معنی لأنْ نقول أنّ المطلوب منه هو أنْ تکون إفاضته إفاضة من عرفات؛ بل الصحیح هو أنّ المطابقة تکون شرطاً لشمول الحرمة للفعل، بمعنی أنّ الذی یُفهم من(یحرم الإفاضة من عرفات قبل الغروب) أنّ شرط اتّصاف الفعل الصادر منه بالحرمة هو کونه إفاضة من عرفات، هذا شرط لاتّصاف الفعل بالحرمة، شرط لشمول الحرمة لهذا الفعل، فالحرمة إنّما تشمل الفعل الصادر منه إذا کان إفاضة من عرفات، وأمّا إذا لم یکن إفاضة من عرفات، فلا تشمله الحرمة، إذا کان إفاضة من جزء من عرفات، أو إفاضة من منطقة إلی منطقة أخری من عرفات، فلا تشمله الحرمة، إنّما یکون فعله حراماً إذا انطبق علیه هذا العنوان --------- الإفاضة من عرفات -------- فالانطباق یکون شرطاً لشمول الحرمة للفعل الصادر منه، بخلاف الانطباق فی الشبهة الوجوبیة، فأنّه داخل فی دائرة الطلب، فیکون الانطباق مطلوباً هناک، ولمّا کان مطلوباً، فلابدّ من إحرازه، وهذا یستدعی الاحتیاط وجریان قاعدة الاشتغال فی الشبهة الوجوبیة، فی الشبهة التحریمیة الانطباق لیس مطلوباً، وإنّما الانطباق شرط فی کون الفعل الصادر منه حراماً، فتکون الإفاضة محرّمة إذا کانت من عرفات، فحرمة الإفاضة مشروطة بأنْ تکون الإفاضة من عرفات، فالانطباق هنا یکون من شرائط الحرمة، ومن شرائط التکلیف وقیوده، بینما الانطباق فی الشبهة الوجوبیة لیس من قیود التکلیف؛ لأنّه داخل فی دائرة الطلب، وإنّما هو قید فی الواجب یتعلّق به الطلب، لیس قیداً فی الطلب بحیث یتوقّف علیه الطلب، وإنّما هو یکون قیداً فی الواجب ولیس قیداً فی التکلیف، بینما الانطباق فی الشبهة التحریمیة یکون قیداً للتکلیف، أی یکون قیداً فی الحرمة، ویکون حاله حینئذٍ حال شرائط التکلیف الأخری، عند الشکّ فیه یکون مجری للبراءة؛ لأنّ الشکّ فی قید التکلیف وشرطه یکون شکّاً فی نفس التکلیف، فإذا کان شکّاً فی التکلیف؛ فحینئذٍ تجری البراءة، بینما هناک فی الشبهة الوجوبیة لم یکن الشکّ فی التکلیف؛ لأنّ الانطباق لیس قیداً فی التکلیف حتّی یکون الشکّ فیه شکّاً فی التکلیف، وإنّما هو مطلوب من المکلّف، فإذا دخل تحت دائرة الطلب یکون قد اشتغلت به الذمة، فلابدّ من إحرازه، فإذا شُکّ فی مطابقة الفعل للعنوان فی الشبهة التحریمیة، کان ذلک شکّاً فی حرمته؛ لأنّه شکّ فی قید التکلیف وشرطه، وهو مجری للبراءة، ففصّل بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة. هذا کلّه إذا فرضنا أنّ الموضوع الذی ارتبط به المتعلّق کان جزئیاً خارجیاً فُرغ عن وجوده کما فی مثال القبلة ومثال عرفات ...الخ من الأمور التی تکون أمثلة لهذا الفرض.

ص: 333

وأمّا علی الفرض الثانی، وهو ما إذا کان الموضوع أمراً کلّیاً، ومثاله(أکرم العالم)، و(توضأ بالماء)، فالماء أمر کلّی له أفراد متعدّدة، فی هذا الفرض فصّل بین صورتین:

الصورة الأولی: ما إذا کان الموضوع مأخوذ بنحو صرف الوجود، مثل(توضأ بالماء)، الموضوع هنا -------- الماء -------- مأخوذ بنحو صرف الوجود لا مطلق الوجود، یعنی لا یُطلب منه إلاّ فرد من أفراد الماء، والذی یساوق الإطلاق البدلی.

الصورة الثانیة: ما إذا کان مأخوذاً بنحو مطلق الوجود، کما فی(أکرم العالم).

الکلام یقع فی الصورة الأولی، وهی ما إذا کان الموضوع مأخوذاً بنحو صرف الوجود. یقول: الشبهة الموضوعیة فی هذا الفرض تُتصوّر بنحوین:

النحو الأوّل: أنْ یکون الشکّ فی أصل وجود الموضوع الذی هو صرف الوجود، یعنی الشکّ فی أصل صرف الوجود، هو قال له:(توضأ بالماء) وهو یشکّ فی أنّه هل هناک ماء، أو لیس هناک ماء ؟ بنحو الشبهة الموضوعیة.

النحو الثانی: أنْ یکون الشکّ فی فردٍ آخر من الموضوع زائداً علی الفرد المعلوم. (توضأ بالماء) هناک فرد معلوم، ماء قطعاً، وإنّما شکّه فی فردٍ زائدٍ علی هذا الفرد المعلوم، یشک فی أنّه ماء، أو لیس بماء بنحو الشبهة الموضوعیة.

فی النحو الأوّل إذا کان الشکّ فی أصل وجود الموضوع، یقول: هذا الشکّ فی الحقیقة یرجع إلی الشکّ فی القدرة؛ وحینئذٍ نختار فیها ما نختار عند الشکّ فی القدرة. لماذا یرجع هذا الشکّ إلی الشکّ فی القدرة ؟ یعللّ ذلک، یقول: باعتبار أنّ القدرة التی هی شرط فی التکلیف لا تختصّ بالقدرة علی نفس المتعلّق؛ بل تعمّ القدرة علی تحصیل موضوعه، أیضاً شرط فی التکلیف، فرضاً هو قادر علی المتعلّق، لکنّه لیس قادراً علی تحصیل موضوعه الذی ارتبط به المتعلّق، باعتبار أنّه من دون القدرة علی تحصیل الموضوع تنتفی القدرة علی نفس الفعل، غیر القادر علی تحصیل الماء هو غیر قادر علی الوضوء بالماء؛ لأنّ ما یُطلب منه لیس الوضوء بکل شیء، وبکل مائع، وإنّما المطلوب منه هو الوضوء بالماء، فإذن: یُعتبر فی صحّة تکلیفه بذلک أنْ یکون قادراً علی المتعلّق، وأنْ یکون قادراً علی تحصیل موضوعه المرتبط به. إذن: القدرة علی تحصیل الموضوع شرط فی التکلیف، فالشکّ فی إمکان تحصیل الموضوع والقدرة علی تحصیل اصل الموضوع یرجع إلی الشکّ فی القدرة، هل هو قادر علی الوضوء، أو لیس قادراً علی الوضوء ؟ عندما یشکّ طبعاً بنحو الشبهة الموضوعیة، أصل وجود الموضوع مشکوک، فهو شاکّ فی أنّه قادر علی الوضوء، أو لا ؟ فیرجع إلی الشکّ فی القدرة، والشکّ فی القدرة فیه کلام، أنّ الشکّ فی القدرة هل هو حاله حال الشکّ فی شرائط التکلیف الأخری ؟ من قبیل البلوغ والعقل وغیره من شرائط التکلیف التی لا إشکال فی أنّها مجری للبراءة کما ذکر هو(قدّس سرّه) سابقاً، حیث أنّه ذکر سابقاً أنّ الشکّ فی شرائط التکلیف العامّة، أو الخاصّة هی شکّ فی نفس التکلیف؛ لأنّ الشکّ فی شرط شیء هو شکّ فی نفس الشیء، وبالتالی تکون مجری للبراءة؛ لأنّه شک فی التکلیف، لکن هل أنّ الشک فی القدرة أیضاً کذلک ؟ إذا شکّ الإنسان فی قدرته علی الواجب، فهل یستطیع أنْ یجری البراءة ؟ باعتبار أنّ القدرة شرط فی التکلیف، فالشکّ فیها شکّ فی التکلیف، وبالتالی یکون مجری للبراءة، أو أنّ الشکّ فی القدرة یتمیّز عن الشکّ فی سائر شرائط التکلیف ؟ هو ذکر رأیه هنا، وملخص رأیه هو: ---------- وهذا موضوع مهمّ جدّاً ---------- ذکر بأنّ القدرة علی نحوین:

ص: 334

النحو الأوّل: أنْ تکون القدرة دخیلة فی ملاک التکلیف بحیث أنّه مع عدم القدرة لا ملاک ولا مصلحة، ومن هنا یکون الملاک والمصلحة مختصّ بالقادر، أمّا العاجز، فلا توجد مصلحة وملاک فی الفعل بالنسبة إلیه، وإنّما المصلحة والملاک یکون موجوداً بالنسبة إلی القادر دون العاجز؛ لأنّ القدرة شرط ودخیلة فی ملاک التکلیف، أصل اتّصاف الفعل بأنّه ذو ملاک یتوقّف علی القدرة، ومن دون القدرة لا یکون للفعل ملاک ومصلحة.

النحو الثانی: أنْ تکون القدرة دخیلة فی الخطاب ولیس فی الملاک، الملاک عام وشامل یشمل العاجز والقادر، کل منهما الفعل بالنسبة إلیه ذو مصلحة، لکن القدرة شرط فی الخطاب؛ لأنّه لا یحسن خطاب العاجز، الخطاب لا یتوجّه إلی العاجز ولیس الملاک، الملاک ثابت فی حقّهما، لکنّ الخطاب لا یتوجّه إلی العاجز، وإنّما یتوجّه إلی خصوص القادر، فتکون القدرة شرطاً فی الخطاب لا فی الملاک؛ بل یکون الملاک عامّاً وشاملاً لکلٍ منهما. هو(قدّس سرّه) یُفرّق بین هاتین الحالتین، ویتعرّض إلی مطلبٍ طویل هو کیفیة استکشاف هذا المانع، وکیف نعرف أنّ القدرة دخیلة فی الملاک، أو أنّها لیست دخیلة فی الملاک، ویقول بأننّا نفهم کون القدرة دخیلة فی الملاک عندما تؤخذ فی لسان الدلیل الشرعی، عندما تؤخذ القدرة فی الدلیل، ولیس فقط أنْ یحکم بها العقل صرفاً، نستکشف أنّها دخیلة فی الملاک، وانّ الملاک ثابت فی حقّ القادر فقط دون العاجز؛ لأنّ الشارع ذکر القدرة، وهذا یکشف عن أنّها دخیلة فی الملاک. هو یُفصّل بین هاتین القدرتین.

أمّا بالنسبة إلی النحو الأوّل من القدرة، وهی التی تکون دخیلة فی الملاک والتی تُسمّی بالقدرة الشرعیة عادة، ذکر بأنّ الشکّ فیها مرجعه إلی البراءة، فإذا شککنا فی القدرة علی الفعل، فالمرجع هو أصالة البراءة، باعتبار أنّه شکّ فی شرط التکلیف بما له من الملاک، فیکون حاله حال الشکّ فی سائر شرائط التکلیف الأخری، کالبلوغ ونحوه، فی أنّه مجری للبراءة بلا إشکال، فالشکّ فی القدرة الشرعیة التی تکون دخیلة فی الملاک یکون مورداً للبراءة؛ لأنّ القدرة شرط فی التکلیف بما له من الملاک، ونشکّ فی أنّ هذا التکلیف بما له من الملاک ثابت عند الشک فی القدرة، أو لا ؟ فیکون شکّاً فی التکلیف وتجری فیه البراءة.

ص: 335

وأمّا الشکّ فی النحو الثانی من القدرة، والتی تسمّی بالقدرة العقلیة التی هی دخیلة فی الخطاب فقط لا فی الملاک. یقول: إذا شکّ فی هذه القدرة، فلابدّ فی هذه الحالة من الفحص ولا تجری البراءة، ویُعللّ وجوب الفحص فی هذا المورد بأنّ هذا الشکّ وإنْ کان یعترف بأنّه مستلزم للشکّ فی التکلیف، باعتبار الشکّ فی توجّه الخطاب؛ لأنّها دخیلة فی الخطاب بحسب الفرض، فالشکّ فیها شکّ فی توجّه الخطاب إلیه؛ لأنّه إنْ کان قادراً یتوجّه إلیه الخطاب، وإنْ لم یکن قادراً لا یتوجّه إلیه الخطاب، فإذا شکّ فی القدرة، فهذا معناه أنّه شکّ فی توجّه الخطاب إلیه، فیقول: أنّ الشکّ فی القدرة حتّی بهذا المعنی، وإنْ کان یستلزم الشکّ فی توجّه الخطاب إلیه والشکّ فی تکلیفه، لکنّه لا یستلزم الشکّ فی الملاک؛ لأنّ المفروض فی القدرة العقلیة أنّ الملاک عام وشامل للقادر والعاجز، الذی یشکّ فی القدرة لیس عنده شکّ فی الملاک؛ بل الذی یعلم بعدم قدرته لیس عنده شکّ فی الملاک؛ لأنّ المفروض أنّ الملاک عام وشامل للقادر والعاجز. إذن: هو شکّ فی توجّه الخطاب إلیه ولیس شکاً فی ثبوت الملاک بالفعل بالنسبة إلیه. إذن: هو لیس شکّاً فی الملاک؛ وحینئذٍ یقول بأنّ العلم بشمول الملاک وإطلاقه وأنّ الشارع لا یرضی بفواته یلازم العلم بعدم المعذوریة علی تقدیر القدرة الواقعیة؛ ولذا یقول یجب الفحص. العلم بأنّ الملاک یشمله، هذا الفعل فیه ملاک بالنسبة إلیه حاله حال القادر، کلّ منهما الفعل بالنسبة إلیه فیه مصلحة، غایة الأمر أنّه منع من توجّه الخطاب إلیه حکم العقل بقبح توجیه الخطاب إلی العاجز، لکن الملاک تامّ عنده، ویعلم بشمول الملاک له، وأنّ الشارع لا یرضی بفوات هذا الملاک عند التمکّن من تحصیله، هذا یلازم العلم بأنّه لا یکون معذوراً علی تقدیر أنْ یکون عنده قدرة واقعیة، وهذا یستدعی وجوب الفحص علیه، فیجب علیه حینئذٍ الفحص ولا یجوز له الرجوع إلی البراءة. یقول: هذا التفصیل فی القدرة هو نفسه یکون هو المختار فی محل الکلام وهو ما إذا شکّ فی أصل وجود الموضوع؛ لأنّ هذا الشکّ یرجع إلی الشکّ فی القدرة.

ص: 336

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

ذکرنا فی الدرس السابق ملاحظة علی ما نقلناه عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) وخلاصة هذه الملاحظة: أنّ المیزان فی جریان البراءة فی الشبهة الموضوعیة لیس هو انحلال الحکم إلی أحکام عدیدة؛ لأننّا نجد أنّه فی حالاتٍ یکون الحکم فیها واحداً غیر متعددّ وغیر منحل، مع ذلک تجری البراءة فی الشبهة الموضوعیة، وذُکر مثال لذلک بمسألة العام المجموعی، إذا قال(أکرم مجموع العلماء)، أو(أکرم العلماء) لکن لاحظ العلماء علی نحو العام المجموعی، هنا لا یوجد إلاّ حکم واحد، ولا یوجد أحکام انحلالیة، بخلاف العام الاستغراقی هناک تکون أحکام انحلالیة، فإذا لم یکن هناک إلاّ حکم واحد وشککنا فی زید أنّه عالم، أو لا ؟ هنا تجری البراءة مع أنّه لا یوجد إلاّ تکلیف واحد، وافتراض أنّ هذا المشکوک عالم فی الواقع والحقیقة لا یعنی ثبوت تکلیف زائد علی ما علمنا به؛ بل هو نفس التکلیف باقٍ، کما أنّ عدم کونه عالماً فی الواقع والحقیقة لا یعنی نقصاناً فی التکلیف، فالتکلیف واحد، وبالرغم من ذلک تجری البراءة، لیس المیزان هو الانحلال، وإنّما المیزان هو الشمولیة.

هذه الملاحظة یمکن دفعها عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنْ نفترض أنّ مقصوده من التکلیف فی کلامه المتقدّم الذی جعل الشکّ فی الموضوع شکّاً فی التکلیف، إذا قلنا أنّ مقصوده من التکلیف ما یعمّ التکلیف الضمنی، فسوف تندفع هذه الملاحظة. ما یعمّ التکلیف الضمنی ولا یختص بخصوص التکلیف الاستقلالی؛ حینئذٍ الشکّ فی الموضوع فی مثال العام المجموعی، الشکّ فی أنّ هذا عالم، أو لا، وإن کان لا یستلزم الشکّ فی أصل التکلیف المستقل، لکنّه یستلزم الشکّ فی التکلیف الضمنی، باعتبار أنّ التکلیف وإنْ کان تکلیفاً واحداً وله موضوع واحد، لکن التکلیف الواحد المتعلّق بالموضوع الواحد الذی هو المجموع ---------- بحسب الفرض ---------- یستلزم تکالیفاً ضمنیة بعدد أفراد ذلک المجموع، إذا لم نعبّر عن ذلک بالتکلیف الضمنی، فأننّا یمکن أنْ نعبّر بما تقدّم من أنّه یستلزم التحریک المولوی نحو هذا الفرد وذاک الفرد، وذاک الفرد من أفراد المجموع، وهذه عبارة عن التکالیف الضمنیة، ففی الحقیقة هنا یمکن الحفاظ علی المیزان الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، لکن بتعمیم التکلیف إلی التکالیف الضمنیة وعدم الالتزام باختصاص التکلیف فی کلامه بالتکالیف الاستقلالیة، فأنّ المیزان یکون محفوظاً حتّی فی هذا المثال؛ لأنّ المیزان هو تعددّ الحکم وانحلال التکلیف، أنّ التکلیف یکون انحلالیاً، فإذا کان انحلالیاً یتحقق هذا المیزان لجریان البراءة، وهذه الانحلالیة بعد تعمیم التکلیف إلی التکلیف الضمنی موجودة؛ لأنّ هذا الذی نشکّ فی أنّه عالم، أو لا، إنْ کان عالماً فی الواقع یثبت له تکلیف ضمنی، یثبت له تحریک مولوی، وإنْ لم یثبت أنّه عالم فی الواقع، فلا یثبت له تکلیف ضمنی ولا یثبت له تحریک مولوی، فالشکّ فیه یکون شکّاً فی التکلیف. أو قل بعبارة أخری: الشکّ فیه یکون شکّاً فی التحریک المولوی بالنسبة إلیه، وهذا بالنتیجة شکّ فی التکلیف، فیتحقق المیزان الذی ذکره لجریان البراءة، المیزان هو أنْ یکون الحکم انحلالیاً، لکن الحکم الذی یکون انحلالیاً أعمّ من الحکم الاستقلالی والحکم الضمنی، والحکم الضمنی حتّی فی مثال العامّ المجموعی أیضاً یکون انحلالیاً، باعتبار أنّ المفروض أنّ العنوان المأخوذ مأخوذ علی نحو الشمولیة، وهذا یستلزم التحریک المولوی نحو کل فردٍ من أفراد ذلک المجموع، أو قل: یستلزم التکالیف الضمنیة المتعددّة بعدد أفراد ذلک المجموع، فالانحلالیة کمیزان لجریان البراءة یمکن أنْ نلتزم بتحققها حتّی فی هذا المثال، فلا یکون نقضاً علی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 337

الملاحظة الثانیة التی ذُکرت علی کلامه ترتبط بما ذکره فی صورة الدوران بین الأقل والأکثر، حیث ذکر هناک أنّ الصحیح هو التفصیل بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة، وأنّه فی الشبهة الوجوبیة تجری أصالة الاشتغال، وفی الشبهة التحریمیة تجری البراءة، وعللّ ذلک بما تقدّم من أنّ مطابقة الفعل الصادر من المکلّف للعنوان داخلة فی دائرة الطلب فی الشبهة الوجوبیة کما فی مثال وجوب الوقوف فی عرفات، المطلوب من المکلّف هو أنْ یکون الوقوف الصادر منه وقوفاً فی عرفات؛ حینئذٍ إذا شکّ فی بقعةٍ من الأرض لشبهة موضوعیة أنّها من عرفات، أو لا، لا یجوز له الوقوف بها؛ لأنّ ذمّته اشتغلت بأنْ یکون وقوفه وقوفاً فی عرفات، وإذا اقتصر علی الوقوف فی هذا الموقف المشکوک؛ فحینئذٍ لا یحرز أنّ العنوان -------- الوقوف فی عرفات -------- قد انطبق علی وقوفه؛ فلذا لابدّ من الاحتیاط، بینما فی الشبهة التحریمیة أنکر هذا، قال أنّ انطباق العنوان علی الفعل لا یدخل فی دائرة المطلوبیة، وإنّما الانطباق شرط فی اتّصاف الفعل بکونه حراماً، الإفاضة إنّما تکون محرّمة إذا کانت إفاضة من عرفات، والاستقبال إنّما یکون محرّماً إذا کان استقبالاً للقبلة فی حالات التخلّی، وأمثال ذلک. فانطباق العنوان علی الفعل لیس مطلوباً، ولا داخلاً فی دائرة التکلیف، فإذا لم یکن داخلاً فی دائرة التکلیف، وإنّما هو شرط لاتّصاف الفعل بالحرمة؛ حینئذٍ الشکّ فیه یکون شکّ فی ثبوت التکلیف بالنسبة إلی هذا الفعل الصادر من المکلّف، فهو شکّ فی التکلیف، فتجری فیه البراءة. هکذا ذکر.

الملاحظة علی هذا الأمر هو أنّه قد یقال: لا فرق بین الوجوب وبین التحریم من هذه الجهة، فی کلٍ منهما الظاهر أنّ المطابقة داخلة فی دائرة التکلیف، بمعنی أنّ التکلیف یتعلّق بها سواء کان ذلک فی الشبهة الوجوبیة، أو کان ذلک فی الشبهة التحریمیة، کما أنّه فی الشبهة الوجوبیة --------- کما قرّبه هو --------- أن انطباق العنوان علی الفعل مطلوب من المکلّف وداخل فی التکلیف، ویتعلّق به التکلیف، فیُطلب من المکلّف أنْ یکون وقوفه فی عرفات، کذلک انطباق العنوان علی الفعل فی الشبهة التحریمیة أیضاً یکون داخلاً فی دائرة التکلیف، بمعنی أنّه هو المنهی عنه(تحرم الإفاضة من عرفات)، المنهی عنه هو کون الإفاضة من عرفات، أمّا إذا لم تکن الإفاضة من عرفات؛ فحینئذٍ لا یدخل فی دائرة النهی، إذا لم یکن الاستقبال إلی القبلة لا یکون داخلاً فی دائرة النهی، ما یُنهی عنه، وما یزجر عنه الشارع فی الشبهات التحریمیة هو عبارة عن أنْ یکون الفعل الصادر من المکلّف ینطبق علیه العنوان، هذا داخل فی التکلیف، غایة الأمر أنّه داخل فی التکلیف التحریمی، وفی دائرة النهی، ما ینهی عنه الشارع هو کون الفعل مطابقاً للعنوان، کون الإفاضة إفاضة من عرفات، هذا شیء یزجر عنه الشارع، کما أنّ کون الوقوف وقوفاً فی عرفات یأمر به الشارع، کون الإفاضة إفاضة من عرفات هذا ینهی عنه الشارع، یعنی یدخل فی دائرة التکلیف التحریمی، فأیّ فرقٍ بینهما من هذه الناحیة ؟ فی کلٍّ منهما متعلّق التکلیف هو انطباق العنوان علی الفعل الصادر من المکلّف، أو مطابقة الفعل للعنوان المذکور فی الدلیل، فی کلٍ منهما متعلّق التکلیف هو هذا، إذا فهمنا من(قف فی عرفات) أنّ متعلّق التکلیف هو کون الوقوف وقوفاً فی عرفات أیضاً نفهم من قوله(تحرم الإفاضة من عرفات) هو أنّ متعلّق النهی هو کون الإفاضة إفاضة من عرفات لا کون الإفاضة إفاضة من غیره، وکون الاستقبال استقبالاً للقبلة، هذا هو متعلّق النهی، فأیّ فرقٍ بینهما، لماذا نجعل المطابقة فی الشبهات التحریمیة فی التحریم شرطاً لاتّصاف الفعل بالتحریم ؟ بل نقول أنّ متعلّق الزجر ومتعلّق النهی هو أنْ یکون الفعل مطابقاً للعنوان وأنْ ینطبق علیه العنوان(لا تجعل إفاضتک إفاضة من عرفات)، و(لا تجعل استقبالک فی حال التخلّی استقبالاً للقبلة) فیکون هو متعلّق التکلیف، لکن متعلّق التکلیف التحریمی، کما أنّ الانطباق والمطابقة فی الشبهة الوجوبیة هو متعلّق للوجوب وللتکلیف الوجوبی، فالفرق بینهما لیس واضحاً، فإذا التزمنا فی الشبهة الوجوبیة للنکتة التی قالها بجریان الاشتغال، باعتبار أنّ الذمّة اشتغلت بهذه المطابقة بدخولها فی دائرة المطلوبیة، فلابدّ من الاشتغال عند الشک، هذا الکلام لابدّ من تطبیقه فی الشبهة التحریمیة أیضاً ولا مجال لجریان البراءة. هذه أیضاً ملاحظة علی الکلام الذی ذکره.

ص: 338

صاحب الکفایة (قدّس سرّه) فی التنبیه الثالث من تنبیهات البراءة (1) ذکر کلاماً یُفهم منه أنّ المیزان فی جریان البراءة هو تعددّ الحکم الذی نستطیع أنْ نعبّر عنه بالانحلال، أی کون الحکم حکماً انحلالیاً متعددّاً فی مقابل کون الحکم واحداً وعدم انحلاله، ففی حالة تعددّ الحکم والانحلال التزم بجریان البراءة، بینما فی حالة وحدة الحکم وعدم الانحلال التزم بالاشتغال، وطبّق هذا الکلام فی النهی، وکلامنا فی الأعمّ من کون الحکم وجوب، أو تحریم، هو طبّقه علی التحریم، وذکر فی عبارته أنّ النهی عن شیء إذا کان بمعنی طلب ترکه فی زمانٍ، أو مکانٍ هنا لابدّ من إحراز أنّه ترکه فی ذلک الزمان، وذلک المکان، فإذا شکّ فیه بنحو الشبهة الموضوعیة؛ فحینئذٍ لا یمکنه فعل هذا المشکوک؛ بل لابدّ من ترکه؛ لأنّه لا یحرز أنّه ترک ذلک الفعل فی هذا الزمان إلاّ إذا ترک المشکوک کونه من ذلک الفعل الذی نهی عنه، أو لا، فلو نهاه عن فعلٍ وهو یشک بنحو الشبهة الموضوعیة أنّ هذا هل هو منه، أو لا ؟ یقول: هنا لا یمکنه أنْ یُحرز الخروج عن عهدة ما اشتغلت به الذمّة إلاّ بترک هذا المشکوک، فلابدّ من الاحتیاط؛ لأنّ الاشتغال یجری فی المقام، باعتبار أنّ هذا التکلیف تکلیف واحد غیر متعدد، طلب منه ترک الأکل فی هذا الزمان، فإذا شکّ فی شیءٍ أنّه أکل، أو لا بنحو الشبهة الموضوعیة، یجب علیه الاحتیاط بترک هذا المشکوک؛ لأنّ الذمّة اشتغلت بترک هذا الفعل فی هذا الزمان، وهو لا یحرز أنّه قد استجاب لذلک وترک هذا الفعل إذا ارتکب هذا المشکوک، فلابدّ من ترکه باعتبار أنّ القاعدة تقتضی الاشتغال. وأمّا إذا کان النهی بمعنی طلب ترک کل فرد من المنهی عنه علی حدا، أنّه معنی النهی عن الأکل یعنی النهی عن کل فردٍ من أفراد المتعلّق علی حدا، والذی یُستفاد منه تعدد الحکم والانحلال، أنّه یطلب منه ترک هذا الفعل بمعنی ترک کل فردٍ من أفراده بحیث أنّ هذا الفرد من أفراده یتعلّق به النهی ویُطلب ترکه، والفرد الثانی أیضاً یتعلّق به النهی ....وهکذا. فإذن: هناک نواهی متعددة، أو طلب ترک متعدد بعدد أفراد هذا المتعلّق، فالفرد الذی یُعلم أنّه ینطبق علیه المتعلّق أنّه أکلٌ، هذا یتعلّق به نهی، ذاک أکل، یتعلّق به نهیٌ....وهکذا، یقول: حینئذٍ تجری البراءة فی المقام، یعنی إذا شُکّ بنحو الشبهة الموضوعیة فی أنّ هذا أکل، أو لا، هنا تجری البراءة؛ لوضوح أنّ الشکّ فی أنّ هذا أکل، أو لا، یعنی الشکّ فی تعلّق النهی به؛ لأنّ هذا علی تقدیر أنْ یکون أکلاً فی الواقع، إذن: هناک تکلیف زائد غیر ما عُلم، وإنْ لم یکن أکلاً فی الواقع فلا یوجد تکلیف زائد، فالشکّ فی أنّ هذا أکل، أو لا یکون شکّاً فی التکلیف الزائد، فتجری البراءة. یقول هذا هو المیزان فی جریان البراءة، میزان جریان البراءة هو الانحلال وتعددّ الحکم. هذا الکلام لصاحب الکفایة(قدّس سرّه) لعلّه یتّحد مع ما نقلناه عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی المیزان الذی ذکره فی بعض الموارد من أنّه جعل المیزان هو الانحلال، والانحلال یساوی افتراض تعدد الحکم، فیرجع إلی ذاک.

ص: 339


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 353.

الملاحظة التی ذُکرت سابقاً أیضاً تجری فی المقام، وهی أنّ المیزان لیس تعدد الحکم؛ لأننّا قد نفترض وحدة الحکم وبالرغم من ذلک تجری البراءة فی الشبهة الموضوعیة علی ما تقدّم مثاله(أکرم العلماء) لکن بنحو العام المجموعی، هذا حکم واحد وتکلیف واحد، وافتراض أنّ هذا المشکوک عالم لا یعنی زیادة فی التکلیف، فالتکلیف واحد متعلّق بالمجموع، وبالرغم من هذا تجری البراءة عند الشکّ فی أنّ هذا عالم، أو لا ممّا یعنی أنّ المیزان فی جریان البراءة لیس هو تعددّ الحکم والانحلال.

الجواب عن هذه الملاحظة هو نفس ما ذکرناه الیوم، وهو أننّا إذا عممّنا وقلنا أنّ مقصود صاحب الکفایة (قدّس سرّه) من تعدد الحکم هو أننّا نعممّ الحکم الذی فرض أنّ تعددّه هو المیزان فی جریان البراءة نعممّه للحکم الضمنی، فإذا عممّناه تنتهی المشکلة؛ لأنّ هذا المیزان یبقی محفوظاً حتّی فی مثل(أکرم العلماء) بنحو العام المجموعی؛ لأنّه بالرغم من کون أصل الحکم واحداً، وافتراض أنّ هذا المشکوک کونه عالماً، أو لا، افتراض أنّه عالم فی الواقع لا یعنی زیادة التکلیف المستقل والتعددّ، لکنّه یعنی التعدد فی الأحکام الضمنیة؛ لأنّ التکلیف الواحد المتعلّق بالمجموع المأخوذ علی نحو الشمولیة یستلزم قطعاً تکالیفاً ضمنیة متعلّقة بکل فردٍ من أفراد ذلک المجموع، یستلزم تحریکاً مولویاً متعلّقاً بکلّ فردٍ من أفراد ذلک المجموع، فالشکّ فی أنّ هذا عالم، أو لا هو شکّ فی التکلیف الضمنی الزائد علی ما عُلم، شکّ فی التحریک المولوی بالنسبة إلیه زائداً علی ما عُلم تحریک المولی نحوه من الأفراد المعلوم انطباق العنوان علیها. إذن: هو شکّ فی التکلیف، شکّ فی التحریک المولوی، والمیزان متحقق وهو تعددّ الحکم، إذا عممّنا الحکم فی کلامه إلی ما یشمل الحکم الضمنی والأحکام الضمنیة کما هو الحال بالنسبة إلی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 340

نعم، ذکر صاحب الکفایة (قدّس سرّه) (1) أنّ المرجع هو الاشتغال فیما إذا أرید بالنهی طلب ترک الشیء الذی یتعلّق به النهی فی زمانٍ، أو مکانٍ، یقول هنا تجری قاعدة الاشتغال، مرّة یکون المراد بالنهی طلب ترک کل فردٍ من أفراد ذلک الشیء علی حدة --------- کما فی عبارته --------- هذا یعنی الانحلال والتعددّ وتجری فیه البراءة، ومرّة یکون المراد به هو طلب ترک الفعل المنهی عنه فی زمانٍ، أو مکانٍ، هنا قال تجری قاعدة الاشتغال، فلابدّ أنْ یترک الفعل الذی یشکّ فی انطباق العنوان المنهی عنه علیه؛ لأنّه لا یحرز أنّه ترک الفعل فی هذا الزمان إلاّ إذا ترک المشکوک بالإضافة إلی الأفراد المعلوم کونها منه. هذا قد ینافی هذا التوجیه الذی ذکرناه، إذا فسّرنا کلامه الذی هو مورد لقاعدة الاشتغال بالنهی المتعلّق بالمجموع کما فُسّر کلامه بالنهی المتعلّق بمجموع التروک فی ذلک الزمان، أو فی ذلک المکان، تعلّق النهی بمجموع التروک فی ذلک الزمان، أو فی ذلک المکان یکون مثل تعلّق الأمر بالإکرام بمجموع العلماء، یکون نظیره لکن ذاک أمر وهذا نهی، کما قلنا هناک(أکرم العلماء إذا کانوا علماء) ملحوظ بنحو العام المجموعی یکون هناک تکلیف واحد، وجوب واحد متعلّق بالمجموع، إذا فسّرنا کلامه هذا بالنهی بمعنی ترکه فی زمانٍ، أو مکانٍ، یعنی تعلّق النهی بمجموع التروک التی تتأتی للمکلّف خلال هذا الزمان، مجموع التروک یکون هو المنهی عنه، هذا یکون بمثابة تعلّق الأمر بالعامّ المجموعی، هنا هو یصرّح بالاشتغال، هو یقول هنا یجری الاشتغال، فلا یمکن أنْ نوجّه کلامه السابق بأنّ مقصوده من التکلیف ما یعمّ التکلیف الضمنی، وأنّه یکون مجری للبراءة؛ لأنّه فی هذا بالرغم من أنّ هذا یشبه(أکرم العلماء) إذا کان مأخوذاً علی نحو العام المجموعی، لکنّه اختار فیه جریان الاشتغال. قد یکون هذا ینافی التوجیه الذی ذکرنا لکلامه، لتصحیح أنّ المیزان فی جریان البراءة هو تعددّ الحکم والانحلال، لکن الذی یمکن أنْ یقال هو أنّ کلامه هنا فی مورد الاشتغال هل یتعیّن تفسیره بما ذُکر، یعنی عندما یقول بأنّه إنْ فسّرنا النهی عن الشیء بطلب ترکه فی زمانٍ، أو فی مکانٍ، هل معنی ذلک أنّ المطلوب هو مجموع التروک ؟ هل مقصوده أنّ النهی یتعلّق بمجموع التروک علی غرار تعلّق وجوب الإکرام بمجموع العلماء ؟ أو أنّ تفسیره یکون بتفسیرٍ آخر، وهو أنّ مقصوده تعلّق النهی بصرف وجود الشیء فی هذا الزمان، لا أنّ النهی یتعلّق بمجموع التروک، وإنّما النهی یتعلّق بصرف وجود الشیء، وهناک فوارق بینهما ولا یشکّل ذلک مانعاً من التوجیه السابق المتقدّم.

ص: 341


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 353.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

کان الکلام فی عبارة صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی التنبیه الثالث من تنبیهات البراءة، (1) ذکر بأنّ النهی عن شیء إذا کان بمعنی طلب ترکه فی زمانٍ، أو مکانٍ، فهذا مجریً للاشتغال. کان الکلام فی هذه الفقرة من عبارته، وأنّها إذا فُسرّت بمطلوبیة مجموع التروک بحیث یکون المطلوب مأخوذاً بنحو العموم المجموعی، أی أنّ مجموع التروک تکون هی المطلوبة کما فُسّر بهذا التفسیر فی بعض الکلمات، أنّ مقصود صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من المورد الذی حکم فیه بجریان قاعدة الاشتغال هو أنْ یکون المطلوب فی النهی هو مجموع التروک؛ وحینئذٍ یقول هذا یکون مورداً للاشتغال ولا تجری فیه البراءة.

قلنا أنّه قد یُلاحظ علیه ما تقدّم سابقاً من أنّه افترض بأنّه إذا کان بمعنی طلب مجموع التروک ویکون المطلوب مأخوذاً بنحو العام المجموعی، لنفترض أنّ التکلیف واحد، وأنّ متعلّق التکلیف واحد وهو مجموع التروک، وصحیح ما تقدّم من أنّه علی تقدیر أنْ یکون المشکوک مصداقاً للعنوان، فهذا لا یوجب زیادة فی التکلیف، کما أنّ عدم کونه مصداقاً للعنوان لا یوجب نقیصة فی التکلیف، التکلیف واحد وموضوعه واحد وهو المجموع، هذا صحیح، وبالتالی ینتج أنّ الشکّ فی مصداقیة فردٍ للعنوان کونه من المجموع، أو لا، هذا لا یکون شکّاً فی التکلیف؛ لأننّا قلنا أنّ التکلیف واضح ومعلوم بحدوده وقیوده، وکون هذا فرداً من العنوان لا یعنی زیادة فی التکلیف حتّی یکون الشکّ فیه شکّاً فی التکلیف، فتجری البراءة، لکن هذا کلّه مبنی علی اختصاص مورد جریان البراءة بما إذا کان الشکّ فی الموضوع مستلزماً للشکّ فی نفس التکلیف، أو فی حدوده وقیوده، هذا الکلام قد یصح؛ لأنّه لیس لدینا شکّ فی التکلیف عندما نشکّ فی أنّ هذا مصداق، أو لا، هذا مصداق للحرام بحیث أیضاً یکون ترکه مطلوباً فی ضمن طلب ترک الباقی، أو لیس مصداقاً للحرام ؟ هذا الشکّ فی مصداقیة هذا للحرام لا یوجب الشکّ فی التکلیف ولا فی قیوده ولا فی حدوده، وبالتالی لا یکون مورداً للبراءة إذا قلنا بأنّ مورد جریان البراءة هو الشکّ فی التکلیف، أو الشکّ فی قیوده وحدوده، لکن قلنا سابقاً لا داعی لهذا التخصیص، حتّی لو فرضنا أنّ التکلیف معلوم وواحد، وقیوده وحدوده کلّها واضحة ومعلومة، لکن قد یکون الشکّ فی مصداقیة فردٍ للحرام یکون شکّاً فی دائرة التحریک المولوی، یکون شکّاً فی سعة دائرة التحریک المولوی، أو ضیق دائرة التحریک المولوی، ولیس شکاً فی نفس التکلیف، وبهذا یفترق هذا عن فرض ما إذا کان الحکم حکماً انحلالیاً، إذا کان الحکم انحلالیاً فالشکّ فی فردٍ یعنی الشکّ فی التکلیف؛ لأنّ الحکم انحلالی، هو حکم انحلالی یثبت لکل فردٍ تکلیف خاصّ به وله إطاعة خاصّة وعصیان خاص، فالشکّ فی أنّ هذا عالم، أو لا، هو شکّ فی التکلیف نفسه، هنا لا یوجد شکّ فی التکلیف، وافتراض أنّ هذا من أفراد الحرام --------- هو یتکلّم فی شبهة النهی ----------- لا یعنی الشکّ فی التکلیف، لکن لا داعی لهذا الالتزام؛ بل حتّی لو فرضنا أنّه لیس شکّاً فی التکلیف، بأنْ کان التکلیف واحداً ولیس انحلالیاً، ویتعلّق بالمجموع، لکن لا إشکال فی أنّ التکلیف الذی یتعلّق بالمجموع یقتضی تحریک المکلّف نحو کل فردٍ من أفراد هذا المجموع، هذا فی الوجوب. أمّا فی النهی فیقتضی التحریک نحو کل فردٍ من أفراد الحرام بتکلیف المکلّف بترکه، فهذا علی تقدیر أنْ یکون حراماً هناک تحریک نحوه بالترک، وکأنّه یُطلب من المکلّف ترکه، وإنْ کان لا شکّ فی التکلیف، ولاشکّ فی سعة التکلیف وضیقه؛ لأنْ کون هذا من أفراد الحرام لا یعنی سعة فی التکلیف، لکن دائرة محرکیته التی تنتزع منه تختلف، مرّة تکون واسعة، إذا کان هذا الفرد المشکوک من أفراد الحرام، وأخری تکون ضیقة إذا لم یکن هذا الفرد المشکوک من أفراد الحرام.

ص: 342


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 353.

إذن: الشکّ فی کون هذا من أفراد الحرام هو شکّ فی وجود محرّکیة مولویة تجاهه، هل هناک تحریک مولوی تجاهه، أو لا ؟ وبعبارة أخری: أنّ الشکّ فی التکلیف المعلوم بحدوده وقیوده هل یقتضی التحریک نحو هذا الفرد، أو لا یقتضی التحریک نحو هذا الفرد ؟ الأفراد التی نعلم کونها مصداقاً للحرام، التکلیف المعلوم یقتضی التحریک نحو ترکه، الفرد الذی یُشکّ فی کونه مصداقاً للحرام، نشکّ فی أنّ التکلیف المعلوم بحدوده وقیوده هل یقتضی التحریک نحوه، أو لا ؟ فالشکّ فی التحریک، إنْ کان من أفراد الحرام فهو یقتضی التحریک نحوه، وإنْ لم یکن من أفراد الحرام، فهو لا یقتضی التحریک نحوه، لا یوجد فرق بینها وبین الشبهة الوجوبیة، غایة الأمر أنّ التحریک هناک کان نحو الفعل، بینما التحریک هنا یکون نحو الترک، بعد هذا التعمیم؛ حینئذٍ لابدّ من الالتزام بجریان البراءة.

لکن قد یُفسّر کلام الشیخ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بتفسیرٍ آخر، وهو أنْ یقال: أنّ مقصوده هو النهی عن صرف الوجود ولیس النهی بمعنی طلب مجموع التروک، وإنّما هو النهی عن صرف وجود الطبیعة، بأنْ یُفسّر قوله بأنّ النهی عن شیء إنْ کان بمعنی طلب ترکه فی زمانٍ، أو مکانٍ یعنی النهی عن صرف الوجود، لیس بمعنی مطلوبیة مجموع التروک، وإنّما هو بمعنی النهی عن صرف وجود الطبیعة. إذا کان هذا هو المفروض بافتراض أنّ المفسدة التی هی تقتضی النهی تکون موجودة فی صرف وجود الطبیعة، صرف وجود الطبیعة فی الخارج فیه مفسدة، وهذا یُحتّم أنّ النهی یتحدّد بحدود ما فیه مفسدة وهو صرف وجود الطبیعة، ومن الواضح أنّ لازم امتثال هذا النهی لا یتحققّ ولا یکون إلاّ بترک جمیع أفراد الطبیعة، ولا یکفی فی امتثال هذا النهی أنْ یترک معظم أفراد الطبیعة ویأتی ولو بفردٍ واحد، فإذا جاء بفرد واحد فهذا یعنی أنّه جاء بصرف الوجود، والمفروض أنّ صرف الوجود فیه مفسدة ومنهی عنه، فلابدّ لتحققّ الامتثال من ترک جمیع الأفراد.

ص: 343

بناءً علی تفسیر کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بهذا التفسیر حینئذٍ یقال بأنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یری بأنّ هذا مورد للاشتغال، حینما نغیّر، بدلاً من أنْ نقول أنّ المطلوب هو مجموع التروک وبین أنْ نقول أنّ النهی عبارة عن طلب ترک صرف الوجود ولیس طلب مجموع التروک، هنا یقول بالاشتغال، لماذا هنا یقول بالاشتغال ؟ یمکن أنْ یوجّه کلامه هنا باعتبار أنّ النهی متعلّق بصرف الوجود بحسب الفرض، هذا النهی المتعلّق بصرف الوجود معلوم بحدوده وقیوده ولا یُشک فیه، وإنّما یُشک فی انطباق ذلک --------- صرف الوجود ---------- علی هذا الفرد، عندما نشکّ فی کون شیءٍ مصداقاً للحرام المنهی عنه، أو عدم کونه مصداقاً له، عندما نهاه عن شرب السمّ --------- مثلاً ---------- لا نعلم أنّ هذا مصداق لشرب السمّ، أو لا، علی نحو صرف الوجود، یقول صاحب الکفایة(قدّس سرّه) (1) بأنّ هذا لیس شکّاً فی التکلیف؛ لأنّ افتراض أنّ هذا المشکوک مصداق للحرام لا یعنی زیادة فی التکلیف، کما أنّ افتراض أنّه لیس مصداقاً للحرام لا یعنی نقیصة فی التکلیف، التکلیف متعلّق بصرف وجود هذه الطبیعة، هذا أمر معلوم وواضح بحدوده وقیوده ولاشکّ فیه، والشکّ فی کون هذا سمّاً لیس شکّاً فی التکلیف، ولا فی حدود التکلیف ولا فی قیوده، فلماذا یکون مورداً للبراءة ؟ وإنّما هو شک فی انطباق عنوان صرف الوجود علی هذا الفرد؛ لأنّ هذا إنْ کان من مصادیق الحرام، فیکون مشمولاً للنهی، یعنی یُنهی عن صرف وجوده، یکون وجوده محققّاً لصرف الوجود المنهی عنه، وإن لم یکن مصداقاً للحرام؛ فحینئذٍ لا یکون الإتیان به محققّاً لعنوان صرف الوجود.

ص: 344


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 353.

إذن: الشکّ لیس فی التکلیف، وإنّما الشکّ فی انطباق عنوان صرف وجود الطبیعة المنهی عنه علی شرب هذا الذی یُشکّ فی کونه سمّاً أو لیس سمّاً، وفی تحقق صرف الوجود المنهی عنه عندما یشرب هذا الفرد المشکوک وعدم تحققّه، الشک فی الانطباق وفی تحقق الامتثال، أو عدم تحققّه؛ لأنّه یُحتمل أنّه قد جاء بصرف وجود الطبیعة المنهی عنه، فإذن: هو شکّ فی الامتثال، ومع الشکّ فی الامتثال تجری قاعدة الاشتغال ولا مجال للبراءة. هذا الرأی یکون هو رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) بناءً علی حمل کلامه علی ذلک.

لکن فی المقابل قد یقال: حتّی إذا حملنا کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) علی ذلک، لا یکون هذا مورداً للاشتغال، وإنّما یکون مورداً للبراءة، باعتبار أنّ الشکّ فی کون هذا الفرد مصداقاً للحرام، أو عدم کونه مصداقاً للحرام، هذا الشکّ یعنی أنّ الشکّ فی صدق صرف الوجود علیه، فیکون حراماً، وإنْ لم یکن مصداقاً، فلا یصدق علیه عنوان صرف الوجود، فلا یکون حراماً، فالشکّ فیه یعنی الشکّ فی حرمته، باعتبار أنّه عندما تشکّ فی أنّ صرف الوجود المنهی عنه ینطبق علیه، فیکون حراماً ویُطلب ترکه وبین أنْ لا یکون مصداقاً، فلا یکون حراماً. إذن: الشکّ فی کونه مصداقا أو عدم کونه مصداقاً یعنی الشکّ فی کونه حراماً وعدم کونه حراماً، وهذا شکّ فی التکلیف، فتجری فیه البراءة.

أقول: أنّ هذا الأخیر هو الصحیح، لکن لیس بالتقریب الأخیر الذی ذکر، وهو کونه مجری للبراءة فی هذا المورد، یعنی بعنوان النهی عن صرف وجود الطبیعة، هذا یکون مجریً للبراءة، الظاهر هو ذلک، لکن بالبیان الذی تقدّم، وکان حاصله: أنّه لا موجب ولا ملزم لتخصیص مورد جریان البراءة بما إذا کان الشکّ فی نفس التکلیف، أو فی سعة نفس التکلیف وضیقه، لا موجب للالتزام بذلک؛ بل حتّی إذا فرضنا أنّه لاشکّ فی نفس التکلیف، ولاشکّ فی سعة التکلیف ولا فی ضیقه عندما نشکّ بنحو الشبهة الموضوعیة؛ لأنّ الشکّ فی هذا الموضوع وکونه مصداقاً للحرام لا یعنی الشکّ فی سعة التکلیف وضیقه؛ لما قلناه سابقاً من أنّ کون هذا مصداقاً للحرام واقعاً لا یعنی سعة التکلیف، کما أنّ عدم کونه مصداقاً للحرام واقعاً لا یعنی ضیقاً فی التکلیف، لیس هناک شکّ فی التکلیف ولا فی سعة التکلیف وضیقه، ولا داعی لتخصیص مجری البراءة بذلک؛ بل یمکن تعمیمه لما إذا کان الشکّ فی سعة دائرة المحرکیة التی یقتضیها التکلیف وضیق المحرکیة، وإنْ کان التکلیف واحداً ولاشکّ فیه ولا فی حدوده وقیوده، لکن عندما یکون الشکّ فی سعة المحرکیة التی یقتضیها نفس التکلیف هذا أیضاً یکون مجریً للبراءة؛ إذ لا فرق فی جریان البراءة بین أنْ یکون نفس التکلیف محتمل، أو تکون دائرة المحرکیة بالنسبة إلی هذا الفرد المشکوک محتملة، کل منهما یسبب الضیق علی المکلّف، فاحتمال التکلیف یعنی احتمال الضیق وعدم التوسعة علی المکلف، احتمال شمول المحرّکیة لهذا الفرد وإنْ کان التکلیف واحداً وغیر متعددّ أیضاً یوجب الضیق علی المکلّف، فالبراءة تجری لنفی ذلک، بناءً علی هذا؛ فحینئذٍ لابدّ من الالتزام بالبراءة فی المقام عندما یکون النهی نهیاً عن صرف وجود الطبیعة، باعتبار أنّه سلّمنا أنّ التکلیف واحد ومتعلّق التکلیف واحد وهو صرف وجود الطبیعة، وهذا أمر معلوم ولاشکّ فیه، لکن هذا التکلیف المتعلّق بصرف وجود الطبیعة بطبعه یقتضی أنْ یُحرّک نحو کل فردٍ من أفراد الطبیعة بأنْ یطلب ترکها، فهو یطلب ترک هذا الفرد، ویحرّک نحو ترکه، ونحو هذا الفرد یحرک نحو ترکه.....وهکذا. إذن: التحریک موجود بالنسبة إلی کلّ أفراد الطبیعة، فما یعلم من کونه مصداقاً للطبیعة، لا إشکال فی أنّ ذاک التکلیف الواحد الذی لاشکّ فیه یُحرّک نحوه ویطلب ترکه؛ لأنّ امتثال ذلک التکلیف لا یکون إلاّ بترک جمیع أفراد الطبیعة، فیطلب من المکلّف ترک هذا الفرد؛ لأنّ هذا الفرد یحقق صرف الوجود، والمفروض أنّ صرف الوجود فیه مفسدة وهو مورد للنهی، هذا الفرد أیضاً یحقق صرف الوجود، فإذن: ذاک التکلیف یطلب منک ویحرکک نحو ترکه، فإذا شُکّ فی فردٍ أنّه مصداق للحرام، أو لا، معناه أنّ هناک شکّاً فی التحریک المولوی بالنسبة إلیه، هل هناک تحریک یقتضیه التکلیف بالنسبة إلیه، أو لیس هناک تحریک. إنْ کان فرد مصداقاً للحرام واقعاً هناک تحریک نحو ترکه، وإنْ لم یکن مصداقاً للحرام لا یوجد تحریک نحو ترکه. فإذن: الشکّ فی التحریک نحوه، هل هناک تحریک نحوه، ودفعٌ باتجاهه وتحمیل مسئولیةٍ بلحاظه، أو لا ؟ وهذه کلّها عناوین تکون مورداً لجریان البراءة. فالظاهر أنّه فی هکذا حالة لا یبعُد جریان البراءة فی المقام ولا یکون مورداً للاشتغال. طبعاً هذا علی العکس تماماً ممّا إذا فرضنا أنّ الحکم کان إیجاباً ولیس نهیاً، الکلام مع صاحب الکفایة(قدّس سرّه) قلنا أنّه طبّق کلامه علی باب النواهی، فی باب النواهی لا یبعُد جریان البراءة، سواء فسّرنا کلامه فی الفقرة الأولی بأنّ النهی عبارة عن طلب مجموع التروک، أو فسّرنا کلامه بأنّه عبارة عن طلب ترک صرف وجود الطبیعة، وکأنّ النهی یتعلّق بصرف وجود الطبیعة، علی کلا التقدیرین فی الشبهة الموضوعیة تجری البراءة، لکن عندما نقلب القضیة ونفترض أنّ الحکم لیس تحریماً، وإنّما الحکم هو وجوب متعلّق بصرف وجود الطبیعة، یعنی یُطلب من المکلّف تحقیق صرف وجود الطبیعة، ومن الواضح أنّ صرف وجود الطبیعة یتحققّ بالإتیان بکل فردٍ من أفرادها، هنا حینئذٍ لا مجال لجریان الطبیعة؛ بل یکون المورد من موارد الاشتغال، باعتبار أنّ المکلّف کُلّف بتحقیق الطبیعة، یُطلب منه تحقیق صرف وجود الطبیعة فی الخارج، الأفراد التی یعلم بکونها مصداقاً للطبیعة لا إشکال فی تحقق الامتثال بالإتیان بها، لکن عندما نأتی إلی أفرادٍ مشکوکة، یُشکّ فی کونها مصداقاً للطبیعة، هل یمکن للمکلّف أنْ یقتصر علی الاتیان بها لکی یتحقق الامتثال، أو لا ؟ البراءة تعنی أنّه یمکنه أنْ یقتصر علی هذا الفرد المشکوک، أمّا الاشتغال فیعنی أنّه لا یمکنه أنْ یقتصر علی هذا الفرد المشکوک، هنا یجری الاشتغال؛ لأنّ الشکّ لیس شکّاً فی التکلیف، ولا فی قیوده، ولا فی دائرة المحرکیة، وإنّما الشکّ فی الامتثال، انّه لو اقتصر علی الإتیان بهذا الفرد الذی یشک فی کونه مصداقاً للطبیعة التی أُمر بتحقیقها فی الخارج، یشکّ فی کونه امتثالاً لذلک الأمر؛ لاحتمال أنْ لا یکون هذا الشخص مصداقاً للطبیعة المأمور بها، فکیف یمکنه الاقتصار علی هذا الامتثال المشکوک، وعلی هذا الفرد الذی یُشکّ فی تحقق الامتثال به. إذن: هو شکّ فی الامتثال، ومع الشکّ فی الامتثال لابدّ من الاشتغال.

ص: 345

ومن هنا یظهر أنّه یمکن أنْ یقال: أنّ المیزان فی جریان البراءة هو الشکّ فی نفس التکلیف، یعنی فی مورد کلامنا هو أنْ نقول: أنّ المیزان فی جریان البراءة فی الشبهات الموضوعیة هو أنْ یکون الشکّ فی الموضوع بنحو الشبهة الموضوعیة مستلزماً للشکّ فی نفس التکلیف، أو مستلزماً للشکّ فی سعة التکلیف وضیقه، أو مستلزماً لسعة دائرة المحرکیة التی یقتضیها نفس التکلیف وضیق هذه الدائرة، فی کلّ هذه الموارد تجری البراءة، وفی ما عداها لا تجری البراءة. یبدو أنّ هذا هو المیزان الصحیح لجریان البراءة، غایة الأمر أنّه یحتاج إلی تنقیح وتوضیح، وتنقیحه یکون بتطبیقه، وبذکر بعض التطبیقات لهذا المیزان، فلابدّ من ذکرها؛ لأنّها محل کلام کما تبیّن أنّه فی موردٍ واحد هناک فرق بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة، فی نفس المورد، مورد تعلّق التکلیف ---------- فرضاً ---------- بالطبیعة علی نحو صرف الوجود، هنا الحکم إذا کان وجوبیاً، فالمورد یکون من موارد الاشتغال، بینما إذا کان تحریمیاً یکون من موارد البراءة. من هنا لابدّ من ذکر تطبیقات، وهذه التطبیقات بأنْ تُذکر أنحاء متعددّة لکیفیة تعلّق الحکم بالطبیعة ویُطبّق المیزان السابق علی کل نحوٍ من هذه الأنحاء، الطبیعة عندما یتعلّق بها الحکم یمکن تصوّرها علی أنحاء عدیدة:

النحو الأوّل: أنْ نفترض أنّ الحکم یتعلّق بالطبیعة علی نحو صرف الوجود، بأنْ یکون متعلّق الحکم هو صرف وجود الطبیعة، وقد ذکرناه سابقاً.

النحو الثانی: أنْ یکون متعلّق الحکم هو مطلق وجود الطبیعة، بحیث یکون مطلق وجود الطبیعة الذی یُسمّی بالعام الشمولی الاستغراقی یکون هو متعلّق للحکم.

ص: 346

النحو الثالث: أنْ یکون متعلّق الحکم هو مجموع أفراد الطبیعة علی نحو العام المجموعی.

النحو الرابع: أنْ نفترض أنّ الحکم یتعلّق بالمسببّ الذی ینشأ من مجموع أفراد الطبیعة، أو من فردٍ واحدٍ من أفراد الطبیعة، لکن الحکم لا یتعلّق بنفس الطبیعة المأخوذة بمجموع الأفراد، أو صرف الوجود، وإنّما یتعلّق بالنتیجة التی تحصل من مجموع الأفراد، أو من بعض أفراد الطبیعة، أی الحکم یتعلّق بالمسببّ الحاصل من مجموع الأفراد، أو الحاصل من بعض الأفراد، یعنی من فردٍ واحدٍ من الطبیعة. هذه الأنحاء لابدّ من تطبیق الکلام السابق علیها.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

الطبیعة عندما تقع متعلّقاً للتکلیف یمکن أنْ نتصوّر أنحاء متعددّة لکیفیة وقوع الطبیعة متعلّقاً للتکلیف:

النحو الأوّل: أنْ نفترض أنّ المتعلّق هو ذات الطبیعة، إمّا بمعنی صرف الوجود، بحیث یکون المطلوب هو صرف وجود الطبیعة، وإمّا بمعنی الوجود الأوّل منها بحیث یکون المطلوب هو الوجود الأوّل من الطبیعة. قالوا: علی کلا التقدیرین، سواء کانت الطبیعة بمعنی صرف وجود الطبیعة، أو کانت بمعنی الوجود الأوّل للطبیعة تکون متعلّقة للتکلیف، إذا شُکّ فی انطباق العنوان علی فردٍ بنحو الشبهة الموضوعیة علی کلا التقدیرین تجری البراءة، إذا کان الحکم نهیاً والشبهة شبهة تحریمیة تجری البراءة، وقالوا: لا تجری البراءة؛ بل یتعیّن الاشتغال إذا کان الحکم أمراً والشبهة شبهة وجوبیة، ففرّقوا بین الشبهة التحریمیة، وقالوا: بجریان البراءة فیها، سواء کان نحو التعلّق هو النحو الأوّل، بأنْ کان تعلّق بها علی نحو صرف الوجود، أو کان تعلّق بها بأنْ کان المتعلّق هو الوجود الأوّل للطبیعة، وإذا کان الحکم المتعلّق للطبیعة أمراً ووجوباً وکانت الشبهة وجوبیة هنا لا تجری البراءة؛ بل یتعیّن الاشتغال أیضاً بلا فرقٍ بین التقدیرین السابقین، علی کلا التقدیرین لا تجری البراءة، فلا فرق بین التقدیرین من حیث النتیجة، بمعنی إنْ کان نهیّاً، فالبراءة تجری علی کلا التقدیرین، وإن کان الحکم أمراً ووجوباً، فالبراءة لا تجری علی کلا التقدیرین. تعلّق الحکم بصرف وجود الطبیعة، أو بالوجود الأوّلی للطبیعة الفرق بینهما بالرغم من أنّهما یشترکان فی أنّ الأمر بالطبیعة علی نحو صرف الوجود یقتضی الإتیان بفردٍ واحدٍ لا أزید؛ لوضوح أنّ صرف الوجود یتحققّ بالفرد الأوّل الذی یأتی به، فالأمر بالطبیعة علی نحو صرف الوجود لا یقتضی إلاّ الإتیان بفردٍ واحد، کما أنّ الأمر بالطبیعة بمعنی أنْ یکون المتعلّق هو الوجود الأوّل أیضاً لا یقتضی إلاّ فردٍاً واحداً من الطبیعة لا أزید من ذلک، باعتبار أنّ صرف الوجود یتحققّ بالفرد الأوّل، کما أنّ الوجود الأوّل للطبیعة یتحقق أیضاً بالفرد الأوّل، فالمکلّف إذا جاء بالفرد الأوّل فقد تحقق الامتثال وسقط الأمر وسقط التکلیف؛ لأنّ المأمور به هو صرف الوجود وقد تحقق، أو المأمور به هو الوجود الأوّل للطبیعة وقد تحقق أیضاً بالإتیان بفردٍ واحد، لکن عندما یتعلّق النهی بالطبیعة، فالنهی یقتضی ترک جمیع الأفراد، باعتبار أنّ ترک الطبیعة لا یتحقق، إلاّ بترک جمیع أفرادها، هما یشترکان فی ذلک، ولا فرق بینهما من هذه الجهة، فی أنّ الأمر عندما یتعلّق بالطبیعة، فعلی کلا التقدیرین یتحقق امتثاله بالإتیان بفردٍ واحد ولا یحتاج إلی أزید من ذلک، کما أنّ النهی إذا تعلّق بالطبیعة علی نحو صرف الوجود، أو بنحو الوجود الأوّل منها هذا أیضاً یقتضی ترک جمیع أفراد الطبیعة التی تعلّق بها النهی، فلو لم یترک جمیع الأفراد لما امتثل النهی، هو نهاه عن إیجاد صرف الطبیعة فی الخارج، ولازمه أنْ یترک جمیع الأفراد، نهاه عن الوجود الأوّل للطبیعة، ولازمه أنْ یترک کل الأفراد التی یتحققّ بإتیانها الوجود الأوّل للطبیعة، فلا فرق بینهما فی هذه الجهة. نعم، قد یفترقان فی شیءٍ آخر، یفترقان فی أنّ النهی عن الطبیعة بنحو صرف الوجود یقتضی ترک جمیع الأفراد العرضیة والطولیة من دون أنْ یُفرّق بین الأفراد العرضیة للطبیعة وبین الطولیة، النهی عن کل فرد من أفراد هذه الطبیعة بنحو صرف الوجود یقتضی ترکها، وذلک لأنّ کل فردٍ من هذه الأفراد، الأفراد العرضیة والأفراد الطولیة تحقق صرف وجودٍ للطبیعة، فإذا کان صرف الوجود للطبیعة منهی عنه، باعتبار وجود مفسدة فیه؛ لأنّ النهی ینشأ من مفسدةٍ فی المتعلّق؛ فحینئذٍ لابد من ترک کل فرد من أفراد الطبیعة، العرضیة والطولیة؛ إذ لا فرق فی تحقق صرف الطبیعة بوجود الفرد بین أنْ یکون الفرد من الأفراد الطولیة، أو یکون الفرد من الأفراد العرضیة، کل واحدٍ منها یحقق صرف وجود الطبیعة، والمفروض أنّ صرف وجود الطبیعة منهی عنه، فإذن: لابدّ من ترک جمیع الأفراد الطولیة والعرضیة.

ص: 347

وأمّا إذا فرضنا أنّ النهی یتعلّق بالوجود الأوّل للطبیعة، قالوا: أنّ هذا لا یقتضی إلاّ ترک الأفراد العرضیة التی یتحقق فیها الوجود الأوّل للطبیعة، وأمّا الأفراد الطولیة التی لا یتحقق فیها الوجود الأوّل للطبیعة، فالنهی عن الوجود الأوّل للطبیعة لا یقتضی ترکها، لو بقینا نحن ومجرّد أنّ هذا النهی یتعلّق بالوجود الأوّل للطبیعة، معنی أنّ النهی یتعلّق بالوجود الأوّل یعنی أنّ النهی لا یتعلّق بذات الطبیعة من دون قید، وإنّما یتعلّق بالطبیعة مع قید، وهذا القید هو الوجود الأوّل للطبیعة، فعندما یتعلّق النهی بالوجود الأوّل للطبیعة، فلابدّ من ترک الأفراد التی یتحقق فی کل واحدٍ منها الوجود الأوّل للطبیعة، ومن هنا اختلف هذا عن النهی المتعلّق بصرف الوجود، فالمنهی عنه هناک هو صرف الوجود، وصرف الوجود یتحقق بکل الأفراد الطولیة والعرضیة، بینما المنهی عنه هنا هو الوجود الأوّل للطبیعة، فکل ما یحقق الوجود الأوّل للطبیعة یکون منهیاً عنه، والذی یحقق الوجود الأوّل للطبیعة هو الأفراد العرضیة للطبیعة لا الأفراد الطولیة للطبیعة، أمّا أنّه له ثمرة عملیة، أو لیس له ثمرة عملیة، فهذا بحث لا ندخل فی تفاصیله، وإنّما نقتصر علی محل الکلام، ومحل الکلام هو أنّ الحکم إذا تعلّق بالطبیعة علی النحو الأوّل، أو علی النحو الثانی، وشککنا فی مصداقیة فردٍ لتلک الطبیعة الذی هو محل کلامنا ---------- الشبهة الموضوعیة ---------- فهل تجری البراءة مطلقاً، أو لا تجری البراءة مطلقاً، أو یفصّل ؟ بینما إذا کان الحکم أمراً ووجوبا فلا تجری البراءة، بینما إذا کان نهیاً وتحریماً، فتجری البراءة.

المعروف والمشهور هو التفصیل ---------- کما نقلنا سابقاً ----------- فی کلٍ من التقدیرین، سواء کان الحکم متعلّقاً بنحو صرف الوجود، أو کان متعلّقاً بالوجود الأوّل للطبیعة، إنْ کانت الشبهة وجوبیة لا تجری البراءة، وإنْ کانت الشبهة تحریمیة تجری البراءة. أمّا إذا کانت الشبهة وجوبیة وکان الحکم أمراً ووجوباً وشکّ فی مصداقیة فرد للطبیعة، قالوا: بأنّ البراءة لا تجری؛ لأنّ الشک فی کون هذا مصداقاً للطبیعة الواجبة بنحو صرف الوجود، أو بنحو الوجود الأوّل للطبیعة، أو لیس مصداقاً، هذا الشکّ لیس شکّاً فی التکلیف، ولیس شکّاً فی حدود التکلیف وقیوده حتّی تجری فیه البراءة؛ لأنّ التکلیف الوجوبی متعلّق ---------- بحسب الفرض ---------- بسنخ وجود الطبیعة، أو متعلّق بالوجود الأوّل للطبیعة، وهذا التکلیف معلوم بحدوده وقیوده ولاشکّ فیه، مجرّد أنّ المکلّف یشکّ فی أنّ هذا مصداق لصرف الوجود، أو مصداق للوجود الأوّل للطبیعة، أو لا بنحو الشبهة الموضوعیة، هذا لا یعنی الشکّ، ولا یلازم الشکّ فی التکلیف، وفی حدوده وقیود، التکلیف متعلّق بصرف الوجود، أمر واضح لاشکّ فیه، وافتراض أنّ هذا المشکوک من أفراد الطبیعة واقعاً، هذا لا یوجب زیادة فی التکلیف، أن یثبت هناک تکلیف آخر غیر ما عُلم، ولا یوجب سعة فی حدود هذا التکلیف وقیوده؛ بل کما تقدّم سابقاً لا یوجب سعة حتی فی دائرة محرکیة هذا التکلیف التی یقتضیها التکلیف، المحرکیة التی یقتضیها التکلیف، افتراض أنّ هذا الفرد المشکوک هو مصداق للطبیعة واقعاً لا یوجب زیادة فی دائرة هذه المحرکیة؛ لأنّ التکلیف یُحرک نحو متعلقه، ومتعلّقه هو صرف الوجود، ویکفی فی هذا التحریک وفعلیة هذا التحریک وجود فرد واحد للطبیعة، وافتراض وجود فرد آخر غیر ذلک الفرد لا یعنی فعلیة جدیدة ولا یعنی تحریکا جدیداً، وإنّما یعنی کما ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) سابقاً یعنی سعة فی دائرة التخییر العقلی بین الأفراد المتساویة، باعتبار نسبتها وعلاقتها بالطبیعة المأمور بها، السعة فی دائرة التخییر العقلی یعنی أنت مخیّر بین هذا الفرد وذاک الفرد، وإلاّ لا یکون ذلک موجباً لثبوت تکلیفٍ آخر یتعلّق بهذا الفرد، ولا تغییر سعة فی حدود التکلیف ولا سعة فی محرکیّة التکلیف، التکلیف یحرّک نحو متعلّقه، ومتعلّقه هو صرف الوجود، أو الوجود الأوّل للطبیعة، فإذا سلّمنا أنّ الشک فی أنّ هذا مصداق للطبیعة، أو لیس مصداقاً للطبیعة الواجبة أنّ هذا لا یوجب الشکّ فی التکلیف، ولا یوجب الشکّ فی حدود وقیود التکلیف ولا یوجب الشکّ فی سعة دائرة محرکیة التکلیف؛ فحینئذٍ لا یکون هذا مورداً لقاعدة البراءة؛ لأنّ المیزان فی جریان البراءة هو أنْ یکون الشکّ فی الموضوع یستلزم الشکّ إمّا فی أصل التکلیف، أو الشکّ فی حدود التکلیف، أو الشکّ فی محرکیة التکلیف نحو هذا الفرد، سعة دائرة المحرکیة، فإذا کان لا یوجب هذا الشک؛ فحینئذٍ لا یکون المورد مورداً لجریان البراءة؛ بل یتعیّن جریان الاشتغال، باعتبار أنّ الشکّ فی الواقع وفی الحقیقة إنّما هو فی الامتثال، باعتبار أنّ التکلیف تعلّق بصرف الوجود، وهذا أمر واضح ولاشکّ فیه، واشتغلت به الذمة، فلابدّ من الخروج عن عهدته یقیناً، ولا یقین بالخروج عن عهدته إلاّ إنْ یقتصر علی الأفراد المعلومة، أنْ لا یکتفی فی امتثال التکلیف بالفرد المشکوک؛ بل لابدّ أنْ یأتی بالأثر بالمعلوم کونه مصداقاً لصرف الوجود، أو کونه مصداقاً للوجود الأوّل للطبیعة؛ فلابدّ من الاحتیاط، ولابدّ من ترک الفرد المشکوک وعدم الإتیان به وعدم الاکتفاء به فی مقام امتثال التکلیف المعلوم. هذا إذا کانت الشبهة وجوبیة.

ص: 348

وأمّا إذا کانت الشبهة تحریمیة، قالوا بالعکس، إذا کانت الشبهة تحریمیة، هنا تجری البراءة ولا تصل النوبة إلی الاشتغال، وذلک باعتبار أن الشکّ فی فردیة فردٍ للطبیعة فی الشبهة التحریمیة تجری البراءة؛ باعتبار أنّ الحرمة وإنْ کانت واحدة، التکلیف والحکم وإن کان واحداً هی حرمة واحدة متعلّقة بصرف وجود الطبیعة، أو حرمة واحدة متعلّقة بالوجود الأوّل للطبیعة، لکن لا إشکال فی أنّ هذه الحرمة الواحدة تقتضی ترک جمیع أفراد هذه الطبیعة التی یتحقق فیها صرف الوجود، أو تکون محققة للوجود الأوّل للطبیعة المنهی عنه بحسب الفرض، النهی عن الطبیعة یقتضی ترک جمیع الأفراد. إذن: هذه حرمة واحدة، لکن تقتضی محرکیة نحو جمیع الأفراد بترکها، فإذا کانت الأفراد المعلومة عشراً، فهی تقتضی التحریک نحو ترک کل فردٍ فرد من هذه الأفراد، هذه المحرکیة یقتضیها طبیعة التکلیف وهو النهی عندما یتعلّق بذات الطبیعة وبالوجود الأوّل للطبیعة، وإذا کانت الأفراد أحد عشر أیضاً تقتضی أن تتسع هذه المحرکیات، فالشکّ فی أنّ هذا الفرد مصداق للطبیعة، أو لیس مصداقاً للطبیعة یلازم الشکّ فی سعة دائرة المحرکیة، وضیقها، أنّ هذا التکلیف هل یقتضی التحریک نحو عشرة أفراد فقط وهی الأفراد المعلوم کونها مصداقاً الطبیعة ؟ أو یقتضی المحرکیة نحو ما هو أزید من ذلک ؟ علی تقدیر أنْ یکون هذا الفرد المشکوک مصداقاً للطبیعة فتتسع دائرة المحرکیة، وعلی تقدیر عدم کونه مصداقاً، فلا تتسع دائرة المحرکیة. إذن: الشکّ فی أنّ هذا مصداق، أو لا، هو شکّ فی سعة دائرة المحرکیة التی یقتضیها التکلیف وعدم سعته، وقلنا بأنّ هذا میزان یکفی لجریان البراءة وإنْ کان التکلیف واحداً لا تعدد فیه، وهذا المیزان متحقق حینئذٍ فی هذا المورد ولازم ذلک هو جریان البراءة. هذا بالنسبة إلی النحو الأوّل الذی عممّناه إلی ما إذا کان الحکم متعلّق بالطبیعة بنحو صرف الوجود، أو متعلّق بالوجود الأوّل للطبیعة، وقلنا بأنّه قد تکون هناک فوارق حقیقیة بین هذین القسمین، لکنّهما بلحاظ محل الکلام لا فرق بینهما، فإن قلنا بجریان البراءة فی الشبهة التحریمیة؛ فحینئذٍ تجری البراءة فی الشبهة التحریمیة فی کل منهما. وإن قلنا بعدم جریان البراءة فی الشبهة التحریمیة أیضاً نقول بعدم جریان البراءة فی کلٍ منهما.

ص: 349

النحو الثانی: أنْ یُفترض تعلّق الحکم بالطبیعة التی تؤخذ فی الحکم بنحو مطلق الوجود، بحیث یکون المتعلّق للحکم هو تمام الأفراد بنحو العموم الاستغراقی. هنا الحکم واضح وهو جریان البراءة، باعتبار أنّ الطبیعة عندما یتعلّق بها الحکم بنحو العموم الاستغراقی لازم ذلک هو انحلال الحکم بعدد أفراد تلک الطبیعة من دون فرق بین أنْ یکون الحکم إیجاباً والشبهة وجوبیة، أو یکون تحریماً والشبهة تحریمیة، علی کلا التقدیرین هناک وجوبات متعددة بعدد الأفراد، أو تحریمات متعددة بعدد الأفراد، وبناءً علی ذلک إذا شُکّ فی کون فردٍ من الأفراد، فی کون شیء مصداقاً للطبیعة المأمور بها بنحو مطلق، أو مصداقاً للطبیعة المنهی عنها بنحو مطلق الوجود؛ فحینئذٍ یکون ذلک شکّاً فی التکلیف، وهذا التکلیف علی تقدیر أنْ یکون المشکوک هو من أفراد الطبیعة، هو تکلیف مستقل یتعلّق بهذا الفرد؛ لأننّا فرضنا الانحلال فی الحکم، والانحلال یعنی أنّ هناک أحکاماً متعددة، وجوبات متعددة بعدد أفراد الطبیعة، فکل حکم له عصیان خاص وله إطاعة خاصّة به ولا یرتبط عصیانه، أو إطاعته بإطاعة، أو عصیان الفرد الآخر، وهذا هو معنی أنّ الحکم مستقل. إذن: کل فردٍ له حکم مستقل، فإذا شُک فی فردیة فرد، فهذا معناه الشکّ فی الحکم المستقل، فالشک یکون فی التکلیفی، ومعه تجری البراءة بلا إشکال.

النحو الثالث: أنْ یُفترض تعلّق الحکم بتمام أفراد الطبیعة، لکن بنحو الارتباط، بحیث یکون الحکم متعلّق بجمیع أفراد الطبیعة بنحو العموم المجموعی، لا بنحو العموم الاستغراقی کما فی النحو الثانی. هنا التکلیف واحد، ولا یوجد تعدد فی التکلیف کما فی النحو الثانی، التکلیف واحد، لکن یتعلق بمجموع الأفعال، سواء کان نهیاً، أو کان أمراً، أمر واحد یتعلّق بمجموع الأفعال، نهی واحد یتعلّق بمجموع الأفعال. هنا قالوا: لا إشکال فی جریان البراءة إ ذا کان الحکم وجوباً وکانت الشبهة وجوبیة وکان الوجوب متعلّق بتمام أفراد الطبیعة علی نحو العموم المجموعی، ومثّلنا له سابقاً بما إذا أوجب أکرام العلماء وکان مقصوده من العلماء مجموع العلماء. هذا تکلیف واحد، ولیس تکلیفاً انحلالیاً، وإنّما تکلیف واحد لا انحلال فیه یتعلّق بمجموع الأفراد، فإذا شککنا فی شخص أنّه عالم حتّی یجب إکرامه، أو لیس عالماً حتّی لا یجب إکرامه، قالوا: تجری البراءة وتؤمّن من ناحیة وجوب إکرامه، باعتبار أنّ الشکّ فی المقام وإن لم یکن شکّاً فی تکلیفٍ مستقل، کما فی النحو الثانی، لکنّه شکّ فی التکلیف الضمنی الذی یتعلّق بکل فرد من أفراد ذلک المجموع، أو فلنعبّر بالتعبیر الذی عبّرنا به سابقاً وهو أنّه شکّ فی سعة دائرة المحرّکیة وضیقها. علی تقدیر أنْ یکون هذا الفرد المشکوک لیس عالماً، فذاک التکلیف المتعلّق بالمجموع لا یحرّک نحو إکرامه، لکن علی تقدیر أنْ یکون عالماً فی الواقع، فذلک التکلیف یحرّک نحو إکرامه؛ لأنّ التکلیف الواحد المتعلّق بإکرام مجموع العلماء هو یحرّک نحو إکرام کل واحد واحد من أفراد العلماء، لکنّ هذا التحریک ضمنی ولیس تکلیفاً مستقلاً، فعلی تقدیر أنْ یکون هذا المشکوک عالماً، فنفس التکلیف یحرّک نحو إکرامه، وإنْ لم یکن عالماً، فلا یحرّک نحو إکرامه. إذن: الشکّ فی کونه عالماً یعنی الشکّ فی وجود تحریک نحوه یقتضیه نفس التکلیف، أو عدم وجود تحریک، یعنی فی سعة دائرة المحرّکیة وضیقها، فینطلق المیزان السابق؛ وحینئذٍ تجری البراءة.

ص: 350

هذا فی الحقیقة یدخل فی کبری دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین، والظاهر أنّ المتأخرین متّفقون علی جریان البراءة فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین إذا کانت الشبهة وجوبیة، ونحن فعلاً تکلّمنا فی الشبهة الوجوبیة. أمّا إذا کانت الشبهة تحریمیة، فهناک خلاف فی جریان البراءة وعدمه.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

کان الکلام فی النحو الثالث: وهو ما إذا کان الحکم متعلّقاً بتمام الأفراد علی نحو الارتباط بنحو العموم المجموعی. هنا إذا کانت الشبهة وجوبیة، فلا إشکال عندهم فی جریان البراءة عند الشکّ فی مصداقیة فردٍ للعنوان بنحو الشبهة الموضوعیة، باعتبار أنّ هذا شکّ فی التکلیف، ولو کان شکّاً فی التکلیف الضمنی، وشکّاً أیضاً فی سعة دائرة المحرّکیة وضیقها، وقالوا أنّ هذه المسألة تدخل فی کبریدوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین، ومشهور المتأخرین ذهبوا إلی جریان البراءة لنفی الزائد علی الأقل، یعنی البراءة عن وجوب الأکثر.

الکلام فی الشبهة التحریمیة: ---------- مثلاً --------- نفترض أنّ المفسدة التی ینشأ منها النهی کانت موجودة وقائمة فی مجموع الأفعال بنحو الارتباط لا بکل فعلٍ من هذه الأفعال، وإنّما مجموع الأفعال فیها مفسدة، فیتعلّق النهی بمجموع هذه الأفعال، للتوضیح: لو فرضنا ----------- مثلاً ----------- من قبیل النهی عن أکل السمک، وشرب اللّبن، یتعلّق النهی بمجموع الأفعال لا بکل واحدٍ واحدٍ منها، امتثال هذا النهی المتعلّق بمجموع الأفعال یتحققّ بترک واحدٍ من هذه الأفعال، فإذا ترک واحدٍ من هذه الأفعال یکون قد امتثل النهی حتّی إذا فعل الباقی، المهم أنْ یترک المجموع، وترک المجموع یتحقق بترک واحدٍ من هذا المجموع. أمّا عصیان النهی فیتوقّف علی ترک الجمیع، فلا یکون عاصیاً إلاّ إذا ترک الجمیع، وأمّا إذا ترک المعظم وجاء بالبعض، فلا یکون عاصیاً؛ بل یکون ممتثلاً. والکلام هو فی ما إذا شُکّ فی مصداقیة فردٍ لمتعلّق التکلیف، فی مثل هذه الحالة؛ حینئذٍ یقال: هل یکفی فی امتثال النهی ترک هذا الفرد المشکوک، حتّی إذا جاء بتمام الأفراد الأخری، أو لا ؟ هل الفرد المشکوک کالفرد الذی یُعلم کونه مصداقاً للمتعلّق فی أنّ ترکه یحقق امتثال النهی ولو جاء بباقی الأفراد، أو لا یجوز له الاکتفاء بترک الفرد المشکوک والمجیء بسائر الأفراد الأخری ؟

ص: 351

بعبارةٍ أخری: هل یجوز للمکلّف أنْ یرتکب جمیع الأفراد المعلومة ------------ والمقصود من کونها معلومة یعنی معلوم کونها مصداقاً لمتعلّق النهی -------------- والاکتفاء فی امتثال النهی بترک الفرد المشکوک استناداً إلی البراءة، باعتبار عدم العلم بحرمة فعل الأفراد المعلومة، أی لا یعلم بحرّمة المجموع، فیجوز له ارتکابها جمیعاً استناداً إلی البراءة، أمّا لماذا لا یعلم بحرمة الأفراد المعلومة ؟ فذلک لأنّه یحتمل أنْ یکون هذا الفرد المشکوک مصداقاً للعنوان، ومصداقاً لمتعلّق التکلیف، وإذا کان مصداقاً لمتعلّق التکلیف، جاز له ارتکاب الأفراد المعلومة وترک هذا الفرد الذی فُرض کونه مصداقاً للعنوان المتعلّق به التکلیف، هذا یجعله فی حالة شکٍّ فی أنّه هل یحرم علیه ارتکاب الأفراد المعلومة، أو لا یحرم علیه ؟

إذن: هو یشکّ فی حرمة ارتکاب الأفراد المعلومة، فتجری البراءة للتأمین من ناحیة هذه الحرمة، أو أنّ البراءة هل تجری للتأمین من ناحیة حرمة ارتکاب الأفراد المعلومة والاکتفاء بترک الفرد المشکوک وبهذا یکون قد امتثل النهی المتعلّق بالمجموع، هل یجوز له ذلک، أو لا یجوز له ذلک ؟ بل لابدّ من ترک واحدٍ من الأفراد المعلومة حتّی یکون ممتثلاً للنهی المتعلّق بالمجموع، ولا یجوز له الاکتفاء بترک الفرد المشکوک مع ارتکاب الأفراد المعلومة، هذا محل الکلام.

هنا یوجد رأیان:

الرأی الأوّل: أنّ هذا یکون مورداً لجریان البراءة، أنّ دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین فی الشبهات التحریمیة هو حاله حال دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین فی الشبهات الوجوبیة، کما تجری البراءة هناک تجری البراءة فی محل الکلام، وعلیه، فیجوز للمکلّف ارتکاب جمیع الأفراد المعلومة والاکتفاء بترک الفرد المشکوک، باعتبار أنّ هذا الشکّ کما قلنا وقالوا یرجع إلی الشکّ فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین، والمختار فی تلک المسألة هو جریان البراءة فی کلٍ من الشبهة فی باب الواجبات وفی باب المحرّمات، غایة الأمر أنّ البراءة فی الشبهة الوجوبیة تجری لنفی وجوب الأکثر، أو نعبّر عنه وجوب الزائد، کالسورة التی یحتمل وجوبها فی الصلاة، فیدور الأمر بین الأقل والأکثر، فتجری البراءة لنفی وجوب الأکثر، باعتبار أنّ الأکثر هو الذی یُشکّ فی وجوبه، بینما الأقلّ فی الشبهات الوجوبیة لاشکّ فی وجوبه؛ بل هو معلوم الوجوب علی کلّ حال، سواء کانت السورة واجبة، أو لم تکن واجبة، الأقل معلوم الوجوب، فلا تجری فیه البراءة، الأکثر هو الذی یُشکّ فی وجوبه، فتجری فیه البراءة، فی حین أنّ البراءة فی الشبهة التحریمیة تجری لنفی حرمة الأقل، والأقلّ هو الأفراد المعلوم کونها مصداقاً للحرام، والأکثر هو عبارة عن مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشکوک، هنا تجری البراءة لنفی حرمة الأقل، باعتبار أنّ هذه الحرمة هی التی یُشکّ فیها، لا یعلم أنّ مجموع الأفراد المعلومة هل یحرم ارتکابها، أو لا ؟ لا یقین بحرمة ارتکاب مجموع الأفراد المعلومة؛ لأنّه إذا کان المشکوک مصداقاً للعنوان المأخوذ فی الدلیل لمتعلّق التکلیف لا یحرم ارتکاب مجموع الأفراد المعلومة، وإنّما الحرام هو ارتکاب مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشکوک، علی تقدیر أنْ یکون الفرد المشکوک مصداقاً واقعیاً لمتعلّق التکلیف، علی هذا التقدیر لا یحرم ارتکاب جمیع الأفراد المعلومة؛ بل یجوز له أنْ یرتکب جمیع الأفراد المعلومة ویترک هذا الفرد. نعم، علی تقدیر أنْ لا یکون الفرد المشکوک مصداقاً لمتعلّق التکلیف تتعلّق الحرمة بمجموع الأفراد المعلومة، هی التی یحرم فعلها. إذن: هو یشکّ فی حرمة ارتکاب الأفراد المعلومة الذی نعبّر عنه بالأقل، فیکون الأقل مشکوک الحرمة، فتجری فیه البراءة، بینما الأکثر یکون معلوم الحرمة عکس الشبهة الوجوبیة، حیث فی الشبهة الوجوبیة کان معلوم الوجوب هو الأقل، أمّا الأکثر فهو مشکوک الوجوب، وفی الشبهة التحریمیة یکون الأقل مشکوک الحرمة، والأکثر معلوم الحرمة، لماذا الأکثر معلوم الحرمة ؟ لأنّ الأکثر قطعاً حرام، إمّا لأنّه حرام لنفسه، وإمّا لاشتماله علی الحرام، فإمّا هو حرام بحرمةٍ استقلالیةٍ لنفسه فیما لو لم یکن الفرد المشکوک مصداقاً لمتعلّق التکلیف، فإذا لم یکن مصداقاً، فأنّ مجموع الأفراد المعلومة یکون مُحرّماً بحرمةٍ استقلالیة لنفسه. نعم، علی تقدیر أنْ یکون الفرد مصداقاً للحرام الواقعی، للعنوان لمتعلّق التکلیف، فالأکثر الذی هو مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشکوک یکون حراماً باعتبار اشتماله علی الحرام؛ لأنّ الفرد المشکوک لیس مصداقاً لمتعلّق التکلیف بحسب الفرض، لکن الأکثر یکون حراماً لاشتماله علی الأقل الذی هو حرام بحسب الفرض.

ص: 352

إذن: الأکثر حرام علی کل تقدیر، سواء کان هذا مصداقاً للطبیعة، أو لیس مصداقاً للطبیعة، فإذا کان مصداقاً، فالأکثر حرام لنفسه بحرمةٍ استقلالیة، وإذا لم یکن مصداقاً، فالأکثر حرام لأنّه یشتمل علی الحرام وهو الأقل، فإذن: الأکثر یکون معلوم الحرمة، فلا تجری فیه البراءة، بینما الأقل هو الذی یکون مشکوک الحرمة، فتجری البراءة لنفی حرمة الأقل، والأقل هو عبارة عن مجموع الأفراد المعلومة، وبهذا یصل إلی هذه النتیجة: أنّ المکلّف فی هذه الحالة بإمکانه أنْ یرتکب جمیع الأفراد المعلومة ویکتفی بترک الفرد المشکوک؛ لأنّه یشکّ فی حرمة الأقل، یعنی یشکّ فی حرمة مجموع الأفراد المعلومة، فتجری البراءة؛ لأنّه شکّ فی التکلیف، والبراءة تجری عند الشکّ فی التکلیف.

الرأی الثانی: لا تجری البراءة فی المقام؛ بل المقام مجری لقاعدة الاشتغال بخلاف الشبهة الوجوبیة، فی الشبهة الوجوبیة تجری البراءة لکن فی المقام لا تجری البراءة، وإنّما تجری قاعدة الاشتغال، وذلک باعتبار أنّ البراءة الجاریة لنفی وجوب الأکثر فی الشبهة الوجوبیة لا تُعارض بالبراءة فی وجوب الأقل، فتجری البراءة لنفی وجوب الأکثر بلا معارضة، باعتبار أنّ الأقل معلوم الوجوب تفصیلاً؛ إذ عند دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر فی الشبهة الوجوبیة یکون الأقل معلوم الوجوب علی کل حال، سواء کانت السورة واجبة، أو لم تکن واجبة، ومع العلم التفصیلی بوجوب الأقل؛ حینئذٍ لا تجری فیه البراءة، فتجری البراءة لنفی وجوب الأکثر بلا معارض، فیُلتزم بجریان البراءة فی الشبهة الوجوبیة لنفی وجوب الأکثر.

وبعبارة أخری: عند الشکّ فی وجوب السورة یحصل لدینا علم إجمالی بأنّه إمّا أنّ الأقل واجب، أو أنّ الأکثر واجب، هذا العلم الإجمالی منحل بالعلم التفصیلی بوجوب الأقل علی کلّ حال، فإذا أنحل العلم الإجمالی یکون الشکّ فی وجوب الأکثر شکّاً بدویاً لا مانع من جریان البراءة فیه عن وجوب الأکثر.

ص: 353

یقول صاحب هذا الرأی: أنّ هذا فی الشبهة الوجوبیة، لکن الأمر ینعکس فی الشبهة التحریمیة، وذلک باعتبار أنّ البراءة التی یُراد إجراؤها لنفی حرمة الأقل، ولغرض إثبات جواز الاکتفاء بترک الفرد المشکوک، هذه البراءة معارضة بالبراءة فی الأکثر؛ لأننّا کما لا علم لنا بحرمة الأقل، حیث نحتمل أنّه حرام ونحتمل أنّه لیس حراماً، فلا علم لنا بحرمة مجموع الأقل؛ لأنّه علی تقدیر أنْ یکون هذا مصداقاً للفرد المشکوک، الأقل لا یکون حراماً، کما لا علم لنا بحرمة الأقل، کذلک لا علم لنا بحرمة الأکثر بما هو أکثر. نعم، نعلم بحرمته باعتبار اشتماله علی أحد التقدیرین علی الحرام، لکن الأکثر بما هو أکثر فی مقابل الأقل لا علم لنا بحرمته؛ لأنّه علی تقدیر أنْ یکون الفرد المشکوک لیس مصداقاً، فلا حرمة للأکثر، ولا حرمة لمجموع الأفعال المؤلّفة من الأفراد المعلومة والفرد المشکوک؛ لأنّ الفرد المشکوک لیس مصداقاً لمتعلّق التکلیف. نعم، علی تقدیر أنْ یکون مصداقاً یکون الأکثر حراماً. إذن: الأکثر بما هو أکثر فی مقابل الأقل لا علم بحرمته أیضاً، فتجری البراءة فی الأکثر کما تجری فی الأقل، وبهذا تکون البراءة التی یُراد إجراؤها لنفی حرمة الأقل معارضة بالبراءة لنفی حرمة الأکثر، باعتبار أنّ کلاً منهما مشکوک الحرمة؛ فحینئذٍ تجری فیهما البراءة وتکون معارَضة، فکیف یقال بأننّا نجری البراءة لننفی وجوب الأقل ونرتّب علی ذلک أنّه یجوز له أنْ یکتفی بترک الفرد المشکوک، البراءة لا تجری فی الأقل؛ لأنّها معارَضة بالبراءة فی الأکثر، وما تقدّم فی الرأی الأوّل من أنّ الأکثر معلوم الحرمة، إمّا لنفسه، وإمّا لاشتماله علی الحرام الذی هو الأقل، هذا فی الحقیقة هو عبارة أخری عن العلم الإجمالی بحرمة إمّا الأقل، أو الأکثر ولیس شیئاً آخر؛ لأنّ حرمة الأکثر لنفسه هی عبارة عن حرمة الأکثر، أحد طرفی العلم الإجمالی، وحرمة الأکثر لاشتماله علی الحرام هی عبارة عن حرمة الأقل التی هی أیضاً الطرف الآخر للعلم الإجمالی، فهو یعلم إمّا بحرمة الأکثر، وإمّا بحرمة الأقل، کما أنّ الأقل مشکوک وغیر معلوم الحرمة، کذلک الأکثر بحدّه أیضاً وبما هو أکثر مشکوک وغیر معلوم الحرمة، وعلیه: لا تجری البراءة؛ لأنّها معارَضة بالبراءة فی الطرف الآخر، وبهذا یکون العلم الإجمالی منجّزاً، فلا یجوز ارتکاب الأقل؛ بل لابدّ من ترک أحد الأفراد المعلومة حتّی یتحقق بذلک امتثال النهی المتعلّق بالمجموع، ولا یجوز له أنْ یکتفی فی امتثاله بترک الفرد المشکوک، والاتیان بالأفراد المعلومة؛ لأنّه إذا فعل ذلک لا یحرز امتثال التکلیف؛ لأنّ إحراز امتثال هذا التکلیف لا یکون إلاّ بترک أحد الأفراد المعلومة، وبذلک یکون قد امتثل التکلیف قطعاً، أمّا إذا اکتفی بترک الفرد المشکوک فأنّه لا یحرز امتثال هذا التکلیف. هذان رأیان فی هذه المسألة.

ص: 354

الذی یُلاحظ علی الرأی الأوّل الذی یقول بجریان البراءة لنفی حرمة الأقل وجواز الاکتفاء فی الامتثال بترک الفرد المشکوک، ویقول أیضاً بأنّ البراءة تجری فی الشبهة الوجوبیة، وتجری أیضاً فی الشبهة التحریمیة، وإنْ کان هناک فرق، أنّ البراءة فی الشبهة الوجوبیة تجری لنفی وجوب الأکثر، بینما فی الشبهة التحریمیة تجری لنفی الحرمة الأقل، یُلاحظ علیه أنّ جریان البراءة فی الشبهة الوجوبیة واضح إنّما هو باعتبار أنّ الأقل متیقّن الوجوب، فلا تجری فیه البراءة، فتجری البراءة لنفی وجوب الأکثر.

وحینئذٍ نسأل لماذا الأقل متیقّن الوجوب ؟ وما معنی أنّ الأقل متیقّن الوجوب ؟

الجواب: أنّه متیقّن الوجوب إمّا لنفسه، یعنی إمّا بوجوب نفسی استقلالی متعلّق به، أو بوجوب ضمنی متعلّق به، هذا هو معنی أنّ الأقل متیقّن الوجوب، فلا تجری فیه البراءة، فتجری البراءة لنفی وجوب الأکثر، هذا فی الشبهة الوجوبیة. الأقل متیقّن الوجوب لأنّه علی تقدیر أنْ تکون السورة واجبة یکون وجوب الأقل وجوباً ضمنیاً، ولیس وجوباً استقلالیاً، وعلی تقدیر أنْ تکون السورة غیر واجبة فی الواقع یکون وجوب الأقل وجوباً استقلالیاً؛ لذا فهو متیقّن الوجوب؛ لأنّه إمّا أنْ یکون واجباً بوجوبٍ نفسیٍ استقلالیٍ، وإمّا أنْ یکون واجباً بوجوبٍ ضمنی، فمن هذه الجهة یکون متیقّن الوجوب، فلا تجری فیه البراءة، بخلاف الأکثر، فأنّه یکون مشکوک الوجوب کما هو واضح فی الشبهة الوجوبیة؛ لأنّ المکلّف لا یعلم أنّ السورة واجبة، أو لا. وبعبارة أخری: لا یعلم بأنّه هل یجب علیه مجموع الأفعال العشرة، أو خصوص التسعة، إذن: الأکثر ---------- العشرة مع السورة ----------- لیس معلوم الوجوب، فتجری فیه البراءة، بینما الأقل متیقن الوجوب. هذا المعنی الموجود فی الشبهة الوجوبیة الذی سمح لنا بإجراء البراءة لنفی وجوب الأکثر، باعتبار أنّ وجوب الأقل متیقن، نفسه یمکن إجراؤه فی الشبهة التحریمیة، وذلک بأنْ یقال بأنّ الأقل متیقن الحرمة، کما أنّ الأقل فی الشبهة الوجوبیة کان متیقن الحرمة نستطیع أنْ نقول أنّ الأقل فی الشبهة التحریمیة متیقّن الحرمة، إمّا استقلالاً فی ما إذا لم یکن الفرد المشکوک مصداقاً لمتعلّق التکلیف للحرام یکون حراماً بحرمةٍ استقلالیةٍ، وإمّا ضمناً، علی تقدیر أنْ یکون الفرد المشکوک مصداقاً للحرام، فحرمة مجموع الأقل علی هذا التقدیر حرمة ضمنیة، الحرمة متعلّقة بمجموع عشرة أفعال، حرمة تسعة من هذه الأفعال هی حرمة ضمنیة ولیست حرمة استقلالیة.

ص: 355

إذن: نستطیع أنْ نقول أنّ الأقل معلوم الحرمة علی کل حال، إمّا بحرمةٍ استقلالیةٍ، أو بحرمةٍ ضمنیةٍ، کما قیل ذلک فی الشبهة الوجوبیة وطُبّق علی الأقل، وقیل بأنّ الأقل متیقن الحرمة، إمّا بحرمةٍ استقلالیةٍ، أو حرمة ضمنیة، یمکن تطبیق ذلک علی الأقل فی الشبهة التحریمیة؛ لأنّ الأقل إمّا حرام لنفسه فی الشبهة التحریمیة علی تقدیر أنْ لا یکون الفرد المشکوک مصداقاً، وإمّا حرام ضمناً علی تقدیر أنْ یکون الفرد المشکوک مصداقاً. إذن: هو معلوم الحرمة علی کلّ حال، فکیف تجری فیه البراءة ؟

بعبارةٍ أخری: ما هو الفرق الحقیقی الدقیق بین الشبهة الوجوبیة وبین الشبهة التحریمیة ؟ ولماذا عکستم الأمر، فقلتم فی الشبهة الوجوبیة تجری البراءة لنفی وجوب الأکثر؛ لأنّ الأقل متیقن الوجوب؛ لأنّه إمّا واجب بوجوبٍ استقلالی، أو واجب بوجوبٍ ضمنی، نفس هذا الکلام یمکن تطبیقه علی الشبهة التحریمیة، وعلی الأقل فی الشبهة التحریمیة؛ لأنّ الأقل أیضاً معلوم الحرمة قطعاً، إمّا حرمة استقلالیة، وإمّا حرمة ضمنیة، بینما هو یرید أنْ یجری البراءة لنفی حرمة الأقل، هذا هو غرضه من إجراء البراءة، وبالتالی یجوّز للمکلّف ارتکاب ترک الفرد المشکوک.

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الرابع

کان الکلام فی ما إذا فرضنا تعلّق الحکم بأفراد الطبیعة علی نحو العموم المجموعی، کما إذا فرضنا أنّه أوجب إکرام مجموع العلماء، أو حرّم إکرام مجموع العلماء، هنا فی ما إذا کانت الشبهة وجوبیة وکان الحکم إیجاباً قلنا هنا اتفق المتأخرون علی جریان البراءة عند الشکّ فی فردٍ أنّه من هذه الأفراد التی أوجب إکرام المجموع فیها، أو لیس من هذه الأفراد، کما لوشکّ فی فردٍ أنّه عالم، أو لا ؟ هنا اتفقوا علی جریان البراءة.

ص: 356

وأمّا فی الشبهة التحریمیة إذا کان الحکم نهیاً، هنا اختلفوا، ونقلنا رأیین:

الرأی الأوّل: یقول بجریان البراءة، والمقصود هو جریان البراءة لنفی حرمة الأقل، ونتیجة جریان البراءة هو جواز ارتکاب الأفراد المعلوم کونها من أفراد العالم وترک الفرد المشکوک کونه عالماً، أو لا؛ وهذا معناه أنّه لا یحرم علیک ارتکاب الأقل، والأقل هو عبارة عن مجموع الأفراد المعلومة، فیجوز له ارتکابها والاکتفاء بترک المشکوک.

الرأی الثانی: یقول أنّ المورد من موارد قاعدة الاشتغال لا البراءة، وبیّنّا فی الدرس السابق ما هو الوجه فی کلٍ منهما، وذکرنا فی الدرس السابق ملاحظة علی الرأی الأوّل. الآن نذکر ملاحظة علی الرأی الثانی الذی یقول أنّ المورد هو من موارد قاعدة الاشتغال، باعتبار أنّه لا علم بحرمة الأکثر بما هو أکثر، کما لا علم بحرمة الأقل، فتکون البراءة الجاریة فی أحدهما معارَضة بالبراءة الجاریة فی الآخر.

الملاحظة علی الرأی الثانی: أنّ الأکثر وإنْ کان لا علم بحرمته بما هو أکثر؛ لأنّه علی تقدیر أنْ یکون الفرد المشکوک لیس عالماً، فلا حرمة للأکثر، یعنی لا حرمة لارتکاب مجموع الأفراد المعلومة والفرد المشکوک، هذا المجموع لا حرمة لفعله علی تقدیر أنْ یکون هذا عالماً. نعم، علی تقدیر أنْ لا یکون عالماً لا حرمة للفعل الأکثر، وإنّما الحرمة تکون لخصوص الأقلّ، فعل الأقل یکون حراماً إذا لم یکن هذا الفرد المشکوک عالماً. نعم، إذا کان عالماً؛ حینئذٍ یحرم الأکثر، فصحیح أنّ الأکثر بما هو أکثر لا علم بحرمته، لکن من الواضح أنّ البراءة إنّما تجری فی موردٍ لأجل التأمین من ناحیة العقاب وإثبات السعة، وإطلاق العنان، وهذا یعنی أنّ البراءة لا یمکن أنْ تجری فی الأکثر الذی هو محل الکلام، وإنَ کان الأکثر لا علم بحرمته بما هو أکثر، لکننا نعلم یقیناً وعلی وجه الجزم بأنّ هناک استحقاق العقاب علی تقدیر الفعل الأکثر علی کل حال، وعلی کل تقدیر، سواء کان الفرد المشکوک عالماً فی الواقع، أو لم یکن عالماً، علی کلا التقدیرین ارتکاب الأکثر یکون موجباً لاستحقاق العقاب جزماً، یعنی بلا إشکال إذا ارتکب الأفراد المعلومة، أکرم العلماء المعلوم کونهم علماء، وأکرم الفرد الذی یشک فی کونه عالماً، معناه أنّ هذه مخالفة قطعیة للتکلیف، أی للنهی عن إکرام مجموع العلماء؛ لأنّه قطعاً خالف هذا التکلیف، هذه مخالفة قطعیة للتکلیف، فکیف یمکن أنْ یقال بجریان البراءة فیها لمجرّد أننّا لا نعلم بأنّ الأکثر بما هو أکثر حرام، فنجری البراة فی الأکثر کما نجریها فی الأقل مع أنّ الأکثر یُعلم بترتب استحقاق العقاب علی فعله، علی کل التقادیر، وعلی کل حال ارتکاب الأکثر موجب لاستحقاق العقاب، ومع العلم والجزم بأنّ هذا الفعل ارتکابه یوجب استحقاق العقاب، کیف یمکن إجراء البراءة والتأمین من ناحیة العقاب ؟! جریان البراءة فی الأکثر یعنی تجویز المخالفة القطعیة للتکلیف، بعکس الأقل، جریان البراءة فی الأقل وتجویز ارتکاب الأقل لیس فیه مخالفة قطعیة للتکلیف؛ لأنّ التکلیف من المحتمل أنْ یکون متعلّقاً بالأکثر، والحرمة متعلّقة بالأکثر، ومعه یجوز ارتکاب الأقل، أی یجوز إکرام مجموع العلماء المعلوم کونهم علماء والاکتفاء بترک ذلک الفرد، فارتکاب الأقل لا یُعلم بترتب العقاب علیه، ولا یُعلم بکونه مخالفة قطعیة للتکلیف؛ فلذا لا مانع من جریان البراءة فیه، بینما الأکثر یُعلم بأنّ ارتکابه یترتب علیه استحقاق العقاب، وأنّ ارتکابه مخالفة قطعیة للتکلیف مهما کان التکلیف، یشمل الفرد المشکوک، أو لا یشمل الفرد المشکوک، علی کل حالٍ ارتکاب الأکثر مخالفة قطعیة للتکلیف، خالف التکلیف قطعاً، هو نهاه عن إکرام مجموع العلماء، فترددّ فی أنّ مجموع العلماء هل یشمل هذا الفرد المشکوک، أو لا یشمله ؟ لکن إذا أکرم کل العلماء حتّی الأفراد المشکوکة، یکون قد خالف النهی قطعاً، فکیف یعقل أنْ تکون البراءة جاریة لتجویز هذه المخالفة القطعیة للتکلیف ؟! صحیح أنّ الأکثر بما هو أکثر لا یُعلم حرمته، لکنّه یُعلم بأنّ ارتکاب الأکثر مخالفة قطعیة للتکلیف ویترتب علیه استحقاق العقاب، فکیف تجری البراءة للتأمین من ناحیة هذا الأکثر الذی نعلم بأنّه یترتب علیه استحقاق العقاب، البراءة تجری فی مورد احتمال المؤاخذة والعقاب، عندما یکون الإقدام علی الفعل فیه احتمال المؤاخذة تجری البراءة وتؤمّن من ناحیة هذا الاحتمال، أمّا عندما یُعلم بترتّب المؤاخذة، ویُعلم بترتب استحقاق العقاب؛ حینئذٍ تکون البراءة عاجزة وقاصرة عن الجریان فی هذا المورد، وهذا فی الحقیقة معناه أنّه لا مانع من جریان البراءة فی الأقل، ولا تُعارَض هذه البراءة بالبراءة فی الأکثر.

ص: 357

وأمّا ما ذُکر ----------- فی الملاحظة الأولی ----------- من أنّ الأقل معلوم الحرمة، فکیف تجری فیه البراءة، فنحن نعلم بأنّ الأقل حرام قطعاً، إمّا بحرمة استقلالیة، وإمّا بحرمة ضمنیة، والملاحظة کانت تقول: أیّ فرق بین الأقل فی المحرّمات وبین الأقل فی الواجبات ؟ الأقل فی الواجبات قالوا هو معلوم الوجوب، فتجری البراءة لنفی وجوب الأکثر، ونحن نعلم بوجوب الأقل إمّا لنفسه، وإمّا بوجوب ضمنی، علی تقدیر أنْ یکون الأکثر واجباً فوجوب الأقل یکون وجوباً ضمنیاً، علی تقدیر أنْ لا یکون الزائد واجباً، فوجوب الأقل یکون وجوباً استقلالیاً. إذن، الأقل معلوم الوجوب علی کل حال، فلا تجری فیه البراءة، فتجری البراءة فی الأکثر، الملاحظة کانت تقول: أنّ هذا فی المحرمات أیضاً کذلک، الأقل فی المحرّمات فی محل الکلام أیضاً ممّا یُعلم بحرمته علی کل حال، إمّا بحرمةٍ استقلالیة علی تقدیر کون الفرد المشکوک لیس عالماً، وإمّا بحرمة ضمنیة علی تقدیر أنْ یکون الفرد المشکوک عالماً، فأیضاً هو معلوم الحرمة.

أقول: فی مقام دفع هذا، أننا إلی هنا أثبتنا أنّ الأکثر لا تجری فیه البراءة، والأقل تجری فیه البراءة، فی مقام دفع هذا یمکن الجواب عنه بأنّ هناک فرق بین باب الواجبات وبین باب المحرّمات، الواجبات یمکن أنْ نلتزم بأنّ الأقل واجب بالوجوب الضمنی علی تقدیر أنْ تکون السورة واجبة، لا مانع أنْ نلتزم بالوجوب الضمنی للأقل، ومن هنا یصحّ أنْ نقول أنّ الأقل معلوم الوجوب علی کل حال، إمّا بوجوب استقلالی، وإمّا بوجوب ضمنی؛ لأنّ فکرة الوجوب الضمنی فی الواجبات فکرة مقبولة ومعقولة، ویساعد علیها الاعتبار، وأمّا فکرة الحرمة الضمنیة لأجزاء المرکّب المجموع، فهی فکرة غیر مقبولة ولیس لها أساس، فنفرّق بینهما علی هذا الأساس.

ص: 358

توضیح هذا المطلب علی ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) (1) هو: فی باب الواجبات عندما یتعلّق الوجوب بالمرکّب من مجموع أفراد الوجوب ومبادئه من الحب والشوق والإرادة تنبسط علی کلّ جزءٍ جزءٍ من أفراد ذلک المرکّب، الذی یحب مرکّباً من أجزاء، قهراً حبّه سینبسط علی کل جزءٍ جزءٍ من أفراد ذلک المرکّب، شوقه إلی المرکّب یعنی شوقه إلی کلّ جزءٍ جزءٍ من ذلک المرکب، إذن: مبادئ الوجوب لا تقف علی المرکب؛ بل هی تنبسط علی کل جزءٍ جزءٍ من ذلک المرکّب، بینما الحرمة عندما تتعلّق بمرکّب من أجزاء، لا الحرمة، ولا مبادئ الحرمة تنبسط علی أجزاء ذلک المرکّب، الحرمة بما لها من مبادئ من بغضٍ وکراهةٍ لا تنبسط علی کل جزءٍ جزءٍ من ذلک المرکّب الذی یکره المجموع المرکب لا یستلزم کراهة کل جزءٍ جزءٍ من أجزاء ذلک المرکّب، بغضه لا ینبسط علی أجزاء ذلک المرکّب کما هو الحال فی باب الوجوب، وإنّما بغضه یتعلّق بواحد من الأفراد علی سبیل البدل؛ لأنّ واحداً من هذه الأفراد علی سبیل البدل یحققّ مکروه المولی ومبغوضه، الذی یکرهه المولی هو المجموع، کراهة المجموع لا تعنی کراهة کل فردٍ فرد، وإلاّ لما کان عامّاً مجموعیاً، ولما کان مثالاً لما نحن فیه، الکراهة تقف علی المجموع وعلی المرکب، المرکّب مکروه للمولی، هو لا یرید إکرام المجموع، ولا یرید الجمع فی المثال التوضیحی الذی ذکرناه، لا یرید الجمع بین أکل السمک وبین شرب اللّبن، وهذا لیس معناه أنّه یکره أکل السمک، ویکره شرب اللّبن، البغض لا ینبسط علی أجزاء المرکّب، بینما الحب والشوق والإرادة التی هی مبادئ الوجوب تنبسط علی أجزاء المجموع المرکّب، فیکون کل جزء من الأجزاء، لیس علی سبیل البدل، هو محبوب للمولی ومورد شوق المولی، ومراد للمولی؛ ولذا التحریک المولوی الضمنی فی باب الواجبات یتعلّق بکل جزءٍ جزءٍ من أجزاء المرکّب، بینما فی باب المحرّمات لا یکون هناک تحریک ضمنی لکل جزءٍ جزءٍ من أجزاء المرکّب، وإنّما فی باب المحرّمات النهی الذی یتعلّق بالمجموع یحرّک نحو أحد الأجزاء علی سبیل البدل ویطلب من المکلّف ترکه، النهی یحرّک نحو ترک واحدٍ من الأجزاء علی سبیل البدل؛ لأنّه بذلک یتحقق امتثال النهی، فهو یحرّک نحو واحدٍ من الأجزاء علی سبیل البدل، لا أنّ هناک تحریکات ضمنیّة ومبادئ ضمنیة تتعلّق بکل فردٍ فردٍ من أفراد هذا المجموع فی باب المحرّمات، الاعتبار یساعد علی تعقّل وقبول الوجوب الضمنی فی باب الواجبات، لکنّه لا یساعد علی تعقّل وتقبّل الحرمة الضمنیّة، ما معنی أن یکون الحرام متعلّقاً بالمجموع المرکّب ؟ فعلی تقدیر أنْ تکون الأفراد المشکوکة من أفراد العالم، الأقل یکون حراماً بحرمةٍ ضمنیة، وهذا هو معنی الکلام السابق الذی ذکرناه فی الملاحظة السابقة، الأقل یکون حراماً بحرمةٍ ضمنیة، ومن هنا صحّ أنْ نقول وننقض علی کلامهم أنّ الأقل فی المحرّمات أیضاً معلوم الحرمة علی کل حال، إمّا بحرمةٍ استقلالیة، أو بحرمةٍ ضمنیة علی تقدیر أنْ یکون الفرد المشکوک(عالم)، فیکون الأقل حراماً بحرمةٍ ضمنیة. هذا هو الذی نقول أننّا لا نتعقّله، حرمة ضمنیة لأجزاء المرکب غیر موجودة؛ لما قلناه من أنّه لا الحرمة ولا مبادئ الحرمة تنبسط علی کل جزءٍ جزءٍ من أجزاء المرکّب، بینما فی باب الواجبات نستطیع أنْ نقول أنّ هذا الوجوب الضمنی ینبسط علی أجزاء المرکب الواجب، فصحّ أنْ نقول هناک أنّ الأقل معلوم الوجوب علی کل حال، إمّا بوجوبٍ استقلالی، أو بوجوبٍ ضمنی، بینما هنا لا یصحّ أنْ نقول ذلک، ومن هنا نصل إلی هذه النتیجة، وهی أنّه لا مانع من إجراء البراءة فی الأقل، وهناک مانع ومحذور من إجراء البراءة فی الأکثر، وبهذا یصحّ الرأی الأوّل وهو لا مانع فی محل الکلام من إجراء البراءة لنفی حرمة الأقل، باعتبار أنّه یُشکّ فی حرمته، یُشکّ فی جواز ارتکابه علی تقدیر أنْ یکون المشکوک عالماً یجوز ارتکاب الأقل؛ لأنّ النهی المتعلّق بالمجموع المرکّب من عشرة أجزاء یکفی فی امتثاله ترک جزءٍ واحدٍ منه، فیکتفی بترک هذا المشکوک، فیجوز ارتکاب الأقل، علی تقدیر أنْ یکون الفرد المشکوک لیس عالماً، لا یجوز ارتکاب المجموع. إذن: یشکّ فی جواز ارتکاب الأقل وعدم جواز ارتکابه، فتجری البراءة لإثبات جواز ارتکابه. نعم، إذا ارتکب الأقل یجب أنْ یترک الفرد المشکوک. هذا ما یرتبط بالنحو الثالث الذی هو عبارة عن أنْ یکون متعلّق الحکم هو المجموع، یعنی أفراد الطبیعة المأخوذة علی نحو العام المجموعی، وتبیّن أنّه لا فرق بین أنْ یکون الحکم وجوباً، وبین أنْ یکون تحریماً فی أنّ البراءة فی کلٍ منهما تکون جاریة.

ص: 359


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج5، ص 363.

النحو الرابع: أنْ یکون متعلّق التکلیف أمراً مسببّاً ونتیجة حاصلة من الطبیعة، إمّا من مجموع أفراد الطبیعة، مجموع أفراد الطبیعة تحقق هذه النتیجة، تکون سبباً فی حصول هذا المسبّب، وهذا المسبّب هو الذی یتعلّق به الحکم أمراً، أو نهیاً. أو یکون حاصلاً من فردٍ واحدٍ من مجموع أفراد الطبیعة، ولا یشترط أنْ یکون حاصلاً من مجموع أفراد الطبیعة؛ بل یکفی فی حصول هذا المسببّ وجود فردٍ واحدٍ من أفراد تلک الطبیعة. الطهارة أمر مسببّ، یتعلّق به الحکم، وهو أمر مسبّب من فردٍ واحد من أفراد طبیعة ---------- فرضاً ----------- الوضوء، فی هذا النحو عندما یکون الحکم متعلّق بالمسببّ لا بمجموع الأفراد، أو صرف الوجود، واحد من الأفراد علی سبیل البدل، الحکم لا یتعلّق بالأفراد، لا یتعلّق الحکم بالوضوء، وإنّما یتعلّق بالطهارة، أی بالمسبّب، أمراً کان، أو نهیاً فی هذه الصورة یتعیّن إجراء الاشتغال ولا تجری البراءة فی المقام لوضوح أنّ المفروض فی المقام هو ثبوت التکلیف، وأنّه متعلّق بالمسبب، وهذا لا شکّ فیه، ولاشکّ فی حدوده ولاشکّ فی قیوده، ولاشکّ فی دائرة محرکیته، هو یُحرک نحو المسبب، یجب علیک أنْ توجد هذا المسبب، یعنی یجب علیک أنْ تکون طاهراً حتّی تصلی، فإذن: المسببّ تعلّق به التکلیف، واشتغلت به الذمّة؛ فحینئذٍ یکون الشکّ فی فردٍ أنّه من أفراد تلک الطبیعة، شکاً فی المحصل، إذا شککنا فی أنّ هذا الفرد هل هو وضوء، أو لا ؟ هل هو من الأفراد التی یحصل بها المسببّ، أو لا ؟ بنحو الشبهة الموضوعیة؛ حینئذ یکون هذا شکّاً فی المحصل، ولا إشکال فی أنّه عند الشکّ فی المحصل قاعدة الاشتغال هی التی تکون جاریة، سواء کان وجوباً، أو کان تحریماً، إذا کان وجوباً، فهو مسئول عن أنْ یکون متطهراً قبل الدخول فی الصلاة؛ وحینئذٍ لابدّ أنْ یحتاط بأنْ یأتی بهذا الفرد الذی یشکّ فی کونه وضوءً؛ إذ لا یحرز کونه وضوءً محقّقاً للمسبب؛ لأنّ الاشتغال الیقینی بالمسببّ یستدعی الفراغ الیقینی، ولا یقین بالفراغ إذا اکتفی بالفرد المشکوک. إذن: لابدّ أنْ یأتی بما یعلم کونه سبباً فی حصول ذلک المسببّ. وکذلک الحال فی الشبهة التحریمیة، عندما یکون النهی متعلّق بالمسبّب الذی یحصل من مجموع أفراد طبیعة، أو من فردٍ من أفراد طبیعة، هذا معناه أنّ الذمّة اشتغلت بترک ذلک المسبب والابتعاد عنه وعدم تحقیقه فی الخارج، هذا أیضاً یستدعی الفراغ الیقینی، ولا یقین بالفراغ إذا جاء بما یشک فی کونه سبباً لحصول ذلک المسبّب، هو نُهی عن القتل، ولنفترض أنّ القتل أمر مسبّب عن الضرب بالسهم --------- مثلاً ---------- فإذا شکّ فی أنّ هذا سبب یحصل به القتل، أو لا، لا یجوز له ارتکابه؛ لأنّه عندما یرتکبه هو یشکّ فی حصول ذلک المسبّب المنهی عنه بحسب الفرض، فالمنهی عنه بحسب الفرض یشکّ فی حصوله ولیس أنّه یشک فی حرمته، لیس لدینا شکّ فی الحرمة، ولا فی حدود الحرمة، ولا فی قیود الحرمة نهائیاً، وإنّما یشکّ فی حصول الحرام بهذا السبب، هل یحصل الحرام بهذا السبب، أو لا یحصل ؟ الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، ویستدعی من المکلّف ترک هذا الفرد الذی یشکّ فی حصول السبب به. إذن: القاعدة تقتضی الاشتغال من دون فرق بین الشبهة الوجوبیة والشبهة التحریمیة.

ص: 360

نعم، ذکروا أنّه فی بعض الأحیان یتعلّق الحکم بالمسبّب، لکنّ هذا المسبّب أمر اعتباری ینطبق علی نفس الأفراد، لیس هو شیئاً آخر غیر الأفراد تکون علاقته بالأفراد علاقة المسبّب بالسبب الذی کنّا نتکلّم عنه، وإنّما المسبّب هو عبارة عن أمرٍ ینطبق علی نفس الأفراد، إذا فرضنا ذلک؛ حینئذٍ یخرج هذا الفرض عن محل کلامنا، یعنی یخرج عن النحو الرابع، وإنّما یدخل فی الأقسام السابقة، وهذا معناه أنّ الحکم تعلّق بأفراد الطبیعة؛ فحینئذٍ نقول تعلّق بها بنحو مطلق الوجود، أو بنحو صرف الوجود، أو أول الوجود، أو مجموع الوجودات، فتأتی التقسیمات السابقة کلّها، وما نختاره هناک نختاره هنا، هذا لیس قسماً ونحواً مستقلاًّ عن ما تقدّم إذا کان المسبّب هو عبارة أخری عن نفس الأفراد التی تحققّ ذلک المسبب، وأنّ هذا العنوان ینطبق علی هذه الأفراد، إذا فرضنا أنّ المسبب شیء آخر غیر الأفراد لا ینطبق علیها، وإنّما هو یحصل وهو نتیجة لتحقق تلک الأفراد؛ حینئذٍ یجری فیه الکلام السابق أنّ الشکّ یکون شکّاً فی المحصل ولابدّ فیه من الاحتیاط. هذا تمام الکلام فی التنبیه الرابع، یعنی فی جریان البراءة فی الشبهة الموضوعیة، وقد تبیّن أنّ البراءة تجری فی الشبهات الموضوعیة فی جمیع الأنحاء السابقة، باستثناء حالة واحدة، فقط هذه الحالة الواحدة لا تجری فیها البراءة وهی حالة ما إذا کان التکلیف وجوباً ویتعلّق بالطبیعة بنحو صرف الوجود. هذه الحالة لیست من موارد البراءة وإنّما هی من موارد الاشتغال؛ لأنّ الشکّ فی فردٍ فی أنّه مصداق للطبیعة، أو عدم کونه مصداقاً للطبیعة لیس شکّاً فی التکلیف، ولا فی قیود التکلیف، ولیس شکّاً فی دائرة المحرّکیة؛ لأنّ التکلیف یحرک نحو صرف الوجود، وإنّما هو شکّ فی الامتثال، اشتغلت الذمّة بصرف الوجود للطبیعة، علیه أنْ یحقق ذلک؛ وحینئذٍ علیه أنْ لا یکتفی فی مقام امتثال التکلیف المتعلّق بصرف وجود الطبیعة، أنْ لا یکتفی بالفرد المشکوک؛ بل علیه أنْ یأتی بالفرد المعلوم کونه من أفراد الطبیعة.

ص: 361

درس الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الخامس بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ البراءة/ تنبیهات البراءة/ التنبیه الخامس

الکلام فی جریان البراءة فی المستحبّات: فی تقریرات السیّد الخوئی فی الدراسات، (1) وکذا المصباح (2) ورد بأنّ البراءة العقلیة تختص بموارد الشکّ فی التکالیف الإلزامیة، وأمّا التکلیف المحتمل إذا کان استحبابیاً، إذا لم یکن إلزامیاً، فالمقطوع منه لا توجب مخالفته العقاب، فکیف بالمحتمل منه ؟ من باب أولی أنْ لا تکون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب. وکأنّه بهذا المقطع من کلامه یشیر إلی أنّ البراءة العقلیة التی مفادها قبح العقاب بلا بیان، إنّما تجری لغرض التأمین من ناحیة العقاب عند احتماله، وفی الأحکام غیر الإلزامیة لا یوجد احتمال العقاب، فلا تجری قاعدة البراءة العقلیة، علی القول بها.

ثمّ ذکر بأنّ البراءة الشرعیة تجری فی التکالیف غیر الإلزامیة، لکن علی تفصیلٍ، وحاصل هذا التفصیل: أنّه التزم بجریان البراءة فی التکالیف الاستحبابیة الضمنیة، کما إذا شکّ فی جزئیة شیءٍ لمستحب، أو شرطیة شیءٍ لمستحب، هذا المشکوک علی تقدیر أنْ یکون جزءً من مستحب، فاستحبابه ضمنی، فإذا شککنا فی الاستحباب الضمنی، هنا لا مانع من جریان البراءة، ومنع من جریانها عند الشکّ فی التکالیف الاستحبابیة الاستقلالیة، کما إذا شُک فی استحباب شیءٍ، فی هذا المورد قال لا تجری البراءة، عللّ هذا التفصیل بین الشکّ فی التکلیف الضمنی الاستحبابی، وبین الشکّ فی التکلیف الاستقلالی الاستحبابی، عللّه بأنّ مرجع البراءة إلی رفع الحکم المشکوک ظاهراً، بناءً علی ما تقدّم؛ لأنّه ذکر هذا المطلب فی ذیل حدیث الرفع، تقدّم فی حدیث الرفع أنّ مفاده هو الرفع الظاهری للحکم الواقعی المشکوک، فمفاد البراءة الشرعیة هو رفع الحکم المشکوک فی مرحلة الظاهر، فیکون مفادها رفع ظاهری للحکم الواقعی المشکوک ومرجع ذلک علی ما تقدّم إلی رفع وجوب الاحتیاط تجاه التکلیف الواقعی المشکوک، فهو یرفعه ظاهراً، هذا الرفع الظاهری معناه عدم وجوب الاحتیاط وعدم وجوب التحفّظ تجاه التکلیف الواقعی المشکوک. یقول: وهذا غیر متحققٍ فی موارد التکالیف الاستقلالیة، فإذا احتملنا استحباب شیءٍ، فجریان البراءة یعنی رفع الاستحباب فی مرحلة الظاهر، ومعنی ذلک هو رفع استحباب الاحتیاط تجاه التکلیف الواقعی المشکوک، ورفع التحفّظ تجاه الاستحباب الواقعی المشکوک، وهذا ما لا یمکن الالتزام به؛ إذ لا یمکن الالتزام برفع استحباب الاحتیاط عند الشک فی الاستحباب الواقعی، لا یمکن الالتزام بأنّه لا یحسن الاحتیاط؛ باعتبار أنّ استحباب الاحتیاط شرعاً أمر مسلّم ولا یمکن إنکاره، فعندما یحتمل الإنسان استحباب شیءٍ، لا إشکال فی أنّه یستحب له أنْ یحتاط تجاه هذا الاستحباب الواقعی المشکوک، استحباب الاحتیاط فی باب المستحبّات ممّا لا إشکال فیه، ولا یمکن إنکاره، ومفاد استحباب الاحتیاط عدم رفع التکلیف الواقعی المشکوک فی مرحلة الظاهر؛ لأنّه یدعو إلی الاحتیاط تجاه الحکم الواقعی المشکوک، فإذن: هو لم یرفعه فی مرحلة الظاهر، هذا معنی استحباب الاحتیاط، الاحتیاط فی کل مقام معناه أنّ الشارع یرید التحفّظ علی التکلیف المشکوک، فیجعل استحباب الاحتیاط ووجوب الاحتیاط لغرض التحفّظ علی الحکم الواقعی المشکوک. من جهةٍ یُراد إجراء البراءة، البراءة تثبت عکس هذا تماماً، البراءة عند الشکّ فی الحکم الاستحبابی، فالبراءة تعنی لا تتحفّظ تجاه الاستحباب المشکوک، یعنی لا تحتاط تجاه الحکم الواقعی المشکوک، البراءة تعنی رفع المشکوک ظاهراً، بینما الاحتیاط یعنی وضع المشکوک ظاهراً، الاحتیاط معناه أنّ الشارع یضع المشکوک فی مرحلة الظاهر، یحکم بثبوت المشکوک فی مرحلة الظاهر، بینما البراءة تعنی رفع الحکم المشکوک فی مرحلة الظاهر، وهذان أمران متنافیان، إمّا أنْ یکون الاحتیاط مطلوباً للشارع، وهذا معناه الوضع الظاهری للتکلیف والحکم المشکوک، وإمّا أنْ تجری البراءة فی الاستحباب المشکوک، وهذا معناه الرفع الظاهری للتکلیف المشکوک، والجمع بینهما غیر ممکن، وحیث أنّ استحباب الاحتیاط فی المقام لا یمکن إنکاره ومسلّم ولا إشکال فیه؛ بل هو مسلّم من قبل الجمیع؛ فحینئذٍ لابدّ أنْ نقول بأنّ هذا المقام لا یکون مشمولاً لدلیل البراءة؛ لأنّ کونه مشمولاً لدلیل البراءة یعنی رفع الحکم المشکوک ظاهراً، بینما نحن نجزم بأنّ الشارع وضع الحکم المشکوک ظاهراً؛ لأننّا نجزم باستحباب الاحتیاط فی هذا المورد، ومن هنا هذا لا یکون مشمولاً لدلیل البراءة، فلا تجری البراءة عند الشکّ فی التکلیف الاستحبابی الاستقلالی، وهذا بخلاف التکالیف الضمنیة الاستحبابیة کما إذا شکّ فی جزئیة شیءٍ لمستحب، هذا شک فی التکلیف الضمنی الاستحبابی، یقول فی هذه الحالة لا مانع من جریان البراءة، لا لأجل نفی استحباب الاحتیاط، لما تقدّم من ثبوت استحباب الاحتیاط قطعاً، وبلا إشکال؛ بل لأجل إثبات عدم الاشتراط فی الظاهر، باعتبار أنّ الاشتراط غیر معلوم، فلا ندری أنّ هذا المستحب مشروط بهذا الجزء المشکوک، أو غیر مشروط، فباعتبار أنّ الاشتراط غیر معلوم، فتجری البراءة لنفی الاشتراط ظاهراً، ویکون الغرض من ذلک هو إثبات جواز الإتیان بالباقی بداعی الأمر حتّی یجوز له أن یأتی بالباقی من دون ذلک الجزء بقصد امتثال الأمر المتعلّق به؛ لأنّه لولا إجراء البراءة وإثبات عدم الاشتراط فی مرحلة الظاهر لما جاز الإتیان بالباقی بداعی الأمر، باعتبار أنّه لا یحرز الأمر بالباقی مع احتمال الاشتراط؛ لأنّه یحتمل أنّ الأمر غیر متعلّق بالباقی؛ بل بالمجموع المرکب من الباقی والجزء المشکوک، فالإتیان بالباقی بداعی الأمر یکون تشریعاً محرّماً، إنّما یجوز له الإتیان بالباقی بداعی الأمر مع أنّه یشک فی وجود جزءٍ لهذا المستحب عندما یُجری البراءة لنفی الاشتراط فی مرحلة الظاهر، فإذا أجری البراءة لنفی الاشتراط فی مرحلة الظاهر لا لإثبات عدم استحباب الاحتیاط، وإنّما نفی الاشتراط فی مرحلة الظاهر لغرض إثبات جواز الإتیان بالباقی بداعی الأمر؛ لأنّه لولا إجراء البراءة بهذا الشکل لکان مشرّعاً وارتکب حرمة تشریعیة؛ إذ کیف یمکنه أنْ یأتی بالباقی بقصد امتثال الأمر المتعلّق به والحال أنّه لا یحرز تعلّق الأمر بالباقی؛ لأنّه یشک فی وجود جزءٍ آخر. هذا کلام السید الخوئی(قدّس سرّه) فی التقریرات.

ص: 362


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 246.
2- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد الحسینی الواعظ، ج 2، ص 270.

لوحظ علی هذا الکلام: بأنّ المانع من جریان البراءة فی المستحبّات لیس هو هذا الذی ذکره من أنّ مرجع إجراء البراءة فی المستحبّات إلی نفی استحباب الاحتیاط، وهذا ممّا لا یمکن الالتزام به، فإذن: لا یمکن الالتزام بجریان البراءة فی المستحبّات؛ لأنّ البراءة تعنی رفع التکلیف والحکم المشکوک فی مرحلة الظاهر، بینما نحن نجزم بأنّ الحکم المشکوک ثابت فی مرحلة الظاهر بدلیل استحباب الاحتیاط، لیس هذا هو السبب فی عدم جریان البراءة؛ لأنّه لا یوجد محذور فی الالتزام بعدم استحباب الاحتیاط، والمقصود هو نفی الاستحباب الشرعی؛ لأنّ الذی یکون منافیاً حسب الدعوی للبراءة الشرعیة هو الاستحباب الشرعی للاحتیاط، إمّا أن یجعل الشارع استحباب الاحتیاط شرعاً، یعنی یضع الحکم المشکوک ظاهراً، أو یجری البراءة الشرعیة التی تعنی رفع الحکم المشکوک ظاهراً، فکلامنا فی استحباب الاحتیاط شرعاً. قیل: لا محذور فی الالتزام بعدم استحباب الاحتیاط الشرعی، وذلک بأن نفترض أنّ مبادئ المباحات الواقعیة أهم عند الشارع من مبادئ المستحبات الواقعیة عندما یقع التزاحم بینها فی مقام الحفظ؛ لأنّ جعل استحباب الاحتیاط فی موارد الجهل والشک یؤدی إلی فوات بعض مبادئ المباحات الواقعیة، سوف یلتزم علی الإتیان بها ولو علی مستوی الاستحباب، وهذا یؤدی إلی فوات بعض مبادئ المباحات الواقعیة، فلأجل الحفاظ علی مبادئ المباحات الواقعیة الأهم ینفی الشارع استحباب الاحتیاط، فمن ناحیة ثبوتیة، من ناحیة الإمکان والاستحالة لا یوجد محذور فی عدم جعل استحباب الاحتیاط شرعاً، ویُعللّ بأنّ مبادئ المباحات الواقعیة المتزاحمة فی مقام الحفظ مع مبادئ المستحبات الواقعیة أهم فی نظر الشارع، فلا یجعل استحباب الاحتیاط، المانع من جریان البراءة لیس هو هذا؛ لأنّ هذا لیس مانعاً ثبوتیاً؛ بل المانع من ذلک هو مانع إثباتی، المانع هو أنّ أدلّة البراءة لا تشمل المستحبّات، باعتبار أنّها ناظرة إلی نفی الضیق والکلفة، ولو باعتبار أنّها مسوقة مساق الامتنان، أو باعتبار أنّ الرفع یقابل الوضع، والوضع ظاهر فی جعل ما هو ثقیل علی المکلّف، فیختص الرفع برفع ما هو ثقیل علی المکلّف، وکل هذا یعنی الاختصاص بموارد الشک فی التکالیف التی فیها کلفة علی المکلّف ومن الواضح أنّ الأحکام غیر الإلزامیة لیس فیها ذلک، لیس فیها ضیق وکلفة وثقل، وعمدة أخبار البراءة بنکات متعدّدة، ولو بنکتة کونها مسوقة مساق الامتنان، أو الرفع الذی یقابل الوضع، والوضع أخذ فیه مفهوم الثقل ------ مثلاً --------، کل هذه النکات تؤدی إلی افتراض اختصاص أدلّة البراءة بموارد الشکّ فی التکالیف الإلزامیة، ولو فرضنا أنّه أشکل علی ما تقدّم بأنّ استحباب الاحتیاط، لنفترض کما قیل أنّه لیس ثابتاً شرعاً، باعتبار ما ذُکر أنّ هذا أمر ممکن ولیس محالاً أن لا یجعل الشارع استحباب الاحتیاط، لکن استحباب الاحتیاط ثابت عقلاً، والذی یُعبّر عنه بحسن الاحتیاط، بلا کلام، فیمنع هذا الحکم العقلی بحُسن الاحتیاط من شمول الحدیث للموارد التی یثبت فیها الاحتیاط العقلی، لا یمکن إنکار حُسن الاحتیاط عقلاً، حتّی إذا أنکرنا حُسنه شرعاً، لکن حُسنه العقلی لا یمکن إنکاره، فلا إشکال فی حُسن الاحتیاط فی باب المستحبّات الاستقلالیة، وحُسن الاحتیاط عقلاً أیضاً یمنع من شمول أدلة البراءة للموارد التی یحکم العقل فیها بحُسن الاحتیاط، بنفس البیان السابق، کما قلنا بأنّ الحکم الشرعی باستحباب الاحتیاط یمنع من إجراء البراءة فی المورد الذی یحکم الشارع فیه بحسن الاحتیاط، للتنافی بین البراءة وبین استحباب الاحتیاط، فالبراءة تعنی الرفع، بینما الاحتیاط یعنی وضع الحکم المشکوک ظاهراً، بنفس هذا البیان الدال علی الاستحباب الشرعی للاحتیاط نقول: العقل یحکم بحُسن الاحتیاط، فیقع التنافی، فلا تکون البراءة شاملة للمورد الذی یحکم العقل فیه بحُسن الاحتیاط، وهذا لا یمکن إنکار حُسن الاحتیاط عقلاً، هذا ثابت جزماً فی جمیع الموارد.

ص: 363

أقول: أنّ هذا الإیراد یمکن دفعه، وذلک باعتبار أنّ الوجه الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) لعدم شمول البراءة الشرعیة للمستحبّات کان مبنیّاً علی دعوی المنافاة بین جریان البراءة فی المستحبّات وبین استحباب الاحتیاط فیها، باعتبار أنّ الأوّل، أی البراءة تدل علی رفع الاستحباب المشکوک ظاهراً، بینما الاحتیاط یقتضی وضع الحکم المشکوک ظاهراً، وحیث أنّ الثانی ثابت حتماً، وهو استحباب الاحتیاط شرعاً، فإذن: أدلّة البراءة لا تشمل الموارد التی یحکم الشارع فیها باستحباب الاحتیاط. من الواضح أنّ هذا الوجه إذا تمّ، فهو إنّما یصح فی الاستحباب الشرعی للاحتیاط، تحصل منافاة بینهما، استحباب شرعی للاحتیاط وفی مقابله براءة شرعیة، فلا یمکن الجمع بینهما، وهذا مبنی علی أنّ معنی البراءة هو الرفع الظاهری للتکلیف المشکوک، هذان بینهما منافاة فیتمّ هذا الوجه الذی ذُکر. وأمّا حُسن الاحتیاط عقلاً، لا شرعاً، هذا لا مجال لتفسیره بمعنی یکون منافیاً للبراءة الشرعیة، العقل یحکم بحُسن الاحتیاط وحُسن الانقیاد إلی المولی، لا نستطیع أن نفسّر هذا الحکم العقلی بحُسن الانقیاد بأنّه وضع للحکم المشکوک فی مرحلة الظاهر لوضوح أنّ الحکم وضعاً ورفعاً، واقعاً وظاهراً هو من شئون الشارع، وبید الشارع، فالشارع هو الذی یضع التکلیف، أو الحکم واقعاً، أو یضعه ظاهراً بجعل الاحتیاط، الشارع هو الذی یرفع التکلیف واقعاً، أو یرفعه ظاهراً بنفی الاحتیاط، هذا من شئون الشارع، فالشارع هو الذی بیده التکالیف، والتکلیف هو عبارة عن أمرٍ اعتباری یعتبره الشارع، فقد یعتبر الشیء وقد یرفع الاعتبار ظاهراً، أو واقعاً، هذه من شئون الشارع ولیست بید العقل، فلا معنی لأن نقول أنّ العقل عندما یحکم بحُسن الاحتیاط، یُفسّر حکمه بحُسن الاحتیاط بأنّه وضع ظاهری للحکم المشکوک للواقع المشکوک، لا یمکن تفسیره بذلک؛ ولذا لا تکون هناک منافاة بین البراءة الشرعیة وبین حُسن الاحتیاط عقلاً؛ ولذا لم یتوهّم أحد وجود هذه المنافاة فی باب الأحکام الالزامیة، مع أنّه لا إشکال فی باب الأحکام الالزامیة العقل یحکم بحُسن الاحتیاط، هذه قضیة مسلّمة، لکن لم یتوهّم أحد بأنّ هذا ینافی البراءة الشرعیة، نعم، البراءة الشرعیة تنافی وجوب الاحتیاط شرعاً، فإما أن یجب الاحتیاط شرعاً، وإمّا أن یجعل البراءة، الجمع بینهما غیر ممکن، الأحکام الظاهریة متضادة کتضاد الأحکام الواقعیة، هنا توجد منافاة بین البراءة الشرعیة وبین وجوب الاحتیاط الشرعی فی باب الأحکام الالزامیة، لکن لم یتوهّم أحد وجود منافاة بین البراءة الشرعیة وبین حُسن الاحتیاط عقلاً، مع أنّ الوجه نفسه یجری، لو کان مرجع حکم العقل بحُسن الاحتیاط إلی وضع الحکم الواقعی المشکوک ظاهراً یکون منافیاً للبراءة الشرعیة.

ص: 364

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

بقی الکلام فی ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) من توجیه لجریان البراءة فی التکالیف الاستحبابیةالضمنیة، یُلاحظ علی ذلک: ما هو المقصود من جریان البراءة فی التکلیف الضمنی الاستحبابی ؟

تارةً نفترض أنّ المقصود بذلک هو إثبات جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر بتوسیط الإطلاق، بمعنی أننا نجری البراءة لنفی القید المشکوک، أو نفی الجزء المشکوک الذی یُحتمل کونه جزءً، أو قیداً فی المستحب، وبذلک بعد إجراء البراءة لنفی القید، أو الجزء المحتمل یثبت الإطلاق فی دلیل المستحب، ومعنی الإطلاق فی دلیل المستحب هو أنّ الأمر بذلک المستحب لیس مقیداً بذلک الشی، یعنی بعبارة أخری: متعلّق بالباقی، فیثبت الأمر بالباقی، فیجوز لهذا المکلّف الإتیان بالباقی بقصد الأمر، فالغرض من إجراء البراءة هو إثبات الإطلاق فی الأمر، الغرض من إجراء البراءة هو نفی القید المحتمل فی المستحب، أو نفی الجزء المحتمل فی المستحب، وإثبات الإطلاق فی ذلک الأمر، إذا ثبت الإطلاق فی ذلک الأمر، یثبت تعلّق الأمر بالباقی، فیجوز له أنْ یأتی بالباقی بقصد الأمر.

إنْ کان هذا هو المقصود من إجراء البراءة فی التکالیف الاستحبابیة الضمنیة، فالذی یُلاحظ علیه هو أنّ مسألة إثبات الإطلاق بجریان البراءة عن القید، أو عن الجزء هی مسألة فیها کلام طویل، أنّه هل یمکن إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القید، أو لا ؟ المعروف عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) أنّه یبنی هذا الجواز علی مسألة أنّ الإطلاق هل هو عبارة عن عدم القید، أو أنّ الإطلاق هو أمر وجودی مضاد للتقیید ؟ فإذا قلنا أنّ الإطلاق هو عیارة عن عدم القید؛ فحینئذٍ لا مانع من إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القید، وأمّا إذا قلنا أنّ الإطلاق عبارة عن أمرٍ وجودیٍ ضد للتقیید؛ فحینئذٍ لا یمکن إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القید، إلاّ بناءً علی حجّیة الأصل المثبت، أمران وجودیان متضادان، نفی أحدهما بالبراءة لا یترتّب علیه إثبات الضد الآخر، إلاّ إذا قلنا بحجّیة الأصل المثبت، فبناها علی تلک المسألة، لکنّ هذا محل کلام ومناقشة، باعتبار أنّ هذا قد یتم فی ما إذا کان النافی للقید أصل ناظر إلی الواقع وناظر إلی عالم الجعل بحیث حینما یجری الأصل وینفی القید، فأنّه ینفی القید واقعاً، هذا الکلام له مجال؛ وحینئذٍ یقال إذا کان معنی الإطلاق هو عدم القید، کما یقال فی الاستصحاب ---------- مثلاً ---------- فاستصحاب عدم القید جری وأثبت عدم القید، والمفروض أنّه ناظر إلی الواقع وإلی عالم الجعل، فهو ینفی القید فی الواقع، وفی عالم الجعل، إذن: فی الواقع لا یوجد قید بمقتضی الاستصحاب، إذا کان معنی الإطلاق هو عدم القید، فقد ثبت الإطلاق واقعاً، وإذا کان معنی الإطلاق أمراً وجودیاً مضادا للتقیید؛ حینئذٍ لا یثبت الإطلاق بهذا الأصل، إلاّ بناءً علی حجّیة الأصل المثبت. وأمّا إذا فرضنا أنّ الأصل النافی للقید لیس ناظراً إلی الواقع، ولا إلی عالم الجعل، وإنّما ناظر إلی مرحلة الجری العملی، مرحلة ما بعد الشکّ فی الواقع، ولیس ناظراً إلی نفس الواقع وإلی عالم الجعل، من قبیل البراءة التی هی محل کلامنا، البراءة لیست ناظرة إلی الواقع، وعندما تجری لنفی القید لا ترید أنْ تنفی القید واقعاً، وإنّما هی تنفی القید فی مرحلة الجری العملی، فی مرحلة الشک فی الواقع وما بعد افتراض الشکّ فی الواقع، إذا شککت فی الواقع فی مقام الجری العملی أبنِ علی عدم ذلک القید، ومرجع ذلک علی ما تقدّم فی أدلة البراءة وفی بحث البراءة هو إلی نفی وجوب الاحتیاط، أنّه عند الشکّ فی الواقع وفی مرحلة الجری العملی لا یجب علیک الاحتیاط، مرجع البراءة إلی الرفع الظاهری للتکلیف الواقعی المشکوک، الرفع الظاهری هو عبارة عن عدم وجوب الاحتیاط، هذا مفاد دلیل البراءة، لا یجب علیک الاحتیاط عندما تشکّ فی دخالة هذا القید فی الواجب، أو فی المستحب. بناءً علی هذا کما هو المفروض فی محل کلامنا، المفروض فی محل کلامنا أننا لا نتمسک بأصلٍ ناظر إلی الواقع وإلی عالم الجعل، وإنّما نتمسّک بالبراءة، ومفاد البراءة هو عدم وجوب الاحتیاط عند الشکّ فی القید، أو الجزء بالنسبة إلی المستحب، بناءً علی هذا؛ حینئذٍ لا یتم إثبات الإطلاق بالبراءة، لا یمکن إثبات الإطلاق بإجراء البراءة عن القید، حتّی إذا قلنا بأنّ الإطلاق هو عبارة عن عدم القید، فضلاً عن ما إذا قلنا أنّ الإطلاق هو أمر وجودی مضاد للتقیید؛ بل حتّی إذا قلنا أنّ الإطلاق هو عبارة عن عدم القید لا یمکن إثباته بإجراء البراءة عن القید، باعتبار أنّ هذا لیس ناظراً إلی الواقع حتّی یثبت بنفیه القید الإطلاق؛ لأنّ المقصود بالإطلاق فی المقام هو الذی یقابل التقیید فی الواقع، بمعنی أنّ القید إمّا أنْ یکون ثابتاً فی الواقع، أو لا، فالإطلاق یقابل التقیید فی الواقع وفی عالم الجعل، فالإطلاق هو عدم القید فی الواقع وفی عالم الجعل، کیف یمکن أنْ نثبت عدم القید فی الواقع ---------- حتّی لو قلنا أنّ الإطلاق معناه عدم القید ----------- وفی عالم الجعل بإجراء أصالة البراءة التی هی لیست ناظرة إلی عالم الواقع، وإنّما هی ناظرة إلی مرحلة ما بعد الشک فی الواقع، وإلی مرحلة الجری العملی، إثبات الإطلاق بإجراء البراءة مشکل علی کلا التقدیرین، سواء قلنا أنّ الإطلاق أمر عدمی، أو قلنا بأنّ الإطلاق أمر وجودی، فإثبات جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر بتوسیط الإطلاق، یعنی إجراء البراءة لإثبات جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر بتوسیط الإطلاق هذا مشکل.

ص: 365


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للکاظمی الخراسانی، ج 1- 2، ص 155.

وأمّا إنْ کان المقصود لیس بتوسیط الإطلاق، نجری البراءة لإثبات جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر، باعتبار أنّ هذا نحتمل جوازه، ونحتمل عدم جوازه، الإتیان بالباقی بقصد الأمر نحتمل جوازه علی تقدیر أنْ لا یکون الجزء المحتمل جزءً من المستحب، وهذا معناه أنّ الأمر متعلّق بالباقی، فیجوز الإتیان بالباقی بقصد الأمر، ونحتمل عدم جوازه علی تقدیر أنْ یکون الجزء المشکوک جزءً من المستحب، فلا یجوز لک الإتیان بالباقی بقصد الأمر المتعلّق به؛ لأنّه علی تقدیر أنْ یکون هذا جزءً فلا أمر بالباقی بحدّه، إذن: هو یشکّ فی جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر وعدم جوازه، فنجری البراءة فی هذا رأساً بلا توسیط الإطلاق، ویثبت بعد إجراء البراءة، باعتبار الشکّ فی التکلیف وفی الجواز، یثبت جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر.

إذا قیل: هذا هو المقصود من إجراء البراءة، فمن الواضح أنّه غیر جائز باعتبار أننا بمجرّد أن نشک فی الأمر یثبت بلا إشکال عدم جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر؛ لأنّه تشریع محرّم.

إذن: لا یوجد عندنا شک فی جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر مع أنّ المفروض هو الشکّ فی أنّ هذا الشیء جزء من المستحب، أو لیس جزءً للمستحب، الشکّ فی جزئیة هذا للمستحب یعنی الشکّ فی أنّ هناک أمر بالباقی، أو لیس هناک أمر بالباقی ؟ ومع الشکّ فی تعلّق الأمر بالباقی یکون الإتیان به بقصد الأمر تشریعاً محرّماً، ویکفی فی حرمة الإتیان بالباقی بقصد الأمر مجرّد الشک ولا یتوقّف علی إثبات عدم الأمر، إنّما الشکّ فی وجود أمر یکفی لإثبات عدم جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر؛ لأنّه تشریع محرّم وإسناد إلی المولی من دون العلم بثبوته، فإذن: لا ینفعنا إجراء البراءة لا بتوسیط الإطلاق لإثبات جواز الإتیان بالباقی بقصد الأمر، ولا مباشرة ومن دون توسیط الإطلاق.

ص: 366

من هنا یبدو أنّ الأقرب فی أصل المسألة هو أنّ البراءة لا تجری فی المستحبّات لما تقدّم الإشارة إلیه، باعتبار أنّ أدلّة البراءة قاصرة عن الشمول للمستحبّات، یعنی لیس المانع مانعاً ثبوتیاً، وإنّما المانع مانع ثبوتی، باعتبار أنّ المهم من أدلّة البراءة وعمدة أدلّة البراءة فیها قرائن تمنع من إطلاقها للمستحبّات وتوجب اختصاصها بموارد الشکّ فی التکالیف الإلزامیة. إلی هنا یتمّ الکلام عن البراءة کأصلٍ من الأصول العملیة المهمّة، بعد ذلک ننتقل إلی بحثٍ جدید فی أصالة التخییر.

أصالة التخییر: أو الذی یُعبّر عنه بدوران الأمر بین المحذورین، والکلام یقع فیما إذا کان أمر الفعل دائر بین الوجوب وبین التحریم، المثال الذی یطرحوه هو ما إذا حلف علی فعلٍ، أو علی ترکه، إمّا أن یجلس أو حلف علی ترک الجلوس، هو حَلِف قطعاً حلفاً یتعلّق -------- فرضاً --------- بالسفر، لکن لا یدری أنّه حَلِف علی السفر، أو حَلِف علی ترک السفر، إذا حَلِف علی السفر یکون السفر واجباً، وإذا حَلِف علی ترک السفر یکون السفر حراماً، فیدور أمر الفعل -------- السفر -------- بین الوجوب وبین التحریم بحیث یُعلم إجمالاً بتعلّق إمّا الوجوب، أو الحرمة بهذا الفعل، یوجد فعل إجمالی بأنّ هذا الفعل -------- السفر -------- إمّا واجب، وإمّا حرام، فیقع الکلام فی أنّه ما هو الأصل الذی یجری فی المقام ؟

ومن هنا یتضح أنّ الکلام وهذا البحث لا یشمل ما إذا کان هناک احتمال ثالث فی الفعل بحیث نحتمل أنْ یکون محکوماً بحکم غیر إلزامی بحیث یکون الفعل إمّا واجب، أو حرام، أو مستحب، هذا خارج عن محل کلامنا؛ لأنّه لا إشکال فی جریان البراءة فیه؛ لأنّه شک فی التکلیف، وشک فی الإلزام؛ لأنّ هذا الفعل إمّا أنْ یکون مباحاً، أو یکون فیه إلزام إمّا بالفعل، أو بالترک. إذن: الإلزام یکون مشکوکاً، الوجوب مشکوک، أو الحرمة مشکوکة، فهو شک فی التکلیف واقعاً؛ لأنّه یحتمل عدم الإلزام، فشکّ فی التکلیف وهو مجری للبراءة وخارج عن محل الکلام، کلامنا فیما إذا کان هناک علم إجمالی بتعلّق إمّا الوجوب، وإمّا الحرمة بهذا الفعل، فهذا خارج عن محل الکلام.

ص: 367

ذکروا بأنّ الوجوب والتحریم الذی یدور الأمر بینهما ونعلم بهما إجمالاً: تارةً یکونا توصّلیین لا یعتبر فی امتثالهما قصد القربة، وأخری یکونا تعبّدیین یُعتبر فی امتثالهما قصد القربة، أو یکون أحدهما تعبّدیاً علی الأقل، هذا من ناحیة. ومن ناحیة أخری، قالوا ب-أنّ الواقعة المشکوکة، أو بعبارة أخری الفعل المشتبه الذی یدور أمره بین التحریم وبین الوجوب تارةً یُفترض فعلاً وواقعة شخصیّة معیّنة غیر قابلة للتعددّ والتکرار، مرةً یکون أُخذ فیها قیود زمانیة، أو مکانیة تجعل الفعل الحرام غیر قابل للتکرار، کما لو حَلِف علی السفر فی زمان معیّن وإلی مکان معیّن، إمّا حَلِف علی الجلوس فی مکان معیّن وفی آنٍ معیّن، وإمّا حَلِف علی ترک الجلوس، هذا الفعل الذی حَلِف إمّا علی فعله، وإمّا علی ترکه غیر قابل للتکرار؛ لأنّه أُخذت فیه قیود تجعله غیر قابل للتکرار، أیّ جلوس آخر هو لیس هذا الجلوس الذی تعلّق به الحکم إمّا وجوباً، وإمّا تحریماً؛ لأنّ هذا الجلوس الذی تعلّق به الحکم إمّا الوجوب، أو التحریم هو جلوس فی آنٍ معیّن وفی مکانٍ معیّن، فالجلوس فی مکانٍ آخر لیس هو هذا الجلوس المحلوف علی فعله، أو ترکه، والجلوس فی زمانٍ آخر هو أیضاً کذلک، فلا یکون قابلاً للتکرار. وإمّا أنْ یکون غیر قابل للتکرار؛ لأنّ طبیعة الفعل غیر قابلة للتکرار من قبیل القتل، وأمثاله، إذا علم بأنّه حَلِف إمّا علی قتل حیوان، أو علی ترک قتله، فیدور أمر قتله بین الوجوب وبین التحریم، هذا غیر قابل للتکرار؛ لأنّ القتل یقع مرّة واحدة ولا یقبل التکرار والتعدّد. وإمّا أنْ یکون الفعل قابلاً للتکرار کما إذا حَلِف علی فعل الجلوس بلا تقیید بزمان معیّن، أو حَلِف علی ترکه. ومن هنا تکون الصور المتصوّرة فی المقام أربعة:

ص: 368

الصورة الأولی: أنّ نفترض أنّ الفعل غیر قابل للتکرار، ویُعبّر عن الواقعة بأنّها واحدة مع افتراض أنّ الوجوب والتحریم توصّلیین.

الصورة الثانیة: واقعة واحدة الفعل غیر للتکرار مع افتراض أنّ أحدهما تعبّدی.

الصورة الثالثة: الواقعة متعددّة مع افتراض أنّ الوجوب والتحریم توصّلیین.

الصورة الرابعة: الواقعة متعدّدة مع افتراض أنّ أحدهما تعبّدی، لکن حیث أنّه مع افتراض تعددّ الواقعة یکون حکم الصورة الثالثة والصورة الرابعة واحداً کما سیتضح، سواء کانا توصّلیین، أو تعبّدیین، تکلموا عن حالة تعدد الواقعة من دون تفصیل بین کون الحکمین توصّلیین، وبین کونهما تعبّدیین، ومن هنا یقع الکلام فی ثلاث مقامات:

المقام الأوّل: ما إذا کانا توصلیین مع افتراض وحدة الواقعة.

المقام الثانی: ما إذا کانا تعبّدیین، أو أحدهما تعبّدی مع وحدة الواقعة.

المقام الثالث: ما إذا کانت الواقعة متعددة والفعل قابل للتکرار سواء کانا توصّلیین، أو کانا تعبّدیین، أو کان أحدهما تعبّدیاً.

بالنسبة إلی المقام الأوّل وهو ما إذا کانا توصّلیین مع وحدة الواقعة مثال(الجلوس)، أو(السفر) علی تقدیر أنْ یکون السفر واجباً فهو وجوب توصّلی لا یعتبّر فیه قصد التقرّب، وعلی تقدیر أنْ یکون حراماً أیضاً حرمته توصّلیة ولیست تعبّدیة، مع افتراض اتحاد الواقعة کما إذا قیّده بقیود تمنع من افتراض تکررّ الفعل، فی هکذا حالة المکلّف غیر قادر علی الموافقة القطعیة ولا علی المخالفة القطعیة، أمّا عدم قدرته علی المخالفة القطعیة؛ فلأنّه لا یخلو إمّا من الفعل، وإمّا من الترک، واقعه لا یخلو، فلا یستطیع أنْ یخالف کلاً منهما؛ لأنّه لا یخلو إمّا أنْ یجلس، وإمّا أن لا یجلس، فإذا جلس لیس فیه مخالفة قطعیة، وإذا ترک الجلوس أیضاً لیس فیه مخالفة قطعیة. إذن: هو غیر قادر علی المخالفة القطعیة. کما أنّه غیر قادر علی الموافقة القطعیة؛ لأنّه لا یمکنه أنْ یجمع فی الواقعة بین الفعل وبین الترک فی الزمان الواحد وفی المکان الواحد، فهو غیر قادر علی أن یجلس وأن لا یجلس، هذا محال، فإذن هو غیر قادر أیضاً علی الموافقة الاحتمالیة، کما أنّ معنی هذا الفرض أنّ المخالفة الاحتمالیة والموافقة الاحتمالیة أمران قهریان خارجان عن اختیار الإنسان، أمر لابدّ منه مهما فعل ومهما فرضنا هو لا یخلو من موافقة احتمالیة ومن مخالفة احتمالیة، فإذا ترک ففیه مخالة احتمالیة وفیه موافقة احتمالیة، وإذا فعل أیضاً کذلک. إذن: المخالفة الاحتمالیة والموافقة الاحتمالیة أمران قهریان خارجان عن اختیار المکلّف، فهو غیر قادر علی الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة، هذا لابدّ أنْ یؤخذ بنظر الاعتبار.

ص: 369

اختلفت أقوالهم فی الأصل الجاری فی هذه الصورة، ونُقلت أقوال کثیرة فی تحدید ما هو الموقف العملی فی هذه الحالة مع افتراض أنّ المکلّف غیر قادر علی الموافقة القطعیة ولا علی المخالفة القطعیة، وأنّه لا یخلو من الموافقة الاحتمالیة ومن المخالفة الاحتمالیة، فذُکرت أقوال خمسة، کما ذکرها السید الخوئی(قدّس سرّه) :

القول الأوّل: جریان البراءة الشرعیة والعقلیة. قاعدة قبح العقاب بلا بیان تجری إذا قلنا بها، وقاعدة البراءة الشرعیة المستفادة من حدیث الرفع وأمثاله. وهذا الرأی هو الذی تبنّاه السید الخوئی(قدّس سرّه). (1)

القول الثانی: التخییر بین الفعل والترک عقلاً، فیُحکم بجواز أحدهما، لکن العقل یحکم بالتخییر بینهما بین الفعل والترک مع جریان أصالة الإباحة شرعاً. وهذا ما اختاره صاحب الکفایة(قدّس سرّه). (2) بمعنی أنّ هناک حکم ظاهری شرعی فی محل کلامنا وهو الإباحة، الشارع یحکم بالإباحة، لکن فی نفس الوقت هناک حکم عقلی بالتخییر بین الفعل وبین الترک.

القول الثالث: التخییر بین الفعل والترک عقلاً، لکن من دون الالتزام بحکم ظاهری شرعی، یعنی مع عدم جریان أصالة الإباحة والبراءة فی محل الکلام. هذا الرأی أختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه). (3)

القول الرابع: التخییر بینهما شرعاً، یعنی أنّ الشارع یحکم بالتخییر بین الفعل والترک.

القول الخامس: تقدیم احتمال الحرمة علی احتمال الوجوب، فیُلزم المکلّف بالترک، ودلیله هو مسألة أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة، وهنا یدور أمره بین أنْ یدفع مفسدة إذا ترک، وبین أنْ یجلب مصلحة إذا فعل، یعنی علی تقدیر أنْ یکون واجباً فهناک مصلحة فی الفعل، وعلی تقدیر أنْ یکون حراماً هناک مفسدة فی الفعل، قالوا: أنّ العقل یحکم بأولویة دفع المفسدة من جلب المصلحة.

ص: 370


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 327.
2- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 355.
3- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 444.

بالنسبة إلی القول الأوّل الذی اختاره السید الخوئی(قدّس سرّه) وهو جریان البراءة العقلیة والشرعیة فی محل الکلام، یُفهم من کلامه الاستدلال علیه بأنّه لا یوجد ما یمنع من التمسّک بالبراءتین فی محل الکلام، فنتمسّک بهما.

أمّا بالنسبة إلی البراءة الشرعیة، فلعموم دلیلها ولا مانع یمنع من التمسّک بها بعد عموم دلیلها؛ حینئذٍ لا مانع من التمسّک بها؛ لأننّا لا نری مانعاً یمنع من التمسّک بعموم البراءة الشرعیة، مفاد حدیث الرفع هو رفع الحکم بأی معنی فسّرنا الرفع هو رفع الحکم فی حال الجهل به، وهذا ینطبق علی کلٍ من الوجوب والتحریم، الوجوب بالوجدان یجهله المکلّف، والحرمة أیضاً یجهلها المکلّف، فباعتبار أنّه یجهل الوجوب تجری البراءة لنفی الوجوب، وباعتبار أنّه یجهل التحریم تجری البراءة لنفی التحریم، ولا یوجد ما یمنع من إجراء البراءة فی کلٍ منهما والتمسّک بعموم حدیث الرفع فی کلٍ من الوجوب والتحریم؛ لأنّ موضوع البراءة فی حدیث الرفع هو ما لا تعلم به، وهو لا یعلم بالوجوب ولا یعلم بالتحریم، فیشملهما حدیث الرفع.

وأمّا البراءة العقلیة، فذکر أنّ موضوعها هو عدم البیان، لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، وهذا أیضاً صادق علی کلٍ من الوجوب والتحریم؛ لأنّه لا بیان علی الوجوب ولا بیان علی التحریم، فیقبُح العقاب علی هذا ویقبح العقاب علی هذا وهو معنی قاعدة قبح العقاب بلا بیان.

هناک اعتراضات علی إجراء أصالة البراءة فی محل الکلام نتعرّض لها إنْ شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی الأقوال التی ذکرناها سابقاً وهی خمسة، وفی أنّه ما هو مقتضی القاعدة، ومقتضی الأصل عند دوران الأمر بین المحذورین، القول الأوّل کان هو أنّه تجری فی المقام البراءتان الشرعیة والعقلیة، باعتبار أنّ دلیل البراءتین یشمل المقام ولا مانع من جریان البراءة فی محل الکلام

ص: 371

اعتُرض علی جریان البراءتین فی محل الکلام، أمّا الاعتراض علی جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، فله وجوه:

الوجه الأوّل: هو ما عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) من أنّ الحکم الظاهری لابدّ له من أثر شرعی، وإلاّ یکون جعله من قبل الشارع لغواً، ومن الواضح أنّ جعل البراءة فی المقام لا اثر له؛ لأنّ المکلّف لا یخلو من الفعل، أو الترک قهراً، فیکون جعل البراءة له من قبل الشارع لغواً؛ إذ لا أثر لهذا الحکم الظاهری فی محل الکلام.

قد یُضاف إلی ذلک: أنّ لغویة الحکم الظاهری المستفاد من أدلّة البراءة الشرعیة لعلّها باعتبار أنّ العقل یحکم بالتخییر بین العقل والترک، ومع حکم العقل بالتخییر بین الفعل والترک یکون جعل البراءة والإباحة لغواً وبلا فائدة.

السید الخوئی(قدّس سرّه) کأنّه فهم من کلام المحقق أنّ اللّغویة ناشئة من أنّ المکلّف لا یخلو من الفعل، أو الترک، فجْعل الإباحة الظاهریة من قبل الشارع فی حقّه یکون لغواً؛ لأنّه ماذا تصنع هذه الإباحة سوی أنْ تبیح له الفعل، أو تبیح له الترک، وهذا شیء حاصل وقهری بالنسبة إلیه؛ فلذا یکون جعلها لغواً؛ ولذا اعترض علی المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّ هذا لا یصلح مناطاً للغویّة، (2) وإلاّ لزم أن نحکم بلغویة جعْل الإباحة فی سائر الموارد الأخری؛ إذ فی هذه الموارد أیضاً المکلّف لا یخلو من الفعل، أو الترک، فی الشبهات التحریمیة --------- مثلاً ---------- أیضاً المکلف لا یخلو إمّا أنْ یفعل، أو یترک، ومجرّد أن المکلّف لا یخلو من الفعل، أو الترک، هذا لا یعنی أنْ یکون جعْل الإباحة لغواً، وإلاّ للزم الالتزام بلغویة جعْل الإباحة فی جمیع الموارد، ولیس فقط فی دوران الأمر بین المحذورین؛ بل فی غیر دوران الأمر بین المحذورین أیضاً یلزم هذه اللّغویة؛ لأنّ المکلّف لا یخلو من الفعل، أو الترک. هذا إذا قلنا بأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) کان ناظراً إلی هذه المسألة لإثبات اللّغویة، مجرّد أنْ یکون المکلّف لا یخلو من الفعل، أو الترک، هذا وحده یثبت لغویة جعْل الإباحة الظاهریة فی حقّه. وأمّا إذا قلنا بأنّ منظور المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو الشیء الآخر، أنّ لغویة جعْل الإباحة فی حقّه باعتبار أنّ العقل یحکم بالإباحة ویحکم بالتخییر بین الفعل وبین الترک، بعد حکم العقل بالتخییر بین الفعل والترک کما اختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه)؛ لأنّه یری أنّ التخییر فی المقام عقلی، بعد أنْ حکم العقل بالتخییر بین الفعل والترک، فجعْل الإباحة من قبل الشارع یکون لغواً، فاللّغویة إنّما تنشأ لیس من جهة أنّ المکلّف لا یخلو من الفعل، أو الترک، وإنّما تنشأ من حکم العقل بالتخییر بین الفعل والترک، باعتبار أنّ هذا التخییر یعنی الترخیص من قبل العقل، وبعد فرض أنّ هذا الترخیص موجود من قبل العقل؛ حینئذٍ یکون جعل الترخیص والإباحة من قبل الشارع لغواً.

ص: 372


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 448.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 330.

إذا کان هذا هو المقصود بالوجه الأوّل من الإشکال فی جریان البراءة فی محل الکلام، فجوابه هو نفس الجواب عندما یُستشکل فی جریان البراءة فی سائر الموارد؛ لأنّ العقل لا یحکم بالترخیص فقط فی هذا المقام؛ بل حتّی فی سائر الموارد العقل أیضاً یحکم بالترخیص بناءً علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فالعقل یحکم بالبراءة فی موارد الشبهة التحریمیة وفی موارد الشبهة الوجوبیة فی غیر محل الکلام، بناءً علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان هناک حکم عقلی بالبراءة وبقبح العقاب، وهناک أیضاً یرد هذا الإشکال، وهو ما معنی أنّ الشارع یتصدّی ویجعل الإباحة ویجعل الترخیص الظاهری ؟ ألیس جعل الترخیص الظاهری فی موارد حکم العقل بالبراءة وباستحالة العقاب علی الفعل، أو علی الترک علی اختلاف الموارد، ألیس جعل الترخیص هذا من قبل الشارع یکون لغواً ؟! وبلا فائدة، ولیس له أیّ اثر، فأنّ الأحکام الظاهریة إنّما تُجعل من قبل الشارع إذا کان لها أثر شرعی یترتب علیها، وهذا لیس له أثر، ولیس له فائدة.

هذا الإشکال لا یختص بمحل الکلام؛ بل فی کل موردٍ یحکم العقل فیه بالبراءة وباستحالة العقاب، أیضاً یقال: ما فائدة جعل الإباحة الظاهریة والترخیص الظاهری من قبل الشارع ؟ فأیضاً یلزم أنْ یکون جعله لغواً، ولعلّ هذا هو مقصود السید الخوئی(قدّس سرّه)،یعنی یرید أنْ یقول بأنّه لا یمکن الالتزام بلغویة جریان البراءة فی محل الکلام لمجرّد أنّ العقل یحکم بالتخییر بین الفعل والترک، وإلاّ لابد أنْ نلتزم بذلک فی سائر موارد جریان البراءة بناءً علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فی کل موردٍ یحکم فیه العقل بذلک الحکم؛ حینئذٍ یکون جعل ذلک الحکم من قبل الشارع لغواً؛ لأنّه بلا فائدة، ولیس له أیّ أثر.

ص: 373

فی الحقیقة الجواب هو الجواب، یعنی إذا کان هذا هو الإشکال، فالجواب هو الجواب السابق، وهو أنّ هناک آثاراً تترتب علی جعل الإباحة الظاهریة، فالعقل فی موارد جریان البراءة لا یحکم بالإباحة، بینما الشارع یحکم بإباحةٍ ظاهریةٍ وهو حکم شرعی کسائر الأحکام الشرعیة له ملاکاته وله مبادئه، هذه أحکام ظاهریة، والأحکام الظاهریة کالأحکام الواقعیة، فهی أیضاً لها مبادئ، بالنتیجة لها مصالح ومفاسد؛ لأنّها أحکام ظاهریة، بینما الحکم العقلی لیس هکذا، الحکم العقلی فقط یخیّر المکلّف بین الفعل وبین الترک، هذا شیء وأنْ نقول أنّ هذا الفعل محکوم بالإباحة وأنّه مباح بإباحةٍ شرعیة ظاهریةٍ مجعولةٍ من قبل الشارع، هذا حکم ظاهری یکون مجعولاً من قبل الشارع، ولم یستشکل أحد فی جعل البراءة الشرعیة، وفی شمول أدلّة البراءة الشرعیة فی موارد حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، کما أنّه لم یستشکل هناک فی جریان البراءة فی موارد حکم العقل، فالمقام أیضاً ینبغی أن لا نستشکل فی جریان البراءة فی محل الکلام فی موارد حکم العقل بالتخییر بین الفعل وبین الترک.

الوجه الثانی: الذی مُنع علی اساسه من جریان البراءة هو ما یقال من أنّ رفع الإلزام فی مرحلة الظاهر إنّما یکون فی المورد القابل للوضع، فکلّ موردٍ یکون قابلاً للوضع الظاهری یکون قابلاً للرفع الظاهری، والوضع الظاهری کما هو واضح هو عبارة عن إیجاب الاحتیاط، ووضع التکلیف فی مرحلة الظاهر هو عبارة عن إیجاب الاحتیاط تجاه التکلیف المشکوک، هذا یُطلق علیه أنّه وضع للتکلیف المشکوک فی مرحلة الظاهر، فالتکلیف الذی یمکن وضعه ظاهراً یمکن رفعه ظاهراً، والتکلیف الذی یمکن جعل وجوب الاحتیاط تجاهه عندما یکون مشکوکاً یمکن رفع وجوب الاحتیاط تجاهه عندما یکون مشکوکاً، أمّا التکالیف التی لا یمکن وضعها ظاهراً، لا یمکن إیجاب الاحتیاط بلحاظها، فلا یمکن رفعها أیضاً، فلا تشملها الأحادیث الدالّة علی البراءة بلسان الرفع؛ لأنّ الرفع یقابل الوضع، والرفع والوضع أمران متقابلان تقابل الملکة والعدم، فالرفع إنّما یمکن حیث یمکن الوضع، حیث یکون الوضع ممکناً ومقبولاً؛ عندئذٍ یکون الرفع ممکناً، وأمّا حیث لا یمکن الوضع الظاهری للتکلیف المشکوک؛ فحینئذٍ لا یمکن الرفع؛ فحینئذٍ لا یصحّ الاستدلال بالأدلّة والأحادیث الدالّة علی البراءة إذا کانت واردة بلسان الرفع من قبیل حدیث الرفع. وفی المقام لا یمکن وضع التکلیف ظاهراً؛ لأنّ الوضع الذی یعنی إیجاب الاحتیاط غیر ممکن؛ لأنّ المکلّف لا یتمکّن من الموافقة القطعیة، المکلّف فی محل کلامنا لا یمکنه الاحتیاط؛ لأنّه غیر قادر علی الفعل والترک فی آنٍ واحد، فهو لا یتمکّن من الاحتیاط، ولا یتمکّن من الموافقة القطعیة، وهذا معناه أنّ التکلیف المشکوک لا یمکن وضعه ظاهراً، فإذن: لا یمکن رفعه ظاهراً، فلا تکون الأحادیث والروایات ----------- مثل حدیث الرفع ---------- شاملة لمحل الکلام. هذا الوجه الثانی لمنع جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام وهو کما هو واضح یختص بنمطٍ خاصٍ من أدلّة البراءة الذی هو وارد بلسان الرفع.

ص: 374

ویجاب عن هذا الوجه: بأنّ البراءة الشرعیة، ولو کانت مستندة إلی حدیث الرفع، عندما نرید إجراءها فی محل الکلام، فنحن نجریها بالنسبة إلی کلّ طرفٍ علی حِدة، فالبراءة تجری بلحاظ الوجوب المحتمل، وتجری بلحاظ الحرمة المحتملة فی محل الکلام فی دوران الأمر بین محذورین، ومن الواضح أنّ کلّ براءة عندما نجریها فی طرفٍ، فالاحتیاط فی ذلک الطرف یکون أمراً ممکناً ولیس محالاً، فأیّ ضیر فی أن یجعل الشارع الاحتیاط بلحاظ احتمال الوجوب ؟ وأیّ ضیرٍ فی أنْ یجعل الشارع الاحتیاط بلحاظ احتمال التحریم، کل منهما أمر ممکن ولیس محالاً، أن یقول الشارع(یجب علیک الاحتیاط بلحاظ احتمال الوجوب) یعنی یُلزم المکلّف احتیاطاً بالفعل، هذا أمر ممکن ولا محذور فیه، أو یلزم المکلّف احتیاطاً بالترک، أنْ یلزم المکلّف بالاحتیاط بلحاظ احتمال التحریم. إذن: جعل الاحتیاط فی المورد الذی نرید إجراء البراءة فیه أمر ممکن، وعلی هذا الأساس نقول أنّ رفع الاحتیاط بإجراء البراءة فی هذا الاحتمال أمر ممکن، کما أنّ رفع الاحتیاط بإجراء البراءة فی الاحتمال الآخر أیضاً یکون أمراً ممکناً؛ لأنّ الشارع قادر علی وضع وجوب الاحتیاط فی هذا الطرف ووضع وجوب الاحتیاط فی ذاک الطرف، فإذا کان قادراً علی وضع وجوب الاحتیاط، ووضع التکلیف المشکوک فی مورد احتماله، فهو قادر علی رفع التکلیف المشکوک ظاهریاً بنفی وجوب الاحتیاط وبجعل البراءة.

بعبارةٍ أخری: أنّ من الواضح جدّاً أنّ جعل الاحتیاط بالنسبة إلی کل طرفٍ أمر ممکن ولیس محالاً، وإنّما المحال هو أنْ یُجعل الاحتیاط بلحاظ کلٍ منهما فی آنٍ واحدٍ بأن یُطلب من المکلّف أنْ یحتاط بلحاظ الفعلٍ والترک فی آنٍ واحدٍ، هذا هو الغیر ممکن، أمّا أن یُجعل الاحتیاط بلحاظ التحریم، فهذا لیس فیه محذور، أو یُجعل الاحتیاط بلحاظ الوجوب، هذا أیضاً لیس فیه محذور، وهذا المقدار، یعنی إمکان جعل الاحتیاط بلحاظ هذا الطرف، وإمکان جعل الاحتیاط بلحاظ هذا الطرف، هذا یکفی للقدرة علی رفع الاحتیاط فی کلٍ منهما، یعنی إجراء البراءة فی کلٍ منهما، باعتبار أنّ القدرة علی ترک الجمیع لا تتوقّف علی القدرة علی فعل الجمیع، وإنّما تتوقّف علی القدرة علی کل واحدٍ من أفراد ذلک الجمیع، ولا تتوقّف علی القدرة علی فعل الجمیع فی عرضٍ واحد حتّی نقول أنّ هذا قادر علی ترک الجمیع، ترک الجمیع یکفی فیه القدرة علی فعل کل واحدٍ واحدٍ من الجمیع، إذا کان الإنسان قادراً علی فعل هذا، وفعل هذا، وفعل هذا، إذن: هو قادر علی ترک الجمیع، القدرة علی ترک الجمیع لا تتوقّف علی افتراض القدرة علی فعل الجمیع فی عرضٍ واحد؛ بل حتّی إذا کان غیر قادر علی أنْ یجمع بین الأفراد فی عرضٍ واحدٍ، ما دام هو قادر علی فعل کل واحد من هذه الأفراد کلٌ علی حِدة، فهو قادر علی ترک الجمیع، إذن: القدرة علی ترک الجمیع یکفی فیه القدرة علی هذا الفرد، والقدرة علی هذا الفرد.....وهکذا، ولا تتوقّف علی القدرة علی جمیع الأفراد فی عرضٍ واحد حتّی یقال أنّ هذا غیر قادر علی الإتیان بجمیع الأفراد فی آنٍ واحد. إذن: هو غیر قادر علی الترک. هذا الکلام نفسه نطبّقه فی محل الکلام، یقال فی الإشکال: رفع التکلیف المشکوک فی مرحلة الظاهر لإجراء البراءة بالنسبة إلی کلٍ من الطرفین محال وغیر ممکن؛ لأنّ الشارع غیر قادر علی أنْ یضع هذا التکلیف المشکوک ظاهریاً، ویضع هذا التکلیف المشکوک ظاهریاً، یعنی هو غیر قادر علی الجمع بین هذین الوضعین، هذا صحیح، هو غیر قادر علی الجمع بین الأمرین، بمعنی أنْ یجعل الاحتیاط بلحاظ کلٍ منهما فی آنٍ واحد، هذا محال، لکنّ الرفع الظاهری لکلٍ منهما لا یتوقّف علی أنْ یکون قادراً علی الوضع بلحاظ کلٍ منهما فی آنٍ واحد، وإنّما یتوقّف علی أنْ یکون قادراً علی هذا الوضع، وأن یکون قادراً علی هذا الوضع، ولا إشکال فی أنّ إیجاب الاحتیاط أمر ممکن بلحاظ کل من الاحتمالین، بلحاظ التحریم یمکن جعل وجوب الاحتیاط، وبلحاظ الوجوب یمکن جعل وجوب الاحتیاط، هذا یکفی فی القدرة علی رفع وجوب الاحتیاط فی کلٍ منهما، فیکون رفع وجوب الاحتیاط بلحاظ کلٍ منهما أمراً مقدوراً؛ لأنّ وضع وجوب الاحتیاط بلحاظ کلٍ منهما أمر مقدور، فیکون رفع وجوب الاحتیاط بلحاظ کل واحد منهما أیضاً أمراً مقدوراً، فلا مانع من شمول دلیل الرفع لمحل الکلام، وإنْ کان الجمع بین هذین الوضعین فی آنٍ واحدٍ لیس أمراً مقدوراً، لکن الرفع لکلٍ منهما لا یتوقّف علی ذلک، وإنّما کما قلنا یتوقّف علی إمکان وضع التکلیف فی کل واحدٍ منهما، وهذا أمر مقدور وممکن فی محل الکلام، فیکون الرفع أیضاً أمراً ممکناً. فی فعل الضدین ---------- مثلاً ---------- لا إشکال فی أنّ المکلّف غیر قادر علی الجمع بینهما، لکنّه قادر علی ترکهما؛ لأنّ القدرة علی ترک الضدّین یکفی فیها القدرة علی فعل کل منهما، هو قادر علی فعل هذا الضد، وقادر علی فعل هذا الضد، فإذن: هو قادر علی ترکهما، فالقدرة علی ترکهما لا تتوقّف علی فعلهما معاً وفی عرضٍ واحد حتّی یقال أنّ القدرة علی فعلهما معاً وفی عرض واحد محال، إذن: هو غیر قادر علی ترکهما؛ بل هو قادر علی ترکهما لمجرّد أنْ یکون قادراً علی فعل هذا وقادراً علی فعل هذا. فی محل الکلام إیجاب الاحتیاط بلحاظ التحریم أمر ممکن من قبل الشارع بلا إشکال، وإیجاب الاحتیاط بلحاظ الوجوب أمر ممکن من قبل الشارع بلا إشکال، إذن: رفع إیجاب الاحتیاط فی کلٍ منهما أمر ممکن، وإجراء البراءة والتمسّک بحدیث الرفع فی محل الکلام هو عبارة عن إثبات الرفع الظاهری، والبراءة فی کلٍ منهما، وهذا أمر ممکن؛ لأنّ الوضع الظاهری أیضاً ممکن فی کلٍ منهما.

ص: 375

الوجه الثالث: هذا الوجه یختص بما إذا کان مفاد الدلیل هو الحلّیة؛ لأنّ بعض أدلّة البراءة مفادها الرفع کما فی حدیث الرفع، وبعضها مفاده کل شیءٍ لک حلال وأمثاله، بناءً علی إمکان الاستدلال وصحّة الاستدلال بها علی الإباحة والبراءة. حاصل هذا الوجه الذی یمنع من إجراء هذه الأدلّة فی محل الکلام: هو أنّ مفاد أدلّة الحلّیة هو جعل الحلّیة الظاهریة، والمأخوذ فیها احتمال المطابقة للواقع، وأمّا إذا فرضنا أنّ الإباحة الظاهریة التی نرید إثباتها فی محل الکلام لم تکن مطابقة للواقع؛ بل نجزم بأنّها لیست مطابقة للواقع؛ حینئذٍ لا یمکن جعل هذه الإباحة الظاهریة، لا یمکن إثبات الإباحة الظاهریة من أدلّة الحل؛ لأنّ جعل الإباحة الظاهریة مشروط باحتمال مطابقة الإباحة للواقع، وأمّا إذا جزمنا بعدم المطابقة، وأنّه لا إباحة فی الواقع؛ حینئذٍ لا یمکن جعل الإباحة الظاهریة، وفی محل الکلام ----------- دوران الأمر بین المحذورین ----------- نحن نجزم بعدم الإباحة فی الواقع؛ لأنّ الأمر یدور بین الوجوب والتحریم، قطعاً هذا لیس مباحاً لأنّ أمره ----------- بحسب الفرض ------------ یدور بین الوجوب وبین التحریم، فإذا کانت الإباحة الواقعیة غیر محتملة أصلاً، فکیف یمکن جعل الإباحة الظاهریة، فکأنّ من شرائط إثبات الإباحة کحکم ظاهری أن یکون المکلّف یحتمل مطابقتها للواقع کما هو الحال فی الشبهات التحریمیة، وکما هو الحال فی الشبهات الوجوبیة، احتمال الإباحة واقعاً موجود، ویُعقل جعل الإباحة الظاهریة، أمّا حیث لا یُحتمل الإباحة الظاهریة، فلا یُعقل ولا یمکن جعل الإباحة الظاهریة. هذا نظیر ما یُقال فی باب الإمارات، فأنّ الحجّیة أیضاً حکم ظاهری، هناک یُقال أیضاً بأنّ جعل الحجّیة للإمارة إنّما یُعقل حیث یُحتمل مطابقة الإمارة للواقع، ولا معنی لجعل الحجّیة للإمارة حیث لا یُحتمل ذلک کما إذا علمنا بعدم مطابقة الإمارة للواقع، أو علمنا بمطابقتها للواقع، علی کلا التقدیرین لا معنی لجعل الحجّیة للإمارة. إذا علمنا بعدم مطابقتها للواقع، فجعل الحجّیة لها لا محل له للعلم بکذبها، کما أنّه عند العلم بمطابقة الإمارة للواقع أیضاً لا تحتاج إلی جعل الحجّیة، فإنّما یمکن جعل الحجّیة عند احتمال مطابقة الإمارة للواقع. نظیر هذا کأنّه یُقال فی محل الکلام؛ لأنّ جعل الإباحة الظاهریة فی محل الکلام مشروط باحتمال مطابقة ما هو المجعول للواقع، وفی محل الکلام لا یُحتمل المطابقة للقطع بعدم الإباحة، فلا معنی لجعل الإباحة الظاهریة.

ص: 376

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی الوجه الثالث الذی ذُکر لمنع جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، وکان حاصله، هو : أنّ أدلّة البراءة الشرعیة تختص بما إذا کان هناک احتمال المطابقة للواقع، بأنْ یکون الحکم الظاهری المجعول الذی هو الإباحة، فیه احتمال المطابقة للواقع، وهذا معناه أنّ أدلّة البراءة لا تجری، إلاّ فیما إذا کان یُحتمل الإباحة الواقعیة، وفی محل الکلام لا تُحتمل الإباحة والحلّیة؛ بل نجزم بعدم الحلّیة؛ لأنّ المفروض دوران الأمر بین الوجوب والتحریم، فکیف تجری أدلّة البراءة مع عدم احتمال مطابقة الحکم الظاهری المجعول فیها للواقع ؟! وکأنّه یعتبر فی جریان البراءة احتمال المطابقة للواقع.

ویمکن أنْ یجاب عن هذا الوجه: بأنّ هذا إنّما یتم فی مثل الأحکام الظاهریة الطریقیة من قبیل الحجّیة بالنسبة إلی الإمارات، هناک یقال بأنّه لا معنی لجعل الحجّیة للإمارة، إلاّ مع احتمال مطابقتها للواقع، وأمّا مع العلم بعدم المطابقة، أو مع العلم بالمطابقة، فلا معنی لجعل الحجّیة لتلک الإمارة، وأمّا فی مثل محل الکلام، الإباحة التی هی من الأحکام الظاهریة التی لا تجعل کطریقٍ لإحراز الواقع، ولا یُراد بها إحراز الإباحة الواقعیة حتّی یقال بأنّها تختص بما إذا کان هناک احتمال واقعی للإباحة الواقعیة، ولا تشمل ما إذا لم تُحتمل الإباحة، الإباحة والبراءة والحلّیة أحکام ظاهریة مجعولة لا علی نحو الطریقیة، وإنّما الغرض منها أنّها تکشف عن اهتمام الشارع بالأحکام الترخیصیة أکثر من اهتمامه بالأحکام الإلزامیة عندما یقع التزاحم بینهما فی مقام الحفظ، هی تُعبّر عن ذلک لا أکثر، ومن هنا لا معنی لأنْ نقول بأنّ جعل الإباحة الظاهریة مشروط باحتمال مطابقتها للواقع؛ بل موضوع هذه الأصول هو الشکّ فی الحکم الواقعی، فمتی شکّ المکلّف فی الحکم الواقعی تحقق موضوعها، وأمکن جعلها ---------- أی الإباحة ---------- وإن لم نحتمل مطابقتها للواقع، حتّی إذا قلنا بأننا لا نحتمل الإباحة الواقعیة، لکن یکفی فی إمکان جعل الإباحة والبراءة والحلّیة الشکّ فی الحکم الواقعی، إذا شک المکلّف فی الوجوب تُجعل له البراءة، أو الإباحة من دون فرق بین أنْ تکون الإباحة محتملة فی الواقع کما إذا دار الأمر بین الوجوب وبین الإباحة، وبین أنْ لا تکون الإباحة محتملة أصلاً کما إذا دار الأمر بین الوجوب والتحریم کما فی محل الکلام، الإباحة یکفی فیها الشکّ فی الحکم الواقعی، حتّی إذا لم نحتمل الإباحة فی الواقع، لیست الإباحة متقوّمة باحتمال أنْ یکون هذا الحکم الظاهری الذی هو عبارة عن الإباحة، أو الحلّیة محتمل المطابقة للواقع، هذا لم یؤخذ فی أدلّة الإباحة، وإنّما المأخوذ فی أدلّة الإباحة هو الشکّ فی الحکم الواقعی، وهذا الشک فی الحکم الواقعی موجود فی محل الکلام، قلنا أنّ تطبیق الإباحة، أو البراءة، أو الحلّیة یکون علی کل طرفٍ فی محل الکلام بخصوصه، بمعنی أننا نلتفت إلی احتمال الوجوب، فنجری فیه البراءة بخصوصه، واحتمال التحریم نجری فیه البراءة؛ لأنّ مفاد البراءة هو نفی وجوب الاحتیاط، ونحن نحتمل وجوب الاحتیاط فی هذا الطرف بخصوصه؛ لأننا قلنا أنّ جعل وجوب الاحتیاط من قبل الشارع فی هذا الطرف بخصوصه أمر ممکن، ولیس محالاً أنْ یأمر الشارع بالاحتیاط بلحاظ الوجوب، یعنی یأمر بالفعل احتیاطاً، أو یأمر بالترک احتیاطاً، یعنی یأمر بالاحتیاط بلحاظ التحریم.

ص: 377

إذن: البراءة التی نجریها هی لنفی وجوب الاحتیاط فی هذا الطرف بخصوصه، هل أوجب علیّ الشارع الفعل فی مثل هذه الحالة من باب الاحتیاط ؟ هذا محتمل، محتمل أنّ الشارع جعل وجوب الاحتیاط بلحاظ الوجوب، فتجری البراءة لنفی هذا الاحتمال. احتمال أیضاً أنّ الشارع جعل علیّ وجوب الاحتیاط بلحاظ التحریم، هذا أیضاً أمر ممکن ولیس فیه استحالة، أیضاً البراءة تجری لنفی احتمال وجوب الاحتیاط بلحاظ التحریم، هذا هو المقوّم لجریان أدلّة البراءة، أنّ یکون هناک شک فی الحکم الواقعی، وهذا موجود فی محل کلامنا. أمّا أنْ نشترط فی جریان البراءة أنْ یکون الحکم الظاهری الذی تحکم به تلک الأدلّة یحتمل المطابقة للواقع بحیث تختص أدلّة البراءة بخصوص الشبهات التحریمیة البدویة، أو الشبهات البدویة الوجوبیة، هذا لا دلیل علیه.

علی کل حال، ما یقال من أنّ الأحکام الظاهریة متقوّمة بالشک أمر صحیح، لکن معنی الشکّ هو عدم العلم بالحکم الواقعی، لابدّ من افتراض شکّ فی الحکم الواقعی، لکن لیس معنی تقوّم الأحکام الظاهریة بالشک هو أنْ یکون هناک احتمال مطابقة الحکم الظاهری المجعول للواقع، وإنّما الشک یعنی لابدّ أنْ یکون هناک شیء مشکوک تشک فیه حتّی یُجعل هذا الحکم الظاهری، بمعنی عدم العلم بالحکم الواقعی، لیس معنی ذلک أنْ یکون الحکم الظاهری المجعول محتمل المطابقة للحکم الواقعی الذی یُشَکّ فیه، هذا لم یدل علیه دلیل.

الوجه الرابع: ما یُفهم من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی نهایة الأفکار، (1) وحاصل ما نفهم من کلامه أنّه یقول: لا مجال لجریان أدلّة البراءة وأصالة الحلّیة فی المقام لإثبات الترخیص فی الفعل والترک. ویُعللّ ذلک باعتبار أنّ الترخیص المستفاد من هذه الأدلّة ----------- أدلّة البراءة، أدلّة الإباحة، أدلّة الحلّیة ---------- إنّما هو الترخیص بملاک الجهل وعدم البیان؛ لأنّ الذی یُفهم من هذه الأدلّة هو أنّ الجهل عذر، وأنّ هذه المعذوریة الثابتة فی حالة الجهل ترتفع بالعلم، هذا مفاد هذه الأدلّة، معذوریة الجاهل لجهلة، وعدم معذوریة العالم، فالمعذوریة تثبت فی حال الجهل وترتفع فی حال ارتفاع الجهل وتبدّل الجهل بالعلم. هذا مفاد هذه الأدلّة، المعذوریة وعدم المعذوریة، والمنجّزیة وعدم المنجّزیة أمران مرتبطان بالعلم والجهل، الجهل بالحکم الواقعی یعتبر عذراً، وترتفع هذه المعذوریة إذا تبدّل الجهل بالعلم، فالذی یُستفاد منها هو الترخیص، لکن بملاک الجهل وعدم العلم وعدم البیان. یقول: من الواضح أنّ هذا الترخیص بملاک عدم البیان إنّما یثبت فی حالة سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة وعن التأثیر؛ لأنّه فی حالة وجود العلم الإجمالی وبقاءه علی المنجّزیة وعدم سقوطه عن التأثیر سوف یکون مانعاً من جریان البراءة، وإنّما نستطیع إجراء البراءة بعد فرض سقوط هذا العلم الإجمالی عن التأثیر والمنجّزیة، وإلاّ لو کان العلم الإجمالی باقیاً علی حاله فی التأثیر والمنجّزیة لکان مانعاً من جریان البراءة.

ص: 378


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 293.

إذن: جریان البراءة بملاک الجهل وعدم البیان موقوف علی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة؛ لأنّه یمنع من جریان البراءة. الآن نأتی إلی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی محل الکلام، لا إشکال فی سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی محل الکلام، لکن لماذا یسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة والتأثیر ؟

بعبارةٍ أخری: إنّ العلم بالإلزام المردّد بین الوجوب والتحریم لا یکون منجّزاً لکلٍ من الطرفین لعدم قدرة المکلّف علی امتثال الوجوب وامتثال التحریم، لمکان الاضطرار یسقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، ولاستحالة تکلیف العاجز واستحالة الترجیح بلا مرجّح یسقط هذا العلم الإجمالی عن المنجّزیة، فإذا سقط العلم الإجمالی عن المنجّزیة لمکان الاضطرار واستحالة تکلیف العاجز یکون هناک حکم عقلی بالترخیص، والتخییر بین الفعل والترک، باعتبار استحالة تکلیف العاجز واستحالة الترجیح بلا مرجّح؛ فحینئذٍ یستقل العقل بالتخییر بین الفعل وبین الترک.

إذن: فی مرحلة سابقة علی إجراء البراءة، قبل أن نأتی إلی أدلّة البراءة ونرید إجراء البراءة فی محل الکلام، فی مرحلة سابقة علی ذلک کان هناک تخییر عقلی بین الفعل والترک لمکان الاضطرار الموجب لسقوط العلم الإجمالی عن التأثیر والمنجّزیة، وفی هذه الحالة یقول: لا مجال حینئذٍ للتمسّک بأدلّة البراءة لإثبات البراءة والإباحة والحلّیة والتخییر بین الفعل والترک، لا مجال لذلک بعد حکم العقل بالترخیص، ویقول:(فلا یبقی مجال لجریان البراءة نظراً إلی حصول الترخیص حینئذٍ فی المرتبة السابقة علی جریانها بحکم العقل بالتخییر بین الفعل والترک). یعنی أنّ النویة لا تصل إلی البراءة أصلاً، إلاّ إذا سقط العلم الإجمالی؛ لأنّه فی حال وجوده یمنع من جریان البراءة، وسقوط العلم الإجمالی إنّما یکون باعتبار مکان الاضطرار وحکم العقل باستحالة التکلیف، فإذا استحال تکلیف هذا، فهذا معناه أنّ هناک تخییراً عقلیاً بین الفعل وبین الترک، ومع وجود الترخیص العقلی وحکم العقل بالتخییر بین الفعل والترک الذی حصل بعد فرض سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة باعتبار الاستحالة المذکورة؛ حینئذٍ لا مجال للرجوع إلی أدلّة البراءة وإثبات الترخیص فی محل الکلام بعد حکم العقل بالتخییر بین الفعل والترک.

ص: 379

أقول: هذا الکلام کأنّه --------- والله العالم ---------- یرجع إلی الوجه الأوّل، یعنی کأنّه استدلال باللّغویة، کأنّه یرید أنْ یقول لا معنی لجعل البراءة الشرعیة کحکم ظاهری من قبل الشارع فی موردٍ یحکم العقل فیه بالتخییر بین الفعل وبین الترک، هذا شیء لا فائدة منه، فلا مجال لجریان البراءة نظراً إلی حصول الترخیص فی المرتبة السابقة بحکم العقل بالتخییر بین الفعل وبین الترک. لا یبعُد أنْ یکون مقصوده هو إشارة إلی لغویة جعل هذا الحکم الظاهری الشرعی المستفاد من أدلّة البراءة والإباحة فی محل الکلام، باعتبار ثبوت الترخیص فی مرتبةٍ سابقةٍ ؛ یعنی فی مرتبة ما قبل البراءة سقط العلم الإجمالی؛ لأنّ البراءة لا تجری إلاّ بعد سقوط العلم الإجمالی عن التأثیر، وفی تلک المرتبة ثبت الترخیص العقلی والتخییر العقلی بین الفعل والترک. إذن: فی مرتبةٍ سابقةٍ علی إجراء البراءة ثبت التخییر العقلی بین الفعل والترک؛ وحینئذٍ لا مجال لجریان البراءة. الظاهر أنّ هذا هو مقصوده، یعنی نستطیع أن نقول: أنّ هذا الوجه تقریباً یرجع إلی الوجه الأوّل المتقدّم الذی کان عبارة عن دعوی أنّ جعل البراءة والإباحة فی محل الکلام لغو، باعتبار أنّ العقل یحکم بالتخییر بین الفعل والترک، وقلنا أنّ هذا الإشکال لا یختص بمحل الکلام؛ بل یجری فی جمیع موارد جریان البراءة بناءً علی الإیمان بقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّه فی کل تلک الموار یحکم العقل بالترخیص، فیقع الکلام فی أنّ جعل الإباحة حینئذٍ من قبل الشارع یکون لغواً وبلا فائدة، وفی خصوص المقام الفائدة ملموسة، یعنی لیس هناک لغویة، جعل البراءة والتمسّک بها فی محل الکلام له فائدة ملموسة، لیست موجودة وثابتة فی مرحلة سابقة، الترخیص العقلی الثابت فی المرحلة السابقة، حکم العقل بالتخییر بین الفعل وبین الترک الثابت فی مرحلةٍ سابقةٍ علی إجراء البراءة، هذا کلّه صحیح، لکنّه کان ناظراً إلی الجامع المعلوم الذی هو عبارة عن الإلزام، یعنی الترخیص ثابت من ناحیة العلم الإجمالی بهذا الإلزام؛ لأنّ هذا الترخیص إنّما ثبت بعد سقوط العلم الإجمالی عن التأثیر وعن المنجّزیة باعتبار عدم القدرة وباعتبار الاضطرار، فکأنّه یرید أن یقول أنّ هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً للطرفین؛ لاستحالة ارتکابهما واستحالة ترجیح أحدهما علی الآخر، فلا یکون منجّزاً للطرفین، بینما ما نرید إثباته بالبراءة فی المرحلة المتأخرة لیس هو هذا الترخیص، لیس هو التخییر بین الفعل والترک من ناحیة العلم الإجمالی، بمعنی أنّ العلم الإجمالی لیس مؤثراً فی التنجیز، وإنّما ما نرید إثباته فی المقام هو إجراء البراءة بخصوص هذا الطرف وبخصوص هذا الطرف، وإجراء البراءة بخصوص الوجوب أمر ممکن لنفی احتمال وجوب الاحتیاط فی هذا الطرف، احتمال وجوب الاحتیاط فی طرف الوجوب هو احتمال وارد، کما أنّ احتمال وجوب الاحتیاط شرعاً بلحاظ التحریم أیضاً احتمال وارد، کلٌ منهما محتمل، أنا احتمل أنّ الشارع یوجب علیّ الفعل احتیاطاً؛ لأنّه یهتم بالوجوب أکثر من التحریم، احتمال وجوب الاحتیاط فی هذا الطرف بخصوصه هو الذی نرید أنّ نجری البراءة لنفیه، وهذا لم یکن موجوداً قبل إجراء البراءة، وإنّما نرید أن ننفیه بإجراء البراءة، بإجراء البراءة نرید أن ننفی احتمال وجوب الاحتیاط بلحاظ الوجوب، کما نرید أن ننفی جعل وجوب الاحتیاط بلحاظ التحریم؛ لأنّ کلاً منهما محتمل، وکل منهما یُجهل به، فیتحقق موضوع البراءة الذی هو الجهل وعدم العلم وعدم البیان، والفائدة من جعل البراءة هو نفی احتمال وجوب الاحتیاط شرعاً من ناحیة الوجوب، هذا التحریم أیضاً مجهول عندی، فیتحقق موضوع البراءة، فالبراءة التی أجریها براءة بملاک الجهل، بملاک عدم العلم وعدم البیان، لا براءة بملاک الاضطرار وبملاک عدم القدرة، هذا الشیء الذی کان ثابتاً قبل إجراء البراءة لیس بهذا الملاک، وإنّما هی براءة بملاک الجهل، باعتبار أنّ التحریم مجهول بالوجدان، ویُحتمل أنّ الشارع وضع وجوب الاحتیاط بلحاظه، الغرض من البراءة هو نفی هذا الاحتمال.

ص: 380

إذن: هذا لا یمکن أنْ نقول عنه أنّه لغو وبلا فائدة، ولا یمکن جریان البراءة فی مورد یحکم فیه العقل بالتخییر بین الفعل وبین الترک، کلا، الفائدة مترتبة وواضحة فی محل الکلام.

الوجه الخامس: أنّ عدم المنجّزیة فی المقام لیست من جهة الجهل وعدم العلم، لوضوح وجود العلم بالإلزام، وعدم وجود قصور من ناحیة العلم؛ لأنّ المکلّف یعلم بالإلزام، وإنّما من جهة عدم القدرة علی الامتثال؛ لأنّ المکلّف لا یقدر علی امتثال هذا الإلزام المعلوم إجمالاً؛ لأنّه دائر بین المحذورین ------------ الوجوب والتحریم ------------ فمن هنا یکون معذوراً، ولا یتنجّز علیه هذا الإلزام المعلوم، ومن هنا تکون المعذوریة هی الثابتة فی محل الکلام، یقول: من الواضح أنّ المعذّریة، أو عدم المنجّزیة بملاک عدم القدرة علی الامتثال لا ربط لها بأدلّة البراءة، ولا تستفاد من أدلّة البراءة؛ لأنّ مفاد أدلّة البراءة هو المعذریة بملاک الجهل وعدم العلم لا المعذریة بملاک عدم القدرة علی الامتثال، وقلنا أنّ مفاد أدلّة البراءة هو معذوریة الجهل، وهذه المعذوریة ترتفع بارتفاع الجهل وتبدّله بالبیان والعلم، المعذریة فی محل الکلام لیست من هذا القبیل؛ لأنّه لا قصور فی العلم والبیان، البیان تمّ علی الإلزام، وإنّما هذا لا یکون منجّزاً وتثبت المعذوریة باعتبار عدم القدرة علی الامتثال، هذه المعذوریة الثابتة فی محل الکلام غیر المعذوریة التی تستفاد من أدلّة البراءة، وبناءً علی هذا لا یمکن إجراء أدلّة البراءة والتمسّک بها لإثبات مفادها فی محل الکلام؛ لأنّ مفاد أدلّة البراءة هو المعذوریة من جهة الجهل وعدم البیان، وهذا غیر متحقق فی محل الکلام لما قلناه من عدم قصور فی البیان وفی العلم، وإنّما الشیء الموجود هو عدم القدرة علی الامتثال، فکیف یمکن التمسّک بأدلّة البراءة لإثبات مفادها فی محل الکلام، والحال أنّ مفادها فی محل الکلام لا یمکن إثباته، وإنّما الثابت هو معذوریة أخری وعدم منجّزیة أخری، وهی عدم منجّزیة ثابتة بملاک الاضطرار وعدم القدرة.

ص: 381

وجواب هذا الوجه لعلّه اتضح ممّا ذکرناه قبل قلیل من أنّ هذا الکلام کلّه ینظر إلی الجامع الدائر أمره بین الوجوب وبین التحریم، ینظر إلی الإلزام، ومن هنا یقول بأنّ هذا الجامع تمّ علیه البیان؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف عالم به، فلا قصور فی العلم والبیان، وعدم المنجّزیة إنّما یکون ثابتاً باعتبار عدم القدرة علی امتثاله، هو غیر قادر علی امتثاله؛ لأنّ أمره دائر بین المحذورین. هذا کلام صحیح، فلا قصور فی العلم إذا لاحظنا الجامع الذی هو الإلزام، وقد تمّ علیه البیان، فالمعذوریة من ناحیته فیه لیست معذوریة بملاک الجهل، أو بملاک عدم البیان؛ لأنّه لا قصور فی البیان، لکن قلنا أننّا لا نرید أنْ نجری البراءة فی ذلک، لا نرید أنْ نتمسّک بالبراءة لإثبات المعذوریة بلحاظ الجامع حتّی یقال أنّ المعذوریة الثابتة بلحاظ الجامع لیست ثابتة بملاک الجهل وعدم العلم الذی هو مفاد أدلّة البراءة، وإنّما هی ثابتة بملاک عدم القدرة والاضطرار، لا یُراد ذلک، وإنّما یُراد التمسّک بأدلة البراءة لإثبات المعذوریة بلحاظ هذا الطرف بخصوصه، وبلحاظ ذاک الطرف بخصوصه، المقصود هو هذا، ومن الواضح بأننّا لا یمکن أن نقول بأنّ المعذوریة هنا ثابتة بملاک عدم القدرة علی الامتثال؛ لأنّ المکلّف قادر علی امتثال الوجوب إذا لاحظه وحده، وقادر علی امتثال التحریم إذا لاحظه وحده، لیس هناک عدم قدرة علی الامتثال، عندما نلاحظ الجامع المردّد بین المحذورین لیس هناک قدرة علی الامتثال، لکننا لا نرید أن نجری البراءة بلحاظ الجامع، وإنّما نرید أن نجریها بلحاظ الوجوب، احتمال الوجوب هذا أمر یمکن کما قلنا أنْ یضع الشارع وجوب الاحتیاط بلحاظه، وقلنا أنّه لا محذور فیه، ونرید أن نجری البراءة لنفی هذا الاحتمال، أنّ الشارع لم یضع الوجوب ظاهراً علیّ، ولم یلزمنی بالفعل احتیاطاً، نرید أن ننفی هذا الاحتمال فنتمسّک بالبراءة، هذه معذوریة ثابتة بملاک الجهل وعدم العلم؛ لأننی لا أعلم بالوجوب، ولیست معذوریة ثابتة بملاک عدم المقدوریة، وإنّما المعذوریة ثابتة بملاک الجهل وعدم العلم وهی مفاد أدلّة البراءة، فالتمسّک بأدلّة البراءة لإثبات المعذوریة بلحاظ هذا الطرف وبلحاظ هذا الطرف لا یمکن أن یقال بأنّها معذوریة خارجة عن مفاد أدلّة البراءة؛ بل هی عین مفاد أدلّة البراءة.

ص: 382

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

الوجه السادس: ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) (1) من منع شمول أدلّة البراءة لمحل الکلام، لکن بنکتةٍ إثباتیة لا بنکتةٍ ثبوتیة کما فی الوجوه السابقة، الوجوه السابقة کانت تمنع من جریان البراءة فی محل الکلام لنکات ثبوتیة، هذا الوجه یختلف عمّا تقدم، حیث أنّه یمنع من الشمول لنکتة إثباتیة فی نفس الدلیل، الدلیل فیه قصور عن الشمول لمحل الکلام، وإلاّ لیس هناک محذور ثبوتی من جریان البراءة فی محل الکلام، وحاصل ما ذکره هو: أنّ الذی یُفهم من أدلّة البراءة هو أنّها علاج مولوی شرعی لحالات التزاحم بین الأغراض الترخیصیة والأغراض الإلزامیة فی مقام الحفظ بتقدیم الغرض الترخیصی علی الغرض الإلزامی. والبراءة تعنی تقدیم الأغراض الترخیصیّة علی الأغراض اللّزومیة، ولا یُفهم من أدلّة البراءة أنّها ترید علاج حالات التزاحم بین غرضین إلزامیین، لیست فی مقام علاج التعارض بین الأغراض اللّزومیة فیما بینها کما فی محل الکلام، فی محل الکلام هناک تزاحم بین غرضین لزومیین؛ لأنّ الدوران بین الوجوب وبین التحریم، غرضان لزومیان متزاحمان، إذا فرضنا أنّ الشارع قدّم الغرض اللّزومی الوجوبی؛ حینئذٍ یجعل الحکم الظاهری مطابقاً لتقدیم الوجوب، فیجعل الاحتیاط بالفعل، وهکذا الحال إذا فرضنا أنّ الشارع قدّم الغرض اللّزومی التحریمی، بأن کانت الحرمة عنده أهم، فأنّه سوف یجعل الحکم الظاهری موافقاً ومطابقاً لذلک، کأنْ یجعل الاحتیاط بالترک ----------- مثلاً --------- وإذا فرضنا تساوی احتمال التحریم واحتمال الوجوب بحیث لا یوجد اهتمام بأحدهما فی مقابل الآخر، غرضان متساویان لا ترجیح لأحدهما عند الشارع علی الآخر، ففی هذه الحالة المولی لا یُلزِم بالفعل، ولا یُلزِم بالترک؛ بل یرخّص للعبد بالفعل والترک ویطلق عنانه فی هذه القضیة؛ لأنّه لا مرجّح لأحدهما علی الآخر. هذا الترخیص، والتخییر بین الفعل والترک علی تقدیر أنْ یکون هو المتحقق فهو ترخیص بملاک تساوی الغرضین فی الأهمیة، والشارع یُرخّص، لکن هذا الترخیص غیر الترخیص الذی یُستفاد من أدلّة البراءة، فالترخیص الذی یُستفاد من أدلّة البراءة بحسب ما هو المنساق منها هو الترخیص الناشئ من تقدیم الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة عندما یقع التزاحم فیما بینها، بینما الترخیص فی محل الکلام لیس من هذا القبیل؛ لأنّه لا توجد بحسب الفرض أغراض ترخیصیة داخلة فی التزاحم، وإنّما الترخیص الذی قد ینتهی إلیه الشارع هو ترخیص بملاک تساوی الغرضین اللّزومیین بلحاظ الأهمیّة؛ لأنّه لیس أحدهما أهم من الآخر، جعل الترخیص الظاهری والحکم بإطلاق العنان هذا الترخیص فی محل کلامنا شیء و الترخیص الذی یُستفاد من أدلّة البراءة شیء آخر، أدلّة البراءة تشمل موارد التزاحم بین أغراض ترخیصیة وأغراض لزومیة، فعندما تجری البراءة؛ حینئذٍ نستکشف من ذلک أنّ الأغراض الترخیصیة أهم من الأغراض اللّزومیة، فیکون ترخیصاً شرعیاً ظاهریاً قائم علی أساس ترجیح الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة، قائم علی أساس مصلحة التسهیل کما یسمّوها، مصلحة التسهیل تکون مرجّحة لهذا الجانب علی ذلک الجانب، مفاد أدلّة البراءة هذه الترخیص بملاک التسهیل، لکن هذا إنّما یکون عندما یکون هناک تزاحم بین هذا الغرض وبین الغرض الآخر، بین مصلحة التسهیل وبین مصلحة الإلزام کما فی الشبهات الوجوبیة والشبهات التحریمیة فی غیر محل الکلام، تزاحم بین مصلحة التسهیل التی تقتضی إطلاق العنان وعدم إیقاع المکلّف فی الکلفة والضیق وبین غرض الحکم اللّزومی الذی یقتضی إیقاع المکلّف فی الکلفة والضیق، مصلحة التسهیل أهم، فالشارع یجعل البراءة، هذا هو مفاد أدلّة البراءة، بینما فی محل الکلام لا یوجد ترخیص مجعول بملاک مصلحة التسهیل؛ إذ لا یوجد تسهیل فی المقام، وإنّما الموجود تزاحم بین غرضین لزومیین، فإذا لم یکن أحدهما أهمّ من الآخر بنظر الشارع، فالشارع یمکن أنْ یجعل المکلّف مطلق العنان تجاه الفعل وتجاه الترک، هذا ترخیص، لکن هذا الترخیص لیس ثابتاً بملاک مصلحة التسهیل، وإنّما هو ترخیص باعتبار تساوی الغرضین اللّزومیین فی الأهمیة عند الشارع، فإذن: کیف یمکن أن نتمسّک بأدلّة البراءة ونجریها فی محل الکلام، والحال أنّ ظاهر أدلّة البراءة هو أنّها مختصّة بما إذا وقع التزاحم بین مصلحة التسهیل وبین مصلحة الحکم الإلزامی المشکوک ؟! هذا إشکال إثباتی ناظر إلی أنّ أدلّة البراءة فیها قصور یمنعها من الشمول لمحل الکلام.

ص: 383


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 156.

لوحظ علی هذا الوجه: بأنّه مبنی علی ادّعاء أنّ التزاحم الموجب للبراءة والذی یُفهم من أدلّة البراءة أنّها واردة لعلاجه، مبنی علی افتراض أنّ هذا التزاحم هو تزاحم بین الملاکات الإلزامیة وبین الملاکات الترخیصیة، یعنی بین الملاک الإلزامی الموجود فی الحکم الإلزامی وبین الملاک الترخیصی الموجود فی الحکم الترخیصی، أخبار البراءة ترید علاج هذا التزاحم الحاصل بین ملاکٍ إلزامی قائم فی حکم إلزامی وبین ملاکٍ ترخیصی قائم فی حکم ترخیصی، ومختص بالحکم الترخیصی، کما أنّ الملاک الإلزامی مختص بالحکم الإلزامی؛ حینئذٍ یصح ما ذُکر؛ لأنّه یقال أنّ أدلّة البراءة لا تشمل المقام لعدم وجود هکذا تزاحم بین ملاکٍ قائم فی حکم إلزامی وبین ملاک قائم فی حکم ترخیصی؛ إذ لیس لدینا دوران أمر بین حکم إلزامی وبین ترخیص، وإنّما لدینا دوران أمر بین حکمین إلزامیین، ومن هنا لا تکون أدلّة البراءة شاملة لمحل الکلام؛ لأنّها واردة لعلاج حالة التزاحم المذکورة، أی التزاحم بین غرض لزومی قائم فی الحکم الّلزومی وغرض ترخیصی قائم فی الحکم الترخیصی، إذن: لا تشمل محل الکلام؛ لأنّ الموجود فی المقام کما قلنا هو تزاحم بین غرضین لزومیین، والبراءة والترخیص علی تقدیرها فی محل الکلام تکون ثابتة بملاک تساوی بین غرضین فی درجة الأهمّیة، الترخیص قائم علی هذا الأساس ولیس علی اساس ترجیح الغرض الترخیصی الموجود فی الحکم الترخیصی علی الغرض الإلزامی الموجود فی الحکم الإلزامی، ومن هنا یُمنع من جریان البراءة، أو شمول أدلّة البراءة لمحل الکلام.

وأمّا إذا أنکرنا هذا وقلنا بأنّ الملاکات الترخیصیة المتمثّلة بمصلحة التسهیل موجودة فی جمیع الأمور ولیست مختصّة بما إذا کان هناک حکم ترخیصی؛ بل هی موجودة فی جمیع الموارد، وحتّی فی موارد القطع باللّزوم یکون الغرض الترخیصی موجوداً ومصلحة التسهیل موجودة، لماذا نجعل مصلحة التسهیل مختصّة بما إذا شکّ فی اللّزوم فی مقابل الشکّ فی الترخیص والإباحة ؟! بل حتّی إذا قطعنا باللّزوم ولم نحتمل الترخیص، مع ذلک مصلحة التسهیل موجودة، تبقی مصلحة التسهیل فی حدِّ نفسها وبقطع النظر عن تقدیمها علی ملاک الحکم اللّزومی الذی نقطع به، أو عدم تقدیمها، لکن هناک مصلحة تسهیل تقتضی إطلاق العنان للمکلّف وعدم التضییق علیه، غایة الأمر أنّ ملاک الحکم اللّزومی الذی نقطع به بحسب الفرض یکون أقوی من مصلحة التسهیل، فیُقدّم ملاک الحکم اللّزومی علی مصلحة التسهیل؛ ولذا فأنّ الشارع لا یجعل الترخیص، وإنّما یجعل اللّزوم کحکم واقعی، لکن هذا لیس معناه أنّ مصلحة التسهیل لیست موجودة؛ بل هی موجودة وقائمة حتّی مع القطع باللّزوم، فضلاً عن الشکّ فیه، وإنّما کما قلنا هی مصلحة مغلوبة لمصلحة الحکم اللّزومی، باعتبار أنّه ملاک مقطوع به، للقطع بالحکم اللّزومی بحسب الفرض، فباعتبار أنّ ملاکه ملاک مقطوع به؛ حینئذٍ تکون أرجح من مصلحة التسهیل.

ص: 384

وأمّا فی ما إذا شککنا فی الإلزام؛ حینئذٍ ملاک الحکم اللّزومی کونه ملاکاً احتمالیاً؛ لأننّا شککنا فی الحکم اللّزومی، فنشک فی ثبوت ملاکه فی المقام، باعتبار أنّه ملاکاً احتمالیاً مُزاحَم بملاک ترخیصی قطعی ثابت؛ حینئذٍ تضعف محرّکیته، وإذا ضعفت محرّکیته؛ حینئذٍ یجعل الشارع البراءة علی طبق مصلحة التسهیل الموجودة فی هذه الحالة، وکون ملاک مصلحة التسهیل موجود قطعاً، فباعتبار ما تقدّم من أنّ مصلحة التسهیل موجودة فی کلّ الحالات، لکن عندما یکون فی قبالها شیء أهم منها هی تضعف عن إثبات ما تقتضیه، ویکون ذلک الملاک الأرجح هو الذی تکون له محرّکیة ویُجعل الحکم علی طبقه، لکن عندما یکون فی قبالها ملاک لزومی احتمالی لیس إلاّ؛ عندئذٍ تکون مصلحة التسهیل هی الأهم؛ وحینئذٍ یجعل الشارع البراءة. بناءً علی هذا الفهم لما یُستفاد من أدلّة البراءة، أنّ أدلّة البراءة لا تختص بعلاج حالة التزاحم بین غرضٍ لزومی قائم فی حکم لزومی وبین غرضٍ ترخیصی قائم فی حکم ترخیصی، وإنّما هی لعلاج حالات التزاحم بین الأغراض اللّزومیة والأغراض الترخیصیة، حتّی إذا فرضنا عدم وجود حکم ترخیصی، بناءً علی هذا الفهم؛ حینئذٍ یمکن أن یقال: أنّ أدلّة البراءة تشمل محل الکلام؛ لأنّ هذا الکلام السابق یمکن تطبیقه علی محل الکلام، فی محل الکلام عندنا دوران الأمر بین المحذورین، صحیح نحن نعلم بالإلزام، وأنّ الإلزام معلوم لنا ولا نشک فیه، لکن قلنا أنّ مصلحة التسهیل ثابتة حتّی عند القطع بالإلزام، ودائماً هی تقتضی من الشارع أنْ یُسهّل علی المکلّف وأن یطلق عنانه، غایة الأمر قد یزاحمها شیء أهم منها؛ حینئذٍ لا تقتضی جعل ما یناسبها، لکن هی موجودة فی کل الحالات، فی محل کلامنا عندنا قطع بالإلزام، وهذا لا یضر فی أنّ هناک مصلحة تسهیل تقتضی إطلاق العنان، فمصلحة التسهیل موجودة وهی مزاحمة للملاک اللّزومی، وقد تقدّم سابقاً أنّ من یلتزم بجریان البراءة یُجری البراءة فی هذا الطرف بخصوصه، یقول لا مانع من جریان البراءة، هذا الطرف احتمال الوجوب هذا نجری فیه البراءة، هذا تزاحم بین الأغراض اللّزومیة وبین الأغراض الترخیصیة، هنا یوجد تزاحم بین الغرض اللّزومی المحتمل وبین الغرض الترخیصی، الغرض اللّزومی المحتمل یقتضی التحریک نحو الفعل والإلزام بالفعل والاحتیاط بالإلزام بالفعل، لکن فی نفس الوقت مصلحة التسهیل موجودة وقائمة وهی تدعو إلی إطلاق عنان المکلّف وعدم إیقاعه فی الکلفة والضیق، مصلحة التسهیل تقتضی ذلک، تزاحم بین أغراض لزومیة وأغراض ترخیصیة، لماذا لا تشملها أدلّة البراءة ؟ ولماذا نخصّ جریان أدلّة البراءة بخصوص التزاحم من النوع الأوّل، یعنی التزاحم الموجود فی الشبهات التحریمیة، والتزاحم الموجود فی الشبهات الوجوبیة فی غیر محل الکلام ممّا یکون هناک حکم لزومی مشکوک وحکم ترخیصی مشکوک، یُشک فی أنّ هذا واجب أو مباح، هذا حرام، أو مباح ؟ هنا تجری البراءة، فلماذا نخصّ البراءة فی هذا المورد إذا کان الذی ینساق من أدلّة البراءة هو أنّها لعلاج حالات التزاحم بین الغرض الترخیصی وبین الغرض اللّزومی، هذا التزاحم کما هو موجود فی الشبهات الوجوبیة فی غیر محل الکلام هو أیضاً موجود فی محل الکلام، لا موجب لأنْ نقول أنّ مصلحة التسهیل عند القطع باللّزوم غیر موجودة أصلاً، حتّی عند القطع باللّزوم مصلحة التسهیل موجودة، فالتزاحم یقع بین مصلحة التسهیل وبین الغرض اللّزومی، وحیث أننّا فی محل الکلام کما تقدم نجری البراءة فی هذا الطرف بعینه، وفی ذلک الطرف بعینه، هنا وقع تزاحم بین الغرض اللّزومی وبین مصلحة التسهیل، فهل نقدّم مصلحة التسهیل علی الغرض اللّزومی المحتمل ؟ أو نقدّم الغرض اللّزومی المحتمل علی مصلحة التسهیل ؟ هل یجعل الشارع علیّ الاحتیاط بالفعل ؟ وقلنا أنّ هذا أمر ممکن للشارع، وضع الاحتیاط بلحاظ الوجوب المحتمل أمر ممکن للشارع، یأمرنی بالاحتیاط بأنّه عند دوران الأمر بین المحذورین یجب علیک الفعل احتیاطاً، وهذا معناه أنّ الغرض اللّزومی المحتمل أهم، أو أنّ الشارع عنده الغرض اللّزومی لیس أهم، وإنّما مصلحة التسهیل أهم، وأنْ یسهل علی المکلّف، یجعل البراءة وعدم وجوب الاحتیاط(لا یجب علیک الاحتیاط بلحاظ الوجوب)، فیجعل البراءة، هذا أیضاً ترجیح وعلاج لحالة التزاحم بین الغرض اللّزومی والغرض الترخیصی، ونفس الکلام ننقله فی الطرف الآخر، بالنسبة إلی التحریم، جعل الاحتیاط بلحاظ الحرمة المحتملة أمر ممکن للشارع بأنْ یجعل وجوب الاحتیاط بالترک، فیشک المکلّف فی أنّ الشارع هل جعل علیه وجوب الاحتیاط بالترک، أو لا ؟ یقع التزاحم بین هذا الغرض اللّزومی الذی یقتضی جعل الاحتیاط بالترک ظاهریاً وبین مصلحة التسهیل التی تقتضی إطلاق العنان وعدم تقیید المکلّف بالترک، أدلّة البراءة تکون شاملة له.

ص: 385

الحاصل: أنّه لا موجب لتخصیص أدلّة البراءة، بالرغم من أنّه سلّمنا أنّ المنساق منها هو أنّها واردة لعلاج حالات التزاحم بین الأغراض الترخیصیة والأغراض اللّزومیة، بالرغم من هذا لا داعی لتخصیصها بحالات التزاحم الموجودة فی الشبهات التحریمیة والشبهات الوجوبیة فی غیر محل الکلام، لا داعی لتخصیصها بذلک؛ لأنّ التزاحم بین الغرض الترخیصی وبین الغرض اللّزومی یمکن تصوّره حتّی فی محل الکلام، وحتّی مع القطع بالإلزام؛ لأنّ مصلحة التسهیل موجودة ولا داعی لتخصیص مصلحة التسهیل بخصوص ما إذا کان هناک حکم ترخیصی محتمل، مصلحة التسهیل ثابتة فی کل الموارد، هناک مصلحة تقتضی إطلاق العنان للمکلّف، غایة الأمر أنّ هذه المصلحة فی بعض الأحیان تضعف ولا تؤثّر فی أنْ تُجعَل البراءة علی طبقها، ویُجعل الترخیص الظاهری علی طبقها إذا کان فی مقابلها شیء أهم کما إذا قطعنا بالوجوب، إذا قطعنا بالوجوب تضعف مصلحة التسهیل، لکن عند الشک فی الوجوب وعند الشکّ فی التحریم کما فی محل کلامنا لیس هناک مشکلة فی أنْ نقول، وإنْ کان المکلّف عالماً بالإلزام، لکن عند الشک فی الوجوب، وعند الشکّ فی التحریم لا مانع من جریان أدلّة البراءة فی محل الکلام، ونحافظ علی ما ذُکر من أنّ المنساق منها هو أنّها لعلاج حالات التزاحم بین الأغراض الترخیصیة والأغراض اللّزومیة. هذه هی أهم الوجوه التی ذُکرت لمنع جریان البراءة فی محل الکلام.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

الوجه السابع: هو أیضاً ما ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) (1) ، وذکر بأنّه وجه إثباتی، یعنی نمنع من شمول أدلّة البراءة لمحل الکلام بنکتة إثباتیة غیر النکتة المتقدّمة فی الوجه السادس الذی تقدّم ذکره، وحاصل ما ذکره فی هذا الوجه هو: أنّ أدلّة البراءة إمّا أن یکون لسانها لسان الحل کما فی أدلّة الحل، وإمّا أنْ یکون لسانها لسان الرفع کما فی حدیث الرفع.

ص: 386


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 157.

أمّا أدلّة الحل، فهی لا تشمل محل الکلام بسبب القطع بعدم الحلّیة؛ لأننّا فی محل الکلام نقطع بعدم الحل، فکیف یجری دلیل أصالة الحل لإثبات الحل، والمفروض أننا نقطع بعدمه ؟ فهذا النوع من أدلّة البراءة لا یجری فی محل الکلام.

وأمّا حدیث الرفع، فهو لا یجری فی محل الکلام، باعتبار أنّ الموصول فی قوله(ما لا یعلمون) فیه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن یکون المراد به هو عنوان الوجوب وعنوان الحرمة، (ما لا یعلمون) الذی یتوجّه إلیه الرفع هو عنوان الوجوب، فإذا کنت لا تعلم بعنوان الوجوب، فهو مرفوع، أو کنت لا تعلم بعنوان الحرمة، فهو مرفوع أیضاً. بناءً علی هذا یکون الحدیث شاملاً لمحل الکلام، باعتبار أنّ کلاً من الوجوب والتحریم ممّا لا یُعلم، فیکون کلٌ منهما مرفوعاً بحدیث الرفع، فیُرفع هذا العنوان ظاهراً ویُرفع هذا العنوان ظاهراً، لما تقدّم من أنّه لا مشکلة فی رفع الوجوب المحتمل والتحریم المحتمل.

الاحتمال الثانی: أنْ یکون المراد بالموصول لیس هو عنوان الوجوب وعنوان التحریم، وإنّما کان المراد به هو واقع هذا الحکم المشکوک ولیس عنوانه؛ فحینئذٍ الحکم الثابت فی المقام بلا إشکال هو واحد غیر متعددّ، واقع الحکم واحد ولیس هو وجوب وحرمة، وإنّما هو إمّا وجوب وإمّا حرمة؛ وحینئذٍ ینبغی أن لا یکون فی المقام إلاّ رفع واحد یتوجّه إلی ما یُراد من أسم الموصول، والمفروض أنّ ما یُراد باسم الموصول هو واقع الحکم، وواقع الحکم هو شیء واحد غیر متعدد، فالرفع أیضاً یکون واحداً لا تعددّ فیه، ویتوجّه هذا الرفع إلی واقع الحکم، فإذن: بناءً علی ذلک لا یوجد عندنا إلّا رفع واحد، بینما علی التفسیر الأوّل لأسم الموصول یکون عندنا رفعان، رفع للوجوب ورفع للتحریم؛ حینئذٍ یقال: بناءً علی ما تقدّم من أنّ الرفع الظاهری هو فی قبال الوضع الظاهری، فالحدیث بناءً علی هذا التفسیر الثانی لا یدل إلاّ علی الرفع حیث یمکن الوضع، بناءً علی التقابل بینهما، واقع الحکم لا یمکن فیه الوضع فی المقام؛ لأنّ واقع الحکم إنّما یوضع بإیجاب الاحتیاط من ناحیته، وهذا غیر ممکن، بحسب الفرض أنّ الموافقة القطعیة للتکلیف المشکوک غیر ممکنة، لا یتمکن المکلّف من الموافقة القطعیة؛ بل وضع واقع الحکم ظاهریاً لغرض إیجاب الموافقة الاحتمالیة أیضاً لا معنی له؛ لأنّ الموافقة الاحتمالیة أمر ضروری وثابت ولا یحتاج ثبوته إلی الوضع الظاهری للحکم الواقعی المجهول؛ لأننا فی محل الکلام فرغنا عن أنّ الموافقة القطعیة غیر ممکنة، کما أنّ المخالفة القطعیة غیر ممکنة، والموافقة الاحتمالیة أمر قهری، کما أنّ المخالفة الاحتمالیة أمر قهری، فوضع هذا الحکم الواحد غیر المتعدد غیر ممکن، فیکون رفعه أیضاً غیر ممکن بمقتضی المقابلة بین الوضع والرفع؛ لأنّ الرفع هو رفع ما یمکن وضعه، وإذا کان المراد من أسم الموصول هو واقع الحکم، فهذا لا یشمل محل الکلام؛ لأنّ هذا الرفع لواقع الحکم إنّما یصحّ ویُستفاد من أدلّة حدیث الرفع حیث یمکن الوضع، نفس هذا المرفوع إذا أمکن وضعه یمکن رفعه، وفی محل الکلام یوجد عندنا واقع الحکم، وواقع الحکم هذا لا یمکن وضعه فی محل الکلام، فلا یمکن رفعه. نعم، فی الشبهات الوجوبیة واقع الحکم یمکن وضعه بإیجاب الاحتیاط، فی الشبهات التحریمیة واقع الحکم الذی یشکّ فیه المکلّف یمکن وضعه بإیجاب الاحتیاط، فیمکن رفعه؛ لأنّ إیجاب الاحتیاط فی تلک الشبهات أمر ممکن، لقدرة المکلّف علی الموافقة القطعیة، فضلاً عن الموافقة الاحتمالیة، فوضع وجوب الاحتیاط یعنی وضع التکلیف المشکوک ظاهریاً ممکن، فرفعه أیضاً یکون ممکناً، فیشمله حدیث الرفع، أمّا حیث یکون الوضع غیر ممکن کما فی محل الکلام، لاستحالة الموافقة القطعیة، وکون الموافقة الاحتمالیة أمر قهری؛ فحینئذٍ لا یکون الرفع ممکناً؛ وحینئذٍ لا یکون حدیث الرفع شاملاً لذلک بناءً علی أنّ المراد من أسم الموصول هو واقع الحکم، نعم إذا فسّرنا اسم الموصول بأنّه عبارة عن عنوان الوجوب والتحریم الذی یدور بینهما واقع الحکم، هنا لا مانع من جریان أدلّة البراءة؛ لأنّه یوجد عندنا حینئذٍ رفعان لا رفع واحد، رفع لهذا، وهذا لا مانع من شمول حدیث الرفع له؛ لأنّ الوضع فیه ممکن کما قلنا سابقاً، فی هذا الطرف وضع وجوب الاحتیاط ممکن، فرفعه أیضاً یکون ممکناً، فی هذا الطرف أیضاً الوضع فیه ممکن، فالرفع فیه أیضاً یکون ممکناً، فیشمله حدیث الرفع، لکن بناءً علی تفسیر الاسم الموصول بأنّه عبارة عن واقع الحکم لا عنوان الوجوب والتحریم، واقع الحکم واحد ولیس متعددّاً، الرفع أیضاً یکون واحداً غیر متعدد ویتوجّه إلی واقع الحکم، لکن حیث أنّ واقع الحکم لا یمکن وضعه ظاهریاً بإیجاب الاحتیاط؛ فحینئذٍ رفعه أیضاً لا یکون ممکناً، فلا یکون الحدیث شاملاً له، ویستظهر الاحتمال الثانی فی تفسیر أسم الموصول، یقول: أنّ الظاهر أنّ أسم الموصول فی الحدیث لا یُراد به عنوان الوجوب والتحریم، وإنّما المراد به هو واقع الحکم، باعتبار أنّه لیس المقصود من العلم فی حدیث الرفع فی(ما لا یعلمون) لیس المراد من العلم هو مطلق القطع، حتّی الجهل المرکب، وإنّما المراد من العلم فی المقام هو لحاظ جهة الانکشاف الصحیح المطابق للواقع؛ بل أکثر من هذا، یقول: أنّ الظاهر، بقطع النظر عن ذلک، الظاهر من أسم الموصول أنّ هناک حکماً ثابتاً فی الواقع قد یعلمه المکلّف وقد لا یعلمه، هذا الحکم الثابت فی الواقع إذا علمه المکلّف یتنجّز علیه ولا براءة، وإذا جهله المکلّف حینئذٍ تُجعل له البراءة، ویُجعل له الرفع الظاهری، فالرفع الظاهری یتعلّق بالتکلیف الثابت واقعاً، والمکلّف إذا جهل التکلیف الثابت واقعاً یُرفع عنه ظاهریاً، لا أنّ الرفع یتوجّه إلی التکلیف المشکوک سواء کان ثابتاً فی الواقع، أو لم یکن ثابتاً فی الواقع، الظاهر من الحدیث(رُفع ما لا یعلمون) المقصود بما لا یعلمون هو التکلیف، ظاهر الحدیث أنّ هناک تکلیفاً ثابتاً فی الواقع تارةً یتعلّق به العلم وتارةً یتعلّق به الجهل، فإن علم به المکلّف تنجّز علیه، وإن کان لا یعلم بهذا التکلیف الثابت واقعاً، فیُجعل له البراءة ویُجعل له الرفع.

ص: 387

إذن: الکلام عن واقع الحکم وواقع التکلیف، هذا هو الذی یُراد باسم الموصول لا مطلق ما یشک به المکلّف سواء کان ثابتاً، أو لیس ثابتاً، التکلیف الواقعی إن شک به المکلّف یُرفع عنه ظاهریاً، هذا مفاد الحدیث، وعلیه، یکون هناک رفع واحد لا رفعان، وهذا یعنی أنّ حدیث الرفع لا یشمل محل الکلام؛ لأنّه لا یوجد فیه إلاّ رفع واحد، وهذا الرفع الواحد غیر ممکن فی محل الکلام؛ لأنّه یقابل الوضع، والوضع غیر ممکن فی محل الکلام بالنسبة إلی التکلیف الثابت واقعاً؛ لأنّ التکلیف الثابت واقعاً، أو واقع الحکم لا یمکن إیجاب الاحتیاط بلحاظه؛ لأنّ المکلّف غیر قادر علی الموافقة القطعیة، کما أنّ جعل إیجاب الاحتیاط بلحاظ الموافقة الاحتمالیة أیضاً غیر ممکن؛ لأنّها قهریة وضروریة ولا معنی لجعل الاحتیاط بلحاظها.

هذا المطلب قد یُصاغ بعبارة أخری، وهو أن یقال: أنّ الرفع فی الحدیث له احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن یکون رفعاً لکل تکلیفٍ مشکوک، سواء کان ثابتاً فی الواقع، أو لم یکن ثابتاً فی الواقع، ویقابله الوضع کذلک، یعنی وضع تکلیف بجعل وجوب الاحتیاط مطلقاً سواء کان ثابتاً فی الواقع، أو لم یکن ثابتاً فی الواقع.

الاحتمال الثانی: أن یکون المقصود هو رفع للتکلیف المشکوک، لکن من خصوص التکالیف الثابتة فی الواقع، التکلیف الثابت فی الواقع عند الشک به یکون مرفوعاً، فیختص الرفع بخصوص التکالیف الواقعیة الثابتة واقعاً عندما یحصل حالة الشکّ بها للمکلّف. علی هذا الاحتمال الثانی لا نحتاج إلاّ إلی رفع واحد، باعتبار أنّه فی الواقع لا یوجد إلاّ حکم واحد، فلا نحتاج إلاّ إلی رفع واحد.

ص: 388

وحینئذٍ، علی الاحتمال الأوّل یأتی الکلام السابق من أنّه لا مشکلة فی جریان البراءة فی محل الکلام؛ لأنّ المراد بالرفع هو رفع کل تکلیف مشکوک سواء کان ثابتاً فی الواقع، أو لم یکن ثابتاً فی الواقع؛ حینئذٍ بناءً علی هذا، فی المقام الوضع ممکن، فیکون الرفع أیضاً ممکناً؛ لأنّه کما تقدّم أنّ المولی یمکنه أن یضع الاحتیاط بلحاظ الوجوب، فیکون رفع الاحتیاط بلحاظه ممکناً، ویمکنه أنْ یضع وجوب الاحتیاط بلحاظ التحریم، فیکون الرفع بلحاظه أیضاً ممکناً، فیأتی الکلام السابق من عدم وجود المانع من جریان البراءة فی المقام، لکن علی الاحتمال الثانی إذا فرضنا أنّ الرفع یعنی رفع التکلیف المشکوک الثابت فی الواقع إذا شک به المکلف الرفع الظاهری یکون شاملاً له، هذا هو الذی تقدّم بأنّ هذا الرفع یکون محالاً؛ لأنّ الوضع محال، وبما أنّ الوضع غیر ممکن، فالرفع أیضاً یکون غیر ممکن بمقتضی المقابلة بین الوضع وبین الرفع، وحیث أنّ الوضع الظاهری بجعل الاحتیاط بلحاظ التکلیف الثابت واقعاً غیر ممکن، فالرفع أیضاً یکون غیر ممکن، فلا یکون حدیث الرفع شاملاً له، والظاهر هو الاحتمال الثانی لا الأوّل، بنفس البیان الذی تقدّم سابقاً، باعتبار أنّ المراد بالعلم لیس هو مطلق الانکشاف ولو کان جهلاً مرکّباً، وإنّما المراد به هو الانکشاف الصحیح المطابق للواقع بحیث تصح نسبة العلم إلیه ونسبة الجهل إلیه، التکلیف الواقعی إنْ علم به المکلّف لا یکون هناک براءة، وإن جهل به المکلّف تکون هناک براءة، فالرفع یتوجّه للتکلیف الثابت واقعاً عندما یشکّ به المکلّف، هذا هو الذی یُرفع ظاهریا، فلیس هناک إلاّ رفع واحد بلحاظ التکلیف الثابت فی الواقع عند الجهل به، رفع واحد ویقابله وضع واحد، والوضع الواحد فی محل الکلام غیر ممکن، فالرفع الواحد أیضاً یکون غیر ممکن، وهذا معناه أنّ حدیث الرفع لا یشمل محل الکلام.

ص: 389

إذن: هناک قصور فی مقام الإثبات، هناک نکتة إثباتیة تمنع من جریان البراءة فی محل الکلام.

حینئذٍ، قد یقال: بناءً علی هذا الکلام، هذا ینتج أنّ موضوع الرفع فی حدیث الرفع هو عبارة عن التکلیف الثابت واقعاً، هذا هو موضوع حدیث الرفع، یعنی أنّ التکلیف الثابت واقعاً عند الجهل، أو الشک به یُرفع ظاهراً، بناءً علی هذا کیف نجری البراءة فی موارد الشک فی التکلیف ؟ فی موارد الشکّ فی التکلیف فی الشبهة الوجوبیة، والشبهة التحریمیة کیف نجری البراءة، والحال أنّ المکلّف لا یحرز ثبوت التکلیف المشکوک واقعاً، هذا إشکال، فی الشبهات الوجوبیة والشبهات التحریمیة المکلّف أساساً یشک فی ثبوت التکلیف واقعاً، أو عدم ثبوته واقعاً، فإذا قلنا أنّ موضوع الرفع هو عبارة عن التکلیف الثابت واقعاً عندما یشکّ به المکلّف، فهذا معناه أنّ البراءة لا تجری فی موارد الشک فی التکلیف، لعدم إحراز الثبوت الواقعی للتکلیف المشکوک، فکیف تجری البراءة ؟ البراءة بناءً علی هذا الکلام ترفع التکلیف الثابت فی الواقع عندما یشک به المکلّف رفعاً ظاهریاً، هذا مفادها، لکی یجری حدیث الرفع، ولکی تجری البراءة لابدّ من إحراز موضوع هذا الرفع، وموضوع هذا الرفع هو التکلیف الثابت واقعاً لا یمکن للمکلّف أن یحرز ذلک، وهذا معناه أنّ البراءة لا تجری فی موارد الشکّ فی التکلیف، ولو فُرض أنّه احرزه؛ حینئذٍ أحرزه، یرتفع الشکّ ولا معنی حینئذٍ لجعل البراءة، إذا أحرز التکلیف الثابت واقعاً؛ حینئذٍ لا معنی للشک، افتراض الشک یعنی افتراض عدم إحراز ثبوت التکلیف واقعاً، ومعه ینبغی أنْ نلتزم بعدم جریان حدیث الرفع فیما لاشک فی جریانه فیه، یعنی فی الشبهات الوجوبیة وفی الشبهات التحریمیة.

ص: 390

یجیب(قدّس سرّه) عن هذا الإشکال بعد أنْ یوجّهه لنفسه، یقول: (1) نتمسّک بحدیث الرفع لإثبات الرفع الظاهری فی موارد الشکّ علی تقدیر ثبوت ذلک المشکوک واقعاً، ومنه یُعلم بجامع الرفع الواقعی علی تقدیر عدم ثبوت التکلیف واقعاً والظاهری علی تقدیر ثبوت التکلیف واقعاً، وهذا المقدار یکفی للتأمین، هذا التکلیف الذی یشکّ به علی کلا التقدیرین هو آمن من ناحیته؛ لأنّ هذا التکلیف الذی یشکّ به إنْ لم یکن ثابتاً واقعاً، فبها ونعمت، فهو لیس له ثبوت فی الواقع، وإن کان ثابتاً فی الواقع حدیث الرفع یرفعه ظاهریاً، وهذا المقدار یکفی لإثبات التأمین.

النتیجة هی: أنّ حدیث الرفع لا یجری فی موردٍ إلاّ عندما نحرز الثبوت الواقعی للتکلیف، وفی موارد الشکّ بذلک لابدّ من إجراء البراءة وحدیث الرفع وإثبات الرفع الظاهری علی تقدیر الثبوت الواقعی، وهذا لا ضرر فیه؛ لأنّه یثبت لنا التأمین أیضاً، فیثبت التأمین فی جمیع الموارد، لکنّ هذا قاصر عن الشمول لمحل الکلام؛ لأنّه فی محل الکلام التکلیف الثابت واقعاً الذی یشک به المکلّف هو حکم واحد وتکلیف واحد، إمّا الوجوب، وإمّا التحریم، هذا وضعه ظاهریاً غیر ممکن، فرفعه أیضاً لا یکون ممکناً، والحدیث یتضمّن رفعاً واحداً للتکلیف الثابت فی الواقع عندما یشکّ به المکلّف، هذا الحکم الثابت واقعاً فی محل الکلام هو أمر واحد لا أزید، وله رفع واحد، وهذا الرفع الواحد إنّما یمکن بلحاظه حیث یمکن الوضع، فإذا لم یمکن الوضع کما هو المفروض لا یمکن الرفع، فلا یجری فیه الحدیث. هذا حاصل هذا الوجه الأخیر وهو الوجه السابع.

ص: 391


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 158.

قد یُعترض علی هذا الوجه؛ بل اعترض علیه: بأنّ هذا التفسیر لحدیث الرفع لا یتناسب مع ما تقدّم من أنّ الرفع فی حدیث الرفع ظاهری لا واقعی.

لکنّ هذا الاعتراض لیس واضحاً ما هو المقصود به، لماذا لا یتناسب ؟ التفسیر یقول بأنّ مفاد حدیث الرفع هو أنّ التکلیف له ثبوت فی الواقع عندما یشک به المکلّف، هذا یرفع عنه رفعاً ظاهریاً، التکالیف الثابتة فی الواقع، إذا شک بها المکلّف ترفع عنه رفعاً ظاهریاً، لماذا لا یمکن الرفع الظاهری ؟ هذا التکلیف الثابت فی الواقع إذا شکّ به المکلّف یُرفع عنه بأن لا یجب علیک الاحتیاط تجاه التکلیف الثابت فی الواقع فی حالة الجهل والشک به، هذا ممکن ولا محذور فیه، فلماذا لا یتناسب ؟ یتناسب مع کلا التفسیرین، سواء قلنا أنّ المرفوع هو مطلق ما یشک به سواء کان ثابتاً فی الواقع أو لا، الذی یستلزم وجود رفعین کما تقدّم، أو کان هو عبارة عن التکلیف الواقعی الثابت فی الواقع الذی یشک فیه، کل منهما یمکن رفعه رفعاً ظاهریاً بنفی وجوب الاحتیاط. لعلّ مقصود هذا المستشکل هو الجواب الأخیر الذی ذکره علی الإشکال، وهو أنّه ذکر أنّه فی موارد الشک نتمسّک بحدیث الرفع لإثبات رفع التکلیف المشکوک علی تقدیر ثبوته واقعاً، ثمّ أضاف إلی هذا (ومن ذلک یُعلم بالجامع بین الرفع الواقعی والرفع الظاهری) الرفع الواقعی علی تقدیر عدم ثبوت التکلیف واقعاً، والرفع الظاهری علی تقدیر ثبوت التکلیف واقعاً، ثم قال: وهذا یکفی للتأمین. لعلّ الإشکال علی هذا، کأنّه قد یُفهم من هذه العبارة بأنّ الرفع الواقعی والرفع الظاهری یستفادان من حدیث الرفع، ومن هنا لا یکون هذا مناسباً لما تقدّم من أنّ الرفع فی حدیث الرفع ظاهری لا واقعی، إذا کان الرفع فی حدیث الرفع ظاهریاً لا واقعیاً علی ما تقدّم فکیف نستفید الرفع الواقعی من حدیث الرفع فی محل الکلام ؟

ص: 392

لکن الظاهر أنّ هذا أیضاً لا یرد؛ لأنّه لا یقصد بذلک أننا نستفید الرفع الواقعی من حدیث الرفع، وإنّما یرید أن یقول بأنّه فی موارد الشکّ بناءً علی هذا التفسیر یکون الرفع الظاهری علی تقدیر الثبوت، وهذا المقدار یکفینا للتأمین؛ لأنّ التکلیف إنْ لم یکن له ثبوت فی الواقع، فهو، ولا یرید أن یقول أنّ الرفع الواقعی للتکلیف یُستفاد من حدیث الرفع حتّی نقول أنّ هذا لا یناسب ما تقدّم، وإنّما یرید أن یقول بأنّ التکلیف إن لم یکن له ثبوت فی الواقع، فهو، وإن کان له ثبوت فی الواقع، فهو مرفوع ظاهرا، وهذا یکفی للتأمین؛ لأنّ التکلیف لا یخلو من أحدی حالتین، إمّا أن لا یکون له ثبوت، أو یکون مرفوعاً رفعاً ظاهریاً، وهذا یکفی لإثبات التأمین. نعم هناک ملاحظة واحدة تلاحظ علی هذا البیان یأتی بیانها إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

فی مقام التعلیق علی الوجه الأخیر، قلنا أنّه اعترض علی هذا الوجه بأنّ التفسیر الذی ذکره لأسم الموصول، وقال أنّ أسم الموصول إمّا أن یُراد به عنوان التکلیف، أو یُراد به واقع التکلیف، هو استظهر أنّ المراد به واقع التکلیف، بمعنی أنّ البراءة موردها هو التکلیف الثابت واقعاً إذا شُکّ به؛ ولذا قال أنّ واقع التکلیف واحد غیر متعدد، فالرفع رفع واحد لا رفعان.

قلنا بأنّه اعتُرض علی هذا بأنّ هذا التفسیر لأسم الموصول لا یناسب ما تقدّم من أنّ الرفع فی الحدیث رفع ظاهری، فی الدرس السابق قلنا بأنّ هذا الکلام غیر واضح؛ لأنّه لماذا لا یناسب الرفع الظاهری ؟ واقع التکلیف یمکن رفعه رفعاً ظاهریاً، لکن الظاهر بعد المراجعة تبیّن أنّ هناک نکتة قیل فیها هذا الکلام، أو کان الکلام ناظراً إلیها، وهذه النکتة هی أنّ السید الشهید(قدّس سرّه) صاحب هذا الوجه فی حدیث الرفع استظهر أنّ الرفع رفع ظاهری وذکر قرینتین علی ذلک، (1) القرینة الثانیة کانت هی أنّ ظاهر الحدیث هو أنّ المرفوع لولا هذا الحدیث لکان موضوعاً علی الأمّة، الحدیث یرفع ما لولاه لکان ثابتاً وموضوعاً علی الأمّة. یقول هذا المعنی لا یناسب إلاّ الرفع الظاهری؛ لأنّه فی الرفع الظاهری یمکن أن یقال لولا الرفع الظاهری لکان المرفوع ثابتاً علی الأمّة، لکان وجوب الاحتیاط ثابتاً علی الأمّة، لکنّ حدیث الرفع رفع هذا الذی لولاه لکان ثابتاً علی الأمّة، فیناسب الرفع الظاهری، وأمّا إذا فسّرنا الرفع بالرفع الواقعی؛ حینئذٍ هذا الظاهر لا ینسجم معه؛ لأنّه بناءً علی الرفع الواقعی لا یمکننا أن نقول أنّه لولا حدیث الرفع لکان المرفوع ثابتاً علی الأمّة، ما یدرینا أنّه کان ثابتاً علی الأمّة ؟لعلّه لیس ثابتاً أصلاً، فرضاً أنّ المکلّف شک فی التکلیف الواقعی، حدیث الرفع یرفع التکلیف واقعاً، لا نستطیع أن نقول لولا الرفع لکان التکلیف الواقعی ثابتاً وموضوعاً علی الأمّة؛ لأننّا نحتمل عدم وجود تکلیفٍ فی الواقع، بناءً علی هذه القرینة استظهار أنّ رفع الحدیث هو رفع ظاهری موقوف علی افتراض أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التکلیف لا واقع التکلیف، عندما یکون المراد باسم الموصول هو عنوان التکلیف الدائر بین الوجوب والتحریم کما فی محل الکلام، هذا الکلام یکون تامّاً، واستظهار الرفع الظاهری یکون فی محلّه؛ لأنّنا نتحدّث عن رفع التکلیف المشکوک سواء کان ثابتاً فی الواقع، أو لم یکن ثابتاً، هذا معنی أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التکلیف لا واقع التکلیف، الرفع یرفع التکلیف المشکوک سواء کان ثابتاً فی الواقع، أو لم یکن ثابتاً، هنا إذا کان الرفع واقعیاً لا نستطیع أنْ نقول لولا حدیث الرفع لکان المرفوع ثابتاً وموضوعاً علی الأمّة، لعلّه لیس له ثبوت فی الواقع أصلاً، حدیث الرفع یرفع التکلیف المشکوک سواء کان ثابتاً، أو لم یکن ثابتاً، إذن: هذه النکتة لا تأتی، فیصح أنْ یقال حینئذٍ أنّ هذا الاستظهار من الحدیث یناسب الرفع الظاهری، ولا یناسب الرفع الواقعی، بناءً علی أنّ المراد باسم الموصول عنوان التکلیف؛ لأنّه بناء علی ذلک لا یمکن أن نقول أنّه لولا حدیث الرفع لکان المرفوع ثابتاً علی الأمّة؛ إذ لعلّه لا یوجد هناک تکلیف أصلاً فی الواقع، وأمّا إذا قلنا أنّ المراد باسم الموصول هو واقع التکلیف الذی هو واحد وغیر متعدد؛ حینئذٍ بإمکاننا أن نجعل هذه القرینة لا تکون قرینة علی الرفع الظاهری، هذه القرینة کما تنسجم مع الرفع الظاهری هی تنسجم مع الرفع الواقعی أیضاً، إذا قلنا بأنّ المراد باسم الموصول هو واقع التکلیف؛ لأنّه بإمکاننا؛ حینئذٍ أن نقول لولا حدیث الرفع، بناءً علی الرفع الواقعی، لکان الموضوع ثابتاً علی الأمّة، لوکان المراد باسم الموصول هو واقع التکلیف، یعنی التکلیف الثابت فی الواقع إذا شکّ به المکلّف یُرفع، هذا إذا کان رفعه رفعاً ظاهریاً یصحّ أنْ یقال لولا الرفع لکان ثابتاً علی الأمّة، أو کان رفعه رفعاً واقعیاً أیضاً یصح أنْ یقال: لولا حدیث الرفع لکان ذلک ثابتاً علی الأمّة، فإذن: هذا الظهور للحدیث لا یکون قرینةً لترجیح الرفع الظاهری علی الرفع الواقعی، فاستظهار الرفع الظاهری یکون مبنیاً علی افتراض أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التکلیف لا واقع التکلیف حتّی یقال أنّ هذا الظاهر للحدیث ینسجم مع الرفع الظاهری ولا ینسجم مع الرفع الواقعی، ومن هنا نصیر إلی الرفع الظاهری ونشخّص أنّ الرفع الظاهری هو المراد، ومن هنا اعتُرض علیه هنا بأنّ تفسیر اسم الموصول بواقع الحکم لا ینسجم مع استظهار الرفع الظاهری من الحدیث بناءً علی أنّ الحدیث ظاهر فی أنّه یرفع ما لولاه لکان موضوعاً علی الأمّة، هذا مبنی علی أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التکلیف لا واقع التکلیف، ومن هنا یکون هذا الکلام وجیهاً.

ص: 393


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 41.

الذی یمکن أن یلاحظ علی الوجه الأخیر: أنّه بناءً علی تمامیة هذا التفسیر وأنّ المراد باسم الموصول هو واقع التکلیف الذی هو أمر واحد ولیس متعددّاً، وهناک رفع واحد لا رفعان، وهذا الرفع الواحد لا یمکن أن یُستفاد من حدیث الرفع من أدلّة البراءة؛ لأنّ الرفع إنّما یکون ثابتاً عندما یکون الوضع ممکناً، وحیث أنّ الوضع فی المقام عندما یکون الرفع واحداً لیس ممکناً؛ لما تقدّم من أنّ الموافقة القطعیة أمر مستحیل، والموافقة الاحتمالیة أمر ضروری، فالوضع الظاهری للتکلیف الواقعی الذی هو أمر واحد غیر ممکن، فالرفع أیضاً لا یستفاد من الحدیث.

أقول: حتّی لو سلّمنا هذا التفسیر وقلنا بأنّ واقع التکلیف واحد وغیر متعدد، لکنّه فی واقعه هو مرددّ بین أمرین، هذا واقع التکلیف الذی هو أمر واحد وغیر متعدد هو مرددّ بین عنوانین، بین أن یکون وجوباً وبین أن یکون تحریماً، والمفروض فی محل الکلام أننّا نجهل کلاً منهما، یعنی لا نعلم أنّ واقع التکلیف هو الوجوب، کما لا نعلم أنّ واقع التکلیف هو التحریم، هذا أمر مجهول لدینا؛ فحینئذٍ أی ضیر فی أن نجری البراءة بلحاظ کل منهما، ونحتاج إلی الرفع بلحاظ کل منهما، وإن کان الحکم فی الواقع أمراً واحداً، لکن هذا الحکم الواحد حیث أنه مردد بین أن یکون وجوباً وبین أن یکون تحریماً وکونه وجوباً أمر مشکوک وغیر معلوم، وکونه تحریماً أیضاً أمر مشکوک وغیر معلوم، أی َضیر فی أن تجری البراءة ویجری الرفع بالنسبة إلی واقع التکلیف لکن بعنوانه وجوباً ؟ ویجری أیضاً فی واقع التکلیف بعنوان کونه تحریماً ؟ حتّی لو قلنا أنّ واقع الحکم واحد، وأنّ المراد باسم الموصول واقع الحکم، وواقع الحکم واحد وغیر متعدد، لکنه واقع مرددّ بین أمرین، وکل منهما مجهول، بمعنی أنّ کون واقع الحکم هو الوجوب أمر مجهول عندنا، موضوع البراءة متحقق فیه، فتجری البراءة من جهته، یعنی تجری البراءة فی واقع التکلیف، لکن بعنوان کونه وجوباً، وهذا مجهول، کما تجری البراءة فی واقع التکلیف بعنوان کونه تحریماً، فیکون هناک تعددّ فی الرفع، والمفروض أنّ الوضع ممکن فی کل واحداً منهما بحدّه، کل منهما ممکن، وضع وجوب الاحتیاط علی تقدیر أن یکون واقع التکلیف هو الوجوب أمر ممکن، فرفعه وجریان البراءة فیه أمر ممکن أیضاً، وهکذا الحال بالنسبة إلی الطرف الآخر، فیجری فیه الکلام المتقدّم.

ص: 394

هذا مضافاً إلی أنّ أصل أنّ المراد باسم الموصول واقع التکلیف لیس واضحاً، وخصوصاً أنّه هو(قدّس سرّه) فی ذلک المقام استظهر العکس، یعنی استظهر بأنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التکلیف لا واقع التکلیف، واستدلّ علیه بأنّ عنوان ما لا یعلمون الوارد فی الحدیث یصدق علی عنوان التکلیف، فأنه غیر معلوم، سواء کان هناک تکلیف فی الواقع، أو لم یکن هناک تکلیف فی الواقع، عنوان التکلیف، یعنی الوجوب والتحریم هو أمر غیر معلوم، فیصدق علیه ما لا یعلمون، رفع ما لا یعلمون، أی ما لا تعلم به وما تجهله، هذا یصدق علی عنوان التکلیف، فلماذا نقول بأنّ المراد باسم الموصول هو واقع التکلیف ؟ فلیکن المراد باسم الموصول هو عنوان التکلیف، باعتبار أنّ عنوان(ما لا تعلم به) یصدق علی کل واحد منهما، فهذا عنوان لا أعلم به، فتجری فیه البراءة، وهذا عنوان أیضاً لا أعلم به، فتجری فیه البراءة أیضاً، ومن هنا یکون هناک منافاة بین کلامه المتقدّم وبین ما استظهره هنا، هنا استظهر أنّ المراد باسم الموصول هو واقع التکلیف، وبنا هذا الوجه السابع علی هذا الاستظهار، بینما هناک استظهر أنّ المراد باسم الموصول هو عنوان التکلیف، سواء کان هناک تکلیف فی الواقع أو لم یکن هناک تکلیف فی الواقع، أصل أنّ المراد باسم الموصول واقع التکلیف هذا قد یشکک فیه من هذه الجهة.

من هنا یتبیّن لحد الآن أنّه لم یثبت أنّ هناک مانعاً ثبوتیاً ولا مانعاً إثباتیاً یمنع من جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام کما یقول السید الخوئی(قدّس سرّه).

الوجه الثامن: لکن بالرغم من ذلک یمکن أن یُذکر وجه ذکره بعض المحققین لمنع جریان البراءة فی محل الکلام غیر ما تقدّم، وذلک بأنْ یقال: وإن امکن تصویر جریان البراءة فی المقام بالنحو المتقدّم بأنْ تجری البراءة فی کل واحدٍ من الطرفین بخصوصه، باعتبار تحقق الجهل وعدم العلم الذی هو موضوع البراءة ----------- ومن هنا یظهر أنّ هذا الوجه أیضاً هو وجه إثباتی، ولیس ثبوتیاً ----------- لکن الظاهر من أدلة البراءة الشرعیة جعل التأمین، أی جعل ما یکون مؤمّناً من ناحیة التکلیف المحتمل، بمعنی أنّ التکلیف بالرغم من کونه محتملاً وغیر معلوم، لکنّه علی تقدیر اهتمام الشارع به یقتضی من المکلّف التحرّک نحو امتثاله، الشارع یجعل البراءة عند الشکّ فی هذا التکلیف لغرض التأمین من ناحیة ذلک التکلیف المشکوک، وأنّ ترک التحرّک نحو امتثاله لیس فیه محذور، فیجعل البراءة، مع عدم جعل البراءة هذا التکلیف المشکوک یقتضی تحرّکاً من قبل المکلّف، الغرض من أدلّة البراءة هو التأمین من ناحیة ذلک التکلیف، وأنّ ترک التحرّک نحو امتثال لیس فیه محذور ولا یترتب علیه شیء من قبل نفس المولی، یؤمّن من ناحیة ذلک التکلیف، هذا مفاد أدلّة البراءة، التأمین من ناحیة التکلیف المشکوک، وأنّ المکلّف إذا ترک التحرّک والعمل بالتکلیف المشکوک لا شیء علیه، هو مأمون من ناحیته، لا یؤاخذه المولی بترک التحرّک تجاه ذلک التکلیف حتّی لو کان ثابتاً فی الواقع. هذا المفاد لأدلة البراءة یستلزم أن یکون التکلیف المحتمل ممّا له اقتضاء التحریک وممّا له داعویة ومحرّکیة نحو الفعل، أو نحو الترک علی اختلاف التکلیف الذی یکون محتملاً حتّی تجری أدلّة البراءة، فیقال: هذا التکلیف له داعویة وله محرّکیة، أدلّة البراءة تأتی للتأمین من ناحیته، وأنّ ترک التحرّک لیس فیه شیء، لکن أدلّة البراءة إنّما تؤمّن من ناحیة التکلیف عندما یکون التکلیف فی حدّ نفسه له داعویة، وله محرّکیة نحو الامتثال، هذا أمر متحقق فی الشبهات الوجوبیة ومتحقق فی الشبهات التحریمیة، التکلیف له اقتضاء التحریک وله اقتضاء الداعویة، وأمّا فی محل الکلام فأنّ التکلیف المحتمل لیس له هذا الاقتضاء؛ ولذا لا تشمله أدلّة البراءة؛ لأنّ التکلیف المحتمل فی المقام، وإن کان لو لاحظناه وحده له اقتضاء التحرّک وله تلک الداعویة، لکنّه لمّا کان التکلیف المحتمل فی المقام الذی یُراد تطبیق البراءة فیه، لمّا کان مقترناً دائماً فی محل الکلام باحتمال نقیضه، نحن نرید أن نجری البراءة فی الوجوب المحتمل، ونجریه فی التحریم المحتمل، هذا هو الغرض من إجراء البراءة فی المقام، هکذا صوّرنا جریان البراءة فی دوران الأمر بین المحذورین، احتمال الوجوب، صحیح هو فی حدّ نفسه له اقتضاء التحریک، لکن لمّا کان مقرناً باحتمال التحریم دائماً فی محل کلامنا، مع تساوی هذین الاحتمالین کما هو المفروض، یعنی عدم وجود مرجّح لأحد الاحتمالین علی الآخر، احتمال الوجوب مع وجود مقارنٍ له وهو احتمال التحریم بحیث أنّ المکلّف کما یحتمل الوجوب فی نفس الوقت یحتمل التحریم احتمالاً مساویاً بلا ترجیح لأحدهما علی الآخر، مثل هذا التکلیف المحتمل لیس له داعویة ولیس له محرّکیة، هذا لا یقتضی التحرّک من المکلّف.

ص: 395

وبعبارةٍ أخری: هو لا یؤثر فی نفس المکلّف شیئاً، لیس له اقتضاء التحریک ولیس له اقتضاء المحرّکیة؛ لأنّه احتمال الوجوب المقترن باحتمال الحرمة، احتمال لزوم الفعل مقترن باحتمال لزوم ترک الفعل، مثل احتمال الوجوب هذا لیس له اقتضاء الداعویة، ولیس له اقتضاء المحرّکیة، فلا تشمله أدلّة البراءة، ونفس الکلام یقال فی احتمال التحریم، أیضاً هذا احتمال هو مقترن دائماً باحتمال الوجوب، مثل هذا الاحتمال المقترن باحتمال الوجوب مع فرض التساوی بین الاحتمالین لا یکون له اقتضاء التحریک، فإذا قلنا فرغنا عن أنّ أدلّة البراءة لا تشمل إلاّ التکلیف المحتمل الذی له اقتضاء التحریک واقتضاء المحرّکیة حتّی تؤمّن المکلّف من ناحیته، هذا المکلّف الذی یقع فی حیرة واضطراب من ناحیة التکلیف المحتمل تأتی أدلّة البراءة فتؤمّنه وترفع عنه الحیرة وترفع عنه الاضطراب، هذا هو مورد جریان البراءة، وأمّا حیث لا یکون التکلیف المحتمل قد خلق فی نفس المکلّف حیرة ولا ترددّ ولا اضطراب؛ لأنّ احتمال التکلیف هذا مقترن باحتمال نقیضه، باحتمال التکلیف بالعدم، وباحتمال التحریم، مثل هذا لا یکون موجباً للتحرّک من قبل المولی، یعنی لا یخلق حالة اضطراب وتردد وحیرة عند المکلّف حتّی یحتاج إلی جعل التأمین، ومن هنا یکون هناک قصور فی أدلّة البراءة عن الشمول لمثل محل الکلام.

وبعبارة أکثر وضوحاً: أنّ احتمال الوجوب عندما یقترن باحتمال الإباحة یکون مورداً للبراءة؛ لأنّ احتمال الوجوب هذا یکون فیه مقتضٍ للتحرّک وفیه محرّکیة وداعویة تجعل المکلّف فی حیرةٍ من أمره لا یعلم ماذا یصنع، هو یحتمل الوجوب، لکن فی مقابله احتمال الإباحة، فیقع فی حیرة واضطراب، أدلّة البراءة تؤمّنه من ناحیة ذلک التکلیف. أمّا إذا کان التکلیف لیس له اقتضاء التحرّک، کما إذا کان احتمال الوجوب مقترناً باحتمال التحریم، مثل هذا لیس فیه اقتضاء التحرّک، فلا تشمله أدلّة البراءة. هذا مانع إثباتی آخر غیر ما تقدّم یمکن أنْ یکون مانعاً من إجراء البراءة فی محل الکلام.

ص: 396

هذا تمام الکلام عن جریان البراءة الشرعیة فی موارد دوران الأمر بین المحذورین، لکن قلنا أنّ القول الأوّل الذی أختاره السید الخوئی(قدّس سرّه) هو یلتزم بجریان کلتا البراءتین، البراءة الشرعیة فی محل الکلام، والبراءة العقلیة أیضاً یقول لا مانع من جریانها فی محل الکلام، ومن هنا بعد الفراغ عن البراءة الشرعیة، وأنّها تجری فی محل الکلام، أو لا تجری ننتقل إلی الکلام عن البراءة العقلیة، أنّها تجری فی محل الکلام، أو لا تجری ؟

الشیخ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) استشکل فی جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، (1) وإشکاله یرجع إلی أنّ البراءة العقلیة مشروطة بعدم البیان، موضوعها عدم البیان، وهذا الموضوع غیر متحقق فی محل الکلام لتمامیة البیان فی محل الکلام؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف یعلم بالإلزام، لکن غایة الکلام أنّ هذا الإلزام مردد بین الوجوب وبین التحریم، فیقول أنّ البیان تام ولا قصور فیه، فإذا کان البیان تامّاً ولا قصور فیه؛ فحینئذٍ لا تجری البراءة العقلیة؛ لأنّ موضوعها عدم البیان، بخلاف الشبهات التحریمیة والوجوبیة فی غیر محل الکلام، هناک أصلاً لم یتم البیان علی التکلیف، لا بعلم تفصیلی، ولا بعلم إجمالی؛ فلذا منع من جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

تبیّن ممّا تقدّم أنّه لا مانع ثبوتی من جریان البراءة الشرعیةفی محل الکلام فی دوران الأمر بین المحذورین. نعم کان هناک کلام فی وجود مانعٍ إثباتی، وتعرّضنا لذلک واستقربنا وجود هذا المانع الإثباتی من جریان البراءة الشرعیةبالتقریب الأخیر الذی ذکرناه.

ص: 397


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 356.

بعد ذلک یجری الکلام فی البراءة العقلیة، هل تجری البراءة العقلیة فی محل الکلام ؟الشیخ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) استشکل فی جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، باعتبار عدم قصور فی المقام من ناحیة البیان، باعتبار أنّ العلم الإجمالی بیان، والمفروض أنّ المکلف یعلم علماً إجمالیاً بالإلزام، هذا العلم الإجمالی بیان ولا قصور فیه من هذه الناحیة، فیرتفع موضوع البراءة العقلیة؛ لأنّ موضوعها هو عدم البیان، والبیان فی محل الکلام تام ولا قصور فیه، فلا یتحقق موضوع البراءة العقلیة؛ ولذا لا تجری البراءة العقلیة؛ لأنّ البیان تام فی محل الکلام. وأمّا عدم تنجیز التکلیف المعلوم بالإجمال، یقول هذا لیس من جهة عدم البیان، وإنّما عدم تنجّز التکلیف فی محل الکلام إنّما هو باعتبار عدم التمکن من الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة، فمن هنا یکون عدم التنجّز، لا أنّ عدم التنجّز یکون مسببّاً عن عدم البیان، فالبیان تام ولا قصور فیه؛ ولذا لو أمکن الاحتیاط من جهة العلم الإجمالی یجب الاحتیاط ولا تجری البراءة، العلم الإجمالی بیان کما لو علم إجمالاً بوجوب شیءٍ، أو حرمة آخر، هنا العلم الإجمالی موجود ویجب الاحتیاط فیتنجّز التکلیف، یجب الإتیان بمحتمل الوجوب، ویجب ترک الفعل الآخر فی غیر محل الکلام، وهذا معناه أنّه من ناحیة العلم الإجمالی لا قصور فی البیان، العلم الإجمالی بیان تام، وإنّما لا یتنجّز التکلیف فی محل الکلام باعتبار عدم التمکّن من الاحتیاط وعدم القدرة علی الموافقة القطعیة کالمخالفة القطعیة. هذا هو المذکور فی الکفایة. (1)

أجیب عن هذا الرأی بأنّه ما هو المراد بالبیان فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان ؟ هل المراد به مطلق البیان بحیث أنّ مطلق البیان یکون رافعاً لموضوع القاعدة، مهما کان هذا البیان؟ أو أنّ المراد بالبیان فی القاعدة هو البیان المصحح للعقاب علی المخالفة ؟ هذا هو المراد من البیان الذی یکون عدمه موضوعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، موضوع هذه القاعدة لیس هو مطلق عدم البیان، وإنّما عدم هذا البیان الخاص وهو البیان الذی یکون مصححّاً للعقاب علی تقدیر المخالفة؛ حینئذٍ نأتی إلی محل الکلام لنری أنّ هذا البیان ---------- العلم الإجمالی ------------ هل یصحح العقاب علی تقدیر المخالفة ؟ من الواضح أنّه لا یصحح العقاب، باعتبار أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام هو علم بالإلزام المرددّ بین الوجوب والتحریم مع افتراض وحدة الواقعة کما هو محل الکلام فعلاً، من الواضح أنّ مثل هذا البیان لا یکون مصححّاً للعقاب علی خصوص أحد المحتملین؛ لما قلناه من أنّ المکلّف أساساً غیر متمّکن من المخالفة القطعیّة ولا من الموافقة القطعیة، فعلی تقدیر أن یختار الفعل، أو الترک البیان الموجود عنده لا یصحح العقاب حتّی لو فرضنا أنّ الفعل کان مخالفاً للواقع، أو أنّ ما اختاره من الترک کان مخالفاً للواقع وهذا البیان الذی عنده لا یکون مصححّاً للتکلیف.

ص: 398


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 356.

وبعبارةٍ أخری: أنّ العلم الإجمالی إنّما یکون بیاناً رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان حینما یکون بیاناً منجّزاً للتکلیف الذی تعلّق به، قابلاً لتحریک المکلّف وللباعثیة، هذا العلم الإجمالی حینئذٍ یکون بیاناً، أمّا العلم الإجمالی الذی لا یکون قابلاً للتحریک ولا یکون قابلاً للباعثیة ولا منجّزاً للتکلیف الذی تعلّق به، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون بیاناً ولا یکون عدمه موضوعاً للقاعدة، ولا یکون وجوده رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان. والعلم الإجمالی فی محل الکلام لیس قابلاً للتحریک والتنجیز والباعثیة، العلم الإجمالی بالإلزام المردد بین الوجوب والتحریم یحرک نحو ماذا ؟ هو غیر قادر علی التحریک نحو الموافقة القطعیة، أمّا الموافقة الاحتمالیة فهی ضروریة تحصل قهراً، مثل هذا العلم الإجمالی الغیر قابل للتحریک والباعثیة لا یکون بیاناً، فلم یتم البیان فی محل الکلام؛ ولذا قالوا لا مانع من جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام لتحقق موضوعها؛ لأنّ موضوعها لیس هو عدم البیان مطلقاً، وإنّما عدم البیان المصحح للعقاب علی المخالفة.

وبعبارة أخری: أنّ العلم الإجمالی الذی یکون رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان هو العلم الإجمالی الصالح للمحرکیة والباعثیة کما هو الحال فی المثال الذی ذکرناه سابقاً، إذا علم إجمالاً بوجوب هذا الشیْ، أو حرمة هذا الآخر، مثل هذا العلم الإجمالی قابل للداعویة والباعثیة والتحریک، فأنّه یحرک نحو فعل هذا، ویحرک نحو ترک الآخر. فی محل کلامنا هو غیر قابل لذلک؛ ولذا لا یکون مثل هذا العلم الإجمالی رافعاً لموضوع القاعدة؛ بل یبقی موضوع القاعدة محفوظاً ولا مانع من إجراء البراءة العقلیة فی محل الکلام.

ص: 399

الظاهر أنّ ما ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من أنّ البیان تام فی محل الکلام ولا قصور فیه یمکن الالتزام به، یعنی المطلب فی حدّ نفسه صحیح، إذا لاحظنا العلم ونظرنا إلی العلم الموجود عند المکلّف، العلم لا قصور فیه، لکنّ هذا العلم الإجمالی غیر قابل لأن ینجّز شیئاً علی المکلّف، هو علم لکن غیر قابل للمنجّزیة؛ لأنّه کما مر مراراً أنّ مثل هذا العلم الإجمالی بالإلزام المردد بین الوجوب والتحریم فی واقعة واحدة هو غیر قادر علی تنجیز وجوب الموافقة القطعیة علی المکلّف، ولیس قادراً أیضاً علی تنجیز حرمة المخالفة القطعیة علی المکلّف، أمّا الموافقة الاحتمالیة، فتنجیزها بالنسبة إلی أحد الاحتمالین بعینه هو ترجیح بلا مرجّح، أمّا بالنسبة إلی أحدهما غیر المعیّن فهی حاصلة قطعاً سواء اختار الفعل، أو اختار الترک، هی أمر قهری ضروری، فلا معنی لأن یقال أنّ العلم الإجمالی فی المقام نجّز الموافقة الاحتمالیة، هذا معناه أنّ هذا العلم الإجمالی فی محل الکلام لا ینجّز شیئاً علی المکلّف إطلاقاً، مثل هذا العلم الإجمالی الذی لا ینجّز شیئاً علی المکلّف هو محل الکلام، هل هو بیان، أو لیس بیاناً ؟ من یقول أنّ البیان فی قاعدة قبح العقاب بلا بیان لیس هو مطلق البیان، وإنّما هو بیان خاص، هو عبارة عن البیان الصالح للداعویة والتنجیز والمصحح للعقاب علی المخالفة، من یقول ذلک حینئذٍ یقول أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام وإن کان بیاناً ولا قصور فی کونه بیاناً لما تعلّق به، لکنّه بالبرهان العقلی هو غیر قابل لأنْ ینجّز شیئاً، یستحیل ولا یُعقل أنْ یکون منجّزاً لشیٍء؛ لأنّه إمّا باعتبار عدم القدرة، وإمّا باعتبار استحالة الترجیح بلا مرجّح، مثل هذا البیان لا یرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان، والذی یرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بیان هو البیان الصالح للتنجیز والمحرّکیة والداعویة، الذی ینجّز شیئاً علی المکلّف، هذا هو الذی یکون عدمه موضوعاً لقاعدة قبح العقاب بلا بیان، وفی محل الکلام لا یوجد عندنا مثل هذا البیان؛ لأنّ المراد بالبیان فی محل الکلام هو العلم الإجمالی، وهذا العلم الإجمالی لیس صالحاً للتنجیز إطلاقاً؛ فحینئذٍ لا یکون وجوده مانعاً من جریان قاعدة قبح العقاب بلا بیان ورافعاً لموضوعها؛ بل یبقی موضوعها محفوظاً؛ وحینئذٍ یمکن إجراء البراءة العقلیة فی محل الکلام.

ص: 400

هذا کلّه إذا نظرنا إلی العلم بالجامع، أی العلم بالإلزام، هنا نقول أنّ العلم الإجمالی بیان، لکنّه فی محل الکلام غیر قابل للتنجیز ولا یُعقل أن یکون منجّزاً لشیء علی المکلّف، فإذا قلنا أنّ البیان فی موضوع القاعدة هو البیان الخاص کما قلنا؛ حینئذٍ یکون موضوع القاعدة متحققاً؛ لأنّ هذا البیان الخاص لیس موجوداً فی محل کلامنا، البیان المصحح للعقاب علی المخالفة، البیان الذی یکون موجباً للتنجیز والداعویة والتحریک غیر موجود فی محل کلامنا، فکأنّ عدم البیان محفوظ، کأنّ موضوع القاعدة یکون محفوظاً، فلا مانع من جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، هذا بالنسبة إلی العلم بالجامع والعلم بالإلزام، باعتبار أنّ بیان العلم بیان مهما کان ولو کان علماً إجمالیاً.

وأمّا إذا أتینا إلی الاحتمالین الموجودین فی محل الکلام الذین یتردد بینهما الإلزام المعلوم بالإجمال وهما احتمال الوجوب واحتمال التحریم، من الواضح أنّ احتمال التحریم لا ینجّز ما یتعلّق به، واحتمال الوجوب لا ینجّز ما تعلّق به بناءً علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان التی تعنی بحسب الحقیقة عدم منجّزیة الاحتمال وأنّ المنجّز هو العلم وما یقوم مقامه، فی محل کلامنا احتمال الوجوب کاحتمالٍ وحده لیس منجّزاً بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ وحینئذٍ إذا لم یکن الاحتمال بیاناً، والعلم بالجامع وإنْ کان بیاناً، لکنّه بیان غیر صالح للتنجیز والتعذیر ومن هنا یکون الفرق بینهما هو أننّا إذا لاحظنا العلم بالإلزام العلم بیان، لکنّه لیس قابلاً لتنجیز متعلّقه بأی شکلٍ من الإشکال، وإذا نزلنا إلی الاحتمال هو لیس بیاناً أصلاً، وإن کان قابلاً لأنْ ینجّز متعلّقه، لا مشکلة فی أنّ ینجّز احتمال وجوب متعلّقه، فینجّز الوجوب، وکما قلنا سابقاً أنّ الشارع یضع الاحتیاط بلحاظ هذا الطرف، فیأمر المکلّف بالفعل احتیاطاً، هذا لیس فیه محذور؛ لأنّه بإمکانه أن یرفع وجوب الاحتیاط، إذن، بإمکانه أن یضع وجوب الاحتیاط، أن ینجّز هذا المحتمل، فلا مشکلة فی أن یکون الاحتمال منجزاً لما یتعلّق به، المشکلة کانت فی العلم الإجمالی المتعلّق بالإلزام المردد بین الوجوب والتحریم، هذا العلم الإجمالی لیس قابلاً لأن ینجز ما تعلّق به، لکن عندما نلتفت إلی الاحتمال الذی یتعلّق بالوجوب لا مشکلة فی أن یکون هذا الاحتمال منجّزاً لما تعلّق به، وهکذا الحال إذا التفتنا إلی احتمال التحریم، لا محذور فی أن یکون هذا الاحتمال منجزاً لما تعلّق به، لکن الموجود فعلاً هو أننا نبنی علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وکما قلنا أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان تعنی أنّ الاحتمال لیس منجزاً لشیء، العلم الإجمالی بیان لکنّه یستحیل أن ینجز ما تعلّق به، احتمال الوجوب هو أصلاً لیس بیاناً، بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وإنْ کان یمکن أن ینجّز ما تعلّق به؛ إذ لیس فی تنجیزه لما تعلّق به محذور.

ص: 401

ومن هنا یظهر أنّه بناءً علی هذا الکلام لا مانع من إجراء البراءة العقلیة بالنسبة إلی الإلزام إذا التفتنا إلی العلم وما تعلّق به من الإلزام المردد بین الوجوب والتحریم، وبناءً علی ما قلناه وما ذکروه من أنّ البیان الذی أُخذ عدمه موضوعاً فی القاعدة هو عبارة عن البیان الخاص وهو البیان الذی یکون مصححاً للعقاب علی تقدیر المخالفة، هنا لا یوجد مثل هذا البیان، فکأنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام بمنزلة العدم، کأنّ وجوده وعدمه سیّان، فیثبت موضوع القاعدة، فیمکن إجراء قاعدة البراءة العقلیة، کما أنّه یمکن إجراء قاعدة البراءة العقلیة بلحاظ الاحتمالین الموجودین فی محل الکلام؛ لأنّ کل احتمالٍ منهما هو لیس بیاناً بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فإذن، احتمال الوجوب لم یتم فیه البیان، فتجری فیه البراءة العقلیة، وذلک الاحتمال فی حدّ نفسه لم یتم علیه البیان؛ لأنّ الاحتمال لیس بیاناً، فتجری فیه القاعدة، موضوع القاعدة فی کلٍ من الاحتمالین متحقق وهو عدم البیان، فتجری البراءة فیهما أیضاً.

قد یقال: لا نحتاج إلی إجراء البراءة فی کلٍ منهما.

لکن هذه لیست مشکلة، ففی واقع الأمر موضوع البراءة العقلیة متحقق بالنسبة إلی کلٍ منهما، أمّا بالنسبة إلی العلم بجامع الإلزام، فباعتبار أنّ هذا العلم لا ینجّز شیئاً علی المکلّف، یستحیل أن ینجّز شیئاً علی المکلّف، والمفروض أننا نقول أنّ البیان الذی أُخذ عدمه فی موضوع القاعدة هو بیان خاص ولیس مطلق البیان، وهو غیر متحقق فی محل الکلام؛ لأنّ البیان علم إجمالی فی محل الکلام لا ینجّز شیئاً، فوجود مثل هذا العلم بمنزلة عدم هذا العلم.

ص: 402

نعم، بناءً علی مسلک حق الطاعة وإنکار قاعدة قبح العقاب بلا بیان الأمر یختلف، هذا المسلک بحسب الواقع یعنی منجّزیة الاحتمال، یعنی أنّ مطلق درجات الانکشاف مهما کانت هی تنجّز ما تتعلق به، فالاحتمال منجّز، فضلاً عن العلم، فإذا لاحظنا احتمال الوجوب، هذا الاحتمال یکون منجّزاً للوجوب؛ وحینئذٍ لا تجری قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّه أساساً لا نؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا بیان بحسب الفرض، لکنّ الاحتمال یکون منجّزاً لما تعلّق به، غایة الأمر أنّه یقع هناک تزاحم بین الاحتمالین فی مقام التأثیر، بمعنی أنّ احتمال الوجوب بناءً علی مسلک حقّ الطاعة یقتضی تنجیز الوجوب علی المکلّف، احتمال التحریم أیضاً یقتضی تنجیز الحرمة علی المکلّف، وحیث أنّ هذین الأمرین لا یمکن الجمع بینهما، فیقع التزاحم بینهما، یقع التزاحم بین المقتضیین للتأثیر الذی هو احتمال الوجوب واحتمال التحریم، هذا بناءً علی مسلک حق الطاعة، لکن بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان الظاهر علی الأقل لا مانع من إجراء البراءة فی احتمال الوجوب وفی احتمال التحریم، ومن هنا قد یقال بأنّ التفریق بین البراءة العقلیة والبراءة الشرعیة والالتزام بجریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، وعدم جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام لیس واضحاً؛ لأننّا قلنا سابقاً، علی الأقل بلحاظ المحاذیر الثبوتیة ولیس الإثباتیة بأنّ إجراء البراءة ممکن بلحاظ الطرفین الذین یدور الإلزام بینهما، تصوّرنا کیف تجری البراءة الشرعیة فی احتمال الوجوب، وکیف تجری البراءة الشرعیة فی احتمال التحریم، باعتبار أنّه إذا کان مستندنا هو حدیث الرفع، فالرفع یقابل الوضع، والوضع فی کل طرفٍ أمر ممکن، فیکون رفعه أیضاً أمراً ممکناً، نفس هذا البیان یجری بلحاظ البراءة العقلیة، لو قصرنا النظر علی احتمال الوجوب، وهذا مجرّد احتمال، بناءً علی البراءة العقلیة هذا الاحتمال لیس منجّزاً لما یتعلّق به، فإذن، هو قابل لأن تجری فیه البراءة العقلیة؛ لأنّ البیان لیس تاماً؛ لأنّ الاحتمال لیس بیاناً، البیان هو العلم وما یُلحق به، فإذن، موضوع القاعدة محفوظ هنا کما هو محفوظ هناک، نفس الکلام الذی قیل فی البراءة الشرعیة یقال فی محل الکلام أیضاً، موضوع البراءة الشرعیة هو الجهل(ما لا یعلمون) وهو محفوظ فی کلٍ من الطرفین علی حدة، محفوظ هنا ومحفوظ هنا، فأیّ مانعٍ من أن نجری البراءة الشرعیة فی هذا الطرف ؟ مع انحفاظ موضوع البراءة الشرعیة فیه بحسب الفرض، نفس هذا الکلام یُقال فی البراءة العقلیة، موضوع البراءة العقلیة هو عدم البیان، وعدم البیان فی المقام موجود، فتجری البراءة فی احتمال الوجوب للتأمین من ناحیة الوجوب المحتمل؛ لأننا قلنا أنّ احتمال الوجوب یمکن أن یکون منجّزاً لما یتعلّق به، لیس هناک محذور فی أنْ یکون منجّزاً لما تعلّق به، أن ینجّز الوجوب بجعل الاحتیاط بالفعل، تجری البراءة العقلیة للتأمین من ناحیة هذا الاحتمال، هذا لا محذور فیه، وموضوع البراءة متحقق، ویترتّب علیها الأثر وهو التأمین من ناحیة الوجوب المحتمل، فالتفریق بینهما لیس واضحاً.

ص: 403

نعم، فی البراءة الشرعیة کان المحذور إثباتی، وهذا المحذور الإثباتی الموجود فی البراءة الشرعیة لیس موجوداً فی محل الکلام، هذا هو الفارق بینهما، فی المقام نتکلّم عن براءةٍ عقلیة لیس لها إلاّ مقام ثبوت، بینما فی البراءة الشرعیة هناک ألسنة وأدلّة تدل علی البراءة الشرعیة، فإذا لاحظنا تلک الألسنة والأدلة فقد نقول أنّ هذه الألسنة منصرفة عن حالةٍ من هذا القبیل لا تشمل دوران الأمر بین المحذورین بأحد الوجوه المتقدّمة لبیان المحذور الإثباتی من جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام.

من هنا یظهر أنّه إلی هنا، ونؤکّد علی کلمة إلی هنا أنّه لا یوجد مانع من إجراء البراءة العقلیة فی محل الکلام وأنّ هناک مانعاً ثبوتیاً من إجراء البراءة الشرعیة فی محل الکلام. بعد ذلک ننتقل إلی الأقوال الأخری؛ لأننا قلنا أنّ الأقوال التی ذکروها فی محل الکلام خمسة، والقول الثانی الذی نتعرّض له إن شاء الله تعالی هو مسألة تقدیم جانب التحریم، بأنّ التحریم محتمل والوجوب محتمل، قالوا بأنّه یقدّم جانب التحریم، المکلّف یلزم بالترک فی هذه الحالة ولا یجوز له الفعل، باعتبار أنّ ترک المفسدة أولی من جلب المصلحة.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

بالنسبة إلی الأقوال الأخری، القول الأوّل تقدّم ما فیه، وهو دعوی جریان البراءة الشرعیة والعقلیة فی محل الکلام وتبیّن أنّ هناک توقفاً فی جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، لکنّ جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام بلحاظ الأطراف، بلحاظ احتمال الوجوب واحتمال التحریم علی الظاهر أنّه لیس فیه محذور.

القول الثانی: تقدیم جانب التحریم، باعتبار أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة.

ص: 404

لکن أورد علیه :

أولاً: أنّ هذه القاعدة لم یدل علیها دلیل، لا شرعی ولا عقلی؛ إذ لا دلیل علی أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة بنحو الإطلاق کما هو المدّعی فی المقام، لابدّ أن یُدّعی أنّ هذه القاعدة ثابتة مطلقاً، أنّه فی کل موردٍ یکون دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة وهذا یستدعی تقدیم جانب التحریم.

وبعبارةٍ أخری: کما ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّ المنافع والمفاسد تختلف باختلاف الموارد، فربّ نفع یکون جلبه أولی من دفع المفسدة، کما أنّه ربّ مفسدةٍ یکون دفعها أولی من جلب المصلحة، وربما یتساویان، فلا توجد عندنا قاعدة کلّیة مضطردة فی جمیع الموارد بحیث یقدّم جانب التحریم فی جمیع الموارد علی جانب الوجوب، وإنّما هذا یختلف باختلاف الموارد. (1)

ثانیاً: أساساً هذا التصوّر مبنی علی افتراض أنّ الواجبات لیس فیها إلاّ جلب المنفعة بحیث لا یکون فی ترکها مفسدة؛ بل مجرّد فوات منفعة؛ حینئذٍ یقال: أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة، یعنی تقدیم جانب التحریم الذی یتحقق فیه جانب دفع المفسدة هو أولی من جانب الوجوب الذی یتحقق فیه جلب المنافع وکأنّه فی الواجبات لا یوجد إلاّ جلب المنفعة وترکه لیس فیه وقوع فی المفسدة، وإنّما فی ترکه مجرّد فوات المنفعة، عندما یطرح بهذا الشکل؛ حینئذٍ هذه القاعدة قد تکون مقبولة، لکنّ هذا الطرح غیر مقبول، وذلک لأنّ ترک الواجب لماذا لا نقول أنّ فیه مفسدة ؟ ترک الواجب فیه مفسدة، کما أنّ فعل الحرام فیه مفسدة، ترک الواجب أیضاً فیه مفسدة، ففی الحقیقة حینئذٍ لا مبرّر لتقدیم جانب التحریم بادعاء أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة، کما أنّ فی تقدیم التحریم دفع المفسدة، لکنه نتیجة ترک الواجب یقع فی مفسدةٍ أیضاً، فالأمر لا یدور بین منفعة ومفسدة، وإنّما یدور بین مفسدتین، أحداهما تترتّب علی فعل الحرام، والأخری تترتب علی ترک الواجب، فعل الحرام فیه مفسدة وترک الواجب أیضاً فیه مفسدة، ترک الواجب لیس فیه فقط فوات منفعة وعدم حصول علی منفعة، وإنّما فیه أیضاً وقوع فی مفسدة، فلا وجه لتقدیم جانب التحریم علی أساس هذه الدعوی.

ص: 405


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 451.

ثالثاً: فی موارد الشبهات التحریمیة تجری البراءة بلا إشکال، علی ما تقدّم سابقاً، ومعنی جریان البراءة فی الشبهات التحریمیة أنّه لا یجب علی المکلّف أن یراعی احتمال التحریم بالرغم من القطع بعدم وجود المصلحة، مع ذلک الشارع لم یأمر المکلّف بأن یراعی جانب التحریم، فکیف یقال بلزوم مراعاة جانب التحریم مع وجود احتمال المصلحة فی مقابله کما فی محل الکلام، ففی محل الکلام هناک مفسدة کما قیل وفی مقابله هناک مصلحة فی الوجوب، هذه الحرمة التی یوجد فی قبالها مفسدة قالوا بأنّه تجب مراعاتها ویقدّم جانب التحریم، بینما نجد فی الشبهات التحریمیة احتمال المفسدة الذی لا یوجد فی قباله احتمال المصلحة، مع ذلک لم یؤمر المکلّف بمراعاة جانب التحریم؛ بل جرت البراءة ولم یراعِ جانب احتمال المفسدة واحتمال التحریم، إذن، کیف یقال أنّه فی محل الکلام لابدّ من مراعاة جانب المفسدة مع أنّه یوجد فی قبالها احتمال المصلحة، هذا غیر قابل للتصدیق ! کیف یمکن أن یقال بذلک ؟ والحال أنّ الشارع فی الموارد التی لا یوجد فیها إلاّ احتمال المفسدة ولا یوجد فی قبالها مصلحة محتملة تزاحمها، مع ذلک لم یراعٍ جانب التحریم، ولم یأمر المکلّف بمراعاة جانب التحریم، فکیف یأمره بمراعاة جانب التحریم فی محل الکلام مع وجود احتمال المصلحة فی مقابل احتمال المفسدة.

بالنسبة إلی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، وهو دعوی أنّ الواجبات أیضاً فی ترکها مفسدة، الظاهر أنّه خلاف ما بنوا علیه کما تقدّم فی بحث النواهی من أنّ النهی، بأیّ شیءٍ فسّرناه، سواء فسّرناه بالزجر عن الفعل، أو فسّرناه بطلب الترک، علی کلا التقدیرین هو ینشأ من مفسدة فی الفعل، ینشأ عن مفسدة فی متعلّقه، فی قباله الأمر وینشأ من مصلحةٍ فی متعلّقه، الأمر لا ینشأ من مفسدة فی ترک متعلّقه، وإنّما ینشأ من مصلحةٍ فی متعلّقه فی مقابل النهی الذی ینشأ من مفسدة، هذا هو الفرق بین الأمر وبین النهی، سواء فسّرنا النهی بالزجر عن الفعل کما یقال، أو بطلب الترک، علی کل حال النهی ینشأ عن مفسدةٍ فی متعلّقه والأمر ینشأ عن مصلحة فی متعلّقه، إذن، الواجبات تنشأ من مصالح فی متعلّقاتها، وهذا معناه أنّ المکلّف إذا ترک الواجب تفوته المصلحة، لا یدرک المصلحة الموجودة فی المتعلّق لا أنّه إذا ترک الواجب یقع فی مفسدة فی مقابل المصلحة، الواجب لیس فیه إلاّ مصلحة فی المتعلّق وترک الواجب لیس فیه إلاّ فوات تلک المصلحة، کما أنّ النهی لیس فیه إلاّ مفسدة فی المتعلّق ولیس فی ارتکاب الحرام إلاّ الوقوع فی تلک المفسدة الموجودة فی متعلّق النهی، إذن، بناءً علی هذا یصحّ ما قیل من أنّ الواجبات لیس فیها إلاّ مصالح فی متعلّقاتها، وأنّ ترک الواجب لا یترتب علیه إلاّ فوات تلک المصالح؛ وحینئذٍ تأتی القاعدة التی ذکروها وهی أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة، عندما یدور الأمر بین وجوب وبین تحریم کما فی محل الکلام، فیقال نقدّم جانب التحریم؛ لأنّ دفع المفسدة الذی یتحقق بتقدیم جانب التحریم أولی من جلب المصلحة الذی یتحقق بتقدیم جانب الوجوب؛ لأنّ الواجب لیس فیه إلاّ مصلحة، وترک الواجب لیس فیه إلاّ فوات تلک المصلحة، فإذا دار الأمر بین أن تفوت الإنسان مصلحة، أو یقع فی مفسدة، تجنّب الوقوع فی المفسدة أولی من تحصیل المنفعة، فادعاء أنّ الواجبات لیس هکذا، وإنّما الواجبات قد تنشأ من مفسدة فی ترک متعلّقها، الظاهر أنّ هذا خلاف ما ذُکر فی بحث النواهی فی مقام التمییز بین النهی وبین الأمر. إذا افترضنا من باب الاتفاق أنّ فعلاً من الأفعال کان فیه مصلحة، وکان فی ترکه مفسدة، هذا فی الحقیقة لا یشبه الواجبات العادیة المتعارفة، وإنّما هذا یکون نوعاً خاصّاً ویجب أن نلتزم علی تقدیر اتفاق ذلک بأنّه یترتب علی المخالفة استحقاق عقابین، أولاً عقاب علی مخالفة الوجوب، یعنی عقاب علی ترک المصلحة، وعقاب علی الوقوع فی المفسدة؛ لأنّ هذا فعل فیه مصلحة؛ ولأنّ فیه مصلحة أوجبه الشارع، وفی ترکه مفسدة، هذا واجب، لکنّه لیس واجب محض، وإنّما هذا کأنّه ملفق من کل منهما، فیکون فی فعله مصلحة وفی ترکه مفسدة، فإذا ترکه یقع فی المفسدة وفی نفس الوقت تفوته المصلحة، فلابدّ أن یستحق عقابین، الواجبات العادیة التی نتکلّم عنها لیست هکذا، وإنّما هی واجبات محضة ولا تنشأ إلاّ من مصلحة فی الفعل فقط، وفواتها وترکها لا یترتب علیه إلاّ فوات تلک المصالح؛ حینئذٍ یقال فی الدلیل: إذا دار الأمر بین الحصول علی المصلحة وبین الوقوع فی المفسدة، فتجنّب الوقوع فی المفسدة یکون أولی من تحصیل تلک المصلحة.

ص: 406

وأمّا الأمر الأوّل الذی ذُکر، فی الحقیقة هذا الذی ذُکر إنّما یکون وارداً فیما إذا کان المدعی، کما هو محتمل؛ بل لیس ببعید، إذا کان المدعی فی اصل الدلیل تقدیم جانب الحرمة فی جمیع الموارد؛ فحینئذٍ یرد هذا الإیراد علیه، وهو أنّ المنافع والمصالح تختلف باختلاف الموارد کما یقول ربّ منفعة یکون تحصیلها أولی من دفع المفسدة، والعکس أیضاً صحیح، فربّ مفسدة یکون دفعها أولی من جلب المصلحة، وربّما یتساویان، لکن لو فرضنا أنّه ادعی ذلک فی الجملة، یعنی فی بعض الموارد قد یطمأن الإنسان ویقطع بأنّ تحصیل هذه المصلحة أهم من دفع المفسدة، أو أن یکون دفع المفسدة أهم من تحصیل المصلحة، فی هذه الحالات حینئذٍ یمکن ادعاء هذه الدعوی، کما ربّما قد یقال بذلک فیما إذا دار أمر الشخص بین أنْ یکون واجب القتل، أو محرم القتل، هنا قد یقال بأنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة، وجوب القتل لا یعنی إلاّ الحصول علی مصلحة، لکن الوقوع فی القتل علی تقدیر الحرمة یکون فیه مفسدة، وهذه المفسدة أهم بمراتب من هذه المصلحة التی تترتب علی القتل فیما إذا کان واجباً، فعلی هذا التقدیر یکون واضحا أنًّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة، هنا یمکن ادعاء هذا المطلب؛ لأنّه فی هذه الحالة یقال أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة، فیُلتزم بتقدیم جانب النهی والتحریم لا أن یقدّم جانب الوجوب علی جانب التحریم فی هذا المثال، وإنّما فی هذه الحالة قد تکون هذه الدعوی تامّة.

ومن هنا المحقق الخراسانی(قدّس سرّه) فی الکفایة (1) قدّم جانب التحریم بادعاء أنّ الأمر علی تقدیر أن یکون أحد الطرفین محتمل الأهمیة، أو مقطوع الأهمیّة؛ حینئذٍ المقام یدخل فی کبری الدوران بین التعیین والتخییر، باعتبار أنّ ترک الفعل یدور أمره بین أن یکون طرفاً للتخییر، والطرف الآخر هو الفعل بحیث یکون المکلّف مخیّر بین الترک وبین الفعل، وبین أن یکون لازماً بعینه، هذا عندما نحتمل أهمیّة التحریم کما هو کذلک، أو نقطع بأهمیة التحریم، یعنی بعبارةٍ أخری نقطع أنّ المفسدة التی تترتب علی الفعل علی تقدیر الحرمة أهم من المصلحة التی تترتب علی الفعل علی تقدیر الوجوب، فی هذه الحالة إذا احتملنا هذه الأهمیة؛ حینئذٍ یکون التحریم إمّا هو طرف للتخییر بینه وبین الوجوب، بمعنی أنّ المکلّف یکون مخیّراً بین الفعل والترک بلا ترجیحٍ لأحدهما علی الآخر، وإمّا أن یکون معیّناً دون احتمال العکس، بمعنی أنّ جانب الوجوب لا نحتمل فیه ذلک، وإنّما هو دائماً لا یحتمل فیه التعیین، وإنّما التعیین دائماً یکون ثابتاً فی ما یحتمل أهمیته، و هو جانب التحریم فی محل الکلام. إذن: التحریم إمّا أنْ یکون الأمر دائر بینه وبین الوجوب، وإمّا أن یکون مُعیّناً.

ص: 407


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 357.

وبعبارةٍ أخری: ترک القتل إمّا أن یکون طرفاً للتخییر فی ما إذا لم نقبل الترجیح باحتمال الأهمیة فی مالم تثبت الأهمیة مثلاً، وإمّا أن یکون معیّناً علی تقدیر أن یکون ممّا یهتم به الشارع أکثر من اهتمامه بتحصیل المصلحة المترتبة علی القتل، فهو یدور أمره بین التعیین وبین التخییر، بینما الجانب الآخر الوجوب وهو الفعل لا یدور أمره بین التعیین والتخییر؛ بل هو لا یحتمل أنْ یکون معیّناً، ومن هنا إذا دخل فی تلک الکبری، العقل یحکم فی هذه الحالة بلزوم الأخذ بجانب التعیین، وعلیه: یمکن تقدیم جانب التحریم علی هذا الأساس؛ ولذا قال: أنّ تقدیم جانب التحریم لیس صحیحاً فی جمیع الموارد، وإنّما یکون تامّاً فی موارد احتمال أهمیة جانب التحریم، أو الجزم بأهمیته، وأمّا مع عدم احتمال الأهمیة لا موجب لتقدیم جانب التحریم علی جانب الوجوب.

هذا الکلام من قبل صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وهو إدخال المقام فی صورة احتمال أهمیة التحریم، إدخاله فی کبری دوران الأمر بین التعیین والتخییر وقع محل مناقشة من قبل المعلّقین علی کلامه، وحاصل المناقشة هو أنّه فی کبری دوران الأمر بین التعیین والتخییر یُعتبر فی تلک الکبری قدرة المکلّف علی الموافقة القطعیة، کما أنّه قد یکون قادراً علی المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ یکون هذا داخلاً فی تلک الکبری، فیقال: أنّ العقل یحکم بتقدیم جانب التعیین، باعتبار أنّ به تتحقق الموافقة القطعیة کما لو دار أمر العتق بین أن یکون واجباً تخییریاً، أو واجباً تعیینیاً؛ إذ لا إشکال أنّ الموافقة القطعیة إنّما تتحقق إذا التزم بالعتق، أمّا إذا التزم بالطرف الآخر الذی لا یحتمل فیه أن یکون معیّناً أصلاً لا تتحقق ضمن ذلک الموافقة القطعیة، فحکم العقل بتقدیم التعیین إنّما هو لأجل الحصول علی الموافقة القطعیة، باعتبار أنّ الموافقة القطعیة للتکلیف تحصل بتقدیم التعیین، وهذا إنّما یُتصوّر عندما یکون المکلّف قادراً علی الموافقة القطعیة، وعندئذٍ یقال قدّم جانب التعیین حتّی تحرز الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم؛ لأنّه لا یحرز الموافقة القطعیة إلاّ بتقدیم جانب التعیین، لکن هذا حیث یمکن الموافقة القطعیة، وأمّا فی محل الکلام المفروض أنّ المکلّف غیر متمکّن من الموافقة القطعیة، کما أنّه غیر قادر علی المخالفة القطعیة، فکیف یکون المقام داخلاً فی کبری دوران الأمر بین التعیین والتخییر ؟ المکلّف فی المقام مهما فعل، حتّی لو قدّم جانب التحریم هو لا یحرز بذلک الموافقة القطعیة، هناک العقل یحکم بلزوم تقدیم التعیین لإحراز الموافقة القطعیة، وهذا إنّما یکون حیث یکون تقدیم جانب التعیین یُحرز به المکلّف الموافقة القطعیة کما فی مثال العتق، العقل یحکم بلزوم تقدیم التعیین؛ لأنّ به یحرز الموافقة القطعیة، بینما إذا قدّمت الطرف الآخر لا تحرز الموافقة القطعیة، بینما فی محل الکلام مهما فعل المکلّف لا توجد موافقة قطعیة، ولا یتمکّن المکلّف من تحصیلها، فإدخال المقام فی کبری دوران الأمر بین التعیین والتخییر لیس فی محلّه.

ص: 408

من هنا یظهر أنّ الملاحظة التی ذکرت ترد علی ما ذکروه؛ لأنّ أصل الدلیل هو دعوی تقدیم جانب التحریم فی جمیع الموارد ولا یُلاحظ ما نوع هذه المفسدة، وما نوع هذه المصلحة، وإنّما کلّما دار الأمر بین المحذورین قدّم جانب التحریم، والإشکال الذی ذکروه یرِد علیه؛ لأنّه لیس لدینا هکذا قاعدة تقول أنّه دائماً دفع المفسدة أولی من جلب المنفعة، کما قالوا ربّ منفعة یکون جلبها أولی من دفع المفسدة، فهذا الإیراد یکون وارداً علی ما ذکروه. هذا کلّه بالنسبة إلی القول الثانی.

القول الثالث: هو الحکم بالتخییر الشرعی، أنّ حکم المسألة فی محل الکلام هو التخییر بینهما شرعاً.

أورد علی هذا القول بهذا الإیراد المعروف: وهو أنّه ماذا یُراد بالتخییر الشرعی فی المقام ؟ هل یُراد به التخییر فی المسألة الأصولیة، أو یُراد به التخییر فی المسألة الفرعیة ؟ فی التخییر فی المسألة الأصولیة المُخیّر بین شیئین هو المجتهد، فإذا اختار أحد شیئین یُفتی المقلّد بما یختاره، بینما فی التخییر فی المسألة الفرعیة المُخیّر هو نفس المکلّف هو الذی یتخیّر بین هذا وبین هذا، فیُقال أنّ التخییر المدّعی فی محل الکلام هل هو التخییر فی المسألة الأصولیة، أو التخییر فی المسألة الفرعیة ؟ إذا کان المقصود هو التخییر فی المسألة الأصولیة، فهذا لا دلیل علیه، لا دلیل علی أنّ المجتهد یتخیّر بین التحریم وبین الوجوب، وإذا اختار أحدهما هو یُفتی المقلّد بما یختاره، هذا یحتاج إلی إقامة دلیل کما قیل بوجود الدلیل فی مسألة التعارض بین الخبرین، هناک قیل بأنّ هناک أدلّة تدلّ علی التخییر بین الخبرین المتعارضین، هذا تخییر فی مسألة أصولیة، بمعنی أنّ المجتهد یتخیّر بین الأخذ بهذا الخبر، أو بهذا الخبر، ثمّ إفتاء المقلّد بما اختاره وبمضمون الخبر الذی اختاره. هذا یحتاج إلی دلیل، وإذا دلّ دلیل علیه فی باب الخبرین المتعارضین لا یمکن الالتزام بذلک الدلیل فی محل الکلام.

ص: 409

وأمّا التخییر فی المسألة الفرعیة، فهو ممّا لا وجه له؛ لأنّه أمر حاصل قهراً، ولا إشکال أنّ المکلّف بحکم الطبع وبحکم العقل ---------- علی ما قالوا ----------- هو مخیّر بین الفعل وبین الترک، فأنْ یأتی الشارع ویخیّر المکلّف بین الفعل والترک مع أنّ هذا أمر حاصل، هذا لا وجه له.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی القول الثالث: الذی هو الالتزام فیالمقام بالتخییر الشرعی بین الفعل وبین الترک، وذکرنا فی الدرس السابق أنّه أورد علی ذلک بأنّ التخییر الشرعی إن کان فی المسالة الأصولیة، فلا دلیل علیه فی المقام، وإن کان التخییر فی المسألة الفرعیة، بمعنی التخییر بین الفعل والترک الذی یکون المُخیّر فیه هو المکلّف نفسه، فهذا لا وجه له؛ بل لا یُعقل؛ لأنّ الغرض من التخییر بین الفعل والترک هو إلزام المکلّف بأحد الأمرین الراجع إلی وجوب الجامع بینهما، وهذا أمر حاصل فی محل الکلام؛ لأنّ المکلّف تکویناً هو لا یخلو من أحد الأمرین، إمّا الفعل وإمّا الترک، فإیجاب الجامع علیه بین الفعل والترک یکون لغواً؛ بل محالاً؛ لأنّه من طلب الحاصل.

هناک کلام فی إمکان التخییر فی المقام، أو عدم إمکانه لا نتعرّض له، فی أصل إمکان التخییر فی محل الکلام وعدم إمکانه، علی کل حالٍ، سواء قلنا بإمکانه، أو لم نقل بإمکانه یمکن أنْ یکون ما ذُکر من إشکال علیه وارداً، وهو أنّه لا دلیل علی هذا التخییر بین الطرفین علی نحو التخییر فی المسألة الأصولیة.

قد یقال: بأنّ الدلیل علی هذا التخییر الشرعی فی المقام هو البراءة الشرعیة الجاریة فی کلٍ من الطرفین علی ما تقدّم سابقاً؛ وحینئذٍ یکون التخییر شرعیاً بعد جریان البراءة الشرعیة فی کلٍ من الطرفین، یکون التخییر شرعیاً ومستنداً إلی هذه البراءة الشرعیة الجاریة فی کلٍ من الطرفین، فیثبت التخییر الشرعی استناداً إلی دلیل البراءة.

ص: 410

ولکن هذا الأمر لا یمکن قبوله، وذلک:

أوّلاً: لما تقدّم سابقاً من عدم جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، لقصورٍ فی دلیلها علی ما تقدّم، ولو سلّمنا جریان البراءة الشرعیة فی محل الکلام، فالظاهر أنّ هذه البراءة لا یثبت بها ---------- علی تقدیر جریانها فی محل الکلام ------------ إلاّ نفی احتمال تعیّن هذا الطرف ونفی احتمال تعیّن هذا الطرف، باعتبار أنّ تعیّن هذا الطرف مجهول، فتجری فیه البراءة الشرعیة، کما أنّ تعیّن الطرف الآخر أیضاً مجهول ولا علم للمکلّف به، فتجری فیه البراءة، وباعتبار أنّ هذا التعیّن فیه کلفة وضیق علی المکلّف، فینفی بأدلّة البراءة، ومن الواضح أنّ هذا لیس هو التخییر الشرعی الذی نتکلّم عنه فی المقام، وإنّما البراءة عندما تجری تنفی احتمال تعیّن هذا وتنفی احتمال تعیّن هذا أیضاً، وهذا لیس هو التخییر الشرعی المقصود فی محل الکلام، التخییر الشرعی المقصود فی محل الکلام هو حکم شرعی، هذا لا یستقاد من دلیل الرفع وأمثاله، دلیل الرفع یکون مؤمّناً من ناحیة احتمال تعیّن الوجوب، وکذلک من ناحیة احتمال تعیّن الحرمة، یثبت به التأمین فقط ونفی احتمال التعیّن، وهذا شیء آخر غیر التخییر بینهماً شرعاً بحیث ننسب إلی الشارع أنّه خیّر بینهما بحیث یکون التخییر تخییراً شرعیاً. إذن، لا یمکن أن یکون المستند للتخییر الشرعی فی محل الکلام هو أدلّة البراءة.

قد یقال: أنّ الدلیل علی التخییر الشرعی فی المقام هو نفس الدلیل الدال علی التخییر بین الخبرین المتعارضین، فالدلیل الدال علی التخییر بین الخبرین إذا تمّ، فأنّه یکون دلیلاً علی التخییر فی محل الکلام، وذلک باعتبار أنّ ذلک الدلیل وإن ورد بین الخبرین المتعارضین، لکن یمکن إلغاء خصوصیة الخبرین، وذلک بافتراض أنّ الخبرین لیس لهما خصوصیة فی هذا الحکم إلاّ باعتبار أنّ کل واحدٍ منهما یورث احتمال مطابقة مضمونه للواقع، ففی الحقیقة الخبران مذکوران فی هذه الروایات وفُرض التخییر بین الخبرین المتعارضین، لکنّ الخبرین لا خصوصیة لهما، إلاّ بمقدار ما یورثانه من احتمال الواقع، فکأنّ المدار فی هذا الحکم بالتخییر فی باب الخبرین المتعارضین هو احتمال الواقع، فإذا فرضنا أنّ أحد الخبرین دلّ علی الوجوب، والخبر الآخر دلّ علی التحریم، فتعارضا، هنا تأتی أدلّة التخییر بینهما بلا إشکال؛ لأنّ موردها هو الخبران المتعارضان، لکن الخبر لیس له خصوصیة، إلاّ بمقدار ما یورث من احتمال الوجوب، وهذا أیضاً لیس له خصوصیة إلاّ باعتباره موجباً لاحتمال التحریم.

ص: 411

إذن: المناط فی الحکم بالتخییر فی تلک الروایات هو احتمال التحریم واحتمال الوجوب، ومن الواضح أنّ هذا متحقق فی محل الکلام؛ لأنّه فی محل الکلام بالفرض یوجد احتمال التحریم واحتمال الوجوب، المکلّف فی محل الکلام یحتمل تحریم الفعل ویحتمل وجوبه؛ وحینئذٍ تکون تلک الأخبار شاملة له، تخیّر بینهما، وهذا تخییر فی المسألة الأصولیة، فیمکن أن یکون الدلیل علی التخییر فی محل الکلام هو تلک الأخبار الواردة فی الدلیلین المتعارضین بعد إلغاء خصوصیة الخبرین فیها.

لکنّ هذا الکلام مردود، باعتبار أنّ الجماعة استشکلوا فی التعدّی إلی سائر الإمارات عندما یقع التعارض فی ما بینها غیر الخبرین، فضلاً عن التعدّی إلی محل الکلام ممّا لا یوجد فیه إلاّ احتمال الوجوب فی مقابل التحریم، هناک إشکال فی التعدّی من مورد هذه الروایات إلی التعارض الحاصل فی سائر الإمارات غیر الخبرین المتعارضین، إذن: ما ظنّک بمحل الکلام الذی لا یوجد فیه أیّ إمارة وأیّ طریق مثبت للاحتمال، وإنّما فقط هناک احتمال الوجوب واحتمال التحریم، والسرّ فی عدم التعدّی، علی الأقل فیما یرتبط بمحل الکلام، السرّ فی عدم إمکان التعدّی من تلک الأخبار إلی محل الکلام هو أنّ المفروض فی باب التعارض أنّ کلّ واحد من الخبرین هو حجّة فی حدّ نفسه، فی باب التعارض یقال: لا معنی للتعارض بین ما هو حجّة وبین ما لیس حجّة، وإنّما یقع التعارض بین الخبرین بعد أن یستکمل کل منهما مقوّمات الحجّیة فی حدّ نفسه وبقطع النظر عن باب التعارض. إذن: فی باب تعارض الخبرین یُفترض أنْ یکون کل واحدٍ من الخبرین هو حجّة فی حدّ نفسه، ومن الواضح أنّ کل ما یکون حجّة یکون واجب الإتباع، ویجب العمل بمقتضاه، فهذا الخبر یجب العمل بمقتضاه وینجّز مضمونه ومفاده لو کان وحده وفی حدّ نفسه، وهکذا الخبر الآخر؛ حینئذٍ من الممکن أن یکون التخییر بینهما إنّما فُرض علی المکلّف وحکم الشارع بالتخییر بینهما لئلاّ یؤدی عدم هذا الحکم إلی طرح کلا الحجّتین، فیقال له: کل منهما حجّة، ولا یمکن العمل بکلٍ منهما، أعمل علی نحو التخییر.

ص: 412

بعبارةٍ أخری: أنّ کون الخبر حجّةُ وطریقاً إلی الواقع ومنجّزاً لمؤداه لعلّه دخیل فی الحکم بالتخییر بینهما بحیث لو لم نفترض ذلک کما فی محل الکلام، حیث لا نفترض قیام حجّة علی هذا الاحتمال، وقیام حجّة علی هذا الاحتمال، لعلّه لا یحکم الشارع بالتخییر بینهما شرعاً، إذن، لا یمکن التعدّی من تلک الأخبار إلی محل الکلام؛ لأنّ مورد الأخبار توجد فیه خصوصیة وهی خصوصیة کون کل خبر من الخبرین المتعارضین حجّة، والشارع یقول إذا لم یمکن العمل بکلٍ منهما کما هو المفروض، فلیعمل بأحدهما لئلاّ یلزم طرح ما هو حجّة فی حدّ نفسه، ولا موجب لطرح ما هو حجّة فی حدّ نفسه، إنّما المقدار اللازم هو طرح أحدهما، هذا لابدّ منه، فلیطرح أحدهما ولیعمل بالآخر، إذن، احتمال الخصوصیة فی تلک الأخبار تمنع من التعدّی إلی محل الکلام.

ومن هنا یظهر أنّ الإشکال الذی ذُکر علی القول بالتخییر الشرعی وارد، وهو أنّه إن أُرید بالتخییر التخییر فی المسألة الأصولیة، فلا دلیل علیه، وإن أُرید به التخییر فی المسألة الفرعیة، فهذا غیر معقول؛ لأنّه یدخل فی طلب الحاصل علی ما بیّناه.

القول الرابع: هو القول الذی اختاره صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، (1) فی دوران الأمر بین المحذورین یری صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أنّ التخییر بین الفعل والترک ثابت عقلاً، یعنی یری ثبوت التخییر العقلی لا الشرعی، والسرّ فی ثبوت التخییر العقلی واضح، باعتبار أنّ المکلّف لا یخلو من الفعل، أو من الترک، تکویناً هو لا یخلو من أحدهما؛ فحینئذٍ هو بحکم العقل یکون مخیّراً بین الفعل وبین الترک؛ لأنّه لا یخلو من أحدهما، فالتخییر بینهما لیس شرعیاً وإنّما هو تخییر عقلی. ویلتزم فی نفس الوقت بالإباحة الشرعیة، فهو من جهةٍ یلتزم بالتخییر العقلی بین الفعل والترک لعدم خلو المکلّف من أحدهما تکویناً، ویلتزم بأنّ هناک حکماً ظاهریاً شرعیاً مجعولاً فی هذا المورد وهو الإباحة، بمعنی أنّ الشارع حکم بإباحة الفعل ظاهراً فی هذا المورد، هذه الإباحة الظاهریة التی التزم بها فی محل الکلام ذکر بأنّ مستندها هو أدلّة الحل المتقدّمة عندما بحثنا أدلّة البراءة(کل شیء لک حلال حتّی تعرف أنّه حرام) ما هو الضیر فی إجراء هذه الأدلّة وشمولها لمحل الکلام ؟ لأنّ هذا الفعل أنا لا أعلم بحرمته، بالوجدان أنّا لا أعلم بحرمته، والدلیل یقول(کل شیء لک حلال حتّی تعرف أنّه حرام)، وأنا لا أعلم بحرمته، إذن: هو لی حلال، ویقول لا مانع، لا عقلاً ولا نقلاً من شمول دلیل الحل لمحل الکلام؛ فحینئذٍ یُلتزم بالإباحة الظاهریة الشرعیة فی محل الکلام والتخییر بینهما یکون تخییراً عقلیاً لا تخییراً شرعیاً.

ص: 413


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 355.

واعتُرض علی هذا الرأی بعدّة اعتراضات، نذکر الاعتراضات الثلاثة التی ذکرها المحقق النائینی(قدّس سرّه): (1)

الاعتراض الأوّل: أنّ أدلّة اصالة الإباحة والحل لا تشمل محل الکلام؛ لأنّها تختص بما إذا کان طرف الحرمة هو الإباحة والحل، إذا کان فی مقابل احتمال الحرمة احتمال الحل کما فی الشبهات التحریمیة، الشبهات التحریمیة تختص بهذا المورد، وفی محل الکلام الأمر لیس کذلک، فی مقابل طرف الحرمة لیس هو الإباحة والحل، وإنّما الذی فی مقابل طرف الحرمة هو الوجوب، یعنی فی مقابل احتمال الحرمة فی محل الکلام هو الوجوب، یقول أنّ أدلّة الحل لا تشمل إلاّ ما إذا کان فی مقابل احتمال الحرمة احتمال الحل، احتمال الإباحة؛ عندئذٍ تجری هذه الأدلّة. وأمّا إذا کان ما یقابل احتمال الحرمة فی موردٍ هو احتمال الوجوب، کما فی محل الکلام، فهذا لیس مشمولاً لهذه الأدلّة، وهذا عبارة أخری عن أنّ هذه الروایات تختص بالشبهات التحریمیة التی یکون فی مقابل احتمال الحرمة فیها احتمال الحل واحتمال الإباحة، ولا تشمل ما إذا کان فی مقابل احتمال الحرمة احتمال الوجوب کما فی محل الکلام. لماذا تختص بذلک ؟ یقول لأنّ لسانها هو هذا، فهی تقول(کل شیءٍ لک حلال حتی تعلم أنّه حرام)، فیُستفاد من هذا أنّ ما یکون فی مقابل احتمال الحرمة هو احتمال الحل، الشیء الذی لا تعلم أنّه حرام، أو حلال، هو لک حلال. بعض الروایات أکثر صراحة من هذا فی هذا المطلب التی هی أیضاً تعتبر من أدلّة أصالة الحل وهی قوله کما تقدّم(کل شیء فیه حلال وحرام، فهو لک حلال)؛ لأنّ هذه الروایة تصرّح بأنّ کل شیءٍ فیه حلال وفیه حرام، فیفترض أنّ فی مقابل احتمال الحرمة احتمال الحلّیة، هذا لک حلال، هذا غیر منطبق علی محل الکلام؛ لأنّه فی محل الکلام لیس فی مقابل احتمال الحرمة احتمال الإباحة، وإنّما فی مقابله احتمال الوجوب.

ص: 414


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 445.

الاعتراض الثانی: هو أیضاً ما تقدّم سابقاً من أنّ أدلّة أصالة الحل تختص بالشبهات الموضوعیة ولا تعمّ الشبهات الحکمیة کما هو الحال فی محل الکلام، حیث الشبهة فی محل الکلام هی شبهة حکمیة، لا ندری أنّ هذا الفعل واجب، أو حرام، فهو شبهة حکمیة، بینما روایات الحِل تختص بالشبهات الموضوعیة ولا تشمل الشبهات الحکمیة، فلا یمکن الاستدلال بها فی محل الکلام.

الاعتراض الثالث: وهو المهم، وهو هذا المطلب الذی تقدّمت الإشارة إلیه سابقاً، یقول: أنّ جعل الإباحة الظاهریة مع العلم بجنس الإلزام غیر ممکن، وفی محل الکلام هناک علم بجنس الإلزام الذی هو أعم من الوجوب، أو التحریم، لکن جنس الإلزام معلوم، جعل الإباحة الظاهریة من قبل الشارع مع العلم بجنس الإلزام غیر ممکن، باعتبار أنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقی تنافی المعلوم بالإجمال؛ لأنّ مفاد أصالة الإباحة هو الترخیص فی الفعل والترک، هو الرخصة فی الفعل والترک، اصالة الإباحة مدلولها المطابقی هو الرخصة فی الفعل والترک، وهذا المفاد ینافی العلم بالإلزام، کیف یمکن الجمع بین الترخیص الظاهری فی الفعل وفی الترک وبین العلم بأنّ هناک إلزاماً، إمّا بالفعل، وإمّا بالترک ؟ کیف یجتمع العلم بالإلزام مع الترخیص الظاهری بالفعل والترک، مع الإباحة الظاهریة ؟ هذان أمران لا یمکن الجمع بینهما، بقطع النظر عن أنّ هذا العلم بالإلزام مؤثر أو غیر مؤثر، منجّز أو غیر منجّز؛ بل هو کما تقدّم غیر منجّز ولیس له أیّ أثر عملی، لکن الإلزام معلوم بالوجدان ولا یمکن إنکاره بحسب الفرض، حتّی لو افترضنا أنّه غیر مؤثر، لکنّه معلوم بالوجدان، المکلّف بوجدانه یعلم أنّ الشارع ألزمه إمّا بالفعل، أو بالترک، ثمّ بعد ذلک یأتی الشارع ویقول: یُرخّص لک فی الفعل وفی الترک الذی هو معنی أصالة الإباحة، هذان أمران لا یمکن الجمع بینهما، ویکون أحدهما منافیاً للآخر، ثمّ یذکر فی ذیل عبارته بأنّ الحکم الظاهری إنما یکون فی مورد الجهل بالحکم الواقعی، الحکم الظاهری إنّما یُعقل جعله فی موردٍ یکون المکلّف جاهلاً بالحکم الواقعی، وأمّا مع العلم بالحکم الواقعی؛ حینئذٍ لا یمکن جعل حکم ظاهری ینافی بمدلوله المطابقی الحکم المعلوم کما فی محل الکلام، کیف یمکن جعل حکم ظاهری وهو الإباحة مع العلم بالإلزام الذی یکون الحکم الظاهری بالإباحة منافیاً له؟ هذا تقریباً حاصل کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 415

الذی یُفهم من هذه العبارة کما فهم منه الآخرون، أنّ المانع من جعل الحکم الظاهری بالإباحة، من جعل الإباحة فی محل الکلام --------- بحسب نظره ---------- أنّ المانع منه هو أنّ الحکم بالإباحة، ولو ظاهراً مخالف للواقع، کون الحکم الظاهری مخالفاً للواقع یمنع من جعل الحکم الظاهری، وحیث أنّ المفروض فی محل کلامنا أنّ الإباحة مخالفة للواقع المعلوم الذی هو الإلزام وعدم الإباحة، فالحکم بالإباحة ولو ظاهراً؛ لأنّه یکون مخالفاً للواقع یکون غیر واردٍ ولا یمکن جعل مثل هذا الحکم الظاهری. ویُفهم من کلامه أنّه یشترط فی ثبوت الحکم الظاهری احتمال مطابقته وموافقته للواقع، یقول: الشکّ فی الحکم الواقعی هو مورد جعل الحکم الظاهری، فلابدّ أن یکون ما یُجعل من حکم ظاهری یُحتمل کونه مطابقاً للواقع، أمّا إذا علمنا بعدم مطابقته، وعلمنا بمخالفته للواقع لا یمکن جعل مثل هذا الحکم الظاهری. نکتة الاعتراض الثالث هی أنّ الحکم الظاهری إنّما یُعقل جعله فی موردٍ یُحتمل أنْ یکون مطابقاً للواقع، عندما نحتمل کونه مطابقاً للواقع کما هو الحال فی الشبهات التحریمیة وفی الشبهات الوجوب؛ لأننّا نحتمل فی تلک الموارد کونه مطابقاً للواقع، بینما فی محل الکلام حیث لا نحتمل المطابقة، الإباحة المجعولة قطعاً هی مخالفة للواقع؛ لأنّ المفروض أنّ الواقع هو الإلزام وعدم الإباحة، ومثل هذا الحکم الظاهری لا یمکن جعله فی محل الکلام.

إذن: الحکم الظاهری إنّما یمکن جعله بشرط احتمال کونه مطابقاً للواقع، ولا یمکن جعله مع عدم العلم بکونه مطابقاً للواقع.

ما یُمکن أن نعلّق به علی هذا الکلام هو: بالنسبة للاعتراض الأوّل وهو مسألة أنّ أدلّة أصالة الإباحة مختصة بالشبهات التحریمیة ولا تشمل ما إذا کان فی مقابل احتمال الحرمة احتمال الوجوب.

ص: 416

هناک محاولة لدفع هذا الإشکال مستفادة من الکفایة؛ (1) لأنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) یری جریان أصالة الإباحة فی محل الکلام، والمحاولة هی محاولة لإرجاع الوجوب إلی الحرمة، وإنْ کانت الأخبار مختصة بالشبهات التحریمیة، لکن یمکن إرجاع الوجوب إلی التحریم، وعلی هذا الأساس أمکن تعمیم هذه الأخبار للشبهات الوجوبیة کما تشمل الشبهات التحریمیة، کیف یتم إرجاع الوجوب إلی التحریم ؟ بافتراض أنّه فی الواجبات یجب الفعل، لکن أیضاً یحرم الترک، فنرجع وجوب الفعل إلی حرمة الترک، فتکون شبهة تحریمیة؛ فحینئذٍ یکون الدلیل شاملاً للشبهات الوجوبیة علی أساس إرجاع الوجوب فیها إلی التحریم.

وبعبارة أخری: فی الشبهات التحریمیة فی غیر محل کلامنا تشمله هذه الأدلّة؛ لأنّها مختصة بالشبهات التحریمیة کما قیل، فی الشبهات الوجوبیة فی غیر محل کلامنا أیضاً یُدّعی شمولها لها؛ لأنّ الشبهة الوجوبیة یمکن تحویلها، فبدلاً من أن نقول أننا نشک فی وجوب الفعل، نقول أننّا نشک فی حرمة ترکه، لا ندری أنّ صلاة رکعتین عند دخول المسجد واجبة، أو لیست واجبة، هذه شبهة وجوبیة، بدلاً من أن نقول هکذا نقول صلاة رکعتین عند دخول المسجد هل یحرم ترکها، أو لا یحرم ترکها ؟ فتنقلب إلی شبهة تحریمیة، فیشملها الدلیل. هذا یُطبّق فی محل الکلام، فیقال: أنّ هذه الأخبار تجری فی طرف التحریم؛ لأنّ فی المقام لدینا طرف تحریم، وطرف وجوب، احتمال وجوب واحتمال تحریم، لا مشکلة فی جریان هذه الأخبار فی طرف التحریم؛ لأنّه احتمال تحریم فی قبال عدم التحریم ولیس فی قبال هذا الطرف احتمال الوجوب فی نفس الطرف، وإنّما هنا احتمل حرمة الفعل، واحتمل عدم حرمته، بمعنی أنّ احتمال التحریم فی الفعل موجود، فتجری فیه هذه الأدلّة؛ لأنّه شبهة تحریمیة، والاحتمال الآخر هو احتمال الوجوب، أیضاً یمکن إجراء أصالة الإباحة فیه؛ لأنّه بدل الوجوب أعبّر بحرمة الترک، فأقول: أشکّ فی أنّ ترک الفعل هل هو حرام، أو لا ؟ فعندی شکّ فی حرمة الفعل، وعندی أیضاً شکّ فی حرمة ترکه الذی هو عبارة عن الشکّ فی الوجوب، فشکّ فی حرمة الفعل تجری فیه هذه الأدلّة، وشکّ فی حرمة ترکه، فتجری فیه أیضاً هذه الأدلّة، وبالتالی یمکن إجراء الأدلّة فی کلا الطرفین، وهذا هو الذی نرید إثباته، أنّ أصالة الإباحة تجری فی محل الکلام وإن کانت مختصة بالشبهات التحریمیة.

ص: 417


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص355.

لکن تقدّم سابقاً أنّ هذه المحاولة غیر تامّة، فی بحث أدلّة البراءة، تقدّم أنّها غیر تامّة لما قلناه هناک من أنّ الفرق بین الوجوب وبین التحریم، بین الأمر وبین النهی هو أنّ الأمر ینشأ من مصلحة فی متعلّقه، بینما ینشأ النهی من مفسدة فی متعلّقه، ففی باب الواجبات لا توجد إلاّ مصلحة فی الفعل فقط من دون أن تکون هناک مفسدة فی الترک، وفی باب المحرّمات لا توجد إلاّ مفسدة فی الفعل من دون أن تکون هناک مصلحة فی الترک، هذا هو المائز بین الواجبات وبین المحرمات، فالواجبات لا یمکن تحویلها إلی حرمة الترک؛ لأنّها لم تنشأ إلاّ من مصلحة فی الفعل من دون أنْ تکون هناک مفسدة فی الترک حتّی نقول لوجود المفسدة فی الترک یمکن تحویلها إلی التحریم، فإذن لا یمکن جعل الأخبار شاملة للشبهات الوجوبیة واحتمال الوجوب مع افتراض کونها مختصّة بالشبهات التحریمیة

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی القول الذی ذهب إلیه صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی المقام وهو التخییر بین الفعل والترک عقلاً والحکم بالإباحة الظاهریة شرعاً.

قلنا أنّه اعترض علیه باعتراضات ثلاثة ذکرناها، وقلنا أنّ الاعتراض الأوّل وارد ظاهراً، بمعنی أنّ دلیل أصالة الحل یختص بالشبهات التحریمیة ولا یشمل الشبهات الوجوبیة.

وأمّا الاعتراض الثانی وهو أنّ أدلّة الحل تختص بالشبهات الموضوعیة ولا تشمل الشبهات الحکمیة، وبناءً علیه لا یمکن التمسّک بأدلّة الحل فی دوران الأمر بین المحذورین إذا کانت علی نحو الشبهة الحکمیة کما هو المقصود فی محل الکلام، المقصود أولاً وبالذات فی هذه المباحث هو الشبهة الحکمیة، فدوران الأمر بین المحذورین إذا کان بنحو الشبهة الحکمیة کما هو المقصود؛ فحینئذٍ لا یمکن الاستدلال علیه بأدلّة الحل لاختصاصها بالشبهات الموضوعیة. وقد تقدّم الحدیث عن هذا الاعتراض مفصلاً فی أدلّة البراءة، وکان واحداً من أدلّة البراءة هو روایات الحل، واستعرضنا هناک ثلاث روایات بعضها ضعیف السند ویعضها تام سنداً، وهناک مناقشات کثیرة فی ما هو تام سنداً منها، لکن الظاهر أننا انتهینا إلی أنّ ما هو تام سندا وهو موثقة مسعدة بن صدقة، هذه الروایة کانت عامّة تشمل الشبهات الحکمیة والشبهات الموضوعیة، علی کل حال، کلام کثیر تقدّم سابقاً.

ص: 418

أمّا الاعتراض الثالث، فقد بینّا ما هو المقصود به، وخلاصته: أنّ جعل الإباحة الظاهریة مع العلم بالإلزام غیر ممکن، باعتبار أنّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقی تنافی العلم بالإلزام، باعتبار أنّ مفادها هو الرخصة فی الفعل والترک، والمفروض أننا نعلم بعدم وجود رخصة فی الفعل والترک؛ لأننا نعلم بالإلزام بأحد الأمرین، إمّا بالفعل وإمّا بالترک، افتراض الترخیص فی کلٍ منهما هو ممّا نعلم بعدمه؛ لأننا نعلم بالإلزام، إمّا إلزام بالفعل وهو عبارة عن الوجوب، أو إلزام بالترک الذی هو عبارة عن التحریم، أمّا أنْ یُلتزم بأنّ کلاً منهما مباح، الفعل مرخّص فیه والترک مرخّص فیه، لکن هذا الحکم ینافی المعلوم بالإجمال؛ وحینئذٍ یقال: جعل مثل هذه الإباحة الظاهریة المنافیة للمعلوم بالإجمال هو أمر غیر ممکن، باعتبار أنّ الحکم الظاهری یُعتبر فیه الجهل بالحکم الواقعی، وأمّا مع العلم بالحکم الواقعی؛ فحینئذٍ لا یمکن جعل حکم ظاهری یناقض بمدلوله المطابقی کما یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه) یناقض المعلوم بالإجمال، (1) ومن هنا یُصر المحقق النائینی(قدّس سرّه) علی أنّه بهذا البیان یقول یظهر الفرق بین أصالة الحل وبین اصالة البراءة، فأصالة البراءة لا مانع ---------- بقطع النظر عن الموانع الأخری ----------- من شمولها لکلٍ من الطرفین، باعتبار أن اصالة البراءة حینما نرید إجراءها فی محل الکلام نجریها فی کلا الطرفین، وجریانها فی أحد الطرفین لا یغنی عن إجراءها فی الطرف الآخر؛ لأنّ اصالة البراءة عندما تجری فی طرف الوجوب هی ترید أن تؤمّن من ناحیة احتمال أنّ الشارع نجّز الوجوب علی المکلّف بجعل الاحتیاط بالفعل، قلنا أنّ هذا محتمل وممکن، یمکن أنْ یأمر الشارع بالاحتیاط بالفعل، کما یمکن أن یحکم الشارع بالاحتیاط من طرف الترک، کلٌ منهما ممکن، وضع الاحتیاط فی کلا الطرفین ممکن، ورفعه أیضاً ممکن، فالبراءة عندما تجری فی أحد الطرفین هی ترید أن تؤمّن من ناحیة الاحتمال الموجود فی ذاک الطرف فقط؛ ولذا لا یکون جریانها مغنیاً عن جریانها فی الطرف الآخر؛ بل لابدّ من إجرائها أیضاً فی الطرف الآخر؛ لأنّه فی الطرف الآخر یوجد احتمال آخر لابدّ من التأمین من ناحیته بإجراء البراءة، احتمال هنا فی طرف الفعل احتمال جعل الاحتیاط بالفعل، والبراءة تجری للتأمین من ناحیة هذا الاحتمال، فی الطرف الآخر احتمال آخر یأتی وهو احتمال أنّ الشارع یأمر بالاحتیاط بالترک مراعاة للتحریم المحتمل، فنحتاج إلی براءة للتأمین من ناحیة هذا الاحتمال، فنحتاج إلی إجراء براءة فی کلا الطرفین، ومن هنا یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنه عندما نأتی إلی البراءة فی کل طرفٍ هذه لیست منافیة للإلزام المعلوم بالإجمال، هی بمدلولها المطابقی لا تنافی المعلوم بالإجمال؛ لأنّ البراءة نجریها فی هذا الطرف، إجراء البراءة فی هذا الطرف والالتزام بالترخیص فی هذا الطرف لا ینافی الإلزام المعلوم بالإجمال، وکذلک إجراء البراءة فی الطرف الآخر لا ینافی الإلزام المعلوم بالإجمال. نعم، الجمع بین البراءتین ینافی الإلزام المعلوم بالإجمال، لکنّه یقول أنّ الجمع بینهما لا یمنع، یعنی هذه المنافاة لا تمنع من إجراء البراءة فی الطرفین؛ لأنّ العلم بالإلزام لا یترتب علیه أی أثر أصلاً، ولا ینجّز أیّ شیءٍ علی المکلّف، فیقول لا مشکلة، هذا لیس هو الغرض، وإنّما الغرض أنّ إجراء البراءة فی أحد الطرفین لا یغنی عن إجرائها فی الطرف الآخر، وکل براءةٍ فی طرف هی لیست منافیة بنفسها للإلزام المعلوم بالإجمال، بینما أصالة الإباحة لیست هکذا، أصالة الإباحة إذا جرت فی طرف تکون منافیة للمعلوم بالإجمال. إذن: البراءة عندما تجری فی طرف لیست منافیة، فلا مانع منها، بینما أصالة الإباحة عندما تجری فی فعل هی تنافی المعلوم بالإجمال، لماذا؟ یقول: أصالة الإباحة معناها هذا، عندما نجری أصالة الإباحة فی الفعل، فأنّ معناها تساوی الترک والفعل فی الإباحة، وکون الفعل مباحاً یعنی تساوی الفعل والترک فی الترخیص والإباحة، هی بنفسها تثبت مساواة الترک للفعل فی الإباحة، التساوی بین الفعل والترک هذا أمر تثبته نفس أصالة الإباحة الجاریة فی الفعل، بمجرّد أن تجری أصالة الإباحة فی الفعل یعنی أنّ الفعل مباح، یعنی أنّ الفعل والترک یتساویان فی الترخیص والإباحة، ومن هنا تکون أصالة الإباحة الجاریة فی الفعل بمدلولها المطابقی منافیة للإلزام المعلوم بالإجمال؛ وحینئذٍ یأتی کلامه أنّه فی هذه الحالة لا یمکن جعل مثل هذا الحکم الظاهری؛ لأنّه منافٍ یُعلم بمنافاته للواقع، وبمخالفته للواقع، ویُشترط فی جعل الحکم الظاهری أنْ لا یُعلم بمنافاته للواقع، یعنی یشترط احتمال ---------- کما ذُکر ---------- مطابقته للواقع، فی جعل الحکم الظاهری یُشترط احتمال المطابقة للواقع، البراءة عندما نجعلها فی طرفٍ فاحتمال المطابقة موجود، الإباحة عندما نجعلها فی طرفٍ تمسّکاً بأدلّة الإباحة لا نحتمل مطابقتها للواقع؛ لأنّ جعل الإباحة فی الفعل کما قلنا یعنی أنّ الفعل والترک یتساویان فی الترخیص، هی تجعل الترخیص فی کلٍ منهما، وهذا منافٍ لما نعلم به إجمالاً من الإلزام بأحد الأمرین، إمّا الفعل، أو الترک. ومن هنا هو یُفرّق بین اصالة البراءة وبین أصالة الإباحة، فیمنع من جریان البراءة علی هذا الأساس ویلتزم بإمکان جریان البراءة فی کلٍ من الطرفین فی محل الکلام، طبعاً أؤکد بقطع النظر عن الملاحظات الأخری فی إجراء اصالة البراءة. هذا ما یمکن أنْ یُبین فی مقام توضیح الاعتراض الثالث.

ص: 419


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 445.

قلنا أنّه فُهم من هذا الکلام، السید الخوئی(قدّس سرّه) وغیره فهموا منه أنّه یُشترط فی إمکان جعل الحکم الظاهری فی موردٍ إمکان مطابقته للواقع، (1) أمّا مع العلم بمخالفته للواقع؛ فحینئذٍ لا یمکن جعل مثل هذا الحکم الظاهری، وأصالة الإباحة فی هذا الطرف یُعلم بمخالفتها للواقع، واحتمال المطابقة غیر موجود، فإذا لم یکن موجوداً؛ فحینئذٍ لا یمکن جعل مثل هذا الحکم الظاهری بالإباحة.

أجیب عن هذا الاعتراض، هذا الجواب مبنی علی ما یذکره السید الشهید(قدّس سرّه) من تفسیر الأحکام الظاهریة، من أنّ الأحکام الظاهریة هی أحکام تعبّر عن أهمیة الغرض المناسب لذلک الحکم الظاهری عندما یحصل هناک تزاحم بین هذه الأغراض فی مقام الحفظ تزاحماً حفظیاً فی مقام التشریع، عندما یحصل هناک تزاحم بین الأغراض المولویة الواقعیة تزاحماً حفظیاً؛ حینئذٍ المولی فی هکذا مقام، التشریع الذی یُشرّعه یکون علی طبق الغرض الأهم فی نظره، المقصود بالتزاحم الحفظی هو ----------- وقد تقدّم هذا مراراً ----------- أنّ حفظ الأغراض یقع فیه تزاحم، بمعنی أنّ الشارع إذا جعل حکماً ظاهریاً یُحفظ به هذا الغرض الواقعی، فسوف یفوت الغرض الآخر؛ لأنّ کل غرض من الأغراض المتزاحمة یُحفظ بشیءٍ غیر ما یُحفظ به الآخر، الأغراض الترخیصیة تُحفظ بجعل البراءة، لکن هذا قد یُسبب فی حالات معینّة تفویت الغرض اللّزومی علی المکلّف وعلی المولی، الأغراض اللّزومیة تُحفظ بجعل الاحتیاط، وهذا أیضاً قد یُسبب فی تفویت الأغراض الترخیصیة ومصلحة إطلاق العنان ومصلحة التسهیل، فالشارع فی مقام حفظ هذه الأغراض اللّزومیة، وعندما یقع التزاحم فی ما بینها فی مقام الحفظ، أی تزاحم حفظی؛ حینئذٍ هو یُلاحظ أیّ غرضٍ أهم عنده، فیجعل الحکم الظاهری علی نحوٍ یُحفظ به ذلک الغرض الأهم، الأحکام الظاهریة هکذا، هی تعبیر عن تزاحم حفظی بین الملاکات الواقعیة، بین الأغراض الواقعیة وهذا الحکم الظاهری یُعبّر عن أهمّیة أغراضٍ مُعیّنة، أغراض لزومیة وأغراض ترخیصیة. هذه الفکرة أنّ الأحکام الظاهریة تعبّر عن أهمیّة الأغراض الخاصّة المناسبة لها عندما یقع بینها تزاحم فی مقام الحفظ، فالشارع بین أمرین، إمّا أن یُشرّع براءة عندما تکون الأغراض الترخیصیة أهم عنده، وبذلک یوصل المکلّف إلی الغرض الترخیصی وإلی إطلاق العنان والتسهیل ویحفظ بذلک هذا الغرض، وإمّا أن یجعل الاحتیاط، وبذلک یوصله إلی تحصیل الأغراض اللّزومیة، وتنحفظ بذلک تلک الأغراض اللّزومیة الأهم فی نظر الشارع. هذه هی فکرة الأحکام الظاهریة وهذا هو تفسیر الحکم الظاهری.

ص: 420


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 329.

حینئذٍ یقال فی ما یرتبط بمحل الکلام: أنّ هذه الفکرة إنّما تکون مقبولة ومعقولة عندما یُفترض الشک فی الحکم الواقعی عند المکلّف، عندما یُفترض اختلاط الأغراض عند المکلّف، فعندما یُفترض الاختلاط والشکّ عند المکلّف تُطبّق هذه الفکرة؛ حینئذٍ یحصل تزاحم حفظی، عندما تختلط الأغراض علی المکلّف بأن یشک ولا یدری أنّ هذا واجب، أو حرام، أو أنّه واجب، أو مباح، أو أنّه حرام، أو مباح، فإذا کان واجباً، فهذا یعنی أنّ فیه غرض لزومی یجب مراعاته، أمّا إذا کان مباحاً، فیعنی أنّ فیه غرض ترخیصی مرخّص له فیه، عندما یشک فی الحکم الواقعی؛ عندئذٍ المشرّع الحکیم فی حال الشکّ من قِبل المکلّف، فی حال اختلاط الأغراض الواقعیة بالنسبة إلیه بحیث لا یستطیع أن یُمیّز أیّ غرض یرید الشارع منه الوصول إلیه، هل هو هذا الغرض، أو ذاک الغرض ؟ فی هذه الحالة المشرّع یرید أن یُشرّع حکماً فی ظرف الشک، وهو معنی الحکم الظاهری، یُشرع حکماً فی ظرف الشکّ یُلاحظ به الغرض الأهم؛ فحینئذٍ یأمر المکلّف ظاهریاً بالاحتیاط إذا کانت الملاکات اللّزومیة عند الشارع أهم، فیأمره بالاحتیاط، وبذلک یحفظ أغراضه اللّزومیة، ویوصل المکلّف إلی تلک الأغراض اللّزومیة عن طریق الأمر بالاحتیاط. أمّا إذا کانت أغراضه الترخیصیة هی الأهم، فیجعل له البراءة، وبذلک یحافظ علی أغراضه الترخیصیة مثل مصلحة التسهیل وإطلاق العنان، وإن کان قد تفوت بذلک بعض الأغراض اللّزومیة، فالشارع بین الأمرین، وهذا معنی التزاحم الحفظی، لکن هذا إنّما یتصوّر عندما یکون هناک شک فی الحکم الواقعی من قِبل المکلّف، أمّا إذا فرضنا أنّ المکلّف کان عالماً بالحکم الواقعی؛ فحینئذٍ لا معنی لهذا الکلام، أصلاً هذه الفکرة لا موضوع لها عندما یکون المکلّف عالماً بالحکم الواقعی، فهو قد وصل إلیه ذلک الغرض بوصول الحکم الواقعی إلیه والشارع یکتفی بهذا المقدار، هذا الحکم الواقعی سوف یوصله إلی الغرض وإلی تحقیق ذلک الملاک الموجود فی ذلک الحکم الواقعی، فالفکرة أساساً إنّما تُتصوّر عندما یکون هناک شکّ فی الحکم الواقعی. لکن ----------- من هنا یبدأ الجواب عن الاعتراض الثالث ----------- هذا کلّه لا یعنی إلاّ أنّ المأخوذ فی موضوع الحکم الظاهری هو الشکّ فی الحکم الواقعی، هذا هو المهم، أن یکون المکلّف شاکّاً فی الحکم الواقعی فی مقابل أن یکون عالماً به؛ حینئذٍ تأتی هذه الفکرة، لکن هل یؤخذ فی موضوع الحکم الظاهری اعتبار احتمال مطابقة الحکم الظاهری المجعول من قبل الشارع للواقع ؟ هذا شیء لا یثبت بهذا التفسیر، بمعنی أنّه حتّی مع افتراض العلم بمخالفة الحکم الظاهری للواقع هذه الفکرة تکون موجودة وقائمة، یقال: فی هذه الحالة الشارع رعایةً للأغراض الترخیصیة التی یهتم بها یجعل الإباحة، وإن کان جعل الإباحة منافیاً ومخالفاً للإلزام المعلوم بالإجمال، یعنی حتّی مع العلم بالمخالفة، یعنی مخالفة الحکم الظاهری المجعول للواقع، یمکن أن یقال أنّ هذا الحکم الظاهری یمکن جعله بناءً علی هذه الفکرة؛ لأنّ الشارع یلحظ فی مقام الواقع، یقول هذا شخص یشکّ فی الحکم الواقعی، هذا صحیح یشک فی الحکم الواقعی ویعلم بجنس الإلزام، لکن یشک فی أنّ الإلزام الثابت هل إلزام بالفعل، أو هو إلزام بالترک، هذا المقدار من الشک بالحکم الواقعی یبررّ جعل الإباحة، وإن کان المکلّف یعلم بأنّ هذه الإباحة مخالفة للإلزام المعلوم بالإجمال.

ص: 421

بعبارةٍ أخری: لا فرق بین محل الکلام وبین الشک فی الشبهات البدویة فی الشبهات التحریمیة والشبهات الوجوبیة، کما أنّه هناک نقول بأنّ الأغراض الترخیصیة إذا کانت أهم تُجعل البراءة، فی محل الکلام أیضاً إذا کانت الأغراض الترخیصیة ومصلحة التسهیل تقتضی من الشارع أن یجعل الإباحة حتّی فی موارد دوران الأمر بین المحذورین، یعنی حتّی مع علم المکلّف بالإلزام، حتّی مع علم المکلّف بمخالفة هذا الحکم الظاهری للإلزام المعلوم بالإجمال کما صوّره، حتّی فی هذه الحالة مصلحة التسهیل تقتضی جعل البراءة، مصلحة الأغراض الترخیصیة تقتضی جعل البراءة حتّی فی هذا المورد فی مقابل الأغراض الإلزامیة النی تقتضی فی المقام جعل الاحتیاط، لکن الاحتیاط فی بعض الأطراف؛ لأنّ الاحتیاط فی کلا الطرفین غیر ممکن، وهو الذی یُسمّی بالتبعیض فی الاحتیاط، بجعل الاحتیاط فی أحد الطرفین. لو کانت الأغراض اللّزومیة هی الأهم؛ حینئذٍ یجعل الاحتیاط فی بعض الأطراف، أی بعّض فی الاحتیاط، أمّا إذا کان إطلاق العنان للمکلّف هو الأهم؛ حینئذ لا مانع من جعل الإباحة حتی مع العلم بمخالفة الإباحة للواقع، المهم أن یکون شاکّاً فی الحکم الواقعی، وهذا الشک فی محل الکلام محفوظ بلحاظ کل طرف؛ لأنّ المکلف وجداناً یشک فی أنّه هل أُلزم بالفعل، أو لا ؟ فإذن: عنده شکّ فی الحکم الواقعی فی هذا الطرف؛ فحینئذٍ موضوع أصالة الإباحة متحقق ولا مانع من جریانها وإن کان المکلّف یعلم بأنّ الإباحة التی جُعلت فی حقه منافیة ومخالفة للإلزام المعلوم بالإجمال، وقد ذکرنا شیئاً من هذا القبیل سابقاً وقلنا بأنّ فکرة أنّ مصلحة التسهیل، وفکرة إطلاق العنان الموجودة فی موارد الشک فی الواقع یمکن تجاوزها، مصلحة التسهیل موجودة فی جمیع الموارد حتّی مورد العلم بالواقع، حتّی إذا افترضنا أنّ المکلّف یعلّم بالوجوب، بقطع النظر عن محل الکلام، مصلحة التسهیل قائمة وتقتضی بحدّ نفسها إطلاق العنان للمکلّف حتی مع العلم بالوجوب، غایة الأمر أنّه مع العلم بالوجوب ومع العلم بالملاک الإلزامی، هنا یکون الملاک الإلزامی أقوی، فیقدّم علی مصلحة التسهیل، لا یشترط فی التراحم بین المصالح الواقعیة الترخیصیة، أو الإلزامیة أن یکون کل منهما محتملاً کحکم واقعی، بأن یکون هناک احتمال تحریم ----------- مثلاً ------------ واحتمال إباحة، حتّی یحصل تزاحم بین الأغراض الترخیصیة وبین الأغراض اللّزومیة؛ بل حتّی لو فرضنا أنّه لیس هناک احتمال إباحة، هناک قطع باللّزوم کما فی محل کلامنا، مصلحة التسهیل قائمة وتقتضی من الشارع أن یجعل الإباحة، کما أنّ المصالح والأغراض اللّزومیّة تقتضی منه أنْ یجعل الاحتیاط فی أحد الطرفین مثلاً، فهی موجودة حتّی مع العلم باللّزوم مادام هناک شک فی الحکم الواقعی کما هو موجود فی محل الکلام، وقلنا أنّه حّتی مع العلم بالحکم الواقعی مصلحة التسهیل موجودة، مصلحة التسهیل تعنی أنّ هناک مصلحة واقعیة ثبوتیة تقتضی إطلاق العنان للمکلّف، وأن لا یُقیّد بشیءٍ، غایة الأمر أنّه مع العلم بالحکم الواقعی تضعف مصلحة التسهیل ولا تؤثّر شیئاً، لکن عندما یکون هناک شک فی الحکم الواقعی، موضوع الحکم الظاهری یکون محفوظاً ومتحققاً سواء کان المکلّف شاکاً بمخالفة هذا الحکم الظاهری وهو الإباحة للواقع، أو کان عالماً بمخالفته، فی کلٍ منهما هذا أمر ممکن ویمکن تصوّر جعل الإباحة الظاهریة حتی فی محل الکلام. وهذا هو الجواب عن الاعتراض الثالث. ومن هنا یتبین أنّ هذا القول لصاحب الکفایة(قدّس سرّه) الظاهر أنّه لیس تاماً، علی الأقل للاعتراض الأوّل المتقدّم، وهو أنّ هذه الروایات مختصّة بالشبهات التحریمیة، ونحن فی المقام نحتاج إلی إجراء الإباحة لیس فقط فی جانب الحرمة، وإنّما نحتاج إلی إجرائها فی کلا الجانبین، فی جانب الحرمة وفی جانب الوجوب، هذه الروایات عاجزة عن إثبات الإباحة فی جانب الوجوب؛ لأنّها مختصة کما قلنا بالشبهات التحریمیة، علی الأقل هذا الاعتراض، والاعتراض الثانی مبنی علی اختصاص روایات الحل بالشبهات الموضوعیة، أو أنّ العام منها للشبهات الحکمیة مثلاً هناک إشکال فی دلالته، أو فی سنده علی ما تقدّم. کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) انتهی. یبقی القول الأخیر وهو الحکم بالتخییر بینهما عقلاً من دون أن یکون المورد محکوماً بأیّ حکم ظاهری شرعی، کل حکم ظاهری شرعی غیر موجود فقط هناک تخییر عقلی بین الفعل والترک، وهو الذی اختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه) ویأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی.

ص: 422

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

بقی من الأقوال التی مرّت القول الذی اختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وهو أنّ المورد محکوم بالتخییر عقلاً من دون أن یکون محکوماً بأیّ حکم ظاهری شرعی، باعتبار أنّه لم یثبت جریان البراءة الشرعیة ولا أصالة الإباحة؛ للأسباب المتقدّمة، محذور ثبوتی، أو محذور إثباتی، کما أنّه لم یدل دلیل علی التخییر الشرعی فی محل الکلام علی ما تقدّم، وقاعدة أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة هی أیضاً غیر تامة.

وعلیه؛ فحینئذٍ لم یثبت کون المورد محکوماً بحکم ظاهری شرعی؛ وحینئذٍ نبقی نحن والعقل، ماذا یحکم العقل ؟ الظاهر أنّه لاشکّ فی أنّ العقل یحکم بالتخییر بین الفعل والترک، لکن لیس معنی الحکم بالتخییر العقلی فی المقام هو الحکم بالإلزام بأحد الأمرین کما هو الحال فی باب التزاحم عندما یحکم العقل فی حالات التساوی وعدم وجود میزة، کما هو الحال فی محل کلامنا فعلاً، یحکم العقل هناک بالتخییر بین الواجبین المتزاحمین، لکن الحکم بالتخییر هناک معناه الإلزام بأحد الأمرین، أمّا هنا فالحکم بالتخییر العقلی لا یُراد به الإلزام بأحد الأمرین، وذلک لما تقدّم من أنّ هذا غیر معقول، باعتبار أنّ أحد الأمرین حاصل قهراً وبالضرورة، فلا معنی لتعلّق الطلب به؛ بل لا یُعقل تعلّق الطلب به؛ لأنّه من باب طلب الحاصل، فلیس المراد بالتخییر هنا بمعنی أنّ العقل یحکم بالإلزام بأحد الأمرین؛ بل المراد به حسب رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو التخییر التکوینی الطبعی، (1) أو ما یُعبّر عنه فی بعض عباراته باللاحرجیة العقلیة، أنّه لا حرج من أن تفعل ولا حرج من أن تترک، عدم وجود حرج فی کلٍ منهما، فهو تخییر طبعی تکوینی ولیس تخییراً بمعنی الإلزام بأحد الأمرین.

ص: 423


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 443.

والظاهر أنّ هذا الرأی هو الصحیح فی محل الکلام، بمعنی أنّ العقل هو الحاکم بالتخییر فقط، وأنّه لا تجری کل الأصول المتقدّمة والمشار إلیها سابقاً؛ (1) بل حتّی ما تقدّم سابقاً وذکرناه من جریان البراءة العقلیة أیضاً یمکن التشکیک فیه کما هو رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه)؛ لأنّه یری عدم جریان البراءة مطلقاً، لا الشرعیة ولا العقلیة، هناک قبل مدّة ذکرنا أنّه قد یقال: أنّه لا مانع من جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام، وإن کان هناک مانع ثبوتی، أو إثباتی من جریان البراءة الشرعیة، لکن الظاهر أنّ البراءة العقلیة أیضاً یمکن التشکیک فی جریانها فی المقام، باعتبار أنّ موضوع البراءة العقلیة وإن کان محققاً فی محل الکلام بالنسبة إلی کل واحد من الطرفین علی ما تقدّم، موضوع البراءة هو الجهل وعدم البیان وهذا متحقق بالنسبة إلی کل واحدٍ من الطرفین علی ما تقدّم، لکن من الواضح أنّ البراءة العقلیة التی ملاکها هو قبح العقاب بلا بیان إنّما تجری لغرض التأمین من ناحیة العقاب المحتمل، وفی محل الکلام یقطع بعدم العقاب، ومن هنا یستشکل فی جریان البراءة لکی تکون مؤمّنة من ناحیة العقاب المحتمل، هذا إنّما یصح عندما یکون هناک احتمال للعقاب؛ وحینئذٍ تجری البراءة العقلیة للتأمین من ناحیة ذلک العقاب المحتمل، أمّا فی الموارد التی یُقطع فیها بعدم العقاب کما فی ما نحن فیه؛ حینئذٍ ما معنی أن تجری البراءة للتأمین من ناحیة العقاب المحتمل ؟! العلم الإجمالی بحسب الفرض لا أثر له فی المنجزیة ولا ینجّز شیئاً علی الإطلاق، فهو لا ینجّز الموافقة القطعیة، ولا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة لعدم قدرة المکلّف علی کلٍ منهما، کما أنّه لا ینجّز وجوب الموافقة الاحتمالیة؛ لأنّ الموافقة الاحتمالیة حاصلة قهراً، حاصلة بطبع القضیة، مهما فعل المکلّف فالموافقة الاحتمالیة متحققة؛ فحینئذٍ لا معنی لأن یقال أنّ العلم الإجمالی ینجّز ما هو ثابت ومتحقق، فالعلم الإجمالی فی محل الکلام لیس له أیّ أثر ومن هنا قد یقال بأنّ البراءة العقلیة لا تجری؛ لأنّها لا تنجّز أیّ شیء، أیّ شیء تنجّز علی المکلّف حتّی تأتی البراءة العقلیة وتؤمّن من ناحیته ؟ ومن هنا یشکک فی جریان البراءة العقلیة فی محل الکلام ویکون الرأی الأخیر الذی أختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وهو عدم جریان الأصول مطلقاً، باستثناء الاستصحاب الذی فیه کلام سیأتی الحدیث عنه قریباً، عدم جریان الأصول مطلقاً فی محل الکلام وأنّ الحکم بالتخییر حکم عقلی صرف، ملاکه کون أحد الأمرین لابدّ منه عقلاً وعدم قدرة المکلّف علی الجمع بین الأمرین، بین الفعل والترک؛ فحینئذٍ یستقل العقل ویخیّر المکلّف بینهما، لکنّ هذا التخییر لیس معناه الإلزام بأحد الأمرین، ولیس بملاک عدم البیان، وإنّما بملاک أنّ المکلّف غیر قادر علی أن یجمع بین الأمرین وهو فی واقعه لا یخلو من أحدهما، العقل یخیّر المکلّف بینهما، یعنی لا حرج فی هذا ولا حرج فی هذا، لیس مفاد التخییر العقلی فی المقام أکثر من اللاحرجیة العقلیة. هذا ما یرتبط بالأقوال المتقدّمة.

ص: 424


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 445.

هل یجری الاستصحاب فی محل الکلام، أو لا

بعد ذلک تعرّضوا للبحث عن جریان الاستصحاب فی محل الکلام، لنفترض أنّ البراءة لا تجری وأصالة الإباحة لا تجری والتخییر الشرعی أیضاً لم یدل علیه دلیل، لکن هل یجری الاستصحاب فی محل الکلام، أو لا یجری ؟ إذا جری الاستصحاب فی محل الکلام سوف یثبت لنا البراءة؛ لأنّ الاستصحاب دلیل شرعی، علی تقدیر جریانه یکون حاله حال ما إذا جرت البراءة الشرعیة، یثبت لنا ذلک. هل یجری الاستصحاب فی محل الکلام، أو لا یجری ؟ (مثلاً) فی موارد دوران الأمر بین المحذورین بنحو الشبهة الحکمیة، عندما یکون الاشتباه والتردید ناشئ من أمر یرتبط بالشارع حتّی تکون الشبهة حکمیة من قبیل تعارض النصّین، أو فقدان النص، أو إجماله. قد نفترض أنّ إجمال النص یورث تردّد بین الوجوب وبین التحریم؛ حینئذٍ تکون هذه الشبهة حکمیة، فی موارد الشبهة الحکمیة یقع الکلام فی أنّه هل یجری استصحاب عدم جعل الوجوب المحتمل واستصحاب عدم جعل الحرمة المحتملة، أو لا یجری الاستصحاب ؟

إذا کان دوران الأمر بین المحذورین بنحو الشبهة الموضوعیة کما فیما إذا فرضنا أنّه حلف علی السفر، لکنّه شک فی أنّه هل حلف علی الإتیان بالسفر، أو حلف علی ترک السفر، فیدور أمر السفر بین الوجوب وبین التحریم، فیدخل فی محل الکلام، لکن منشأ الاشتباه والشک هو اشتباه خارجی لا علاقة له بالشارع، فالشبهة لیست حکمیة، وإنّما هی شبهة موضوعیة، فیقع الکلام فی أنّه هل یمکن إجراء استصحاب عدم تعلّق الحلف بالسفر واستصحاب عدم تعلّق الحلف بترک السفر، أو لا یجری ؟ علی غرار ما تقدم من أنّه هل تجری البراءة لنفی الوجوب، والبراءة لنفی التحریم، أو لا ؟ الاستصحاب هنا هل یجری فی الطرفین، الاستصحاب النافی لکلٍ منهما، استصحاب عدم جعل الوجوب، استصحاب عدم جعل الحرمة فی الشبهة الحکمیة، أو استصحاب عدم الحلف علی السفر، أو استصحاب عدم الحلف علی ترک السفر، هل یمکن أن یجری هذا الاستصحاب فی الطرفین، أو لا؟ هذا هو محل الکلام.

ص: 425

المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر بأنّ الاستصحاب، وإن کان هو مثل أصالة البراءة ولیس مثل أصالة الإباحة، علی ما وضّحه سابقاً، بمعنی أنّ إجراءه فی أحد الطرفین لا یغنی عن إجراءه فی الطرف الآخر، ولیس الاستصحاب من قبیل أصالة الإباحة التی ذکر من قبل أنّ إجراءها فی أحد الطرفین یکفی؛ لأنّها تثبت تساوی الفعل والترک فی الإباحة والترخیص ومن هنا جعلها منافیة للمعلوم بالإجمال، یقول: الاستصحاب وإن کان هو من قبیل البراءة، وبقطع النظر عن الموانع الأخری التی لأجلها منع من جریان البراءة فی المقام، هو من هذه الناحیة لا مانع من جریانه؛ لأنّه یجری فی کلا الطرفین وإجراءه فی أحد الطرفین لا یغنی عن إجرائه فی الطرف الآخر، فیکون حاله حال البراءة، وحال أصالة الإباحة، فهو وإن کان کذلک، إلاّ أنّ الاستصحاب لمّا کان من الأصول التنزیلیة التی مفادها تنزیل مؤداها منزلة الواقع التی فیها نوع من الإماریة، بناءً علی أنّ الاستصحاب من الأصول التنزیلیة کما هو رأیه؛ حینئذٍ یقول لا یمکن الجمع بین مؤدّی الاصل فی الطرفین وبین العلم الإجمالی بالإلزام، (1) وذلک لأنّ البناء علی عدم وجوب الفعل، إذا أجرینا الاستصحاب فی طرفی الوجوب ونفینا وجوبه بالأصل، ولو أصالة عدم جعل الوجوب، بناءً علی جریان الاستصحاب بهذا الشکل، البناء علی عدم وجوب الفعل وعدم حرمة الفعل الذی هو مؤدّی الاستصحابین فی الطرفین، البناء علی عدمهما واقعاً کما هو مقتضی کون الاستصحاب من الأصول التنزیلیة، مقتضی کون الاستصحاب من الأصول التنزیلیة هو تنزیل مؤدّی الاستصحاب منزلة الواقع، مؤدّی الاستصحاب هو عدم الوجوب، أی أبنِ علی عدم الوجوب واقعاً، وأبنِ علی عدم حرمة الفعل واقعاً، یقول: هذا البناء علی عدم وجوب الفعل واقعاً وعدم حرمة الفعل واقعاً لا یجتمع مع العلم بوجوب أحدهما واقعاً؛ لأنّ المکلّف عالم بأنّ هناک إلزام، إمّا متعلّق بالفعل الذی هو معنی الوجوب، وإمّا متعلّق بالترک الذی هو معنی الحرمة. إذن: المکلّف بمقتضی علمه الإجمالی هو عالم بثبوت واحدٍ منهما واقعاً، فکیف یجتمع هذا العلم بثبوت أحد الأمرین الوجوب والتحریم واقعاً مع البناء علی عدم کل واحد واقعاً، هذان أمران لا یمکن الجمع بینهما؛ ولذا یقول بأنّ الأصول التنزیلیة لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی، بقطع النظر عن لزوم المخالفة من جریانها وعدم لزومها، المحذور لیس فی أنّه یلزم من جریان الأصول فی أطراف العلم الإجمال الوقوع فی المخالفة العملیة، حتّی لو فرضنا أنّه لم یلزم من جریانها الوقوع فی المخالفة العملیة، مع ذلک نمنع من جریانها؛ لهذا المحذور الذی ذکره. وبعبارةٍ أخری یکون حالها حال الإمارات، کما نمنع من جریان الإمارات فی أطراف العلم الإجمالی أیضاً نمنع من جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی، وهذا یؤدّی إلی التعارض بی الاستصحابین، وبالتالی تساقط الاستصحابین؛ لأنّ البناء علی عدم کلٍ منهما لا یجتمع مع العلم بثبوت أحدهما واقعاً، ومن هنا یقع التعارض بین الاستصحابین، کل منهما لا یمکن أن یجری؛ لأنّه یخالف العلم الإجمالی بثبوت أحدهما، جریان أحدهما دون الآخر ترجیج بلا مرجّح، وهذا هو ملاک التساقط، فیتساقطان فی محل الکلام.

ص: 426


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 449.

ثمّ یقول بعبارة أخری: (1) فی المقام وإن کان لا یلزم من جریان الاستصحاب فی الطرفین المخالفة العملیة، یجری استصحاب عدم الوجوب ویجری استصحاب عدم التحریم، باعتبار أنّ المکلّف غیر قادر علی المخالفة العملیة القطعیة، وکذلک هو غیر قادر علی الموافقة العملیة القطعیة. أمّا الموافقة الاحتمالیة والمخالفة الاحتمالیة فهما حاصلان قهراً، وعلیه، فلا یکون المنع من جریان الاستصحاب فی محل الکلام من جهة أنّه یترتب علی جریانهما فی الطرفین الوقوع فی محذور تجویز المخالفة العملیة حتّی بقطع النظر عن ذلک نمنع من جریان الاستصحاب فی المقام، وذلک لأنّه یلزم من جریان الاستصحاب فی الطرفین المخالفة الالتزامیة، باعتبارّ أنّ البناءً علی مؤدّی الاستصحابین ینافی الموافقة الالتزامیة للمعلوم بالإجمال؛ لأنّ التصدیق بهذا المعلوم بالإجمال والتدیّن بهذا المعلوم بالإجمال لا یجتمع مع إجراء الاستصحاب فی الطرفین، المعلوم بالإجمال هو الإلزام، أنّ هذا الفعل تعلّق به الإلزام، التصدیق بذلک لا یجتمع مع إجراء الاستصحاب فی الطرفین، بناءً علی أنّه من الأصول التنزیلیة، فأنّ إجراء الاستصحاب فی الطرفین بناءً علی ذلک معناه البناء علی عدم ثبوت کلٍ منهما واقعاً، وهذا لا یجتمع مع التدیّن والتصدیق بالمعلوم بالإجمال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال هو ثبوت أحدهما واقعاً، فکیف یجتمع التدیّن والتصدیق بثبوت أحدهما واقعاً مع البناء علی عدم ثبوتهما واقعاً ؟! هذه لیست مخالفة عملیة، وإنّما هی مخالفة التزامیة، ویقول لأجل ذلک حینئذٍ لا یمکن أن نلتزم بجریان الاستصحاب فی الطرفین، فیکون جریان الاستصحاب فی الطرفین مشکل. طبعاً هذا المحذور لیس موجوداً فی أصالة البراءة لو قلنا بإمکان جریانها فی المقام، هذا المحذور لیس موجوداً فی أصالة البراءة؛ لأنّ أصالة البراءة لیست من الأصول التنزیلیة، ولیس لها نظر إلی الواقع، لا تنزّل مؤداها منزلة الواقع، وإنما هی ناظرة إلی مقام الجری العملی وتشخیص وظیفة ظاهریة فی مقام الشکّ للمکلّف حتّی لا یبقی متحیّراً ومترددّاً عندما یشکّ فی الواقع، فهی عندما تجری لا تقول للمکلّف أبنِ علی عدم التکلیف واقعاً، أی عدم الوجوب واقعاً وعدم الحرمة واقعاً حتّی یکون ذلک منافیاً للعلم الإجمالی بثبوت أحدهما واقعاً؛ ولذا لا محذور من هذه الجهة فی جریان البراءة فی کلٍ من الطرفین، وحیث أنّه لا یلزم منها مخالفة عملیة کما تقدّم، فلا محذور فی جریانها، لکن الاستصحاب لیس هکذا؛ لأنّه اصل تنزیلی ومفاده البناء علی أنّ مؤدّی الاستصحاب هو الواقع، وهذا لا یجتمع مع المعلوم بالإجمال، ومن هنا یقع التعارض بین الاستصحابین ویتساقطان. هذا الذی یراه المحقق النائینی(قدّس سرّه) فهو یمنع من جریان الاستصحاب لهذا السبب، لکون جریانه فی الطرفین موجباً لتجویز المخالفة الالتزامیة للمعلوم بالإجمال وهذا غیر ممکن، یعنی لا یمکن جریانه؛ لأنّه یصطدم مع العلم الإجمالی بأنّ أحد الأمرین ثابت واقعاً.

ص: 427


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 449.

فی المقابل ذهب السید الخوئی(قدّس سرّه) إلی إمکان جریان الاستصحاب فی محل الکلام، (1) وهو یری أنّه لا مانع من جریانه ولیس فی جریانه أیّ محذور؛ لأنّه لا یلزم من جریانه إلاّ نفس ما یلزم من جریان البراءة فی الطرفین ولا فرق بینهما عنده. الذی یمنع من جریان البراءة والاستصحاب فی أطراف العلم الإجمالی هو المخالفة العملیة، وحیث أنّها لا تلزم فی محل الکلام، فلا مانع من جریان کلٍ منهما، فهو یری جریان الاستصحاب فی محل الکلام.

یظهر من السیّد الشهید(قدّس سّره) فی مقام التعلیق علی هذه الکلمات، أنّ الخلاف فی هذه المسالة یبتنی علی ما هو المختار فی باب الاستصحاب، فی أنّ الاستصحاب هل هو أصل تنزیلی مطعّم بشیء من الإماریة، (2) أو أنّه أصل عملی محض، فعلی الأوّل لا یجری الاستصحاب، بینما علی الثانی لا مانع من جریانه فی محل الکلام.

أقول: قد یُفهم من عبارته المختصرة فی محل الکلام أنّ القضیة قضیة مبنائیة، والظاهر ---------- واللّه العالم --------- الذی یُشیر إلی کونها مبنائیة هو أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یری أنّ الأصل تنزیلی؛ فحینئذ یکون حاله حال الإمارات، کما أنّ الإمارات لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی، وإنّما تتعارض وتتساقط، کذلک الاستصحاب، إذا لم نقل بذلک؛ حینئذٍ لا مانع من جریانه، یکون حاله حال البراءة، فإذا قلنا لا مانع من جریان البراءة فی الطرفین، کذلک لا مانع من جریان الاستصحاب فی الطرفین، بینما یبدو أنّ الأمر لیس هکذا ----------- طبعاً إذا کان هذا هو مقصوده ---------- وإنّما الظاهر أنّ المسألة مبنیة علی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وهو أنّه هل نلتزم بجواز المخالفة الالتزامیة حیث أنّ هناک بحثاً فیها، هل هی جائزة أو غیر جائزة، المخالفة الالتزامیة ولو فی مثل فی محل الکلام، هل هی جائزة، أو لیست جائزة، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یری عدم جواز المخالفة الالتزامیة، وحیث أنّه یلزم من إجراء الاستصحاب فی الطرفین الوقوع فی محذور المخالفة الالتزامیة للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ ولذا هو یمنع من جریان الاستصحاب فی المقام، بینما السید الخوئی(قدّس سرّه) (3) (4)لا یری محذوراً فی المخالفة الالتزامیة، ویقول أنّ المناط علی المخالفة العملیة، وحیث أنّها لیست لازمة ولا تترتب علی إجراء الاستصحاب؛ فحینئذٍ لا محذور إلاّ من ناحیة المخالفة الالتزامیة، وهذا لیس محذوراً؛ ولذا بنا علی جواز إجراء الاستصحاب فی محل الکلام، ویُفهم هذا المطلب من کلمات السید الخوئی(قدّس سرّه)؛ لأنّه ذکر بأنّه قد یقال: أنّ جریان الأصول النافیة کالبراءة، أو الاستصحاب، بعد أن التزم بجواز جریان الاستصحاب فی المقام قد یقال أنّ هذا فیه مخالفة للعلم الإجمالی؛ لأنّ أحد الأمرین ثابت واقعاً، فکیف یمکن إجراء الاستصحاب فی الطرفین ؟ وهل إجراء الاستصحاب فی الطرفین إلاّ مخالفة للعلم الإجمالی بثبوت أحد الأمرین ؟ علی ما بیّنه المحقق النائینی(قدّس سرّه)، هو کأنّه ناظر إلیه، ویجیب بأنّ هذه لیست إلاّ مخالفة التزامیة وهی لا تشکّل محذوراً یمنع من جریان تلک الأصول فی محل الکلام، فالظاهر أنّ المسألة مبنیّة علی أننا هل نجوّز المخالفة الالتزامیة، أو لا نجوّز المخالفة الالتزامیة ؟

ص: 428


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 331.
2- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 158.
3- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 331.
4- (7) دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 331.

وأمّا ما قد یقال من منع جریان الاستصحاب فی محل الکلام، باعتبار عدم ترتب ثمرة علی جریانه فی محل الکلام، والأصل العملی کالاستصحاب یُشترط فی جریانه ترتب ثمرة علی جریانه، وإلاّ فلا معنی لجریانه فی موردٍ من الموارد، لا معنی للتعبّد الشرعی ببقاء الحالة السابقة عندما تکون متیّقنة سابقاً ومشکوکة لاحقاً، إلاّ إذا کانت هناک ثمرة تترتب علی جریانه وفی محل الکلام یقول لا تترتب ثمرة علی جریان استصحاب عدم التحریم واستصحاب عدم الوجوب؛ لأنّ نفس الأمور التی کانت موجودة قبل إجراء الاستصحاب هی موجودة بعد إجرائه ولا یتغیّر شیء، وقبل ذلک لم یتنجّز شیء علی المکلّف حتّی یأتی الاستصحاب ویؤمّن من ناحیة ما تنجّز علی المکلّف، الاستصحاب یأتی لغرض نفی احتمال الوجوب ونفی احتمال التحریم؛ وهو ینفی احتمال التحریم؛ لأنّه یرید أن یثبت عدم منجّزیته وأنّه لا یترتب علی مخالفته شیء، لکن عندما نفترض أنّ احتمال الوجوب لا یترتب علیه شیء، العلم الإجمالی بالإلزام المردد بین الوجوب والتحریم لا یترتب علیه شیء أصلاً، فلا معنی لجریان الاستصحاب لغرض نفی التنجیز؛ لأنّه لا تنجیز فی الواقع حتّی ینفی التنجیز ویؤمّن من ناحیته.

أقول: یبدو أنّ هذا الکلام لا یصح فی المقام؛ لأنّ المقصود فی المقام هو إجراء الاستصحاب علی غرار إجراء البراءة فی محل الکلام، وقلنا أنّ إجراء البراءة فی المقام لیس فیه محذور ثبوتی؛ لأنّ الغرض من إجراء البراءة فی المقام هو إجراءها فی کل طرف، یعنی عندما نأتی إلی هذا الطرف نجری البراءة فی هذا الطرف علی حدة، بأن نلحظ هذا الطرف ونجری البراءة فیه، أیّ فرقٍ بین البراءة والاستصحاب فی هذا الطرف ؟ وقلنا بأنّه فی کل طرف من الممکن أن یجعل الشارع التکلیف ظاهریاً بإیجاب الاحتیاط، بلحاظ الوجوب من الممکن أنّ الشارع یجعل الوجوب الظاهری الذی معناه وجوب الاحتیاط بالفعل، هذا أمر ممکن، أنّ الشارع یلزم المکلّف بالفعل، یقول دار الأمر بین الأمرین انا ألزمک بالفعل، أو یلزمنی بالترک فرضاً بملاک أنّ دفع المفسدة أولی من جلب المصلحة، هذا أمر ممکن، ووضع التکلیف الظاهری فی المقام فی کل طرف ممکن، الأصول المؤمّنة تؤمّن من ناحیة ذلک الاحتمال، أنّ الشارع هل ألزمنی بالفعل، أو لا ؟ الأصل المؤمّن یؤمّن من هذه الناحیة، نأتی إلی الحرمة، هل ألزمنی الشارع بالترک، أو لا ؟ الأصل المؤمّن یجری للتأمین من تلک الجهة، فلا نستطیع أن نقول بعدم ترتب الأثر علی جریان الاستصحاب فی المقام، جریان الاستصحاب حاله حال جریان البراءة، کما تصوّرنا ترتب أثر علی جریان البراءة فی کل من الطرفین یمکن بنفس البیان تصوّر ترتب أثر علی جریان الاستصحاب فی کل من الطرفین، فهذا لیس هو الإشکال فی المقام، وإنّما المسألة مسألة أنّ جریان الاستصحاب فی الطرفین یستلزم المنافاة للالتزام والتصدیق بالتکلیف المعلوم إجمالاً، یعلم المکلّف بأنّه ملزم، إمّا بالفعل، أو الترک، أنّ هناک تکلیفاً إلزامیاً مردداً بین الوجوب والحرمة، وهو یعلم بثبوت أحدهما قطعاً واقعاً، هل بإمکانه أن یلتزم نتیجة إجراء الاستصحاب بعدم ثبوتهما، أو لا ؟ هل یمکن هذا، أو لا ؟ إذا قلنا أنّ الاستصحاب أصل عملی بحت حاله حال البراءة، فلا مشکلة فی الالتزام بذلک؛ لأنّه لیس هناک منافاة؛ لأنّ هذا لا ینظر إلی الواقع، لا یقول أبنِ علی أنّ هذا هو الواقع حتّی یکون منافیاً للعلم بثبوت أحدهما فی الواقع، إذا قلنا أنّ الاستصحاب لیس أصلاً تنزیلیاً ولیس فیه ملاک التنزیل، لکن یبدو أنّ النزاع لیس من هذه الجهة؛ لأنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) یؤمن بأنّ الاستصحاب إمارة، وإن کان تتقدّم علیها سائر الإمارات بالحکومة، لکن هو یری أنّ الاستصحاب إمارة من الإمارات، وبالرغم من هذا هو یری جواز جریان الاستصحاب فی المقام، لیس الملاک فی المنع من جریان الاستصحاب أنّ الأصل أصل تنزیلی وکونه ناظراً إلی الواقع؛ لأنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) یؤمن بأنّ الاستصحاب إمارة ومع ذلک یری جواز جریانه فی محل الکلام؛ لأنّه یری أنّه لا یلزم من جریان الاستصحاب فی المقام ولو کان أصلاً تنزیلیاً إلاّ أنّه یلزم منه المخالفة الالتزامیة ولا محذور فیها.

ص: 429

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

إلی هنا انتهی الکلام عن أصل المطلب، یبقی أنّ هذا الکلام المتقدّم کلّه کان فی فرض ما إذا لم یکن لأحد الطرفین الذین یدور الإلزام بینهما مزیّة، بأن کانا متساویین تماماً ولا توجد أیّ مزیّة لأحد الطرفین علی الآخر، وأمّا إذا فرضنا وجود مزیّة لأحد الطرفین تعییناً، یعنی أحد الطرفین بعینه کانت له مزیّة، ولنفترض أنّ الوجوب کانت له مزیّة، المزیّة إمّا أن تتمثّل بأنّ احتماله یکون أقوی من احتمال الآخر، فهی مزیّة فی الاحتمال، درجة احتمال الوجوب أکبر من درجة احتمال التحریم، وإمّا أن تکون المزیّة فی المحتمل نفسه، باعتبار أهمیة الوجوب لو فرضنا أنّ الوجوب أهم عند الشارع من التحریم، أو محتمل الأهمیة، لکن بالنتیجة لا أقوائیة فی الاحتمال، وإنّما هناک أقوائیة وأهمیة فی نفس المحتمل. الکلام یقع فی أنّه فی حالة وجود مزیّة احتمالاً، أو محتملاً، هل یجری الکلام السابق نفسه، کل ما قلناه فی فرض التساوی بین الطرفین یجری فیما إذا کان لأحدهما مزیة، أو لا ؟ بأن یقال فی مقابل ذلک أنّه یتعین الأخذ بذی المزیة احتمالاً، أو محتملاً، أو أنْ یقال أنّ ذلک یختلف باختلاف ما هو المختار فی الفرض الأوّل، یعنی فرض التساوی بین الطرفین وعدم وجود مزیّة لأحدهما فی مقابل الآخر، أنّ الحکم فی فرض وجود مزیّة یختلف باختلاف ما نختاره فی فرض عدم وجود مزیّة.

الظاهر أنّ الأخیر هو الصحیح، بمعنی أنّ الحکم فی محل الکلام یختلف باختلاف ما یقال ویُختار هناک فی الفرض الأوّل، والمقصود بهذا الکلام هو أنّه إذا قلنا بجریان البراءة، أو الاستصحاب، الأصول المؤمّنة بشکل عام، إذا قلنا بجریان الأصول الشرعیة المؤمّنة فی الطرفین فی الفرض الأوّل فیما إذا لم تکن هناک مزیّة، الظاهر أنّ نفس الکلام السابق یجری فی محل الکلام ووجود المزیة فی أحد الطرفین احتمالاً، أو محتملاً لا یصنع شیئاً، بمعنی أنّه لا یلزمنا بالأخذ بذی المزیة؛ بل إذا قلنا بجریان البراءة، فتجری البراءة هنا أیضاً فی الطرفین فی ذی المزیّة وفی غیر ذی المزیّة، وإذا قلنا بالاستصحاب، فالاستصحاب أیضاً یجری فی الطرفین، أیّ أصل من الأصول النافیة إذا قلنا بجریانه فی فرض التساوی هو یجری فی فرض وجود المزیّة، والسرّ فی ذلک أنّ موضوع هذه الأصول المؤمّنة متحقق بالنسبة إلی کل واحد من الطرفین، الأصل المؤمّن موضوعه عدم العلم والشک، وهو متحقق بالنسبة إلی کل واحدٍ من الطرفین، سواء کانا متساویین، أو کان لأحدهما مزیة فی الاحتمال، أو فی المحتمل، باعتبار أنّ قوة الاحتمال، أو قوة المحتمل إذا کانت موجودة فی أحدهما بعینه لا تمنع من جریان البراءة ----------- مثلاً ---------- ولا من سائر الأصول المؤمّنة، باعتبار أنّ هذه المزیّة لیست حجّة مانعة من جریان هذه الأصول المؤمّنة ولا توجب ارتفاع موضوع هذه الأصول المؤمّنة عن الطرف الواجد للمزیّة، فلا تمنع من جریان البراءة حتّی لو کان واجداً للمزیة، البراءة کما تجری فی الطرف الأضعف کذلک تجری فی الطرف ذی المزیّة لتحقق موضوع البراءة فیه؛ لأنّه لا یوجد فی قبال ذلک إلاّ المزیّة الموجودة فی هذا الطرف، هذه المزیّة هل تمنع من جریان البراءة ؟ هل توجب ارتفاع موضوع البراءة ؟ بحیث لا تجری البراءة فیه، ویتعیّن العمل به والأخذ بصاحب المزیّة ؟ کلا، نقول أنّ هذه المزیّة بعد افتراض أنّها لیست حجّة فی حدّ نفسها، فهی لا تمنع من جریان البراءة فی الطرف الواجد للمزیّة، فتجری البراءة فیه کما تجری فی الطرف الآخر.

ص: 430

وبعبارة أخری: أنّ ما یرفع هذه الأصول المؤمّنة ویمنع من جریانها هو العلم، أو ما یقوم مقامه، وفی محل الکلام لا یوجد علم، أنا لا أعلم بهذا الطرف صاحب المزیّة، کما لم تقم حجّة علی تعیینه، وإنّما هو فقط له مزیّة، فلا یوجد علم یمنع من جریان البراءة فیه ولا یوجد ما یقوم مقام العلم یمنع من جریان البراءة فیه، وموضوع البراءة متحقق فتجری البراءة کما تجری فی الطرف الآخر. وهذا معناه أنّ نفس الکلام السابق الذی قیل فی فرض عدم وجود المزیّة یجری أیضاً فی فرض وجود المزیّة. هذا إذا قلنا بجریان الأصول المؤمّنة فی الطرفین فی الفرض السابق، وإمّا إذا قلنا بعدم جریانها فی الطرفین فی الفرض السابق وأنّ الحکم فی الفرض السابق هو التخییر بین الفعل والترک عقلاً، أو اللاحرجیة العقلیة کما یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه) حینئذٍ ینفتح المجال للکلام عن أنّ العقل الحاکم بالتخییر بین الطرفین، أی الحاکم بالتخییر بین الفعل والترک فی فرض عدم المزیّة، هل یحکم بالتعیین فی فرض وجود المزیّة ولزوم الأخذ بما فیه مزیّة احتمالاً، أو محتملاً، أو أنّ العقل لا یحکم بالتعیین؛ بل یبقی مصرّاً علی الحکم بالتخییر بینهما، وإن کان أحدهما واجداً للمزیّة احتمالاً، أو محتملاً.

هنا تارةً نتکلّم فی أنّ العقل الحاکم بالتخییر فی فرض عدم وجود مزیّةٍ، هل یحکم بالتعیین فی فرض وجود المزیّة ؟ تارةً نتکلّم بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، بناءً علی البراءة العقلیة التی تعنی فی روحها عدم منجّزیة الاحتمال، الاحتمال لیس منجّزاً، إنّما المنجّز هو العلم فقط، أو ما یقوم مقامه. وأخری نتکلّم بناءً علی المسلک الآخر الذی یری أنّ الاحتمال بما هو احتمال هو منجّز کالعلم، کل درجات الانکشاف تنجّز، مسلک حق الطاعة الذی یعنی منجّزیة الاحتمال.

ص: 431

أمّا بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، هنا تارةً نفترض المزیّة فی الاحتمال، وأخری نفترض المزیّة فی المحتمل ونفرّق بینهما. إذا کانت المزیّة فی الاحتمال بأن کان احتمال الوجوب ------------ مثلاً ------------ أقوی وأکبر من احتمال التحریم، فی هذه الحالة واضح جدّاً بأنّه لا یمکن أن نلتزم بتعیین الأخذ بالمزیّة لمجرّد صرف الاحتمال؛ لأنّ هذا احتماله ----------- مثلاً ----------- بمقدار 60% بینما احتمال الآخر أقل من ذلک، لمجرّد الاحتمال لا یمکن أن نحکم بتعیین الأخذ به بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان لا یری الاحتمال منجّزاً لشیء، والمنجّز هو العلم، أمّا الاحتمال فلیس منجّزاً. إذن، کیف یتعیّن الأخذ بذی المزیّة بحیث یتنجّز علی المکلّف لمجرّد الاحتمال، هذا خُلف؛ لأننّا نتکلّم بحسب الفرض بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان الذی یعنی أنّ الاحتمال لیس منجّزاً، فإذن، لا یمکن أن نثبت التنجیز فی المقام وتعیین الأخذ بذی المزیّة فی قبال الاحتمال الآخر لمجرّد الاحتمال، ولو کان درجته أکبر من احتمال الطرف الآخر. إذن، لابدّ أن یکون المنجّز علی تقدیر القول به فی المقام المُلزم للأخذ بذی المزیة أن یکون شیئاً آخراً غیر الاحتمال بما هو احتمال؛ ولذا لابدّ أن نفتش عن المنجّز فی المقام، ما هو الذی ینجّز الأخذ بذی المزیّة ؟ لا یوجد عندنا شیء آخر بعد الاحتمال غیر العلم الإجمالی، فلابدّ أن نرجع إلی العلم الإجمالی الموجود والمفروض فی محل الکلام وهو العلم الإجمالی بالإلزام المرددّ بین الوجوب والتحریم، هذا العلم الإجمالی الموجود فی المقام هل ینجّز بنظر العقل التعیین والأخذ بذی المزیّة إذا کان له مزیّة، کلامنا فعلاً فی المزیّة بلحاظ الاحتمال، احتمال الوجوب أکبر من احتمال التحریم، هل یستفاد التنجیز من العلم الإجمالی بهذا المعنی، هل یمکن أن یکون هو المُلزم بالأخذ بذی المزیّة، یعنی ما کان احتماله أکبر من احتمال الآخر، أو لا ؟ هنا فی الحقیقة لابدّ أن نرجع إلی المسالک المعروفة فی العلم الإجمالی وکیفیة تنجیزه، ونحن نعرف أنّ هناک مسلکین فی منجّزیة العلم الإجمالی، المسلک الأوّل یری أنّ العلم الإجمالی ابتداءً لا ینجّز إلاّ الجامع، وهذا معناه أنّه لا یدخل فی عهدة المکلّف بالعلم الإجمالی إلاّ الجامع بحدّه، الجامع علی جامعیته، هذا هو الذی یدخل فی العهدة، یعنی أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیّة لا وجوب الموافقة القطعیة، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز إلاّ الجامع؛ لأنّه لیس بیاناً إلاّ علی الجامع، فهو ینجّز حرمة المخالفة القطعیة ولا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لوضوح أنّ الموافقة القطعیة لا یمکن إثباتها بمنجّزیة العلم الإجمالی للجامع؛ لأنّ الجامع بین الطرفین یتحقق بأحد الطرفین، فلماذا یُلزم المکلّف بالإتیان بکلا الطرفین فی الشبهات الوجوبیة، أو ترک کلا الطرفین فی الشبهات التحریمیة، والحال أنّه لم یتنجّز علیه إلاّ الجامع. نعم، العلم الإجمالی ینجّز علیه حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ المخالفة القطعیة بترک الطرفین فی الوجوبات، والإتیان بکلا الطرفین فی المحرّمات یعنی ترک الجامع، یعنی مخالفة قطعیة لما تنجّز علیه بالعلم الإجمالی، فالذی یتنجّز علیه بناءً علی هذا المسلک هو فقط حرمة المخالفة القطعیة. بناءً علی هذا واضح جدّاً أنّه لا یتنجّز علی المکلّف إلاّ الجامع، وأمّا الفرد، أو الطرف، فهو لا یتنجّز بمثل هذا العلم الإجمالی، هذا العلم الإجمالی لا أثر له فی المقام، لا بلحاظ الجامع ولا بلحاظ الفرد، أمّا بلحاظ الجامع، فباعتبار أنّ الجامع یعنی أنّ أحد الطرفین ضروری الثبوت فی محل کلامنا، هو ینجّز الجامع فی موارد أخری کالشبهات الوجوبیة فی غیر محل الکلام، أو التحریمیة فی غیر محل الکلام، فینجّز حرمة المخالفة القطعیة، وأمّا فی محل الکلام، فالجامع ضروری الثبوت، الجامع هو عبارة عن الجامع بین الفعل والترک، وأحد الأمرین من الفعل والترک هو أمر ضروری التحقق، طلبه طلب الحاصل، فلا معنی لأن یکون منجّزاً بالعلم الإجمالی، والمفروض فی محل الکلام أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز ما عدا الجامع، والجامع لا أثر له فی التنجیز؛ بل حتی لو فرضنا أنّ الجامع کان قابلاً للتنجیز، لکن هذا العلم الإجمالی لا ینجّز الفرد ولو کان له مزیّة، وإنّما ینجّز الجامع علی تقدیر وفرض من باب فرض المحال لیس بمحال أنّ الجامع قابل للتنجیز، فمثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً للفرد وإن کانت له مزیّة؛ لأنّ هذه المزیّة لا تدخل فی الجامع والمفروض أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز إلاّ الجامع، وإن کان الصحیح أنّه لا أثر له حتّی بالنسبة إلی الجامع؛ لما قلناه من أنّ الجامع ضروری التحقق والثبوت، فلا معنی لأن نقول أنّ العلم الإجمالی ینجّز الجامع، ینجز حرمة المخالفة القطعیة، هو غیر قادر علی المخالفة القطعیة؛ لأنّ الجامع ضروری التحقق، فإذن، لا ینجّز الفرد وإن کان هذا الفرد ممّا له مزیّة، مثل هذا العلم الإجمالی لا یستطیع أن یکون هو المنجّز للفرد ذی المزیّة، بمعنی أن یکون لزوم الأخذ بذی المزیّة مستنداً إلی العلم الإجمالی. إذن، هو لا یمکن أن یستند إلی الاحتمال کاحتمال؛ لأنّ هذا خُلف البناء علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان، کما أنّه لا یمکن أن یستند إلی العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام یتعلّق بالجامع؛ لأنّه هو الذی تمّ علیه البیان وفی المقام الجامع غیر قابلٍ للتنجیز، فالفرد أیضاً لا یکون قابلاً للتنجیز بهذا العلم الإجمالی، ولو قلنا أنّه قابل للتنجیز، فالفرد باعتبار أنّ المزیّة الموجودة فیه لیست داخلة فی الجامع، فهی لا تتنجّز بهذا العلم الإجمالی، فلا یمکن الالتزام بتعیین الأخذ بذی المزیّة بناءً علی هذا المسلک فی العلم الإجمالی، یعنی بناءً علی المسلکین، أوّلاً مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، ثمّ مسلک أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز إلاّ الجامع فقط، فهو لا ینجّز إلاّ حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 432

وأمّا علی المسلک الثانی فی العلم الإجمالی الذی یقول أنّ العلم الإجمالی ینجّز الواقع لا الجامع، ای بعبارةٍ اخری، یُنجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه ینجّز الواقع، وإذا تنجّز الواقع علی المکلّف، فلابدّ من الاحتیاط، لابدّ من الموافقة القطعیة؛ لأنّ المکلّف لا یستطیع أن یحرز الإتیان بالواقع إلاّ بواسطة الاحتیاط والموافقة القطعیة، وبهذا یحرز أنّه امتثل التکلیف؛ لأنّ التکلیف المعلوم بالإجمال نجّز له الواقع علی ما هو علیه، فإذا تنجّز علی الواقع فلابدّ من الموافقة القطعیة، فهو ینجّز الموافقة القطعیة لا أنّه ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فقط کما فی الأوّل؛ حینئذٍ یطرح هذا السؤال بناءً علی أنّ العلم الإجمالی ینجّز الموافقة القطعیة والمفروض فی محل الکلام أنّ الموافقة القطعیة مستحیلة؛ لأنّه یستحیل علیه أن یأتی بکلا الطرفین، أن یجمع بین الفعل والترک، فإذا استحالت الموافقة القطعیة، قد یقال أنّ النوبة تصل إلی الموافقة الظنّیة، یعنی تصل النوبة إلی الأخذ بالاحتمال الأقرب إلی الواقع، والاحتمال الأقرب إلی الواقع هو احتمال الوجوب فی المثال المتقدّم، فالإتیان بالفعل یکون موافقة ظنّیة للعلم الإجمالی، موافقة ظنّیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، باعتبار أنّ هذا العلم الإجمالی فی البدایة هو ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، لکن لمّا تعذّرت الموافقة القطعیة فی محل الکلام؛ حینئذٍ تصل النوبة إلی الموافقة الظنیّة، ویوّضح هذا الکلام أکثر، ویقال فی مقام توضیحه: فی الفرض الأوّل المتقدّم، فرض التساوی وعدم وجود مزیّة فی أحد الطرفین کانت هناک درجتان للامتثال والطاعة، الأولی درجة الموافقة القطعیة والثانیة درجة الموافقة الاحتمالیة ولیس هناک موافقة ظنیّة، وإنّما موافقة قطعیة وموافقة احتمالیة، الموافقة القطعیة مستحیلة کما تقدّم والموافقة الاحتمالیة متحققة قطعاً وضروریة الثبوت، فالعلم الإجمالی لا ینجّز شیئاً منهما، لا ینجّز الموافقة القطعیة؛ لأنّها مستحیلة، ولا ینجّز الموافقة الاحتمالیة؛ لأنّها متحققة علی کل حال؛ لأنّ المکلّف لا یخلو إمّا من الفعل أو الترک وعلی کلا التقدیرین هناک موافقة احتمالیة، فالعلم الإجمالی لیس له أثر بلحاظ کلتا الدرجتین. هذا فی فرض التساوی، أمّا فی فرض عدم التساوی، یعنی فی فرض وجود المزیّة لأحدهما المعیّن؛ حینئذٍ بعد استثناء الموافقة القطعیة؛ لأنّها مستحیلة، یدور الأمر بین درجتین من الامتثال والطاعة، بین موافقة ظنّیة وبین موافقة وهمیة، أی بین موافقة ظنّیة للتکلیف المعلوم بالإجمال وهو أن یأخذ بالمزیة، وبین أن یأخذ بالطرف الآخر الذی هو عبارة عن موافقة وهمیة فی قبال ما تورثه المزیّة فی الطرف الآخر من ظنّ ومن احتمال أکبر من هذا بحسب الفرض کما قلنا لأنّ المزیّة موجودة فی الاحتمال، احتمال الوجوب أکبر من احتمال التحریم، فبعد استثناء الموافقة القطعیة المستحیلة یدور الأمر بین موافقة ظنّیة وبین موافقة وهمیة. هنا قد یقال أنّ العقل یتدخل ویقول بترجیح الموافقة الظنّیة علی الموافقة الوهمیة، فیعیّن الموافقة الظنّیة والأخذ بذی المزیة باعتبار أنّه موافقة ظنّیة للتکلیف المعلوم بالإجمال والأمر بحسب الفرض یدور بینه وبین موافقة وهمیة لهذا التکلیف، فالعقل یتدخّل ویحکم بتعیّن الموافقة الظنّیة، فیمکن أن یکون هذا تخریجاً لحکم العقل بالتعیین فی فرض عدم التساوی، لکن بهذه الشروط، بعد البناء علی قاعدة قبح العقاب بلا بیان وبعد البناء علی أنّ العلم الإجمالی ینجّز الواقع، وافتراض أنّ المزیة موجودة بلحاظ الاحتمال لا بلحاظ المحتمل، قد یقال حینئذٍ أنّ العقل یحکم بالتعیین.

ص: 433

لکن هناک کلاماً فی هذا المطلب، أنّ العقل هل یحکم هنا بالتعیین فی حالة من هذا القبیل، أو لا ؟ وذلک باعتبار أنّ المفروض فی محل کلامنا أنّ العلم الإجمالی ینجّز الواقع لا أنّه ینجّز الجامع، فیکون العلم الإجمالی علّة لوجوب الموافق القطعیة کما أنّ المفروض فی محل کلامنا أنّ الموافقة القطعیة تکون مستحیلة، بمعنی أنّ الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال محال وغیر ممکنة أصلاً، وقد یقال: أنّ هذا یلزم منه سقوط التکلیف رأساً، هذا التکلیف الذی هو علّة لوجوب الموافقة القطعیة إذا استحالت الموافقة القطعیة له هذا یعنی سقوط التکلیف رأساً، باعتبار أنّ بقاء هذا التکلیف یعنی التکلیف بغیر المقدور؛ لأنّه بحسب الفرض علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، والموافقة القطعیة مستحیلة، فبقاء هذا التکلیف یعنی أنّه تکلیف بغیر المقدور، فلابدّ من الالتزام بسقوط التکلیف رأساً، وإذا سقط التکلیف رأساً بهذا الاعتبار؛ حینئذٍ لا یبقی ما ینجّز الموافقة الظنّیة فی محل الکلام؛ بل قد یُدّعی باستحالة ذلک، استحالة أن یکون شیء منجّزاً للموافقة الظنّیة فی محل الکلام بنظر العقل، وذلک باعتبار أنّ هذا یستلزم ما یسمونه بالتوسط فی التکلیف، أو التبعیض فی التکلیف، بمعنی أنّ التکلیف یسقط بلحاظ الموافقة القطعیة ویبقی منجّزاً للموافقة الظنّیة، والتوسط فی التکلیف محل إشکالٍ، أنّه ممکن، أو غیر ممکن، التکلیف إمّا أن یکون باقیاً، وإمّا أن یسقط، أمّا أن یسقط بلحاظ جهة ویبقی بلحاظ جهة هذا محل کلام وبعضهم یراه غیر معقول، نظیر ما یُدعی فی باب العلم الإجمالی فی ما إذا کان أحد الطرفین فی محل کلامنا دوران الأمر بین محذورین، إذا کان أحدهما تعبّدیاً کما سیأتی والذی هو المقام الثانی لهذا البحث، لنفترض أنّ الوجوب تعبّدی، هنا الموافقة القطعیة غیر ممکنة کما فی السابق فیما إذا کانا توصّلیین، لکن المخالفة القطعیة ممکنة بأن یفعل لا بقصد القربة، هذه مخالفة قطعیة للتکلیف؛ لأنّ التکلیف بحسب الفرض دائر بین وجوبٍ تعبّدی وبین حرمة توصلیة، فإذا فعل لا بقصد القربة هو خالف التکلیف علی کل حال، سواء کان وجوباً تعبّدیاً خالفه؛ لأنّه لم یأتِ به بقصد القربة، أو کان هو تحریماً فقد خالفه بالفعل، فالمخالفة القطعیة ممکنة والموافقة القطعیة غیر ممکنة بخلاف ما نحن فیه، فأنّ کلاً منهما غیر ممکن، هناک أیضاً یُطرح هذا الشیء، أنّه لیکن الموافقة القطعیة مستحیلة فی محل الکلام، لکن لماذا لا نقول بأنّ العلم الإجمالی یُنجّز حرمة المخالفة القطعیة، فیُلتزم بهذا التبعیض، بأنّ العلم الإجمالی وإن سقط عن التنجیز بلحاظ الموافقة القطعیة، لکنّه یبقی منجزاً لحرمة المخالفة القطعیة، هناک أیضاً اعترض علیه بهذا الاعتراض، بأنّ مرجع ذلک إلی التوسط فی التکلیف، هذا التکلیف الواحد المعلوم بالإجمال إذا کان هو علّة لوجوب الموافقة القطعیة واستحالت الموافقة القطعیة یسقط هذا التکلیف رأساً، فلا معنی للتبعیض فیه بأن یقال أنّ هذا التکلیف یبقی بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة ویسقط بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة. ما نحن فیه کأنّه من هذا القبیل، غایة الأمر أنّه فی المقام تنزّل من الموافقة القطعیة المستحیلة فی محل الکلام إلی الموافقة الظنّیة، قد یقال بأنّ هذا الشیء المطروح یلزم منه التبعیض فی التکلیف والمفروض أنّ التکلیف یسقط رأساً، فلا یبقی ما یکون منجزاً للموافقة الظنّیة، یعنی بالإتیان بالطرف الواجد للمزیّة. هذا کلّه بناءً علی أن تکون المزیّة فی الاحتمال لا فی المحتمل، أمّا إذا کانت المزیّة فی المحتمل، فلها کلام آخر یأتی إن شاء الله تعالی

ص: 434

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کانّ الکلام المتقدّم کلّه فی ما إذا فرضنا أنّ المزیّة کانت فی الاحتمال، بأن کان احتمال أحد الطرفین الذین یتردد بینهما المعلوم بالإجمال کان احتماله أقوی من احتمال الآخر، الآن نتکلّم فی ما إذا کانت المزیّة فی المحتمل، بأن یکون أحدهما المعیّن أهم من الآخر، أو محتمل الأهمیة دون الآخر، فاحتمال الأهمیّة، أو العلم بالأهمیة موجود فی أحدهما المعیّن دون الآخر، مع فرض تساویهما فی الاحتمال، وإلاّ تکون المزیّة فی الاحتمال، فیدخل فی البحث السابق مع افتراض تساویهما فی الاحتمال فقط، نحتمل أو نعلم أنّ الوجوب ----------- مثلاً ---------- أهم علی تقدیر کونه هو الثابت فی الواقع هو أهم من التحریم علی تقدیر کونه ثابتاً فی الواقع، الظاهر أنّه هنا لا یأتی التفصیل السابق بین المسلکین فی العلم الإجمالی، إذا قبلنا بهذا التفصیل هناک، هناک قیل بالتفصیل بین المسلک الأوّل وهو أنّ العلم الإجمالی ینجّز الجامع وبین المسلک الثانی وهو أنّ العلم الإجمالی ینجّز الواقع، هذا التفصیل لو قبلناه هناک، فی المقام لا یجری مثل هذا التفصیل فی محل الکلام، باعتبار أنّ العقل هنا لا یحکم بالتحریم و العلم الإجمالی لیس له أیّ أثر، وهذا واضح علی المسلک الأوّل، یعنی بناءً علی أنّ العلم الإجمالی ینجّز الجامع لما تقدّم سابقاً من أنّ العلم الإجمالی علی هذا المسلک یُنجّز الجامع وحرمة المخالفة القطعیة لا وجوب الموافقة القطعیة، وکون هذا الطرف فیه مزیّة، المزیّة لا تدخله فی الجامع المنجّز بالعلم، فبناءً علی هذا المسلک تکون المسألة واضحة، حاله حال الفرض السابق بناءً علی هذا المسلک، وأمّا بناءً علی المسلک الثانی الذی یقول أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع وینجّز وجوب الموافقة القطعیة، بناءً علی هذا المسلک أیضاً کذلک، بمعنی أنّ العقل هنا لا یحکم بالتعیین، باعتبار أنّ الموافقة علی کل تقدیر هی موافقة احتمالیة.

ص: 435

وبعبارةٍ أخری: فی المقام لا یوجد عندنا درجات فی الموافقة والطاعة کما کان یُفترض بناءً علی أن تکون المزیّة فی الاحتمال، هناک کانت الطاعة لها درجات، والموافقة لها درجات، موافقة قطعیة، وموافقة ظنّیة، وموافقة وهمیّة، فهناک کان یمکن أن یقال أنّ الموافقة القطعیة إذا تعذرت واستحالت، فلا ینتقل إلی الموافقة الوهمیة، وإنّما تصل النوبة إلی الموافقة الظنّیة الحاصلة بالإتیان بذی المزیّة والعمل به، هناک کان مجالاً لهذا، أمّا فی المقام عندما تکون المزیّة فی المحتمل لا فی الاحتمال؛ بل مع فرض تساوی الاحتمالین هنا الموافقة هی دائماً موافقة احتمالیة، فی هذا الطرف الموافقة احتمالیة، وفی هذا الطرف أیضاً الموافقة احتمالیة، الموافقة القطعیة مستحیلة بحسب الفرض، فأیّ طرفٍ اخذنا به وعملنا به تکون الموافقة فیه احتمالیة، وهذا معناه أنّ الاحتمال السابق الذی کان یقال هناک لا یجری فی المقام؛ لأنّه لا توجد لدینا درجات متفاوتة بعد استحالة الموافقة القطعیة، هناک درجتان من الطاعة وهمیة وظنّیة، فیتدخّل العقل ویحکم بلزوم الموافقة الظنّیة وعدم جواز الانتقال إلی الموافقة الوهمیة، هذا فی المقام لا یجری، فکل من الطرفین فیه موافقة احتمالیة.

نعم، یبقی شیء واحد وهو احتمال مرتبةٍ أهم من التکلیف فی هذا الطرف، أننّا نحتمل مرتبة أهم من الأهمیة فی طرف الوجوب. لکن هذا الاحتمال لیس منجّزاً، نحن نتکلّم علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان الذی یعنی عدم منجّزیة الاحتمال، احتمال مرتبة أهم من التکلیف فی هذا الطرف یکون مشمولاً للتأمین وتشمله البراءة وتجری فیه البراءة، فلا یکون منجّزاً، وهذا معناه أنّ العقل لا یحکم بتعیّن العمل بالتعیین، یعنی لزوم الأخذ بذی المزیّة؛ بل یبقی التخییر علی حاله ولا یظهر من العقل أنّه یحکم فی المقام بالتعیین، والنکتة هی ما قلناه من أنّه فی المقام حتّی الاحتمال السابق علی تقدیر قبوله لا یجری فی المقام؛ لأنّ الموافقة علی کل تقدیر احتمالیة، فالموافقة فی کلٍ منهما متساویة ویبقی الباقی فقط هو احتمال الأهمیة فی هذا الطرف، احتمال أن یکون التکلیف فی هذا الطرف أهم، هذا الاحتمال لیس هناک ما ینجّزه حتّی إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالی ینجّز الواقع، الذی یبقی هو احتمال لا منجّز له؛ بل تجری فیه البراءة. لکنّ الذی یظهر من الکفایة استقلال العقل بالتعیین فیما إذا احتُمل الترجیح لأحدهما علی التعیین، یعنی احتُمل وجود مزیّة فی أحدهما المعیّن، منظور صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هو المیزة فی المحتمل لا فی الاحتمال، یقول إذا احتُملت هذه المیزة، احتُملت أهمیة أحد الطرفین العقل یستقل بالتعیین کما هو الحال فی دوران الأمر بین التخییر والتعیین، (1) فکأنّه یحاول إدخال محل الکلام فی تلک الکبری وهی دوران الأمر بین التخییر والتعیین، کما أنّ العقل هناک یحکم بالتعیین، فی محل الکلام أیضاً یحکم بالتعیین عند احتمال الأهمیّة فی أحد الطرفین. هذا هو الذی یظهر من الکفایة، لعلّ الوجه فی ذلک هو ما ورد فی کلمات المعلّقین علی کلماته، مثل المحقق العراقی(قدّس سرّه) لعل الوجه فی ذلک هو أنّ مناط الحکم العقلی بالتخییر هو فقد المرجّح، وعدم وجود مرجّح فی أحد الطرفین علی الآخر، وأمّا مع فرض وجود المرجّح؛ فحینئذٍ لا یحکم العقل بالتخییر، وإنّما یحکم العقل بالتخییر عندما یتساوی الطرفان، لا یوجد مرجّح لهذا علی ذاک، ولا لذاک علی هذا، فیحکم العقل بالتخییر، وأمّا مع وجود المرجّح، فلا موضوع لحکم العقل بالتخییر؛ لأنّ العقل إنّما یحکم بالتخییر بملاک عدم وجود المرجّح لأحد المحتملین علی المحتمل الآخر، أمّا إذا وجد المرجّح، وفی المقام هو احتمال أن یکون هذا أهم علی تقدیر کونه هو الواقع، هو الأهم فی نظر الشارع علی الآخر؛ فحینئذٍ لا حکم للعقل بالتخییر.

ص: 436


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 356.

یمکن صیاغة هذا المطلب بصورة أخری وهی أنّ العقل یحکم بالتخییر باعتبار أنّ إلزام العقل بأحدهما المعیّن هو ترجیح بلا مرجّح، فیحکم بالتخییر، الملاک هو أنّ العقل فی حالات التساوی بین المحتملین إلزام العقل بالأخذ بهذا بعینه هو ترجیح بلا مرجّح، العقل یری أنّ إلزام المکلّف بالأخذ بأحدهما بعینه فی قبال الآخر هو ترجیح بلا مرجح؛ فحینئذٍ یحکم بعدم هذا الإلزام ویحکم بالتخییر. وأمّا إذا فُرض وجود مرجّح فی أحد الطرفین؛ حینئذٍ لا یحکم العقل بالتخییر؛ لانتفاء ملاک حکمه بالتخییر؛ لأنّ ملاک حکمه بالتخییر هو أنّ إلزام المکلّف بالأخذ بأحدهما بعینه هو ترجیح بلا مرجّح، ومع وجود المرجّح ینتفی هذا الملاک، فینتفی ملاک حکم العقل بالتخییر؛ بل قد یحکم العقل بالتعیین کما هو المدّعی فی عبارة صاحب الکفایة(قدّس سرّه). (1) وبعبارة أخری: مع وجود المرجح لا یکون إلزام المکلّف بالعمل به ترجیحاً بلا مرجّح؛ بل یکون ترجیحاً بمرجّح.

هذا الوجه یمکن دفعه بأننّا نسلّم بأنّه لیکن ملاک حکم العقل بالتخییر هو عدم وجود مرجّح لأحدهما علی الآخر، أو أنّ العقل یری أنّ إلزام المکلّف بالأخذ بأحدهما ترجیح بلا مرجّح، فیحکم بالتخییر، لیکن هذا، لکن الکلام فی الحقیقة فی أنّ مجرّد احتمال الأهمیة فی أحدهما المعیّن یکون موجباً للترجیح بنظر العقل، أو لا ؟ حتّی نقول بأنّ احتمال الأهمیة إذا کان موجباً للترجیح، فالعقل هنا یقول بأنّ إلزام المکلّف به لیس ترجیحاً بلا مرجّح، فینتفی ملاک حکمه بالتخییر، احتمال أن یکون الوجوب أهم من التحریم هل هو مرجّح ؟ الکلام فی هذا ولیس الکلام فی أنّ ملاک حکم العقل بالتخییر هو استحالة الترجیح بلا مرجّح، لیکن ملاک حکم العقل بالتخییر هو هذا؛ لأنّه یری أنّ إلزام المکلّف ترجیح بلا مرجّح، وهذا محال، فیحکم بالتخییر، لکن الکلام فی تطبیق هذا الکلام علی محل الکلام، فی محل الکلام احتمال أهمیة هذا الطرف هل هو بنظر العقل مرجّح بحیث ینتفی موضوع حکمه بالتخییر، وقد یحکم بالتعیین، أو أنّه لیس مرجّحاً ویبقی حکمه بالتخییر علی حاله ؟ هذا هو محل الکلام، یمکن أن یقال بأنّ العقل لا یری ذلک مرجّحاً، مجرّد احتمال الأهمیة فی أحد الطرفین؛ لأنّه لم یحصل ما یوجب دخول هذا الطرف ذی المزیّة الذی یحتمل أهمیته فی دائرة التنجیز بحیث یکون منجّزاً بنظر العقل ویرفع یده عن حکمه بالتخییر، بعد الالتفات إلی ما تقدّم من أننّا فرضنا تساوی الطرفین فی أنّ کلاً منهما موافقة احتمالیة، ممّا یعنی أنّ نسبة العلم الإجمالی إلی کلٍ منهما نسبة واحدة، وبعد الالتفات إلی أننّا نتکلّم بناءً علی مسلک قبح العقاب بلا بیان التی تعنی عدم منجّزیة الاحتمال، أی أنّ الاحتمال لیس منجّزاً، فماذا یُدخل هذا الطرف لمجرّد کونه ذا مزیّة، باعتباره محتمل الأهمیة بحیث هذا یدخله فی دائرة التنجیز، والعقل یعتبره مرجّحاً بحیث یُلزم المکلّف بالعمل به فی قبال الآخر، ما الذی أدخله فی دائرة التنجیز ؟ لیس هناک شیء أدخله فی دائرة التنجیز، نسبة العلم الإجمالی إلی کلٍ منهما نسبة واحدة، لا یبقی إلاّ احتمال الأهمیة، احتمال أنْ یکون التکلیف فی أحدهما أهم من الآخر، هذا الاحتمال لیس منجّزاً بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، فالکلام فی أنّ هذا هل هو مرجّح، أو لا ؟ وإلاّ لا إشکال --------- مثلاً -------- فی أنّ العقل عندما یری وجود مرجّح فی أحد الطرفین لا یحکم بالتخییر؛ لأنّه لیس إلزام المکلّف بذلک الطرف حینئذٍ یکون ترجیحاً بلا مرجّح؛ بل یکون ترجیحاً مع المرجّح، لا إشکال فیه کبرویاً، لکن الکلام فی تطبیقه علی محل الکلام، أنّ احتمال الأهمیة فی أحد الطرفین بنظر العقل هل هو مرجّح، ویرفع موضوع حکمه بالتخییر، یحکم علی ضوئه بالتعیین، أو لا ؟ إذا تأملنا لا نجد شیئاً یوجب تنجّز هذا الطرف بحیث یقول العقل بأنّ هذا الطرف تنجّز علی المکلّف، فلا یجوز له الأخذ بالاحتمال الآخر؛ بل یتعیّن علیه العمل بهذا الاحتمال فی هذا الطرف؛ لأنّ المنجّز إمّا العلم الإجمالی، أو الاحتمال، والعلم الإجمالی نسبته إلی کل منهما نسبة واحدة، والاحتمال بحسب الفرض لیس من المنجّزات، فتجری البراءة، والتأمین یجری فی هذا الاحتمال، الاحتمال موجود، لکن البراءة والتأمین یجریان لنفی هذا الاحتمال وعدم إلزام المکلّف بهذا الطرف؛ بل یبقی التخییر بینهما قائماً.

ص: 437


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 356.

هذا المطلب یحتاج إلی توضیحٍ أکثر، یعنی کبری التعیین والتخییر لابدّ أن نفهم أین تنطبق ؟ وما هی مواردها ؟ حتّی نأتی إلی ما یقوله الشیخ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) من أنّ محل الکلام ما هو ظاهر عبارته یدخل فی کبری دوران الأمر بین التعیین والتخییر، مسألة دوران الأمر بین التعیین والتخییر التی یحکم العقل فیها بالتعیین بشکلٍ واضح، ما هی مواردها ؟ لابدّ من ملاحظة هذه الموارد لنری أنّ ما نحن فیه هل یدخل فی واحدٍ من هذه الموارد، أو لا ؟ المدّعی لصاحب الکفایة(قدّس سرّه) هو أنّه یدخل فی کبری دوران الأمر بین التعیین والتخییر، فالعقل الحاکم فی موارد انطباق هذه الکبری أیضاً یحکم بالتعیین فی محل الکلام، المدّعی فی المقابل أنّه لا یدخل فی شیء من موارد هذه الکبری، موارد هذه الکبری معلومة وواضحة ولا ینطبق منها شیء علی محل الکلام، إذن، محل الکلام لا یدخل تحت تلک الکبری، الموارد التی تنطبق علیها تلک الکبری ویحکم العقل علیها بالتعیین هی عبارة عن موارد تعارض النصّین، عندما یقع التعارض بین نصّین مع فرض وجود مزیة فی أحدهما دون الآخر، نفترض وجود مزیّة فی أحد الطرفین دون الطرف الآخر، فی هذه الحالة مع فرض وجود مزیة فی أحد الطرفین دون الطرف الآخر تارةً نفترض أننا نملک دلیل لفظی یدلّ بإطلاقه علی التخییر کما یدّعی أنّ هناک أدلّة فی باب الدلیلین المتعارضین تدلّ علی التخییر مطلقاً حتّی فی صورة وجود مزیّة لأحد الخبرین دون الآخر، فهی بإطلاقها تشمل حتّی هذه الحالة، بناءً علی وجود دلیلٍ لفظی یدل بإطلاقه علی التخییر حتّی فی حالة وجود مزیّة لا تصل النوبة إلی الکلام عن التعیین والتخییر فی محل الکلام؛ لأنّ دلیلاً لفظیاً شرعیاً یدل علی أنّ الحکم هو التخییر حتّی مع وجود مزیّة، فلا مسرح للعقل حینئذٍ مع وجود الدلیل اللّفظی الدال علی التخییر حتّی فی هذه الحالة، وإنّما کلامنا إذا لم یکن لدینا هکذا دلیل لفظی، إذا لم نجد دلیلاً یدل علی التخییر مطلقاً، إمّا لأننا لا نقبل ما دلّ علی التخییر أساساً، أو نقبله ولکن لا نقبل بإطلاقه وشموله لما إذا کانت هناک مزیّة، لأحد هذه الأسباب، بحیث الذی یبقی لدینا هو فقط دلیلان کلٌ منهما فی حدّ نفسه معتبر وواجد لشرائط الحجّیة بحسب الفرض، الثابت هو أنّه لا یجوز طرح کلٍ منهما، ولا یمکن للمکلّف أن یعمل بکلٍ منهما، لکن هذا لا یبررّ له طرح کلٍ منهما.

ص: 438

بعبارة أخری: أنّ الثابت لدینا هو وجوب الأخذ بأحد الدلیلین المتعارضین، فالموجود لدینا فقط هو وجوب العمل بأحدهما وعدم جواز طرحهما معاً؛ حینئذٍ نأتی إلی محل الکلام، ینفتح المجال للتعیین والتخییر؛ حینئذٍ یقال بأنّ الدلیل الواجد للمزیّة المعارض للدلیل الآخر الفاقد للمزیّة یتعیّن العمل به بحکم العقل؛ لأنّ الأمر فی المقام یدور بین التخییر والتعیین، بمعنی أنّه إمّا أن یکون الحکم هو التخییر بینهما، وإمّا أن یکون الحکم هو لزوم الأخذ بذی المزیّة الموجبة لترجیحه علی تقدیر وجود هذه المزیّة علی الطرف الآخر، فیدور أمر صاحب المزیة، أی النص الواجد للمرجّح المحتمل بین أن یکون واجباً تعییناً، أو یکون واجباً تخییراً، أن یکون واجباً بالتعیین علی تقدیر أن تکون تلک المزیة وذلک المرجّح موجود فیه، وبین أن یکون واجباً تخییراً، بینما الطرف الآخر لیس فیه هکذا دوران، الطرف الآخر الاحتمال الموجود فیه فقط هو أن یکون واجباً تخییراً؛ لأننّا لا نحتمل أهمّیته ولا نحتمل وجود مزیّة فیه، هذا هو المقصود بالأهمیة، أی وجود مرجّح فیه، نحن لا نحتمل ذلک، وإنّما الذی نحتمله هو وجود مرجّح فی هذا الطرف، إذن، علی تقدیر وجود هذا المرجّح واقعاً، فیجب العمل به فقط تعییناً علی تقدیر أن لا یکون هذا المرجّح فیه یتساوی مع الآخر، فیجب العمل به تخییراً، فیدور الأمر بین التعیین والتخییر وهنا یحکم العقل بالتعیین.

بعبارة أخری: أنّ ذا المزیة الذی یُحتمَل وجود المرجح فیه هو حجّة علی کل تقدیر، یعنی یجوز العمل به والاستناد إلیه علی کل تقدیر، سواء کانت المزیّة واقعاً موجودة فیه بحیث یجب العمل به تعییناً، أو کانت المزیة غیر موجودة فیه، فیجوز العمل به وبالآخر. إذن: هذا قطعاً حجّة یجوز الاستناد إلیه والعمل به، بینما الآخر لیس هکذا، لا نستطیع أن نقول أنّه حجّة علی کل تقدیر؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون المرجّح موجود فی ذاک الخبر، فهذا الخبر لا یکون حجّة، وإنّما علی تقدیر عدم وجود المرجّح فی ذاک الخبر؛ عندئذٍ یتساویان، فیتخیّر بینهما المکلّف، فیجوز العمل بالآخر، فإذن، الآخر لیس معلوم الحجّیة علی کل تقدیر، بینما هذا معلوم الحجّیة علی کل تقدیر، فی هذه الحالة العقل یقول أنّه یتعیّن العمل بهذا. هذا مورد من الموارد التی یتدخّل العقل ویحکم فیها بالتعیین بهذه الشرائط.

ص: 439

من الواضح أنّ هذا المورد لا ینطبق علی محل الکلام، أو قل بعبارة أخری: أنّ محل الکلام لا یدخل فی هذا المورد، بمعنی أنّ محل الکلام أجنبی عن هذا المورد، فهذا المورد یفترض وجود حجّتین، وجود دلیلین معتبرین، کلٌ منهما واجد لشرائط الحجّیة ووقع التعارض بینهما، بینما فی محل الکلام لا یوجد عندنا دلیل معتبر، الموجود عندنا فقط هو احتمال وجوب واحتمال تحریم، احتمال أن یکون الفعل واجباً واحتمال أن یکون محرّماً زائداً احتمال أهمیة فی أحد الطرفین، هذا هو الموجود لدینا، ولیس لدینا علم من الخارج بأنّه یجب العمل بکلٍ منهما، ولیس لدینا علم بجواز طرح کلٍ منهما، هذا باعتبار أنّ کلاً من الدلیلین حجّة فی حدّ نفسه تامّ الحجّیة ویجب العمل به فی حدّ نفسه، جاء هذا العلم بلزوم العمل بأحدهما، أنت لا تستطیع العمل بکلٍ منهما، لکن کما قلنا أنّ هذا لا یبررّ لک أن لا تعمل بکلٍ منهما؛ لأنّ هذا بلا مبررّ بعد أن کان کل منهما حجّة یجب العمل به، لو أمکن الجمع بینهما یجب العمل بکلٍ منهما، ولکن بما أنّه لا یمکن الجمع بینهما؛ لذا لا یمکن العمل بکلٍ منهما، ولکن هذا لا یعنی سقوط وجوب العمل عن کلٍ منهما؛ بل یجب العمل بأحدهما ولا یجوز طرحهما، هذا الشیء فی محل الکلام غیر موجود، ومن هنا لا یمکن إدخال محل الکلام فی هذا المورد.

المورد الثانی: تزاحم الواجبات. عندما یکون هناک واجبان، والمقصود بالتزاحم هو التزاحم المعروف وهو التزاحم فی مقام الامتثال مع احتمال أهمیة أحدهما المعیّن فی مقابل الآخر، هنا أیضاً یحکم العقل بالتعیین فی مقابل التخییر، وسیأتی أنّ المقام أیضاً لا یکون داخلاً فی هذا المورد حتّی یدخل فی کبری دوران الأمر بین التعیین وبین التخییر.

ص: 440

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی أنّ المقام ---------- دوران الأمر بین المحذورین ---------- فی الفرض الذی نفترضه هل یدخل فی مسألة دوران الأمر بین التعیین والتخییر التی یحکم فیها العقل بالتعیین، أو لا ؟ فرض الکلام هو ما إذا کانت هناک مزیّة لأحد الطرفین دون الآخر، فهل یدخل المقام فی دوران الأمر بین التخییر والتعیین بحیث نرفع الید عن الحکم العقلی بالتخییر ویقال بأنّ العقل فی صورة وجود المزیة یحکم بالتعیین لا بالتخییر، ذکرنا بانّ الموارد التی یحکم العقل فیها بالتعیین من موارد دوران الأمر بین التعیین والتخییر هی معلومة ومعروفة وقد تقدّم واحد- منها وقلنا أنّه لا یوجد احتمال أن یکون المقام داخلاً فی ذلک المورد.

المورد الثانی: الذی یحکم العقل فیه بالتعیین من موارد دوران الأمر بین التعیین والتخییر هو مسألة التزاحم، عندما یحصل تزاحم بین واجبین مع احتمال أن یکون أحدهما المعیّن أهم من الآخر، القاعدة فی باب التزاحم الامتثالی تقتضی أن یحکم العقل بالتخییر فی صورة التساوی، ویحکم بالتعیین فی صورة احتمال أهمیة أحد الواجبین دون الآخر؛ حینئذ نأتی إلی محل الکلام، إذا احتُملت الأهمیة، إذا کنا نعلم بأنّ أحدهما المعیّن أهم، العقل یحکم بالتعیین، امّا إذا احتملنا الأهمیة فی أحد الطرفین دون الآخر؛ حینئذٍ أیضاً قالوا بأنّ العقل یحکم بالتعیین، حکم العقل هو لزوم الأخذ بمحتمل الأهمیة، فلا یحکم بالتخییر فی هذه الحالة؛ وذلک باعتبار أنّ الأمر یدور بین تعیین محتمل الأهمیة وبین التخییر بینه وبین الطرف الآخر؛ وذلک باعتبار أنّه إذا کان هذا الطرف محتمل الأهمیة، وإذا کان هو أهم فی الواقع؛ فحینئذٍ یتعیّن الأخذ به بحسب القاعدة المقررّة فی باب التزاحم، أنّه إذا کان أحدهما أهم یتعیّن العمل به، ففی صورة احتمال الأهمیة نقول أنّ محتمل الأهمیة إمّا أن یجب الأخذ به تعییناً علی تقدیر أن یکون هو الأهم واقعاً، وعلی تقدیر أن لا یکون أهم تثبت حالة التساوی بینهما، فیجوز الأخذ به تخییراً، فیدور أمره بین التعیین وبین التخییر، بینما الطرف الآخر لیس هکذا، الطرف الآخر لا یدور أمره بین التعیین والتخییر؛ لأننا بحسب الفرض لا نحتمل أهمیته؛ بل هو إما أن یکون أقل أهمیة علی تقدیر أن یکون الآخر أهم فی الواقع، وأمّا أن یکون مساویاً للطرف الآخر علی تقدیر أن لا یکون الآخر أهم، فإذن، هذا الطرف لا یدور أمره بین التعیین والتخییر، بینما هذا الطرف یدور أمره بین التعیین والتخییر؛ وحینئذٍ یقال أنّ العقل یتدخّل ویحکم بلزوم الأخذ بمحتمل الأهمیة. عُللّ ذلک فی کلمات القائلین بالتزاحم فی هذا الباب بأنّ منشأ التزاحم بین الواجبین فی الحقیقة هو إطلاق خطاب کل واحدٍ منهما لحالة فعل الآخر وحالة ترکه، أی أنّ خطاب هذا الواجب مطلق یوجب الإتیان بمتعلّقه علی تقدیر فعل الآخر وعلی تقدیر ترکه، وهکذا الخطاب الآخر أیضاً یکون مطلقاً لحالة فعل الأوّل وحالة ترکه، وحیث أنّ المفروض أنّ المکلّف یتعذّر علیه الإتیان بکل واحدٍ من الواجبین بحسب الفرض؛ فحینئذٍ لابدّ من رفع الید عن إطلاق أحد الواجبین، فی حالات التساوی تُرفع الید عن إطلاق کل منهما؛ لأنّه فی حالة التساوی لا مرجّح لرفع الید عن إطلاق هذا فی قبال إطلاق الآخر، ویکون اختصاص أحدهما برفع الید عن إطلاقه دون الآخر ترجیح بلا مرجّح؛ ولذا یتساقط الإطلاقان فی کلٍ منهما، بینما فی حالة وجود احتمال الأهمیة فی أحد الطرفین یتعیّن سقوط إطلاق الخطاب الآخر، أمّا الخطاب الذی یدل علی وجوب هذا الواجب الذی نحتمل أهمیته لا یتعین السقوط؛ بل المتعیّن هو سقوط الخطاب الآخر؛ وذلک باعتبار أن سقوط خطاب الآخر معلوم علی کل تقدیر، أمّا محتمل الأهمیة، فسقوطه لیس معلوماً علی کل تقدیر، محتمل الأهمیة علی تقدیر أن یکون أهم فی الواقع إطلاق خطاب محتمل الأهمیة لا یسقط؛ بل یبقی شاملاً لحال الفعل الآخر وحالة ترکه؛ لأنّه أهم، فهو یوجب هذا الواجب علی المکلّف مطلقاً، سواء جاء بالواجب، أو لم یأت به، فیبقی إطلاقه علی حاله. نعم، إن لم یکن أهم؛ فحینئذٍ یسقط إطلاق خطابه بلحاظ فعل الآخر.

ص: 441

إذن: محتمل الأهمیة لا یُعلم بسقوط إطلاق خطابه علی کل تقدیر، بینما الآخر یُعلم بسقوط إطلاق خطابه علی کل تقدیر؛ لأنّ الآخر إمّا مساوٍ، وإمّا أقل أهمیة، إذا کان أقل أهمیة یسقط إطلاق خطابه ولا یکون مطلقاً یشمل حتّی حالة فعل الواجب الأهم، وفی حالة کونه مساوٍ أیضاً یسقط إطلاق خطابه، فإذن، إطلاق خطاب الطرف الآخر الذی لا یحتمل أهمیته ساقط علی کل تقدیر، بینما إطلاق خطاب محتمل الأهمیة لا نعلم سقوط إطلاقه، ومن الواضح أنّه عند الشک فی الإطلاق نتمسّک بإطلاق الخطاب ولا داعی لرفع الید عن إطلاق هذا الخطاب، ونتیجة ذلک هی أنّ خطاب محتمل الأهمیة یبقی علی حاله ویدعو المکلّف للإتیان بمتعلّقه علی کل حال، سواء جئت بالآخر، أو لم تأتِ به، یعنی هو یطلب من المکلّف أن یصرف قدرته إلی الإتیان بمتعلّقه، وبالتالی یجب علی المکلّف الإتیان بمحتمل الأهمیة.

هذا هو الحکم فی باب التزاحم، فهل یدخل محل الکلام فی هذا المورد، أو لا ؟ قالوا : من الواضح أنّه لا یدخل فی هذا المورد والمقام لیس من هذا القبیل، باعتبار أنّه هنا لا یوجد عندنا واجبان ولا خطابان ولا ملاکان، وإنّما یوجد عندنا حکم واحد، وهذا الحکم الواحد مرددّ بین الوجوب وبین التحریم؛ وحینئذٍ حتّی یدخل فی باب التزاحم ویقال أنّ الأمر یدور بین إطلاق خطاب هذا وبین إطلاق خطاب هذا، بین تقیید إطلاق خطاب هذا و بین تقیید إطلاق خطاب هذا ویأتی الکلام السابق، فی المقام یوجد عندنا علم بالإلزام مرددّ بین الوجوب وبین الحرمة، فلا مجال لجریان الکلام السابق فی محل الکلام لإثبات دخول المقام فی هذا المورد، وبالتالی إثبات أنّ العقل یحکم بالتعیین فی محل الکلام.

ص: 442

المورد الثالث: ما إذا ثبت وجوب شیءٍ وشُکّ فی أنّ وجوبه تعیینیاً، أو تخییریاً، فرضنا فی الکفارة ثبت وجوب الإطعام، لکن لا نعلم أنّ وجوب الإطعام هل هو تعیینی لا بدل له ولاعِدل، أو أنّه وجوب تخییری له عِدل یتخیّر المکلّف بینه وبین الصوم ستین یوماً، فی هذه الحالة أیضاً قالوا بأنّه فی هذه الحالة العقل یحکم بالتعیین، یعنی بوجوب الإتیان بهذا الفعل الذی ثبت وجوبه ودار أمره بین التعیین وبین التخییر، باعتبار جریان أصالة الاشتغال فی المقام؛ لأنّ المکلّف یعلم باشتغال ذمّته بالإطعام، قطعاً هو مکلّف بالإطعام وأنّ الذمّة اشتغلت بهذا الواجب، ومقتضی قاعدة الاشتغال علی ما قالوا هو أنّ الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی ولا یقین بالفراغ إلاّ بالإتیان بالإطعام، وإّلا لو اقتصر المکلّف فی مقام الامتثال علی الطرف الاخر، علی الفرد الآخر؛ حینئذٍ لا جزم بالامتثال، لا جزم بالخروج عن عهدة ذلک التکلیف، ذلک التکلیف اشتغلت الذمة به وهو الإطعام ولا جزم بالخروج عن عهدة ذلک التکلیف إلاّ بالإتیان بالإطعام، وأمّا لوجاء بالفرد الآخر الذی لا یحتمل فیه التعیین، وإنّما أقصاه أنّ وجوبه وجوب تخییری؛ حینئذٍ لا جزم بالخروج عن العهدة ولا جزم بالخروج عن الاشتغال، والاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، ولا فراغ یقینی إلاّ بالإتیان بالإطعام، ومن هنا یحکم العقل بالتعیین، أنّه یجب الإتیان بهذا الواجب الذی یدور أمره بین التعیین وبین التخییر .

هنا أیضاً نقول أنّ المقام لا یدخل فی هذا المورد کما هو واضح جدّاً، باعتبار أننا فی المقام لا یوجد لدینا وجوب معلوم الثبوت ویدور أمره بین التعیین وبین التخییر، عندنا علم إجمالی بالإلزام یدور أمره بین الوجوب وبین الحرمة، کیف یمکن أن نتصوّر جریان ما ذُکر فی المورد الثالث فی محل الکلام. هذا توضیح فی الحقیقة للجواب المتقدّم، وهو أنّه فی المقام الظاهر أنّ الحکم العقلی بالتخییر باقٍ علی حاله لا یتغیّر فی صورة وجود المزیّة، کما کان العقل یحکم بالتخییر فی صورة عدم وجود المزیّة، کذلک یحکم بالتخییر فی صورة وجود المزیة من دون فرقٍ بین أن تکون المزیة بلحاظ الاحتمال، أو تکون بلحاظ المحتمل. هذا کلّه بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان وعدم منجّزیة الاحتمال، وأنّ المنجّز منحصر بالعلم، أو ما یقوم مقامه.

ص: 443

وأمّا علی المسلک الآخر الذی یری منجّزیة الاحتمال، فالظاهر أنّ الأمر یختلف تماماً، بمعنی أنّه بناءً علی هذا المسلک إذا احتملنا وجود المزیّة من دون فرق بین أنْ تکون المزیّة هی قوة الاحتمال، أو تکون هی أهمّیة المحتمل، إذا احتملنا ذلک؛ حینئذٍ بناءً علی مسلک حق الطاعة الظاهر أنّ العقل یحکم بالتعیین ولا یحکم بالتخییر، ویختص الحکم بالتخییر فی صورة عدم وجود هذه المزیة، أمّا مع وجود هذه المزیة، فالعقل یحکم بالتعیین، والسرّ فیه هو أنّه علی هذا المسلک الاحتمال یکون منجّزاً، والتنجیز لا ینحصر بالعلم، وما یقوم مقامه؛ بل الاحتمال أیضاً یکون منجّزاً؛ حینئذٍ المزیة فی الاحتمال، أو المزیة فی المحتمل، هذا الاحتمال الذی یختص به هذا الطرف، أهمیة الملاک المحتملة فی هذا الطرف تکون منجّزة بناءً علی أنّ الاحتمال یکون منجّزاً، التنجیز الذی یثبت فی المقام لیس لأصل الاحتمال الموجود فی هذا الطرف؛ لأنّه لا معنی لذلک؛ لأنّه هو فی مقابل احتمال آخر ولا مجال لترجیحه علی الاحتمال الآخر، وإنّما التنجیز یکون لهذه الزیادة الموجودة فی الاحتمال، أو للملاک الزائد المحتمل فی هذا الطرف، إذا کانت المزیة موجودة فی المحتمل لا فی الاحتمال، احتمال الملاک الزائد، أو الاحتمال الزائد فی أحد الطرفین عندما یقال أنّ المزیة موجود فی الاحتمال یعنی أنّ درجة الاحتمال فی هذا الطرف أکثر من درجة الاحتمال فی هذا الطرف، هذا الاحتمال الزائد هو الذی یکون منجّزاً، هذا الملاک الزائد الذی نحتمله فی هذا الطرف دون الطرف الآخر والتی یعبّر عنها بالأهمیة، هذا هو الذی یکون منجّزاً بناءً علی مسلک قاعدة حق الطاعة؛ لأنّ الاحتمال مطلقاً یکون منجّزاً، وبناءً علیه، حینئذٍ یکون هذا منجّزاً لهذا الطرف؛ وحینئذٍ لا تتساوی نسبة العلم الإجمالی إلی کلٍ منهما، وهذا یختص بوجود منجّز غیر موجود فی الطرف الآخر، لو بقینا نحن والعلم الإجمالی قلنا أن نسبته الی کل واحدٍ منهما نسبة واحدة، فلا یختص أحدهما بالمنجّزیة المستمدّة من العلم الإجمالی دون الآخر؛ لأنّ نسبة العلم الإجمالی إلی کلٍ منهما علی حدٍ سواء، لکن المنجّز لا یختص بالعلم الإجمالی، بناءً علی هذا المسلک، لا یختص بالعلم، وإنّما أیضاً الاحتمال منجّز، هذا یوجد فیه احتمال، إمّا بلحاظ قوة الاحتمال، أو بلحاظ قوة المحتمل، هذا الاحتمال یکون منجّزاً علی هذا المسلک، فتنقلب النتیجة، فیحکم العقل فی المقام بالتعیین ویُفرّق بین وجود مزیّة وبین عدم وجود مزیّة. هذا کلّه فی المقام الأوّل، وهو ما إذا کان الدوران بین الوجوب والتحریم مع کون کلٍ منهما توصّلیاً.

ص: 444

المقام الثانی: وهو ما إذا کان أحدهما علی الأقل تعبّدیاً، طبعاً مع افتراض وحدة الواقعة؛ لأنّ افتراض تعدد الواقعة سیأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی فی المقام الثالث والرابع.

مثّلوا لذلک بالمرأة التی تشک فی الدم التی یدور أمرها بین أن تکون حائضاً وبین أن تکون طاهراً، مرّة تحرز أحد الأمرین بمحرز کالاستصحاب، هذا خارج عن محل کلامنا، فرضنا أنّها لا یمکن أن تحرز أحد الأمرین لا الحیض ولا الطهارة، وأیضاً لابدّ أن نفترض أنّه بناءً علی الحرمة النفسیة للصلاة بالنسبة إلی الحائض بمعنی أنّ نفس العمل یکون محرّماً علی الحائض، ولو جاءت به من دون قصد التقرّب، یعنی الحرمة لیست من جهة التشریع، وإنّما هو نفس العمل محرّم علی الحائض، فی هذه الحالة یدخل هذا المثال فی محل الکلام؛ لأنّ هذه المرأة تعلم بالإلزام الذی یدور أمره بین الوجوب وبین الحرمة، الصلاة إمّا واجبة علیها إذا کانت طاهرة والوجوب تعبّدی، أو تکون محرّمة علیها الصلاة إذا کانت حائضاً حرمة نفسیة ولیست تعبّدیة، فیدور أمرها بین وجوب الصلاة علی نحو قربی وبین حرمة الصلاة، فالفعل الواحد یدور أمره بین الوجوب والتحریم، لکن مع کون الوجوب وجوباً تعبّدیاً.

ما یختلف به هذا المقام عن المقام الأوّل هو أنّه فی المقام المخالفة القطعیة تکون ممکنة، فی المقام الأوّل قلنا أنّ المکلّف لا یتمکن من الموافقة القطعیة کما لا یتمکن من المخالفة القطعیة، والسبب فی عدم تمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة هو أنّ المکلّف لا یخلو من الفعل، أو الترک، والفعل فیه موافقة احتمالیة والترک أیضاً فیه موافقة احتمالیة، فلا یتمکن من المخالفة القطعیة، کما لا یتمکن من الموافقة القطعیة. أمّا فی المقام فهو یتمکن من المخالفة القطعیة؛ وذلک بأنْ یفعل بلا قصد القربة، هذه المرأة إذا صلّت صلاة بلا قصد القربة، فهذه مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال لأنّ الفعل --------- الصلاة ---------- إن کانت واجبة علیها فقد لم تأتِ بها؛ لأنّ الصلاة الواجبة علیها هی الصلاة القربیة، وهی صلّت بلا قصد القربة، فخالفت الوجوب. وإنْ کانت الصلاة محرّمة فقد جاءت بها، أیضاً خالفت التحریم، فإذن هی تتمکن من المخالفة القطعیة لهذا التکلیف المعلوم بالإجمال. نعم، لا تتمکن من الموافقة القطعیة، لا یمکنها أن توافق التکلیف قطعاً، فإذن: الذی یتمیّز به هذا المقام هو التمکّن من المخالفة القطعیة، بینما هناک فرضنا استحالة المخالفة القطعیة.

ص: 445

ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) وغیره أیضاً، وأظن أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أیضاً یذهب إلی ذلک، أنّ مثل هذا العلم الإجمالی الذی لا یتمکّن المکلّف من موافقته القطعیة ویتمکن من مخالفته القطعیة، یحکم العقل بحرمة مخالفته القطعیة وإن کان لا یحکم بوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ المفروض عدم التمکّن منها وعدم القدرة علیها، ویحکم بحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ المفروض قدرة المکلّف علیها، فالعلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة ولا ینجّز وجوب الموافقة القطعیّة، باعتبار أنّ هذا العلم الإجمالی قابل لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة، ولا محذور فیه ولا موجب لإلغاء هذا التنجیز، فیُحکم بمنجّزیة هذا العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، وإن کان لا یُحکم بمنجّزیته لوجوب الموافقة القطعیّة. وذکروا فی شرح هذا أنّ هذا یدور مدار القدرة، یعنی حکم العقل بالمنجّزیة یدور مدار قدرة المکلّف، إذا استحال علیه کل منهما لا یکون مثل هذا العلم الإجمالی منجّزاً لأی شیء کما فی المقام الأوّل، وإذا تمکّن المکلّف من کلٍ منهما، هذا العلم الإجمالی ینجّز علیه کلاً منهما، وجوب الموافقة القطعیّة وحرمة المخالفة القطعیة، أمّا إذا تمکّن المکلّف من أحدهما وعجز عن الآخر، فالعلم الإجمالی ینجّز بمقدار ما یقدر علیه المکلّف، وحیث أنّ المفروض فی المقام القدرة علی المخالفة القطعیة، فالعلم الإجمالی یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة دون الموافقة القطعیة.

وبعبارة أخری: أنّ المکلّف فی محل الکلام مضطر إلی ترک أحد الطرفین لا بعینه؛ لأنّه غیر قادر علی الجمع بینهما، إذن: هو مضطر إلی فعل أحدهما لکن لا بعینه؛ لأنّ منشأ الاضطرار هو عدم القدرة علی الجمع بین الشیئین، وهذا إذا کان منشأ الاضطرار هو عدم القدرة علی الجمع بین الشیئین فهو یعنی الاضطرار إلی أحدهما لکن لا أحدهما المعیّن، وإنّما الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه، فالمکلّف فی محل الکلام لعدم قدرته علی الجمع بین الفعل والترک، إذن هو مضطر إلی ترک أحدهما لا بعینه، إذا ثبت هذا؛ فحینئذٍ یدخل فی مسألة ما إذا اضطر المکلّف فی موارد العلم الإجمالی إلی أحد الطرفین أو الأطراف لا بعینه، هنا قالوا بأنّ العلم الإجمالی یُنجّز الطرف الآخر، أیّ طرفٍ یرفع الاضطرار یکون الطرف الآخر منجّزاً علیه، لو علم بنجاسة إناءین واضطر إلی شرب أحدهما والاضطرار یرتفع باستعمال واحدٍ من الإناءین لا بعینه، لکن الطرف الآخر یبقی علی منجّزیته؛ لأنّ العلم الإجمالی فی هذه الحالة، وإن لم ینجّز وجوب الموافقة القطعیة لهذا الاضطرار، لکنّه ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، رفعت اضطرارک لتناول هذا الماء، فلماذا تتناول الآخر ؟ لا موجب لتناول الآخر؛ لأنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة؛ ولذا قالوا لا یجوز ارتکاب الآخر، ما نحن فیه أدخلوه فی هذا الباب؛ لأنّه هنا یوجد اضطرار إلی أحد الطرفین للعلم الإجمالی لا بعینه لعدم قدرة المکلّف علی الجمع بینهما، فهو مضطر إلی أحد الطرفین لا بعینه، وهذا غایة ما یسقط هو وجوب الموافقة القطعیة، وأمّا حرمة المخالفة القطعیة، فتبقی علی حالها والعلم الإجمالی یکون منجّزاً لها. هذا هو الذی ذکروه، لکن بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة، فبالتالی هذا المکلّف لا تجب علیه الموافقة القطعیة، لکن تحرّم علیه المخالفة القطعیة، وهذا معناه التخییر بین الطرفین، إمّا أن تأتی بهذا الطرف، أو تأتی بهذا الطرف الآخر، لکن لا یجوز له أن یأتی بالمخالفة القطعیة الممکنة فی المقام فی المثال السابق بأن تصلی صلاة بدون قصد القربة، هذا لا یجوز لها؛ لأنّه مخالفة قطعیة، وإنّما هی تتخیر بین الفعل مع قصد القربة وبین الترک، أمّا أن تصلی بلا قصد القربة، فهذه مخالفة قطعیة لا تکون جائزة والعلم الإجمالی ینجّزها.

ص: 446

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی المقام الثانی فی ما إذا کان أحد المحتملین تعبّدیاً علی تقدیر ثبوته فی الواقع یکون تعبّدیاً، قلنا أنّ العنصر الإضافی الذی یوجد هنا ولا یوجد فی المقام الأوّل هو التمکّن من المخالفة القطعیة؛ وحینئذٍ وقع الکلام فی أنّ العلم الإجمالی فی المقام هل یسقط عن المنجّزیة کما فی المقام الأوّل ؟ أو لا یسقط مطلقاً عن المنجّزیة، وإنّما یبقی علی منجّزیته لحرمة المخالفة القطعیة، وإن کان لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة لعدم قدرة المکلّف علیها، لکنّه قادر علی المخالفة القطعیة، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة، وهذا هو الذی یُسمّی بالتوسّط فی التنجیز باصطلاحهم، بمعنی أنّ التکلیف یبقی علی ثبوته الواقعی، ولکنّه فی مرحلة التنجیز یتبعض، یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة، ولا یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، فالتبعّیض یکون فی التنجیز لا فی التکلیف نفسه، فی مقابل التوسّط فی التکلیف الذی أشرنا إلیه سابقاً وهو أن یکون هناک تبعیض فی نفس التکلیف، بمعنی أنّ التکلیف یکون ثابتاً بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة ویکون موجباً لحرمة المخالفة القطعیة، یعنی أنّ العلم الإجمالی به یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة، بینما لا یکون هناک تکلیف بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، هذا التوسّط فی التکلیف الذی هو عبارة أخری عن تحوّل الواجب من کونه واجباً تعیینیاً إلی کونه واجباً تخییریاً، یعنی فی الواقع یتحوّل، الواجب یتبدّل واقعاً ویتحوّل واقعاً من کونه واجباً تعیینیاً إلی کونه واجباً تخییریاً، هذا الذی یُعبّر عنه بالتوسّط فی التکلیف، فکلامنا لیس فی التوسّط فی التکلیف، وإنّما فی التوسّط فی التنجیز، هذا الکلام الذی قلناه هو عبارة أخری عن التوسّط فی التنجیز، بمعنی أنّ التبعیض یکون فی مرحلة التنجیز، وأمّا أصل التکلیف، فیبقی علی ما هو علیه فی الواقع ولا یتبدّل ولا یتحوّل ولا یتبعّض، لکن فی مرحلة التنجیز یکون هناک تبعیض فی مرحلة التنجیز، لا مانع من أن یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة، نعم، الموافقة القطعیة غیر قادر علیها المکلّف، فلا یکون مثل هذا العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، ومن الواضح أنّ معنی هذا الکلام هو حرمة المخالفة القطعیة علی المکلّف، ولکن لا یتنجّز علیه وجوب الموافقة القطعیة، معنی ذلک أنّ العقل یحکم حینئذٍ بالتخییر بین الفعل وبین الترک، یعنی بین الفعل القربی، وبین ترک الفعل، التخییر یکون بین أن یصلّی صلاة قربیة وبین أن یترک الصلاة، هو مخیّر بینهما. أمّا أن یصلّی بلا قصد القربة، فهذه مخالفة قطعیة، والمفروض أنّ العلم الإجمالی فی المقام نجّز حرمة المخالفة القطعیة، أن یصلّی بلا قصد القربة، هذه مخالفة قطعیة للوجوب کما قلنا؛ لأنّ الوجوب علی تقدیر ثبوته فی الواقع هو عبادی قربی، وهو خالفه؛ لأنّه جاء بالفعل بلا قصد القربة، ومخالفة أیضاً للحرمة؛ لأنّ الحرمة علی تقدیر ثبوتها قد خالفها؛ لأنّه جاء بالفعل، بینما المفروض أنّ الحرمة تطلب منه ترک الفعل، والمفروض أنّ الحرمة لیست عبادیة لا یعتبر فیها قصد القربة؛ فحینئذٍ مخالفتها تتحقق بالإتیان بالفعل وهو قد جاء بالفعل، ولو بلا قصد القربة، فیتخیّر المکلّف بین هذین الأمرین، لکن لا یُسمح له بالمخالفة القطعیة التی تتمثل فی المقام بالإتیان بالفعل بلا قصد القربة.

ص: 447

من هنا یظهر أنّه بحسب النتیجة أنّ المقام الثانی یتفق مع المقام الأوّل فی أنّ کلاً منهما قلنا العقل یحکم فیه بالتخییر، نعم، جهات البحث فی المقامین قد تکون مختلفة، بمعنی أنّ ما قیل هناک من الوجوه المحتملة، أو المقبولة فی المقام الأوّل لا تجری فی محل الکلام؛ ولذا استدعی الأمر التفریق بینهما وبحث کلٍ منهما علی حدة، الوجوه التی ذکرت فی المقام الأوّل لا تجری فی محل الکلام، مثلاً هناک طُرح احتمال جریان البراءة، واحتمال جریان الاستصحاب، وهذا مقبول عند کثیر من المحققین، بینما فی محل الکلام لا مجال لاحتمال أن تجری البراءة فی محل الکلام، باعتبار أنّ إجراء البراءة فی الطرفین یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة والمفروض أنّ الکلام فی أنّ المکلّف قادر علی المخالفة القطعیة، والمفروض أنّ العلم الإجمالی ینجّز المخالفة القطعیة، فهنا لا مجال لأن تجری البراءة فی الطرفین، بینما بقطع النظر عن المحاذیر، لا مانع مبدئیاً أن تجری البراءة فی الطرفین؛ لما تقدّم من أنّ موضوعها متحقق فی کلٍ من الطرفین وهو الجهل، هو یجهل بالوجوب ویجهل بالحرمة، فیتحقق موضوع البراءة، وجریان البراءة فی الطرفین لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیّة؛ لأنّه غیر متمکّن من المخالفة القطعیة، بینما فی المقام لا یمکن الالتزام بجریان البراءة، أو الاستصحاب فی کلٍ من الطرفین؛ لأنّ ذلک یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، التخییر طُرح فی المقام الأوّل کاحتمال، وکان التخییر العقلی هناک بملاک أنّ المکلّف مضطر إلی ارتکاب أحد الأمرین من الفعل، أو الترک، أحدهما حاصل قهراً؛ حینئذٍ العقل یحکم بالتخییر بمعنی اللاحرجیة العقلیة علی ما ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) التخییر الطبعی، أو التخییر التکوینی، (1) وقلنا أنّ التخییر هناک لیس بمعنی الإلزام بأحد الأمرین، وإنّما باعتبار أنّ المکلّف لا یخلو من الفعل، أو الترک، أحدهما حاصل قهراً، بینما التخییر فی محل الکلام هو التخییر بمعنی الإلزام بأحد الأمرین فراراً عن المخالفة القطعیة؛ لأنّه إن لم نلزمه بأحد الأمرین حینئذٍ یجوز له الإتیان بالفعل بلا قصد القربة، وهذه مخالفة قطعیة، فلأجل أن لا یقع فی محذور المخالفة القطعیة یلزم بالإتیان بأحد الطرفین، فالتخییر هنا بمعنی الإلزام بأحد الطرفین، بینما التخییر کان هناک لا بمعنی الإلزام بأحد الطرفین؛ إذ لا یُعقل الإلزام بأحد الطرفین فی المقام الأوّل؛ لأنّ أحد الطرفین حاصل قهراً ولا معنی للإلزام بما هو حاصل، وإنّما کان التخییر هناک بمعنی اللاحرجیة العقلیة بمعنی التخییر الطبعی والتخییر التکوینی، وهذا یستدعی إفراد کلٍ منهما ببحث مستقل، وإن کانا یلتقیان بالنتیجة وهی أنّ العقل یحکم بالتخییر بین الطرفین، لکن بملاکات متعدّدة ومختلفة علی ما بیّنا.

ص: 448


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص445.

ثمّ أنّه ذکرنا فی الدرس السابق أنّ المقام یدخل فی باب الاضطرار إلی أحد الطرفین، أو الأطراف لا بعینه، وإن کان الفرق بینهما هو أنّ سبب الاضطرار فی محل الکلام هو العجز التکوینی، المکلّف مضطر إلی ارتکاب أحدهما لا بعینه باعتبار العجز التکوینی؛ لأنّه غیر قادر علی الجمع بینهما کما أنّه غیر قادر علی ترکهما فی محل الکلام ---------- دوران الأمر بین المحذورین ------------ فمن باب العجز التکوینی یکون هناک اضطرار إلی أحدهما لا بعینه، بینما فی مسألة الاضطرار، الکلّیة التی تُبحث فی باب العلم الإجمالی کما سیأتی، هناک الاضطرار لم یکن بسبب العجز التکوینی، وإنّما هو اضطر إلی شرب هذا الماء؛ لأنّه عطشان یرید أن یرفع عطشه، لیس من باب العجز التکوینی، وإنّما هو من باب أمور أخری، لکن علی کل حال یتحقق الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه فی محل الکلام، باعتبار أنّ المکلّف مضطر إمّا إلی الفعل، وإمّا إلی الترک؛ لأنّه غیر قادر علی الإتیان بهما معاً، عدم قدرته علی الجمع بینهما یجعله مضطرّاً إلی مخالفة أحد الأمرین، إمّا الوجوب، وإمّا التحریم، هو غیر قادر علی الجمع بینهما تکویناً، أن یفعل ویترک، هذا غیر مقدور له فی المقام.

وبعبارةٍ أخری: أنّ المکلّف مضطر إلی مخالفة أحد المحتملین، إمّا أن یخالف الوجوب، فیترک، أو یخالف التحریم، فیفعل، فهو مضطر إلی مخالفة أحد المحتملین فی محل الکلام، هذا الاضطرار لیس إلی أحدهما بعینه، وإنّما هو مضطر إلی مخالفة أحدهما لا بعینه، ومن هنا تدخل المسألة فی کبری الاضطرار إلی أحد الطرفین، أو الأطراف لا بعینه، وإن کان جهة الاضطرار هی العجز التکوینی فی محل الکلام، لکن هذا لا یوجب الفرق بینهما، فیدخل فی تلک المسألة، وبناءً علی ذلک من یختار فی مسألة الاضطرار إلی بعض الأطراف لا بعینه، من یختار تنجیز العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة الذی ینتج عدم جواز فعل الطرف الآخر الذی لا یرفع الاضطرار؛ لأنّ الاضطرار رُفع بالفعل الأوّل، المکلّف مضطر إلی ارتکاب أحدهما، فإذا ارتکب أحدهما لماذا نجوّز له ارتکاب الآخر ؟ فالعلم الإجمالی یکون منجّزاً للفرد الآخر، یعنی هو رفع اضطراره بفردٍ، وجوّزنا له هذا لمکان الاضطرار، لکن العلم الإجمالی ینجّز الآخر ویمنعه من ارتکابه، إن قلنا فی تلک المسألة بأنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة التی تعنی عدم جواز ارتکاب الطرف الآخر؛ حینئذٍ لابدّ أن نقول بذلک فی محل الکلام؛ لأنّ هذا هو معنی أنّ المقام یدخل فی مسألة الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه، إذا قلنا هناک بمنجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ لابدّ أن نلتزم بذلک فی محل الکلام، هنا أیضاً نقول لا یجوز له المخالفة القطعیة؛ لأنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 449

وأمّا إذا قلنا هناک فی أصل المسألة بأنّ العلم الإجمالی لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة کما لا ینجّز الموافقة القطعیة، العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة رأساً، فلا یکون منجّزاً لشیء منهما لا لوجوب الموافقة القطعیة ولا حرمة المخالفة القطعیة، ففی هذه الحالة أیضاً لابدّ أن نقول بذلک فی محل الکلام؛ لأنّ المفروض أنّ المقام یدخل فی مسألة الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه، فما یُختار هناک لابدّ أن یُطبّق فی المقام. ومن هنا استشکل علی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فأنّه فی محل الکلام ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام وإن سقط عن التنجیز بلحاظ الموافقة القطعیة، لکنّه فی مسألة الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه هناک ذهب إلی أنّ الاضطرار یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة رأساً، فلا ینجّز حتی حرمة المخالفة القطعیة، لکن هنا ذهب إلی أنّه ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فمن هنا استشکل علیه بأنّه لماذا میّزت بینهما ؟ وما هو الفرق بینهما ؟ طبعاً الوجه الذی ذکره صاحب الکفایة(قدّس سرّه) هناک لسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة فی صورة الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه هو أنّه یقول فی الکفایة:(أنّ الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه یوجب الترخیص فی ارتکاب أحد الطرفین تخییراً). (1) فی تلک المسألة اضطر إلی ارتکاب أحد الطرفین، هذا الاضطرار یوجب الترخیص للمکلّف فی ارتکاب أحد الطرفیین تخییراً، وهذا واضح حیث أنّ أی طرف یختاره یرفع به اضطراره یکون حلالاً، فهو مرخّص فی أن یرفع اضطراره بهذا الطرف، وأیضاً مرخّص فی أن یرفع اضطراره بالطرف الآخر. إذن: الاضطرار یوجب الترخیص فی ارتکاب أحد الطرفین تخییراً، وهذا الترخیص الثابت لأحد الطرفین تخییراً ثابت علی کل حال مطلقاً --------- کما یُعبّر ---------- ومطلقاً یعنی وإن صادف الحرام، یعنی حتّی لو کان ما اختاره المکلّف لرفع اضطراره هو الحرام الواقعی، هو مرخّص فیه ویکون حلالاً له، فکأنّه یقال له: تخیّر بین الطرفین وکلّ طرف تختاره، سواء اخترت هذا الطرف، أو اخترت هذا الطرف یکون حلالاً لک، وإن کان هو الحرام واقعاً. یقول: الترخیص فی أحد الطرفین بهذا الشکل تخییراً علی کل حال وإن کان هو الحرام الواقعی ینافی التکلیف المعلوم بالإجمال بأنّ أحدهما حرام، هذا التکلیف المعلوم بالإجمال تکون هناک منافاة بینه وبین الترخیص فی ارتکاب أحد الطرفین تخییراً حتّی لو کان هو الحرام واقعاً، یقول: یقع بینهما منافاة لاحتمال انطباق الحرام علی ما یختاره المکلّف الذی هو جائز بلا إشکال، فما یختاره المکلّف لرفع اضطراره جائز وحلال له، بینما یحتمل أن یکون هو الحرام المعلوم بالإجمال، وهذا یکون مستلزماً لأنّ المکلّف لا یعلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر. هذه هی الجهة التی تکون مانعة من الالتزام بمنجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة فی المقام، وهی أنّ المکلّف علی کل تقدیر لا یعلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر؛ لأنّه یحتمل أن یکون ما اختاره لرفع اضطراره هو الحرام واقعاً، علی هذا التقدیر؛ حینئذٍ یکون هذا الطرف الذی اختاره حلالاً له، فهو لا یعلم بالحرمة علی کل تقدیر؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون الحرام الواقعی منطبقاً علی ما اختاره، فلیست هناک حرمة فعلیة، التکلیف لا یکون فعلیاً لمکان الاضطرار علی تقدیر أن یکون الحرام هو ما اختاره، فإذن: علی تقدیر أن یکون الحرام هو ما اختاره التکلیف لا یکون فعلیاً؛ لأنّ الحرمة لا تکون فعلیة، إذا التفت إلی الطرف الآخر هناک شکّ بدوی فی التکلیف الفعلی، فتجری الأصول المؤمّنة.

ص: 450


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 360.

وبعبارة أخری: یشترط فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون التکلیف فعلیاً علی کلا التقدیرین، أن یعلم المکلّف بالتکلیف الفعلی، سواء وجد فی هذا الطرف، أو فی هذا الطرف؛ عندئذٍ یکون العلم الإجمالی منجزاً لحرمة المخالفة القطعیة، أمّا إذا کان هو یعلم بأنّ التکلیف لیس فعلیا علی تقدیر، وإنّما یکون فعلیاً علی التقدیر الآخر، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً؛ لأنّه لیس علماً بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، الحرام الواقعی إن کان فی هذا الذی اختاره فهو لیس فعلیاً. نعم إذا کان فی الطرف الآخر یکون فعلیاٍ، هذا التقدیر مشکوک عنده، هذا مجرّد تقدیر ومجرّد افتراض، أن یکون الحرام منطبقاً علی الفرد الآخر الذی لا یرتفع به اضطراره، هذا مجرّد تقدیر واحتمال، فیکون التکلیف الفعلی فی هذا الطرف الآخر مجرّد احتمال، فتجری فیه الأصول المؤمّنة. ومن هنا یقول لا تحرم المخالفة القطعیة؛ لأنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة بهذا الاعتبار.

الذی یُستفاد من کلامه أنّ نکتة عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی باب الاضطرار هی أنّ الاضطرار یوجب الترخیص فی ارتکاب أحد الطرفین تخییراً، ولو صادف الحرام الواقعی، ولا إشکال بأنّه علی تقدیر مصادفته للحرام الواقعی یکون حلالاً لا تکون الحرمة فیه فعلیة لمکان الاضطرار. النتیجة هی أنّ المکلّف لا یعلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر، یعنی علی تقدیر أن یکون الحرام فی هذا الطرف، أو یکون الحرام فی هذا الطرف، وإنّما هو یعلم بعدم التکلیف الفعلی علی تقدیر أن یکون الحرام فی هذا الطرف الذی اختاره. نعم، یکون فعلیاً علی تقدیر أن یکون الحرام فی الطرف الآخر، لکن فی الطرف الآخر فعلیة التکلیف مبنیّة علی تقدیر مشکوک وهو أن یکون الحرام موجوداً فی هذا، ولکن من قال أنّ الحرام موجود فی هذا الطرف ؟ هناک احتمال أن یکون الحرام موجود فی الطرف الذی اختاره، إذن: هو شکّ فی التکلیف، فتجری فیه الأصول المؤمّنة، ومن هنا لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً. هذا هو الذی ذکره فی الکفایة.

ص: 451

حینئذٍ فی مقام الإشکال علی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) قالوا: ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّ المفروض فی محل الکلام أنّ المکلّف غیر قادر علی الموافقة القطعیة، وغیر قادر علی أن یجمع بین الفعل والترک، وإنّما هو مضطر إلی مخالفة أحد المحتملین، إمّا أن یخالف الوجوب المحتمل، وإمّا أن یخالف الحرمة المحتملة، فإذن: هو بالنتیجة مضطر إلی ارتکاب إحدی المخالفتین، إمّا مخالفة الوجوب، أو مخالفة التحریم، وهذا اضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه؛ وحینئذٍ إذا فرضنا الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة حتّی بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة؛ فحینئذٍ لابدّ من الالتزام بذلک فی محل الکلام کما التزمت به فی مسألة الاضطرار لابدّ أن تلتزم به فی محل الکلام. هذا هو الإشکال الذی وجّه إلی صاحب الکفایة(قدّس سرّه) باعتبار أنّ المقام یدخل فی مسألة الاضطرار، هناک کلام وخلاف معروف فی مسألة الاضطرار بین صاحب الکفایة وغیره کالمحقق النائینی والسید الخوئی(قدّست أسرارهم)، صاحب الکفایة یری أنّ العلم الإجمالی فی باب الاضطرار یسقط عن التنجیز، فإذا اضطر المکلّف إلی أحد الطرفین لا بعینه یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، فحتّی لو رفع المکلّف اضطراره بأحد الطرفین یجوز له فعل الآخر، یجوز له أن یجری الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر؛ ولذا لا یُفرقّ صاحب الکفایة بین الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه وبین الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه، یقول: کل منهما یکون موجباً لسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، هذا هو رأیه، فی المقابل المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) وغیره یرون أنّ الاضطرار لا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة رأساً، وإنّما التزم بالتوسط فی التنجیز وأنّه یسقط عن المنجّزیة بلحاظ الموافقة القطعیة ویبقی علی التنجیز بلحاظ المخالفة القطعیة.

ص: 452


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 257.

سیأتی الکلام فی هذه المسألة، لکن مبانی المسألة الأساسیة من دون الدخول فی التفاصیل فی الحقیقة هی الاختلاف فی مسألة العلم الإجمالی وأنّ العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، أو أنّه لیس علّة تامّة ؟ وإنّما فیه اقتضاء وجوب الموافقة القطعیة. هذه هی مبانی المسألة الرئیسیة، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة؛ حینئذٍ یکون الترخیص فی بعض الأطراف منافیاً لنفس العلم الإجمالی، ویسقط العلم الإجمالی حینئذٍ عن المنجّزیة باعتبار أنّ الاضطرار یستلزم الترخیص فی بعض الأطراف، وهذا ینافی العلم الإجمالی الذی فرضنا وفرغنا عن کونه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة وحرمة المخالفة القطعیة، إمّا باعتبار نفس المنافاة نأخذها بنظر الاعتبار، أنّ نفس الترخیص الذی یستلزمه الاضطرار یکون منافیاً للعلم الإجمالی بالتکلیف بناءً علی العلّیة التامّة، العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة ولوجوب الموافقة القطعیة، فالترخیص فی أحد الطرفین یکون منافیاً له، کیف یکون هذا علّة تامّة لهذین الأمرین، بینما یثبت الترخیص فی أحد الطرفین ؟ هذان لا یمکن الجمع بینهما؛ ولذا عندما یثبت الترخیص قطعاً کما هو المفروض فی محل الکلام؛ لأنّ هناک اضطرار بحسب الفرض، لابدّ من الالتزام بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، إمّا بهذا الاعتبار، وإمّا بما یُفهم من کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أو قد یُفسّر کلامه به وهو مسألة أنّه یشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، یعنی ینجّز معلومه سواء تحقق فی هذا الطرف، أو تحقق فی هذا الطرف؛ عندئذٍ یکون العلم الإجمالی منجّزاً، وفی محل الکلام العلم الإجمالی لیس منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر؛ لأنّه علی أحد التقدیرین لا یکون منجّزاً لمعلومه وهو ما إذا کان الحرام منطبقاً علی الطرف الذی اختاره المکلّف لرفع اضطراره فیسقط العلم الإجمالی عن التنجیز. وأمّا بناء علی القول بالاقتضاء، فسیأتی الکلام فیه إن شاء الله تعالی

ص: 453

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی المقام الثانی فی ما إذا فرضنا أنّ أحد المحتملین کان تعبّدیاً ولنفترض أنّه الوجوب، الوجوب المحتمل فی المقام کان وجوباً تعبّدیاً لا یسقط إلاّ بالإتیان بالفعل علی وجه قربی.

الکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالی فی هذه الحالة، لا إشکال فی أنّه لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، باعتبار عدم التمکن وعدم القدرة علی الموافقة القطعیة، لکن هل ینجّز المخالفة القطعیة ؟ باعتبار التمکن منها بالإتیان بالفعل بلا قصد القربة، أو أنّه لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة ؟ والثمرة تظهر فی جواز الإتیان بالطرف الآخر، والمقصود من الطرف الآخر هو الطرف الذی لا یرفع المکلّف اضطراره به، المکلّف یرفع اضطراره بأحد الطرفین، الطرف الآخر الذی لا یرفع المکلّف اضطراره به، الأثر العملی لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة، أو عدم تنجیزها یظهر فی هذا الطرف الآخر، فإذا قلنا أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، فلا یجوز ارتکاب الطرف الاخر، وإذا قلنا أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، فیجوز ارتکاب الطرف الآخر وتجری فیه الأصول المؤمّنة.

الظاهر أنّهم اتفقوا فی هذا المقام فی محل الکلام علی أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، صاحب الکفایة(قدّس سرّه) صرّح بذلک، (1) والمحقق النائینی (2) والمحقق العراقی(قدّس سرّهما) (3) أیضاً صرّحا بذلک، وکذلک السید الخوئی(قدّس سرّه)، (4) کل هؤلاء ذکروا فی محل الکلام أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة. استدلّوا علی ذلک بما تقدّم من أنّ مجرّد عدم القدرة علی الموافقة القطعیة لا یوجب إلاّ عدم منجزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، وأمّا حرمة المخالفة القطعیة، فباعتبار تمکن المکلّف وقدرته علی المخالفة القطعیة، فلا موجب لعدم تنجیز العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة باعتبار قدرة المکلّف علیها، ولا یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة باعتبار عدم قدرة المکلّف علیها. قالوا: هذا لا محذور فیه ولا مانع من الالتزام به، باعتبار قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة، فینجّزها العلم الإجمالی، فالعلم الإجمالی فی المقام ینجّز المخالفة القطعیة, أو بعبارة أخری: وجوب الموافقة الاحتمالیة، ولکنّه لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، وهذا هو الذی سمّوه بالتوسط فی التنجیز، بمعنی أنّ التکلیف هو نفس التکلیف لا یتغیّر ولا یتبدّل ولا یتبعض، نفس التکلیف بلحاظ الحالات، لکن المنجزیة تتبعض، النقص یطرأ علی التنجیز لا علی نفس التکلیف، فهو توسّط فی التنجیز. فی غیر مسألتنا، فی المسألة التی سیأتی بحثها ---------- مسألة الاضطرار إلی أحد أطراف العلم الإجمالی ----------- هناک ذکروا أنّ الاضطرار إذا کان إلی أحدهما المعیّن، فلا إشکال فی انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجزیة لأحدهما المعیّن؛ ولذا جوزوا إجراء الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، یعنی الطرف الذی لا یضطر إلیه المکلف، فجوزوا إجراء الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی لا یوجب التنجیز؛ لأنّه لیس علماً بالتکلیف علی کل تقدیر؛ بل هذا المعلوم بالإجمال إن کان متحققاً فی مورد الاضطرار، فلا تکلیف؛ لمکان الاضطرار، وإنّما یُشکّ فی تحققه فی الطرف الآخر، فالتکلیف لیس معلوم التحقق علی کل تقدیر، لیس معلوماً علی کلا التقدیرین؛ بل هو علی أحد التقدیرین غیر متحقق ویُشک فی تحققه فی الطرف الآخر علی التقدیر الآخر، فهذا شکّ فی التکلیف تجری فیه الأصول المؤمّنة. کلامنا لیس فی ذلک، وإنّما کلامنا فی الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه وهو الذی یشابه محل الکلام، وقلنا سابقاً أنّه أُدرج محل الکلام فی مسألة الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه، فی مسألة الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه هنا ذهبوا إلی منجزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة بنفس الفکرة التی ذکرناها سابقاً، وهی مسألة التوسّط فی التنجیز فی باب الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه، قالوا: هنا المکلّف غیر قادر علی الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ لمکان الاضطرار، لکنّه قادر علی المخالفة القطعیة بأن یترک کلا الطرفین فی الشبهة الوجوبیة، أو یفعل کلا الطرفین فی الشبهة التحریمیة، إذن: هو قادر علی المخالفة القطعیة، هنا أیضاً بعّضوا، فقالوا أنّ هذا العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة لعدم قدرة المکلّف علیها؛ لمکان الاضطرار بحسب الفرض، فهو مضطر إلی ارتکاب أحد الطرفین، أو ترک أحد الطرفین حسب الشبهة وجوبیة أو تحریمیة، لکنّه قادر علی المخالفة القطعیة بترک کلا الطرفین، أو بفعل کلا الطرفین، فالعلم الإجمالی یکون منجزاً لحرمة المخالفة القطعیة؛ إذ لا مانع من ذلک وإن کان غیر قادر علی الموافقة القطعیة، فالعلم الإجمالی ینجّز هذه ولا ینجّز هذه وهو معنی التوسط فی التنجیز، طبّقوا نفس الفکرة علی باب الاضطرار.

ص: 454


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 359.
2- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 452.
3- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، 297.
4- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 336.

نعم، صاحب الکفایة (قدّس سرّه)، فی تلک المسألة ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی لا ینجز حتّی المخالفة القطعیة فی باب الاضطرار، فی محل الکلام ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، لکن فی باب الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی لا ینجز حرمة المخالفة القطعیة؛ بل ذهب إلی أنّ العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز رأساً حتّی بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة. (1)

وبعبارة أخری: أنّ العلم الإجمالی اضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه عند صاحب الکفایة (قدّس سرّه)، حکمه حکم الاضطرار إلی أحدهما المعین، إذا اضطر إلی أحدهما المعین یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز رأساً، لا ینجز حتّی حرمة المخالفة القطعیة؛ ولذا یجوز إجراء الأصول فی الطرف الآخر، الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه أعطاه نفس الحکم، هنا أیضاً التزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة رأساً، حتّی بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة، اختلف کلامه، حیث ذهب فی محل الکلام إلی التنجیز بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة، بینما فی باب الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه لم یذهب إلی ذلک؛ بل ذهب إلی سقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة مطلقاً ورأساً.

فی مسألة التوسط فی التنجیز التی قالوا بها ----------- علی الأقل فی محل الکلام ----------- لأنّ صاحب الکفایة (قدّس سرّه) یبدو منه هذا القول، وهکذا المحقق النائینی، وهکذا المحقق العراقی، وهکذا السید الخوئی(قدّست أسرارهم)، فکرة التوسط فی التنجیز بقطع النظر عن من یقولها، الظاهر أنّها تتوقف علی مسلک فی العلم الإجمالی وهو مسلک الاقتضاء؛ لأننا نعلم أنّ هناک مسلکین فی العلم الإجمالی:

ص: 455


1- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 359.

المسلک الأوّل: أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة کما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة.

المسلک الثانی: أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وإنّما هو فقط مقتضی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، لکن لا مانع من أن یحتف بهذا المقتضی مانع وهو الترخیص الشرعی فی أحد الطرفین، فیکون مانعاً من منجزیّة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة.

فکرة التوسط فی التنجیز والتبعیض فی منجّزیة العلم الإجمالی وأنّه ینجّز بلحاظ المخالفة القطعیة ولا ینجّز بلحاظ الموافقة القطعیة، هذه الفکرة تکون معقولة ومقبولة ولیس فیها مشکلة بناء علی مسلک الاقتضاء، حیث أنّ معنی مسلک الاقتضاء فی الحقیقة هو أنّ العلم الإجمالی بنفسه لا یمنع من الترخیص فی أحد الطرفین؛ لأنّه لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة حتّی یکون مانعاً من الترخیص فی بعض الأطراف، وإنّما العلم الإجمالی بناءً علی مسلک الاقتضاء هو فقط فیه اقتضاء وجوب الموافقة القطعیة، فلا یکون مانعاً من الترخیص فی بعض الأطراف، ولا منافاة أصلاً بین افتراض الترخیص فی بعض الأطراف؛ لمکان الاضطرار والعجز التکوینی کما فی محل الکلام، لیس هناک منافاة بین الترخیص الشرعی فی بعض الأطراف وبین بقاء تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة؛ لوضوح أنّ الترخیص فی أحد الطرفین لا ینافی حرمة ترکهما، فی الشبهة التحریمیة الشارع یرخّص فی ارتکاب الطرف الذی یضطر إلیه المکلّف، لکن هذا لا ینافی أن یقول له فی نفس الوقت یحرم علیک ارتکاب کلٍ منهما، وفی الشبهة الوجوبیة یقول له فی نفس الوقت یحرم علیک ترک کلٍ منهما، هو رخّص له فی ارتکاب أحدهما، والترخیص فی ارتکاب أحدهما لا ینافی تحریم المخالفة القطعیة، فإذن: لا تکون هناک منافاة بین الترخیص فی أحد الطرفین لمکان الاضطرار، إذ لا إشکال فی أنّه فی حالة الاضطرار الثابت هو الترخیص، بمعنی أنّ الشارع یرخّص فی ارتکاب الطرف عند حصول الاضطرار، لکن الکلام فی أنّ هذا الترخیص هل ینافی کون العلم الإجمالی مؤثراً فی حرمة المخالفة القطعیة، أو لا ینافیه ؟ من الواضح أنّه لا ینافیه؛ إذ لا محذور فی الترخیص فی بعض الأطراف وبین حرمة المخالفة القطعیة، فی الشبهة الوجوبیة یقول له یجوز لک ترک أحدهما عندما یضطر إلی الترک، لکن لا یجوز لک ترک کلٍ منهما، فی الشبهة التحریمیة یقول له یجوز لک ارتکاب أحد الطرفین لمکان الاضطرار، لکن لا یجوز لک ارتکاب کلا الطرفین، الجمع بینهما لیس فیه محذور، إذن: الترخیص لا ینافی بقاء تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة، کما أنّه لا ینافی تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة حتّی یکون الترخیص فی بعض الأطراف منافیاً له، وإنّما هو مقتضی لوجوب الموافقة القطعیة؛ وحینئذٍ لا یکون جعل الترخیص فی بعض الأطراف منافیاً له؛ لأنّ هذا الترخیص کما قلنا بمثابة المانع الذی یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة، فإذن: لا یوجد محذور فی الالتزام بانّ العلم الإجمالی فی حالة الاضطرار إلی أحد الأطراف لا بعینه، أن یُلتزم بأنّه باقٍ علی تنجیزه لحرمة المخالفة القطعیة وهذا هو معنی التوسّط فی التنجیز، بمعنی أنّ تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة ارتفع؛ لأنّه اقترن بالمانع وهو الترخیص الشرعی فی أحد الطرفین لا بعینه، فی حین أنّ منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة باقیة علی حالها؛ إذ لم یحدث شیء ینافی هذا التنجیز وهذه المنجزیة؛ لأنّ الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه یستلزم ترخیص الشارع فی أحد الطرفین، هذا الترخیص الشرعی فی أحد الطرفین لا ینافی تنجیز العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، فیُلتزم بحرمة المخالفة القطعیة وتنجیز العلم الإجمالی لها، ولا یُلتزم بوجوب الموافقة القطعیة. هذا إذا قلنا بمسلک الاقتضاء.

ص: 456

إذن: فکرة التوسّط فی التنجیز تکون مقبولة ولیس علیها غبار عندما یقال بمسلک الاقتضاء، ومن هنا یکون القائل بمسلک الاقتضاء فی باب العلم الإجمالی کالمحقق النائینی والسید الخوئی(قدّس سرّهما) وحتّی الشیخ(قدّس سرّه) علی ما یُنسب إلیه؛ لأنّ کلماته مختلفة یظهر من بعضها أنّه یقول بالاقتضاء والمحقق النائینی(قدّس سرّه) ینسب إلیه ذلک، وظاهر بعض کلماته أنّه یقول بالعلّیة التامّة. علی کل حال، القائل بالاقتضاء التزامه بالتوسّط فی التنجیز فی مسألتنا وفی مسألة الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه یکون منسجماً مع المبنی الذی یبنی علیه وهو مسلک الاقتضاء، الکلام لیس فی هذا وإنّما الکلام إذا قلنا بالعلّیة التامّة، إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وهو المسلک الذی بنا علیه المحقق العراقی، وکذلک المحقق الأصفهانی(قدّس سرّهما) التزموا بالعلّیة التامّة وأنّ العلم الإجمالی کما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة کذلک هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، علّة تامّة بحیث یستحیل حصول انفکاک بین افتراض وجود العلم الإجمالی وبین أن لا یکون منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، بناءً علی منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة دون وجوب الموافقة القطعیة لا تکون مقبولة بناءً علی مسلک العلّیة التامّة؛ وذلک باعتبار أنّ الترخیص نفسه فی بعض الأطراف، ولو للاضطرار کما هو المفروض فی محل کلامنا، ولو لأجل عدم القدرة التکوینیة، نفس الترخیص الشرعی فی بعض الأطراف یکون منافیاً لحکم العقل بمنجزیة العلم الإجمالی وتنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة بنحو العلّیة التامّة کما هو المفروض، بناءً علی هذا المسلک، العقل یحکم بأنّ العلم الإجمالی منجز لوجوب الموافقة القطعیة بنحو العلّیة التامّة، ولا إشکال فی أنّ جعل الترخیص فی بعض الأطراف، ولو لأجل الاضطرار یکون منافیاً لهذا الحکم العقلی.

ص: 457

وبعبارة أخری: أنّ المدّعی بناءً علی هذا المسلک أنّ العقل یری عدم إمکان الترخیص فی احد الأطراف، هذا معنی أنّ العقل یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، یعنی یری أنّ الترخیص فی أحد الأطراف هو أمر قبیح وغیر مقبول؛ لأنّ العلم الإجمالی بنظر العقل علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، یعنی علّة تامّة لعدم الترخیص فی أحد الطرفین، فالترخیص فی أحد الطرفین حینئذٍ یکون منافیاً لذلک، یکون منافیّاً لهذا العلم الإجمالی بناءً علی مسلک العلّیة التامّة، ویکون منافیاً للتکلیف المعلوم بالإجمال بناءً علی هذا المسلک؛ فحینئذٍ تحصل المنافاة بین العلم الإجمالی والتکلیف المعلوم بالإجمال من جهة ---------- بناءً علی هذا المسلک ---------- وبین الترخیص فی بعض الأطراف، ولو کان الترخیص لأجل الاضطرار، أو لأجل العجز التکوینی.

معنی هذا الکلام أننا لا یمکن أن نجمع بین الترخیص الشرعی فی أحد الطرفین، ولو لمکان الاضطرار کما هو المفروض فی محل کلامنا، أن نجمع بینه وبین بقاء العلم الإجمالی علی منجّزیته، یعنی من جهةٍ یکون العلم الإجمالی باقیاً وهو علّة تامّة للمنجّزیة لوجوب الموافقة القطعیة، أن نجمع بینه وبین الترخیص من جهة ثانیة، هذان أمران لا یمکن الجمع بینهما، فإذا ثبت الترخیص جزماً کما هو المفروض فی محل کلامنا؛ إذ لا إشکال فی أنّ الاضطرار یوجب الترخیص فی أحد الطرفین، فإذا ثبت الترخیص فی أحد الأطراف جزماً فی محل الکلام؛ لمکان الاضطرار، فی هذه الحالة هل نستطیع أن نقول بأنّ العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز مع بقائه ؟ مرّة نقول بأنّ العلم الإجمالی یزول مع بقائه، أی مع بقاء العلم الإجمالی، لکن یسقط عن المنجزیة، ولا یکون منجزاً لوجوب الموافقة القطعیة، هذا غیر ممکن بناءً علی هذا المسلک؛ لأنّ المفروض أنّه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، ما دام العلم الإجمالی باقیاً کما هو المفروض؛ حینئذٍ یستحیل أن نفکک بینه وبین تنجیزه لوجوب لموافقة القطعیة؛ لأنّه علّة تامّة بحسب الفرض ولیس مقتضیاً، یبقی العلم الإجمالی، ولکنه لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة کما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، کما أننا لا نتصوّر وجود علم إجمالی ولا تحرم مخالفته القطعیّة، کذلک لا نتصوّر وجود علمٍ إجمالی ولا تجب موافقته القطعیة، التفکیک بینهما غیر مقبول، وحیث أنّ العلم الإجمالی باقٍ، والترخیص أیضاً فُرض وجوده لمکان الاضطرار، قالوا: یتعیّن فی هذه الحالة التصرّف فی التکلیف نفسه، ولا نستطیع أن نتصرّف فی الترخیص؛ لأنّ الترخیص ثابت فی أحد الطرفین بلا إشکال، ولا نستطیع أن نتصرّف ونفکک بین العلم الإجمالی وبین تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ المفروض أنّه علی نحو العلّیة التامّة، ولا نستطیع أن ندعی بأنّ العلم الإجمالی زائل؛ لأنّ العلم الإجمالی لا زال موجوداً، إذن: ما هو الحل ؟ الحل هو أن نتصرّف فی نفس التکلیف، فی متعلّق العلم الإجمالی تصرّفاً بحیث نحفظ هذه الأمور المسلّمة، وهی الترخیص، وعلم إجمالی ینجز وجوب الموافقة القطعیة بنحو العلّیة التامّة، وبقاء العلم الإجمالی، نحفظ کل هذه الأمور؛ بأن نتصرّف فی نفس التکلیف؛ وذلک بأن نحوّل التکلیف الواقعی من کونه تکلیفاً تعیینیاً إلی کونه تکلیفاً تخییریاً، فیقال بأنّ التکلیف الواقعی یثبت فی کلا الطرفین، لکن مشروطاً بمخالفة التکلیف فی الطرف الآخر.

ص: 458

بعبارةٍ أخری: أنّ التکلیف یثبت فی کل طرفٍ بشرط أنّ المکلّف یطبّق اضطراره علی الطرف الآخر، فإذا طبّق المکلّف اضطراره علی هذا الطرف التکلیف یثبت فی هذا الطرف، وإذا رفع المکلّف اضطراره بهذا الطرف، فالتکلیف یثبت فی هذا الطرف.

إذن: التکلیف یتعلّق بکلا الطرفین، لکن مشروطاً بمخالفته فی الطرف الآخر، إذا خالفت التکلیف فی هذا الطرف لمکان الاضطرار، فالتکلیف یتعلّق بهذا الطرف، وهکذا العکس، وهذا فی الحقیقة معناه تحویل التکلیف الواقعی المفروض کونه تعیینیاً إلی کونه تخییریاً، أیّ طرف ترفع به الاضطرار التکلیف یتعلّق بالطرف الآخر، فبتحویل التکلیف الواقعی من التعیینیة إلی التخییریة؛ حینئذٍ یمکن الالتزام بکل هذه الأمور المسلّمة، یمکن الالتزام بالترخیص؛ بل هذا هو معنی الترخیص، أنّ الشارع یرخّص للمکلّف فی أن یرتکب أحد الطرفین لیرفع به اضطراره، وأیضاً العلم الإجمالی باقٍ علی تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة علی نحو العلّیة، لکن بعد أن حوّلنا متعلّق هذا العلم الإجمالی من التعیینیة إلی التخییریة؛ وحینئذٍ لا مانع من أن یقال بأنّ العلم الإجمالی باقٍ علی التنجیز بنحو العلّیّة التامّة، هو ینجّز بنحو العلّیة التامّة التکلیف التخییری بعد أن یحوّل التکلیف التعیینی إلی تخییری، فیُلتزم بذلک.

إذن: لم یحصل التصرّف فی التنجیز، وإنمّا حصل التصرّف فی التکلیف، وهذا هو الذی یُعبّر عنه بالتوسط فی التکلیف لا فی التنجیز.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

تبین من الدرس السابق ان التوسط فی التنجیز الذی ینتج حرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام، وفی باب الاضطرار الی احد الطرفین لا بعینه، هذا إنما یمکن الالتزام به بناءً علی(مسلک الاقتضاء)، واما بناءً علی (مسلک العلّیة التامة) لوجوب الموافقة القطعیة، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعیة، فالالتزام بالتوسط فی(التنجیز) غیر ممکن؛ بل المتعیّن بناءً علیه ---------- مثلاً --------- هو التوسّط فی التکلیف بالمعنی المتقدم سابقاً، وهذا التوسط فی التکلیف کما هو واضح ینتج أیضاً حرمة المخالفة القطعیة إذا التزمنا به، لأنّ التوسّط فی التکلیف یعنی أنّ ثبوته فی کل طرفٍ مشروط بمخالفته فی الطرف الآخر، فإذا خالف المکلّف التکلیف فی أحد الطرفین، لأجل رفع اضطراره کما هو المفروض، یکون التکلیف ثابتاً فی الطرف الآخر، وهذا ینتج حرمة المخالفة القطعیة أیضاً .

ص: 459

ومن هنا أصحاب مسلک (العلّیة التامة) یمکنهم الاعتماد علی هذا المبنی، أی(التوسّط فی التکلیف) لإثبات حرمة المخالفة القطعیة، وإلا لولا(التوسّط فی التکلیف) لکان مقتضی القاعدة بناءً علی(العلّیة التامّة) هو سقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة، فلا یکون منجزاً لشیءٍ، لا لوجوب الموافقة القطعیة ولا لحرمة المخالفة القطعیة، لماذا ؟ لأنّ الاضطرار المستلزم للترخیص التخییری فی الطرفین ینافی العلم الإجمالی، بذات التکلیف المعلوم بالإجمال الذی نجّزه العلم الإجمالی بنحو العلّیة التامّة ؛ إذ لا یمکن الجمع بین الترخیص التخییر فی أحد الطرفین، وبین منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة علی نحو العلّیة التامّة لولا التوسّط فی التکلیف المقترح، لکان مقتضی القاعدة أن یکون حال الاضطرار الی احد الطرفین لا بعینه، لکان حاله حال الاضطرار الی احد الطرفین بعینه، کیف ؟ هناک التزموا بسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز وجواز اجراء الأصول المؤَمَّنة فی غیر الطرف المضطر إلیه، لأن التکلیف لا یعلم بثبوته علی کل تقدیر، علی تقدیر أن یکون التکلیف فی هذا الطرف الذی اضطر إلیه، فهذا ساقط لمکان الاضطرار ولأجل الاضطرار، نعم یحتمل ثبوت التکلیف فی الطرف الآخر، وهذا مجرد احتمال تجری فیه الأصول المؤَمَّنة، الاضطرار الی احد الطرفین لا بعینه بناءً علی العلّیة التامّة یکون حاله حال الاضطرار الی احد الطرفین بعینه فی أنّ العلم الإجمالی یسقط عنه التنجیز ولا ینجز حتّی حرمة المخالفة القطعیة، لکنّ التوسط فی التکلیف هو الذی سوف ینتج حرمة المخالفة القطعیة لماذا ؟ لأنه إذا غیرنا فی التکلیف الواقعی وقلنا بتحوّل التکلیف وتبدیله من کونه تکلیفاً تعیینیاً الی کونه تکلیفاً تخییریاً ثابتاً من کل الطرفین بشرط ترک الطرف الآخر ومخالفة الطرف الآخر؛ حینئذٍ سوف ینتج کما قلنا حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ المکلّف اذا رفع اضطراره بأحد الطرفین یکون قد خالف التکلیف فی ذلک الطرف، فیثبت التکلیف فی الطرف الآخر ویجب علیه الالتزام به، وهذا معناه حرمة المخالفة القطعیة .

ص: 460

هذا حاصل ما تقدم فی الدرس السابق، فحینئذٍ إذا قلنا بالاقتضاء نلتزم بالتوسّط فی التنجیز؛ لأننّا قلنا أنّ منجزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، المفروض قدرة المکلف علیها وتمکنه منها، هذه تبقی علی حالها، نعم تسقط منجزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، لعدم قدرة المکلف علی الموافقة القطعیة، وتأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة، هذا لا ینافی أیّ شیءٍ، لا ینافی العلم الإجمالی ولا منجزیة العلم الإجمالی، لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ منجزیته بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّیة التامّة کما قلنا فی الترخیص فی احد الطرفین، لمکان الاضطرار لیس منافیاً للعلم الإجمالی، ومنجزیة هذا العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، لأنها لیس بنحو العلّیة التامّة) وانما هی بنحو الاقتضاء، کما أنها لیست منافیة لمنجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، لما قلنا من أنّ الترخیص فی احد الطرفین لا ینافی حرمة المخالفة القطعیة، تحرم المخالفة القطعیة لکن یجوز ارتکاب أحد الطرفین، فلا مانع من بقاء العلم الإجمالی مؤثراً فی حرمة المخالفة القطعیة وهو معنی التوسّط فی التنجیز، وهذا الالتزام لا یفرّق فیه بین محل الکلام وبین موارد الاضطرار، فی کل منهما یلتزم بالتوسّط فی التنجیز بمعنی أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام ینجّز حرمة المخالفة القطعیة علی المکلف، یعنی لا یجوز له ترک الوجوب التعبدی، مخالفة الوجوب التعبدی ومخالفة الحرمة وکیفیة المخالفة قطعاً، بأن یفعل لا بقصد القربة وهی مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال ینجز علیه حرمة هذه المخالفة، فلا یجوز له ترک الفعل بلا قصد القربة؛ بل یجب علیه اما الفعل بقصد القربة، او ترک الفعل، فیُخیّر بینهما، لکن لا یجوز مخالفة کل منهما، لأنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، ونفس الکلام یقال فی باب الاضطرار الی أحدهما لا بعینه، هناک ایضاً یقال بأنّ المکلّف لا یجوز له ارتکاب کِلا الطرفین فی الشبهات التحریمیة، أو ترک کِلا الطرفین فی الشبهات الوجوبیة، لماذا ؟ لأنّ العلم الإجمالی هناک وإن لم ینجز الموافقة القطعیة، لکنّه ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، فیجری فی کِلا الامرین ولا مانع من ذلک .

ص: 461

واما إذا قلنا بالعلّیة التامّة؛ حینئذٍ مبدئیاً لا یمکن الالتزام بحرمة المخالفة القطعیة، یعنی بمنجزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، لماذا ؟ لأنّ منجّزیة العلم الإجمالی بحسب الفرض علی نحو العلّیة التامّة، فیکون العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، یعنی لازمه حرمة المخالفة الاحتمالیة، والعلم الإجمالی علة تامة لذلک، حینئذٍ کما قلنا هذا مقتضی القاعدة الأولیة هو أنّ یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ لأنّه لا یمکن الجمع بین العلّیة التامّة المفروضة فی محل الکلام، وبین الترخیص فی ارتکاب احد الطرفین، فلازم ذلک سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، فلا ینجّز لا الموافقة القطعیة ولا حرمة المخالفة القطعیة، فیکون حال الاضطرار الی احد الطرفین لا بعینه، حال الاضطرار الی احد الطرفین بعینه، هذه القاعدة الأوّلیة، لکن لو قلنا بفکرة التوسّط فی التکلیف؛ حینئذٍ لا مانع بناءً علی العلّیة التامّة أنّ نلتزم بحرمة المخالفة القطعیة، لماذا ؟ لأنّ التکلیف الواقعی المفروض کونه تعیینیّاً حوّلناه الی کونه تخییریاً، فیکون التکلیف ثابتاً فی کِلا الطرفین، لکنّه مشروط بمخالفة الطرف الآخر، فکأنه یقال للمکلّف فی باب الاضطرار الی أحدهما لا بعینه، انت یحرم علیک هذا الطرف اذا رفعت اضطرارک عن الطرف الآخر، یعنی خالفت التکلیف فی الطرف الآخر لأجل الاضطرار، والعکس ایضاً یقال له یحرم علیک هذا الطرف اذا رفعت اضطرارک عن الطرف الآخر، یعنی خالفت التکلیف فی الطرف الأوّل، وهذا ینتج حرمة المخالفة القطعیة، بمعنی أنّ المکلّف إذا رفع اضطراره بأحد الطرفین یحرم علیه الآخر، ولا یجوز له ارتکابه، وهذا معناه حرمة المخالفة القطعیة، وإن لم تجب علیه الموافقة القطعیة، لکن تحرم علیه المخالفة القطعیة؛ لأنّ التکلیف ثابت فی الطرف الذی لم یرفع به اضطراره، وهو معناه حرمة المخالفة القطعیة، فیمکن التوصّل الی حرمة المخالفة القطعیة، حتّی علی القول بالعلّیة التامة، بفکرة التوسّط فی التکلیف، لکن فکرة التوسّط فی التکلیف بناءً علی العلّیة التامة، إنّما یصح فرضها فی موارد الاضطرار الی احد الطرفین لا بعینه، وأمّا فی محل الکلام الذی لیس هو اضطراراً؛ بل عجزاً تکوینیاً، هو یعلم بالإلزام المردّد بین الوجوب القربی وبین الحرمة، هنا هو عاجز تکویناً عن الجمع بین الفعلین، فهو مضطرٌ الی مخالفة احد الطرفین، أمّا مخالفة الوجوب، او مخالفة التحریم، فإنْ فعل، یخالف التحریم، وإنْ ترک یخالف الوجوب، فهو مضطرٌ بحکم العجز التکوینی، فی محل الکلام فکرة التوسّط فی التکلیف لا یمکن تطبیقها، حتّی نثبت عن طریقها حرمة المخالفة القطعیة، لماذا لا یمکن تطبیقها فی المقام ؟ باعتبار أنّ الوجوب الذی هو أحد الطرفین، أحد المحتملین، الوجوب التعبّدی، الوجوب المشروط بقصد القربة بحسب الفرض، لو فرضنا أنّ الوجوب هو القربی، والحرمة لیست قربیة بل؛ توصلیة والوجوب تعبّدی؛ حینئذٍ نقول أنّ الوجوب التعبّدی المشروط بقصد القربة لا یمکن أن یکون مشروطاً بمخالفة الحرمة، لماذا ؟ لأنّ مخالفة الحرمة تساوق قهراً تحقق الفعل فی الخارج، کیف یخالف الانسان حرمة الفعل ؟ یخالفها بالإتیان بالفعل، فمخالفة الحرمة تساوق تحققّ الفعل فی الخارج، ومن الواضح انّه یستحیل أن یتعلّق الوجوب بالفعل المتحقق خارجاً، المفروض تحقّقه خارجاً؛ لأنّ معنی الوجوب المتعلّق بالفعل المُقیّد بمخالفة الحرمة المُقیّد بمخالفة الطرف الآخر هو ماذا ؟ هو یؤخذ فی موضوع هذا الوجوب، فکأنّه فرض فی المرتبة السابقة تحقق الفعل؛ لأنّه فرض فیها علی الوجوب مخالفة التحریم، إذا خالفت التحریم یجب علیک الفعل قربة الی الله تعالی، فکأنه فی المرتبة السابقة فرض تحقق الفعل؛ لأنّ مخالفة التحریم تکون بالإتیان بالفعل، فکأنّه یقال له إذا تحقق الفعل یجب علیک الاتیان به قربة الی الله تعالی، وهذا لا معنی له، أن یکون الوجوب المتعلق بالفعل مقید وموضوعه مخالفة الحرمة التی تساوق تحقق الفعل خارجاً، وعند تحقق الفعل خارجاً فی المرتبة السابقة، لا یعقل أنْ یکون هناک وجوب تعبّدی یتعلّق بنفس الفعل؛ لأنه حاصل بحسب الفرض وموجود، وهذا غیر معقول، بینما هذا الشیء کان معقولاً فی باب الاضطرار، فی باب الاضطرار الی احد الطرفین لا بعینه، کان معقول بأن یقال له أنّ وجوب هذا الطرف مقیّد بمخالفة الطرف الآخر، مخالفة الطرف الآخر لا تساوق تحقق الفعل حتّی یکون وجوبه محالاً، فأحد الطرفین یقال له أنّ الوجوب یثبت فی هذا الطرف إذا خالفت الوجوب فی الطرف الآخر، کیف یخالف الوجوب فی الطرف الآخر ؟ بأن یترک إذا لم یفرض فی مرتبة سابقة عن الوجوب المتعلق بهذا الطرف تحقق الفعل، حتّی یقال أنّه لا معنی لأنْ یتعلّق الوجوب بالفعل المفروض تحققه فی مرتبة سابقة، فیقال له إذا خالفت الوجوب فی هذا یجب علیک هذا الفعل، هذا فی الشبهة الوجوبیة، أمّا فی الشبهة التحریمیة، فیقال له یحرم علیک هذا الطرف اذا خالفت الحرمة فی هذا الطرف، ومخالفة الحرمة فیه لا تعنی تحقق الترک، حتی یکون تحقق الحرمة محالاً، لماذا ؟ لأنّه فرض تحقق الترک خارجاً فی المرتبة السابقة، فلا یساوق ذلک فی باب الاضطرار کون التکلیف فی احد الطرفین فی باب الاضطرار لا یساوق تحقق الطرف الآخر، لا یساوق تحقق نفس ما تعلّق به التکلیف حتّی یکون تعلّق التکلیف به محالاً، فحینئذٍ یکون معقولاً هناک ولا یکون معقولاً فی محل الکلام، بناءً علی هذا؛ حینئذٍ التوسّط فی التکلیف لا تنفع فی محل الکلام؛ لأنّ هذا الوجوب التعبدی --------- احد المحتملین ---------- المتعلّق بالفعل، هذا الفعل الذی یدور امره بین أن یکون واجباً تعبّداً وبین أن یکون حراماً؛ لأنّ الامر دائر بین الوجوب التعبّدی وبین الحرمة بحسب الفرض؛ لأنّ هذا الوجوب التعبدی یستحیل أن یثبت للفعل؛ لأنه إمّا أن یثبت له مطلقاً بلا قید وبلا شرط مخالفة الطرف الآخر، المفروض أنّ هذا غیر ممکن، وإلا لما اضطروا الی القول بالتوسط فی التکلیف بناءً علی العلّیة التامّة لا یمکن أن یکون هذا الوجوب مطلقاً؛ لأنّ هذا ینافی العلّیة التامّة بحسب الفرض، إذن: لا یمکن أن یکون مطلقاً، ولا یمکن أن یکون مشروطاً بمخالفة الطرف الآخر، لماذا ؟ لأنّ کونه مشروطاً محال، لماذا ؟ کون الوجوب التعبدی مشروطاً بمخالفة الطرف الآخر، والطرف الآخر فی محل الکلام هو الحرمة، ولیس الوجوب فی الطرف الآخر کما فی الاضطرار الی أحدهما لا بعینه، وإنّما هو الحرمة، ومخالفة الحرمة تکون بالإتیان بالفعل، کیف یعقل أن یتعلّق وجوب بفعل مشروط بتحقق نفس الفعل فی المرتبة السابقة، فإذن، لا یعقل أن یکون مطلقاً، ولا یعقل أن یکون مشروطاً، وهذا یعنی أنه فی المقام لا یمکن الالتزام بحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام، تطبیقاً لفکرة التوسط فی التکلیف .

ص: 462

نعم، فی جانب الحرمة فقط یمکن افتراض الاشتراط، لماذا ؟ لأنّ الحرمة لا مانع من أن یقال أنّ حرمة الفعل مشروطة بمخالفة الوجوب؛ لأنّ مخالفة الوجوب لا تنحصر فی ترک الفعل حتّی یقال کیف یحرم علیه الفعل مشروطاً بترکه، کیف یحرم الفعل وفرض فی موضوعیة تحقق الترک فی مرتبة سابقة، هذا محال، مخالفة الوجوب التعبّدی لا تنحصر بالترک؛ بل کما یمکن أن تتحقق بالترک یمکن أن تتحقق بالفعل الغیر قربی، کُلاً منهما تتحقق به مخالفة الوجوب التعبدی، مرّة یخالفه بالترک ومرة یخالفه بالفعل الغیر تعبّدی، وکُل منهما مخالفة للوجوب، إذا لا ضیر أن تکون الحرمة مقیدة ومشروطة بمخالفة الوجوب التعبدی؛ إذ لا یلزم من ذلک طلب الحاصل مثلاً، فلیس فیه محذور، المحذور موجود من جانب الوجوب، الوجوب التعبّدی لا یعقل أن یکون مشروطاً بمخالفة الحرمة فی محل الکلام، کما أنه لا ضیر فی ذلک فیما إذا کان کُل منهما تعبدیاً أیضاً لا ضیر فی هذا، الوجوب تعبّدی والحرمة تعبّدیة، کُل منهما یکون ممکناً، الوجوب التعبّدی یکون مشروطاً بمخالفة الحرمة التعبّدیة، مخالفة الحرمة التعبّدیة لا ینحصر بالفعل، حتّی تقول أنّ الوجوب محال أن یتعلق بالفعل، حینئذٍ قد فرض وجود هذا الفعل فی مرتبة سابقة، مخالفة الحرمة التعبدیة کما یتحقق بالفعل یتحقق بالترک الغیر تعبدی، إذن: یعقل أن یقال أنّ الوجوب التعبدی مشروط بمخالفة الحرمة التعبدیة، والعکس أیضاً صحیح، یعقل أن یقال بأنّ الحرمة التعبدیة مشروطة بمخالفة الوجوب التعبدی ؛ لأنّ مخالفة الوجوب التعبدی لا ینحصر تحققها بالترک؛ بل تتحقق بالترک وتتحقق بالفعل الغیر تعبدی، إذن: فکرة التوسط فی التکلیف إنما تنفع فی باب الاضطرار الی أحدهما لا بعینه، ولا تنفع فی محل الکلام، لماذا ؟ لأنه فی محل الکلام علی الأقل یکون التکلیف فی جانب الوجوب محال، محال أن یکون هناک وجوب للفعل تعبداً، لا مطلقاً ولا مشروطاً بمخالفة الحرمة، فإذن، هذا الکلام یصح فی باب الاضطرار، ولکنه لا یصح فی محل الکلام لإنتاج حرمة المخالفة القطعیة؛ فحینئذٍ التکلیف فی المقام یکون غیر معقول؛ وحینئذٍ تترتب الاثار علی ذلک وهو أنه یمکن إجراء البراءة فی الطرف الآخر ولا نصل الی هذه النتیجة وهی حرمة المخالفة القطعیة، ومن هنا یسجل اشکال علی من یقول بالعلّیة التامّة، ولا یفرّق بین الموردین علی من یقول بحرمة المخالفة بالعلّیة التامّة، ویقول بحرمة المخالفة القطعیة فی المقامین، کالمحقق العراقی(قدّس سرّه) فأنه یقول بالعلّیة التامّة ویقول نلتزم بحرمة المخالفة القطعیة فی موارد الاضطرار وفی محل الکلام، لماذا ؟ بناءً علی فکرة التوسط فی التکلیف وهذا الاشکال یسجل علیه، بأن فکرة التوسط فی التکلیف تنفع لإثبات حرمة المخالفة القطعیة فی باب الاضطرار، فهناک یکون من المعقول فکرة التوسط فی التکلیف، أن یکون التکلیف ثابتاً فی کل طرف مشروط بمخالفة الطرف الآخر، فلا یوجد محذور ولا طلب حاصل، لکنها لا تنفع فی محل الکلام؛ لأنه یستحیل تقیید الوجوب التعبدی للفعل بمخالفة الحرمة؛ لأنّ مخالفة الحرمة تساوق تحقق الفعل فی الخارج، ویستحیل اخذ تحقق الفعل فی الخارج فی مرتبة سابقة علی طلبه ووجوبه فلا یمکن تطبیق ذلک فی محل الکلام .

ص: 463

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

تبین ممّا تقدّم أنّ من یلتزم بالعلّیة التامّة کالمحقق العراقی(قدّس سرّه) وغیره یمکنه الالتزام بحرمة المخالفة القطعیة فی باب الاضطرار عن طریق التوسّط فی التکلیف، وتبدّل الحکم الواقعی من التعیینیة إلی التخییریة، ویلتزمبحرمة المخالفة القطعیة، ولکنّه لا یمکنه الالتزام بحرمة المخالفة القطعیةفی محل الکلام؛ وذلک لما قلناه من أنّ التوسّط فی التکلیف فی محل الکلام غیر معقول؛ لأنّ الوجوب یستحیل أن یکون ثابتاً معلّقاً ومشروطاً بمخالفة الحرمة؛ لأنّ مخالفة الحرمة تعنی تحقق الفعل، ومع فرض تحقق الفعل فی المرتبة السابقة یستحیل للمکلّف أن یأتی بالفعل بداعی التقرّب بالفعل الحاصل والمتحقق، فلا یمکنه أن یصل إلی نتیجة حرمة المخالفة القطعیة فی ما نحن فیه عن طریق التوسّط فی التکلیف. هذا من یقول بالعلّیة التامة.

وحینئذٍ سُجّل هذا کإشکال علی المحقق العراقی(قدّس سرّه) بأنّه کیف یمکن أن تلتزم بحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام، وهو صرّح بهذا الالتزام وذکر بأنّه نلتزم بحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام، والحال أنک تقول بالعلّیة التامّة، والعلّیة التامة إنّما تنتج حرمة المخالفة القطعیة إذا قلنا بالتوسّط فی التکلیف وهو غیر معقول فی محل الکلام. العلّیة التامّة بقطع النظر عن التوسّط فی التکلیف تقتضی سقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة، فلا ینجّز حتّی حرمة المخالفة القطعیة، لکن بضمیمة التوسّط فی التکلیف ینتج حرمة المخالفة القطعیة، لکن حیث أنّ هذا غیر معقول فی محل الکلام، فإذن: لا یمکن أن تلتزم فی محل الکلام بحرمة المخالفة القطعیة. سُجّل هذا کاعتراض علی المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 464

یمکن الدفاع عن المحقق العراقی(قدّس سرّه) صحیحأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یلتزم بالعلّیة التامّة، لکن من قال أنّه یلتزم بالعلّیة التامّة فی محل الکلام حتی یقال له بأنّ العلّیة التامّة فی محل الکلام لا تنتج حرمة المخالفة القطعیة، إلاّ بناءً علی التوسّط فی التکلیف وهو غیر معقول فی محل الکلام، لکن من قال بأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یلتزم بالعلّیة التامّةفی محل الکلام ؟ لعلّه یلتزم بالاقتضاء، أو یلتزم بالتوسط فی التنجیز؛ وذلک لأنّه یُطرح هذا الکلام، وهو أنّ من یقول بالعلّیة التامّة یقول بها فی غیر موارد العجز التکوینی عن الموافقة القطعیة، کموارد الاضطرار، فی موارد الاضطرار لا یوجد عجز تکوینی عن الموافقة القطعیة، بإمکان المکلّف فی موارد الاضطرار أن یرتکب کلا الإناءین الذین یعلم بأنّ أحدهما محرّم، لا یوجد هناک عجز تکوینی عن الموافقة القطعیة، هناک یمکن أن یقال بالعلّیة التامّة، بمعنی أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة بحسب ما یدرکه العقل لوجوب الموافقة القطعیة، لا محذور فی هذا، ولیس هناک ما یمنع من أن یقال أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة فی موارد الاضطرار فی غیر موارد العجز التکوینی، غایة الأمر أنّ المکلّف اضطر إلی ارتکاب أحدهما لکی ---------- فرضاً ---------- یرفع عطشه، الذی یحکم بالترخیص باعتبار الاضطرار لیس هو العقل فی موارد الاضطرار، الذی یحکم بالترخیص فی موارد الاضطرار هو الشارع، الشارع هو الذی یرخّص فی ارتکاب أحد الطرفین لمکان الاضطرار، الترخیص ترخیص شرعی؛ ولذا استدلوا علی الترخیص بأدلّة ----------- مثلاً ----------- (ما حرّم الله شیئاً، إلاّ وقد أحلّه لمن اضطر إلیه)، هذا ترخیص شرعی فی موارد الاضطرار، ومن هنا لا محذور فی أن یقول العقل أنا أری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، غایة الأمر أنّ الترخیص الشرعی یکون منافیاً لحکم العقل بالعلّیة التامّة؛ حینئذٍ هناک یقال: بعد فرض هذه المنافاة بین الترخیص الشرعی وبین حکم العقل بالعلّیة التامّة لوجوب الموافقة القطعیة، یعنی لا تنسجم مع الترخیص؛ حینئذٍ إذا أردنا أن نجمع بینهما ونحافظ علیهما معاً لابدّ أن نلتزم بالتوسّط فی التکلیف، لابدّ أن نلتزم بتغیّر الحکم الواقعی من التعیینیة إلی التخییریة، فیثبت الترخیص؛ لأنّ الحکم سوف یثبت فی کل طرفٍ مشروطاً بمخالفة الطرف الآخر، وهو معنی الترخیص، فیجوز للمکلّف رفع اضطراره بأحد الطرفین، لکنّ التکلیف یثبت فی الطرف الآخر، فنحافظ علی الترخیص، ونحافظ علی حکم العقل بالعلّیة التامّة؛ لأننا لم نتصرّف فی منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، وإنّما تصرّفنا فی متعلّق العلم الإجمالی، أی التکلیف الذی تعلّق به العلم الإجمالی بنحوٍ یمکننا أن نلتزم بالترخیص الشرعی وفی نفس الوقت نلتزم بالعلّیة التامّة للعلم الإجمالی، فیقال هناک بالتوسّط فی التکلیف، وکما قلنا أنّ التوسّط فی التکلیف ینتج حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 465

وأمّا فی موارد العجز التکوینی کما فی محل الکلام، نحن نتکلّم فی المقام عن العجز التکوینی لا عن الاضطرار، المکلّف عاجز تکویناً عن أن یجمع بین الفعل والترک، عاجز تکویناً عن الموافقة القطعیة، فی باب الاضطرار لم یکن عاجزاً تکویناً عن الموافقة القطعیة، فی المقام هو عاجز تکویناً عن الموافقة القطعیة، وغیر متمکّن من الجمع بین الفعل والترک، بین موافقة الوجوب وموافقة الحرمة، هو غیر قادر علی ذلک وعاجز تکویناً؛ لأنّ موافقة کلا المحتملین تستلزم أن یجمع بین الفعل وبین الترک، وهذا محال وغیر مقدور تکویناً؛ حینئذٍ ما المانع من أن یقال أنّ العقل فی المقام لا یحکم بالعلّیة التامّة؛ لأنّ الترخیص ثابت فی محل الکلام بلا إشکال بعد فرض العجز التکوینی، لکن هذا الترخیص ترخیصاً عقلیاً ولیس ترخیصاً شرعیاً، العقل هو الذی یرخّص للمکلّف فی أن یرتکب أحد الطرفین، إمّا أن یخالف الوجوب بالترک، أو یخالف الحرمة بالفعل، الترخیص فی موارد العجز التکوینی ترخیص عقلی، ومن الواضح أنّه لا یمکن أن نفترض أنّ العقل یحکم بأمرین متنافیین، یعنی فی نفس الوقت الذی یحکم فیه بالعلّیة التامّة للموافقة القطعیة، فی نفس الوقت یحکم بأنّ المکلّف مرخّص بینهما، یرخّص للمکلّف بمخالفة هذا وبمخالفة هذا، بینما هو فی نفس الوقت یحکم بأنّ هذا العلم الإجمالی علّة تامّة یستحیل أن تنفک عن وجوب الموافقة القطعیة، هذان أمران متنافیان لا یمکن لحاکمٍ واحد أن یحکم بهما معاً، العقل یستحیل أن یحکم بهذین الأمرین، من هنا یقال حیث أنّ الترخیص ثابت بلا إشکال، فهذا یکون دلیلاً علی أنّ حکم العقل بالمنجّزیة فی المقام لیس بنحو العلّیة التامّة، وإنّما هو بنحو الاقتضاء. العقل یحکم بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة عندما یکون المکلّف قادر تکویناً علی وجوب الموافقة القطعیة؛ وحینئذٍ لا مانع من أن نفترض أنّ العقل یحکم بأنّ العلم الإجمالی ----------- إذا التزمنا بهذا المسلک ----------- علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة فی غیر موارد العجز التکوینی، وفی غیر الموارد التی یحکم فیها نفس العقل بالترخیص، یعنی یحکم حکماً منافیاً لحکمه بالمنجّزیة علی نحو العلّیة التامّة، العلّیة التامّة عند من یقول بها تختص بالموارد التی یتمکن المکلّف فیها تکویناً وعقلاً من الموافقة القطعیة؛ عندئذٍ یقال بأنّ العلم الإجمالی بحسب إدراک العقل علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، إذا اضطر المکلّف إلی أحد الطرفین الشارع یحکم بالترخیص، فیقع تنافٍ بین الحکم الشرعی بالترخیص وبین حکم العقل بالعلّیة التامّة، وحیث نقول بالعلّیة التامّة فی هذا المورد، فلابد من الحفاظ علیها، والترخیص أیضاً ثابت بلا إشکال؛ فلذا یُضطر إلی فکرة التوسّط فی التکلیف للجمع بینهما، لکن بشکل عام یمکن أن یقال أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) بالرغم من أنّه یقول بالعلّیة التامّة، لکنّه یقول بها فی غیر المقام؛ لافتراض العجز التکوینی، ومع افتراض العجز التکوینی لا یعقل أن یحکم العقل بالعلّیة التامّة وفی نفس الوقت یحکم بالترخیص فی أحد الطرفین، وإذا فرضنا أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) کان یقول بهذا؛ حینئذٍ لا یرد علیه الإشکال السابق؛ لأنّه لا یلتزم بالعلّیة التامّة فی محل الکلام، وإنّما یلتزم بالاقتضاء، والاقتضاء یستلزم التوسّط فی التنجیز، فیلتزم بالتوسّط فی التنجیز ویلتزم بالنتیجة بحرمة المخالفة القطعیة کما هو مبنی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، کیف أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) التزم فی المقام بحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه لا یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وإنّما هو مقتضی لوجوب الموافقة القطعیة، فلا یتنافی مع الترخیص، کما أنّ الترخیص لا یتنافی مع حرمة المخالفة القطعیة، ولا ینافی أیضاً منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ منجزیته له بنحو الاقتضاء، فلا ینافیه الترخیص، وهذ هو معنی التوسّط فی التنجیز، یکون العلم الإجمالی منجزاً لحرمة المخالفة القطعیة؛ لتمکّن المکلّف منها، لکنّه لا یکون منجزاً لوجوب الموافقة القطعیة لعدم تمکن المکلّف منها، فلا مانع من الترخیص. هذا دفاع عن المحقق العراقی(قدّس سرّه)، لکن أصل المبنی الذی یبنی علیه(قدّس سرّه) أو من یقول بالعلّیة التامّة أصل المبنی هو محل کلام کما سیأتی فی مباحث الاشتغال أنّ العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، أو هو مجرّد مقتضٍ لذلک ؟ سیأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی. مضافاً إلی أنّ نفس فکرة التوسّط فی التکلیف التی یمکن أن تُطبّق فی باب الاضطرار، ولا یمکن أن تطبّق فی محل الکلام هی لیست واضحة؛ لأنّ التوسّط فی التکلیف یعنی التبدّل فی الحکم الواقعی من کونه تعیینیاً إلی کونه تخییریاً، هذا التبدّل والانقلاب هل یحصل قهراً ؟ هو حکم شرعی مرتبط بالشارع، والشارع هو الذی جعله حکماً تعیینیاً، وهو الذی نعلم به إجمالاً، حیث أنّ ما نعلم به إجمالاً هو أحدهما تعییناً، إمّا الوجوب تعییناً، أو الحرمة تعییناً، ما نعلم به هو الوجوب التعیینی، أو الحرمة التعیینیة، أمّا أن نغیّر ونحوّل هذه الحرمة التعیینیة إلی حرمتین تخییریتین ثابتتین فی کلا الطرفین، لکن کل منهما تکون مشروطة بمخالفة التکلیف فی الطرف الآخر، هذا لا معنی لفرض أنّه یحصل قهراً، أی أنّ هذا شیء یُفرض علی المولی، ویحصل تبدّل وانقلاب قهری، هذا شیء لا یمکن التفوّه به. أو أن یقال أنّه لا یحصل قهراً، وإنّما یحصل بتوسیط إرادة المولی(سبحانه وتعالی)، بمعنی أنّ الشارع هو الذی یغیّر فی هذا الحکم ویبدّل فیه، فیبدّله من کونه تعیینیاً إلی کونه تخییریاً. قد یقال أنّه من حیث الإمکان هو ممکن، لکن من ناحیة الإثبات لا یمکن إثباته، فما هو الدلیل علی أن الحکم الشرعی فی هذه الموارد یتبدّل من کونه حکماً تعیینیاً إلی کونه حکماً تخییریاً، من کونه حرمة واحدة ثابتة علی نحو التعیین إلی حرمة واحدة تخییریة ثابتة لکلٍ من الطرفین بنحو مشروط، هذا لا دلیل علیه، ومن الصعب افتراض وجود دلیل علی ذلک، فالبحث إن کان فی الإمکان والاستحالة نقول أنّ هذا فرضه قهراً علی المولی محال ولا یمکن الالتزام به، افتراضه بتوسیط إرادة المولی هو أیضاً لا دلیل علیه. أصل المبنی هو أیضاً محل کلام کما سیأتی فی مباحث الاشتغال. هذا کلّه فیما یرتبط بالمحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 466

الآن نرجع إلی صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، فی البدایة ذکرنا أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) التزم بحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام، وأُشکل علیه، وکان حاصل الإشکال هو أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) نفسه فی باب الاضطرار لا یلتزم بحرمة المخالفة القطعیة، ونقلنا کلامه سابقاً من أنّه یلتزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة رأساً فی باب الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه؛ بل جعل الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه کالاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه، المسلّم فیه سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة حتّی لحرمة المخالفة القطعیة، یعنی عندما یضطر المکلّف إلی طرف بعینه یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، لا ینجز حتّی حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه یتحوّل إلی شک بدوی، إلی علم بالتکلیف فی هذا الطرف وشکّ بدوی فی الطرف الآخر، فتجری البراءة فی الطرف الآخر ولا تثبت علیه حرمة المخالفة القطعیة، هو قال أنّ الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه حاله حال الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه، العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز رأساً، فلا ینجّز حتی حرمة المخالفة القطعیة، هذا هناک.

فی محل الکلام التزم بحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، فلا یجوز للمکلّف فی محل الکلام أن یصلّی بلا قصد القربة؛ لأنّ الصلاة بلا قصد القربة تتحقق بها المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال.

الإشکال علیه هو: ما هو الفرق بین المقامین، فی محل الکلام أیضاً هناک اضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه، غایة الأمر من جهة العجز التکوینی ولیس من جهة احتیاجه إلی شرب الماء وأمثاله ------------- مثلاً ------------ کما فی موارد الاضطرار، هو أیضاً مضطر إلی مخالفة أحد المحتملین، إمّا أن یخالف الوجوب بأن یترک، أو یخالف الحرمة بأن یفعل، هناک اضطرار إلی مخالفة أحد المحتملین لا بعینه، فهو إمّا أن یخالف الوجوب بالترک، فیکون مضطراً إلی الترک، أو یخالف الحرمة بالفعل. إذن: هو مضطر إمّا إلی الفعل، أو إلی الترک، وهذا اضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه، فما هو الفرق بینه وبین تلک المسألة ؟ لماذا حکمنا هناک بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة رأساً حتّی بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة، وحکمنا هنا بحرمة المخالفة القطعیة وعدم سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة رأساً ؟ ما هو الفرق بینهما ؟ هذا الإشکال الذی أُورد هناک علی صاحب الکفایة(قدّس سرّه).

ص: 467

هذا الإشکال یبدو أنّه وارد صاحب الکفایة(قدّس سرّه)؛ لأنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) لا یخلو: إمّا أن یقول بالاقتضاء، أو یقول بالعلّیة التامّة؛ لأنّه هو کالشیخ فی أنّ الظاهر أنّ کلماته تختلف من موضع إلی آخر، الظاهر فی مباحث القطع نُسب إلیه أنّه ذکر بعض الکلمات الظاهرة فی أنّه یلتزم بالاقتضاء، لکنّه فی مباحث الاشتغال، خصوصاً فی مبحث الاضطرار ظاهر کلامه هو العلّیة التامّة؛ ولذا بمجرد أن اقترب الاضطرار حکم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة.

علی کل حال: إذا کان یقول بالاقتضاء؛ فحینئذٍ لابدّ أن یلتزم بحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام ویلتزم بالتوسّط فی التنجیز، فإذا کان مضطراً إلی مخالفة أحد التکلیفین یُرخّص له فی مخالفة أحد التکلیفین، هذا الترخیص کما قلنا مراراً لا ینافی منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة ولا ینافی منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، أمّا الأوّل، فواضح، وأمّا الثانی؛ فلأن المنجّزیة بحسب الفرض علی نحو الاقتضاء، فلا ینافیها الترخیص.

وأمّا إذا فرضنا أنّه یقول بالعلّیة التامّة، فلابد أن یلتزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة حتّی بالنسبة إلی المخالفة القطعیة فی کلا المقامین، بلا تفصیل، وإذا التزم بالعلّیة التامّة، فلابدّ أن یلتزم بسقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة حتی بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة أیضاً فی کلا المقامین، وهو التزم هناک فی باب الاضطرار بسقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة ولم یلتزم بفکرة التوّسط فی التکلیف؛ بل عرفت أنّ فکرة التوّسط فی التکلیف غیر معقولة فی محل الکلام حتّی تنتج حرمة المخالفة القطعیة؛ بل هو التزم هناک بسقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة، کان المفروض أیضاً أن یلتزم بذلک فی محل الکلام لا أن یُفصّل بینهما.

ص: 468

علی کل حال: یتبیّن ممّا تقدّم أنّ الصحیح فی مسألتنا هو أن یقال بحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام، أنّ العلم الإجمالی یبقی منجزاً لحرمة المخالفة القطعیة. والظاهر أنّه أیضاً لا یُفرّق فی ذلک بناءً علی ما ذکرناه بین القول بالاقتضاء وبین القول بالعلّیة التامّة. أمّا إذا قلنا بالاقتضاء، فتنجیز العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة فی المقام واضح علی ما ذکرناه مراراً. وأمّا علی القول بالعلّیة التامّة، فباعتبار ما قلناه من أنّ منجزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة وحرمة المخالفة القطعیة إنّما یصح فی غیر موارد العجز التکوینی بنحو العلّیة التامّة، منجزّیة العلم الإجمالی بنحو العلّیة التامّة لوجوب الموافقة القطعیة إنّما یتم فی غیر موارد العجز التکوینی ونحن نتکلّم فی محل الکلام فی موارد العجز التکوینی؛ فحینئذٍ لا یمکن الالتزام بالعلّیة التامّة إذا صحّ ما ذکرناه فی محل الکلام؛ لأنّه فی محل الکلام لابدّ من الالتزام بأنّ العلم الإجمالی هو مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعیة، باعتبار أنّ المکلّف عاجز تکویناً عن المخالفة القطعیة. إذن: علی کل التقادیر لابدّ أن نلتزم فی المقام بحرمة المخالفة القطعیة.

یبقی شیء واحد، وهو أنّه قد یقال: لا یمکن الالتزام بحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام، سواء قلنا بالعلّیة، أو بالاقتضاء؛ وذلک لأنّ المقام لیس من قبیل الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه؛ بل هو من قبیل الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه. کلامنا کلّه کان مبنیاً علی أنّ المقام هو من باب الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه، مضطر إلی أن یفعل، أو یترک، یخالف الوجوب، أو یخالف التحریم. ثمّ إذا حوّلناه، وقلنا بحسب الدقّة الاضطرار هو إلی أحد الطرفین بعینه؛ فحینئذ لا توجد حرمة مخالفة قطعیة؛ لأنّه قلنا بلا إشکال عندهم أنّه فی موارد الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه یسقط العلم الإجمالی عن المنجزیة، ینحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بهذا وشک بدوی فی الآخر، فتجری فی الآخر الأصول المؤمّنة بلا إشکال عندهم، فإذا حوّلناه إلی ذاک؛ حینئذٍ لا تحرم المخالفة القطعیة فی محل الکلام؛ لأنّه یکون من قبیل الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه، هذا حرام قطعاً والآخر مشکوک التحریم، فینحل العلم الإجمالی ولا موجب لأن یکون منجّزاً حتّی لحرمة المخالفة القطعیة.

ص: 469

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

فی الدرس السابق ذکرنا بأنّه یمکن دفع الإشکال عن المحقق العراقی(قدّس سرّه) وذلک بافتراض أنّه لا یقول بالعلّیة التامّة فی موارد العجز التکوینی، أی فی محل الکلام، وعلی هذا الأساس یمکن أن یلتزم فی محل الکلام بحرمة المخالفة القطعیة ولا یلتزم بها فی باب الاضطرار، أو یمکن أن یلتزم بحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام --------- مثلاً --------- لأنّ العلم الإجمالی هنا لیس علّة تامّة؛ بل هو مقتضی، وقلنا أنّه علی القول بالاقتضاء لا مانع من إثبات حرمة المخالفة القطعیة، ویقول بحرمة المخالفة القطعیة فی باب الاضطرار، باعتبار فکرة التوسط فی التکلیف. المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی مسألة الاضطرار هناک کلامه صریح فی أنّه یلتزم بحرمة المخالفة القطعیة علی أساس التوسط فی التکلیف، (1) أمّا فی محل الکلام، فلم یذکر مسألة التوسّط فی التکلیف، وإنما ذکر بأنّ المقام یدخل فی مسألة الاضطرار إلی أحد الأطراف لا علی التعیین وأنّ المختار فی تلک المسألة هو لزوم مراعاة العلم الإجمالی بقدر الإمکان وعدم جواز إلغائه رأساً، (2) وعلیه: فلابد فی المقام إمّا من ترک الصلاة رأساً، وإمّا من الإتیان بها عن قصد قربی، لابدّ من الإتیان بأحد المحتملین، إمّا أن یترک الصلاة، فیطیع الحرمة، وإمّا أن یأتی بالصلاة بقصد قربی، فیطیع الوجوب، ولا یجوز ترک الأمرین رأساً، ولم یذکر فی المقام التوسط فی التکلیف، هناک ذکر التوسط فی التکلیف، لکن واضح أنّه یکفی أنّه احتمال وارد أنّه فی المقام أیضاً یقول بالتوسط فی التکلیف علی أساس أنّه یقول أنّ المقام یدخل فی مسألة الاضطرار لأحدهما لا بعینه وهناک ذکر مسألة التوسّط فی التکلیف، وکأنّه فی محل الکلام أیضاً هو یری حرمة المخالفة القطعیة علی أساس التوسط فی التکلیف وهذا معناه أنّه یلتزم فی المقام بالعلّیة التامّة، وإلاّ لما ذکر مسألة التوسط فی التکلیف، لا یبعُد هذا.

ص: 470


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 352.
2- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 297.

الذی أرید أن أقوله هو: ما ذکرناه فی الدرس السابق لم یکن الغرض الأساسی منه هو دفع الإشکال عن المحقق العراقی(قدّس سرّه) بقدر ما هو إثارة فی هذا الباب، وهو أنّ مسلک العلّیة التامّة یمکن الالتزام به فی غیر المقام، أمّا فی محل الکلام فی باب العجز التکوینی الالتزام بالعلّیة التامّة لیس واضحاً. ذکرنا ذلک صحیح، لکن الغرض منه لم یکن هو الدفاع عن المحقق العراقی(قدّس سرّه) وافتراض أنّه یلتزم بالتوسط فی التنجیز فی محل الکلام. الظاهر أنّه لا یبنی علی ذلک ویری العلّیة التامّة فی جمیع الموارد. هذا أحببت التنبیه علیه.

من جهة أخری: فی ما تقدّم من إشکال علی إمکان التوسط فی التکلیف فی محل الکلام کان وارداً المحقق العراقی(قدّس سرّه) لو کان یقول بالتوسط فی التکلیف فی محل الکلام، وکان حاصل الإشکال هو أنّ التوسط فی التکلیف فی محل الکلام غیر معقول؛ لأنّه فُسّر بأنّ التکلیف یکون ثابتاً فی کل طرف بشرط مخالفة التکلیف فی الطرف الآخر، وقلنا بأنّ مخالفة الحرمة یتحقق بالفعل ومع تحقق الفعل وافتراضه فی المرحلة السابقة لا معنی لأن یکون هناک وجوب متعلّق به بقصد التقرّب، هذا لا یعقل. هذا کان هو الإشکال فی افتراض التوسط فی التکلیف فی محل الکلام، الذی یظهر من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه) هو أنّ التوسط فی التکلیف ینتج التخییر بهذا الشکل، واضح فی کلامه الذی ذکره فی بدایة مبحث الاشتغال فی الشکّ فی المکلّف به وفی مسألة الاضطرار، (1) الظاهر من کلامه أنّ التوسط فی التکلیف یتحقق بالتخییر بهذا النحو المطروح ولم یذکر شیئاً آخراً هنا علی الأقل لم یذکر شیئاً آخراً حتّی من الممکن أن نقول أنّه یلتزم بالتوسط فی التکلیف، لکنّه یصوّر التخییر تصویراً آخراً یسلم عن الإشکال بحیث لا یرد علیه الإشکال المتقدّم، یعنی لا یجعل التکلیف فی کل طرف منوطاً بتطبیق الاضطرار علی الطرف الآخر، وإنّما یصرّح بعبارة واضحة جدّاً بأنّ المقصود من التوسط فی التکلیف هو هذا الذی یُسمی بالتکلیف الناقص وعبّر عنه بأنّه یکون التکلیف ثابتاً ولکنّه مشروط بتطبیق الاضطرار علی الطرف الآخر، (2) عبّر عنه بعبارات کلّها تؤدی إلی أنّ التوسط فی التکلیف یُراد به التخییر بمعنی أنّ المکلّف مخیّر بین أن یرفع اضطراره بهذا الطرف فیثبت التکلیف فی الآخر، أو یرفع اضطراره بهذا الطرف، فیثبت التکلیف فی الأوّل، وظاهر کلامه أنّ التوسط فی التکلیف یتحقق بذلک، ولا یبدو منه أنّه یتحقق بشیء آخر یکون رافعاً للإشکال المتقدّم الذی أورد علیه.

ص: 471


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 352.
2- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 352.

بعد ذلک نأتی إلی ما قیل من أنّ المقام لیس من قبیل الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه حتّی تأتی مسألة أنّه کیف یمکن إثبات حرمة المخالفة القطعیة وأنّ حرمة المخالفة القطعیة تبتنی علی القول بالاقتضاء کیف یمکن تصوّرها علی القول بالعلّیة التامّة، فیأتی الحدیث السابق، وإنّما یقال أنّ المقام یدخل فی باب الاضطرار إلی أحدهما بعینه، وإذا دخل فی هذه الکبری؛ حینئذٍ لا مشکلة. وبعبارة أخری: لا یمکن إثبات حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ العلم الإجمالی ینحل إلی علم تفصیلی بثبوت التکلیف فی هذا الطرف؛ لأنّ الاضطرار إلی أحدهما بعینه بحسب الفرض، فهناک علم تفصیلی بثبوت التکلیف فی هذا الطرف وشکّ بدوی فی الطرف الآخر، وبهذا ینحل العلم الإجمالی، فلا مانع من الرجوع إلی الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، هذا هو حکم الاضطرار إلی أحدهما بعینه، فإذا أدخلنا محل الکلام فی تلک الکبری، فلا نلتزم بحرمة المخالفة القطعیة وکل هذا الکلام حینئذٍ لا یأتی.

کیف ندخل المقام فی کبری الاضطرار إلی أحدهما بعینه ؟

هذا یتوقّف علی ملاحظة أمرین:

الأمر الأوّل: إنّ فرض مسألتنا هو فی ما لم یکن لأحد المحتملین أیّ مزیة تمیّزه عن المحتمل الآخر، هذا هو محل کلامنا، أمّا إذا کان لأحدهما مزیة، فسیأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی، فهناک محتملان أحدهما الوجوب التعبّدی ----------- مثلاً ----------- والآخر هو الحرمة التوصّلیة، أو التعبّدیة، هذا هو محل کلامنا من دون أن یُفرض وجود مزیة فی أحد الطرفین دون الآخر لا احتمالاً ولا محتملاً، لا قوة فی الاحتمال ولا قوة فی المحتمل.

ص: 472

الأمر الثانی: أنّ عبادیة العبادة بمعنی الإتیان بها بقصد التقرّب إلی سبحانه وتعالی تتوقف علی افتراض أن یکون الفعل محبوباً له سبحانه وتعالی حتّی یمکن للعبد أن یتقرّب إلیه بمحبوبه، وتتوّقف علی افتراض رجحان الفعل علی الترک، أن یکون الفعل أرجح من الترک؛ حینئذٍ یمکن للعبد أن یأتی بالفعل؛ لأنّه أرجح من الترک؛ ولأنّه محبوب، فیمکن أن یأتی به متقرباً إلیه سبحانه وتعالی. وأمّا إذا افترضنا عدم وجود رجحان وعدم وجود محبوبیة فی قبال الترک، الفعل والترک سیّان وبدرجة واحدة عند المولی سبحانه وتعالی، لا توجد أرجحیة والفعل والترک علی حدٍ سواء ولا توجد أیّ أرجحیة للفعل علی الترک، فی هذه الحالة لا یمکن التقرّب بالفعل إلیه سبحانه وتعالی.

وبعبارة أخری: فی محل الکلام الفعل یکون دائر أمره بین أن یکون محبوباً علی تقدیر الوجوب وبین أن یکون مکروهاً ومبغوضاً علی تقدیر الحرمة، فیدور أمره بین محبوبیة وبین مبغوضیة واحتمال المحبوبیة یساوی احتمال المبغوضیة ---------- بحسب الفرض ---------- ولا توجد میزة، هذا الفعل الذی احتمل کونه محبوباً بنفس الدرجة التی احتمل کونه مبغوضاً للمولی سبحانه وتعالی، کیف لی أن أأتی به بداعی التقرّب إلیه سبحانه وتعالی ؟! فإذن لابدّ من افتراض أرجحیة ومحبوبیة فی الفعل حتّی یمکن التقرّب به إلی الله سبحانه وتعالی.

حینئذٍ یقال: المفروض أنّ المکلّف فی محل الکلام غیر قادر علی الموافقة القطعیة، بمعنی أنّه یتعذّر علیه امتثال کلا المحتملین الوجوب والحرمة؛ بل تقدّم أیضاً أنّ المفروض أنّه مضطر إلی مخالفة أحد المحتملین، إذا فعل یخالف احتمال التحریم، وإذا ترک یخالف احتمال الوجوب؛ حینئذٍ یقال أنّ مثل هذا المکلّف یصبح غیر قادر علی الإتیان بالفعل علی نحوٍ قربی، بمعنی أنّه لا یتمکن من امتثال أحد المحتملین وهو الوجوب القربی فی فرض المسألة؛ لأنّه إنّما یمتثل الوجوب القربی بأن یأتی بالفعل متقرباً إلیه سبحانه وتعالی، وقد تقدّم أنّ هذا یتوقّف علی افتراض محبوبیة للفعل وأرجحیة للفعل علی الترک، وهذا المکلّف لا یحرز هذه الأرجحیة ---------- بعد فرض التساوی بینهما ---------- حتّی یتمکن أن یأتی به علی نحو التقرّب، إذن، هو غیر متمکن من امتثال هذا الوجوب فی محل کلامنا، وهذا معناه أنّ الوجوب فی المقام یسقط؛ لعدم القدرة علی امتثاله، بمعنی أنّ الوجوب علی تقدیر ثبوته واقعاً لابدّ من الالتزام بسقوطه فی المقام لعدم القدرة علی امتثاله، وبناءً علی هذا إذا سقط الوجوب لعدم القدرة علی امتثاله یکون احتمال الحرمة احتمالاً مشکوکاً بالشک البدوی، فلا مانع من إجراء الأصول المؤمّنة فیه، یکون حاله حال الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه فی الشبهة المحصورة فی العلم الإجمالی، ینحل العلم الإجمالی ویجوز إجراء الأصول فی الطرف الآخر، هو مضطر فی محل کلامنا إلی مخالفة هذا التکلیف، هو مضطر إلی مخالفة الوجوب القربی المحتمل، کما أنّه هناک هو مضطر إلی مخالفة التکلیف فی هذا الطرف؛ لأنّه مضطر إلی ارتکابه بعینه، فهو مضطر إلی مخالفة التکلیف فیه علی تقدیر ثبوته فیه، فیجری الأصل فی الطرف الآخر بلا معارض، فالإشکال ینشأ من أنّ هذا الطرح ینشأ من افتراض أنّ المکلّف غیر قادر علی الإتیان بالفعل بقصد التقرّب، الذی هو عبارة أخری عن أنّه غیر قادر علی امتثال أحد المحتملین الذی هو الوجوب القربی بحسب الفرض؛ لأنّ هذا یتوقّف علی افتراض أرجحیة ----------- علی الأقل ----------- للفعل فی مقابل الترک، وهذا غیر موجود فی محل کلامنا. کیف یمکن للمکلّف فی الحالة التی نحن فیها أن یحرز أنّ الفعل أرجح من الترک حتّی یتمکن من امتثال الوجوب العبادی المحتمل، إذن: هو مضطر إلی مخالفة أحد المحتملین بعینه، فتجری الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، وبهذا لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً حتّی لحرمة المخالفة القطعیة.

ص: 473

نعم، المکلّف قادر علی الفعل بلا قصد القربة، لکن هذا لیس هو ممّا یحتمل وجوبه فی محل الکلام، الذی یحتمل وجوبه لیس هو الفعل بلا قصد القربة؛ بل هو الفعل مع قصد القربة، هذا هو المحتمل فی قبال احتمال الحرمة، وإلاّ، لا نحتمل وجوب الفعل بلا قصد القربة، وإلاّ، لو کان هذا هو المحتمل لدخل فی المقام الأوّل الذی یدور بین الوجوب والحرمة التوصّلیین، فی محل الکلام الوجوب یتعلّق بالفعل بقصد القربة وهو غیر قادر علی امتثاله.

قد یجاب عن هذا الإشکال بأن یقال: أنّ الإتیان بالفعل بداعی آخر غیر قصد القربة حرام وممّا یُقطع بحرمته تفصیلاً، بقطع النظر عن حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنها هی محل کلامنا، إمّا أن نثبتها، أو ننفیها، بقطع النظر عن هذه، الإتیان بالفعل بلا قصد القربة ممّا یقطع بحرمته تفصیلاً لا من جهة أنّه یکون مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّ التکلیف المعلوم بالإجمال مرددّ بین الوجوب التقرّبی العبادی وبین الحرمة ومخالفتهما تتحقق بالإتیان بالفعل بلا قصد القربة، لیس من هذه الجهة، لکن یدعی فی المقام بقطع النظر عن تلک الجهة بأنّه ممّا نعلم تفصیلاً بحرمته، إمّا بحرمة نفسیة، علی تقدیر ثبوت ذلک المحتمل فی الواقع وهو الحرمة، فیکون الفعل بلا قصد القربة حراماً بحرمةٍ نفسیة کما کنّا افترضنا سابقاً أنّ الحرمة فی قبال الوجوب هی حرمة نفسیة ثابتة لذات الفعل لا للفعل بقصد القربة، فالفعل إمّا حرام بحرمةٍ نفسیة، علی تقدیر ثبوت الحرمة، وإمّا حرام بحرمةٍ غیریة، بناءً علی افتراض أن یکون الوجوب العبادی هو الثابت یکون الفعل بلا قصد القربة حرام بحرمة غیریة، باعتبار مسألة أنّ النهی عن شیء یقتضی النهی عن ضدّه الخاص، فالأمر بالفعل العبادی یقتضی النهی عن ضدّه الخاص وهو الفعل بلا قصد القربة، فیقتضی النهی عنه، فیصبح الفعل بلا قصد القربة منهیاً عنه؛ لأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص، فیکون حراماً، غایة الأمر أنّ هذه الحرمة لیست حرمة نفسیة، وإنّما هی حرمة غیریة، أی حرمة لأجل وجوب الفعل مع قصد القربة، إذن: الفعل بلا قصد القربة حرام، إمّا بحرمةٍ نفسیة، وإمّا بحرمةٍ غیریة، غایة الأمر أننا فی المقام نحتمل أنّ هذه الحرمة التی نعلم بها تفصیلاً تسقط باعتبار العجز عن امتثالها، أو عن تحصیل ملاکها، باعتبار عدم القدرة علی تحصیل ملاکها؛ لأنّ هذه الحرمة علی تقدیر أن تکون حرمة غیریة المکلّف عاجز عن تحصیل ملاکها؛ لأنّ الحرمة الغیریة للفعل بلا قصد القربة ملاکها هو الاتیان بالفعل مع قصد القربة؛ لأنّ الحرمة إنّما جاءت من قِبل الأمر بالفعل مع قصد القربة، فتمام ملاکها هو الاتیان بالفعل مع قصد القربة، الفعل بلا قصد القربة إنّما حرم علی المکلّف لأجل أن یکون مقدّمة لتمکنه من الاتیان بالفعل مع قصد القربة، لکن المفروض أنّ المکلّف عاجز عن الاتیان بالفعل مع قصد القربة؛ لأنّه لا یحرز الأرجحیة للفعل حتّی یتمکن من الاتیان به بقصد التقرّب، فمن هذه الجهة یحتمل سقوط التکلیف بالحرمة، باعتبار أنّه علی أحد التقدیرین یکون عاجزاً عن تحصیل ملاک هذه الحرمة، وعلی التقدیر الآخر هو قادر علی تحصیل ملاکها فیما إذا کانت حرمة نفسیة وذلک بأن یترک الفعل، لکن علی تقدیر أن تکون حرمة غیریة لا یتحقق ملاکها؛ لأنّ ملاکها تمام ملاکها هو الإتیان بقصد القربة، والمفروض أنّه عاجز وغیر قادر علی الإتیان بالفعل بقصد القربة، فیُشکّ فی سقوط هذا التکلیف من جهة العجز عن امتثال ملاکه علی کل تقدیر. هذا سوف یدخلنا فی مسألة الشک فی القدرة علی امتثال التکلیف، وقد اتفقوا علی أنّ الشک فی القدرة علی التکلیف ------------ کما تقدّم ------------- وإن کام هو فی روحه یرجع إلی الشک فی التکلیف، لکن اتفقوا علی عدم جریان البراءة وعلی جریان الاحتیاط والاشتغال، وأنّ هذا مورد للاحتیاط ولیس مورداً للبراءة، عندما یشک المکلّف أنّه قادر علی التکلیف، أو لا ؟ والقدرة شرط فی التکلیف، وهذا شک فی التکلیف، هل یجری البراءة، قالوا لا؛ بل لابد من الاحتیاط، فغایة ما فی المقام هو أن ندخّل الشک فی محل الکلام فی الشک فی القدرة علی الامتثال وهو مورد للاحتیاط، فیجب علیه الاحتیاط ولا یجوز له إجراء البراءة لنفی المحتمل الآخر کما أدُعی فی أصل الإشکال، أصل الإشکال یقول: هذا یدخل فی الاضطرار إلی أحدهما بعینه؛ وحینئذٍ لا مانع من إجراء البراءة لنفی المحتمل الآخر، هو مضطر إلی مخالفة الوجوب التعبّدی لعدم القدرة علی امتثاله، فتجری البراءة فی الطرف الآخر، هذا کان مضمون الإشکال، هو یرید أن یصل إلی هذه النتیجة، أنّ حرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام غیر ثابتة؛ بل تجری البراءة لنفی المحتمل الآخر، هذا الجواب یقول: أنّ المحتمل الآخر لا یمکن إجراء البراءة فیه؛ لأننا نعلم تفصیلاً بحرمة الفعل بلا قصد القربة، وإذا علمنا بحرمته تفصیلاً إمّا لحرمة نفسیة، أو لحرمة غیریة؛ حینئذٍ غایة ما یمکن أن یقال أننا نشک فی سقوط هذا التکلیف المعلوم تفصیلاً علی أساس الشک فی القدرة علی امتثاله علی کلا التقدیرین، یعنی سواء کان حراماً بحرمة نفسیة، أو بحرمة غیریة، فنشک فی القدرة علی امتثاله، فیدخل فی باب الشک فی القدرة والمختار فیه هو الاحتیاط لا البراءة، وهذا معناه أننا نعلم بحرمة الفعل علی کل تقدیر، فإذا قلنا نعلم بحرمة الفعل تفصیلاً، کیف تجری فیه البراءة ؟ لا یمکن إجراء البراءة لنفی الحرمة، فرضاً هو مضطر إلی مخالفة الوجوب العبادی لا یتمکن من امتثاله، لکن کیف یجری البراءة لنفی الحرمة التی تعنی تجویز المخالفة القطعیة، هذا غیر ممکن فی محل الکلام؛ لأنّ الحرمة معلومة تفصیلاً، إمّا حرمة نفسیة، أو حرمة غیریة، هذا قد یقال فی مقام الجواب عن الإشکال.

ص: 474

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی الإشکال المتقدّم الذی نتیجته عدم حرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام، وبالتالی جواز ارتکاب الطرف الآخر، وهذه نتیجة لا تخلو من غرابة، أن یُلتزم فی المقام ----------- دوران الأمر بین المحذورین ------------ بعدم حرمة المخالفة القطعیة، الإشکال کان یترکز علی دعوی أنّه بعد فرض تساوی الاحتمالین وعدم وجود مرجّح للفعل علی الترک، فالمکلّف لا یتمکن من الإتیان بالفعل علی نحوٍ قربی؛ لأنّ القربیة والعبادیة تتوقّف علی افتراض أرجحیة ومحبوبیة للفعل حتّی یتقرّب به إلی الله سبحانه وتعالی، أمّا إذا لم تکن فیه أرجحیة، وکان احتماله مساویاً لاحتمال الترک، بمعنی أنّ الفعل کما یحتمل وجوبه یحتمل حرمته، وکما تحتمل محبوبیته تحتمل مبغوضیته، مثل هذا الفعل الذی یحتمل فیه المحبوبیة والمبغوضیة بدرجة واحدة للمولی لا یمکن التقرّب به، وبالتالی یکون المکلّف غیر قادر علی امتثال الوجوب العبادی الذی هو أحد المحتملین، ومعنی ذلک أنّ المکلّف مضطر إلی مخالفة هذا المحتمل، وهذا یدخل فی باب الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه، هو مضطر إلی مخالفة هذا، فیمکن إجراء البراءة فی المحتمل الآخر، وهذا کما قلنا یعنی عدم حرمة المخالفة القطعیة.

هذا الإشکال کما هو واضح لا یختص بما إذا کان الوجوب المحتمل عبادیاً فقط؛ بل یشمل أیضاً ما إذا کانت الحرمة المحتملة عبادیة فقط، أیضاً نفس الکلام یقال، إذا فرضنا أنّ الحرمة کانت عبادیة والوجوب کان توصّلیاً أیضاً نفس الکلام، یقال أنّ المکلّف غیر قادر علی الترک العبادی؛ لأنّ الترک والفعل یتساویان بالنسبة إلی المولی سبحانه وتعالی، لا یوجد مائز ولا أرجحیة للترک علی الفعل حتّی یترک المکلّف بقصد التقرّب، نفس الکلام الذی قیل فی جانب الوجوب یقال بنفسه فی جانب الحرمة عندما نفترض أنّ الحرمة عبادیة دون الوجوب؛ بل الظاهر أنّ الإشکال یشمل صورة ما إذا کان کل منهما عبادیاً الذی هو داخل فی محل الکلام، یعنی داخل فی هذا المقام الذی نتکلّم عنه، المقام الأوّل هو ما إذا کان کل منهما توصلیاً مع وحدة الواقعة، والمقام الثانی هو وحدة الواقعة مع کون أحدهما علی الأقل عبادیاً حتّی نستطیع أن نتصوّر التمکن من المخالفة القطعیة، فإذن، صورة ما إذا کان کل منهما عبادیاً داخل فی محل الکلام، والظاهر أنّ الإشکال أیضاً یأتی فیه، بمعنی أنّه فی هذه الصورة المکلّف عاجز عن التقرّب بکل من الفعل والترک، یعنی بعبارةٍ أخر: عاجز عن امتثال کلا المحتملین، کما لا یمکنه أن یأتی بالفعل بقصد التقرّب؛ لأنّه لا أرجحیة للفعل علی الترک، لا یحرز هذه الأرجحیة، کذلک لا یمکنه الإتیان بالترک متقرّباً إلی الله تعالی؛ لأنّه أیضاً لا یحرز أرجحیة الترک بالنسبة إلی الفعل، وهذا معناه أنّه غیر قادر علی ارتکاب کلا المحتملین، فی الصورة السابقة عندما یکون أحدهما عبادیاً دون الآخر، هو یکون غیر قادر علی امتثال أحد المحتملین، لکنّه قادر علی امتثال المحتمل الآخر؛ ولذا احتجنا إلی إجراء البراءة لنفی المحتمل الآخر، بینما إذا کان کل منهما عبادیاً هو غیر قادر علی امتثال کلا المحتملین، لا یستطیع أن یمتثل الوجوب العبادی؛ لأنّه لا یحرز أرجحیة الفعل، کما أنّه لا یستطیع أن یمتثل الحرمة العبادیة؛ لأنّه لا یستطیع أن یحرز أرجحیة الترک بالنسبة إلی الفعل، وهذا معناه أنّه یصبح عاجزاً عن امتثال کلا المحتملین، فیسقطان؛ وحینئذٍ لا نحتاج إلی إجراء أصالة البراءة؛ لأنّ کلا المحتملین یسقط، الوجوب علی تقدیر ثبوته یسقط لعدم القدرة علی امتثاله، والحرمة علی تقدیر ثبوتها أیضاً تسقط لعدم القدرة علی امتثالها؛ وحینئذٍ لابدّ من الالتزام بأنّه لا تحرم علیه المخالفة القطعیة، فیجوز له أن یأتی بالفعل بلا قصد القربة، أو یترک بلا قصد القربة. فنصل إلی نفس النتیجة وهی أنّ المخالفة القطعیة لا تحرم علیه فی کل هذه الصور الثلاثة، سواء کان الوجوب تعبّدیاً دون الحرمة، أو کانت الحرمة تعبّدیة دون الوجوب، أو کان کل منهما تعبّدیاً.

ص: 475

الجواب الذی ذکرناه سابقاً قد بینّاه فی الدرس السابق، هذا الجواب یبتنی علی القول(أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضده الخاص) وهذا محل کلام ومناقشة وغیر ثابت، ویبتنی الجواب المتقدّم أیضاً علی أن تکون الحرمة الغیریة داخلة فی العهدة؛ لأنّه فی الجواب هکذا قیل، لأنّ الفعل بلا قصد القربة یعلم المکلّف بحرمته تفصیلاً، إمّا بحرمةٍ نفسیة، وإمّا بحرمة غیریة، بحرمة نفسیة علی تقدیر أن یکون الطرف الواقعی هو الحرمة، فیکون الفعل حراماً نفسیاً، الحرمة الغیریة علی تقدیر ثبوت الوجوب العبادی؛ لأنّ الأمر بالوجوب العبادی یقتضی النهی عن ضدّه الخاص، وضدّه الخاص هو الفعل بلا قصد القربة، فیکون منهیاً عنه، فیکون حراماً حرمة غیریة. فإذن، هو یکون حراماً معلوم الحرمة، فکیف نجّوز للمکلّف أن یفعل بلا قصد القربة کما هو مقتضی الإشکال السابق؛ لأنّ نتیجة الإشکال السابق کما قلنا هو عدم حرمة المخالفة القطعیة التی تعنی جواز الفعل بلا قصد القربة؛ لأنّه بها تتحقق المخالقة القطعیة. أمّا هذا الجواب فیقول لا؛ لأنّ الفعل بلا قصد القربة معلوم الحرمة تفصیلاً، إمّا بحرمة نفسیة، وإمّا بحرمة غیریة، غایة ما یمکن أن یقال هو أننا نشک فی قدرة المکلّف علی امتثال التکلیف، هذه الحرمة المعلومة تفصیلاً، إمّا بحرمة نفسیة، وإمّا بحرمة غیریة یُشک فی قدرة المکلّف علی امتثالها؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون الحرمة غیریة هو غیر قادر علی امتثالها والوصول إلی ملاکها؛ لأنّ ملاک الحرمة الغیریة هو الإتیان بالفعل الواجب مع قصد القربة؛ لماذا حُرّم الفعل بلا قصد القربة ؟ لأجل وجوب الفعل مع قصد القربة، وهو عاجز عن الإتیان بالفعل بقصد القربة بحسب الفرض؛ لأنّه لا أرجحیة للفعل بالنسبة إلی الترک، فغایة ما یمکن أن یقال فی المقام أنّ هذه الحرمة المعلومة تفصیلاً یُشک فی قدرة المکلّف علی امتثالها، لا مشکلة، یدخل فی باب الشک فی قدرة المکلّف علی الامتثال، والرأی المعروف والصحیح هو أنّه مجریً للاحتیاط لا للبراءة، فإمّا أن نقول أنّ الفعل بلا قصد القربة الذی کان نتیجة الإشکال هو إثبات جوازه. الجواب یقول: لا یمکن الالتزام بجوازه؛ لأنّه إمّا معلوم الحرمة تفصیلاً، أو لا أقل أننّا نقول یجب فیه الاحتیاط، غایة ما یقال أنّه هناک شکّ فی القدرة، وفی باب الشکّ فی القدرة لابدّ من الاحتیاط. علی کل حال لا یمکن الالتزام بجوازه، ومن هنا یکون هذا جواب عن الإشکال السابق.

ص: 476

أقول: هذا الجواب یبتنی علی أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه الخاص حتّی نثبت حرمة الفعل بلا قصد القربة؛ لأنّه ------------- علی هذا التقدیر ------------- أُمر بالفعل مع قصد القربة، والأمر به یقتضی النهی عن ضدّه الخاص وهو الأمر بالفعل من دون قصد القربة، وهذا محل کلام. ویبتنی ثانیاً علی أن تکون الحرمة الغیریة داخلة فی عهدة المکلّف، وهذا أیضاً محل کلام، فالحرمة الغیریة لا تدخل فی عهدة المکلّف؛ بل واقع المطلب هو أنّه فی محل الکلام هناک مطلوبان نفسیان یدور الإلزام بینهما، غرضان نفسیان کل منهما محتمل المطلوبیة وهما عبارة عن الفعل مع قصد القربة، أو الترک؛ لأنّ الأمر یدور بین الوجوب العبادی وبین الحرمة، وأحدهما یُقطع بسقوطه؛ لعدم قدرة المکلّف علی امتثاله، وهو فی مثالنا الوجوب العبادی؛ لأنّ المکلّف لا یحرز أرجحیة الفعل بالنسبة إلی الترک، فیُقطع بسقوطه، والثانی لا یُقطع بسقوطه، وإنّما یُشک فی سقوطه، وهو شک فی التکلیف، فتجری فیه البراءة، فیعود الإشکال السابق کما کان، وهذا الجواب لا یصلح أن یکون جواباً عن الإشکال السابق؛ لأنّ الجواب یبتنی علی أمور لا نلتزم بها، وبالتالی کما قیل فی الإشکال، الأمر یدور بین وجوب عبادی وبین حرمة، والوجوب العبادی یُقطع بسقوطه لعدم القدرة علی امتثاله، ویُشک فی الحرمة، فتجری فیها البراءة، فتجوز المخالفة القطعیة.

الجواب الثانی: أن یقال أنّ الإشکال نشأ فی الحقیقة من مسألة عدم إحراز أرجحیة الفعل بالنسبة إلی الترک، أن المکلّف لا یستطیع أن یُحرز أرجحیة الفعل بالنسبة إلی الترک، وبالتالی لا یتمکن من أن یأتی بالفعل بقصد التقرب إلی المولی سبحانه وتعالی، فیُصبح عاجزاً عن امتثال الوجوب العبادی المحتمل، لکن یمکن أن یقال أنّه یمکن افتراض التمکن من قصد القربة بالفعل عن طریق انضمام داعٍ دنیوی إلی الداعی القربی، بمعنی أنّ الداعی القربی هو احتمال الوجوب بالنسبة إلی الوجوب الذی هو محل کلامنا فی أنّ المستشکل یقول بأنّ المکلّف غیر قادر علی امتثاله؛ لأنّه لا یحرز أرجحیة الفعل. فی هذا الفعل یوجد داعٍ قربی وهو احتمال أن یکون هذا واجب هذا داعٍ الهی، هذا الداعی القربی الإلهی فی طرف الفعل إذا أنظم إلیه داعٍ دنیوی؛ حینئذٍ یقال سیترجّح الفعل علی الترک، فإذا المکلّف أوقع الفعل علی أساس انضمام الداعی الدنیوی إلی الداعی القربی، یعنی اجتمع علی الفعل داعیان أحدهما إلهی قربی والثانی هو داعٍ دنیوی؛ حینئذٍ یترجّح الفعل علی الترک، وهذا المقدار کافٍ فی عبادیة الفعل وفی قربیته، فیکون الفعل الذی یأتی به المکلّف فی هذه الحالة فعلاً عبادیاً، ونحن لا نرید من العبادیة واشتراط التقرّب أکثر من هذا المقدار فی حالة اجتماع الداعی القربی، انضمام الداعی الدنیوی إلی الداعی القربی الإلهی. غایة الأمر أنّ هذا الداعی الإلهی القربی زُوحم بداعٍ قربیٍ یدعو إلی الترک وهو احتمال الحرمة فی الطرف الآخر، احتمال الوجوب فی الفعل مُزاحم باحتمال الحرمة فی جانب الترک وهو أیضاً داعٍ إلهی قربی بلا إشکال. هذه المزاحمة بین داعیین قربیین فی هذا الجواب یقال بأنّها لا تضر فی المقربیة ولا تضر فی العبادیة، باعتبار أنّ النقص الحاصل بالنسبة إلی الداعی الإلهی فی الفعل نشأ من مزاحمته بداعٍ قربی مثله، وإلاّ لم ینشأ النقص، فهو فی حد نفسه داعٍ کامل ومستقل، هو علّة تامّ للتحرّک احتمال الوجوب، طرأ علیه النقص باعتبار أنّه زوحم بداعٍ إلهی قربی یدعو إلی الترک، احتمال الوجوب یدعو إلی الفعل، وفی مقابله احتمال الحرمة یدعو إلی الترک، وحیث أنّ المکلّف لا یمکن افتراض أنّ کلا الداعیین یؤثران معاً فی آن واحد، هذا غیر معقول؛ لأنّ تأثیرهما یعنی أنّ المکلّف یجمع بین الفعل والترک، وهذا غیر معقول، ومن هنا صارت المزاحمة بینهما، احتمال التحریم یرید أن یؤثر فی الترک، واحتمال الوجوب یرید أن یؤثّر فی الفعل، فیتزاحمان. یطرأ نقص علی هذا الداعی الإلهی وهو احتمال الوجوب فی جانب الفعل، لکن باعتبار مزاحمته بداعٍ قربیٍ مثله، فإذا انضم إلی هذا الداعی ---------- احتمال الوجوب ---------- المُزاحَم بداعٍ قربیٍ مثله، إذا انضمّ إلیه داعٍ دنیوی، فیقال فی الجواب أنّ هذا لا یضر فی عبادیة العبادة ووقوع الفعل إذا صدر من المکلّف علی هذا الأساس، وقوعه عبادیاً قربیاً، وبهذا یکون المکلّف متمکن من الإتیان بالفعل علی نحوٍ عبادی، فیکون قادراً علی امتثال هذا المحتمل، ولا نقول أنّه غیر قادر ویسقط التکلیف فی هذا الطرف علی تقدیر ثبوته؛ لأنّ المکلّف غیر قادر علی امتثاله؛ بل هو قادر علی امتثاله بأن یضم إلی هذا الداعی الإلهی وهو احتمال الوجوب، یضم إلیه داعیاً دنیویاً وفی هذه الحالة هذا الانضمام لا یضر فی عبادیة العبادة؛ لأنّ الداعی القربی وهو احتمال الوجوب داعٍ تام، وعلّة تامّة للتحرک ولیس هناک نقص فی داعویته وفی کونه داعیاً إلهیاً، وإنّما طرأ علیه النقص باعتبار المزاحمة بداعٍ قربیٍ مثله، هذا الانضمام لا یضر فی عبادیة العبادة وفی کون الفعل فعلاً عبادیاً یُقصد به التقرّب إلی الله سبحانه وتعالی، ومن هنا یقال فی هذا الجواب الثانی: لا یمکن قیاس هذا الطرف بما إذا فرضنا أنّ الداعی الإلهی فی طرف الفعل زوحم بداعٍ دنیوی یدعو إلی الترک کما إذا فرضنا أنّ هناک داعیاً دنیویاً یدعو المکلّف نحو الترک مراعاة لمصلحة دنیوی فی قبال الداعی الإلهی فی جانب الفعل الذی یدعوه إلی الفعل، یتزاحمان بلا إشکال، فی هذه الحالة إذا اقترن الداعی الإلهی للفعل بداعٍ دنیوی، نقول هذا لا یکفی فی عبادیة العبادة؛ لأنّه فی هذه الحالة النقص لیس من جهة المزاحمة بداعٍ قربی مثله، وإنّما النقص طرأ علی هذا الداعی الإلهی باعتبار مزاحمته بداعٍ دنیوی بحیث أنّ الداعی الدنیوی المنضم إلی الداعی الإلهی فی جانب الفعل هو الذی یکون مؤثراً فی صدور الفعل وبالتالی یکون مؤثراً فی عبادیته وفی قربیته.

ص: 477

هذا الجواب الثانی، ویمکن صیاغته بعبارة أخری کما قیل، أنّ فی المقام یوجد داعیان قربیّان أحدهما الوجوب الذی یدعو إلی الفعل والآخر الذی یدعو إلی الحرمة والترک، فإذا افترضنا أنّ کلاً من الداعیین علّة تامّة لنحریک العبد، احتمال الوجوب فی حدّ نفسه یحرک العبد نحو الفعل، واحتمال الحرمة فی حد نفسها تحرک العبد نحو الترک، غایة الأمر أنّ احتمال الوجوب الذی هو علّة تامّة لتحریک العبد ابتُلی بالمزاحمة بداعٍ قربی مثله، وهو احتمال الحرمة، فی هذه الحالة لا یمکن للمکلّف أن یجمع بینهما، یعنی لا یمکن لکلا الداعیین أن یؤثرا معاً فی ما یدعوان إلیه، مع أنّ هذا غیر ممکن، فلابدّ فی هذه الحالة من تحصیل داعٍ دنیوی حتّی یترجح الفعل علی الترک، فإذا حصّل علی داعٍ دنیوی نفسانی یضمّه إلی الداعی الإلهی الذی لا نقص فیه فی حدّ نفسه وإنّما النقص طرأ علیه من جهة مزاحمته بداعٍ قربی مثله کما قال؛ فحینئذٍ هذا الانضمام لا یؤثر فی عبادیة العبادة وقربیة الفعل، بخلاف ما إذا زُوحم الداعی فی جانب الفعل بداعی دنیوی فی جانب الترک، فأنّه یؤثر، حتّی لو انضم داعٍ دنیوی فی جانب الفعل، الفعل لا یقع عبادة. هذا ما یمکن بیانه من هذا الجواب، أو ما نفهمه علی الأقل من هذا الجواب الثانی، وبناءً علی هذا الجواب؛ حینئذٍ یکون المکلّف قادراً علی امتثال الوجوب العبادی، بإمکانه أن یضم داعیاً دنیویاً إلی الداعی الإلهی ویأتی بالفعل علی نحوٍ قربی، یکفی هذا فی العبادیة، إذن هو قادر علی امتثاله، إذن، لا یمکن أن نقول أنّه غیر قادر علی امتثاله، فیسقط هذا الطرف، فتجری البراءة فی الطرف الآخر.

ص: 478

الظاهر أنّ هذا الجواب لو تمّ فهو لا یحل المشکلة فی جمیع الصور الداخلة فی محل الکلام، فهو لو تم فأنّه لا یجری فی بعض الحالات الداخلة فی محل الکلام، مثلاً قد نفترض عدم وجود داعٍ دنیوی یضمّه المکلّف إلی الداعی الإلهی، بناءً علی هذا الفعل لا یکون مقدوراً حینئذٍ، فیعود الإشکال کما کان فی السابق؛ لأنّ هذا الجواب مبنی علی افتراض أن یضم المکلّف داعی دنیوی نفسانی إلی الداعی الإلهی القربی فی جانب الفعل، فإذا فرضنا أنّه لا یوجد لدینا داعٍ نفسی یدعوه إلی الفعل، لا شیء من الدواعی الدنیویة یدعوه إلی الفعل، فی هذه الحالة یعود الإشکال کما کان فی السابق؛ لأنّ المکلّف یصبح عاجزاً عن امتثال الوجوب العبادی؛ لأنّه غیر قادر علی الإتیان بالفعل علی نحوٍ قربی، فی هذه الحالة لا تحل المشکلة. نعم، فرض عدم وجود داعٍ دنیوی یضمّه المکلّف إلی الداعی الإلهی لا یؤدی إلی المخالفة القطعیة، یعنی لا یؤدی إلی الإتیان بالفعل بلا قصد القربة التی هی مخالفة قطعیة، وذلک باعتبار أنّ المکلّف فی هذه الحالة یختار الترک حتماً، فی حالة عدم وجود داعٍ دنیوی یُرجح بنظر المکلّف الفعل علی الترک، فأنّه سوف یترک ولن یأتی بالفعل بلا قصد القربة؛ لأنّ الترک یکفی فیه عدم وجود مرجّح للفعل، هذا ینسجم مع طبیعة الإنسان، هذا صحیح، بمعنی أنّه فی فرض عدم وجود داعٍ دنیوی ینضم إلی الداعی الإلهی لیرجّح الفعل علی الترک، هذا الفرض سوف لا یؤدی إلی المخالفة القطعیة، لا یؤدی إلی أن یأتی المکلّف بالفعل بلا قصد القربة، وإنّما هو حتماً یؤدی إلی ترک الفعل، وترک الفعل لیس فیه مخالفة قطعیة، لکن هذا لا یرفع الإشکال، کون هذا الفرض لا یؤدی إلی المخالفة القطعیة؛ لأنّ المکلّف سوف یترک حتماً لا أن یفعل بلا قصد القربة، هذا لا یرفع الإشکال؛ لأنّه علی کل حال یبقی المکلّف عاجزاً عن امتثال هذا المحتمل، یبقی عاجزاً عن امتثال الوجوب العبادی، وهذا العجز بحسب الفرض یوجب سقوط هذا التکلیف علی تقدیر ثبوته واقعاً، وإذا سقط هذا التکلیف تجری البراءة فی الطرف الآخر. هذه حالة لا یتمّ فیها هذا الجواب

ص: 479

الحالة الثانیة: فیما إذا کان کل منهما عبادیاً، قلنا أنّ هذه الحالة داخلة فی محل الکلام، والإشکال جارٍ فیها؛ لأنّ المکلّف یصبح عاجزاً عن امتثال کلٍ منهما، فهو عاجز عن امتثال الوجوب لعدم وجود أرجحیة فی کلٍ منهما، وعاجز عن امتثال الحرمة لعدم وجود أرجحیة للترک، ولازم ذلک هو سقوط کلا التکلیفین؛ حینئذٍ فی الجواب أی شیءٍ یُفرض فی طرف الفعل یُرجّح الفعل علی الترک یمکن فرضه فی جانب الترک، فیرجّح الترک علی الفعل، فکما قلنا أنّ انضمام داعٍ دنیوی فی طرف الفعل یرجّح الفعل علی الترک، أیضاً نقول أنّ انضمام داعٍ دنیوی للترک یحرک المکلّف نحو الترک إلی الداعی الإلهی القربی الموجود فی جانب الترک هذا أیضاً سوف یُرجّح جانب الترک علی الفعل، وبالتالی سوف نفترض وجود داعیین قربیین للفعل وللترک، وکل منهما انضم إلیه داعٍ دنیوی، وفی هذه الحالة لا توجد أرجحیة، لا یتمکن المکلّف من الامتثال، فإن أراد أن یمتثل الفعل، لا توجد فیه أرجحیة بالنسبة إلی الترک، وإن أراد أن یمتثل الترک، لا توجد أرجحیة للترک بالنسبة إلی الفعل، فهنا أیضاً لا یکون هذا الجواب تامّاً.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی الإشکال الذی أورد علی الالتزام بحرمة المخالفة القطعیةفی المقام الثانی فی مسألة دوران الأمر بین المحذورین، وذکرنا بعض الأجوبة عنه. الإشکال أساساً یقول مفروض الکلام أنّ هناک تساوی بین المحتملین، ولا توجد میزة لأحد المحتملین علی الآخر، وهذا یعنی أنّ الفعل لیس أرجح من الترک ومع عدم الأرجحیة لا یمکن التقرّب بالفعل إلی المولی سبحانه وتعالی؛ لأنّ الفعل یساوی الترک، ویشترط فی التقرّب أن یکون الفعل المتقرّب به أرجح بنظر المولی ومحبوباً له، بینما الفعل فی محل الکلام لا یُحرز المکلّف أرجحیته؛ لعدم وجود میزة لأحد المحتملین علی الآخر بحسب الفرض، وذکرنا الجواب عن ذلک وکان حاصل الجواب هو أننا سلّمنا عدم وجود أرجحیة للفعل علی الترک، لکن احتمال الوجوب فی هذا الطرف هو من الدواعی القربیة، واحتمال القربی أیضاً هو داعٍ قربی، هذان الداعیان یتزاحمان، فلا یمکن أن یؤثرا معاً فی آنٍ واحد؛ فحینئذٍ نحتاج إلی وجود مرجح.

ص: 480

ذُکر فی الجواب أنّ انضمام داعٍ دنیوی إلی الداعی القربی فی طرف الفعل، هذا یکفی فی الترجیح وفی إمکان التقرّب بالفعل إلی الله سبحانه وتعالی؛ لأنّ المعتبر فی الداعی القربی هو أن لا یکون هو المحرک للفعل، وإنّما أن تکون فیه صلاحیة التحریک، والداعی القربی الموجود بالفعل بالرغم من المزاحمة مع الداعی القربی الموجود فی الترک هو فیه صلاحیة التحریک وإن لم یکن محرکاً بالفعل لابتلائه بالمزاحم، لکن فیه هذه الصلاحیة، فإذا انضم الداعی الدنیوی إلی هذا الداعی القربی یکفی هذا المقدار للتقرّب بالفعل ولعبادیة الفعل الذی یأتی به المکلّف؛ وحینئذٍ یرتفع الإشکال؛ لأنّ المکلّف قادر علی امتثال الوجوب العبادی، فإذا کان قادراً علی امتثاله؛ حینئذٍ یدخل فی مسألة الاضطرار إلی أحد الطرفین لا بعینه لا أنّه یدخل فی مسألة الاضطرار إلی أحد الطرفین بعینه کما ادُعی فی الإشکال. إذا دخل فی مسألة الاضطرار إلی أحدهما بعینه؛ حینئذٍ یجوز إجراء الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر وهذا معناه عدم الالتزام بحرمة المخالفة القطعیة، لکن إذا قلنا أنّه یدخل فی مسألة الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه، فی هذه الحالة نقول بحرمة المخالفة القطعیة ولا یمکن إجراء الأصل فی الطرف الآخر.

قلنا أنّ هذا الجواب لا یتم فی جمیع الحالات، إذا قبلناه فأنّه یتم فی بعض الحالات ولکنّه لا یتم فی جمیع الحالات، هذا ذکرناه سابقاً.

الملاحظة الثانیة علی هذا الجواب: أساساً کون الداعی قربی هو شیء غیر واضح، باعتبار أنّ صدور الفعل من المکلّف کأنّه بحسب النتیجة یکون بسبب الداعی الدنیوی، بانضمام الداعی الدنیوی إلی الداعی القربی؛ حینئذٍ صدر هذا الفعل من المکلّف، فصار الداعی الدنیوی هو المؤثّر فی صدور الفعل من المکلّف، إذا لم نقل ذلک؛ فحینئذٍ نقول أنّ صدور الفعل من المکلّف یستند إلی مجموع الداعیین، الداعی الإلهی القربی والداعی الدنیوی المنضم إلیه، لکن المفروض أنّ الداعی الإلهی القربی مُزاحم بالداعی الإلهی القربی الموجود فی الترک، والذی یحرّک المکلّف نحو الترک، وهذه المزاحمة تمنعه من التأثیر، إذن، کأنّ الفعل بالنتیجة صدر باعتبار انضمام الداعی الدنیوی إلی الداعی الإلهی القربی، بحسب النتیجة کأنّ الفعل صدر من المکلّف لانضمام الداعی الدنیوی إلی الداعی الإلهی، صحیح أنّه بالنتیجة هناک داعیان عند المکلّف أحدهما إلهی والآخر قربی، لکن هذا الداعی الإلهی مزاحم، وهذه المزاحمة تمنع من تأثیره فی التحریک الفعلی نحو الفعل؛ لأنّه مزاحم بداعٍ إلهی مثله یدعو إلی الترک، وبالتالی کأنّ الفعل فی صدوره استند إلی انضمام الداعی الدنیوی إلی الداعی الإلهی. هذا المقدار هل یکفی فی عبادیة العبادة وفی تحقق قصد القربة، أو لا یکفی ؟ هذا لیس واضحاً. أصل المطلب الذی ذُکر کأنّه مسلّم لیس واضحاً؛ لأنّه بحسب النتیجة کأنّ الفعل صدر من المکلّف باعتبار انضمام هذا الداعی الدنیوی إلی الداعی الإلهی وهذا یمنع من التقرّب، أو لا أقل قد نتوقّف فی أنّ هذا هل یحقق العبادیة، أو لا یحقق العبادیة ؟ ومن هنا یظهر أنّ هذا الجواب عن الإشکال لیس تامّاً فی جمیع موارد الإشکال وفی حدّ نفسه هو لیس واضحاً ولا یمکن الاقتناع به بهذا الشکل.

ص: 481

هناک جواب آخر عن الإشکال، لعلّه أحسن الأجوبة فی المقام، وهو أن یقال: یمکن للمکلّف الإتیان بالفعل بقصد القربة وعلی نحو العبادة، حتّی مع التسلیم بأنّه لا یحرز أرجحیة الفعل بالنسبة إلی الترک، لا توجد أرجحیة للفعل علی الترک، بالرغم من هذا ندّعی أنّه یمکنه أن یأتی بالفعل بقصد القربة وعلی نحوٍ عبادی؛ وذلک بأن یقصد بالفعل عنوان التخلّص من المخالفة القطعیة ولا إشکال أنّ عنوان التخلّص من المخالفة القطعیة ینطبق علی الإتیان بالفعل، صحیح أنّ التخلّص من المخالفة القطعیة لا یتوقف علی الفعل؛ لأنّ التخلّص من المخالفة القطعیة یمکن أن یکون بالترک، الفعل یتخلّص به المکلّف عن المخالفة القطعیة، والترک أیضاً یتخلّص به المکلّف عن المخالفة القطعیة؛ لأنّ الترک موافقة للمحتمل الآخر وهو التحریم، فإذن، یتخلّص من المخالفة القطعیة، فیه موافقة احتمالیة، لکن التخلّص یتوقف علی الفعل بلا إشکال، فإذا ضممنا إلی ذلک وضوح أنّ التخلّص من المخالفة القطعیة للتکلیف الإلهی المولوی المعلوم بالإجمال هو من القصود المقرّبة؛ إذ أنّه قصد قربی بلا إشکال، یعنی یأتی بالفعل لکی یتخلّص من مخالفة المولی سبحانه وتعالی، لکی یتخلّص من مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال وهو قصد مقرّب، فإذا کان القصد مقرّباً، إذن: بإمکان المکلّف أن یأتی بالفعل بقصد التخلّص من المخالفة القطعیة، وبذلک نتخلّص عن الإشکال؛ إذ أنّ الإشکال کان یقول لا أرجحیة فی الفعل علی الترک، باعتبار أنّ المفروض عدم وجود مزیة لأحدهما علی الآخر. صحیح المکلّف لا یحرز أرجحیة الفعل علی الترک، لکن بإمکانه أن یأتی بالفعل علی نحوٍ مقرّب؛ وذلک بأن یقصد بالإتیان به التخلّص من المخالفة القطعیة، والتخلّص من المخالفة القطعیة بلا إشکال هو من الدواعی القربیة.

ص: 482

إذن: بالنتیجة یمکن للمکّلف أن یمتثل هذه المحتمل کما یمکنه أن یمتثل المحتمل الآخر. نعم، هو مضطر إلی مخالفة أحدهما، هذا اضطرار إلی أحدهما لا بعینه، فلا تدخل المسألة فی مسألة الاضطرار إلی أحدهما بعینه کما أدُعی فی الإشکال. المهم عندنا أن ندخل المقام فی مسألة الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه حتّی نقول لا مانع من منجّزیة حرمة المخالفة القطعیة، وهذا مُنع فی الإشکال علی أساس أنّه لا یمکن أن یمتثل هذا التکلیف، أی الوجوب العبادی؛ لأنّه لا یتمکن من الإتیان بالفعل بقصد التقرّب لعدم إحراز أرجحیة الفعل علی الترک، إذن، هو مضطر إلی مخالفة هذا بالخصوص، هذا اضطرار إلی أحد الطرفین بعینه. نقول: بل هو یتمکن من الإتیان به علی نحو قربی، إذن، هو یتمکن من امتثال کلا المحتملین، لکنّه مضطر إلی مخالفة أحدهما لا علی التعیین، فیدخل فی باب الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه؛ وحینئذٍ یتم الکلام السابق.

لعل هذا أحسن الوجوه لدفع هذا الإشکال، وإلاّ، إن لم ندفع الإشکال بهذا الوجه؛ حینئذٍ الأمر فی الحقیقة یدور بین أمرین: إمّا أن نلتزم فی المقام بعدم حرمة المخالفة القطعیة، لکن بهذه الشروط، المهم فی هذه الشروط هو عدم وجود مزیة لأحد الطرفین دون الآخر، فی هذه الحالة نلتزم بعدم حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ هذا بحسب الإشکال السابق یدخل فی مسألة الاضطرار إلی أحدهما بعینه، وهناک اتفقنا علی جواز إجراء الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، وهذا معناه عدم حرمة المخالفة القطعیة. إمّا أن نلتزم بذلک، وهذا شیء لیس من السهل الالتزام به، أی نلتزم فی حالة من هذا القبیل بجواز المخالفة القطعیة، أو نلتزم بأنّه فی مسألة دوران الأمر بین المحذورین وفی فرض التساوی وعدم وجود مزیة لأحدهما علی الآخر، نقول: أصلاً لا یمکن فرض کون أحدهما، أو کلیهما عبادیاً؛ باعتبار أنّ کون أحدهما عبادیاً یتوقف علی أن یکون أرجح من الآخر، أن یکون الوجوب عبادیاً، هذا غیر ممکن؛ لأنّه یتوقف علی أن یکون الفعل أرجح من الترک، والمفروض عدم الأرجحیة، إذن، لا یمکن أن یکون الوجوب عبادیاً، وهکذا الحرمة، لا یمکن أن تکون الحرمة عبادیة بنفس البیان السابق کما قلنا. ففی مسألة دوران الأمر بین المحذورین وفرض التساوی بین المحتملین وعدم وجود مزیة لا احتمالاً، ولا محتملاً فی أحدهما دون الآخر، فی هذه الحالة لا یمکن فرض کون أحدهما عبادیاً؛ بل کون کلیهما عبادیاً أیضاً غیر ممکن، فلابدّ أن نفترض أنّ کلاً منهما توصلی، وافتراض أنّ کلاً منهما توصلی یعنی أنّه ینحصر الأمر فی المقام الأوّل؛ لأنّه فی المقام الأوّل قلنا أنّ کلاً منهما یکون توصلیاً، الوجوب توصّلی والحرمة أیضاً توصّلیة، فینحصر فی المقام الأوّل؛ وحینئذ لا یکون هناک مقام ثانٍ؛ لأننا حینئذٍ لا نستطیع أن نتصوّر أن یکون أحدهما عبادیاً؛ لأنّ کون أحدهما عبادیاً غیر ممکن؛ لأنّ کون الوجوب عبادیاً هکذا وجوب یکون ساقطاً؛ لأنّ المکلّف لا یتمکن من امتثاله، وکذلک کون الحرمة فقط عبادیة أیضاً لا یمکن ذلک، وکون کل منهما عبادیاً أیضاً لا یمکن ذلک، فلابدّ من أن یکون الأمر منحصراً بالمقام الأوّل وهو أن یکون کل منهما توصلیاً حتّی نستطیع أن نتعقّل وجود وجوب محتمل یمکن امتثاله، ووجود حرمة محتملة یمکن امتثالها. فنحن بین هذین الأمرین: إمّا أن نلتزم بعدم حرمة المخالفة القطعیة کعدم وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام. وإمّا أن نلتزم بأنّه فی المقام لا یمکن افتراض کون أحدهما عبادیاً، أو کون کلیهما عبادیاً.

ص: 483

لکن إذا تمّ الجواب السابق؛ حینئذٍ یرتفع الإشکال ویکون هناک عندنا مقام ثانٍ غیر المقام الأوّل، ونفترض فی المقام الثانی کما ذکرنا أن یکون علی الأقل أحدهما عبادیاً، أو یکون کلاهما عبادیاً وندفع الإشکال بما تقدم.

هذا کلّه إذا فرضنا عدم وجود میزة لأحد المحتملین علی الآخر، وأمّا إذا فرضنا أنّ لأحدهما میزة، إمّا فی الاحتمال، وإمّا فی المحتمل؛ حینئذٍ لابدّ من أخذ ذلک بنظر الاعتبار، إذا فرضنا أنّ المیزة موجودة فی جانب التکلیف التعبّدی، یعنی نفترض أنّ أحدهما عبادی والمیزة موجودة فی جانب التکلیف التعبّدی إمّا من حیث الاحتمال، أو المحتمل، ولنفترض الوجوب کما افترضنا سابقاً أن الوجوب المعیّن هو العبادی، وکانت المیزة موجودة فیه، ومفقودة فی جانب احتمال التحریم، إذا کان کذلک فی هذه الحالة یکون المکلّف قادراً علی امتثاله باعتبار وجود المرجّح وهو المیزة، بأن یأتی بالفعل بقصد التقرّب؛ لأنّ شرط التقرّب بالفعل موجود وهو الأرجحیة؛ وحینئذٍ یرتفع الإشکال السابق، فلا یستطیع المستشکل حینئذٍ أن یقول هنا لا یمکن امتثال هذا التکلیف، وفی هذه الحالة یکون الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه؛ لأنّه یتمکن من امتثال أحدهما لا بعینه، إمّا أن یخالف هذا، أو یخالف هذا، ولیس مضطراً إلی مخالفة أحدهما بعینه حتّی یدخل فی باب الاضطرار إلی أحدهما بعینه، وإنّما هو مضطر إلی مخالفة أحدهما، فیدخل فی باب الاضطرار إلی مخالفة أحدهما لا بعینه، وأشرنا سابقاً إلی أنّ حکم هذا الفرض هو أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة الذی هو التبعیض فی التنجیز، أو التوسط فی التنجیز، لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه غیر قادر علیها، لکنّه قادر علی المخالفة القطعیة، فینجّز العلم الإجمالی حرمة المخالفة القطعیة. أمّا إذا فرضنا أنّ المیزة موجودة فی الطرف الآخر، أی فی جانب التحریم، ونفترض أنّ التحریم لیس عبادیاً، وإنّما الوجوب هو العبادی، وکانت المزیة موجودة فی الجانب الآخر، أی فی التکلیف التوصّلی الذی هو فی فرضنا الحرمة؛ لأنّ الوجوب عبادی بحسب الفرض، هنا الظاهر أنّ الإشکال السابق یبقی علی حاله؛ وذلک لأنّ المکلّف عاجز عن امتثال الوجوب العبادی؛ بل لعل الإشکال هنا یکون أوضح حینئذٍ؛ لأنّ وجود المیزة فی جانب التکلیف التوصّلی الذی هو الحرمة قد یوجب مرجوحیة للفعل ولیس تساویاً؛ بل یکون الفعل مرجوحاً بالنسبة إلی الترک؛ لأنّ الترک أصبح له میزة وهذا قد یوجب مرجوحیة بالنسبة للفعل، فلا یمکن التقرّب به إلی الله سبحانه وتعالی، فیعود نفس الإشکال، أنّ المکلّف لا یتمکن من امتثال الوجوب العبادی، یعنی هو مضطر إلی مخالفته، وهذا معناه أن التکلیف یدخل فی باب الاضطرار إلی أحدهما بعینه، فیرد الإشکال السابق.

ص: 484

إذن: التخلّص من الإشکال فی فرض وجود مزیة إنّما یکون عندما نفترض أنّ المزیة موجودة فی التکلیف العبادی المحتمل من دون فرقٍ بین أن یکون الوجوب، أو التحریم، المهم أنّ التکلیف العبادی المحتمل یکون هو صاحب المزیة؛ حینئذٍ یرتفع الإشکال؛ لأنّ هذه المزیة توجب أرجحیة؛ وحینئذٍ یتمکن أن یأتی بمتعلّقه بقصد التقرّب، فیکون قادراً علی الامتثال ولیس مضطراً إلی مخالفته، فیدخل فی باب الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه، والعلم الإجمالی هنا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة. أمّا إذا فرضنا أنّ المیزة کانت موجودة فی الطرف الآخر، أی فی التکلیف التوصلی؛ حینئذٍ سوف یبقی الإشکال علی حاله؛ لأنّه یبقی هذا التکلیف التعبّدی لا یمکن للمکلّف امتثاله، وهذا معناه أنّه مضطر إلی مخالفته بالخصوص، وهذا اضطرار إلی أحدهما بعینه.

نعم، إذا دفعنا الإشکال السابق بما تقدّم بأحد الأجوبة السابقة بحیث انتهینا إلی نتیجة تمکن المکلّف من امتثال التکلیف العبادی، فرضاً فی الجواب الأخیر بأن یقصد التخلّص من المخالفة القطعیة، یتمکن المکلّف من امتثال الوجوب العبادی، وإن کانت المیزة موجودة فی طرف التحریم، لکنّه تمکن أن یمتثل الوجوب العبادی، إذا تخلّصنا من الإشکال بهذا الجواب السابق، فی هذه الحالة یکون الاضطرار من باب الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه؛ لأنّه یمکن أن یمتثل کلا المحتملین، فهو لیس مضطراً إلی مخالفة هذا التکلیف العبادی، فیدخل فی باب الاضطرار إلی أحدهما لا بعینه؛ وحینئذٍ نطبّق علیه ما هو الصحیح فی هذه المسألة من أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة ونلتزم بها.

علی کل حال، فی کل الحالات التی یتمکن المکلّف فیها من امتثال التکلیف العبادی المحتمل، سواء کان یتمکن من ذلک باعتبار وجود مزیة فیه توجب أرجحیته، أو یتمکن من الامتثال لأننا أجبنا عن الإشکال السابق، بأنّه یتمکن من امتثاله بأن یقصد التخلّص من المخالفة القطعیة، فی کل موردٍ یتمکن المکلّف من امتثال التکلیف العبادی کما یتمکن من امتثال التکلیف التوصلی المحتمل الآخر فی کل مورد، النتیجة هی أنّ الاضطرار یکون إلی أحدهما لا بعینه، وسیأتی کما قلنا أنّ الصحیح فی تلک المسألة هو أنّ العلم الإجمالی یبقی علی منجّزیته، لکن لحرمة المخالفة القطعیة، وإن کان لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، وهو معنی التوسّط فی التنجیز، فإذا کان الصحیح فی تلک المسألة هو التوسّط فی التنجیز، هذا یُطبّق فی محل الکلام، والنتیجة هی أنّه تحرم علی المکلّف المخالفة القطعیة، ولا یمکنه إجراء الأصول فی الطرف الآخر.

ص: 485

هناک بحث آخر طُرح هنا، أنّه بعد أن انتهینا إلی هذه النتیجة، أنّه یمکن للمکلّف امتثال التکلیف العبادی المحتمل، إمّا لوجود مزیة، وإمّا لأننا ندفع الإشکال بما تقدّم، فی هذه الحالة التزمنا بأنّ الموافقة القطعیة لیست واجبة؛ لعدم قدرته علیها، والمخالفة القطعیة محرّمة علیه، هذا معناه الترخیص فی مخالفة أحد المحتملین، فإمّا أن یخالف الوجوب فیترک، أو یخالف التحریم فیفعل؛ حینئذٍ، بعد أن ننتهی إلی أنّ المکلّف مرخّص فی أن یخالف هذا التکلیف، أو أن یخالف ذلک التکلیف؛ لأنّه مضطر إلی مخالفة أحدهما، ولأجل الاضطرار یرخّص له فی مخالفة أحد الطرفین لا بعینه. هنا وقع الکلام فی أنّ هذا الترخیص فی حالة وجود مزیّة لأحد المحتملین دون الآخر، هذا الترخیص هل هو ترخیص تخییری ؟ بمعنی أنّ المکلّف کما یجوز له مخالفة التکلیف المحتمل الذی لیس فیه مزیة ویأتی بالمحتمل الذی فیه المزیة، کذلک یجوز له العکس، وهذا هو الترخیص التخییری، فأنت مخیّر فی أن تخالف هذا التکلیف وتأتی بالتکلیف الآخر، أو تخالف هذا التکلیف وتأتی بالتکلیف الأوّل. تخالف هذا المحتمل وتوافق المحتمل الثانی، أو تخالف المحتمل الثانی وتوافق المحتمل الأوّل، أنت مرخّص بینهما، فیمکن للمکلّف أن یطبّق الترخیص علی کل محتمل، وهذا معناه بحسب النتیجة أنّه بإمکانه أن یخالف التکلیف المحتمل ذی المزیة ویوافق المحتمل الفاقد للمزیة، هل الأمر هکذا، أو أنّ الترخیص تعیینی، بمعنی أنّه عند وجود مزیة یُرخّص له فی مخالفة التکلیف الآخر، وفی مخالفة المحتمل الآخر الفاقد للمزیة، هو یلزم بموافقة المحتمل الذی فیه مزیة، فالترخیص موجود، لکنّه لیس تخییری، وإنّما الترخیص تعیینی، المکلّف مرخّص فی مخالفة المحتمل الذی لیست فیه مزیة بشرط أن توافق المحتمل الذی فیه مزیة، فالترخیص فی هذا فقط، ولا ترخیص فی العکس، فهل الصحیح هو الترخیص التخییری، أو الترخیص التعیینی ؟

ص: 486

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی أنّ الترخیص الذی فرغنا عنه فی مخالفة التکلیف فی أحد الطرفین هل هو ترخیص تخییری، بمعنی أنّ المکلّف مخیّر فی تطبیق الترخیص علی کل من الطرفین، فبإمکانه أن یخالف الطرف الأوّل ویوافق الطرف الثانی، وبإمکانه أن یعکس، فیطبق الترخیص علی المحتمل الثانی بعد فرض موافقة الأوّل، أو هو ترخیص تعیینی، بمعنی أنّه لابدّ أن یطبق ترخیصه علی المحتمل الفاقد للمزیة، أمّا المحتمل الواجد للمزیة، فلابدّ من موافقته، هذا ترخیص تعیینی، یرخّص له فی المخالفة، لکن مع فرض وجود المزیة، ویطبّق الترخیص علی المحتمل الفاقد للمزیة، فیخالف ذلک المحتمل الفاقد للمزیة.

الذی یقال فی هذا المقام : الظاهر أنّ الترخیص فی المقام تعیینی ولیس تخییریاً، باعتبار أنّ الترخیص فی المحتمل الفاقد للمزیة مع فرض موافقة المحتمل الواجد للمزیة هذا أمر معلوم ومسلّم ولا إشکال فیه، وإنّما الکلام فی العکس، أی فی أنّه هل هناک ترخیص فی مخالفة المحتمل الواجد للمزیة مع موافقة المحتمل الآخر الفاقد للمزیة، أو لا یوجد مثل هذا الترخیص ؟ إذن، الترخیص فی مخالفة المحتمل الفاقد للمزیة مع موافقة المحتمل الواجد للمزیة هذا متیقن ومعلوم علی کل حال، هذا الترخیص ثابت قطعاً، وإنّما نشکّ فی الترخیص فی مخالفة المحتمل الواجد للمزیة مع موافقة المحتمل الآخر الفاقد للمزیة، هل یوجد مثل هذا الترخیص، أو لا یوجد ؟ إذا فرضنا أنّ الوجوب هو الواجد للمزیة، قطعاً هو مرخّص فی مخالفة الحرمة الفاقدة للمزیة وموافقة الوجوب، هو مرخّص فی ذلک حتماً، لکن هل هو مرخّص فی مخالفة الوجوب وموافقة الحرمة، أو لیس مرخّصاً فی ذلک ؟ هنا یقول أنّ الترخیص الأوّل معلوم ومتیقن، وإنّما یُشک فی الترخیص الثانی، أنّه هل یکون مثل هذا الترخیص ثابتاً، أو لا یکون ثابتاً ؟ وفی مثل هذه الحالة یُرجع إلی قانون منجّزیة الاحتمال، بمعنی أنّ الاحتمال فی المقام، احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا المحتمل یمنع من هذا الترخیص فیه، وذلک باعتبار أننا نتکلّم بناءً علی أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامة لوجوب الموافقة القطعیة، وإنّما هو مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعیة، بناءً علی هذا؛ حینئذٍ العلم الإجمالی فی حدّ نفسه فی المقام یقتضی تنجیز حرمة المخالفة القطعیة، ولو بنحو الاقتضاء؛ لأنّ المخالفة القطعیة بحسب الفرض فی المقام ممکنة ولیس فیها محذور؛ فحینئذٍ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، وهذا معناه أنّ الأصول الجاریة فی الأطراف تکون متعارضة ومتساقطة، الأصل الجاری فی هذا الطرف یتعارض مع الأصل الجاری فی الطرف الآخر، فتتساقط الأصول فی الأطراف؛ وحینئذٍ تأتی فکرة منجزیة الاحتمال، بمعنی أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی کل طرف هو ینجّز ذلک الطرف، بقطع النظر عن الاضطرار، قبل فرض الاضطرار، علم إجمالی بناءً علی مسلک الاقتضاء، مسلک الاقتضاء یقتضی أن تکون الأصول المؤمّنة فی الأطراف متساقطة، فیکون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی کل طرف احتمالاً فاقداً للمؤمّن، احتمال لیس له مؤمّن؛ لأنّ الأصول تساقطت فی الأطراف، هذا الاحتمال عندما یکون فی هذا الطرف ینجّز هذا الطرف، وعندما یکون فی الطرف الآخر أیضاً ینجز هذا الطرف؛ لأنّه احتمال للتکلیف من دون مؤمّن، یحتمل انطباق التکلیف علی هذا الطرف بلا مؤمّن یکون هذا الاحتمال منجّزاً، یحتمل انطباق التکلیف علی الطرف الآخر بلا مؤمّن، فیکون هذا الاحتمال منجّزاً لذلک الطرف، لکن جاءت مسألة الاضطرار، هو مضطر إلی مخالفة أحد المحتملین، وهذا الاضطرار یقتضی الترخیص، والمتیقن من الترخیص الذی یقتضیه الاضطرار هو الترخیص فی مخالفة المحتمل الفاقد للمزیة، وأمّا الترخیص فی مخالفة المحتمل الواجد للمزیة، فلا دلیل علیه، ولا یقتضیه الاضطرار؛ لأنّ المتیقن منه هو هذا؛ فحینئذٍ یقال بأنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف الواجد للمزیة یکون احتمالاً منجّزاً ولا یکون الترخیص شاملاً له؛ لأنّه کما قلنا أنّ هذا متیقن وغیره غیر معلوم، الترخیص فی هذا الطرف غیر معلوم، بینما الترخیص فی هذا الطرف متیقن بلا إشکال، وهذا أشبه بدوران الأمر بین التعیین والتخییر، قطعاً الترخیص هنا ثابت علی کل تقدیر، فالطرف الفاقد للمزیة قطعاً یرخّص فی مخالفته علی کل التقادیر، لکن هل یرخّص فی مخالفة الطرف الواجد للمزیة وموافقة الطرف الآخر ؟ هذا لیس معلوماً؛ فحینئذٍ مقتضی القاعدة أنّ الاحتمال الموجود فی هذا الطرف یکون منجّزاً بعد فرض تساقط الأصول، وهذا هو معنی أنّه لابدّ علی المکلّف أن یأتی بالمحتمل الواجد للمزیة ویخالف التکلیف فی الطرف الفاقد للمزیة، فیکون الترخیص تعیینیاً لا تخییریاً.

ص: 487

ومن هنا یظهر الفرق بین المقام وبین المقام الأوّل، حیث أنّه تقدّم هناک فی المقام الأوّل أنّه عندما تکون هناک مزیة فی الاحتمال، أو فی المحتمل فی أحد الطرفین دون الآخر هناک هذه المزیة لا تؤثّر، بمعنی أنّ التخییر الذی یحکم به العقل هناک یبقی علی حاله لا یتغیّر ولا یتحوّل إلی التعیین بالرغم من افتراض وجود مزیة فی أحد المحتملین، بینما هنا یُحکم بالتعیین، بمعنی أنّه لابدّ من موافقة التکلیف الواجد للمزیة ومخالفة التکلیف الفاقد للمزیة، الفرق بینهما هو أنّه هناک کان العلم الإجمالی ساقطاً عن المنجزیة تماماً، العلم الإجمالی فی المقام الأوّل ساقط عن المنجّزیة رأساً حتّی بمقدار حرمة المخالفة القطعیة، ومع سقوط العلم الإجمالی عن المنجزیة حتّی لحرمة المخالفة القطعیة لا تصل النوبة إلی هذا الحدیث الذی ذکرناه وهو أنّه تتعارض الأصول فی الأطراف وتتساقط، فاحتمال التکلیف علی کل طرف منجزاً له.....إلی آخر الکلام السابق، هذا إنّما یجری عندما تکون حرمة المخالفة القطعیة ثابتة علی أساس العلم الإجمالی بحیث یکون العلم الإجمالی منجزاً لها، هذا غیر موجود هناک، بینما فی محل الکلام موجود؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف یتمکن من المخالفة القطعیة فی محل الکلام، وقلنا أنّ العلم الإجمالی یکون منجزاً لحرمة المخالفة القطعیة، فیحرم علی المکلّف أن یخالف قطعاً.

علی هذا الأساس حینئذٍ یقال: علی مسلک الاقتضاء العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة فی کل طرف، لکن حیث أنّ الأصول تکون متعارضة فتتعارض الأصول فی الأطراف؛ فحینئذ بقطع النظر عن الاضطرار یکون الاحتمال منجّزاً، نخرج عن هذه القاعدة(منجّزیة الاحتمال فی کل طرف) بمقدار الاضطرار؛ لأنّ الاضطرار یعنی الترخیص فی أحد الطرفین یستلزم الترخیص فی أحد الطرفین، المتیقن من الترخیص هو الترخیص فی مخالفة التکلیف فی الطرف الفاقد للمزیة، أمّا الترخیص فی الطرف الواجد للمزیة، فهذا غیر معلوم، فیکون احتمال الانطباق فیه منجّزاً له ولابدّ من موافقته. هذا تمام الکلام فی المقام الثانی.

ص: 488

الآن ننتقل إلی المقام الثالث

وهو فیما إذا فرضنا تعدد الواقعة، فی المقام الأوّل والمقام الثانی کنّا نفترض وحدة الواقعة، أی واقعة واحدة یدور أمرها بین الوجوب والتحریم، إمّا مع کون کل منهما توصّلیاً الذی هو المقام الأوّل، أو مع کون أحدهما تعبّدیاً علی الأقل الذی هو المقام الثانی. هنا نفترض تعدد الواقعة، ونفترض فی المقام أیضاً أنّ کلاً منهما توصّلی، کما إذا فرضنا أنّه علم بوجوب فعلٍ ما فی یوم الجمعة ویوم السبت، أو بحرمته فیهما، یعلم بأنّ الفعل المعیّن إمّا واجب فی الیومین، أو حرام فی هذین الیومین، کما إذا فرضنا أنّه حلف إمّا علی السفر فی هذین الیومین -------- مثلاً --------- وإمّا علی ترک السفر، فیکون السفر إمّا واجباً فی یوم الجمعة ویوم السبت، أو محرّما فی یوم الجمعة ویوم السبت. هنا فرضنا واقعتین وفرضنا أیضاً أنّ کلاً من الوجوب والحرمة توصّلیین، فی الحقیقة معنی هذا الکلام هو أنّ المکلّف فی کل یوم وفی کل واقعة إذا لوحظت فی حدّ نفسها؛ حینئذٍ هو یعلم بأنّ الفعل فیها إمّا واجب، أو حرام، إن کان حلف علی السفر، فالسفر فی یوم الجمعة یکون واجباً، أمّا إذا حلف علی ترک السفر، فالسفر یوم الجمعة یکون حراماً، وهکذا الحال فی یوم السبت، أیضاً عندما نلتفت إلی هذه الواقعة فی یوم السبت هو یعلم علماً إجمالیاً بأنّ السفر فیها إمّا واجب، وإمّا حرام. هذا العلم الإجمالی فی کل واقعة بحیالها إذا أُخذت بشکلٍ مستقل، هذا العلم الإجمالی لا یختلف عن العلم الإجمالی فی المقام الأوّل، دوران الأمر بین المحذورین، السفر وهو فعل واحد یدور أمره فی یوم الجمعة بین أن یکون واجباً وبین أن یکون حراماً، مع کونهما توصّلیین بحسب الفرض، فهو لا یختلف عن المقام الأوّل، وهذا معناه أنّه لا یتمکن المکلّف من الموافقة القطعیة، فلا یمکنه أن یفعل وأن لا یفعل فی آنٍ واحد، کما أنّه لا یمکنه المخالفة القطعیة، فیکون حاله حال العلم الإجمالی فی المقام الأوّل الذی فرضنا فیه أنّ المکلّف لا یتمکن من الموافقة القطعیة ولا من المخالفة القطعیة، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز حتّی علی مستوی حرمة المخالفة القطعیة؛ لعدم تمکن المکلّف من المخالفة القطعیة کالموافقة القطعیة، وهکذا إذا لاحظنا الواقعة الثانیة، أیضاً نفس الکلام یقال فیها، دوران الأمر بین الوجوب والتحریم مع کون کل منهما توصّلیاً، المکلّف لا یتمکن لا من الموافقة القطعیة ولا من المخالفة القطعیة، ونتیجة ما تقدّم أیضاً یمکن أن یُلتزم بها فی المقام وهو أنّ المکلّف یکون مخیّر بین الفعل وبین الترک؛ لأنّه لا یخلو من أحدهما، هذا التخییر الذی تقدّم أنّه یسمّی (باللاحرجیة العقلیة)، فهو مخیّر بالنتیجة، وواقع المطلب یفرض علیه ذلک؛ لأنّه لا یخلو من الفعل أو الترک، فیکون مخیّراً بین الفعل والترک، یمکنه أن یفعل ویمکنه أن یترک. هذا إذا لاحظنا الواقعة فی حدّ نفسها، الکلام الذی یُطرح فی المقام أنّ هذا التخییر بین الفعل والترک، هل هو تخییر ابتدائی، أو أنّه تخییر استمراری ؟ والمقصود من التخییر الابتدائی هو أنّه إذا اختار أحد الأمرین فی الواقعة الأولی لابدّ أن یختار فی الواقعة الثانیة نفس ما أختار فی الواقعة الأولی، یعنی فی یوم السبت هو مخیّر بینهما، فإذا اختار الفعل، فلابدّ أن یختار فی یوم الجمعة الفعل أیضاً، وإذا اختار فی یوم الجمعة الترک، فلابد أن یختار فی یوم السبت الترک أیضاً، لا أن یختار فی الیوم الثانی خلاف ما اختاره فی الیوم الأوّل، هذا هو معنی التخییر الابتدائی، هو مخیّر بینهما فقط فی أول واقعة یواجهها، أمّا الواقعة الثانیة فلابدّ أن یعمل فیها ما عمل فی الواقعة الأولی ؟ أو أنّ التخییر استمراری، بمعنی أنّه کلما واجه واقعة هو یخیّر بین الفعل وبین الترک، وهذا معناه أنّه یمکنه أن یختار فی الواقعة الثانیة خلاف ما اختاره فی الواقعة الأولی، فبإمکانه أن یفعل فی الیوم الأوّل، ویترک فی الیوم الثانی، وهذا هو ما یسمّی (بالتخییر الاستمراری)، وفی الحقیقة الکلام یقع فی أنّ التخییر فی المقام هل هو استمراری، أو أنّه لیس استمراریاً ؟ المشکلة فی التخییر الاستمراری هی أنّه یمکن أن یقال بأنّه قد یکون مستلزماً للمخالفة القطعیة للتکلیف الشرعی؛ لأنّ المکلّف إذا خالف بین ما یختاره بأن اختار فی الواقعة الثانیة خلاف ما اختاره فی الواقعة الأولی، فأنّه یکون قد خالف التکلیف قطعاً؛ لأنّه هو فی الواقع إن حلف علی الإتیان بالفعل فقد خالفه؛ لأنّه ترک فی الواقعة الثانیة، وإذا حلف علی ترک الفعل فی الیومین هو خالفه بالفعل فی أحداهما، فإذا فعل فی أحدی الواقعتین وترک فی الأخری فأنّه یکون قد ارتکب مخالفة قطعیة للتکلیف، فمن هنا یُستشکل فی التخییر الاستمراری، بینما فی التخییر الابتدائی لا توجد مخالفة قطعیة إذا التزم المکلّف بالتخییر الابتدائی، فأنّه لا یکون قد ارتکب مخالفة قطعیة؛ لأنّه فی التخییر الابتدائی هو دائماً فی الوقائع کلّها هو یفعل، أو یترک، إذا فعل فی الیوم الأوّل وفعل فی الیوم الثانی لا توجد مخالفة قطعیة؛ لأنّ هناک احتمال أن یکون قد حلف علی الفعل فی الیومین وقد امتثله.

ص: 489

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی المقام الثالث وهو فیما إذا فرضنا تعدد الواقعة، ومثّلنا لذلک بالمثال المتقدّم بما إذا علم بوجوب فعلٍ معیّن فی أحد الیومین، أو حرمته فیهما مع کونهما توصلیین، کل من الوجوب المحتمل والتحریم المحتمل، هنا إذا لاحظنا کل یوم هناک علم إجمالی واضح فی أنّ الفعل یترددّ فی کل یومٍ من الیومین مثلاً، أو الأیام بین الوجوب والتحریم، وهذا علم إجمالی یدور الأمر فیه بین المحذورین ولا یمکن مخالفته القطعیة ولا موافقته القطعیة، وهکذا الحال فی الیوم الثانی، إذا لاحظنا الیوم الثانی علی حدة، أیضاً یدور أمر الفعل فیه بین الوجوب والتحریم وهو کالعلم الإجمالی الأوّل، لکن قد یقال یقترن بهذا العلم علمان إجمالیان آخران تدریجیان وهما العلم بأنّ الفعل إمّا واجب فی هذا الیوم، أو حرام فی الیوم الآخر، أو أنّ الفعل إمّا حرام فی هذا الیوم، أو واجب فی الیوم الآخر. هذان علمان إجمالیان تدریجیان غیر العلمین الإجمالیین المفترضین. الکلام فی هذین العلمین الإجمالیین، کل علمٍ إذا لاحظناه علی حدة یمکن موافقته القطعیة، ویمکن مخالفته القطعیة، العلم الإجمالی بأنّ الفعل إمّا واجب فی هذا الیوم، وإمّا حرام فی الیوم الآخر، یمکن موافقته بالإتیان بالفعل هذا الیوم وترکه فی الثانی، کما یمکن مخالفته القطعیة بالعکس، ترکه فی هذا الیوم وموافقته فی الیوم الثانی، وهکذا العلم الإجمالی التدریجی الثانی وهو أنّه یعلم إجمالاً بأنّ هذا الفعل إمّا حرام الیوم، أو أنّه واجب فی الیوم الآخر، یمکن موافقته القطعیة ویمکن مخالفته القطعیة. الکلام أننّا هل نستطیع أن نستفید من هذین العلمین الإجمالیین التدریجیین، هل یمکن أن نثبت بهذا الذی ذکر وجوب الموافقة الاحتمالیة ؟ أو لا یمکن أن نثبت وجوب الموافقة الاحتمالیة ؟

ص: 490

قد یقال: یمکن إثبات وجوب الموافقة الاحتمالیة علی اساس أنّ هذین العلمین الإجمالیین التدریجیین حیث یمکن مخالفة کل واحدٍ منهما قطعاً، فیکون کل واحد منهما منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة، العلم الإجمالی التدریجی الأوّل إما واجب الیوم، أو حرام غداً، وقلنا یمکن مخالفته القطعیة، فیکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة، والعلم الإجمالی الثانی أنّ الفعل إمّا حرام الیوم، أو واجب غداً، یمکن مخالفته القطعیة بعکس العلمین الإجمالیین السابقین، کل واحدٍ منهما لا یمکن مخالفته القطعیة؛ لأنّه هناک یعلم بأنّ الفعل فی الیوم الأوّل إمّا واجب وإمّا حرام، وهذا لا یمکن مخالفته القطعیة؛ ولذا لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، لکن هذا حیث تمکن مخالفته القطعیة ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، الثانی أیضاً ینجّز حرمة مخالفته القطعیة، ونتیجة الجمع بین هاتین الحرمتین القطعیتین المنجّزتین بهاذین العلمین الإجمالیین هو وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ المکلّف إذا کان یحرم علیه أن یخالف العلم الإجمالی التدریجی الأوّل، إمّا واجب الیوم أو غداً، تحرم علیک مخالفته، یعنی لا یمکنک أن تفعل الیوم وتترک غداً، والثانی یقول له لا یمکنک أن تترک الیوم وتفعل غداً، یعنی مخالفة قطعیة، فالمکلّف إذا کان لا یجوز له أن یفعل الیوم ویترک غداً، ولا یجوز له أن یترک الیوم ویفعل غداً، معناه أنّه یجب علیه أن یأتی بالفعل فی کلا الیومین، أو یأتی بالترک فی کلا الیومین، أمّا أن یخالف بینهما بأن یفعل فی الیوم ویترک فی الآخر فهذا ممنوع؛ لأنّ هذین العلمین الإجمالیین نجزا حرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بهما، ومعنی حرمة المخالفة القطعیة لهما هو وجوب الموافقة الاحتمالیة، یعنی أنّه لا یجوز للمکلّف أنّ یخالف، بأنّ یفعل فی الیوم الأوّل ویترک فی الیوم الثانی، أو یترک فی الیوم الأوّل ویفعل فی الیوم الثانی، وإذا فعل فی الیوم الأوّل یجب علیه أن یفعل فی الیوم الثانی، وإذا ترک فلابد أن یترک فی الیوم الثانی، وهذه الموافقة احتمالیة، فیکون هذا منجزاً لوجوب الموافقة الاحتمالیة، وهذا هو معنی أنّ التخییر ابتدائی ولیس تخییراً استمراریاً؛ لأنّ التخییر الابتدائی لا یستلزم الوقوع فی المخالفة القطعیة، بینما التخییر الاستمراری قد یستلزم الوقوع فی المخالفة القطعیة، والمفروض أنّها منجزة بهذین العلمین الإجمالیین التدریجیین.

ص: 491

المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه) له کلام فی المقام، کأنّه یظهر منه المنع من منجّزیة العلم الإجمالی فی محل الکلام لوجوب الموافقة الاحتمالیة، حاصل ما نُقل عنه هو أنّه یقول: أنّ العلم الإجمالی الأوّل والعلم الإجمالی الثانی فی المقام غیر صالح لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة حتّی یأتی التقریب السابق أنّ کلاً منهما ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، ونتیجة الجمع بین حرمة المخالفتین القطعیتین هو وجوب الموافقة الاحتمالیة. هو یقول لا، أنّ کل واحد من العلمین الإجمالیین لا ینجز حرمة المخالفة القطعیة، فلا یمکن أن نتسلسل ونصل من هذا إلی نتیجة وجوب الموافقة الاحتمالیة؛ لماذا لا یصلح للتنجیز ؟ باعتبار أنّه لا یوجد فی المقام إلاّ تکلیفان، أحدهما التکلیف فی الیوم الأوّل وقد فرغنا عن عدم قابلیته لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة، العلم الإجمالی بأنّ الفعل إمّا واجب وإمّا حرام غیر قابل لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ المکلّف فی الیوم الأوّل غیر متمکن من المخالفة القطعیة، إذن، التکلیف فی الیوم الأوّل یقول فرغنا عن عدم قابلیته للتنجز لعدم إمکان موافقته القطعیة ولا مخالفته القطعیة. ثانیهما هو التکلیف الثانی، وهذا أیضاً یقول قد فرغنا من عدم قابلیته لتنجیز حرمة مخالفته القطعیة لنفس السبب السابق وهو أنّ المکلّف غیر قادر علی المخالفة القطعیة.

وإمّا العلم الإجمالی بوجوب الفعل فی الیوم الأوّل، أو حرمته فی الیوم الثانی ---------- هذا العلم الإجمالی التدریجی المنتزع من العلم الإجمالی الأوّل ---------- أمّا العلم الإجمالی بوجوب الفعل فی الیوم الأوّل، أو حرمته فی الیوم الثانی، أو بالعکس، العلمین الإجمالیین التدریجیین، یقول: فلیس إلاّ علماً منتزعاً من العلمین السابقین الذی فرغنا عن عدم کونهما منجزان لحرمة المخالفة القطعیة، الدائرین بین المحذورین، ولا یصنع شیئاً فی المقام، والمخالفة القطعیة المتصوّرة فی هذا العلم الإجمالی التدریجی تکون حصیلة لمخالفة احتمالیة للتکلیف الأوّل التی فرغنا عن جوازها، ومخالفة احتمالیة للتکلیف الثانی التی فرغنا عن جوازها أیضاً.

ص: 492

مخالفة احتمالیة للتکلیف الأوّل فی الیوم الأوّل، فرغنا عن جوازها؛ لأنّ المکلّف غیر قادر علی الموافقة القطعیة ولا علی المخالفة القطعیة؛ فلا إشکال فی جواز المخالفة الاحتمالیة، یعنی یجوز له أن یفعل فی الیوم الأول، أو یترک فی الیوم الأوّل والذی معناه التخییر.

ومخالفة احتمالیة للتکلیف الثانی الذی فرغنا عن جوازها أیضاً، فإذن: نحن فرغنا عن جواز المخالفة الاحتمالیة فی الیوم الأوّل، والمخالفة الاحتمالیة فی الیوم الثانی، ولیس فی المقام تکلیف جدید حصل العلم به وراء ذینک التکلیفین حتّی یتنجّز ذلک التکلیف وتحرم مخالفته القطعیة، لیس لدینا إلاّ تکلیفین وقد فرغنا عن حرمة مخالفتهما القطعیة، وجواز مخالفتهما الاحتمالیة. إذن، کیف یمکن أن نثبت حرمة المخالفة القطعیة لهذین العلمین الإجمالیین التدریجیین حتّی نتسلسل ونثبت بذلک وجوب الموافقة الاحتمالیة التی هی المقصود فی المقام ؟

هذا الکلام المنقول عن المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه)، بقطع النظر عن أنّه مطابق لکلامه المذکور فی حاشیته علی الکفایة، یبدو أنّه لیس مطابقاً تماماً لکلامه، الذی ذکره فی حاشیته علی الکفایة شیء آخر تقریباً، هو لا یلحظ العلمین الإجمالیین التدریجیین، اصلاً أغفلهما، وإنّما یلحظ العلمین الإجمالیین السابقین، علم إجمالی فی الیوم الأوّل وعلم إجمالی فی الیوم الثانی، ویقول: هنا فرغنا عن جواز المخالفة الاحتمالیة لکلٍ منهما، وفرغنا عن عدم حرمة المخالفة القطعیة لکلٍ منهما لعدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة، فهو یلحظ هذین العلمین الإجمالیین، ثمّ یقول: ولا توجب تلک العلوم المتعددة علماً تفصیلیاً بتکلیف آخر یتمکن المکلّف من ترک مخالفته القطعیة، لا توجب شیئاً من هذا القبیل، نعم، انتزاع طبیعی العلم من العلوم المتعددة، وطبیعی التکلیف من التکالیف المتعددة ونسبة المخالفة القطعیة إلی ذلک التکلیف الواحد المعلوم بعلم واحد هو الموجب لهذه المغالطة، والذی أوجب المغالطة فی المقام وتصوّر أنّ العلم ینجّز حرمة المخالفة القطعیة فی المقام نشأ من افتراض انتزاع علم من بین تلک العلوم المتعددة، یعنی العلم الإجمالی موجود فی کل یومٍ، فی الیوم الأوّل یوجد علم إجمالی، وفی الیوم الثانی یوجد علم إجمالی، وفی الیوم الثالث یوجد علم إجمالی إذا فرضنا الوقائع متعددة أکثر من اثنین، انتزاع طبیعی العلم من هذه العلوم المتعددة، انتزاع طبیعی التکلیف من هذه التکالیف المتعددة، ثمّ نسبة المخالفة القطعیة لذلک التکلیف الواحد، یعنی المنتزع من التکالیف المتعددة المعلوم بعلمٍ إجمالی واحد منتزع من تلک العلوم المتعددّة، یقول هذا هو الذی أوجب الوقوع فی المغالطة، بینما هذا لا واقع له، الموجود فی الخارج هو علم إجمالی فی الیوم الأوّل وعلم إجمالی فی الیوم الثانی، وعلم إجمالی فی الیوم الثالث، وهذه علوم إجمالیة لا تنجّز حرمة المخالفة القطعیة. أمّا أن نلتفت إلی طبیعی العلم المنتزع من هذه العلوم وطبیعی التکلیف المنتزع من هذه التکالیف وننسب إلیه حرمة المخالفة القطعیة، یقول: هذا غیر صحیح، ومن الواضح أنّ ضمّ المخالفة فی واقعة إلی مخالفة فی واقعة أخری، وإن کان یوجب القطع بالمخالفة، لکنّه قطع بمخالفةٍ غیر مؤثرة؛ لفرض عدم الأثر لکل مخالفة للتکلیف المعلوم فی کل واقعة.

ص: 493

یبدو من کلامه(قدّس سرّه) أنّه لیس ناظراً إلی العلمین الإجمالیین التدریجیین، وسواء کان ما نقل عن کلامه مطابقاً، أو لا، نحن نتحدّث عن هذا الذی نُقل، والذی فیه تفصیل وفیه مناقشة لمنجزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، وحاصل ما نُقل عنه هو الاعتبار بالعلمین الإجمالیین السابقین، وقد فرغنا عن عدم منجزیتهما لحرمة المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ لا مجال لأن یقال بأنّه یتولّد منهما علمان إجمالیان تدریجیان یمکن مخالفتهما القطعیة ویکون العلم الإجمالی منجزاً لحرمة المخالفة القطعیة فی کل منهما، ونتیجة الجمع بین المخالفتین القطعیتین لکلٍ منهما هو وجوب الموافقة الاحتمالیة، یقول هذا لا مجال له، ولا یوجد عندنا إلاّ تکلیفان، تکلیف فی الیوم الأوّل وتکلیف فی الیوم الثانی، وقد فرغنا عن عدم حرمة مخالفته القطعیة وجواز مخالفته الاحتمالیة، المخالفة القطعیة للتکلیف الذی ذُکر فی الدلیل هو عبارة عن ضم مخالفة احتمالیة فی التکلیف الأوّل إلی مخالفة احتمالیة فی التکلیف الثانی، المکلّف فی التکلیف الأوّل یستطیع أن یفعل فی الیوم الأوّل، وفی الیوم الثانی یستطیع أن یترک؛ لأننا جوّزنا له المخالفة الاحتمالیة فی کلٍ من الیومین، فإذا فعل فی الیوم الأوّل وترک فی الیوم الثانی، أو ترک فی الیوم الأوّل وفعل فی الیوم الثانی هذه هی عبارة عن مخالفة قطعیة، وهذه هی التی ذُکر أنّها مخالفة قطعیة ینجزها العلم الإجمالی، ما معنی ینجزها والحال أنّها فی واقعها ضم مخالفة احتمالیة للتکلیف فی الیوم الأوّل الذی فرغنا عن جوازها إلی مخالفة احتمالیة فی الیوم الثانی التی أیضاً فرغنا عن جوازها، المخالفة القطعیة هی عبارة عن ضم هاتین المخالفتین الاحتمالیتین للتکلیف المعلوم بالإجمال فی کلٍ من الیومین، وقد فرغنا عن جوازها، المخالفة القطعیة التی ذُکرت هی عبارة عن هذه، فکیف نتصوّر أنّها تکون منجزة بالعلم الإجمالی ؟! حتّی نستنتج من حرمة المخالفتین القطعیتین وجوب الموافقة الاحتمالیة. هذا ما یمکن أن یُبین به ما نُقل عن هذا المحقق(قدّس سرّه).

ص: 494

قد یبدو من کلامه أنّ المشکلة فی افتراض الطولیة، قلنا أنّ کلامه هذا یبدو أنّه لیس ناظراً إلی العلمین الإجمالیین التدریجیین، لکن بناءً علی هذا الذی نُقل عنه، وهو أنّه یوجد علمین إجمالیین فی کلٍ من الیومین، ویوجد علمین إجمالیین تدریجیین، قد تکون المشکلة فی الالتزام بوجوب الموافقة الاحتمالیة بالبیان السابق ناشئة من افتراض الطولیة بین العلمین الإجمالیین السابقین وبین العلمین الإجمالیین التدریجیین، بأن نفترض أنّه فی البدایة کان هناک علمان إجمالیان فی کلٍ من الیومین ---------- فلنسمیهما العلم الإجمالی الأوّل والعلم الإجمالی الثانی ---------- ثمّ بعد ذلک وفی طول ذلک تولّد من هذین العلمین الإجمالیین علمان إجمالیان آخران، فهناک طولیة بین العلمین الإجمالیین الأولیین وبین العلمین الإجمالیین التدریجیین، تولّدا من هذین العلمین الإجمالیین الأولیّین، المشکلة کأنّه فی الطولیة، هذا یمکن فرضه بأنّ المکلّف فی البدایة علم بأنّه حلف إمّا علی وجوب السفر فی یوم الجمعة، أو علی ترکه، وکذلک علم بأنّه حلف إمّا علی وجوب السفر فی یوم السبت، أو علی ترکه، إلی هنا لا یوجد إلاّ علمان إجمالیان أساسیان، أمّا علم إجمالی بأنّ الفعل إمّا واجب فی یوم الجمعة، أو حرام فی یوم السبت إلی هنا غیر موجود، لکن لو فرضنا أنّ هذا الشخص نضم إلی علمه السابق أنّه بعد ذلک علم بأنّ العلمین الإجمالیین الّذین حصلا له متماثلان فی المتعلّق فعلاً وترکاً، یعنی إذا حلف علی فعل السفر فی یوم السبت، فحلفه فی یوم الأحد أیضاً علی فعل السفر، وإذا حلف علی الترک، فحلفه فی الیوم الثانی أیضاً علی الترک. هذا العلم الأخیر إذا أنضم إلی العلمین السابقین سوف یولّد له هذین العلمین التدریجیین، فیصبح عالماً بأنّ السفر إمّا واجب فی یوم السبت، أو حرام فی الیوم الثانی، أو بالعکس، إمّا حرام فی یوم السبت، أو حرام فی الیوم الثانی، فهناک تدریجیة فی حصول هذه العلوم، ولعلّ المشکلة هی فی هذه الطولیة والتدریجیة، باعتبار أنّه فی هذه الطولیة فرضنا وجود علمین إجمالیین سابقین حصلا وهذان العلمان الإجمالیان لا یمکن أن ینجزا حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه علم بدوران الأمر بین المحذورین، فلا یمکن أن تتنجز حرمة المخالفة القطعیة بهما، وبعد ذلک تولّد منهما نتیجة ضم هذا العلم الأخیر وهو التماثل فی متعلّق الحلف فعلاً، أو ترکاً، تولّد منهما علمان إجمالیان آخران، إمّا الفعل واجب الآن، أو حرام فی الیوم الثانی، أو الفعل حرام الآن، وإمّا واجب فی الیوم الثانی؛ حینئذٍ نقول: بعد أن فرغنا عن أنّ حرمة المخالفة القطعیة لا تتنجّز بالعلمین السابقین، فهی لا تکون قابلة للتنجّز بالعلمین المتولّدین من العلمین السابقین؛ لأنّ حرمة المخالفة القطعیة المتصورة فی المقام للعلمین الإجمالیین المتولّدین هی عبارة عن ضم مخالفة احتمالیة للعلم الإجمالی الأوّل المفروض وجوده إلی مخالفة احتمالیة للعلم الإجمالی الثانی، ضم هاتین المخالفتین هو عبارة عن المخالفة القطعیة، وقد فرغنا سابقاً عندما وُجد هذان العلمان الإجمالیان الأولان، فرغنا عن عدم حرمة المخالفة القطعیة عن جواز المخالفة الاحتمالیة، بعد ذلک نجمع بین هاتین المخالفتین الاحتمالیتین ونصل إلی نتیجة حرمة المخالفة القطعیة، فالمشکلة تنشأ من الطولیة. إذا کانت هذه هی المشکلة، فمن الواضح أنّها محلولة؛ إذ یمکن فرض العرضیة فی هذه العلوم الإجمالیة کلّها، أصل المثال الذی طُرح یستدعی العرضیة لا الطولیة؛ لأنّ المکلّف من البدایة یعلم ما حصل له هو هذا التالی، ویعلم إجمالاً بوجوب الفعل فی هذین الیومین، أو حرمته فی هذین الیومین، هذا هو العلم الإجمالی، وهذا الذی صوّرناه أولاً، ما یعلمه هو إمّا الفعل واجب علیه فی کلٍ من الیومین، أو الفعل حرام علیه فی کلٍ من الیومین، وهذا ینحلّ إلی هذه العلوم الأربعة المتعددة، علم إجمالی فی الیوم الأوّل بأنّ الفعل إمّا واجب، أو حرام، وعلم إجمالی فی الیوم الثانی بأنّ الفعل إمّا واجب، أو حرام، وعلم إجمالی ثالث بأنّ الفعل إمّا واجب فی الیوم الأوّل وإمّا حرام فی الیوم الثانی، وعلم إجمالی رابع بأنّ الفعل إمّا حرام فی الیوم الأوّل، أو واجب فی الیوم الثانی، هذه کلّها تکون فی عرض واحد، ولیس هناک طولیة فیما بینهما، ولا نقول أنّه حصل له علم إجمالی بأنّ الفعل إمّا واجب فی الیوم الأوّل، أو حرام، أو واجب فی الیوم الثانی، أو حرام، ثمّ بعد ذلک عَلِمَ بالمماثلة حتّی نفترض وجود ترتب وطولیة وتولّد وأمثال هذه الأمور، وإنّما نفترض العرضیة فی کل هذه الأمور؛ وحینئذٍ لا مجال للاستشکال، إذا کان منشأ الإشکال هو مسألة الطولیة ومسألة الترتّب.

ص: 495

وأمّا إذا لم یکن الإشکال ناظراً إلی هذه الجهة أصلاً حتّی مع افتراض الطولیة والعرضیة، الإشکال لیس ناظراً إلی هذه الجهة، هو یرید أنْ یقول أنّ الإشکال ینصب علی أننا فرغنا فی مرتبة سابقة عن عدم منجزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، فلا یمکن بعد ذلک أن نثبت حرمة المخالفة القطعیة لهذین العلمین الإجمالیین الأخیرین؛ لأنّه لا یوجد لدینا إلاّ تکلیفان ولیس لدینا تکلیف ثالث حتّی نلاحظه ونقول تحرم مخالفته القطعیة، هذان التکلیفان فرغنا عن عدم حرمة مخالفتهما القطعیة، وجواز مخالفتهما القطعیة، سواء کانت هذه العلوم تدریجیة، أو کانت فی عرض واحد، هو یمنع من ذلک، إذا کان هذا هو مقصوده، هذا یمکن أن یُجاب عنه بأجوبة تأتی إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فی المقام الثالث فیما إذا کانت الواقعة متعدّدة، دار الأمر بین المحذورین وکانت الواقعة متعدّدة، الکلام أنصبّ علی أنّه هل تجب الموافقة الاحتمالیة، أو لا ؟ هل تجب الموافقة الاحتمالیة بالإتیان بالفعل فی کلا الیومین، أو ترکه فی کلا الیومین، أو لا تجب الموافقة الاحتمالیة؛ یبقی المکلّف مخیّراً بین الفعل والترک فی کلٍ من الیومین ؟ کان التقریب لوجوب الموافقة الاحتمالیة، أو لما یُسمّی بالتخییر الابتدائی هو أنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام یتولّد منه علمان إجمالیان تدریجیان کما صوّرنا ذلک سابقاً، وهذان العلمان التدریجیان وإن کان لا یمکن موافقتهما قطعاً، لکن یمکن موافقتهما القطعیة، یمکن مخالفة کل واحدٍ منهما مخالفة قطعیة أیضاً کما وضّحنا ذلک ولا حاجة إلی الإعادة.

ص: 496

حینئذٍ، إذا التزمنا بحرمة المخالفة القطعیة لکلٍ من العلمین، کان معنی ذلک فی الحقیقة هو وجوب الموافقة الاحتمالیة؛ لأنّ المکلّف إذا کانت تحرم علیه المخالفة القطعیة للعلم الإجمالی التدریجی الأوّل، وتحرم علیه المخالفة القطعیة للعلم الإجمالی التدریجی الثانی، فأنّ معنی ذلک هو أنّه یجب علیه الموافقة الاحتمالیة، هذا هو التقریب. فی مقابل ذلک ذکرنا کلاماً للمحقق الأصفهانی(قدّس سرّه)، حیث أنّه أنکر منجّزیة هذا العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، وذکر بأنّه لا یوجد عندنا فی المقام إلاّ تکلیفان، وقد فرغنا عن عدم منجزیة العلم الإجمالی لحرمة مخالفتهما، الوجوب والتحریم، وکل منهما لا تحرم مخالفته؛ لعدم القدرة علی المخالفة القطعیة لکل واحدٍ منهما، ومعنی ذلک أننّا فرغنا عن جواز المخالفة الاحتمالیة لکلٍ منهما، فیجوز مخالفة الوجوب، ویجوز مخالفة التحریم، وهو معنی التخییر بین الفعل وبین الترک. یقول، عدم حرمة المخالفة القطعیة لکلٍ من التکلیفین أمر فرغنا عنه؛ وحینئذ لماذا نلتزم بحرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام، المخالفة القطعیة المتصوّرة فی المقام هی عبارة عن مخالفة احتمالیة للتکلیف الأوّل ومخالفة احتمالیة للتکلیف الثانی، وقد فرغنا عن جوازهما، فلا مجال حینئذٍ للحدیث عن حرمة المخالفة القطعیة، لا یحصل نتیجة ما ذکر علم بتکلیف ثالث حتّی یُتصور تنجیز حرمة المخالفة القطعیة بلحاظه، لیس عندنا إلاّ هذین التکلیفین وجوب وحرمة، الوجوب لا تحرم مخالفته قطعاً، والحرمة أیضاً لا تحرم مخالفتها القطعیة، الوجوب تجوز مخالفته الاحتمالیة، والحرمة أیضاً تجوز مخالفتها الاحتمالیة، فمن أین یأتی هذا الکلام، وهو أنّه تتنجّز حرمة المخالفة القطعیة لکلا العلمین الإجمالیین الذین تولدا من العلم الإجمالی السابق. هذا کلامه.

ص: 497

سابقاً قلنا بانّه إن کان منشأ المنع من منجزیة حرمة المخالفة القطعیة هو افتراض الطولیة بین العلمین الإجمالیین، وقلنا بأنّه یمکن أن یقع الحدیث فیما إذا کانا عرضیین کما مثّلنا، هو علم ابتداءً بأنّه حَلِف علی السفر فی یوم الخمیس ویوم الجمعة، لکن لا یعلم هل حَلِف علی فعل السفر فیهما، أو ترک السفر فیهما، وهذا بالتحلیل هو عبارة عن هذه العلوم المتقدّمة وهی تحصل فی عرض واحد بلا أن تکون هناک طولیة بینهما. یُضاف إلی ذلک أنّ ما ذکره لا یتم حتّی لو فرضنا أنّه کانت هناک طولیة فی هذه العلوم المُدعاة فی المقام، والسر فی ذلک هو أنّه فی المقام لا یوجد مانع حتّی نفترض أنّ هناک تکلیفاً لا یکون منجزاً بلحاظ علم إجمالی، ثمّ بعد ذلک یطرأ علیه علم إجمالی آخر یکون منجزاً بلحاظه، أیّ ضیر فی ذلک ؟ هذا التکلیف بلحاظ علم إجمالی لا یکون منجزاً لسببٍ ما، لکن هذا التکلیف بنفسه یکون منجزاً بلحاظ علمٍ إجمالی آخر، هذا لیس فیه محذور، المناط فی المنجزیة هو عبارة عن التمکّن من المخالفة القطعیة، کل تکلیفٍ یتمکّن من مخالفته القطعیة إذا علم به تفصیلاً، أو إجمالاً؛ حینئذٍ تتنجز علیه حرمة المخالفة القطعیة لذلک التکلیف، والتکلیف فی محل الکلام کما فرضنا یمکن مخالفته القطعیة، إذن، لا مانع من افتراض أنّه یکون منجّزاً بلحاظ هذین العلمین الإجمالیین التدریجیین، وإن کان غیر منجز بلحاظ العلم الإجمالی السابق، أو العلمین الإجمالیین السابقین الذین هما عبارة عن العلم إجمالاً بأنّه فی یوم الخمیس إمّا الفعل واجب، أو حرام، وفی یوم الجمعة الفعل إمّا واجب، أو حرام، هنا نسلّم أنّ هذین العلمین الإجمالیین لا ینجزان حرمة المخالفة القطعیة؛ لعدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة فیهما، لکن نفس هذا التکلیف إذا طرأ علیه علم إجمالی آخر لا مانع من أن یکون منجزاً لحرمة مخالفته؛ إذ لا یعتبر فی منجّزیة العلم الإجمالی لتکلیفٍ أن یکون تکلیفاً جدیداً لم یکن موجوداً سابقاً، ولم یُفرض عدم منجزیته بلحاظ علم إجمالی آخر، لا یشترط ذلک، الذی یُشترط هو أن یکون هناک علم إجمالی حقیقی واقعی، وهذا ما ندّعیه فی المقام، فی المقام یوجد علم إجمالی وجدانی حقیقی واقعی، وهذا یمکن مخالفته القطعیة، مخالفته القطعیة أمر ممکن ولیس مستحیلاً، فأیّ ضیر فی أن نلتزم بأنّ هذا العلم الإجمالی یکون منجزاً لحرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال فی هذین العلمین الإجمالیین التدریجیین، لا مانع من ذلک ولا توجد مشکلة فیه حتّی إذا فرضنا أن العلم الإجمالی الذی قلنا بالتنجیز علی أساسه کان طولیاً ولیس عرضیاً، یمکن التمثیل لذلک ببعض مسائل العلم الإجمالی فی ملاقی أحد أطراف الشبهة المحصورة، قد نفترض أنّ علماً إجمالیاً لا یکون منجزاً لحرمة مخالفة التکلیف، لکن ّ نفس هذا التکلیف یکون منجزاً باعتبار طرو علم إجمالی ثانٍ، هناک لا یکون منجّزاً بالعلم الإجمالی الأوّل لسببٍ ما، بینما بطرو العلم الإجمالی الثانی یکون هذا التکلیف منجّزاً وتحرم مخالفته القطعیة، لو فرضنا أنّ المکلّف علم بنجاسة أحد شیئین، إمّا هذا الماء، أو الدرهم الفضی، هنا یمکن أن یقال أنّ هذا العلم الإجمالی ساقط عن التنجیز؛ لأنّه لیس علماً إجمالیاً بالتکلیف علی کل تقدیر؛ لأنّه علی تقدیر أن تکون النجاسة فی الدرهم، فلا أثر لهذه النجاسة؛ لأنّه لیس مأکولاً ولا ملبوساً حتّی یکون العلم الإجمالی منجّزاً لحرمة أکله، أو حرمة لبسه، أو حرمة شربه، الدرهم لیس له هذه الحالة؛ فحینئذٍ لا أثر لنجاسته، فلا یکون العلم الإجمالی منجزاً علی کل تقدیر؛ ولذا لا مانع فی هذا المقام إذا بنینا علی ذلک من إجراء أصالة الطهارة فی الماء؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی لیس منجزاً؛ لأنّه لا ینجز التکلیف علی کل تقدیر. هذا العلم الإجمالی الأوّل.

ص: 498

لو فرضنا أنّ ثوباً لاقی الدرهم مع الرطوبة، هنا یتولّد علم إجمالی ثانٍ بأنّ النجاسة إمّا فی الثوب، أو فی الماء، یعنی إمّا الملاقی نجس، أو طرف الملاقی الذی هو الماء؛ لأنّ الملاقی هو الدرهم، وطرف الملاقی هو الماء، فنعلم إجمالاً بأنّ الثوب الملاقی نجس، وإمّا الماء نجس، هذا علم إجمالی بالوجدان نعلم به.

قد یقال هنا: بأنّ هذا العلم الإجمالی ینجز التکلیف، وذلک لأنّه علم إجمالی بالتکلیف علی کل تقدیر، نفترض أنّ نجاسة الدرهم لم یکن لها أثر، لکنّ الثوب الذی لاقی الدرهم نجاسته لها أثر، فیکون علماً إجمالیاً بالتکلیف علی کل تقدیر، فقد یقال بمنجزیة هذا العلم الإجمالی الثانی، وهذا لیس أمراً عجیباً وغریباً، أنّ تکلیفاً لا یکون منجزاً لحرمة المخالفة القطعیة بلحاظ علم إجمالی، لکنّه یکون منجزاً بلحاظ علم إجمالی آخر، ولو کان هذا العلم الإجمالی فی طول العلم الإجمالی الأوّل، فهذه لیست قضیة عجیبة، فقد یُدعی ذلک، افترض أنّ العلمین الإجمالیین التدریجیین هما فی طول العلمین الإجمالیین الأساسیین، وأنّ التکلیف لا یتنجز بالعلمین الإجمالیین الأساسیین لعدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة، لکن فی العلمین الإجمالیین المتولّدین الطولیین المخالفة القطعیة ممکنة، فلا مانع من أن یکون التکلیف منجّزاً بلحاظهما.

علی کل حال هذا أصل المطلب، وتبیّن مما تقدم أنّه یظهر أنّ الصحیح هو أنّ کل واحد من هذین العلمین الإجمالیین التدریجیین صالح لأن یکون منجّزاً لحرمة المخالفة القطعیة لمعلومه بالإجمال ولا یوجد ما یمنع من صلاحیته لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة. بناءً علی هذا حینئذٍ نُتم المطلب، یقال بأنّ هذا المتقدّم کلّه فیما إذا فرضنا تساوی الاحتمالین، إذا فرضنا أنّ کلاً من الوجوب والحرمة کانا متساویین من دون أن یکون أحدهما أهم، أو محتمل الأهمیة بالنسبة إلی الآخر، فیأتی الکلام السابق والنتیجة التی وصلنا إلیها وهی أنّ المکلّف یتخیّر بینهما تخییراً ابتدائیاً لا استمراریاً؛ لأنّ العلمین الإجمالیین التدریجیین نجّزا حرمة المخالفة القطعیة، أی بعبارة أخری: نجّزا وجوب الموافقة القطعیة. وأمّا إذا فرضنا أنّ أحد الحکمین کان أهم، أو محتمل الأهمیة من الآخر، ولنفترض أنّ الوجوب کان أهم من الحرمة، أو محتمل الأهمیة، بینما الحرمة لیست کذلک؛ حینئذٍ یقع الکلام فی أنّه هل یبقی الحکم بالتخییر علی حاله، یتخیّر المکلّف بین الفعل والترک فی الیوم الأوّل بناءً علی التخییر الابتدائی، أو یتخیّر بینهما فی الیوم الأوّل والثانی بناءً علی التخییر الاستمراری، هل یبقی هذا الحکم علی حاله بالرغم من أنّ الوجوب أهم، أو محتمل الأهمیّة من الحرمة، فیتخیر بین أن یمتثل الوجوب ویفعل وبین أن یمتثل التحریم ویترک، أو أنّه یجب علیه تقدیم الأهم، أو محتمل الأهمیة، یجب علیه أن یمتثل الوجوب بأن یفعل.

ص: 499

إذن: الکلام فی هذا: بناءً علی أنّ التخییر ابتدائی فی الیوم الأوّل قلنا أنّ المکلّف مخیّر یستطیع أن یفعل ویستطیع أن یترک، هل هذا هو الحکم إذا کان أحدهما أهم، أو محتمل الأهمیة، أو یتعیّن علیه تقدیم الأهم وامتثال التکلیف الأهم أو محتمل الأهمیة، فیجب علیه أن یفعل، ولیس مخیّراً بین الفعل والترک.

بعبارة أخری: فی المقام هل تتقدّم الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال علی المخالفة القطعیة للتکلیف المهم المعلوم بالإجمال أیضاً، أو لا ؟ تقدیم الأهم، یعنی أنّه یجب علیک الموافقة القطعیة لهذا التکلیف الأهم المعلوم بالإجمال وإن استلزم ذلک الوقوع فی المخالفة القطعیة للمهم، هل یمکن إثبات وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال بحیث یتقدّم علی حرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المهم المعلوم بالإجمال ؟ إذا قلنا أنّه یتقدّم، فهذا معناه أنّه لابدّ من تقدیم الأهم وأنّ التخییر الذی فرغنا عنه فی حالة التساوی، فی حالة کون أحدهما أهم، أو محتمل الأهمیة یرتفع، وعندئذٍ لا یتخیّر بین الفعل والترک؛ لأنّه لابدّ أن یفعل، وبناءً علی أنّ التخییر ابتدائی لابدّ أن یفعل فی الیوم الثانی أیضاً، فلا یکون مخیّراً بین الفعل والترک؛ لأنّ هذا أهم، أو محتمل الأهمیة ولابدّ من تقدیمه وموافقته القطعیة وإن استلزم ذلک الوقوع فی المخالفة القطعیة للتکلیف المهم المعلوم بالإجمال.

هنا فی هذه المسألة المحقق النائینی(قدّس سرّه) له رأیان، عندما تعرّض لهذا الفرع فی مسألتنا ----------- دوران الأمر بین المحذورین ------------- أختار القول الأوّل وهو أنّ الحکم الابتدائی یبقی علی حاله ولا یتغیّر بمجرّد أهمیة أحد المحتملین، أو احتمال الأهمیة، (1) یبقی المکلّف مخیّراً بین الفعل والترک ولا تراعی مسألة الأهمیة وأمثالها، ولا یجب علیه تقدیم الأهم؛ بل یبقی مخیّراً بینهما. هذا ما أختاره فی محل الکلام ووافقه علیه السید الخوئی(قدّس سرّه)، هو أیضاً ذهب إلی ذلک، (2) حیث ذهب إلی أنّه لا یلزم تقدیم الأهم؛ بل یبقی المکلّف مخیّراً بین الفعل والترک بین امتثال الأهم وامتثال المهم، بینما المحقق النائینی(قدّس سرّه)أختار القول الثانی وهو لزوم تقدیم الأهم، أو محتمل الأهمیة عندما تعرّض إلی ذلک فی مسألة دوران الأمر بین شرطیة شیء ومانعیته، (3) شیء واحد یدور أمره بین أن یکون شرطاً وبین أن یکون مانعاً، هناک ذهب إلی لزوم تقدیم الأهم، یعنی قدّم الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال علی المخالفة القطعیة للتکلیف المهم المعلوم بالإجمال. القول الأوّل، وهو عدم تقدیم الأهم، وأنّ التخییر الذی أثبتناه فی حالة التساوی بنفسه یبقی موجوداً فی حالة العلم بالأهمیة واحتمال الأهمیة، هذا استدل علیه بدلیلین، الدلیل الأوّل هو الذی یُفهم من کلمات السید الخوئی(قدّس سرّه)، أمّا الدلیل الثانی، فلا یُفهم من کلماته، قد یستنبط من کلماته، لکنّه لم یذکره بشکلٍ صحیح.

ص: 500


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 454.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 340.
3- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 455.

الدلیل الأوّل: وهو الذی لم یُذکر فی کلمات السید الخوئی(قدّس سرّه) الذی أختار هذا القول وهو عدم تقدیم الأهم هو فی الحقیقة مبنی علی افتراض أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة ومقتضی بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وإنّما هو مجرّد مقتضٍ، بینما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، بناءً علی هذا المسلک الذی هو یؤمن به أیضاً السید الخوئی(قدّس سرّه) وکذلک المحقق النائینی(قدّس سرّه) أیضاً یؤمن به، بناءً علی هذا المسلک یکون تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة تأثیراً تنجیزیّاً؛ لأنّه علّة تامّة لیس معلّقاً علی شیءٍ، وبمجرّد تحقق العلم الإجمالی لابدّ من افتراض تحقق حرمة المخالفة القطعیة، فیکون تأثیره فعلیاً تنجیزیاً ولیس معلّقاً، بینما تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی، معلّق؛ لأنّه مقتضی ولیس علّة تامّة، فی حرمة المخالفة القطعیة لا نستطیع أن نتصوّر وجود مانعٍ یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ هذا خُلف الفرض؛ لأننّا افترضنا أنّه علة تامّة، فافتراض وجود مانع معناه خُلف الفرض، بینما فی تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة یمکن افتراض وجود مانع یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة، إذن، تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی، معلّق علی عدم المانع، بینما تأثیره فی حرمة المخالفة القطعیة لیس کذلک، وإنّما هو تأثیر فعلی؛ حینئذٍ یقال فی محل الکلام: بأنّ تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة فی محل الکلام تأثیر فعلی تنجیزی ولیس معلّقاً، وبهذا یکون مانعاً من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ تأثیره کما قلنا تأثیر تعلیقی، معلّق علی عدم المانع، وحرمة المخالفة القطعیة تصلح أن تکون مانعاً من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة، بعد وضوح أنّ الموافقة القطعیة لأحد العلمین الإجمالیین تستلزم المخالفة القطعیة للآخر، أی الموافقة القطعیة لأحدهما تستلزم المخالفة القطعیة للآخر؛ لأنّهما متعاکسان کما تقدّم، فإذن، الموافقة القطعیة تستلزم المخالفة القطعیة للآخر، فإذا نجّز العلم الإجمالی حرمة المخالفة القطعیة وهذا یکون منافیاً لوجوب الموافقة القطعیة، وبهذا یکون مانعاً من تأثیر العلم الإجمالی الآخر فی وجوب الموافقة القطعیة.

ص: 501

بعبارة أخری: أنّ العلم الإجمالی الأوّل التدریجی الذی یقول بأنّ الفعل إمّا واجب فی یوم الخمیس، أو حرام فی یوم الجمعة، الموافقة القطعیة له تقتضی أن یأتی بالفعل فی یوم الخمیس، إتیانه بالفعل فی یوم الخمیس مخالفة قطعیة للعلم الإجمالی الثانی الذی هو أنّه یعلم بأنّ الفعل إمّا حرام فی یوم الخمیس، أو واجب فی یوم الجمعة، فتکون الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال الأهم تستلزم المخالفة القطعیة للتکلیف المهم المعلوم بالإجمال، فإذا فرضنا ذلک؛ حینئذٍ یقال بأنّه فی المقام الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال وُجد له مانع، وُجد مانع من أن یؤثر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال وهذا المانع هو حرمة المخالفة القطعیة للعلم الإجمالی الثانی؛ لأنّ تأثیر العلم الإجمالی الثانی فی حرمة المخالفة القطعیة تأثیر فعلّی تنجیزی ولیس تعلیقیاً، بینما تأثیر هذا العلم فی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی، وهو معلّق علی عدم المانع، فإذا وُجد المانع؛ فحینئذٍ لا یکون مؤثراً، وهذا معناه أننّا لا یمکن أن نثبت وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال کما هو المدّعی لمن یقول لابدّ من تقدیم الأهم علی المهم، لابدّ من تقدیم الأهم علی المهم معناه وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال، وإن استلزم ذلک المخالفة القطعیة للتکلیف المهم المعلوم بالإجمال، وبهذا البیان یتبیّن أنّه لا یمکن إثبات وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال؛ لأنّ إثباته موقوف علی عدم وجود مانع یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة وهذا المانع موجود؛ لأننّا قلنا أنّ الموافقة القطعیة للأهم تستلزم المخالفة القطعیة للمهم، والمخالفة القطعیة للمهم تنجیزیة، والعلم الإجمالی فیها تنجیزی ولیس تعلیقیاً، ویشکّل مانعاً. إذن، العلم الإجمالی لا یؤثر فی وجوب الموافقة القطعیة حتّی یُلتزم به لإثبات لزوم تقدیم الأهم علی المهم ولزوم الاعتناء بالأهمیة واحتمالها. هذا الوجه الأوّل.

ص: 502

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فیما إذا فُرضت أهمیة أحد المحتملین، أو احتمال الأهمیة بالنسبة إلی الآخر، فیقع الکلام فی أنّ التخییر بین الفعل والترک ابتدائیاً، أو استمراریاً علی الخلاف هل یبقی علی حاله ولا تُلاحظ الأهمیة، أو احتمال الأهمیة، أو یجب تقدیم محتمل الأهمیة، أو ما ثبت کونه أهم ؟

قلنا أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی قوله الأوّل، وکذلک السید الخوئی(قدّس سرّه) ذهبوا إلی بقاء التخییر علی حاله ولا مجال لملاحظة الأهمیة، أو احتمال الأهمیة، واستدلّ علی ذلک بدلیلین، الدلیل الأوّل تقدّم فی الدرس السابق، وکان حاصله هو: أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، ولیس کذلک بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، بمعنی أنّ تأثیر العلم الإجمالی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی، یعنی معلّق علی عدم وجود مانع یمنع من وجود هذا التأثیر، بینما تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة تأثیر تنجیزی لیس معلّقاً علی شیءٍ، إذن، العلم الإجمالی یؤثر فی حرمة المخالفة القطعیة، فتحرم المخالفة القطعیة لهذا العلم، وهذا یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة. الذی یُراد إثباته فی محل الکلام باعتبار أنّ هذا أهم، أو محتمل الأهمیة، فی مثالنا، الوجوب فرضاً، فیقال بأنّ هذا التکلیف الأهم المعلوم بالإجمال تجب موافقته القطعیة، وإن استلزم ذلک حرمة المخالفة القطعیة، فهنا یقال أنّ وجوب الموافقة القطعیة یمنع منه حرمة المخالفة القطعیة المنجزة، والذی یکون تأثیر العلم الإجمالی فیها تأثیراً تنجیزیاً، بینما تأثیر ذاک فی وجوب الموافقة القطعیة حتّی نلتزم بالموافقة القطعیة معلّق علی عدم وجود مانع والمانع موجود وهو حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 503

بعبارة أخری: أنّ حرمة المخالفة القطعیة للعلم الإجمالی الآخر یمنع من تأثیر العلم الإجمالی الأوّل فی وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ العلم الإجمالی الثانی یقول أنّ الفعل حرام فی الیوم الأوّل، والعلم الإجمالی الأوّل یقول الفعل إمّا واجب، أو حرام فی الیوم الآخر، فهو یؤثر فی وجوب الموافقة القطعیة، فیجب الإتیان بالفعل، بینما وجوب الموافقة القطعیة لهذا العلم الإجمالی الأوّل هی عبارة عن مخالفة قطعیة للعلم الإجمالی الثانی؛ لأنّ العلم الإجمالی الثانی یقول بأنّ الفعل حرام، إمّا حرام فی هذا الیوم، أو واجب فی الیوم الآخر، فیکون منافیاً لحرمة المخالفة القطعیة، فإذا کان تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة تنجیزیاً، إذن، فهو یمنع من المخالفة القطعیة، فلا یؤثر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، فإذا لم یکن مؤثراً؛ فحینئذٍ کیف یمکن إثبات وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال، کیف یمکن إثباته ؟ التکلیف الأهم المعلوم بالإجمال موافقته القطعیة مستلزمة للمخالفة القطعیة للتکلیف المهم المعلوم بالإجمال أیضاً، وتأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة تنجیزی، فیکون مانعاً من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة، وبناءً علی هذا لا تلاحظ الأهمیة ولا دلیل علی وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال، وإنّما الذی یثبت فقط هو حرمة المخالفة القطعیة، وتقدّم أنّ حرمة المخالفة القطعیة لکلا التکلیفین هی التی تنتج وجوب الموافقة الاحتمالیة، فیبقی المکلّف بین الفعل والترک ولا یتعیّن علیه الإتیان بالفعل لکون الوجوب معلوم الأهمیة، أو محتمل الأهمیة، یبقی هو مخیّر بین الفعل وبین الترک، لا یجب علیه إلاّ الموافقة الاحتمالیة ویتحقق بالفعل کما یتحقق بالترک، لا دلیل من العقل ینجّز علیه وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال.

ص: 504

لکن هذا الدلیل لم یُشر إلیه السید الخوئی(قدّس سرّه) بشکلٍ واضح فی ما نُقل من تقریراته، وإنّما الموجود فی کلامه هو الدلیل الثانی الذی سنذکره.

الدلیل الثانی، وحاصله: أنّه فی مقام الاستدلال علی عدم ملاحظة الأهمیة فی محل الکلام، یقول: أنّ التزاحم بین الحکمین الذی یوجب التقدیم علی أساس الأهمیة لا ینطبق فی محل الکلام، وخلاصة کلامه: أنّ محل الکلام لا یدخل فی باب التعارض، ولا یدخل فی باب التزاحم، إذن، لا موجب للتقدیم علی أساس الأهمیة، نقدّم الوجوب علی التحریم ونلتزم بوجوب موافقته القطعیة وإن استلزم ذلک المخالفة القطعیة للتکلیف المهم. أمّا أنّ المقام لا یدخل فی باب التعارض، فواضح، باعتبار عدم وجود تنافی بین الحکمین فی عالم الجعل الذی هو المناط والملاک فی التعارض، ولا مانع من جعلهما، أن یکون الفعل واجباً علی تقدیر الحلف علی فعله، ویکون الفعل حراماً علی تقدیر الحلف علی ترکه، وجوب السفر إذا حلف علی فعله، وحرمة السفر إذا حلف علی ترکه، لا مانع من اجتماعهما ولا مانع من افتراض جعلین للوجوب والتحریم فی محل الکلام، إذن، لا یدخل المقام فی باب التعارض وهذا واضح. لکن لماذا لا یدخل فی باب التزاحم الذی یکون التقدیم فیه علی اساس الأهمیة، أو احتمال الأهمیة ؟ یقول: لا یدخل فی باب التزاحم باعتبار أنّ الحکمین المتزاحمین الذین یُقدّم أحدهما علی الآخر علی أساس الأهمیة واحتمال الأهمیة، التزاحم بینهما الموجب لهذا التقدیم ینشأ من عدم قدرة المکلّف علی الجمع بین امتثالیهما، المکلّف غیر قادر علی أن یجمع بین امتثال هذا التکلیف وامتثال التکلیف الآخر. حکمان لا مانع من جعلهما ولیس بینهما تعارض، لا تنافی بینهما فی عالم الجعل، لکن یوجد بینهما تنافٍ فی عالم الامتثال؛ لأنّ المکلّف له قدرة واحدة، إمّا أن یصرفها فی امتثال هذا التکلیف، أو یصرفها فی امتثال التکلیف الآخر، فینشأ التزاحم الموجب للتقدیم علی أساس الأهمیة من عدم قدرة المکلّف علی الجمع بین الامتثالین؛ وحینئذٍ تجری قواعد باب التزاحم، وقواعد باب التزاحم تقول: إن کان الحکمان متساویین من حیث الأهمیة واحتمال الأهمیة؛ فلابدّ من رفع الید عن إطلاق کلٍ منهما لحالة الاشتغال بالآخر؛ لأنّه لا یمکن أن نفترض أن یبقی هذا الحکم مطلقاً حتّی لحالة الاشتغال بالآخر، وهذا الحکم یبقی دلیله مطلقاً حتّی لحالة الاشتغال بالأوّل، فلابدّ من تقیید إطلاق کلٍ منهما لحالة الاشتغال بالآخر، فیقال له صلِ إذا لم تُزل النجاسة، أو أزل النجاسة إذا لم تصلِ. هذا بناءً علی فکرة الترتّب. وأمّا إذا کان أحدهما أهم، أو محتمل الأهمیة؛ حینئذٍ الإطلاق الذی یکون ساقطاً هو إطلاق المهم، أمّا إطلاق الأهم فیبقی علی حاله ولا موجب لسقوطه؛ وحینئذٍ یقیّد إطلاق المهم بعد سقوطه بعدم الاشتغال بالأهم، فالتقیید یکون من جانبٍ واحدٍ، فیکون الأهم مأموراً به علی الإطلاق حتّی فی حالة الاشتغال بالمهم، بمعنی أنّه یدعو المکلّف الذی یشتغل بالمهم إلی جانب الأهم، أمّا المهم فیقال له فی حالة الاشتغال بالأهم هو لا یدعوه إلی المهم، وإنّما یدعوه إلی المهم علی تقدیر عدم الاشتغال بالأهم. هذه فکرة الترتّب.

ص: 505

هذا إذا کان لکلٍ منهما إطلاق، أمّا إذا لم یکن لکلٍ منهما إطلاق؛ حینئذٍ لابدّ أن نذهب إلی الملاک، حکمان تزاحما لیس فیهما إطلاق؛ حینئذٍ لابد أنّ نذهب إلی عالم الملاک، فی هذه الحالة إذا فرضنا أنّ ملاک أحد الحکمین کان أهم، أو محتمل الأهمیة؛ حینئذٍ یتعیّن تقدیمه علی الآخر، فیتقدّم الأهم ملاکاً علی الآخر الذی هو أقل أهمیة، أو لا یوجد فیه احتمال الأهمیة فی قبال الأوّل، ویقول: أنّ سرّه هو لأننا نقطع بجواز تفویت الملاک المهم لتحصیل الملاک الأهم، لکن هل یجوز تفویت الملاک الأهم لأجل تحصیل الملاک المهم، هذا لا یحکم به العقل ولا یُعلم جوازه؛ وحینئذٍ تصح العقوبة علیه من ناحیة العقل، أن یفوّت الملاک الأهم لصالح الملاک المهم، أمّا أن یفوّت الملاک المهم لصالح الملاک الأهم، هذا قطعاً لیس فیه محذور، والعقل یحکم به، ولا تترتب علیه عقوبة، لکن تفویت الملاک الأهم لأجل تحصیل الملاک المهم هذا لا یحکم العقل بجوازه ؛ فحینئذٍ یستحق علیه العقاب والنتیجة هی لابدّ من تقدیم الملاک الأهم، أو محتمل الأهمیة، وإذا تساویا فی الملاک؛ فحینئذٍ لابدّ من الالتزام بالتخییر، یتخیّر المکلّف بینهما، ینقذ هذا الغریق، أو یُنقذ هذا الغریق فی فرض التساوی. هذا لا یجری فی محل الکلام ---------- هذا هو الجواب الحقیقی ----------- الجواب الثانی هو أنّ هذا لا یجری فی محل الکلام حتّی یقال أننا هنا أیضاً نرجّح علی أساس الأهمیة، وذلک باعتبار أنّ المفروض فی محل کلامنا أنّ الإطلاق فی دلیلی الحکمین باقٍ علی حاله ولا موجب لرفع الید عنه، ولا موجل للالتزام بسقوطه فی أحدهما، لا فی الأهم ولا فی المهم، والسرّ فی هذا أنّه فی محل الکلام المکلّف یتمکّن من امتثال کلٍ منهما وقادر علی أن یمتثل کلاً منهما، بخلاف باب التزاحم بین الصلاة وبین الإزالة، أو بین إنقاذ هذا الغریق، أو إنقاذ هذا الغریق، هناک المکلّف غیر قادر علی أن یمتثل کلاً منهما، بینما فی محل الکلام المکلّف قادر علی أن یمتثل کلاً منهما، هو قادر علی أن یمتثل الوجوب بأن یأتی بالفعل فی الیوم الأوّل، وهو قادر علی أن یمتثل التحریم بأن یترک الفعل فی الیوم الأوّل.

ص: 506

بعبارة أخری: أنّ هذا التکلیف الذی هو مکلّف به، إن کان هو الوجوب هو قادر علی امتثاله، وإن کان هو التحریم، فهو أیضاً قادر علی امتثاله، له القدرة علی امتثال کلٍ منهما، بأن یأتی بالفعل، وأن یترک الفعل لا مشکلة فی هذا ولیس عنده ضیق فی قدرته علی امتثال کلٍ منهما، وإنّما الذی یوجد عنده هو أنّ إحراز امتثال التکلیف الواقعی هو غیر قادر علیه. هناک فرق بین قدرته علی الامتثال واقعاً وبین إحرازه لتحقق الامتثال واقعاً، هو إذا جاء بالفعل هو قادر علی الفعل، لکن لا یحرز تحقق الامتثال واقعاً؛ لأجل الاشتباه والاختلاط؛ لأنّ المفروض أنّه لا یدری أنّ التکلیف المکلّف به هل هو الوجوب، أو التحریم، فإذا امتثل الوجوب هو لا یحرز تحقق الامتثال به؛ لأجل الاشتباه والاختلاط، إذا امتثل التحریم وترک الفعل هو قادر علی امتثال التحریم واقعاً، لکنّه غیر قادر علی إحراز الامتثال واقعاً؛ لأنّه لا یعلم هل هو مکلّف بالفعل، أو مکلّف بترک الفعل، لذلک قالوا فی المقام هو قادر علی الامتثال ولا یکون حاله حال باب التزاحم الذی یُفترض فیه عدم القدرة علی الامتثال، عدم القدرة علی امتثال هذین التکلیفین، فی محل الکلام هو قادر علی أن یمتثل هذین التکلیفین، قادر علی أن یمتثل الوجوب وقادر علی أن یمتثل التحریم، بلحاظ العلم الإجمالی الأوّل قادر علی أن یمتثل الوجوب وأن یمتثل التحریم، ولا مانع منهما؛ لأنّ العلم الإجمالی یقول له هذا إمّا واجب علیک یوم الخمیس، أو حرام علیک یوم الجمعة، هو قادر علی امتثال التکلیف المعلوم بالإجمال الموجود بینهما، قادر علی امتثال هذا الطرف وقادر علی امتثال ذاک الطرف بأن یفعل فی یوم الخمیس ویترک یوم الجمعة، وهکذا الحال بالنسبة للعلم الإجمالی الآخر، فهو یعلم بأنّ الفعل إمّا حرام یوم الخمیس، أو واجب یوم الجمعة، فهو قادر علی امتثالهما، قادر علی أن یترک الفعل فی یوم الخمیس ویأتی بالفعل فی یوم الجمعة، إذن: کل علم إجمالی إذا لاحظناه هو قادر علی امتثال کلا المحتملین فیه، ولیس هناک مشکلة فی أن یمتثل کلاً منهما، هو قادر واقعاً علی امتثال کلا المحتملین فی العلم الإجمالی، فأین التزاحم بینهما ؟

ص: 507

نعم، هو قادر علی إحراز الامتثال، بأنّه هل یحرز الامتثال بالیوم الأوّل بالفعل، أو یحرز الامتثال بالیوم الثانی؛ لأنّ التکلیف أساساً مشتبه وغیر معلوم هل هو الوجوب حتّی یحرز امتثاله بالفعل فی الیوم الأوّل، أو هو التحریم حتّی یحرز امتثاله بالترک فی الیوم الثانی ؟ هو کان قادراً علی هذا، لا أنّه غیر قادر علی أن یمتثل کلا المحتملین وکلا التکلیفین فی هذا العلم الإجمالی؛ لذا لا یدخل المقام فی باب التزاحم؛ ولذا لا یمکن أن نلتزم بالترجیح فی محل الکلام علی أساس الأهمیة، ولا یمکن أن نلتزم بتقیید إطلاق کلٍ منهما لحالة الاشتغال بالآخر، أو تقیید إطلاق المهم بحالة الاشتغال بالآخر دون الأهم، هنا لا یمکن أن نلتزم بذلک بأن نقول: أنّ التحریم مقیّد بعدم الاشتغال بالفعل، أمّا الوجوب فیبقی علی إطلاقه، فهو یدعو المکلّف إلی الإتیان بالفعل، وهذا هو المقصود، أنّ الأهم لابدّ من الإتیان به ولو استلزم حرمة المخالفة القطعیة للمهم، هو یقول: کلا؛ بل یبقی کل منهما علی إطلاقه کما لو تساویا، یعنی هذا یجر المکلّف لناحیته، یجرّه عن امتثال المهم إلی فعل الأهم، الأمر بالمهم أیضاً یدعو المکلّف إلی امتثاله وترک الأهم؛ لأنّ المقام لا یدخل فی باب التزاحم؛ لأنّه لا موجب لهذا التقیید إلاّ عدم قدرة المکلّف علی امتثال التکلیفین.

نعم، فی المقام یوجد حکم العقل بلزوم إحراز الامتثال وإحراز الطاعة وتحصیل الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، وهذا حکم عقلی موجود وثابت، ولکنّ هذا الحکم العقلی یقول ثابت فی جمیع التکالیف الإلزامیة، کما یجب الموافقة القطعیة للوجوب، کذلک تجب الموافقة القطعیة للحرمة، هذا حکم إلزامی، وهذا أیضاً حکم إلزامی، الحکم العقلی لا یفرّق بین الحکمین الإلزامیین بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة وبلحاظ لزوم الطاعة وأمثال هذه الأمور، سواء کان أحدهما أهم من الآخر، أو کانا متساویین، ولا داعی للالتزام بالموافقة القطعیة لهذا التکلیف حتّی إن استلزمت المخالفة القطعیة للتکلیف الآخر، فبالتالی لا إطلاق الحکمین یکون مقیداً بعدم الاشتغال بالآخر، کما أنّه بلحاظ الحکم العقلی لا فرق بنظر العقل بین هذین الحکمین، وإن کان أحدهما أهم من الآخر؛ بل لابدّ أن نلحظ هذا الحکم العقلی بوجوب الموافقة القطعیة، فیأتی الکلام الذی ذُکر سابقاً، وهو أنّ الموافقة القطعیة لکلٍ منهما غیر ممکنّة؛ فحینئذٍ یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، ولکن بما أنّ المخالفة القطعیة ممکنة بحسب الفرض للتکلیف المعلوم بالإجمال فی کل واحد من العلمین، فالعلم الإجمالی ینجّز هذه المخالفة القطعیة، تتنجّز المخالفة القطعیة فی کل واحد من العلمین، فیأتی حینئذٍ الکلام السابق أنّ هذا یؤدی إلی لزوم الالتزام بوجوب الموافقة الاحتمالیة، یحرم علی المکلّف مخالفة العلم الإجمالی الأوّل، ویحرم علیه مخالفة العلم الإجمالی الثانی، بأن تفعل فی کلا الیومین، أو تترک فی کلا الیومین؛ حینئذٍ لا یکون المکلّف قد خالفهما قطعاً، حرمة المخالفة القطعیة تتنجّز بهذین العلمین وهذا ینتج وجوب الموافقة الاحتمالیة، ومعناها التخییر بینهما، أی أن المکلّف مخیّر بین الفعل والترک ولا یتعیّن علیه الفعل بمجرّد أنّ الوجوب محتمل الأهمیة بالنسبة إلی التحریم؛ بل یبقی الحکم العقلی علی حاله کما کان فی السابق، کما کان فی فرض التساوی أیضاً یثبت فی فرض المقام وهو أنّ وجوب الموافقة القطعیة یسقط، والعلم الإجمالی لا ینجّزها لعدم إمکانها، والمخالفة القطعیة حیث أنّها ممکنة العلم الإجمالی ینجّز حرمتها فی کلٍ من العلمین وهذا ینتج وجوب الموافقة الاحتمالیة، فما هو الدلیل علی تقدیم التکلیف الأهم المعلوم بالإجمال علی التکلیف المهم المعلوم بالإجمال ؟ هذا الوجه الثانی الذی یستفاد من کلمات السید الخوئی(قدّس سرّه)، هناک وجهان لعدم رعایة الأهمیة، وأنّ النتیجة واحدة سواء تساوی المحتملان فی الأهمیة، أو کان أحدهما أهم، أو محتمل الأهمیة بالنسبة إلی الآخر.

ص: 508

بالنسبة إلی الوجه الأوّل الذی ذُکر، اعترض علیه: بأنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی، بناءً علی الاقتضاء، بینما تأثیره فی حرمة المخالفة القطعیة تأثیر تنجیزی، وتسلسل فی کلامه أنّ العلم الإجمالی یؤثر فی حرمة المخالفة القطعیة ویمنع من تأثیره فی وجوب الموافقة القطعیة.

الاعتراض الأوّل هو أنّ تعلیقیة تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة عندما یقال بأنّها تأثیر تعلیقی لا یُراد به أنّه معلّق علی عدم تأثیر المقتضی العقلی الآخر، بمعنی أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة معلّق علی عدم تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة، وعدم کون تأثیره تنجیزیاً، بحیث أنّه بمجرّد أن یؤثر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة یکون مانعاً عن تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة، لیس هذا هو المقصود به، المصّرح به فی کلمات القائلین بالاقتضاء أنّه تعلیقی بمعنی أنّه معلّق علی عدم ورود ترخیصٍ من قبل الشارع فی المخالفة القطعیة، فی قبال القائل بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة یقول لا یُعقل ورود ترخیص، القائل بالاقتضاء والتعلیقیة یقول العلم الإجمالی مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعیة إلاّ إذا رخّص الشارع فی ترک الموافقة القطعیة، العلم الإجمالی یحکم بلزوم الموافقة القطعیة، لکن معلّقاً علی عدم ترخیص الشارع فی ترک الموافقة القطعیة، عدم ورود ترخیص من قبل الشارع فی ترک الموافقة القطعیة لا أنّه معلّق علی عدم تأثیر المقتضی العقلی الآخر فی حرمة المخالفة القطعیة بحیث بمجرّد أن یؤثر تأثیر تنجیزی هو یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما هو معلّق علی عدم ورود ترخیص من قبل الشارع فی ترک الموافقة القطعیة، والمفروض فی محل کلامنا عدم ورود ترخیص، فی کلا الجانبین لا یوجد ترخیص، لم یرد ترخیص فی ترک الموافقة القطعیة، ولا ورد ترخیص من قبل الشارع فی فعل المخالفة القطعیة، المفروض فی محل کلامنا عدم ورود ترخیص من قبل الشارع، إذا تحقق ما عُلّق علیه التأثیر یکون التأثیر تنجیزیاً، صحیح هو أساساً معلّق علی عدم ورود ترخیص، لکن هذا محقق وثابت، فإذا تحقق المعلّق علیه یکون تأثیر المعلّق علیه فی وجوب الموافقة القطعیة أیضاً تأثیراً تنجیزیاً، کما أنّ تأثیره فی حرمة المخالفة یکون تنجیزیاً، إذن: حینئذٍ یکون حدیث التعلیق وتنجیزیة هذا تکون مانعاً من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة غیر صحیح؛ بل کل منهما یکون تنجیزیاً وتأثیره تنجیزیاً ویکون التزاحم حینئذٍ بین مقتضیین تنجیزیین ولیس بین مقتضیین أحدهما تنجیزی والآخر تعلیقی حتّی یقال أنّ هذا التنجیزی یمنع من تأثیر المقتضی التعلیقی فیما یقتضیه؛ بل کل منهما تأثیره تنجیزی بین مقتضیین تنجیزیین لا کما ذُکر فی الوجه الأوّل. هذه ملاحظة بالنسبة إلی الوجه الأوّل.

ص: 509

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

کان الکلام فیما إذا کان أحد المحتملین أهم من الآخر، أو محتمل الأهمیة، فهل یتعیّن تقدیمه علی الآخر، فتجب موافقته القطعیة فی محل الکلام ؟ بأن یأتی بالفعل فی الیوم الأوّل وفی الیوم الثانی فی المثال المتقدّم؛ لأنّ المختار هو التخییر الابتدائی، أو أنّه لا یجب تقدیم محتمل الأهمیة؛ بل یبقی التخییر علی حاله، فیتخیّر بین الفعل وبین الترک، فبإمکانه أن یفعل فی الیوم الأوّل، وکذا فی الیوم الثانی، وبین أن یترک فی الیوم الأوّل وکذا یترک فی الیوم الثانی ؟ هذا محل الکلام.

وقلنا بأنّ هناک وجهان أستدل بهما علی التخییر وعدم ملاحظة الأهمیة، یعنی عدم تقدیم الأهم، الوجه الأوّل تقدّم ذکره فی الدرس السابق وکذا الوجه الثانی، قلنا أنّ الوجه الأوّل أجیب عنه بجوابین، وقد ذکرنا الجواب الأوّل منهما، وکان حاصله: أنّ وجوب الموافقة القطعیة لیس تنجیزیاً، تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تعلیقی، بینما تأثیر العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة تأثیر تنجیزی، والقاعدة فی أنّه کلّما تعارض مقتضی تنجیزی ومقتضی تعلیقی یُقدّم المقتضی التنجیزی علی المقتضی التعلیقی؛ لأنّ المقتضی التعلیقی معلّق علی عدم وجود مانع، وتأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة التنجیزی یشکّل مانعاً من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة. مع افتراض ووضوح أنّ الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم المعلوم بالإجمال یستلزم المخالفة القطعیة للتکلیف المهم المعلوم بالإجمال؛ فحینئذٍ کیف نقدّم وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم علی حرمة المخالفة القطعیة ؟ والحال أنّ حرمة المخالفة القطعیة فعلیة، بینما وجوب الموافقة القطعیة لیس فعلیاً، وإنّما هو تعلیقی .

ص: 510

الجواب الأوّل الذی تقدّم عن هذا الوجه خلاصته: أنّ التعلیقیة فی تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة لیس معناها کونه معلّقاً علی عدم وجود المقتضی لحرمة المخالفة القطعیة، وإنّما التعلیقیة کما صرّح به القائلون بالاقتضاء معناها أنّه معلّق علی عدم ورود الترخیص الشرعی فی ترک الموافقة القطعیة، فیکون تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تنجیزیاً لتحقق المعلّق علیه بالفرض، فیکون تأثیره کتأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة، لا داعی لتقدیم حرمة المخالفة علی وجوب الموافقة بادعاء أنّ هذا تنجیزی وهذا تعلیقی.

الجواب الثانی عن الوجه الأوّل: دعوی أنّ منجزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة الذی هو بنحو العلّیة التامّة بحسب الفرض، لا یعنی حتمیة التأثیر بجمیع الحالات، بمعنی أنّه فی جمیع الحالات المتصوّرة کلّما تحقق علم إجمالی لابدّ أن یؤثر تأثیراً تنجیزیاً فی حرمة المخالفة القطعیة، الأمر لیس کذلک، وإنّما الصحیح هو أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لتنجیز حرمة المخالفة القطعیة حینما یکون التکلیف الذی نتحدّث عنه والذی علمنا به بالإجمال داخلاً فی دائرة حقّ الطاعة وحقّ المولویة، عندما یکون التکلیف من هذا القبیل؛ حینئذٍ یقال أنّ العلم الإجمالی یؤثر فی حرمة مخالفته القطعیة تأثیراً تنجیزیاً فعلیاً لا ینفک عنه، لکن هذا عندما یکون التکلیف داخلاً فی حق الطاعة، مشمولاً لحق المولویة.

بعبارة أخری: یکون المولی مولی بلحاظ ذلک التکلیف، حقّ المولویة فیه ثابت؛ عندئذٍ یقال أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة بنحو العلّیة التامّة التی یستحیل انفکاکها عن العلّة. وأمّا إذا فرضنا أنّ التکلیف لیس داخلاً فی دائرة حقّ الطاعة، المولی لیس مولی بلحاظه، کما لو فرضنا أنّ الآمر لم یکن مولی أصلاً، لا معنی لأن نقول أنّ العلم الإجمالی به یستلزم حرمة المخالفة القطعیة علی نحوٍ لا ینفک عن ذلک، عندما لا یکون المولی مولی بلحاظ ذلک التکلیف المعلوم بالإجمال، فالعلم الإجمالی لا ینجّز حرمة المخالفة القطعیة بنحو العلیة التامّة علی نحوٍ یستحیل الانفکاک، لیس هکذا.

ص: 511

تتمیم هذا الجواب الثانی؛ حینئذٍ یقال: فی محل الکلام یمکن أن یقال أنّ التکلیف المهم عندما یُزاحم التکلیف الأهم یخرج عن دائرة حق الطاعة، عندما نفترض أنّ أحد التکلیفین کان أهم فی نظر الشارع ومع افتراض أنّ المکلّف لا یتمکن من امتثالهما معاً لما تقدّم من أنّ امتثال أحدهما یستلزم مخالفة الآخر؛ حینئذٍ یُدّعی أنّ العقل یقول لابدّ من ملاحظة الأهم، فیخرج المهم عن دائرة حق الطاعة، ولا یثبت فیه حق المولویة، بمعنی أنّ المولی لا یکون مولی بلحاظه، فإذا خرج عن دائرة حق الطاعة والمولویة؛ حینئذٍ لا معنی لأن یقال أنّ العلم الإجمالی به یکون علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة بحیث أنّ تنجیز العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة للمهم یکون مانعاً من تأثیر العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة للأهم، هذا لا وجه له؛ لأنه یتوقّف علی أن یکون المهم باقیاً داخلاً فی دائرة حق الطاعة وحقّ المولویة، نقول تکلیفان للمولی موافقة أحدهما تستلزم مخالفة الآخر؛ فحینئذٍ یمکن أن یقال بأنّ وجوب الموافقة القطعیة تعلیقی بینما حرمة المخالفة القطعیة تنجیزی، فتکون حرمة المخالفة القطعیة مانعة من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة. أمّا إذا أنکرنا هذا وقلنا بأنّ المهم فی حالة التزاحم وعدم القدرة علی الامتثال یخرج عن دائرة حقّ الطاعة والمولویة؛ حینئذٍ لا یصح هذا الکلام. لا یمکن أن نقول أنّ العلم الإجمالی یؤثر بنحو العلّیة التامّة فی حرمة المخالفة القطعیة حتّی یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة، وهذا معناه أن تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة یبقی علی حاله لا مانع منه، فنلتزم به، وإذا التزمنا به یجب تقدیم الأهم. أصل الوجه الأوّل کان یرید إثبات عدم وجوب تقدیم الأهم وبقاء المکلّف مخیّر بینهما؛ لأنّ الاعتبار بحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه تنجیزی، فیمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة؛ حینئذٍ بلحاظ العلم الإجمالی الأوّل تحرم المخالفة القطعیة وبلحاظ الثانی تحرم المخالفة القطعیة، نتیجتهما وجوب الموافقة الاحتمالیة وهو معنی التخییر، غایة الأمر أنّ التخییر ابتدائی لا استمراری، فیبقی المکلّف مخیّر بین الفعل والترک فی الیوم الأوّل لا أننا نلزمه بأن یختار الفعل؛ لأنّ الوجوب أهم. هذا أصل الوجه. هذا الجواب الأوّل، والجواب الثانی یرید أنّ یثبت أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة هو الثابت ولیس هو حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 512

ثم صاحب الجواب الثانی یُنظّر، یقول ما نحن فیه من قبیل موارد العلم التفصیلی فی الأهم والمهم ولیس فی موارد العلم الإجمالی فی الأهم والمهم کما فی محل کلامنا، یقال هناک أیضاً نفس هذا الکلام یقال باعتبار أنّ المکلّف بالرغم من علمه التفصیلی بالأهم والمهم مع ذلک یترک المهم ویفعل الأهم عندما یقع التزاحم فیما بینهما مع وضوح أنّ تأثیر العلم التفصیلی فی حرمة المخالفة القطعیة هو حتمی وتنجیزی بلا إشکال، وبنحو العلّیة التامّة. إذا کان هذا مقبولاً فی موارد العلم الإجمالی بأن یترک المکلّف المهم ویأتی بالأهم، فلیکن مقبولاً فی محل الکلام، فی محل الکلام أیضاً یترک المهم ویأتی بالأهم الذی معناه لزوم تقدیم الأهم علی المهم، فی موارد العلم التفصیلی الإزالة والصلاة، علم تفصیلی بکلٍ منهما، بالمهم والأهم، تزاحما فی مقام الامتثال، فالمکلّف یأتی بالأهم ویترک المهم، لیکن ما نحن فیه من هذا القبیل. هذا الجواب الثانی.

تعلیق علی هذا الکلام: بالنسبة إلی الجواب الثانی، هناک مناقشة فیه حاصلها: أنّ هذا الجواب الثانی لا یصلح أن یکون جواباً عن الوجه الأوّل بشکلٍ مستقل أی بقطع النظر عن الجواب الأوّل، یعنی بقطع النظر عن منع کون تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة تعلیقیاً، الجواب الأوّل هکذا کان حاصله، الوجه یقول تعلیقی الجواب الأوّل یقول لیس تعلیقیاً؛ لأنّه معلّق علی عدم ورود ترخیص وهذا مفروض فی محل الکلام، إذن: تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة أیضاً تنجیزی، هذا الوجه الأوّل. بقطع النظر عن الجواب الأوّل، بمعنی أننا لو سلّمنا أنّ التأثیر فی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی، لیس علی عدم ورود ترخیص کما قیل فی الجواب الأوّل، وإنّما معلّق علی عدم المانع، علی عدم تحریم المخالفة القطعیة بنحوٍ تنجیزی؛ لأنّه یکون مانعاً عن وجوب الموافقة القطعیة، لو تنزلنا عن الجواب الأوّل وسلّمنا التعلیقیة فی تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة، والتنجیزیة بالمعنی المطروح فی أصل الوجه فی تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة، لو سلّمنا ذلک وتنزلنا عن الجواب الأوّل فالجواب الثانی لا یصلح أن یکون جواباً عن الوجه الأوّل، بقطع النظر عن الجواب الأوّل کما هو المفروض من الناحیة الفنیة عندما یکون هناک جوابان فکل منهما یکون جواباً مستقّلاً فی حدّ نفسه، لا أنّ أحدهما یعتمد علی الثانی، لماذا لا یصلح الجواب الثانی ؟ الذی یقول بأنّ التکلیف المهم لا یُعتنی به، عندما تکون هناک أهمیة لا یعتنی بالمهم وإنّما یُعتنی بالأهم، إذا قطعنا النظر عن الجواب الأوّل وسلّمنا التعلیقیة والتنجیزیة بالمعنی المطروح فی الوجه الأوّل؛ حینئذٍ نقول لا أثر للأهمیّة، لیکن الوجوب أهم، لکن بالنتیجة تأثیر العلم الإجمالی الأوّل فی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی علی عدم حرمة المخالفة القطعیة بنحوٍ تنجیزی، أن لا یصطدم مع حرمة المخالفة القطعیة، فی نفس هذا العلم حرمة المخالفة القطعیة موجودة، وقلنا أن ّ وجوب الموافقة القطعیة لکل علم یستلزم المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ إذا صار البناء علی أنّه یوافق الأهم فی العلم الإجمالی الأوّل، ویوافق الأهم فی العلم الإجمالی الثانی، فقد وقع فی المخالفة القطعیة لنفس ذلک العلم، المخالفة القطعیة لأحد العلمین تصطدم مع وجوب الموافقة القطعیة للآخر، وکل منهما علم إجمالی؛ فحینئذٍ بقطع النظر عن الجواب الأوّل لابدّ أن یکون الأمر، یعنی التکلیف الفعلی المحقق فعلاً هو عبارة عن حرمة المخالفة القطعیة لهذا العلم الإجمالی، وحرمة المخالفة القطعیة تکون هی الفعلیة حتّی لو فرضنا أنّ أحد التکلیفین کان أهم، لا أثر للأهمیة عندما نقول أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی معلّق علی عدم تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه قطعاً سوف یصبح الحکم الفعلی هو حرمة المخالفة القطعیة ولا یؤثر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة حتّی لو کان التکلیف أهم؛ حینئذٍ لا یکون مؤثراً، فما معنی أن نقول أنّه عندما یکون أهم هذا یستلزم إهمال المهم ولزوم الإتیان بالأهم، هذا مع الالتزام بأنّ التعلیقیة والتنجیزیة کما ذُکر فی الوجه الأوّل لا معنی له. هذه الملاحظة علی الجواب الثانی.

ص: 513

أقول: هذه الملاحظة غیر واردة علی الجواب الثانی؛ وذلک لأنّ الجواب الثانی مبنی علی افتراض أنّ المهم یخرج عن دائرة حق الطاعة ویخرج عن دائرة المولویة، المولی لیس مولی بلحاظه، أصلاً لیس مولی، عندما یتزاحم تکلیفان ویُعلم بأنّ أحدهما أهم عند المولی، أو محتمل الأهمیة عند المولی؛ حینئذٍ المهم یخرج عن دائرة حق الطاعة وحق المولویة، أصلاً لا یثبت فیه حق المولویة، المولی لیس مولی بلحاظه، هکذا المُدّعی فی الوجه الثانی؛ حینئذٍ لا یحکم العقل بحرمة مخالفته حتّی نقول أنّ حرمة المخالفة تنجیزی ووجوب الموافقة تعلیقی، فتکون الفعلیة لحرمة المخالفة، هذا لا معنی له؛ لأنّ العقل لا یحکم بحرمة مخالفته؛ لأنّه یعتنی بالأهم بحسب الفرض، الأهم هو المقدّم، وهو الباقی فی دائرة حقّ الطاعة وحقّ المولویة، یثبت فی الأهم حقّ المولویة، فتجب طاعته قطعاً، أمّا المهم فقد خرج عن دائرة حق الطاعة وعن دائرة المولویة، أفرض أننا سلّمنا التعلیقیة والتنجیزیة علی النحو المطروح فی أصل الوجه، لکنّ هذا ینفع عندما تکون حرمة المخالفة ثابتة ویحکم بها العقل حکماً تنجیزیاً؛ فحینئذٍ تقدّم علی وجوب الموافقة القطعیة التی یحکم بها حکماً تعلیقیاً، لکن عندما یحکم العقل بحرمة المخالفة والمفروض فی الوجه الثانی أنّ العقل لا یحکم بحرمة المخالفة القطعیة بلحاظ المهم؛ لأنّ المهم خرج عن دائرة حقّ المولویة، لا یثبت فیه حقّ المولویة، فلا یحکم العقل بحرمة مخالفته، فیبقی الأهم هو الداخل فی هذه الدائرة، ویثبت فیه حقّ المولویة، فتجب موافقته القطعیة وإن استلزم ذلک المخالفة القطعیة للمهم؛ لأنّ العقل لا یحکم حینئذٍ بقبح المخالفة القطعیة، فیمکن أن نجعل الجواب الثانی جواباً مستقلاً فی قبال الجواب الأوّل، ولیس مبنیاً علی ما ذکر فی الجواب الأوّل من إنکار التعلیقیة والتنجیزیة بالمعنی المطروح فی أصل الوجه، لیس مبنیاً علی ذلک، حتّی لو سلّمنا التعلیقیة والتنجیزیة بالمعنی المطروح فی الوجه الأوّل هذا یکون جواباً مستقلاً.

ص: 514

نعم، الذی یمکن أن یُلاحظ علی الجواب الثانی الذی هو جواب مستقلّ کما ذکرنا، الذی یُلاحظ علیه هو أننا ننکر خروج المهم عن دائرة حقّ المولویة فی محل الکلام بحیث لا یحکم العقل بحرمة مخالفته. لماذا یخرج المهم عن دائرة حقّ الطاعة ولا یثبت فیه حقّ المولویة ؟ نعم، التکلیف یخرج عن دائرة حق الطاعة فی موارد واضحة لا کلام فیها، کما لو لم یکن الآمر مولی، فمن الواضح أنّ هذا لا یثبت فیه حق الطاعة ولا حق المولویة ولا یحکم العقل بحرمة مخالفته، لکن فی أحیان أخری یسقط التکلیف، یعنی حقّ المولویة یسقط فیه ویخرج عن دائرة حق الطاعة لیس علی أساس أنّ الآمر لیس مولی، الآمر مولی والتکلیف تکلیفه، لکن مع ذلک هذا التکلیف یسقط فیه حقّ المولویة ویخرج عن دائرة حق الطاعة؛ لأنّه مزاحَم بما هو أهم منه وأشد ملاکاً کما هو الحال فی موارد العلم التفصیلی بالأهم والمهم التی هو نظّر بها، هناک یسقط التکلیف بالمهم ویخرج عن دائرة حقّ الطاعة، ویجب علی المکلّف أن یصرف قدرته فی امتثال الأهم ولا یُعاقَب علی ترکه للمهم، والعقل لا یحکم بحرمة مخالفة المهم، لکن لماذا أخرجنا المهم عن دائرة حق الطاعة ولم یعد حق المولویة ثابت فیه؛ لأنّه مُزاحَم بما هو أهم منه عند المولی، وهو التکلیف الآخر الذی فرضنا أنّ ملاکه أهم وأشد من ملاک هذا المهم، والمکلّف غیر قادر علی الجمع بین امتثالیهما، فی هذه الحالة لا یثبت فیه حق المولویة. هذا صحیح لأنّه زوحم بذاک. هذا فی موارد العلم التفصیلی.

وأمّا فی محل الکلام، ما هو الشیء الذی یکون مزاحماً لحرمة المخالفة القطعیة للمهم والذی یُدعی أنّه یوجب خروج المهم عن حقّ الطاعة ؟ لا یوجد شیء إلاّ حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه لا یوجد لدینا شیء معلوم، الأمر دائر بین أن یکون الفعل واجباً، أو حراماً، وکل منهما معلوم بالعلم الإجمالی، الذی یُتوقع أن یکون مزاحماً لحرمة المخالفة القطعیة للمهم هو وجوب الموافقة القطعیة للأهم؛ حینئذٍ نسأل أنّ هذا المزاحم هل یوجب خروج المهم عن دائرة حقّ الطاعة وسقوط حقّ المولویة فیه کما هو الحال فی موارد العلم التفصیلی، أو لا ؟ نقول لا؛ لأنّ المفروض فی محل الکلام فی الجواب الثانی کجواب مستقل عن الجواب الأوّل أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی، بینما تأثیره فی حرمة المخالفة القطعیة تأثیر تنجیزی، إذا کان وجوب الموافقة القطعیة یحکم به العقل حکماً تعلیقیاً، معلّق علی عدم حکمه بحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه لا یوجد قصور فی المقتضی بحسب الفرض، یعنی الآمر مولی وله حق المولویة فی هذا التکلیف کما له حقّ المولویة فی الأهم، وإنّما الذی یمنع منه هو وجود المزاحم، حق المولویة ثابت فی وجوب الصلاة وفی الإزالة، وإنّما منع منه وجود المزاحم الأهم، فی محل کلامنا المهم لیس هناک قصور فی وجود مقتضی حرمة المخالفة القطعیة فیه، وإنّما یُزاحم بوجوب الموافقة القطعیة للأهم، والمفروض أنّ وجوب الموافقة القطعیة تعلیقی معلّق علی عدم حرمة المخالفة القطعیة، فإذا ثبتت حرمة المخالفة القطعیة بمقتضی أن المولی له حقّ المولویة فی هذا التکلیف المهم؛ حینئذٍ تکون مانعة من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة.

ص: 515

إذن: هذا الجواب وحده لا یصلح لإثبات وجوب الموافقة القطعیة للأهم وإهمال المهم؛ لأنّ دعوی أنّه خارج عن دائرة المولویة وعن حقّ الطاعة لیست واضحة. هذه الدعوی واضحة فی موارد وفی موارد العلم التفصیلی، لکنّها لیست واضحة؛ بل ممنوعة فی محل الکلام؛ لأنّ المزاحم له الذی یوجب خروجه عن دائرة حقّ الطاعة لیس إلاّ وجوب الموافقة القطعیة للأهم وهذه بحسب الفرض تعلیقیة.

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

تقدّم سابقاً بأنّ الجواب الثانی عن الوجه الأوّل یمکن المناقشة فیه والتأمّل فیه بما ذکرناه، وکان حاصل ما ذکرناه هو أنّ خروج التکلیف عن دائرة حقّ الطاعة والمولویة فی محل الکلام لیس لأجل عدم کون المتکلّم مولی. إذن، لا قصور فی وجود مقتضی التنجیز فی التکلیف، وإنّما لابدّ أن یکون الخروج عن دائرة حقّ الطاعة علی أساس التزاحم. فی موارد العلم التفصیلی بالتکلیف الأهم والتکلیف المهم المزاحمة واضحة بینهما؛ لأنّ المکلّف بحسب الفرض لا یتمکن من الجمع بین امتثالیهما، بین امتثال التکلیف بالمهم، وامتثال التکلیف بالأهم، ومن هنا یکون هناک تزاحم بین الامتثالین، وفی هذه الحالة یسقط إطلاق کلٍ من التکلیفین فی حالة التساوی، وفی حالة عدم التساوی وکون أحدهما أهم یسقط إطلاق التکلیف المهم ویبقی إطلاق التکلیف الأهم علی حاله، وهذا هو معنی تقدیم الأهم علی المهم؛ لأنّ هناک تزاحم بین الامتثالین؛ وحینئذٍ تُطبّق علیه قوانین باب التزاحم. المفروض فی محل الکلام کما تقدّم مراراً قدرة المکلّف علی امتثال التکلیفین المحتملین فی کل علم إجمالی، یمکنه أن یمتثل الوجوب فیفعل، ویمکنه أن یمتثل التحریم فیترک، إذن لیس هناک تزاحم بین ذات الامتثالین، وإنّما التزاحم فی محل الکلام یکون فی وجوب الموافقة القطعیة التی یحکم بها العقل، بمعنی أنّ إحراز امتثال الوجوب یکون بالإتیان بالفعل فی کلا الیومین، بینما إحراز امتثال الحرمة یکون بترک الفعل فی کلا الیومین، وهذان أمران لا یجتمعان، الموافقة القطعیة للوجوب المحتمل تکون بالإتیان بالفعل فی کلا الیومین، بینما الموافقة القطعیة للحرمة المحتملة تکون بترک الفعل فی کلا الیومین، فالمزاحمة تکون فی وجوب الموافقة القطعیة للتکلیفین، یعنی التزاحم یکون فی کیفیة الامتثال وإحراز الامتثال لا فی ذات الامتثال، لا یوجد تزاحم بین ذات امتثالهما لتمکن المکلّف من ذلک، وإنّما إحراز امتثال الوجوب یکون بالفعل فی کلا الیومین، وإحراز امتثال الحرمة یکون بالترک فی کلا الیومین، فهما أمران بینهما تزاحم، فالتزاحم فی محل الکلام لیس بین الامتثالین حتّی نطبّق قوانین باب التزاحم علیه کما فی حالة العلم التفصیلی بالتکلیف الأهم والتکلیف المهم، وإنّما التزاحم یکون فی حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة. إذا أتینا إلی حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة؛ حینئذٍ نقول: إن بنینا علی ما ذُکر فی الوجه الأوّل وأغمضنا النظر عن الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل والتزمنا بالوجه الأوّل، بمعنی أن تنجیز العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة تأثیره تعلیقی، بینما تأثیره فی حرمة المخالفة القطعیة تأثیر تنجیزی، إذا آمنا بذلک وقطعنا النظر عن الجواب الأوّل المتقدّم؛ حینئذٍ لا مجال فی المقام لتقدیم حرمة المخالفة علی وجوب الموافقة؛ لأنّ المفروض فی الوجه الأوّل أنّ حرمة المخالفة تکون ثابتة ومنجّزة وغیر معلّقة وهی تمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة؛ حینئذٍ یتعیّن تقدیم حرمة المخالفة القطعیة علی وجوب الموافقة القطعیة کما یقول صاحب الوجه الأوّل، وهذا الجواب الثانی لا یصلح أن یکون جواباً دافعاً له؛ لأننا بحسب الفرض مع غض النظر عن الجواب الأوّل نؤمن بالتعلیقیة والتنجیزیة، فتحصل مزاحمة بین وجوب الموافقة القطعیة للوجوب التی تقتضی الإتیان بالفعل فی کلا الیومین، ووجوب الموافقة القطعیة للتحریم التی تقتضی ترک الفعل فی کلا الیومین.

ص: 516

نقول: أنّ الموافقة القطعیة للأهم یمنع منه منجّزیة العلم الإجمالی بنحو العلّیة التامّة لحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّ الموافقة القطعیة للوجوب تنافی حرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المحتمل الآخر؛ لأنّ الموافقة القطعیة للوجوب تقتضی الإتیان بالفعل فی الیومین، وهذه مخالفة قطعیة للتحریم؛ لأنّ التحریم إن کان ثابتاً فی الیوم الأوّل فقد فعل فخالفه، وإنّ کان ثابتاً فی الیوم الثانی، فقد فعل أیضاً، فإذن، هناک ملازمة بین الموافقة القطعیة للأهم وبین المخالفة القطعیة للمهم، وإذا قلنا بأنّ وجوب الموافقة تعلیقی، أی معلّق علی عدم تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة الذی هو تنجیزی بحسب الفرض، إذا کان تنجیزیاً فهو یمنع من وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم، فکیف یُلتزم بتقدیم التکلیف الأهم علی المهم ؟ کیف یقال بأنّه لابدّ من موافقة التکلیف الأهم قطعاً وإن استلزم حرمة المخالفة القطعیة للمهم ؟ الجواب الثانی وحده بمعزل عن الجواب الأوّل لا یتم. هذه هی الملاحظة علی الجواب الثانی.

وأمّا الجواب الأوّل، فسیأتی الحدیث عنه، وکان الجواب الأوّل هو منع أن تکون التعلیقیة بهذا المعنی المطروح؛ إذ لیس معنی التعلیقیة هو أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة معلّق علی عدم تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة حتّی یقال أنّ ذاک التأثیر تنجیزی، فیکون مانعاً من تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما هی بمعنی أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة معلّق علی عدم ورود الترخیص الشرعی فی ترک الموافقة القطعیة، وهذا المعلّق علیه مفروض التحقق فی محل الکلام، فیکون تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تنجیزی أیضاً کتأثیره فی حرمة المخالفة القطعیة، فلا داعی لتقدیم أحدهما علی الآخر. هذا الجواب الأوّل وسیأتی الحدیث عنه.

ص: 517

الآن ننتقل إلی الوجه الثانی: قلنا أنّه استدل علی تقدیم الأهم بوجهین، الوجه الأوّل هو هذا الذی تقدّم، الوجه الثانی ذکرناه ونقلناه عن السید الخوئی(قدّس سرّه) والذی کان حاصله أنّ المقام لا یدخل فی باب التزاحم ولا فی باب التعارض، عدم دخوله فی باب التعارض واضح، باعتبار أنّه لا منافاة فی عالم الجعل بین جعل الحرمة وجعل الوجوب، ولا یدخل فی باب التزاحم لتمکّن المکلّف من امتثال کلٍ منهما فی حدّ نفسه، بإمکانه أن یمتثل الوجوب، فیفعل، وبإمکانه أن یمتثل التحریم، فیترک. یعنی کل علم إجمالی إذا لاحظناه علی حدة، فسنجد أنّ المکلّف متمکن من امتثال کلا المحتملین؛ لأنّ العلم الإجمالی الأوّل یقول السفر إمّا واجب فی هذا الیوم، أو حرام فی الیوم الآخر، وهنا یمکن للمکلّف أن یمتثل هذا العلم الإجمالی بأن یأتی بالسفر فی الیوم الأوّل، ویترکه فی الیوم الثانی. إذن لا یوجد هنا تزاحم بین الامتثالین؛ لأنّ محل الکلام لا یدخل فی باب التزاحم حتّی نطبّق قوانین باب التزاحم ونرجّح بالأهمیة، لا یوجد تزاحم بین التکلیفین حتّی نلاحظ ایّ التکلیفین أهم عند المولی، فنرجّحه علی التکلیف المهم، وإنّما التزاحم یکون بلحاظ حکم العقل کما ذکرنا قبل قلیل، بمعنی أنّ وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم یُزاحَم بوجوب الموافقة القطعیة للتکلیف المهم؛ لأنّ الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم کما ذکرنا فی توضیحه یکون بالإتیان بالفعل فی کلا الیومین؛ حینئذٍ یوافق التکلیف قطعاً، یعنی یوافق الأهم الذی هو الوجوب، إذا اقتصر علی الفعل فی الیوم الأوّل فهذا لا یکفی ولا تحصل الموافقة القطعیة للوجوب؛ لوجود احتمال أنّ الوجوب ثابت فی الیوم الثانی، والفعل یکون حراماً فی الیوم الأوّل. إذن: الموافقة القطعیة للوجوب الأهم تکون بالإتیان بالفعل فی کلا الیومین، بینما الموافقة القطعیة للمهم الذی هو الحرمة تکون بترک الفعل فی کلا الیومین. إذن: یحصل تزاحم فی إحراز امتثالهما، إحراز امتثال الوجوب یکون بشیءٍ وإحراز امتثال الحرمة یکون بشیءٍ آخر ولا یمکن الجمع بینهما، فتکون هناک مزاحمة بلحاظ حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة؛ یقول: حینئذٍ إذا حصلت مزاحمة بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة للتکلیفین والمکلّف غیر قادر علی الجمع بینهما، أی علی الجمع بین الموافقتین القطعیتین؛ حینئذٍ لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، فیسقط وجوب الموافقة القطعیة، ویبقی لدینا حرمة المخالفة القطعیة، فنلتزم بحرمة المخالفة القطعیة للعلم الإجمالی الأوّل، وحرمة المخالفة القطعیة للعلم الإجمالی الثانی، فنلتزم به لتمکّن المکلّف منه، فی العلم الإجمالی الأوّل یتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة لهذا التکلیف المعلوم بالإجمال بالعلم الإجمالی الأوّل، وذلک بأن یترک فی الیوم الأوّل ویفعل فی الیوم الثانی، وهذه مخالفة قطعیة للعلم الإجمالی الأوّل الذی هو عبارة عن أنّ الفعل إمّا واجب فی الیوم الأوّل، أو حرام فی الیوم الثانی، فإذا عکس، بأن ترک فی الیوم الأوّل وفعل فی الیوم الثانی هذه مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال بالعلم الإجمالی الأوّل، فتکون محرّمة علیه؛ لأنّه یتمکّن منها. العلم الإجمالی الثانی أیضاً هکذا، العلم الإجمالی الثانی یقول: السفر إمّا حرام فی الیوم الأوّل أو واجب فی الیوم الثانی، فیتمکّن أن یفعل فی الیوم الأوّل ویترک فی الیوم الثانی، وبذلک یکون قادراً علی المخالفة القطعیة لهذا التکلیف المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی أیضاً، فما دام متمکّناً من المخالفة القطعیة العلم الإجمالی ینجّز علیه حرمة المخالفة القطعیة. إذا وصلنا إلی هذه النتیجة؛ حینئذٍ یکون الجواب واضحاً، فی هذه الحالة یحرم علیه مخالفة التکلیف المعلوم بالعلم الإجمالی الأوّل، ویحرم علیه مخالفة التکلیف المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی قطعاً، والمقصود المخالفة القطعیة، والنتیجة هی أنّه یحرم علیه أن یترک فی الیوم الأوّل ویفعل فی الیوم الثانی کما یحرم علیه العکس، أن یفعل فی الیوم الأوّل ویترک فی الیوم الثانی، وهذا هو معنی وجوب الموافقة الاحتمالیة والتخییر الابتدائی، بأنّه فی الیوم الأوّل هو مخیّر بین الفعل والترک ولیس ملزماً بأن یفعل، لکن إذا فعل فلابدّ أن یفعل فی الیوم الثانی، وإذا ترکّ فلابدّ أن یترک فی الیوم الثانی، وإلاّ إذا فعل فی الیوم الأوّل وترک فی الیوم الثانی هذه مخالفة قطعیة لأحد العلمین الإجمالیین، وإذا عکس أیضاً مخالفة قطعیة لأحد العلمین الإجمالیین، والمفروض أنّ حرمة المخالفة القطعیة تنجّزت علیه. یقول: فی هذه الحالة لا تلاحظ الأهمیة؛ لأنّه لیس داخلاً فی باب التزاحم، أمّا العقل فبمقتضی هذا البیان یقول أنّ المنجّز علی المکلّف هو حرمة المخالفة القطعیة دون وجوب الموافقة القطعیة. هذا ما یُستفاد من کلام السید الخوئی فی الوجه الثانی.

ص: 518

هذا الوجه الثانی بهذا الشکل ومن دون أن یُضاف إلیه شیء آخر لتصحیحه ولتوجیهه، بهذا الشکل یکون جوابه واضحاً وهو أنّ التزاحم لا یقع فقط فی وجوب الموافقة القطعیة لکلا التکلیفین کما ذکر، أنّ وجوب الموافقة القطعیة للأهم یُزاحم وجوب الموافقة القطعیة للمهم؛ لأنّ الموافقة القطعیة للأهم تکون بالفعل فی الیومین، والموافقة القطعیة للمهم تکون بالترک فی الیومین، هنا یحصل التزاحم، وهو غیر قادر علیهما، فلا یکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، فنبقی نحن والمخالفة القطعیة، فتتنجّز المخالفة القطعیة، هذا مقصوده.

الجواب هو: أنّ وجوب الموافقة القطعیة لأحد العلمین الإجمالیین، وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم فی العلم الإجمالی الأوّل کما تزاحم وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف المهم کذلک یُزاحم حرمة المخالفة القطعیة فی العلم الإجمالی الثانی، لما قلناه من أنّ الموافقة القطعیة لأحد العلمین تستلزم المخالفة القطعیة للعلم الآخر؛ لأنّه یخالف العلم الإجمالی الأوّل قطعاً بأن یفعل فی الیوم الأوّل ویترک فی الیوم الثانی، وهذه مخالفة قطعیة للعلم الإجمالی الثانی الذی یقول بأنّ السفر إمّا حرام فی الیوم الأوّل، أو واجب فی الیوم الثانی، فإذا وافق العلم الإجمالی الأوّل وجاء بالفعل فی الیوم الأوّل وترکه فی الیوم الثانی یکون قد خالف العلم الإجمالی الثانی.

إذن: الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم بالعلم الإجمالی الأوّل یُزاحم أیضاً حرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی، وهذا إذا قلنا بعدم الإمکان یستلزم سقوط کل هذه المنجزیات ولیس فقط یسقط وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما حرمة المخالفة القطعیة أیضاً تسقط، وإذا سقطت حرمة المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ یفقد الشیء الذی استند إلیه لإثبات التخییر الابتدائی، ولإثبات حرمة المخالفة القطعیة لکلا العلمین الإجمالیین، هذه أیضاً تدخل فی المزاحمة، وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم بالعلم الإجمالی الأوّل یزاحم حرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالعلم الإجمالی الثانی، وهو غیر قادر علی الجمع بینهما، فلابدّ من سقوط الجمیع، فادعاء أنّ وجوب الموافقة القطعیة یسقط وتبقی حرمة المخالفة القطعیة علی حالها، بلا وجهٍ. إلی هنا بلا وجهٍ، وإنّما هذا الکلام یمکن توجیهه إذا ضممنا له الوجه الأوّل السابق، عندما نضم الوجه الثانی إلی الوجه الأوّل؛ حینئذٍ یکون لهذا الکلام وجه، فیکون الحاصل هو أن یقال: أنّ المقام لیس من باب التزاحم؛ لقدرة المکلّف علی امتثال التکلیفین فی حدّ أنفسهما، وإنّما التزاحم یکون بلحاظ حکم العقل بوجوب الموافقة وحرمة المخالفة، هناک یحصل التزاحم، فی إحراز الامتثال یکون هناک تزاحم بلحاظ حکم العقل، وإذا أتینا إلی حکم العقل سنجد ---------- نضم الوجه الأوّل ---------- أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تأثیر تعلیقی، بینما تأثیره فی حرمة المخالفة القطعیة تأثیر تنجیزی، فیتقدّم الثانی علی الأوّل، فتبقی حرمة المخالفة القطعیة، وهو الشیء الذی یرید أن یصل إلیه، وهو أن یبقی لدینا التخییر فقط، ولا یوجد وجوب موافقة التکلیف الأهم قطعاً، لکن عندما نلفّق بین الوجه الأوّل والوجه الثانی؛ عندئذٍ یکون هذا هو الوجه المقبول لهذا الرأی الذی یقول بعدم وجوب تقدیم الأهم علی المهم؛ بل یبقی المکلّف مخیّراً بین الفعل وبین الترک، هذا هو الوجه المقبول والموجّه لإثبات هذا الرأی.

ص: 519

ویجاب عن هذا الوجه بالجواب الأوّل، هنا یأتی مورد الجواب الأوّل الذی کان حاصله: أنّ التعلیقیة لیس معناها أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة معلّق علی عدم تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة، لیس هذا هو المقصود بالتعلیق، وإنّما المقصود بالتعلیقیة التی یحکم بها العقل هی التعلیقیة بمعنی أنّ العقل یحکم بوجوب موافقة کل تکلیف یدخل فی العهدة، إلاّ إذا رخّص المولی سبحانه وتعالی بترک موافقته، فالعقل یحکم حکماً تعلیقیاً؛ ولذا لا یری العقل الترخیص الوارد من قبل الشارع بترک الموافقة القطعیة منافیاً لحکم العقل؛ لأنّ حکم العقل معلّق علی عدمه، فلا یکون منافیاً له، بخلاف حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیة، فأنّه حکم تنجیزی غیر تعلیقی، ولیس موقوفاً علی عدم الترخیص؛ بل یری العقل استحالة الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ ولذا یکون الترخیص غیر معقول ومنافیاً لحکم العقل، فإذن: المقصود بتعلیقیة حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة هو أنّه معلّق علی عدم وصول ترخیص مولوی شرعی فی ترک الموافقة القطعیة، وهذا هو المفروض فی محل الکلام، لیس لدینا ترخیص شرعی یرخّص فی ترک الموافقة القطعیة لهذا التکلیف، وعلیه: یکون تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة علی حد تأثیره فی حرمة المخالفة القطعیة، کلّ منهما تنجیزی وغیر معلّق، فلا وجه لتقدیم الثانی علی الأوّل، لا وجه لتقدیم حرمة المخالفة علی وجوب الموافقة القطعیة، هذا هو الجواب الأوّل المتقدّم. هذا بالنسبة إلی الرأی الأوّل الذی یختار عدم وجوب تقدیم الأهم علی المهم، وإنّما یبقی التخییر علی حاله.

الرأی الثانی: الذی هو أحد قولی المیرزا کما تقدّم والذی یقول: بوجوب تقدیم الأهم علی المهم، المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر له وجهاً، وحاصله هو محاولة لإدخال التزاحم فی محل الکلام فی باب التزاحم، هذا التزاحم فی محل الکلام الذی هو کما قلنا لیس تزاحماً بین نفس ذات الامتثالین للتکلیفین کما هو الحال فی موارد العلم التفصیلی بالأهم والمهم، لیس تزاحماً بین امتثال هذا التکلیف المحتمل وامتثال هذا التکلیف المحتمل؛ لأنّ المکلّف قادر علی امتثالهما، وإنّما التزاحم یقع فی الحقیقة فی مرتبة إحراز الامتثال؛ لأنّ ما یُحرز به امتثال أحد التکلیفین لا یلتئم مع ما یُحرز به امتثال التکلیف الآخر، فالتزاحم یقع بین ما عُبّر عنه سابقاً حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة، یقع بین إحراز امتثال هذا التکلیف وإحراز امتثال ذلک التکلیف، إحراز امتثال التکلیف الأهم کما قلنا یکون بالإتیان بالفعل فی کلا الیومین، بینما إحراز امتثال المهم ---------- الحرمة ----------- یکون بترک الفعل فی کلا الیومین وهذان متزاحمان. المیرزا یقول: هذا الکلام صحیح، التزاحم فی محل کلامنا یختلف عن التزاحم فی موارد العلم التفصیلی، لکن بالنتیجة هذا أیضاً تزاحم، ویرجع أیضاً إلی عدم قدرة المکلّف علی إحراز کلا الامتثالین، هناک المکلّف غیر قادر علی الجمع بین الامتثالین فی موارد العلم التفصیلی، لا یتمکن من الجمع بین الامتثالین، فی المقام ---------- فرضاً ---------- أنّه یتمکن من الجمع، لکن لا یمکنّه إحراز امتثال کلٍ من التکلیفین، إذن: هو غیر قادر علی إحراز الامتثالین، یقول: عدم القدرة هذه کعدم القدرة فی ذلک المقام، لا فرق بلحاظ حکم العقل بین أن یکون المکلّف غیر قادر علی الجمع بین الامتثالین، أو یکون غیر قادر علی إحراز امتثال کلا التکلیفین، عدم القدرة واحد فیهما، فإذا کان کذلک؛ فحینئذٍ یدخل فی باب التزاحم؛ لأنّ المناط فی التزاحم هو عدم قدرة المکلّف، ونعممّه لعدم قدرة المکلّف علی الجمع بین الامتثالین، أو عدم قدرة المکلّف علی إحراز امتثال الأهم وامتثال المهم، هنا أیضاً یُحکم بتطبیق قوانین باب التزاحم کما طبّقناها فی صورة موارد العلم التفصیلی، فتُلاحَظ الأهمیة ویُلاحظ احتمال الأهمیة، فإذا کان أحد التکلیفین محتمل الأهمیة؛ حینئذٍ یتقدّم علی التکلیف الآخر؛ وحینئذٍ یتعیّن تقدیم الأهم علی المهم.

ص: 520

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

المحقق النائینی استدل علی لزوم تقدیم الأهم فی محل الکلام بما حاصله: أنّ کل حکم تکلیفی إلهی واصل للمکلّف یقتضی أمرین: (1)

الأمر الأوّل: لزوم امتثاله والإتیان بمتعلّقه.

الأمر الثانی: لزوم إحراز الامتثال والذی یُعبّر عنه بالموافقة القطعیّة؛ وحینئذٍ فی محل الکلام الوجوب المعلوم بالإجمال کما یقتضی الإتیان بمتعلّقه کذلک یقتضی إحراز الإتیان بمتعلّقه، کما أنّ الحرمة فی الجانب الآخر أیضاً تقتضی الإتیان بمتعلّقها، یعنی ترک الفعل کذلک هی تقتضی إحراز امتثالها، أی إحراز الترک، ومن الواضح أنّ إحراز الامتثال فی طرف الوجوب یستدعی الإتیان بالفعل فی کلا الیومین وفی المقابل إحراز امتثال الحرمة یستدعی ترک الفعل فی کلا الیومین، یقول: هذان الحکمان ----------- الوجوب والحرمة ------------ وإن لم یکن بینهما تزاحم فی مقام الامتثال؛ لقدرة المکلّف علی امتثالهما بأنفسهما؛ إذ بإمکان المکلّف أن یأتی بالفعل فی الیوم الأوّل ویترکه فی الیوم الثانی، وعلمه الإجمالی بحسب الفرض الأوّل هو أنّه یعلم بأنّ الفعل إمّا واجب فی هذا الیوم، أو حرام فی الیوم الثانی، التکلیفان اللّذان یترددّ بینهما التکلیف الواقعی یمکن امتثالهما بأن یأتی بالفعل فی الیوم الأوّل ویترک فی الیوم الثانی، ونفس الکلام یقال بالنسبة إلی العلم الإجمالی الثانی، إذن: التکلیفان المحتملان فی کل علم إجمالی هما ممّا یمکن الجمع بین امتثالیهما، فلا تزاحم فی مقام الامتثال، لکنّه یقول: التکلیفان متزاحمان من الجهة الثانیة التی یقتضیها التکلیف أیضاً، هما متزاحمان فی لزوم إحراز الامتثال؛ لأنّ إحراز امتثال الوجوب یکون بالإتیان بالفعل فی کلا الیومین، فی حین أنّ إحراز امتثال الحرمة بترک الفعل فی کلا الیومین، ومن الواضح أنّ المکلّف غیر قادر علی الجمع بین هذین الأمرین، یعنی لا یتمکّن أن یحرز امتثال الوجوب وفی نفس الوقت یحرز امتثال التحریم؛ لأنّ إحراز امتثال الوجوب یکون بالإتیان بالفعل فی کلا الیومین، وإحراز امتثال الحرمة یکون بترک الفعل فی کلا الیومین، والمکلّف غیر قادر علی الجمع بینهما. إذن: هناک تزاحم فی لزوم إحراز الامتثال لا بین نفس الامتثالین؛ لأنّ المفروض أنّ المکلّف قادر علی الجمع بین الامتثالین، ویقول المحقق النائینی(قدّس سرّه) أن إحراز الامتثال ممّا یقتضیه التکلیف نفسه، التکلیف لیس فقط یقتضی امتثاله، وإنّما هو کما یقتضی امتثاله هو یقتضی إحراز امتثاله، وکما یقع التزاحم فی غیر محل الکلام بین نفس الامتثالین کما فی موارد العلم التفصیلی لضیق قدرة المکلّف عن الجمع بین الامتثالین، کذلک یقع التزاحم بین التکلیفین بلحاظ لزوم إحراز الامتثال؛ لأنّ إحراز امتثال کل واحدٍ منهما یزاحم إحراز امتثال الآخر، فیتزاحمان فی ذلک، ویقول: کما أنّ عدم القدرة علی الجمع بین الامتثالین فی موارد العلم التفصیلی بین ما یقتضیه الوجوب من الفعل وما تقتضیه الحرمة من الترک، عدم تمکّن المکلّف من الجمع بینهما یوجب التزاحم، کذلک عدم قدرة المکلّف علی الجمع بین ما یقتضیه الوجوب من إحراز امتثاله وبین ما تقتضیه الحرمة من إحراز امتثالها، هنا أیضاً المکلّف غیر قادر علی الجمع بینهما، فیقع التزاحم بین التکلیفین بلحاظ ذلک؛ وحینئذ، یقول: فی محل الکلام یقع التزاحم بین إحراز امتثال الوجوب وبین إحراز امتثال الحرمة، فإذا فرضنا أنّ الوجوب کان أهم کما هو المفروض فی محل کلامنا؛ فحینئذٍ لابدّ من تقدیم الوجوب وتعیّن الإتیان بالفعل فی کلا الیومین، یعنی تعیّن إحراز امتثاله، ویتقدّم لزوم إحراز امتثال الوجوب لأنّه أهم علی لزوم إحراز امتثال الحرمة، فیجب علی المکلّف الموافقة القطعیة للوجوب بأن یأتی بالفعل فی کلا الیومین؛ لأنّه أهم، وإن استلزم من ذلک المخالفة القطعیة للتکلیف المهم، فالأهمیة تلعب دوراً فی محل الکلام ویکون لها تأثیر فی حکم العقل بحیث أنّ العقل هنا الذی یحکم بلزوم امتثال التکلیف، ولزوم إحراز امتثال کلّ تکلیف، یقول: فی محل الکلام عندما یکون أحدهما أهم، أو محتمل الأهمیة أنا لا أحکم إلاّ بلزوم إحراز امتثال الأهم وإن استلزم من ذلک المخالفة القطعیة للمهم، وبهذا یُقدّم الأهم علی المهم، یقدّم الوجوب علی التحریم فی فرض الکلام فی المثال الذی ذُکر فی محل الکلام.

ص: 521


1- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 317.

وحاصل ما یرید أن یقوله هو: أنّ التزاحم ینشأ من عدم القدرة علی الجمع بین ما یقتضیه هذا الحکم وبین ما یقتضیه الحکم الآخر، هذا أعمّ من أن یکون ما یقتضیه هذا الحکم هو الفعل والترک، أو یکون ما یقتضیه هذا الحکم من إحراز امتثاله، امتثال الوجوب یقتضی الفعل، ویقتضی إحراز امتثاله فی مثل محل الکلام، عندما یکون هناک علم إجمالی لا یکون الوجوب معلوماً بالتفصیل، وإنّما معلوم بالإجمال، نفس الوجوب یقتضی إحراز امتثال التکلیف، ویکون إحراز امتثاله بالإتیان بالفعل فی کِلا الیومین، ما یقتضیه الوجوب من إحراز امتثاله یزاحم ما تقتضیه الحرمة من إحراز امتثالها، فی کلٍ منهما یوجد تزاحم، هنا یوجد تزاحم وفی موارد العلم التفصیلی یوجد تزاحم بین نفس الامتثالین. فی موارد العلم الإجمالی یوجد تزاحم، لکن بین إحراز امتثال التکلیفین، فإذا حصل التزاحم؛ فحینئذٍ یجری قانون التزاحم ویقدّم الأهم، فإذا قدّمنا الأهم، تجب الموافقة القطعیّة للتکلیف الأهم وإن استلزم من ذلک المخالفة القطعیة للتکلیف المهم. هذا رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه) .

لکنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) أعترض علی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) باعتراضین: (1) أحدهما نقضی والآخر حلّی، الاعتراض الحلّی تقدّمت الإشارة إلیه ونذکره أیضاً. أمّا الاعتراض النقضی، فحاصل ما یقوله السید الخوئی(قدّس سرّه) هو: أنّ هذا الکلام لو تمّ وعممّنا التزاحم إلی محل الکلام ولم نخص التزاحم بموارد العلم التفصیلی ولا بموارد التزاحم بین نفس الامتثالین لعدم قدرة المکلّف علی الجمع بینهما، وعممّناه لمحل الکلام؛ حینئذٍ لابدّ أن نلتزم بلوازم هذا التعمیم فی محل الکلام ومن لوازمه أن نطبّق قانون التزاحم فی محل الکلام سواء تساوی الحکمان فی الأهمیة، أو کان أحدهما أهم؛ لأنّ قانون التزاحم لا یختصّ بما إذا کان أحد التکلیفین أهم؛ بل یجری حتّی إذا کانا متساویین فی الأهمیة، إذا کانا متساویین فی الأهمیة یتزاحمان؛ وحینئذٍ یحکم العقل بالتخییر، فیقال للمکلّف: أنت مُخیّر بین أن تنقذ هذا الغریق أو تنقذ هذا الغریق. بین أن تمتثل هذا التکلیف، أو تمتثل هذا التکلیف، هذه قواعد باب التزاحم، لکن عندما یکون أحدهما أهم، العقل یحکم بتقدیم الأهم علی المهم، إذا عممّنا قانون التزاحم لمحل الکلام؛ حینئذٍ یقول: فی محل الکلام، أی فی حالة ما إذا لم یکن أحدهما أهم، لو فرضنا أنّ الحرمة المحتملة والوجوب المحتمل فی محل الکلام تساویا فی الأهمیة ولم یکن أحدهما أهم من الآخر، مقتضی شمول باب التزاحم لمحل الکلام هو أن یُلتزَم بالتخییر، بمعنی أنّ المکلّف مُخیّر بین أن یختار الوجوب فیوافقه قطعاً بأن یأتی بالفعل فی کلا الیومین، وبین أن یختار التحریم فیوافقه قطعاً، فیختار الترک فی کلا الیومین، مع فرض التساوی وعدم الأهمیة الحکم هو التخییر، یتخیّر بین أن یمتثل هذا التکلیف، أو یمتثل التکلیف الآخر، فی حین أنّ نفس المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یلتزم بذلک فی محل الکلام فی صورة التساوی بین المحتملین، فی صورة التساوی وعدم الأهمیة لا یلتزم بالتخییر، وإنّما یقول: لابدّ أن یفعل فی یوم ویترک فی الیوم الآخر، فإذا فعل فی الیوم الأوّل، فلابد أن یترک فی الیوم الثانی، وإذا ترک فی الیوم الأوّل فلابدّ أن یفعل فی الیوم الثانی، بینما قانون التزاحم لا یقتضی ذلک، قانون التزاحم یقول: عندما یتساویان تخیّر بینهما، إمّا أن تختار الوجوب فتمتثله قطعاً، أو تختار التحریم فتمتثله قطعاً، أمّا أن تفعل فی یوم وتترک فی یومٍ کما هو رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، هذا لا یقتضیه قانون التزاحم، فیسجّل نقضاً علی المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّه لو قلنا بشمول باب التزاحم، أو دخول محل الکلام فی باب التزاحم، فلابدّ أن نلتزم بلوازمه ومن لوازمه أن یُلتزم بالتخییر بین المحتملین فی محل الکلام فیما لو تساویا فی الأهمیة، فیتخیّر المکلّف بین الوجوب وبین التحریم، بینما المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یلتزم بذلک، فیکون هذا نقضاً علیه(قدّس سرّه).

ص: 522


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 342.

أمّا الجواب الحلّی، فیقول: (1) لو سلّمنا دخول محل الکلام فی باب التزاحم وعممّنا التزاحم للتزاحم بلحاظ لزوم إحراز الامتثال ولم نخصّه بالتزاحم من جهة لزوم الامتثال نفسه، لکنّه یقول لم یرد دلیل علی لزوم الأخذ بمحتمل الأهمیة فی باب التزاحم مطلقاً، لا یوجد دلیل علی لزوم ترجیح محتمل الأهمیة وتقدیمه فی باب التزاحم فی جمیع موارده حتّی یقال أنّ مقتضی الدلیل هو أن نلتزم فی محل الکلام، بعد أن سلّمنا دخوله فی باب التزاحم، أن نلتزم بتقدیم محتمل الأهمیة إن لم یدل دلیل، حتّی إذا دخل فی باب التزاحم، لکن لا دلیل علی تقدیم محتمل الأهمیة فی جمیع موارد التزاحم، وإنّما دل الدلیل علی تقدیم محتمل الأهمیة فقط فی موارد التزاحم الامتثالی، یعنی فی موارد العلم التفصیلی بالتکلیف الأهم والتکلیف المهم، هناک دلّ الدلیل علی الترجیح بمحتمل الأهمیة، وهذا الدلیل الذی نستدل به یقول: تقدیم محتمل الأهمیة فی موارد التزاحم الامتثالی لا یأتی فی محل الکلام. إذن: حتّی لو سمّیناه باب التزاحم، لکن لا دلیل علی تقدیم محتمل الأهمیة، الدلیل علی تقدیم محتمل الأهمیة هو ما تقدّم ذکره سابقاً نقلاً عنه، وحاصله: فی موارد التزاحم لابدّ من الالتزام بسقوط الإطلاق فی کِلا الحکمین المتزاحمین، أو سقوط الإطلاق فی أحد الحکمین؛ لأنّه لا یمکن أن یبقی الإطلاق فی کلٍ منهما بعد فرض التزاحم، إن کان متساویین یسقط الإطلاق فیهما، بمعنی أنّه یقیّد کل واحدٍ منهما بعدم الاشتغال بالآخر، أمّا إذا کان أحدهما أهم، فیسقط إطلاق المهم، فیقیّد بعدم الاشتغال بالأهم ویبقی إطلاق الأهم علی حاله. إذن: لابدّ من الالتزام بسقوط الإطلاق إمّا عن کلیهما، أو عن أحدهما.

ص: 523


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 342.

إذن: فی حالة کون أحدهما أهم یتعیّن سقوط إطلاق المهم وتقییده بعدم الاشتغال بالأهم، وأمّا الأهم فیبقی علی إطلاقه ویکون هو الدلیل علی تقدیم محتمل الأهمیة؛ لأنّ إطلاق دلیل محتمل الأهمیة یبقی علی حاله لا یُمس، بینما یقیّد إطلاق الدلیل المهم بعدم الاشتغال بالأهم، فإذن، هذا هو الدلیل علی لزوم تقدیم الأهم علی المهم؛ لأنّ إطلاق المهم یسقط ویقیّد بعدم الاشتغال بالأهم.

بعبارةٍ أخری: فی هذه الحالة نحن نعلم بسقوط إطلاق المهم علی کل حالٍ وعلی کل تقدیر، سواءً تساویا، أو کان الآخر أهم، إذا تساویا یسقط إطلاق کلٍ منهما، وإذا کان أحدهما أهم فیسقط إطلاق المهم.

إذن: لا دلیل علی سقوط إطلاق محتمل الأهمیة، بینما إطلاق المهم ساقط علی کل تقدیر، وهذا هو الدلیل علی لزوم تقدیم الأهم علی المهم. هذا إذا کان لدلیل کلٍ من الحکمین إطلاق لفظی یمکن التمسک به.

أمّا إذا لم یکن له إطلاق لفظی کما إذا کان دلیله لبّی کإجماعٍ ونحوه، فیقول: فی هذه الحالة الدلیل علی لزوم تقدیم محتمل الأهمیة هو عبارة عن قطع یُعذّر بجواز تفویت ملاک غیره لتحصیل ملاکه، هذا نقطع بجوازه، یعنی قطعاً یجوز للمکلّف أن یفوّت ملاک المهم من أجل تحصیل ملاک الأهم، هذا قطعاً جائز، أمّا العکس فهو غیر معلوم الجواز، والعکس هو تفویت ملاک الأهم فی سبیل تحصیل ملاک المهم، هذا غیر معلوم الجواز، فإذا کان غیر معلوم الجواز وارتکبه المکلّف یکون مؤاخذاً، فیتعیّن علیه أن یأخذ بما یقطع بجوازه، وما یقطع بجوازه هو أن یفوّت ملاک المهم فی سبیل تحصیل ملاک الأهم، فالدلیل علی تقدیم الأهم فی حالة عدم وجود الإطلاق هو القطع بجواز تفویت ملاک المهم لأجل تحصیل ملاک الأهم، بینما العکس غیر معلوم وممّا لا یُقطع به، والعقل یقول حتّی یأمن من العقوبة والمؤاخذة لابدّ أن یسلک ما یعلم جوازه، وما یعلم جوازه هو تقدیم الأهم علی المهم، فیقدّم الأهم علی المهم.

ص: 524

هذان الوجهان لتقدیم الأهم علی المهم، یقول: لا یجریان فی محل الکلام، باعتبار أنّ المفروض فی محل الکلام بقاء الإطلاق فی کِلا الحکمین وعدم سقوطهما ولا سقوط أحدهما؛ باعتبار أنّ سقوط الإطلاق إنّما یکون فی حالة العجز عن الجمع بین الامتثالین، عندما یکون المکلّف عاجزاً عن الجمع بین الامتثالین لابدّ أن یسقط إطلاقهما، أو یسقط إطلاق أحدهما، والمفروض فی محل کلامنا أنّ المکلّف لیس عاجزاً عن أن یمتثل الوجوب المحتمل ویمتثل الحرمة المحتملة، فی کل علمٍ إجمالی هو لیس عاجزاً؛ إذ بإمکانه فی العلم الإجمالی الأوّل أن یفعل فی الیوم الأوّل ویترک فی الیوم الثانی، إذن، هو قادر علی الجمع بین امتثالیهما، فإذا کان قادراً علی الجمع بین امتثالیهما؛ حینئذٍ لا وجه لسقوط إطلاق هذا التکلیف ولا وجه لسقوط إطلاق التکلیف الآخر.

إذن: المفروض فی محل الکلام أنّ إطلاق التکلیف باقٍ علی حاله فی کلٍ منهما، فی الوجوب إطلاقه باقٍ علی حاله، وفی التحریم إطلاقه أیضاً باقٍ علی حاله. إذن، لا یمکن أن نقول أنّ الدلیل علی وجوب تقدیم الأهم فی محل الکلام هو أنّ إطلاق دلیل الأهم باقٍ، بینما إطلاق دلیل المهم ساقط علی کل تقدیر، فلا یجری هذا الدلیل فی محل الکلام.

یبقی الدلیل الآخر وهو أننا نقطع بجواز تفویت ملاک المهم لصالح ملاک الأهم، یقول: هذا الجواز غیر ثابت فی محل الکلام؛ لأنّه لا یُفرّق بین الأهم والمهم من هذه الجهة، من دون فرقٍ بین ثبوت کون أحدهما أهم وبین عدم ثبوت ذلک، علی کل حالٍ لا نقطع ولا نعلم ولا نحرز جواز تفویت ملاک الحرمة لصالح ملاک الوجوب، وإن فرضنا أنّ الوجوب هو محتمل الأهمیة، وکما لا نحرز ذلک فی حالات التساوی کذلک لا نحرز ذلک فی حالات افتراض أنّ أحدهما أهم. إذن: کِلا هذین الوجهین لا یجریان فی محل الکلام.

ص: 525

یبقی حکم العقل بلزوم إحراز الامتثال؛ وعندئذٍ لا نلاحظ التکلیف وکونه صادراً من المولی، ولا نلاحظ ملاکه والغرض منه وهل هو أهم، أو لا، وإنّما نأتی إلی مسألة إحراز الامتثال، العقل یحکم بأنّ کل تکلیفٍ واصلٍ إلی المکلّف لابدّ من إحراز امتثاله کما ذُکر سابقاً، هو یقول: أنّ هذا الحکم العقلی بلزوم إحراز الامتثال هو مشترک بین جمیع التکالیف الإلزامیة، العقل یحکم بلزوم إحراز امتثال کل تکلیفٍ إلزامیٍ واصلٍ إلی المکلّف من دون فرقٍ بین أن یکون هذا التکلیف واصلاً إلی أعلی درجات الأهمیة، أو یکون واصلاً إلی أدنی درجات الأهمیة، ما دام هو تکلیف صادر من قبل المولی وواصل إلی المکلّف بنحوٍ من أنحاء الوصول، العقل یحکم بلزوم إحراز امتثاله. إذن، لا فرق بینهما، وکما یحکم العقل بلزوم إحراز امتثال الأهم، کذلک یحکم بلزوم إحراز امتثال المهم، هو یحکم بلزوم إحراز امتثال کلٍ منهما علی حدٍّ سواء؛ وحینئذٍ لا موجب لتقدیم محتمل الأهمیة علی غیره والحکم بلزوم موافقته القطعیة، وإن استلزم منها المخالفة القطعیة للتکلیف الآخر. هذا ما یذکره السید الخوئی(قدّس سرّه). (1)

الذی یتبیّن من هذا الکلام هو أنّ نکتة البحث هی فی أنّ الأهمیة هل لها تأثیر فی هذا الحکم العقلی بلزوم الطاعة ولزوم إحراز الامتثال ؟ أو لیس لها تأثیر فی ذلک ؟ کون أحد المحتملین أهم من الاخر، هل یؤثر فی حکم العقل بلزوم إحراز الامتثال ولزوم الطاعة بحیث یحکم العقل بلزوم طاعة الأهم وإحراز امتثاله دون المهم، هذا هو معنی التأثیر، هذا معناه أنّ الأهمیّة أثّرت فی هذا الحکم العقلی بحیث یقول العقل: ما دام هذا أهم أنا أحکم بلزوم إحراز امتثاله وإن استلزم ذلک المخالفة القطعیة للمهم، هل یحکم العقل بهذا، باعتبار ----------- مثلاً ---------- أنّ إطاعة الأهم وإحراز امتثال الأهم هو أکثر إطاعة للمولی من إطاعة المهم، هل یحکم العقل بذلک، أو لا ؟ السید الخوئی(قدّس سرّه) اختار الثانی، ویقول لیس هناک فرق بین تکلیف وتکلیف فی هذا الحکم العقلی بلزوم إحراز الامتثال، العقل یحکم بلزوم إحراز کل تکلیف صادر من المولی وواصل إلی العبد بنحوٍ من أنحاء الوصول، یحکم بلزوم إحراز امتثاله، العقل لا یجوّز إحراز امتثال تکلیفٍ وإن استلزم المخالفة القطعیة لتکلیفٍ آخر، بینما المحقق النائینی(قدّس سرّه) وتبعه علی ذلک السیّد الشهید الصدر(قدّس سرّه) ذهبا إلی أنّ الأهمیة مؤثرة، بمعنی أنّ العقل لا یحکم حینئذٍ بلزوم إحراز امتثال المهم کما یحکم بلزوم إحراز امتثال الأهم، کلا وإنّما یحکم بلزوم امتثال الأهم وإن استلزم المخالفة القطعیة للمهم.

ص: 526


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 342.

الذی یُلاحظ علی الرأی الأوّل ------------ الذی تبناه المحقق النائینی(قدّس سرّه) واختاره السیّد الشهید الصدر(قدّس سرّه) ------------- هو: أنّ هذا الرأی الذی یقول نقدّم محتمل الأهمیة الذی قلنا أنّ معناه بحسب الحقیقة أنّ العقل یحکم بلزوم امتثال الأهم وإن استلزم المخالفة القطعیة للمهم، أنّ هذا الرأی کأنّه لا ینسجم مع ما هو المفروض فی محل الکلام، المفروض فی محل الکلام عندما بدأنا من البدایة إلی الآن افترضنا أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، هذا مفروض، وإنّما طرحنا أراءً سابقاً کانت فی وجوب الموافقة القطعیة، أنّ العلم الإجمالی علّة تامة له، أو أنّه مقتضی، لکن فی حرمة المخالفة القطعیة العلم الإجمالی المفروض فی محل الکلام أنّه علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، ومعنی أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة معناه فی الحقیقة استحالة الترخیص فی المخالفة القطعیة، أصلاً ثبوتاً مستحیل؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، فلا یُعقل الترخیص فی المخالفة القطعیة، تقدیم الأهم فی محل الکلام لازمه الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال وهو الحرمة وهو المهم، من حیث العلم الإجمالی لا فرق بین الوجوب وبین التحریم، کل منهما معلوم إجمالاً، العقل یحکم بحرمة المخالفة القطعیة لکل تکلیف حکماً تنجیزیاً غیر قابل للانفکاک؛ حینئذٍ کیف یُعقل أن یُرخّص للمکلّف بارتکاب المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال ؟ ! لازم کلام الجماعة هو أننا نرخّص للمکلّف فی أن یرتکب معصیة التکلیف المهم، هذا لا ینسجم مع المبنی الذی یقول بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة. نعم، هذا التزموا به فی موارد العلم التفصیلی فی باب التزاحم؛ لأنّهم بالنتیجة رخّصوا للمکلّف بأن یخالف هذا التکلیف المهم؛ لأنّهم قدموا الأهم علی المهم، قدّموا الإزالة التی هی أهم علی الصلاة، فرخّصوا للمکلّف فی مخالفة التکلیف بالصلاة المعلومة بالتفصیل، لکن هناک رخّصوا فی المخالفة باعتبار أنّهم اعتبروا أنّ هذا التکلیف المهم أصلاً یرتفع حقیقة عند الاشتغال بالأهم، أصلاً لا تکلیف به عند الاشتغال بالأهم، حقیقة یرتفع، من هذا الباب رخّصوا فیه، رخّصوا فی المخالفة باعتبار أنّها تکلیف، عند الاشتغال بالأهم لا تکلیف بالمهم، فالترخیص فی ترکه ومخالفته لیس فیه محذور، العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة علی نحو العلّیة التامّة، لکن عندما یکون التکلیف ثابتاً وموجوداً، فیقال أنّ العلم الإجمالی به هو علّة تامّة لحرمة مخالفته، أی عندما یکون موجوداً، فی موارد العلم التفصیلی هم افترضوا ارتفاع التکلیف المهم؛ حینئذٍ لا مشکلة فی إلزام المکلّف بالإتیان بالأهم وإنّ استلزم مخالفة المهم؛ لأنّ المهم لا تکلیف به عند الاشتغال بالأهم، فلا یلزم من هذا المخالفة للحکم العقلی بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، أمّا فی محل الکلام، فکیف یمکن توجیهه ؟ کیف یمکن الجمع بین کونه علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة وبین تجویز المخالفة القطعیة ومعصیة التکلیف المعلوم بالإجمال وهو المهم.

ص: 527

درس الأصول العملیّة/ أصالة التخییر بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة التخییر

قلنا بأنّ قد یُلاحظ علی الرأی الذی اختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من تقدیم الأهم علی المهم، یُلاحظ علیه بأنّه لا ینسجم مع المبنی الذی یبنی علیه القائلون بتنجیز العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة بنحو العلّیة التامّة الذی یعنی استحالة الترخیص فی المخالفة القطعیة مع فرض بقاء العلم بالتکلیف، وهذا المحذور یلزم من القول بتقدیم الأهم، تقدیم الأهم یعنی أن نقدّم الأهم ونلتزم بوجوب الموافقة القطعیة للأهم وإن استلزم ذلک المخالفة القطعیة للمهم، فإذن، نحن بتقدیم الأهم سوف نرخّص للمکلّف فی أن یرتکب المخالفة القطعیة للتکلیف المهم، والمفروض أنّ التکلیف المهم وصل إلی المکلّف ولو إجمالاً، والمفروض أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال علی نحو العلّیة التامّة الغیر القابلة للانفکاک؛ وحینئذٍ کیف یُعقل الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال.

ولا یرد علی هذا الإشکال بأنّه کیف رخّصوا فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم فی موارد التزاحم الامتثالی، حیث رخّصوا فی موارد التزاحم الامتثالی فی مخالفة التکلیف المهم وقدّموا الأهم ؟ قلنا أنّ الجواب عن هذا هو ما ذکروه من أنّ التکلیف المهم یرتفع حقیقة فی باب التزاحم الامتثالی عند الاشتغال بالأهم، فإذا ارتفع حقیقة ولم یعد التکلیف بالمهم فعلیاً عند الاشتغال بالأهم؛ حینئذٍ لا مشکلة فی مخالفته، الترخیص فی مخالفة تکلیفٍ من هذا القبیل لا یکون حینئذٍ ترخیصاً فی المعصیة القبیحة بنظر العقل؛ لأنّ هذا التکلیف لم یعد فعلیاً عند الاشتغال بالأهم، فلا مشکلة فی الترخیص فی مخالفته، هذا نقوله فی موارد التزاحم الامتثالی، لکن فی محل الکلام إلی هنا یبدوا أنّ التکلیف المهم فعلی؛ لأنّ التکلیف المهم فی موارد التزاحم الامتثالی إنّما خرج عن الفعلیة باعتبار سقوط إطلاق خطابه؛ لأننّا قلنا باستحالة بقاء إطلاق الخطابین علی حاله، وحیث أنّ أحدهما مهم، فیسقط، یتعیّن خطاب المهم للسقوط، فیکون هو الساقط فی حالة الاشتغال بالأهم یسقط الخطاب بالمهم؛ فلذا قالوا بأنّ التکلیف بالمهم یسقط فی حال الاشتغال بالأهم؛ وحینئذٍ لا محذور فی مخالفة تکلیفٍ ساقطٍ عن الفعلیة، لا خطاب به فعلاً، ولا یلزم من ذلک الترخیص فی المعصیة القبیحة بنظر العقل، فلا مشکلة هناک، لکن فی محل الکلام المفروض أنّ إطلاق خطاب المهم باقٍ علی حاله؛ لأنّه لا یوجد تزاحم امتثالی بین الامتثالین؛ لأنّ المفروض فی محل الکلام قدرة المکلّف علی الجمع بین الامتثالین، هو یتمکن أن یجمع بین امتثال الوجوب وامتثال التحریم فی کل علمٍ إجمالی، یتمکن من أن یجمع بین امتثال المحتملین، إذن، لا تزاحم امتثالی یستوجب سقوط الإطلاق فی الخطابین معاً، أو فی أحدهما، وهذا معناه أنّ إطلاق خطاب المهم یبقی علی حاله کما هو الحال فی إطلاق خطاب الأهم، فإذا کان إطلاق خطاب المهم باقیاً علی حاله حتّی فی حالة الاشتغال بالأهم یرد هذا الإشکال فیقول أنّ هذا المکلّف علم بهذا التکلیف بالإجمال، ووصل إلی المکلّف ولو إجمالاً، مقتضی العلّیة التامّة هی حرمة مخالفته القطعیة، هو تکلیف فعلی وإطلاق خطابه باقٍ علی حاله، فتحرم مخالفته القطعیة بحکم العقل ویستحیل بحکم العقل الترخیص فی مخالفته، فکیف رُخّص فی مخالفته بالالتزام بتقدیم الأهم، هذا هو الإشکال.

ص: 528

ومن جهة أخری مسألة استحالة الترخیص فی مخالفة التکلیف الواصل إلی المکلّف والذی یعلم به المکلّف ولو علماً إجمالیاً، لا فرق فیها بین الترخیص الشرعی والترخیص العقلی؛ لأنّ کلاً منهما یکون محالاً، الترخیص الشرعی الظاهری محال، والترخیص العقلی أیضاً یکون محالاً؛ لأنّه أساساً لماذا یُقال باستحالة الترخیص ؟ باعتبار أنّ الترخیص هو ترخیص فی المعصیة القبیحة بنظر العقل، أنّ مخالفة التکلیف المعلوم قبیحة، فالترخیص فیها ترخیص فی المعصیة القبیحة بنظر العقل؛ فحینئذٍ لا یمکن للعقل أنّ یُرخّص فیما یحکم بقبحه؛ لأنّه بحسب الفرض العقل یحکم بقبح المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال ویحکم باستحالة ذلک، ویحکم بامتناعه، فإذن: لا یُعقل أن یحکم العقل بالترخیص، کما لا یُعقل أن نفترض أنّ الشارع یحکم بالترخیص الظاهری فی هذا المقام؛ لأنّ الشارع لا یحکم بالترخیص فی الأمر الذی یدرک العقل قبحه ویکون ممتنعاً.

هذا الإشکال فی الحقیقة لا یمکن تجاوزه إلاّ بأن نفترض أنّ محل الکلام من قبیل التزاحم الامتثالی کما أننّا هناک تخلّصنا من الإشکال بالالتزام بعدم فعلیة التکلیف بالمهم، هنا أیضاً نلتزم بعدم فعلیة التکلیف بالمهم، إذا أمکن الالتزام بذلک حینئذٍ لا یرد الإشکال علی المحقق النائینی(قدّس سرّه)، فکما قدّمنا الأهم فی موارد التزاحم الامتثالی بأن التزمنا بأنّ المهم فی موارد التزاحم لا یکون فعلیاً، فالترخیص فی مخالفته لیس أمراً قبیحاً، ولیس محالاً، فیُرخّص فی مخالفته، إذا أمکن الالتزام بذلک فی محل الکلام؛ حینئذٍ یرتفع الإشکال، بأن نقول بأنّ التکلیف بالمهم، یعنی الحرمة فی المثال الذی فرضناه لیست فعلیة عندما تتزاحم مع الوجوب ----------- التزاحم بلحاظ وجوب إحراز الامتثال لا بلحاظ أصل الامتثال ---------- هذه الحرمة لا تکون فعلیة، وإنّما تخرج عن الفعلیة؛ وحینئذ یرتفع الإشکال والترخیص فی مخالفتها یکون غیر ممتنع ولا یکون قبیحاً بنظر العقل، لکن هل یمکن الالتزام بهذا ؟

ص: 529

بعبارة أخری: هل یمکن إثبات هذا المعنی الرافع للإشکال فی محل الکلام عن طریق الالتزام بخروج المهم عن دائرة حقّ المولویة ودائرة حق الطاعة هل یمکن ذلک ؟ الالتزام بخروج المهم عن دائرة حق الطاعة وحقّ المولویة هل یرفع الإشکال ؟ هذا الشیء الذی فرضه السید الشهید(قدّس سرّه) سابقاً، قلنا أنّه أجاب به الجواب الثانی کان عن الوجه الأوّل، کان یقول أنّ المهم یخرج عن حق الطاعة وعن دائرة حق المولویة، إذا فرضنا ذلک، أنّ المهم فی حالةٍ من هذا القبیل یخرج عن حقّ الطاعة والمولویة، هذا یرفع الإشکال، أو لا ؟

قد یقال بأنّه یرفع الإشکال، بقطع النظر عن أنّنا نؤمن به، أو لا، هذا سیأتی، لکن علی فرض أننا آمنّا بأنّ التکلیف المهم یخرج عن دائرة حق الطاعة والمولویة، باعتبار أنّ الأهم هو الأقرب طاعةً إلی الله(سبحانه وتعالی)، وحینما یتزاحمان ولو تزاحماً فی مقام إحراز الامتثال؛ فحینئذٍ یکون إحراز موافقة ذاک أهم من موافقة المهم، فیّقدم إحراز موافقة الأهم وإن استلزم ذلک المخالفة القطعیة للمهم، هو ذکر أنّ هذا إنّما یکون جائزاً باعتبار أنّ المهم فی حالة من هذا القبیل یخرج عن دائرة حق الطاعة وحق المولویة، الظاهر أنّ هذا یرفع الإشکال، باعتبار أنّ معنی خروج المهم عن حقّ الطاعة هو أنّ التکلیف بالمهم لا یثبت فیه حقّ الطاعة لله(سبحانه وتعالی)، لیس له حقّ الطاعة فی هذا التکلیف، وهذا معناه أنّ المکلّف لو عصی المهم؛ حینئذٍ لا یکون مستحقاً للمؤاخذة والعقاب من قبل المولی؛ لأنّ المولی لیس مولی بلحاظه، لیس له حقّ الطاعة بلحاظ هذا التکلیف؛ لأنّنا حکمنا بخروج هذا التکلیف عن دائرة حق الطاعة، فلیس له حق الطاعة بالنسبة إلی هذا التکلیف، فلو خالف المکلّف ولم یمتثل هذا التکلیف؛ حینئذٍ لا یکون مستحقاً للمؤاخذة؛ لأنّ المولی لیس له حق الطاعة فی هذا التکلیف، وهذا معناه فی الحقیقة أنّ مخالفة مثل هذا التکلیف لیست قبیحة بنظر العقل بعد افتراض خروجه عن دائرة حق الطاعة، نکتة القبح التی یحکم العقل بها هی المعصیة، هذا یعصی المولی ومعصیة المولی قبیحة بنظر العقل، فالترخیص فی المعصیة أیضاً یکون قبیحاً، النکتة هی إدراک العقل بقبح المعصیة، والترخیص فی القبیح قبیح، فالترخیص فی المعصیة یکون قبیحاً، لکن حیث یخرج التکلیف عن دائرة حق الطاعة وحق المولویة ولا یکون للمولی فیه حق الطاعة، الذی معناه أنّ العقل لا یری قبحاً فی مخالفة تکلیفٍ من هذا القبیل، إذن، لا تکون مخالفته قبیحة بنظر العقل، إّن- الترخیص فی مخالفة مثل هذا التکلیف لیس ترخیصاً فی المعصیة ولا یری العقل قبحه ولا یری أنّه ترخیص فی المعصیة، ولا یری أنّه أمر ممتنع؛ لأنّه خرج عن دائرة حقّ الطاعة والمولویة، فی المهم هو أن نری أنّ العقل ماذا یحکم؛ لأنّ العقل هو الحاکم فی هذا المقام، هو الذی حکم بحرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم ولو إجمالاً، لکن إنّما یحکم بذلک عندما یکون التکلیف فعلیاً واصلاً فی دائرة حق الطاعة، فیحکم بقبح مخالفته وامتناع الترخیص فی مخالفته، أمّا عندما لا یکون فعلیاً کما فی موارد التزاحم الامتثالی، باعتبار عدم ثبوت إطلاق خطابه فی حالة التزاحم الامتثالی، أو لا یکون داخلاً فی دائرة حقّ الطاعة کما هو المدّعی فی محل الکلام، علی کِلا التقدیرین العقل لا یری أنّ مخالفة مثل هذا التکلیف أمراً قبیحاً، ولا یری أنّ الترخیص فی مخالفة مثل هذا التکلیف ترخیص فی المعصیة؛ لأنّه خارج عن دائرة حق الطاعة، لیس للمولی حقّ الطاعة فیه حتّی تکون مخالفته معصیة، والترخیص فی المخالفة ترخیص فی المعصیة وهذا قبیح فی نظر العقل. إذن: یبدو أنّ الالتزام بخروج التکلیف المهم فی حالة التزاحم مع الأهم فی محل الکلام، التزاحم کما قلنا بلحاظ وجوب إحراز الامتثال لا فی أصل المثال، الظاهر أنّه یدفع الإشکال أیضاً؛ لأنّ الحاکم بوجوب الطاعة وحرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعیة للتکلیف المولوی هو العقل، فلابدّ أن نرجع إلی العقل، لماذا یحکم بوجوب الطاعة ؟ لماذا یحکم بحرمة المخالفة ؟ لأنّ المخالفة معصیة للمولی، وهو یری أنّ معصیة المولی(سبحانه وتعالی) أمر قبیح، فیحکم بقبح معصیة المولی(سبحانه وتعالی) هذا هو أساسها، عندما یفترض أنّ التکلیف خارج عن دائرة حق الطاعة، العقل لا یری فی مخالفته معصیة، ولا یری أنّ الترخیص فی المخالفة ترخیص فی المعصیة القبیحة بنظر العقل؛ فحینئذٍ یندفع الإشکال؛ لأنّ الإشکال یقول لا یمکن افتراض العلم بالتکلیف مع افتراض عدم حرمة مخالفته، أو الترخیص فی مخالفته، هذا صحیح، أنّ التکلیف المعلوم ولو إجمالاً تحرم مخالفته القطعیة بنظر العقل، والعقل یری أنّ الترخیص فی مخالفته القطعیة ترخیص فی المعصیة القبیحة ویراه ممتنعاً، لکن هذا حیث لا یکون التکلیف خارجاً عن دائرة حق الطاعة، وحیث یکون التکلیف فعلیاً وداخلاً فی دائرة حق الطاعة، العقل یقول بذلک. أمّا إذا لم یکن التکلیف فعلیاً، ولیس داخلاً فی دائرة حقّ الطاعة، العقل لا یری قبحاً فی الترخیص، ولا یری قبحاً فی المخالفة؛ فحینئذٍ لا مانع من افتراض تقدیم الأهم وإن استلزم ذلک الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المهم.

ص: 530

إلی هنا یتبیّن أنّه لا یوجد مانع، إذا افترضنا کما قلنا أنّ التکلیف المهم یخرج عن دائرة حقّ الطاعة فی حالات التزاحم فی الامتثال لیس هناک مانع من ناحیة العقل فی تقدیم وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم علی حرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المهم، یعنی لا مانع من تقدیم وجوب المخالفة القطعیة للتکلیف الأهم وإن استلزم ذلک الوقوع فی ارتکاب المخالفة القطعیة للتکلیف المهم، لا یوجد مانع بنظر العقل، لکن هذا عندما نفترض خروج التکلیف المهم عن دائرة حق الطاعة.

وأمّا ما تقدّم سابقاً من أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تعلیقی، بینما تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة تنجیزی؛ فحینئذ تتقدّم المخالفة القطعیة علی الموافقة القطعیة؛ لأنّ وجوب الموافقة القطعیة معلّق علی عدم حرمة المخالفة القطعیة، فإذا ثبتت حرمة المخالفة القطعیة تکون مانعة من وجوب الموافقة القطعیة، فکیف تقدّمون وجوب الموافقة القطعیة علی حرمة المخالفة القطعیة ؟ الذی هو معناه تقدیم الأهم. هذا الکلام الذی تقدّم فی الوجه الأوّل، وجوابه أیضاً تقدّم، جوابه هو الجواب الأوّل المتقدّم، حیث تقدّم سابقاً أنّ التعلیقیة فی وجوب الموافقة القطعیة صحیحة، لکن لیس معناها هو أنّ تأثیر العلم الإجمالی معلّق علی عدم حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیة حتّی یقال أنّ حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیة تنجیزی، فإذا ثبت یکون مانعاً من وجوب الموافقة القطعیة، لیس معناها ذلک، وإنّما معناها أنّها معلّقة علی عدم ورود ترخیص من الشارع فی ترک الموافقة القطعیة، العقل یحکم بلزوم الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم مالم یرخّص الشارع فی ترک الموافقة، هذا معنی التعلیقیة؛ ولذا یکون الترخیص الشرعی فی ترک الموافقة القطعیة أمراً معقولاً ومقبولاً، ورافعاً لموضوع حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة، ومن الواضح أنّ المعلّق علیه حاصل فی محل الکلام بالفرض، إذ المفروض أنّه لا یوجد لدینا دلیل شرعی یدل علی الترخیص فی ترک الموافقة القطعیة، فیکون تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة تنجیزیاً کتأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة، فلا تکون المخالفة القطعیة رافعة ومانعة من وجوب الموافقة القطعیة، کل منهما تنجیزی فیقع التزاحم بینهما لا أنّ أحدهما یکون رافعاً لموضوع الآخر. هذا هو الجواب عن ما قیل سابقاً.

ص: 531

الشیء الوحید الذی یبقی هو أنّه هل نحن ندرک بعقولنا أنّ المهم فی حالة من هذا القبیل، فی محل الکلام یخرج عن دائرة حقّ الطاعة وحق المولویة ؟ هل یدرک العقل بأنّه لیس للمولی حقّ الطاعة فی المهم ؟ حتّی یتمّ هذا الکلام ویندفع الإشکال ونلتزم بما ذکرهالمحقق النائینی(قدّس سرّه) من لزوم تقدیم الأهم. الحقیقة لأجل الجواب عن ذلک لابدّ أن نرجع إلی العقل الحاکم فی هذا المقام لنسأله أنّه فی حالة من هذا القبیل وقع تزاحم بلحاظ کیفیة الامتثال لا بلحاظ أصل الامتثال، بلحاظ إحراز الامتثال بین الوجوب المعلوم بالإجمال وبین الحرمة المعلومة بالإجمال مع افتراض أنّ الوجوب أهم، أو محتمل الأهمیة، وحینما نقول أهم، أو محتمل الأهمیة مقصودنا عند الشارع، بمعنی أنّ الشارع یهتم به، الغرض الذی یترتب علی الوجوب هو أهم بنظر الشارع من الغرض الذی یترتّب علی التحریم، أو محتمل الأهمیة، فی هذه الحالة یقول العقل بأنّ المهم فی هذه الحالة عندما یقع التزاحم فی کیفیة الامتثال وفی إحراز الامتثال، المهم یخرج عن دائرة حقّ الطاعة ویحکم العقل بلزوم مراعاة الأهم وموافقته القطعیة وإن استلزم ذلک المخالفة القطعیة للمهم.

بعبارة أخری: یقدّم لزوم إحراز الامتثال للأهم علی لزوم إحراز الامتثال للمهم؛ لأنّ الغرض الذی یترتب علی الوجوب أهم بنظر الشارع من الغرض الذی یترتب علی التحریم المهم، اهم منه أو محتمل الأهمیة، هل یحکم العقل بهذا الشکل، وخروج المهم عن دائرة حق الطاعة، وأنّ المولی لیس له حق الطاعة فی هذا التکلیف المحتمل، أو لا ؟

فی الحقیقة إذا رجعنا إلی العقل لا یبعد أن یقال بذلک، باعتبار أنّ التزاحم سوف یکون بین غرضین شرعیین، هناک غرض یترتّب علی هذا التشریع، وهناک غرض یترتب علی ذاک التشریع مع افتراض أنّ أحد الغرضین أهم عند الشارع وبنظر الشارع، العقل عندما یُلاحظ هذه الحالة، لو فرضنا أنّ الغرض کان مراداً تکوینیاً للشارع نفسه، العقل یری بأنّ الشارع نفسه سوف یتحرک نحو غرضه الأهم، وإن فاته الغرض المهم، وکل عاقل یقوم بذلک عندما یقع التزاحم بین غرضین أحدهما مهم والآخر أهم، نجد أنّ الإنسان العاقل سوف یتحرک لإحراز الإتیان بالغرض الأهم، وإن لزم من ذلک تفویت الغرض المهم؛ لأنّ هذا أهم وإحرازه یکون لازماً بنظر العقل، العقل یری أنّ العبد بمنزلة الآلة للمولی فی أغراضه التکوینیة، فالعقل یدرک بأنّه علی العبد أن یتحرک لإحراز الغرض الأهم بالنسبة إلی المولی سبحانه وتعالی، أن یتحرّک نحوه ویحرز امتثاله وإن کان یلزم من ذلک تفویت الغرض المهم، إذا فرضنا أنّ العقل یحکم بذلک؛ حینئذٍ یقال فی محل الکلام یمکن دفع الإشکال المتقدّم بالالتزام بأنّ التکلیف المهم یخرج عن دائرة حق الطاعة والمولویة فی حالة التزاحم التی نتکلّم عنها. وبالنتیجة هذا الکلام نقوله عندما تکون أهمیة الغرض المعلومة، أو المحتملة تکون بدرجة بحیث یدرک العقل فیها هذا الشیء، یدرک أنّه لابد من تقدیم إحراز تحصیل الغرض الأهم علی الغرض المهم، عندما لا یمکنه إحراز کل منهما، یقول أنّه لابدّ من تقدیم إحراز الغرض الأهم، إذا کانت درجة الأهمیة عند المولی واصلة إلی هذه الحالة؛ حینئذٍ هذا هو الکلام المتقدّم، وأمّا إذا فرضنا أنّ درجة الأهمیة لیست واصلة إلی هذه الدرجة، فرضاً أنّه محتمل الأهمیة، لکنّها أهمیة لیست بالغة إلی درجة بحیث أنّ العقل یحکم فیها بلزوم الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم، وتحصیل الغرض الأهم؛ حینئذٍ فی هذه الحالة یدور الأمر بین إمّا لزوم الموافقة القطعیة للتکلیف الأهم، هذا احتمال، أو نقول بلزوم الموافقة الاحتمالیة لکِلا الغرضین، الذی قلنا أنّها تحصل بالإتیان بالفعل فی کلا الیومین، أو الترک فی کِلا الیومین، هذا احتمال آخر، أو نقول بالتخییر الاستمراری، التخییر مطلقاً، یعنی فی الیوم الأوّل هو مخیّر بین الفعل والترک، فی الیوم الثانی هو أیضاً مخیّر بین الفعل والترک، وتحقیق هذه الأمور علی ماذا یُبنی ؟ سیأتی فی بحث أصالة الاشتغال. وبهذا یتمّ الکلام عن هذا الفرع.

ص: 532

درس الأصول العملیّة/ أصالة الاشتغال بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ أصالة الاشتغال

بعد أنّ تمّ الکلام عن أصالة التخییر أو ما یسمّی بمسألة دوران الأمر بین المحذورین، وقبلها تمّ الکلام عن أصالة البراءة، یقع الکلام عن أصالة الاشتغال، أو اصالة الاحتیاط، أو مسألة دوران الأمر بین المتباینین، أو بین الأقل والأکثر. یقع الکلام فی هذه المسألة فیما إذا شکّ المکلّف فی المکلّف به مع العلم بالتکلیف، هذا هو موضوع هذه المسألة، المکلّف به مردّد ومشکوک وغیر معلوم ولیس موضوعها هو نفس التکلیف؛ ولذا قالوا بأنّ تردّد المکلّف به واشتباهه تارةً یکون بین المتباینین وأخری یکون بین الأقلّ والأکثر، وفی کلٍ منهما التکلیف معلوم، وإنّما المجهول هو أیّ شیءٍ تعلّق به التکلیف، متعلّق التکلیف، أو المکلّف به، فی المقام الوجوب معلوم لکن لا یُعلم هل تعلّق هذا الوجوب بصلاة الظهر، أو بصلاة الجمعة، فالمکلّف به مردّد، أو مجهول، وهکذا فی مثال الإناءین الحرمة معلومة، لکنّ متعلّقها غیر معلوم، هل کُلّف بترک شرب هذا الإناء، أو کُلّف بترک شرب هذا الإناء ؟ هل هذا الإناء محرّم علیه، أو هذا الإناء ؟ ولذا قالوا أنّ الکلام فی هذه المسألة یقع فی مقامین أساسیین، المقام الأوّل فی دوران الأمر بین المتباینین، ثمّ یقع الکلام فی المقام الثانی فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر.

المقام الأوّل: فی دوران الأمر بین المتباینین.

الظاهر أنّ هذا المقام لا یختص بما إذا کان التکلیف المعلوم هو نوع التکلیف وتردّد الأمر فی المکلّف به؛ بل یعمّ ما إذا کان التکلیف المعلوم المردّد متعلّقه بین المتباینین کان هو عبارة عن جنس التکلیف کالإلزام، فی الأمثلة التی ذکرناها کان نوع التکلیف معلوماً، الوجوب معلوم، لکن یتردّد بین أن یتعلّق بصلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، الحرمة هی نوع من التکلیف معلوم، لکنّ التردد یکون فی متعلّقها، لکن بعض الأحیان قد یکون المعلوم هو جنس التکلیف کالإلزام بشکلٍ عام لا النوع الخاص من الإلزام ویتردّد متعلّق هذا الإلزام بین أن یکون هو عبارة عن فعل هذا الشیء، أو عبارة عن ترکه، فالإلزام معلومٌ، لکنّه مردّد بین وجوب هذا، أو حرمة ذاک، هنا أیضاً یدخل فی محل الکلام ظاهراً، بمعنی أنّ الشک هنا أیضاً یکون فی المکلّف به؛ لأنّه لا یعلم أنّ الإلزام المعلوم هل تعلّق بفعل هذا الذی هو عبارة عن الوجوب، أو بترک ذاک الذی هو عبارة عن التحریم، فهو شکّ فی المکلّف به مع العلم بالتکلیف، غایة الأمر أنّ التکلیف المعلوم لیس هو النوع الخاص من التکلیف، وإنّما هو عبارة عن جنس التکلیف، هذا أیضاً یدخل فی محل کلامنا ویجری فیه الکلام الآتی فی أنّ هذا العلم الإجمالی هل ینجّز وجوب الموافقة القطعیة وینجّز حرمة المخالفة القطعیة، أو لا ؟ وما یقال وما یُختار فی التنجیز، أیضاً یُقال ویُختار فی هذه المسألة، بمعنی أنّه لو قلنا أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة هنا أیضاً نلتزم بتنجّز وجوب الموافقة القطعیة، المکلّف یجب علیه أن یفعل هذا الشیء وأن یترک فعل الشیء الآخر؛ لأنّه یعلم إجمالاً بأنّه إمّا هذا واجب، أو ذاک حرام، فیجب علیه الموافقة القطعیة إذا قلنا بها، وتحرم علیه المخالفة القطعیة کما هو الحال فی مثال الظهر والجمعة وفی مثال الإناءین، هناک تجب الموافقة القطعیة هنا أیضاً تجب الموافقة القطعیة، فإذن: لا فرق بین أن یکون التکلیف المعلوم فی محل الکلام هو نوع خاص من التکلیف، وبین أن یکون هو عبارة عن جنس التکلیف.

ص: 533

ثمّ من جهة أخری الظاهر أنّ الکلام لا یختص بالشبهات الحکمیة؛ بل یعمّ حتّی الشبهات الموضوعیة، بمعنی أنّ التردّد فی المکلّف به ودورانه بین المتباینین کما یکون مع افتراض الشبهة الحکمیة، کذلک یکون مع افتراض الشبهة الموضوعیة؛ بل الأمثلة التی ذکرت للشکّ فی المکلّف به لهذه المسألة بعضها من الشبهات الموضوعیة بشکلٍ واضح کما هو الحال فی مثال الإناءین، حیث أنّ الشبهة فی مثال الإناءین هی شبهة موضوعیة، المکلّف یعلم بالحرمة ولاشک عنده فیها، وإنّما یشک فی أنّ الحرمة هل تعلّقت بهذا الإناء، أو بهذا الإناء، هذا الشکّ لیس ناشئاً من أمرٍ یرتبط بالشارع، وإنّما هو ناشئ من الأمور الخارجیة، فتکون الشبهة شبهةً موضوعیة، وبهذا یفترق هذا المثال عن مثال الظهر والجمعة، الشکّ هناک من ناحیة الشبهة الحکمیة؛ لأنّه شکّ فی أمر یرتبط بالشارع، هل الوجوب تعلّق بالظهر، أو تعلّق بالجمعة ؟

وبعبارة أخری: أنّ الشکّ هناک ینشأ من إجمال الدلیل، أو تعارض النصّین، أو عدم النص وأمثال هذه الأمور التی هی کلّها مرتبطة بالشارع، بینما فی مثال الخمر لیس هکذا، فالشکّ فیه ینشأ من اشتباه الأمور الخارجیة، لیس هناک شکٌ فی تحریم الخمر، لکنّه لا یعلم هل هذا خمر وذاک خل، أو أنّ هذا خل وذاک خمر ؟ فیشمل حتّی الشبهات الموضوعیة. التردّد والإجمال تارةً یکون من جهة أنّ الکبری والتکلیف مردّد بین أن یکون هو عبارة عن تکلیفٍ بصلاة الظهر، أو تکلیفٍ بصلاة الجمعة، وهذه شبهة حکمیة. وأخری لا یکون من هذه الجهة، التکلیف معلوم ومتعلّقه أیضاً معلوم، لکنّه مردّدٌ بین شیئین لاشتباه الأمور الخارجیة کما فی مثال الخمر، وکما فی مثال تردّد القبلة إلی جهتین، هنا أیضاً الشبهة موضوعیة، التکلیف معلوم یجب التوجّه إلی القبلة، ومتعلّق التکلیف أیضاً معلوم وهو القبلة ولا شکّ فی هذا، وإنّما اشتباه الأمور الخارجیة جعله یتردّد بین أن تکون هذه الجهة هی القبلة، أو تکون تلک الجهة هی القبلة ؟ فالتردّد یکون بلحاظ الأمور الخارجیة والشبهة تکون شبهةً موضوعیة. نفس الکلام الذی یقع فی الشبهة الحکمیة أیضاً یقع فی الشبهة الموضوعیة، بمعنی أنّ العلم الإجمالی هل ینجّز وجوب الموافقة القطعیة، أو لا ؟ وهل ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، أو لا ؟ هل الأصول تجری فی جمیع الأطراف أو لا ؟ وهل تجری فی بعض الأطراف أو لا ؟ فأیضاً یدخل فی محل الکلام.

ص: 534

نعم، لا إشکال أنّ الغرض الأساسی للأصولی فی علم الأصول لیس هو الشبهات الموضوعیة، وإنّما غرضه هو الشبهات الحکمیة، لکنّهم تکلّموا عن الشبهات الحکمیة والشبهات الموضوعیة فی هذه المسألة؛ بل تکلّموا عن الشبهة الموضوعیة قبل الکلام عن الشبهة الحکمیة؛ ولذا المحقق النائینی(قدّس سرّه) أول مسألة عقدها فی الشبهة التحریمیة الموضوعیة وتکلّم عنها وقدّمها علی سائر المسائل، تکلّم ابتداءً عن الشبهة الموضوعیة قبل أن یتکلّم عن الشبهة الوجوبیة الحکمیة، أو الشبهة الوجوبیة الموضوعیة. (1)

الکلام فی هذا الترددّ المفروض فی محل الکلام؛ لأننا قلنا أنّ موضوع محل الکلام هو ما إذا تردّد المکلّف به بین المتباینین، تردّد المکلّف به بین المتباینین یستلزم افتراض أنّ التکلیف معلوم فی الجملة حتّی یکون الشکّ شکّاً فی المکلّف به، لابدّ من افتراض العلم بالتکلیف فی الجملة، امّا إذا فرضنا أنّ التکلیف کان غیر معلوماً حتّی فی الجملة، یعنی أنّ التکلیف کان مجهولاً؛ حینئذٍ یکون هذا من موارد الشکّ فی التکلیف ولا یکون من موارد الشکّ فی المکلّف به، افتراض أنّ الشکّ فی المکلّف به یستدعی أن یُفترض العلم، أو إحراز التکلیف، لکن فی الجملة.

إذن: محل الکلام هو إذا کان المکلّف یحرز التکلیف ولاشکّ عنده فی التکلیف فی الجملة، لکنّه یشکّ فی المکلّف به، هل کُلّف بهذا، أو کُلّف بهذا ؟ بنحو الشبهة الحکمیة، أو بنحو الشبهة الموضوعیة، هذا التردّد فی المکلّف به مع العلم بالتکلیف فی الجملة واضح أنّه یخلق حالة علم إجمالی إمّا هذا واجب، وإمّا هذا واجب، هو یعلم إجمالاً بوجوب أحد الشیئین إمّا الظهر، أو الجمعة، ویعلم إجمالاً بحرمة أحد الإناءین إمّا هذا الإناء، أو هذا الإناء، یعلم إجمالاً بوجوب التوجّه فی الصلاة إمّا إلی هذه الجهة، أو إلی هذه الجهة.....وهکذا. فإذن: یخلق عند المکلّف حالة علم إجمالی، هذا العلم الإجمالی بالتکلیف المردّد متعلّقه بین المتباینین وقع البحث فی أنّ هذا العلم الإجمالی هل ینجّز هذا التکلیف المعلوم بالإجمال، أو لا ینجّزه ؟ إذا قلنا أنّه ینجّز التکلیف المعلوم بالإجمال، فعلی أی مستوی ینجّزه ؟ هل ینجّزه علی مستوی وجوب الموافقة القطعیة ؟ أو ینجّزه فقط علی مستوی حرمة المخالفة القطعیة ؟ الکلام فی کیفیة تنجیز العلم الإجمالی للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ ولذا من باب تقدیم مقدمّةٍ تکلّموا عن حقیقة العلم الإجمالی، العلم الإجمالی ما هو ؟ وهل هناک فرقٌ بینه وبین العلم التفصیلی ؟ وما هو هذا الفرق ؟ وأین یکمن هذا الفرق ؟ وهل هو فرقٌ فی السنخیة ؟ یعنی ذاک علم وهذا علم من سنخ آخر، أو لا فرق بینهما من هذه الجهة، وإنّما الفرق فی المتعلّق ؟ ولذا تکلّموا عن حقیقة العلم الإجمالی، هل العلم الإجمالی علم بالجامع ؟ هل العلم الإجمالی علم بالواقع، أو هو علم بالفرد المردّد إذا تعقلنا ذلک، فتکلّموا عن ذلک.

ص: 535


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 9.

إذن: الکلام فی الحقیقة یقع فی أنّ هذا العلم الإجمالی هل هو منجّز للتکلیف المعلوم بالإجمال، أو لیس منجّزاً للتکلیف المعلوم بالإجمال ؟ هل تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة بنحو العلّیة التامّة، أو بنحو الاقتضاء؟ وکذا تنجیزه لحرمة المخالفة القطعیة هل هو بنحو العلّیة، أو هو بنحو الاقتضاء؟ الکلام فی هذا.

قبل الدخول فی البحث لابدّ من الإشارة إلی أنّ الکلام عن منجّزیة العلم الإجمالی للتکلیف المعلوم بالإجمال إنّما یکون له معنی وجدوی بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ حینئذٍ لابدّ من إیقاع هذا البحث؛ لأنّنا إذا لم نتکلّم عن أنّ العلم الإجمالی ینجّز التکلیف المعلوم بالإجمال، أو لا، فمن الواضح عدم وجود شیء آخر ینجّز التکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّ المنجّز له هو العلم التفصیلی وهو مفقود فی المقام بحسب الفرض ولا یوجد شیء ینجّزه إلاّ احتمال التکلیف، وبناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان أنّ احتمال التکلیف لیس منجّزاً للتکلیف، فعندما نرید أن نثبت أنّ التکلیف المعلوم بالإجمال یتنجّز علی المکلّف لابدّ أن تکون المنجّزیة ناشئة من العلم الإجمالی، علم المکلّف بالتکلیف إجمالاً ینجّز علیه التکلیف، فلابدّ من الکلام عن منجّزیة العلم الإجمالی للتکلیف، وهذا یستدعی الکلام عن حقیقة العلم الإجمالی، فهذا الکلام إنّما یکون له فائدة ویکون له جدوی بناءً علی مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان، وأمّا علی المسلک الآخر الذی یری منجّزیة احتمال التکلیف، أنّ احتمال التکلیف هو منجّز، فلا یحتاج إلی هذا البحث الطویل العریض عن العلم الإجمالی هل ینجّز التکلیف أو لا ؟ وکیف ینجّز ذلک التکلیف ؟ لا یحتاج إلی کل ذلک؛ لأنّه فی المقام لا إشکال فی أنّ احتمال التکلیف موجود وقائم، فإذا بنینا علی أنّ احتمال التکلیف ینجّز التکلیف؛ فحینئذٍ ثبت أنّ التکلیف المعلوم بالإجمال تنجّز علی المکلّف، فتجب موافقته القطعیة وتحرم مخالفته القطعیة کأی تکلیفٍ آخر یتنجز علی المکلّف کما لو تنجّز علیه بالعلم؛ لأنّ صاحب هذا المسلک لا یری فرقاً بین التکالیف المعلومة وبین التکالیف المحتملة، کل تکلیفٍ بأیّ درجةٍ من درجات الانکشاف یکون منجّزاً علی المکلّف بحکم العقل، فتجب موافقته القطعیة وتحرم مخالفته القطعیة. نعم، بناءً علی هذا المسلک یقع البحث فی جریان الأصول فی جمیع الأطراف، أو عدم جریانها، وفی جریان الأصول فی بعض الأطراف، أو عدم جریانها، لا فی أصل منجّزیة العلم الإجمالی وکیفیتها، فهذا لا داعی لبحثه بعد أن التزمنا بأنّ احتمال التکلیف منجّز له، وهذا الاحتمال موجود، فنستغنی عن هذا البحث وهو أنّ العلم الإجمالی ینجّز، وما هی مرتبة تنجیزه للتکلیف المعلوم بالإجمال، لکن بناءً علی مسلک قبح العقاب بلا بیان الذی یری أنّ احتمال التکلیف لا ینجّز التکلیف إطلاقاً، التکلیف المحتمل لیس منجّزاً علی المکلّف، واحتمال التکلیف لا ینجّز التکلیف، فنحتاج فی محل کلامنا إلی استئناف بحثٍ فی أنّ العلم الإجمالی المفروض وجوده فی محل الکلام الذی ینشأ من هذا التردد المفترض فی محل الکلام، هذا العلم الإجمالی هل ینجّز التکلیف المعلوم بالإجمال، أو لا ینجّزه ؟ وما هو مقدار منجزیته ؟ هل ینجّز وجوب الموافقة القطعیة وحرمة المخالفة القطعیة، أو لا ......الخ من الأبحاث.

ص: 536

لکن بالرغم من ذلک السید الخوئی(قدّس سرّه) فی تقریرات بحثه(الدراسات)، (1) بالرغم من أننا نعلم أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) یختار مسلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان ورأیه واضح وصریح فی هذا، لکن بالرغم من هذا أیضاً ذهب إلی نفس النتیجة التی قلنا أنّها تترتب علی القول الآخر علی مسلک حقّ الطاعة، قلنا علی مسلک حق الطاعة نستغنی عن البحث عن منجّزیة التکلیف المعلوم بالإجمال، نستغنی عن هذا البحث؛ لأنّ احتمال التکلیف هو ینجّز التکلیف. ظاهر عبارة السید الخوئی(قدّس سرّه) ؛ بل صریحها لعلّه أن احتمال التکلیف منجّز للتکلیف ولسنا بحاجة إلی البحث عن منجّزیة العلم الإجمالی للتکلیف، نفس احتمال التکلیف ینجّز التکلیف، وذکر بهذا الصدد أنّ احتمال التکلیف الالزامی، أیّ شیء کان هو التکلیف سواء کان وجوباً أو حرمةً یساوق فی حدّ نفسه احتمال العقاب علی المخالفة، هناک ملازمة بینهما، بمجرّد أن یحتمل المکلّف تکلیفاً إلزامیاً هو یحتمل العقاب علی المخالفة، هناک ملازمة بین الاحتمالین، ویقول: من الأمور الواضحة أنّ احتمال العقاب علی المخالفة ممّا یستقل العقل بلزوم تجنّبه ولزوم التحرّز عنه، ویقول أنّ هذا هو الملاک الوحید لحکم العقل بلزوم الطاعة، من دون فرق بین التکالیف المحتملة وبین التکالیف المعلومة، هذا هو الملاک فی حکم العقل بلزوم الطاعة؛ لماذا یحکم العقل بلزوم إطاعة تکلیف المولی الواصل إلی المکلّف ؟ لأنّ العلم بالتکلیف یولّد احتمال العقاب ولا یولّد الجزم بالعقاب حتّی نقول أنّ ملاک حکم العقل بوجوب الطاعة فی التکالیف المعلومة هو الجزم بالعقاب، وهذا غیر موجودة فی التکالیف المحتملة؛ بل حتّی فی التکالیف المعلومة یحکم العقل بلزوم الطاعة لیس من جهة الجزم بالعقاب ولزوم دفع العقاب المعلوم والمقطوع به، وإنّما هو فقط من جهة احتمال العقاب؛ لأنّ القطع بالتکلیف لا یلازم القطع بالعقاب؛ لأنّ الله(سبحانه وتعالی) قد یمنّ علی عبده بالعفو والمغفرة، قد تدرکه شفاعة النبی(صلّی الله علیه وآله وسلّم) وأهل بیته(علیهم السلام) فلا عقاب، أو یفعل أشیاء قد ترتفع عنه العقوبة، الجزم بالتکلیف ومخالفته لا تستلزم الجزم بالعقاب، وإنّما غایة ما هناک احتمال العقاب، العقل یحکم هناک بلزوم الطاعة ولزوم التحرّز عن المخالفة؛ لأنّ مخالفة التکلیف المعلوم تستلزم احتمال العقاب علی المخالفة، واحتمال العقاب ممّا یستقل العقل بلزوم دفعه والتحرّز عنه. هذا الملاک بعینه موجود فی محل الکلام، یعنی فی التکالیف المحتملة؛ لأنّ احتمال التکلیف یلازم احتمال العقاب علی المخالفة، والعقل یستقل بلزوم دفع احتمال العقاب ولزوم التحرّز عن المخالفة التی فیها احتمال العقاب، وهذا هو الملاک فی حکم العقل بلزوم الطاعة مطلقاً فی التکالیف المعلومة والتکالیف المحتملة. غایة الأمر هو یُفرّق، یقول: احتمال عدم العقاب فی مخالفة التکلیف المحتمل أقوی من احتمال عدم العقاب فی مخالفة التکلیف المعلوم، وهذا واضح بالوجدان، باعتبار أنّ مخالفة التکلیف المحتمل یوجد احتمال غیر موجود فی مخالفة التکلیف المعلوم وهذا الاحتمال هو احتمال أن لا یکون هناک تکلیف فی الواقع. فی التکالیف المحتملة یوجد احتمال أن لا یکون هناک تکلیف فی الواقع بحیث یکون عدم العقاب من باب السالبة بانتفاء الموضوع، هذا موجود فی التکالیف المحتملة، لکنّه غیر موجود فی التکالیف المعلومة؛ لأنّ التکلیف معلوم بحسب الفرض، فاحتمال خلو صفحة الواقع کما یقول عن التکلیف الواقعی غیر موجود فی التکالیف المعلومة وموجود فی التکالیف المحتملة، وهذا یجعل احتمال عدم العقاب فی مخالفة التکالیف المحتملة أقوی من احتمال عدم العقاب فی مخالفة التکالیف المعلومة. عدم العقاب فی مخالفة التکالیف المعلومة ینشأ فقط وفقط من احتمال الرحمة الإلهیة، أن تسعه رحمة الله سبحانه وتعالی، أو تلحقه الشفاعة وأمثال هذه الأمور، بینما مخالفة التکلیف المحتمل له منشئان، أحد المنشئین هو احتمال عدم وجود تکلیفٍ فی الواقع، ویکون عدم العقاب من باب السالبة بانتفاء الموضوع، ومن هنا یکون احتمال عدم العقاب فی مخالفة التکلیف المحتمل اقوی من احتمال عدم العقاب فی احتمال مخالفة التکلیف المعلوم.

ص: 537


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 348.

علی کل حالٍ، یقول أنّ العقل یستقل بقبح ارتکاب ما تحتمل مخالفته؛ لأنّ احتمال التکلیف ینجّز التکلیف؛ لأنّ احتمال التکلیف ملازم ---------- کما قال ----------- لاحتمال العقاب علی المخالفة والعقل یستقل بلزوم دفع ذلک ولزوم التحرّز عنه. نعم، نرفع الید عن هذا فیما إذا ثبت وجود مؤمّن یؤمّن من ناحیة احتمال العقاب من دون فرقٍ بین أن یکون هذا المؤمّن ثابت بحکم العقل کقاعدة قبح العقاب بلا بیان، فأنّها تکون مؤمّنة من ناحیة العقاب الإلهی المحتمل الناشئ من احتمال التکلیف، وتقول: یقبح العقاب من دون بیان، فتؤمّن من ناحیة العقاب المحتمل، أو تکون ثابتة بحکم الشرع کالبراءة الشرعیة الثابتة بأدلّة الرفع وبغیرها من الأدلّة الشرعیة، مع وجود المؤمّن حینئذٍ نقول لا یتنجّز التکلیف المحتمل ولا یحکم العقل کما یحکم هناک بلزوم دفع العقاب المحتمل؛ لأنّه عند وجود المؤمّن لا احتمال للعقاب، وإنّما یکون هناک صرف احتمال للتکلیف لیس علی مخالفته عقاب، احتمال التکلیف موجود، لکنّه تکلیف لیس علی مخالفته عقاب؛ لأنّ الأدلّة العقلیة والنقلیة دلّت علی التأمین من ناحیة العقاب، مثل هذا التکلیف لا یکون منجّزاً علی العبد، فإذا ثبت التأمین یرتفع حکم العقل، ولا یستقل العقل حینئذٍ بهذا، وأمّا إذا لم یثبت أحد الأمرین، لا مؤمّن شرعی ولا مؤمّن عقلی؛ فحینئذٍ لا محالة یکون التکلیف منجّزاً بمجرّد احتماله، وهذه هی النتیجة التی یصل إلیها.

ثمّ یذکر بعض الأمور التی لیست أساسیة فی أصل المطلب ولا بأس بمراجعة کلامه فی الدراسات. لکن کیف یمکن توجیه کلامه الذی ذکرناه ؟ فهو من جهة یقول بقاعدة قبح العقاب بلا بیان التی تعنی أنّ احتمال التکلیف لیس منجّزاً، بینما یصرّح هنا بأنّ احتمال التکلیف منجّز للتکلیف المعلوم بالإجمال وأنّه لا داعی لبحث مسألة منجّزیة العلم الإجمالی؛ لأننا بناءً علی ذلک نستغنی عنها.

ص: 538

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کان الکلام فی دوران الأمر بین المتباینین وذکرنا فی الدرس السابق أنّ الکلام عن منجزیة العلم الإجمالی کما تعارف البحث عنه فی هذا المقام لا حاجة إلیه بناءً علی مسلک حقّ الطاعة ومنجّزیة الاحتمال، وإنّما نحتاج إلی هذا البحث بناءً المسلک المشهور والمعروف وهو قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ قبح العقاب بلا بیان یعنی أنّ الاحتمال لیس منجزاً للتکلیف؛ فحینئذٍ لابدّ أن نبحث عن منجّزٍ للتکلیف فی محل الکلام غیر الاحتمال ولیس هو إلاّ العلم الإجمالی، فلابدّ أن نستأنف بحثاً فی العلم الإجمالی وحقیقته ومنجزیته؛ لأنّه فی المقام لا یوجد إلاّ الاحتمال الموجود فی الطرفین والعلم الإجمالی، فإذا قلنا بمسلک قبح العقاب بلا بیان، فصِرف الاحتمال فی هذا الطرف وفی ذاک الطرف لیس هو المنجز؛ لأنّ الاحتمال لیس منجزاً بناءً علی هذه القاعدة، فلابدّ من البحث عن أنّ الاحتمال المقرون بالعلم الإجمالی هل یکون منجزاً، أو لا یکون منجزاً ؟ فنحتاج إلی هذا البحث.

وأمّا بناءً علی مسلک حق الطاعة الذی یؤمن بمنجزیة الاحتمال، فلیست هناک حاجة للبحث عن العلم الإجمالی ومنجزیته للتکلیف فی محل الکلام بعد أن کان احتمال التکلیف منجزاً له، لکن قلنا بأنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) فی الدراسات (1) والمصباح (2) ذکر بأننا لا نحتاج إلی البحث عن منجزیة العلم الإجمالی مع أنّه یبنی علی مسلک قبح العقاب بلا بیان الذی یعنی کما قلنا عدم منجزیة الاحتمال، مع ذلک یقول نحن لا نحتاج إلی البحث عن منجزیة العلم الإجمالی؛ لماذا لا نحتاج إلی البحث عن منجزیة العلم الإجمالی ؟ وما هو المنجّز فی المقام إذا لم نبحث عن منجزیة العلم الإجمالی ولم نثبت أنّ العلم الإجمالی هو المنجز ؟ یقول: أنّ المنجز فی المقام هو احتمال التکلیف، باعتبار أنّ احتمال التکلیف یلازم قهراً احتمال العقاب علی المخالفة واحتمال العقاب علی المخالفة هو الذی یکون منجزاً؛ لأنّ العقل یستقل حینئذٍ بلزوم التحرّز عنه ولزوم اجتنابه وهذا هو معنی التنجیز، فیکون احتمال التکلیف منجّزاً باعتبار أنّه یستلزم احتمال العقاب علی المخالفة وعندما یکون العقاب محتملاً یستقل العقل بلزوم الفرار عنه ولزوم تجنّبه ولا داعی للبحث عن أنّ العلم الإجمالی ینجز، أو لا، هو نفس احتمال التکلیف ینجّز التکلیف باعتبار أنّه یستلزم احتمال العقاب علی المخالفة، والعقل یستقل بلزوم دفع احتمال العقاب ولزوم تجنّبه.

ص: 539


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 348.
2- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 354.

نعم، لا نرفع الید عن هذا التنجیز إلاّ بمؤمّنٍ من ناحیة العقاب المحتمل، سواء کان المؤمّن عقلیاً، أو شرعیاً، المؤمّن العقلی هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان التی تؤمّن من ناحیة العقاب وتقول یقبح العقاب من المولی عند عدم البیان، یعنی عند عدم العلم، أو ما یقوم مقامه یقبح العقاب، أمّا المؤمّن الشرعی فهو کأدلّة البراءة الشرعیة المستفادة من حدیث الرفع وأمثاله؛ فعندئذٍ تُرفع الید عن التنجیز ولا یستقل العقل بلزوم تجنّب العقاب المحتمل لوجود المؤمّن العقلی، أو الشرعی. نعم، عند عدم وجود مؤمّنٍ یستقل العقل بالمنجّزیة ولزوم مراعاة التکلیف المحتمل باعتبار أنّه یکون سبباً لاحتمال العقاب علی المخالفة. ومن هنا یقول بأنّ الکلام فی المقام ینحصر فی البحث عن وجود المانع عن المنجزیة؛ لأننا فرغنا عن ثبوت المقتضی للمنجزیة الذی هو عبارة عن احتمال العقاب الذی یقتضی التنجیز، وإنّما علینا أن نبحث عن وجود ما یمنع من هذا التنجیز، یعنی ینحصر البحث فی المقام عن جریان الأصول المؤمّنة فی الأطراف وعدم جریانها، هل تجری الأصول المؤمّنة فی الأطراف، أو لا ؟ إذا جرت فأنّها تکون مانعة من تأثیر ذلک المقتضی فی التنجیز، وإذا لم تجری؛ فحینئذٍ یثبت التنجیز، فالکلام فی المقام ینصب فقط فی جریان الأصول فی الأطراف، أو عدم جریانها لا عن منجزیة العلم الإجمالی وحقیقته، فأنّ هذا بحثٌ لا نحتاجه؛ لأنّ احتمال التکلیف المستلزم لاحتمال العقاب علی المخالفة هو الذی یکون منجزاً للتکلیف. هذا ما یُفهم من کلام السیّد الخوئی(قدّس سرّه).

هذا الکلام لا یخلو من غرابة، یعنی هذا الجمع بین مسلک قبح العقاب بلا بیان کما هو مبناه بلا إشکال، وبین منجّزیة احتمال التکلیف لا یخلو من غرابة. قاعدة منجزیة الاحتمال بالبیان الذی ذکره هی محکومة دائماً ---------- بحسب وجهة نظره ---------- بقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّه(قدّس سرّه) یؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا بیان بناءً علی کلامه، هو قال بأنّ منجزیة الاحتمال إنّما تثبت عندما لا یکون هناک مؤمّن عقلی أو شرعی، وهو یؤمن بوجود المؤمّن العقلی؛ لذا فهی دائماً محکومة بقاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ وحینئذٍ أیّ فائدةٍ فی أن یحکم العقل بمنجزیة الاحتمال ؟ ونجعل هذا هو الأساس ----------- کما فی کلامه ----------- ونفرغ عن وجود المقتضی للتنجیز ونقول بأننا نتکلّم عن وجود المانع عن هذا المقتضی، مع أنّ هذا المقتضی للتنجیز الذی فرضه محکوم بقاعدة قبح العقاب بلا بیان التی یؤمن بها هو(قدّس سرّه)، بحیث لا یمکننا أن نتصوّر مورداً تثبت فیه قاعدة منجزیة الاحتمال وتثبت التنجیز ولا تجری فیه قاعدة قبح العقاب بلا بیان؛ لأنّ موضوعهما واحدٌ وهو احتمال التکلیف، القاعدة الأولی هی منجزیة الاحتمال، والقاعدة الثانیة هی عدم منجّزیة الاحتمال، قبح العقاب من دون علم، أنّه مع الاحتمال یقبح العقاب، فهی تؤمّن من ناحیة العقاب، فتکون حاکمة علی قاعدة منجّزیة الاحتمال، هذان الحکمان العقلیان اللّذان یُفهمان من کلامه، الحکم الأوّل هو أنّ العقل یحکم بمنجّزیة الاحتمال؛ لأنّه یستلزم احتمال العقاب علی المخالفة، والحکم الثانی هو حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان، هذان الحکمان بینهما تنافٍ؛ لأنّ الأوّل یعنی أنّ احتمال التکلیف منجّز، بینما الثانی یعنی أنّ احتمال التکلیف لیس منجزاً؛ حینئذٍ کیف یمکن فرض أنّ العقل یحکم بحکمین متنافیین بینهما تمام التنافی، أحدهما یقول أنّ احتمال التکلیف منجّز، والثانی یقول أنّ احتمال التکلیف لیس منجّزاً ؟ کیف یمکن فرض حکم العقل بهذین الحکمین المتنافیین ؟ والطولیة التی ذکرها لا تنفع شیئاً، یعنی ما ذکره من أنّ حکم العقل بمنجّزیة الاحتمال موقوف علی عدم وجود مؤمّنٍ عقلی، أو شرعی، فمع وجود المؤمّن العقلی یرتفع موضوع قاعدة منجّزیة الاحتمال؛ لأنّ هذه القاعدة أُخذ فیها عدم وجود المؤمّن ولو کان هذا المؤمّن شرعیاً، هذا أیضاً لا یرفع المحذور؛ لأنّ المفروض أنّه یؤمن بالمؤمّن، والمؤمّن موجود دائماً وفی جمیع الموارد بحیث لا یمکننا فرض التخلّف، فأیّ فائدةٍ فی أن یحکم العقل حکماً بمنجّزیة الاحتمال ویکون هذا الحکم معلّقاً علی عدم المؤمّن ویُفترض أنّ العقل یحکم بذلک المؤمّن حکماً قطعیاً وثابتاً فی جمیع الموارد، فما معنی أن یحکم العقل بمنجّزیة الاحتمال ویجعله معلّقاً حتّی نتلافی محذور حکم العقل بحکمین متنافیین، حتّی نتلافی ذلک ولا نقع فی هذا المحذور نقول أنّ أحدهما معلّق علی عدم الآخر، هذا لا یحل المشکلة؛ لأنّ الآخر فُرض وجوده وحکم به العقل، فأیّ فائدةٍ فی أن یحکم العقل بمنجّزیة الاحتمال ؟ والحال أنّ هذا لا یتحقق فی موردٍ إطلاقاً؛ لأنّه دائماً هناک حکم عقلی بقبح العقاب بلا بیان وفی وجود المؤمّن من ناحیة العقاب والعقل یُدرک ذلک، حیث أنّ العقل یقول أنّ احتمال التکلیف لیس منجّزاً ویقبح العقاب علی مخالفته. هذا الکلام لا یخلو من غرابة؛ بل منع، وإلاّ لأمکننا فی کل حکمین عقلیین متنافیین أن نحل التنافی بهذه الطریقة، أی بأن نجعل أحدهما موقوفاً علی عدم الآخر، هذا لا یحل التنافی. لو فرضنا حکم العقل بقبح شیء وحکم العقل بحُسن شیء، هذان أمران متنافیان بلا إشکال، شیء واحد یحکم العقل بحُسنه ویحکم بقبحه، أمران متنافیان یستحیل الجمع بینهما، هل یحل هذه المشکلة أن نقول أنّ حکم العقل بأحدهما موقوف علی عدم الآخر مع افتراض أنّ الآخر ثابت وموجود ؟ أنّ العقل یحکم بُحسن هذا، لکن حکمه بالحُسن موقوف علی عدم حکمه بقبحه مع أننا نؤمن بأنّ العقل یحکم بقبحه، هذا هل یرفع الإشکال ؟ بحیث یکون بإمکاننا أن نتصوّر حکمین عقلیین من هذا القبیل، ما نحن فیه من هذا القبیل، العقل یستقل بمنجزیة الاحتمال باعتبار أنّه یستلزم احتمال العقاب علی المخالفة، لکن فی نفس الوقت العقل یستقل بعدم منجزیة الاحتمال، یستقل بقبح العقاب بلا بیان وأنّه من دون بیان ومن دون علم یستحیل العقاب، بمعنی أنّ هذا التکلیف لیس بمنجّز؛ ولذا یقبح العقاب علیه، هذان أمران متنافیان بینهما تمام المنافاة، مجرّد أنّ الحکم العقلی الأوّل معلّق علی عدم الثانی مع افتراض أننا نؤمن بالثانی والثانی ثابت علی کل حال، هذا لا یحل الإشکال بحسب الظاهر.

ص: 540

هذا مضافاً إلی أنّ کلامنا فی منجزیة الاحتمال، بمعنی أنّ الاحتمال منجّز أو غیر منجز ؟ والمقصود بالتنجیز فی المقام هو التنجیز العقلی، أنّ احتمال التکلیف هل ینجّز التکلیف عقلاً ؟ کلامنا فی التنجیز العقلی لاحتمال التکلیف، هذا الذی نقول أننا إن آمنا به لا داعی للبحث عن منجزیة الاحتمال، وإن لم نؤمن به، فلابدّ من استئناف البحث عن منجزیة الاحتمال، وعن ما هو الذی ینجز یکون الاحتمال فی محل کلامنا، فی دوران الأمر بین المتباینین ؟ هل احتمال التکلیف هو الذی ینجّزه ؟ أو أنّ العلم الإجمالی هو الذی ینجّزه ؟ کلامنا فی التنجیز العقلی، والتنجیز العقلی یعنی حکم العقل بدخول التکلیف فی دائرة حق الطاعة، العقل یدرک بأنّ المولی له حقّ الطاعة فی هذا التکلیف، فی باب العلم بالتکلیف، قیام الحجّة علی التکلیف، أو احتمال التکلیف، بناءً علی أنّ احتمال التکلیف منجز، التنجیز المقصود فی المقام هو أنّ التکلیف المعلوم یدخل فی دائرة حق الطاعة والمولی مولیً بلحاظه، التکلیف الثابت بالحجّة منجز بحکم العقل، بمعنی أنّ العقل یدرک دخوله فی دائرة المولویة ودائرة حقّ الطاعة، احتمال التکلیف بناءً علی مسلک حق الطاعة أیضاً هذا المقصود بالتنجیز فیه، المقصود أنّ احتمال التکلیف یُدخل التکلیف المحتمل فی دائرة حقّ الطاعة، البحث عن التنجیز العقلی لاحتمال التکلیف، هذا التنجیز العقلی لاحتمال التکلیف علی القول به الذی یعنی دحول التکلیف المحتمل فی دائرة حقّ الطاعة وأنّ المولی سبحانه وتعالی له حقّ الطاعة فی هذا التکلیف المحتمل یترتب علیه احتمال العقاب علی المخالفة، لا نقول القطع بالمخالفة کما ذکر هو لإمکان العفو والمغفرة والشفاعة، یترتب علیه احتمال العقاب علی المخالفة، لکن احتمال العقاب علی المخالفة مترتّب علی التنجیز، هو فی طول التنجیز العقلی ولیس سبباً للتنجیز العقلی کما یُفهم من کلامه؛ لأنّ کلامه صریح فی أنّ احتمال العقاب علی المخالفة هو الذی یکون سبباً فی التنجیز، صرّح بأنّ المنجزیة ناشئة من احتمال العقاب علی المخالفة، فکأنّه فرض أنّ المنجّزیة فی رتبة متأخرة عن احتمال العقاب علی المخالفة، إذن، فی البدایة یثبت احتمال العقاب علی المخالفة ویترتب علیه التنجیز، ویکون التنجیز ناشئاً من احتمال العقاب علی المخالفة، فیثبت التنجیز، بینما بناءً علی ما ذکرناه یکون الأمر بالعکس، لیس احتمال العقاب علی المخالفة متقدّماً علی التنجیز؛ بل هو فی طول التنجیز العقلی الذی نتکلّم عنه، التنجیز العقلی معناه کما قلنا دخول التکلیف المنجّز فی دائرة حقّ الطاعة، سواء کان المنجز له هو العلم أو الحجّة المعتبرة أو الاحتمال بناءً علی مسلک حق الطاعة، احتمال العقاب یتوّلد من کون التکلیف قد تنجّز فی مرحلة سابقة، وإلاّ لو لم یکن التکلیف منجزاً لا یوجد احتمال العقاب، إذا لم یکن التکلیف بحکم العقل داخلاً فی دائرة حقّ الطاعة، وإذا لم یکن المولی مولیً بلحاظ ذلک التکلیف لماذا نحتمل العقاب ؟ لماذا یستحق هذا العبد العقاب مع أنّ المولی لیس مولیً بلحاظه، لیس للمولی حقّ الطاعة بالنسبة إلی هذا التکلیف إذا لم یکن منجزاً، عندما یکون منجزاً بحکم العقل وداخلاً فی دائرة حقّ الطاعة ویثبت للمولی بلحاظه حقّ الطاعة علی العبد؛ عندئذٍ یقال أنّ العبد إذا تخلّف وإذا خالف یوجد هناک استحقاق العقاب، أو یترتب احتمال العقاب، فاحتمال العقاب علی المخالفة هو فرع التنجیز لا أنّ التنجیز یکون ناشئاً منه ویکون سبباً للتنجیز، هو فرع التنجیز وفی طوله. إذن: لابدّ أن نتکلّم فی المرتبة السابقة علی مرتبة المخالفة، أساساً یجب أن نتکلّم فی أنّه إذا لم یثبت إلاّ احتمال التکلیف، احتمال التکلیف هل ینجّز التکلیف، أو لا ؟ یجب أن نبحث هذه المسألة لا أن نستدل باحتمال العقاب علی المخالفة علی المنجزیة، والحال أنّ احتمال العقاب علی المخالفة هو فی طول المنجزیة، فیجب أن نبحث عن المنجزیة بقطع النظر عنه لا أن نستدل به علی المنجزیة، طبع المسألة یقتضی أنّ العقل هل یدرک ثبوت حق الطاعة فی التکلیف المحتمل، أو لا ؟ هل یدخل التکلیف المحتمل فی دائرة حقّ الطاعة، وفی دائرة المولویة، أو لا ؟ إن أقرّ العقل بذلک، فهذا معنی المنجزیة والتنجیز العقلی، یترتب علیه قهراً احتمال العقاب علی المخالفة، أمّا فی مرتبة الحدیث عن التنجیز العقلی نستدل علیه باحتمال العقاب علی المخالفة کما یظهر من کلامه، هذا غیر صحیح؛ لأنّ احتمال العقاب علی المخالفة هو فرع التنجیز وفی طوله، فلا معنی لأن نستدل به علی التنجیز العقلی کما یظهر من کلامه(قدّس سرّه)؛ ولذا هذا الکلام یصح حتّی مع فرض القطع بعدم العقاب، هذا کلام مستقل لیس له علاقة بالعقاب واحتمال العقاب، لو فرضنا أننا قطعنا بعدم العقاب، قطعنا بعفو الله سبحانه وتعالی ومغفرته ولطفه، أو فرضنا أنّ المولی کان لا یتمکّن من العقاب، یصح هذا الکلام أن نوقع هذا البحث أنّ التکلیف المحتمل هل یتنجز، أو لا ؟ یعنی هل یدرک العقل دخوله فی دائرة حقّ الطاعة، فیحکم فیه بلزوم الإطاعة، أو لا ؟ مع أنّ المفروض فی هذا المثال هو القطع بعدم ترتّب العقاب لخصوصیةٍ فی ذاک المورد، نحکم علی المنجزیة العقلیة، أنّ احتمال التکلیف هل یدخله فی دائرة حقّ الطاعة بنظر العقل، أو لا ؟ لا مانع من طرح هذا البحث حتّی مع القطع بعدم العقاب، وإن کان الصحیح فی هذه المسألة أنّ الملازمة فی الحقیقة بین التکلیف وبین استحقاق العقاب، بمعنی أنّ العقاب لو صدر لکان فی محله ولا یکون قبیحاً بنظر العقل، هذا معنی استحقاق العقاب، التکلیف إن کان معلوماً یلازم استحقاق العقاب بمعنی أنّه لو عاقبه لکان عقاباً صادراً من أهله فی محله ولیس قبیحاً فی نظر العقل، قیام الحجّة علی التکلیف تستلزم استحقاق العقاب، الکلام فی أنّ احتمال التکلیف یستلزم استحقاق العقاب أو لا ؟ استحقاق العقاب هو فرع التنجیز، هذا کیف یستحق العقاب إذا لم یکن التکلیف منجزاً فی مرحلة سابقة، استحقاق العقاب فی طول التنجیز، یتنجز التکلیف فیستحق العبد العقاب علی مخالفته، نقول یستحق ولا نقول یُعاقب، ومن الواضح أنّ هذا فی طول التنجیز، فکیف نستدل علی التنجیز باستحقاق العقاب ؟ بمعنی أننا فی البدایة نثبت استحقاق العقاب، أنّ هذا المکلّف إذا احتمل التکلیف یستحق العقاب علیه؛ ولأنّه یستحق العقاب علیه یکون التکلیف منجزاً علیه نستدل باستحقاق العقاب علی المنجزیة، بینما طبع القضیة لیس هکذا وإنّما العکس تماماً، بمعنی أنّ استحقاق العقاب هو فی طول وفی مرحلة متأخّرة عن المنجزیة؛ لأنّ المقصود بالمنجزیة فی محل الکلام هی المنجزیة العقلیة والتنجیز العقلی، هذا هو محل البحث وهذا کما قلنا لا معنی لأن یقال بأنّه هو الدلیل علی المنجزیة؛ لأنّه فی طولها ومتفرّع علیها؛ فلابدّ أن یقع البحث فی أصل المنجزیة العقلیة بقطع النظر عن استحقاق العقاب، إذا أثبتنا المنجزیة العقلیة عندئذٍ یترتب علیها احتمال العقاب علی المخالفة کما ذکر، أو استحقاق العقاب.

ص: 541

نعم، هناک تنجیز بمعنی آخر لا ضیر فی أن نقول هذا هو فی طول احتمال العقاب علی المخالفة، هناک تنجیز آخر غیر التنجیز المبحوث عنه فی المقام، تنجیز آخر هو فی طول احتمال العقاب وهذا التنجیز هو ما یُعبّر عنه بالفرار من العقاب المحتمل؛ لأنّ الإنسان بحسب طبعه وبحسب الجِبلّة التی جُبِل علیها یفر من الضرر والعقاب حتّی لو کان محتملاً، التنجیز بمعنی الفرار من العقاب المحتمل، بمعنی تجنّب هذا الشیء الذی فیه احتمال العقاب، هذا صحیح وبلا إشکال یکون متفرّعاً عن احتمال العقاب، هذا فی طول احتمال العقاب، لکن لیس هذا هو التنجیز المبحوث عنه، هذه قضیة طبعیة جِبلّیة تنشأ من حبّ الإنسان لذاته وحبّه للمحافظة علی ذاته ومنع ما یضر هذه الذات، تنشأ من هذا ولیست قضیة عقلیة، ولیست حکماً عقلیاً، وإنّما أمر جِبلّی فُطر الإنسان علیه أن یفر من الضرر المحتمل، عندما یحتمل الضرر یفرّ منه، هذا تنجیز ------------ إذا أسمیناه تنجیزاً ------------ فی طول احتمال العقاب، فیمکن أن نستدل علیه باحتمال العقاب کما ذکر، لکن لیس هو المبحوث عنه فی المقام، نحن لا نبحث عن مسألة الفرار من العقاب، وإنّما نبحث عن الحکم العقلی، أنّ العقل ماذا یحکم وماذا یدرک فی المقام ؟ هل یدرک أنّ التکلیف المحتمل داخل فی دائرة حقّ الطاعة والمولویة أو لا ؟ هذا هو محل الکلام.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق أنّ التنجیز العقلی المبحوث عنه فی المقام لا یمکن الاستدلال علیه بمسألة احتمال العقاب وحکم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، أو العقاب المحتمل؛ وذلک لأنّ احتمال العقاب فی طول هذا التنجیز ومترتب علیه، فلابدّ أن یقع البحث فی أصل التنجیز العقلی لاحتمال التکلیف، أنّ احتمال التکلیف هل ینجز التکلیف عقلاً، وهل یدخله فی حق الطاعة والمولویة، أو لا ؟ نعم هناک تنجیز آخر ذکرناه فی الدرس السابق وقلنا أنّه لا مانع من أن یکون فی طول احتمال العقاب واحتمال الضرر وهو عبارة عن التحرّز عن الضرر المحتمل والفرار عن العقاب المحتمل وتجنّبه، هذا أمر جِبلّی طبعی فی طبیعة الإنسان ولا یمکن إنکاره وهو ثابت فی طول احتمال العقاب، بمعنی أنّ الإنسان بطبعه یفرّ من العقاب المحتمل عند احتماله، أنّ الإنسان عندما یحتمل الضرر یفرّ منه، وهذا الفرار من الضرر وتجنّبه یترتب علی احتمال العقاب والضرر، فإذن: یمکن الاستدلال علیه باحتمال الضرر، لکنّ الکلام لیس فی هذا التنجیز، وإنّما الکلام فی التنجیز العقلی الذی عرفت معناه وأنّ معناه هو دخول التکلیف فی دائرة حق الطاعة والمولویة، ولعلّ الخلط -------------- والله العالم --------------- بین التنجیز العقلی وبین التنجیز الذی ذکرناه هو الذی أوجب تخیّل أنّ التنجیز فی طول احتمال العقاب، فصار تخیّل أنّ محل الکلام هو فی هذا التنجیز الأخیر، أی التنجیز الطبعی الجِبلّی الذی هو فی طول احتمال العقاب، بینما الکلام کما قلنا لیس فی هذا، وإنّما الکلام فی المنجزیة العقلیة، وتبیّن ممّا تقدّم أنّ الجمع بین منجزیة التکلیف عقلاً، التنجیز العقلی لاحتمال التکلیف وبین قاعدة قبح العقاب بلا بیان الجمع بینهما غیر تام؛ بل لعلّه غیر ممکن، فعلیه: القائل بقبح العقاب بلا بیان لا مفر له من أن یبحث عن منجزیة العلم الإجمالی؛ لأنّ القائل بقاعدة قبح العقاب بلا بیان لا یؤمّن بمنجزیة الاحتمال، لا یری أنّ احتمال التکلیف منجز للتکلیف، فلابدّ أن یبحث فی محل الکلام عن منجزٍ لذلک التکلیف ولیس هناک منجز لذلک التکلیف بعد استبعاد الاحتمال الصِرف، احتمال التکلیف، لیس لذلک منجز إلاّ العلم الإجمالی، أو قل بعبارةٍ أخری کما قلنا: احتمال التکلیف المقرون بالعلم الإجمالی، لابدّ أن یبحث عن منجزیة العلم الإجمالی وأنّ العلم الإجمالی هل ینجز هذا التکلیف، أو لا ینجزه ؟

ص: 542

علی کلّ حال، الکلام فی المقام الأوّل فی دوران الأمر بین المتباینین، الکلام یقع فی عدّة مسائل أو بحوث:

البحث الأوّل: یقع الکلام فی حقیقة العلم الإجمالی، ما هو العلم الإجمالی ؟ وما هی حقیقته ؟ هل هو علم بالجامع، أو علم بالواقع ؟ أو لا علم بالجامع ولا علم بالواقع، وإنّما هو علم بالفرد المردّد ؟

البحث الثانی: فی شمول أدلّة الأصول الشرعیة المؤمّنة لأطراف العلم الإجمالی. أنّ أدلّة الأصول الشرعیة الترخیصیة هل تشمل أطراف العلم الإجمالی، أو لا تشملها.

البحث الثالث: فی منجزیة العلم الإجمالی، وأنّه هل یمنع من جریان الأصول فی الأطراف بعد فرض شمول أدلّة الأصول الترخیصیة للأطراف ؟ ویتفرّع هذا البحث إلی مسألتین:

المسألة الأوّلی: فی منجزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة. وبعبارة أخری: فی إمکان الترخیص فی تمام الأطراف، وبناءً علی إمکان الترخیص فی تمام الأطراف معناه أنّ العلم الإجمالی لا یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف، هل یمکن الترخیص فی تمام الأطراف، أو لا ؟ منجزیة العلم الإجمالی تعنی أنّ العلم الإجمالی هل یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف ؟ فإذا قلنا بأنّ العلم الإجمالی یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف، فهذا معناه أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة یکون بنحو العلیّة التامّة، أی أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة؛ ولذا هو یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف ولا یمکن الترخیص بنظر العقل فی تمام الأطراف؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، فلا یمکن الترخیص فی تمام الأطراف؛ لأنّ الترخیص فی تمام الأطراف هو مخالفة قطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال والمفروض أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة. وأمّا إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالی لا یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف، فهذا یعنی أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة هو بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّیة التامّة، إذا کان تأثیره بنحو الاقتضاء، فلا ینافیه حینئذٍ وجود ما یمنع من هذا التأثیر؛ لأنّ تأثیره بنحو الاقتضاء بحسب الفرض، والمانع الذی یمنع من تأثیر العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة بناءً علی الاقتضاء هو عبارة عن الترخیص الشرعی، هذا یشکل مانعاً یمنع من تأثیر العلم الإجمالی فی حرمة المخالفة القطعیة بناءً علی الاقتضاء.

ص: 543

المسألة الثانیة: هی نفس المسألة الأوّلی، لکن بلحاظ بعض الأطراف، بمعنی أننا نتکلّم عن منجزیة العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة بعد فرض تأثیر ومنجزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، یحرم مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال قطعاً؛ حینئذٍ یقع الکلام فی أنّه هل تجب موافقته قطعاً، أو لا ؟ وأمّا إذا قلنا أنّه لا ینجز حرمة المخالفة القطعیة، فأوضح ومن بابٍ أولی أن لا یکون منجزاً لوجوب الموافقة القطعیة، فمن هنا یکون البحث عن منجزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة مبنی علی افتراض منجزیته لحرمة المخالفة القطعیة، وإلاّ فلا معنی للبحث عن منجزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة بعد فرض أنّه لا ینجز حرمة المخالفة القطعیة، فیقع البحث الثانی فی منجزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة.

وبعبارةٍ أخری: فی إمکان الترخیص فی بعض الأطراف، هل یمکن الترخیص فی بعض الأطراف ؟ الذی یعنی عدم الموافقة القطعیة، هل العلم الإجمالی مانع من جریان الأصول فی بعض الأطراف، أو أنّه لیس مانعاً من جریان الأصول فی بعض الأطراف ؟ فإن کان مانعاً من جریان الأصول فی بعض الأطراف، هذا معناه أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وأمّا إذا لم یکن مانعاً من جریان الأصول فی بعض الأطراف، فهذا یعنی أنّ تأثیر العلم الإجمالی فی وجوب الموافقة القطعیة هو بنحو الاقتضاء؛ ولذا عندما یکون الترخیص ثابتاً یکون العلم الإجمالی غیر مؤثّر فی وجوب الموافقة القطعیة، فلا مانع من الترخیص فی بعض الأطراف بنظر العقل.

إذن: البحث یقع فی ثلاثة مسائل:

المسالة الأولی: حقیقة العلم الإجمالی.

ص: 544

المسألة الثانیة: فی شمول أدلّة الأصول الترخیصیة المؤمّنة الشرعیة لأطراف العلم الإجمالی.

المسألة الثالثة: فی منجزیة العلم الإجمالی بکلا جانبیها، المنجزیة علی مستوی حرمة المخالفة القطعیة، والمنجزیة علی مستوی وجوب الموافقة القطعیة. والبحث الثانی فی المنجزیة مترتب علی البحث الأوّل فی المنجزیة، بمعنی أننا إذا قلنا بالمنجزیة لحرمة المخالفة القطعیة یقع الکلام فی منجزیته لما هو أکثر من ذلک وهو وجوب الموافقة القطعیة، وإلاّ فلا مجال للبحث الثانی کما هو واضح.

هذه هی منهجیة البحث فی المقام خلافاً ----------- مثلاً ----------- لبعض الکلمات التی تذکر منهجیة أخری، إنّما ارتأینا هذه المنهجیة باعتبار أنّ البحث الأوّل عن حقیقیة العلم الإجمالی فی الحقیقة هو بمثابة المقدّمة التی لابدّ منها لما بعدها من البحوث باعتبار أن هناک ارتباطاً بین البحوث الآتیة وبین البحث عن حقیقة العلم الإجمالی وأنّ البحوث الآتیة وما یُختار فیها یتأثّر بما نفسّر به حقیقة العلم الإجمالی؛ فلذا لابدّ من بحث البحث الأوّل فی حقیقة العلم الإجمالی؛ ولأجل ذلک ذکرناه أوّلاً.

ثمّ أننا قدّمنا البحث عن شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالی، هذا التقدیم وجَعْل هذا بحثاً مستقلاً إنّما هو باعتبار أنّ البحث الثالث عن مانعیة العلم الإجمالی من جریان الأصول فی الأطراف کلاً، أو بعضاً، هذا البحث عن المانعیة یفترض شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالی حتّی نتعقّل البحث عن أنّ العلم الإجمالی یمنع أو لا یمنع. إذن: لابدّ من افتراض الشمول حتّی نتکلّم بعد ذلک أنّ هذا العلم الإجمالی یمنع من هذا الشمول، أو لا یمنع من هذا الشمول ؟ هل العلم الإجمالی یمنع من جریان الأصول العملیة فی تمام الأطراف، أو لا ؟ هذا البحث الأوّل. هل العلم الإجمالی یمنع من جریان الأصول العملیة فی بعض الأطراف، أو لا ؟ هذا البحث عن المانعیة یتوقّف علی افتراض أنّه لولا المانعیة لکان دلیل الأصل شاملاً للأطراف کلاً، أو بعضاً، فإذن، لابدّ من الکلام عن أصل الشمول بقطع النظر عن المنجزیة، اساساً هل أنّ أدلّة الأصول العملیة قابلة لأن تشمل أطراف العلم الإجمالی کلاً، أو بعضاً، أو أنّها أصلاً لیس فیها قابلیة لذلک، إذا لم تکن لها قابلیة الشمول لأطراف العلم الإجمالی، وکانت تختص بخصوص الشبهات البدویة؛ حینئذٍ لا داعی للبحث عن أنّ العلم الإجمالی هل یمنع من الشمول، أو لا یمنع، هی أساساً غیر قابلة لأن تکون شاملة لأطراف العلم الإجمالی کلاً، أو بعضاً، إذن، یبدو أنّه لابدّ أن نبحث أنّ أدلة الأصول هل تشمل أطراف العلم الإجمالی کلاً، أو بعضاً، أو لا ؟ بعد الفراغ عن الشمول یقع الکلام عن البحث الثالث المهم وهو المنجزیة، أنّ العلم الإجمالی هل ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، أو لا ؟ هل ینجز وجوب الموافقة القطعیة، أو لا ؟ وهذا البحث هو فی واقعه بحث عن المانعیة، بحث فی أنّ العلم الإجمالی عندما یحصل للإنسان هل یمنع من جریان الأصول فی تمام أطراف العلم الإجمالی ؟ بعد الفراغ عن أنّه یمنع من جریان الأصول فی تمام أطراف العلم الإجمالی، یقع البحث ثانیاً فی أنّه هل یمنع من جریان الأصول فی بعض أطراف العلم الإجمالی، أو لا ؟ التی هی مرحلة وجوب الموافقة القطعیة، فهو بحث عن مانعیة العلم الإجمالی عن جریان الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، هذا البحث عن مانعیة العلم الإجمالی عن جریان الأصول فی أطراف العلم الإجمالی یستبطن ویفترض أنّه لولا هذا المانع لکانت أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالی، هذا لابدّ من بحثه، لأنّ فیه بحث وکلام کما سیأتی، هل أنّ أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالی، أو أنّها أساساً مختصّة بالشبهات البدویة ؟ فالکلام یقع فی هذه المباحث الثلاثة.

ص: 545

أمّا بالنسبة إلی البحث الأوّل: فی حقیقة العلم الإجمالی وماهیته، اختلفت کلمات المتأخّرین فی تفسیر حقیقة العلم الإجمالی، والمعروف أنّ هناک آراء ثلاثة فی تفسیر حقیقة العلم الإجمالی:

الرأی الأوّل: هو الذی یظهر من صاحب الکفایة(قدّس سرّه) أنّ العلم الإجمالی هو عبارة عن العلم بالفرد المردّد، بمعنی أنّ المتعلّق للعلم الإجمالی هو الفرد المردّد. صاحب الکفایة(قدّس سرّه) ذکر ذلک فی حاشیة له فی مبحث الواجب التخییری، حیث طرح هناک عدّة نظریات فی تفسیر الواجب التخییری، وکانت واحدة من هذه النظریات هی أنّ الواجب فی الواجبات التخییریة هو الفرد المردّد، طرح هذا کاحتمال وناقشه ولم یرتضه، لکنّه ذکر فی الحاشیة بأنّه لیس الإشکال فی هذه النظریة فی تفسیر الواجب التخییری بأنّه عبارة عن الفرد المردّد، لیس الإشکال فی هذه النظریة هو أنّه کیف یتعلّق وصف بالفرد المردّد، الإشکال لیس من هذه الجهة؛ باعتبار أنّه یقول لیس لدینا مشکلة فی تعلّق الوصف الحقیقی بالواحد المردّد، أو بالفرد المردّد، فما ظنّک بالوصف الاعتباری کالوجوب فی محل الکلام، نتکلّم عن الواجب التخییری، یقول: نحن نقول أنّ الواحد والفرد المردّد یتّصف بأمرٍ حقیقی له حظ من الوجود ولیس أمراً اعتباریاً ومجرّد اعتبار، هذا الوصف الحقیقی مثل العلم، لا مانع من أن یتعلّق العلم بالفرد المردّد وهو أمر حقیقی ولیس أمراً اعتباریاً، فإذن: لا مشکلة فی تعلّق الوصف بالأمر المردّد، سواء کان الوصف وصفاً اعتباریاً کالوجوب، أو کان وصفاً حقیقیاً کالعلم، وهذا العلم الذی یتعلّق بالفرد المردّد هو العلم الإجمالی. فُهم من هذه الحاشیة أنّه یری أنّ العلم الإجمالی هو عبارة عن العلم بالفرد المردّد، فیکون متعلّق العلم الإجمالی هو الفرد المردّد.

ص: 546

الظاهر أنّ مقصوده هو أنّ متعلّق العلم الإجمالی هو الفرد الخارجی المتعیّن خارجاً علی نحوٍ لا یقبل الانطباق علی کثیرین، لکن مع تردّده بین شخصین، فهو علم یتعلّق بالفرد الخارجی المتعیّن ومتعلّق هذا العلم الإجمالی لا یقبل الانطباق إلاّ علی ذلک الفرد، لکنّ ذلک الفرد الذی تعلّق به العلم الإجمالی مرددّ بین فردین، ویمثّل لذلک بما إذا رأی شخص إنساناً من بعید ولم یستطع أن یمیّزه، وتردّد عنده بین شخصین، إمّا زید، أو عمرو، الرؤیا هی بمثابة العلم فی محل الکلام، الرؤیا تعلّقت بفردٍ خارجی متعیّنٍ فی الخارج لا یقبل الانطباق علی کثیرین، متعلّق الرؤیا هو فرد خارجی له تعیّن فی الخارج ولا یقبل الانطباق علی غیره، لکنّ هذا الفرد الذی تعلّقت به الرؤیا مردّد نتیجة بُعد، أو شیء آخر، فکأنّ العلم الإجمالی هو من هذا القبیل، متعلّق العلم الإجمالی هو الفرد الذی له تعیّن فی الخارج، لکنّه مردّد بین فردین. هذا رأی صاحب الکفایة(قدّس سرّه).

الرأی الثانی: هو الذی أختاره صریحاً المحقق الأصفهانی(قدّس سرّه) (1) وقیل أنّه یظهر من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) وهو أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع لا بالفرد المرددّ، بینما العلم التفصیلی یتعلّق بالفرد، أی بالواقع، فیکون الفرق بین العلم الإجمالی والعلم التفصیلی هو فی طرف المعلوم، أی فی طرف المتعلّق، فالمتعلّق لهما مختلف لا فی ناحیة العلم، فالعلم واحد فیهما ولا فرق بین الانکشاف فی العلم التفصیلی وبین الانکشاف فی العلم الإجمالی، کل منهما واحد ولا فرق فی العلم، وإنّما الفرق فی المتعلّق، فالعلم التفصیلی یتعلّق بالواقع بتمام خصوصیاته، بینما العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع ولا یتعلّق بالفرد، الفرق فی المعلوم أو المتعلّق لا فی نفس العلم. هذا عُبّر عنه بأنّ العلم الإجمالی هو علم بالجامع مع شکوک فی الأفراد.

ص: 547


1- (2) نهایة الأفکار، تقریر بحث آقا ضیاء للبروجردی، ج 3، ص 299.

الرأی الثالث: هو الرأی الذی اختاره المحقق العراقی(قدّس سرّه) (1) حیث یقول أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع ویتعلّق بالفرد وما ینکشف به هو الواقع کما هو الحال فی العلم التفصیلی، فکما أنّ ما ینکشف فی العلم التفصیلی هو الواقع، وهو الفرد بخصوصیاته، کذلک ما ینکشف بالعلم الإجمالی هو الواقع، غایة الأمر أنّ الفرق بینهما هو فی نفس العلم لا فی المعلوم کما فی التفسیر الثانی، نفس العلم والانکشاف فیهما مختلف، فی العلم التفصیلی یکون الانکشاف تامّاً وهناک وضوح تام ولا یوجد أیّ غموض واشتباه، بینما الانکشاف فی العلم الإجمالی لیس بذاک الوضوح، الصورة فی العلم التفصیلی صورة واضحة، بینما الصورة فی العلم الإجمالی صورة مشوّشة وفیها غموض، فیقول أنّ الفرق بینهما فی نفس العلم لا فی المعلوم، وإلاّ، کل منهما یتعلّق بالفرد وبالواقع، غایة الأمر أنّ رؤیة الفرد تختلف، فقد تکون الرؤیا رؤیة واضحة، وقد تکون رؤیة مشوّشة، فی باب العلم الإجمالی یوجد تشویش فی الرؤیة والانکشاف، یوجد تشویش فی العلم، بینما فی العلم التفصیلی لا یوجد مثل ذلک. هذا هو الرأی الثالث فی محل الکلام. هذه أهم الآراء فی المقام.

ما نرید أن نقوله فی المقام، أساساً نرید أن نری أنّه هل هناک حاجة وضرورة للدخول فی تفاصیل البحث عن حقیقة العلم الإجمالی وأنّه هل هو علم بالجامع، أو علم بالواقع، أو بالفرد المردّد ؟ وهل یمکن تصوّر الفرد المردد فی المقام، أو لا یمکن تصوّره ؟ هل هناک ضرورة للدخول فی تفاصیل هذا البحث، أو لیس هناک ضرورة لذلک ؟

ص: 548


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث آقا ضیاء للبروجردی، ج 3، ص 299.

وبعبارةٍ أخری: هل لهذا البحث والاختلاف فی تفسیر العلم الإجمالی تأثیر فی الأبحاث الآتیة، أو لیس له تأثیر ؟ إذا کان له تأثیر فی البحوث الآتیة، إذن، لابدّ من الدخول فی بحثه حتّی نکوّن فکرة عن حقیقة العلم الإجمالی وعلی ضوء هذه الفکرة سوف نختار ما نختاره فی المسائل الآتیة، وأمّا إذا لم یکن له تأثیر فی البحوث الآتیة، بمعنی أننا نختار ما نختاره فی البحوث الآتیة علی کل الاحتمالات فی تفسیر العلم الإجمالی، سواء فسّرناه بأنّه علم بالواقع، أو علم بالجامع، أو علم بالفرد المردد، نحن نختار ما نختاره فی البحوث الآتیة بمعزلٍ عن ذلک؛ حینئذٍ لا یکون هناک ضرورة للدخول فی هذا البحث. الذی یمکن أن یقال فی مقام الجواب عن هذا السؤال هو أنّه لا إشکال فی أنّ معظم البحوث الآتیة لیس للبحث الأوّل تأثیر فیها، بمعنی أنّ البحث الثانی واضح أنّه لیس للبحث فی حقیقة العلم الإجمالی تأثیر فیه، الذی عنوناه فی البحث الثانی هو شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالی، هذا لا علاقة له بکیفیة تفسیر العلم الإجمالی، ای شیء فسّرنا به العلم الإجمالی نبحث عن أنّ أدلّة الأصول المؤمّنة هل تشمل أطراف العلم الإجمالی، أو لا تشملها ؟

بعبارة أوضح: أنّ البحث الثانی هو بحث إثباتی، أدلّة الأصول هل فیها إطلاق یجعلها شاملة لأطراف العلم الإجمالی، أم لیس فیها هذا الإطلاق ؟ الشیخ الأنصاری أدّعی أنّ أدلّة الأصول لیس فیها إطلاق یشمل أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّه یلزم من ذلک، أو التهافت ----------- کما سمّاه ------------ بین صدر دلیل الأصل وبینه ذیله؛ لأنّه لاحظ أنّ أدلّة الأصول المؤمّنة هی مذیّلة بالعلم(حتّی تعلم أنّه حرام.....) وأمثالها، حینئذٍ یحصل تهافت بین صدر الروایة وبین ذیلها، بمعنی أنّ شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی یوقع هذا التهافت؛ لأنّ دلیل الأصل یقول أنت مرّخص إلی أن تعلم، وأنا لدی علم هنا فی المقام، فی باب العلم الإجمالی لدیّ علم بالحرمة، فلابدّ أن یرتفع الصدر، فشمولها لباب العلم الإجمالی یوجب وقوع التهافت فی نفس دلیل الأصل؛ ولذا لا تکون أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالی، هذا بحث إثباتی، أمّا الطرف الآخر، فیقول فیها إطلاق یشمل أدلّة الأصول العملیة، أمّا المحقق النائینی(قدّس سرّه) فیمیّز بین الأصول العملیة التنزیلیة، فیری أنّها غیر شاملة وبین الأصول العملیة غیر التنزیلیة، فیری أنّها شاملة، (1) هذا کلّه بحث إثباتی لا یتوقّف علی تحقیق أنّ حقیقة العلم الإجمالی هل هو علم بالجامع، أو علم بالواقع، أو علم بالفرد المردّد ؟

ص: 549


1- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 51.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

قلنا أنّ الکلام یقع فی هذه المسألة المهمّة فی مقامات، وکان المقام الأوّل الذی یُذکر عادة کمقدمةٍ للبحث هو البحث عن حقیقة العلم الإجمالی وأنّه بمّ یتمیّز العلم الإجمالی عن العلم التفصیلی، وقلنا أنّ هناک آراءً متعدّدة فی هذا المجال وذکرنا تعلیقاً علی ذلک بأنّه هل البحوث الآتیة فی المقام الثانی والثالث، هل هی مبتنیة علی اختیار أحد الآراء فی المسألة الأولی فی تفسیر العلم الإجمالی وبیان حقیقته، أو أنّها لیست مبتنیة علی ذلک ؟ وإنّما ما سیأتی من المنجزیة لا یبتنی علی اختیار أحد التفاسیر فی بیان حقیقة العلم الإجمالی، وإنّما من یقول بالمنجزیة فی المقام الثالث سواء کان علی مستوی حرمة المخالفة القطعیة، أو علی مستوی وجوب الموافقة القطعیة یقول بذلک بقطع النظر عن تفسیر العلم الإجمالی، وإنّما یقول بذلک علی کل التقادیر، سواء کان العلم الإجمالی هو علم بالواقع، أو علم بالجامع، أو کان علماً بالفرد المردد، وکذلک من لا یقول بالمنجزیة أیضاً علی کلا المستویین إذا فرضنا ذلک، هو أیضاً لا یقول بها علی کل التقادیر، مهما فُسّر العلم الإجمالی هو یقول بعدم المنجزیة.

الکلام فی أنّ هذه الآراء فی تفسیر العلم الإجمالی لها تأثیر فی البحوث الآتیة، أو لا ؟ فی الدرس السابق ذکرنا أنّ البحث الثانی هو فی شمول الأصول العملیة الترخیصیة المؤمّنة لأطراف العلم الإجمالی، أدلّة الأصول هل تشمل أطراف العلم الإجمالی، أو لا تشملها ؟ هل فیها قابلیة الشمول لأطراف العلم الإجمالی، أو لیس فیها قابلیة الشمول ؟

ص: 550

قلنا فی الدرس السابق أنّ هذا البحث یبدو أنّه لیس متوقفاً علی اختیار أحد التفاسیر فی حقیقة العلم الإجمالی، لیس مبتنیاً علی اختیار أحد التفاسیر؛ بل من یقول بالشمول یقول به علی کل التقادیر، ومن یقول بعدم الشمول یقول به علی کل التقادیر، لا أرید أن أقول أنّ هناک قائلاً بعدم الشمول، لکن یبدو أنّ البحث عن الشمول وعدم الشمول لیس مبتنیاً علی اختیار أحد التفاسیر فی حقیقة العلم الإجمالی، وإنّما یقال بالشمول علی کل التقادیر، أدلّة الأصول العملیة المؤمّنة لها قابلیة الشمول لأطراف العلم الإجمالی، أدلّة الأصول العملیة المؤمّنة فی حدّ نفسها وبقطع النظر عن أیّ شیءٍ هی قابلة لأن تکون شاملة لأطراف العلم الإجمالی، سواء قلنا بأنّ العلم الإجمالی هو علم بالجامع، أو قلنا بأنّه علم بالفرد المردد، أو أنّه علم بالواقع، علی کل التقادیر أطراف العلم الإجمالی مشمولة فی حدّ نفسها وبقطع النظر عن منجزیة العلم الإجمالی الذی یمنع من شمول أدلّة الأصول العملیة المؤمّنة لأطراف العلم الإجمالی، بقطع النظر عن المنجزیة، أطراف العلم الإجمالی هی صالحة لأن تکون مشمولة لأدلّة الأصول العملیة المؤمّنة. بالنسبة إلی الأصل العملی العقلی واضح أنّه یشمل کلّ طرفٍ فی حدّ نفسه؛ لأنّ موضوع الأصل العملی العقلی هو قاعدة قبح العقاب بلا بیان، موضوعه عدم البیان، وعدم البیان فی کلّ طرفٍ موجود؛ لأنّ المکلّف بالوجدان هو لا یعلم بأنّ هذا الطرف هل تحقق فیه المعلوم بالإجمال، أو لا ؟ فلا یوجد بیان، لم یتم علیه البیان، صحیح هو یعلم بالعلم الإجمالی بأنّ أحد الإناءین نجس قطعاً، أو یعلم إجمالاً بوجوب أحدی الصلاتین، لکنّه لا یعلم بأنّ النجس موجود فی هذا الإناء، إذا التفت إلی هذا الفرد فی هذا الطرف لا یستطیع أن یقول تمّ علیه البیان، لو تمّ علیه البیان لکان حاله حال العلم التفصیلی، فعدم البیان محفوظ فی کلّ طرف من أطراف العلم الإجمالی، وهذا هو المقصود بأنّ أدلّة الأصول تشمل أطراف العلم الإجمالی فی حدّ نفسها وبقطع النظر عن المنجزیة هی مشمولة لأدلّة الأصول، موضوع البراءة العقلیة هو عدم البیان وعدم البیان محفوظ فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، الأصول العملیة الترخیصیة الشرعیة موضوعها هو عدم العلم، الجهل، وهذا أیضاً محفوظ فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، لو جئنا إلی هذا الطرف لا یوجد وضوح ولا علم ولا انکشاف بحرمته، وإنّما هناک احتمال الانکشاف، الاحتمال لیس انکشافاً ولیس بیاناً حتّی یکون رافعاً لموضوع هذه الأصول؛ بل یصح للمکلّف أن یقول بأنّی لا أعلم بحرمة هذا الطرف، لا أعلم بوجوب صلاة الظهر فی العلم الإجمالی السابق، فإذن، عدم العلم محفوظ، عدم الانکشاف محفوظ، وهذا هو المقصود من أنّ أدلّة الأصول العملیة هی تشمل کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی فی حدّ نفسه وبقطع النظر عن المنجزیة، هذا لا یُفرّق فیه بین أن نقول أنّ العلم الإجمالی علم بالجامع، أو هو علم بالواقع، أو بالفرد المردّد، حتّی لو قلنا أنّه علم بالواقع أیضاً موضوع الأصول العملیة، موضوع الترخیص محفوظ فی کلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، وقد اعترف صاحب هذا القول القائل بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع، اعترف بأنّ موضوع الأصول العملیة المؤمّنة محفوظ فی کلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، وقد ذکر ----------- المقصود به المحقق العراقی(قدّس سرّه) ------------ ما نصّه، بعد أن أشکل علی نفسه بأنّ هناک فرق بین حرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة، فی هذا المقام ذکر بأنّ هذا الإشکال واحتمال الفرق یندفع، وقال بأنّ(وجه الاندفاع ما عرفت من أنّ المنع عن الترخیص فی کلّ طرفٍ إنّما هو من جهة احتمال انطباق ما هو المنجّز علیه الموجب لاحتمال العقوبة علیه، ولکون الترخیص فیه ترخیصاً فی محتمل المعصیة لا من جهة قصور أدلّة الترخیص عن الشمول لأطراف العلم من جهة عدم الموضوع). (1) لیس بذلک؛ بل موضوع الترخیص فی أدلّة الأصول محفوظ فی کل اطراف العلم الإجمالی، وإنّما نمنع من الشمول باعتبار ما یلزم من ذلک، هو رأیه أنّ العلم الإجمالی ینجّز التکلیف وإذا تنجز التکلیف ودخل فی عهدة المکلّف حیث یُحتمل أنّ هذا التکلیف موجود فی هذا الطرف وفی هذا الطرف؛ فحینئذٍ لابدّ من الامتناع عن کلا الطرفین. هذا هو الذی یمنع المکلّف من ارتکاب الطرف؛ لأنّه یُحتمل أن یتحقق فیه المنجّز، فیکون محتمل المعصیة وإذا کان محتمل المعصیة، فلابدّ من دفعه بحکم العقل ویدخله فی کبری لزوم دفع الضرر المحتمل، لا نقول بأنّ موضوع الأصول العملیة الترخیصیة غیر منحفظ فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی؛ بل أنّ موضوع الأصول العملیة محفوظ فی کل طرف والموضوع هو عدم البیان وعدم العلم وهذا محفوظ فی کل طرف، فیقول نحن لا نقول أنّه لا یجوز ارتکاب هذا الطرف؛ لأنّ موضوع البراءة والترخیص لیس متحققاً فی المقام، وإنّما موضوعه محفوظ، لکنّه نقول بأنّه لابدّ من ترکه فی مثال الإناءین، باعتبار أنّه یحتمل انطباق ما هو المنجّز علیه؛ لأنّ العلم الإجمالی نجّز التکلیف، وبحسب رأیه(قدّس سرّه) أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع، بمعنی أنّ التنجیز یسری من الجامع إلی الواقع، لکن حیث أنّ هذا الواقع یُحتمل أن یکون موجوداً فی هذا الطرف ویُحتمل أن یکون موجوداً فی هذا الطرف، فمن هنا یتنجّز کلا الطرفین، تنجیز کلا الطرفین لیس من جهة أنّ موضوع الترخیص الشرعی والعقلی غیر محفوظ فی کل طرف؛ بل هو محفوظ فی کل طرف، لکن تأتی فرضاً قاعدة الاشتغال، أو قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، هذه هی التی تقدَّم وینبغی البناء علیها، ولا یُستشکل فی انحفاظ موضوع الأصول العملیة الترخیصیة فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، حتّی علی القول بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع، فضلاً عن بقیة التفاسیر.

ص: 551


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 308.

إذن: یبدو ---------- والله العالم ----------- أنّهم لا یختلفون فی أنّ أدلّة الأصول العملیة، فضلاً عن البراءة العقلیة؛ --------- لأننا نتکلّم بناءً علی البراءة العقلیة، بناءً علی أنّ العلم الإجمالی هو الذی ینجّز التکلیف فی المقام، نحن نرید أن نبحث عن هذه المنجّزیة ---------- یتفقون علی أنّ أدلّة الأصول شاملة فی حدّ نفسها لأطراف العلم الإجمالی، موضوع الأصل محفوظ فی کل طرف، وقلنا أنّ موضوع الأصل هو عدم العلم وعدم الانکشاف وهو محفوظ فی کل طرفٍ؛ لأنّ المکلّف بالوجدان هو لا یعلم بحرمة هذا الطرف ولا یعلم بوجوب هذا الطرف، ولو سُئل لا یستطیع أن یقول أنا أعلم بحرمة هذا، ولا یستطیع أن یقول أنا أعلم بوجوب صلاة الظهر، هذا معناه أنّ الموضوع محفوظ ولا نرید أن نثبت أکثر من هذا، أنّ أطراف العلم الإجمالی قابلة لأن تکون مشمولة فی حدّ نفسها وبقطع النظر عن المنجّزیة هی مشمولة لأدلّة الأصول کما هی مشمولة لقاعدة قبح العقاب بلا بیان. هذا بالنسبة إلی البحث الثانی.

بالنسبة إلی البحث الثالث: قلنا أنّ البحث الثالث ینحلّ إلی بحثین: الأوّل فی منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، والثانی فی منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة إذا آمنا بها فهذا معناه أنّ الترخیص لا یثبت فی کلا الطرفین، أی أنّ العلم الإجمالی یمنع من شمول الترخیص لکلا الطرفین، وأمّا وجوب الموافقة القطعیة فیعنی أنّ العلم الإجمالی یمنع من شمول الترخیص لأحد الطرفین، فضلاً عن کلیهما. بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة وتنجیز العلم الإجمالی لها المستلزم للمنع من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف الذی به تتحقق المخالفة القطعیة، الظاهر أنّ هذا أمر مسلّم عندهم، لا إشکال فی أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، وهذا الشیء المسلّم عندهم الذی لا إشکال فیه لا یبتنی علی اختیار أحد التفاسیر السابقة فی تفسیر العلم الإجمالی، علی کل التقادیر العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة ویمنع من إجراء الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، فهذا واضح، وإن قلنا أنّه یتعلّق بالفرد المردّد، أو بالواقع فأیضاً واضح، فهذا یعنی أنّ هناک شیء أزید من الجامع یتنجّز علی المکلّف، فلنفترض هکذا، أنّ هناک شیئاً أزید من الجامع أیضاً یتنجّز علی المکلّف بالإضافة إلی الجامع. إذن: الجامع یتنجّز علی المکلّف علی کل تقدیر، وإذا تنجّز علی المکلّف کیف یمکن مخالفته القطعیة ؟ کیف نرخّص للمکلّف بأن یُخالفه قطعاً، بأن یفعل کلا الطرفین فی الشبهة التحریمیة، وأن یترک کلا الطرفین فی الشبهة الوجوبیة ؟ هذه مخالفة قطعیة للتکلیف المنجّز؛ لأنّ العلم الإجمالی ینجّز الجامع علی کل التقادیر، لا تتوقّف تنجیزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة علی أن نقول أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع ولا تتوقّف علی أن نقول أنّه یتعلّق بالواقع، سواء قلنا أنّه یتعلّق بالواقع، أو قلنا أنّه یتعلّق بالجامع، الجامع یدخل فی عهدة المکلّف ویتنجّز علیه وهذا تکلیف تنجّز علی المکلّف؛ حینئذٍ تحرم مخالفته القطعیة، هذا مؤکد، وهذا یسلّمون به ولا خلاف فیه بینهم ولا یبتنی ذلک علی اختیار أحد التفاسیر السابقة، علی کل التفاسیر، الجامع یتنجّز بالعلم الإجمالی. نعم، علی بعض التفاسیر قد یتنجّز ما هو أکثر من ذلک، وهذا لا مشکلة فیه، بالنتیجة یتنجّز الجامع علی المکلّف، وهذا الجامع تکلیف، حرمة أحد الإناءین تنجّز علی المکلّف؛ حینئذٍ لا تجوز مخالفته القطعیة، تحرم مخالفته القطعیة بلا إشکال. هذا بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 552

إذا سلّمنا منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة نأتی إلی وجوب الموافقة القطعیة الذی هو عبارة أخری عن أنّ العلم الإجمالی هل یمنع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین ؟ الذی لا یلزم منه مخالفة قطعیة، وإنّما یلزم منه مخالفة احتمالیة، هل یمنع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین کما منع من إجراء الأصل فی کلا الطرفین، أو أنّ العلم الإجمالی لا یمنع من ذلک ؟

هذه المسألة هی المسألة المهمّة التی قد یُدّعی أنّ البحث فی حقیقة العلم الإجمالی وأنّه علم بالواقع، أو علم بالجامع، أو علم بالفرد المردّد یؤثر فیها؛ إذ قد یقال أننا لو قلنا أنّ العلم الإجمالی علم بالجامع؛ حینئذٍ العلم الإجمالی لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ ما یتنجّز بالعلم الإجمالی بناءً علی أنّه علم بالجامع هو جامع ولیس أکثر من الجامع، فهو الذی یتنجّز بالعلم الإجمالی ویدخل فی العهدة، ویکفی فی امتثال الجامع الاتیان بأحد الطرفین، ما دام أنّ الجامع علی جامعیته بحدّه هو الذی تنجّز، الخصوصیة للفرد لم تتنجّز، وإنّما الجامع هو الذی تنجّز بالعلم الإجمالی، ویکفی فی امتثال الجامع وإطاعته الاتیان بأحد الطرفین؛ لأنّ هذا مصداق للجامع وهذا أیضاً مصداق للجامع، وما تنجّز علی المکلّف هو الجامع وقد امتثل الجامع فی ضمن هذا الفرد، یکفی فی امتثال الجامع ترک أحد الطرفین فی الشبهة التحریمیة، یکفی فی امتثال الجامع الاتیان بأحد الفردین فی الشبهة الوجوبیة؛ لأنّ الجامع یصدق علی الفرد وینطبق علیه؛ لأنّه مصداق له، فإن قلنا أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، فهناک مجال لإنکار وجوب الموافقة القطعیة، قد یقال: أنّ العلم الإجمالی لا ینجّز أکثر من الجامع؛ لماذا ینجّز کلا الطرفین ؟ ولماذا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة ؟ نعم، ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، وقلنا أنّه لا إشکال فی أنّ العلم الإجمالی ینجّزها علی کل الآراء، لکن أن ینجّز أکثر من ذلک، بأن ینجّز الفرد هذا لا دلیل علیه؛ لأنّ العلم الإجمالی علم بالجامع، فالمنجّز هو الجامع فقط، ویکفی فی امتثال الجامع الاتیان بأحد الطرفین، أو ترک أحد الطرفین، أمّا ----------- تکملة للکلام السابق ----------- لو قلنا بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالفرد المردّد، أو قلنا أنّه یتعلّق بالواقع؛ فحینئذٍ ما یدخل فی العهدة وما یتنجّز هو شیء أزید من الجامع یتنجّز علی المکلّف ویدخل فی عهدته، وهو خصوصیة الفرد والواقع؛ لأنّ العلم الإجمالی -------------- بحسب الفرض --------------- یتعلّق بالواقع، وإذا تعلّق بالواقع، فأنّه ینجّز الواقع، فإذا نجّز الواقع؛ حینئذٍ تجب الموافقة القطعیة، فالذی تنجّز علی المکلّف هو الواقع لا الجامع، فالواقع تجب موافقته القطعیة ولا تکون موافقته القطعیة إلاّ بالإتیان بکلا الفردین فی الشبهة الوجوبیة، أو ترک کلا الفردین فی الشبهة التحریمیة، هذا کلام قد یقال.

ص: 553

وفی مقابل هذا قد یقال: أنّ الکلام فی وجوب الموافقة القطعیة هو نفس الکلام فی حرمة المخالفة القطعیة، بمعنی أنّ من یقول بالمنجّزیة فی وجوب الموافقة القطعیة وأنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، یقول بها علی کل التفاسیر فی حقیقیة العلم الإجمالی، سواء کان یقول أنّ العلم الإجمالی علماً بالواقع، أو یقول بأنّ العلم الإجمالی علم بالجامع، أو یقول بها فی محل الکلام، وأنّ من یقول بعدم المنجّزیة أیضاً یقول بها علی کل التفاسیر السابقة. هذا الکلام هل یمکن أن یُقبل ؟ أنّ القائلین بمنجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة یلتزمون بالمنجّزیة علی کل التفاسیر السابقة، یعنی سواء کان علی القول بتعلّق العلم بالواقع، أو تعلّقه بالفرد المردد، أو تعلّقه حتّی بالجامع، بالرغم من افتراض تعلّقه بالجامع هو یقول بمنجّزیة العلم الإجمالی. نعم، طریقة الاستدلال علی المنجّزیة تختلف، یعنی المحقق النائینی(قدّس سرّه) عندما یؤمن بأنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة وهو یری أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع لدیه طریقة خاصّة فی إثبات هذه المنجّزیة غیر طریقة المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یؤمن بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع، هو أیضاً له طریقة خاصّة فی إثبات هذه المنجّزیة، کلٌ له طریقة فی الاستدلال، بالنتیجة یلتقون فی إثبات منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة حتّی المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یبنی علی أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع هو یؤمن بأنّه ینجّز وجوب الموافقة القطعیة کما قلنا من باب قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ویقول بأنّه حتّی لو قلنا بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، مع ذلک نقول بالمنجّزیة ببیان: أننّا نسلّم أنّه یتعلّق بالجامع، لکن تعلّقه بالجامع لا یعنی أنّه لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة کما قیل؛ لأننا صوّرنا أنّه إذا تعلّق بالجامع فأنّه لا ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنه یکفی فی امتثال الجامع الإتیان بأحد الطرفین، هو یقول حتّی لو قلنا بالجامع فأنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه إذا تعلّق بالجامع ینجّز الجامع، الجامع یتنجّز بالعلم الإجمالی علی هذا المبنی بلا إشکال، وإذا تنجّز الجامع ودخل فی العهدة؛ حینئذٍ إلا یحتمل انطباق ما تنجّز علی المکلّف ودخل فی عهدته علی هذا الطرف ؟ یطبّق قاعدة الاشتغال أنّ التکلیف الذی تنجّز علی المکلّف یستقل العقل بلزوم إحراز موافقته وامتثاله ولا یتیسر للمکلّف امتثاله إلاّ جاء بکلا الطرفین، امتثال هذا التکلیف الذی تنجّز علی المکلّف لا یحرزه المکلّف إلاّ إذا وافقه قطعاً بأن جاء بکلا الطرفین، اشتغال یقینی؛ لأنّ التکلیف بالجامع تنجّز علی المکلّف واشتغلت به عهدته، والاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی، هو رأیه لیس هذا، وإنّما رأیه هو أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع، فیسری التنجیز من الجامع إلی الواقع، وحیث أنّ الواقع یُحتمل انطباقه علی هذا الطرف ویُحتمل انطباقه علی هذا الطرف، یقول حینئذٍ لابدّ من الإتیان بهذا الطرف وهذا الطرف وهو معنی وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه ما دام یُحتمل أن ینطبق المنجّز علی هذا الطرف، إذن یحتمل أن یکون فی ارتکابه معصیة، یحتمل أن یکون فی ارتکابه عقاب والعقل یستقل بوجوب دفع الضرر والعقاب المحتمل، فیتنجّز وجوب الموافقة القطعیة، هذا هو رأیه، یقول حتّی لو سلّمنا أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، مع ذلک نقول بالمنجّزیة من باب قاعدة الاشتغال، وإن کان المتنجّز علی المکلّف هو الجامع بحدّه، لکن هذا الجامع الذی تنجّز علی المکلّف ودخل فی عهدته إلا یجب امتثاله بحکم العقل ؟ ولا یُحرز امتثاله إذا اقتصر علی أحد الطرفین؛ بل لابدّ أن یأتی بکلا الطرفین. القائل بالمنجّزیة، یقول بالمنجّزیة ظاهراً علی اختلاف التفاسیر السابقة فی تفسیر العلم الإجمالی. نعم، هذا الشیء لابدّ من الاعتراف به، وقد یکون له أثر أیضاً وهو أنّ الاستدلال علی المنجّزیة یختلف باختلاف تلک التفاسیر، من یقول أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع یستدل علی المنجزیة بأمورٍ أخری من قبیل تعارض الأصول فی الأطراف، یقول یتنجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ الأصل لا یمکن أن یشمل کلا الطرفین؛ لأنّه یستلزم تجویز المخالفة القطعیة وقد فرغنا عن أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، ولا تجری فی أحد الطرفین بعینه؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح بعد تساوی نسبة کلٍ من الطرفین إلی دلیل الأصل العملی ولیس هناک خصوصیة لهذا الطرف المعیّن حتّی یجری فیه الأصل دون الآخر، فتخصیص أحد الطرفین بعینه بشمول الأصل هذا ترجیح بلا مرجّح، وهذا معناه أنّ الأصول فی الأطراف تجری وتتعارض وتتساقط، فإذا جرت وتعارضت وتساقطت؛ حینئذٍ لابدّ من الموافقة القطعیة. هذا الدلیل الذی یذکره. القول الآخر یقول بدلیلٍ آخر ویلتزم بوجوب الموافقة القطعیة إمّا باعتبار أنّ المنجّزیة تسری من الواقع إلی الجامع، وإمّا بقاعدة الاشتغال بالبیان الذی ذکرناه.

ص: 554

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

المطلب الذی ذکرناه سابقاً علی کل حال، تمّ، أو لم یتم علینا أن ندخل فی بحث تفسیر حقیقة العلم الإجمالی بشکلٍ غیر مفصّل. تبین ممّا تقدّم أنّ هناک ثلاث آراء فی تفسیر العلم الإجمالی وأنّه هل یتعلّق بالجامع، أو یتعلّق بالواقع، أو یتعلّق بالفرد المردّد ؟ کل هذه الآراء هی محل إشکالٍ ومناقشةٍ، کلُ واحدٍ منها هناک اعتراض علیه، نستعرض هذه الاعتراضات علی هذه الآراء الثلاثة لنری أننّا إلی أیّ نتیجةٍ ننتهی.

أمّا الرأی الأوّل الذی یری بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالفرد المردّد الذی یظهر من کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) المیل إلیه واختیاره، اعتُرض علیه بالاعتراض المعروف، بأنّ من غیر المعقول أنّ یتعلّق العلم الإجمالی بالفرد المردّد، باعتبار أنّ الفرد المردّد لا یُراد به فی المقام مفهوم الفرد المردّد، وإنّما یُراد به واقع الفرد المردّد وما یکون فرداً مردّداً بالحمل الشایع، وهذا لا ثبوت ولا تعیّن له فی أیّ وعاءٍ فُرض، سواء کان فی الذهن، أو کان فی الخارج لا تعیّن له ولا ثبوت له لأنّ التردید ینافی التعیّن والثبوت، فهو لا تعیّن له فی الواقع ولا تعیّن له فی الخارج، فإذن: کیف یُعقل أن یتعلّق به العلم والحال أنّه لا تعیّن له ولا ثبوت له فی أیّ وعاءٍ، باعتبار أنّ ایّ شیءٍ یُفرض؛ حینئذٍ لابدّ أن یکون مُعیّناً، وحسب تعبیر المحققین یکون هو هو لا هو أو غیره، فإذا فرضنا الشیء فلابدّ أن یکون هذا الشیء له تعیّن ولا یُعقل أن یکون مردداً بینه وبین غیره.

ص: 555

وبعبارة أخری: أنّ کل ماهیة لابدّ أن یکون لها تعیّن ما هوی، والماهیة التی لا تعیّن ماهوی لها لا وجود لها فی الواقع والحقیقة؛ لأنّ الماهیّة لابدّ أن یکون لها تعیّن ماهوی ولا یُعقل أن تکون مرددّة بینها وبین غیرها، فلا یعقل حینئذٍ افتراض وجود فردٍ مرددّ تعلّق به العلم؛ لأنّ الفرد المردّد والمراد به کما قلنا هو واقع الفرد المردّد هذا فی أیّ وعاءٍ فُرض لا واقع له؛ لأنّ الشیء فی أیّ وعاءٍ فُرض لابدّ أن یکون معیّناً وهو هو لا مردداً هو أو غیره. هذا هو الإشکال الذی یورد علی افتراض تعلّق العلم الإجمالی بالفرد المردّد.

أمّا الاعتراض الذی یرد علی الرأی الثانی الذی هو تعلّق العلم الإجمالی بالجامع، تعلّق العلم بالجامع أساساً قد یُستدل له بأن یقال أنّ العلم فی محل الکلام لا یخلو: إمّا أن یُقال أنّه لا یتعلّق بشیءٍ أصلاً، أو یقال أنّه یتعلّق بشیء، ولا سبیل للأوّل؛ لأنّ العلم من الصفات ذات الإضافة التی لابدّ لها من متعلّق ویستحیل تحققها من دون متعلّق، فلابدّ أن نفترض أنّ العلم یتعلّق بشیء؛ حینئذٍ نقول: أنّ هذا الشیء الذی یتعلّق به العلم فی محل الکلام یتردّد أمره بین احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أن یکون هو الفرد بحدّه المعیّن.

الاحتمال الثانی: أن یکون هو الفرد بحدّه المرددّ.

الاحتمال الثالث: أن یتعلّق بالجامع.

ولا سبیل إلی الأوّل، أی أن یتعلّق العلم بالفرد بحدّه المعیّن؛ لأنّ هذا خُلف؛ لأنّ هذا یلزم أن یتحوّل العلم الإجمالی إلی علمٍ تفصیلی، بمعنی أن یتعلّق بالفرد بحدّه المعیّن. کما أنّه لا سبیل للثانی، وهو أن یتعلّق العلم بالفرد بحدّه المرددّ ------------ مثلاً ------------- لما تقدّم سابقاً من استحالة تعلّق العلم بالفرد المردد، فیتعیّن الثالث، أی أن یتعلّق بالجامع، فیثبت أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع لاستحالة أن لا یتعلّق بشیء، واستحالة أن یتعلّق بالفرد بحدّه المرددّ، وأیضاً هو لا یتعلّق بالفرد بحدّه المعیّن؛ لأنّه یلزم منه الخُلف وتحوّل العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی، فیتعیّن أن یتعلّق بالجامع، فیقف العلم علی الجامع.

ص: 556

هذا الاستدلال أیضاً اعتُرض علیه بما حاصله: نحن لا ننکر أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، بمعنی أنّ الجامع یصبح معلوماً بالعلم الإجمالی، لا ننکر أننا نعلم بالجامع فی العلم الإجمالی، لکنّه أیضاً یُدّعی بأننا نعلم بشیءٍ أزید من الجامع، وهذا أمر وجدانی یشعر به الإنسان، أنّه فی موارد العلم الإجمالی لیس أنّه فقط یعلم بالجامع، وإنّما یعلم بما هو أکثر من الجامع، باعتبار أنّ الجامع لا یوجد إلاّ فی ضمن خصوصیة الفرد؛ لأنّ الجامع لا یوجد مستقلاً عن الأفراد کما ثبت فی محلّه، لیس للجامع وجود فی قبال الأفراد، هو لا یوجد إلاّ فی ضمن خصوصیة الفرد، فلا معنی لأن نفترض أنّ للجامع وجود مستقل عن خصوصیات الأفراد، وإنّما هو یوجد ویتحقق فی ضمن خصوصیة الفرد، وهذا معناه أنّ ما نعلم به هو شیء أزید من الجامع، نعلم بالجامع فی ضمن خصوصیةٍ للفرد، إذن، معنی ذلک أننا تعدّینا من الجامع إلی خصوصیةٍ فی الفرد، العلم لم یعد واقفاً علی الجامع، وإنّما هو یتعدّی من الجامع إلی خصوصیة الفرد ولا معنی لفرض توقّفه علی خصوص الجامع؛ لأنّ هذا خلاف الوجدان؛ ولذا فی المثال الذی ذکروه وهو أنّه لو علمنا بوجود إنسانٍ فی المسجد مرددٍ بین زیدٍ وعمرو، ما نعلم به لیس هو وجود إنسانٍ فقط، هذا الکلّی الجامع فی المسجد، وإنّما نعلم بوجود إنسانٍ مرددٍ بین زیدٍ وعمرو، وهذا الإنسان الذی نعلم بوجوده فی المسجد لیس هو غیر زید وعمرو، هذه خصوصیة زائدة علی الجامع نعلمها بالوجدان، نعلم بالوجدان أنّ ما یوجد فی المسجد لیس هو الجامع فقط، وإنّما هو الجامع بخصوصیة، ما نعلمه هو وجود إنسان لیس غیر زید وعمرو وهذا نعلم به بالوجدان فی هذا المثال، وهذا معناه أنّ العلم لا یقف علی الجامع وإنّما یتعدّی من الجامع إلی الخصوصیة، وهذا شیء یُدّعی أنّ الوجدان یُساعد علیه باعتبار أنّ العلم لیس علماً بوجود إنسان ما فی المسجد، وإنّما إنسان بخصوصیة أنّه مردد بین زید وعمرو، إنسان لیس هو غیر زید وعمرو، فالعلم لا یقف علی الجامع وإنّما یتعدّی إلی الفرد، فالقول بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع ویقف علیه ولا یتعدّی من الجامع، هذا لیس تامّاً. هذا هو الاعتراض علی الرأی الثانی.

ص: 557

ولإکمال الاعتراض وإثبات الرای الآخر نقول: إلی الآن قلنا بأنّ العلم لا یقف علی الجامع وإنّما یتعدّی إلی خصوصیةٍ زائدة؛ حینئذٍ لإکمال الاعتراض یقال بأنّ هذه الخصوصیة الزائدة التی فرغنا عن أنّ العلم یتعدّی إلیها، هذه الخصوصیة أیضاً لا تخلو إمّا أن تکون جامعة وإمّا أن تکون خصوصیة معیّنة، إذا قلنا أنّ هذه الخصوصیة التی تعدّی إلیها العلم هی جامع؛ فحینئذٍ یأتی نفس الکلام السابق من أنّ الجامع لا وجود له إلاّ فی ضمن خصوصیة الفرد، فلابدّ من افتراض خصوصیة معلومة بالعلم الإجمالی غیر ذلک الجامع وغیر تلک الخصوصیة الجامعة....وهکذا حتّی یلزم التسلسل، بالنتیجة لابدّ أن ننتهی إلی أنّ الخصوصیة الزائدة التی فرضنا تعدّی العلم من الجامع إلیها لابدّ أن تکون هی عبارة عن خصوصیة الفرد، لکن لابدّ أن تکون هی خصوصیة معیّنة، هی جزئی، وهذا معناه أنّ العلم لا یتعلّق بالجامع؛ بل یتعلّق بالواقع وهو الرأی الثالث الآتی، وإنّما یتعلّق بالفرد بخصوصیته المعیّنة، إذن لابدّ من افتراض تعلّقه بالفرد لا أنّه یتعلّق بالجامع؛ لأنّ الجامع کما قلنا لا وجود له إلاّ فی ضمن خصوصیة، فلابدّ من افتراض تعدّی العلم إلی الخصوصیة وهذه الخصوصیة إن کانت أیضاً تمثّل جامعاً، أیضاً نفس الکلام یقال فیها أنّه لابدّ أن تتحقق فی ضمن خصوصیةٍ للفرد..... وهکذا إلی أن نستقر علی خصوصیة لیست جامعاً، وإنّما جزئی، وهذا هو معنی تعلّق العلم بالفرد. هذا الاعتراض علی الرأی الثانی.

الرأی الثالث الذی یقول بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع یُستدل له بما تقدم من أننا نشعر بالوجدان بأنّ ما نعلم به لیس هو الجامع فقط، وإنّما أزید من الجامع، باعتبار أنّ الجامع لا یوجد مستقلاً إلاّ فی ضمن خصوصیة الفرد؛ فحینئذٍ لا معنی ولا مجال لتعلّق العلم بالجامع، فلابدّ من افتراض تعلّقه بالفرد؛ لأنّ هذه الخصوصیة کما ذکرنا سابقاً التی فرضنا تعدّی العلم إلیها إن کانت جامعاً ننقل الکلام إلیه ویلزم التسلسل، فلابدّ أن ننتهی إلی خصوصیةٍ معیّنة هی لیست جامعاً، وهذا هو المراد من تعلّق العلم بالواقع.

ص: 558

هذا الرأی الثالث أیضاً اعتُرض علیه بأنّ هذه الخصوصیة المعیّنة التی انتهینا إلیها، هذا الحدّ المعیّن للفرد الذی قلنا أنّ العلم یتعدّی إلیه وأنّ العلم لا یقف علی الجامع، وإنّما یتعدّی إلی الخصوصیة للفرد، هذه الخصوصیة للفرد التی یتعدّی إلیها العلم إن قلنا بأنّها لا تدخل فی الصورة فی ما ینکشف بهذا العلم، فهذا معناه أننا نرجع إلی أنّ متعلّق العلم هو الجامع وأنّ الخصوصیة للفرد لا تدخل فی ضمن ما ینکشف بذلک العلم، لا تدخل فی الصورة التی تحصل عند الإنسان عند العلم الإجمالی، إذا فرضنا أنّها لا تنکشف بالعلم فهذا معناه أنّ ما ینکشف هو الجامع ولیس هو خصوصیة الفرد، هذا لابدّ من عزله، لا یوجد هکذا احتمال بناءً علی هذا الرأی، أنّها لا تدخل فی الصورة العلمیة التی تتکوّن عند الإنسان عندما یعلم إجمالاً بشیء؛ بل لابدّ من افتراض دخولها فی تلک الصورة، دخولها فی الصورة التی تنکشف بالعلم الإجمالی، إذا فرضنا أنّها تدخل فی الصورة التی تنکشف بالعلم الإجمالی؛ حینئذٍ نقول أنّ الذی ینکشف بالعلم الإجمالی هل هو الحدّ الشخصی المعیّن للفرد، أو هو الحدّ الشخصی المردد للفرد لا یخلو من أحد الأمرین، فرضنا أنّ العلم الإجمالی لا یقف علی الجامع وإنّما یتعدّی إلی خصوصیة الفرد، هذه الخصوصیة للفرد، أو الحدّ الشخصی للفرد، هل هو الحدّ الشخصی المعیّن، أو هو الحدّ الشخصی المردد ؟ إذا قلنا أنّ ما ینکشف بالصورة هو الحدّ الشخصی المعیّن للفرد، فهذا یلزم منه الخُلف، یلزم انقلاب العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی؛ لأنّ العلم التفصیلی هو الذی یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن، هذا علم تفصیلی.

ص: 559

إذن: لا یمکن أن نفترض فی العلم الإجمالی أنّه یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن، إذن، المدّعی أنّه متعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المردد بین فردین، او بین أفراد، إذا قلنا بذلک؛ حینئذٍ نقول بأنّ هذا هو عبارة عن تعلّقه بالفرد المردد، عبارة عن الرأی الأوّل ولیس شیئاً غیر الرای الأوّل الذی یقول بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالفرد المردد، ومقصوده هو هذا، یعنی یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی، لکن بحدّه المردد للفرد، هذا هو عبارة عن الرأی الأوّل، فیرجع الرأی الثالث إلی الرأی الأوّل، فخلاصة الاعتراض علی الرأی الثالث هو: إذا فرضنا تعلّق العلم الإجمالی بالواقع وأنّ العلم لا یقف علی الجامع، وإنّما یتعدّی إلی خصوصیة الفرد؛ حینئذٍ نسأل: هل متعلّق العلم الإجمالی وما ینکشف به هو الفرد بحدّه الشخصی المعیّن ؟ هذا یلزم منه انقلاب العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی، وأمّا إذا قلنا أنّه یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المردد بین فردین، أو أفراد، فهذا رجوع إلی الرأی الأوّل وهو أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالفرد المردد.

هذه هی الاعتراضات التی تُذکر علی هذه الآراء الثلاثة، وهناک محاولة لتفسیر الرأی الأوّل بما یسلم من الاعتراض الموجّه إلیه، وحاصل هذا التفسیر ولعلّنا اشرنا إلیه سابقاً: نحن ننقل التردید الذی ذُکر فی تفسیر الرای الأوّل بأنّه هو تردید فی الواقع، ننقله من الواقع إلی نظر المکلّف، التردید لیس هو تردید فی الواقع، وإنّما هو تردید بنظر المکلّف، الواقع واقع معیّن لیس فیه تردید، وإنّما بنظر المکلّف یوجد تردید، أمّا فی الواقع فلیس هناک تردید. نعم، التردید یکون بنظر العالم بالإجمال، فمعنی أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالفرد المردد ------------ الرأی الأوّل ------------ یُفسر بأنّ المقصود به بأنّه إنّما یتعلّق بالفرد المردد بنظر العالم لا أنّه یتعلّق بالواقع المردد حتّی یرد الاعتراض السابق ویقال کیف یُعقل التردید فی الواقع، الشیء إذا فُرض لابدّ أن یکون مُعیّناً ولا یُعقل فیه أن یکون مردداً، وإنّما نقول بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع المعیّن، فی واقعیته هو معیّن لا تردد فیه، لیس هناک تردد فی الواقع فی الشیء، الشیء هو هو فی الواقع لا هو، أو غیره فی الواقع حتّی یلزم الاعتراض، یتعلّق بالواقع المعیّن الذی لا تردد فیه إطلاقاً، وإنّما التردد هو بنظر العالم، العالم حیث أنّه یحتمل أمرین فهو مردد أنّ الواقع هل هو هذا، أو هو هذا ؟ الموجود فی المسجد هل هو زید، او هو عمرو ؟، فالتردد بنظر العالم لا بلحاظ الواقع.

ص: 560

إذا فسّرنا الرأی الأوّل بهذا التفسیر؛ حینئذٍ یسلم من الاعتراض السابق؛ لأنّه لم یُفترَض فی الرأی الثالث ----------- بناءً علی هذا التفسیر ------------ أن یکون هناک تردد فی الواقع، أن یکون هناک شیء مردداً واقعاً وفی مقام تقررّه الماهوی یکون مردداً، کلا هو لیس مردداً؛ بل هو معیّن ولا تردد فیه إطلاقاً واقعاً، وإنّما التردد بنظر العالم نفسه؛ حینئذٍ لا یرد علیه الاعتراض السابق وهذا من قبیل المثال الذی مثّلنا به سابقاً أن یری شخصاً من بعید، لکنّه لا یستطیع تمییزه ویدور أمره عنده بین أن یکون زیداً، أو عمرو، الرؤیة التی هی بمثابة العلم الإجمالی فی محل کلامنا تتعلّق بالفرد المعیّن واقعاً الذی لا تردد فیه واقعاً، لکنّ التردد هو بنظر المکلّف، المکلّف یتردد فی أنّ هذا الواقع الشخصی المعیّن الذی رآه هل هو زید، أو هو عمرو. أو إذا أردنا أن نقرّب الفکرة أنّه یُذکر فی باب النیّة فی باب العبادات من أنّ المکلّف بإمکانه أن یقصد امتثال الأمر الفعلی المتوجّه إلیه وإن کان هو یتردد فی أنّ الأمر الفعلی المتوجّه إلیه هل هو الأمر الاستحبابی، أو هو الأمر الوجوبی، لکن هو یقصد امتثال الأمر الفعلی المتوجّه إلیه والذی اشتغلت به ذمّته، هذا لا تردد فیه، هذا هو شیء معیّن فی الواقع، إذن، فی الواقع لا یوجد تردد بین هذا وغیره، وإنّما هو شیء معیّن وله تعیّن فی الواقع، وإنّما یکون التردد بنظر القاصد، فالقاصد هو متردد فی أنّ الأمر الفعلی المتوجّه إلیه الذی اشتغلت به ذمّته، هل هو الأمر الوجوبی، أو هو الأمر الاستحبابی، فیکون من هذا القبیل. إذا فسّرنا الرأی الأوّل بهذا التفسیر؛ حینئذ سوف یسلم عن الاعتراض الذی توجّه إلیه سابقاً؛ وحینئذٍ یقال بأنّ الرأی الأوّل یُفسّر بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالخصوصیة المعیّنة التی هی مرددة عند العالم، وإلاّ متعلّق العلم الإجمالی هی الخصوصیة المعیّنة التی لا تردد فیها فی الواقع، فیسلم حینئذٍ عن الاعتراض الذی یتوجّه إلیه.

ص: 561

هذا التفسیر للرأی الأوّل هل هو بالنتیجة یجعل الرأی الأوّل کالرأی الثالث بحیث یرجع الرأی الأوّل إلی الرأی الثالث ؟ بأن یقال؛ حینئذٍ یتّفق کلٌ من الرأی الأوّل والرأی الثالث علی أنّ العلم یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن فی الواقع، لکن المردد بنظر المکلّف. یلتقیان فی هذا، الرأی الأوّل فُسّر بهذا التفسیر، والرأی الثالث الذی یقول بأنّ العلم یتعلّق بالواقع أیضاً یمکن تفسیره بهذا التفسیر، مقصوده من (یتعلّق بالواقع) هو أنّه یتعلّق بالواقع المعیّن فی علم الله سبحانه وتعالی وفی الواقع، یتعلّق بالواقع المعیّن الذی لا تردد فیه ولیس بإمکانه أن ینکر أنّ هناک تردداً عند المکلّف، هذا لا یمکن إنکاره، أنّ العالم یوجد عنده تردد فی أنّ الواقع الذی علم به إجمالاً هل هو هذا، أو هو هذا، بالنتیجة هما یلتقیان فی أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالفرد، بالخصوصیة الفردیة التی لا تردد فیها والتی هی معیّنة فی الواقع وإن کانت مرددة بنظر العالم نفسه، هذا أمر لا یمکن إنکاره من قبل القائل بالرأی الثالث وهو یدّعی بأنّ العلم یتعلّق بالواقع، ومقصوده الواقع المعیّن لا الواقع المردد مع أنّه لابدّ أن یلتزم بأنّ هناک تردداً بنظر العالم نفسه، فکأنّه یرجع الرأی الأوّل بعد تفسیره بهذا التفسیر، أو فلنقل أنّه یکون مشابهاً إلی الرأی الثالث.

علی کل حال، یبدو أنّ العمدة من هذه الآراء هو الرأی الثانی والرأی الثالث، التردد بینهما ینشأ من زاویة إذا نظرنا إلی القضیة؛ حینئذٍ یأتی الکلام السابق من أنّه ما نعلمه بالعلم الإجمالی لیس هو الجامع فقط بحیث نقف علی الجامع بحدّه، کلا هناک شیء أزید من الجامع ویکون معلوماً بالعلم الإجمالی لا أنّه یقف علی الجامع بحدّه، هناک شیء أزید من الجامع یکون معلوماً بالعلم الإجمالی ببرهان متقدّم من أنّ الجامع لا یوجد إلاّ فی ضمن خصوصیة الفرد ولا یوجد بشکلٍ مستقلٍ، وهذا کما قلنا یستلزم افتراض أنّ العلم یتعدّی من الجامع إلی ما هو زائد علیه لا أنّه یقف علی الجامع؛ ولذا قلنا صحّ أن یقال بأنی أعلم بوجود إنسان فی المسجد فی المثال السابق لیس هو غیر زید وعمرو، هذا معناه أنّ هناک شیئاً زائداً أعلم به بالعلم الإجمالی غیر الجامع، وإلاّ لو کنت لا أعلم بالشیء الزائد، فقط أعلم بالجامع، لما صحّ هذا القول، وإنّما یجب أن أقول أنا أعلم بوجود إنسانٍ فی المسجد، بینما ما أعلمه فی الوجدان هو شیء آخر أکثر من إنسان فی هذا المسجد، أعلم بوجود إنسان وهذا الإنسان لیس غیر زید وعمرو. هذا من جهة.

ص: 562

من جهة أخری إذا نظرنا إلی القضیة من زاویة أخری نجد أنّ هذه الخصوصیة التی فرضنا تعدّی العلم إلیها لا تخلو إمّا أن تکون خصوصیة معینة، أو خصوصیة مرددة، فإن کانت خصوصیة معیّنة یلزم الخُلف، هذا یلزم انقلاب العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی، وإن فرضناها خصوصیة مرددة الإشکال السابق کان یقول بأنّ هذا یعنی رجوع إلی الرأی الأوّل، یعنی تعلّق العلم بالفرد المردد.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق بأنّه یمکن أن یُلتزَم بما یقوله المحقق العراقی(قدّ سرّه)، بمعنی أنّ نلتزم بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع المعیّن، بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً، لکنّه مردد لدی المکلّف؛ لأنّ الظاهر أنّ المحقق العراقی(قدّ سرّه)، لا یمانع من تفسیر کلامه بهذا التفسیر أنّه یقول أنّ العلم یتعلّق بالواقع، یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن، والتردد لدی المکلّف لا یمکن إنکاره؛ إذ لا إشکال فی أنّ هناک تشویشاً وعدم وضوح فی الصورة، وهذا یعنی ویلازم افتراض التردد لدی المکلّف لا فی الواقع، هذا التفسیر إذا التزمنا به وفسّرنا به أیضاً ما ذهب إلیه المحقق الخراسانی(قدّ سرّه) من تعلّق العلم بالفرد المردد، بأن نقلنا التردید من کونه تردیداً فی الواقع إلی کونه تردیداً لدی المکلّف، والفرد المردد یعنی الفرد المردد لدی المکلّف، فیمکن أن یکون هذا تفسیراً لذاک.

یبقی فقط شیء واحد وهو أنّه مع افتراض تعلّق العلم بالواقع؛ حینئذٍ یأتی هذا الإشکال وهو أنّ هذا الحدّ الذی یتعلّق به العلم بحسب الفرض، الحدّ الشخصی للفرد إن کان حدّاً شخصیاً معیّناً یلزم انقلاب العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی، وإن کان حدّاً شخصیاً مردداً؛ حینئذٍ رجعنا إلی الفرد المردد. هذا کان الإشکال الذی یرد علی المحقق العراقی(قدّ سرّه) أو علی الرأی الثالث، أنّه عندما نقول أنّ الحدّ الشخصی داخل فی دائرة العلم وممّا یتعلّق به العلم، هذا الحدّ الشخصی المعیّن إن کان داخلاً فی دائرة العلم، یلزم الانقلاب، وإن کان الحدّ الشخصی المردد داخلاً فی دائرة العلم، فهذا یعنی تعلّق العلم بالفرد المردد وقد فرغنا عن بطلانه وعدم معقولیته.

ص: 563

أقول: یمکن دفع هذا الإشکال بأن یُلتزم بالشق الأوّل من الإشکال، بأن یُلتزم بأنّ الداخل فی دائرة العلم هو الحدّ الشخصی المعیّن للفرد، لکن مع ذلک لا یلزم انقلاب العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی؛ لأنّ المحقق العراقی(قدّ سرّه)، فرّق بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی علی أساس أنّ الانکشاف فی باب العلم التفصیلی یکون تامّاً ولیس فیه تشویش بینما الانکشاف فی باب العلم الإجمالی فیه تشویش وغمو ض، فلا یلزم من مجرّد افتراض أنّ العلم یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن انقلاب العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی؛ بل یبقی هو علم إجمالی یختلف عن العلم التفصیلی؛ لأنّ الصورة مشوّشة وغیر واضحة وهذا هو الذی یبررّ التردید لدی المکلّف؛ لأنّ الصورة فی الواقع لیست صورة واضحة ینکشف بها تمام الواقع، وإنّما هی صورة فیها تشویش، وهذا التشویش هو الذی یوجب تردد المکلّف بین الفردین، لکن هذا لا یعنی أن العلم لا یتعلّق بالواقع کما هو؛ بل یتعلّق بالواقع کما هو ویتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً، لکن المردد واقعاً وهذا التردید هو الذی ینشأ من عدم وضوح الصورة التی تنشأ لدی هذا العالم، فإذن لا یلزم من افتراض تعلّق العلم بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن انقلاب العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی إذا التزمنا بمقالة المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ بل یبقی هذا علم إجمالی وإن تعلّق العلم بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن؛ بل یمکن أن نلتزم بالشق الثانی من الإشکال، أن نقول أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المردد، لکن نفترض أنّ التردید تردید عند المکلّف لا تردید بلحاظ الواقع حتّی یقال أنّ العلم الإجمالی إذا تعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المردد یلزم إشکال الفرد المردد المتقدم، هذا مبنی علی أنّ التردید تردید فی الواقع، أن یکون الواقع المعلوم مردداً واقعاً، کلا لیس هذا هو المقصود، ما یتعلّق به العلم معیّن واقعاً، لکنّه مردد عند المکلّف، إذا قلنا بذلک لا یلزم منه دخوله فی الفرد المردد بالمعنی المطروح الذی یرد علیه إشکال عدم معقولیة الفرد المردد وعدم معقولیة تعلّق العلم بالفرد المردد، فإذن، علی کلا التقدیرین یمکن دفع هذا الإشکال، إمّا أن نقول بأنّه إذا کان العلم الإجمالی یتعلّق بالفرد بعنوانه بحدّه الشخصی المعیّن ولا یلزم إشکال، ونقول أیضاً فی نفس الوقت کل منهما یمکن أن یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المردد، لکن التردید یکون عند المکلّف لا بلحاظ الواقع حتّی یلزم إشکال، إذا التزمنا بهذا الالتزام؛ حینئذٍ یندفع الاعتراض الموجّه علی الرأی الأوّل وهو إشکال الفرد المردد، کما أنّه یندفع الإشکال الذی یرد علی المحقق العراقی(قدّس سرّه) کما ذکرناه قبل قلیل.

ص: 564

یبقی مسألة ما ذهب إلیه المحقق الأصفهانی والمحقق النائینی(قدّس سرّهما) من أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، هذا یمکن الجواب عنه بوجدانیة أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بشیءٍ أزید من الجامع، لا یقف العلم علی الجامع وإنّما هو یتعلّق بشیء أزید من الجامع، فادّعاء أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع فقط ولا یتعدّی من الجامع إلی ما هو أزید منه، لعلّ هذا خلاف ما نفهمه من العلم الإجمالی، وبهذا یمکن الوصول إلی هذه النتیجة وهی تصحیح ما ذهب إلیه المحقق العراقی(قدّس سرّه) بهذا البیان المتقدّم، لکن هذا هل یحل المشکلة ؟

قد یقال: أنّ هذا الالتزام لا یحل المشکلة بتمامها، هذا الالتزام قد یصح فی بعض الموارد وهی الموارد التی یکون للمعلوم بالعلم الإجمالی ارتباط وتعلّق بالخارج، عندما یکون المعلوم بالإجمال بهذا النحو، له ارتباط بالخارج، له مطابق بالخارج المعلوم بالعلم الإجمالی یصح فیه هذا الکلام، فیقال: أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع، یعنی یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً وإن کان مردداً لدی المکلّف کما فی حالات کثیرة من موارد العلم الإجمالی، المعلوم بالإجمال له مطابق فی الخارج من قبیل مثال المسجد کما إذا رأی شخص یدخل للمسجد، لکنّه لسببٍ، أو لآخر أو لعدم وضوح الرؤیة تردد عنده هذا الشخص بین أن یکون زیداً، أو عمرو، إذا قلنا أنّ الرؤیة تتعلّق بالواقع الخارجی، تتعلّق بهذا الوجود الخارجی الشخصی والمعلوم بالعلم الإجمالی هذا له مطابق خارجی، له واقع خارجی یطابقه، لکن عند المکلّف هناک تردد فی هذا الواقع الذی تعلّقت به الرؤیة، لکن له ارتباط بالخارج، له ارتباط بواقع معیّن خارجی؛ ولذا یصحّ لهذا العالم فیما لو انکشف الحال وتبیّن له تفصیلاً أنّ الذی داخل المسجد هو زید، له أن یقول بأنّ هذا هو ما علمته إجمالاً، فیُطبّق معلومه بالإجمال علی هذا المعلوم بالتفصیل، فیقول هذا، یعنی زید هو الذی علمت بدخوله المسجد إجمالاً، هذا إنّما یصح هذا القول عندما یکون المعلوم بالإجمال له مطابق فی الخارج، عندما یکون له ارتباط بواقع معیّن موجود فی الخارج، فیصحّ له حینما ینکشف الحال ویتبیّن أنّ زیداً هو الداخل فی المسجد، أو عمرو هو الداخل فی المسجد یصح له أن یقول بأنّ هذا هو الذی علمته إجمالاً، أو مثال نجاسة أحد الأناءین، العلم الإجمالی بنجاسة أحد الأناءین الناشئة من سقوط قطرة بول فی أحدهما ---------- مثلاً ---------- لکنّه اشتبه علیه الأناءان، ایّ الأناءین سقطت فیه قطرة البول ؟ هو یعلم أنّ هناک قطرة بول سقطت فی أحد الأناءین، للاشتباه حصل له علم إجمالی بنجاسة أحد الأناءین، هنا أیضاً المعلوم بالعلم الإجمالی له مطابق فی الخارج، له ارتباط بواقع معیّن موجود فی الخارج؛ ولذا أیضاً قلنا بأنّه یصح له أن یقول هذا هو معلومی بالإجمال عندما ینکشف الحال ویتبیّن أنّ قطرة البول سقطت فی الأناء الأیسر، فیقول أنّ هذا هو الذی کنت أعلم به إجمالاً. هذا القول إنّما یصح إذا کان للمعلوم بالعلم الإجمالی ارتباط بالخارج، بواقع معیّن خارجی، فی هذه الموارد یمکن أن نلتزم بما تقدّم بأن نقول بأنّ العلم الإجمالی فی هذه الموارد یتعلّق بالواقع، یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً، لکنّه مردد عند المکلّف، یصح هذا الکلام فیه. وأمّا إذا فرضنا العلم الإجمالی معلومه لیس له ارتباط بالخارج ولیس له مطابق فی الخارج إطلاقاً، من قبیل یُمثل لذلک بما إذا علمنا بکذب أحد الخبرین، هناک شیء معیّن، خبر یدل علی حرمته وخبر یدل علی إباحته، خبر یقول لا بأس ببیع العذرة وخبر آخر یقول ثمن العذرة سحت، هنا نحن نعلم إجمالاً بکذب أحد الخبرین بلا إشکال لاستحالة اجتماع الضدّین، یستحیل أن تجتمع الإباحة والحرمة علی شیءٍ واحد، لاستحالة اجتماع الضدین یحصل لنا العلم إجمالاً بکذب أحد الخبرین أنّ أحد الخبرین یکون کاذباً، لا واقعیة له، المعلوم بهذا العلم الإجمالی لیس له مطابق فی الخارج ولیس له ارتباط بواقع معیّن فی الخارج، وإنّما نسبته إلی کلٍ منهما نسبة واحدة؛ ولذا لا یصح لهذا المکلّف فیما لو فرضنا بعد ذلک أنّه انکشف له أنّ الخبر الکاذب هو الخبر الدال علی الحرمة مثلاً، لا یستطیع أن یقول أنّ هذا هو معلومی بالإجمال؛ لأنّ معلومه بالإجمال لیس له مطابق فی الخارج حتّی یکون تعلّق العلم التفصیلی به کاشفاً عنه کما هو الحال فی الأمثلة السابقة، الأمثلة السابقة کان العلم التفصیلی إذا تعلّق به یکون کاشفاً عن المعلوم بالإجمال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال له مطابق فی الخارج یرتبط بواقع معیّن خارجی، فعندما یتعلّق العلم التفصیلی به یصح أن نقول أنّ العلم التفصیلی کشف عن ذلک المعلوم بالإجمال وهو الذی یصحح للعالم أن یقول بأنّ هذا هو معلومی بالإجمال، کیف عرف أنّ هذا هو معلومه بالإجمال ؟ لأنّ العلم التفصیلی هو الکاشف عن ذلک، لکن فی المثال الأخیر لا یصح له ذلک؛ لأنّ معلومه بالإجمال هو اساساً لا یرتبط بواقع معیّن فی الخارج، معلومه بالإجمال هو کذب أحد الخبرین لا أکثر من ذلک، من دون أیّ ارتباط بواقعٍ خارجی معیّن، وإنّما هو یعلم بکذب أحد الخبرین، وعلمه إجمالاً بکذب أحد الخبرین ناشئ من استحالة اجتماع الضدّین ولیس أکثر من هذا، وهذا نسبته إلی کلٍ من الخبرین نسبة واحدة وهذا یعنی أنّ أحد الخبرین هو معلوم لدی هذا الشخص بأنّه کاذب، فیکون فی هذه الحالة متعلّق العلم لیس هو الواقع، متعلّق العلم هو عبارة عن هذا الجامع، هو عنوان(أحد الخبرین) ولیس أکثر من هذا؛ ولذا فی هذه الموارد یأتی هذا الإشکال، فیقال: أنّ الکلام السابق لا یصح فی هذه الموارد؛ لأنّه فی هذه الموارد لا یصح لنا أن نقول بأنّ العلم الإجمالی تعلّق بالواقع، تعلّق بالفرد المعیّن واقعاً بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً، کلا العلم الإجمالی فی هذه الموارد لم یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً؛ لأنّ المعلوم بالعلم الإجمالی هذا لیس له ارتباط بالواقع، فلا معنی لأنّ نقول أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع، یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن، لیس هکذا، الإشکال یقول الکلام السابق لا یمکن إسرائه إلی أمثال هذه الموارد، فلا یمکن أن نلتزم بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع وبالفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً، إذن، لابدّ أن نلتزم فی هذه الموارد بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، یعنی یتعلّق بعنوان(أحدهما)، فیُلتزم فی هذه الموارد بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بعنوان(أحدهما) لا بالواقع، ولا بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً، هذا الإشکال الذی یورد علی ما تقدّم بأنّ هذا الذی تقدّم لا یجری فی جمیع الموارد، یصح فی بعض الموارد، موارد العلم الإجمالی ولا یصح فی موارد أخری، ولیس مهماً الواقع فی الخارج من موارد العلم الإجمالی أیّهما أکثر، فلیکن تلک الموارد هی الأکثر وقوعاً، لکن هذا لا ینافی وقوع علم إجمالی من هذا القبیل ینشأ من استحالة اجتماع الضدین واستحالة اجتماع النقیضین وأمثال ذلک، ینشأ علم إجمالی من هذا القبیل ولا یمکن تطبیق تلک الفکرة المتقدّمة علی هذه الموارد؛ فحینئذٍ فی مقام الجواب عن ذلک نحن بین أمرین: إمّا أن نلتزم فی هذه الموارد بالخصوص بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق فیها بالجامع، لکنّ المقصود بالجامع لیس هو ما قد یُفهم من الجامع عندما یُطرح، لیس المقصود به فی محل الکلام هو الجامع الذاتی الذی هو جزء تحلیلی من حقیقة کل فردٍ من هذه الأفراد، وإنّما هو جامع انتزاعی یُنتزَع من هذین الفردین، أو الطرفین، ولیس جامعاً حقیقیاً ذاتیاً، وإنّما هو جامع انتزاعی وهو عنوان(أحد الخبرین) ولا إشکال فی أنّ هذا العنوان ینطبق علی کل واحدٍ من الخبرین، ینطبق علی هذا الخبر وینطبق علی هذا الخبر ویکون العلم متعلّقاً بهذا الجامع الانتزاعی لا الجامع الحقیقی، هذا الجامع الانتزاعی یتعلّق به العلم الإجمالی فی هذه الموارد؛ وحینئذٍ یصح أن یقال أنّ العلم الإجمالی فی هذه الموارد لا یتعلّق بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن ولا یتعلّق بالواقع، وإنّما یتعلّق بالجامع الانتزاعی الذی هو عبارة عن عنوان أحد الفردین. هل یمکن الالتزام بهذا بأن نفصّل بین موارد العلم الإجمالی ؟ فنلتزم فی تلک الموارد بتعلّقه بالواقع وفی هذه الموارد نلتزم بتعلّقه بالجامع.

ص: 565

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کلامنا فعلاً فی حقیقة العلم الإجمالی، والمقصود هو العلم الإجمالی أینما تحقق، سواءً کان داخلاً فی محل الکلام، او لیس داخلاً فی محل الکلام، أصلاً حقیقة العلم الإجمالی ما هی ؟ صحیح بعض الأمثلة التی ذکرناها سابقاً لا علاقة له بمحل البحث، یعنی الشک فی المکلّف به الذی یُفرض فیه العلم بالتکلیف والشکّ فی المکلّف به، الذی هو محل البحث، لکن نحن فی المقام الأوّل نتکلّم عن حقیقة العلم الإجمالی سواء کان متحققاً فی محل البحث والکلام أو کان متحققاً فی غیره، قد لا یکون لبعض الأمثلة المتقدّمة علاقة بمحل البحث، لکن نحن نتکلّم عنها؛ لأننا نتکلّم عن حقیقة العلم الإجمالی، نرید أن نفهم ما هو العلم الإجمالی أینما تحقق، وفی أیّ موردٍ تحققّ، نفترض أنّه فی مثال ما إذا علم إجمالاً بکذب أحد الخبرین من جهة استحالة اجتماع الضدین، أو استحالة اجتماع النقیضین، قد لا یکون لهذا المثال علاقة بمحل البحث، لا علاقة له بالشکّ فی المکلّف به، وقد لا تکون له علاقة بالتکلیف أصلاً ------------ مثلاً ----------- خبر یقول:(الأرض کرویة)، وخبر آخر یقول(الأرض مسطّحة)، هنا أیضاً نعلم إجمالاً بکذب أحد الخبرین؛ لاستحالة اجتماع الضدین، وهذا المثال لا علاقة له بمحل البحث، لکنّه لیس إشکالاً أنّه لماذا نتکلّم ---------- کما ذکر بعض الأخوة ----------- عن هذه الموارد وهی خارجة عن محل کلامنا، حتّی مثال الإنسان فی المسجد قد لا یکون له دخل بمحل الکلام، قد لا یتعلّق به تکلیف، وهو لیس علماً إجمالیاً بالتکلیف؛ لأننا فی المقام الأوّل کما قلنا نرید أن نبحث عن حقیقة العلم الإجمالی، أنّ العلم الإجمالی هل یتعلّق بالجامع، أو یتعلّق بالواقع، أو بالفرد المردد، أو أنّه یتعلّق بشیءٍ آخر ؟ العلم الإجمالی بما هو علم إجمالی أینما تحقق وفی أیّ موردٍ تحقق نتکلّم عنه، هل نستطیع أن نفسّر العلم الإجمالی بتفسیرٍ مقبولٍ فی جمیع موارد تحققه ؟ هذا ما أردنا التنبیه علیه.

ص: 566

ذکرنا فی الدرس السابق بأنّ القول بأنّ متعلّق العلم الإجمالی هو الفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً یمکن الالتزام به فی معظم موارد العلم الإجمالی، لکن هناک بعض الموارد التی لا تقبل هذا الکلام فیه وهی الموارد التی یکون السبب فی حصول العلم الإجمالی علی نسبةٍ واحدة بلحاظ الطرفین، أو قل بالعبارة المتقدّمة أنّ المعلوم بالإجمال لیس له تعیّن فی الواقع، فی الأمثلة المتقدّمة کان المعلوم بالإجمال له تعیّن فی الواقع فی مثال المسجد وفی مثال الإناءین اللذین نعلم بسقوط قطرة بولٍ فی أحدهما، ما نعلمه بالإجمال له تعیّن فی الواقع؛ ولذا قلنا أنّه من المعقول جدّاً أن یتعلّق به العلم التفصیلی، فیکشف عن المعلوم بالإجمال؛ لأنّ له تعیّن فی الواقع یقبل تعلّق العلم التفصیلی به ویکون العلم التفصیلی کاشفاً عنه؛ ولذا یصح له أن یقول فیما لو أنکشف الواقع أنّ هذا معلومی بالإجمال، أمّا فی الموارد التی لیس للمعلوم تعیّن فی الواقع کما فی هذا مثال الخبرین الذیَن نعلم بکذب أحدهما، هنا منشأ العلم الإجمالی نسبته متساویة إلی کلٍ من الخبرین، المعلوم بالإجمال لیس له تعیّن واقعی، المعلوم بالإجمال هو أحد الخبرین، لیس له تعیّن فی الواقع بحیث أنّ العلم التفصیلی یتعلّق به ویکشف عنه، هذا هو الذی قلنا بأنّه لا یمکن أن نطبّق علیه ما ذکرناه سابقاً، هنا لا یمکن أن نقول بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالفرد بما له من الحدّ الشخصی المعیّن، لا یوجد تعیّن فی الواقع للمعلوم بالإجمال؛ ولذا هنا یتعیّن أن نلتزم بشیءٍ آخر فیه، أن نفسّر العلم الإجمالی فی هذه الموارد بتفسیر آخر، بأن نقول أنّ العلم الإجمالی هنا یتعلّق بالجامع، أن یتعلّق العلم الإجمالی فی هذه الموارد بعنوان(أحد الخبرین) هذا هو المعلوم بالإجمال، أحد الخبرین کاذب، ما أعلمه هو کذب أحد الخبرین لا أنّ ما أعلمه هو الفرد بحدّه الشخصی المعیّن فی الواقع، وإنّما ما أعلمه هو أحد الخبرین لا أکثر من ذلک ولا نتعدّی من ذلک إلی غیره، هذا هو الذی نعلمه، ویقف العلم الإجمالی علی هذا الجامع. هذا لابدّ أن نقوله فی مثل هذه الموارد. هل هناک مانع من أن یُلتزم بذلک فی هذه الموارد وفی نفس الوقت یُلتزم بما تقدّم فی ما تقدّم من الموارد، فی ما تقدّم من الموارد نلتزم بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع، أی بالفرد بحدّه الشخص المعیّن واقعاً، بینما فی هذه الموارد الأخیرة نلتزم بالجامع، والمقصود بالجامع فی المقام هو الجامع الانتزاعی العرضی لا الذاتی الذی یُشکّل جزءاً تحلیلیاً من الفرد، الجامع الذاتی هو الجامع الذی یُنتزَع من الأفراد بعد إلغاء ما به الامتیاز، بعد إلغاء ما به الامتیاز فی الأفراد وطرحها تبقی جهة مشترکة بین کل الأفراد، هذه الجهة المشترکة بین الأفراد التی تشکّل جزءاً من حقیقة کل فردٍ، هذا یعبّر عنه بالجامع الذاتی، لیس المقصود بالجامع فی المقام هو الجامع الذاتی، وإنّما المقصود به هو الجامع الانتزاعی العرضی الذی یُنتزع من الأفراد بما هی أفراد، یُنتزع من هذا الفرد ومن هذا الفرد بما هو فرد، یعنی بما هو متّصف بخصوصیات خاصّة، بما هو مشتمل علی شیءٍ یشترک به مع غیره وبما هو مشتمل علی ما به الامتیاز، هذا الفرد یُنتزع منه ومن الفرد الآخر بما هو فرد عنوان انتزاعی عرضی الذی هو لیس عنواناً ذاتیاً؛ ولذا العنوان الانتزاعی الذی نتکلّم عنه لا یُشکل جزءاً من حقیقة الفرد، وإنّما هو عنوان ذهنی، ذهن الإنسان له قابلیة أن ینتزع عنواناً من هذا القبیل ویعتبره مشیراً إلی هذا الفرد، وهذا الفرد، وهذا الفرد بما هو فرد، یعنی بالخصوصیات التی یتمیّز بها عن غیره، فهو یشیر إلی هذا الفرد بما هو فرد وذاک الفرد بما هو فرد ...... وهکذا. المقصود بالجامع الانتزاعی فی المقام بعنوان أحدهما هو هذا ولیس هو الجامع الذاتی، هل هناک ضیر فی أن یُلتزم بهذا فی هذه الموارد وفی نفس الوقت یُلتزم بما تقدّم فی الموارد الأخری التی هی أکثر وأغلب من هذه الموارد ؟ یبدو أنّه لا ضیر فی ذلک، یعنی یمکن أن یُلتزم بهذا، هذا إشکال صحیح ومسجّل، بمعنی أنّ ما تقدّم لا یمکن الالتزام به فی جمیع موارد العلم الإجمالی، لکن من الممکن أن نلتزم فی تلک الموارد التی لا یمکن أن نلتزم بها فی ذاک بما تقدّم، أن نلتزم به بأن العلم الإجمالی یتعلّق بهذا الجامع الانتزاعی العرضی الذی هو عبارة عن عنوان أحدهما ویقف العلم الإجمالی علی هذا العنوان ولا یتعدّی إلی الفرد بخصوصیاته الخاصّة، بمعنی أنّ المعلوم بالإجمال هو عبارة عن أحد الخبرین، هذا هو متعلّق العلم ولیس متعلّق العلم الإجمالی ولا یتعدّی إلی الفرد، هل هناک ضیر فی الالتزام بذلک ؟ یبدو أنّه لا ضیر ولا مانع، یعنی إذا منعنا من أن نلتزم بما تقدّم فی هذه الموارد نلتزم بأنّ العلم الإجمالی هنا یتعلّق بعنوان(أحد الأمرین) وإنّما لا نلتزم بهذا فی تلک الموارد باعتبار أنّه قد تقدّم فی تلک الموارد قلنا أنّه بحسب التحلیل یبدو أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع المعیّن واقعاً، بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن فی الواقع، العلم یتعلّق به، غایة الأمر أنّ هناک تردداً عند نفس العالم، هناک تشویش وغموض عند العالم نفسه، وإلاّ هو یتعلّق بالواقع، علمه تعلّق بالشخص الذی دخل المسجد بحدّه الشخصی المعیّن، هذا هو الذی علم به، وإن کان هذا الواقع الذی تعلّق به العلم مردد بین فردین، وهکذا فی مثال النجاسة، هو علم بسقوط قطرة بول فی أحد الإناءین، ما تعلّق به العلم هو هذا الواقع، الفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً، وإن کان مردداً بحسب نظره بین الفردین، یبدو أنّه لا مانع من أن نلتزم بذلک وفاقاً لبعض المحققین.

ص: 567

حینئذٍ قد یقال: أنّ هذا یرد علیه الإشکال السابق الذی أورد علی الرأی الثانی المتقدّم الذی یقول أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع. هذا الإشکال عندما أورد علی الرأی الثانی المتقدّم کان الجواب عنه بأنّ الرأی الثانی المتقدّم کان هناک إشکال یتوجّه علیه، وهذا الإشکال هو أنّه یلزم من تعلّق العلم الإجمالی بالجامع محذور، وهذا المحذور هو أنّ الجامع لا وجود له إلاّ فی ضمن خصوصیة الفرد، الجامع لا یوجد بصورة مستقلّة عن الأفراد، وإنّما هو یوجد فی ضمن خصوصیة الفرد فی الخارج وحتّی فی الذهن، الجامع لا یوجد إلاّ فی ضمن خصوصیة الفرد؛ لأنّه لا یوجد بشکلٍ مستقلٍ عن الأفراد، فکیف تقولون أنّ المعلوم بالإجمال هو الجامع، الجامع حتّی فی الصورة العلمیة الحاصلة بالعلم الإجمالی هو لا وجود له إلاّ فی ضمن خصوصیة الفرد، فکیف یُفرض أنّه فی الصورة العلمیة الحاصلة فی العلم الإجمالی هناک جامع فقط من دون افتراض وجوده فی ضمن خصوصیة الفرد، هذا غیر معقول.

إذن: لابدّ من افتراض تعدّی العلم، ما هو موجود فی الصورة العلمیة من الجامع إلی ما هو أزید من الجامع. هذا کان الإشکال الذی أورد علی الرأی الثانی.

قد یقال: هذا الإشکال بنفسه یرد فی محل الکلام، یعنی هذا العلم الإجمالی فی الموارد التی لا نلتزم فیها بتعلّقه بالفرد بحدّه الشخصی المعیّن واقعاً والتی التزمنا فیها بأنّه یتعلّق بالجامع یرد علیها الإشکال السابق، فیقال العلم الإجمالی فی هذه الموارد یرد علیه الإشکال المتقدّم، بأنّه کیف یُعقل تعلّق العلم بالجامع فقط؛ لأنّ الجامع لا وجود له لا خارجاً ولا ذهناً إلاّ فی ضمن خصوصیة الفرد، فکیف تقولون فی العلم الإجمالی فی هذه الموارد یتعلّق بالجامع بعنوان أحدهما مع أنّ هذا الجامع تنطبق علیه القاعدة السابقة وهی أنّه لا یوجد حتّی فی الذهن إلاّ فی ضمن الفرد، ولا یُعقل أن یوجد بمعزل عن الأفراد حتّی ذهناً، حتّی فی الصورة العلمیة لا یُعقل وجود الجامع من دون افتراض تحققّه فی ضمن خصوصیة الفرد.

ص: 568

قد یقال: أنّ هذا الإشکال یرد حینئذٍ.

الجواب: هناک فرق بین هذا الجامع الذی یُدّعی فی هذه الموارد وبین الجامع الذی ادّعی فی الرأی الثانی، الجامع الذی ادُعی فی الرأی الثانی ظاهراً المقصود به کان هو عبارة عن جامع الإنسان، عندما یعلم بوجود إنسان فی المسجد یدور أمره بین زید وعمرو، طبیعی الإنسان، هذا المقصود بالجامع هناک ظاهراً وفُسّر کلامهم بهذا، ولیس مقصودهم بالجامع فی هذا الرأی الثانی هو أحد الفردین، وإنّما المقصود بالجامع هو طبیعی الإنسان فی مثال المسجد، وطبیعی النجاسة فی مثال الأناءین، قالوا أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بطبیعی الإنسان وطبیعی النجاسة، هذا هو المراد من الجامع المذکور فی الرأی الثانی، هذا الجامع بهذا التفسیر ولیس بتفسیر بعنوان أحدهما بمعنی أعلم بأحد الشخصین، وأعلم بنجاسة أحد الأناءین، وإنّما بمعنی أعلم بطبیعی النجاسة، وأعلم بطبیعی وجود الإنسان فی المسجد، هذا هو الذی یتعلّق به العلم الإجمالی، هذا الجامع هو غیر الجامع الذی نذکره فی هذه الموارد، هذا الجامع یشکّل جزءاً من حقیقة الفرد، هو جامع انتزاعی ذاتی ینتزع من الأفراد کما قلنا بعد تجریدها عن ما به الامتیاز، فتبقی حقیقة مشترکة بین جمیع الأفراد یُعبّر عنها بهذا الجامع، هذا جامع انتزاعی ذاتی وهو یشکّل جزءاً تحلیلیاً من الفرد، هذا الجامع هو المقصود فی الرأی الثانی، هذا الجامع هو الذی یرد علیه الإشکال، بأنّ هذا الجامع یستحیل أن یوجد حتّی فی الذهن وحتّی فی الصورة العلمیة مجرّداً عن خصوصیة الفرد؛ لأنّه هو انتُزع من الأفراد بعد تجریدها عن ما به الامتیاز، هو جزء تحلیلی من الفرد، فلا یُعقل تحققّه من دون الأفراد ومن دون خصوصیة الفرد، هو یوجد فی الفرد ولا یُعقل افتراض وجوده بشکلٍ متمیّزٍ عن أفراده حتّی فی الذهن، فیرد علیه هذا الإشکال السابق، عندما یُطرح الجامع بهذا الطرح.

ص: 569

وأمّا الجامع فی محل الکلام، فهو لیس هکذا، جامع انتزاعی عرضی لا یُشکّل حقیقة من کل فردٍ فردٍ، وإنّما هو جامع انتزاعی یؤتی به للإشارة إلی هذا الفرد بخصوصیاته التی یتمیّز بها عن باقی الأفراد، ویُشار به ایضاً إلی الفرد الآخر کذلک، هذا الجامع الانتزاعی لا مانع من أن نفترض أنّه یوجد فی الصورة العلمیة لا فی ضمن خصوصیة الفرد، لا مشکلة فی هذا؛ لأنّه لم یُنتزَع من الأفراد بعد تجریدها من الخصوصیات المتمیزة عن ما به الامتیاز، وإنّما هو یُنتزع من الأفراد بما هی أفراد، مثل هذا الجامع الانتزاعی لا مانع من أن نقول أنّه یُعقل وجوده لا فی ضمن خصوصیة الفرد، أعلم بعنوان أحد الخبرین، أعلم بکذب أحد الخبرین، الموجود فی الذهن وفی الصورة العلمیة هو عنوان أحد الخبرین لا الموجود فی ضمن خصوصیة الفرد، أفرّق بین الجامع الموجود فی ضمن خصوصیة الفرد وبین الجامع الموجود لا فی ضمن خصوصیة الفرد، الجامع الذی لابدّ أن یوجد فی ضمن خصوصیة الفرد هو الجامع الانتزاعی الذاتی ---------- إذا کان هو المقصود بالرأی الثانی ---------- أمّا الجامع الانتزاعی العرضی فیمکن أن یوجد فی الصورة الذهنیة ویتعلّق به العلم لا فی ضمن خصوصیة الفرد، وإنّما هو أحد الأمرین فقط ما أعلمه هو أحد الأمرین لا أکثر من ذلک؛ ولذا لا یتوجّه علیه الإشکال الذی تقدّم علی الوجه الثانی؛ لأنّ هذا جامع من نوعٍ خاصٍّ یختلف عن ذاک الجامع ----------- أؤکد بناءً علی أنّ المقصود بالجامع فی الرأی الثانی هو الجامع الانتزاعی الذاتی ----------- فیکون هناک فرق واضح بین الجامع فی محل الکلام وبین الجامع الموجود هناک. هذا ما یمکن أن یقال فی المقام الأوّل.

ص: 570

المقام الثانی: هو فی شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالی، یعنی أنّ أدلّة الأصول هل فیها قابلیة الشمول لأطراف العلم الإجمالی، أو هی لا تشمل أطراف العلم الإجمالی ؟ وقلنا أنّ البحث فی المقام الثالث مترتّب علی القول بالشمول فی هذا المقام؛ لأنّ البحث فی المقام الثالث یترکّز علی أنّ العلم الإجمالی هل یمنع من جریان الأصول فی جمیع الأطراف، أوفی بعض الأطراف، أو لا ؟ ولابدّ أن نفترض فی مرحلةٍ سابقةٍ علی هذا المنع أنّ أدلّة الأصول شاملة لأطراف العلم الإجمالی حتّی نتکلّم فی أنّ العلم الإجمالی یمنع، أو لا یمنع ؟ وأمّا إذا فرضنا اختصاص أدلّة الأصول، من البدایة أساساً هی مختصّة بغیر موارد العلم الإجمالی، أی تختص بالشبهات البدویة؛ فحینئذٍ لا معنی للبحث عن أنّ العلم الإجمالی یمنع، أو لا یمنع؛ لأنّها أساساً هی غیر شاملة لأطراف العلم الإجمالی.

هذا البحث عن الشمول وعدمه لم یقع فیه نزاع أو کلام أو أقوال بلحاظ الأصول العملیة العقلیة، کأنّه من المُسلّم عندهم أنّه لا إشکال فی أنّ الأصول العملیة العقلیة شاملة لأطراف العلم الإجمالی، بمعنی أنّ موضوع الأصل العملی العقلی الذی هو عبارة عن عدم البیان محفوظ فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، وهذا لا یمکن إنکاره لأنّه لا إشکال فی أنّه لا یوجد بیان علی هذا الطرف ولا بیان علی ذلک الطرف.

وبعبارةٍ أخری: أنّ الشکّ موجود فی کلّ طرفٍ من هذه الأطراف، المکلّف یشکّ فی أنّ هذا الأناء نجس، أو لیس بنجس، یشکّ فی أنّ صلاة الظهر واجبة أو لیست واجبة...وهکذا. فإذن: موضوع الأصل العملی العقلی الذی هو عدم البیان لم یستشکلوا فی انحفاظه فی کلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، ومن الواضح أنّ الموضوع إذا کان محفوظاً فی أطراف العلم الإجمالی؛ فحینئذٍ یکون الأصل العقلی شاملاً لکل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی فی حدّ نفسه، بقطع النظر عن المنجّزیة التی سیأتی الکلام عنها، وأنّ العلم الإجمالی یمنع من ذلک، أو لا ؟ کلا، فی حدّ نفسه هو مشمول لقاعدة قبح العقاب بلا بیان لانحفاظ هذا الموضوع فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، وإنّما وقع الکلام بینهم فی أدلّة الأصول العملیة الترخیصیة الشرعیة کالاستصحاب والبراءة وأمثالهما، هل تشمل أطراف العلم الإجمالی، أو أنها أساساً لا تشمل أطراف العلم الإجمالی ؟ دلیل الاستصحاب هل یشمل أطراف العلم الإجمالی، أو یختصّ بالشبهات البدویة فقط ؟ إذا علمت بطهارة شیءٍ ثمّ شککت بالشک البدوی فی نجاسته بالشک غیر المقرون بالعلم الإجمالی، هذا یجری فیه الاستصحاب ویأمر الاستصحاب بالبناء علی الحالة السابقة. أمّا إذا علمت بطهارة الثوب ثمّ علمت إجمالاً بعروض النجاسة، إمّا علیه أو علی الطرف الآخر، إذا علمت بطهارة أناءین سابقاً ثمّ علمت إجمالاً بنجاسة أحدهما، هذا الشک فی هذا الطرف اقترن بعلمٍ إجمالیٍ، فهل دلیل الأصل، استصحاب أو براءة، یشمل هذا الطرف وذاک الطرف، أو لا یشمل أطراف العلم الإجمالی ؟ هذا وقع فیه بحث، وفیه آراء:

ص: 571

الرأی الأوّل: أنّه یشمل أطراف العلم الإجمالی کما یشمل الشبهات البدویة، هو أساساً قابل لأن یکون شاملاً لکل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی ولا مانع من ذلک.

الرأی الثانی: أنّه لا یشمل أطراف العلم الإجمالی.

الرأی الثالث: التفصیل بین الأصول العملیة الترخیصیة التنزیلیة کالاستصحاب، فهی لا تشمل أطراف العلم الإجمالی، وبین الأصول العملیة غیر التنزیلیة کالبراءة، فهی تشمل أطراف العلم الإجمالی. الذی یبدو أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) یختار الرأی الثانی، ویقول بعدم شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالی، وذلک باعتبار أنّه یری أنّ شمول أدلّة الأصول کالاستصحاب أو البراءة ----------- وإن کان هو تکلّم عن الاستصحاب وأشار إلیه فی البراءة أیضاً ------------ شمول دلیل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالی فیه مشکلة، وهذه المشکلة هی أنّه یحصل تهافت بین صدر الروایة وبین ذیلها، ونتیجةً لهذا التهافت نلتزم بعدم شمول دلیل الأصل لأطراف العلم الإجمالی.

توضیح المطلب: دلیل الاستصحاب فیه صدر وذیل، حتّی بعض أدلّة البراءة، صدر دلیل الاستصحاب یقول لا تنقض الیقین بالشک، لو بقینا نحن وهذا الصدر، فأنّ مقتضی إطلاقه هو شموله لأطراف العلم الإجمالی، فهو یأمرنی بأن لا أنقض الیقین بالشک، یعنی بعبارةٍ أخری یأمرنی بالبناء علی الحالة السابقة، فإذا کانت الحالة السابقة لهذا الطرف بالخصوص هی الطهارة کما هو المفروض؛ لأننی کنت أعلم سابقاً بطهارة الأناءین، والحالة السابقة للطرف الآخر بالخصوص هی الطهارة، وأنا بالفعل أشک فی طهارته ونجاسته، صدر الروایة یقول لا تنقض الیقین بالشک، یعنی أبنِ علی الطهارة السابقة المتیقنة سابقاً، ونفس الکلام یُطبّق علی الطرف الثانی، فهو أیضاً کانت حالته السابقة هی الطهارة وبعد ذلک حصل شک فی طهارته ونجاسته، صدر الروایة یقول (لا تنقض الیقین بالشک)، ینهی عن نقض الیقین السابق بالشک الذی معناه فی الحقیقة هو الأمر بالبقاء علی الیقین السابق. إذن: صدر الروایة یأمر بالبناء علی الحالة السابقة فی کلٍ من الطرفین. هذا صدر الروایة.

ص: 572

أمّا ذیل الروایة فیقول، (ولکن تنقضه بیقین آخر)، فهو یقول إذا حصل عندک یقین بعد الیقین السابق فارفع یدک عن الیقین السابق، وأنقض الیقین السابق، هذا الشخص یقول أنا عندی یقین فعلاً بنجاسة أحد الأناءین، وذیل الروایة یقول: انقض یقینک السابق بهذا الیقین الذی حصل لک بنجاسة أحد الأناءین. ومن هنا یحصل تهافت بین شمول إطلاق الصدر لکلٍ من الطرفین الذی یقتضی لزوم البناء علی الحالة السابقة فی کلٍ منهما الذی یقتضی البناء علی طهارة کلا الأناءین، وبین إطلاق الذیل الذی یقتضی أنّه لابدّ من رفع الید عن الیقین السابق بالطهارة بالیقین اللاحق الذی ینهی عن البناء علی الیقین السابق فی کلٍ من الطرفین ولابدّ من رفع الید عن الیقین السابق فی أحد الطرفین؛ لأنّ المکلّف علم بنجاسة أحد الطرفین، وحصل له یقین بنجاسة أحد الأناءین، فیقول له: أنقض یقینک السابق بهذا الیقین، فإذن: لا یجوز البناء علی طهارة کلا الأناءین؛ بل لابدّ من رفع الید عن الیقین السابق فی أحد الأناءین، وهذا لا یجتمع مع إطلاق الصدر الذی یقتضی لزوم البناء علی الیقین السابق فی کلٍ من الأناءین، فیلزم من شمول دلیل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالی هذا التهافت فی نفس الدلیل، وهذا یمنعنا من التمسّک بالدلیل فی أطراف العلم الإجمالی، فنلتزم بعدم شمول دلیل الأصل لأطراف العلم الإجمالی. وظاهر کلامه أنّه لا یُفصّل بین دلیلٍ ودلیل.

هناک جملة من الاعتراضات علی هذا الرأی، ومن جملة الاعتراضات:

الاعتراض الأوّل: أنّ هذه الروایات أو الدلیل الذی فیه صدر وذیل یُبتلی نتیجة ما ذُکر بالإجمال، فلا یجوز التمسّک به فی أطراف العلم الإجمالی، لکن من أدلّة الاستصحاب ما لیس فیه هذا الذیل، وإنّما فقط فی(لا تنقض الیقین بالشک)، فأیّ مانعٍ من أن نلتزم بإطلاق هذا الدلیل الذی لا یوجد فیه هذا الذیل لإثبات شموله لأطراف العلم الإجمالی. هذا إشکال، وهناک إشکالات أخری نتعرّض لها إن شاء الله تعالی.

ص: 573

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کان الکلام فی ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من دعوی أنّ دلیل الاستصحاب؛ بل حتّی دلیل البراءة لا یشمل أطراف العلم الإجمالی للتهافت بالمعنی الذی ذکرناه. السید الخوئی(قدّس سرّه) وغیره أشکلوا علیه بإشکالین، الإشکال الأوّل تقدّم ذکره، الإشکال الثانی هو أنّ العلم والیقین فی ذیل الروایة یُراد به الیقین التفصیلی، (ولکن ینقضه بیقین آخر) المراد به هو الیقین التفصیلی(حتّی یعلم أنّه حرام) فی روایات الحلیّة یُراد به العلم التفصیلی، والوجه فی ذلک هو أنّ الروایة تعتبر الیقین المتأخّر ناقضاً للیقین السابق، وکونه ناقضاً یتوقف علی أن یتعلّق الیقین الناقض المتأخّر بنفس ما تعلّق به الیقین السابق، وهذا یقتضی أن یکون الیقین الناقض متعلّقاً بنفس الیقین السابق حتّی یکون ناقضاً له. وأمّا إذا فُرض أنّ الیقین الناقض متعلّق بشیءٍ آخر غیر ما تعلّق به الیقین السابق فلا یکون حینئذٍ ناقضاً له، الناقضیة تتوقّف علی تعلّقه بنفس ما تعلق به الیقین السابق، وهذا المعنی یختصّ بالیقین التفصیلی، یعنی عندما أعلم بطهارة ماء، الذی ینقض هذا الیقین بالطهارة هو الیقین بنجاسته، وأمّا إذا لم یوجد عندی علم به ویقین بنجاسته، وإن کان عندی علم بنجاسة أحد الإناءین، فهذا لا یکون ناقضاً للیقین السابق؛ ولذا یکون الیقین مختصّاً بالیقین التفصیلی ولا یشمل الیقین الإجمالی الذی هو محل الکلام.

وعلیه: بناءً علی هذا لا مانع من شمول صدر الروایة لموارد العلم الإجمالی؛ لأنّ ذیل الروایة لا یشمل موارد العلم الإجمالی؛ لأنّ ذیل الروایة الذی نشأ من شموله لموارد العلم الإجمالی التهافت، هذا لا یشمل موارد العلم الإجمالی؛ لأنّ المفروض أنّه یختصّ بالیقین التفصیلی ولا یشمل الیقین الإجمالی، إذن: لا معنی من شمول الأخبار لمحل الکلام. هذا الإیراد الثانی.

ص: 574

هذا المطلب الذی ذکره الشیخ(قدّس سرّه) الظاهر أنّه لا ینبغی التوقّف فی أنّ النقض یتوقّف علی افتراض تعلّق الیقین الناقض بما تعلّق به الیقین المنقوض حتّی یصدّق النقض، أمّا إذا فرضنا أنّ الیقین المتأخّر تعلّق بشیءٍ آخر، فأنّه لا یکون ناقضاً للیقین السابق، إنّما یکون ناقضاً له عندما یتعلّق بما تعلّق به الیقین السابق، هذا أمر لا ینبغی التوقّف عنده، وإنّما الکلام فی أنّ هذا النقض، أو ما یُستفاد من الروایة، هل هو تعلّق الیقین المتأخّر بنفس ما تعلّق به الیقین السابق بجمیع تفاصیله وجمیع شئونه، أو یکفی أن یتعلّق به ولو إجمالاً لا أن یتعلّق بما تعلّق به الیقین السابق علی غرار ما تعلّق به الیقین السابق، کیف أنّ الیقین السابق تعلّق بطهارة هذا الطرف بخصوصیاته وشئونه الخاصة، هل یتوقّف صدق النقض علی أن یتعلّق الیقین المتأخّر بما تعلّق به الیقین السابق علی غرار ما تعلّق به الیقین السابق ؟ أیضاً یتعلّق به بتمام خصوصیاته وشئونه، هل یتوقّف علی ذلک، أو لا یتوقّف علی ذلک ؟ المهم أن یتعلّق بما تعلّق به الیقین السابق، ولو کان تعلّقه به غیر تعلّق الیقین السابق به، الیقین السابق تعلّق به بتفاصیله، بحدوده، الیقین الناقض قد نفترض أنّه لا یتعلّق به بحدوده وتفاصیله، وإنّما یتعلّق به إجمالاً، ویشیر إلیه بعنوان إجمالی، هل یتوقّف النقض علی الأوّل، أو لا یتوقف علیه ؟ إذا قلنا أنّ النقض یتوقف علی الأوّل وأنّ الذی یظهر من الروایة هو لابدّ من تعلّقه بنفس ما تعلّق به الیقین السابق بکل تفاصیله وحدوده الخاصّة، هذا معناه أنّ الیقین فی ذیل الروایة یختص بالیقین التفصیلی، فالذی ینقض الیقین السابق هو فقط الیقین التفصیلی الذی یتعلّق بنفس ما تعلّق به الیقین السابق، أعلم بطهارة هذا الأناء، والذی ینقض هذا الیقین هو الیقین بنجاسة هذا الأناء، فالیقین فی الذیل سوف یختصّ بالیقین التفصیلی ولا یشمل محل الکلام؛ لأننا لا یقین لنا بنجاسة هذا الأناء ولا نجاسة هذا الأنا؛ فحینئذٍ لا یصدق الذیل فی محل الکلام، فیبقی الصدر شاملاً لکلا الطرفین وهذا معناه شمول دلیل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالی، خلافاً لما یقوله الشیخ(قدّس سرّه).

ص: 575

وأمّا إذا قلنا بالثانی، أنّ النقض لا یتوقف علی ذلک، یکفی فیه أن یتعلّق الیقین المتأخر بنفس ما تعلّق به الیقین السابق، لکنّه یتعلّق به إجمالاً؛ حینئذٍ یکون الذیل شاملاً لمحل الکلام ویقع تهافت کما یقول الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)؛ لأنّ صدر الروایة یقول(لا تنقض الیقین بالشک) هذا یقتضی أن لا أرفع یدی عن الحالة السابقة فی هذا الطرف؛ لأنّ فی هذا الطرف لا یوجد عندی إلاّ شک، عندی شک فی طهارته ونجاسته وأنا علی یقین سابقاً من طهارته فی المثال، وهکذا فی الطرف الآخر، فیکون کل منهما مشمولاً لصدر الروایة، بینما ذیل الروایة یشمله العلم الإجمالی؛ لأنّی أعلم بنجاسة أحدهما، أنا علی یقین إجمالی بنجاسة أحدهما، وهذا عنوان إجمالی یشیر إلی الطرف، فیقول یحصل تهافت، کیف یمکن الجمع بین لزوم البقاء علی الحالة السابقة فی کلا الطرفین ووجوب رفع الید عن الحالة السابقة فی أحد الطرفین، هذان أمران لا یمکن الجمع بینهما، فیکون شاملاً لموارد العلم الإجمالی، فیقع التهافت فی الدلیل؛ وحینئذٍ یسقط الدلیل عن الاعتبار، بمعنی أنّه لا یمکن أن نتمسّک به لإثبات جریانه فی محل الکلام، فیحصل التهافت، فإذن نکتة المطلب هی: أنّ النقض فی المقام هل یتوقف علی أن یتعلّق بنفس ما تعلّق به الیقین السابق، علی غرار ما تعلّق به الیقین السابق، أو أنّه لا یتوقف علی ذلک ؟

فی الحقیقة لابدّ أن نراجع کلمة النقض، ونستظهر أنّ النکتة التی لأجلها یکون الشیء ناقضاً؛ ولأجل عدمها لا یکون الشیء ناقضاً ما هی ؟ یعنی لماذا یکون هذا ناقضاً لذاک ؟ یکون ناقضا لذاک عندما تکون هناک منافاة بین الشیئین علی نحوٍ بحیث لا یمکن أن یجتمعا معاً، بحیث یکون التصدیق بهذا مستلزماً لعدم التصدیق بذاک، والعکس أیضاً صحیح، فیکون هذا رافعاً لذاک وناقضاً له؛ لأنّه لا یمکن الجمع بینهما، الیقین بطهارة هذا الماء والیقین بنجاسة هذا الأناء نفسه، لماذا یکون هذا المتأخّر ناقضاً، لا إشکال فی کونه ناقضاً هنا عندما یتعلّق بنفس ما تعلّق به الیقین السابق، یکون ناقضاً لأنّ هناک منافاة بینهما بین الیقینین، فلا یمکن تصدیقهما، کیف یمکن اجتماع یقین بالطهارة وبین یقین بالنجاسة، فیکون الیقین المتأخّر ناقضاً للیقین السابق، هذا المعنی بنفسه یمکن تصوّره فی موارد العلم الإجمالی لأنّه بالنتیجة فی موارد العلم الإجمالی المکلّف یعلم بنجاسة أحد الأناءین، هذا الیقین المتأخّر، الیقین بنجاسة أحد الأناءین کذلک لا یمکن أن یجتمع مع الیقین بطهارة کلا الأناءین مع الیقین السابق، لیس فقط الذی لا یمکن أن یجتمع مع طهارة هذا الأناء هو الیقین بنجاسة هذا الأناء، الیقین بطهارة هذا الأناء والیقین بطهارة ذاک الأناء، باعتبار أنّ الحالة السابقة لهما هی الطهارة، وصدر الروایة یأمر بالالتزام بالطهارة والبناء علیها، هذا لا یجتمع مع العلم بنجاسة أحدهما، فنحن إمّا أن نلتزم بأنّ الشارع عبّدنا بالبناء علی الیقین بطهارة کل من الأناءین، أو نقول أنّ الشارع عبّدنا بالبناء علی نجاسة أحدهما، أن نفترض أنّ الشارع یأمرنا بالبقاء علی الحالة السابقة فی کلا الطرفین وفی نفس الوقت یأمرنا برفع الید عن الحالة السابقة فی أحد الإناءین هذان لا یجتمعان، فلا مانع من أن یقال بأنّ الیقین بنجاسة أحد الأناءین یکون ناقضاً للیقین السابق، والشیخ الأنصاری أراد هذا المعنی، والتهافت الذی ذکره صوّره بهذا الشکل، بمعنی أنّ صدر الروایة یقتضی البناء علی هذا الطرف والبناء علی طهارة هذا الطرف؛ لأنّ صدر الروایة یقول(لا تنقض الیقین بالشک) وأنّا فی هذا الطرف لا یوجد عندی إلاّ شک، فأنا نُهیت عن نقض الیقین السابق بالشک، یعنی هناک أمر بالبناء علی الحالة السابقة، وأمر بالبناء علی الحالة السابقة فی الطرف الآخر. هذا مقتضی صدر الروایة، ذیل الروایة یقول إذا حصل لک یقین؛ حینئذٍ یکون هذا الیقین ناقضاً للیقین السابق(لا تنقض الیقین بالشک ولکن انقضه بیقینٍ آخر) الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) یقول: یلزم من شمول الیقین فی الذیل لمحل الکلام حصول التهافت؛ لأنّ الیقین الحاصل فی موارد العلم الإجمالی هو یقین بنجاسة أحد الأناءین، هذا الیقین بنجاسة احد الأناءین لا یجتمع مع الأمر بإبقاء الحالة السابق فی کلا الطرفین؛ لأنّ الشارع یقول لی انقض الیقین السابق بالیقین الحادث المتأخّر، یعنی أعمل بهذا الیقین المتأخّر، وهو یقین بنجاسة أحد الأناءین، فعدم إمکان الاجتماع موجود، والمنافاة موجودة، وهذا معنی قد یصحح أن یقال أنّ الیقین بنجاسة أحد الأناءین یکون ناقضاً للیقین السابق المفروض وجوده فی کلا الطرفین، فإذا صدق النقض؛ حینئذٍ یقع التهافت، فیکون الذیل شاملاً لمحل الکلام، فإذا شمله الصدر وقع التهافت بینهما، والشیخ(قدّس سرّه) یجعل هذا التهافت قرینة ودلیلاً علی عدم إمکان التمسّک بالاستصحاب فی موارد العلم الإجمالی.

ص: 576

أقول: یمکن تصحیح صدق النقض فی محل الکلام، وإن کان الیقین اللاحق لا یتعلّق بنفس متعلّق الیقین السابق علی غرار تعلّقه به وعلی نهج تعلّقه به، وإن کان لیس هکذا لکنّه یتعلّق به، لکن علی نحو الإجمال؛ لأنّه یشیر إلی أحد الفردین ویقیناً بنجاسة أحد الأناءین. بناءً علی هذا حینئذٍ یتم ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من الإشکال وهو أنّ الالتزام بشمول أدلّة الاستصحاب، أو أدلّة البراءة التی یوجد فیها الذیل، بعض أدلّة الحل(حتّی یعلم أنّه حرام) شمولها لمحل الکلام یلزم منه هذا التفاوت، وبالتالی یکون هذا موجباً للإجمال فی الدلیل، وبالتالی مانعاً من إمکان التمسّک بها فی محل الکلام. ویُضاف إلیه أنّ نفس کلمة الیقین الواردة فی الذیل موجودة فی محل الکلام؛ لأنّه یقول(ولکن تنقضه بیقین آخر) والیقین موجود فی محل الکلام وقلنا أنّه یمکن تصحیح صدق النقض علی العلم الإجمالی وعلی الیقین الإجمالی المتأخّر، فلا مانع من شمول الذیل لمحل الکلام، بمعنی أنّ المراد بالیقین فی الذیل هو الأعمّ من الیقین التفصیلی والیقین الإجمالی، المراد بالعلم فی روایات الإباحة الأعمّ من العلم التفصیلی والعلم الإجمالی، کلٌ منهما یکون ناقضاً للحالة السابقة؛ وحینئذٍ لا یجوز الأخذ بالحالة السابقة فی کلا الطرفین. هذا بالنسبة إلی ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه).

لکن یبقی الکلام فی أنّ هذا هل ینهی المسألة ؟ یعنی هل نلتزم بما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) من أنّ أدلّة الاستصحاب وأدلّة الإباحة التی فیها هذا الذیل غیر قابلة لأن تشمل موارد العلم الإجمالی، فتختص حینئذٍ بالشبهات البدویة، هل نلتزم بذلک، أو لا ؟ الظاهر أنّه لا نلتزم بذلک لما سیأتی إن شاء الله تعالی.

ص: 577

ذکر بعض المحققین بأنّ ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) وإن کان من الناحیة المتقدّمة لا بأس به، یعنی یمکن أن نلتزم بأنّ کلمة(النقض) لا تمنع من شمول دلیل الاستصحاب لموارد العلم الإجمالی، لکن الشمول لأطراف العلم الإجمالی لا یتوقّف علی هذا فقط، وإنّما شمول دلیل الاستصحاب لأطراف العلم الإجمالی یتوقّف علی قضیة أخری لابدّ من تنقیحها، وهذا القضیة الأخری هی أنّه حتّی تتمّ دعوی عدم الشمول الذی یدّعیه الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) لابدّ أن نفترض أنّ ذیل الروایة هو فی مقام بیان حکم شرعی تأسیسی(ولکن تنقضه بیقینٍ آخر) هنا هو یُبیّن حکماً تأسیسیاً وهو عبارة عن لزوم نقض الیقین السابق بیقین مثله، هذا حکم شرعی. دعوی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) التی هی عدم شمول ذیل الاستصحاب لمحل الکلام تتوقّف علی هذا الافتراض، یعنی عندما نفسّر الذیل بأنّه حکم شرعی تأسیسی صادر من قِبل الشارع؛ حینئذٍ یتم کلام الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)؛ لأنّه یقع التهافت بین صدر الروایة وبین ذیلها؛ لأنّه بالبیان السابق فی صدر الروایة الشارع یأمرنی بالبقاء علی الحالة السابقة فی کلا الطرفین، بینما ذیل الروایة یقول لابدّ من رفع الید عن الحالة السابقة فی أحد الطرفین، وهذان لا یمکن الجمع بینهما. أمّا إذا فرضنا أنّ ذیل الروایة لیس فی مقام بیان حکم شرعی تأسیسی، وإنّما فی مقام الإرشاد إلی ما یحکم به العقل من أنّ الیقین ینقضه الیقین، إذا فرضنا أنّ(ولکن ینقضه بیقینٍ آخر) لیس فی مقام التأسیس، یعنی یرید أن ینهی عن نقض الیقین بالیقین، وإنّما هو فی مقام الإرشاد إلی ما یستقل به العقل من أنّ الیقین السابق إذا طرأ علیه یقین آخر یکون ناقضاً له، إذا فرضنا ذلک وکانت الروایة فی مقام الإرشاد؛ حینئذٍ لا یجوز لنا أن نتمسّک بالدلیل إلاّ بعد الفراغ عن ما یحکم به العقل، إلاّ بعد أن نراجع العقل ونسأله: ما هو رأیک فی المقام ؟ هل یکون هذا الیقین فی باب العلم الإجمالی ناقضاً للیقین السابق، أو لا ؟ هل یمنع من إجراء دلیل الاستصحاب ؟ هل یمنع من إجراء صدر الروایة فی أطراف العلم الإجمالی، أو لا ؟ لأنّ صدر الروایة فیه قابلیة الشمول لطرفی العلم الإجمالی بحسب الفرض، وإنّما نرید أن نمنع من جریانه علی أساس ذیل الروایة، وإّنّما یتم هذا عندما یکون ذیل الروایة فی مقام تأسیس، هو حکم شرعی کصدر الروایة، والإمام(علیه السلام) فی مقام التأسیس؛ حینئذٍ یقع التهافت، لکننا لا یجوز لنا أن نتکلّم بهذا الکلام فیما إذا کان ذیل الروایة للإرشاد إلی ما یحکم به العقل، وإنّما افتراض عدم الشمول کما یقول الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) موقوف علی أن نراجع العقل لنری أنّه یرشد إلی ماذا ؟ الناقضیة بنظر العقل هل هی مختصة بالیقین التفصیلی، أو أنّها تشمل حتّی الیقین الإجمالی؟

ص: 578

بعبارة أخری: أنّ العقل هل یری مانعاً من شمول صدر الروایة لأطراف العلم الإجمالی، أو لا ؟ إذا کان لا یری مانعاً من شمولها له، فمعناه أنّه یرشد إلی أنّ الیقین الإجمالی لا ینقض الیقین السابق.

بعبارةٍ أخری: أنّ العلم الإجمالی حاله حال الشک البدوی، العلم الإجمالی بنظر العقل لا یمنع من شمول صدر الروایة لأطراف العلم الإجمالی، کما لا یمنع من شمول صدر الروایة لموارد الشک البدوی، کذلک بنظر العقل هو لا یمنع من شمول الروایة لطرفی العلم الإجمالی؛ لأنّه یری أنّ الیقین الناقض للیقین السابق هو خصوص الیقین التفصیلی ؟هل الأمر هکذا ؟ أو أنّ العقل یقول لا فرق بین الیقین التفصیلی والیقین الإجمالی فی الناقضیة ؟ الشارع هنا أرشد بحسب الفرض إلی حکم العقل، فإذا قال: لا فرق بینهما، کما أنّ الیقین التفصیلی المتأخّر یکون ناقضاً للیقین السابق، کذلک الیقین الإجمالی أیضاً یکون ناقضاً للیقین السابق، وهذا یمنع من إجراء صدر الروایة فی أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّ العقل یراه مانعاً، یری العلم الإجمالی مانعاً من ذلک. إذن: لا یمکن البت قبل البحث عن منجّزیة العلم الإجمالی وماذا یحکم العقل فی هذه الموارد الذی هو المقام الثالث الآتی، قبل أن ندخل فی ذاک البحث لا یمکننا فعلاً أن نحکم بأنّ دلیل الاستصحاب لا یشمل موارد العلم الإجمالی؛ لأنّ دلیل الاستصحاب قال(لا تنقض الیقین بالشک) لکن فی نفس الوقت أیضاً ذیّلَ العبارة ب------- (ولکن تنقضه بیقین آخر) وحوّلها إلی العقل، ناقضیة الیقین للیقین السابق ینقضه بیقین آخر، هذا لیس حکماً شرعیاً، وإنّما هو إرشاد إلی ما یراه العقل من الناقضیة، فلابدّ أن نرجع إلی العقل، ما هو الشیء الذی یراه ناقضاً ؟ هل هو مطلق الیقین، أو هو الیقین التفصیلی ؟ وهذا یأتی بحثه فی المقام الثالث، إذن: لا یمکننا أن نستعجل ونقول الآن بضرسٍ قاطع بأنّ دلیل الاستصحاب لا یشمل موارد العلم الإجمالی ولا یشمل أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّه یلزم التهافت بین صدر الروایة وبین ذیلها.

ص: 579

یمکن تأیید احتمال أن یکون الذیل فی مقام الإرشاد ولیس فی مقام التأسیس بأنّ ناقضیة الیقین للیقین من الأمور الواضحة التی لا تحتاج إلی أن یتصدّی الشارع ویحکم بها حکماً تعبّدیاً تأسیسیاً، أمر واضح أنّ الیقین ینقض الیقین، أنّ الیقین إذا تعلّق بما تعلّق به الیقین السابق ینقضه ویرفعه، هذا أمر مرکوز فی ذهن الإنسان، وهو یقرّب أنّ الحکم فی المقام فی الذیل هو فی مقام الإرشاد إلی ما یحکم به العقل. مضافاً إلی أنّ القدر المتیقن من الیقین فی الذیل هو الیقین التفصیلی؛ إذ لا إشکال فی کون الیقین التفصیلی المتأخر ناقضاً للیقین التفصیلی المتقدّم، هذا قدر متیقن، بینما نحن لدینا شک فی شمول الیقین فی الذیل للیقین الإجمالی، فإذا کان هذا هو القدر المتیقن، فماذا یقول الشارع ؟ کأنّه لو فرضنا کان حکماً شرعیاً تعبّدیاً تأسیسیاً، کأن الشارع یثبت الناقضیة للیقین التفصیلی، کأنّ الشارع یحکم بأنّ الیقین التفصیلی المتأخّر ناقض للیقین المتقدّم، ما معنی الحکم الشرعی بکونه ناقضاً ؟ معناه أنّه حجّة، معناه أنّه یجب علیک البناء علی الیقین اللاحق، أرفع یدک عن الیقین السابق وأبنِ علی الیقین اللاحق، هذا معناه جعل الحجّیة للیقین المتأخّر، وقد قرأنا سابقاً فی مباحث القطع بأنّه لا یُعقل جعل الحجّیة للیقین التفصیلی، کما لا یُعقل سلب الحجّیة عنه، لا یُعقل جعل الحجّیة له، فأن یتصدّی الشارع لجعل الحجّیة للیقین التفصیلی المتأخّر ویحکم بکونه ناقضاً شرعاً تعبّداً تأسیساً، یحکم بکونه ناقضاً الذی هو عبارة عن الحکم بأنّه حجّة وأنّک یجب علیک أن تعمل بالیقین المتأخّر وترفع الید عن الیقین المتقدّم هذا تقدّم سابقاً بأنّ الیقین لیس قابلاً لأن تُجعل له الحجّیة کما أنّه لیس قابلاً لأن تُسلب عنه الحجّیة. هذا أیضاً قرینة أخری علی أنّ ذیل الروایة لیس فی مقام التأسیس ولیس فی مقام جعل حکم شرعی تعبّدی، وإنّما هو فی مقام الإرشاد إلی ما یحکم به العقل وقلنا بأنّ هذا یمنع من الجزم بأنّ دلیل الاستصحاب لا یشمل محل الکلام، وإنّما لابدّ أن ننتظر ما یحکم به العقل ونری أنّ العقل بماذا یحکم ؟ هل یحکم بالمانعیة، أو لا ؟

ص: 580

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

فی الدرس السابق ذکرنا وجهاً لبعض المحققین کان یُشکّل إشکالاً علی ما ذکره الشیخ الأعظم(قدّس سرّه) من عدم جریان أدلّة الأصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی، باعتبار التهافت بین صدر هذه الأدلّة الدالّة علی الأصول العملیة وبین ذیلها، وکان حاصل هذا الإشکالهو: أنّ ما ذکره الشیخ مبنی علی أن یراد بذیل الروایة الحکم الشرعی التعبّدی، بأن یکون المقصود بقوله(علیه السلام):(ولکن ینقضه بیقین آخر) التی هی جملة طلبیة فی مقام الأمر بالنقض، أن یکون المراد بهذا الأمر بالنقض أمراً تعبّدیاً شرعیاً؛ حینئذٍ یحصل تهافت بین الذیل والصدر، وأمّا إذا کان المقصود بهذه العبارة هو الأمر الإرشادی، أی الإرشاد إلی ما یحکم به العقل ولیست فی مقام التأسیس إطلاقاً؛ حینئذٍ لابدّ من ملاحظة ما یحکم به العقل، یعنی لابدّ من ملاحظة ما سیأتی من البحث عن منجّزیة العلم الإجمالی عقلاً حتّی نری أنّ هذا هل یخلق حالة التفاوت، أو لا ؟ وهذا خروج عن محل الکلام؛ لأنّ محل الکلام هو البحث عن شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی بقطع النظر عن ما یحکم به العقل، وبقطع النظر عن المنجّزیة، أصلاً نرید أن نری أنّ أدلّة الأصول العملیة تشمل أطراف العلم الإجمالی، أو لا ؟ هی فی حدّ نفسها بقطع النظر عن المنجّزیة هل تشمل أطراف العلم الإجمالی، أو أنّها مختصّة بالشبهات البدویة ؟ هذا محل کلامنا. هذا الذی ذکره الشیخ بناءً علی أنّ الذیل للإرشاد ولیس فی مقام التأسیس، وهذا خروج عن محل کلامنا؛ لأنّ التهافت علی تقدیر تمامیته یکون مبنیاً علی المنجّزیة ومانعیة العلم الإجمالی من إجراء الأصول فی جمیع الأطراف، أو فی بعض الأطراف هو بحثنا الذی سیأتی، نحن کلامنا عن أصل شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالی. کان هذا هو الإشکال. ویبدو أنّ هذا الإشکال لا بأس به، لا بأس بأن یکون جواباً عن ما ذکره الشیخ(قدّس سرّه).

ص: 581

الجواب الثانی: عن ما ذکره الشیخ(قدّس سرّه) هو ما أشرنا إلیه سابقاً من أنّه یقال للشیخ(قدّس سرّه): غایة ما هناک أنّ هذا التهافت یختص بأدلّة الأصول الموجود فیها هذا الذیل، هذه الأدلّة التی یقع فیها صدر وذیل یقع فیها التهافت، لکنّ أدلّة الأصول لیست کلّها من هذا القبیل حیث توجد عندنا روایات فی الاستصحاب خالیة من هذا الذیل، وکذلک لدینا روایات فی البراءة والحلّیة خالیة من الذیل، هذه الأدلّة الخالیة من الذیل لا ضیر فی أن نتمسّک بإطلاقها فی محل الکلام ولا یلزم من ذلک التهافت؛ لأنّه لا یوجد فیها ذیل من هذا القبیل حتّی یقال یلزم من شمولها لمحل الکلام وقوع التهافت بین صدر الروایة وذیلها. هذا الجواب الثانی ذکره کثیر من المحققین وکان أحد الأجوبة عن ما یقوله الشیخ الأنصاری (قدّس سرّه) هو هذا.

الجواب الثالث: هو أیضاً ما ذُکر فی کلماتهم من أنّ الیقین فی ذیل روایة الاستصحاب المتقدّمة والعلم فی ذیل بعض أدلّة الحلّیة(حتّی یعلم أنّه حرام) منصرف إلی الیقین التفصیلی. (ولکن ینقضه بیقینٍ آخر) المقصود بالیقین الناقض للیقین السابق هو الیقین التفصیلی، ینصرف إلی الیقین التفصیلی، فإذن: ذیل الروایة لا یکون شاملاً لمحل کلامنا حتی یقال بحصول التهافت بین صدرها وذیلها؛ لأنّ حصول التهافت کما هو واضح یتوقّف علی شمول الصدر والذیل لمحل الکلام حتّی یحصل بینهما التهافت، أمّا إذا منعنا من شمول ذیل الروایة لمحل الکلام؛ لأنّ المراد بالیقین هو خصوص الیقین التفصیلی، ذاک الذی یکون ناقضاً للیقین السابق ورافعاً له، هو فقط دون الیقین الإجمالی؛ فحینئذٍ تکون الروایة شاملة لمحل الکلام بصدرها وهذا معناه أنّ أدلّة الأصول العملیة تشمل محل الکلام، ما کان خالیاً من الذیل واضح، وما کان فیه الذیل؛ فلأنّ الذیل منصرف إلی الیقین التفصیلی وهو غیر موجود فی محل الکلام.

ص: 582

دعوی انصراف الیقین فی ذیل الروایة إلی الیقین التفصیلی تؤیَد بکلمة(بعینه) فی أدلّة بعض الأصول العملیة کما فی أدلّة الإباحة والبراءة حیث ورد فی بعض الروایات(حتّی تعلم الحرام منه بعینه) الظاهر أنّ مقتضی الظهور الأوّلی لکلمة(بعینه) وأی کلمةٍ أخری تدخل فی الدلیل أنّها فی مقام الاحتراز ولیست لغرض التأکید الصرف لمعرفة الحرام المذکور قبلها، هی لیست فی هذا المقام؛ لأنّه خلاف الظهور الأوّلی؛ لأنّ الظهور الأوّلی هو أن تکون احترازیة، بمعنی کأنّه(علیه السلام) یرید أن یقول أنّ الحرام علی قسمین، مرّة یعرف الحرام بعینه ومرّة یعرف الحرام، لکن لا بعینه، یعرف الحرام بعینه کما یتحقق فی موارد العلم التفصیلی، ویعرف الحرام لا بعینه کما یتحقق فی موارد العلم الإجمالی، یعرف الحرام، لکنّه لا یعرفه بعینه، فکلمة(بعینه) أُتی بها للاحتراز عن معرفة الحرام لا بعینه، أی للاحتراز عن موارد العلم الإجمالی التی هی محل الکلام، فیختصّ الذیل بخصوص موارد العلم التفصیلی(کل شیءٍ لک حلال حتّی تعرف الحرام منه بعینه فتدعه). (1) یعنی إلی أن یحصل لک علم تفصیلی بحرمة الشیء، وأمّا إذا لم یحصل لک علم تفصیلی بحرمة الشیء، فهو لک حلال، الغایة حینئذٍ لا تکون شاملة لموارد العلم الإجمالی؛ فحینئذٍ فی محل الکلام یکون الأصل والإباحة والبراءة الموجودة فی الصدر شاملة لمحل الکلام من دون أن تشمله الغایة وذیل هذه الروایات. هذا یکون مؤیداً لاختصاص العلم أو الیقین فی أدلّة الأصول بخصوص العلم التفصیلی والیقین التفصیلی. إذا تمّت دعوی الانصراف؛ فحینئذٍ تکون إشکالاً آخر یُسجّل علی ما یقوله الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، ولا بأس بجعل کلمة(بعینه) مؤیِدة لما ذُکر، باعتبار أنّ الظاهر منها أنّها احترازیة، وکونها احترازیة یکون بانّها تحترز عن معرفة الحرام لا بعینه وتخرجه عن الغایة والذیل، فتختص الغایة والذیل بخصوص معرفة الحرام بعینه. هذا هو الذی یوجب رفع الید عن الحلّیة المذکورة فی صدر الروایة، وأمّا العلم الإجمالی ومعرفة الحرام لا بعینه فهی لا توجب رفع الید عن الحلّیة، وهذا معناه شمول دلیل الحلّیة لأطراف العلم الإجمالی؛ لأنّی لا أعلم أنّه حرام بعینه، وهذا المعنی المطلوب، أنّ أدلّة الأصول تشمل هذا الطرف بخصوصه وتشمل هذا الطرف بخصوصه.

ص: 583


1- الکافی، الشیخ الکلینی، ج 5، ص 313، ح 40.

من هنا یظهر أنّ الأخذ بما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) غیر واضح؛ بل یبدو أنّ أدلّة الأصول العملیة شاملة لأطراف العلم الإجمالی، المقصود من شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی هو شمولها لهذا الطرف بخصوصه ولهذا الطرف بخصوصه، ولیس المقصود شمولها لهذا الطرف منضمّاً إلی الطرف الآخر، لیس هذا ما نثبته، نقول أنّ هذا الطرف بخصوصه مشمول لأدلّة الأصول العملیة، موضوع الأصل العملی محفوظ فیه؛ لأنّ موضوع الأصل العملی هو الشک وعدم العلم، وهذا محفوظ فی هذا الطرف بخصوصه، وإذا التفتنا إلی الطرف الآخر أیضاً نقول محفوظ فیه بخصوصه، لا نرید أن ندّعی الآن أنّ أدلّة الأصول العملیة تشمل هذا الطرف منضماً إلی الطرف الآخر، هذا لیس محل کلامنا. إلی هنا یبدو أنّ أدلّة الأصول العملیة شاملة لأطراف العلم الإجمالی.

ممّا ذکرناه مراراً من أنّ محل الکلام هو عن شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی بالمعنی الذی ذکرناه بقطع النظر عن منجّزیة العلم الإجمالی وحکم العقل بالمانعیة، بقطع النظر عن هذا، أقول: من هنا یظهر أنّ ما قیل من أنّ شمول دلیل الأصل العملی لأطراف العلم الإجمالی بالمعنی المتقدّم وإثباته الترخیص فیه والسعة لا ینافی نفی الترخیص ونفی السعة من جهةٍ أخری، لا منافاة بینهما، لیکن دلیل الأصل شاملاً لهذا الطرف ویثبت فیه السعة والترخیص، هذا لا ینافی أن لا یکون هذا الطرف مرخّصاً فیه، ولا ینافی نفی الترخیص ونفی السعة، لکن من جهةٍ أخری، وذلک باعتبار هذه النکتة، وهی أنّ دلیل الترخیص بحسب الفهم العرفی، ایّ دلیل ترخیصٍ، ومنه محل الکلام، أنّ دلیل الترخیص بحسب الفهم العرفی إنّما یدل علی الحکم الحیثی، یعنی یدل علی الحکم بالترخیص والحلّیة من حیثیةٍ معیّنةٍ ومن جهةٍ معیّنةٍ، هذا الحکم بالحلّیة من جهةٍ معیّنة لا ینافی الحکم بعدم الحلیّة وعدم الترخیص من جهةٍ أخری، أصلاً لا توجد منافاة بینهما؛ بل نلتزم بالحلّیة ونلتزم بالحرمة، فیکون الشیء حلالاً من جهةٍ وفی نفس الوقت یکون حراماً من جهةٍ أخری، وحینما نلتزم بحرمته من تلک الجهة الثانیة فی نفس الوقت نلتزم بحلّیته من هذه الجهة ------------- مثلاً ------------- إذا قیل، کما یُمثّل له(أنّ الجبن حلال) الذی یُفهم عرفاً من هذا الدلیل هو أنّ الجبن من جهة کونه جبناً یکون حلالاً، من جهة کونه جبناً لیس فیه شیء یقتضی المنع وعدم الترخیص، إذن: هو حلال من جهة کونه جبناً، هذا لا ینافی کونه حراماً من جهة کونه مغصوباً، فالجبن یکون حلالاً باعتباره جبن، لکنّه فی نفس الوقت یکون حراماً باعتباره مغصوباً من حیثیةٍ أخری بحیث أنّ العرف لا یری تنافیاً بین هذا التحریم وبین هذا التحلیل. وبعبارةٍ أخری: لا یری أنّ هذا التحریم الثابت للجبن باعتباره مغصوباً، لا یراه تقییداً لإطلاق(الجبن حرام)؛ بل یبقی هذا علی إطلاقه(الجبن حلال مطلقاً) یعنی حتّی إذا کان مغصوباً، ولا نقیّده بما إذا لم یکن مغصوباً هو حلال مطلقاً؛ لأن الحلّیة هی حلّیة حیثیة؛ لأنّها حلّیة من حیث کونه جبناً، والحلّیة من حیث کونه جبناً لا تنافی الحرمة من حیث کونه غصباً. نفس هذه النکتة تُطبّق فی محل الکلام، فیقال أنّ الدلیل الدال علی الترخیص فی محل کلامنا، دلیل الأصل العملی(رفع ما لا یعلمون) وأمثاله الاستصحاب وغیره، کلّ دلیلٍ یدلّ علی الحلّیة إنّما یدلّ علی الحلّیة والترخیص والسعة فی هذا الطرف من حیث کونه مشکوکاً، ومن حیث کونه غیر معلوم، من هذه الحیثیة یدلّ علی الترخیص فیه، وهذا الترخیص من حیث کونه غیر معلوم لا ینافی عدم الترخیص وعدم السعة باعتباره معلوم بالإجمال، هو نفس الطرف یکون حلالاً باعتباره مشکوکاً وفی نفس الوقت یکون حراماً وممنوعاً وغیر مرخّص فیه باعتباره معلوماً بالإجمال. أو قل بعبارة أکثر وضوحاً: باعتباره طرفاً لعلم إجمالی.

ص: 584

أقول: هذا الکلام وإن سیق لبیان عدم شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی الذی هو محل کلامنا، الغرض منه أنّ أدلّة الأصول العملیة لا تشمل أطراف العلم الإجمالی، لکنّه فی الواقع اعتراف بشمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی، بمعنی أنّه هو یقول أنّ أدلّة الأصول العملیة تشمل هذا الطرف وتثبت فیه الترخیص والحلّیة غایة الأمر أنّ هذا الترخیص ترخیص حیثی، لکن هی تثبت فیه الترخیص والحلّیة من حیث کونه مشکوکاً وغیر معلوم. ویُدّعی أنّ هناک جهةً أخری وحیثیة أخری تقتضی تحریم هذا نفسه لکن من حیثیة أخری ولا منافاة بین هذین الحکمین، بین هذه الحلّیة الحیثیة وبین المنع باعتبار کونه طرفاً للعلم الإجمالی. الملاحظة علی هذا الکلام هی أنّ هذا کأنّه خروج عن محل الکلام، هذا فی الحقیقة إثبات المنع فی هذا الطرف وعدم إمکان الالتزام بالترخیص الفعلی فی هذا الطرف باعتبار منجّزیة العلم الإجمالی، کأنّه یرید أن یقول أنّ هذا الطرف باعتباره مشکوک هو حلال، لکن هذه الحلّیة لا تکون فعلیة دائماً وفی جمیع موارد العلم الإجمالی؛ لأنّ هناک جهة أخری تقتضی المنع فی هذا الطرف، وهی کون هذا الطرف طرفاً للعلم الإجمالی، هذا رجوع إلی منجّزیة العلم الإجمالی، هذا رجوع إلی مانعیة العلم الإجمالی من أن یکون الترخیص فی هذا الطرف ترخیصاً فعلیاً، بأن یکون المکلّف مرخّصاً له فی ارتکاب هذا الطرف، الذی یمنع من ذلک هو کونه طرفاً للعلم الإجمالی، الذی یمنع من ذلک هو العلم الإجمالی وحکم العقل بمنجّزیة العلم الإجمالی ومانعیة العلم الإجمالی بحسب ما یراه العقل من أن یکون الترخیص فعلیاً فی أحد الأطراف، هذا معناه أننا نمنع من شمول دلیل الأصل، أو قل: نمنع من ثبوت الترخیص الفعلی فی هذا الطرف باعتبار منجّزیة العلم الإجمالی، وهذا خروج عن محل الکلام، نحن نتکلّم عن شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی بقطع النظر عن المنجّزیة، هذا سیأتی الکلام عنه، بقطع النظر عن المنجّزیة نقول أدلّة الأصول العملیة فی حدّ نفسها هل هی مختصّة بالشبهات البدویة، أو تشمل موارد العلم الإجمالی ؟ الشیخ (قدّس سرّه) کان یدّعی أنّها تختص بالشبهات البدویة، هذا ظاهر کلامه، هل کلام الشیخ (قدّس سرّه) صحیح أنّها تختص بالشبهات البدویة، أو أنّ فیها قابلیة وإطلاق یجعلها شاملة لأطراف العلم الإجمالی، أمّا مسألة أنّ العلم الإجمالی یمنع من شمول الترخیص لجمیع الأطراف، أو لبعض الأطراف، فهذه مسألة سیأتی الحدیث عنها، هذا الوجه کأنّه یستعین بمنجّزیة العلم الإجمالی ومانعیة العلم الإجمالی من الترخیص فی بعض الأطراف بحکم العقل لمنع ثبوت الترخیص الفعلی فی هذا الطرف، وإنّما یکون ترخیصاً غیر فعلی؛ لأنّ العمل بالنتیجة یکون بالتحریم، کما هو فی مثال الجبن عندما یکون مغصوباً، العمل لا یکون بالحلّیة، وإنّما یکون العمل بالتحریم، فیُلتزم بحرمة الجبن عندما یکون مغصوباً ولا أثر لحلّیته الحیثیة التی فُرض وجودها واجتماعها مع التحریم من جهة الغصب، فی محل الکلام العمل یکون بالتحریم باعتبار أنّ هذا طرف للعلم الإجمالی، والذی أثبت هذا التحریم ومنع من أن یکون الترخیص فعلیاً فی هذا الطرف هو عبارة عن منجّزیة العلم الإجمالی، هذا خروج عن محل الکلام، هذا لا یعنی إطلاقاً أنّ أدلّة الأصول العملیة لا تشمل أطراف العلم الإجمالی؛ بل قد یعنی العکس، یعنی أنّ أدلّة الأصول العملیة هی تشمل فی الواقع أطراف العلم الإجمالی.

ص: 585

هناک مطلب آخر قد یُستدَل به لمنع الشمول وهذا المطلب علی الظاهر لا یختص بخصوص أدلّة الأصول التی تشتمل علی الذیل؛ بل یجری فی جمیع الموارد، کما أنّ المطلب الذی نقلناه الآن أیضاً لا یختص بهذه الأدلّة، مطلق أدلّة الأصول العملیة هی تثبت الحلّیة الحیثیة، هذا المطلب المتقدّم. أمّا المطلب الجدید الذی یُستدَل به علی عدم الشمول، فخلاصته: أنّ شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی إنّما یتم عن طریق التمسّک بإطلاق هذه الأدلّة، ومن الواضح أنّ التمسّک بالإطلاق یتوقّف علی مقدّمات الحکمة ومن أهم مقدّمات الحکمة عدم وجود قرینة علی الاختصاص، وعدم وجود قرینة علی التقیید، والقرینة أعمّ من أن تکون قرینة لفظیة، أو قرینة لبّیة، کما أنّ القرینة اللّفظیة علی الاختصاص تمنع من الإطلاق، کذلک القرینة اللّبیّة علی الاختصاص أیضاً تمنع من انعقاد الإطلاق. فی محل الکلام یقال أنّ هناک قرینة لبّیة ارتکازیة متصلّة تمنع من انعقاد الإطلاق فی أدلّة الأصول العملیة لکی تشمل أطراف العلم الإجمالی، وهذه القرینة اللّبّیة المتّصلة هی عبارة عن الارتکاز العقلائی، الارتکاز العقلائی لا یقبل أن یثبت ترخیص ظاهری فی هذا الطرف مع العلم بثبوت التکلیف الشرعی، الارتکاز العقلائی یری أنّ هنا توجد مناقضة، ما معنی أنّه یعلم بالتکلیف، ویعلم أنّ أحدهما نجس، ویعلم بأنّ احدی الصلاتین واجبة، یثبت له ترخیص فی هذا الطرف وترخیص فی ذاک الطرف، هذا غیر مقبول عقلائیاً، الارتکاز العقلائی لا یساعد علی ذلک ولا یتقبّل أن تکون أدلّة الأصول العملیة شاملة لأطراف العلم الإجمالی؛ لأنّ شمولها لأطراف العلم الإجمالی غیر مقبول عقلائیاً؛ لأنّ العقلاء یرون وجود مناقضة بین التکلیف المعلوم فی موارد العلم الإجمالی وبین الترخیص ولو فی بعض الأطراف، یرون هذه مناقضة وغیر مقبولة لهم، وهذا الارتکاز قرینة متّصلة بالکلام تمنع من انعقاد إطلاقه. هذا الوجه یختلف عن الوجه السابق، فی هذا الوجه لم نستعن لإثبات عدم شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی بمنجّزیة العلم الإجمالی العقلیة التی سیقع الحدیث عنها، وإنّما أدُّعی الارتکاز العقلائی الذی هو یشکّل قرینة لبّیّة متصلة بالکلام تمنع من انعقاد الاطلاق وبالتالی یکون الدلیل غیر قابل لأن یشمل موارد العلم الإجمالی وأطرافه.

ص: 586

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

انتهی الکلام إلی ما ذُکر من منع وجود إطلاقٍ فی أدلّة الأصول بنحوٍ تکون شاملة لأطراف العلم الإجمالی، وذلک بنکتة أنّ الإطلاق یتوقّف علی تمامیّة مقدّمات الحکمة ومنها عدم وجود قرینة علی التقیید، وفی المقام توجد قرینة علی التقیید تمنع من الإطلاق وهی عبارة عن ارتکاز المنافاة بین الترخیص الظاهری فی هذا الطرف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، هناک منافاة تمنع من شمول دلیل الأصل لهذا الطرف وتمنع من شمول دلیل الأصل لهذا الطرف وهی عبارة عن ارتکازیة المنافاة بین الترخیص الظاهری فی الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، وحیث أنّ هذا الارتکاز یشکّل قرینة لبیّة متّصلة بالکلام، فتکون مانعة من انعقاد الإطلاق، فلا یکون دلیل الأصل شاملاً لأطراف العلم الإجمالی؛ لأنّه إنّما یکون شاملاً إذا تمسّکنا بإطلاقه، فإذا ناقشنا فی الإطلاق لا یکون شاملاً.

هذا الکلام فی الحقیقة إذا کان المقصود بالارتکاز المدّعی فی المقام الارتکاز العقلائی المستند إلی حکم العقل باستحالة جعل الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی وأنّ جعل الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی یستلزم المخالفة للتکلیف المعلوم بالإجمال، وهذا ممّا یرفضه العقل؛ لأنّ العقل یری منجّزیة العلم الإجمالی، وباعتبار أنّ العقل یری منجّزیة العلم الإجمالی حصل هذا الارتکاز العقلائی، فهو ارتکاز ناشئ من حکم العقل بالمنجّزیة. إذا فرضنا ذلک، أنّ هذا الارتکاز لیس بمعزل عمّا یأتی بحثه من منجّزیة العلم الإجمالی، وإنّما هو ارتکاز منشأه حکم العقل بالمنجّزیة للعلم الإجمالی، إذا فرضنا ذلک؛ حینئذٍ یأتی ما أوردناه علی الوجه السابق الذی کان یدّعی بأنّ الحکم بالحلّیة والترخیص حکم حیثی، فلا یمنع من افتراض التحریم من جهة کون الطرف طرفاً لعلم إجمالیٍ، والإیراد الذی أوردناه علیه هو أنّ هذا خروج عن محل الکلام؛ لأنّ هذا استعانة بحکم العقل بالمنجّزیة والتحریم بالنسبة إلی أطراف العلم الإجمالی، فکأننا نرید أن نمنع من شمول دلیل الأصل لأطراف العلم الإجمالی باعتبار المنجّزیة، بینما محل کلامنا هو البحث عن شمول دلیل الأصل لأطراف العلم الإجمالی بقطع النظر عن المنجزیة، وقد کررنا مراراً أنّ الکلام فی دلیل الأصل هل یختص بالشبهات البدویة، أو یشمل محل الکلام؛ حینئذٍ یرد علی هذا التقریب إذا کان الارتکاز مبنی علی افتراض المنجّزیة وحکم العقل بالمنجّزیة یرد علیه نفس ما أوردناه سابقاً، أنّ هذا إثبات لعدم شمول دلیل الأصل لأطراف العلم الإجمالی استناداً إلی حکم العقلی بالمنجّزیة، وقلنا أنّ هذا لیس محل الکلام. وامّا إذا ادُّعی بأنّ الارتکاز المُدّعی فی المقام لیس مبنیّاً علی ذلک، وإنّما هو ارتکاز عقلائی ثابت بقطع النظر عن حکم العقل بالمنجّزیة، هناک ارتکاز عقلائی لا یساعد علی جعل ترخیص فی أطراف العلم الإجمالی، العقلاء یرون المنافاة بین الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی وبین التکلیف المعلوم بالإجمال بقطع النظر عن حکم العقل بمنجّزیة العلم الإجمالی، بقطع النظر عن ذلک هم یرون ذلک، فیُدّعی وجود ارتکاز عقلائی بقطع النظر عن حکم العقل. إذا کان هذا هو المُدّعی، فهذا غیر واضح، وجود ارتکاز یمنع من جعل ترخیصٍ فی هذا الطرف بخصوصه وفی هذا الطرف بخصوصه، وجود مثل هذا الارتکاز هو أمر غیر واضح؛ إذ ماذا یلزم من جعل الترخیص فی هذا الطرف ؟ تلزم المخالفة الاحتمالیة، لا یوجد ارتکاز یمنع من اکتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالیة المستلزمة للمخالفة الاحتمالیة، لا یوجد مانع من قِبل العقلاء فی ذلک بحیث یکون هذا المانع مانعاً من إجراء الأصل فی هذا الطرف ومقیّداً لإطلاق دلیل الأصل عن الشمول لهذا الطرف بخصوصه، أو لهذا الطرف بخصوصه، لیس هناک ارتکاز عند العقلاء یمنع من ذلک، القائلون بالاقتضاء ------------ کما سیأتی ------------ فی مرحلة وجوب الموافقة القطعیة لا یرون مانعاً من جعل الترخیص فی بعض الأطراف، بالإمکان أن یُجعل الترخیص فی بعض أطراف العلم الإجمالی، لا یرون بأنّ هذا مخالف للارتکاز العقلائی، وأنّه ممنوع، وأنّ إطلاق الدلیل لابدّ من تقییده بنحو لا یکون شاملاً لهذا الطرف بخصوصه ولهذا الطرف بخصوصه، لیس واضحاً وجود ارتکازٍ یمنع من الترخیص فی هذا الطرف حتّی نقول أنّ هذا الارتکاز یکون قرینة لبّیة متصلّة بإطلاق الدلیل، وبالتالی یکون مانعاً من شمول إطلاق الدلیل لأطراف العلم الإجمالی بالنحو الذی ذکرناه.

ص: 587

الذی نقوله فی هذا الباب هو: أنّ الارتکاز إن کان مستنداً إلی حکم العقل بالمنجّزیة، فهذا خروج عن محل الکلام؛ لأننا نتکلّم عن شمول دلیل الأصل لأطراف العلم الإجمالی بقطع النظر عن المنجّزیة. وأمّا إذا لم یکن مستنداً إلی المنجّزیة العقلیة، فلیس واضحاً وجود مثل هذا الارتکاز بنحوٍ یکون مانعاً من انعقاد الإطلاق.

بعد ذلک نذکر أنّ المحقق النائینی (قدّس سرّه) فی هذا المقام، یعنی فی بحث شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی یظهر من کلامٍ منقول عنه، مذکور فی تقریرات بحثه (1) أنّه یقول بالتفصیل بین الأصول العملیة التنزیلیة کالاستصحاب کما یراه، فمنع من جریان هذه الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، وقال الأصل العملی التنزیلی لا یجری فی أطراف العلم الإجمالی، وبین الأصول العملیة غیر التنزیلیة کأصالة البراءة، هنا قال لا مانع من جریانها فی أطراف العلم الإجمالی. یظهر من کلامه هذا التفصیل؛ لأنّه(قدّس سرّه) ذکر فی البدایة أنّ کلمات الشیخ مختلفة، وإن کان المعروف أنّ الشیخ یری وجود مانع من جریان الأصول فی أطراف العلم الإجمالی وهو مسألة التهافت بین صدر الروایات وذیلها، لکنّه یقول: یظهر منه فی کلماتٍ أخری أنّ المانع الذی یمنع من جریان الأصل فی أطراف العلم الإجمالی هو مانع ثبوتی، یعنی مانع مستند إلی منجّزیة العلم الإجمالی کما سیأتی ولیس مانعاً بلحاظ دلیل الأصل. ثمّ ذکر بأنّه علی کل حال، سواء کان الشیخ یختار المانع بلحاظ نفس الدلیل فی مقام الإثبات، أو کان المانع مانعاً ثبوتیاً یرجع إلی وجود محذور یمنع من شمول دلیل الأصل لأطراف العلم الإجمالی کالترخیص فی المخالفة القطعیة القبیح بنظر العقل، وأمثاله.

ص: 588


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسیّد الخوئی، ج 2، ص 50 ---- 51.

قال (قدّس سرّه): وعلی کل حال إن رجع کلامه إلی مقام الثبوت والجعل، وأنّ المانع من جریان الأصول فی الأطراف هو لزوم المخالفة القطعیة، فهو حق. هذا صحیح، المانع هو مانع ثبوتی کما سیأتی، ولیس مانعاً إثباتیاً، فهو حقٌ، لکن فی خصوص الأصول الغیر التنزیلیة. إذن: فی محل کلامنا لا مانع بنظر المحقق النائینی (قدّس سرّه) من شمول أدلّة الأصول العملیة الغیر التنزیلیة لأطراف العلم الإجمالی بقطع النظر عن المنجّزیة.

أمّا الأصول العملیة التنزیلیة، فیقول (قدّس سرّه): وأمّا الأصول العملیة التنزیلیة فالمانع من جریانها لیس هو المخالفة العملیة؛ بل هو قصور المجعول فیها بأن یعمّ الأطراف، فهنا یوجد مانع إثباتی فی الأصول التنزیلیة عن الشمول لأطراف العلم الإجمالی، ومن هنا هو یکون مفصِلاً فی بحثنا، الأصول العملیة الغیر التنزیلیة تجری فی أطراف العلم الإجمالی فی محل کلامنا. نعم، نمنع من جریانها للمانع الثبوتی بلحاظ المنجّزیة کما سیأتی، أمّا الأصول العملیة التنزیلیة، فهی لا تشمل محل الکلام لقصور فی دلیلها، أصلاً دلیلها قاصر عن الشمول لأطراف العلم الإجمالی، ومن هنا لابدّ أن یُفصّل فی محل البحث. قال:(بل هو قصور المجعول فیها لأن یعمّ الأطراف؛ لأنّه لا یمکن الحکم بالبناء العملی علی بقاء الواقع فی کلٍ من الأطراف مع العلم الوجدانی بعدم بقائه) (1) فی بعضها. یقول هذا هو المحذور.

هذا المحذور الذی یذکره مبنی علی افتراض أنّ المجعول فی باب الاستصحاب هو التعبّد بإحراز الواقع ولیس مجرّد الجری العملی علی طبق الحالة السابقة، وإنّما التعبّد بإحراز الواقع واعتبار المکلّف کأنّه محرز للواقع، بناءً علی هذا یقول لا یمکن الالتزام بجریان دلیل الأصل فی أطراف العلم الإجمالی؛ باعتبار أنّ البناء العملی علی بقاء الواقع فی کلٍ من الأطراف لا یمکن أن یجتمع مع العلم الوجدانی بدم بقائه فی بعضها، کیف یأمرنی الشارع بالتعبّد بإحراز الواقع وببقاء الحالة السابقة فی کلٍ من الطرفین، أو بالبناء العملی علی بقاء الواقع فی کلٍ من الطرفین مع علمی الوجدانی بعدم بقاء الواقع فی أحد الطرفین، یقول: هذان لا یمکن الجمع بینهما. إذن: مع العلم الوجدانی والعلم الوجدانی بانتفاء الواقع فی أحد الطرفین؛ حینئذٍ لا یمکن التعبّد ببقاء الواقع فی کلا الطرفین ولا یمکن التعبّد بالبناء العملی علی بقاء الواقع فی کلا الطرفین، کنت عالماً بطهارة کلا الأناءین، ثمّ علمت بنجاسة أحدهما، یقول: لا یمکن التعبّد ببقاء الطهارة فی هذا الأناء والتعبّد ببقاء الطهارة فی هذا الأناء، الطهارة فی أحد الأناءین، فلا یمکن الجمع بینهما، فیکون المانع عنده مانعاً إثباتیاً. مقصوده هو إذا کان دلیل الأصل العملی یرجع إلی إلغاء حالة الشک، والتعبّد بأنّ المکلّف یحرز الواقع، فهذا ینافی العلم الوجدانی ---------------- کما سمّاه هو ------------ أو العلم الإجمالی الذی هو محل کلامنا، ینافی العلم الإجمالی بانتفاء الواقع فی أحد الطرفین، هذان أمران متنافیان لا یجتمعان بقطع النظر عن لزوم المخالفة القطعیة، هذا لا علاقة له بلزوم المخالفة القطعیة حتّی إذا لم یلزم المخالفة القطعیة، فی بعض الأحیان لا یلزم من إجراء الأصول فی الطرفین مخالفة قطعیة، یقول مع ذلک نحن نمنع من جریان الأصل التنزیلی فی کلٍ من الطرفین لا من جهة لزوم المخالفة القطعیة، ولا من جهة منجّزیة العلم الإجمالی؛ بل حتّی لو لم یلزم ذلک نحن لا نجوّز جریان الأصل فی کلا الطرفین، کما لو فرضنا أنّ المکلّف علم بطهارة أحد الأناءین النجسین سابقاً، عکس المثال المعروف، لا یلزم من جریان استصحاب النجاسة فی هذا الطرف، وجریان استصحاب النجاسة فی هذا الطرف، لا یلزم من ذلک الوقوع فی محذور المخالفة القطعیة، لا توجد مخالفة من البناء علی نجاسة الطرفین للعلم الإجمالی بأنّ أحدهما طاهر، المخالفة موجودة بالعکس، عندما أعلم بنجاسة أحدهما، إجراء استصحاب الطهارة فی کلٍ من الطرفین یلزم منه المخالفة العملیة للمعلوم بالإجمال الذی هو نجاسة أحد الأناءین، أمّا إذا کان المعلوم بالإجمال هو طهارة أحد الأناءین، البناء علی نجاسة کل منهما لا یکون فیه مخالفة عملیة لهذا التکلیف المعلوم بالإجمال؛ بل یکون فیه مخالفة عملیة قطعیة للمعلوم بالإجمال، یقول: مع أنّه لا یلزم منه المخالفة القطعیة القبیحة الغیر جائزة، مع ذلک نمنع من جریان الاستصحاب فی کلٍ من الطرفین؛ لأنّ المحذور محذور إثباتی؛ المحذور لأنّه لا یمکن الجمع بین أمر المکلّف بأن یبنی علی بقاء الحالة السابقة فی هذا الطرف وفی هذا الطرف، أن یبنی علی بقاء الواقع ----------- الواقع یعنی الحالة السابقة ----------- فی هذا الطرف، والواقع فی هذا الطرف، وفی نفس الوقت هو یعلم وجداناً بانتفاء الواقع فی أحد الطرفین، هذان أمران لا یمکن الجمع بینهما، بقطع النظر عن لزوم المخالفة القطعیة. هذا هو المحذور الذی ذکره، فإذن، هو محذور مبنی علی ما سیأتی التعرّض له، هذا فی الأصول العملیة التنزیلیة، بخلاف الأصول العملیة غیر التنزیلیة؛ لأنّه هذه لا یوجد فیها هذا الإحراز ولا یوجد فیها هذا التعبّد، لا یوجد فیها اعتبار المکلّف محرزاً للواقع، وإنّما هو مجرّد أصل وظیفة عملیة تُعطی للشاک حتّی لا یبقی متحیراً ومتردداً فی مقام العمل ولیس أکثر من هذا، یقول: فی هذه الحالة لا مانع من جریان هذا الأصل العملی غیر التنزیلی فی أطراف العلم الإجمالی بلا محذور إثباتی.

ص: 589


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 21.

هذا الکلام مبنی علی ما سیأتی التعرّض له فی مباحث الاستصحاب من أنّ الاستصحاب هل هو أصل عملی تنزیلی، أو هو أصل عملی بحت، هو بانی علی أنّه أصل عملی تنزیلی وأنّ مفاد دلیله هو التعبّد بإحراز الحالة السابقة واعتبار المکلّف محرزاً للواقع، وهذا فی مقابل من یری أنّه لیس هکذا، لیس فیه إحراز للواقع ولیس فیه بناء علی أنّه محرزاً للواقع، وإنّما وظیفة عملیة حالها حال أصالة البراءة، وهذا سیأتی التعرّض له فی مباحث الاستصحاب، وسیأتی أنّ استفادة هذا المعنی الذی یقوله(قدّس سرّه) من أدلّة الاستصحاب لا تخلو من صعوبة، یعنی مسألة إحراز أنّ المکلّف محرز للواقع، البناء علی أنّه محرز للواقع کما یقال فی الإمارات، استفادته من دلیل الاستصحاب لیست واضحة.

ممّا تقدّم کلّه یتبیّن أنّ القول بشمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی بقطع النظر عن المنجّزیة هو الأقرب، هذا هو المشهور والمعروف بینهم؛ ولذا رکّزوا فی منع جریان الأصول فی أطراف العلم الإجمالی علی الموانع الثبوتیة الآتیة، منعوا من جریانها باعتبار العلم الإجمالی ومنجّزیة العلم الإجمالی، لم یمنعوا من جریانها بلحاظ نفس دلیل الاستصحاب، أو دلیل أصالة البراءة بادّعاء أنّ هذا الدلیل لیس فیه إطلاق یشمل أطراف العلم الإجمالی؛ بل اعترفوا بأنّه لو بقینا نحن والدلیل، الدلیل کما یشمل الشبهات البدویة هو یشمل الشبهات البدویة المقرونة بالعلم الإجمالی.

المقام الثالث: فی منجّزیة العلم الإجمالی.

هل العلم الإجمالی ینجّز التکلیف المعلوم بالإجمال ؟ هل العلم الإجمالی یکون مانعاً من جریان الأصول ----------- هذا ما کنّا نقول سیأتی بحثه ----------- فی أطراف العلم الإجمالی کلاً، أو بعضاً، أو لا یکون مانعاً من جریان الأصول فی أطراف العلم الإجمالی کلاً، أو بعضاً ؟ الکلام فی المقام الثالث عن منجّزیة العلم الإجمالی للتکلیف المعلوم بالإجمال، وعن مانعیة العلم الإجمالی من إجراء الأصول الترخیصیة فی أطراف العلم الإجمالی کُلاً، أو بعضاً.

ص: 590

الکلام فی هذا المقام کما هو واضح تارةً یقع فی منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، ومانعیة العلم الإجمالی من جریان الأصول الترخیصیة فی جمیع أطراف العلم الإجمالی. هذا بحث. البحث الثانی فی منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافق القطعیة وفی مانعیة منجّزیة العلم الإجمالی من جریان الأصول فی بعض الأطراف. هذا هو البحث الثانی.

إذن: فی هذا المقام الثالث یقع الکلام فی بحثین:

البحث الأوّل: فی منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، وفی مانعیة العلم الإجمالی لجریان الأصول فی تمام الأطراف. بالنسبة إلی أصل منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، الظاهر أنّ القضیة مسلّمة بینهم لم یقع الشک فیها، أنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، وهذا الاتفاق ناشئ من وضوح أنّ العلم الإجمالی ینجّز الجامع بلا إشکال وعلی کل التقادیر السابقة فی تفسیر حقیقة العلم الإجمالی مهما فسّرنا العلم الإجمالی الجامع یتنجّز بالعلم الإجمالی، وإذا تنجّز الجامع بالعلم الإجمالی؛ حینئذٍ لا یجوز ارتکاب کلا الطرفین فی الشبهة التحریمیة، أو ترک کلا الطرفین فی الشبهة الوجوبیة الذی هو معنی المخالفة القطعیة، معنی تنجیز الجامع المتّفق علیه والذی لا ینبغی الإشکال فیه أنّ الجامع دخل فی عهدة المکلّف؛ حینئذٍ لا یجوز له أن یرتکب کلا الطرفین فی الشبهة التحریمیة؛ لأنّ هذا یخالف منجّزیة الجامع؛ لأنّ هذه مخالفة قطعیة للجامع الذی دخل فی العهدة، ولا یجوز له أن یترک کلا الطرفین فی الشبهة الوجوبیة؛ لأنّ المفروض أنّ أحدی الصلاتین وجبت علیه قطعاً ودخلت فی عهدته، فلا یجوز له أن یترک کلا الطرفین؛ لأنّها مخالفة قطعیة للتکلیف الذی دخل فی العهدة وتنجّز علی المکلّف، کون العلم الإجمالی یقتضی حرمة المخالفة القطعیة یقتضی منجّزیة المخالفة القطعیة، هذا لا ینبغی الإشکال فیه وهو أمر مسلّم، وإنّما الکلام یقع فی أنّ العلم الإجمالی بعد الفراغ عن أنّه ینجّز حرمة المخالفة القطعیة، یعنی یقتضی حرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، یقع الکلام فی أنّه هل یمنع هذا العلم الإجمالی من إجراء الترخیص فی کلٍ من الطرفین، أو لا یراه مانعاً ؟ العقل هل یقول أنّ العلم الإجمالی مانع من إجراء الأصول فی تمام الأطراف، هذا الکلام یُطرح بعد الفراغ عن أنّ العقل یری أنّ العلم الإجمالی منجّز لحرمة المخالفة القطعیة، لکن تنجیز العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة لا یمنع من طرح هذا البحث فی أنّ تنجیز العلم الإجمالی هل یمنع من جریان الأصول العملیة فی تمام الأطراف، أو لا یمنع من جریانها فی تمام الأطراف، باعتبار أنّ البحث عن المانعیة یرتبط بأنّ حکم العقل بالمنجّزیة کیف یکون ؟ هل یکون علی نحو التعلیق، أو علی نحو التنجیز ؟ هل یحکم العقل بحرمة المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال حکماً منجّزاً غیر معلّق علی شیء، أو انّ یحکم بذلک، لکن حکماً تعلیقیاً معلّقاً علی عدم ورود ترخیص من قبل الشارع ؟ هل الحکم العقلی بالتنجیز حکم تنجیزی، أو حکم تعلیقی ؟ إذا قلنا أنّ الحکم بالتنجیز هو حکم تنجیزی؛ حینئذٍ الجواب یکون أنّ العلم الإجمالی بنظر العقل یکون مانعاً من إجراء الأصول العملیة فی أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّ إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی وإثبات الترخیص فی جمیع الأطراف ینافی حکم العقل بمنجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة علی نحو التنجیز، کیف یمکن افتراض جریان الأصول فی جمیع الأطراف مع حکم العقل بالمنجّزیة التنجیزیة، بأنّ العلم الإجمالی ینجّز حرمة المخالفة القطعیة ویکون هذا الحکم حکماً تنجیزیاً، هذان لا یجتمعان، فمن هنا یکون الترخیص فی جمیع الأطراف ممنوعاً، وهذا هو معنی أنّ العلم الإجمالی یمنع من جریان الأصول فی جمیع الأطراف؛ لأنّ جریان الأصول فی جمیع الأطراف ینافی الحکم العقلی التنجیزی؛ فلذا یمنع من شمول دلیل الأصول العملیة بعد أن کان فی حدّ نفسه شامل لأطراف العلم الإجمالی، نقول کلا، یمنع من شموله لتمام الأطراف فی بحثنا لوجود هذا المحذور وهو أنّه یصطدم مع الحکم العقلی التنجیزی بحرمة المخالفة القطعیة. وأمّا إذا قلنا أنّه حکم تعلیقی وهو معلّق علی عدم الترخیص الشرعی، فإذا جاء الترخیص الشرعی؛ فحینئذٍ یکون رافعاً لموضوع حکم العقل من دون أن یلزم من ذلک أی محذور، فالقضیة مبنیة علی أنّ الحکم العقلی فی المقام بالتنجیز هل هو حکم تنجیزی، أو حکم تعلیقی.

ص: 591

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کان الکلام فی الوجوه الثبوتیة التی یُستدَل بها علی أنّ العلم الإجمالی مانع من جریان الأصول العملیة وإثبات الترخیص الظاهری فی جمیع أطراف العلم الإجمالی، واشرنا فی الدرس السابق إلی أنّ عمدة هذه الوجوه تتوقف علی أنّ الحکم العقلی الذی یمنع من جریان الأصول فی تمام أطراف العلم الإجمالی هو حکم تنجیزی لیس معلّقاً علی عدم ورود ترخیصٍ من الشارع، وإلاّ لو کان تعلیقیاً، فمن الو اضح جدّاً أنّ العقل حینئذ لیس بإمکانه أن یمنع من الترخیص؛ لأنّه هو معلّق علی عدمه، فالترخیص یکون رافعاً لموضوع الحکم العقلی. وبعبارة أخری: لیس هناک مضادة ومناقضة بین الترخیص والحکم العقلی بالتنجیز إلاّ إذا کان الحکم العقلی تنجیزیاً، أمّا إذا کان معلّقاً علی عدم الترخیص، فلا مضادة بینهما؛ إذ یکون الترخیص رافعاً لموضوع الحکم العقلی، عمدة الوجوه التی تُذکر لابد أن یُفترض فیها ذلک، هی مبنیّة علی ذلک؛ وحینئذٍ یُذکر المانع الثبوتی بناءً علی منجّزیة الحکم العقلی وکونه حکماً عقلیا تنجیزیاً، فتُذکر هذه الوجوه لإثبات أنّ الترخیص لا یمکن جعله فی تمام أطراف العلم الإجمالی، نذکر بعض هذه الوجوه:

الوجه الأوّل: ما یذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) وآخرون من أنّ الترخیص فی تمام أطراف العلم الإجمالی یستلزم المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال ولا یُعقل الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لأنّ المخالفة القطعیة تعنی معصیة التکلیف الواصل إلی المکلّف والذی یعلم به المکلّف، ولا یًعقل صدور الترخیص فی المعصیّة من الشارع، باعتبار أنّ المعصیة قبیحة بحکم العقل ولا یُعقل أن یُرخّص الشارع فی القبیح عقلاً. إذن: یستحیل الترخیص فی تمام أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّ هذا الترخیص یعنی الترخیص فی المخالفة القطعیة القبیحة عقلاً، وهذا محال. جریان الأصول العملیة فی تمام أطراف العلم الإجمالی هو ترخیص فی المخالفة القطعیة العملیة القبیحة بحکم العقل، فیُمنع الترخیص فی تمام الأطراف.

ص: 592


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 97.

من الواضح أنّ مرجع هذا الوجه هو إلی دعوی التضاد بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین حکم العقل بأنّ المخالفة القطعیة العملیة للتکلیف المعلوم بالإجمال قبیح؛ لأنّ الترخیص یصطدم مع هذا الحکم العقلی بقبح المعصیة، فیکون الترخیص محالاً وممنوعاً منه؛ لأنّه یصطدم مع الحکم العقلی بقبح المعصیة، وحیث أنّ الترخیص فی تمام الأطراف یستلزم المخالفة العملیة القطعیة للتکلیف الواصل إلی المکلّف، هذا قبیح؛ لأنّها معصیة والمعصیة قبیحة، فیکون الترخیص مضاداً لهذا الحکم العقلی.

إذن: یُمنع الترخیص؛ لأنّه یصطدم مع الحکم العقلی، والمهم هو أن نثبت هذا، ومن الواضح أنّ هذا الوجه عندما یدّعی التضاد بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین الحکم العقلی واضح أنّه یبتنی علی افتراض أنّ الحکم العقلی هو حکم تنجیزی؛ حینئذٍ تصح دعوی المضادة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین هذا الحکم العقلی التنجیزی، فیمنع الترخیص؛ لأنّه یصطدم مع الحکم العقلی التنجیزی، وأمّا إذا کان الحکم العقلی بقبح معصیة المولی وقبح المخالفة العملیة لتکلیف المولی الواصل إذا کان حکماً تعلیقیاً معلّقاً علی عدم وصول الترخیص من قبل نفس المولی؛ حینئذٍ لا مضادة بین ترخیصٍ فی تمام الأطراف وبین الحکم العقلی؛ لما قلناه من أنّ الحکم العقلی بحسب الفرض معلّق علی عدم الترخیص، فیکون الترخیص رافعاً لموضوعه، فلا یوجد فرض یستمر فیه هذان الحکمان؛ لأنّه مع فرض الترخیص لا موضوع للحکم العقلی ومع عدم الترخیص یکون الحکم العقلی ثابتاً دون الترخیص، فلا مضادة بینهما، فالتضاد الذی یدّعیه فی المقام بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین الحکم العقلی مبنی علی افتراض أنّ الحکم العقلی حکم تنجیزی، وکونه تنجیزیاً یعنی ثابتاً حتّی مع ورود الترخیص، یعنی أنّ العقل یحکم بقبح مخالفة المولی وقبح المعصیة حتّی مع فرض ورود الترخیص من قبل نفس المولی، فی هذه الحالة لا إشکال فی أن یکون الترخیص مضادّاً للحکم العقلی ومصطدم معه، فیمتنع الترخیص؛ لأنّه یکون مضاداً له، فإذن: نفس هذا الوجه لإثبات امتناع الترخیص فی تمام الأطراف وعدم جریان الأصول المؤمّنة فی تمام الأطراف هو یبتنی علی افتراض أنّ الحکم العقلی بقبح المعصیة، الحکم العقلی بقبح المخالفة العملیة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال هذا حکم تنجیزی ولیس حکماً تعلیقیاً. غرضنا هو إثبات هذا المطلب، وهو أنّ دعوی وجود مانع ثبوتی فی محل الکلام یبتنی علی أنّ الحکم العقلی فی المقام هو حکم تنجیزی.

ص: 593

الوجه الثانی: هو ما فی الکفایة، المحقق الخراسانی فی الکفایة فی هذا البحث ذکر کلاماً یُفهم من کلامه أنّه یدّعی استحالة جعل الترخیص فی تمام الأطراف؛ بل یُفهم من کلامه استحالة جعل الترخیص حتّی فی بعض الأطراف الذی هو فعلاً لیس محل کلامنا، وسیأتی الکلام عنه فی المقام الآخر، یُفهم من کلامه استحالة جعل الترخیص فی تمام الأطراف، باعتبار أنّ هذا الترخیص یکون مضاداً لنفس التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، وبهذا یختلف هذا الوجه عن الوجه الأوّل، فی الوجه الأوّل کان یُدّعی أنّ هناک مضادة ومناقضة بین جعل الترخیص فی تمام الأطراف وبین حکم العقل، بینما هو یقول أنّ الترخیص فی تمام الأطراف مضاد لنفس التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال؛ لأنّ المفروض فی موارد العلم الإجمالی، أنّ المکلّف یعلم تکلیفاً واقعیاً علی إجماله، هو یدّعی أنّ هناک مضادة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، وحاصل ما ذکره هو : أنّ الحکم المعلوم بالإجمال الواصل إلی المکلّف، تارةً یفترض بلوغه إلی مرتبة الفعلیة من جمیع الجهات ولا یفترض أنّ وصوله إلی مرتبة الفعلیة من جهة العلم الإجمالی به، المهم أنّه واصل إلی مرتبة الفعلیة، وفسّر وصوله إلی مرحلة الفعلیة من جمیع الجهات، بأنّه واجد لما هو علّة تامّة للبعث الفعلی، أو الزجر الفعلی، بالرغم من إجمال التکلیف واشتباهه وترددّه هذا العلم الإجمالی یوصله إلی مرحلة الفعلیة التامّة من جمیع الجهات بحیث یکون واجداً لما هو علّة تامّة للبعث الفعلی والزجر الفعلی باختلاف الموارد، تارةً یفترض التکلیف المعلوم بالإجمال واصل إلی مرحلة الفعلیة التامّة من جمیع الجهات، یعنی لیست هناک حالة أخری تتوقف علیها فعلیة التکلیف ووصوله إلی مرحلة الباعثیة والزاجریة الفعلیة، لیس هناک حالة مترقّبة، لا، هی تحصل ولو بافتراض العلم الإجمالی، العلم الإجمالی یوصل التکلیف إلی مرحلة الفعلیة، وتارةً أخری نفترض أنّ التکلیف المعلوم بالإجمال لیس واصلاً إلی مرتبة الفعلیة التامّة من جمیع الجهات، وإنّما تبقی فعلیته التامّة متوقفة علی شیء آخر غیر حاصل بنفس افتراض العلم الإجمالی، ونفترض أنّ الفعلیة التامّة تتوقف علی العلم التفصیلی وحیث أنّ العلم التفصیلی غیر حاصل فی محل الکلام بحسب الفرض، فلا یکون التکلیف المعلوم بالإجمال فعلیاً من جمیع الجهات؛ بل تتوقف فعلیته من جمیع الجهات علی العلم التفصیلی به، فما لم یعلم به تفصیلاً لا تکون فعلیته تامّة من جمیع الجهات.

ص: 594

إذن: هذان فرضان، یقول، التکلیف المعلوم بالإجمال إمّا أن تکون فعلیته تامّة من جمیع الجهات واصل إلی مرحلة الداعویة الفعلیة والزاجریة الفعلیة ولو باعتبار العلم الإجمالی هو الذی أوصله إلی هذه المرحلة، وتارةً نفترض أنّه لیس واصلاً إلی هذه المرحلة، علی الأوّل: إذا کان واصلاً إلی مرحلة الفعلیة من جمیع الجهات، یقول یستحیل الترخیص فی تمام الأطراف؛ للزوم اجتماع حکمین فعلیین متضادّین، أحدهما التکلیف المعلوم بالإجمال المفترض أنّه فعلی من جمیع الجهات، والآخر الترخیص الفعلی وهما متضادان، ولا یُعقل الجمع بین حکمین فعلیین متضادان، إذن: لا یُعقل الترخیص فی تمام الأطراف؛ للزوم هذا المحذور، وهذا المحذور یمنع من افتراض الترخیص فی تمام الأطراف؛ لأنّه لا یُعقل جعل حکم فعلی فی أحد الطرفین مع ترخیص فعلی فی کلا الطرفین، هذا غیر ممکن لا یمکن الجمع بینهما، وعلی هذا یکون التکلیف فی هذه الحالة منجّزاً، یستحیل جعل الترخیص فی تمام الأطراف، وهذا معناه أنّ التکلیف یکون منجّزاً وتصح العقوبة علی مخالفته، فیکون العلم الإجمالی منجّزاً لهذا التکلیف؛ بل یُفهم من کلامه استحالة جعل الترخیص حتّی فی طرفٍ واحد، حتّی فی بعض الأطراف ولیس فقط فی تمام الأطراف، وذلک باعتبار أنّ هذا الترخیص فی الطرفین مضاد للتکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال علی تقدیر تحققّه فی ذلک الطرف، فی الطرف الواحد یجعل تکلیفاً فعلیاً وترخیصاً فعلیاً. نعم، مضادة الترخیص لأحد الأطراف مع التکلیف المعلوم بالإجمال علی تقدیر تحقق التکلیف فی ذلک الطرف، وحیث أنّ هذا التقدیر محتمل، محتمل أن یکون التکلیف المعلوم بالعلم الإجمالی متحققاً فی هذا الطرف الذی فُرض فیه الترخیص، هذا معناه أننا نحتمل المضادة، التضاد مستحیل حتّی احتمالاً ولیس فقط التضاد جزماً مستحیل؛ بل التضاد محال حتّی احتمالاً، وهذا یوجب منع الترخیص حتّی فی أحد الأطراف لاحتمال التضاد، جعل الترخیص فی تمام الأطراف ممنوع؛ لأنّه یستلزم التضاد المعلوم بین الحکمین الفعلیین المتضادّین، جعل الترخیص فی أحد الطرفین أیضاً ممنوع؛ لأنّه یحتمل التضاد الذی سوف یحقق التضاد احتمالاً واحتمال التضاد محال، لا یُعقل أن نفترض احتمال التضاد، هذا أیضاً محال. علی کل حال کلامنا فی الأوّل.

ص: 595

إذن: علی الفرض الأوّل یستحیل جعل الترخیص فی تمام الأطراف، علی الثانی، أی إذا لم یکن التکلیف المعلوم بالإجمال واصلاً إلی حدّ الفعلیة، ویبدو علی الثانی یمکن جعل الترخیص فی تمام الأطراف؛ لأنّه لیس لدینا تکلیف واصل إلی مرحلة الفعلیة من جمیع الجهات، فلا مانع من جعل الترخیص فی تمام الأطراف، تقریباً هذا هو مفاد کلامه.

هذا الکلام واضح أنّه یفترض التضاد بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، نعم، علی فرض وصوله إلی الفعلیة التامّة من جمیع الجهات یحصل تضاد بین الترخیص وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، ولیس بین الترخیص وبین حکم العقل بقبح المعصیة، بقبح المخالفة العملیة لتکلیف المولی.

لوحظ علی هذا الکلام أنّ بلوغ التکلیف إلی مرحلة الفعلیة التامّة الموجبة للتضاد بین الترخیص وبین التکلیف، تارةً یکون المقصود بها هو وصول التکلیف إلی درجة من الأهمیة بحیث أنّ المولی لا یرضی بتفویته بالرغم من کونه غیر معلوم بالتفصیل، المولی یهتم به کثیراً ولا یرضی بتفویته ویُلزم المکلّف بالتحفّظ علیه والاحتیاط من ناحیته، تارةً یُقصد بالفعلیة معنی من هذا القبیل، إذا فرضنا أنّ هذا المعنی هو المقصود بالفعلیة من جمیع الجهات؛ فحینئذٍ لا إشکال فی أنّ ما یذکره صحیح، بمعنی أنّه یستحیل جعل الترخیص فی تمام الأطراف؛ إذ من غیر المعقول أن یجعل الشارع نفسه الذی فرضنا أنّه یهتم بهذا التکلیف بالرغم من اشتباهه وتردده، یهتم به ولا یرضی بتفویته بحیث یُلزِم المکلّف بالتحفّظ علیه والاحتیاط من ناحیته، لا یُعقل أنّ نفس هذا المولی یُرخص فی مخالفته ویُرخّص فی ترک التحفّظ تجاهه، لا یُعقل أن یجعل الشارع الترخیص فی تمام الأطراف الذی یعنی عدم الاعتناء بالتکلیف المعلوم بالإجمال وعدم التحفّظ علیه، بینما فرضنا أنّ هذا التکلیف واصل إلی مرحلة الفعلیة، والمراد بالفعلیة هو أن یصل التکلیف إلی درجة بحیث یهتم به الشارع ویریده من المکلّف ویرید من المکلّف أن یتحفّظ علیه حتّی مع اشتباهه، ویأمره بالاحتیاط من ناحیته حتّی یُدرک ذلک التکلیف الذی یهتم به، فمن الواضح أنّه لیس من المعقول مع هذا الاهتمام أنّ یجعل ترخیصاً فی تمام أطراف هذا التکلیف، صحیح أنّ الترخیص فی تمام الأطراف یکون محالاً مع هذا الافتراض، لکن هذا الافتراض فی نفسه کأنّه لیس محل الکلام، نحن لا نتکلّم عن تکلیفٍ فرغنا عن عدم إمکان جعل الترخیص فیه، موضوع کلامنا لیس هو التکلیف المعلوم بالإجمال الذی فرغنا عن عدم إمکان جعل الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی من ناحیته، موضوع الکلام وموضوع البحث تکلیف معلوم بالإجمال نتکلّم هنا عن إمکان جعل الترخیص فی مخالفته وعدم إمکان جعل الترخیص.

ص: 596

وبعبارة أخری: أنّ العلم الإجمالی هل حاله حال الشک البدوی أو لا ؟ هل یمکن جعل الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی مع العلم الإجمالی بالتکلیف ؟ هذا معناه أننا لم نفترض فی مرحلةٍ سابقة أنّ التکلیف واصل إلی مرحلة من الفعلیة یهتم بها الشارع ویرید من المکلّف التحفّظ علیه ولا یُرخّص فیه إطلاقاً، وبعد أن فرغنا عن عدم إمکان الترخیص فی مخالفة هذا التکلیف المعلوم بالإجمال، إذن: نبحث عن ماذا فی المقام ؟ افترضنا فرضاً أنّ الشارع لا یرضی بالترخیص فی هذا التکلیف؛ لأنّه أمر المکلّف بالتحفظ علیه وأمره بالاحتیاط من ناحیته، یعنی فرضناً مسبقاً أنّ هذا التکلیف لا یُعقل جعل الترخیص فی مخالفته من قبل الشارع، وکلامنا هو هل یمکن جعل الترخیص فی تمام الأطراف، أو لا یمکن ؟ هذا محل کلامنا، إذن، لابدّ أن نفترض أنّ موضوع البحث هو تکلیف لم نفترض فیه عدم إمکان جعل الترخیص فی أطرافه، هذا محل کلامنا، أمّا أن نفترض أنّ هذا التکلیف لا یُعقل جعل الترخیص من قبل الشارع فی مخالفته مسبقاً هذا خروج عن محل الکلام.

وبعبارة أکثر وضوحاً: أنّ محل البحث هو أنّ هذا التکلیف المعلوم بالإجمال هل هو واصل إلی هذه المرحلة، أو لیس واصلاً إلی هذه المرحلة ؟ هذا هو محل کلامنا، أنّ التکلیف المعلوم بالإجمال هل حاله حال التکلیف المعلوم بالتفصیل، أو أنّ حاله حال التکلیف المشکوک بالشک البدوی ؟ هل التکلیف المعلوم بالإجمال واصل إلی هذه المرحلة من الفعلیة، بحیث أنّ المولی لا یرضی بتفویته ویستحیل أن یُرخّص فی مخالفته، هل هو کذلک، أو لیس کذلک ؟ وإنّما حاله حال المشکوک بالشک البدوی ؟ هذا محل کلامنا.

ص: 597

إذن: لا یجب أن نفترض مسبقاً أنّ التکلیف هو تکلیف لا یُعقل أن یُرخّص الشارع فی مخالفته، هذا خروج عن محل الکلام، صاحب الکفایة کأنّه افترض مسبقاً أنّ التکلیف هذا من نوع خاص، بناءً علی تفسیر الفعلیة فی کلامه بهذا التفسیر، أنّ المقصود بالفعلیة فی کلامه أنّه واصل إلی مرحلة من الاهتمام بحیث لا یرضی الشارع بتفویته ویأمر المکلّف بالاحتیاط من ناحیته، هذا إذا أُرید بالفعلیة هذا المعنی، أمّا إذا أُرید بالفعلیة معنی آخر، أنّ کون التکلیف فعلیاً یعنی أنّ التکلیف فی حدّ نفسه فعلی، فعلیة لیس بلحاظ اهتمام المولی به أکثر من غیره ویرید المولی التحفّظ علیه ویأمر بالاحتیاط من ناحیته، وإنّما مبادئ هذا الحکم هی مبادئ فعلیة، وموضوعه فعلی، یعنی أنّ هذا التکلیف الواقعی هو فعلی من ناحیة المبادئ وفعلی من ناحیة الموضوع وفعلی من نواحی أخری، هو بنفسه واصل إلی حد الفعلیة، إذا کان هذا هو المقصود؛ فحینئذٍ دعوی عدم إمکان جعل الترخیص فی تمام الأطراف هذه محل کلام، ولیست واضحة، من قال أنّه لا یمکن جعل الترخیص فی تمام الأطراف فی حکم واقعی فعلی بمعنی أنّه فعلی بمبادئه وفعلی بموضوعه ؟ من قال أنّه لا یمکن جعل الترخیص فی تمام الأطراف بحیث أنّ وصول الحکم إلی مرحلة الفعلیة یعنی استحالة جعل الترخیص فی تمام الأطراف ؟ هذا الکلام فی الحقیقة مبنی علی أنّ موضوع الحکم الظاهری هل هو محفوظ فی موارد العلم الإجمالی، أو لا ؟ فی موارد التکلیف المشکوک بالشک البدوی لا إشکال فی انحفاظ موضوع الحکم الظاهری، لکن هل موضوع الحکم الظاهری محفوظ فی موارد العلم الإجمالی، أو لا ؟ هذا الکلام یبتنی علی أنّه غیر محفوظ کما هو الحال فی موارد العلم التفصیلی کما هو المعروف، فی موارد العلم التفصیلی لا موضوع للحکم الظاهری، العلم الإجمالی هل هو من قبیل العلم التفصیلی أو من قبیل الشک البدوی ؟ موضوع الحکم الظاهری فیه محفوظ، أو لا ؟ إذا قلنا أنّ موضوع الحکم الظاهری کما سیأتی الحدیث عن هذا المطلب؛ حینئذ هذا الکلام لا یکون تامّاً، ولا یمکن أن نحکم باستحالة الترخیص الظاهری فی تمام الأطراف؛ لأنّه یُضاد هذا التکلیف، ولیس أنّه یضاد حکم العقل، وإنّما یضاد هذا التکلیف المعلوم بالإجمال الواصل إلی مرحلة الفعلیة بهذا المعنی، بمعنی أنّه فعلی فی حدّ نفسه، لا بلحاظ عالم المزاحمة مع شیء آخر واهتمام الشارع به، کلا، یمکن أن یقال أنّ موضوع الحکم الظاهری فی موارد العلم الإجمالی محفوظ وهذا لا یُسوّغ لنا أن نحکم باستحالة جعل الترخیص الظاهری فی تمام أطراف العلم الإجمالی من جهة المضادة مع التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال.

ص: 598

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کان الکلام فی الموانع الثبوتیة من جریان الأصول فی تمام أطراف العلم الإجمالی، ذکرنا کلاماً للمحقق النائینی ولصاحب الکفایة(قدّس سرّهما) والکلام الذی نذکره الیوم للمحقق العراقی(قدّس سرّه) حیث ذکر بأنّ حکم العقل بالاشتغال والمنجّزیة هو علی نحو التنجیز لا علی نحو التعلیق، واستدلّ علی ذلک، علی أنّ الحکم العقلی تنجیزیاً ولیس تعلیقیاً؛ ولذا تحصل المضادّة بین الترخیص الظاهری فی جمیع الأطراف وبین هذا الحکم العقلی التنجیزی، استدل علی کونه تنجیزیاً لکی یکون الترخیص فی تمام الأطراف مضادّاً له وبالتالی یکون ممنوعاً؛ لأنّه یکون مضادّاً للحکم العقلی، استدلّ علی ذلک کما یظهر من عبارته فی(نهایة الأفکار) (1) بوجدان المناقضة بین الترخیص فی جمیع الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال علی غرار وجدان المناقضة فی موارد العلم التفصیلی، یقول کما أنّه من الواضح جدّاً أنّه فی موارد العلم التفصیلی بالتکلیف یکون الترخیص الظاهری فی ما قام العلم التفصیلی علی ثبوت التکلیف فیه منافیاً للتکلیف المعلوم بالتفصیل، المناقضة والمنافاة واضحة بین تکلیف معلوم بالتفصیل وبین ترخیصٍ یُجعل فی مورده، هذه المناقضة والمضادّة موجودة بنفسها بالوجدان فی موارد العلم الإجمالی، یقول هذه المناقضة والمضادة المعلومة بالوجدان وبالارتکاز، المناقضة الارتکازیة کما یسمّیها، لا یمکن أن تکون إلاّ إذا افترضنا أنّ حکم العقل بالاشتغال وبلزوم الامتثال حکماً تنجیزیاً، لا یمکن أن تحصل هذه المناقضة والمضادة الارتکازیة بینهما إلاّ إذا کان الحکم العقلی بالمنجّزیة، أو بالاشتغال بوجوب الامتثال حکماً تنجیزیاً؛ لأنّه فی هذه الحالة تحصل المضادة بین الترخیص الموجود فی تمام الأطراف وبین حکم العقل بلزوم الامتثال والاشتغال والمنجّزیة، فکأنّه یستکشف من باب استکشاف العلّة من المعلول ------------- استکشاف أنّی ----------- تنجیز الحکم العقلی بالاشتغال والمنجّزیة، أنّه حکم منجّز ولیس معلّقاً، یستکشف من ارتکازیة المضادّة وارتکازیة المناقضة بین الترخیص وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، یقول ارتکازیة المضادّة والمناقضة هی دلیل علی أنّ حکم العقل بالمنجّزیة هو حکم تنجیزی ولیس حکماً تعلیقیاً؛ لوضوح أنّ الحکم العقلی بالاشتغال وبالموافقة لو کان حکماً معلّقاً علی عدم ورود ترخیص من قبل الشارع لما کانت هناک مضادّة ومناقضة ارتکازیة بینهما؛ لماذا تکون مناقضة ؟ والحال أنّ الحکم العقلی معلّق علی عدم ورود الترخیص، فإذا ورد الترخیص یرتفع موضوع الحکم العقلی، فلیست هناک مضادة بین الترخیص وبین ما یحکم به العقل، إنّما تکون هناک مضادّة عندما یکون الحکم العقلی بلزوم امتثال التکلیف المعلوم بالإجمال حکماً تنجیزیاً، الترخیص یضاد هذا الحکم العقلی، أمّا إذا کان الحکم العقلی معلّقاً علی عدم ورود الترخیص، إذا ورد الترخیص یرتفع موضوع الحکم العقلی، فلا منافاة ولا مضادّة بینهما، فحیث أنّ المضادة ثابتة بالوجدان وبالارتکاز علی غرار ثبوتها فی العلم التفصیلی؛ حینئذٍ یمکن أن نستکشف من وجدان المناقضة وارتکازیتها أنّ حکم العقل بالمنجّزیة فی محل الکلام حکماً تنجیزیاً ولیس حکماً تعلیقیاً. هذا خلاصة ما یمکن أن یُستفاد من عبارته(قدّس سرّه)..

ص: 599


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج2، ص306.

علی کل حال، ظاهر عبارته المذکورة فی نهایة الأفکار أنّ الترخیص الظاهری فی تمام الأطراف یناقض أمرین، یناقض حکم العقل بالاشتغال ولزوم الامتثال والموافقة الذی نعبّر عنه بالمنجّزیة، أنّ العقل یحکم بالمنجّزیة، ثمّ یقول هو أیضاً یناقض الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال، لکن إنّما یناقضهما ویضادّهما ویکون محالاً إذا کان الحکم العقلی بالمنجّزیة تنجیزیاً ولیس تعلیقیاً؛ لأنّه إن کان حکم العقل بالاشتغال ووجوب الامتثال، أو نعبّر بالمنجّزیة إذا کان تعلیقیاً، فلا مضادّة بین الترخیص فی جمیع الأطراف وبین حکم العقل بالمنجّزیة؛ لأنّ الترخیص یرفع موضوع الحکم العقلی، فلا یکون منافیاً له، کما أنّه لا یکون مناقضاً ومضادّاً للتکلیف المعلوم بالإجمال، والسرّ فی ذلک هو أنّ المناقضة بین الترخیص فی جمیع الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال إنّما یکون حین یکون التکلیف فعلیاً وتام الفعلیة بحیث تکون له داعویة ومحرّکیة، فیحصل التنافی والتضاد بین الترخیص فی جمیع الأطراف وبین ذلک التکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّ التکلیف المعلوم بالإجمال له داعویة ومحرّکیة خاصّة به، بینما الترخیص فی جمیع الأطراف یعنی عدم التحریک، ویعنی إطلاق العنان للمکلّف ومن هنا تحصل بینهما مضادة ومنافاة، بین الترخیص فی جمیع الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، أمّا إذا فرضنا أنّ التکلیف المعلوم بالإجمال لیست له داعویة ولا محرّکیة، فمن الواضح أنّ الترخیص فی جمیع الأطراف لا یکون منافیاً له؛ لأنّ المنافاة بین الترخیص والتکلیف حتّی فی موارد العلم التفصیلی إنّما هی فی مرحلة الداعویة والمحرّکیة، بمعنی أنّ التکلیف یحرّک المکلّف نحو الفعل بینما الترخیص یطلق العنان له، هذان بینهما منافاة، فی آنٍ واحد لا یمکن أنّ المولی یحرّک نحو شیء وفی نفس الوقت هو لا یحرّک، وإنّما یطلق العنان للمکلّف، فالتنافی بینهما إنّما هو فی هذه المرحلة. هذا التنافی إنّما یتحقق فی محل الکلام بین الترخیص فی جمیع الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال عندما یکون التکلیف تام الفعلیة، یعنی عندما تکون له محرّکیة وداعویة، فیکون الترخیص فی تمام الأطراف منافیاً له، أمّا إذا فرضنا أنّ التکلیف لم یصل إلی هذه المرحلة، التکلیف لیس تام الفعلیة ولم تثبت له داعویة ومحرّکیة، ففی هذه الحالة لا یکون الترخیص فی تمام الأطراف منافیاً له، وفی محل الکلام یرید أن یقول أنّ کون التکلیف تام الفعلیة وله داعویة ومحرّکیة بحیث یتنافی مع الترخیص، فیکون الترخیص محالاً؛ لأنّه منافٍ للتکلیف المعلوم بالإجمال، هذا إنّما یکون حینما یحکم العقل بمنجّزیة هذا التکلیف لا علی نحو التعلیق، عندما یکون حکم العقل بالاشتغال وبلزوم الامتثال کما یُعبّر، عندما یکون الحکم العقلی تنجیزیاً، إذا کان تنجیزیاً یکون التکلیف تام الفعلیة، التکلیف یکون له داعویة ومحرّکیة، فیکون الترخیص فی تمام الأطراف منافیاً أیضاً للتکلیف المعلوم بالإجمال الذی له داعویة ومحرّکیة کما هو منافٍ لحکم العقل التنجیزی بالاشتغال ولزوم الامتثال، لکن کل هذه المضادّة والمنافاة بین الترخیص فی تمام الأطراف من جهة وبین الحکم العقلی بالمنجّزیة وبین التکلیف المعلوم بالإجمال من جهة أخری موقوفة علی أن یحکم العقل بمنجّزیة هذا التکلیف المعلوم بالإجمال علی نحوٍ غیر معلّق، أن یکون الحکم العقلی حکماً تنجیزیاً، فالترخیص فی تمام الأطراف کما یُضاد الحکم العقلی هو أیضاً یضاد التکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّ التکلیف المعلوم بالإجمال إذا کان العقل یحکم بمنجّزیته ووجوب موافقته واشتغال الذمّة به حکماً تنجیزیاً لا تعلیقیاً، هذا التکلیف یکون تامّ الفعلیة وله داعویة ومحرّکیة والترخیص الذی یعنی إطلاق العنان وعدم التحریک یکون منافیاً له. هذا الذی یمکن أن یُستفاد من عبارة المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 600

حینئذٍ لتتمیم المطلب: هو فی البدایة ثبّت المنافاة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال فیما إذا کان حکم العقل بالمنجّزیة حکماً تنجیزیاً، وإذا ثبت کون الحکم العقلی تنجیزیاً لا تعلیقیاً؛ حینئذٍ یکون الترخیص محالاً، ویکون هذا هو المانع الثبوتی من جریان الأصول فی تمام الأطراف، وهو أنّ إجراء الأصول فی تمام الأطراف ینافی التکلیف المعلوم بالعلم الإجمالی بعد فرض کون حکم العقل بلزوم امتثاله ووجوب موافقته حکماً تنجیزیاً لا تعلیقیاً. بعد أن ثبّت هذا یرید أن یستدل علی التنجیزیة فی قبال التعلیقیة ودلیله هو ما أشار إلیه سابقاً، یستدل علی ذلک بالمضادة الارتکازیة کما سمّاها، یقول نحن نشعر بوجداننا وارتکازاتنا نشعر بوجود مضادّة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، هذه المضادة التی یشعر بها الإنسان بوجدانه لا تکون إلاّ إذا کان الحکم العقلی بالمنجّزیة حکماً تنجیزیاً، فنستکشف بطریق الإنّ کون الحکم العقلی تنجیزیاً من ارتکازیة المضادّة علی غرار الارتکازیة التی نشعر بها فی موارد العلم التفصیلی؛ لأنّ هذه الارتکازیة لا یمکن تفسیرها بأیّ شیءٍ سوی أنّ الحکم العقلی بلزوم الامتثال حکم تنجیزی، وإلاّ بمجرّد أن نفترض أنّه حکم تعلیقی معلّق علی عدم ورود الترخیص؛ حینئذٍ لا مضادّة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال. هذا ما یُفهم من کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه).

هذا الوجه الذی یذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی مقام بیان المانع الثبوتی من جریان الأصول فی تمام الأطراف، من الواضح أنّه یبتنی علی أن یکون حکم العقل بالمنجّزیة حکماً تنجیزیاً لا تعلیقیاً. ومن هنا یظهر أنّ المهم فی هذا البحث هو الترکیز علی هذه النقطة، أنّ العقل عندما یلاحظ التکلیف المعلوم بالإجمال هل یحکم بمنجّزیته حکماً تنجیزیاً، أو أنّه یحکم بمنجّزیته معلّقاً علی أن لا یرخص الشارع فی مخالفته ؟ إذا حکم حکماً تنجیزیاً غیر تعلیقی، یعنی یحکم بکونه منجّزاً حتّی إذا ورد ترخیص من الشارع، حتّی مع ورود الترخیص یکون الحکم العقلی ثابتاً، هذا التکلیف المعلوم بالإجمال منجّز علی المکلّف؛ لذا یعتبر الترخیص الوارد الذی تقتضیه ظواهر الأدلّة ملغیاً؛ لأنّه یصطدم مع الحکم العقلی؛ ولذا یستحیل جریانه، فالمهم تحقیق هذه الجهة، أو نقول أنّ الحکم الذی یحکم به العقل بمنجّزیة التکلیف المعلوم بالعلم الإجمالی هو حکم تعلیقی، معلّق علی عدم ورود الترخیص من قبل الشارع. المهم تحقیق هذه النقطة.

ص: 601

هذه الوجوه الثلاثة، بعد استبعاد ما نقلناه عن المحقق الخراسانی صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، هو لم یتعرّض إلی هذه الجهة، وإنّما تعرّض إلی فعلیة الحکم وعدمها وتقدّم مناقشته سابقاً، الوجه الأوّل الذی اختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، والوجه الثالث الذی نقلناه عن المحقق العراقی(قدّس سرّه) کلٌ منهما یبتنی علی دعوی أنّ حکم العقل بمنجّزیة التکلیف المعلوم بالإجمال هو حکم تنجیزی لا تعلیقی.

بعد ذلک نتعرّض إلی ما ورد فی تقریرات السید الخوئی(قدّس سرّه) فی کلٍ من الدراسات ومصباح الأصول. السید الخوئی(قدّس سرّه) ذکر مانعاً آخر فی تعداد الموانع الثبوتیة المانعة من جریان الأصول فی تمام الأطراف، ذکر المانع الأوّل الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وهو أنّ جریان الأصول فی تمام الأطراف محال؛ لأنّه یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال وهو محال. (1) (2) ثمّ ذکر الوجه الثانی (3) (4) واعتبره من الموانع الثبوتیة من جریان الأصول فی تمام الأطراف، وحاصل المانع الذی یذکره هو مناقضة الحکم الظاهری الذی هو الترخیص الذی نستفیده من جریان الأصول العملیة فی تمام الأطراف، مناقضة الحکم الظاهری الناظر إلی الواقع، وقید(الناظر إلی الواقع) مهم؛ لأنّه سوف یخرج جملة من الأحکام الظاهریة التی تثبت بأصول عملیة لیس لها نظر إلی الواقع، منافاة الحکم الظاهری الناظر إلی الواقع مع العلم الوجدانی الإجمالی. یقول هذا الحکم الظاهری الناظر إلی الواقع کما فی موارد الإمارات، أو فی موارد الاستصحاب، علی خلاف بینه وبین المحقق النائینی، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یری أنّ الاستصحاب أیضاً ناظر إلی الواقع، والسید الخوئی(قدّس سرّه) لا یراه ناظراً إلی الواقع. الحکم الظاهری، أی الترخیص فی محل کلامنا فی تمام الأطراف إذا کان مستفاداً من إمارة أو من استصحاب، إذا قلنا أنّ الاستصحاب له نظر إلی الواقع، هذا الترخیص الظاهری ینافی العلم الوجدانی بالتکلیف فی موارد العلم الإجمالی، کیف یُعقل أنّ نجمع بین جعل ترخیص فی هذا الطرف وترخیص فی هذا الطرف، وکل منهما ناظر إلی الواقع ولسانه لسان إحراز الواقع، وبین العلم الوجدانی بأنّ هنا بین الطرفین یوجد تکلیف، الترخیص فی کلا الطرفین مع فرض وجود جنبة الإحراز للواقع یتنافی مع العلم الوجدانی بوجود التکلیف فی أحد هذین الطرفین. هذه هی المناقضة التی ذکرها فی الوجه الثانی وذکر بأنّ هذه المناقضة وهذا المانع یختص بما إذا کان الحکم الظاهری ثابتاً بالإمارة؛ لأنّ ما یثبت بالإمارة تکون فیه جنبة إحراز للواقع ونظر إلی الواقع، فیختص بما إذا کان الترخیص فی الطرفین یثبت بإمارة، کما لو فرضنا أنّ الإناءین اللذین نعلم بنجاسة أحدهما، قامت إمارة أو بیّنة علی طهارة هذا الإناء بخصوصه، وقامت بینة أخری علی طهارة الإناء الآخر. هنا یقول هذا الوجه المانع من جریان الترخیص فی الطرفین إذا کان مستنداً إلی الإمارة یختص بما إذا کان الترخیص الثابت فی الطرفین الثابت بإمارة لها نظر إلی الواقع، ولا یشمل ----------- علی رأیه ------------ سائر الترخیصات التی تثبت بغیر الإمارة، سواء ثبتت بأصالة البراءة، أو ثبتت بالاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب عنده هو من الأصول العملیة ولیس أصلاً عملیاً محرزاً. نعم، یقول: لا یختص بما إذا کان المعلوم بالإجمال حکماً إلزامیاً، وإنّما یشمل ما إذا کان المعلوم بالإجمال حکماً ترخیصیاً، کما إذا علمنا بطهارة أحد الإناءین النجسین سابقاً، مرّة نعلم بنجاسة أحد الإناءین المعلومی الطهارة سابقاً ومرّة نعلم بطهارة أحد إناءین کنّا نعلّم بنجاستهما سابقاً، یقول حتّی فی هذا المورد یجری هذا الوجه الثانی، الوجه الأوّل لا یجری إلاّ إذا علمنا بنجاسة إناءین کانا طاهرین سابقاً؛ لأنّ الوجه الأوّل کان یری أنّ جعل الترخیص فی الطرفین یستلزم الترخیص فی المخالفة العملیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، إذن: لابدّ أن نفترض أنّ ما نعلمه إجمالاً تکلیف له مخالفة عملیة حتّی یقال أنّ الترخیص فی الطرفین یستلزم الترخیص فی المخالفة العملیة لهذا التکلیف المعلوم بالإجمال، وهذا یتحقق فیما إذا علمنا بنجاسة أحد إناءین کانا طاهرین سابقاً؛ لأنّ العلم بالنجاسة یُحدث تکلیفاً وهذا التکلیف له مخالفة عملیة، العلم بالنجاسة یُحدِث تکلیفاً وهو أن ّهذا النجس المعلوم بالإجمال لا یجوز استعماله فی ما یشترط فیه الطهارة، بینما الترخیص فی الطرفین یکون مخالفة عملیة لهذا التکلیف المعلوم بالإجمال؛ فلذا یکون ممنوعاً ویکون محالاً. أمّا هذا الوجه، فلا یجری فی هذا فقط؛ بل یجری حتّی فیما إذا کان المعلوم بالإجمال ترخیصاً، إذا علمنا بطهارة أحد إناءین الوجه الأوّل لا یجری؛ لأنّ المعلوم بالإجمال لیس تکلیفاً، لیس له مخالفة عملیة، العلم بالطهارة لا یخلق تکلیفاً له مخالفة عملیة حتّی یقال أنّ جریان الأصل فی الطرفین یمنع من ذلک ویستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، لیس هناک مخالفة قطعیة، لو استصحبنا النجاسة فی الإناء الأوّل، واستصحبنا النجاسة فی الإناء الثانی؛ لأنّ الحالة السابقة هی النجاسة بحسب الفرض، لم نخالف المعلوم بالإجمال مخالفة عملیة؛ لأنّ المعلوم بالإجمال لیس إلاّ مجرّد طهارة، والطهارة لا تحدث تکلیفاً ولیس له مخالفة عملیة، لکنّ الوجه الثانی یجری؛ لأنّ الوجه الثانی لیس مبتنیاً علی المخالفة العملیة والترخیص فی المخالفة العملیة، وإنّما هو مبتنٍ علی المناقضة بین الحکم الظاهری فی تمام الأطراف وبین المعلوم بالإجمال، وهذه المناقضة موجودة سواء کان المعلوم بالإجمال تکلیفاً کما فی المثال الأوّل، أو کان المعلوم بالإجمال لیس تکلیفاً کما فی المثال الثانی، فی المثال الثانی نعلم بطهارة أحد الإناءین والأصل الذی یجری فی هذا الطرف یثبّت النجاسة والأصل الذی یجری فی هذا الطرف یثبّت النجاسة، هل یمکن أن نجمع بین إحراز نجاسة کلا الإناءین عندما یجری الاستصحاب إذا قلنا أنّ الاستصحاب إحرازی، وبین العلم الوجدانی بطهارة أحدهما ؟ لا یمکن الجمع بینهما، بقطع النظر عن لزوم المخالفة العملیة.

ص: 602


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 349.
2- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 345.
3- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 350.
4- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للبهسودی، ج 2، ص 346.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کان الکلام فی المانع الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) حیث ذکر بعنوان المناقضة بین الحکم الظاهری الناظر إلی الواقع وبین العلم الوجدانی بثبوت التکلیف فی أحد الطرفین، مقصوده من الحکم الظاهری الترخیص فی بعض الأمثلة، وإن کان هذا المانع لا یختص بذلک کما أشرنا، لکن إذا نطبّق علی الترخیص؛ حینئذٍ تکون هناک مناقضة بین الترخیص المجعول فی الطرفین الناظر إلی الواقع وبین العلم الوجدانی بثبوت التکلیف فی أحدهما، فی غیر موردٍ أیضاً نفس الشیء فیما إذا کان الجاری فی الطرفین لیس هو الترخیص؛ بل قد یکون الذی یثبت فی الطرفین هو التکلیف فی موارد العلم بالترخیص فی أحد الطرفین إذا کان المعلوم هو طهارة أحد الطرفین مع کونهما نجسین سابقاً، الاستصحاب بناءً علی أنّه أصل محرز یثبت النجاسة فیهما، هذا أیضاً یرد فیه المانع للممانعة بین ثبوت هذا الحکم الظاهری وهو النجاسة فی کلٍ من الطرفین مع العلم الوجدانی بطهارة أحدهما. هذا الوجه الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) الظاهر أنّه مأخوذ من کلمات أستاذه المحقق النائینی(قدّس سرّه) حیث ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) (1) هذا المطلب بعد أن ذکر فی کلامه أنّه لا یوجد ما یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف باعتبار انحفاظ موضوع تلک الأصول فی تمام الأطراف؛ لأنّه مشکوک الوجوب، موضوع الأصول هو الشکّ، والشک موجود فی هذا الطرف وموجود أیضاً فی ذاک الطرف ولا مشکلة فی أن تجری البراءة فی کلٍ من الطرفین؛ لأنّ البراءة تجری فی هذا الطرف بخصوصه وموضوع البراءة فی هذا الطرف بخصوصه محفوظ وتجری فی ذاک الطرف بخصوصه وموضوعها أیضاً فیه محفوظ، بعد أن ذکر ذلک وذکر کلاماً آخر أیضاً لا داعی لذکره استدرک علی نفسه الأصول التنزیلیة المحرزة کالاستصحاب بنظره باعتباره أصل تنزیلی محرز، قال هذا نمنع منه، ما کان من قبیل البراءة لا مانع من جریانه فی تمام الأطراف، لکن ما کان من قبیل الاستصحاب -------------- بناءً علی أنّه من الأصول العملیة التنزیلیة --------------- منع من جریانه فی تمام الأطراف، باعتبار أنّ المجعول فی هذه الأصول التنزیلیة هو البناء العملی والأخذ بأحد الطرفین من الشک علی أنّه هو الواقع، هذه جنبة الإحراز الموجودة فی باب الاستصحاب التی یدّعیها فی باب الاستصحاب، وإلغاء الطرف الآخر وجعل الشک کالعدم تعبّداً، هذا المجعول فی دلیل الاستصحاب، وهذا المعنی من الإحراز ------------- البناء علی الحالة السابقة فی باب الاستصحاب بلسان إحراز الواقع، بلسان تنزیل الشک منزلة العدم، أبنِ علی بقاء الحالة السابقة ------------- لا یمکن جعله فی الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالی، یمکن جعله فی الشبهات البدویة، ویمکن جعله فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی لکن حینما تکون الشبهة غیر محصورة، یمکن جعله فی بعض أطراف الشبهة، لکن لا یمکن جعله فی تمام أطراف الشبهة الذی هو محل الکلام، باعتبار أنّ الإحراز التعبّدی بعدم انتقاض الحالة السابقة فی کلا الطرفین لا یمکن أن یجتمع مع العلم الوجدانی بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما. هذا نفس ما یقوله السید الخوئی(قدّس سرّه)، أنّ الإحراز التعبّدی ببقاء الحالة السابقة فی کلا الطرفین الذی هو معنی الاستصحاب لا یجتمع مع العلم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما، وکیف یحکم ببقاء الطهارة الواقعیة، ولو تعبّداً فی کلٍ من الإناءین مع العلم بنجاسة أحدهما ؟ لا یمکن الجمع بینهما. هو نفسه الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه)، ثم قال المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّ هذا لا یختصّ بما إذا لزم من جریان الأصلین مخالفة عملیة کما قال السید الخوئی(قدّس سرّه)، یعنی لا یختص بمثال ما إذا علمنا بنجاسة أحد الإناءین معلومی الطهارة سابقاً، هنا جریان أصالة الطهارة فی هذا الطرف وفی هذا الطرف یلزم منه مخالفة عملیة للتکلیف المعلوم بالإجمال؛ لأنّ العلم بنجاسة أحدهما یستتبع تکلیفاً له مخالفة عملیة، یقول هذا المانع لا یختصّ بهذا؛ بل یجری حتّی ما إذا کان إجراء الأصول فی الأطراف لا یستلزم مخالفة عملیة کما لو عکسنا المثال، کما لو علمنا بطهارة أحد إناءین نعلم بنجاستهما سابقاً، فالأصل الجاری فی هذا الطرف هو استصحاب النجاسة والأصل الجاری فی هذا الطرف أیضاً هو استصحاب النجاسة بالیقین السابق والشک اللاحق، موضوعه محفوظ ولا یلزم من جریانهما فی الطرفین مخالفة عملیة للتکلیف المعلوم؛ لأنّه لا علم بالتکلیف، یوجد علم بطهارة أحدهما، فلیس له مخالفة عملیة، فلا یلزم من جریان الاستصحاب فی هذا المثال مخالفة عملیة. یقول مع ذلک هذا المانع موجود، وهو أنّه لا یُعقل أن یجتمع الإحراز التعبّدی ببقاء الحالة السابقة فی کلا الطرفین مع العلم الوجدانی بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما، هذان لا یمکن الجمع بینهما؛ فلذا هذا المانع لا یختص بما إذا کان المعلوم بالإجمال حکماً إلزامیاً له مخالفة عملیة؛ بل یشمل حتّی ما إذا کان المعلوم بالإجمال حکماً ترخیصیاً.

ص: 603


1- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 51.

هذا الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، صحیح هو ذکره فی الاستصحاب، لکن یمکن تنقیح المناط لأمثاله وتعمیمه حتّی للإمارة، بمعنی أنّه لو علمنا بنجاسة أحد إناءین، ثمّ قامت الإمارة علی طهارة هذا الإناء بخصوصه، ثمّ قامت الإمارة الأخری علی طهارة الإناء الآخر بخصوصه، نفس الکلام یجری؛ لأنّ الإمارة لسانها لسان الإحراز، فالإحراز التعبّدی ببقاء الحالة السابقة فی کلا الإناءین کیف یجتمع ------------ کما یقول ------------ مع الإحراز الوجدانی بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما من دون فرقٍ بین هذا المثال وبین عکسه، فلو علمنا بطهارة أحد إناءین وقامت إمارة ولیس استصحاباً، علی نجاسة هذا بخصوصه وقامت إمارة أخری علی نجاسة الآخر، هذان أیضاً لا یمکن الجمع بینهما؛ إذ کیف یمکن الحکم ببقاء الحالة السابقة فی کلا الإناءین وإحراز ذلک مع العلم الوجدانی بانتقاض الحالة السابقة فی أحد الإناءین، یجری نفس الکلام، فکلامه ولو من باب تنقیح المناط یشمل ما إذا کان الجاری فی کلا الطرفین هو إمارة ولا یختصّ ذلک بالاستصحاب؛ لأنّ العلّة بنظر المحقق النائینی(قدّس سرّه) هی کون الاستصحاب محرزاً للواقع من الأصول العملیة التنزیلیة، والإحراز فی باب الإمارات أوضح.

من هنا یظهر أنّ المانع بنظر المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو مانع ثبوتی، هو یدّعی استحالة جعل هذا المؤدی فی کلا الطرفین مع العلم الوجدانی بالخلاف. یقول أصلاً یستحیل جعل مؤدّی الاستصحاب فی کلا الطرفین؛ لأنّ مؤدّی الاستصحاب مؤدی إحرازی، هو یحرز الواقع، إحراز بقاء الحالة السابقة فی کلا الطرفین لا یجتمع مع العلم الوجدانی بانتقاض الحالة السابقة فی أحد الطرفین، فالمانع بنظره مانع ثبوتی وعلی هذا الأساس یکون المانع الثبوتی الذی یذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) لیس هو المانع الأوّل الذی نقلناه عنه، وإنّما مانع أوسع من ذلک، المانع الثبوتی الأوّل یختص بما إذا کان المعلوم بالإجمال تکلیفاً حتّی یکون الترخیص فی الأطراف ترخیصاً فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، هذا هو المحذور الأوّل. هذا یختص بما إذا کان المعلوم بالإجمال تکلیفاً له مخالفة عملیة، بینما هذا المانع الذی یذکره أوسع من ذلک، کما یجری فی ذاک المورد یجری فیما إذا کان المعلوم بالإجمال حکماً ترخیصیاً لا حکماً تکلیفیاً، فهو یراه مانعاً ثبوتیاً.

ص: 604

السید الخوئی(قدّس سرّه) وافقه فی أصل المطلب، ولکنّه لم یوافقه فی الاستصحاب، بمعنی أنّه لا یری الاستصحاب من الأصول العملیة التنزیلیة، فیکون حاله حال سائر الأصول الأخری، لکن السید الخوئی(قدّس سرّه) صبّ کلامه علی الإمارات، یعنی فیما لو کان إثبات ما یخالف المعلوم بالإجمال فی کلا الطرفین کان بإمارة لا باستصحاب، هذا ما استشکل به(قدّس سرّه) یعنی أنّه لا یری إشکالاً فی إجراء الاستصحاب فی کلا الطرفین بنحوٍ یخالف المعلوم بالإجمال، کما هو الحال فی الترخیص الثابت بالبراءة فی کلا الطرفین، لا مشکلة فیه؛ لأنّ هذه أحکام ظاهریة موضوعها محفوظ فی کلا الطرفین بخصوصه، فلا مانع من جریانه فی کلا الطرفین، لکن عندما یکون الحکم الظاهری الثابت فی کلا الطرفین المخالف للمعلوم بالإجمال، عندما یکون ثابتاً بالإمارة، هنا ذکر مانعاً من جریان الإمارة فی الطرفین، لکنّ المانع الذی ذکره غیر المانع الذی أشار إلیه المحقق النائینی(قدّس سرّه)، ذکر مانعاً آخر من جریان الإمارة فی الطرفین، وهذا المانع هو التعارض، التعارض هو الذی یمنع من جریان الإمارة فی کلا الطرفین، ولنمثّل بما إذا علمنا بطهارة أحد الإناءین وقامت إمارة علی نجاسة هذا بخصوصه، وقامت إمارة أخری علی نجاسة الطرف الآخر، یقول هنا لا تجری الإمارة؛ لأنّ الإمارة حجّة فی مدالیلها الالتزامیة کما هی حجّة فی مدالیلها المطابقیة، هذه الإمارة وإن کان مدلولها المطابقی هو نجاسة هذا الإناء بخصوصه، لکنّها بالدلالة الالتزامیة تدلّ علی طهارة الآخر، فیکون لها مدلولان، أحدهما مطابقی وهو نجاسة هذا، والتزامی وهو طهارة الآخر بضمیمة العلم الإجمالی المفروض فی محل الکلام بأنّ أحدهما طاهر، إذا ضممنا هذا العلم الإجمالی إلی الإمارة الدالة علی نجاسة هذا الإناء سوف یتکوّن مدلول التزامی لهذه الإمارة وهو أنّ الإناء الآخر طاهر، فإذن، هذه الإمارة الجاریة فی هذا الطرف کما هی حجّة فی مدلولها المطابقی هی حجّة فی مدلولها الالتزامی، ومدلولها الالتزامی هو أنّ الإناء الآخر طاهر، فتعارض الإمارة الثانیة الدالّة علی نجاسة الطرف الآخر؛ لأنّ هذه الإمارة تدل علی طهارة الطرف الآخر بینما الإمارة الأخری تدلّ علی نجاسته بالدلالة المطابقیة، فیقع التعارض بین الدلالة الالتزامیة لهذه الإمارة والدلالة المطابقیة لتلک الإمارة، وهکذا العکس، تلک الإمارة الجاریة فی الطرف الآخر أیضاً لها مدلول التزامی وهو طهارة هذا الطرف، فتکون معارضة للإمارة الجاریة فی الطرف الأوّل بمدلولها المطابقی، فیکون هناک تعارض بین الإمارتین، وعند حصول التعارض بینهما؛ حینئذٍ لا یکون دلیل الحجّیة شاملاً لکلٍ منهما؛ لأنّ دلیل الحجّیة لا یمکن أن یشمل کلاً منهما للتنافی ولا یمکن أن یشمل أحدهما؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح، فیسقط دلیل الحجّیة حینئذٍ عن الشمول لکلٍ منهما، فتسقط الإمارتان عن الحجّیة، وهذا هو المانع بنظره بالنسبة إلی جریان الإمارتین المخالفتین للمعلوم بالإجمال فی أطراف العلم الإجمالی.

ص: 605

هذا الذی ذکره قال أنّه غیر موجود فی الاستصحاب؛ لأنّ مثبتات الاستصحاب لیست حجّة، الاستصحاب لا یکون حجّة فی مدلوله الالتزامی، الاستصحاب الذی یجری فی هذا الطرف الأوّل ویثبت نجاسته لیس له دلالة التزامیة بطهارة الطرف الآخر حتّی یکون معارضاً للاستصحاب الذی یجری فی الطرف الآخر، کلا، دلالته الالتزامیة لیست حجّة؛ فحینئذٍ هذا الوجه الموجب لسقوط الإمارتین عن الحجّیة فی محل الکلام لا یجری فی باب الاستصحاب، والفرق هو أنّ الإمارة حجّة فی مدالیلها الالتزامیة، بینما الاستصحاب کسائر الأصول العملیة الأخری لیس حجّة فی مدلوله الالتزامی.

هذا المانع الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) کأنّه مانع إثباتی ولیس مانعاً ثبوتیاً؛ بل هو مانع ثبوتی مرتبط بدلالة الدلیل الذی یثبت حکماً فی الطرفین مخالفاً للحکم المعلوم بالإجمال، مؤدّی الإمارة ومؤدّی الاستصحاب هذا مانع إثباتی وهو غیر المانع الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، ذاک مانع ثبوتی راجع إلی استحالة الجمع بین الإحراز التعبّدی والإحراز الوجدانی بالنحو المذکور سابقاً؛ ولذا ذکره فی عداد الموانع الثبوتیة، بینما هذا المانع الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه)، وإن کانت کلماته غیر واضحة، لکن الظاهر أنّه مانع إثباتی، وهذا هو نفس المانع الذی سیأتی حیث أنّه فی المسألة القادمة، وهی مسألة (جریان الأصول فی بعض الأطراف) یصرّح بأنّه لا مانع ثبوتاً من جریان الأصول فی بعض الأطراف، (1) لکنّ المانع إثباتی ویذکر التعارض کمانع إثباتی من جریان الأصل فی أحد الطرفین، إذن، مسألة التعارض مانع إثباتی، نفس هذا المانع ذکره فی محل الکلام، لکن عندما یُفترض أنّ الحکم الظاهری ثابت بالإمارة ولیس ثابتاً بالأصول العملیة الأخری.

ص: 606


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 352.

اقول: لا یبعُد أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) لا یرتضی هذا المانع الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، کاحتمال هو لا یرتضی أنّ المانع ثبوتی فی محل الکلام؛ بل یری أنّ المانع إثباتی فی محل الکلام، بمعنی أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) کأنّه یری أنّ المانع من جریان الأصول العملیة فی الأطراف هو الترخیص فی المخالفة القطعیة فقط، هذا المانع الثبوتی. وهذا یختص بما إذا کان المعلوم بالإجمال تکلیفاً له مخالفة عملیة ولا یجری ذلک المانع الأوّل الذی ذکرناه فیما إذا کان المعلوم بالإجمال حکماً ترخیصیاً، السید الخوئی(قدّس سرّه) لا یری أنّ هناک مانعاً آخر ثبوتیاً یمنع من جریان الأصول العملیة حتّی الاستصحاب فیما إذا کان المعلوم بالإجمال حکماً ترخیصیاً، لا یری أنّ المانع ثبوتی، وإنّما یری أنّ المانع فی حالةٍ من هذا القبیل حیث لا تلزم مخالفة عملیة، المانع منحصر بالتعارض، والتعارض إنّما یتم فیما إذا کان ما یثبت الحکم الظاهری فی الطرفین حجّة فی مثبتاته، حجّة فی مدالیله الالتزامیة وهذا منحصر بالإمارات ولا یتم فی الاستصحاب، إذن، السید الخوئی(قدّس سرّه) فی موارد العلم الإجمالی بالتکلیف یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف للمانع الثبوتی المتقدّم نقله عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) وهو مسألة أنّ جریانه یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة القبیحة بنظر العقل. وأمّا إذا کان المعلوم بالإجمال حکماً ترخیصیاً هو لا یری مانعاً من جریان الأصول حتّی الاستصحاب فی تمام الأطراف.

علی کل حال، المانع الثانی الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) بلسان أنّ الإحراز التعبّدی ببقاء الحالة السابقة فی کلا الطرفین یستحیل أن یجتمع مع العلم الوجدانی بانتقاض الحالة السابقة فی أحد الطرفین، هذا لابدّ من تقییمه، هل هو مانع ثبوتی یمنع من جریان الأصول فی الأطراف بقطع النظر عن المخالفة العملیة ؟ بحیث یجری حتّی إذا لم یلزم من جریان الأصول فی الأطراف مخالفة عملیة، أو أنّه لیس کذلک ؟ هذا مطلب لابدّ من بحثه وهو مطلب مهم جدّاً؛ لأنّه من هنا یتبیّن أنّه لا یکفینا فی أن ننکر وجود مانع ثبوتی من جریان الأصول مجرّد أن نقول کما نقلنا سابقاً وسیأتی أیضاً بأنّ هذا المانع الثبوتی مبنی علی أن یکون الحکم العقلی بالمنجّزیة حکماً تنجیزیاً، فإذا أنکرنا کونه تنجیزیاً وقلنا بأنّ الحکم العقلی تعلیقی، إذن، لا مانع ثبوتاً من جریان الأصول فی تمام الأطراف، هذا الکلام لا یکفی؛ لأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) أبرز مانعاً آخر لیس له علاقة بالمخالفة العملیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، هذا المانع الاخر یجری حتّی فی الموارد التی لا یلزم من جریان الأصول فی الأطراف الترخیص فی المخالفة القطعیة القبیحة بنظر العقل، عندما ینحصر المانع بالمانع الأوّل یجری هذا الجواب، وهو أنّ هذا مبنی علی أن یکون الحکم العقلی تنجیزیاً وهو لیس کذلک وإنّما هو تعلیقی، فلا منافاة ولا مشکلة فی جریان الأصول فی تمام الأطراف، هذا لا ینفع، لوجود مانع آخر یمنع من جریانه بقطع النظر عن مسألة الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ لابدّ من بحث هذا المانع، أنّ هذا المانع تام، أو لیس بتام.

ص: 607

بعبارة أخری: نطرح هذا السؤال: هل یستحیل بنظر العقل جریان أصلین من الأصول العملیة التنزیلیة؛ لأنّها هی مورد کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه)، هو سلّم أنّه لا مانع من جریان الأصول العملیة البحتة، هل یستحیل بنظر العقل جریان أصلین من الأصول العملیة التنزیلیة علی خلاف العلم الإجمالی، بقطع النظر عن الترخیص فی المخالفة العملیة کما نصبّ الکلام علی هذا المثال ما إذا علمنا بطهارة أحد الإناءین إجمالاً مع العلم بأنّهما کانا نجسین، هل یدرک العقل استحالة جریان استصحاب النجاسة؛ لتوفر أرکان الاستصحاب فی کلٍ من الطرفین باعتبار أنّ هذا ینافی العلم الإجمالی بطهارة أحدهما ؟ حتّی نکون بعیدین عن مسألة المخالفة العملیة. هل یدرک العقل استحالة هذا ؟ بحیث أنّ العالم بالإجمال بطهارة أحد الإناءین لا یتقبّل جریان الاستصحاب فی کلا الطرفین، ویعتبره أمراً غیر معقول ؟ الظاهر أنّه لا موجب لهذا، العقل لا یری مانعاً من جریان الاستصحاب فی کلا الطرفین بقطع النظر عن المخالفة العملیة؛ وذلک:

أولاً: یمکن أن نجیب عن هذا بجوابٍ مبنائی، وتقدّم سابقاً أیضاً، وهو أنّ اصل فکرة جعل الطریقیة وجعل العلمیة وإلغاء احتمال الخلاف وتنزیل الشک منزلة العلم والإحراز الواقع، هذه غیر مستفادة من دلیل الاستصحاب، جعل الطریقیة محل مناقشة کما تقدّم فی الإمارات فضلاً عن الاستصحاب بهذا المعنی الذی یقوله المحقق النائینی(قدّس سرّه)، هذا جواب مبنائی، سیأتی فی باب الاستصحاب ما هو مؤدّی دلیل الاستصحاب ؟ هل هو عبارة عن وظیفة عملیة تُعطی للشاک الذی یشک فی بقاء الحالة السابقة حتّی لا یبقی متردّداً فی أمره، بحیث یکون حاله حال الأصول العملیة الأخری ؟ أو أنّ فیه جنبة إحرازٍ للواقع وتنزیل الشاک منزلة العالم وتنزیل مؤدی الاستصحاب منزلة الواقع وأمثال هذه التعابیر، اصل المبنی ------------ جعل الطریقیة ------------ هو غیر مسلّم فی الإمارات، فضلاً عن الاستصحاب. بناءً علی هذا؛ حینئذٍ لا یکون هناک فرق بین الاستصحاب وبین سائر الأصول العملیة الأخری التی اعترف هو(قدّس سرّه) بجریانها فی تمام الأطراف، وإنّما الذی منعه من ذلک فی باب الاستصحاب باعتبار أنّه یری أنّ الاستصحاب لسانه لسان إحراز الواقع، فإذا أنکرنا هذا اللّسان ولم یبقَ فرق بین الاستصحاب وسائر الأصول العملیة؛ فحینئذٍ تنتهی المشکلة. هذا هو الجواب المبنائی.

ص: 608

ثانیاً: الجواب الآخر الذی قد یقال فی المقام، حتّی إذا فرضنا أنّ مفاد الاستصحاب هو إحراز الواقع، فاستصحاب النجاسة فی هذا الطرف مفاده إحراز الواقع، یعنی إحراز الحالة السابقة التی هی النجاسة المتیقنة سابقاً، الظاهر أنّه أیضاً لا ینافی العلم الوجدانی بطهارة أحد الإناءین؛ لأنّ هذا الإحراز مهما کان هو إحراز للواقع، إحراز للحالة السابقة، لکنّه یبقی إحرازاً تعبّدیاً غیر واقعی، إحراز تعبّدی للنجاسة فی هذا الطرف، وإحراز تعبّدی للنجاسة فی الطرف الآخر، فهو إحراز تعبّدی ولیس إحرازاً واقعیاً، إحراز واقعی ینافی العلم الوجدانی بطهارة أحد الإناءین، لا یمکن الجمع بینهما بحیث یُحرز واقعاً نجاسة کل منهما، وأیضاً یحرز طهارة أحدهما، لا یمکن الجمع بینهما، أمّا الإحراز التعبّدی الذی فیه جانب التعبّد، یعنی لیس إحرازاً واقعیاً، هذا لا نری مانعاً من أن یجتمع مع العلم الوجدانی بطهارة أحدهما، ویمکن للمکلّف أن یصدّق أنّ أحدهما طاهر ویقول أنّ الشارع لمصالح یعلمها قال أنا أحرز لک النجاسة فی هذا الإناء وأحرز لک النجاسة فی هذا الإناء تعبّداً، یعنی أبنِ علی أنّ هذا الإناء نجس، أبنِ علی أنّ هذا الإناء نجس بلسان إحراز الواقع لا یتنافی ظاهراً مع العلم الوجدانی بأنّ أحدهما طاهر، یعنی یمکن للمکلّف العالم بالإجمال بطهارة أحدهما أن یصدّق بأنّ الشارع جعل النجاسة الظاهریة فی هذا الإناء وجعل النجاسة الظاهریة فی هذا الإناء، فی خلاف هذا المثال لا یمکنه أن یصدّق؛ لأنّ جعل الطهارة ظاهریة فی کلا الإناءین عندما یکون عالماً بنجاسة أحدهما سوف یکون ترخیصاً فی المخالفة القطعیة وهی قبیحة بنظر العقل ویستحیل الترخیص فی القبیح. هذا المانع الأوّل. لکن فی عکسه لا یری مانعاً من أنّه یعلم بطهارة أحد الإناءین، لکن الشارع یجعل حکماً ظاهریاً بالنجاسة هنا وحکماً ظاهریاً بالنجاسة هنا، سواء کان هذا بلسان الأصل العملی البحت، أو بلسان الأصل العملی التنزیلی. ومن هنا یبدو ------------- والله العالم ------------- أنّ النتیجة التی نصل إلیها هی أنّه لابدّ أن نرجع إلی المانع الأوّل ونحاسبه، هل المانع الأوّل تام، أو لا ؟ یعنی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) أیضاً، قلنا أنّ کلاً منهما ادّعی المانع الثبوتی، لکنّ المانع الثبوتی إنّما یتم بناءً علی دعواهما بناءً علی أنّ حکم العقل بالاشتغال وبلزوم الامتثال والموافقة والمنجّزیة التکلیف المعلوم بالامتثال حکماً تنجیزیاً غیر معلّق، فلابدّ من بحث هذه النقطة حتّی نری أنّ المانع فی المقام هل هو مانع ثبوتی، أو لیس مانعاً ثبوتیاً.

ص: 609

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

عرفنا ممّا تقدّم أنّ البحث یجب أن یترکّز علی مسألة أنّ حکم العقل بوجوب إطاعة التکلیف المعلوم بالإجمال وقبح معصیته، هل هو حکم تنجیزی، أو هو حکم تعلیقی ؟ إذا ثبت أنّه حکم تنجیزی؛ حینئذٍ یثبت ما ذکروه من وجود مانعٍ ثبوتی یمنع من جریان الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّه حکم تنجیزی، ولا إشکال أنّ الترخیص فی جمیع الأطراف یکون منافیاً لهذا الحکم العقلی، وکل ترخیص ینافی الحکم العقلی یسقط ولا یعتنی به؛ لأنّه ینافی الحکم العقلی، فیثبت امتناع الترخیص فی جمیع أطراف العلم الإجمالی.

وأمّا بناءً علی أنّ الحکم تعلیقی، الحکم بوجوب إطاعة التکلیف المعلوم بالإجمال وقبح معصیته معلّق علی عدم ورود ترخیص من قبل نفس الشارع؛ حینئذٍ الترخیص لا ینافی هذا الحکم؛ لأنّه مع الترخیص یرتفع هذا الحکم الشرعی بارتفاع موضوعه وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لا یمنع من جریان الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی.

فی هذا البحث اختلفت آرائهم، المحققون کالمحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی صرّح بذلک (1) والمحقق النائینی(قدّس سرّه) (2) الذی یُفهم من کلامه أنّه فارغ عن مسألة أنّ الحکم العقلی حکم تنجیزی، ذهبوا إلی أنّه تنجیزی؛ ولذا اعتبروا أنّ الترخیص محال؛ لأنّه یصطدم مع هذا الحکم العقلی التنجیزی. هناک رأی آخر فی المقابل اختاره جماعة من المحققین المتأخّرین یری بأنّ الحکم العقلی فی المقام حکم تعلیقی ولیس حکماً تنجیزیاً، معلّق علی عدم ورود الترخیص وعدم الأذن من قبل الشارع نفسه.

ص: 610


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 306.
2- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 33.

بالنسبة إلی الرای الثانی وهو أنّ الحکم تعلیقی لا تنجیزی، یقرّب ببیان هذا إجماله: أنّ العقل إنّما یحکم بلزوم إطاعة تکلیف المولی الواصل إلی المکلّف ولو بالعلم الإجمالی وقبح معصیته إنّما یحکم بذلک لأجل المولی ومراعاة لحقه ولشأنه، فهو حکم لأجل المولی، حکم باعتبار أنّ العقل یراعی شأن المولی وحقّه، فحکم بقبح معصیته ولزوم طاعته، ومن الواضح أنّ هذا الحکم عندما یکون لأجل المولی ورعایةً لحقّه وشأنه قهراً لابدّ من افتراض أنّه تعلیقی؛ لأنّ العقل إنّما یحکم بلزوم الطاعة لأجل المولی، فإذا فرضنا أن نفس المولی الذی یحکم العقل بوجوب الطاعة مراعاة لحقّه رخّص فی المخالفة، فی هذه الحالة لا معنی لافتراض أنّ العقل یبقی مصرّاً علی قبح المعصیة ولزوم الطاعة؛ لأنّ الحکم هو أساساً حکم لأجل المولی ورعایة لشأنه، فعندما یتنازل المولی نفسه عن ذلک ویُرخّص فی المخالفة، فحینئذٍ لا یبقی للعقل حکم، وهذا هو معنی أنّ الحکم العقلی معلّق علی عدم إذن الشارع نفسه بالمخالفة؛ لأنّ المولی نفسه إذا رخّص فی المخالفة؛ حینئذٍ لیس للعقل حکم بلزوم الإطاعة وقبح المعصیة بالرغم من أنّ المولی نفسه رخّص فی المخالفة، هذا لا ینسجم مع افتراض أنّ أساس الحکم العقلی هو حکم احترامی ولأجل رعایة شأن المولی وحقّه، فإذن، لا یمکن أن نتصوّر أنّ هذا الحکم العقلی تنجیزی، بمعنی أنّه یثبت حتّی مع الترخیص بحیث یجعل الترخیص محالاً، وإنّما هو حکم تعلیقی ولابدّ من افتراض أنّه معلّق علی عدم إذن المولی نفسه فی المخالفة، فإذا فرضنا أنّ الشارع أذنَ؛ فحینئذٍ لا یحکم العقل بلزوم الطاعة وقبح المعصیة، وهذا معناه أنّ الحکم العقلی حکم تعلیقی. غایة الأمر أنّ أساس جعل هذا الحکم الظاهری ----------- الترخیص ------------ فی أطراف العلم الإجمالی هل هو ثابت، بمعنی أنّ أدلة الأصول هل تشمل أطراف العلم الإجمالی ؟ هذا تقدّم بحثه سابقاً بأنّه مبدئیاً لا مانع من افتراض شمول أدلّة الترخیص لکل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی، هذا الطرف موضوع الحکم الظاهری فیه محفوظ، وذاک الطرف أیضاً موضوع الحکم الظاهری فیه محفوظ، کلٌ منهما موضوع الترخیص الظاهری فیه محفوظ، وانحفاظ موضوع الحکم الظاهری فی کلٍ من الطرفین اعترف به المحققون الذین تقدّم ذکرهم کالمحقق العراقی(قدّس سرّه) والمحقق النائینی(قدّس سرّه)، (1) هل هناک مانع یمنع من جعل الترخیص فی کلا الطرفین؟ هذا المانع مبنی علی أنّ الترخیص فی کلا الطرفین مناقض ومضاد للحکم العقلی بوجوب الطاعة وقبح المعصیة إذا کان حکماً تنجیزیاً. أمّا إذا أنکرنا کونه حکماً تنجیزیاً وقلنا أنّه حکم تعلیقی وموضوع الحکم الظاهری المجعول فی دلیله محفوظ فی کلا الطرفین ولا مانع منه؛ لأنّ المانع هو عبارة عن الحکم العقلی التنجیزی، والحکم العقلی تعلیقی ولیس تنجیزیاً، فإذن، بالنتیجة لیس هناک مانع ثبوتی یمنع من إجراء الأصول المؤمّنة فی جمیع أطراف العلم الإجمالی.

ص: 611


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 17.

بعبارةٍ أخری: أنّ العلم الإجمالی علی أساس المحاذیر العقلیة، لا یمنع من جریان الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّ المانعیة مبتنیة علی کون حکم العقل حکماً تنجیزیاً، فإذا أنکرنا ذلک، فلا مانع. هذا المانع الثانی.

أصحاب الرأی الأوّل یقولون: أنّ حکم العقل هو حکم تنجیزی ولم یذکروا دلیلاً أو برهاناً علی ذلک، وإنّما کأنّه أحالوا الأمر علی الوجدان وما یدرکوه هم، وهم یدرکون أنّ الحکم العقلی حکم تنجیزی علی نحوٍ یکون الترخیص فی تمام الأطراف وفی المخالفة محالاً؛ لأنّ العقل یحکم بأنّ التکلیف الواصل للمکلّف ولو بالعلم الإجمالی، هذا التکلیف تجب طاعته وتقبح معصیته حکماً تنجیزیاً لا تعلیقیاً، فیکون منافیاً للترخیص؛ ولذا یکون الترخیص فی تمام الأطراف محالاً؛ لأنّه منافٍ للحکم العقلی التنجیزی. لم یذکروا برهاناً علی ذلک.

لکن یمکن أن یُفهم من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه) بالخصوص أنّه یری أنّ حکم العقل فی محل الکلام تنجیزی؛ (1) ولذا یحکم علی هذا الأساس باستحالة الترخیص فی تمام الأطراف؛ لأنّه یصطدم مع هذا الحکم العقلی التنجیزی بالرغم ممّا قیل من أنّ الحکم العقلی بلزوم الطاعة وقبح المعصیة إنّما هو لأجل المولی ورعایة لشأنه ولابدّ أن یکون حکماً تعلیقیاً لا تنجیزیاً، یعنی یؤمن بکلا الأمرین، ما هو المقصود بذلک ؟

أقول: یمکن أن یُفهم من بعض کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه) أنّه یری أنّ المضادّة التی توجب استحالة الترخیص فی تمام الأطراف هی المضادة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، لیکن الحکم العقلی أساساً حکماً تعلیقیاً، حکم معلّق علی عدم الترخیص من قِبل نفس الشارع، لکن قد یدّعی بأنّ العقل فی نفس الوقت أیضاً یحکم باستحالة هذا الترخیص، أساساً الحکم العقلی هو حکم احترامی، هو حکم لأجل المولی ورعایة لشأنه وحقّه؛ ولذا هو کحکم بهذا الشکل لابدّ أن یکون معلّقاً علی عدم ترخیص الشارع، لکن فی نفس الوقت یحکم العقل باستحالة جعل الترخیص فی تمام الأطراف، ویدرک أنّ الترخیص فی تمام الأطراف محال وبهذا یکون الحکم العقلی تنجیزیاً لا باعتبار أنّه أساساً لیس معلّقاً، وإنّما باعتبار أنّ شرط التنجیزیة تحقق بحکم العقل بالمضادّة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، الحکم العقلی تعلیقی، بمعنی أنّه یکون معلّقاً ومشروطاً بعدم الترخیص من قِبل الشارع، العقل یقول أنا أحرز عدم الترخیص، یستحیل الترخیص فی تمام الأطراف؛ لأنّه مضاد للتکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال. إذن: هو یحرز شرط تنجیزیة الحکم العقلی؛ لأنّ شرط کون الحکم العقلی تنجیزیاً هو عدم الترخیص، العقل عندما یحکم باستحالة الترخیص فی تمام الأطراف یتحقق شرط کون الحکم العقلی تنجیزیاً، صحیح، اساساً الحکم العقلی تعلیقی، معلّق علی عدم الترخیص؛ لأنّه حکم احترامی، لکن عندما یُدّعی أنّ العقل یُدرک فی نفس الوقت استحالة الترخیص، باعتبار أنّ الترخیص فی تمام الأطراف مناقض للتکلیف المعلوم بالإجمال، المناقضة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، هذه هی التی یدّعیها المحقق العراقی(قدّس سرّه) ویظهر من عباراته ویستدلّ علی هذه المناقضة، المناقضة بنظر العالم نفسه، العالم بالتکلیف یری أنّ جعل الترخیص فی تمام الأطراف محال؛ للمضادّة بینهما، من یصدّق بالتکلیف ویصل إلیه التکلیف ویعلم به هو لا یکاد یصدّق بجعل الترخیص فی تمام الأطراف؛ لأنّه یری وجود مضادّة بینهما، هذه المضادة إذا تمّت بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال هی التی تکون منشئاً لکون الحکم العقلی تنجیزیاً؛ لأنّها تحرز شرط التنجیزیة کما قلنا؛ لأنّ التنجیزیة مشروطة ------------- بناءً علی ما ذکروه -------------- بعدم الترخیص، فإذا حکم العقل باستحالة الترخیص علی أساس أنّ جعل الترخیص فی تمام الأطراف یُضاد التکلیف المعلوم بالإجمال، ببیان: أنّه فی نظر العالم یستحیل جعل الترخیص فی تمام الأطراف، من یصدّق بالتکلیف لا یُصدّق بجعل الترخیص فی تمام الأطراف، فالمضادّة ولو بنظر العالم بینهما ثابتة والعالم بالتکلیف بالإجمال لا یصدّق جعل الترخیص فی تمام الأطراف، وهذا هو الذی یکون مانعاً من جعل الترخیص فی تمام الأطراف، فإذا ثبت استحالة جعل الترخیص فی تمام الأطراف؛ لهذه المضادّة؛ حینئذٍ نحرز شرط کون الحکم العقلی حکماً تنجیزیاً وهو عدم الترخیص؛ لأنّ الحکم العقلی المعلّق علی عدم الترخیص یصبح تنجیزیاً بمجرّد إحراز عدم الترخیص، والعقل یحرز عدم الترخیص بحسب الفرض؛ وحینئذ تکون تنجیزیة الحکم العقلی وکون الحکم العقلی حکماً تنجیزیاً هو فی طول استحالة الترخیص لا العکس، بمعنی أنّ استحالة الترخیص لیست هی فی طول التنجیزیة حتّی نقول بأنّ حکم العقل لیس تنجیزیاً؛ بل هو تعلیقی فلا یستحیل الترخیص؛ لأنّ الترخیص یرفع موضوع الحکم العقلی وبالتالی لا یکون منافیاً ومضادّاً للحکم العقلی، هذا مبنی علی افتراض أنّ استحالة الترخیص فی طول کون الحکم العقلی تنجیزیاً، أولاً نثبت کون الحکم العقلی تنجیزیاً؛ حینئذٍ نقول بأنّ الترخیص یکون محالاً، فإذا قلنا أنّ الحکم العقلی تعلیقی ولیس تنجیزیاً، إذن: لا یکون الترخیص محالاً؛ لأنّه یکون رافعاً لموضوع الحکم العقلی، الذی یمکن أن یُفهم من عبارة المحقق العراقی(قدّس سرّه) هو العکس، هو یرید أن یقول أنّ استحالة الترخیص لیست فی طول کون الحکم العقلی تنجیزیاً، وإنّما الأمر بالعکس، بمعنی لنفترض أنّه یؤمن بأنّ الحکم العقلی أساساً هو تعلیقی، معلّق علی عدم ورود الترخیص، معلّق علی عدم الأذن، لکنّه یقول بأنّ العقل یدرک استحالة الترخیص والأذن ولو بالنسبة إلی العالم نفسه؛ لأنّه لا یکاد یصدّق بجعل الترخیص فی تمام الأطراف بعد أن وصل إلیه التکلیف وصدّق به، وهذا معناه أنّ استحالة الترخیص هی التی تکون منشئاً لصیرورة الحکم العقلی حکماً تنجیزیاً. إذن: صیرورة الحکم العقلی تنجیزیاً هو فی طول استحالة الترخیص لا أنّ الأمر بالعکس کما ذکروا، قد یقال: لا مانع من هذا الافتراض، بأن یقال بأنّ العقل یحکم بقبح المعصیة ولزوم الطاعة حکماً معلّقاً علی عدم ورود الترخیص، لکن فی نفس الوقت نری بأنّ العقل یحکم باستحالة الترخیص ممّا یؤدی إلی صیرورة هذا الحکم العقلی حکماً تنجیزیاً علی غرار -------------- من باب التوضیح --------------- ما إذا قیل لو کان للباری شریک لوجبت عبادته، لکن فی نفس الوقت نعلم باستحالة وجود شریک للباری، لو کان اجتماع النقیضین ممکن لما حصل التعارض بین هذین الدلیلین، لکن لا إشکال بأنّه یکون محالاً، هنا أیضاً نقول: لو أمکن جعل الترخیص؛ فحینئذٍ لا یکون منافیاً للحکم العقلی، لکنّه یستحیل جعل الترخیص، فیصبح الحکم العقلی تنجیزیاً.

ص: 612


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 306.

والحاصل: یمکن أن یُستفاد من عبارة المحقق العراقی(قدّس سرّه) کقائل بالرأی الأوّل هو أنّ المانع الثبوتی الذی یراه لجعل الترخیص فی جمیع الأطراف هو عبارة عن المضادّة والممانعة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، هذا هو المانع الثبوتی الذی یراه المحقق العراقی(قدّس سرّه) وهذا یمکن افتراضه حتّی مع فرض کون الحکم العقلی بلزوم الطاعة وقبح المعصیة حکماً تعلیقیاً کما ذکروا؛ لأنّ کونه تعلیقیاً لا ینفی هذه المضادة؛ لأنّ المفروض أنّ العقل یحکم باستحالة الترخیص، بعدم إمکان جعل الترخیص فی تمام الأطراف، باعتبار أنّه منافٍ للتکلیف المعلوم بالإجمال وغیر قابل للتصدیق بنظر العالم نفسه علی الأقل، یکون محالاً، هذا لا ینافی أنّ الحکم العقلی أساساً هو حکم تعلیقی؛ لأنّ العقل بإحراز استحالة جعل الترخیص فی تمام الأطراف هو یحرز شرط کون الحکم العقلی تنجیزیاً، فیکون منافیاً؛ وحینئذٍ یکون محالاً، هذا الترخیص فی تمام الأطراف بهذا الاعتبار. هذا الرأی الثانی فی أصل المسألة.

علی کل حال، بناءً علی هذا الرأی الثانی؛ حینئذٍ یکون المانع فی المقام مانعاً ثبوتیاً وهو یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف، وبالنسبة إلی هذا البحث تکون النتیجة هکذا:

بالنسبة إلی البحث الأوّل عن منجّزیة العلم الإجمالی بمقدار حرمة المخالفة القطعیة، قلنا أنّ اصل اقتضاء العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة ممّا لا إشکال فیه ولا خلاف فیه بینهم ولم یُنسب الخلاف إلی أحد، أنّ العلم الإجمالی یقتضی حرمة المخالفة القطعیة.

بالنسبة إلی البحث الثانی وهو البحث عن أنّ العلم الإجمالی هل یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف، أو لا، بناءً علی هذا الرأی هو یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف، والمانع هو مانع ثبوتی وهو عبارة عن المضادّة بین الترخیص وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال. إذا آمنا بالمنجّزیة التی یقولون بها بلا هذا التفصیل؛ حینئذٍ أیضاً یکون مانعاً، وإلاّ بناءً علی الرأی الثانی الذی ذکرناه؛ حینئذٍ یکون الحکم العقلی تعلیقیاً صرفاً والمضادّة التی توجب دعوی استحالة جعل الترخیص هی عبارة عن المضادّة بین الترخیص وبین الحکم العقلی، فإذا کان الحکم العقلی تعلیقیاً، فلا مضادة بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین الحکم العقلی؛ لأنّ المضادّة مبنیة علی افتراض أنّ الحکم العقلی حکم تنجیزی، فإذا أنکرنا کونه تنجیزیاً وقلنا أنّه تعلیقی؛ حینئذٍ لا مانع ثبوتاً من جعل الترخیص فی تمام الأطراف، والقائل بهذا لکی یتلافی الإشکال؛ لأنّه لا یمکنه أن یقول بجریان الأصول العملیة فی تمام الأطراف وجعل الترخیص فی تمام الأطراف لابدّ أن یبرز مانعاً آخر؛ بأن یکون المانع مانعاً إثباتیاً. هذا بالنسبة إلی منجّزیة العلم الإجمالی بمقدار تنجیز حرمة المخالفة القطعیة.

ص: 613

الآن ننتقل إلی منجّزیة العلم الإجمالی بمقدار وجوب الموافقة القطعیة. أیضاً الکلام یقع فی جهتین کما فی السابق:

الجهة الأوّلی: فی أصل اقتضاء العلم الإجمالی للمنجّزیة بهذا المقدار وعدمه، وهذا محل خلاف بینهم بخلاف هذا البحث فی المسألة السابقة، حیث قلنا أنّ أصل منجّزیة العلم الإجمالی بمقدار حرمة المخالفة القطعیة لا خلاف ولا نزاع فیه، لکن منجّزیة العلم الإجمالی بمقدار وجوب الموافقة القطعیة هو محل خلاف بینهم وهناک رأیان فی المسألة، رأی یری عدم الاقتضاء، أنّ العلم الإجمالی لا یقتضی المنجّزیة بمقدار وجوب الموافقة القطعیة. نعم، یقتضی المنجّزیة بمقدار حرمة المخالفة القطعیة، لکنّه لا یقتضی المنجّزیة بمقدار وجوب الموافقة القطعیة، الرأی الآخر یقول أنّه یقتضی المنجّزیة بمقدار وجوب الموافقة القطعیة کما اقتضی المنجّزیة بمقدار حرمة المخالفة القطعیة.

الجهة الثانیة: أنّ العلم الإجمالی هل یمنع من جریان الأصول فی بعض الأطراف، أو لا یمنع ؟ هاتان جهتان لابدّ من بحثهما.

بالنسبة إلی اصل الاقتضاء هناک خلاف:

الرأی الأوّل: یقول أنّ العلم الإجمالی لا یقتضی المنجّزیة بمقدار وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما یقال بالمنجّزیة باعتبار تعارض الأصول فی الأطراف کما هو ظاهر کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه) (1) والسید الخوئی(قدّس سرّه)، (2) حیث یرون أنّ اقتضاء العلم الإجمالی للمنجّزیة بمقدار وجوب الموافقة القطعیة لیس ناشئاً من أنّ العلم الإجمالی یقتضی هذه المنجّزیة مباشرةً وبلا واسطة، لو بقینا نحن والعلم الإجمالی لم یقتضِ هذه المنجّزیة، وإن کان یقتضی المنجّزیة بمقدار حرمة المخالفة القطعیة، لکن نلتزم بالمنجّزیة باعتبار تعارض الأصول بالأطراف، یعنی بعد الفراغ فی البحث السابق عن منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة وبعد الفراغ عن استحالة جعل الترخیص فی تمام الأطراف؛ حینئذٍ تتعارض الأصول فی الطرفین؛ لأنّ جریان الأصل فی الطرفین محال؛ لما تقدّم سابقاً من استحالة جعل الترخیص فی تمام الأطراف وأنّ العلم الإجمالی یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف، فلا یمکن جریان الأصل فی کلا الطرفین، جریان الأصل فی أحد الطرفین هو ترجیح بلا مرجّح؛ فحینئذٍ تتعارض هذه الأصول فی الأطراف، بمعنی أنّ شمول دلیل الأصل لهذا الطرف یعارضه شمول دلیل الأصل للطرف الآخر ولا مرجّح، ویستحیل الشمول لکلٍ منهما بناءً علی ما تمّ فی البحث السابق، فتتساقط الأصول فی الأطراف، فیبقی احتمال التکلیف فی کلّ طرفٍ احتمالاً بلا مؤّمن؛ لأنّ الأصول تساقطت فی الأطراف، فیبقی احتمال التکلیف فی هذا الطرف بلا مؤمّن، ویبقی احتمال التکلیف فی الطرف الآخر أیضاً بلا مؤمّن، فیجب علی المکلّف الموافقة القطعیة من باب بقاء احتمال التکلیف فی کلّ طرفٍ بلا مؤمّن، ویصرّح بأنّه بلا مؤمّنٍ شرعی ولا عقلی؛ لأنّ کل الأصول المؤمّنة تتساقط فی هذا العلم الإجمالی، فیتنجّز التکلیف المعلوم بالعلم الإجمالی بمقدار وجوب الموافقة القطعیّة.

ص: 614


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 305.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 348.

الرأی الثانی یری أنّ العلم الإجمالی هو ینجّز، هو یقتضی هذا المقدار من المنجّزیة کما یقتضی المقدار السابق من المنجّزیة، هو یقتضی وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال مباشرةً من دون حاجة إلی توسیط مسألة التعارض.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

نکتفی بالمقدار السابق عن الحدیث عن منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، والذی یبدو أنّ الصحیح هو أنّ العلم الإجمالی یقتضی حرمة المخالفة القطعیة بلا إشکال، وإنّما الکلام کان فی أنّ اقتضائه هل کان علی نحو العلّیة علی نحوٍ یمنع من جریان الأصول فی جمیع الأطراف، أو لا ؟ وتبیّن ممّا تقدّم أنّ الأقرب هو ما ذکروه من أنّه یمنع من جریان الأصول فی تمام الأطراف.

البحث الثانی: فی وجوب الموافقة القطعیة. وقلنا أنّ البحث فیه أیضاً یقع من جهتین، فی أصل الاقتضاء، أنّ العلم الإجمالی هل یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، أو لا ؟ والثانیة فی أنّه هل یمنع من جریان الأصول فی بعض الأطراف ؟ وعلی تحقیق الجهة الثانیة یترتّب أنّ العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، أو لا ؟ فإن قلنا فی الجهة الثانیة بأنّه یمنع من جریان الأصول فی بعض الأطراف، فهذا معناه أنّه یکون علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة کما هو کذلک بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة. وإنّ قلنا أنّه لا یمنع من جریان الأصول فی بعض الأطراف، فهذا معناه أنّ العلم الإجمالی هو مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعیة ولیس علّة تامّة لذلک.

بالنسبة إلی الجهة الأولی فی أصل الاقتضاء: هل العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، أو لا یقتضی ؟ هناک اتّجاهان:

ص: 615

الاتجاه الأوّل: ینکر الاقتضاء ویری بأنّ العلم الإجمالی بنفسه بما هو علم إجمالی لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، وإن کان یقتضی حرمة المخالفة القطعیة، لکنّه لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة.

الاتجاه الثانی: أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة کما هو الحال فی حرمة المخالفة القطعیة. الجهة الثانیة التی سیأتی البحث فیها مترتبة علی القول بالاقتضاء، یعنی عندما نفرغ عن الاقتضاء فی الجهة الأولی یقع الکلام فی أنّ هذا الاقتضاء هل هو علی نحو العلّیة التامّة، أو لا ؟ أمّا إذا قلنا بعدم الاقتضاء فی الجهة الأولی؛ فحینئذٍ لا معنی للبحث عن هل أنّه بنحو العلّیة، أو أنّه لیس بنحو العلّیة؛ لأنّه اساساً لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، فلا معنی لأن نتکلّم عن أنّ الاقتضاء هل هو بنحو العلّیة، أو لا ؟

فإذن: هناک ترتّب فی الجهتین بین البحثین کما هو واضح.

بالنسبة إلی البحث الأوّل، أصل الاقتضاء، الذی یظهر من المحقق النائینی(قدّس سرّه) کما هو ظاهر(أجود التقریرات) (1) والذی یظهر أیضاً من السید الخوئی(قدّس سرّه) (2) هو أنّهما یختاران عدم الاقتضاء، أنّ العلم الإجمالی فی نفسه لیس له اقتضاء وجوب الموافقة القطعیة، هذا ظاهر کلامه، بینما الآخرون کالمحقق العراقی(قدّس سرّه) (3) وغیره ذهبوا إلی الاقتضاء؛ بل قیل بأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی تقریر آخر له یظهر منه أیضاً القول بالاقتضاء. (4) علی کل حال، الذی یظهر من المحقق النائینی فی(أجود التقریرات) هو هذا الشیء الذی ذکرناه فی الدرس السابق وکان یبتنی علی افتراض أنّ ما تمّ علیه البیان فی العلم الإجمالی هو الجامع، وبالتبع یکون المنجّز الذی یتنجّز علی المکلّف هو الجامع؛ لأنّه هو الذی تمّ علیه البیان، ما زاد علی الجامع لم یتم علیه البیان، فلا یتنجّز علی المکلّف؛ لأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان تنفی منجّزیته إلاّ بمقدار ما تمّ علیه البیان، البیان لم یتم إلاّ علی الجامع؛ حینئذٍ هذا معناه أنّ الجامع یتنجّز علی المکلّف، یدخل فی عهدة المکلّف ویجب علیه امتثاله وموافقته وتحرم علیه مخالفته ومعصیته، هذا بلا إشکال، لکنّه یقول: هذا الذی تمّ علیه البیان یکفی الإتیان بأحد الطرفین، هو لا یستطیع أن ینجّز أکثر من أحد الطرفین؛ لأنّ الذی تمّ علیه البیان هو وجوب أحدی الصلاتین فی مثال الظهر والجمعة، ویکفی فی امتثال هذا الجامع الإتیان بأحد الطرفین، أمّا ما زاد علی ذلک، یعنی الإتیان بالطرف الآخر أیضاً الذی هو عبارة عن الموافقة القطعیة فلا یقتضیه نفس العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ ما تمّ علیه البیان هو الجامع فقط، والجامع یُمتثل بالإتیان بأحد الطرفین، وما زاد علی ذلک لیس ممّا تمّ علیه البیان وبالتالی لا یکون قد ثبت فیه التنجیز، فخصوصیة الظهر وخصوصیة الجمعة فی المثال السابق ممّا لم یتمّ علیه البیان، البیان تمّ علی الجامع فقط، فیجب علیه امتثال الجامع ویکفی فی امتثاله الإتیان بأحد الطرفین وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة فی حدّ نفسه. نعم ------------- یستدرک المحقق النائینی(قدّس سرّه) -------------- بأنّه لمّا کان العلم الإجمالی کما تقدّم مقتضیاً لحرمة المخالفة القطعیة علی نحو العلّیة التامّة؛ حینئذٍ هذا سوف یوقع التعارض بین الأصلین فی الطرفین؛ لأنّه مبدئیاً لا مانع من جریان الأصل فی مورد العلم الإجمالی بلحاظ وجوب الموافقة القطعیة، لکن هناک مسألة أخری وهی أنّ هذا الأصل أین یجری ؟ إجراؤه فی کلٍ منهما محال؛ لأنّه یستلزم المخالفة القطعیة، والمفروض أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، حرمة المخالفة القطعیة وکون العلم الإجمالی علّة لها یؤدّی بالتالی إلی أنّ إجراء هذا الأصل فی کلا الطرفین محال، وإجراؤه فی أحد الطرفین ترجیح بلا مرجّح، وهذا هو معنی تعارض الأصول فی الطرفین وتساقطها، جریان الأصل فی هذا الطرف یُعارض بجریان الأصل فی الطرف الآخر؛ لأنّ کل طرف قابل لأن یجری فیه الأصل، فیُعارض جریانه فی الطرف الآخر، وجریانه فی کلا الطرفین محال، فیقع التعارض بین الأصلین فی الطرفین، فیتساقطان، فإذا تساقطت الأصول المؤمّنة فی کلٍ من الطرفین یبقی احتمال التکلیف، ویبقی الاحتمال فی کلٍ من الطرفین بلا مؤمّن، لا مؤمّن شرعی ولا مؤمّن عقلی، فیتنجّز الاحتمال فی کلٍ من الطرفین، فتجب الموافقة القطعیة، لکنّ وجوب الموافقة القطعیة لیس باعتبار أنّ العلم الإجمالی اقتضاها، وإنّما باعتبار التعارض ولولا التعارض لما کان هناک مانع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین.

ص: 616


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 234.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 348.
3- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 295.
4- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 231.

قد یُعترض علی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّ هذا الذی ذکره مبنی علی رأیه وما یختاره فی تفسیر العلم الإجمالی، باعتبار أنّه یختار أنّ العلم الإجمالی هو علم بالجامع وأنّ العلم الإجمالی یقف علی الجامع ولا یتعلّق بالواقع، هذا البرهان الذی یذکره ------------- إذا صحّ تسمیته بالبرهان --------------- مبنی علی ما یختاره من العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع؛ حینئذٍ یجری هذا الکلام، فیقال أنّ ما یعلمه المکلّف وما تمّ علیه البیان هو الجامع لا أکثر من ذلک، فیکون هو المنجّز علی المکلّف والداخل فی عهدته، فإذا کان الجامع هو الداخل فی عهدة المکلّف والمنجّز علیه، یکفی فی امتثاله الاتیان بأحد الطرفین ولا یتوقّف علی الإتیان بکلا الطرفین، فلا تجب الموافقة القطعیّة بلحاظ العلم الإجمالی. وأمّا لو قلنا بالقول الآخر فی تفسیر العلم الإجمالی، أی لو قلنا بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع لا بالجامع، فهل یتم ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) ؟

قد یقال: أنّما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یتم؛ لأنّ العلم الإجمالی بحسب هذا المبنی یتعلّق بالواقع لا بالجامع، فکأنّ البیان یتمّ علی الواقع وما یتنجّز علی المکلّف هو الواقع، وإذا تنجّز الواقع علی المکلّف؛ فحینئذٍ تنقلب الآیة؛ وحینئذٍ یجب الإتیان بالواقع، ومن الواضح أنّه لا یمکن للمکلّف الإتیان بالواقع إلاّ إذا جاء بکلا الطرفین، إلاّ بالموافقة القطعیة، وإلاّ، إذا اقتصر علی أحد الطرفین؛ فحینئذٍ لا یحرز أنّه قد جاء بما تنجّز علیه وما دخل فی عهدته، فیکون العلم الإجمالی مقتضیاً لوجوب الموافقة القطعیة لا أنّه لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة کما یقول، فإذن: عدم الاقتضاء إذا کان هو مختاره یکون مبنیاً علی أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع ولا یتعلّق بالواقع، أمّا إذا تعلّق بالواقع، فالمسألة تنقلب ویکون الصحیح هو أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ الواقع إذا دخل فی الذمّة وتنجّز؛ فحینئذٍ یحکم العقل بوجوب موافقته وحرمة معصیته، ولا یستطیع أن یوافقه علی نحو الجزم والیقین إلاّ بأن یأتی بکلا الطرفین وهو معنی وجوب الموافقة القطعیة.

ص: 617

لکن الظاهر أنّ البرهان الذی ذکره لا یبتنی علی القول بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع؛ بل یمکن جریان هذا البرهان ------------- إذا کان تامّاً ------------- حتّی إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع لا بالجامع، وذلک لأنّ صاحب هذا القول ------------- الذی هو المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یقول أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع ------------ یفسّره بهذا التفسیر، هو لا یدّعی إطلاقاً بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع الخارجی حتّی یقال أنّ هذا الواقع الخارجی تنجّز علی المکلّف، هو لا یدّعی ذلک؛ لأنّ هذا لا یُدّعی حتّی فی العلم التفصیلی، فضلاً عن العلم الإجمالی، العلوم کلّها تتعلّق بصور ذهنیة ولا تتعلّق بالواقع الخارجی الموضوعی، تتعلّق بصور ذهنیة حاکیة عن الواقع وتکون تلک الصور هی المعلومة بالذات وما تحکی عنه یکون معلوماً بالعرض، المعلوم بالذات أساساً هی الصور الذهنیة هی التی یتعلّق بها العلم، فلیس مقصوده بالواقع هو الواقع الخارجی، ای بعبارة ثانیة: لیس مقصوده هو المعلوم بالعرض، وإنّما مراده من المبنی الذی اختاره هو أنّ الصورة التی یتعلّق بها العلم، تارةً تکون صورة واضحة لا غبار فیها ولا تشویش إطلاقاً کما فی العلم التفصیلی، وأخری تکون صورة مشوّشة لیست بذاک الوضوح الذی فی العلم التفصیلی، هذا التشویش فی الصورة التی یتعلّق بها العلم الذی هو مقصوده من تعلّق العلم بالواقع، فی الحقیقة هذا التشویش والإبهام الموجود فی تلک الصورة هو بالنسبة إلی الفرد، بالنسبة إلی الظهر والجمعة فی مثالنا، والصورة الواضحة التی هی بالتحلیل یکون لدینا فی هذه الصورة جانب تشویش وجانب وضوح، جانب الوضوح هو بالنسبة إلی الجامع، هذا لیس فیه تشویش، وإنّما التشویش یکون بالنسبة إلی الفرد، بالنسبة إلی الظهر والجمعة، هذا هو الذی یکون فیه تشویش وإبهام، بناءً علی البرهان الذی یذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، یمکن تتمیمه حتّی بناءً علی تعلّق العلم بالواقع بعد تفسیره بهذا التفسیر؛ لأنّه بإمکان المحقق النائینی(قدّس سرّه) أن یقول أنّ الفرد لم یتم علیه البیان؛ لأنّ الصورة التی تعلّق بها العلم کان فیها غموض وإبهام وتشویش من ناحیة الفرد، الظهر لم یتم فیه البیان، والجمعة بخصوصها لم یتم فیها البیان، ما تمّ علیه البیان هو الجامع لا أکثر منه؛ لأنّ الصورة التی تحکی عن الفرد بمقدار حکایتها عن الفرد هی صورة مشوّشة ومبهمة، فإذن یستطیع أن یقول لم یتم البیان علیه وإنّما ما تمّ علیه البیان هو الجامع؛ لأنّ الصورة التی تحکی عنه هی صورة واضحة وغیر مشوّشة، فإذن ما تمّ علیه البیان هو الجامع، فیتنجّز علی المکلّف، ویجری حینئذٍ برهان المحقق النائینی(قدّس سرّه) السابق وهو أنّ هذا الذی یتنجّز علی المکلّف باعتبار أنّه تمّ البیان علیه لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة والإتیان بکلا الطرفین، وإنّما یکفی فی امتثاله الإتیان بأحدهما، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة. هذا غایة ما یمکن أن یقال فی مقام الاستدلال علی هذا الرأی الأوّل وهو عدم الاقتضاء فی محل الکلام.

ص: 618

هناک ملاحظة علی کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) المتقدّم ترتبط ببعض عباراته التی یُفهم منها أنّ التعارض الذی ذکره فی الأصول بلحاظ أطراف العلم الإجمالی لا یختص بالأصول الشرعیة، وإنّما کل الأصول المؤمّنة تتعارض فی الأطراف وتتساقط حتّی الأصل العملی العقلی، یعنی أصالة البراءة العقلیة أیضاً کأنّها تجری فی الطرفین وتتعارض، فتتساقط، فیبقی الاحتمال فی کل طرفٍ بلا مؤمّن عقلی ولا مؤمّن شرعی؛ لأنّ المؤمنات کلّها العقلیة والنقلیة تعارضت فی الطرفین وتساقطت، فیبقی الاحتمال فی الطرفین بلا مؤمّن، فیتنجّز، فتجب الموافقة القطعیة؛ لأجل التعارض. هناک ملاحظة علی هذا وهی: أساساً أنّ تصوّر التعارض فی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان مشکل، ما معنی وقوع التعارض فی الحکم العقلی بین الطرفین ؟ یمکن افتراض وقوع التعارض بین الأصول الشرعیة، موضوع الأصل الشرعی محفوظ فی هذا الطرف، ومحفوظ فی الطرف الآخر ومقتضی دلیل هذا الأصل هو أنّه یجری فی هذا الطرف، ومقتضی الدلیل هو أنّه یجری فی الطرف الآخر ولا یمکن جریانه فی کلٍ من الطرفین؛ لأنّه محال، فیقع التعارض، لکن بالنسبة إلی الأصول العقلیة، کیف یمکن تصوّر وقوع التعارض بین الأصول العقلیة فی الطرفین ؟ بعبارةٍ أخری: أنّ الحکم العقلی حکم باتّ وقطعی ولابدّ أن یکون موضوعه واضحاً بنظر العقل؛ حینئذٍ موضوع الأصل العقلی الذی هو عدم البیان والمقصود به قبح العقاب بلا بیان، موضوعه عدم البیان، فالعقل بدایة یری أنّ هذا الموضوع هل هو تام فی کلا الطرفین، أو لا ؟ إذا کان تامّاً فی کلا الطرفین؛ حینئذٍ یجری فی کلا الطرفین بلا تعارض، وإن لم یکن تامّاً، فهو لا یجری أساساً، ولیس أنّه لا یجری لأجل التعارض، أصلاً لا یوجد مقتضٍ لجریانه؛ لأنّ الموضوع لیس محفوظاً فی الطرفین، هذا شیء ینبغی أن یبتّ به العقل لا أن یبقی العقل متردداً، وإنّما العقل من البدایة لابدّ أن یقرر أن موضوعه ----------- عدم البیان ----------- هل هو تام فی أطراف العلم الإجمالی، أو لیس تامّاً، إذا کان تامّاً تجری الأصول بلا تعارض ومن دون أن تکون هناک منافاة بین جریانه فی هذا الطرف وبین جریانه فی ذاک الطرف، وإن لم یکن تامّاً فی موارد العلم الإجمالی وإن کان تامّاً فی الشبهات البدویة؛ حینئذٍ لا یجری الأصل العقلی، وعدم جریانه لیس للمعارضة، وإنّما هو لا یجری لعدم وجود مقتضٍ لجریانه. هذه ملاحظة جانبیة علی المحقق النائینی(قدّس سرّه) .

ص: 619

الملاحظة الأساسیة فی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) هی: یبدو أنّ ما ذکره اشبه بالبرهان الذی یصطدم مع الوجدان والذی علی أساس ذلک لا یمکن قبوله، ما ذکره من أنّ ما تمّ علیه البیان هو الجامع ویکفی فی امتثاله الإتیان بأحد الطرفین، هذا المقدار فقط. الذی یبدو أنّ الأمر لیس هکذا، الوجدان لا یساعد علی ذلک، الوجدان یساعد علی أنّ ما یتنجّز علی المکلّف لیس هو الجامع، الجامع الذی یمکن تطبیقه علی هذا الفرد ویتحقق به امتثاله، ویمکن تطبیقه علی ذاک الفرد ویتحقق به امتثاله، کلا، لیس هذا الذی یتنجّز علی المکلّف؛ لأنّ الشارع لا یقبل الجامع، بمعنی أنّه یخیّر المکلّف بین أن یأتی بهذا الفرد، أو یأتی بذاک الفرد، هو یطلب منه صلاة واحدة، ما یتنجّز علی المکلّف فی هذا المورد بالوجدان هو عبارة عن صلاة، إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة لا أنّ الذی یطلبه الشارع ویریده من المکلّف فی هذا المثال هو إحدی الصلاتین، عنوان(إحدی الصلاتین) بحیث یمکن للمکلّف أن یطبّق هذا العنوان علی صلاة الظهر ویمکن أنّ یطبّقه علی صلاة الجمعة، لیس هذا هو المطلوب من المکلّف، الحکم الشرعی وارد قطعاً بعنوان(صلاة الظهر) ولکن أنا لا أدری، فاحتمل أنّه وارد بعنوان(صلاة الجمعة) هذا هو الذی کلّف به الشارع، وهذا هو الذی دخل فی عهدة المکلّف وهو الذی یجب علی المکلّف الإتیان به؛ لأنّه دخل فی عهدنه وتنجّز علیه، هذا لا یکفی فی امتثاله أن یأتی بإحدی الصلاتین، هذا لیس امتثالاً لما کُلّف به، ولیس امتثالاً لما دخل فی عهدته، امتثال ما دخل فی عهدته بالرغم من ترددّه بین صلاة الظهر وصلاة الجمعة لا یکون إلاّ بأن یأتی بکلا الطرفین لا بأن یأتی بأحد الطرفین، الشارع کلّف المکلّف إمّا بصلاة الظهر، أو بصلاة الجمعة والمکلّف یعلم بأنّ ذمته اشتغلت بهذا أو بهذا، وتنجّز علیه إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، أی دخلت فی عهدته، هل یمکن للمکلّف أن یکتفی بأحد الطرفین ویقول هذا امتثال لما اشتغلت به الذمة، کلا، هذا لیس امتثالاً لما اشتغلت به الذمة، والسرّ هو أنّ الشارع لم یأمر بعنوان(إحدی الصلاتین) کما فی کفارات التخییر، أمر إمّا بعتق رقبة، أو صیام شهرین، أو إطعام ستین مسکیناً، إحدی الخصال هی التی تکون واجبة علی المکلّف وتتحقق بهذا، أو بهذا، أو بهذا، المسألة لیست مسألة تخییر، وإنّما الواجب أساساً فی الشریعة هو صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، إحداهما هی الواجبة لا بعنوان(إحدی الصلاتین)، الشارع لم یوجب أحدی الصلاتین، وإنّما أوجب صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، ما یدخل فی العهدة هو صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، هذا هو الذی یتنجّز علی المکلّف ویدخل فی عهدته؛ حینئذٍ یقول العقل یجب علیک إطاعة هذا التکلیف وتقبح علیک معصیته، وإطاعة هذا التکلیف لا تکون إلاّ بالإتیان بکلا الفردین ولا یکفی فی الإطاعة الجزمیة الیقینیة لهذا التکلیف المنجّز علی المکلّف أن یأتی المکلّف بأحد الطرفین، الوجدان لا یساعد علی افتراض أنّه فی هذا الحال، فی موارد العلم الإجمالی أن یُکتفی بأحد الطرفین، الأمر لیس هکذا، وإنّما المسألة تماماً بالعکس، بمعنی أنّه فی موارد العلم الإجمالی هی عبارة عن الصلاة التی أمر بها الشارع التی هی مرددّة بنظر المکلّف بین صلاة الظهر وبین صلاة الجمعة، ویجب علی المکلّف أن یمتثل ذلک وأن یحرز امتثاله، وامتثاله لا یکون إلاّ بالموافقة القطعیة ولا تکفی الموافقة الاحتمالیة، وادّعاء أنّ الواجب هو عنوان(أحدهما) هو ادّعاء غیر صحیح ویخالفه الوجدان؛ لأنّ الواجب لیس هو عنوان(أحدهما) الذی یصح تطبیقه علی هذا الفرد ویصح تطبیقه علی هذا الفرد بحیث یکون المکلّف مخیّر فی التطبیق بینهما، لیس هذا هو الواجب، لیس الواجب هو عنوان(إحدی الصلاتین) کما هو الحال فی خصال الکفّارة؛ بل الواجب هو صلاة معینة فی الواقع التی هی مرددّة بنظر المکلّف وهی صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، وذاک الواجب الذی یتعلّق به الوجوب ویأمر به الشارع هو الذی یتنجّز علی المکلّف ویجب علی المکلّف امتثاله ولا یکون امتثاله إلاّ بالإتیان بکلا الطرفین.

ص: 620

ومن هنا یظهر أنّ القول بعدم الاقتضاء أصلاً الظاهر أنّه لیس فی محلّه، والصحیح هو الاقتضاء، أی أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة کما یقتضی حرمة المخالفة القطعیة. أمّا مسألة جریان الأصول فی بعض الأطراف، أو عدم جریانها هی مسألة أخری سیأتی بحثها، أصل أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، أو لا، یعنی إذا أنکرنا الاقتضاء یکون العلم الإجمالی حاله حال الشبهة البدویة وهذا خلاف الوجدان، أن نقول أنّ المکلّف عالم بالتکلیف غایة الأمر أنّ التکلیف مردد بین الظهر وبین الجمعة، ونقول لا یقتضی هذا العلم موافقته القطعیة، علی الأقل اقتضاءً حتّی إذا فرضنا أنّه لا مانع من ناحیته من إجراء الأصل فی بعض الأطراف. یعنی بعبارة أخری: یکون اقتضاء لا علی نحو العلّیة، إنکار الاقتضاء لا علی نحو العلیة، هذا خلاف الوجدان؛ بل العلم الإجمالی ینجّز التکلیف المعلوم بالإجمال علی المکلّف، وکما تحرم مخالفته القطعیة فی الطرفین، کذلک هو یقتضی وجوب الموافقة القطعیة بالإتیان بکلا الطرفین. هذا هو الرأی الثانی، بعد ذلک نتعرّض إلی مطلبٍ ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

الکلام فی الجهّة الثانیة: الکلام یقع فی مانعیة العلم الإجمالی عن جریان الأصول فی بعض الأطراف، بعد الفراغ عن اقتضاء العلم الإجمالی حرمة المخالفة القطعیة، وإلاّ إذا لم یقتضی العلم الإجمالی حرمة المخالفة القطعیة، فلا تصل النوبة إلی الکلام عن الجهة الثانیة؛ إذا لا إشکال أنّ العلم الإجمالی حینئذٍ لا یمنع من جریان الأصل فی بعض الأطراف.

ص: 621

بعبارة أخری: أنّ البحث فی الجهة الثانیة یقع فی أنّ الاقتضاء الثابت فی الجهة الأولی الذی فرغنا عنه، أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة فی مقابل عدم الاقتضاء أصلاً. الکلام هنا یقع فی أنّ هذا الاقتضاء هل هو بنحو العلّیة علی نحوٍ یمنع من جریان الأصل فی بعض الأطراف، أو لیس علی نحو العلّیة، فلا یمنع من جریان الأصل فی بعض الأطراف ؟ هل هو علی نحو العلّیة، أو علی نحو الاقتضاء ؟ الکلام فی هذه الجهة .

هنا اختلفوا أیضاً فی أنّ العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، أو هو مقتضٍ فقط؟ والمقصود بالاقتضاء فی المقام هو التعلیق، بمعنی أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة لکن علی نحوٍ معلّق علی عدم ورود الترخیص من قِبل الشارع ولا یکون منافیاً لأیّ شیءٍ، لا للعلم الإجمالی ولا لحکم العقل؛ لأنّها کلّها تعلیقیة، العلم الإجمالی فیه اقتضاء وجوب الموافقة القطعیة وهو معنی التعلیق کما قلنا. القائلون بالاقتضاء فی الجهة الأولی اختلفوا، هناک رأی یقول بأنّه مقتضٍ فقط لوجوب الموافقة القطعیة ولیس علّة تامّة، الرأی الآخر یقول أنّه علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، الظاهر من المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی بعض کلماته هو القول بعدم العلّیة، العلم الإجمالی فقط مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعیة، (1) فلا مانع من الترخیص فی بعض الأطراف إذا تمّت شرائطه، وظاهر السید الخوئی(قدّس سرّه) أنّه تابعه فی ذلک، فی حین ذهب المحقق العراقی(قدّس سرّه) إلی وجوب الموافقة القطعیة (2) وهو الظاهر من کلام صاحب الکفایة(قدّس سرّه) فی بعض عباراته کما سیأتی. (3)

ص: 622


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 32.
2- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 2، ص 46.
3- کفایة الأصول، الآخوند الخراسانی، ص 359.

المحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی یقول بالاقتضاء لا بالعلّیة ذکر عبارة یُفهم منها أنّه فی مقام بیان ما یترتّب علی القول بالاقتضاء. وبعبارة أخری: کأنّه فی مقام بیان ثمرةٍ لهذا النزاع، هل هو علی نحو العلّیة، أو لا ؟ ذکر ثمرة لهذا النزاع، قال:(أنّه لو کان فی بعض أطراف العلم الإجمالی أصل أو إمارة بلا معارض، لأوجب انحلال العلم، أو عدم تأثیره من أوّل الأمر فأنّ تنجیز العلم الإجمالی یتوقّف علی تحقق العلم بالتکلیف الفعلی علی کل تقدیر وعدم انحلاله). (1) یقول هذا الأصل والإمارة یجری فی ذاک الطرف؛ لأنّه لا معارض له من الطرف الآخر بحسب الفرض، وبالتالی یکون جریان الأصل فی ذاک الطرف موجباً لانحلال العلم الإجمالی؛ لأنّ العلم الإجمالی إنّما یتنجّز ویؤثر أثره إذا کان موجباً للعلم بالتکلیف علی کل تقدیر، أمّا إذا لم یکن کذلک، بأن فرضنا أنّه علی أحد التقدیرین لا یوجد تکلیف، وإنّما التکلیف علی التقدیر الآخر، یقول: مثل هذا العلم الإجمالی ینحلّ ولو حکماً، وذکر أمثلة لذلک، یقول: لو فرضنا أنّ أحد الطرفین کان خارجاً عن محل الابتلاء؛ حینئذٍ الأصل فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء یجری بلا معارض؛ لأن الطرف الخارج عن محل الابتلاء لا یجری فیه الأصل، لا معنی لجریان الأصل والتأمین فی طرفٍ خارج عن محل الابتلاء، فیجری الأصل فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، أو کان فی بعض الأطراف منجّز للتکلیف کما إذا کانت الحالة السابقة لأحد الطرفین هی النجاسة، فجری فیه استصحاب النجاسة، فی هذه الحالة یقول: لا مانع من جریان الأصل المؤمن فی الطرف الآخر؛ لأنّ هذا الأصل لیس له معارض.

ص: 623


1- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 245.

علی کل حال، یقول: عندما یُفترض إمکان جریان الأصل فی أحد الطرفین بلا معارض یجری هذا الأصل، ولا مانع من جریانه، ویجری آثار جریان الأصل فی أحد الطرفین من الانحلال وغیره.

هذه الثمرة التی أشار إلیه المحقق النائینی(قدّس سرّه) تُبیّن بهذا الشکل: إن قلنا بالاقتضاء فی محل الکلام، فلا مانع من جریان الأصل فی أحد الطرفین إذا لم یکن له معارض، ولا مشکلة فیه، یجری فی هذا الطرف؛ لأنّه لیس له معارض؛ لأننا نقول بالاقتضاء بحسب الفرض، ومعنی الاقتضاء هو أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، لکن إذا ورد الترخیص وکانت شرائط جریان الأصل والترخیص تامّة فی طرف، فلا مانع من جریانه، الاقتضاء لا یمنع من جریان الأصل فی أحد الأطراف إذا تمّت شرائطه، ومن جملة شرائط جریان الأصل هو عدم وجود المعارض، فإذا افترضنا عدم وجود المعارض لا مانع من جریان الأصل فی هذا الطرف، أمّا إذا قلنا بالعلّیة التامّة، فلا یجری الأصل فی ذاک الطرف حتّی إذا لم یکن له معارض؛ لأنّ هذا معنی أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الموافقة القطعیة علی نحو العلّیة التامّة؛ لأنّه حینئذٍ یمنع من جریان الأصل حتّی فی طرفٍ واحد، فتظهر الثمرة هنا، إن قلنا بالعلّیة التامّة لا یجری الأصل فی هذا الطرف الداخل فی محل الابتلاء فی مثال خروج أحد الطرفین عن محل الابتلاء، أمّا إذا قلنا بالعلّیة التامّة؛ فحینئذٍ لا یجری الأصل.

هذه الثمرة هل هی ثمرة للبحث الأوّل، أو للبحث الثانی ؟ هل هی ثمرة للبحث الأوّل، یعنی للخلاف فی الاقتضاء وعدم الاقتضاء ؟ أو هی ثمرة للبحث الثانی، أی الخلاف فی أنّه علی نحو العلّیة، أو لیس علی نحو العلّیة ؟ الظاهر أنّها ثمرة للبحث الثانی، بمعنی أنّ هذه الثمرة لا تترتب علی الخلاف السابق؛ لأنّه فی الخلاف السابق علی کلا التقدیرین بقطع النظر عن الخلاف الثانی لا مانع من جریان الأصل فی أحد الطرفین إذا لم یکن له معارض، أمّا علی عدم الاقتضاء فواضح، إذا قلنا أنّ العلم الإجمالی أصلاً لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، فیمکن جریان الأصل فی هذا الطرف إذا لم یکن له معارض. وأمّا إذا قلنا بالاقتضاء لا علی نحو العلّیة، فأیضاً حینئذٍ نلتزم بجریان الأصل فی ذلک الطرف إذا لم یکن له معارض؛ لأنّ القول بالاقتضاء لا یمنع من جریان الأصل فی بعض الأطراف إذا تمّت شرائطه؛ بل هو معنی الاقتضاء أنّه لا مانع من جریان الأصل فی بعض الأطراف، فإذن: علی کلا التقدیرین الأصل یجری فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء إذا لم یکن له معارض، فلا یکون هذا ثمرة للبحث السابق، وإنّما یکون ثمرة لهذا البحث، یکون ثمرة للبحث أنّ الاقتضاء هل هو بنحو العلّیة، أو لا؟ فإن کان بنحو العلّیة، فهو یمنع من جریان الأصل فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، وإلاّ فهو لا یمنع من جریان الأصل فی ذلک الطرف، فیکون ثمرة للبحث الثانی.

ص: 624

الذی أرید أن أقوله هو: أنّ الذی یظهر من کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) لأنّه هناک خلاف فی أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) ماذا یرید أن یقول ؟ هل هو ینکر الاقتضاء کما تقدّم احتماله فی البحث الأوّل وذکر بعض العبارات الظاهرة فی أنّه یری عدم الاقتضاء أصلاً ؟ أو أنّه یقول بالاقتضاء لکن لا علی نحو العلّیة ؟ ترتیب هذه الثمرة، الظاهر أنّه یقول بالاقتضاء لکن لا علی نحو العلّیة؛ ولذا جعل هذه ثمرة، إن قلنا بالاقتضاء یجری الأصل، وإلاّ، یعنی إن قلنا بالعلّیة التامّة؛ فحینئذٍ لا یجری الأصل فی الطرف الداخل فی محل الابتلاء، کلماته مضطربة یمکن أن یُجعل هذا قرینة علی أنّ مقصوده هو القول بالاقتضاء لا أنّه ینکر الاقتضاء أصلاً؛ لأنّ إنکار الاقتضاء فی مقابل القول بالاقتضاء لا تترتب علیه هذه الثمرة، وإنّما هذه الثمرة تترتب علی القول بالاقتضاء فی مقابل العلّیة؛ ولذا هو رتّب هذه الثمرة بعد أن ذکر المطلب قال: یظهر ممّا تقدّم أنّه لا مانع من جریان الأصل فی أحد الطرفین إذا لم یکن له معارض فی مقابل القول بالعلّیة التامة الذی یعنی أننا نمنع من جریان الأصل حتّی إذا لم یکن له معارض.

هناک عبارة للمحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر فیها هذه العبارة:(ومنه یظهر فساد القول بکون نفس العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فأنّک قد عرفت عدم ترتّبه علیه بنفسه، فکیف یُعقل کونه علّة له؛ بل لیس فیه اقتضاء لثبوته أیضاً إلاّ معنی کونه من أجزاء علّته). (1) لعلّ ------------ هذه فی الطرف المقابل ------------ نسبة القول بالاقتضاء إلیه لعلّها ناشئة من هذه، بمعنی أنّه بالنتیجة یقول أنّ العلم الإجمالی یقتضی، یعنی نفترض أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یقول بعدم الاقتضاء، لکن بالنتیجة هو یقول بأنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة ولو باعتباره أحد أجزاء علّة وجوب الموافقة القطعیة، باعتبار أنّ وجوب الموافقة القطعیة کما ذکر المحقق النائینی(قدّس سرّه) یثبت عندما یکون هناک علم إجمالی بضمیمة حرمة المخالفة القطعیة، هذا یوجب تعارض الأصول فی الأطراف وتساقطها، فیتنجّز وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ الاحتمال فی کل طرفٍ یبقی بلا مؤمّن، فیتنجّز فی هذا الطرف وفی هذا الطرف. إذن: العلم الإجمالی ساهم فی صنع وجوب الموافقة القطعیة، هذا معنی أنّ العلم الإجمالی یقع أحد أجزاء علّة وجوب الموافقة القطعیة، فقد یُنسب إلیه الاقتضاء بهذا المعنی، وإلاّ عبارته التی نقلناها سابقاً هی ظاهرة فی أنّه یقول بعدم الاقتضاء، ترتیب الثمرة هنا، إذا فرضنا أنّه ناظر إلی ترتیب الثمرة علی النزاع بینه وبین الطرف المقابل، ظاهر فی أنّه یقول بالاقتضاء؛ لأننّا قلنا أنّ هذه الثمرة إنّما تترتب علی القول بالاقتضاء فی مقابل العلّیة لا علی القول بالاقتضاء فی مقابل نفی الاقتضاء، فعلی القول بالاقتضاء فی مقابل نفی الاقتضاء لا تترتّب هذه الثمرة، فتبقی عبارته مضطربة، یعنی هل ننسب إلیه القول بالاقتضاء فی المقام ؟ أو ننسب إلیه القول بعدم الاقتضاء فی محل الکلام ؟

ص: 625


1- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 245.

علی کل حال، لنفترض أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یقول بالاقتضاء فی مقابل العلّیة فی محل کلامنا، ما هو دلیله علی ذلک ؟ السید الخوئی(قدّس سرّه) عندما نفترض أنّه یقول بالاقتضاء فی محل الکلام، ما هو دلیله علی ذلک ؟ یبدو أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) لم یذکر دلیلاً واضحاً علی القول بالاقتضاء، لکنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر شیئاً یمکن أن یستفاد منه أنّه هو الدلیل علی الاقتضاء فی مقابل العلّیة، الذی ذکره هنا فی محل الکلام وفی مباحث القطع هو : أنّه یدّعی أنّه یقول بأنّ هناک من ادّعی الملازمة بین حرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة، وأنّ العلم الإجمالی إمّا أن یکون علّة تامّة لهما معاً، وإمّا أن لا یکون علّة تامّة لهما معاً، (1) وهذا یعنی أننّا إذا قلنا بالعلّیة التامّة بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة، فلابدّ أن نقول بها بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، هو قال هذه الدعوی التی ادّعاها البعض لیس علیها شاهد؛ بل بالإمکان أن نفرّق بین حرمة المخالفة القطعیة وبین وجوب الموافقة القطعیة، فنلتزم بالعلّیة التامّة هناک ولا نلتزم بالعلّیة التامّة فی محل الکلام، وذلک لأنّ الترخیص فی الجمیع یضاد التکلیف المعلوم بالإجمال، بخلاف الترخیص فی بعض الأطراف، فأنّه لا یضاد التکلیف المعلوم بالإجمال ومن هنا کان العلم الإجمالی علّة لحرمة المخالفة القطعیة بینما لیس علّة فی محل الکلام لوجوب الموافقة القطعیة؛ لماذا الترخیص فی بعض الأطراف لیس فیه محذور، لا یوجد مانع یمنع منه، ذکر بأنّ مرجع الترخیص فی بعض الأطراف إلی الاکتفاء عن الواقع بترک الطرف الآخر، أو فعله، فی الشبهة التحریمیة کأنّ الشارع یکتفی فی ترک الحرام الواقعی المعلوم بالإجمال بترک أحد الطرفین ویأذن بارتکاب الطرف الآخر، فی الشبهة الوجوبیة هو یأذن بترک أحد الطرفین وفعل الآخر؛ لأنّه یکتفی عن الواجب الواقعی المعلوم بالإجمال بأحد الطرفین ویأذن بترک الطرف الآخر فی الشبهة الوجوبیة، أو یأّذن فی فعل الطرف الآخر فی الشبهة التحریمیة؛ بل یقول بعبارةٍ صریحة بأنّ الشارع عندما یأذن ویرخّص فی أحد الطرفین هذا معناه أنّه اکتفی بالإطاعة الاحتمالیة والاکتفاء عن الواقع بترک أحد الطرفین، وهذا مرجعه إلی جعل البدل کما یصرّح به أیضاً، الشارع یجعل هذا الطرف بدلاً عن الواقع ویأذن فی ارتکاب الطرف الآخر؛ لأنّه جعل هذا الطرف بدلاً عن الحرام الواقعی، وعندما یجعل الشارع هذا الطرف بدلاً عن الحرام الواقعی؛ حینئذٍ یأذن ویرخّص فی ارتکاب الطرف الآخر، ویقول: بأنّ هذا لیس عجیباً أن یجعل الشارع أحد الطرفین بدلاً عن الواقع؛ لأنّ مرجع ذلک إلی تجویز الشارع المخالفة الاحتمالیة وهذا لا ضیر ولا مشکلة فیه؛ بل هذا موجود حتّی فی موارد العلم التفصیلی، فضلاً عن موارد العلم الإجمالی، فی العلم التفصیلی أیضاً قد یکتفی الشارع بالموافقة الاحتمالیة ویُرخّص بالمخالفة الاحتمالیة، ثمّ یذکر أمثلة لذلک، یقول کالأصول الجاریة فی وادی الفراغ ------------- کما یُسمّیه ------------ کقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز، (2) اکتفاء بالموافقة الاحتمالیة فی مورد العلم التفصیلی، علم تفصیلی بتوجّه التکلیف إلیه ووجوب الصلاة علیه، لکنّ الشارع یکتفی بالموافقة الاحتمالیة ویجوّز المخالفة الاحتمالیة، یقول هذا موجود فی العلم التفصیلی فما ظنّک بالعلم الإجمالی الذی هو بالنتیجة لم ینکشف الواقع فیه انکشافاً تامّاً کما هو الحال فی العلم التفصیلی، فلا مشکلة فی أن یجوّز الشارع المخالفة الاحتمالیة ویذکر بأنّ مرجع ذلک إلی جعل البدل، یعنی الشارع عندما یجوّز ویرخّص فی أحد الطرفین، فهذا معناه أنّه اکتفی عن الواقع بالطرف الآخر، فیجعل الطرف الآخر بدلاً عن الحرام الواقعی، أو عن الواجب الواقعی المعلوم بالإجمال، فیُرخّص فی أحد الطرفین، ولا توجد أیّ مشکلة فی ذلک، ویُلتزم بهذا المقدار.

ص: 626


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 77.
2- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 3، ص 78.

نعم، لا داعی لإثبات البدلیة والاکتفاء عن الواقع بأحد الطرفین ولا نحتاج إلی نصّ خاصٍ عن البدلیة، وإنّما إذن الشارع فی أحد الطرفین یستلزم الاکتفاء بالطرف الآخر عن الواقع، یستلزم جعل الآخر بدلاً عن الواقع هو بنفسه، بلا حاجة إلی نصٍّ خاص یدل علی البدلیة. نعم، ذکر فی بعض کلماته بأنّ الترخیص لابدّ أن یثبت بنصٍ خاص، ولا یکفی لإثبات البدلیة به أن یثبت بعمومات(کل شیءٍ لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام)، أو (لا تنقض الیقین بالشک)، أو(رُفع ما لا یعلمون) (1) هذا لا یکفی لإثبات البدلیة، وإنّما الترخیص لابدّ أن یثبت بنصًّ خاصٍ یرد فی المسألة، عندما یکون هناک نصٌّ خاصّ یدلّ علی الترخیص فی هذا الطرف، نستکشف منه أنّ الشارع اکتفی عن الواقع بالطرف الآخر، یعنی جعله بدلاً، أمّا إذا کان الدلیل علی الترخیص لیس نصّاً خاصّاً، وإنّما هو عبارة عن هذه العمومات، یقول هذه لا تکفی لإثبات البدلیة. بالنتیجة یبدو منه أنّه یستدل علی جواز الترخیص فی بعض الأطراف، وبالتالی القول بالاقتضاء لا العلّیة، یستدل علی ذلک بأنّه لا مانع من جعل الترخیص من قِبل الشارع ----------- ولو بالنص الخاص ------------ فی بعض الأطراف؛ لأنّ مرجع ذلک إلی اکتفاء الشارع عن الواقع بأحد الطرفین، وهذا لا مشکلة فیه، الشارع هو اکتفی عن الواقع بهذا الطرف؛ فحینئذٍ یجوز للمکلّف أن یرتکب الطرف الآخر ویمکن افتراض الترخیص فی الطرف الآخر. هذا ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی المقام کدلیلٍ علی الاقتضاء فی مقابل العلّیة.

ص: 627


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 25.

السید الخوئی(قدّس سرّه) أیضاً ذکر کلاماً لا یُفهم منه الاستدلال علی القول بالاقتضاء فی مقابل القول بالعلّیة، لکن یُفهم منه أنّه یختار القول بالاقتضاء فی مقابل العلّیة؛ لأنّه ذکر فی هذا المقام أنّ هناک خلافاً بینهم فی أنّ اقتضاء العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة هل هو بنحو العلّیة، أو لا ؟ وذکر أنّ صاحب الکفایة(قدّس سرّه) وبعض الأساطین ذهبوا إلی العلّیة، ثمّ استعرض أدلّتهم علی القول بالعلّیة، فذکر دلیلین للقول بالعلّیة وناقشها وکأنّه انتهی إلی الاقتضاء، وکأنّه یکفی فی إثبات الاقتضاء رد الأدلّة التی یستدل بها القائل بالعلّیة، ولا یظهر فی کلماته الاستدلال علی القول بالاقتضاء فی مقابل القول بالعلّیة بقطع النظر عن رد أدلّة الطرف المقابل، فردّ أدلة الطرف المقابل وکأنّه انتهی إلی الاقتضاء.

هذا هو الذی یُفهم من کلمات القائلین بالاقتضاء، ومنه یظهر أنّ الدلیل عند المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو أنّ الترخیص فی بعض الأطراف ممکن ولا محذور فیه؛ لأنّ مردّه ومرجعه إلی جعل البدل، مرجعه إلی اکتفاء الشارع عن الواقع ببعض الأطراف، فیجوّز الشارع الطرف الآخر، وفی المقابل القائلون بالعلّیة أیضاً استدلوا بأدلّة یأتی الکلام عنها إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کان الکلام فی علّیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة وعدمها المسمّی بالاقتضاء. ذکرنا فی الدروس السابقة الدلیل الذی یُستدلّ به علی الاقتضاء وذکرنا کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه) وأشرنا إلی ما ذکره السید الخوئی (قدّس سرّه). أمّا القول الآخر، وهو القول بالعلّیة، أی أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة کما هو علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة الذی لازمه استحالة جعل الترخیص حتّی فی بعض الأطراف، کما یستحیل جعل الترخیص فی جمیع الأطراف؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة کذلک یستحیل جعل الترخیص فی بعض الأطراف؛ لأنّ العلم الإجمالی أیضاً علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة.

ص: 628

ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) دلیلین لهذا القول، نقل احدهما عن ونقل الآخر عن بعض الأساطین من طلاب صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، والظاهر ----------- والله العالم ----------- أنّ المقصود به المحقق العراقی.

أمّا الدلیل الأوّل الذی نقله عن صاحب الکفایة(قدّس سرّه)، (1) وحاصل ما یقوله هو : أنّه لا فرق بین العلم التفصیلی وبین العلم الإجمالی من حیث الانکشاف، کل منهما ینکشف به الواقع، وإنّما الفرق بینهما من جهة المعلوم، من جهة متعلّق العلم، ویوضّح هذا، وحاصل کلامه هو: أنّ متعلّق العلم ------------- المعلوم ------------- تارةً نفترض أنّه فعلی من جمیع الجهات، یکون المعلوم فعلیاً من جمیع الجهات، وهذا مطلب تقدّم التعرّض إلیه فی بحث حرمة المخالفة القطعیة، أنّ المعلوم تارة یکون فعلیاً من جمیع الجهات، وأیضاً تقدّم مقصوده بالفعلیة بأنّه یکون واصلاً واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث والزجر الفعلیین، وصول التکلیف إلی مرحلة البعث الفعلی والزجر الفعلی، إذا کان تامّ الفعلیة من جمیع الجهات، متعلّق العلم ------------- المعلوم ------------ فحینئذٍ یمتنع جعل الحکم الظاهری علی خلافه من دون فرقٍ بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی، کما یمتنع ذلک فی موارد العلم التفصیلی بالتکلیف عندما یکون التکلیف فعلیاً من جمیع الجهات، کذلک یمتنع جعل الترخیص علی خلافه فی موارد العلم الإجمالی إذا کان التکلیف أیضاً فعلیاً تام الفعلیة من جمیع الجهات، فلا فرق بینهما حینئذٍ عندما نفترض أنّ التکلیف تام الفعلیة من جمیع الجهات، کما یستحیل الترخیص فی جمیع الأطراف، کذلک یستحیل الترخیص فی بعض الأطراف، وذلک لأنّ المفروض أنّ التکلیف تامّ الفعلیة من جمیع الجهات، الترخیص فی جمیع الأطراف محال؛ لأنّه یلزم منه اجتماع المتضادّین؛ لأنّ التکلیف فعلی والترخیص فعلی، وهما حکمان متضادان یستحیل أن یکونا فعلیین، فیلزم من الترخیص فی جمیع الأطراف اجتماع التکلیفین الفعلیین المتضادین، وهذا محل. کذلک یقول یمتنع جعل الترخیص فی بعض الأطراف؛ لنفس السبب السابق، لکن فی مرحلة الاحتمال، بمعنی أنّه یلزم من ذلک احتمال اجتماع المتضادین ولا یُعقل اجتماع المتضادان قطعاً ولا حتّی احتمال اجتماعهما، فأنّه غیر معقول؛ بل ینبغی القطع بعدم اجتماعهما، احتمال أن یکون الشیء مستلزماً لاحتمال اجتماع المتضادین هذا أیضاً یکون محالاً، وحیث أنّ الترخیص فی بعض الأطراف یلزم منه احتمال الاجتماع؛ لأنّه علی تقدیر أن یکون الطرف الثابت فی الترخیص هو الذی ثبت فیه التکلیف، فسوف یجتمع حکمان فعلیان متضادان وهما الترخیص والتکلیف، ولو علی مستوی الاحتمال، وهذا أیضاً محال، وأخری نفترض أنّ التکلیف متعلّق العلم لیس فعلیاً من جمیع الجهات کما ذکر؛ حینئذٍ یمکن جعل الترخیص من دون فرقٍ بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی، بمعنی أنّه حتّی مع العلم التفصیلی بالتکلیف إذا فُرض أنّ متعلّقه لم یصل إلی مرحلة الفعلیة التامّة من جمیع الجهات حتّی العلم التفصیلی بهذا التکلیف لا یمنع من جعل الترخیص علی خلافه، إذا فرضنا ذلک أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بتکلیفٍ لیس تام الفعلیة من جمیع الجهات، یعنی بالرغم من تعلّق العلم التفصیلی به هو یبقی فعلیته متوقفة علی شیءٍ آخر غیر العلم التفصیلی إذا فرضنا ذلک، یقول: حتّی هذا العلم التفصیلی أیضاً لا مانع من جعل الترخیص فی مخالفة التکلیف المعلوم بالتفصیل التام الفعلیة من جمیع الجهات. غایة الأمر فی موارد العلم التفصیلی لا نحتمل عدم تحقق الفعلیّة من جمیع الجهات؛ لأنّ المفروض أنّ محل الکلام هو فی التکلیف الفعلی من کل الجهات الأخری ما عدا مسألة الجهل به، هو تام الفعلیة من سائر الجهات، فإذا تعلّق العلم التفصیلی به، مقتضی الحال أن یکون فعلیاً من جمیع الجهات؛ لأنّه تام الفعلیة من سائر الجهات وتعلّق به العلم التفصیلی، مع ذلک هو لا یکون تام الفعلیة، معناه أنّ فعلیته تکون متوقفة علی أمر غیر حاصل، هذا بعید جدّاً، فدائماً العلم التفصیلی عندما یتعلّق بتکلیف تام الفعلیة من جمیع الجهات، لیس هو مورد اضطرار ولیس هو مورد حرج کل هذه ننفیها، تام الفعلیة من جمیع الجهات، عادة یکون التکلیف تام الفعلیة من جمیع الجهات ویستحیل جعل الترخیص علی خلافه. وبهذا یظهر الفرق بین العلم التفصیلی وبین العلم الإجمالی، فی العلم الإجمالی قد لا یُدعی هذا؛ لأنّه قد یقال أنّ متعلّق العلم الإجمالی تکلیف لیس تام الفعلیة من جمیع الجهات وإن تعلّق به العلم الإجمالی؛ لأنّه یوجد احتمال أنّ فعلیته لا تتم إلاّ بالعلم التفصیلی، لکن عندما نفترض العلم التفصیلی؛ حینئذٍ لا یمکن أن تکون الفعلیة تامّة، لکن فی العلم الإجمالی یمکن أن یقال أنّ فعلیة التکلیف لیست تامّة من جمیع الجهات؛ لاحتمال أن یکون العلم التفصیلی دخیلاً .

ص: 629


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 352.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کان الکلام فی الاستدلال علی القول بالعلّیة فی محل الکلام، حیث أستدل علیها بأدلّةٍ کما تقدّم، وانتهی الکلام إلی جواب السید الخوئی(قدّس سرّه) عن هذه الأدلّة. قلنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) ذکر جوابین، جواباً نقضیاً وجواباً حلّیاً عن الدلیل الثانی للقول بالعلّیة، الجواب النقضی الذی انتهی إلیه الکلام هو أنّه ذکر موارد، یقول لا إشکال فی أنّ المخالفة الاحتمالیة فیها جائزة، ورُخص من قبل الشارع فی جریان الأصل النافی فی بعض الأطراف، وهذا ترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، وهذا یکشف عن أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وإلاّ لو کان علّة تامة لوجوب الموافقة القطعیة لما رُخّص فی بعض أطرافه.

المورد الأوّل الذی ذکره هو: (1) ما إذا کان أحد الطرفین مستصحب النجاسة فی مثال العلم بنجاسة أحد الأناءین، هنا یقول لا إشکال فی جریان استصحاب النجاسة فی متیقّن النجاسة وجریان أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، وبالنتیجة رُخّص للمکلف فی أن یجری أصالة الطهارة فی أحد الطرفین، ولو کان العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة علی نحو العلّیة التامة، لما صحّ هذا الترخیص؛ لأنّه ترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، فکیف صار جائزاً ؟

المورد الثانی: ما إذا کان المنجّز لأحد الطرفین فی أحد الطرفین أصلاً عقلیاً. الأوّل کان المنجّز لأحد الطرفین هو استصحاب النجاسة وهو أصل شرعی. الثانی إذا کان المنجّز للتکلیف فی أحد الطرفین هو أصل عقلی، ویُمثل لذلک بما إذا علم المکلّف بأنّه فی الوقت فاتته أحدی الصلاتین، إمّا الصلاة صاحبة الوقت، وإمّا الصلاة الماضیة. هنا أصالة الاشتغال تجری بالنسبة إلی الصلاة صاحبة الوقت، فیجب علیه الإتیان بالصلاة صاحبة الوقت فی الوقت، لکنّ الأصول المؤمّنة تجری عن الصلاة الماضیة، القواعد التی تقتضی الصحّة بعد الفراغ وبعد التجاوز، وأمثال هذه القواعد التی تجری فی وادی الفراغ حسب اصطلاح المحقق النائینی(قدّس سرّه)، یقول تجری بالنسبة إلی الصلاة الماضیة، هذا بالنتیجة أیضاً جریان الأصل النافی والأصل المُرخّص فی بعض أطراف العلم الإجمالی، وهذا أیضاً ترخیص فی المخالفة الاحتمالیة؛ لأنّ مقتضی القواعد ------------ مثلاً ------------- لو کان العلم الإجمالی علّة تامّة، لوجب علی المکلّف الإتیان بکلتا الصلاتین، الصلاة التی تنجّزت بواسطة الاشتغال العقلی بواسطة أصالة الاشتغال، والصلاة الأخری، کلٌ منهما یجب علیه الإتیان بهما، بینما لا إشکال فی جریان الأصل المؤمّن فی أحدی الصلاتین، وإن کان الأصل الآخر ثابتاً، یعنی ثبت فیه التکلیف استناداً إلی الأصل العقلی لا إلی الأصل الشرعی.

ص: 630


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 354.

المورد الثالث: یقول: نلاحظ أنّ هناک اکتفاءً بالامتثال الاحتمالی حتّی فی موارد العلم التفصیلی، هناک اکتفی الشارع فی بعض الموارد بالامتثال الاحتمالی کما هو الحال فی موارد قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز مع العلم بالتکلیف تفصیلاً مع ذلک اکتفی الشارع بالامتثال الاحتمالی استناداً إلی قاعدة الفراغ، أو قاعدة التجاوز، وبالنتیجة هذا أمر ثابت فی هذه الموارد، فماذا نقول فی هذا ؟ کیف نلائم بین الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة فی هذه الموارد؛ بل بین الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة حتّی فی موارد العلم التفصیلی وبین کون العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وبین کون العلم التفصیلی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة الذی لا إشکال فیه عندهم، کیف نلائم بینهما ؟ هذا النقض علی من یقول بالعلّیة فی محل الکلام.

ویُلاحظ علی هذا الجواب النقضی: أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) نفسه ذکر من جملة الموارد، موارد الاکتفاء بالامتثال الاحتمالی فی مورد العلم التفصیلی، وهذا لو کان نقضاً لکان نقضاً علیه أیضاً؛ لأنّه لا إشکال فی أنّه یقول أنّ العلم التفصیلی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، فیکون هذا نقضاً علیه، فکیف تلائم بین کون العلم التفصیلی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة وبین الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة؛ لأنّ قاعدة الفراغ ترجع إلی هذا فی الحقیقة، یکتفی باحتمال الامتثال، کیف یمکن الجمع بین الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة وبین کون العلم التفصیلی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة ؟ هذا نقض علیه، أیّ جواب یجیب به هناک، الذی نتیجته أنّه یمکن التألیف بین کون العلم التفصیلی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة وبین الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة وبین الاکتفاء بالامتثال الاحتمالی، أیّ جواب یجیب به هناک یکون هو الجواب فی محل الکلام، فی محل الکلام أیضاً نقول یمکن الجمع بین کون العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة وبین الترخیص فی بعض الأطراف والاکتفاء بالامتثال الاحتمالی، یکون هو الجواب نفسه، هذا یکون نقض علیه فی الحقیقة. المهم فی الجواب هو هذا، وهذا الجواب مستفاد من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه)، ذکر هذا الجواب وحاصله: (1) القائل بالعلّیة التاّمة فی محل الکلام لا یرد علیه النقض بهذه الأمور المذکورة، باعتبار أنّ هذه الأمور المذکورة ----------- یعنی الالتزام بالترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، والاکتفاء بالامتثال الاحتمالی فی هذه الموارد لا ینافی القول بالعلّیة التامّة ------------ یمکن الجمع بینهما بکل بساطة ولا حاجة إلی افتراض المنافاة بینهما حتّی یشکل هذا نقضاً علی القائل بالعلّیة، أنّه کیف تقول بالعلّیة والحال أنّه ثبت الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة ؟ وبعد ثبوت الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة نستکشف من ذلک أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة وإنّما هو مجرّد اقتضاء لا أکثر، یقول: یمکن الجمع بینهما بلا منافاة وخلاصة ما یقوله هو: هذه الموارد کلّها فی الحقیقة ترجع، إمّا إلی انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة وفقدانه للتأثیر فی التنجیز، وإمّا أن ترجع إلی جعل البدل من قبل الشارع، بمعنی اکتفاء الشارع ببعض الأطراف بدلاً عن الواقع، بدلاً عن المعلوم بالإجمال، ترجع إلی أحد الأمرین، إمّا الانحلال، والمقصود به الانحلال الحکمی، وإمّا أن ترجع إلی جعل البدل، وعلی کلا التقدیرین، سواء رجعت إلی الانحلال، أو رجعت إلی جعل البدل لا توجد منافاة بین ما یقتضیه الانحلال من جواز الرجوع إلی الأصول المؤمّنة فی الطرف الآخر، أو جواز ارتکاب الطرف الآخر فی مسألة جعل البدل، هذا لیس منافیاً للقول بعلّیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة، لا توجد بینهما منافاة إطلاقاً، ثم یوّضح هذا المعنی، ویقول بأنّه فی مسألة الانحلال فی موارد الانحلال الذی یتحقق فی الموردین الأوّل والثانی اللذین ذکرهما السید الخوئی (قدّس سرّه)، فیما إذا فرضنا أنّه کان فی أحد الطرفین منجّزاً للتکلیف، إذا جری فی أحد الطرفین ما ینجّز التکلیف فیه، سواء کان أصلاً شرعیاً کمثال الاستصحاب، أو کان أصلاً عقلیاً کمثال قاعدة الاشتغال، کلٌ منهما یدخل فی باب الانحلال؛ لأنّ المنجّز نجّز التکلیف فی أحد الطرفین بعینه، و یقول هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن التأثیر وسقوطه عن المنجّزیة، باعتبار أنّه یُشترط فی تنجیز العلم الإجمالی لمعلومه أن یکون صالحاً للتنجیز علی کل تقدیر، أن یکون العلم الإجمالی فی حدّ نفسه صالحاً لأن ینجّز معلومه سواء تحقق فی هذا الطرف، أو تحقق فی هذا الطرف؛ عندئذٍ یکون العلم الإجمالی منجّزاً وله تأثیر فی تنجیز التکلیف علی المکلّف، بحیث یُدخل التکلیف فی عهدة المکلّف، هذا معنی منجّزیة العلم الإجمالی، فتتوقف علی افتراض أن یکون العلم الإجمالی بما هو علم إجمالی صالحاً لأن ینجّز معلومه علی کلا التقدیرین، والمقصود من(علی کلا التقدیرین) یعنی أن ینجّز معلومه سواء کان معلومه متحققاً فی هذا الطرف، فهو ینجّزه، أو کان متحققاً فی الطرف الآخر، فهو صالح لتنجیزه. وأمّا إذا فرضنا أنّ العلم الإجمالی لیست له هذه الصلاحیة، هو لیس صالحاً لأن ینجّز معلومه علی کل تقدیرٍ، وإنّما هو فیه صلاحیة أن ینجّز معلومه علی أحد التقدیرین لا علی کل التقادیر، فی هذه الحالة لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً ویسقط عن التأثیر، یعنی یتحقق فیه الانحلال، کما هو الحال فی هذین الموردین، فی کل موردٍ من موارد العلم الإجمالی یکون هناک أصل عقلی، أو أصل شرعی ینجّز التکلیف فی أحد الطرفین؛ حینئذٍ هذا العلم الإجمالی یفقد هذا الشرط ویسقط عن المنجّزیة ویتحقق فیه الانحلال الحکمی؛ لأنّه عندما یجری الأصل الشرعی وینجّز التکلیف فی هذا الطرف، أو الأصل العقلی وینجّز التکلیف فی هذا الطرف؛ حینئذٍ هذا الطرف الذی هو مورد للأصل الشرعی، أو الأصل العقلی لا یکون قابلاً لأن یتنجّز بالعلم الإجمالی؛ لأنّه فُرض فیه ما یُنجّز التکلیف بقطع النظر عن العلم الإجمالی وهو الأصل الشرعی، أو الأصل العقلی، فالعلم الإجمالی لا یکون صالحاً لتنجیز معلومه علی کل تقدیر؛ لأنّ هذا الطرف الذی هو مورد للأصل العقلی، أو الأصل الشرعی تنجّز بقطع النظر عن العلم الإجمالی.

ص: 631


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 2، ص 311.

نعم، الطرف الآخر هو صالح لأن یتنجّز فیه التکلیف، لکن من الواضح أنّ الطرف الآخر لیس فیه إلاّ شک ولا یبقی حینئذٍ إلاّ الشک، والشک لیس منجّزاً للتکلیف کما هو واضح، فالعلم الإجمالی فی المقام ینحل بجریان الأصل المنجّز عقلیاً أو شرعیاً فی أحد الطرفین، یعنی یسقط عن القابلیة للتأثیر والتنجیز، فمثل هذا العلم الإجمالی لا یکون قابلاً لتنجیز التکلیف ولتنجیز معلومه علی المکلّف، فإذا لم یکن قابلاً لتنجیز معلومه علی المکلّف؛ حینئذٍ أیّ مانع من أن نقول بجریان الأصول المؤمّنة والأصول النافیة فی الطرف الآخر ؟ أیّ ضیرٍ فی أن نقول أنّ الأصول المرخّصة تجری فی الطرف الآخر الذی لم یجرِ فیه الأصل المنجّز للتکلیف، عقلیاً کان، أو شرعیاً؟ هذا الانحلال، یعنی العلم الإجمالی انحلّ، ومرجع الانحلال حینئذٍ فی حقیقته مرجعه إلی أنّ الشارع یتصرّف فی مرحلة الاشتغال، بمعنی أنّ الذمّة لا تشتغل بهذا التکلیف؛ لأن العلم الإجمالی غیر صالح لأن یجعل الذمّة مشتغلة بهذا التکلیف، فلا یبقی حینئذٍ إلاّ الشک، والشکّ أیضاً لیس صالحاً لأن یُشغل الذمّة بهذا التکلیف، فمرجع الانحلال إلی أنّه لا شیء فی عالم اشتغال الذمّة، لا شیء ممّا یُشغل الذمّة بهذا التکلیف، لا العلم الإجمالی ولا الشکّ، فذمّة المکلّف لیست مشغولة بهذا التکلیف، ومرجعه إلی أنّه لیس هناک شیء یجعل التکلیف ثابتاً ومستقرّاً فی الذمّة، ومن هنا یظهر أنّ البحث فی محل الکلام، البحث عن أنّ العلم الإجمالی هل ینجّز التکلیف علی نحو الاقتضاء، أو العلّیة الذی هو محل کلامنا، هذا لا ربط له بذاک البحث؛ لأنّ هذا البحث الذی هو محل الکلام افتُرض فیه الفراغ عن دخول التکلیف فی ذمّة المکلّف، افتُرض فیه الفراغ عن أنّ العلم الإجمالی نجّز التکلیف وأدخله فی عهدة المکلّف؛ وحینئذٍ یقع الکلام فی أنّ منجّزیة العلم الإجمالی لهذا التکلیف، هذه القضیة التی فُرغ عنها، هل هی منجّزیة علی نحو العلّیة التامّة علی نحوٍ تمنع من جریان الأصول فی بعض الأطراف، أو أنّها لیست بنحو العلّیة التامّة ؟ هذا محل الکلام، بینما افتراض الانحلال، افتراض ثبوت الأصل المنجّز للتکلیف فی أحد الطرفین هذا تصرّف فی أصل الاشتغال، هو یقول أنّ التکلیف لا تشتغل به الذمّة، العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً للتکلیف، بینما فی محل الکلام نحن نتکلّم بعد افتراض کون العلم الإجمالی منجّزاً للتکلیف ویقع البحث فی کیفیة تنجیزه للتکلیف، هل هو بنحو العلّیة، أو لیس بنحو العلّیة ؟ هذا هو محل الکلام فی الحقیقة؛ وحینئذٍ یتبیّن کما یقول المحقق العراقی(قدّس سرّه) أنّ القول بالعلّیة فی محل الکلام هو بعبارة أخری عبارة عن استحالة الترخیص فی بعض الأطراف بعد فرض اشتغال الذمّة بالتکلیف، بعد فرض أنّ العلم الإجمالی نجّز التکلیف علی المکلّف، یقول: القول بالعلّیة بعد فرض اشتغال الذمّة بالتکلیف المعلوم بالإجمال یستحیل جعل الترخیص فی أحد الطرفین، هذا معنی القول بالعلّیة فی محل الکلام، ومن الواضح أنّ هذا لا ینافی جریان الأصول النافیة والمؤمّنة فی بعض أطراف العلم الإجمالی مع افتراض عدم اشتغال الذمّة بالتکلیف، یعنی مع افتراض الانحلال، یعنی مع افتراض سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز باعتبار وجود ما هو منجّز فی بعض الأطراف عقلاً، أو شرعاً، فأنّ هذا کما قلنا یسقط العلم الإجمالی عن التأثیر وعن المنجزیة.

ص: 632

إذن: محل کلامنا شیء والانحلال مسألة أخری، من لوازم الانحلال إجراء الأصل النافی فی أحد الطرفین، لکن هذا بعد سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، بعد عدم استقرار الشیء فی ذمّة المکلّف یجوز إجراء الأصل النافی فی هذا الطرف، ما علاقة هذا بإجراء الأصل النافی فی محل الکلام بعد افتراض التنجیز وبعد افتراض ثبوت التکلیف فی عهدة المکلّف ؟ هل یمکن أن ننقض علی القول بالعلّیة الذی یقول لا یجوز إجراء الأصل النافی فی أحد الطرفین بعد استقرار التنجیز وبعد ثبوت التکلیف فی العهدة، أن ننقض علیه بجریان الأصل النافی فی أحد الطرفین مع افتراض سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة ؟ لا معنی لهذا النقض أصلاً. ومن هنا یقول بأنّ القول بالعلّیة لا ینافی جریان الأصول المؤمّنة فی بعض الأطراف فی موارد الانحلال، أصلاً لا توجد منافاة بینهما، فیمکن الجمع بینهما بلا ایّ محذور. هذا بالنسبة إلی الانحلال.

بعض موارد النقض لا ترجع إلی الانحلال وإنّما ترجع إلی مسألة جعل البدل ومثالها کما إذا فرضنا أنّه قامت إمارة علی تعیین الواقع المعلوم بالإجمال، بأن قالت أنّ هذه النجاسة التی تعلم بسقوطها فی أحد الإناءین هی موجودة فی هذا الإناء، بحیث أنّ لسانها هو لسان تعیین المعلوم بالإجمال فی أحد الطرفین، عندما تقوم الإمارة کذلک والشارع یقول أنّ هذه الإمارة حجّة ومعتبرة، فیثبت لها الحجّیة ویجب العمل بها، أو یجوز العمل بها، فی هذه الحالة حینئذٍ یُفهم من هذا جعل البدل، بمعنی أنّ الشارع اکتفی عن الواقع بهذا الطرف الذی هو مورد الإمارة، جعله بدلاً عن الواقع، ما معنی جعل الشارع هذا الطرف بدلاً عن الواقع ؟ هذا یکون کما أنّ هناک فی حالة الانحلال، یکون التصرّف فی مرحلة اشتغال الذمّة، هنا فی جعل البدل یکون التصرّف فی مرحلة الامتثال وتفریغ الذمّة، بمعنی أنّ الشارع یقول أنا اکتفی منک فی مقام إفراغ الذمّة ممّا اشتغلت به، اکتفی منک بالامتثال الاحتمالی، اکتفی منک بفعل هذا الطرف وترک هذا الطرف، اکتفی منک فی مقام الامتثال وفی مقام تفریغ الذمّة، اکتفی منک بجعله بدلاً عن الحرام الواقعی، أو بدلاً عن الواجب الواقعی علی اختلاف الأمثلة، لکن مرجعه إلی التصرّف فی مرحلة الامتثال ومرحلة تفریغ الذمّة؛ لأنّ الشارع من حقّه أن یتصرّف فی هذه المرحلة بأن یقول أنا أکتفی منک فی مقام تفریغ الذمّة بالامتثال الاحتمالی، واکتفی منک بفعل هذا، أو ترک هذا، وإن کان فعل هذا، أو ترک هذا لا یترتب علیه أکثر من الامتثال الاحتمالی وتفریغ الذمّة احتمالاً لا أکثر من ذلک، الشارع یجعل هذا بمنزلة تفریغ الذمّة الواقعی الحقیقی القطعی، یقول أنا أکتفی منک بالامتثال الاحتمالی. هذا تصرّف فی مرحلة الامتثال ومرحلة تفریغ الذمّة.

ص: 633

حینئذٍ نقول: فی محل الکلام فُرض أنّ التکلیف تنجّز علی المکلّف والعلم الإجمالی نجّز التکلیف علی المکلّف، لکن فی مقام تفریغ الذمّة ممّا اشتغلت به باعتبار العلم الإجمالی الشارع جعل بدلاً، السؤال هو: هل یبقی العقل الذی هو الحاکم بلزوم تفریغ الذمّة ممّا اشتغلت به، هل یبقی مصرّاً علی أنّ هذا النوع من التفریغ الجعلی التعبّدی، هذا لا یکفی فی مقام تفریغ الذمّة ؟ کلا، العقل لا مانع لدیه، المهم أنّ الذمّة إذا اشتغلت بتکلیفٍ فلابدّ من تفریغ الذمّة، سواء کان هذا التفریغ تفریغاً حقیقیاً للذمّة، أو تفریغاً جعلیاً تعبّدیاً للذمّة، الشارع عندما یجعل هذا بدلاً عن الواقع ویکتفی به فی مقام تفریغ الذمة، العقل یقول لا مانع من الاکتفاء به فی مقام تفریغ الذمّة.

إذن: العقل لا یبقی مصرّاً علی لزوم الموافقة القطعیة وعدم الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة بالإتیان بالبدل، لا مانع لدیه من ارتکاب الطرف الآخر وترک الموافقة القطعیة؛ لأنّ الذی یدرکه العقل هو أنّه لابدّ من تفریغ الذمّة، وهذا أعمّ من أن یکون التفریغ تفریغاً حقیقیاً واقعیاً الذی یتحقق عن طریق الاحتیاط، أو یکون التفریغ تفریغاً جعلیاً تعبّدیاً بجعل أحد الطرفین بدلاً عن الواقع، هذا معنی جعل البدل؛ ولذا لا یری العقل فی هذه الحالة مانعاً من إجراء الأصول المؤمّنة فی أحد الطرفین. هل یمکن قیاس هذا علی محل الکلام، فی محل الکلام لا نفترض جعل بدلٍ، لا نفترض أنّ هناک تفریغاً جعلیاً یقوم مقام التفریغ الحقیقی، لدینا علم إجمالی بنجاسة أحد إناءین من دون أن نفترض أنّ الشارع جعل أحد الطرفین بدلاً عن الحرام الواقعی وعن النجس الواقعی، فی هذه الحالة هل یمکن أن نستدل علی جواز الترخیص فی بعض الأطراف ؟ أو بعبارة أخری: أن نستدل علی أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة بأنّ العقل لا یری مانعاً من الترخیص فی موارد جعل البدل، فی موارد جعل البدل الترخیص العقلی له ملاک، له منشأ، ومنشأه هو جعل البدل، منشأه هو قیام الدلیل علی أنّ هناک تفریغاً تعبدیاً یقوم مقام التفریغ الحقیقی؛ ولذا لا یری العقل حینئذٍ مانعاً من الاکتفاء بالامتثال الاحتمالی، هناک شیء وفی محل الکلام شیء آخر، یعنی هنا نفترض أنّ علماً إجمالیاً نجّز التکلیف علی کل تقدیر بدون جعل بدل؛ حینئذٍ لا یمکن الاستدلال علی الاقتضاء ونفی العلّیة التامّة بأنّ الشارع فی موارد جعل البدل رخّص فی المخالفة الاحتمالیة واکتفی بالامتثال الاحتمالی؛ فلذا أیضاً یقول هنا لا توجد منافاة بین الالتزام بالعلّیة التامّة فی محل الکلام وبین جواز الترخیص والاکتفاء بالامتثال الاحتمالی فی موارد جعل البدل، فالنقد غیر وارد.

ص: 634

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

انتهی الکلام إلی الجواب الحلّی الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) عن الدلیل الثانی الذی استُدل به علی العلّیة، وخلاصة الجواب هی: أنّ موضوع الأصول محفوظ فی کل طرفٍ؛ لأنّ موضوع الأصول هو الشکّ فی التکلیف، ولا إشکال فی أنّ التکلیف فی کل طرفٍ مشکوک، وبذلک یکون موضوع الأصل محفوظ فی کل طرفٍ، إذا لاحظنا هذا الطرف موضوع الأصل محفوظ فیه؛ فحینئذٍ یجری الأصل ولا یستحیل کما یقول صاحب الدلیل علی القول بالعلّیة التامّة، السید الخوئی(قدّس سرّه) یقول أنّ موضوع الأصل محفوظ فی کل طرفٍ من الطرفین، وإذا کان موضوعه محفوظ؛ فحینئذٍ یجری .

نعم، یبقی احتمال انطباق التکلیف المعلوم بالإجمال علی کل طرفٍ، لکن یقول احتمال انطباق التکلیف المعلوم بالإجمال علی کلٍ من الطرفین إذا کان المقصود به احتمال انطباق ذات التکلیف علی هذا الطرف، هذا هو عبارة أخری عن الشک فی التکلیف فی هذا الطرف ولیس شیئاً آخر غیر الشک فی التکلیف الذی افترضنا أنّه موضوع الأصل النافی، فلا تغرّنا العبارات، احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، هذا صحیح وموجود، لکن هذا لیس شیئاً غیر أنّ التکلیف فی هذا الطرف مشکوک، فیکون التکلیف فی هذا الطرف مشکوک وفی ذاک الطرف مشکوک، فیکون موضوع الأصل محفوظاً فیه؛ فحینئذٍ لماذا لا یجری الأصل ؟

نعم، احتمال انطباق التکلیف المعلوم بالإجمال بما هو معلوم، یعنی بوصف المعلومیة، احتمال انطباقه علی هذا الطرف، هذا یبقی. یقول هذا لا یمکن تصوّره؛ لأنّ هذا یرجع إلی احتمال أن یکون التکلیف فی هذا الطرف معلوماً، إذا لاحظنا التکلیف المعلوم بالإجمال بوصف المعلومیة وقلنا هذا بوصف المعلومیة یحتمل انطباقه علی هذا الطرف ویحتمل انطباقه علی الطرف الآخر، هو یقول: هذا بوصف المعلومیة لا یمکن انطباقه علی هذا الطرف ولا یحتمل انطباقه علی هذا الطرف، هذا غیر ممکن؛ لأنّه لا یمکن أن نحتمل ثبوت العلم فی موردٍ، لا معنی لاحتمال العلم؛ لأنّ العلم صفة وجدانیة، احتمال أن یکون الإنسان عالماً بالتکلیف فی هذا الطرف غیر معقول أصلاً؛ لأنّ العلم صفة وجدانیة، إمّا أن تکون محرزة أو یکون عدمها محرزاً، أمّا احتمال ثبوتها فی موردٍ، الشکّ فی ثبوت هذه الصفة الوجدانیة فی موردٍ هذا محال ولا معنی له أصلاً؛ لأنّ العلم صفة وجدانیة لا معنی لاحتمالها والشک فیها؛ فلذا لا یکون احتمال انطباق التکلیف المعلوم بالإجمال علی کلٍ من الطرفین إلاّ بمعنی احتمال انطباق ذات التکلیف علی هذا الطرف، وهذا لیس شیئاً آخر غیر الشکّ فی التکلیف، وعلیه: لا مانع من جریان الأصل فی بعض الأطراف خلافاً لما یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یقول بالعلّیة التامّة. هذا هو الجواب الحلّی.

ص: 635

ویُلاحظ علی هذا الجواب الحلّی: صحیح أنّ احتمال انطباق التکلیف المعلوم بالإجمال ----------- مقصودنا ذات التکلیف ولیس بوصف کونه معلوماً ------------- علی هذا الطرف هو احتمال وجدانی وثابت وایضاً نسلّم أنّه یکون شکّاً فی التکلیف، لکن هل هو عین الشکّ فی التکلیف الذی أُخذ موضوعاً فی أدلّة الأصول ؟ هذا شکّ فی التکلیف بلا إشکال، المکلّف یشکّ فی انطباق التکلیف المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، وهذا معناه شکّ فی التکلیف، لکن هذا الشکّ فی التکلیف هل هو نفس الشکّ فی التکلیف الذی أُخذ موضوعاً فی الأصل النافی، أو لا ؟ المحقق العراقی(قدّس سرّه) المستدل بهذا الدلیل یری أنّه غیره، أنّ الشکّ فی التکلیف المتحقق فی محل الکلام لیس هو نفس الشک الذی أُخذ موضوعاً للأصل العملی المرخّص والنافی، بحسب رأی المحقق العراقی(قدّس سرّه) أنّه فی المقام عندنا شکّ فی احتمال انطباق التکلیف المنجّز الداخل فی العهدة والثابت فی الذمّة، احتمال انطباقه علی هذا الطرف. إذن: احتمال انطباق هذا التکلیف المنجّز علی أساس العلم الإجمالی به، هذا صحیح معناه أنّ المکلّف یشکّ فی التکلیف فی هذا الطرف، لکنّه شکّ فی تکلیف نجّزه العلم الإجمالی، شکّ فی تکلیفٍ دخل فی العهدة علی اساس العلم الإجمالی به، هل هذا هو معنی الشکّ فی التکلیف الذی أُخذ موضوعاً لأصالة البراءة ؟ ذاک شکّ فی التکلیف مع عدم افتراض التنجیز فی مرحلة سابقة، شک فی التکلیف الذی لا یُعلم کونه منجّزاً، بینما هنا شکّ فی التکلیف المنجّز بالعلم الإجمالی، فلا معنی لأن نقول أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف هو عبارة أخری عن الشک فی التکلیف الذی هو موضوع أصالة البراءة؛ ولذا یقول بأنّ موضوع الأصل محفوظ فی هذا الطرف ومحفوظ فی الطرف الآخر، فیجری الأصل، کلا، موضوع الأصل لیس محفوظاً، الشکّ فی التکلیف غیر المنجّز الذی هو موضوع الأصل العملی والبراءة لیس متحققاً فی المقام، المتحقق فی المقام هو الشک فی تکلیفٍ تنجّز بالعلم الإجمالی، واحتمال انطباق تکلیف تنجّز بالعلم الإجمالی علی هذا الطرف، هذا هو المتحقق، وهذا لیس هو موضوع اصالة البراءة، هذا بحسب نظر المحقق العراقی(قدّس سرّه) لیس هو موضوع الأصول المؤمّنة.

ص: 636

علی کل حال، دفع الجواب الحلّی الذی یقوله السید الخوئی(قدّس سرّه) یکون بهذا البیان: أنّ المستدلّ بالدلیل نفسه القائل بالعلّیة یری أنّ موضوع الأصل العملی غیر متحقق فی المقام، باعتبار أنّ موضوعه هو الشک فی تکلیفٍ لم یتنجّز سابقاً، وفی محل الکلام هو یشکّ فی تکلیف منجّز سابقاً، وداخل فی العهدة سابقاً بالعلم الإجمالی، والعلم الإجمالی حسب دلیل المحقق العراقی(قدّس سرّه) ینجّز التکلیف الذی یحتمل وجوده فی هذا الطرف، ویُحتمل وجوده فی هذا الطرف، ینجّز هذا التکلیف علی کل التقادیر فی تفسیر حقیقة العلم الإجمالی، مهما فسّرنا العلم الإجمالی، سواء کان علماً بالواقع، أو علماً بالفرد المردد، أو حتّی علماً بالجامع، لأن بالنتیجة العلم الإجمالی ینجّز الجامع بین الفعلین، بین صلاة الظهر وصلاة الجمعة؛ لأنّه تعلّق به العلم حتّی علی القول بتعلّقه بالجامع وعدم سرایته إلی الواقع. إذن: علی کل التقادیر هناک جامع تنجّز بالعلم الإجمالی، هذا التکلیف الذی تنجّز بالعلم الإجمالی یُحتمل انطباقه فی هذا الطرف ویحتمل انطباقه فی هذا الطرف، فإذن: شکنّا فی تکلیفٍ تنجّز سابقاً ولیس شکاً فی تکلیفٍ لم یتنجّز سابقاً، فالتکلیف بالجامع واصل إلی المکلّف وتنجّز علیه ودخل فی عهدته؛ حینئذٍ یقول المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی دلیله بأنّ الترخیص فی مخالفة هذا التکلیف المنجّز والداخل فی العهدة، الترخیص فی مخالفته قطعاً محال، والترخیص فی مخالفته احتمالاً هذا أیضاً محال؛ للبرهان الذی ذکره، وهو أنّ الترخیص فی جمیع الأطراف لماذا فرغنا عن کونه محالاً ؟ لأنّ هناک مضادّة بین الترخیص وبین التکلیف المعلوم بالإجمال ویلزم من افتراض الترخیص اجتماع الحکمین الفعلیین المتضادّین الذی هو الترخیص والتکلیف المعلوم بالإجمال، وهذا محال، هذا هو الذی دعانا للقول باستحالة الترخیص فی جمیع الأطراف، لکن الترخیص فی جمیع الأطراف معناه اجتماع الضدّین قطعاً، فیکون محالاً، هو یقول أنّ اجتماع الضدّین احتمالاً أیضاً محال؛ لأنّه ینبغی القطع بعدم التضاد؛ لأنّه مستحیل ولا معنی لاحتمال المستحیل، فإذن: الترخیص فی جمیع الأطراف محال، والترخیص فی بعض الأطراف أیضاً محال؛ لأنّه یورث احتمال اجتماع الحکمین الفعلیین المتضادین، وهذا محال أیضاً، فیستحیل کلٌ منهما، ومن هنا ذهب إلی القول بالعلّیة، أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، ویستحیل الترخیص فی بعض الأطراف. هذا دلیل المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 637

فإذا أجبنا عنه بأنّ موضوع الأصل العملی فی کل طرفٍ محفوظ وأنّ احتمال انطباق التکلیف المعلوم بالإجمال علی کل طرف، هو عبارة أخری لا یزید عن الشک فی التکلیف الذی هو موضوع الأصل العملی، هذا لیس جواباً صحیحاً عن ما یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه)، فالمحقق العراقی(قدّس سرّه) ذکر صورة برهان ولیس برهانه مبنیّاً علی رأیه من أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالواقع؛ بل هو ذکره حتّی علی القول بأنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، لکن بالنتیجة یقول العلم الإجمالی ینجّز الجامع، لا یمکن إنکار بأنّ العلم الإجمالی ینجّز الجامع، فإذا تنجّز الجامع علی المکلّف ودخل فی عهدته؛ حینئذٍ یستحیل الترخیص فی مخالفته القطعیة، ویستحیل الترخیص فی مخالفته الاحتمالیة، وبهذا یثبت استحالة الترخیص فی بعض الأطراف وهو معنی القول بالعلّیة التامّة. هذا هو رأی المحقق العراقی(قدّس سرّه). والجواب الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) لا یکون جواباً عن ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه).

نعم، یمکن أن یقال فی مقام الجواب عن الدلیل الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، هو أنّه قد یقال، وإن کان هذا الجواب لا نرضی به، لکن قد یُردّ برهان المحقق العراقی(قدّس سرّه) بأنّ کون التکلیف بالجامع الذی سلّمه هو، أنّ العلم الإجمالی یتعلّق بالجامع، فیکون التکلیف بالجامع منجّزاً علی المکلّف وداخلاً فی عهدته علی جمیع الآراء فی مسألة تفسیر العلم الإجمالی الجامع یتنجز ویدخل فی العهدة بلا إشکال، لکن هذا هل یستلزم کون العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة کما یقول هو ؟ قد یقال بأنّه لا یستلزم. نعم، العلم الإجمالی ینجّز الجامع ویدخله فی العهدة، لکن هذا لا یعنی أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه قد یقول القائل ------------ وقد تقدّم هذا أیضاً ------------- تنجّز الجامع علی المکلّف، فتحرم علیه مخالفة الجامع وتجب علیه موافقته قطعاً، لکن موافقة الجامع قطعاً تتحقق بالإتیان بأحد الطرفین؛ لأنّه لا إشکال أنّ الجامع یصدق علی أحد الطرفین، إذا تنجّز الجامع بحدّه الجامعی؛ حینئذٍ هذا یصدق علی هذا الطرف ویصدق علی هذا الطرف، فیکفی فی موافقته القطعیة الإتیان بأحد الطرفین؛ لأنّ ما تنجّز علی المکلّف هو الجامع، والجامع له مصداقان، فیکفی الإتیان بأحد الطرفین، ویُعدّ الإتیان بأحد الطرفین موافقة قطعیة للتکلیف الذی تنجّز وهو الجامع، لماذا لا یجوز إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر ؟ مجرّد أنّ العلم الإجمالی ینجّز الجامع بهذا الشکل لا ینتج العلّیة، یعنی لا ینتج استحالة جریان الأصل النافی فی بعض الأطراف؛ لأنّ تنجیز الجامع لا یقتضی أکثر من أن یأتی المکلّف بأحد الطرفین ویُعدّ ذلک موافقة قطعیة للإتیان بالجامع، فلماذا یستحیل الترخیص فی الطرف الآخر ؟ لماذا العلّیة التامّة ؟

ص: 638

نعم، إذا تجاوزنا الجامع، وجئنا إلی الطرفین إلی هذا الطرف وهذا الطرف؛ حینئذٍ نقول أنّ الموجود فی المقام هو علم إجمالی، بالنسبة إلی الجامع یخرج عن کونه علماً إجمالیاً، علم تفصیلی بالجامع، لکن إذا تجاوزنا الجامع لا یبقی لدینا إلاّ العلم الإجمالی، لکن محل کلامنا هو أنّ هذا العلم الإجمالی هل یقتضی وجوب الموافقة القطعیة بنحو العلّیة، أو لا ؟ هذا لوحده لا ینتج إثبات العلّیة؛ لأنّه بلحاظ الجامع حتّی إذا سلّمنا وجود علمٍ تفصیلی، فهو لا یقتضی الإتیان بالطرفین، لا یقتضی المنع من إجراء الأصل المؤمّن فی بعض الأطراف؛ لأنّ الجامع یصدق علی بعض الأطراف، ویکون موافقة قطعیة له. إذا تجاوزنا الجامع وجئنا إلی الأطراف، الأطراف لیس فیها علم تفصیلی، وإنّما فیها علم إجمالی مرددّ إمّا هنا وإمّا هنا، هذا العلم الإجمالی هو محل کلامنا، هل یقتضی وجوب الموافقة القطعیة بنحو العلّیة حتّی یمنع من إجراء الأصل المرخّص فی بعض الأطراف، أو لا ؟ الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) بهذا البیان وحده لا یثبت العلّیة.

الذی یتلخّص من کل ما تقدّم کی نخرج بنتیجة هو: لا ینبغی الإشکال فی أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة وهذا ما بحثناه فی الجهة الأولی، فرغنا فی الجهة الأولی عن أصل الاقتضاء، أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما الکلام یقع فی المقام فی أنّ هذا الاقتضاء هل هو بنحو العلّیة، أو لیس بنحو العلّیة ؟ هل هو اقتضاء یمنع من الترخیص فی بعض الأطراف، هذا معناه العلّیة، أو لا یمنع، ومعناه أنّه لیس علی نحو العلّیة ؟ القائل بعدم العلّیة الذی یتمثّل بالمحقق النائینی(قدّس سرّه) فی بعض کلماته، تقدّم أنّه لم یستدل علی الاقتضاء فی مقابل العلّیة، لم یذکر برهاناً علی ذلک، وإنّما القضیة أشبه بالوجدانیة ویرسلها أرسال المسلّمات، القضیة واضحة، أنّ الترخیص فی جمیع الأطراف محال؛ لأنّه ترخیص فی المعصیة، لکن الترخیص فی بعض الأطراف یقول هذا لیس ترخیصاً فی المعصیة، لم یذکر برهاناً واضحاً علی هذا. نعم، فی بعض کلماته استدل علی أنّ الترخیص فی بعض الأطراف ممکن؛ لأنّه یقول أنّ هذا الترخیص فی بعض الأطراف یرجع إلی مسألة جعل البدل، یقول هذا فی واقعه جعل للبدل، أنّ الترخیص فی هذا الطرف مرجعه إلی أنّ الشارع اکتفی بهذا بدلاً عن الواقع، هذا جعل للبدل ولا مشکلة فیه، الشارع یجعل البدل ویکتفی بالموافقة الاحتمالیة؛ بل ذکر أکثر من هذا أنّ الشارع اکتفی بالموافقة الاحتمالیة حتّی فی العلم التفصیلی، فی موارد العلم التفصیلی الشارع اکتفی بالموافقة الاحتمالیة فی بعض الموارد کما فی قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز مع العلم التفصیلی، إذن: فی موارد العلم الإجمالی من بابٍ أولی أنّه یمکن الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة، یمکن جعل أحد الطرفین بدلاً عن الواقع والاکتفاء باحتماله، الأمر ممکن ولیس محالاً؛ ولذا فالعلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة علی نحوٍ یمنع من إجراء الأصول فی بعض الأطراف. هذا القائل بعدم العلّیة.

ص: 639

المحقق العراقی(قدّس سرّه) القائل بالعلّیة ذکر برهاناً علی ذلک وهو الذی ذکرناه قبل قلیل وهو الذی یعتمد علی أساس وتمام النکتة التی فیه هی بعد الفراغ عن أنّ العلم الإجمالی علی کل الآراء هو ینجّز الجامع، وبعد الفراغ عن وجود مضادّة بین الترخیص وبین التکلیف المعلوم بالإجمال الذی تنجّز بالعلم الإجمالی، هو یستدل لإثبات العلّیة فی محل الکلام بمسألة القطع والاحتمال، أنّ المضادّة متیقنة إذا جری الترخیص فی جمیع الأطراف، فیلزم من ذلک اجتماع الحکمین المتضادّین قطعاً، یقول الترخیص فی بعض الأطراف یلزم احتمال اجتماع الحکمین المتضادین وهو فی الاستحالة کالقطع باجتماعهما؛ لأنّ المستحیل ینبغی القطع بعدمه لا أنّه یُحتمل. هذه صورة برهان.

حینئذٍ نأتی إلی هذا البرهان الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) لإثبات العلّیة، الظاهر أنّ هذا البرهان غیر تام، لکن لا نرید أن نقول أنّه غیر تام لما تقدّم من أنّ العلم الإجمالی ینجّز الجامع، لکنّ الجامع لا یقتضی الإتیان بکلا الطرفین؛ لأنّ موافقة الجامع قطعاً تتحقق بالإتیان بأحد الطرفین کما ذکرنا سابقاً، لا نرید أن نُشکل علیه بهذا الإشکال؛ لأنّ هذا الإشکال غیر صحیح علی ما تقدّم سابقاً فی الجهة الأولی؛ لأننا قلنا أنّ هذا لا یمکن تصدیقه، أنّ الشارع یرید من المکلّف الإتیان بأحد الطرفین، إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، الشارع یرید من المکلّف إمّا صلاة الجمعة، أو صلاة الظهر، هو لا یرید من المکلّف عنوان أحد الأمرین الذی یمکن تطبیقه علی هذا الطرف ویمکن تطبیقه علی هذا الطرف بحیث یکون المکلّف مخیّراً بتطبیقه علی هذا الطرف، أو علی ذلک الطرف، مخیر بینهما شرعاً، بمعنی أنّ التکلیف موجّه إلی عنوان أحدهما، کلا لیس هکذا، هذا لا یمکن تصدیقه، ما کلّف به الشارع وما أثبتته الشریعة هو عبارة عن وجوب صلاةٍ ما، إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة.

ص: 640

إذن: ما یتنجّز علی المکلّف لیس هو عنوان أحدهما الذی یمکن تطبیقه علی هذا، أو علی هذا، وإنّما ما یتنجّز علی المکلّف هو واقع أحد الأمرین، هذا هو الذی یتنجّز علی المکلّف، ومن الواضح أنّ هذا الذی یتنجّز لا یکفی فی امتثاله قطعاً والموافقة القطعیة له الإتیان بأحد الطرفین؛ بل لابدّ من الإتیان بکلا الطرفین وعلی هذا الأساس قلنا فی الجهة السابقة أنّه لا إشکال فی أنّ العلم الإجمالی یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، لو بقینا نحن والعلم الإجمالی کان مقتضی ذلک هو وجوب الموافقة القطعیة له، لیس الاعتراض علی برهان المحقق العراقی(قدّس سرّه) من هذه الجهة، وإنّما الاعتراض من جهةٍ أخری یأتی الکلام فیها إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کان الکلام فی الدلیل علی العلّیة التامّة الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه). قلنا أنّه یمکن الاستشکال فی هذا الدلیل لا من الجهة التی بیّناها فی الدرس السابق، وإنّما یمکن الاستشکال فیه بهذا البیان، وقد تقدّمت الإشارة إلیه. هذا البرهان یبتنی علی افتراض أنّ حکم العقل بالمنجّزیة حکم فعلی تنجیزی ولیس حکماً معلّقاً علی عدم الترخیص فی المخالفة، وقد اعترف المحقق العراقی(قدّس سرّه) بهذا الابتناء، هو یقول بصریح العبارة بأنّ الحکم العقلی بالمنجّزیة والاشتغال وبلزوم الامتثال لو کان تعلیقیاً معلّقاً علی عدم الترخیص من قبل الشارع لما کان الترخیص منافیاً لا لحکم العقل ولا للتکلیف المعلوم بالإجمال، المضادّة التی هی الرکن الأساس فی برهانه مبتنیة علی أن یکون الحکم العقلی حکماً تنجیزیاً لا تعلیقیاً وهذا کما قلنا یعترف به نفس المحقق العراقی(قدّس سرّه)، غایة الأمر أنّه یقول بأنّه ثبت عندی أنّ الحکم العقلی تنجیزی بالبرهان الذی نقلناه عنه سابقاً فی حرمة المخالفة القطعیة، هو یستکشف کون الحکم العقلی تنجیزیاً وفعلیاً ولیس معلّقاً من ارتکاز المضادة بین الترخیص وبین التکلیف المعلوم بالإجمال وقد تقدّم نقل ذلک عنه.

ص: 641

إذن: تمامیة هذا البرهان موقوفة علی افتراض أنّ حکم العقل بالمنجّزیة حکم فعلی تنجیزی ولیس تعلیقیاً، وهذا معناه أنّ هذا البرهان ینهار ولا یتم إذا قلنا بأنّ الحکم العقلی معلّق علی عدم الترخیص من قبل الشارع نفسه؛ فحینئذٍ لا یتم هذا البرهان لإثبات علّیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ الحکم العقلی فی المقام الذی علی أساسه قال المحقق العراقی(قدّس سرّه) بأنّ الحکم الترخیصی ینافی التکلیف المعلوم بالإجمال وأنّ بینهما مضادة، هو اعترف أنّ هذا مبنیٌ علی التنجیزیة، فإذا أنکرنا التنجیزیة وقلنا بالتعلیق، فهذا البرهان لا یکون تامّاً. یعنی یمکن الجواب عن هذا البرهان علی هذا الأساس، بأنّ الحکم العقلی لیس تنجیزیاً وإنّما هو حکم تعلیقی. والصحیح کما تقدّم أنّه تعلیقی ولیس تنجیزیاً، وقد تقدّم سابقاً ذکر الدلیل علی أنّ الحکم العقلی هو حکم تعلیقی ولیس حکماً تنجیزیاً، وهو مسألة أنّ هذا حکم یحکم به العقل لأجل المولی ورعایة لجانبه وشأنه وحقّه، فمثل هذا الحکم لا یُتصوّر إلاّ أن یکون تعلیقیاً؛ لأنّه لا معنی لافتراض أنّ العقل یبقی مصرّاً علی هذا الحکم مع افتراض أنّ المولی هو تخلّی عن حقه وسمح بالمخالفة، فلا معنی لذلک. فالصحیح أنّ الحکم العقلی حکم تعلیقی، وبناءً علی هذا لا یکون هذا البرهان تامّاً باعتراف المحقق العراقی(قدّس سرّه) نفسه. هذا هو الاعتراض الذی یمکن أن یورد علی المحقق العراقی(قدّس سرّه).

الصحیح فی المقام هو أن یُقال: تقدّم سابقاً أنّ المانع من الترخیص فی مخالفة التکلیف المعلوم بالإجمال الواصل إلی المکلّف لیس هو کون الترخیص منافیاً لحکم العقل حتّی یقال فی مقام ردّه کما تقدّم أنّ الحکم العقلی تعلیقی ولیس تنجیزیاً، وهذه المنافاة بین الترخیص وبین الحکم العقلی إنّما تکون علی تقدیر کون الحکم العقلی تنجیزیاً غیر معلقٍ، بینما الصحیح أنّه معلّق، فلا یکون الترخیص منافیاً للحکم العقلی، وإنّما یکون رافعاً لموضوعه، المانع لیس هو هذا علی ما تقدّم، لیس هو کون الترخیص فی المخالفة منافیاً لحکم العقل بالمنجّزیة وبالاشتغال ولزوم الامتثال، لیس هذا هو المانع، وإنّما المانع هو المضادّة التی یشعر بها الإنسان والعالم بالحکم والذی وصل إلیه التکلیف، المضادّة بین التکلیف وبین الترخیص. هذه المضادّة والمنافاة هی التی تمنع من افتراض الترخیص فی مخالفة حکم وصل إلی المکلّف وعلم به، ولو مع التردّد والاشتباه بین فردین، لکن بالنتیجة وصل إلی المکلّف وعلم به، مثل هذا التکلیف لا یکون الترخیص فی مخالفته مقبولاً، ولا یمکن التصدیق بأنّ نفس المولی الذی وصل تکلیفه إلی المکلّف وعلم به، هو لا یصدّق أنّ نفس المولی رخّص فی مخالفته، التنافی والتضادّ بین الترخیص وبین التکلیف المعلوم بالإجمال لا یمکن التصدیق بهما، وحیث أنّ المفروض فی محل الکلام ثبوت التکلیف ووصوله والعلم به؛ ولذا هذا المکلّف ------------ علی الأقل ------------ الذی وصل إلیه التکلیف وعلم به لا یکاد یصدّق بأنّ نفس المولی یُرخّص فی مخالفة هذا التکلیف؛ ولذا یکون الترخیص محالاً، یعنی غیر ممکنٍ وغیر قابلٍ للتصدیق، العالم بالتکلیف لا یصدّق بوجود ترخیصٍ من قبل المولی فی مخالفة ذلک التکلیف. هذا الذی قلناه سابقاً.

ص: 642

هذا أیضاً نقوله فی المقام، بمعنی أنّ هذا الذی قلناه سابقاً أنتج لنا سابقاً أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، یعنی علّة تامّة لمنع ثبوت الترخیص فی جمیع الأطراف؛ لأنّ الترخیص فی جمیع الأطراف یعنی الترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، یعنی للتکلیف الواصل إلی المکلّف، هذا هو الذی ادّعینا سابقاً أنّ العلم الإجمالی یمنع من هذا الترخیص؛ لأنّ الترخیص فی جمیع الأطراف فی البحث السابق هو ترخیص فی المخالفة القطعیة للتکلیف الواصل إلی المکلّف، والمکلّف علی الأقل لا یصدّق بمثل هذا الترخیص، أنّ نفس المولی مع افتراض بقاء التکلیف ووجوده، هذا الشخص الذی علم بهذا التکلیف لا یکاد یصدّق بأنّ الشارع رخّص فی مخالفته القطعیة؛ لأنّه یری أنّ هناک تضادّاً وتنافیاً بین الترخیص فی المخالفة القطعیة وبین التکلیف وثبوته والذی یکون واصلاً إلی المکلّف ویکون عالماً به، ولو إجمالاً، هذه المضادّة بینهما هی التی تکون مانعة من الترخیص فی تمام أطراف العلم الإجمالی. وأمّا فی محل الکلام الذی هو وجوب الموافقة القطعیة، السؤال الذی یُطرح هو: أنّ هذه الاستحالة التی ثبتت فی البحث السابق، هل هی ثابتة فی محل الکلام، أو لا ؟

وبعبارة أخری: إنّ العقل الذی فرضنا أنّه یدرک المنافاة والمضادّة بین الترخیص فی تمام الأطراف، أو الترخیص فی المخالفة القطعیة، هل یدرک أیضاً المضادّة بین الترخیص فی بعض الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال، أو لا یدرک هذه المضادّة ؟ هل یحکم العقل باستحالة الترخیص فی بعض الأطراف ؟ استحالة الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة کما کان یحکم باستحالة الترخیص فی تمام الأطراف واستحالة الترخیص فی المخالفة القطعیة، أو أنّه لا یُدرک هذه الاستحالة ولا یحکم بها ؟ البناء علی العلّیة التامّة، أو عدمها ینبغی أن نجیب فیه عن هذا السؤال: أنّ العقل هل یدرک استحالة الترخیص فی بعض الأطراف کما یدرک استحالة الترخیص فی تمام الأطراف ؟ هل یری العقل مضادّة بین الترخیص فی بعض الأطراف وبین التکلیف المعلوم بالإجمال الواصل إلی المکلّف، هناک إدراک لهذه الاستحالة، أو لا ؟ هناک إدراک لهذه المنافاة، أو لا ؟ إذا فرضنا أنّ العقل یدرک ذلک کما یدرکه بالنسبة إلی الترخیص فی تمام الأطراف یصح کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) بأنّ العلم الإجمالی یکون علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة ولوجوب الموافقة القطعیة. وأمّا إذا قلنا أنّ العقل یفرّق بین المخالفة القطعیة وبین المخالفة الاحتمالیة، یفرّق بین الترخیص فی تمام الأطراف وبین الترخیص فی بعض الأطراف، العقل یُفرّق بینهما.

ص: 643

وبعبارةٍ أخری: العقل لا یری مانعاً من ترخیص المولی فی المخالفة الاحتمالیة مع حفظ التکلیف وافتراض بقاء التکلیف، لکنّه یری مانعاً من الترخیص فی المخالفة القطعیة، هل یُفرّق العقل بینهما ؟ الصحیح هو أنّه یفرّق بینهما، العقل لا یری مانعاً ولا مضادّة بحیث تستوجب استحالة الترخیص من قبل الشارع فی بعض الأطراف، لا یری استحالة فی المقام، ولا یدرک هذه الاستحالة التی کان یدرکها بالنسبة إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، یُمیّز بین المخالفة القطعیة والمخالفة الاحتمالیة، الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة یساوق رفع الید عن اصل التکلیف وإلغاء التکلیف بالمرّة مع افتراض بقاء التکلیف بحسب الفرض؛ لأنّه یعلم بالتکلیف، الترخیص فی المخالفة القطعیة إلغاء للتکلیف تقریباً؛ کأنّ التکلیف لا وجود له، بینما الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة لیس هکذا، العقل یُدرک ویمیّز بکل وضوح بأنّه من الممکن أنّ المشرّع لبعض المصالح التی یلاحظها هو نفس المشرّع، من الممکن أنّه یتنازل عن الموافقة القطعیة إلی الموافقة الاحتمالیة، یتنازل إلی الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة، لنفترض أنّ مصلحة التسهیل علی المکلّفین کانت ملحوظة للشارع المقدّس، قد یتنازل عن بعض الملاکات الواقعیة التی یحافظ علیها فیما لو أمر بالاحتیاط وأمر بالموافقة القطعیة، یتنازل عن هذه المصالح التی تتحقق بالموافقة القطعیة وبالاحتیاط فی مقابل مصلحة التسهیل علی المکلّف حتّی لا یلزم المکلّف ولا یوقعه فی ضیق، فلعلّه، هذا شیء محتمل، ولکن العقل یبنی علی هذا الأساس، وعلی هذا الأساس لا یحکم بالاستحالة، العقل یُفرّق بین المخالفة القطعیة وبین المخالفة الاحتمالیة. الذی یراه منافیاً للتکلیف ویعتبره إلغاءً للتکلیف وتجریداً له عن حقیقته هو عبارة عن الترخیص فی المخالفة القطعیة، کأنّه لا یوجد تکلیف، یعنی تجرید التکلیف عن حقیقته وعن واقعه، بینما الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة لیس هکذا، لا یری فیه ضیراً ولا یری مانعاً فی أن یرخّص الشارع فی المخالفة الاحتمالیة، فیسمح للمکلّف بإجراء الأصل العملی فی الطرفین مع إلزامه بالإتیان بالطرف الآخر؛ لأنّ المفروض أننا انتهینا إلی نتیجة حرمة المخالفة القطعیة، فیُرخّص له فی ارتکاب طرفٍ مع إلزامه بارتکاب الباقی، وهذا معناه أنّه یرخّص له فی مخالفة احتمالیة، العقل لا یری مانعاً من أن یکون هذا له مبرراته بالنسبة إلی المشرّع الحکیم؛ ولذا لا یراه محالاً، لکن المخالفة القطعیة مع افتراض ثبوت التکلیف لا یصدّق العقل أنّ الشارع نفسه یرخّص فی المخالفة القطعیة.

ص: 644

بناءً علی هذا الکلام؛ حینئذٍ النتیجة التی نصل إلیها هی أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة وإن کان علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة؛ لوجود المانع الثبوتی هناک وعدم وجوده فی محل الکلام.

هذا کلّه بالنسبة إلی اصل المطلب، وأمّا مسألة جعل البدل، فقد ذکرها کلٌ من الطرفین، یعنی القائل بالعلّیة والقائل بالاقتضاء، المحقق النائینی(قدّس سرّها) الذی لا یقول بالعلّیة ذکرها باعتبار أنّه جعلها دلیلاً علی إمکان الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، أنّه یمکن الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة ویمکن جریان الأصل فی بعض الأطراف، یقول: الدلیل هو فی مسألة جعل البدل الشارع رخّص فی المخالفة الاحتمالیة بأن جعل أحد الطرفین بدلاً عن الواقع ورخّص فی ارتکاب الطرف الآخر، (1) هذا دلیل علی أنّ الشارع من الممکن أن یُرخّص فی ارتکاب المخالفة الاحتمالیة؛ ولذا لا یکون العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة. المحقق العراقی(قدّس سرّها) أیضاً ذکر مسألة البدل، لکن ذکرها بصدد بیان أنّ مسألة جعل البدل لا یصح أن تُجعل نقضاً علی ما نقوله من العلّیة التامّة فی محل الکلام؛ لأنّها مسألة أخری، مسألة جعل البدل کما تقدّم هی مسألة غیر محل الکلام، فلا یمکن جعلها نقضاً علینا عندما نقول بالعلّیة التامّة فی محل الکلام؛ (2) لأنّه یری أنّ مسألة جعل البدل ناظرة إلی مرحلة الامتثال ومرحلة تفریغ الذمّة، بینما کلامنا ناظر إلی مرحلة الاشتغال، أنّه هل تشتغل الذمّة بهذا التکلیف علی نحوٍ یمنع من الترخیص فی مخالفته الاحتمالیة، أو لیس هکذا ؟ کلامنا فی مرحلة الاشتغال بینما مسألة جعل البدل ناظرة إلی مرحلة الامتثال وتفریغ الذمة بعد فرض اشتغالها، بعد فرض اشتغال الذمة بالتکلیف وتنجّز التکلیف علی المکلّف؛ حینئذٍ یقال فی مرحلة الامتثال الشارع یکتفی بالامتثال الاحتمالی، یکتفی بأحد الطرفین ویجعله بدلاً عن الواقع ویکتفی بامتثاله من قبل المکلّف ولو ترک الامتثال فی الطرف الآخر؛ ولذا یقول أنّ التزامنا بإمکان جعل البدل، والاکتفاء بمسألة جعل البدل فی الامتثال الاحتمالی لیس نقضاً علینا؛ لأننا نتحدّث عنه فی مرحلة الاشتغال، أنّ العلم الإجمالی ماذا یقتضی ؟ هل یقتضی وجوب الموافقة القطعیة للتکلیف المعلوم بالإجمال علی نحو العلّیة، أو لا یقتضی ذلک علی نحو العلّیة.

ص: 645


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 35.
2- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 312.

وبعبارةٍ أخری: أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) کأنّه یرید أن یقول أنّ محل الکلام ومسألة جعل البدل مسألتان منفصلتان، فلا یصح جعلها نقضاً علی ما نقول من العلّیة التامّة فی محل الکلام.

المحقق النائینی(قدّس سرّه) له کلام قد یُفهم منه الموافقة للمحقق العراقی(قدّس سرّه)، فبعد أن ذکر المطلب الذی نقلناه عنه، أنّه یقول: یدل علی عدم العلّیة فی محل الکلام إمکان الترخیص فی مسألة جعل البدل، الاکتفاء بالامتثال الاحتمالی فی مسألة جعل البدل، فیقول هذا دلیل علی أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة. بعد أن یذکر هذا یقول ما نصّه: نعم، یصح أن یقال أنّ العلم الإجمالی کالعلم التفصیلی یکون علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة بتعمیم الموافقة القطعیة إلی الوجدانیة والتعبّدیة لا خصوص الوجدانیة. (1) الذی یُفهم من هذه العبارة هو أنّه یرید أن یقول فی الموافقة الوجدانیة للتکلیف وأنّ العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة للموافقة القطعیة الوجدانیة للتکلیف المعلوم بالإجمال، أو لیس علّة تامّة ؟ إذا فُرض الکلام فی هذا یقول نحن لا نلتزم بالعلّیة التامّة، نحن نقول هنا بالاقتضاء، العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة الوجدانیة بدلیل مسألة جعل البدل؛ لأنّه فی مسألة جعل البدل اکتفی الشارع بالامتثال الاحتمالی ورخّص بالمخالفة الاحتمالیة مع أنّه هنا لا توجد موافقة قطعیة وجدانیة؛ لأنّ المکلّف اقتصر علی البدل، إذا اقتصر علی البدل امتثل فی هذا الطرف؛ لأنّ الشارع جعله بدلاً عن الواقع، وترک الامتثال فی الطرف الآخر هذه لیست موافقة قطعیة وجدانیة، فالبحث إن کان فی علّیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة الوجدانیة، فنحن نقول بعدم العلّیة التامّة، أمّا إذا کان البحث فی علّیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة الأعم من الوجدانیة والتعبّدیة، یقول هنا یصح أن یقال أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة الأعم من الوجدانیة ومن التعبّدیة، وإنّما الشارع یتمکّن من الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة إذا جعل أحد الطرفین بدلاً، یعنی الذی فی هو واقعه موافقة قطعیة وإن لم تکن موافقة قطعیة وجدانیة، لکنّها موافقة قطعیة تعبّدیة، العلم الإجمالی علّة تامّة للأعم من الموافقة الوجدانیة والموافقة التعبّدیة؛ حینئذٍ نلتزم بالعلّیة التامّة. هذا ما یُفهم من عبارته(قدّس سرّه).

ص: 646


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 36.

نفس الکلام یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه)، حیث یقول أنّ محل کلامنا لیس فی خصوص أنّ العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة الوجدانیة بالخصوص، أو لا ؟ وإنّما محل کلامنا فی العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة الأعم من الوجدانیة، أو لا ؟ یقول نحن هنا نقول بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة، وفی عبارة المحقق النائینی(قدّس سرّه) أیضاً هو یقول بالعلّیة التامّة فی هذا الفرض، فهل هما متوافقان ؟ بالنتیجة سوف یکون النزاع لفظیاً، یتوافقان علی أنّ محل الکلام هو علّیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة الأعم من الوجدانیة والتعبّدیة، وکل منهما یجیب بأنّه علّة تامّة. وبعبارة أخری: لا یمکن الترخیص فی أحد الطرفین إلاّ بجعل الآخر بدلاً، أمّا من دون جعل الآخر بدلاً الذی یعنی الترخیص حینئذٍ انتفاء الموافقة القطعیة الوجدانیة، وانتفاء الموافقة القطعیة التعبّدیة، من دون هذا یستحیل الترخیص وأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة الأعم من الوجدانیة أو التعبّدیة، لابدّ إمّا من موافقة وجدانیة، احتیاط یقتضی أن تأتی بکلا الطرفین، أو علی الأقل موافقة قطعیة تعبّدیة؛ لأنّ الموافقة التعبّدیة موافقة قطعیة، فهل هما یختلفان، أو لا ؟ هذا یأتی الحدیث عنه إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

اتضح ممّا تقدّم أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه)القائل بالاقتضاء و المحقق العراقی(قدّس سرّه) القائل بالعلّیة، الظاهر من کلماتهما أنّهما یتفقان علی کبری إمکان الترخیص بلسان جعل البدل، أنّه لا إشکال فی أنّه یمکن للشارع أن یرخّص فی بعض الأطراف بأن یجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، ویکتفی بالامتثال الاحتمالی، وهذا هو الذی سمّاه کلٌ منهما بالموافقة القطعیة التعبّدیة، وإنّما یختلفان فی أنّ جعل البدل هل یکفی فیه جریان الأصل فی أحد الطرفین، أو أنّه یحتاج إلی دلیلٍ آخر غیر مجرّد جریان البراءة والأصل العملی فی أحد الطرفین. الظاهر من مجموع کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو أنّه یری أنّه یکفی فی جعل البدل جریان الأصل فی أحد الطرفین، یکفی هذا المقدار، إذا جری الأصل العملی فی أحد الطرفین بلا معارض، هذا یکفی فی جعل البدل، یکفی هذا المقدار فی اعتبار الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، بینما الظاهر من المحقق العراقی(قدّس سرّه) أنّ هذا المقدار لا یکفی لجعل البدل؛ بل لابدّ من قیام دلیل علی الاکتفاء الاحتمالی وجعل الآخر بدلاً عن الواقع من علمٍ، أو إمارة معتبرة، ومجرّد أنّ الأصل یجری فی أحد الطرفین هذا لا یمکن أن نستکشف منه أنّ الشارع جعل الآخر بدلاً عن الواقع. یختلفان فی هذه النقطة لا فی أصل إمکان جعل أحد الطرفین بدلا عن الواقع والترخیص فی الطرف الآخر وإنّما الکلام فی أنّه کیف نستفید جعل البدل، هل یکفی فیه مجرّد جریان البراءة فی أحد الطرفین بلا معارض، أو لا؟ هذا محل الخلاف بینهم، وکما أشرنا أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه)من مجموع کلماته یظهر أنّه یری أنّ مجرّد جریان البراءة یکفی لجعل البدل ولا یحتاج جعل البدل إلی شیءٍ آخر أزید من جریان الأصل العملی فی أحد الطرفین بلا معارض. نعم، له بعض الکلمات التی قد توهم خلاف هذا، لکن النظر إلی مجموع کلماته یؤدی إلی أنّه یری أنّ مجرّد جریان البراءة یکفی فی مقام جعل البدل، له عبارة یقول فیها:(فیجوز للشارع الترخیص فی بعض الأطراف والاکتفاء عن الواقع بترک الآخر سواء کان الترخیص واقعیاً کما إذا اضطر إلی ارتکاب بعض الأطراف أو ظاهریاً کما إذا کان فی بعض الأطراف أصل نافٍ للتکلیف غیر معارض بمثله). (1) ظاهر هذه العبارة أنّه یکتفی بجریان الأصل النافی فی بعض الأطراف بشرط عدم التعارض. ثمّ یقول:(الخروج عن عهدة التکلیف کما یحصل بالموافقة القطعیة الوجدانیة کذلک یحصل بالموافقة القطعیة التعبّدیة بترک الاقتحام فی بعض الأطراف مع الأذن الشرعی فی ارتکاب البعض الآخر، ولو بمثل أصالة الإباحة وأصالة البراءة). إذا جرت أصالة البراءة وأصالة الإباحة فی هذا الطرف هذا یکفی فی اکتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالی الذی سمّاه بالموافقة القطعیة التعبّدیة التی ترجع إلی مسألة جعل البدل، ثم قال:(بل نفس الأذن فی البعض یستلزم بدلیة الآخر قهراً). نفس الأذن فی ارتکاب بعض الأطراف عن طریق البراءة والإباحة وأمثالها یستلزم بدلیة الآخر قهراً، یعنی القضیة قهریة لا تحتاج إلی شیءٍ آخر. نعم فی بدایات کلماته وردت هذه العبارة التی قد یُفهم منها المنافاة:(نعم للشارع الأذن فی ارتکاب البعض والاکتفاء عن الواقع بترک الاخر ولکنّ هذا یحتاج إلی قیام دلیل بالخصوص علیه غیر الأدلّة العامة المتکفلة لحکم الشبهات من قبیل قوله ------------ علیه السلام ------------ " کل شیء لک حلال حتّی تعلم أنّه حرام" أو "رفع ما لا یعلمون" ). (2) هذه العبارة تعنی أنّ مسألة جعل البدلیة تحتاج إلی دلیلٍ بالخصوص لا تکفی فیه الأدلّة العامّة، لکن واضح بعد ملاحظة کلماته الأخری أنّ کلامه هذا محمول علی صورة عدم وجود ما یمنع من جریان الأصل فی کلا الطرفین، هذه الأصول العامة من قبیل(رُفع ما لا یعلمون ) وأمثاله، لا یوجد ما یمنع من أن تجری فی هذا الطرف ولا یوجد ما یمنع من أن تجری فی هذا الطرف، فی هذه الحالة لا نستطیع أن نستکشف جعل البدل؛ للتعارض الحاصل فی دلیل الأصل؛ لأنّ شمول دلیل الأصل لهذا الطرف یعارضه شموله للطرف الآخر ولا مرجّح ویستحیل جریانهما معاً بحسب الفرض لاستحالة المخالفة القطعیة، فتسقط الأصول فی الأطراف، فلا یبقی لدینا أصل فی هذا الطرف حتّی نستکشف منه جعل البدل؛ ولذا هو رکز فی کلماته التی نقلناها عنه علی أنّ استکشاف جعل البدل من جریان الأصل فی أحد الطرفین مشروط بعدم المعارض، مشروط بأن لا یجری الأصل فی الطرف الآخر، إذا لم یجرِ الأصل فی هذا الطرف؛ حینئذٍ یکون الترخیص فی هذا الطرف مستلزماً لجعل البدل کما فی الأمثلة المتقدّمة عندما یکون أحد الطرفین یجری فیه ما یثبت التکلیف کما إذا علم بثبوت التکلیف فی هذا الطرف، أو قامت إمارة علی ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، أو جری الأصل العقلی علی ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، أو جری الأصل الشرعی علی ثبوت التکلیف فی هذا الطرف، فی کل هذه الحالات الأصل یجری فی الطرف الآخر بلا معارض، هنا یقول نکتفی فی جعل البدل بجریان الأصل فی هذا الطرف، أمّا عبارته هذه، فهی ناظرة إلی العمومات أدلّة الأصول العملیة العامّة لا محذور من جریانها فی کلا الطرفین، فی مثل هذه الحالة یقول: استکشاف البدل لابدّ أن یکون بدلیلٍ خاصٍ ولا تکفی فیه الأدلّة العامّة الدالّة علی الأصول العملیة، فلا منافاة فی کلامه، ورأیه هو هذا الذی بیّناه.

ص: 647


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 34.
2- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 25.

هذا الکلام من المحقق النائینی(قدّس سرّه) بهذا الشکل الذی بیّنّاه یبدو أنّه ینافی ما نُقل عنه من أنّه یقول بعدم الاقتضاء فی محل کلامنا کما فی أجود التقریرات، (1) ظاهر کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی أجود التقریرات أنّه یقول بعدم الاقتضاء، یعنی فی الجهة الأولی التی تقدّم الکلام فیها، أصل الاقتضاء غیر ثابت للعلم الإجمالی بالنسبة لوجوب الموافقة القطعیة؛ ولذا جعل المانع من جریان الأصل فی الطرف هو المعارضة، وإلاّ لولا المعارضة لجری الأصل فی أحد الطرفین، هذا معناه أنّ العلم الإجمالی لیس فیه اقتضاء لوجوب الموافقة القطعیة، هذا الکلام ینافی هذا الکلام الذی یُنسب إلیه؛ لأنّه فی هذا الکلام بناءً علی عدم الاقتضاء؛ حینئذٍ لا نحتاج إلی مسألة جعل البدل لکی یجری الأصل فی هذا الطرف، نقول أنّ العلم الإجمالی لیس فیه اقتضاء وجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّه لا مانع من جریان الأصل فی أحد الطرفین، لیس له معارض، فیجری هذا الأصل فی هذا الطرف، لا أن نقول أنّ جریانه فی هذا الطرف مع عدم المعارض یتوقّف علی مسألة جعل البدل، توقف جریان الأصل فی أحد الطرفین مع عدم المعارض علی مسألة جعل البدل لا ینسجم إلاّ مع القول بالاقتضاء، وأمّا إذا قلنا بعدم الاقتضاء وأنّ العلم الإجمالی لا یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، فالأصل یجری فی هذا الطرف بمجرّد أن لا یعارضه أصل فی الطرف الآخر فقط، فإذا أحرزنا عدم المعارضة کما فی هذه الموارد التی ذکرناها، فالأصل یجری فی هذا الطرف بلا حاجة إلی مسألة جعل البدل، لا داعی لجعل البدل. علی کل حال، ما هو مقصوده، هذا شیء آخر. هذا بالنسبة إلی المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 648


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 56.

أمّا المحقق العراقی(قدّس سرّه)، فهو یتّفق معه فی أصل المطلب فی إمکان جعل أحد الطرفین بدلاً عن الواقع والترخیص فی الطرف الآخر، لکن الظاهر منه أنّه لا یری کفایة مجرّد جریان الأصل فی أحد الطرفین لجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، لا یری کفایة الأصل؛ بل لابدّ من قیام دلیل علی جعل البدل من علمٍ، (1) أو علمی، علم بجعل البدل، أو تقوم إمارة علی جعل البدل، والأصل لا یکفی، وأشکل علی المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّه ما معنی ما تقوله من أنّ جریان الأصل فی أحد الطرفین یدلّ علی جعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، کأنّ جریان الأصل فی الطرف فیه دلالة علی جعل البدل، یقول: لم نفهم معنی هذا، کیف یکون جریان الأصل یدل علی جعل الآخر بدلاً عن الواقع، یقول إذا کان المحقق النائینی(قدّس سرّه) یدّعی ذلک بلحاظ نفس الأصل الجاری فی هذا الطرف هو کأصل فیه دلالة. ومن الواضح جدّاً أنّه لا یمکن أن یدّعی أنّ الدلالة دلالة مطابقیة؛ لأنّ المدلول المطابقی للأصل هو البراءة، الدلالة المطابقیة هی التأمین فی هذا الطرف ولیس مدلوله المطابقی جعل الآخر بدلاً. وأمّا إذا کان یدّعی أنّ الأصل بالدلالة الالتزامیة یدلّ علی جعل البدل، باعتبار أنّ لازم کون هذا مرخّص فیه وحلال أن یکون الآخر حراماً بضمیمة العلم الإجمالی بأنّ أحدهما حرام، فإذا قام الدلیل علی أنّ هذا حلال، فإذن هو یدلّ بالالتزام علی أنّ الآخر حرام، فبالدلالة الالتزامیة علی أنّ الآخر حرام.

وأجاب عن هذا: بأنّه أصل مثبت ولا یمکن التمسک بالأصل المثبت، لا یمکن أن نتمسّک بالأصل لإثبات مدلوله الالتزامی، هذا إذا فرضنا أنّ الأصل له مدلول التزامی کما إذا فرضنا أنّه أصل تنزیلی وکان مفاده أنّ هذا حلال واقعاً، هنا یوجد مجال لتخیّل أًنّ لازم هذا حرام واقعاً بضمیمة العلم الإجمالی بأنّ أحدهما حرام، لازمه أن یکون الآخر حراماً وهذا هو جعل البدل، هذا یرد علیه الإشکال السابق وهو أنّ هذا تمسّک بالأصل المثبت، حتّی لو کان تنزیلیاً بالنتیجة هو أصل لیس حجّة فی مدالیله الالتزامیة. أقول: هذا حال الأصل التنزیلی، إذن: ما ظنّک بالأصل العملی البحت الذی لیس له نظر إلی الواقع أصلاً، وإنّما یثبت الترخیص فی هذا الطرف فقط، لا یقول أنّ هذا حلال واقعاً، وإنّما یثبت الترخیص فی هذا الطرف، أصلاً هذا لیس له مدلول التزامی بهذا المعنی، هذا لیس مدلوله الالتزامی أنّ الاخر هو الحرام، لیس فیه هکذا دلالة التزامیة، فإذن: لا یدل علی کون الآخر حراماً لا بالدلالة المطابقیة ولا بالدلالة الالتزامیة، وإذا وجدنا أصلاً یدل بالدلالة الالتزامیة علی أنّ الآخر حرام، فهو اصل مثبت ولا یجوز التمسّک بالأصل المثبت. (2)

ص: 649


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 2، ص 314.
2- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 2، ص 315.

قد یکون هناک احتمال آخر وهو أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یرید أن یتمسّک بالأصل حتّی یقال له أنّ الأصل لا یدل علی کون الآخر حراماً لا بالدلالة المطابقیة ولا بالدلالة الالتزامیة، وإنّما یرید أن یتمسّک بدلیل الأصل ولیس بنفس الأصل، أی یتمسّک بدلیل الاستصحاب، أو دلیل البراءة، یعنی یتمسّک ب-----(رُفع ما لا یعلمون) ومن الواضح أنّ دلیل الأصل إمارة ولیس أصلاً، ومن هنا تکون الإمارة حجّة فی مثبتاتها وفی مدالیلها الالتزامیة، قد یقال أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) إنّما یرید أن یلتزم بأنّ دلیل الأصل یدل بالدلالة الالتزامیة علی جعل البدل فی المرتبة السابقة علی جعل الأصل؛ لأنّ المفروض فی محل کلامنا أنّ الأصل لا یجری فی هذا الطرف إلاّ بجعل الآخر بدلا عن الواقع، نحن نرید أن نتعقّل جعل الترخیص فی أحد الطرفین عن طریق مسألة جعل البدل، فإذن: لا یجری الأصل فی أحد الطرفین، وجریانه فی أحد الطرفین موقوف علی جعل الآخر بدلاً عن الواقع، عندما یجعل الشارع الآخر بدلاً عن الواقع یکون الترخیص فی هذا الطرف معقولاً ومقبولاً، فبهذا الاعتبار یکون دلیل الأصل دالاً علی جعل البدل بالدلالة الالتزامیة، المفاد المطابقی لدلیل الأصل هو جعل الأصل، المفاد المطابقی الاستصحاب، أو البراءة، وبالالتزام یدل علی جعل الطرف الآخر بدلاً؛ لأننّا نعلم أنّ جریان الأصل فی هذا الطرف، أو قل بعبارةٍ أخری: شمول دلیل الأصل لهذا الطرف موقوف علی جعل الطرف الآخر بدلاً؛ لأننا نعلم بذلک؛ حینئذٍ کأن دلیل الأصل یکون له مدلول التزامی وهو جعل الآخر بدلاً، قد یکون هذا هو مدّعی المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا أنّه یرید أن یتمسّک بالأصل العملی لإثبات جعل البدل فی الطرف الآخر، فأنّ هذا واضح لدیه؛ لأنّه أصل مثبت، والأصل المثبت لیس حجّة، وإنّما یرید أن یتمسّک بدلیل الأصل الذی هو من نوع الإمارات التی تکون حجّة فی مدلولاتها الالتزامیة، المفاد المطابقی لدلیل الأصل هو الأصل، الاستصحاب، أو البراءة فی هذا الطرف، لازم جریان البراءة فی هذا الطرف هو جعل الآخر بدلاً؛ لأنّ جریان الأصل فی هذا الطرف بحسب الفرض موقوف علی جعل الطرف الآخر بدلاً، فیکون دالاً علی جعل الطرف الآخر بدلاً بالدلالة الالتزامیة ولا مشکلة فی أن یدل دلیل الأصل بالدلالة الالتزامیة علی جعل الآخر بدلاً؛ لأنّه حجّة فی مدالیله الالتزامیة. قد یقال أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) یرید أن یثبت هذا المطلب.

ص: 650

لکن هذا المطلب أیضاً لا یخلو من إشکال؛ بل منع؛ وذلک لأنّ مقتضی هذا الکلام أنّ دلالة الدلیل علی جعل البدل تکون فی طول دلالته علی جعل الأصل فی هذا الطرف؛ لأنّه فُرض دلالة التزامیة لدلیل الأصل، الدلالة المطابقیة لدلیل الأصل هو إثبات البراءة فی هذا الطرف بمقتضی إطلاقه، فی طول هذه الدلالة یدل علی جعل الآخر بدلاً، هذا معنی هذا الکلام، هذا الکلام معناه أننا نتمسک بدلیل الأصل لإثبات حجّیته فی مدلوله الالتزامی الذی هو جعل البدل، یعنی له مدلول مطابقی وفی طوله یثبت المدلول الالتزامی. إذن: یکون دلالة الدلیل علی جعل البدل فی طول دلالته علی جعل الأصل فی هذا الطرف، فتکون مسألة جعل البدل متفرّعة علی جعل الأصل العملی فی هذا الطرف، بینما هذا خُلف المفروض؛ لأننا نرید أن نستکشف جعل البدل من جریان الأصل فی هذا الطرف، یعنی نقول لأنّ الأصل جری فی هذا الطرف، فلابدّ أن یکون هناک فی مرتبة سابقة بدلاً لا أنّ جعل البدل یکون فی مرتبة متأخّرة عن جریان الأصل، وإنّما جریان الأصل یکون موقوفاً علی أن یکون الآخر بدلاً عن الواقع، بینما هذا الکلام معناه أنّ الأمر بالعکس، أنّ جعل الآخر بدلاً متفرّع علی جعل الأصل فی هذا الطرف، ومن هنا لا یکون هذا معقولاً. هذا هو الإشکال الذی أورده المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ویتبیّن من هذا أنّ الصحیح فی أصل المطلب هو أنّ العلم الإجمالی مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعیة ولیس علّة تامّة له، والصحیح بالنسبة إلی هذا النقض بالنسبة إلی هذین الرأیین إلی هذین العلمین(قدّس سرّهما)، بناءً علی المبانی العامّة المتفق علیها بینهم، الظاهر أنّ الصحیح هو ما علیه المحقق العراقی(قدّس سرّه)، من أنّ جعل البدل یتوقف علی دلیلٍ خاص، ولا یکفی فیه مجرّد جریان الأصل فی أحد الطرفین بلا معارض، وإنّما یحتاج إلی دلیلٍ خاص، إذا دلّ الدلیل الخاص علی جعل البدل؛ حینئذٍ یُلتزَم بتحقق الموافقة القطعیة التعبّدیة بالإتیان بأحد الطرفین، ویُلتزَم بجواز الترخیص فی الطرف الآخر، لکن فی صورة جعل الآخر بدلاً عن الواقع؛ لأنّ الإتیان بأحد الطرفین المرخّص فیه حینئذٍ تکون موافقة قطعیة تعبّدیة بالتکلیف المعلوم بالإجمال، والعقل من حیث تفریغ الذمّة من التکلیف الذی اشتغلت به لا یُفرّق بین الموافقة القطعیة الوجدانیة وبین الموافقة القطعیة التعبدیة. هذا بناءً علی ما یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه) من العلّیة التامّة. أمّا بناءً علی الاقتضاء فالأمر یکون أوضح، یعنی جریان الترخیص فی أحد الطرفین مع عدم المعارض بلا حاجة إلی مسألة جعل البدل، وإنّما هذا الکلام یقال بعد افتراض العلّیة التامّة.

ص: 651

فی ذیل هذا البحث بعد أن التزمنا بما یقوله المحقق النائینی(قدّس سرّه) من الاقتضاء وعدم العلّیة التامّة فی محل الکلام؛ حینئذٍ لابدّ من التعرّض إلی نقضین أوردهما المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی القول بالاقتضاء، أو بعبارةٍ أخری علی عدم القول بالعلّیة التامّة، لابدّ من التعرّض إلی هذین النقضین لنری أنّهما یتمّان، أو لا ؟

النقض الأوّل: نقض علیهم بموارد العلم التفصیلی بالتکلیف إذا کان الشکّ فی الامتثال، کما لو اشتغلت الذمّة بصلاة الظهر بلا إجمال، لکنّ المکلّف شکّ فی امتثال هذه الصلاة فی داخل الوقت. المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول بأنّ حکم العقل بالمنجزیة وبلزوم الامتثال إذا کان تعلیقیاً، یعنی إذا کان معلّقاً علی عدم ورود الترخیص من قبل الشارع فی المخالفة، التعلیقیة فی هذا الکلام تعنی إمکان أن یرخّص الشارع فی المخالفة، وإذا کان الأمر هکذا کما تقولون، فلابدّ من أن تلتزموا فی أنّه یمکن الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة للتکلیف المعلوم بالعلم التفصیلی تمسکاً بإطلاق دلیل الأصل العملی البراءة وغیر البراءة فی محل الکلام فی مورد الشک فی الامتثال؛ إذ أیّ فرقٍ بین الشک فی الامتثال وبین الشک فی أصل التکلیف ؟ بل الشک فی الامتثال هو فی واقعه شک فی التکلیف، غایة الأمر شک فی التکلیف بقاءً لا فی التکلیف حدوثاً، فهو شک فی التکلیف، وإذا کان شکاً فی التکلیف یکون موضوع الأصل العملی محفوظاً، فلماذا لا نتمسّک بإطلاق أدلّة البراءة ونکتفی بالموافقة الاحتمالیة للتکلیف المعلوم بالعلم التفصیلی بحسب الفرض ؟ نقول للمکلّف لا یجب علیک الإتیان بالواجب، ونکتفی بالموافقة الاحتمالیة للتکلیف المعلوم بالتفصیل بحسب الفرض؛ لأنّ النکتة فیهما واحدة وهی أنّ حکم العقل بمنجّزیة التکلیف معلّق علی عدم ورود الترخیص، الذی یعنی ------------ هذا الکلام کما قلنا ------------ أنّ الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة ممکن أن یصدر من الشارع، فإذا أثبتنا الإمکان نتمسّک بإطلاق دلیل الأصل، وموضوع دلیل الأصل هو الشکّ فی التکلیف، هذا أیضاً شک فی التکلیف، غایة الأمر أنّه شک فی التکلیف بقاءً لا حدوثاً، فیکون موضوع الأصل العملی محفوظاً، فنتمسک بإطلاق دلیل البراءة ونلتزم بجریان البراءة فی هذا الشکّ فی الامتثال، فلا یجب علیه الاحتیاط، ولا یجب علیه أن یُفرغ ذمته قطعاً من التکلیف الذی اشتغلت به؛ بل بإمکانه أن یکتفی باحتمال الموافقة تمسّکاً بهذا الأصل العملی، یقول: أنّ هذا لا یمکن تخریجه إلاّ علی أساس أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، ومعناه أننا نمنع من الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، فلا یجری الأصل فی المقام. أمّا إذا قلنا بالاقتضاء لا مانع من جریان الأصل؛ لأنّ الاقتضاء یعنی إمکان الترخیص، فإذا کان الترخیص ممکناً؛ حینئذٍ یکون التمسک بدلیل الأصل العملی أیضاً صحیحاً؛ وبالتالی لا تجری البراءة عند الشک فی الامتثال، فیکون هذا نقضاً علیهم؛ لأنّهم اتّفقوا علی عدم جریان البراءة عند الشک فی الامتثال، مع أنّه یقول لا فرق بین الشکّ فی الامتثال، أو الشک فی التکلیف.

ص: 652

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

بعد أن أنهینا الکلام عن أصل المسألة: والذی تبیّن ممّا تقدّم هو القول بالاقتضاء بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة لا العلّیة التامّة. قلنا أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی اختار القول بالعلّیة فی المقام ذکر نقضین علی القول بالاقتضاء، النقض الأوّل ذکرناه فی الدرس السابق وکان حاصله هو: أنّ العقل الذی یحکم بلزوم تحصیل الفراغ مع افتراض اشتغال الذمّة بالتکلیف، هذا الحکم العقلی بلزوم تحصیل الفراغ ولزوم تحصیل الامتثال، أو تحصیل الموافقة، إذا کان تعلیقیاً، یعنی کان معلّقاً علی عدم الترخیص الشرعی کما هو مقتضی القول بالاقتضاء فی محل الکلام، فی محل الکلام لماذا قالوا بالاقتضاء ؟ لأنّهم یرون أنّ الحکم العقلی بلزوم الامتثال حکم معلّق علی عدم الترخیص الشرعی، یقول: إذا کان هذا الأمر صحیحاً، فلابدّ أن نلتزم بإمکان التمسّک بإطلاق دلیل الأصل، وإطلاق أدلّة البراءة لإثبات الترخیص فی جمیع موارد الاشتغال بالتکلیف؛ لأنّه فی محل الکلام عندنا اشتغال بالتکلیف، مع ذلک قلتم بأنّ العقل یحکم بلزوم امتثاله، لکنه حکم معلّق علی عدم ورود الترخیص الشرعی ممّا یعنی أنّ الترخیص الشرعی لیس محالاً، من الممکن أن یکون هناک ترخیص شرعی، فمقتضی هذا الکلام أنّه لابدّ أن نلتزم بإمکان الترخیص الشرعی فی کل موارد الاشتغال بالتکلیف مع الشک فی الامتثال حتّی إذا کان التکلیف ثابتاً بالطریق العلمی، یعنی بالعلم التفصیلی، فی موارد العلم بالتکلیف تفصیلاً مع الشک فی الامتثال، یقول: ینبغی لمن یقول بالاقتضاء فی محل الکلام أن یلتزم بجریان البراءة فی هذا المورد ولا یلتزم بالاحتیاط؛ بل لابدّ أن یلتزم بالبراءة؛ لأنّ حکم العقل بلزوم امتثال الذی اشتغلت به الذمّة، بلزوم امتثال التکلیف المنجّز علی المکلّف إذا کان تعلیقیاً؛ حینئذٍ یکون الترخیص أمراً ممکناً ولیس محالاً، فإذا لم یکن هناک استحالة ومحذور ثبوتی؛ حینئذٍ یمکن التمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات جریانه فی موارد الشکّ فی الامتثال، کما یمکن التمسّک بدلیل الأصل لإثبات جریانه فی بعض أطراف العلم الإجمالی علی ما هو مقتضی القول بالاقتضاء فی محل الکلام، القول بالاقتضاء فی موارد العلم الإجمالی یعنی أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامة.

ص: 653

یعنی بعبارة أخری: أنّ الترخیص لیس محالاً، فإذا لم یکن هناک مانع ثبوتی من الترخیص یتمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات جریانه فی بعض الأطراف، نفس هذا الکلام یلزم عند الشکّ فی الامتثال فی موارد العلم التفصیلی؛ لأنّه هناک أیضاً هناک علم بالتکلیف والعقل یحکم بلزوم تفریغ الذمّة ولزوم امتثاله وموافقته، فإذا کان الحکم العقلی معلّقاً علی عدم الترخیص أیضاً یکون الترخیص أمراً ممکناً لا استحالة فیه، فإذا لم یکن هناک استحالة فی الترخیص والاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة، إذا لم یکن هناک مانع، والترخیص فی ترک الموافقة القطعیة؛ فحینئذٍ نتمسّک بإطلاق دلیل الأصل لإثبات البراءة عند الشکّ فی الامتثال، نتمسک بإطلاق دلیل البراءة لإثبات الترخیص والاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة عند الشکّ فی الامتثال مع العلم التفصیلی، والحال أنّه لا قائل بذلک، هذا شیء لا یلتزم به أحد؛ لأنّ الکل یلتزمون بأنّ الأصل الجاری فی موارد الشکّ فی التکلیف والشکّ فی المحصّل هو الاحتیاط لا البراءة، بینما لازم القول بالاقتضاء فی محل الکلام هو القول بالاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة وعدم لزوم الاحتیاط وجریان البراءة فی موارد الشکّ فی الامتثال مع العلم التفصیلی بالتکلیف، لا فرق بین العلم التفصیلی بالتکلیف والعلم الإجمالی بالتکلیف من جهة حکم العقل بلزوم الموافقة ولزوم الامتثال، فإذا کان هذا الحکم العقلی تعلیقیاً، إذن: الترخیص ممکن فی کلٍ منهما، الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة کما هی ممکنة فی محل الکلام کذلک تکون ممکنة فی موارد العلم التفصیلی، فإذا کان ممکناً، مقتضی إطلاق الأدلّة المرخّصة لإطلاق الأصول المؤمّنة هو أن نتمسّک بها لإثبات الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة فی موارد الشک فی الامتثال، مع أنّ هذا لم یقل به أحد، یقول: ومن هنا نستکشف من ذلک أنّ المبنی باطل، أنّ کون الحکم العقلی تعلیقیاً لیس صحیحاً، نستکشف من ذلک أن الحکم العقلی حکم تنجیزی، وهو کما یمنع من الترخیص والاکتفاء بالمخالفة الاحتمالیة فی موارد العلم التفصیلی والشک فی الامتثال کذلک یمنع من الترخیص فی محل الکلام؛ ولذا لابدّ أن نقول فی محل الکلام بالعلّیة التامّة لا بالاقتضاء. هذا النقض الأوّل.

ص: 654

هذا النقض واضح أنّه إنّما یرد علی من یلتزم بأنّ العلم التفصیلی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، بینما العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وإنّما هو مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعیة. من یُفرّق بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی بلحاظ الموافقة القطعیة ویقول بأنّ العلم التفصیلی علّة تامّة لها، بینما العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لها؛ حینئذٍ یورد علیه هذا النقض، ویقال له بأنّه کیف أصبح العلم التفصیلی علّة تامّة والعلم الإجمالی لیس علّة تامّة ؟ لأنّ الحکم العقلی إذا کان تعلیقیاً کما هو القول بالاقتضاء فی محل الکلام، فلابد أن یکون حکماً تعلیقیاً فی موارد العلم التفصیلی؛ لأنّ کلاً منهما کما بینّا علم بالتکلیف، وفی کلٍ منهما یکون التکلیف واصلاً للمکلّف، والعقل یحکم بلزوم امتثاله وموافقته، وهذا الحکم العقلی إذا کان تعلیقیاً کما هو مقتضی القول بالاقتضاء فی محل الکلام، فلابدّ أن یکون تعلیقیاً هناک، وکما أنّ هذا الحکم العقلی التعلیقی لا یمنع من جریان الأصل فی محل الکلام والاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة لابدّ أن لا یمنع أیضاً من إجراء الأصل هناک والاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة وعدم لزوم الاحتیاط؛ فحینئذٍ یرد علیه هذا النقض.

وأمّا من یقول بالاقتضاء حتّی فی موارد العلم التفصیلی، من یقول بأنّ العلم مطلقاً تفصیلیاً کان أو إجمالیاً لیس علّة تامّة بالنسبة إلی وجوب الموافقة القطعیة، وإنّما فیه اقتضاء وجوب الموافقة القطعیة.

وبعبارةٍ أخری: من یدّعی بأنّه کما أمکننا تصوّر الترخیص فی محل الکلام فی بعض الأطراف؛ ولذا قلنا أنّ الترخیص لیس مستحیلاً فی محل الکلام، یمکن للشارع أن یُرخّص فی بعض الأطراف، کذلک یمکن الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، أو الاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة فی موارد الشک فی الامتثال مع العلم التفصیلی بالتکلیف، من یدّعی بأنّه لا استحالة فی ذلک، کما أنّه یمکن فی موارد العلم الإجمالی أن یکتفی الشارع ببعض الأطراف وهی موافقة احتمالیة، ویجوّز ترک الطرف الآخر وهی مخالفة احتمالیة یمکن عند الشک فی الامتثال فی موارد العلم التفصیلی بالتکلیف، أیضاً قد یکتفی الشارع بالموافقة الاحتمالیة، فیقول للمکلّف الذی لیس لدیه یقین بعدم الامتثال وإنّما عنده شک فی الامتثال: ما دمت تحتمل الامتثال أنا أکتفی باحتمال الامتثال هذا، هذا یمکن تصوّره ولیس محالاً؛ بل قد یقال بأنّه واقع فی بعض الموارد، المحقق النائینی(قدّس سرّه) ذکر بعض الموارد یقول وقع فیها الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة مع العلم التفصیلی، وجرت فیها القواعد التی یسمّیها أنّها(تجری فی وادی الفراغ) قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز، یوجد علم تفصیلی، اکتفی الشارع بالموافقة الاحتمالیة، فی موارد الشک فی القبلة إلی الجهات الأربعة علی فتوی من یقول بجواز الصلاة إلی جهةٍ واحدةٍ حتّی إذا کان یعلم بأنّه إذا سأل وحققّ بعد ذلک یتمکّن من تشخیص القبلة الواقعیة یقول له یجوز لک أن تصلی إلی جهةٍ واحدةٍ محتملة، هذا فی واقعه اکتفاء بالموافقة الاحتمالیة وترخیص للمکلّف فی ترک الموافقة القطعیة مع أنّ التکلیف قد وصل بالعلم التفصیلی لا العلم الإجمالی، من یری أنّ الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة أمر ممکن حتّی فی موارد العلم التفصیلی مع الشکّ فی الامتثال فضلاً عن موارد العلم الإجمالی التی هی محل الکلام لا یرد علیه هذا النقض؛ إذ لا معنی لأن یقال لشخصٍ من هذا القبیل بأنّه إذا کنت تقول بالاقتضاء فی محل الکلام وأنّ الحکم العقلی حکم تعلیقی، فلابدّ أن تقول به فی موارد العلم التفصیلی، هو یقول أنا أقول به فی موارد العلم التفصیلی، ولا توجد عندی مشکلة فی أن یکون الحکم العقلی تعلیقیاً فی کلا الموردین، التزم بأنّ الحکم العقلی تعلیقی حتّی فی موارد العلم التفصیلی؛ إذ لا استحالة ولا محذور ثبوتی فی جعل الترخیص والاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة وترخیص المکلّف فی المخالفة الاحتمالیة؛ إذ لا یوجد محذور ثبوتی ولا توجد استحالة؛ ولذا هو یقول بالاقتضاء فی کلا الموردین، فلا یرد علیه هذا النقض.

ص: 655

نعم، عدم إمکان الالتزام بتجویز المخالفة الاحتمالیة فی موارد العلم التفصیلی هذا شیء آخر، عدم إمکان الالتزام بالمخالفة الاحتمالیة عند الشک فی الامتثال والشک فی المحصل؛ إذ لا إشکال أنّهم لا یکتفون بالموافقة الاحتمالیة، لا یجرون البراءة؛ بل یجرون الاحتیاط، هذا لا یعنی أنّهم یقولون بالعلّیة، لا یلازم القول بالعلّیة والقول بأنّ الحکم العقلی حکم تنجیزی ولیس تعلیقیاً؛ وذلک لأنّه من الممکن تفسیر عدم التزامهم بالاکتفاء بالموافقة الاحتمالیة وتجویز المخالفة الاحتمالیة فی موارد الشک فی الامتثال، عدم التزامهم بذلک، باعتبار وجود إشکال إثباتی لا إشکال ثبوتی، إشکال إثباتی یمکن إبرازه فی موارد الشک فی الامتثال یمنع من إجراء الأصل فی موارد الشک فی الامتثال لا من جهة الإشکال الثبوتی؛ بل هم یلتزمون من ناحیة الثبوت بعدم وجود أیّ مشکلة فی أن یُرخّص الشارع فی المخالفة الاحتمالیة حتّی مع العلم التفصیلی؛ لأنّ العلم التفصیلی کالعلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة وعدم التزامهم بجواز المخالفة الاحتمالیة فی موارد العلم الإجمالی لیس من جهة استحالة الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة حتّی تثبت العلّیة التامّة ویثبت أنّ الحکم العقلی حکم تنجیزی، فیقال إذا کان هناک ثابتاً، فنستکشف فی محل الکلام أیضاً أنّ الحکم العقلی تنجیزی، وتثبت العلّیة التامّة فی محل الکلام؛ بل عدم التزامهم بذلک هناک إنّما هو لمحذور إثباتی لا لمحذور ثبوتی، فهم یلتزمون بالاقتضاء حتی فی موارد العلم التفصیلی والشک فی الامتثال، لکنّهم لا یجرون البراءة ولا یرون أنّ المورد من موارد جریان البراءة؛ لإشکالٍ إثباتی، وهذا الإشکال الإثباتی الذی یمنع من إجراء البراءة فی موارد الشک فی الامتثال مع العلم التفصیلی، الشک فی المحصل، یمکن تقریبه بأحد تقریبین:

ص: 656

التقریب الأوّل: أن یقال: أنّ موضوع الأصل العملی لیس محفوظاً هناک، فلا تجری البراءة ولا یجری الأصل العملی؛ لعدم انحفاظ موضوعه، فی موارد العلم الإجمالی تقدّم سابقاً أنّ موضوع الأصل العملی محفوظ فی هذا الطرف؛ لأنّ موضوع الأصل العملی هو الشک فی التکلیف، وهذا الموضوع محفوظ فی کل واحدٍ من الطرفین بالوجدان، هو محفوظ ومحسوس بالوجدان؛ لأنّ المکلّف یشک فی أنّ هذا نجس، أو لا، هذا حرام، أو لا ؟ صلاة الظهر واجبة، أو لا ؟ فهو یشک فی التکلیف فی هذا الطرف، وهکذا یشکّ فی التکلیف فی الطرف الآخر، فلأنّ موضوع الأصل العملی محفوظ فی موارد العلم الإجمالی یجری الأصل العملی بقطع النظر عن محذور المعارضة، هذه مسألة أخری، أو محذور إثباتی آخر، موضوع الأصل العملی فی حدّ نفسه هو محفوظ فی کل واحدٍ من الطرفین، بینما فی موارد الشک فی الامتثال هناک مانع یمنع من شمول دلیل الأصل لتلک الموارد وهو أنّ موضوع الأصل لیس محفوظ؛ لأنّ موضوع الأصل هو الشک فی التکلیف وفی موارد الشک فی الامتثال لا یوجد شک فی التکلیف بناءً علی مبنی یقول أنّ الامتثال والعصیان لا یسقطان التکلیف، وهذا معناه أنّه لا ملازمة بین الشک فی الامتثال وبین الشک فی التکلیف حتّی یقال فی موارد الشک فی التکلیف أنّ موضوع الأصل محفوظ، فیجری الأصل، هذا مبنی علی وجود ملازمةٍ بین الشک فی الامتثال والشک فی التکلیف، فإذا أنکرنا هذه الملازمة وقلنا أنّ الشک فی الامتثال لا یلازم الشک فی التکلیف؛ بل التکلیف معلوم حتّی مع العلم بالامتثال، فضلاً عن الشک فیه؛ لأنّ الامتثال لا یُسقط التکلیف، التکلیف بروحه وبملاکاته وبمبادئه لا یسقط بالامتثال، الفعل الذی یتعلّق به التکلیف یبقی علی ما هو علیه من الملاکات والمحبوبیة والمبغوضیة والمبادئ علی ما هو علیه یبقی قبل تحققّه وبعد تحققّه، حتّی بعد تحققّه تبقی الصلاة ذات ملاک وذات مبادئ ومحبوبة، أو الفعل الآخر الذی هو متعلّق التکلیف التحریمی یکون مبغوضاً، ولا معنی لأن نقول أنّ الصلاة بعد تحققّها تخرج عن المحبوبیة وتکون غیر محبوبة وغیر مرادة للمولی ولیس فیها مبادئ التی هی عبارة عن روح الحکم الشرعی، واقع الحکم الشرعی هو هذا.

ص: 657

إذن: الامتثال لا یُسقط التکلیف ولا یُسقط فعلیته، وإنّما هو یُسقط فاعلیته ومحرّکیته التشریعیة، بمعنی أنّ التکلیف بعد تحققّ متعلّقه وامتثاله لا یعود محرّکاً تشریعاً للمکلّف نحو الامتثال، هو یسقط فاعلیة التکلیف ومحرّکیته التشریعیة ولیست التکوینیة، أمّا أصل التکلیف وواقعه وروحه ومبادئه، فهی لا تسقط بالامتثال، فإذا قلنا أنّها لا تسقط بالامتثال وإنّما الذی یسقط هو فاعلیة التکلیف ومحرّکیته التشریعیة؛ حینئذٍ یکون واضحاً أنّ الشک فی الامتثال لیس شکّاً فی التکلیف الذی هو موضوع الأصل العملی بحسب الفرض، وإنّما الشک فی الامتثال یکون شکّاً فی فاعلیة التکلیف الذی تنجّز علی المکلّف ودخل فی عهدته وعلم به المکلّف، هذا التکلیف الذی علم به المکلّف تفصیلاً ------------- بحسب الفرض ------------- ودخل فی عهدته واشتغلت به ذمّته، هذا الآن عندما یشک المکلّف فی الامتثال یشک فی أنّه باقٍ علی فاعلیته، أو لا ؟ هل سقطت فاعلیته، أو لا ؟ إذا امتثل سقطت فاعلیته، لا أنّ نفس التکلیف یسقط، وإذا لم یمتثل فهو باقٍ علی فاعلیته. إذن: الشک لیس فی فعلیة التکلیف، وإنما الشک فی فاعلیته ومحرّکیته التشریعیة نحو الامتثال، هل یحرّک نحو الامتثال، أو لا یحرّک نحو الامتثال ؟ هذا هو الذی یُشک فیه، أمّا أصل التکلیف، فلا یُشکّ فیه؛ وحینئذٍ الشک فی الامتثال فی تلک الموارد لا یُلازم الشک فی التکلیف حتّی یقال أنّ موضوع الأصل العملی محفوظ فیها، فلا مانع من التمسّک بالدلیل لإثبات جریان الأصل فی تلک الموارد. هذا مانع إثباتی یمنع من إجراء الأصل فی تلک الموارد وإن کان لا یوجد مانع ثبوتی ومحذور عقلی من جریان الأصل والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة فی تلک الموارد. هذا التقریب الأوّل.

ص: 658

التقریب الثانی: إذا ناقشنا فی هذا الکلام، وقلنا أنّه غیر تام، وأمکننا أن نتعقّل تقسیم التکلیف إلی حصّة حدوثیة وحصّة بقائیة ونقول أیّ ضیر فی أن نجری البراءة فی الحصّة البقائیة کما ذُکر فی أصل التقریب ؟ بیّنّا فی الدرس السابق أنّ الشک فی الامتثال فی واقعه شکٌ فی التکلیف، لکن بقاءً، ولا فرق بین الشکّ فی التکلیف بقاءً وبین الشک فی التکلیف حدوثاً، کلٌ منهما شک فی التکلیف، وبذلک نحرز موضوع الأصل العملی، هنا ماذا یُراد بهذا الکلام ؟ یُراد تطبیق البراءة علی هذه الحصّة البقائیة من التکلیف؛ لأنّ الشکّ فی هذه الحصّة البقائیة من التکلیف هو فی واقعه شک فی التکلیف، لکن بقاءً؛ لأنّ الامتثال یُسقط التکلیف بناءً علی الرأی الآخر، فالشک فی الامتثال هو شک فی التکلیف بقاءً، فانحفظ موضوع الأصل العملی وهو أنّه شک فی التکلیف، فلیس هناک مشکلة إثباتیة من إجراء الأصل العملی.

أقول: هذا الکلام لو قیل وأنکرنا الوجه الأوّل؛ حینئذٍ نقول: هل ینفع هذا لإثبات التأمین من ناحیة الحصّة الحدوثیة من التکلیف التی فرضنا تعلّق العلم التفصیلی بها، وفرضنا دخولها فی العهدة وتنجّزها علی المکلّف واشتغال الذمّة بها، إجراء البراءة عن هذه الحصّة البقائیة من التکلیف هل ینفع لإثبات التأمین من الحصّة الحدوثیة من التکلیف ؟ لا تنفع مثل هذه البراءة، المفروض أننا تعقلّنا التقسیم إلی حدوث وبقاء؛ لأنّه لا إشکال أنّ لدینا علم بالتکلیف لا یمکن أن نقول أنّ الحصّة الحدوثیة من التکلیف مشکوکة، التکلیف حدوثاً معلوم بالتفصیل، داخل فی العهدة واشتغلت به الذمة ولا مجال لإجراء البراءة فیه، وإنّما البراءة علی تقدیر تعقّل هذا التقسیم تجری فی الحصّة البقائیة فی التکلیف بقاءً، فلنفترض ذلک، وانحفظ موضوع الأصل العملی ویُراد تطبیق البراءة علیه، لکن هذا هل ینفع للتأمین من ناحیة الحصّة الحدوثیة التی علم المکلّف بها بالتفصیل واشتغلت بها الذمّة ودخلت فی العهدة، هذا هل ینفع للتأمین من تلک الحصّة ؟ لا ینفع للتأمین، ومثل هذه البراءة لا یشملها دلیل البراءة؛ لأنّها بالنتیجة لا تثبت التأمین لهذا المکلّف؛ بل یبقی مطالباً بالتکلّیف وموافقة التکلیف الذی اشتغلت به ذمّته ودخل فی عهدته جزماً وعلم به تفصیلاً، فلا فائدة فی مثل هذه البراءة.

ص: 659

هذان تقریبان لوجود إشکال إثباتی فی جریان البراءة فی موارد الشک فی الامتثال مع العلم التفصیلی وعلی هذا الأساس یمکن أن یقول القائل بأنّی أؤمن بأنّ فی کلٍ من الموردین فی ذاک المورد ----------- الذی هو خارج عن محل الکلام وجیء به کنقض علی القول بالاقتضاء ------------ وفی محل الکلام، العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، لکن بالرغم من هذا التزم بعدم جریان البراءة فی ذاک المورد وجریانها فی هذا المورد؛ لأنّه فی محل الکلام موضوع الأصل العملی فی کل طرفٍ محفوظ، فلا مانع من إجرائه بقطع النظر عن المعارضة، فلیس هناک مشکلة لا ثبوتیة ولا إثباتیة، بینما موضوع الأصل العملی فی موارد العلم التفصیلی والشکّ فی الامتثال لیس محفوظاً، إمّا لیس محفوظاً بالتقریب الأوّل، وإمّا أنّ أدلّة البراءة منصرفة عن مثل هذا الشک فی الامتثال ولا تشمله؛ لأنّه لا فائدة فی إجراء البراءة عن الحصّة البقائیة من التکلیف.

هذا ما یرتبط بهذا النقض والظاهر أنّه لم یبقَ فیه شیء یمکن أن یُضاف علی هذا، هذا النقض الأوّل وهذا هو جوابه وبعد ذلک یقع الکلام فی النقض الثانی وهو النقض المهم علی القول بالاقتضاء.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

النقض الثانی علی القول بالاقتضاء وأنّ العلم الإجمالی إن لم یکن علّة تامة لوجوب الموافقة القطعیة؛ بل کان مقتضیاً له، وکان تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة وکان معلّقاً علی عدم الترخیص الشرعی، فلماذا لا نتمسّک بإطلاق الأصل فی کل واحدٍ من الطرفین مشروطاً بترک الطرف الآخر، وهذا ینتج عدم وجوب الموافقة القطعیة، ینتج التخییر فی تطبیق الأصل علی کل واحدٍ من الطرفین، فبإمکان المکلّف أن یجری الأصل فی هذا الطرف بشرط ترک الطرف الآخر، أو فی هذا الطرف بشرط ترک إجراء الأصل فی الطرف الأوّل، ممّا یعنی التخییر، ممّا یعنی جواز ارتکاب أحد الطرفین، ممّا یعنی عدم وجوب الموافقة القطعیة، بینما هذه النتیجة لا یرضی بها القائل بالاقتضاء؛ لأنّه وإن کان یقول بالاقتضاء وأنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، لکنّه یمنع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین لأجل المعارضة ویصل إلی نفس النتیجة التی یقول بها القائل بالعلّیة، کما أنّ القائل بالعلّیة یمنع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین، القائل بالاقتضاء کالمحقق النائینی(قدّس سرّه) أیضاً یمنع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین، غایة الأمر أنّ وجه المنع یختلف عندهما، فالقائل بالعلّیة یمنع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین لوجود محذور ثبوتی یمنع من جریانه فی أحد الطرفین بقطع النظر عن التعارض، بینما القائل بالاقتضاء کالمحقق النائینی(قدّس سرّه) یمنع من جریان الأصل فی أحد الطرفین باعتبار أنّه یکون مُعارَضاً بجریانه فی الطرف الآخر، وإجراءه فی کلٍ منهما محال؛ لأنّه یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة التی فرغنا عن امتناعها؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامة لحرمة المخالفة القطعیة، فلا یمکن إجراؤه فی کلٍ منهما ولا یمکن إجراؤه فی أحدهما المعیّن؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح، ولا فی أحدهما المردد؛ لأنّ مفاد الأصل لیس هو الترخیص التخییری، وإنّما مفاد الأصل هو الترخیص التعیینی، مفاد الأصل هو إثبات الترخیص فی أحد الطرفین بعینه ولا یستفاد من دلیل الأصل إثبات الترخیص لا بعینه، هذا لیس مفاد الأصل حتّی نثبته فی المقام.

ص: 660

وعلیه: لابدّ من تساقط الأصول فی الطرفین، والنتیجة کما تقدّم سابقاً أنّ الاحتمال فی کل طرفٍ یبقی بلا مؤمّن لا عقلی ولا شرعی، فیتنجّز، فتجب الموافقة القطعیة. فهو أیضاً یقول بوجوب الموافقة القطعیة.

النقض یقول للمحقق النائینی(قدّس سرّه): بأنّه لماذا لا نجری الأصل فی کلا الطرفین، لکن بنحوٍ مشروط ؟ لماذا نلتزم بتساقط الأصول فی الطرفین ؟ بل لنلتزم بجریان الأصل فی کلٍ من الطرفین لکن بنحوٍ مشروطٍ بأن یجری الأصل فی هذا الطرف بشرط ترک الآخر فی الشبهة التحریمیة، ویجری الأصل فی الطرف الثانی بشرط ترک الطرف الأوّل، فیثبت فی کلا الطرفین ترخیصان لکن لا مطلقاً، ترخیصان مشروطان، کل واحد منهما مشروط بترک الآخر، وهذا لا یلزم منه محذور الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذان الترخیصان المشروطان لا یؤدّیان إلی الترخیص فی المعصیة وفی المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ لماذا نلتزم بسقوط الأصلین والانتهاء إلی وجوب الموافقة القطعیة، لنلتزم بجریان الأصل فی کلا الطرفین بنحوٍ مشروط وننتهی إلی نتیجة التخییر لا وجوب الموافقة القطعیة، وهذا لا یلتزم به المحقق النائینی(قدّس سرّه)؛ لأنّه یری أنّه لا إشکال فی وجوب الموافقة القطعیة.

هذا النقض فی الحقیقة موجّه إلی المحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی یقول بالاقتضاء وفی نفس الوقت یقول بعدم جریان الأصل فی أحد الطرفین، فی بعض أطراف العلم الإجمالی للتعارض، هذا النقض متوجّه إلی من یلتزم بهذا الرأی کالمحقق النائینی(قدّس سرّه) والسید الخوئی(قدّس سرّه)، وحاصل هذا النقض هو: أنّ المحذور من إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی هو محذور الترخیص فی المخالفة القطعیة، محذور الترخیص فی المعصیة الذی فرغنا عن استحالته؛ لأنّ العلم الإجمالی علّة تامة لحرمة المخالفة القطعیة. هذا هو المحذور. هذا المحذور کما یندفع بتساقط الأصول وعدم شمول الأصل لکلا الطرفین، کذلک یندفع بالالتزام بشمول الأصل لکلا الطرفین، لکن مع تقیید إطلاق کلّ أصلٍ یجری فی أحد الطرفین بترک الطرف الآخر، فیجری الأصل فی هذا مشروطاً بترک ذاک، وفی ذاک مشروطاً بترک الأوّل، هذا کما هو واضح لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فالمحذور یندفع به أیضاً، کما یندفع بأن نلتزم بتساقط الأصول فی الطرفین، وعدم شمول الأصل لکلا الطرفین، کذلک یندفع بالالتزام بالشمول، لکن مع تقیید الإطلاق بترک الطرف الآخر، أن نرفع الید لا عن أصل شمول دلیل الأصل لهذا الطرف وهذا الطرف، وإنّما نرفع الید عن إطلاق الأصل فی هذا الطرف وإطلاق الأصل فی هذا الطرف مع الالتزام بشمول دلیل الأصل لکلٍ من الطرفین.

ص: 661

هو یقول: ألستم تقولون بالاقتضاء ؟ بمعنی أنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامة لوجوب الموافقة القطعیة، وأنّ الترخیص فی بعض الأطراف ممکن ولیس فیه محذور ثبوتی، وإنّما تقولون هو لا یجری فی بعض الأطراف للمعارضة. یقول: أنّ المعارضة لا تستلزم تساقط الأصلین فی الطرفین المؤدی إلی التنجیز ووجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ الاحتمال فی کل طرفٍ یبقی بلا مؤمّنٍ شرعی ولا عقلی، کما یمکن أن یُدفع المحذور عن طریق هذا التساقط کما التزم به المحقق النائینی(قدّس سرّه) هو یقول یمکن أن یتحقق دفع المحذور بالالتزام بجریان الأصل فی کلا الطرفین بنحوٍ مشروط.

وبعبارة أخری: أنّ دفع المحذور السابق یدور أمره بین أحد شیئین:

الأمر الأوّل: أن نلتزم بالتساقط کما یقترح المحقق النائینی(قدّس سرّه). وکان برهانه هو أنّه لا مانع من إجراء الأصل فی هذا الطرف ولیس فیه مشکلة ثبوتیة، ولا یجری لأنّه یعارضه الأصل فی هذا الطرف، وبعد عدم إمکان إجراء الأصل فی کلا الطرفین ولا فی أحدهما المعیّن ولا فی أحدهما المردد، تتساقط الأصول. هذا التساقط معناه فی الحقیقة التخصیص، یعنی تخصیص دلیل الأصل بغیر موارد العلم الإجمالی، یعنی أنّ دلیل الأصل لا یشمل موارد العلم الإجمالی، فی الحقیقة هذا تخصیص أفرادی، بأن نخرج هذا عن دلیل الأصل العملی، هذا تخصیص بلحاظ الأفراد. الأمر یدور بین هذا وبین أن لا نلتزم بالتخصیص الأفرادی، ویبقی الدلیل عامّاً یشمل کل أفراد الشک فی التکلیف بما فیها أطراف العلم الإجمالی، لا نخصّصها بلحاظ الأفراد، غایة الأمر نرفع الید عن إطلاق الأصل فی هذا الطرف الذی هو یسبب المشکلة وهو الذی یسبب المحذور، شمول الأصل لهذا الطرف مطلقاً، یعنی سواء ارتکب الآخر، أو لا ؟ الأصل یشمل هذا الطرف، وشمول الأصل لهذا الطرف مطلقاً هو الذی یؤدی إلی الترخیص فی المعصیة، هو مرخّص فی هذا حتّی إذا ترک ذاک، أو فَعَله، ومرخّص فی هذا أیضاً مطلقاً، سواء ترک هذا، أو لا، حتّی إذا ترک هذا هو مرخّص فی هذا، هنا أیضاً نقول له: حتّی إذا ترکت هذا أنت مرخّص فی ذاک، هذا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فإذا رفعنا الید عن الإطلاق، إطلاق دلیل الأصل فی کل طرف لحالة ترک الآخر، نقول له إذا ترکت الآخر الأصل لا یثبت لک الترخیص هنا. نعم، إذا ترکت الآخر أنت مرخّص لک فی ترک هذا، فشمول دلیل الأصل لکلٍ من الطرفین مشروطاً بترک الآخر لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، صحیح هما ترخیصان فی الطرفین، لکن لیس کل ترخیصین یؤدّیان إلی الترخیص فی المعصیة، الترخیصان المطلقان یؤدیان إلی الترخیص فی المعصیة، أمّا الترخیصان المشروطان لا یؤدّیان إلی الترخیص فی المعصیة، أنت مأذون بارتکاب هذا إذا ترکت ذاک، أمّا إذا فعلت ذاک، فیجب علیک أن تترک هذا، هذا لا یؤدّی إلی الترخیص فی المعصیة والمخالفة القطعیة، یقول: الأمر یدور بین هذین الشیئین: بین الالتزام بالتخصیص والتساقط، رفع الید عن الإطلاق، أو العموم الأفرادی وبین أن لا نرفع الید عن الإطلاق الأحوالی للفرد، بأن نقول أنّ الدلیل یشمل هذا الفرد، لکن هل یشمله فی حالتین، أو فی حالة واحدة ؟ یقول: أنّ الإطلاق یشمله فی کلتا الحالتین، حالة فعل الآخر وحالة ترک الآخر، نحن نقیّد هذا الإطلاق الأحوالی ونرفع الید عنه ونلتزم بشمول دلیل الأصل لهذا الفرد، أو الطرف مشروطاً بترک الآخر فقط، فی هذه الحالة یثبّت الترخیص. أمّا فی حالة فعل الآخر فلا یوجد ترخیص فی فعل هذا؛ لأنّ الترخیص یؤدی إلی المخالفة القطعیة، فالأمر یدور بینهما.

ص: 662

یقول: الثانی هو المتعیّن، یعنی رفع الید عن الإطلاق الأحوالی هو المتعیّن ولیس رفع الید عن الإطلاق الأفرادی لا التساقط ولا التخصیص، وإنّما المتعیّن ما یقابله وهو رفع الید عن الإطلاق الأحوالی، یقول هو المتعیّن؛ یمکن أن یُستفاد من کلماته وکلمات من شرح هذه الفکرة، الاستدلال بدلیلین علی أنّه هو المتعیّن:

الدلیل الأوّل: بأنّ رفع الید عن الإطلاق الأحوالی هو المتعیّن، إمّا لأنّه متیقن السقوط علی کلا التقدیرین، سواء التزمنا بالسقوط والتخصیص، أو التزمنا برفع الید عن الإطلاق الأحوالی، رفع الید عن الإطلاق الأحوالی متیقّن السقوط، لابدّ منه علی کلا التقدیرین؛ لأنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی یلتزم بسقوط وعدم شمول الأصل أساساً لکلا الفردین؛ فلا یبقی حینئذٍ إطلاق أحوالی فی هذا الطرف؛ لأنّ الأصل أساساً لا یجری فیه، فیسقط الإطلاق الأحوالی، وإذا قلنا بسقوط الإطلاق الأحوالی؛ فحینئذٍ یکون سقوط الإطلاق الأحوالی واضحاً، فسقوط الإطلاق الأحوالی متیقن علی کلا التقدیرین، بینما التخصیص لیس متیقناً علی کلا التقدیرین، سقوط الإطلاق الأفرادی لیس متیقناً علی کلا التقدیرین؛ لأنّه علی التقدیر الثانی لا یکون الإطلاق الأفرادی ساقطاً؛ بل یثبت الإطلاق الأفراد، وإنّما الساقط هو خصوص الإطلاق الأفرادی.

الدلیل الثانی: هو ما یؤکّد علیه وهو من أین ینشأ المحذور، فلابدّ أن نری أنّ المحذور ینشأ من ماذا؟ هل ینشأ المحذور من الالتزام بالإطلاق الأفرادی، أو ینشأ المحذور من الإطلاق الأحوالی ؟ المحذور ینشأ من الإطلاق الأحوالی لا من الإطلاق الأفرادی، أیّ ضیرٍ فی أن یکون دلیل الأصل شاملاً لکلا الطرفین ؟ لکن مع منع إطلاقه الأحوالی بتقییده بترک الطرف الآخر، لا یلزم منه محذور الترخیص فی المخالفة القطعیة، ولا یلزم منه محذور الترخیص فی المعصیة . نعم، محذور الترخیص فی المعصیة یلزم من الإطلاق الأحوالی، شمول الأصل لهذا الطرف مطلقاً ولهذا الطرف مطلقاً یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة، أمّا أصل شمول الأصل لهذا الطرف ولهذا الطرف لا یلزم منه هذا المحذور إذا لم نلتزم بإطلاقه الأحوالی. إذن: منشأ الترخیص والمحذور هو الإطلاق الأحوالی؛ حینئذٍ لابدّ أن نقتصر علی هذا المقدار، هذا حیث أنّه یسبب محذوراً نرفع الیدّ عنه، أمّا ذاک حیث أنّه لا یسبب محذوراً، لماذا نرفع الید عنه ؟ بل رفع الید عن الإطلاق الأفرادی وشمول دلیل الأصل لکلٍ من الفردین، علی القول بالاقتضاء لا مبرر له، فیکون رفع الیدّ عنه بلا موجبٍ وبلا سببٍ، الضرورات تقدّر بقدرها، الضرورة تلجأنا إلی أن نرفع الید عن ما یوجب المحذور، وما یوجب المحذور هو الإطلاق الأحوالی للأصل فی کل طرف، فنرفع الید عن ما یسبب المحذور، ویبقی الإطلاق الأحوالی علی حاله، وهذا معناه أنّ دلیل الأصل یشمل کلا الطرفین علی نحوٍ مشروط، وبهذا لا نصل إلی المحذور، لکنّه ینتج لنا نتیجة التخییر لا وجوب الموافقة القطعیة؛ بل ینتج لنا الترخیص فی ترک الموافقة القطعیة وهذا ممّا لا یلتزم به مثل المحقق النائینی(قدّس سرّه)؛ ولذا صار نقضاً علیه، فأننا نلتزم بالعلّیة التامّة وبوجوب الموافقة القطعیة ونمنع من إجراء الأصل فی أحد الطرفین وبقطع النظر عن وجود معارضٍ أو عدم وجود معارضٍ؛ لأنّه فیه محذور ثبوتی، فنلتزم بوجوب الموافقة القطعیة، لکن المحقق النائینی(قدّس سرّه) عندما یقول بالاقتضاء لا یتعیّن أن یلتزم ولا دلیل علی أن ینتهی إلی وجوب الموافقة القطعیة بتوسط هذا البرهان الذی یذکره ویکررّه وهو أنّه لا مانع من جریان الأصل فی أحد الطرفین ثبوتاً، ولکن یمنع منه وجود المعارض فی الطرف الآخر، والمعارض فی الطرف الآخر یمنع من جریان الأصل فی کلا الطرفین فأنّ إجراءه فی کلٍ منهما محال؛ لأنّه یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، فلا یمکن إجراؤه فی کلٍ منهما ولا یمکن إجراؤه فی أحدهما المعیّن؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح، ولا فی أحدهما المردد؛ لأنّ مفاد الأصل لیس هو الترخیص التخییری، وإنّما مفاد الأصل هو الترخیص التعیینی، فیتساقطان، فإذا سقطا یبقی الاحتمال منجّزاً فی کل طرفٍ ولا مؤمّن من ناحیته، فتجب الموافقة القطعیة. هذا ما یقوله المحقق النائینی(قدّس سرّه)، بینما المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول فی النقض: لا یتعیّن أن نلتزم بعد افتراض التعارض بتساقط الأصول؛ بل یمکن أن نلتزم بجریان الأصول فی کلا الطرفین، لکن علی نحوٍ مشروط؛ بل هذا هو المتعیّن للدلیلین السابقین، إمّا لأنّ رفع الید عن الإطلاق الأحوالی متیّقن علی کلا التقدیرین، وإمّا لأنّ منشأ المحذور والذی یسبب الوقوع فیه هو الإطلاق الأحوالی، والضرورات تقدّر بقدرها، فلابدّ أن نرفع الید عن الدلیل بمقدار الضرورة، والضرورة فی المقام هی أن نرفع الید عن الإطلاق الأحوالی للدلیل ولا نرفع الید عن أصل الإطلاق الأفرادی، وهذا ینتج عدم وجوب الموافقة القطعیة، وهذا ممّا لا یلتزم به المحقق العراقی(قدّس سرّه) ومن یتبعه. هذا النقض الثانی. وهذا هو الذی یُعبّر عنه بشبهة التخییر، یعنی شبهة نشأت بینهم وتنشأ من هذا النقض وهو أنّه هل یمکن بعد افتراض التعارض علی القول بالاقتضاء، هل التعارض یؤدی إلی التساقط کما یقول المحقق النائینی(قدّس سرّه)، أو أنّه یستدعی التخییر کما یقول المحقق العراقی(قدّس سرّه) ؟ بناءً علی هذه المبانی. هذا النقض الثانی للمحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 663

من الواضح أنّ هذا النقض إنّما یرد علی من یقول بالاقتضاء ویقول بعدم جریان الأصل فی بعض الأطراف لأجل التعارض، ولیس نقضاً علی کل من یقول بالاقتضاء؛ لأننا مثلاً إذا قلنا بالاقتضاء وأنّ العلم الإجمال لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، لکن منعنا من جریان الأصل فی بعض الأطراف لعلّة إثباتیة، قصور فی دلیل الأصل عن أن یشمل بعض أطراف العلم الإجمالی ولیس مانعاً ثبوتیاً؛ إذ لا مانع ثبوتاً؛ ولذا قلنا بالاقتضاء، لکن قد یقال أنّ المانع من جریان الأصل فی بعض الأطراف لیس هو المعارضة، وإنّما هناک قصور فی الدلیل عن أن یشمل بعض أطراف العلم الإجمالی، قصور فی الدلیل یعنی ناحیة إثباتیة، کما إذا آمنّا بما تقدّم سابقاً من أنّ مفاد الأصل هو الحکم الحیثی، أنّ مفاد الأصل هو الإباحة من حیث الشکّ فی التکلیف ولیس مفاد الأصل هو إثبات الإباحة مطلقاً وبلحاظ جمیع الحیثیات، کلا، وإنما أصل ناظر إلی الإباحة من حیث الشک فی التکلیف، هذا مباح من حیثیة الشک فی التکلیف لا أنّه مباح مطلقاً، ومن الواضح أنّ طرف العلم الإجمالی فیه حیثیتان، حیثیة الشک فی التکلیف وحیثیة کونه طرفاً لعلم إجمالی بتکلیف منجّز، الأصل عندما نرید إجراءه فی هذا الطرف هل یثبت التأمین من کلتا الناحیتین، أو یثبت التأمین من الناحیة الأولی ؟ من الناحیة الأولی یعنی یقول أنت من حیث الشک فی التکلیف وفی الحرمة أنت فی مأمن من هذه الناحیة، أمّا من حیث أنّ هذا طرف لعلم إجمالی بتکلیفٍ منجّز، فالأصل لا یؤمّن من ناحیته؛ لأنّ مفاد الأصل هو الإباحة من حیث الشک فی التکلیف، الحکم الحیثی، تقدّم سابقاً طرح مثال وهو(الجبن حلال) ومفاده حکم حیثی، یعنی الحلّیة من حیث کونه جبناً، أمّا من حیثیة کونه مغصوباً، أو من حیثیة کونه مسروقاً هو لا ینظر إلی ذلک، لا یثبت الحلّیة بلحاظ کل الحیثیات، وإنّما یثبت الحلّیة لهذا من حیثیة کونه جبناً؛ ولذا هذا لا یکون منافیاً لتحریم هذا الجبن من حیثیة أخری، الترخیص مفاد الأصل هو إثبات الحلّیة من حیث کونه مشکوک الحرمة، أمّا من حیث کونه طرفاً لعلم إجمالی، دلیل الأصل غیر ناظر إلیه ولا یثبت البراءة من ناحیته، وهذا یعنی وجود قصور فی دلیل الأصل من أن یثبت الإباحة والتأمین ولو فی بعض أطراف العلم الإجمالی.

ص: 664

أقول: إذا آمنّا بذلک، ومنعنا من إجراء الأصل فی بعض أطراف العلم الإجمالی لمحذور إثباتی وقصور فی دلیل الأصل لا لأجل التعارض، فهذا النقض لا یرد علی القول بالاقتضاء إذا کان بهذا الشکل؛ لأنّ صاحب هذا القول یقول أنّ الأصل لا یجری فی أحد الطرفین أصلاً بقطع النظر عن المعارضة، حتّی إذا لم یکن له معارض کما فی الموارد التی تقدّم نقلها ما إذا کان أحد الطرفین تنجّز بمنجّز، علمٍ، أو علمی، أو أصلٍ عقلی، أو شرعی ثبّت التکلیف فی أحد الطرفین، هنا قلنا بأنّه حینئذٍ الأصل یجری فی الطرف الآخر بلا معارض؛ لأنّ هذا المورد الذی تنجّز فیه التکلیف سوف لن یجری فیه الأصل، فی الآخر یجری الأصل؛ لأنّه لا معارض له، لکن مع ذلک بناءً علی هذا الرأی لا یجری الأصل فی ذاک الطرف لوجود مانع إثباتی؛ حینئذٍ هذا النقض لا یرد علیه؛ لأنّ هذا النقض یُحاسب من یقول بأنّ الأصل لا یجری فی بعض الأطراف لأجل التعارض، فیقول له لیست النتیجة الحتمیة للتعارض هی التساقط؛ بل یمکن أن تکون نتیجة التعارض هی التخییر والالتزام بشمول الأصل لکلا الطرفین ورفع الید عن الإطلاق الأحوالی للأصل فی کلٍ من الطرفین.

إذن: ینبغی أن یکون هذا واضحاً أنّ هذا النقض لا یرد علی کل من یقول بالاقتضاء، وإنّما یرد علی من یقول بالاقتضاء ویری بأنّه لا یوجد محذور من جریان الأصل فی بعض الأطراف لا ثبوتی ولا إثباتی، وإنّما المحذور ینحصر بمسألة التعارض، لولا التعارض لجری الأصل فی هذا الطرف؛ لأنّه لا یوجد محذور من جریانه لا ثبوتاً ولا إثباتاً، فیرد علیه هذا النقض.

ص: 665

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

قلنا أنّ هناک اعتراضات علی النقض الثانی

الاعتراض الأوّل: هو ما یُستفاد من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی تقریریه، ومحصل ما یُستفاد من کلماتههو التعرّض إلی أمرین: (1)

الأمر الأوّل: أنّ التخییر فی باب تعارض الأصول وإن کان ممکناً فی حدّ نفسه إلاّ أنّه لا دلیل علیه.

الأمر الثانی: أنّ الإطلاق محال، وعندما یکون الإطلاق محالاً فالتقیید أیضاً یکون محالاً؛ لأنّ استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق وبالعکس، فإذا کان الإطلاق محالاً فالتقیید أیضاً یکون محالاً.

الأمر الأوّل واضح ما هو المراد به، لا دلیل علی التخییر فی المقام، وسنوضّح کیف یقول لا دلیل علی التخییر فی المقام. وأمّا الثانی فتطبیقه فی محل الکلام یکون باعتبار أنّ إطلاق الأصل فی کلا الطرفین محال؛ لأنّ إطلاق الأصل فی کلا الطرفین یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة والمفروض استحالة الترخیص فی المخالفة القطعیة، فإذا کان إطلاق الترخیص فی کلا الطرفین محالاً؛ حینئذٍ یکون تقیید الترخیص محالاً أیضاً، وتقیید الترخیص هو النتیجة التی یفترضها صاحب النقض ویرید أن یقول بأنّ الأصل یجری فی کلا الطرفین لکن مقیداً بعدم ارتکاب الطرف الآخر، یقول بأنّ هذا التقیید محال؛ لأنّ إطلاق الأصل فی کلا الطرفین محال، واستحالة الإطلاق تستلزم استحالة التقیید.

بالنسبة إلی الأمر الأوّل الذی رکّز علیه فی أحد تقریریه وهو أنّ التخییر فی إعمال الأصول فی الطرفین أمر ممکن، لکنّه لا دلیل علیه، باعتبار أنّ دلیل الأصل یقتضی جریانه فی کل طرفٍ بعینه ولیس مفاده هو إجراء الأصل فی أحد الطرفین مخیّراً بینهما، هذا مفاد لا یُستفاد من دلیل الأصل.

ص: 666


1- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 245.

وبعبارةٍ أخری : أنّ مفاد الأصل هو الترخیص التعیینی لا الترخیص التخییری، وهذا لا یُستفاد من دلیل الأصل حتّی نقول أنّ مفاد الأصل هو ذلک، مجرّد أنّه لا یصحّ الجمع بین الترخیصین وبین الأصلین بأن یجریان معاً فی الطرفین، هذا لا یوجب الحکم بالتخییر؛ لأنّ التخییر کسائر الأحکام الشرعیة یحتاج إلی دلیل، ودلیل الأصل لیس مفاده التخییر فی إعمال الأصل، لیس مفاده الترخیص التخییری، وإنّما مفاده الترخیص التعیینی. هذا ذکره فی ضمن کلامه. القضیة إذا بقیت بهذا الشکل أنّه فقط مجرّد أنّه لا دلیل علی الترخیص التخییری. (1)

المحقق العراقی(قدّس سرّه) یجیب عن ذلک: یقول: أنّ الدلیل قام علی الترخیص التخییری والدلیل هو عبارة عن التقریر الذی ذکره فی أصل النقض، نفس التقریر هو یکون دلیلاً علی الترخیص التخییری، والتقریر هو أنّ القائل بالاقتضاء یعترف بأنّ الأصل فی حدّ نفسه یجری فی کلٍ من الطرفین؛ فحینئذٍ نقول أنّ إجراءه فی کلا الطرفین مطلقاً محال، بأن یکون الأصل فی هذا الطرف مطلق لحالة ارتکاب الآخر وترک الآخر، وهکذا العکس، هذا یؤدی إلی الترخیص فی المعصیة، وهذا محال، إجراء الأصل فی أحد الطرفین غیر ممکن؛ فحینئذٍ یدور الأمر کما ذُکر فی النقض المتقدّم بین رفع الید عن شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین وبین أن نعترف بشمول دلیل الأصل لکلا الطرفین ونرفع الید عن إطلاقهما لحالة ارتکاب الآخر، فإذا دار الأمر بین هما یأتی الحدیث السابق أنّه یتعیّن الثانی إمّا بالتقریب الأوّل، أو بالتقریب الثانی المتقدّمین، ویقول هذا هو الدلیل علی الترخیص التخییری. (2)

ص: 667


1- فوائد الأصول، تقریر بحث المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 32.
2- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 317.

بعبارةٍ أخری: أنّ مقتضی الجمع کما ذکر المحقق العراقی(قدّس سرّه) ذلک، بین الدلیل الدال علی شمول دلیل الأصل العملی الذی هو یشمل کلاً من الطرفین بحدّ نفسه بحسب الفرض، الجمع بین دلیل الأصل العملی وبین الحکم العقلی باستحالة الترخیص فی کلا الطرفین مطلقاً هو أن نلتزم بشمول دلیل الأصل لکلا الطرفین ونقیّد الإطلاق فی کلٍ منهما، وهذا ینتج شمول الترخیص لکلا الطرفین، لکن مشروطاً بترک الآخر، وهذا هو معنی التخییر. إذن: مقتضی الأدلّة هو التخییر، ولا یصح أن نقول أنّ التخییر لیس علیه دلیل، المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول قام علیه دلیل والدلیل هو التقریب الذی ذُکر فی أصل النقض، لکن المحقق النائینی(قدّس سرّه) لا یکتفی بهذا المقدار، مجرّد أنّه لیس علیه دلیل؛ بل حاول إبطال التقریب الذی یبتنی علیه النقض، فأنّه ذکر هذا التقریب بعنوان أنّه غایة ما یمکن أن یقال فی مقام تقریب التخییر وشبهة التخییر هو : أنّ دلیل الأصل یقتضی ثبوت الرخصة فی کل واحدٍ من الطرفین، هذا بناءً علی الاقتضاء المسلّم أنّ دلیل الأصل یقتضی ثبوت الترخیص فی کل واحدٍ من الطرفین، مقتضی إطلاق هذا الدلیل الذی یشمل کل واحدٍ من الطرفین هو ثبوت الرخصة مطلقاً، یعنی ثبوت الرخصة فی هذا مطلقاً وثبوت الرخصة فی هذا مطلقاً، وحیث أنّ هذا الإطلاق یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة وهو محال، فلابدّ من رفع الید عن هذا الإطلاق وتکون النتیجة هی جواز ارتکاب کل واحدٍ من الطرفین، لکن مشروطاً بترک الآخر؛ لأنّ الأمر یدور بین خروج کل واحدٍ من الطرفین من دلیل الأصل الذی هو یعنی التخصیص الأفرادی وبین خروجه عن دلیل الأصل فی حالة ارتکاب الآخر، هذا یخرج عن دلیل الأصل فی حالة ارتکاب الآخر، ولیس فیه ترخیص، وذاک أیضاً یخرج عن دلیل الأصل فی حالة ارتکاب الأوّل، یدور الأمر بینهما والمتعیّن هو الثانی. یقول: هذا غایة ما یمکن أن یقال فی مقام تقریب الشبهة. (1)

ص: 668


1- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 244.

أجاب عن هذا فی أجود التقریرات: بأنّ عدم جریان الأصل فی أطراف العلم الإجمالی، أو بحسب تعبیره إجراء الأصل فی الطرفین جمعاً، یعنی فی کلا الطرفین، عدم جواز إجراء الأصل فی أطراف العلم الإجمالی یمکن تصوّره علی نحوین:

النحو الأوّل: أن یکون عدم جواز إجراء الأصل فی کلا الطرفین یکون بسبب وجود دلیل خاص یخصص عموم دلیل الأصل، فکأنّه یوجد عند دلیلان، دلیل الأصل ودلیل آخر یخصص عموم دلیل الأصل، وهذا الدلیل المخصص لعموم دلیل الأصل یدور أمره بین أن یکون تخصیصه له تخصیصاً أفرادیاً وبین أن یکون تخصیصه له تخصیصاً أحوالیاً، فی هذه الحالة التقریب المتقدّم یکون تامّاً وصحیحاً ولا غبار علیه، بمعنی أنه صحیح ما ذُکر فی النقض؛ لأنّه یتعیّن الالتزام بالتخصیص الأحوالی ولا نرفع الید عن عموم دلیل الأصل فی کونه شاملاً لکلا الطرفین وإنّما یتعیّن أن نرفع الید عن إطلاق دلیل الأصل لکلا الطرفین، نرفع الید عن إطلاق الأصل فی هذا الطرف وعن إطلاق الأصل فی ذلک الطرف، یقول هذا هو المتعیّن فی هذا النحو الأوّل، ویُمثّل لذلک بهذا المثال الذی یطرحوه، إذا ورد عام(أکرم العلماء) وقام دلیل علی تخصیص هذا العام بالنسبة إلی زیدٍ وعمرو، خرجا عن العام، لکن دار أمر هذا المخصص بسبب الإجمال، أو لأی سبب آخر دار أمر هذا المخصص بین أن یکون تخصیصه للعام تخصیصاً أفرادیاً بأن یخرج من العام زید وعمرو مطلقاً، أصلاً لا یشملهما العام، وهو التخصیص الأفرادی، وبین أن یکونا خرجا من العام فی حالة دون حالة ولیس مطلقاً، زید یخرج من العام فی حالة إکرام عمرو، وعمرو یخرج من العام فی حالة إکرام زید، لکن زید یبقی مشمولاً للعام فی حالة عدم إکرام عمرو، وعمرو أیضاً یبقی مشمولاً للعام فی حالة عدم إکرام زید، دار الأمر فی أن یکون هذا المخصص هل یخرج الفردین من عموم العام أساساً، أو یخرجهما من عموم العام فی حالةٍ دون حالة، یقول: فی هذه الحالة یصح ما ذُکر فی التقریب ویقال بأنّ القدر المتیقن من تخصیص العام هو الثانی وهو الذی ذکرناه فی الدرس السابق من أن خروج زید عن العام فی حالة إکرام عمرو متیقن علی کل حال، سواء قلنا بالتخصیص الأفرادی، أو قلنا بالتخصیص الأحوالی، متیقن علی کل حال، إذا قلنا بالتخصیص الأفرادی فزید أساساً خارج عن العام، فهو یسقط بلحاظ کلتا الحالتین ولا یجب إکرامه فی کلتا الحالتین، وإذا قلنا بانّه یخرج عن العام فی حالة إکرام الطرف الآخر. إذن: إکرامه فی حالة إکرام الطرف الآخر هو ساقط علی کل حال، رفع الید عن الإطلاق الأحوالی متیقن فی محل الکلام، فإذا کان متیقناً؛ فحینئذٍ یتعیّن الثانی، فکل واحد من الطرفین لا یجب إکرامه عند إکرام الآخر؛ لأنّه عند إکرام الآخر لا یوجد إطلاق فی دلیل العام یشمل هذه الحالة، علی کل حال، سواء قلنا بالتخصیص الأفرادی، أو بالتخصیص الأحوالی.

ص: 669

نعم، إذا لم یکرم الآخر؛ حینئذٍ یمکن التمسّک بالعام لإثبات وجوب إکرامه فی حالة عدم إکرام عمرو إذا نأتی إلی زید ونقول لیس هناک موجب لرفع الید عن شمول دلیل العام له فی هذه الحالة؛ لأنّ ما تیقّنا خروجه عن العام هو إکرامه فی حالة إکرام الآخر، هذا خرج عن العام، أمّا إکرامه فی حالة عدم إکرام الآخر لیس لدینا یقین بخروجه عن العام، فیکون العام حجّة فیه وهذا هو معنی تقدیم التخصیص الأحوالی علی التخصیص الأفرادی، فیُلتزم بشمول دلیل العام لهذا وهذا لکن علی نحو مشروط یشمل هذا فی حالة عدم إکرام ذاک، فیجب إکرام هذا فی حالة عدم إکرام هذا، ویجب إکرام هذا فی حالة عدم إکرام الأوّل لهذا الدلیل الذی ذکره، ویقول بأنّ هذا هو المتحصّل من ضم الأخذ بالمقدار المتیقن من المخصص إلی العموم المفروض، مقتضی الجمع بین هذه الأدلّة ینتج هذه النتیجة؛ أنّ المکلّف یکون مخیّراً بین أن یکرم زیداً أو یکرم عمرو، إذا ترک إکرام عمرو یجب علیه إکرام زید، وإذا ترک إکرام زید یجب علیه إکرام عمرو تمسّکاً بعموم الدلیل؛ لأنّه لم یقم ما یوجب سقوط العام عن الشمول لکلا الطرفین، یقول: هذه الفکرة إذا أردنا أن نطبقّها فی محل الکلام، نذکر ما تقدّم من أنّه إذا فرضنا أنّه قام دلیل علی خروج أطراف العلم الإجمالی من دلیل الأصل، الدلیل یقوم علی خروج العلم الإجمالی عن دلیل الأصل وتردد هذا الدلیل بین أن یکون إخراج أطراف العلم الإجمالی عن دلیل الأصل هل هو إخراج أفرادی بأن لا یکون الأصل شاملاً لطرفی العلم الإجمالی اساساً وبین أن یکون خروجه خروجاً أحوالیاً ولا یخرج عن شمول دلیل الأصل أساساً؛ بل دلیل الأصل یشمله، لکنّه لا یشمله فی حالةٍ دون حالة، فی هذه الحالة یصح ما ذکر من أنّه لابدّ من الاقتصار علی القدر المتیقن، والقدر المتیقن هو عدم شمول دلیل الأصل لهذا الطرف فی حالة، ولیس عدم شموله لهذا الطرف مطلقاً ولذاک الطرف مطلقاً، لهذا التخصیص الأفرادی؛ بل عدم شموله لهذا الطرف فی حالة وعدم شموله لهذا الطرف فی حالة معینة وهو معنی التخصیص الأحوالی.

ص: 670

النحو الثانی: أن نفترض أنّ خروج الطرفین عن دلیل الأصل لیس لدلیلٍ خاصٍ یقوم علی خروجهما من دلیل الأصل، وإنّما الموجب والمنشأ لعدم شمول دلیل الأصل للطرفین هو محذور عقلی کما هو المفروض فی محل الکلام، یوجد محذور عقلی یمنع من شمول دلیل الأصل لکلا طرفی العلم الإجمالی، هذا المحذور العقلی هو الذی یکون موجباً لخروج الطرفین عن دلیل الأصل. یقول إذا افترضنا هذا وهو المفروض فی محل کلامنا، یعنی نحن لا نفترض وجود دلیلٍ خاصٍ یدلّ علی خروج الطرفین من دلیل الأصل العملی، وإنّما لیس لدینا سوی المحذور العقلی، هذا المحذور العقلی هو الموجود فی محل الکلام، یقول: فی هذا النحو لا یصح التقریب السابق، ویمکن أن یُستفاد من کلامه ذکر دلیلین علی عدم صحّة التقریب السابق فی محل الکلام: (1)

الأمر الأول: أننا فی محل الکلام باعتبار المحذور العقلی یکون جعل الترخیص وشمول الترخیص لکلا الطرفین محال ثبوتاً؛ لأنّ هناک محذور ثبوتی، محذور عقلی یمنع من شمول الأصل لکلا الطرفین، ومع وجود المحذور العقلی والاستحالة فی عالم الثبوت لاتصل النوبة إلی الکلام عن أنّ هذا الأصل فی هذا الطرف هل هو مطلق، أو مقیّد ؟ وهذا الأصل فی هذا الطرف هل هو مطلق، أو مقید ؟ حتی نقول لا داعی لرفع الید عن شمول الأصل أساساً لهذا الطرف، وإنّما یلتزم بتقییده، یقول: هذا لا معنی له بعد فرض استحالة جعل الأصل جعل الترخیص فی کلا الطرفین لوجود المحذور الثبوتی، اصلاً لا تنتهی النوبة إلی الکلام عن أنّ الأصل فی هذا الطرف هل هو مطلق، أو هو مقیّد ؟ الأصل عندما یشمل هذا الطرف هل یشمله مطلقاً، أو یشمله مقیّداً ؟ نحن نقول یشمله مقیّداً؛ یقول هناک محذور ثبوتی فی أصل شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین وهو المانع العقلی الثبوتی المتقدّم، هذا یمنع من شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین، فلا تصل النوبة إلی الحدیث فی عالم الإثبات أنّ الأصل فی هذا الطرف هل هو مطلق، أو مقیّد ؟

ص: 671


1- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 244 -- 245.

الأمر الثانی: بعد التنزّل عن الأمر الأوّل، کأنّه یرید أن یقول: لو تنزّلنا وسلّمنا شمول الأصل لکلا الطرفین ودار أمر هذا الأصل بین أن یکون مطلقاً أو یکون مقیّداً، یقول: هنا یمکن إثبات استحالة التقیید باعتبار استحالة الإطلاق؛ لأنّ التقابل بینهما تقابل الملکة والعدم وإذا استحال أحدهما یستحیل الآخر، وحیث أنّه بعد فرض شمول دلیل الأصل للطرفین، کون الأصل مطلقاً، یعنی یُرخّص فی هذا الطرف مطلقاً، یعنی سواء ارتکبت الآخر، أو لم ترتکب الآخر، حتّی إذا ارتکبت الآخر یُرخّص لک فی ارتکاب هذا، وهکذا بالعکس. هذا الإطلاق محال؛ لأنّه یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، وإذا استحال الإطلاق استحال التقیید، فیستحیل أن نقیّد الترخیص فی هذا الطرف بما إذا ترک الطرف الآخر، والترخیص فی ذاک الطرف بما إذا ترک الطرف الأوّل، هذا التقیید محال؛ لأنّ الإطلاق محال، هذا الذی یُفهم من کلماته فی فوائد الأصول وفی أجود التقریرات، وهذان المحذوران یُفهمان من کلامه بکل وضوح، فی فوائد الأصول یُفهم منه الأوّل ولا یُصرح بمسألة استحالة التقیید لأجل استحالة الإطلاق، لکن فی أجود التقریرات یُصرّح بذلک، فی فوائد الأصول یُفهم منه أنّ جعل الأصل فی الطرفین جمعاً --------- کما یُعبّر ----------- هذا محال لوجود المحذور الثبوتی، فإذا کان محالاً لا تصل النوبة للحدیث عن التقیید الذی هو من شئون عالم الإثبات، أنّ الأصل یجری فی هذا مقیّداً بترک الآخر، وفی ذاک مقیّداً بترک الأوّل، یقول: هذا إنّما یمکن الحدیث عنه حینما نفرغ عن الإمکان فی عالم الثبوت، أمّا إذا کان محالاً، فلا تصل النوبة إلی الحدیث عن التقیید فی مرحلة الإثبات، فی أجود التقریرات یذکر هذا الشیء وهو أنّ استحالة الإطلاق تستلزم استحالة التقیید، فتقیید الترخیص فی کلٍ من الطرفین بعدم ارتکاب الآخر محال؛ لأنّ الإطلاق محال. هذا هو الاعتراض الأوّل الذی یُفهم من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 672

بالنسبة إلی الأمر الأوّل الذی ذکره فی اعتراضه وهو مسألة أنّ الإطلاق محال، فیکون التقیید أیضاً محال، هذا قد یجاب عنه بإنکار أصل المبنی کما فعل السید الخوئی(قدّس سرّه)، حیث ناقش فی هذا بأنّه مبنی علی أن یکون التقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل الملکة والعدم، وأنّ تقابل الملکة والعدم یستلزم أن یکون أحدهما مستحیلاً إذا استحال الآخر، هو یری بأنّ التقابل بینهما تقابل الضدّین وأنّ استحالة أحدهما تستلزم ضرورة الآخر ولیس استحالته، أی أن یکون الآخر ضروری الوجود لا أن یکون مستحیلاً. وعنده مناقشة أیضاً أنّه حتّی لو سلّمنا أنّ التقابل تقابل الملکة والعدم، لکن هل یستلزم هذا أن یکون استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر ؟ هو یقول: کلا، ویُمثّل لذلک بالذات المقدّسة، یقول: یستحیل فیها الجهل، لکن العلم لیس مستحیلاً؛ بل ضروریاً مع أنّ التقابل بین الجهل وبین العلم هو تقابل الملکة والعدم، لکنّه بالرغم من ذلک لا یلزم من استحالة أحدهما استحالة الآخر، فهو:

أولاً: یری أنّ التقابل بینهما تقابل الضدین، وأنّ استحالة أحدهما تستلزم ضرورة الآخر، فإذا استحال الإطلاق فی المقام یکون التقیید ضروریاً. (1)

ثانیاً: لو سلّمنا أنّه تقابل الملکة والعدم، فلیس من لوازم تقابل الملکة والعدم أن یکون استحالة أحدهما موجبة لاستحالة الآخر. (2)

بعضهم یری أنّ التقابل بینهما تقابل النقیضین ولیس هو تقابل الضدّین بین الإطلاق وبین التقیید، لکن بقطع النظر عن هذه المناقشات المبنائیة، یمکن أن یقال فی مقام مناقشة ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأننا لو سلّمنا ما ذُکر من أن التقابل بینهما تقابل الملکة والعدم، لکنّه فی تقابل الملکة والعدم الذی یقال هو أنّ استحالة الملکة تستلزم استحالة العدم، أنّ الملکة إذا استحالت فی موردٍ؛ حینئذٍ یکون هذا مستلزماً لاستحالة العدم، البصر الذی هو الملکة فی المثال المعروف عندما یستحیل فی مورد لا یستلزم استحالة العمی؛ لأنّ العمی لیس هو عدم البصر مطلقاً، وإنّما هو عدم البصر فی من شأنه أن یکون بصیراً، فاستحالة البصر مستلزمة لاستحالة العمی، لیس العکس، یعنی لا أنّ استحالة العمی تستلزم استحالة البصر؛ بل قد تکون استحالة العمی فی موردٍ مستلزمة لضرورة أن یکون الشخص بصیراً لا لاستحالة البصر، إذا کان البصر ذاتیاً بالنسبة إلی شخصٍ؛ حینئذٍ لا یکون استحالة العمی مستلزماً لاستحالة البصر، وإنّما یکون البصر ثابتاً وضروریاً له. نعم، من طرف الملکة بناءً علی هذا المبنی یکون هذا الکلام تامّاً أنّ استحالة الملکة تکون موجبة لاستحالة العدم، إذا طبقنا هذا فی محل الکلام ینتج أنّ استحالة التقیید تستلزم استحالة الإطلاق دون العکس، لا أنّ استحالة الإطلاق تستلزم استحالة التقیید کما هو المذکور فی کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه)، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یرید أن یقول أنّ تقیید دلیل الأصل فی کلٍ من الطرفین محالاً؛ لأنّ إطلاقه محال، إطلاق دلیل الأصل فی هذا الطرف وإطلاق دلیل الأصل فی هذا الطرف محال؛ لأنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا محال، وحیث أنّ الإطلاق محال یکون التقیید محال، بینما المفروض هو العکس، أن نستدل علی استحالة الإطلاق باستحالة التقیید، إذا استحال التقیید فی موردٍ یستحیل الإطلاق کما هو مأنوس فی الذهن، استحالة التقیید فی باب الأوامر العبادیة، استحالة التقیید بقصد القربی یستلزم استحالة الإطلاق، لا أنّ استحالة الإطلاق یکون مستلزماً لاستحالة التقیید، فی الملکة والعدم هکذا، استحالة البصر فی موردٍ یستلزم استحالة العمی لا أنّ استحالة العمی تکون موجبة لاستحالة البصر، تطبیق هذه الفکرة فی محل الکلام لا ینتج استحالة التقیید باعتبار استحالة الإطلاق، وإنّما لو کان التقیید محالاً نستطیع أن نستدل باستحالته علی استحالة الإطلاق.

ص: 673


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 360.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 360.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

بالنسبة إلی ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من أنّ التقابل بین الإطلاق والتقیید هو تقابل الملکة والعدم وأنّ استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر، قلنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) أجاب عنه: أولاً بإنکار المبنی، وثانیاً بکون التقابل بینهما تقابل الملکة والعدم إنّما یقتضی استحالة الإطلاق عند استحالة التقیید لا العکس، أی استحالة التقیید عندما یکون الإطلاق مستحیلاً.

أقول: یمکن أن یُضاف إلی ذلک غیر ما ذکره(قدّس سرّه) أنّه فی محل الکلام المحال لیس هو الإطلاق فی حدّ نفسه حتّی یقال ----------- لو سلّمنا ما تقدّم ----------- بأنّ الإطلاق محال فیکون التقیید محالاً، فلا معنی للتخییر؛ بل التخییر یکون حینئذٍ محالاً؛ لأنّ التخییر یبتنی علی التقیید، الإطلاق فی حدّ نفسه فی کلٍ من الطرفین لیس محالاً؛ ولذا هو یقول بجریانه، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یقول بجریان الأصل علی إطلاقه فی أحد الطرفین إذا لم یکن له معارض، وهذا معناه أنّ الإطلاق فی حدّ نفسه فی هذا الطرف لیس فیه محذور، وهکذا الإطلاق فی حدّ نفسه فی الطرف الآخر، إنّما المحال هو الجمع بین الإطلاقین، اجتماع الإطلاقین محال؛ لأنّه یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة والترخیص فی المعصیة، فیکون محالاً، والجمع بین الإطلاقین هو بأن یکون الأصل فی هذا الطرف مطلق وفی الطرف الآخر أیضاً مطلق، وهذا محال.

إذا اتّضح هذا حینئذٍ یقال: أنّ التقیید المدّعی فی النقض السابق لا یقابل إلاّ الإطلاق فی أحدهما فی حدّ نفسه لا أنّه یقابل الجمع بین الإطلاقین، حتّی لو سلّمنا أنّ استحالة الإطلاق تستلزم استحالة التقیید، لکنّ الإطلاق الذی تکون استحالته مستلزمة لاستحالة التقیید إنّما هو الإطلاق المقابل للتقیید، الإطلاق المقابل لتقیید هذا الأصل فی هذا الدلیل بعدم ارتکاب الآخر یقابله الإطلاق فی هذا ولا یقابله الإطلاق فی الجمع بین الإطلاقین، وإنّما یقابله الإطلاق فی هذا الطرف، الإطلاق فی هذا الطرف وتقیید الأصل فی هذا الطرف متقابلان، فلو سلّمنا ما تقدّم حینئذٍ یقال: أنّ استحالة الإطلاق تستلزم استحالة التقیید، لکنّ هذا الإطلاق لیس مستحیلاً، الإطلاق فی أحد الطرفین فی حدّ نفسه لیس محالاً ولا یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا الإطلاق هو الذی یقابل التقیید المقترح فی هذا النقض، التقیید المقترح فی هذا النقض یقول بأنّ جریان الأصل فی هذا الطرف لا داعی لأن نرفع الید عنه أساساً، هو یجری لکن بشکلٍ مقیّد، یجری فی هذا الطرف مقیّداً بعدم ارتکاب الآخر، هذا التقیید المقترح یقابله الإطلاق فی هذا الطرف، والإطلاق فی حدّ نفسه فی هذا الطرف لیس محالاً؛ لأنّه لا یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة، المحال هو اجتماع الإطلاقین، ولکنّ هذا لا یقابل التقیید المقترح فی النقض، والاستحالة فی باب التقابل بین الملکة والعدم ینبغی أن تُلحظ فی مورد التقابل بینهما، التقیید محال فالإطلاق الذی یقابله محال، الإطلاق إذا کان محالاً، فالتقیید الذی یقابله یکون محالاً، وفی المقام إذا کان الإطلاق، جریان الأصل مطلقاً فی هذا الطرف الذی یقابل التقیید المقترح فی النقض محالاً ----------- إذا تنزلنا عن الإشکال السابق ------------ یمکن الاستدلال باستحالة الإطلاق علی استحالة التقیید، لکنّ هذا الإطلاق المقابل للتقیید لیس محالاً.

ص: 674

إذن: ما یکون محالاً، وهو الجمع بین الإطلاقین لا یقابله التقیید المقترح فی النقض، وإن کان محالاً، والذی یقابل التقیید المقترح فی النقض هو الإطلاق فی کلٍ من الطرفین ولیس الجمع بین الإطلاقین، وإنّما الإطلاق فی هذا الطرف یقابله التقیید فی هذا الطرف، والإطلاق فی الطرف الآخر یقابله التقیید فی الطرف الآخر، الإطلاق فی هذا الطرف لیس محالاً، فلا معنی لأن یُستدَل باستحالته علی استحالة التقیید المقترح فی المقام، وإنّما المحال هو عبارة عن اجتماع الإطلاقین أو الجمع بینهما وهذا لا یقابل التقیید المقترح فی نفس النقض. هذا کلّه بالنسبة إلی أحد الأمرین اللّذین فُهما من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه).

أمّا الأمر الثانی الذی یُفهم من کلامه والذی قلنا أنّه عبارة عن أنّ المحذور العقلی الذی هو الترخیص فی المخالفة القطعیة، الترخیص فی المعصیة وعدم انحفاظ مرتبة الحکم الظاهری ----------- هذا موجود فی عبارته ------------ أنّ موضوع الحکم الظاهری غیر محفوظ فی أطراف العلم الإجمالی، هذان الأمران: المحذور العقلی، وعدم انحفاظ مرتبة الحکم الظاهری فی أطراف العلم الإجمالی، هذان یوجبان عدم إمکان الجعل ثبوتاً، ومعه لا تنتهی النوبة إلی الکلام عن التقیید فی عالم الإثبات، هذا کان کلامه. (1) قبل أن نتکلّم عن عالم الإثبات أنّ هذا مقیّد، أو غیر مقیّد الذی هو کلام إثباتی، فی عالم الثبوت هو محال، جعل الترخیص فی الطرفین محال؛ لأنّ الترخیص فی الطرفین یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فیکون محالاً ثبوتاً؛ ولأنّ موضوع الحکم الظاهری، أی الترخیص فی الطرفین لیس محفوظاً مع العلم الإجمالی، فیستحیل ثبوتاً جعل الترخیص فی الطرفین، وإذا کان لا یمکن جعل الترخیص فی الطرفین؛ فحینئذٍ لا تصل النوبة إلی أنّ الأصل فی هذا الطرف هل هو مقیّد، أو غیر مقیّد. هذا الکلام الثانی له(قدّس سرّه).

ص: 675


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 241.

الذی یُلاحظ علی هذا الکلام هو: أین یوجد المحذور العقلی ؟ المحذور العقلی هو فی جعل الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی مطلقاً، هذا هو الذی یلزم منه المحذور العقلی المتقدّم، یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة، عندما نفترض جعل الترخیص فی هذا الطرف مطلقاً وجعل الترخیص فی هذا الطرف مطلقاً؛ حینئذٍ یلزم منه المحذور العقلی. هنا یمکن أن نقول أنّ موضوع الحکم الظاهری غیر محفوظ، یعنی موضوع الترخیص مطلقاً غیر محفوظ فی أطراف العلم الإجمالی؛ باعتبار أنّه یستلزم المخالفة القطعیة کما یشیر هو(قدّس سرّه)، یعنی نفس المحذور العقلی یستلزم عدم انحفاظ موضوع الحکم الظاهری فی أطراف العلم الإجمالی، وحیث أنّ الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی مطلقاً، جعله یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، یستلزم المحذور، نحن أیضاً تبعاً له نقول أنّ موضوع الحکم الظاهری غیر محفوظ فی أطراف العلم الإجمالی، هذا صحیح.

وأمّا أصل الترخیص فی کل واحدٍ من الطرفین، فلا محذور فیه، بدلیل أنّه إذا التزمنا بجریان الأصل فی کلا الطرفین، لکن مع تقیید الترخیص بما إذا لم یرتکب الطرف الآخر، سنجد أنّ هذا لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذا لا یؤدّی إلی الترخیص فی المعصیّة، إذن المحذور لیس فی أصل جعل الترخیص فی الطرفین، وإنّما المحذور فی إطلاق الترخیص المجعول فی کلا الطرفین، أمّا أصل الترخیص فی الطرفین لا یلزم منه المحذور، وإذا لم یلزم منه المحذور یکون موضوع الحکم الظاهری فی کلا الطرفین محفوظاً؛ لأننا قلنا بأنّه یقول لا ینحفظ موضوع الحکم الظاهری باعتبار المحذور العقلی، فإذا لم یلزم المحذور العقلی یکون موضوع الحکم الظاهری فی کلٍ من الطرفین محفوظاً، وأصل الترخیص أیضاً یکون غیر مستلزم للمحذور العقلی؛ وحینئذٍ لا نقول بأنّ هذا غیر ممکن ومحال، جریان أصل الترخیص لا مطلقاً مع حذف الإطلاق، کما هو مقترح المحقق العراقی(قدّس سرّه)، أن نلتزم بجریان الترخیص فی هذا بنحوٍ مشروط، وفی هذا بنحوٍ مشروط، هذا لماذا نقول بعدم إمکانه ؟ لماذا نقول بأنّه غیر ممکن لأنّه یلزم منه المحذور؛ ولأنّ موضوع الحکم الظاهری فیه غیر محفوظ ؟ بل أنّ موضوع الحکم الظاهری فیه محفوظ؛ لأنّه لا یلزم منه کما قلنا الترخیص فی المخالفة القطعیة، أن نقول بأنّ هذا محال ثبوتاً فلا تصل النوبة إلی الکلام عن التقیید الإثباتی، هذا فی المقام یبدو أنّه غیر تامٍّ؛ لأنّ المحذور لا یوجد فی إجراء الأصل فی کلا الطرفین بنحوٍ مقیّد، وإنّما المحذور موجود عندما یجری الأصل فی کلٍ من الطرفین بنحوٍ مطلّق، فإذا کان جریان الأصل فی الطرفین ممکناً ولا یلزم منه المحذور السابق؛ حینئذٍ یأتی هذا الکلام الذی یُطرح بأنّه فی هذه الحالة هل نرفع الید عن أصل شمول الدلیل للطرفین، أو نلتزم بجریانهما مع تقیید جریان الأصل فی کلٍ من الطرفین بعدم إجراء الأصل فی الطرف الآخر، أیّهما هو الأولی، فیأتی الحدیث المتقدّم فی أصل النقض وهو أنّه لا داعی لرفع الید عن عموم الدلیل وإطلاقه بالنسبة إلی کلا الطرفین لا داعی لرفع الید عنه؛ لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها والمحذور کما یُرفع بالالتزام بالتقیید الأفرادی وبالتخصیص، کذلک یُرفع بالالتزام بتقیید الأصل فی کلٍ منهما بعدم إجرائهما فی الطرف الآخر، کلٌ منهما یرفع المحذور، وحیث أنّ الثانی أقل مخالفة للظاهر، وأقل تخصیصاً للدلیل، بینما الأوّل أکثر تخصیصاً للدلیل، الأول نخرج کلا الطرفین من دلیل الأصل، نُخرج هذا الطرف مطلقاً، یعنی فی حال ارتکاب الآخر وفی حالة عدم ارتکابه، وکذلک نخرج الثانی مطلقاً، هذا معنی التخصیص الأفرادی الموجب لعدم شمول الأصل لکلا الطرفین، الذی یعنی ----------- کما ذُکر سابقاً ----------- بقاء الاحتمال فی کلٍ من الطرفین بلا مؤمّن، فتجب الموافقة القطعیة، هذا أکثر مخالفة للظهور من أن نلتزم بأنّ الأصل یجری فی کلا الطرفین، لکن بنحوٍ مقیّد، هذا أقل مخالفة، أقل تخصیصاً للدلیل، فیتعیّن الثانی، أی یتعیّن التقیید لا أن نلتزم بعدم شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین. وحاصل هذا الکلام هو: أنّ ما ذکره فی مثال(أکرم العلماء) الذی یرد علیه خاصّ یقول(لا تکرم زیداً وعمرو) أخرج زیداً وعمرو من أکرم العلماء، نفس ما ذکره هناک یجری فی محل الکلام بلا فرقٍ بینهما، هو هناک اعترف بأننّا لا نلتزم بخروج زیدٍ وعمرو عن أصل دلیل وجوب إکرام العلماء، وإنّما نلتزم بالتقیید، نفس ما ذکره هناک یجری فی محل الکلام.

ص: 676

وبعبارةٍ أخری: هو اعترف بما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) لکن فی مثال(أکرم العلماء) وأنکره فی محل الکلام؛ لأنّه یقول: هناک الدلیل المخرج للطرفین دلیل لفظی، فیتعرّض للإجمال؛ فحینئذٍ نقول أنّ المتیقّن هو خروج هذا الطرف من العام عندما نکرم ذاک، وخروج الطرف الآخر عندما نکرم الأوّل، یقول هذا المتیقن وما زاد علیه نتمسّک بعموم العام لإثبات وجوب إکرامه، یعنی عندما لا یکرم زید یجب علیه إکرام عمر تمسّکاً بعموم(أکرم العلماء) وهذا معناه أننا لم نخرج زید وعمرو من أصل الدلیل بحیث نقول أنّ کلاً منهما لا یجب إکرامه؛ بل یجب إکرام هذا عندما لا تکرم ذاک، ویجب إکرام ذاک عندما لا تکرم هذا، هذا الذی التزم به فی ذلک المثال هو بنفسه یجری فی محل الکلام، مجرّد أنّ ذاک الدلیل لفظی یتعرّض للإجمال، وفی محل الکلام الدلیل الذی یخرج الطرفین من دلیل الأصل هو محذور عقلی وحکم عقلی لا یوجب الفرق بینهما، فی کلا الموردین نفس الفکرة یمکن تطبیقها، فی محل الکلام أیضاً نقول أنّ مقتضی عموم دلیل الأصل أو إطلاقه هو الشمول لکلا الطرفین، فی مقابل هذا هناک محذور عقلی یقول لا یمکن شمول الأصل لکلا الطرفین، هذا المحذور العقلی عندما یقول لا یمکن شمول الأصل لکلا الطرفین مقصوده لا یمکن شمول الأصل لکلا الطرفین علی نحو الإطلاق بأن یشمل الأصل هذا الطرف مطلقاً ویشمل هذا الطرف مطلقاً؛ لأنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، إذن عندنا عموم دلیل وهو دلیل الأصل، فی مقابله المحذور العقلی، نحن بمقدار ما یقتضیه المحذور العقلی نرفع الید عن عموم الدلیل، المحذور العقلی لا یقتضی أن نرفع الید عن أصل الدلیل بالنسبة إلی کلا الطرفین بأن نخرج کلا الطرفین عن عموم الأصل؛ لأنّ دفع المحذور العقلی لا یتوقّف علی ذلک والضرورات تقدّر بقدرها؛ بل یکفی فی دفع المحذور العقلی الالتزام بجریان الأصل فی کلا الطرفین، لکن مع التقیید. نفس الکلام الذی ذکره فی ذلک المثال فی الحقیقة یجری فی محل الکلام، فالتفریق بینهما لیس بذلک الوضوح. هذا ما یرتبط بالجواب الأوّل عن النقض, وهو المستفاد من کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه). (1)

ص: 677


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المیرزا النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 244.

الجواب الثانی عن النقض: هذا الجواب یذکره السید الخوئی(قدّس سرّه)؛ لأنّه یلتزم بما یلتزم به استاذه من الاقتضاء فی محل الکلام ومن أنّ عدم جریان الأصل فی أحد الطرفین إنّما هو للمعارضة، باعتبار أنّ الأصل فیه یعارضه الأصل فی الطرف الآخر، ولعلّه لبعض ما تقدّم لا یرتضی جواب المحقق النائینی(قدّس سرّه) عن النقض؛ ولذا بعد أن یذکر جواب المحقق النائینی(قدّس سرّه) یقول والصحیح أن یقال ویذکر هذا الجواب.

السید الخوئی(قدّس سرّه) فی عباراته فی الدراسات وفی المصباح یذکر المطلب بعبارات متعددّة، فی الدراسات یذکره بثلاث عبارات وقد یُفهم أنّ کل عبارة تشیر إلی جوابٍ مستقل عن أصل النقض، فی واحدة من عباراته یصرّح بأنّ هذا الترخیص المقیّد فی کلٍ من الطرفین المقترح فی النقض، یقول هذا الترخیص محال؛ لأنّه یُعتبر فی الحکم الظاهری أن یکون محتمل المطابقة للواقع، فإذا لم یکن الحکم الظاهری محتمل المطابقة للواقع، یعنی کنّا نعلم بعدم مطابقته للواقع، یقول هذا یستحیل جعله؛ لأنّه إنّما یمکن جعل الحکم الظاهری عندما یکون محتمل المطابقة للواقع، وهذا الترخیص ----------- الحکم الظاهری ------------ المقید لا نحتمل مطابقته للواقع؛ لأنّ الأمر یدور فی هذا الطرف بین أن یکون مباحاً وبین أن یکون حراماً، إذا کان مباحاً، فإباحته مطلقة ولیست مقیّدة بشیء، بعدم ارتکاب الطرف الآخر، وإن کان حراماً، فحرمته أیضاً تکون مطلقة ولیست مقیّدة، إذن: أمره یدور بین الإباحة المطلقة وبین الحرمة المطلقة، نحن نفترض حکماً ظاهریاً وهو إباحة مقیّدة، وهذه الإباحة والترخیص المقید لا یحتمل مطابقته للواقع، فیکون ممنوعاً لأجل هذا، وکأنّه یُعتبر فی جریان الحکم الظاهری وتعقّله أن یکون محتمل المطابقة للواقع. هذا فی عبارة من عباراته. هذا یمکن جعله جواباً مستقلاً عن النقض السابق. (1)

ص: 678


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 361.

فی عبارته الثانیة یذکر مطلباً لعلّه مطلب آخر، وحاصله: أنّ هذا النقض الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) یتم عندما نفترض أنّ المانع والمحذور العقلی الذی یمنع من جریان الأصل فی أطراف العلم الإجمالی هو أنّه یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة کما کنّا نکرر، دائماً نفترض أنّ المحذور العقلی هو أنّ إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة وفی المعصیة، یقول: إذا کان هذا هو المحذور؛ فحینئذٍ یکون هذا النقض تامّاً؛ لما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)، باعتبار أنّ هذا المحذور یندفع بالالتزام بالتقیید، فبمجرّد الالتزام بالتقیید لا یلزم من إجراء الأصل فی الطرفین بنحوٍ مقیّد الترخیص فی المخالفة القطعیة، لو کان المحذور الذی نبرزه من إجراء الأصل فی أطراف العلم الإجمالی هو أنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فالنقض السابق یکون تامّاً، لا یتوقف دفع المحذور علی إخراج الطرفین من الأصل أساساً، لکنّه یقول أنّ المحذور لیس هذا ویستدل علی ذلک بقوله وإلاّ لو کان المحذور هو هذا لزم الالتزام بشمول دلیل الأصل لجمیع الأطراف فیما إذا کانت متضادّة لا یمکن الجمع بینها عقلاً، لو فرضنا أنّ أطراف العلم الإجمالی کان بینها تضاد، فلا یمکن للمکلّف أن یجمع فیما بینهما، فإذا جاء بهذا الطرف لا یمکنه الإتیان بالطرف الآخر وهکذا العکس، یقول: لو کان المحذور هو فقط أنّ إجراء الأصل فی الطرفین یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فلابدّ أن نلتزم فی المقام بجواز إجراء الأصل فی الطرفین؛ لأنّ إجراء الأصل فی الطرفین لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لعدم التمکّن منها؛ لأنّها مستحیلة بحسب الفرض، فأیّ مانعٍ من إجراء الأصل فی الطرفین ما دام أنّ المحذور الذی یمنع من إجراءه فی الطرفین هو أنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وإجراء الأصل فی هذا المورد فی الطرفین لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فینبغی أن لا یکون هناک مانع من إجراء الأصل فی کلا طرفی العلم الإجمالی فیما إذا کان بین الأطراف مضادة علی نحوٍ یستحیل للمکلّف الجمع بینهما. هو یقول: هذا لا نلتزم به، فهذا یجعله لازماً باطلاً للقول بأنّ المحذور العقلی الذی یمنع من إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی هو استلزامه الترخیص فی المخالفة القطعیة، فإذا لم یکن هذا هو المحذور العقلی، فما هو المحذور العقلی ؟ یقول المحذور العقلی هو عبارة عن أنّ إجراء الأصل فی أطراف العلم الإجمالی یستلزم الجمع فی الترخیص، لا أنّ المانع هو أنّه یستلزم الترخیص فی الجمع، وإنّما یستلزم الجمع فی الترخیص، (1) ویقول: أنّ هذا المحذور لا یرتفع بالتقیید المقترح، هذه النتیجة التی یصل إلیها؛ ولذا یکون التقیید المقترح غیر نافع؛ لأنّه لا یدفع المحذور، هذا المحذور وهو إجراء الأصل فی أطراف العلم الإجمالی یستلزم الجمع فی الترخیص، وهذا لا یُدفع بالتقیید؛ حینئذٍ لا یمکن الالتزام بالتقیید للزوم المحذور؛ لأنّ المحذور لا یندفع به، فیکون التقیید محالاً، یقول فی فرض التقیید إذا قلنا بالتقیید المقترح، لنفترض أنّ المکلّف لم یرتکب کلا الطرفین، ترک هذا الطرف وترک هذا الطرف، ولازمه أن یکون الترخیص فی جمیع الأطراف فعلیاً؛ (2) لأنّ کل ترخیص تحقق شرطه، التقیید المقترح فی النقض یقول نجری الترخیص فی هذا الطرف بشرط ترک ذاک الطرف، ونجری الترخیص فی ذاک الطرف بشرط ترک هذا الطرف، فإذا ترک الطرفین تحقق شرط کلا الترخیصین، فیصبح الترخیص فی کلا الطرفین فعلیاً عند ترک کلا الطرفین وهذا یستلزم العلم بترخیص ما عُلم حرمته بالفعل، کیف یعقل أن یُرخّص الشارع ترخیصاً فعلیاً فی الطرفین مع العلم بأنّ أحدهما حرام، هو یعلم أن أحدهما حرام، هذا لا علاقة له بالمخالفة العملیة الخارجیة، هو لم یخالف، وإنّما ترک کلا الطرفین، لکن عندما یترک کلا الطرفین یصبح الترخیص فی کلا الطرفین فعلیاً، وإذا أصبح الترخیص فی کلا الطرفین فعلیاً هذا معناه أنّ الشارع یُرخّص له فیما یعلم بأنّه حرام، مع العلم بحرمة أحدهما الشارع یرخّص له، غیر ناظر إلی مسألة العمل والمخالفة العملیة، هو نفس الترخیص بما عُلم حرمته قبیح ومحال وغیر ممکن، یقول هذا هو المحذور من إجراء الأصل فی الطرفین علی نحو التقیید یلزم هذا المحذور، والتقیید لا یرفع هذا المحذور، یقول: المحذور العقلی الذی یلزم من إجراء الأصل فی الطرفین هذا، وهذا لا یرتفع بالتقیید؛ بل یثبت هذا المحذور حتّی مع التقیید؛ ولذا لا یکون التقیید ممکناً. هذا یمکن أن یکون جواباً ثانیاً عن النقض.

ص: 679


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 361.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 361.

له عبارة ثالثة یأتی الکلام عنها إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق الجواب الثانی عن النقض الثانی وهذا الجواب للسید الخوئی(قدّس سرّه) وهو یرید أن یقول أنّ هناک محذوراً آخراً غیر المحذور الذی کان مطروحاً حتّی الآن، هناک محذور آخر من جریان الأصول فی جمیع أطراف لا علاقة له بباب المخالفة العملیة، وهذا المحذور هو عبارة عن ما یمکن أن نسمیه بالترخیص القطعی فی المخالفة، ولیس الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذا المحذور یمنع من إجراء الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی حتّی فی الموارد التی یکون جریان الأصول فیها فی الأطراف غیر مستلزم للترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا المانع لا یرتفع بالترخیصین المشروطین الّذین ذُکرا فی النقض، لا یرتفع بالتقیید؛ لأنّ الترخیصین المشروطین یندفع به محذور الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لأنّ الترخیصین المشروطین لا یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، لکنّه یلزم منه الترخیص القطعی فی المخالفة، وذلک فی ما إذا ترک المکلّف کلا الطرفین؛ لأنّه فی حالة ترک کلا الطرفین یتحقق شرط کلا الترخیصین، فیصبح الترخیص فی کلٍ من الطرفین فعلیاً، ویقول: هذا غیر معقول، کیف یُعقل أن یُرخّص ترخیصاً فعلیاً فیما نعلم کونه حراماً، (1) وهذا یکشف عن أنّ هناک محذوراً آخراً یجب أن یؤخذ بنظر الاعتبار عندما نرید إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی ومجرّد أنّه بالترخیصین المشروطین یندفع المحذور الأوّل هذا لا یعنی جواز إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی لوجود محذور آخر لا یندفع بالترخیصین المشروطین، ویذکر هذا المثال المتقدّم مثال ما إذا کان المکلّف حرم علیه المکث فی مکان واحد فی زمان واحد وتردد هذا المکان بین مکانین، إمّا یحرم علیه المکث فی هذا المسجد فی آن واحد، أو یحرم علیه المکث فی مسجدٍ آخر، لا یعلم ایّهما حرام علیه، فی هذه الحالة المکلّف لا یتمکن من المخالفة القطعیة لعدم قدرته علیها، فهل نلتزم بجواز إجراء الأصول فی الطرفین ؟ فنجری الأصل فی هذا الطرف ونجری الأصل فی هذا الطرف ؟ ونجوّز له بالتالی أن یترک المکث فی کلٍ منهما ؟ بدعوی أنّ إجراء الأصول فی الطرفین لا یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لعدم قدرته علی المخالفة القطعیة؛ لأنّه لا یمکنه أن یکون فی مکانین فی زمان واحد، فإمّا أن یکون فی هذ المکان، وإمّا أن یکون فی هذا المکان، فهل یمکن أن نجری الأصول فی الطرفین ونلتزم بأنّه لا یجب علیه المکث فی هذا المکان ولا یجب علیه المکث فی هذا المکان ؟ کلا، وهذا معناه أنّ هناک محذوراً آخر یمنع من إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی غیر محذور الترخیص فی المخالفة القطعیة.

ص: 680


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 361.

فی الحقیقة هذا الکلام أدّعی فیه أمران:

الأمر الأوّل: أنّ المحذور فی جریان الأصول لیس هو لزوم الترخیص فی المخالفة القطعیة فقط؛ بل هناک محذوراً آخر کما بیّنّا، السید الخوئی(قدّس سرّه) فی مقام إثبات هذا المدّعی وهو وجود محذور آخر یلزم منه الترخیص من إجراء الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی ذکر النقض لهذا المثال، مثال حرمة المکث فی مکان مردد بین مکانین فی زمان واحد، یقول: هنا المکلّف لا یتمکّن من المخالفة القطعیة، وإجراء الأصول فی الطرفین لا یلزم منه الترخیص المخالفة القطعیة، لکن مع ذلک لا یمکن الالتزام بجریان الأصول فی الأطراف، فجعله دلیلاً علی أنّ هناک محذوراً آخر یمنع من جریان الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی، فأنّ هذا یکون نقضاً علی من یقول بأنّ المانع من جریان الأصول فی الأطراف هو الترخیص فی المخالفة القطعیة وإذا ارتفع هذا المانع، فلا مانع من إجراء الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، هو نقض علی من یقول هذا الکلام بهذا المثال، یقول: إجراء الأصول فی الطرفین فی مثال المکث فی مکان مردد لا یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة، ومع ذلک لا تلتزم بجریان الأصول فیه، هذا دلیل علی أنّ هناک محذوراً آخر یمنع من إجراء الأصول فی جمیع أطراف العلم الإجمالی غیر محذور الترخیص فی المخالفة القطعیة.

قد یجاب عن هذا النقض الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه)، فیقال: فی هذا المثال لا إشکال فی استحالة الإتیان بالطرفین لعدم قدرة المکلّف علی ذلک ------------ بحسب الفرض ---------- لأنّه لا یتمکن أن یکون فی مکانین فی آنٍ واحد، فقدرته لا تسمح له بأن یأتی بالطرفین، استحالة الاتیان بالطرفین تمنع من أن یکون الترخیص فی کل واحدٍ من الطرفین مطلقاً، یعنی مطلقاً لحالة ارتکاب الآخر وحالة ترکه؛ إذ لا یُعقل أن یکون إطلاق الترخیص فی أحد الطرفین مطلقاً لحالة ارتکاب الآخر، أن یُرخص فی هذا الطرف فی حالة ارتکاب هذا، والحال أنّ هذا الطرف فی حالة ارتکاب هذا مستحیل؛ ارتکاب هذا الطرف فی حالة ارتکاب الطرف الآخر محال؛ لأنّ المکلّف ------------- بحسب الفرض ------------- غیر قادر علی الإتیان بالطرفین، إذا ارتکب أحد الطرفین یستحیل علیه الطرف الآخر، فکیف یُعقل أن یکون الترخیص فی هذا الطرف مطلقاً، یعنی الترخیص ثابت فی هذا الطرف الأوّل حتّی مع ارتکاب الطرف الثانی، والحال فی حال ارتکاب الطرف الثانی یکون ارتکاب الأوّل محالاً، فلا یُعقل جعل الترخیص فیه، لا معنی لأن یُرخّص فی الأمر المستحیل، هذه النکتة تستوجب أن یکون الترخیص فی کلٍ من الطرفین لیس مطلقاً، وإنّما یکون مقیداً بعدم ارتکاب الطرف الآخر، الترخیص فی الطرف الأوّل مجعول یُعقل، لکن مقیداً بعدم ارتکاب الطرف الثانی لا مطلقاً علی نحوٍ یشمل حالة ارتکاب الطرف الثانی، وإنّما یکون مقیداً بعدم ارتکاب الثانی، والترخیص فی الثانی أیضاً یکون مقیّداً بعدم ارتکاب الأوّل، فی هذا المثال قد یقال: لابدّ من الالتزام بالترخیصین المشروطین لا أنّ الترخیص یجری فی هذا الطرف مطلقاً وفی هذا الطرف مطلقاً؛ لأنّ هذا غیر معقول؛ بل علی تقدیر أن نقول بجریان الترخیص فی الأطراف، لابدّ أن نقول بجریانهما بنحوٍ مشروط، فالترخیص یجری فی هذا الطرف مقیّداً بعدم هذا وهکذا فی الطرف الآخر، وبذلک نصل إلی نفس محل الکلام، ومحل کلامنا هو هذا، فنحن نتکلّم مع المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی نقض بالنقض الثانی وقال: أنّ مقتضی الالتزام بالاقتضاء فی محل الکلام لیس هو تساقط الأصول عن الأطراف، وإنّما جریانها فی الأطراف ولکن بنحوٍ مقیّد، أنّ الأصل یثبت الترخیص فی هذا الطرف بشرط عدم ارتکاب ذاک، ویجری فی ذاک بشرط عدم ارتکاب هذا، وهو عبارة عن الترخیصین المشروطین، هذا المثال الذی أراد السید الخوئی(قدّس سرّه) أن ینقض به علی من یقول بالاقتضاء وبالترخیصین المشروطین، والمحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول بالترخیصین المشروطین لکن علی تقدیر القول بالاقتضاء، وهو لا یقول بالاقتضاء، السید الخوئی(قدّس سرّه) کأنّه یرید أن ینقض علیه بمحل الکلام، نقض علیه بهذا المثال، وهذا المثال بعد الالتفات إلی هذه النکتة یکون هو محل الکلام، ترخیصان فی طرفی العلم الإجمالی، لکن علی نحو مشروط، فنقض بما هو محل الکلام والطرف المقابل یلتزم بإمکان الترخیصین المشروطین، وهو یقول أنّ النتیجة الطبیعیة للقول بالاقتضاء هو الالتزام بالترخیصین المشروطین، النقض علیه بما هو داخل فی محل الکلام لیس صحیحاً، وإنّما لابدّ أن یُنقض علیه بأمرٍ مسلّم عند الطرف الآخر، أنّه غیر ممکن ولا یمکن الالتزام به، ینقض علیه بذلک، هذا معقول، أمّا أن ینقض علیه بما هو محل الکلام، فأنّه یقول فی محل الکلام علی تقدیر القول بالاقتضاء لابدّ من الالتزام بالترخیصین المشروطین، ینقض علیه بما هو محل الکلام، هذا من ناحیة فنیّة لیس صحیحاً. هذا بناءً علی الإیمان بهذه النکتة وهو أنّ استحالة الجمع بین الطرفین فی المثال المذکور تمنع من أن یجری الترخیص مطلقاً فی کلا الطرفین، وتقتضی أن یجری الترخیص فی کلا الطرفین بنحوٍ مشروط؛ لأنّه لا یُعقل الترخیص فی ما هو مستحیل، وارتکاب أحد الطرفین عند ارتکاب الآخر مستحیل بحسب الفرض فی هذا المثال، فالترخیص یکون مقیداً بصورة عدم ارتکاب الآخر، وهذا هو نفس محل الکلام ولیس شیئاً آخر غیره، فالنقض به لیس صحیحاً.

ص: 681

الأمر الثانی الذی یُفهم من کلام السید الخوئی(قدّس سرّه): أنّ ما یُعبّر عنه بالترخیص القطعی فی المخالفة، هذا محذور آخر غیر الترخیص فی المخالفة القطعیة، وأنّ هذا المحذور الثانی محذور آخر وفی حدّ نفسه وبقطع النظر عن الترخیص فی المخالفة القطعیة، وقد استدل السید الخوئی(قدّس سرّه) علی هذا المحذور بما یشبه الوجدان، وحاصل ما ذکره هو: (1) عندما نعلم بوجود الخمر خارجاً فی أحد الأناءین، ونعلم أیضاً بحرمة شرب الخمر، یقول: حتّی مع اشتباه الحرام وهو الخمر بین مایعین، کیف یُعقل الحکم بإباحته والترخیص فی شربه، ولو مشروطاً بترک المباح الواقعی ؟ هذا غیر معقول. المکلّف عالم بوجود الخمر خارجاً وعالم بحرمة شربه، غایة الأمر أنّ الخمر الذی یعلم بوجوده مردد بین أناءین وهو عالم بحرمة شربه، کیف یُعقل أنّ هذا الإنسان العالم بوجود الخمر فی ضمن الأناءین أن یُقال له أنت مرخّص بشرب ما تعلم بحرمته ولو کان هذا الترخیص مشروطاً بترک المباح الواقعی؛ لأنّه بالنتیجة الترخیص عندما یشمل کلا الطرفین، إذن: أحدهما هو ترخیص فیما هو حرام واقعی مشروطاً بترک المباح الواقعی، أحد الترخیصین لابدّ أن یکون کذلک؛ لأنّ الخمر لا یخرج عن أحد الأناءین، أنت مرخّص فی هذا ومرخّص فی هذا، إذن: أنت مرخّص فی ارتکاب الحرام الواقعی ----------- الخمر الواقعی ------------ مشروطاً بترک المباح الواقعی. یقول: کیف یُعقل أن یکون الترخیص فی ما یعلم المکلّف أنّه حرام، هذان أمران لا یمکن الجمع بینهما، متنافیان متضادان لا یجتمعان، الحکم الواقعی المعلوم لدی المکلّف والترخیص الظاهری فی الحرام الواقعی مشروطاً بترک المباح الواقعی، هذان أمران لا یمکن الجمع بینهما، محال أن یُجعل ترخیص ظاهری من هذا القبیل؛ ولذا هو هکذا ذکر بأن(التقیید محال) جعل الترخیص فی الطرفین مقیداً بترک الطرف الأخر، یقول هذا مستحیل، کلامکم صحیح جدّاً عندما یکون التقیید ممکناً کما فی مثال المحقق النائینی(قدّس سرّه)، (أکرم العلماء) وزید وعمرو الّذین خرجا من العام، لکن لا نعلم أنهما خرجا خروجاً أفرادیاً، أو خرجا خروجاً أحوالیاً، هناک التقیید ممکن فالکلام یصح؛ لأنّ التقیید ممکن أخف مؤنة وأقل مخالفة وأقل تخصیصاً، لکن فی محل الکلام التقیید محال، کیف یُعقل أن یُرخّص فی الحرام الواقعی ولو مشروطاً بترک المباح الواقعی ؟! یقول هذا غیر ممکن ومحال، إذن: یستحیل جعل هذا الترخیص فی محل الکلام، فیکون الترخیص المقیّد محال، فلابدّ من الالتزام بالأمر الأوّل وهو منع شمول دلیل الأصل لکلا الطرفین، وهو معنی التساقط الذی یقول به المحقق النائینی(قدّس سرّه)، فلا تصل النوبة إلی التخییر، وبذلک تندفع شبهة التخییر.

ص: 682


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد الواعظ الحسینی، ج 2، ص 355.

مسألة أنّ الحکم الظاهری ینافی الحکم الواقعی المعلوم بالعلم الإجمالی، أساساً منافاة الحکم الظاهری للحکم الواقعی، هو ذکر(قدّس سرّه) فی موارد عدیدة بأنّ المنافاة بینهما إمّا أن تکون بلحاظ الجعل فی عالم الجعل، وإمّا أن تکون بلحاظ مبادئ وملاکات الجعل، وإمّا أن تکون بلحاظ أثر الجعل والحکم العقلی المترتّب علی الجعل. المنافاة التی تستدعی أن یقول أنّ الحکم الظاهری محال، هذه المنافاة بینهما التی تستوجب استحالة الترخیص فی أیّ عالم هی موجودة ؟ هل هی موجود فی عالم الجعل ؟ هو یقول بأنّ الجعل سهل المؤنة، هو کجعل إذا جردناه من مبادئه وآثاره العقلیة، فهو خفیف المؤنة ولیس هناک محال فی أنّ یجعل حکما واقعی-اً أو یجعل حکماً ظاهریا، إذن لا منافاة بلحاظ عالم الجعل، أمّا بلحاظ مبادئ الجعل فهو أیضاً رأیه الواضح الذی یکرره مراراً هو أنّه لا منافاة بینهما بلحاظ عالم المبادئ؛ لأنّه یری أنّ مبادئ الحکم الظاهری قائمة فی نفس الجعل لا فی متعلّق الجعل، بینما مبادئ الحکم الواقعی موجودة فی متعلّق الجعل، ومن الواضح عدم وجود منافاة بین حکم ظاهری مبادئه قائمة فی نفس جعله وبین حکمٍ واقعی مبادئه قائمة فی متعلّقه. إذن: المبادئ المتنافیة لا تجتمع فی مکان واحد حتی یحصل بینها تضاد ویکون اجتماعها مستحیلاً، إنّما یکون اجتماعها مستحیلاً ویحصل بینها تضاد عندما تجتمع المبادئ المتنافیة فی مکان واحد وفی موردٍ واحد، کما إذا قلنا أنّ الحکم الظاهری أیضاً مبادئه تنشأ من المتعلّق، وهذا متعلّق واحد تعلّق به الحکم الواقعی وتعلّق به الحکم الظاهری، مبادئ الحکم الواقعی ------------ فرضاً ------------- هی المصلحة، بینما مبادئ الحکم الظاهری ------------ فرضاً ------------- هی المفسدة، لا یمکن أن تجتمع المصلحة والمفسدة فی شیء واحد، هذا یوجب حالة التضاد واستحالة الاجتماع بینهما، أمّا إذا قلنا أنّ مبادئ الحکم الظاهری قائمة فی نفس جعله لا فی متعلّقه، وأنّ نفس جعله فیه مصلحة وملاک، بینما مبادئ الحکم الواقعی قائمة فی المتعلّق؛ فحینئذٍ لا تضاد بلحاظ عالم المبادئ بین الحکم الواقعی وبین الحکم الظاهری، یبقی لدینا ما یترتّب علی الجعل من أحکام عقلیة والذی هو عبارة عن حرمة المخالفة القطعیة التی یحکم بها العقل ووجوب الموافقة القطعیة، هذان الأثران الّلذان یترتبان علی جعل الحکم الصادر من الشارع .

ص: 683

هذا الحکم الظاهری ------------- الترخیص المشروط فی محل الکلام ------------- هل ینافی الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال فی مرحلة حکم العقل، أو لا ینافیه ؟ واضح أنّ الجواب هو أنّه لا ینافیه؛ لأنّ المفروض فی محل کلامنا أنّ هذین الترخیصین المشروطین لا یؤدّیان إلی المخالفة القطعیة، لو کانا یؤدّیان إلی المخالفة القطعیة، نقول أنّ هذا الحکم الظاهری ینافی الحکم الواقعی بلحاظ حکم العقل بحرمة المخالفة القطعیة، لکن المفروض أنّ هذین الترخیصین المشروطین لا یؤدّیان إلی الترخیص المخالفة القطعیة. إذن: هذا الحکم الظاهری، حیث لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة لا یکون منافیاً للحکم الواقعی المعلوم بالإجمال بلحاظ حرمة المخالفة القطعیة.

یبقی لدینا حکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة، هنا أیضاً نقول الترخیصین المشروطین فی الطرفین أیضاً لا ینافیان الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال بلحاظ هذه المرحلة؛ لأننا نتکلّم ------------ حسب الفرض ----------- بناءً علی الاقتضاء، ومعنی الاقتضاء فی الحقیقة بحسب روحه یرجع إلی أنّ الحکم العقلی بوجوب الموافقة القطعیة لیس حکماً تنجیزیاً؛ بل هو حکم تعلیقی، یعنی معلّق علی عدم الترخیص الشرعی، فإذا ورد الترخیص هل یکون منافیاً لما یحکم به العقل من حرمة المخالفة القطعیة ؟ وبالتالی یکون منافیاً للحکم الواقعی ؟ کلا لا یکون منافیاً له؛ لأنّ حکم العقل بوجوب موافقة الحکم الواقعی الواصل إلی المکلّف بالإجمال هو حکم تعلیقی یحکم بوجوب موافقته القطعیة مشروط بأن لا یرد ترخیص من الشارع، فإذا ورد ترخیص، وکانت أدلّة الترخیص شاملة للطرفین کما فرضنا؛ حینئذٍ هذا الترخیص الذی یجری فی الطرفین کما فرضنا لا یکون منافیاً لحکم العقل بوجوب الموافقة القطعیة وبالتالی لا یکون منافیاً للحکم الواقعی المعلوم بالإجمال.

ص: 684

بهذا البیان یتبیّن أنّه لا منافاة بین الحکم الظاهری فی محل الکلام وبین الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال؛ إذ لا یصطدم هذان الحکمان فی أی مرحلة من المراحل. یقول هذا القائل، بناءً علی هذا لا یبقی إلاّ أن یدّعی السید الخوئی(قدّس سرّه) القبح الذی إدّعاه؛ لأنّه ذکر(وهو قبیح) أنّ هذا القبح لیس موجوداً فی نفس الترخیص؛ لأنّ الترخیص بالنحو المشروط فی حدّ نفسه لیس قبیحاً؛ لأنّه لا یصطدم مع الحکم العقلی فی أیّ مرحلةٍ من المراحل، وإنّما یکون هذا الترخیص قبیحاً بعد إطّلاع المکلّف علیه وعلمه به، بعد إطّلاع المکلّف علی هذا الترخیص بهذا النحو فی الطرفین بنحوٍ مشروط یصبح هذا الترخیص قبیحاً، وإلاّ هو الترخیص فی حدّ نفسه لیس قبیحاً؛ لأنّه لا یصطدم مع الحکم العقلی المعلوم بالإجمال فی أیّ مرحلة من المراحل، فإذن: لا یبقی إلاّ أن یُدّعی أنّ هذا الشیء الذی هو لیس قبیحاً فی حدّ نفسه یصبح قبیحاً بعلم المکلّف به واطّلاعه علیه، إذا اطّلع المکلّف علی هذا الترخیص یصبح الترخیص قبیحاً، وهذه الدعوی عهدتها علی مدّعیها. ونتیجة هذا الکلام هو أنّ هذا الدلیل الوجدانی الذی ذکره(قدّس سرّه) لا یتم لإثبات المنافاة بین الترخیصین المشروطین فی الطرفین مع الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

انتهی الکلام عن الجواب الثانی عن شبهة التخییر: وکان الجواب هو أنّ الحکم الظاهری إنّما یکون فیه محذور عندما یصطدم مع الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال، وقد ذکر السید الخوئی(قدّس سرّه) نفسه أنّ الحکم الظاهری لا یصطدم مع الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال ولا ینافیه، لا فی مرتبة الجعل ولا فی مرتبة المبادئ ولا فی مرتبة ما یترتب علی الجعل من أحکام عقلیة وقد بیّنّا ذلک مفصلاً.

ص: 685

إذن: لماذا تُدّعی المنافاة ؟ ولماذا یقول السید الخوئی(قدّس سرّه) فی کلامه السابق کیف یُعقل الترخیص فی کلٍ من الطرفین ولو علی نحو مشروط مع الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال ؟ هذه المنافاة التی استدل بها وذکر الدلیل علیها الوجدان هذه لا منشأ لها، یعنی لا وجه لافتراض المنافاة بینهما بعد ما تقدّم إلاّ أن یقال بأنّ الحکم الظاهری فی محل الکلام فی حدّ نفسه لا محذور فیه، وإنّما یکون فیه محذور عندما یطلع المکلّف علیه، عندما یبلغه الترخیص من قبل الشارع بهذا الشکل یکون هذا الترخیص ممّا فیه المحذور، فکأنّ المحذور ینشأ من علم المکلّف به واطلاعه علیه، (1) فیکون هذا محذوراً فی الترخیص، لکنّه لیس محذوراً فی الترخیص فی نفسه، وإنّما یکون فیه محذور عندما یعلم به المکلّف ویطّلع علیه، وهذه الدعوی عهدتها علی مدّعیها، کیف والحال أنّ هناک قضیة متّفق علیها وهی أنّ الحکم الظاهری فی حدّ نفسه لا مشکلة فیه، وإنّما المشکلة تنشأ من منافاته للحکم الظاهری فی أحدی مراتب الحکم الظاهری، إمّا فی مرتبة الجعل، او ما یترتب علی الجعل من آثار عقلیة.

الجواب الثالث عن الشبهة: وقد ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) فی تقریرات بحثه وهو: أننا فی محل الکلام إذا فرضنا أننا علمنا بحرمة أحد الأناءین وأنّ فیهما خمر معلوم بالإجمال، علمنا أن أحدهما حرام فیه خمر والآخر مباح، فکل فردٍ منهما یحتمل أنّه الحرام الواقعی ویُحتمل أنّه المباح الواقعی، وهذا معناه أنّ الحرمة المعلومة بالإجمال هی حرمة مطلقة لیست مقیّدة، کحرمة واقعیة محتملة لیست مقیدة بترک الطرف الآخر المباح، کما أنّ الإباحة المحتملة فی کلٍ من الطرفین أیضاً هی إباحة مطلقة ولیست مقیدة بترک الطرف الآخر الحرام الواقعی، ما نعلمه هو إمّا حرمة مطلقة، أو إباحة مطلقة؛ حینئذٍ الترخیص المدعی فی شبهة التخییر هو حکم ظاهری لا یُحتمل مطابقته للواقع؛ لأنّ الواقع یدور بین حرمة مطلقة وبین إباحة مطلقة. هذا الطرف إمّا حرام مطلقاً، إذا کان فیه خمر یکون حرام مطلقاً؛ لأنّ حرمة الخمر لیست مقیدة بترک المباح، وإمّا مباح واقعاً، مطلقاً أیضاً؛ لأنّه علی تقدیر أن لا یکون فیه خمر، فهو مباح مطلقاً ولیست إباحته مقیدة بترک الحرام الواقعی، فجعل الترخیص فیه بالنحو المذکور فی الشبهة لیس فیه احتمال المطابقة جزماً. (2) نعم، جعل الترخیص فیه یحتمل المطابقة؛ لأنّ أحد المحتملین فیه هو الإباحة المطلقة، فإذا کان هذا مباح مطلقاً، فیمکن جعل الترخیص الظاهری مطلقاً، لکن المُدعی فی الشبهة هو جعل الترخیص المقید، الترخیص المقید لا یحتمل مطابقته للواقع؛ لأنّ الواقع یدور إمّا بین الحرمة المطلقة، أو الإباحة المطلقة.

ص: 686


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 361.
2- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 361.

هذا الإشکال وهو الذی یبتنی علی فکرة أنّ الحکم الظاهری إنّما یُعقل جعله حینما یکون محتمل المطابقة للواقع، وأمّا إذا کان لا یُحتمل مطابقته للواقع، فکأنّه لا یمکن جعله. الجواب الثالث مبنی علی هذه الفکرة، لابدّ فی إمکان جعل الحکم الظاهری وصحّته أن یکون فیه احتمال المطابقة للواقع، فیه احتمال المطابقة للحکم الواقعی المعلوم، وإلاّ، فلا یمکن جعله، وحیث أنّ الترخیص المشروط لیس فیه احتمال المطابقة للواقع، فلا یصح جعله، فتسقط شبهة التخییر، لکن أصل هذه الفکرة لیست تامّة، وقد ذُکرت هذه الفکرة وهذه الشبهة نفسها فی مباحث دوران الأمر بین المحذورین، هناک أیضاً ذُکر أنّه کیف یُعقل جعل الترخیص الشرعی الظاهری فی موارد دوران الأمر بین المحذورین؛ لأننّا لا نحتمل مطابقة الترخیص الظاهری المجعول فی تلک الموارد للواقع؛ لأنّ المفروض أنّ الواقع هناک یدور بین الوجوب وبین التحریم فی دوران الأمر بین المحذورین، فجعل الترخیص الظاهری لا یُحتمل مطابقته للواقع؛ ولذا مُنع من الالتزام بالترخیص الظاهری فی موارد دوران الأمر بین المحذورین، باعتبار أنّه لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لأنّ المکلّف لا یقدر علی المخالفة القطعیة فی تلک الموارد، مُنع منه بالرغم من أنّه لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة علی أساس هذه الشبهة، علی أساس أنّ الترخیص هناک لا یُحتمل مطابقته للواقع.

وتقدّم الجواب عن ذلک، والجواب هو الجواب نفسه فی المقام وحاصل الجواب هو ما تقدّم من أنّ الأحکام الظاهریة هی فی الحقیقة تعبیر عن تقدیم بعض الأغراض علی البعض الآخر عندما یقع التزاحم الحفظی فیما بینها، عندما تتزاحم الأغراض فی مقام التشریع، بمعنی أنّ أحد الغرضین یُحفظ تشریعاً بما یوجب فوات الغرض الآخر، وکذلک الغرض الآخر یُحفظ تشریعاً بما یوجب فوات الغرض الأوّل، هذا معنی التزاحم بین الأغراض فی مقام التشریع، أی التزاحم الحفظی، بمعنی أنّ حفظ غرضٍ لا یتم إلاّ علی حساب غرضٍ آخر عندما تختلط الأمور علی المکلّف، عندما یکون المکلّف شاکاً وجاهلاً وتختلط علیه الأغراض وتشتبه علیه؛ حینئذٍ المشرّع عندما یرید أن یحفظ، إذا کان یهتم بهذا الغرض، فسوف یجعل حکماً ظاهریاً یناسب اهتمامه بهذا الغرض، فیحفظ به هذا الغرض الأهم وإن کان هذا یوجب فوات الغرض الآخر المحتمل، وهکذا بالعکس إذا کان یهتم بذاک أیضاً یجعل حکماً ظاهریاً یحفظ به ذاک الغرض، وإن کان یوجب فوات الغرض الآخر، هذه هی فکرة الحکم الظاهری، الأغراض الترخیصیة تُحفظ بجعل البراءة کحکم ظاهری بجعل الترخیص بجعل الإباحة بإجراء الاستصحاب النافی للتکلیف وأمثال ذلک، هذه تُحفظ بها الأغراض الترخیصیة، لکن تُحفظ بها الأغراض الترخیصیة هذا یؤدی إلی فوات الغرض اللّزومی عندما یتزاحم الغرض اللّزومی مع الغرض الترخیصی، کما أنّ الأغراض الترخیصیة تُحفظ بجعل الاحتیاط وإن کان یفوت به الغرض الترخیصی، التسهیل علی المکلّفین یفوت عندما یجعل الشارع الحکم الظاهری هو الاحتیاط، فالحکم الظاهری هو فی الحقیقة تعبیر عن أهمیة الغرض الذی یکون الحکم الظاهری حافظاً لذلک الغرض عندما یکون ذلک الغرض أهم فی نظر المشرّع، فالأحکام الظاهریة هی تعبّر عن اهتمام الشارع بالملاکات التی تُحفظ بهذه الأحکام الظاهریة. هذه هی فکرة الحکم الظاهری.

ص: 687

هذا الحکم الظاهری واضح بأنّه أصلاً ملاک التزاحم الحفظی بین الأحکام التی یقع بینها الاختلاط والاشتباه، ملاک افتراض وقوع تزاحم فی مقام الحفظ التشریعی لهذه الأغراض، ومن الواضح أنّ الشرط فی هذا هو أن یشک المکلّف فی الحکم الواقعی؛ ولذا الشرط الأساسی فی تصوّر وتعقّل الحکم الظاهری هو افتراض شک المکلّف فی الحکم الواقعی، یعنی یحتمل أنّ هذا حرام ویحتمل أنّه مباح، أو یحتمل أنّه واجب ویحتمل أنّه مباح، فلابدّ من افتراض الشک فی إمکان جعل الحکم الظاهری، فإذا شک المکلّف فی الحکم الواقعی واختلطت علیه الأغراض الترخیصیة بالأغراض اللّزومیة، ولم یستطع التمییز بینها؛ لأنّه شاک؛ لأنّه جاهل بالحکم الواقعی، فی حالة الجهل وفی حالة الشک الشارع یرید أن یجعل له حکماً ظاهریاً یعمل به فی حالة الشک والجهل، هذا الحکم الظاهری دائماً یراعی فیه اهتمام الشارع بالغرض الواقعی إذا کان یهتم بغرض التسهیل وإطلاق العنان، هذه هی المصلحة الترخیصیة والملاک والغرض الترخیصی هو الأهم فی نظر الشارع وإن استلزم فوات الغرض اللّزومی، فیجعل البراءة کحکم ظاهری وبذلک یصل إلی هذا الغرض الأهم وإن فات علیه الغرض الآخر؛ لأنّ هذا بنظره أهم، فیجعل الحکم البراءة، وهکذا بالعکس یجعل الاحتیاط، الشرط الأساسی فی الحکم الظاهری هو الشک فی الحکم الواقعی، متی ما تحقق الشک فی الحکم الواقعی، أمکن تعقّل جعل الحکم الظاهری بشرط أن یؤدی إذا کان منجّزاً، أو معذّراً، یعنی مسألة التأمین والتنجیز علی اختلاف موارد الحکم الظاهری لابدّ من فرضها، الشرط الأساسی هو الشک فی الحکم الواقعی، لکن هل یُعتبر فی تصوّر الحکم الظاهری وتعقّل جعله أن نحتمل مطابقة الحکم الظاهری للحکم الواقعی ؟ کلا، لا دلیل علی ذلک، یکفی وقوع التزاحم، یکفی جهل المکلّف بالواقع فی تعقّل الحکم الظاهری، سواء کان هذا الحکم الظاهری یُحتمل مطابقته للواقع، أو لا یُحتمل مطابقته للواقع، المهم أن یقع تزاحم فی مقام الحفظ بین الأغراض، بین غرض التسهیل والغرض الإلزامی المحتمل، حتّی إذا فرضنا أنّ الحکم الظاهری الذی یُجعل لکی یصل المکلّف إلی غرض التسهیل وإطلاق العنان علی العباد، وإن کان هذا الحکم الظاهری لا نحتمل مطابقته للواقع کما هو الحال فی دوران الأمر بین المحذورین، وکما هو الحال فی محل الکلام، لم یدل دلیل علی اشتراط أن یکون الحکم الظاهری محتمل المطابقة للواقع، أیّ ضیر فی أن نفترض أنّ الشارع فی دوران الأمر بین المحذورین یجعل ترخیصاً ظاهریاً، باعتبار تقدیماً لمصلحة التسهیل وإطلاق العنان، مصلحة التسهیل یراها الشارع مهمة، أن یُسهّل للمکلّف یجعل ترخیصاً، فی محل الکلام یجعل ترخیص فی کلا الطرفین، لکن علی نحوٍ مشروط بترک الطرف الآخر فی مقابل ما یقوله المحقق النائینی(قدّس سرّه) والسیّد الخوئی(قدّس سرّه) من لزوم الاحتیاط؛ بل قد نفترض أنّ الشارع یقدّم مصلحة التسهیل فیجعل ترخیصاً فی کلٍ من الطرفین، لکن لیس مطلقاً؛ لأنّ هذا فیه محذور، وإنّما یجعل ترخیصاً فی کلٍ من الطرفین مشروطاً بترک الطرف الآخر، لا ضیر فی ذلک بالرغم من أننا لا نحتمل مطابقة هذا الحکم الظاهری للحکم الواقعی المحتمل، هذا لیس فیه مشکلة، ولم یقم دلیل علی اعتبار أن یکون محتمل المطابقة للواقع، یکفی فی الحکم الظاهری الشک فی الحکم الواقعی، ما یجعله الشارع کحکم ظاهری لا یُشترط فیه أن یکون محتمل المطابقة لهذا الحکم الواقعی المشکوک . هذا هو الجواب المتقدّم فی دوران الأمر بین المحذورین وهو الجواب الذی یُذکر فی محل الکلام.

ص: 688

الجواب الرابع: أن یقال: إذا فرضنا تعذّر إجراء الأصل فی کلا الطرفین مطلقاً؛ لأنّ هذا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، والترخیص فی المعصیة وهذا غیر معقول؛ وحینئذٍ یتعین ------------ بناءً علی الشبهة التی یقولها المحقق العراقی(قدّس سرّه) -------------- إجراءه فی کلا الطرفین مقیّداً، یقول: لا داعی لمنع شمول دلیل الأصل للطرفین الذی هو معنی التساقط الذی یقوله المحقق النائینی(قدّس سرّه)، یقول لا داعی للتساقط، وإنّما نجری الأصل فی کلا الطرفین، لکن مقیّداً لا مطلقاً. إذا وصلت النوبة إلی التقیید، الجواب الرابع یقول: ما الدلیل علی أنّه لابدّ أن نقیّد جریان الأصل فی کلا الطرفین بالنحو الذی ذُکر فی الشبهة؛ لأنّه کما یمکن أن نقیّد جریان الأصل فی کلا الطرفین بالنحو المذکور فی الشبهة، یعنی نقیّد الترخیص فی هذا الطرف، وجریان الأصل فی هذا الطرف بعدم ارتکاب الطرف الآخر کما قیل فی الشبهة، صاحب هذا الجواب یقول: یمکن أن نتصوّر تقییداً آخر، أن نقیّد جریان الأصل فی کلٍ من الطرفین بأن یکون قبل صاحبه، قبل ارتکاب الطرف الآخر، یعنی أن یکون سابقاً علی ارتکاب الطرف الآخر، وإعمال الأصل فی الطرف الآخر، هذا نوع من التقیید؛ بل یمکن افتراض حتی إجراء الأصل مقیّداً بأن یکون بعد ارتکاب الطرف الآخر، بعد إجراء الأصل فی الطرف الآخر، هذا أیضاً نوعٌ من التقیید، یرید أن یقول فی المقام بأنّه ما هو الدلیل علی تعیّن التقیید بالنحو المذکور فی الشبهة بعد افتراض أنّ المشکلة موجودة فی إجراء الأصل فی کلا الطرفین مطلقاً ولا داعی کما قیل للالتزام بعدم شمول الأصل لکلا الطرفین؛ بل یجری الأصل فی کلٍ منهما ولکن بنحوٍ مقیّد، التقیید له أنحاء وله صور، ما هو الموجب لتعیّن التقیید بالنحو المطروح فی الشبهة فی قبال سائر ما یمکن تصوّره من تقییدات کما إذا فرضنا أن یقال: أنّ الأصل یجری فی هذا الطرف فی حالة کونه قبل إجرائه فی الطرف الآخر، فی حالة کونه سابقاً علی ارتکاب الطرف الآخر وإجراء الأصل فیه، وهکذا الأصل یجری فی الطرف الآخر أیضاً بشرط کونه قبل إجرائه فی الطرف الأوّل، فهو یجری فیهما معاً، لکن فقط فی حالة السبق، فی حالة التقدّم، أن یتقدّم علی الطرف الآخر، فیجری الأصل فیهما معاً، لکن مقیّداً بحالة السبق، بحالة أن یکون قبل الطرف الآخر، وهکذا یجری فی الثانی بشرط أن یکون قبل الأوّل، فالأصل یجری فیهما معاً لکن فی هذه الحالة، کما کان یقال فی الشبهة بأنّ الأصل یجری فیهما معاً بشرط ترک الطرف الآخر، هنا یقال یجری فیهماً بشرط أن یکون قبل إجرائه فی الطرف الآخر، إذا کان هو الأوّل، إذا کان هو أوّل ما تبدأ به، یُرخّص لک فی ارتکابه، وأمّا أن یکون هو الوجود الثانی، بمعنی أنّه ترتکب الطرف الآخر ثم ترید أن ترتکب هذا الطرف، هذا الأصل لا یجری فیه، فالأصل یجری فی هذا الطرف لیس مطلقاً بلحاظ الوجود الأوّل والوجود الثانی، یعنی حتّی إذا کان ارتکاب هذا هو الوجود الثانی، لا یجری الأصل فیه، وإنّما یجری فیه بشرط أن یکون هو الارتکاب الأوّل، أمّا أن یجری فیه الأصل مع تقدّم ارتکاب الثانی، هذا نقیده ونقول: هذا لا یجری فیه الأصل، وإنّما یجری الأصل فیه إذا کان هو الارتکاب الأوّل، إذا کان سابقاً علی إجراء الأصل فی الطرف الآخر، هذا نحو من التقیید.

ص: 689

الإشکال یقول: لماذا نلتزم بالتقیید المذکور هناک؛ بل یمکن أن نلتزم بالتقیید المذکور بهذا الشکل ما هو الموجب لترجیح ذاک التقیید علی هذا التقیید ؟

الجواب علی هذا الإشکال هو: أنّ مسألة التقیید وعدمه ترتبط بالمحذور، فلابد أن نری أین یوجد المحذور؛ لأنّ القاعدة الأساسیة فی المقام تقتضی أنّه یجب الحفاظ علی إطلاق الدلیل ویجب الأخذ بإطلاق الدلیل فی کل موردٍ یمکن فیه الأخذ بإطلاقه، هذه قاعدة لابدّ من الالتزام بها؛ لأنّه لا موجب لرفع الید عن الدلیل من دون مبرّر، من دون وجود محذور یمنع من الأخذ بظاهر الدلیل، دلیل الأصل بحسب الفرض هو أساساً هو یشمل کلا الطرفین باتفاق المتنازعین فی المقام، هو فی حدّ نفسه یشمل هذا الطرف ویشمل أیضاً الطرف الآخر، المشکلة نشأت من إطلاق الدلیل فی کل طرفٍ لحالة ترک الآخر، کیف یُعقل أن یُجعل الترخیص الظاهری فی هذا الطرف إطلاق الدلیل لحالة فعل الآخر وترکه، المشکلة نشأت من هنا؛ لأنّه کیف یُعقل الترخیص فی هذا الطرف مطلقاً، یعنی سواء ارتکبت الطرف الآخر، أو لم ترتکبه أرخّص لک فی هذا، وهکذا فی الطرف الثانی، هذا فیه مشکلة؛ لأنّه یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، أنت مرخّص فی هذا حتّی إذا ارتکبت الثانی، ومرخّص فی الثانی حتّی إذا ارتکبت الأوّل، هذا معنی الإطلاق، وهو یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذه المشکلة نشأت من هنا.

وبعبارةٍ أخری: أنّ شمول الأصل لهذا الطرف فی حالة فعل الآخر یکون معارضاً بشمول الأصل للطرف الثانی فی حالة فعل الأوّل، وهذا التعارض یحصل؛ لأنّ هذان الإطلاقان یؤدیان إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، والمفروض أنّه محال. إذن: شمول الأصل فی هذا الطرف لحالة فعل الآخر، وهکذا بالعکس فی الطرف الآخر هذا لا یشمله الأصل؛ لأنّ شمول الأصل له معارض بشمول الأصل للطرف الاخر فی حالة فعل الأوّل، ولا یمکن شمول الأصل لکلا الطرفین فی حالة فعل الآخر؛ لأنّ هذا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة . إذن: هذا المحذور هو الذی أوجب رفع الید عن الإطلاق بهذا المقدار، وأمّا شمول الأصل لهذا الطرف فی حالة ترک الثانی، هذا لیس فیه محذور، ولیس له معارض فی الطرف الثانی، شمول الأصل لهذا الطرف فی حالة ترک الاخر، هذا لا یعارضه شیء لا یعارضه شمول الأصل للثانی فی حالة ترک الأوّل؛ لأنّهما أصلان یمکن أن یجریا معاً ولا تعارض بینهما؛ لأنّ جریانهما لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، أن یجری الأصل فی هذا الطرف فی حالة ترک ذاک ویجری فی ذاک فی حالة ترک الأوّل، لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ ولذا لا مانع من جریان الأصل فی کلا الطرفین، لکن فی حالة ترک الآخر، هذا لا مانع منه، فلا داعی لرفع الید عن دلیل الأصل فی هذه الحالة، لا یوجد موجب، لا یوجد شیء یجبرنا علی رفع الید عن إطلاق دلیل الأصل لکلٍ منهما فی حالة ترک الآخر، فیبقی الأصل شاملاً لذلک، بخلاف حالة فعل الآخر، شمول الأصل لکلٍ من الطرفین فی حالة فعل الآخر فیه محذور؛ لأنّ شمول الأصل لهذا الطرف فی حالة فعل هذا معارض بشمول الأصل لهذا فی حالة فعل الأوّل؛ لأنّ جریانهما معاً یؤدی إلی المخالفة القطعیة، فیتعارضان؛ فلذا لابد أن نرفع الید عن إطلاق الأصل فی هذه الحالة، ویبقی إطلاق الأصل فی الحالة الأخری التی لا یلزم منها محذور، ولا یوجد لجریان الأصل فی الطرف معارض یبقی إطلاق الأصل علی حاله وهذا ینتج ما قیل فی الشبهة أی الترخیصین المشروطین علی ما ذُکر فی الشبهة، هذا هو المبرر لتقیید جریان الأصل فی کلٍ من الطرفین بحالة ترک الطرف الآخر، فیجری الأصل فی هذا الطرف فی هذه الحالة، ویجری الأصل فی الطرف الاخر أیضاً فی هذه الحالة، هذا هو المبرر لهذا التقیید. أمّا إذا جئنا إلی تقیید آخر لا یوجد فیه هذا المبرر، بمعنی أنّ إجراء الأصل فی هذا الطرف فی حالة کونه هو الأسبق هو الأوّل، فی حالة کونه هو الارتکاب الأوّل، الاقتراح کان یقول: فلنلتزم بهذا التقیید، فیجری الأصل فی هذا فی حالة کونه هو الوجود الأوّل ویجری الأصل فی ذاک فی حالة کونه هو الوجود الأوّل، نقول: أنّ هذا التقیید لا یمکن الالتزام به؛ لأنّ فیه محذور؛ لأنّ إجراء الأصل فی هذا الطرف فی حالة کونه هو الوجود الأوّل معارض بجریان الأصل فی الطرف الآخر بعده، الأصل یجری فی هذا الطرف بشرط أن یکون فی حالة کونه قبل الثانی وهذا یعارضه جریان الأصل فی الطرف الآخر فی حالة کونه بعد الطرف الأوّل؛ لأنّ إجرائهما معاً یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، أن تجری الأصل فی هذا الطرف فی حالة کونه قبل ذاک وتجری الأصل فی الطرف الثانی فی حالة کونه بعد هذا، وهذا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، یعنی یؤدی إلی ارتکابهما معاً، فیقع التعارض بین هذین الأصلین؛ ولذا لا یمکن الالتزام بجریان الأصل فی هذا فی حالة کونه قبل الآخر؛ لأنّ هذا التقیید، إجراء الأصل بهذا الشکل یکون معارض بجریانه فی الطرف الآخر فی حالة کونه بعده، بینما فی التقیید المقترح لا یوجد هکذا شیء، إجراء الأصل فی هذا الطرف فی حالة ترک الآخر لا یُعارض بشیء، لا یعارضه إجراء الأصل فی ذاک الطرف فی حالة ترک الأوّل؛ لأنّه فُرض فی هذا الأصل إنّما یجری الأصل فی هذا عند ترک الطرف الآخر، عند ترک الطرف الآخر یجوز لک ارتکاب هذا، هذا لا یعارضه الأصل فی الطرف الثانی؛ لأنّ جریانهما معاً لا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة. نعم المحذور فقط فی جریان کلٍ منهما مطلقاً، إجراء الأصل فی کلا الطرفین مطلقاً، یعنی سواء ارتکبت الأوّل، أو لم ترتکبه وهکذا فی الثانی هذا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، أمّا تقییده بحالة ترک الطرف الآخر هذا لیس فیه محذور، ولیس هناک شیء یعارض جریان الأصل فی هذا الطرف؛ ولذا لا داعی لرفع الید عن إطلاق الدلیل بالنسبة إلیه، بینما فی هذا الذی اقتُرح تقیید جریان الأصل بأن یکون هذا هو الوجود الأوّل أن یکون قبل صاحبه معارض بإجراء الأصل فی الطرف الآخر إذا کان بعده؛ ولذا لا یجوز فی هذه الحالة الالتزام بجریان الأصل فی هذا الطرف مقیّداً بهذا القید؛ لأنّ جریان الأصل فی هذا الطرف فی هذه الحالة له معارض فی الطرف الآخر، وإذا کان له معارض، فهذا یمنع من إجراء الأصل فی هذا الطرف ولو مقیّداً بهذه الحالة وهی حالة کونه قبل صاحبه، فإذن: لا یمکن الالتزام بالترخیص المقیّد بهذا، بینما یمکن الالتزام بالترخیص فی هذا الطرف مقیّداً بترک الطرف الآخر.

ص: 690

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

کان الکلام فی الجواب الرابع عن شبهة التخییر، وهذا الجواب نقله السید الشهید(قدّس سرّه) (1) عن السید الخوئی(قدّس سرّه) ولیس له وجود فی تقریرات السید الخوئی(قدّس سرّه)، واعتقد أنّه لیس مذکوراً أیضاً فی أجود التقریرات، لعلّه سمعه منه مباشرة، أو ذکره فی الدرس لکنّه لم یدوّن، الجواب کان هو: بعد تعذّر إجراء الأصل فی کلٍ من الطرفین مطلقاً، قیل: أننا لابدّ أن نصیر إلی التقیید، لابدّ من تقیید جریان الأصل فی کلٍ منهما لاستحالة أن یجری فی کلٍ منهما مطلقاً، التقیید لا ینحصر بما ذُکر فی أصل الشبهة وهو الجواب بأن نقید جریان الأصل فی کلٍ منهما بعدم ارتکاب الطرف الآخر، السید الخوئی(قدّس سرّه) یقول أنّ التقیید لا ینحصر بذلک؛ بل من الممکن أن نقیّد جریان الأصل فی کلٍ منهما بکون الطرف الذی نجری فیه الأصل هو السابق، فهو یجری فی کلٍ منهما، یجری فی هذا إذا کان هو السابق، ویجری فی هذا إذا کان هو السابق. إذن: لماذا نصر علی التقیید بالنحو الذی ذُکر فی الشبهة، والحال أن هذا أیضاً تقیید لإطلاق الأصل فی کلٍ من الطرفین ؟

قد یقال لغرض التوضیح: ما هو الفرق بین التقییدین بحیث یتصدی السید الخوئی(قدّس سرّه) إلی بیان أنّ التقیید لا ینحصر بما ذکرتموه؛ بل یمکن افتراض التقیید بهذا النحو، هل هناک فرق بین التقییدین ؟ قد یقال أنّه لا فرق بین التقییدین؛ لأنّ کلاً منهما یؤدّی إلی التخییر وإلی الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، التقیید الذی ذُکر فی شبهة التخییر یؤدی إلی التخییر والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة؛ لأنّه یجوز له ارتکاب أحدهما، الترخیص فی الطرفین بشرط ترک الآخر، فإذا ترک أحدهما یجوز له ارتکاب الآخر، وهذا أیضاً یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة؛ لأنّ هذا یقول الأصل یجری فی کلٍ من الطرفین بشرط أن یکون هو السابق وأن یکون هو الأوّل. إذن: بالنتیجة یجوز للمکلّف أن یرتکب هذا إذا لم یرتکب الآخر، فما هو الفرق بینهما ؟ فهذا التقیید هو کالتقیید الذی ذُکر فی أصل الشبهة، کل منهما یؤدی إلی التخییر والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، إذن: نحن لم نصنع شیئاً؛ لأننا بالنتیجة انتهینا إلی التخییر. یعنی لو فرضنا أننا نقول للسید الخوئی(قدّس سرّه) بهذا التقیید الذی اقترحته ماذا صنعنا ؟ أیضاً انتهینا إلی التخییر والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة. قد یقال هذا الکلام.

ص: 691


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج 4، ص 74.

لکن الذی یبدو أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) کان ینظر إلی شیءٍ آخر، هو یرید أن یقول أنّ التقیید المذکور فی الشبهة الذی ینتج التخییر والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة لیس متعیّناً؛ بل هناک تقیید آخر لا ینتج ذلک؛ لأنّه هو أساساً لا یری التخییر؛ لأنّ رأیه تابع لرأی المحقق النائینی(قدّس سرّه) من أن الأصول تتساقط فی الأطراف؛ وحینئذٍ تکون الموافقة القطعیة واجبة، یعنی تجب موافقة العلم الإجمالی قطعاً، وأنّه لا یوجد ترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، إذن: هو لا یرید أن یأتی علی المحقق العراقی(قدّس سرّه) صاحب الشبهة بنقض ینتهی به إلی التخییر والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة.

الجواب عن ذلک: الظاهر أنّ التقیید الذی یقترحه السید الخوئی(قدّس سرّه) لا یؤدی إلی التخییر والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة بخلاف التقیید الذی ذُکر فی أصل الشبهة. إجراء الأصل فی کلٍ من الطرفین بشرط أن یکون هو السابق الذی هو إذا تم ینتج التخییر، یقول السید الخوئی(قدّس سرّه) أنّ هذا الأصل لا یجری؛ لأنّه معارض بجریان الأصل فی کلٍ منهما فی حالة کونه اللاحق، وهذان الأصلان لا یمکن أن یجریان معاً، یعنی یُرخّص فی هذا الطرف إذا کان هو السابق، ویُرخّص فی هذا الطرف إذا کان هو السابق، وأیضاً یُرخّص فی کلٍ منهما إذا کان هو اللاحق .

بعبارة أخری: یُرخّص فی هذا الطرف سواء کان سابقاً، أو کان لاحقاً، هذا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وهذا معناه أنّ جریان الأصل فی کلٍ من الطرفین بشرط کونه السابق یُعارض بجریان الأصل فی کلٍ من الطرفین فی حالة کونه اللاحق. السید الخوئی(قدّس سرّه) یرید أن یقول أنّ هذا الأصل الثانی لا مانع من جریانه؛ لأنّه لا یلزم منه محذور، فإذا لم یکن هناک مانع من جریانه لعدم لزوم المحذور، فیجری الأصل الثانی ویعارض الأصل الأوّل، ومن هنا لا یبقی الأصل الأوّل سلیماً عن المعارضة؛ بل هو معارض بأصلٍ مثله، ولا یمکن إجراء کلا الأصلین؛ لأنّه یؤدی إلی المخالفة القطعیة، فیقع التعارض بینهما ویتساقطان، وبالنتیجة لا یسلم أصل یجری فی أحد الطرفین فی حالة معیّنة حتی نقول أنّ هذا ینتج التخییر، التخییر إنّما ینتجه هذا التقیید الذی یقوله السید الخوئی(قدّس سرّه) عندما نفترض جریان الأصل فی کلٍ من الطرفین بشرط کونه السابق، بشرط کونه الوجود الأوّل، إذا جری الأصل بهذا الشکل، فأنّه ینتج التخییر، إذا فرضنا جریانه بلا معارض، فأنّه ینتج التخییر بلا إشکال، لکن هو یرید أنّ یقول أنّ هذا الأصل مُعارض بجریان الأصل فی کلٍ من الطرفین فی حالة کونه اللاحق، وکونه الوجود الثانی. هذا الأصل الثانی المعارض إذا کان لا مانع من جریانه ولیس فیه محذور ----------- کما سنبیّن ----------- ولیس هناک مانع من جریانه، أن یجری الأصل فی کلٍ من الطرفین بشرط أن یکون هو اللاحق؛ حینئذٍ یکون معارضاً للأصل الأوّل، فلا یجری الأصل الأوّل، وبالتالی لا نملک دلیلاً علی التخییر وعلی الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة؛ لأنّ الدلیل علی الترخیص هو هذا الأصل الذی یجری فی الطرفین بشرط کونه السابق، وهذا الأصل سقط بالمعارضة، فلا یبقی ترخیص فی کلٍ من الطرفین؛ ولذا یرید أن یقول أنّ التقیید الذی اقترحه لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة؛ لأنّه وإن کان لا مانع من جریان الأصل فی هذا الطرف بشرط کونه السابق، وفی هذا الطرف بشرط کونه السابق، لکن هذا له معارض، وبالتالی الأصل لا یجری فی هذا الطرف فی حالة کونه السابق ولا یجری فیه فی حالة کونه اللاحق للتعارض؛ فلذا لا دلیل علی الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، فالتقیید الذی یقترحه لا یؤدی إلی التخییر، بینما التقیید الذی اقتُرح فی أصل الشبهة یؤدی إلی التخییر؛ لأنّه یقول أنّ إجراء الأصل فی کلٍ من الطرفین کما هو المقترح فی حالة عدم ارتکاب الطرف الآخر، یجری فی هذا الطرف فی حالة عدم ارتکاب هذا، وفی هذا فی حالة عدم ارتکاب الأوّل، هذا الأصل الذی یقتضی التخییر لیس له معارض حتی یمنع من جریانه؛ لأنّ ما یعارضه هو جریان الأصل فی کلٍ من الطرفین فی حالة ارتکاب الآخر، أو مطلقاً من هذه الناحیة، یعنی یجری الأصل فیهما مطلقاً فی حالة ارتکاب الآخر وفی حالة عدم ارتکابه، هذا لا یُعارض الأصل الأوّل؛ لأنّ هذا محال فی حدّ نفسه وبقطع النظر عن التعارض؛ لأنّه ترخیص فی المخالفة القطعیة، یعنی الأصل عندما یجری فی هذا الطرف فی حالة ارتکاب الآخر ویجری فی هذا فی حالة ارتکاب هذا، هذا ترخیص فی المخالفة القطعیة، هکذا أصل لا یجری فی حدّ نفسه بقطع النظر عن المعارضة، فمحال أن یجری هذا الأصل بهذا الشکل، فإذا کان محالاً، فجریان الأصل فی هذا الطرف فی حالة عدم ارتکاب الآخر، وجریان الأصل فی الثانی فی حالة عدم ارتکاب الأوّل یجری بلا معارض، وهذا الأصل ینتج التخییر، ینتج جواز المخالفة الاحتمالیة، فیکون هذا هو الفرق، التقیید المقترح فی الشبهة یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، یعنی یؤدی إلی التخییر فتثبت شبهة التخییر، السید الخوئی(قدّس سرّه) یرید أن یقول أنّ التقیید لا ینحصر بذلک کما یمکن التقیید بهذا الشکل، یمکن التقیید بشکلٍ آخر، وهو أن نقول أنّ الأصل یجری فی الطرفین بشرط أن یکون هو الوجود الأوّل، هذا الأصل لا یؤدی إلی التخییر؛ لأنّ هذا الأصل مُعارَض بمثله، معارض بجریان الأصل فی الطرفین فی حالة کونه هو اللاحق، فی حالة کونه هو الوجود الثانی، أمّا معارضته لذاک، فواضحة؛ إذ لا یمکن أن یجری کلا الأصلین، أصل یجری فی هذا فی حالة کونه الأوّل، ویجری فیه أیضاً فی حالة کونه الثانی، وهکذا فی الطرف الآخر، هذا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فیتعارض الأصلان فیتساقطان، الفرق الدقیق هو أنّ أصالة جریان الأصل فی الطرفین فی حالة کونه اللاحق، والوجود الثانی، هذا لیس فیه محذور، لیس ترخیصاً فی المخالفة القطعیة، کما هو الحال فی التقیید المقترح فی الشبهة عندما قلنا بأنّ الترخیص فی الطرفین فی حالة ارتکاب الآخر غیر معقول أن یجری، والترخیص فی کلا الطرفین مطلقاً من ناحیة ارتکاب الآخر وعدم ارتکابه غیر معقول أن یجری؛ لأنّه ترخیص فی المخالفة القطعیة، فهو لا یجری، فیجری هذا الأصل بلا معارض، هذا فی التقیید المقترح فی الشبهة یکون معقولاً؛ لأنّ الأصل فی کلٍ من الطرفین فی حالة ترک الآخر لیس له معارض، فیجری ویثبت التخییر، بینما فی هذا التقیید الذی یقترحه هذا الترخیص له معارض، جریان الأصل فی الطرفین مع کونه هو الوجود الأوّل والسابق مُعارض بجریان الأصل فی الطرفین مع کونه الوجود اللاحق، هذا الثانی یجری ولیس فیه محذور ولا ترخیصاً فی المخالفة القطعیة، أن یجری الأصل فی هذا الطرف إذا کان هو الوجود الثانی، هذا لیس فیه مشکلة، ولا یعنی أنّه یرخّص للمکلّف فی إیجاد الوجود الأوّل، هو یقول إذا کان هذا هو الوجود الثانی أنت مرخّص فی فعله، لکن هذا لا یعنی أنّ نفس الأصل یرخّص فی الوجود الأوّل حتّی یقال أنّه یرخّص فی الوجود الثانی وأیضاً یُرخّص فی الوجود الأوّل، فیکون ترخیصاً فی المخالفة القطعیة، هو لا یعنی ذلک، هو یقول علی تقدیر أن یکون هذا الطرف هو الوجود الثانی بأن تکون قد ارتکبت الأوّل عصیاناً، أو نسیاناً، أو أیّ شیء آخر، أنا أرخّص لک فیه، هذا لا یعنی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ ولذا لا مانع من جریانه، أن یجری الأصل فی کلا الطرفین فی حالة کونه هو الوجود الثانی، هذا لا محذور فی جریانه، فیُعارض جریان الأصل فی کلٍ من الطرفین فی حالة کونه هو الوجود الأوّل، یتعارضان، فیتساقطان، إذا تساقطا لیس لدینا أصل یثبت التخییر وجواز المخالفة الاحتمالیة؛ لأنّ التخییر والمخالفة الاحتمالیة مستندة علی إجراء الأصل فی کلٍ من الطرفین بشرط أن یکون هو الوجود الأوّل، هذا إذا جری بلا معارض یثبت التخییر بلا إشکال، لکنّه له معارض، ولا مرجّح لأحدهما علی الآخر، فیتساقطان، فلا یبقی ما یدل علی التخییر والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة علی التقیید الذی یقترحه، بخلاف التقیید الذی أقتُرح فی الشبهة، فأنّ الأصل فی کلٍ من الطرفین فی حالة عدم ارتکاب الآخر یجری بلا معارض؛ لأنّ ما یعارضه هو إجراء الأصل فی کلٍ من الطرفین فی حالة ارتکاب الآخر، أو مطلقاً من ناحیته، وهذا ترخیص فی المخالفة القطعیة بقطع النظر عن المعارضة.

ص: 692

إذن: هذا الذی یُتوقع أن یکون معارضاً لهذا هو فی حدّ نفسه لا یجری، فیجری هذا الأصل بلا معارض، ویثبت التخییر کما یقول المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ ولذا نقض علیه بذلک. ومن هنا یتبیّن أنّ النقض الذی نُقل عن السید الخوئی(قدّس سرّه) یمکن تصویره بهذا الشکل.

الذی یُلاحظ علی هذا الجواب الرابع کجوابٍ علی شبهة التخییر بعد أن بیّناه بهذا الشکل، وبیّنّا الفرق بینه وبین التقیید المقترح، الذی یُلاحظ علی هذا الجواب بشکلٍ عام وکقاعدة عامّة أنّ رفع الید عن الإطلاق لا یکون اعتباطیاً، وإنّما هو بمقدار ما تقتضیه الضرورة، والسر هو أنّ الإطلاق دلیل معتبر یجب العمل به، فمادام یمکن العمل به یجب العمل به ولا نرفع الید عنه ونلتزم بالتقیید إلاّ إذا قامت الضرورة وکان هناک محذوراً فی أن یکون الدلیل مطلقاً، إذا کان الإطلاق فیه محذور نرفع الید عنه، فإذا کان أصل الإطلاق فیه محذور نرفع الید عن أصل الإطلاق، إذا کان الإطلاق فیه محذور لحالةٍ دون حالةٍ أخری؛ فحینئذٍ لا داعی لرفع الید عن الإطلاق فی کلتا الحالتین، وإنّما نرفع الید عن الإطلاق فی الحالة التی یوجد فیها محذور، هذه قاعدة. فی المقام إطلاق الدلیل لکلٍ من الطرفین لحالة عدم ارتکاب الطرف الآخر لیس فیه محذور الترخیص فی المعصیّة ولیس فیه محذور الترخیص فی المخالفة القطعیة، بخلاف إطلاق دلیل الأصل فی الطرفین لحالة ارتکاب الآخر، هذا فیه محذور، أن یکون دلیل الترخیص یشمل هذا الطرف فی حالة ارتکاب الآخر وهذا الطرف فی حالة ارتکاب الأوّل، هذا فیه محذور؛ لأنّه یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ بناءً علی القاعدة السابقة یتعیّن الالتزام بالإطلاق الأوّل ورفع الید عن الإطلاق الثانی وهذا ینتج ما یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه)، ینتج شبهة التخییر؛ لأنّه لا یمکن الالتزام ببقاء إطلاق الأصل للطرفین فی حالة ارتکاب الآخر، فنرفع الید عن هذا الإطلاق، یبقی إطلاق الدلیل شاملاً لکلٍ من الطرفین فی حالة عدم ارتکاب الآخر، هذا علی القواعد، رفع الید عن الإطلاق بمقدار ما تقتضیه الضرورة لا أزید.

ص: 693

وأمّا فی التقیید الثانی الذی یذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) فی هذا التقیید إطلاق دلیل الأصل فی الطرفین لحالة کونه السابق وکونه الوجود الأوّل، هذا لیس فیه محذور ولا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، لکن هذا الأصل لا یجری؛ لما قلناه فی مقام توضیح مطلب السید الخوئی(قدّس سرّه)، هذا الأصل لا یجری لأنّ له معارض، أن یجری الأصل فی هذا الطرف بشرط أن یکون هو الوجود الأوّل وفی ذاک بشرط أن یکون هو الوجود الأوّل، هذا معارض بجریان الأصل فی الطرفین فی حالة کونه الوجود اللاحق، هذه الحالة أیضاً یشملها الإطلاق، ولا یمکن أن یجری کلا الأصلین؛ لأنّه یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، ولا مرجّح لأحدهما علی الآخر؛ فحینئذٍ یتعیّن التساقط، فیتساقط الأصلان، فیُلتزم بتساقط الإطلاقین بالنسبة إلی الطرفین ولا داعی لأن نلتزم بجریان أحد الإطلاقین دون الآخر، لیس لأنّ الإطلاق الآخر فیه محذور ویؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وإنّما لأنّ الأصل الآخر یعارض الأصل المقترح وهو الترخیص فی کلٍ من الطرفین بشرط أن یکون هو الوجود السابق، هذا له معارض، ومعارضه لا مانع من جریانه کما قلنا؛ لأنّه لیس ترخیصاً فی المخالفة القطعیة، بینما هناک کان فیه محذور، إجراء الأصل فی الطرفین فی حالة ارتکاب الآخر، أو مطلقاً من ناحیته، قلنا هذا ترخیص فی المخالفة القطعیة، ومعنی هذا الکلام أننا لا یمکننا أن نبقی الإطلاق فی الطرفین لحالة کونه السابق؛ لأنّ هذا الإطلاق له معارض کما بیّنّا مراراً؛ بل لابدّ من سقوط هذا الإطلاق علی أساس المعارضة؛ وحینئذٍ لا یبقی إطلاق شامل لکلا الطرفین؛ وحینئذٍ لابدّ أن نتقیّد بأن نرفع الید عن الإطلاق بمقدار ما تقتضیه الضرورة ولیس أمراً اعتباطیاً، فی التقیید المقترح فی أصل الشبهة، علی القواعد أحد الإطلاقین فیه محذور، نرفع الید عنه اساساً ونقول بأنّ هذا فیه محذور، فیجری الأصل فی کلٍ من الطرفین فی حالة عدم ارتکاب الآخر وهذا ینتج التخییر، فی التقیید الذی یقترحه السید الخوئی(قدّس سرّه) لا یوجد محذور فی الأصل المعارض، فی أن یجری الأصل فی الطرفین فی حالة کونه الوجود اللاحق، هذا یجری بلا محذور، فیعارض جریان الأصل فی الطرفین فی حالة کونه السابق والوجود الأوّل، فیتعارضان، فیأتی الکلام السابق، المحقق النائینی(قدّس سرّه) یصر علی أنّ هذا التعارض یوجب التساقط، بینما المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول لا داعی للتساقط؛ بل نلتزم بالتخییر بأن نجری الأصل فی کلٍ منهما بشرط أن یکون هو السابق؛ لماذا نرفع الید عن کلا الإطلاقین ؟ وإنّما لابدّ أن نلتزم بجریان الإطلاق فی کلٍ منهما، لکن نقیّده بهذا التقیید، فالنتیجة هی أن وصلنا إلی أنّ هذا التقیید الثانی أیضاً سوف ینتج لنا التخییر و الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة وبهذا لا یصلح هذا أن یکون جواباً عن الشبهة؛ لأنّ الجواب عن الشبهة لابدّ أن یدفع شبهة التخییر ویثبت عدم التخییر، بینما نحن رجعنا إلی ما بدأنا به، ذکر مورداً تتعارض فیه الأصول، فیرجع الکلام السابق، هو یصرّ علی التساقط ------------ مثلاً ------------ والطرف المقابل یقول له یمکن أن نتصوّر التخییر بنحوٍ ما. ومن هنا لا یکون هذا جواباً عن الشبهة، الجواب عن الشبهة حقیقة هو الذی یرفع شبهة التخییر، یقول هنا فی محل الکلام، فی مورد العلم الإجمالی بناءً علی الاقتضاء لا نصیر إلی التخییر وإنّما نلتزم بتساقط الأصول من دون أن یکون هناک تخییر. هذا ما یمکن توضیحه حول الجواب الرابع، ویأتی الکلام عن الجواب الخامس إن شاء الله تعالی.

ص: 694

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

الجواب الخامس عن شبهة التخییر: وهذا الجواب للسید الخوئی(قدّس سرّه) ذُکر فی تقریراته، وحاصله: أنّ دلیل الأصل له إطلاق أفرادی، باعتباره یشمل کلا الطرفین، وله إطلاق أحوالی، باعتباره یشمل کل الحالات الموجودة فی الطرفین، فله إطلاق أفرادی وله إطلاق أحوالی، الإطلاق الأحوالی هو المقصود به فی المقام هو إطلاق الأصل عند شموله لهذا الفرد لحالة فعل الآخر وترکه، کذلک عند شموله للفرد الآخر هو مطلق بلحاظ فعل الآخر، أو ترکه، فهناک إطلاقان أحوالی وأفرادی، ویقول بأنّ محذور الترخیص فی المخالفة القطعیة کما یندفع برفع الیدّ عن الإطلاقین الأحوالیین کما هو المدّعی فی أصل الشبهة کذلک یندفع برفع الید عن الإطلاق الأفرادی والأحوالی لأحد الطرفین فقط، أیضاً یندفع المحذور، نلتزم بأنّ دلیل الأصل لا یشمل أحد الطرفین ویشمل الآخر، الإطلاق الأفرادی لا یشمل أحد الطرفین وبالتبع الإطلاق الأحوالی أیضاً لا یکون فیه ثابتاً؛ لأنّ الإطلاق الأحوالی هو فرع شمول الدلیل للطرف حتّی یثبت فیه إطلاق أحوالی. نحن نرفع الید عن الإطلاق الأفرادی والأحوالی فی أحد الطرفین وهذا أیضاً یندفع به المحذور؛ لأنّ هذا لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لأنّه لا یُرخّص فی ارتکاب کلا الطرفین، وإنّما یُرخّص فی ارتکاب أحد الطرفین، والطرف الآخر لا یشمله إطلاق دلیل الأصل الأفرادی والأحوالی، وإنّما یشمل أحد الطرفین، فیندفع به محذور المخالفة القطعیة؛ وحینئذٍ یقول بأنّه لا مرجّح لأحد الأمرین علی الآخر، کل منهما یندفع به المحذور، فلا مرجّح لأحدهما علی الآخر.

ص: 695

بإمکان المحقق العراقی(قدّس سرّه) أن یقول: أنّ هذا لیس حلاًّ للمشکلة، هذا لیس حلاً لشبهة التخییر؛ بل هو التزام بشبهة التخییر لکن عن طریق الالتزام بعدم شمول دلیل الأصل لأحد الطرفین واختصاصه بأحد الطرفین دون الآخر، لکن النتیجة هی أنّه یترتّب علیه التخییر والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة؛ لأنّ دلیل الأصل یشمل أحد الطرفین. بقطع النظر عن ذلک نحن فی الجواب السابق حاولنا أن نوجّه کلام السید الخوئی(قدّس سرّه) المتقدّم، بأن قلنا بأنّه من الممکن أن یکون للسید الخوئی(قدّس سرّه) نظر أعمق من ذلک، یعنی لا یرید أن یقول فقط هناک أن تقیید شمول الأصل للطرفین بحالة کونه هو السابق، لا یرید إبرازه کبدیل عن تقیید إطلاق الأصل لکلٍ من الطرفین لحالة عدم ارتکاب الطرف الآخر، وإنّما یرید أن یقول هذا تقیید وهذا تقیید فقط ولا مرجّح لأحدهما علی الآخر کما قال هنا، وإنّما قلنا من المحتمل أن یکون نظره أبعد وأعمق من ذلک، وهو أنّه یرید أن یقول بأنّ التقیید المقترح هناک فی اصل شبهة التخییر یمکن الالتزام به؛ لأنّ جریان الأصل فی الطرفین وإطلاق الأصل فی الطرفین لحالة عدم ارتکاب الآخر لیس له معارض، بینما إطلاق دلیل الأصل للطرفین فی حالة کونه السابق له معارض -------------- علی ما تقدّم بیانه فی الدرس السابق -------------- لکن هنا لیس هناک مجال لأن یقال بذلک، واضح أنّ نظره هنا فقط إلی إبراز احتمال آخر فی قبال الاحتمال الذی ذُکر فی أصل الشبهة، فیقول: کما یمکن رفع الید عن الإطلاقین الأحوالیین فی الدلیلین، یمکن أن یقال أنّ دفع المحذور یتحقق برفع الید عن الإطلاق الأفرادی والأحوالی لأحد الدلیلین مع وضوح أنّ کلاً منهما یترتب علیه التخییر، فتکون شبهة التخییر ثابتة، وهی التی لا یلتزم بها السید الخوئی(قدّس سرّه)، فأنّه لا یلتزم بالتخییر؛ بل یلتزم بوجوب الموافقة القطعیة للعلم الإجمالی، لکن هو یری بأنّ وجوب الموافقة القطعیة إنّما هو من جهة تعارض الأصول فی الأطراف.

ص: 696

حینئذٍ یکون دفع هذا الجواب منحصر بما تقدّم سابقاً من أنّ رفع الید عن الإطلاق لیس أمراً اعتباطیاً، وإنّما نرفع الید عن الإطلاق بمقدار ما تقتضیه الضرورة، بمقدار ما یکون الإطلاق موجباً للمحذور، فأیّ إطلاق لیس فیه محذور یجب العمل به ولا یجوز رفع الید عنه، وإنّما تُرفع الید عن الإطلاق الذی یترتب علیه المحذور، الإطلاق الذی له معارض نرفع الید عنه، وأمّا الإطلاق الذی لیس له معارض أصلاً، فلا داعی لرفع الید عنه أصلاً. والذی نلاحظه فی المقام هو أنّ الإطلاق الذی له معارض، أو أنّ التعارض إنّما یقع بین الإطلاقین الأحوالیین، وإلاّ الإطلاق الأفرادی فی کل طرف لیس له معارض، وإنّما المعارضة قائمة بین الإطلاق الأحوالی فی هذا الطرف مع الإطلاق الأحوالی فی الطرف الآخر، هذان متعارضان؛ إذ لا یمکن للشارع أن یُرخّص فی هذا الطرف مطلقاً، سواء فعلت الآخر، أو ترکته، وکذا یُرخّص فی الآخر مطلقاً، یعنی سواء فعلت الأوّل، أو ترکته، هذان لا یمکن الجمع بینهما؛ لأن ذلک یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة. أمّا أصل الإطلاق الأفرادی فی هذا الطرف، فلیس له معارض.

بعبارةٍ أخری: یکفی فی دفع المحذور وإمکان جریان الأصول أن نرفع الید عن إطلاق أحوالی واحد فی أحد الطرفین، رفع الید عن إطلاق أحوالی واحد فی أحد الطرفین یدفع المحذور، مع بقاء الإطلاق الأفرادی فی هذا الطرف وبقاء کلا الإطلاقین فی الطرف الآخر، هذا یدفع المحذور؛ حینئذٍ لا یکون ذلک ترخیصاً فی المخالفة القطعیة، إذا رفعنا الید عن الإطلاق الأحوالی فی کلا الطرفین وقلنا أنّ الأصل یشمل هذا الطرف لکن لیس فیه إطلاق أحوالی، هذا یرفع المحذور، فالمحذور ینشأ فی الحقیقة من وجود إطلاقٍ أحوالی فی هذا الطرف بعد فرض الإطلاق الأفرادی ومن إطلاق أحوالی فی الطرف الآخر؛ إذ لا یمکن الجمع بین الترخیصین المطلقین فی الطرفین؛ لأن ذلک یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فهذا هو مرکز التعارض، وهذا معناه أنّه لا داعی لرفع الید عن الإطلاق الأفرادی فی أحد الطرفین؛ لأنّ الإطلاق الأفرادی لیس له معارض، بدلیل أنّه یمکن إجراء الإطلاق الأفرادی فی الطرفین، بأن نقول أنّ الترخیص هنا یثبت، أصل الترخیص ولیس إطلاقه، یثبت وکذلک یثبت الترخیص فی الطرف الآخر، هذا أصلاً لا محذور فیه، وإنّما المحذور عندما یکون الترخیص مطلقاً، إطلاق الترخیص هذا لا یجتمع مع إطلاق الترخیص فی الطرف الآخر، فلبّ المشکلة وأساس التعارض هو قائم بین الإطلاقین الأحوالیین؛ حینئذٍ نرفع الید عن الإطلاق الأحوالی، هذا هو الموجب لما یقترحه المحقق العراقی(قدّس سرّه)، القضیة لیست رفع الید کیفما شاء ومن دون أن تقتضی ذلک الضرورة، وإنّما تتحدّد بحدود الضرورة وبمقدار ما یقتضیه التعارض، والتعارض لیس قائماً إلاّ بین الإطلاقین الأحوالیین؛ فحینئذٍ نرفع الید عن هذین الإطلاقین الأحوالیین؛ لأنّ إجرائهما معاً غیر ممکن؛ لأنّه یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، وإجراء الإطلاق الأحوالی فی أحد الطرفین بالخصوص دون الطرف الآخر ترجیح بلا مرجّح، فیتساقط الإطلاقان الأحوالیان فی الطرفین، وهذا هو ما یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه) ویتعیّن هذا حینئذٍ فی قبال الالتزام بسقوط الإطلاق الأفرادی والأحوالی فی أحد الطرفین؛ لأنّ سقوط الإطلاق الأفرادی فی أحد الطرفین لا موجب له؛ لأنّ الإطلاق الأفرادی لا معارض له.

ص: 697

((تنبیه))

لابدّ أن نستعرض هذه الأجوبة؛ لأنّ الشبهة مهمّة جدّاً؛ لأنّ هذه الشبهة تنتج شیئاً من الصعب جداً الالتزام به، بناءً علی مسلک الاقتضاء تنتج عدم وجوب الموافقة القطعیة فی العلوم الإجمالیة؛ لأنّه ترد شبهة التخییر، الترخیص المشروط فی کلٍ من الطرفین، ومعنی ذلک أنّه لا تجب الموافقة القطعیة وتجوز المخالفة الاحتمالیة وهذا ممّا لا یلتزمون به.

الجواب السادس: هو ما ذُکر فی کلمات السید الشهید(قدّس سرّه) وحاصله: (1) أنّ الترخیص فی کلٍ من الطرفین بنحوٍ مشروط یمکن تصوّره علی نحوین:

النحو الأوّل: أن یکون التقیید فی الموضوع ولیس فی الحکم، وإنّما الترخیص فی الحکم مطلقاً، لکن التقیید یلحق متعلّق الترخیص، یعنی فی الموضوع، الموضوع یکون مقیّداً بعدم ارتکاب الطرف الآخر.

بعبارة أخری: أنّ المُرخّص فیه یکون حصّة خاصّة من الشرب لا مطلق الشرب وهذه الحصّة هی الشرب المقترن بترک الطرف الآخر، شرب هذا إذا کان مقترناً بترک الطرف الآخر یکون مرخّصاً فیه، فیکون التقیید بعدم ارتکاب الطرف الآخر قیداً للموضوع لا للحکم، أمّا الحکم فیبقی علی إطلاقه.

النحو الثانی: أن یکون التقیید فی الحکم ولیس فی الموضوع، الحکم مقیّد، أمّا الموضوع فیبقی علی إطلاقه، المرخّص فیه هو مطلق الشرب، لکن الترخیص لا یثبت له إلاّ مقیّداً بعدم ارتکاب الطرف الآخر، وإلاّ المتعلّق وموضوع الترخیص هو مطلق الشرب، طبیعی الشرب ولیس حصّة خاصّة من الشرب، وإنّما طبیعی الشرب هو الذی یتعلّق به الترخیص، لکن الترخیص الذی یتعلّق به لیس ترخیصاً مطلقاً، وإنّما هو ترخیص مقیّد بعدم ارتکاب الطرف الثانی.

ص: 698


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج 4، ص 76.

الجواب یقول: أنّ کلاً منهما محال وغیر معقول؛ وحینئذٍ یکون الترخیص المشروط فی کلٍ من الطرفین محال، وبذلک تبطل شبهة التخییر.

أمّا النحو الأوّل، فهو غیر معقول، باعتبار أنّ الشرب المقیّد بعدم ارتکاب الآخر، أو قل الحصّة الخاصّة من الشرب وهو الشرب المقترن بعدم ارتکاب الآخر، هذه الحصّة الخاصّة نحن لا نحتمل حرمتها أصّلاً، حتّی یأتی دلیل ویؤمّننا من ناحیتها حتّی نتعقّل جریان الترخیص بلحاظها؛ لأننا لا نحتمل کونها محرّمة؛ لأنّ ما نحتمل حرمته هو طبیعی الشرب لا الشرب المقترن بعدم ارتکاب الطرف الآخر، أساس المبنی هو أنّ الشرب مطلقاً إمّا حرام، وإمّا حلال، فما نحتمل حرمته هو عبارة عن الطبیعی، هو الشرب مطلقاً، أمّا الحصّة الخاصّة من الطبیعی، فلا نحتمل حرمتها أصلاً، فلا معنی لأن یجری الترخیص بلحاظها لیؤمّن من ناحیة شیء نحن لا نحتمل حرمته أصّلاً. أو بعبارة أخری: نقطع بعدم حرمته. شرب هذا الإناء المقیّد بعدم ارتکاب الطرف الآخر لا نحتمل حرمته، فلا معنی لجریان الترخیص بلحاظه والتأمین من ناحیته، فإذن: لا معنی لأن نفترض أن یکون الترخیص مطلقاً، لکنّ متعلّقه یکون مقیّداً بعدم ارتکاب الطرف الآخر. هذا ما یرد علی النحو الأوّل.

أمّا النحو الثانی وهو أن یکون القید قیداً فی الحکم لا فی الموضوع، فیکون الموضوع مطلقاً. هذا النحو لا یرد علیه الإشکال الوارد علی النحو الأوّل؛ لأنّ المتعلّق هنا هو طبیعی الشرب ولیس الشرب الخاص، وطبیعی الشرب نحتمل حرمته، فلا یرد علیه الإشکال السابق، لکنّه یرد علیه أننا لا نتعقّل ان یکون الحکم مقیّداً بعدم ارتکاب الطرف الآخر مع کون الموضوع والمتعلّق مطلقاً من هذه الناحیة، لا نتعقل ذلک؛ لأنّ معنی هذا الکلام فی الحقیقة ------------- أنّ الموضوع مطلق والحکم مقیّد ------------- أنّ الحکم المقیّد بعدم ارتکاب الطرف الآخر سوف یسری إلی جمیع حصص هذا المطلق حتّی الحصّة الفاقدة لذلک الشرط الذی قُیّد به ذلک الحکم، بمعنی أنّ الحکم المقیّد بعدم ارتکاب الآخر سوف یسری إلی جمیع حصص الشرب؛ لأنّ الشرب المتعلّق مطلق بحسب الفرض حتّی الشرب غیر المقترن بترک الطرف الآخر، هذا الترخیص المقیّد سوف یسری إلی تمام حصص الطبیعة، تمام حصص المطلق حتّی الحصّة غیر الواجدة للقید الذی قُیّد به الحکم، وهذا غیر معقول، وکیف یُعقل أن یثبت الحکم الترخیصی المقیّد بعدم ارتکاب الطرف الآخر، أن یثبت للشرب حتّی إذا لم یقترن بعدم ارتکاب الطرف الآخر ؟ فإبقاء المتعلّق مطلقاً وتقیید الحکم لا معنی له؛ بل فی مثل هذه الحالة لابدّ أن یسری القید من الحکم إلی الموضوع وعلی هذا الأساس قالوا أنّ قیود الحکم کلّها راجعة إلی الموضوع، فلابدّ من افتراض سرایة القید من الحکم إلی الموضوع، فإذا سری القید إلی الموضوع؛ فحینئذٍ رجعنا إلی النحو الأوّل؛ لأنّ الموضوع صار مقیّداً؛ وحینئذٍ یرد علیه الإشکال السابق وهو أنّ الموضوع المقیّد، الشرب المقیّد بعدم ارتکاب الطرف الآخر ممّا لا نحتمل حرمته، فلا معنی لجریان الترخیص من ناحیته. إذن: کل من النحوین یکون غیر معقولٍ، وعلیه، بأی شکلٍ یُتصوّر الترخیص المشروط فی الطرفین هو غیر معقول.

ص: 699

هذا الجواب یمکن أیضاً دفعه: بأن نختار الاحتمال الثانی، بأن یقال أنّ القید قید للحکم لا للموضوع، الترخیص مقیّد بعدم ارتکاب الطرف الآخر، أیّ ضیرٍ فی أن یقال أنّ الشارع یحکم حکماً مقیّداً بشیءٍ ؟ یجعل ترخیصاً مقیّداً بعدم ارتکاب الطرف الآخر، فالقید قید للحکم مع کون المتعلّق هو مطلق الشرب، وبهذا تندفع المحاذیر، غیر الإشکال الذی سیأتی دفعه، یعنی بعبارة أخری: حینئذٍ لا نستطیع أن نقول أنّ هذا لا نحتمل حرمته، فکیف یُعقل جعل الترخیص والتأمین من ناحیته؛ لأننا جعلنا الموضوع هو مطلق الشرب، ومطلق الشرب ممّا نحتمل حرمته، فیندفع هذا الإشکال، کما أنّ إشکال الترخیص فی المخالفة القطعیة أیضاً یندفع؛ لأنّ الترخیص لیس مطلقاً، إشکال الترخیص فی المخالفة القطعیة إنّما یلزم عندما یکون الترخیصان مطلقین، أمّا إذا قلنا أنّ الترخیص الجاری فی کلٍ من الطرفین هو ترخیص مقیّد بعدم ارتکاب الطرف الآخر، فلا یلزم محذور المخالفة القطعیة، فتندفع الإشکالات.

لکنّ المشکلة فی هذا هی أنّ قید الحکم لابدّ أن یسری إلی الموضوع، فکأنّه لابدّ من افتراض لحاظ الموضوع مقیّداً، فکأنّ المجیب یفترض أنّ السرایة تعنی أن نلحظ متعلّق الترخیص مقیّداً ولا یمکن أن یکون مطلقاً. هذا لیس صحیحاً؛ إذ لا ضیر فی أن نفترض أنّ الموضوع یبقی مطلقاً، الإطلاق هو عبارة عن عدم لحاظ القید، الإطلاق لیس تجمیعاً للقیود ولحاظها، وإنّما هو رفض القیود وعدم لحاظها، ولحاظ ذات الطبیعة مع عدم لحاظ أیّ شیءٍ معها، فلیس بالضرورة عندما نقول أنّ هناک قیداً فی الحکم أن یکون هذا القید ملحوظاً فی متعلّقه، کلا، هذا لیس لازماً، لیکن متعلّق الحکم مطلقاً والقید راجع إلی الحکم، والسرایة معناها أنّ هذا الحکم یسری إلی تمام حصص الموضوع إذا لم یکن هناک مانع یمنع من سریانه إلیه، لا یعنی بالضرورة أن نلحظ الموضوع مقیّداً ونعتبره مقیّداً حتّی یرد إشکال أننا لا نحتمل حرمة هذا الموضوع المقیّد، فلا معنی لجریان الترخیص من ناحیته؛ بل هو یبقی مطلقاً ولا یُلحظ مقیّداً والإطلاق معناه لحاظ ذات الطبیعة وعدم لحاظ أیّ شیءٍ معها، السریان یثبت، یسری الحکم إلی تمام حصص هذا الموضوع المطلق، لکن حیث لا یمنعه منه مانع ولا إشکال بأنّه عندما یکون الحکم ------------- الترخیص ------------ مقیّداً بعدم ارتکاب الطرف الآخر، هذا یکون مانعاً من سریان هذا الحکم إلی بعض حصص هذا المطلق، هذا لا یعنی کون موضوع الترخیص مقیّداً حتّی نقول نحن لا نحتمل حرمة هذا الموضوع المقیّد، یعنی حرمة هذا الموضوع الذی لوحظ فیه القید، والذی لوحظ مقیّداً، فکیف یُعقل جعل الترخیص فیه، لا یلزم منه ذلک، وإنّما غایة ما فیه هو أن یکون الموضوع مطلقاً، بمعنی أنّه لوحظ فی الموضوع ذات الطبیعة ومقتضی کونه موضوعاً ومتعلّقاً للحکم، أنّ الحکم یسری إلیه إلاّ إذا منع منه مانع، ومن الواضح أنّ المانع موجود ویمنع من سریان هذا الحکم إلی الحصص التی لا تقترن بعدم ارتکاب الطرف الآخر، هذا یمنع منه، لا یُعقل أن یثبت فیه هذا الترخیص المشروط بعدم ارتکاب الطرف الآخر. لکن هذا لا یعنی أنّ الموضوع مقیّد علی نحوٍ یرِد علیه الإشکال السابق، فیُلتزم بأنّ الترخیص مقیّد مع کون الموضوع باقٍ علی إطلاقه، والإطلاق یعنی لحاظ ذات الطبیعة فقط ولیس لحاظ شیءٍ مع الطبیعة. وعلیه: لا محذور من الالتزام بالنحو الثانی المذکور فی أصل الجواب.

ص: 700

الجواب السابع: وهو ما ذکره السیّد الشهید(قدّس سرّه) وجعله وجه التحقیق فی المسألة، السید(قدّس سرّه) أیضاً هو ممّن یهتم بالجواب عن هذه الشبهة؛ لأنّه هو أیضاً یقول بالاقتضاء، ویقول بالاقتضاء حتّی فی حرمة المخالفة القطعیة، فهو یحتاج إلی أن یدفع هذه الشبهة؛ لأنّه من القائلین بالاقتضاء، جعله وجه التحقیق فی المسألة بعد أن ردّ الوجوه السابقة ذکر هذا الوجه وهو وجه طویل ذکر له مقدّمات. (1)

المقدّمة الأوّلی: أنّ الأحکام بشکل عام، إلزامیة، أو ترخیصیة، واقعیة، أو ظاهریة لها مدلولان، مدلول إنشائی، ومدلول جدّی، أو تصدیقی، المدلول الإنشائی هو مثل إنشاء التحریم، أو إنشاء الترخیص، أو أیّ حکم کان، فهذا مدلول إنشائی لها، التحریم، الوجوب، الترخیص، الاستحباب .....الخ. هناک مدلول تصدیقی لدلیل التحریم والمدلول التصدیقی هو عبارة عن الملاک والمبادئ؛ لأنّ کل دلیل یدل علی حکم هو یدل علی وجود ملاک لهذا الحکم، والملاکات والمبادئ قد تختلف، لکنّه بالنتیجة یدل علی وجود ملاک، مصلحة، مفسدة، حب، بغض، إطلاق العنان، مصلحة التسهیل، أو أیّ شیء، بالنتیجة هذا الحکم الذی أنشأه یُعبّر عن وجود ملاک له من مصلحة ومفسدة وحب وبغض ....الخ.

المقدّمة الثانیة: الوجوب التخییری یمکن أن نتصوّر نحوین لمدلوله الإنشائی ولمدلوله التصدیقی، المدلول الإنشائی للواجب التخییری یمکن أن نتصوّره بأنّه عبارة عن وجوب متعلّق بالجامع، یعنی ما یُنشأ هو عبارة عن وجوب الجامع بین الفردین، أنّ الجامع بین الفردین واجب، فیکون المُنشأ هو وجوب الجامع، ویمکن تعقّل فی مرحلة المدلول الإنشائی أنّ المُنشأ هو عبارة عن وجوبین لا وجوب واحد متعلّق بالجامع، وإنّما عبارة عن وجوبین متعلّقین بالفردین، لکن مشروطین بترک الطرف الآخر، فیقول له یجب علیک العتق إذا لم تأتِ بالإطعام ویجب علیک الإطعام إذا لم تأتِ بالعتق، بحیث یکون المُنشأ هو عبارة عن وجوبین مشروطین ولیس وجوباً واحداً متعلّقاً بالجامع. یمکن تصوّر کلٍ منهما فیه.

ص: 701


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج 4، ص 81.

علی صعید المدلول التصدیقی أیضاً یمکن تصوّر نحوین للمدلول، مرّة نفترض أنّ الملاک یکون قائماً بالجامع ویکون کل واحد من الفردین محصّلاً لذلک الملاک إذا جاء به المکلّف، ویمکن أن نتصوّر أنّ الملاک موجود فی الفردین، لکن أیضاً بنحوٍ مشروط مثل الوجوب، بأن یکون العتق واجداً للملاک إذا لم یطعم، وإذا أطعم لا یکون العتق واجداً للملاک، والإطعام یکون واجداً للملاک إذا لم یُعتق، فیمکن افتراض هذین النحوین فی المدلول الإنشائی وفی المدلول التصدیقی. هذا بالنسبة إلی الواجب التخییری.

بالنسبة إلی الترخیص بلحاظ المدلول الإنشائی یمکن تصوّر کلا النحوین، یعنی یمکن افتراض أنّ الترخیص یتعلّق بالجامع بین شیئین ویکون کل منهما مُرخّصاً فیه باعتباره مصداقاً للجامع لا باعتبار أنّ الترخیص یتعلّق به بخصوصه، ویمکن افتراض أنّ الترخیص یتعلّق بالفردین، لکن علی نحوٍ مشروط، فکأنّ هناک ترخیصین یتعلّقان بالفردین، لکن علی نحوٍ مشروط یُرخّص فی هذا بشرط ترک الطرف الأوّل ویُرخّص فی ذاک بترک هذا الطرف، ویمکن أن یتعلّق بالجامع بین الفردین. هذا من حیث المدلول الإنشائی یمکن تصوّر هذین النحوین.

أمّا بلحاظ المدلول التصدیقی بلحاظ المبادئ وما یکشف عنه الترخیص من مبادئ، هل یمکن تصوّر أنّ مبادئ الترخیص، مصلحة التسهیل، مصلحة إطلاق العنان ؟ مرّة نفترض أن تکون هذه المصلحة قائمة فی الجامع بین الفردین، وأخری نفترض أنّها قائمة فی الفردین ولکن بنحوٍ مشروط، هذا الفرد فیه ملاک یقتضی الترخیص لکن بشرط عدم الإتیان بالآخر، وهذا أیضاً فیه ملاک یقتضی الترخیص، لکن بشرط عدم الإتیان بالفرد الأوّل. هذا هل یمکن تصوّره، أو لا ؟ هو(قدّس سرّه) له کلام فی هذا یأتی إن شاء الله تعالی.

ص: 702

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

انتهی الکلام إلی الجواب السابع عن شبهة التخییر: فی الدرس السابق أشرت إلی أنّه ینبغی أن نطیل هذا البحث؛ لأنّ الشبهة مهمّة؛ لأنها تؤدی إلی عدم وجوب الموافقة القطعیة فی موارد العلم الإجمالی، یجری الترخیص فی الطرفین بنحوٍ مشروط، فیجوز له ارتکاب أحد الأطراف بناءً علی القول بالاقتضاء، وهذا ممّا لا یلتزمون به، فلابدّ من دفع هذه الشبهة التی هی شبهة أساساً تتوجّه علی المحققّ النائینی والسید الخوئی(قدّس سرّهما) ومن یذهب إلی هذا الرأی وهو أنّه هنا لا مانع من جریان الأصل فی کلٍ من الطرفین، وإنّما المانع فقط المعارضة؛ وحینئذٍ ترد هذه الشبهة وهی أنّه لماذا نلتزم بسقوط الأصل عن کلٍ من الطرفین أساساً ؟ بل یمکن أن نلتزم بالتقیید، فیجری الأصل فی کل منهما مقیّداً، فتستقر شبهة التخییر، فلابدّ من أن نستعرض الوجوه التی قیلت فی الجواب ودفع هذه الشبهة. إلی هنا لم یتم جواب واضح عن هذه الشبهة مع الالتزام بالاقتضاء کما قلنا.

الجواب السابع هو ما جعله السیّد الشهید(قدّس سرّه) وجه التحقیق فی المسألة. (1) الکلام فی هذا الوجه طویل ذکر فیه أنّ الحکم أساساً سواء کان إلزامیاً، أو ترخیصیاً، واقعیّاً، أو ظاهریاً له مدلولان تصدیقیان أحدهما مدلوله الإنشائی الذی هو عبارة عن الحکم نفسه، وله مدلول تصدیقی حکائی، الذی هو أشبه بالمدلول الالتزامی وهو عبارة عن ملاک الحکم ومبادئه، کل حکم لابدّ أن یکون له مدلول إنشائی الذی هو عبارة عن الوجوب والتحریم والترخیص، وله مدلول إنشائی حکائی یدل بالدلالة الالتزامیة علی وجود ملاک کان سبباً لإنشاء هذا الحکم وجعله، وهذا الملاک یختلف باختلاف الأحکام من مصلحة ومفسدة وحب وبغض ومصلحة التسهیل فی باب الترخیص ---------- مثلاً ----------- وهکذا، ملاکات الأحکام مهما کان الحکم سواء کان الحکم واقعیاً، أو ظاهریاً بالنتیجة هذا الحکم لابدّ أن یکون له ملاک ومبادئ، فکل حکم له مدلول تصدیقی حکائی التزامی یکشف عن وجود ملاکٍ لهذا الحکم المُنشأ.

ص: 703


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج 4، ص 81.

الحکم التخییری من دون فرقٍ بین أن یکون إلزامیاً، أو أن یکون ترخیصیاً، هذا الذی یقسّمه أنّه تارة یکون حکماً واقعیاً، وأخری یکون حکماً ظاهریاً. بالنسبة إلی الحکم الواقعی، الحکم التخییری الإلزامی، أو الترخیصی إذا کان حکماً واقعیاً من قبیل ------------ مثلاً ------------ خصال الکفارة الذی هو حکم تخییری إلزامی واقعی، وقد یکون الحکم الواقعی التخییری هو الترخیص ولیس حکماً إلزامیاً، من قبیل ------------ مثلاً ------------ الترخیص فی ارتکاب أحد أطراف العلم الإجمالی فی موارد الاضطرار، یُرخص المکلّف فی ارتکاب أحد الطرفین تخییراً کما إذا کان الاضطرار لیس لأحدهما المعیّن، وإنّما الاضطرار یرتفع بأیّ واحدٍ منهما، فهنا یکون الترخیص ثابتاً وعلی نحو التخییر ویکون حکماً واقعیاً لا حکماً ظاهریاً؛ لأنّه بملاک الاضطرار.

الحکم التخییری إلزامیاً کان أو ترخیصیاً إذا کان حکماً واقعیاً تارة یکون مدلوله الإنشائی هو عبارة عن الترخیص فی الجامع، فکأنّه یوجد هناک حکم واحد، إلزام، أو ترخیص متعلّق بالجامع لا أزید ولا أقل. وأخری یکون الإلزام لا یتعلّق بالجامع ویُخیّر بین الطرفین، وإنمّا الإلزام یتعلّق بکلٍ من الفردین، لکن علی نحوٍ مشروط، هذا بالنتیجة حکم تخییری إلزامی، لکن الإلزام هنا لا یتعلّق بالجامع، وإنّما یتعلّق بالفرد، یجب علیک العتق ولیس الجامع بین العتق وبین صوم شهرین متتابعین وبین إطعام ستین مسکیناً، وإنّما العتق واجب لکن بشرط ترک الطرف الآخر، إذا لم تصم شهرین متتابعین یجب علیک العتق، وهکذا فی الصوم، إذا لم تعتق رقبة یجب علیک صوم شهرین متتابعین بحیث یکون مصبّ الإلزام هو الفرد، أی کلا طرفی التخییر، أو قد تکون أطراف التخییر أکثر من ذلک. هذا بلحاظ الحکم الإنشائی.

ص: 704

المدلول التصدیقی الحکائی یُعبّر عن الملاک، هذا الترخیص أو الإلزام یُعبّر عن ملاک، هنا أیضاً المدلول الحکائی، مرّة نفترض أنّ الملاک قائم فی الجامع وأخری یکون الملاک قائماً فی الفردین، هذا فیه ملاک للإلزام به، لکن بشرط ترک الطرف الآخر، العتق واجب، هذا مستوی المدلول الإنشائی، وفیه ملاک الوجوب والإلزام لکن بشرط ترک صوم ستین یوماً ----------- مثلاً ----------- أو إطعام ستین مسکیناً، هذا أیضاً یمکن تصوّره فی کلٍ منهما، الملاک مرّة یکون بالجامع ومرّة یکون قائماً بالطرفین علی نحوٍ مشروط، الفرق بینهما هو أنّه مرّة یکون لدینا حکم واحد وله ملاک واحد متعلّق بالجامع، ومرّة نفترض أنّ لدینا حکمین إلزامیین أو ترخیصیّین متعلّقین بالطرفین، لکن علی نحوٍ مشروط، وکل حکم منهما له ملاک، الملاک أیضاً یتعلّق بالفردین أیضاً علی نحوٍ مشروط. هذا کلّه ممکن فی الحکم الواقعی الإلزامی، أو الترخیصی فی باب التخییر، هذا کلّه ممکن أن یتعلّق بالجامع ویمکن أن یتعلّق بالطرفین بنحوٍ مشروط، الملاک قد یکون قائماً بالجامع وقد یکون قائماً بالطرفین بنحوٍ مشروط.

وأمّا الحکم الظاهری الذی هو محل الکلام، نحن نتکلّم عن الترخیص فی أطراف الشبهة التی فُرض فیها الشک وفُرض فیها الشبهة والتی یکون الترخیص فیها مجعولاً علی أساس أنّه حکم ظاهری مستفاد من أدلّة الأصول المؤمّنة. بالنسبة إلی الحکم الظاهری، بلحاظ مدلوله الإنشائی ولا توجد مشکلة فی أن نفترض تارةً أنّ الحکم یتعلّق بالجامع؛ وحینئذٍ یکون هناک تخییر بین الفردین والحکم الظاهری یکون متعلّقاً بالجامع، وأخری نفترض أنّه لیس لدینا حکم ظاهری واحد یتعلّق بالجامع، وإنّما هناک حکمان مشروطان متعلّقان بالطرفین، الترخیص الظاهری الذی هو محل کلامنا تارة نفترضه متعلّق بالجامع بین الطرفین، فیُرخّص فی أحدهما، ترخیص واحد یتعلّق بأحد الفردین، ومرّة نفترض أنّ لدینا ترخیصان متعلّقان بالطرفین، هذا مُرخّص فیه بشرط ترک ذاک، وذاک مرخّص فیه بشرط ترک هذا، هذا یمکن تصوّره کما هو الحال فی الحکم الواقعی. هذا علی مستوی المدلول الإنشائی.

ص: 705

إذا جئنا إلی المدلول التصدیقی الحکائی وما یکشف عنه الحکم وما یُعبّر عنه من ملاک ومن مبادئ، هنا یقول بالنسبة للحکم الظاهری: لا یُعقل سوی التخییر، بمعنی تعلّق الحکم بالجامع، لا یُعقل غیر هذا بلحاظ المبادئ والملاکات، لا یُعقل سوی التخییر الذی یعنی تعلّق الحکم بالجامع لا ترخیصین مشروطین فی الطرفین، من دون فرق بین الترخیص والإلزام کلّها أحکام ظاهریة، هذا علی مستوی المدلول الإنشائی ممکن افتراض حکمین متعلّقین بالطرفین بنحوٍ مشروط، لکن ما یُعبّر عنه الحکم من ملاک ومبادئ الذی هو روح الحکم وواقعه وحقیقته، هناک لا نستطیع أن نقول أنّ لدینا ترخیصین مشروطین؛ بل لابدّ أن نقول أنّ الملاک قائم بالجامع بین الطرفین ویکون هناک تخییر بین الطرفین علی أساس أنّ الترخیص قائم بالجامع والملاک أیضاً قائم بالجامع، لماذا لا یُعقل إلاّ تعلّق الحکم بالجامع فی الأحکام الظاهریة ؟ ولا یُعقل افتراض وجود حکمین متعلّقین بالطرفین علی نحوٍ مشروط ؟ هذا یستدل علیه علی أساس المبنی الذی هو یؤمن به(قدّس سرّه) وهو تفسیر الأحکام الظاهریة بالتفسیر المتقدّم سابقاً، وتقدّم سابقاً أنّه یعتبر أنّ الحکم الظاهری مهما کان ینشأ من أهمّیة الملاکات والأغراض الواقعیة عندما تختلط الأغراض الواقعیة وتتزاحم فی مقام الحفظ التشریعی؛ حینئذٍ أیّهما أهم، یُجعل الحکم الظاهری علی طبق هذه الأهمّیة، فیُعبر عن أهمّیة ملاکات وأغراض واقعیة عندما یقع التزاحم الحفظی فیما بینها، الحکم الظاهری هو تعبیر عن اهتمام الشارع وترجیحه لبعض الملاکات الواقعیة المتزاحمة علی البعض الآخر. عندما یکون الشارع یهتم بالأغراض اللّزومیة حتّی فی مرحلة الموافقة القطعیة والمخالفة القطعیة؛ حینئذٍ سوف یجعل حکماً ظاهریاً هو عبارة عن الاحتیاط التام، ولیس فقط یحرّم المخالفة القطعیة، وإنما یوجب الموافقة القطعیة؛ لأنّه بذلک یحصل علی أغراضه اللّزومیة الأهم بحسب الفرض. عندما یهتم بالأغراض الترخیصیة ومصلحة إطلاق العنان للمکلّف ﴿وما جعل علیکم فی الدین من حرج﴾ (1) (2)یهتم بالأغراض الترخیصیة حتّی علی مستوی المخالفة القطعیة، قهراً سوف یرخّص فی ارتکاب الطرفین، یرخّص فی المخالفة القطعیة ولیس فقط فی ترک الموافقة القطعیة، وعندما یُفترض التبعیض، بمعنی أنّ الغرض الّلزومی أهم بلحاظ المخالفة القطعیة، لکن الغرض الترخیصی أهم بلحاظ الموافقة القطعیة، فی هذه الحالة یجعل الترخیص فی أحد الطرفین، لا یجعل الترخیص فی کلٍ من الطرفین؛ لأنّه بحسب الفرض فی مرحلة المخالفة القطعیة أغراضه اللّزومیة أهم من أغراضه الترخیصیة، لکن حیث أنّه فی مرحلة الموافقة القطعیة الغرض اللّزومی عنده أهم؛ حینئذٍ یجعل الترخیص فی أحد الطرفین، یرخّص فی أحدهما ویتخیّر المکلّف بین الطرفین، هذا الترخیص فی أحد الطرفین فی هذه الحالة إنّما یثبت إذا لم یکن مرجّحاً لأحد الطرفین بالخصوص یرجّح أن یکون الترخیص متعلّقاً به بالخصوص، وفرض الکلام عدم وجود مرجّح لأحد الطرفین علی الآخر؛ حینئذٍ یکون الترخیص فی أحد الطرفین، هذا الحکم الظاهری وهذه هی نتائجه.

ص: 706


1- حج/سوره22، آیه78.

وأمّا الترخیص فی کلٍ من الطرفین علی نحوٍ مشروط، یقول: هذا غیر معقول، المعقول علی أساس تفسیر الأحکام الظاهریة بهذا التفسیر هو أن نلتزم بالترخیص بالجامع، الترخیص فی أحد الطرفین؛ لأنّ الترخیص فی کلٍ من الطرفین یؤدّی إلی المخالفة القطعیة، والمفروض عدم جواز المخالفة القطعیة؛ فحینئذ یُرخّص فی أحدهما، الترخیص فی أحدهما لیس فیه محذور، والشارع بحسب الفرض قدّم الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة فی مرحلة الموافقة القطعیة، نتیجة هذا هی الترخیص فی أحدهما لا الترخیص فی کلٍ منهما بنحوٍ مشروط؛ بل یقول هذا غیر معقول، الترخیص فی کلٍ منهما بنحوٍ مشروط غیر معقول؛ باعتبار أنّ الترخیص فی کلٍ منهما بنحو مشروط لابدّ أن نلتزم بأنّ هذا الطرف تعلّق به ترخیص مشروط بترک ذاک، وهکذا بالنسبة إلی الطرف الآخر، یقول هذا غیر معقول أن یکون الترخیص الشرعی الذی فسّرناه بالتفسیر السابق؛ لأنّه حکم ظاهری ینشأ من اهتمام الشارع ببعض الأغراض الواقعیة عندما یقع بینها الاختلاط والتزاحم ویقدّمها علی أغراض أخری، ما معنی أن یکون الترخیص مشروطاً بعدم فعل المکلّف للطرف الآخر ؟ هذا غیر معقول؛ لأنّ فعل المکلّف للطرفین وترک المکلّف للطرفین وفعل المکلّف لأحد الطرفین لیس له علاقة بالترخیص، لا دخل له فی درجة اهتمام الشارع بالأغراض الترخیصیة، أو الأغراض اللّزومیة، هذه قضیة المشرّع هو الذی یلاحظها، هو یُلاحظ أیّهما أهم فیُقدّمه علی الآخر، یجعل ترخیصاً علی طبق ذلک، أمّا أن یجعل ترخیصاً فی هذا الطرف مشروطاً بترک ذاک الطرف، إذا ترکت هذا الطرف أرخّص لک فی هذا الطرف، هذا إنّما یُعقل عندما یکون الترخیص ترخیصاً واقعیاً؛ حینئذٍ یکون هذا الشیء معقولاً، أمّا عندما یکون الترخیص ترخیصاً ظاهریاً وبالمعنی السابق للترخیص الظاهری ولکل الأحکام الظاهریة هذا یکون غیر معقول، إناطة الترخیص الظاهری فی هذا الطرف بفعل المکلّف، أو ترکه، أیّ دخل لترک المکلّف وفعله فی درجة اهتمام الشارع بالأغراض الواقعیة ؟ لیس له دخل فی ذلک، الترخیص ظاهری یلحظه الشارع ویجعله عندما تکون الأغراض الترخیصیة عنده أهم من الأغراض اللّزومیة، عندما تکون الأغراض الترخیصیة أهم فقط فی مرحلة الموافقة القطعیة، وبالعکس فی مرحلة المخالفة القطعیة یجعل الترخیص فی أحدهما، وهذا ترخیص لیس لفعل المکلّف، أو ترکه علاقة به، أمّا جعل ترخیصین فی الطرفین مشروطین بترک الطرف الآخر مع الحفاظ علی هذا المبدأ والمبنی، مع الحفاظ علی تفسیر الأحکام الظاهریة بهذا التفسیر، هذا یکون غیر معقول. ومن هنا یقول هنا یتعیّن أن نفترض أنّه بلحاظ المدلول الحکائی الواقعی، لابدّ من افتراض أنّ الترخیص یثبت للجامع بما له من ملاک یکون ثابتاً لأحدهما لا أن یکون هناک ترخیصان متعلّقان بالطرفین بنحوٍ مشروط. هذا أشبه بالمقدّمة لما یرید أن یقوله.

ص: 707

إذا عرفنا ذلک؛ حینئذٍ یقول: أنّ الشارع إذا جعل الترخیص، مرّة یجعله بلسان رخّصتک فی کل واحدٍ منهما عند ترک الآخر، هذا لا مانع من حمله علی الترخیص التخییری. أمّا إذا لم یکن لدینا دلیل علی الترخیص بهذا الشکل کما هو المفروض حیث فی محل الکلام لیس لدینا دلیل علی الترخیص سوی أدلّة البراءة العامّة(رُفع ما لا یعلمون) و(کل شیءٍ لک حلال) وأمثالها، وهذه هی التی یُراد التمسّک بها لإثبات ترخیصین فی الطرفین بنحوٍ مشروط، إذا لم یکن لدینا إلاّ الأدلّة العامّة کما هو المفروض، هذه الأدلّة العامّة الدالّة علی الترخیص لها ظهور، هی ظاهرة فی جعل الترخیص فی کلٍ من الطرفین تعییناً؛ لأنّ هذا هو مقتضی ما تقدّم مراراً من انحفاظ موضوع البراءة الشرعیة والأصل الشرعی فی کلٍ من الطرفین، هناک شک وشبهة فی کل من الطرفین، وبهذا یکون موضوع الأصل محفوظاً فیه، وهکذا الطرف الآخر فی حدّ نفسه، کل منهما موضوع الأصل محفوظ فیه ومقتضی انحفاظ موضوع البراءة(کل شیء لک حلال) ومقتضی ظهور هذا الدلیل أصلاً هو جعل البراءة والترخیص فی کل واحدٍ من الطرفین بعینه وبخصوصه ولیس جعل الترخیص فیه علی سبیل البدل، جعل الترخیص فیه علی سبیل البدل خلاف ظاهر الدلیل، ظاهر الدلیل جعل الترخیص فیه(کل شیء لک حلال حتّی تعرف أنّه حرام) ما دمت لا تعرف أنّه حرام هو لک حلال، هو بعینه حلال ولیس أحدهما لا بعینه، هذا هو ظاهر أدلّة الترخیص العامّة، ظاهر أدلّة البراءة العامّة هو جعل الترخیص فی کلٍ من الطرفین تعییناً ولیس جعله فیهما تخییراً الذی یرجع إلی الجامع، هذا خلاف ظاهر الدلیل؛ حینئذٍ، الأخذ بهذا الظاهر والالتزام بالترخیص فی الطرفین لکن مع تقیید الترخیص فی کل طرف بترک الطرف الآخر حتّی نتخلّص من إثبات الترخیص فی کلٍ منهما مطلقاً؛ لأنّ هذا یلزم منه المحذور المتقدّم، نقیّد الترخیص فی کلٍ منهما بترک الطرف الآخر، یقول: هذا ممکن لکن علی مستوی المدلول الإنشائی، علی مستوی المدلول الإنشائی یمکن أن نلتزم بوجود حکمین وترخیصین فی الطرفین مشروطین، لکن بلحاظ المدلول التصدیقی الحکائی وما یکشف عنه الترخیص کحکم ظاهری من مبادئ وملاکات، هذا لا یکون مقبولاً؛ لما عرفت سابقاً من أنّ الأحکام الظاهریة لا یُعقل أن تکون منوطة بفعل المکلّف، أو ترکه، کیف یکون الترخیص الظاهری فی هذا الطرف بملاک ترجیح الأغراض الواقعیة المتزاحمة منوطاً بفعل المکلّف أو ترکه، هذا سابقاً ذکره وهو غیر معقول. إذن: حتّی نتلافی هذا المحذور لابدّ أن نحوّل الترخیص من الطرفین إلی التخییر فی الجامع حتّی یکون معقولاً ومقبولاً . یقول: هذا فیه محذور إثباتی، الأوّل فیه محذور ثبوتی، بینما هذا فیه محذور إثباتی؛ لأنّ هذا مؤنة زائدة لا یتکفّل بها الدلیل، ظاهر الدلیل إثبات الترخیص فی کلٍ من الطرفین، إثبات الترخیص فی کلٍ من الطرفین بنحوٍ مطلق لا یمکن الالتزام به، إثبات الترخیص فی کلٍ منهما بنحوٍ مقیّد فیه المشکلة السابقة، وهی أنّه لا معنی لافتراض الترخیص الظاهری منوطاً ومشروطاً بفعل المکلّف، فنضطر إلی تحویل الترخیص من الطرفین إلی الجامع حتّی یکون مقبولاً، لکن هذا التحویل لا یتکفّله دلیل الأصول المؤمّنة العامّة، لو قام علیه دلیل خاص لا بأس من الالتزام به، نقول أنّ الدلیل والقرینة علی هذا التحویل هو هذا الدلیل الخاص، لکن الأدلّة العامّة لا تتکفل بهذا التحویل.

ص: 708

هو فی الحقیقة یرید أن یصل إلی نتیجة أنّه فی محل الکلام لابدّ من الموافقة القطعیة ویرید أن ینفی الشبهة التی أثیرت، یعنی یرید أن یقول أنّ التخییر لا یجری فی المقام، والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة لا یمکن الالتزام به؛ بل تجب الموافقة القطعیة؛ لأنّ التخییر المتصوّر إمّا أن یکون هو التخییر المطروح فی أصل الشبهة، یعنی ینشأ هذا التخییر من ترخیصین فی الطرفین مشروطین، وإمّا أن یکون ترخیصاً فی الجامع، التخییر بین الطرفین والسماح للمکلّف بارتکاب المخالفة الاحتمالیة بارتکاب أحد الطرفین، هذا لابدّ أن ینشأ إمّا من افتراض ترخیصین مشروطین فی الطرفین، أو الترخیص فی أحدهما، الترخیص فی الجامع. الترخیصین المشروطین فیه هذا المحذور المتقدّم وهو محذور ثبوتی، وهو أنّ الترخیص حکم ظاهری، والأحکام الظاهریة لا علاقة لها بفعل المکلّف وترکه، فلا معنی لإناطة الترخیص الظاهری بفعل المکلّف، أو ترکه، والترخیص فی الجامع ممکن، لکن لا دلیل علیه إثباتاً؛ لأنّ الدلیل الذی لدینا هو فقط هو أدلّة الأصول المؤمّنة العامّة وهذه الأصول لیس فیها ما یدل علی تحویل الترخیص من الطرفین إلی الجامع؛ لأنّها ظاهرة فی الترخیص فی الطرفین ووجود الملاک فی الطرفین، أمّا تحویل هذا إلی الجامع، فهذا یحتاج إلی مؤنة إثباتیة زائدة، وهی مفقودة فی محل الکلام.

وعلیه: ینسد باب التخییر فی محل الکلام ویتعیّن حینئذٍ الالتزام بوجوب الموافقة القطعیة.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

ذکرنا الجواب الأخیر عن شبهة التخییر: هذا الجواب من الواضح أنّه لا یتم عندما لا یلتزم بهذا التفسیر الخاص للأحکام الظاهریة، وأنّ تمام الملاک فی الأحکام الظاهریة هو درجة الاهتمام من قبل المولی(سبحانه وتعالی)، من لا یلتزم بهذا المبنی ویفسّر الأحکام الظاهریة بتفسیرٍ آخر حیث هناک رأی یلتزم به الکثیر من المحققین بأنّ الحکم الظاهری ینشأ من مصلحة نوعیة تقتضی إطلاق العنان للمکلّف وعدم إلزامه بالاحتیاط، وهی التی یُعبّر عنها بمصلحة التسهیل وهی مصلحة نوعیة ولیست مصلحة شخصیة؛ بل هی مصلحة نوعیة تُلاحظ من قبل الشارع وهذه المصلحة النوعیة فی الترخیص الظاهری تکون هی الملاک فی الترخیص الظاهری.

ص: 709

الأحکام الظاهریة بشکلٍ عام تنشأ من ملاکات من هذا القبیل لا أنّها تنشأ من تزاحم حفظی ودرجة الاهتمام الشرعی ببعض الأغراض عندما تتزاحم مع بعضها فی مقام الحفظ، وإنّما هی تنشأ من مصلحة خاصّة وهی مصلحة التسهیل فی الأحکام الترخیصیة، مصلحة إطلاق العنان، ومصلحة أخری فی الأحکام الظاهریة الإلزامیة من قبیل وجوب الاحتیاط وغیرها. فإذن: إذا لم نلتزم بهذا المبنی الذی ذُکر؛ حینئذٍ لا مانع من الالتزام بترخیصین مشروطین؛ لأنّ الالتزام بالترخیصین المشروطین فی الطرفین فی هذا الجواب کان محذوره هو أنّه لا معنی لافتراض الترخیص الظاهری بنحوٍ یکون مشروطاً ومنوطاً بفعل المکلّف وترکه؛ لأنّ تمام ملاک الترخیص الظاهری هو الاهتمام فی مقام الحفظ التشریعی للأغراض عندما تتزاحم لا کملاک، وفی ذلک العالم لا معنی لأن یکون الترخیص منوطاً ومشروطاً بترک المکلّف، أو فعله خارجاً، هذا کان هو الإشکال، فإذا تجاوزنا هذا المبنی ولم نلتزم به؛ حینئذٍ لا مشکلة فی افتراض أنّ الترخیص الذی ینشأ من مصلحة التسهیل النوعیة وینشأ من مصلحة إطلاق العنان النوعیة أن یکون منوطاً ومشروطاً بترک المکلّف للطرف الآخر، التسهیل بهذا المقدار یقتضی أن یُرخّص للمکلّف بهذا الطرف إذا ترک الطرف الآخر، أمّا إذا فعل المکلّف الطرف الآخر، فأنّ التسهیل لا یقتضی حینئذٍ الترخیص له فی هذا الطرف، مصلحة التسهیل بمقدار ما إذا ترک المکلّف الطرف الآخر هی تقتضی الترخیص فی هذا الطرف، هذا لا مشکلة فی فرضه ولا یوجد محذور فی فرض مثل هذین الترخیصین المشروطین.

إذن: أوّل شیء هو أنّ هذا یبتنی علی هذا التفسیر للأحکام الظاهریة، ومن لا یقبل بهذا التفسیر؛ حینئذٍ لا یوجد محذور من الالتزام بالترخیصین المشروطین. هذا من جهة.

ص: 710

من جهةٍ أخری: بقطع النظر عن المبنی، حتّی لو التزمنا بهذا المبنی المذکور؛ حینئذٍ یمکن أن یقال: أنّ تعلّق الترخیص والتخییر بالجامع لا یحتاج إلی مؤنة زائدة کما ذُکر فی الجواب، هو فی الجواب کأنّه رددّ الأمر بین أن یتعلّق الترخیص بالجامع، وبین أن یتعلّق بکلٍ من الطرفین، الثانی فیه محذور؛ لأنّه لا ینسجم مع التفسیر المختار للأحکام الظاهریة، أمّا الأوّل، وهو أن یتعلّق الترخیص بالجامع، قال: هذه طفرة لا دلیل علیها فی مقام الإثبات؛ لأنّ دلیل الترخیص هو عبارة عن أدلّة الأصول العملیّة المؤمّنة العامّة، دلیل الترخیص هذا ظاهر فی إثبات الترخیص فی کلٍ طرفٍ یُشک فی حکمه بعینه، هذا لا یمکن الالتزام به؛ لاستلزامه الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ ما هی المشکلة فی أن نلتزم بأنّ الترخیص یتوجّه إلی الجامع ؟ قال أنّ تحویل الترخیص من الطرف کما هو ظاهر الدلیل إلی الجامع یحتاج إلی مؤنةٍ إثباتیةٍ مفقودةٍ فی المقام، لا یوجد دلیل علی هذا التحویل. هذه کانت المشکلة فی المقام، وإلاّ الترخیص المتعلّق بالجامع لیس فیه مشکلة ثبوتیة، لیس فیه ترخیص منوط بشیء؛ فحینئذٍ تکون المشکلة إثباتیة.

الملاحظة الثانیة تقول: یمکن تجاوز هذه المشکلة الإثباتیة فی محل الکلام، الترخیص فی الجامع لا یحتاج إلی مؤنةٍ إثباتیةٍ زائدةٍ غیر ما هو الموجود وغیر ما هو المفروض من أدلّة، نحن عندنا أمران، عندنا دلیل یدلّ علی الترخیص عند الشک فی حرمة شیءٍ وهو أدلّة الأصول المؤمّنة العامّة. وعندنا من جهةٍ أخری أننا فرغنا عن أنّه لا یُعقل الترخیص فی کلٍ من الطرفین علی الإطلاق، هذا أیضاً غیر معقول؛ لأنّه یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ لماذا لا نلتزم علی أساس أنّ المدلول الإنشائی للدلیل هو الترخیص فی کل طرف، وهو اعترف بأنّ المدلول الإنشائی کمدلولٍ إنشائی لا مانع من تقیید الترخیص فی کل طرف بترک الطرف الآخر، إذا المدلول الإنشائی لیس هناک مشکلة فی تقیید الترخیص فی کلٍ من الطرفین، کما هو ظاهر الدلیل؛ لأنّه لا یمکن الأخذ بالترخیصین المطلقین، فنقیّد الترخیص فی کلٍ من الطرفین بترک الطرف الآخر، هذا کمدلول إنشائی لا مشکلة فیه، فإذن: من حیث المدلول الإنشائی لا مشکلة فی التقیید بترک الطرف الآخر، نأتی إلی المدلول الحکائی التصدیقی، المدلول الالتزامی هذا یُعبّر عن ------------- علی المبنی المتقدّم ------------- ترجیح الملاکات الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة، أنّ الشارع یری أنّ الغرض الترخیصی والملاک الترخیصی أهم من الغرض والملاک اللّزومی، وهذا هو المدلول الالتزامی لدلیل الترخیص، یُعبّر عن اهتمام الشارع بالأغراض الترخیصیة وترجیحها علی الأغراض اللّزومیة عندما تتزاحم فی مقام الحفظ. هذا المدلول الالتزامی نلتزم به؛ لأنّه لیس فیه محذور، أنّ هذا یُعبّر عن اهتمام الشارع بالأغراض الترخیصیة وترجیحها علی الأغراض اللّزومیة. هذا التعبیر، یعنی مصلحة إطلاق العنان للمکلّف، اهتمام الشارع بالأغراض اللّزومیة، من الواضح أنّه لا یتوقّف علی افتراض ترخیصین فی الطرفین، إطلاق العنان للمکلّف وعدم إلزامه بالاحتیاط الذی هو معنی ترجیح الغرض الترخیصی علی الغرض اللّزومی، أنّ الشارع یری أنّ المصلحة تقتضی إطلاق العنان للمکلّف وعدم إلزامه بالاحتیاط فی مقابل إلزامه بالاحتیاط حتّی یدرک الأغراض اللّزومیة، هذا الغرض کما یتحقق بترخیصین مشروطین یتحقق أیضاً بالترخیص المتعلّق بالجامع، فهو أیضاً یحقق هذا الغرض، یعنی عندما یقال للمکلّف أنت مُخیّر فی ترک أحد الطرفین وفعل الآخر، تعلّق الترخیص بالجامع، أنت مرخّص بین الطرفین، أنت مخیّر بین أن تترک هذا الطرف أو تترک هذا الطرف، یکون قد أطلق العنان للمکلّف وتحقق الغرض، الغرض هو بهذا المقدار، الأغراض الترخیصیة فی محل کلامنا مقدّمة علی الأغراض اللّزومیة فی مرحلة الموافقة القطعیة فقط، فی مرحلة المخالفة القطعیة بالعکس کما هو المفروض أنّ الأغراض اللّزومیة تتقدّم علی الأغراض الترخیصیة؛ ولذا لم یجوّز للمکلّف فی أن یخالف قطعاً، فی أن یرتکب کلا الطرفین، لکن هل یجب علیه أن یترک کلا الطرفین ؟ کلا، هنا جاء الغرض الترخیصی وقال هنا توجد مفسدة فی إلزام المکلّف بترک کلا الطرفین فی الشبهة التحریمیة، وهناک مصلحة تقتضی إطلاق العنان للمکلّف، هذه المصلحة، عدم إلزام المکلّف بالاحتیاط وإطلاق العنان له فی مرحلة الموافقة القطعیة لا تتوقّف علی افتراض ترخیصین مشروطین؛ بل یکفی لتحقیق ذلک الترخیص فی الجامع أن یرخّص له فی فعل أحد الطرفین، وبذلک یطلق العنان للمکلّف ولا یوقعه فی مفسدة الاحتیاط إذا کان فیه مفسدة، لا یوقعه فی ذلک ویطلق العنان له وتحقق غرض الشارع وهو ترجیح الأغراض الترخیصیة علی الأغراض اللّزومیة، إذن: المدلول التصدیقی الحکائی الالتزامی لدلیل الأصل العملی الذی هو الدلیل علی الترخیص فی محل الکلام لا یتوقّف علی افتراض ترخیصین مشروطین حتّی نبقی نصرّ علی الترخیصین المشروطین ونقول هذا محال علی ضوء المبنی الذی نختاره فی الأحکام الظاهریة والانتقال منه إلی الترخیص بالجامع، هذه طفرة تحتاج إلی مؤنة إثباتیة، نقول لا تحتاج إلی مؤنة إثباتیة؛ لأنّ دلیل الأصل العملی یدلّ علی ثبوت الترخیص فی کلٍ من الطرفین، لکن جریانه مطلقاً فی کلٍ من الطرفین محال، وجریانه مقیّداً فی کلٍ من الطرفین أیضاً محال بناءً علی هذا المبنی؛ لأنّه لا ینسجم مع الترخیص کحکم ظاهری کما فرض، هذا بنفسه یُشکّل قرینة علی توجّه الترخیص إلی الجامع، فیکون قد رخّص فی الجامع ولم یقع فی کلٍ من المحذورین، لا المحذور الأوّل؛ لأنّه لم یُرخّص فی الطرفین مطلقاً، ولا المحذور الثانی؛ لأنّه لم نجعل الترخیص معلّقاً ومنوطاً ومشروطاً بفعل المکلّف، أو ترکه، وإنّما تعلّق الترخیص بالجامع، هذا لا یحتاج إلی مؤنة إثباتیة أزید ممّا فُرض وجوده، دلیل یدلّ علی ثبوت الترخیص فی کل من الطرفین، والالتزام بهذا محال، والالتزام به مقیّداً أیضاً محال، وهذا بنفسه یشکّل قرینة علی توجّه الترخیص نحو الجامع؛ وحینئذٍ یمکن الالتزام بالترخیص فی الجامع، وهذا وإن لم یکن هو نفس التقریب الذی بُیّن فی شبهة التخییر، لکنّه یؤدی أیضاً إلی نفس النتیجة وهو التخییر، أنّ المکلّف یکون مُخیّراً فی ترک أحد الطرفین وفعل الآخر؛ لأنّ هذا التخییر لا یُفرّق فیه بین أن یکون هناک ترخیصان مشروطان فی الطرفین، أو یکون هناک ترخیص فی الجامع، کل منهما یؤدی إلی التخییر، کل منهما یؤدی إلی تجویز المخالفة الاحتمالیة، فتبقی شبهة التخییر علی حالها، نعم بصیغةٍ أخری غیر الصیغة المطروحة فی أصل الشبهة، الصیغة المطروحة فی أصل الشبهة هی عبارة عن ترخیصین مشروطین فی الطرفین، نقول إذا کان هذا محالاً بناءً علی هذا التفسیر؛ حینئذٍ صیغة أخری، وهذه لا تحتاج إلی مؤنةٍ إثباتیةٍ زائدةٍ وهی الالتزام بأنّ هناک ترخیصاً فی الجامع؛ لأنّ هذا هو الذی یحقق الغرض، تحقیق الغرض من الترخیص لا یتوقّف علی افتراض ترخیصین مشروطین فی الطرفین؛ إذ یکفی فی ذلک کما هو واضح ترخیص فی الجامع، فتبقی شبهة التخییر علی حالها.

ص: 711

هذه هی أهم الأجوبة التی ذُکرت عن شبهة التخییر وإلی هنا لم یتم جواب من هذه الأجوبة المتقدّمة؛ حینئذٍ إمّا أن نلتزم بمسلک العلّیة فی وجوب الموافقة القطعیة کما اختاره المحقق العراقی(قدّس سرّه) وغیره؛ وحینئذٍ تنتفی هذه الشبهة، بمعنی أن نلتزم بأنّ العلم الإجمالی علّة لوجوب الموافقة القطعیة وعلّة لحرمة المخالفة القطعیة؛ فلا تبقی شبهة التخییر؛ لأنّ العلم الإجمالی حینئذٍ یمنع من التخییر، ویمنع من إجراء الأصل فی بعض الأطراف کما یمنع من إجراء الأصل فی کلٍ من الطرفین، فترتفع الشبهة.

وإمّا أن لا نلتزم بالعلّیة، وإنّما نلتزم بالاقتضاء کما هو الصحیح علی ما تقدّم، لکن نلتزم بوجود محذورٍ إثباتی یمنع من إجراء الأصل فی أطراف العلم الإجمالی، علی هذا التقدیر؛ حینئذٍ لا تجری الشبهة؛ لأنّ الأصل لیس قابلاً لأن یجری فی أطراف العلم الإجمالی، حیث هناک قصور فی مقام الإثبات فی دلیل الأصل عن الشمول لأطراف العلم الإجمالی، فلا شبهة حینئذٍ؛ لأنّ الشبهة مبنیّة علی افتراض جریان الأصل فی کلا الطرفین، یجری الأصل فی کلٍ من الطرفین، فیقع التعارض بین جریان الأصل فی هذا الطرف وبین جریان الأصل فی هذا الطرف، فیقع التعارض؛ لأنّ جریان الأصل فی کلٍ من الطرفین مستحیل؛ لاستلزامه الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذه الاستحالة توقع التعارض فی دلیل الأصل بین أن یشمل هذا الطرف وبین أن یشمل ذاک الطرف، فیتعارضان، ولا مرجّح، فیتساقطان، فتجری الشبهة، الشبهة تقول لا داعی للتساقط؛ بل یجری الأصل فی کلٍ من الطرفین، لکن بنحوٍ مشروط، وهذا ینتج التخییر، فتجری شبهة التخییر.

أمّا إذا قلنا أنّ الأصل قاصر أساساً عن الجریان فی أطراف العلم الإجمالی، أصلاً لا یجری فی هذا الطرف ولا فی ذاک الطرف، فحینئذٍ تنتفی شبهة التخییر أساساً؛ حینئذٍ إذا آمنا بأنّ هناک مانعاً إثباتیاً یمنع من شمول الأصل لأطراف العلم الإجمالی أیضاً ترتفع شبهة التخییر. أمّا إذا آمنا بمسلک الاقتضاء وآمنا بعدم وجود مانع حتّی إثباتی، فضلاً عن الثبوتی یمنع من جریان الأصل فی أطراف العلم الإجمالی؛ حینئذٍ تستحکم الشبهة؛ حینئذٍ یأتی المحقق النائینی والسید الخوئی(قدّس سرّهما) ویقولان بأنّ الأصل یجری فی الطرفین، وتحصل حالة التعارض والتساقط، فتجری شبهة التخییر.

ص: 712

إذا وصلنا إلی هذه النتیجة؛ حینئذٍ یتعیّن أن نجیب عن هذه الشبهة بجوابٍ آخر وهو أن نفتّش فی الأدلّة وفی الروایات عن بعض الروایات التی لا تجوّز لنا ذلک، یعنی لا تجوّز لنا ارتکاب بعض أطراف الشبهة؛ بل ظاهرها وجوب الموافقة القطعیة، وتکون دالّة علی وجوب الموافقة القطعیة فی الشبهات المحصورة، وهناک بعض الروایات الدالّة علی ذلک کما ورد فی مسألة إذا علم نجاسة أحد الماءین، الإمام(علیه السلام) یقول له:(یهریقهما جمیعاً ویتیممّ). (1) هذا واضح فی أنّه لا یجوز ارتکاب بعض أطراف الشبهة اعتماداً علی الأصل المؤمّن، وإلاّ لو کان یمکن إجراء الأصل والبناء علی طهارة أحد الإناءین؛ حینئذٍ لما کانت هناک حالة انتقال إلی التیممّ؛ لأنّه یکون متمکنّاً من الماء ولا تنتقل وظیفته إلی التیممّ، ونفس الکلام ورد فی باب الأغنام التی یُعلم بأنّ بعضها موطوء، نهاه الإمام(علیه السلام) عن أکل جمیع الأطراف، یعنی أوجب علیه الموافقة القطعیة، بینما لو کنّا قائلین بالتخییر لجاز له أکل بعض الغنم، أو أکل واحدٍ منها علی الأقل، بینما هو أمره بترک واجتناب کل أطراف الشبهة، وهذا معناه أنّ هذه الروایات تدلّ علی أنّه فی موارد العلم الإجمالی فی الشبهات المحصورة تجب الموافقة القطعیة ولا تجوز المخالفة الاحتمالیة، بینما التخییر یقتضی تجویز المخالفة الاحتمالیة، هذه الروایات تمنع من ذلک، لو جازت المخالفة الاحتمالیة لجاز أکل بعض الغنم، ولجاز استعمال أحد الإناءین ولا تنتقل وظیفته إلی التیمم، إذا تمّت هذه الروایات سنداً ودلالة، ونحتاج أیضاً إلی مرحلةٍ ثانیةٍ وهی أن نتعدّی من هذه الروایات إلی کل شبهةٍ محصورةٍ بأن نلغی احتمال خصوصیة هذین الموردین ولا نحتمل وجود خصوصیة لهما، وإنّما المسألة مسألة علم إجمالی وشبهة محصورة، والإمام(علیه السلام) یوجب علی المکلّف الموافقة القطعیة وینهاه عن المخالفة الاحتمالیة فی کل شبهةٍ محصورةٍ فی باب العلم الإجمالی، إذا استطعنا أن نلغی خصوصیة هذین الموردین وننتزع کبری کلّیة مفادها وجوب الموافقة القطعیة وعدم جواز المخالفة الاحتمالیة فی کل شبهةٍ محصورةٍ من موارد العلم الإجمالی؛ حینئذٍ یکون هذا نافعاً فی محل الکلام بأن نلتزم عملاً بهذه الروایات بعدم جواز المخالفة الاحتمالیة فی کل شبهةٍ محصورةٍ فی کل علمٍ إجمالی.

ص: 713


1- وسائل الشیعة(آل البیت)، الحر العاملی، ج 1، ص 151، باب 8 من أبواب الماء المطلق، ح 2.

هذه حلول ثلاثة:

الحلّ الأوّل: تقدّم سابقاً أنّه غیر تام؛ لأنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة.

الحل الثانی: وهو أن یقال بأنّ هناک مانعاً إثباتیاً یمنع من شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالی، لیس هناک مانع ثبوتی؛ ولذا قلنا بالاقتضاء ولم نقل بالعلّیة، لکن هناک مانعاً إثباتیاً یمنع من شمول أدلّة الأصول العملیة لأطراف العلم الإجمالی، هذا المانع الإثباتی الذی یمنع من الشمول بیّناه سابقاً بتقریب: أنّ أدلّة الترخیص والإباحة التی هی أدلّتنا فی محل الکلام یُفهم منها الترخیص والتأمین، لکن یُفهم منها التأمین عُبّر عنه بالتأمین الحیثی والترخیص الحیثی، یعنی التأمین من ناحیة کون هذا مشکوک الحرمة لا التأمین من جمیع الجهات والحیثیات، لا یُفهم منها هذا المقدار، وهذا لیس مختصّاً بأدلّة الترخیص فی محل الکلام؛ بل یدّعی حتّی فی أدلّة الترخیص فی الحکم الواقعی، أیضاً لا یُفهم منها إلاّ الترخیص الحیثی ومُثّل لذلک بمسألة(الجبن حلال) لو دلّ دلیل علی أنّ الجبن حلال، لا یُفهم منه أکثر من أنّ الجبن من حیث کونه جبناً حلال؛ ولذا لا یرون حصول تعارض بینه وبین ما دلّ علی حرمة الغصب وحرمة استعمال ما هو مغصوب فیما لو کان هذا الجبن مغصوباً، لا تعارض بینهما؛ لأنّ دلیل(الجبن حلال) یثبت الحلّیة للجبن بما هو جبن ولیس من جمیع الجهات والحیثیات حتّی یعارض الدلیل الدال علی الحرمة من جهة الغصبیة، لیس هناک تعارض بینهما، فیؤخذ بکلٍ منهما، هذا لا ینافی ذاک إطلاقاً، لو کان دلیل(الجبن حلال) یُفهم منه حلّیة الجبن من جمیع الجهات والحیثیات لکان معارضاً لتحریم الجبن باعتباره مغصوباً، بینما لا یُری وجود تعارض بین هذین الدلیلین بنحوٍ لابدّ من إعمال قواعد باب التعارض بین هذین الدلیلین. نفس هذا الکلام یُقال فی أدلّة الترخیص والبراءة، الترخیص الثابت بأدلّة الأصول العملیة المؤمّنة ترخیص حیثی(رُفع ما لا یعلمون) ترخیص فی ما لا یعلمون من حیث کونه لا یعلمون، من حیث کونه مشکوک الحرمة، هناک تأمین فی هذا الطرف من حیث کونه مشکوک الحرمة ولیس تأمیناً فی هذا الطرف من جمیع الجهات والحیثیات، هو یؤمّن فی هذا الطرف من حیث کونه مشکوک الحرمة، وهذا لا ینافی أن یکون هذا الطرف لا تأمین فیه من حیث کونه طرفاً لعلمٍ إجمالی، هذا الطرف من حیث کونه مشکوک الحرمة أدلّة الأصول تدلّ علی التأمین من جهته، لکن من حیث کونه طرفاً لعلمٍ إجمالی أدلّة الأصول لا تدل علی التأمین من هذه الجهة، أصلاً لا تؤمّن من هذه الجهة، وهذه الجهة هی التی نرید إثباتها فی محل الکلام، نحن نرید أن نثبت ترخیصاً فی هذا الطرف باعتبار کونه طرفاً لعلمٍ إجمالی تمسّکاً بأدلّة الأصول، أدلّة الأصول عاجزة عن إثبات التأمین والترخیص فی هذا الطرف باعتباره طرفاً لعلمٍ إجمالی، وإنّما هی تثبت التأمین والترخیص فیه من حیث کونه لا یُعلَم حُکمه، من حیث کونه مشکوک التحریم لا من جمیع الجهات. وعلیه: دلیل الترخیص یکون قاصراً عن الشمول لأطراف العلم الإجمالی.

ص: 714

ویُذکر کشاهدٍ علی ذلک أنّ أدلّة الأصول العملیة لا تختصّ بموارد العلم الإجمالی، أدلّة الأصول العملیة کما تشمل موارد العلم الإجمالی تشمل أیضاً الشبهات البدویة، وعمدتها هی الشبهات البدویة، فإذن: لا مانع من أن تکون هذه الأدلّة ناظرة إلی حیثیة کون هذا الطرف طرفاً لعلمٍ إجمالی، هی لا تختص به؛ بل تشمل جمیع الموارد حتّی التی فی الشبهات غیر المقرونة بالعلم الإجمالی، فإذن: لا یمکن أن نقول أنّ هذه الأدلّة عندما تثبت الحلّیة ناظرة إلی کون الفرد وما تشمله طرفاً لعلمٍ إجمالی؛ لأنّ لازم هذا هو أنّها تکون ناظرة إلی موارد العلم الإجمالی ومختصّة بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی، بینما هی غیر مختصّة بذلک، فهی کما تشمل ذلک تشمل ------------ کما یُدّعی ------------ الشبهات البدویة.

فإذن: لا معنی لأن نقول هی ناظرة إلی الترخیص وجعل الترخیص بلحاظ کون ما تشمله طرفاً للعلم الإجمالی، وإنّما هی ناظرة إلی إثبات الترخیص فی ما تجری فیه بلحاظ کونه مشکوک الحرمة، وبلحاظ کونه لا یُعلم حکمه، من دون فرقٍ بین الشبهات البدویة وبین الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

ذکرنا فی الدرس السابق أنّه لابدّ من اختیار أحد أمور لتجاوز شبهة التخییر فی محل الکلام.

الأمر الثانی کان هو ما ذکرناه من أنّه یُلتزم بالاقتضاء، لکن مع الالتزام بمنع شمول أدلّة الأصول لأطراف العلم الإجمالی علی أساس وجود محذور إثباتی، وقلنا أنّه من قبیل أن یقال أنّ الترخیص المستفاد من أدلّة الأصل العملی المؤمّن هو ترخیص حیثی، ترخیص یثبت لهذا الطرف من حیث کونه مشکوک الحکم وهذا لا ینافی عدم التأمین وعدم الترخیص من حیث کونه طرفاً لعلمٍ إجمالی، وهذا معناه أنّ دلیل الأصل لا ینفع للتأمین فی محل الکلام؛ لأننا لا نرید أن نؤمّن من ارتکاب هذا الطرف من حیث کونه مشکوک الحکم، وإنّما نرید أن نؤمّن من ارتکاب هذا الطرف من حیث کونه طرفاً للعلم الإجمالی، والأصل لا ینفع لذلک؛ لأنّ الأصل یثبت الترخیص من حیث کونه مشکوک التکلیف فقط، هذا باعتبار أنّک تشک فی حرمته هناک تأمین من ناحیة کونه مشکوکاً فی حرمته، أمّا من ناحیة کونه طرفاً لعلم إجمالی بالتکلیف المنجّز فالأصل لیس فیه قابلیة التأمین من ناحیته، فنمنع من شمول الأصل لأطراف العلم الإجمالی، وبهذا ترتفع الشبهة؛ لأنّ الشبهة مبنیة علی جریان الأصول فی الطرفین وعدم إمکان الالتزام بجریان الأصول فی الطرفین مطلقاً؛ لأنّه یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة فیُصار إلی التقیید، یعنی جریان الأصل فی الطرفین مع تقیید کل واحدٍ منهما بعدم ارتکاب الطرف الآخر، فیؤدی إلی التخییر وتجویز المخالفة الاحتمالیة. أمّا إذا قلنا بأنّ المحذور لیس هذا، وأننا نمنع من جریان الأصل فی الطرفین لوجود محذور إثباتی؛ فحینئذٍ ترتفع هذه الشبهة.

ص: 715

هنا قد یقال: أنّ حمل الترخیص علی الترخیص الحیثی، وحمل دلیل الأصل علی أنّه فی مقام جعل التأمین الحیثی، یعنی من حیث کون هذا مشکوک التکلیف لا مطلقاً هو خلاف الظاهر؛ لأنّ الظاهر من دلیل الترخیص فی المقام وفی غیر المقام، حتّی فی مسألة(الجبن حلال)، فی محل الکلام وفی غیره، الظاهر منه هو الترخیص الفعلی، بمعنی أنّ الدلیل یثبت التأمین والترخیص الفعلیین، وأنّه عندما یجری فی الطرف یثبت الترخیص الفعلی والتأمین الفعلی فی هذا الطرف وفی ذاک الطرف، فإذا کان الترخیص فعلیاً فی هذا الطرف عندما یجری فیه الأصل، فهذا معناه ثبوت الترخیص من جمیع الجهات لا من حیث کونه فقط مشکوک التکلیف؛ لأنّ الترخیص الجهتی کأنّه ینافی الترخیص الفعلی، الترخیص الفعلی یقتضی أن یکون هذا الطرف الذی یجری فیه الأصل ویثبت فیه الترخیص والتأمین یقتضی أن یکون مرخّصاً فیه فعلاً، بینما إذا قلنا أنّه لا یکون مرخّصاً فیه من حیث کونه طرفاً للعلم الإجمالی کأنّه هذا ینافی الترخیص الفعلی فی هذا الطرف، أو ذاک الطرف، فیکون حمل الترخیص والتأمین علی التأمین والترخیص الحیثیین خلاف الظاهر، فلا یُصار إلیه .

أقول: هذا یمکن دفعه أیضاً، بأن الترخیص الفعلی لا ینافی عدم الترخیص من حیثیة أخری؛ لأننا نقول أنّ الترخیص الفعلی ثابت، لکن من هذه الحیثیة، من هذه الحیثیة یکون الترخیص فعلیاً، من حیث کونه مشکوک التکلیف یکون الترخیص فعلیاً، وهذا لا ینافی کونه غیر مرخّصٍ فیه من حیث کونه طرفاً للعلم الإجمالی، لیس هناک منافاة بین الترخیص الفعلی من هذه الحیثیة وبین عدم التأمین وعدم الترخیص من حیثیة أخری وهی حیثیة کونه طرفاً فی العلم الإجمالی. إذا أخترنا هذا؛ حینئذٍ أیضاً تندفع الشبهة، وإلاّ حینئذٍ لابدّ من اختیار الوجه الثالث الذی ذکرناه، والظاهر أنّ الروایات الخاصّة الدالّة علی المنع من ارتکاب أطراف الشبهة، الدالة علی وجوب الموافقة القطعیة، وعدم الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، الظاهر أنّها تامّة سنداً وتامّة دلالة؛ فحینئذٍ هذه قد تمنع من الالتزام بالتخییر وتجویز المخالفة الاحتمالیة؛ لأنّها أدلّة تامّة سنداً وتامّة دلالة، وتدل علی عدم التخییر وعدم جواز المخالفة الاحتمالیة فی موارد العلم الإجمالی فی الشبهات المحصورة. بالنتیجة نصل إلی نفس النتیجة التی اتفقوا علیها وهی عدم جواز المخالفة الاحتمالیة؛ بل تجب الموافقة القطعیة، بالرغم من الالتزام بمسلک الاقتضاء فی محل الکلام.

ص: 716

هناک تقریب آخر لشبهة التخییر غیر ما طرحه المحقق العراقی(قدّس سرّه)، (1) هذا التقریب هل یثبت التخییر، أو لیس له القابلیة لإثبات التخییر فی محل الکلام ؟ هذا التقریب هو أن یقال: أنّ الأصل یجری فی کلٍ من الطرفین، وعندما یجری الأصل فی هذا الطرف یکون غرضه هو التأمین من ناحیة ارتکاب هذا الطرف بالخصوص، کما أنّه یجری فی الطرف الآخر لغرض التأمین من ناحیة ارتکاب الطرف الثانی بالخصوص ولا نحتاج إلی تقیید هذا الترخیص الثابت فی کلٍ من الطرفین بخصوصه؛ بل نجریه مطلقاً، فلا نرتکب التقیید الذی فیه محاذیر سابقة، کلا نحن لابدّ أن نجری الأصل فی هذا الطرف بخصوصه مطلقاً، وفی هذا الطرف بخصوصه مطلقاً ولا یلزم من ذلک الترخیص فی المخالفة القطعیة، باعتبار أنّ الترخیص فی هذا الطرف بخصوصه وفی ذاک الطرف بخصوصه، باعتبار أنّ کل واحدٍ منهما بخصوصه ممّا یُشک فی حکمه وفی حرمته لا ینافی لزوم الإتیان بالجامع وبأحد الفردین، لیس هناک منافاة بینهما، باعتبار أنّ أحّد الفردین ممّا یُعلّم بتعلّق التکلیف به علماً إجمالیاً، لکن لا منافاة بین إجراء الترخیص فی هذا الطرف بخصوصه بلا تقیید وفی هذا الطرف بخصوصه أیضاً بلا تقیید، لا منافاة بین هذین الترخیصین المطلقین فی الفردین وبین الإلزام بالجامع، أی الإلزام بالإتیان بأحد الفردین، لا منافاة بینهما، إلزام بالجامع، لکن ترخیص فی کل طرفٍ بخصوصه، فالأصل یجری فی هذا الطرف بخصوصه ویجری فی ذاک الطرف بخصوصه بلا حاجة إلی التقیید ولیس فی ذلک مخالفة لعلمنا الإجمالی بلزوم الإتیان بأحد الطرفین، یعنی أنّ هذا لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لأنّه لا ینافی الالتزام بالعلم الإجمالی ولزوم الإتیان بأحد الطرفین، ویقال أنّ هذا نظیر التخییرات الواقعیة فی مثل خصال الکفارة -------------- مثلاً -------------- أیّ ضیرٍ فی أن یُلتزم بثبوت الترخیص فی کل فرد من أفراد هذه الکفارة وفی کل خصلة من خصال هذه الکفارة، وفی نفس الوقت یُلتزم بوجوب الإتیان بالجامع، بوجوب الإتیان بواحدٍ من هذه الخصال ؟ لزوم الجامع یجتمع مع الترخیص فی کل خصلة من الخصال، هذا العتق تعلّق به الترخیص فی الترک، وصوم شهرین متتابعین تعلّق به الترخیص فی الترک، وفی نفس الوقت نعلم بلزوم الإتیان بالجامع ولزوم الإتیان بواحدٍ من الخصال الثلاثة. ما نحن فیه من هذا القبیل، یُلتزم بلزوم الإتیان بالجامع عملاً بالعلم الإجمالی؛ لأننا نعلم بالعلم الإجمالی بثبوت التکلیف، لکن هذا لا ینافی ثبوت الترخیص فی هذا الطرف بخصوصه وثبوت الترخیص لذاک الطرف بخصوصه، وهذا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، فوصلنا إلی شبهة التخییر من دون أن نلتزم بالتقریب المذکور فی الشبهة وهو تقیید إطلاق الترخیص فی کلٍ منهما بعدم الإتیان بالطرف الآخر، لا نلتزم بهذا التقیید، وإنّما نقول أنّ الأصل یجری فی هذا الطرف بخصوصه ویجری فی ذاک الطرف بخصوصه ولا محذور فی ذلک، هذا لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة.

ص: 717


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج 4، ص 98.

نعم، کما فی خصال الکفارة إذا ترک کل الخصال، یعنی جمع بین الترخیصات؛ حینئذٍ یقع فی المخالفة القطعیة، لکن جریان الترخیص فی هذا الطرف بخصوصه لا ینافی العلم الإجمالی بلزوم الإتیان بإحدی الخصال، وهکذا الأصل فی الطرف الآخر، فلیجری الأصل فی کلٍ من الطرفین مطلقاً، وغیر مقیّد، غایة الأمر أنّ المکلّف إذا أعمل کلا الترخیصین وترک کلا الطرفین یقع فی محذور المخالفة القطعیة، هذا نرفع الید عنه، لکن بالنتیجة یجوز له ارتکاب أحد الطرفین وهذا ترخیص فی المخالفة الاحتمالیة وهو معنی التخییر، لکن بتقریب آخر غیر التقریب المتقدّم.

قد تُطرح شبهة التخییر بهذا البیان، لکن بهذا الشکل الذی ذُکر، الإشکال علیه واضح، باعتبار أننا نسأل أنّ هذا الترخیص الذی یُراد إثباته فی کلٍ من طرفی العلم الإجمالی لا یخلو إمّا أن یکون مطلقاً، وإمّا أن یکون مقیّداً. إمّا أن یکون مطلقاً من ناحیة فعل الآخر وترکه، وإمّا أن یکون مقیّداً بترک الآخر فی الشبهة التحریمیة، أو مقیّداً بفعل الآخر فی الشبهة الوجوبیة، فإذا کان مقیّداً رجعنا إلی نفس التقریب المذکور فی نفس الشبهة، هذا لیس تقریباً آخر؛ لأننا قیّدنا الترخیص فی کلٍ من الطرفین بترک الطرف الآخر. وأمّا إذا کان مطلقاً کما هو المفروض فی هذا التقریب حتّی یکون تقریباً آخراً غیر التقریب المذکور فی أصل الشبهة، لابدّ من افتراض أنّ الأصل یجری فیه مطلقاً ویثبت الترخیص فیه مطلقاً لا مقیّداً بترک الآخر، أو فعله. وأمّا إذا کان مطلقاً؛ فحینئذٍ من قال أنه لا ینافی الترخیصین فی الطرفین مع فرض إطلاقهما ؟ کیف لا یکون هذا منافیاً للإلزام بالجامع ؟ کیف لا یکون منافیاً للعلم الإجمالی بثبوت التکلیف فی أحد الطرفین وأنّه لابد علی المکلّف أن یأتی بأحدهما، أو یترک أحدهما علی اختلاف الشبهات ؟ المنافاة ثابتة فی محل الکلام؛ بل الذی یُفهم عرفاً من ترخیصین مطلقین فی الطرفین هو أنّه ترخیص فی ترک الجامع، ترخیص مطلق فی هذا وترخیص مطلق فی هذا، الذی یُفهم من هذین الترخیصین المطلقین فی الطرفین هو أنّ هذا ترخیص فی الجامع، فیکون منافیاً للإلزام بالجامع، فکیف یقال بأنّ الترخیصین المطلقین فی محل الکلام لا یکون منافیاً للجامع المعلوم بالإجمال، وللإلزام بأحد الطرفین ؟ هو یُرخّص فی هذا مطلقاً وفی هذا مطلقاً، وهذا یکون منافیاً للإلزام بأحد الطرفین والإلزام بالجامع، فالمنافاة متحققة ولا یمکن إنکار هذه المنافاة، فإذا کانت المنافاة متحققة؛ حینئذٍ یأتی الکلام السابق من أنّه لا یمکن الالتزام بجریان الأصل فی کلٍ من الطرفین مطلقاً؛ بل لابدّ من تقییده وإذا وصلنا إلی التقیید؛ حینئذٍ نرجع إلی التقریب السابق المتقدّم فی أصل الشبهة، والجواب عنها هو ما تقدّم سابقاً، فلا یکون هذا تقریباً آخراً فی قباله، ونفس الکلام یقال فی خصال الکفارة، المثال الذی ذُکر فی أصل التقریب، الإلزام المذکور فی خصال الکفارة المتعلّق بالجامع بین هذه الخصال الثلاثة، مرّة نفترض أنّ هذا الإلزام یسری من الجامع إلی الأفراد، فیکون هناک إلزام بالعتق، لکنّه إلزام فیه شائبة الترخیص، یعنی إلزام به لا یجوز ترکه إلاّ إلی بدل، إلزام من هذا القبیل، إلزام مشوب بالترک لکن إلی بدله، إلی الخصلة الأخری من خصال الکفارة، وهکذا الطرف الآخر أیضاً إلزام یسری إلی الجامع لکن بهذا النحو، إذا فرضنا ذلک فی خصال الکفارة؛ حینئذٍ تکون المنافاة جدّاً واضحة بین هذه الترخیصات الموجودة المفروضة فی المقام فی الأفراد وبین الإلزام المتعلّق بالجامع والساری إلی هذا الطرف، هناک منافاة واضحة بینهما؛ لأنّ مقتضی الإلزام الساری من الجامع إلی الفرد ----------- فرضاً الإلزام الساری إلی العتق ------------ هو عدم جواز ترکه إذا ترکت الخصال الأخری، إلزام بالعتق فی حالة ترک الخصال الأخری، بینما مقتضی الترخیص المقترح فی المقام الذی یجری فی العتق أنّ الترخیص فیه مطلقاً هو عدم الإلزام بالعتق حتّی فی حالة ترک الخصال الأخری، بینهما منافاة، فکیف یقال بعدم وجود منافاة بینهما ؟ إذا سری الإلزام من الجامع إلی هذه الخصلة ولو کان إلزاماً مشوباً بجواز الترک إلی بدل، هذا معناه أنّه فی حالة عدم الإتیان بالبدل هو ملزم بالإتیان بالعتق، فکیف یجتمع هذا مع الترخیص فی ترک العتق مطلقاً حتی فی حالة ترک سائر الخصال، فالمنافاة تکون حینئذٍ منافاة واضحة بینهما، هذا إذا قلنا بالسریان إلی الأفراد. أمّا إذا لم نقل بالسریان إلی الأفراد وأنّ الإلزام یتعلّق بالجامع، فالمنافاة أیضاً ثابتة؛ لما قلناه قبل قلیل من أنّ الذی یُستفاد من جعل ترخیصین فی هذه الخصال فی الأفراد، أو ترخیصات ثلاثة فی الأطراف مطلقة من حیث فعل الآخر وترکه، الذی یُفهم منها کما قلنا هو الترخیص فی ترک الجامع، یعنی لیس هناک إلزام بالجامع، ولیس هناک إلزام بالإتیان بإحدی هذه الخصال؛ لأنّ الترخیص فی العتق مطلق والترخیص فی الإطعام مطلق والترخیص فی صیام شهرین متتابعین أیضاً مطلق، وهذا الترخیص المطلق فی الخصال أیضاً ینافی الإلزام بالجامع ولا یمکن المصیر إلیه؛ بل لابدّ من التقیید، فی محل الکلام، فإذا التزمنا بالتقیید؛ حینئذٍ یرجع إلی التقریب السابق ولا یکون هذا تقریباً فی مقابله؛ بل هو عبارة عن نفس ما تقدّم سابقاً.

ص: 718

الذی یتبیّن من جمیع ما ذکرناه هو أنّه فی موارد الشک فی المکلّف به مع العلم الإجمالی بالتکلیف الذی هو محل الکلام تجب الموافقة القطعیة، فضلاً عن حرمة المخالفة القطعیة، والظاهر أنّ هذا ممّا اتفق علیه الکل ولم یخالف أحد فی ثبوت هذین الأمرین فی الشبهات المحصورة من موارد العلم الإجمالی، أنّه تحرم المخالفة القطعیة وتجب الموافقة القطعیة.

نعم، اختلفوا فی أنّ حرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة الذی یعنی أنّ الأصل لا یجری فی جمیع الأطراف ولا یجری فی بعض الأطراف، اختلفوا فی أنّ المانع من إجراء الأصل ما هو ؟ هنا یقع الاختلاف، والکل یسلّمون بأنّ الأصل لا یجری فی جمیع الأطراف، فتحرم المخالفة القطعیة ولا یجری فی بعض الأطراف، فتجب الموافقة القطعیة، لکن لماذا لا یجری الأصل فی جمیع الأطراف ؟ ولماذا لا یجری فی بعض الأطراف ؟ هذا اختلفوا فیه، هناک من یری بأنّ المانع من جریان الأصل فی جمیع الأطراف وفی بعضها مانع ثبوتی، هناک مانع عقلی یلزم من جریان الأصل فی جمیع الأطراف؛ بل فی بعض الأطراف کالمحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ ولذا اختار أنّ العلم الإجمالی علّة تامة لحرمة المخالفة القطعیة کما هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، الآخرون بعّضوا بینهما، فالتزموا بأنّ المانع من جریان الأصل فی جمیع الأطراف مانع ثبوتی، یعنی هناک مانع عقلی یمنع من جریان الأصل فی جمیع الأطراف، لکنّ المحذور من جریان الأصل فی بعض الأطراف لیس محذوراً ثبوتیاً، وإنّما هو محذور إثباتی، أو ما یشبهه؛ ولذا فرّقوا بین حرمة المخالفة القطعیة، فالتزموا بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعیة، وبین وجوب الموافقة القطعیة، فالتزموا بأنّ العلم الإجمالی لیس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وإنّما فقط هو مقتضٍ یقتضی وجوب الموافقة القطعیة، اختلفوا فی ذلک.

ص: 719

نعم، الذی یُخالف فی ذلک، یعنی یخالف کلا الفریقین فی ذلک ویری بأنّ المانع فی کلٍ منهما مانع إثباتی، یعنی تمامّاً عکس ما یقوله المحقق العراقی(قدّس سرّه) الذی یری أنّ المانع فی کلٍ منهما مانع ثبوتی والمحذور محذور عقلی، الذی خالف فی ذلک هو السید الشهید(قدّس سرّه) فیما نعلم، فهو یری أنّ المانع إثباتی فی کلٍ منهما حتّی فی حرمة المخالفة القطعیة؛ (1) لعدم وجود محذور عقلی من جریان الأصل فی جمیع أطراف العلم الإجمالی، وإنّما المحذور إثباتی، ویقول أنّ ارتکاز العقلاء لا یساعد علی ذلک، فهو یری أنّ المانع إثباتی فی کلٍ منهما علی عکس الآخرین الذین یرون أنّ المانع ثبوتی إمّا مطلقاً، أو علی الأقل بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة.

ذکر السید الشید(قدّس سرّه) بعض الثمرات التی تترتب علی هذین المسلکین، المسلک الذی یقول أنّ المانع ثبوتی والمسلک الذی یقول أنّ المانع إثباتی، ذکر بعض الثمرات المهمّة:

منها: (2) ما إذا ورد دلیل تام سنداً ودلالة یدل علی الترخیص فی المخالفة القطعیة فی موردٍ خاص کما یُدّعی فی بعض الموارد من قبیل جوائز السلطان حیث ذکر الشیخ فی کلامٍ له أنّ هناک أدلّة ظاهرها الترخیص فی المخالفة القطعیة، فهنا تظهر الثمرة، بناءً علی أنّ المانع ثبوتی کما یراه الجماعة کلّهم، علی الأقل بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ لابدّ من طرح الروایة، أو تأویلها؛ إذ لا یمکن الأخذ بظاهرها لوجود مانعٍ عقلی یمنع من الترخیص فی المخالفة القطعیة، المانع الثبوتی یعنی استحالة الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ أی دلیل یدل علی الترخیص المحال بحسب الفرض لا یمکن الأخذ به مهمّا کان هذا الدلیل، سواء کان هذا الدلیل أصل عملی، أو روایة خاصّة تدل علی الترخیص فی المخالفة القطعیة، لا یمکن الأخذ بهذه الروایة والالتزام بها؛ لوجود محذور عقلی یمنع من الترخیص فی المخالفة القطعیة. وأمّا إذا کان المحذور إثباتی کما هو یری، أنّ المحذور حتّی بالنسبة إلی حرمة المخالفة القطعیة هو محذور إثباتی، بناءً علی هذا؛ حینئذٍ لا مانع من الأخذ بظاهر هذه الروایة والالتزام بالترخیص فی المخالفة؛ بل لعلّه یتعیّن ذلک، یجب العمل بهذه الروایة بعد فرض أنّها تامّة سنداً ودلالة، وذلک باعتبار أنّ المحذور الإثباتی یعنی أنّه لا دلیل علی الترخیص فی هذا المورد، هناک محذور وقصور من ناحیة الدلیل من أن یثبت الترخیص فی الطرفین، وإلاّ هو فی حدّ نفسه لا مشکلة فیه، الترخیص فی الطرفین لیس فیه محذور عقلی، وإنّما هناک قصور فی الدلیل، فإذا جاء دلیل لیس فیه قصور یدل علی الترخیص فی المخالفة القطعیة لا مانع من العمل به؛ لذلک کما قلنا یتعیّن العمل به؛ ولذا الذی یقول أنّ المحذور ثبوتی هو الذی یحتاج إلی تأویل مثل هذه الروایات التی ظاهرها الترخیص فی المخالفة القطعیة، أو طرحها إذا لم یتمکّن من تأویلها.

ص: 720


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج 4، ص 59.
2- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج 4، ص 56.

ومنها: إذا فرضنا أنّ کل واحدٍ من الطرفین کان مورداً لأصلٍ غیر الأصل الذی یجری فی الطرف الآخر، أنّ هذا الطرف ------------ فرضاً ------------ مورد لأصالة البراءة، والطرف الآخر مورد لاستصحاب عدم التکلیف ------------ مثلاً ------------ أنّ کلٍ من الطرفین یجری فیه أصل غیر مسانخ للأصل الذی یجری فی الطرف الآخر. هنا بناءً علی أنّ المحذور ثبوتی؛ حینئذٍ یتساقط الأصلان ولا یجریان فی الطرفین حتّی إذا کانا غیر متسانخین، إذا کانا من سنخ واحد کالبراءة، فتسقط البراءة؛ لأنّها تبتلی بالتعارض الداخلی فیها وتسقط، فلا تشمل کلاً من الطرفین، إذا کانا غیر متسانخین أیضاً یسقط الأصلان؛ لعدم إمکان جریانهما معاً فی الطرفین، فتتساقط الأصول؛ وحینئذٍ لا یبقی أصل فی محل الکلام، والوجه فی هذا هو أنّ المحذور العقلی یمنع من الترخیص فی المخالفة القطعیة مهما کان دلیل الترخیص، سواء کان عبارة عن أصلین متسانخین، أو کان عبارة عن أصلین غیر متسانخین، النتیجة واحدة، فکل واحدٍ منهما یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة والمفروض أنّ المخالفة القطعیة فیها محذور عقلی ومحذور ثبوتی یمنع من ذلک؛ فحینئذٍ یتساقط الأصلان.

وأمّا إذا قلنا أنّ المحذور إثباتی ولیس محذوراً ثبوتیاً؛ حینئذٍ خصوصاً إذا کان المحذور الإثباتی هو کما یقول السید الشهید(قدّس سرّه) أنّ المحذور الإثباتی هو عبارة عن ارتکاز المناقضة بین الترخیص فی جریان الأصل فی الطرفین وبین الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال بنظر العرف والذی سمّاه(الارتکاز العقلائی)، ویقول هذا هو الذی یمنع من جریان الأصول فی الأطراف، بناءً علی هذا، إذا کان المحذور إثباتیاً وقائماً علی أساس المناقضة التی ذکرناها؛ حینئذٍ نقول لا وجه لتساقط هذین الأصلین فی المقام.

ص: 721

درس الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ منجّزیة العلم الإجمالی

من جملة الثمرات التی ذُکرت التی تترتب علی المسلکین السابقین، مسلک أنّ المانع هل هو ثبوتی، أو إثباتی. وبعبارة أخری: أنّ الاقتضاء هل هو علی نحو العلّیة التامّة، أو أنّه لیس علی نحو العلّیة التامّة، وإنّما هو مجرد اقتضاء ؟ من جملة الثمرات تظهر هذه الثمرة فیما إذا فرضنا أنّ کل واحدٍ من طرفی العلم الإجمالی کان مورداً لأصلٍ ترخیصی لیس من سنخ الأصل الذی یجری فی الطرف الآخر، أصلان مختلفان، استصحاب وبراءة، هنا تظهر الثمرة، فأنّه بناءً علی أنّ المانع ثبوتی والمحذور عقلی؛ حینئذٍ لابدّ من الالتزام بتساقط الأصلین وعدم جریانهما فی الطرفین؛ لأنّ المحذور العقلی والمانع الثبوتی یعنی استحالة شمول الترخیص للطرفین ولا یُفرّق حینئذٍ بین أن یکون الترخیص الثابت بأصلین متجانسین، أو بأصلین غیر متجانسین، أصلاً الترخیص فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی محال، کما هو الحال فی حرمة المخالفة القطعیة، کما أنّ الترخیص فی الطرفین معاً محال، کذلک الترخیص فی أحد الطرفین أیضاً محال؛ فحینئذٍ یسقط الأصلان ولا یجریان فی الطرفین، باعتبار أنّ المانع ثبوتی والمحذور عقلی، وبلحاظ هذا المحذور العقلی لا یُفرّق بین أن یکون الترخیص ثابتاً بأصلین من سنخٍ واحد، أو بأصلین مختلفین. ونفس النتیجة نصل إلیها إذا قلنا أنّ المانع إثباتی، لکنّه من سنخ ما تقدّم سابقاً من أنّ دلیل الترخیص لا یُستفاد منه الحلّیة والترخیص من جمیع الجهات، وإنّما غایة ما یُستفاد هو الترخیص الحیثی، فهو لا ینفع فی التأمین من هذا الطرف إلاّ من حیث کونه مشکوک الحرمة، أمّا من حیث کونه طرفاً لعلم إجمالی لا تنفع أدلة الترخیص لإثبات الترخیص من هذه الجهة ومن تلک الحیثیة، لو قلنا بأنّ هذا هو المانع؛ حینئذٍ ننتهی إلی نفس النتیجة، وهی عدم شمول أدلّة الترخیص لأطراف العلم الإجمالی، فتتساقط الأصول ولا تجری.

ص: 722

إذن: لا تجری الأصول فی أطراف العلم الإجمالی، سواء قلنا بالعلّیة التامّة وقلنا أنّ المانع ثبوتی والمحذور عقلی، أو قلنا بأنّ المانع لیس عقلیاً؛ بل إثباتیاً، لکنّه من قبیل ما قلناه من أنّ هناک قصوراً فی أدلّة الترخیص تمنع من شموله لأطراف العلم الإجمالی، فتکون النتیجة واحدة، والثمرة إنّما تظهر فیما إذا قلنا أنّ المانع إثباتی علی اساس ارتکاز المناقضة بین الترخیص فی الأطراف وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، المانع إثباتی لا ثبوتی، فلا استحالة، لکن هناک ارتکاز مناقضةٍ بین الترخیص فی الأطراف وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، هناک مناقضة بینهما مرتکزة فی أذهان العقلاء، ارتکاز عقلائی، بناءً علی هذا تظهر الثمرة، هنا قد یقال بأنّه لا موجب للتساقط ولعدم إجراء الأصول فی الأطراف؛ بل یمکن أن یجری الأصل فی هذا الطرف ویجری فی ذاک الطرف، باعتبار أنّ هذا الارتکاز ------------ ارتکاز المناقضة ------------ بین الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، إنّما یمنع من شمول دلیل الأصل الواحد لکلا الطرفین؛ لأنّ شمول دلیل الأصل الواحد لکلا الطرفین علی خلاف هذا الارتکاز، فیکون الارتکاز مانعاً من جریان دلیل الأصل فی کلا الطرفین؛ لأنّ جریانه کما قلنا علی خلاف الارتکاز، فکأنّ الارتکاز یوجب خلق تعارض داخلی فی دلیل الأصل الواحد، دلیل الأصل الواحد الذی لا مانع ثبوتاً من أن یشمل هذا الطرف ویشمل هذا الطرف لا یمکن أن یشملهما معاً؛ لأنّ شموله لهماً معا علی خلاف الارتکاز، فیحصل تعارض داخلی فی دلیل ذلک الأصل یمنع عن شموله لهذا الطرف وشموله لذلک الطرف.

وبعبارة أکثر وضوحاً: یکون هذا الارتکاز موجباً لحصول حالة الإجمال فی هذا الدلیل، فیکون مجملاً؛ إذ لا یُعلم أنّه هل یشمل هذا الطرف، أو هذا الطرف ؟ فیکون مجملاً، فیکون الارتکاز مانعاً من شموله للطرفین، لهذا الطرف بخصوصه ولهذا الطرف بخصوصه. هذا معقول. وأمّا فی محل کلامنا نحن لم نفترض أنّ الأصل واحد فی الطرفین، وإنّما افترضنا أصلین مختلفین غیر متسانخین، أحدهما یجری فی هذا الطرف، والآخر یجری فی الطرف الآخر، جریان هذا الأصل ------------ ولنفترض أنّه البراءة ------------ فی هذا الطرف لا یُبتلی بالمعارضة الداخلیة ولیس علی خلاف الارتکاز، الأصل الجاری فی الطرف الآخر ------------ وهو استصحاب عدم التکلیف مثلاً ------------ أیضاً لیس علی خلاف الارتکاز، الارتکاز هو عبارة عن منافاة ومناقضة الترخیص فی الطرفین للترخیص فی هذا الطرف، وأنّ یکون الدلیل نفسه یشمل الطرف الآخر مع التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، هذا علی خلاف الارتکاز، أن یکون هناک أصل واحد یشمل هذا الطرف ویشمل هذا الطرف، هذا علی خلاف الارتکاز، وهذا هو الذی قلنا بأنّه یوجب أن یُبتلی هذا الدلیل بالتعارض الداخلی والإجمال، فلا یجری فی الطرفین، أمّا إذا فرضنا أنّ الأصل الجاری فی هذا الطرف غیر الأصل الجاری فی الطرف الآخر، الأصل الجاری فی هذا الطرف هو البراءة، هذه البراءة مختصّة بهذا الطرف ولا تجری فی الطرف الآخر، فهل جریانها فی هذا الطرف علی خلاف الارتکاز ؟ لیس علی خلاف الارتکاز، وهذا معناه أنّه لیس هناک تعارض داخلی ولیس هناک إجمال؛ بل یبقی ظهور هذا الأصل فی شموله لهذا الطرف یبقی علی حاله، ظهور منعقد، وإذا انعقد هذا الظهور یکون حجّة ولابدّ من العمل به، وهکذا الحال فی الأصل الآخر، شمول الأصل الآخر ------------- استصحاب عدم التکلیف ------------ لذاک الطرف بخصوصه لیس علی خلاف الارتکاز ولا یُبتلی بالإجمال، الإجمال یکون فی الدلیل الواحد عندما یُراد شموله لهذا الطرف بخصوصه ولهذا الطرف بخصوصه، فیقال أنّ هذا الدلیل الواحد یُبتلی بالإجمال، بالتعارض الداخلی؛ لأنّه علی خلاف ارتکاز، الارتکاز هو الذی یوجب إجماله ویوجب حصول التعارض الداخلی فی نفس الدلیل، أمّا عندما یکون هناک دلیلان أصلان مختلفان غیر متسانخین لا داعی لهذا الکلام، هذا الأصل یجری فی هذا الطرف فقط، هذا لا محذور فیه ولیس علی خلاف الارتکاز، لا محذور ثبوتی کما هو المفروض؛ لأننا نتکلّم بناءً علی الاقتضاء، ولا محذور إثباتی؛ لأنّ المحذور الإثباتی من جهة الارتکاز، وهذا لیس علی خلاف الارتکاز؛ لأننا لا نرید أن نجریه فی الطرف الآخر حتّی یقال أنّ إجراءه فی هذا الطرف وإجراءه فی الطرف الآخر علی خلاف الارتکاز، فیقع التعارض الداخلی فی نفس هذا الدلیل ویکون مجملاً؛ وحینئذٍ لا ینعقد له ظهور، نحن لا نرید ذلک، وإنّما نرید إجراءه فی هذا الطرف، وهذا لیس علی خلاف الارتکاز، فینعقد الظهور ویکون الظهور حجّة، ونفس الکلام یقال فی الطرف الآخر الذی هو غیر مسانخ للأصل الأوّل، وبناءً علی هذا حینئذٍ تظهر الثمرة، بناءً علی أنّ المحذور ثبوتی لا یجری الأصلان فی الطرفین، وإن کانا غیر متسانخین؛ لأنّ المحذور الثبوتی کما قلنا لا یُفرّق بین التسانخ فی الأصلین، أو عدم التسانخ، المحذور عنده هو یستحیل الترخیص فی أیّ طرف من أطراف العلم الإجمالی، یستحیل جریان الأصل فی هذا الطرف ویستحیل جریانه فی هذا الطرف، هذا محال.

ص: 723

أمّا إذا فرضنا، قلنا أنّ المانع إثباتی علی أساس ارتکاز المناقضة، وإلاّ إذا قلنا أنّ المانع إثباتی علی أساسِ آخر لا تظهر الثمرة, لکن علی أساس الارتکاز العقلائی، علی أساس ارتکاز المناقضة التی ذکرناه؛ حینئذٍ لا مانع من جریان الأصل فی هذا الطرف والأصل فی ذاک الطرف، غایة الأمر أننا لا نستطیع أن نجریهما معاً؛ لأنّ هذا یستلزم المخالفة القطعیة، لکن نجری واحداً منهما، ولا مانع من جریان الأصل فی هذا الطرف، فهل یمکن الالتزام بذلک، أو لا ؟ نقول: بناءً علی هذا لا مانع من الالتزام به، لا داعی للالتزام بأنّ هذان الأصلان لا یجریان کلٌ فی طرفه؛ بل یمکن الالتزام بجریان هذا الأصل فی طرفه وذاک الأصل فی طرفه.

ومن هنا بناءً علی هذه الثمرة وتمامیتها تستحکم شبهة التخییر، لکن بناءً علی الاقتضاء وأنّ المانع إثباتی علی أساس المناقضة بین الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال؛ حینئذٍ تستحکم شبهة التخییر؛ بل یکون هذا تقریباً آخراً لشبهة التخییر، لکنّه مختص بحالة ما إذا کان الأصلان غیر متسانخین؛ حینئذٍ یقول بناءً علی الاقتضاء وأنّ المانع إثباتی علی أساس المناقضة، لا مانع من إجراء الأصل. وبعبارة أخری: لا تجب الموافقة القطعیة؛ بل تجوز المخالفة الاحتمالیة، فیکون تقریباً آخراً لشبهة التخییر، لکنّها مختصّة بما إذا کان الأصلان غیر متسانخین، إذا کانا متسانخین، دلیل الأصل الواحد یبتلی بالمعارض الداخلیة والإجمال، فلا یجری فی أیّ طرفٍ، لکن عندما یکونا غیر متسانخین وبناءً علی هذا المبنی؛ حینئذٍ تستحکم شبهة التخییر.

وحینئذٍ، من یلتزم بالاقتضاء ویلتزم بأنّ المانع إثباتی علی أساس المناقضة کالسید الشهید(قدّس سرّه) لابدّ أن یردّ هذه الشبهة؛ لأنّ هذا یؤدی إلی تجویز المخالفة الاحتمالیة وهو لا یلتزم بذلک؛ بل یری وجوب الموافقة القطعیة فی موارد العلم الإجمالی والشبهة المحصورة.

ص: 724

أجاب(قدّس سرّه) عن شبهة التخییر بهذا التقریب: (1) بأنّ هذا الارتکاز الذی هو المانع الإثباتی الذی یمنع من إجراء الأصل فی أطراف العلم الإجمالی، ارتکاز المناقضة الذی تقدّم ذکره یوّلد ارتکازاً آخراً مفاده أنّ الترخیص فی أحد الطرفین یستلزم الإلزام فی الطرف الآخر بحیث یکون دلیل الترخیص فی أحد الطرفین الذی یدل علی الترخیص بالدلالة المطابقیة تتشکل له دلالة التزامیة علی ثبوت الإلزام فی الطرف الآخر. استلزام الترخیص فی أحد الطرفین للإلزام بالطرف الآخر هو ارتکاز توّلد من الارتکاز الأوّل؛ لأنّ الارتکاز الأوّل یقول هناک مناقضة بین الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، هذان أمران متناقضان لا یُعقل ----------- ارتکازاً لا عقلاً وثبوتاً ----------- الجمع بینهما، ارتکاز المناقضة هذا یوّلد ارتکاز أنّ الترخیص فی أحد الطرفین یستلزم الإلزام فی الطرف الآخر، وإلاّ تتحقق المناقضة التی لا یقبلها العقل، فکل ترخیص یجری فی أحد الطرفین یستلزم الإلزام بالطرف الآخر. یقول: هذا أیضاً أمر ارتکازی، فإذا کان هذا أمراً ارتکازیاً؛ حینئذٍ تتشکل لدلیل الترخیص الجاری فی هذا الطرف بهذا الأصل دلالة التزامیة علی الإلزام بالطرف الآخر، وهکذا دلیل الأصل الجاری فی الطرف الآخر والدال علی الترخیص فیه بالمطابقة تتشکل له دلالة التزامیة عرفیة علی الإلزام بهذا الطرف، ومن هنا یقع التعارض بین الدلالة المطابقیة لکلٍ من الدلیلین غیر المتسانخین بحسب الفرض وبین الدلالة الالتزامیة الثابتة فی الطرف الآخر، الدلالة المطابقیة تتنافی مع الدلالة الالتزامیة، دلیل الترخیص عندما یجری فی هذا الطرف یثبت الترخیص بالمطابقة فی هذا الطرف ولیس له علاقة بالطرف الآخر من حیث المدلول المطابقی؛ لأنّه لا یرید أن یثبت الترخیص فی الطرف الآخر؛ لأننّا قلنا أنّهما أصلان مختلفان غیر متسانخین، لکن هو یدل بالدلالة الالتزامیة علی الإلزام بالطرف الآخر، یعنی علی عدم الترخیص، فهو بالدلالة الالتزامیة یکون منافیاً لدلیل الأصل الآخر الدال بالمطابقة علی الترخیص فی ذاک الطرف، وهکذا الحال فی هذا الدلیل، هو بالدلالة الالتزامیة ینفی الترخیص فی هذا الطرف، فیکون منافیاً ومعارضاً لدلیل الترخیص فی هذا الطرف، فیقع التعارض بینهما، وإذا وقع التعارض بینهما؛ حینئذٍ لابدّ من الالتزام بالتساقط، وبذلک ننتهی إلی نفس النتیجة وهی أنّه لا ثمرة علی کل تقدیر، سواء قلنا أنّ المانع ثبوتی، أو قلنا بأنّ المانع إثباتی علی الأساس المتقدّم، أو قلنا بأنّ المانع إثباتی علی أساس المناقضة، علی کل التقادیر لابدّ من الالتزام بعدم جریان الأصول فی أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّه أُبرز من خلال هذا الجواب مناقضة ومعارضة بین البراءة الجاریة فی هذا الطرف وبین الاستصحاب الجاری فی ذاک الطرف لا بلحاظ الدلالة المطابقیة، وإنّما بلحاظ الدلالة المطابقیة لکل واحدٍ منهما مع الدلالة الالتزامیة للدلیل الآخر، فإذن لا یمکن إجرائهما معاً، فلابدّ من الالزام بتساقطهما. هذا الجواب الذی تخلّص به عن الشبهة وذکر بأنّ الثمرة هنا لا تترتب ولا تنتهی إلی نتیجة التخییر والترخیص فی المخالفة الاحتمالیة حتّی إذا التزمنا بهذا المبنی.

ص: 725


1- مباحث الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید کاظم الحائری، ج 4، ص 99.

قد یجاب عن أصل الثمرة بجوابٍ آخر غیر الجواب الذی ذکره السید الشهید(قدّس سرّه)، وذلک بأن یقال: إذا لاحظنا الأصلین، هذا الأصل البراءة، وذاک الأصل استصحاب عدم التکلیف، لنفترض أنّه یصح فیه هذا الکلام السابق، الشبهة تأتی وهی أنّه أیّ مانع من أن یجری هذا الأصل فی طرفه ؟ لأنّ جریانه فی طرفه لیس علی خلاف الارتکاز. نعم، الأصلان بمجموعهما علی خلاف الارتکاز، لکنّ هذا الأصل الذی یُراد إجراءه فی طرفه فقط، إجراءه لیس علی خلاف الارتکاز، کما أنّ ذاک الأصل فی طرفه أیضاً لیس إجراءه فیه علی خلاف الارتکاز، هذا صحیح، لکن من الممکن أن ننقل الکلام إلی ما هو فوق الأصلین، إلی دلیل حجّیة إطلاق الأصل وظهوره فی الشمول لهذا الطرف، أی إلی الدلیل الدال علی حجّیة الاستصحاب وحجّیة البراءة. وبعبارة أخری: حجّیة الظهور، یعنی إلی دلیل حجّیة الظهور وحجّیة الإطلاق، إذا نقلنا الکلام إلی حجّیة الظهور والإطلاق، دلیل حجّیة الظهور والإطلاق دلیل واحد، لیس لدینا دلیلان، وإنّما دلیل واحد، عبارة عن الارتکاز العقلائی وأمثاله، دلیل واحد یدل علی حجّیة ظهور هذا الأصل وإطلاقه ویدلّ علی حجّیة ظهور هذا الأصل وإطلاقه، هذا الدلیل الواحد -------------- دلیل الحجّیة ------------- نحن ندّعی أنّ هذا الدلیل یُبتلی بالمعارضة والإجمال؛ لأنّ جریان هذا الدلیل الواحد وإثباته لحجّیة هذا الأصل فی طرفه، وإثباته لحجّیة ذاک الأصل فی طرفه علی خلاف الارتکاز، الذی لیس علی خلاف الارتکاز هو أن نجری الأصل فی هذا الطرف المختص به، وذاک أصل آخر یجری فی طرفه المختص به، هذان دلیلان منفصلان، جریان کل أصل فی طرفه لیس علی خلاف الارتکاز، مجموعهما علی خلاف الارتکاز، لکن هذا لا یمنع من أن نقول أنّ جریان الأصل فی طرفه لیس علی خلاف الارتکاز، فلا مانع إثباتی منه، هذا إذا لاحظنا الأصلین کدلیلین منفصلین لا علاقة بینهما، لکن إذا صعدنا إلی دلیل حجّیتهما، فسنجد أنّه واحد مشترک بینهما، هو دلیل حجّیة إطلاق هذا وظهوره ودلیل علی حجّیة إطلاق هذا وظهوره. هذا الدلیل الواحد یُدّعی فی المقام بأنّه یُبتلی بالمعارضة ویبتلی بالإجمال؛ لأنّ شمول هذا الدلیل لهذا الأصل وهذا الأصل علی خلاف الارتکاز، أن یشمل الأصل الجاری فی هذا الطرف، ویقول إطلاقه حجّة وظهوره حجّة، ویشمل الأصل الجاری فی الطرف الآخر ویقول أنّ إطلاقه حجّة وظهوره حجّة، هذا علی خلاف الارتکاز؛ لأنّه یوجب المناقضة بینه وبین التکلیف الواقعی المعلوم بالإجمال، فإذا کان علی خلاف الارتکاز، فسوف یوجب التعارض الداخلی فی دلیل الحجّیة الواحد، ویبتلی دلیل الحجّیة الواحد هذا بالتعارض الداخلی، فلا یشمل کلا الطرفین، وبذلک لا تأتی شبهة التخییر ولا نرخّص للمکلّف فی المخالفة الاحتمالیة. هذا الجواب الثانی.

ص: 726

هذا الجواب یبتنی علی فکرة أنّ شمول دلیل الحجّیة لظهورین لا یکون کل واحدٍ منهما علی خلاف الارتکاز ولا یکون کل واحدٍ منهما مبتلیاً بالتعارض الداخلی والإجمال بالنتیجة؛ لأنّه لیس علی خلاف الارتکاز، هذا الجواب مبتنٍ علی أنّ دلیل الحجّیة لا یشمل ظهورین من هذا القبیل، ظهوران لیس کل واحدٍ منهما علی خلاف الارتکاز، وإن کانا بمجموعهما علی خلاف الارتکاز. إذا قلنا أنّ دلیل الحجّیة لا یشمل ظهورین من هذا القبیل، هذا الکلام یکون تامّاً؛ لأنّ دلیل الحجّیة یُبتلی بالإجمال والتعارض الداخلی وبالتالی لا یثبت الحجّیة لکلا الأصلین، فإذن، یفقد کل أصلٍ الدلیل علی حجیته، وبهذا نصل إلی نفس النتیجة، وأمّا إذا قلنا: أیّ ضیرٍ فی أن یشمل دلیل الحجّیة ظهورین من هذا القبیل ؟ لأنّ هذا ظهور هو فی حدّ نفسه لیس علی خلاف الارتکاز ولا مشکلة فیه، ظهور هذا الأصل فی الشمول لهذا الطرف، إطلاقه لهذا الطرف لیس فیه مشکلة ولیس علی خلاف الارتکاز، فأیّ ضیرٍ فی أن یشمله دلیل الحجّیة ؟ وإن کان هذا الظهور بضمّه إلی الظهور الآخر هو علی خلاف الارتکاز، لکن دلیل الحجّیة یشمل هذا الظهور فی حدّ نفسه ویدل علی حجّیته، إذا منعنا من شمول دلیل الحجّیة لظهورین من هذا القبیل، هذا الجواب یکون جواباً آخراً عن الشبهة الأساسیة، وإلاّ إذا قلنا لا مانع من ذلک، دلیل الحجّیة یشمل هذا الظهور فی حدّ نفسه؛ لأنّه لا مانع من الشمول، وإن کان بضمّه إلی شیءٍ آخر یکون هذا الضم والمجموع علی خلاف الارتکاز، لکن هو فی حدّ نفسه یشمله دلیل الحجّیة، وذاک أیضاً یشمله دلیل الحجّیة، هذا لا یمنع من شمول دلیل الحجّیة لکل واحد منهما بخصوصه، فلا یتم حینئذٍ هذا الجواب ویتعیّن الجواب الأوّل المتقدّم.

ص: 727

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

یقع الکلام فی تنبیهات العلم الإجمالی جرت العادة بعد الفراغ عن أصل منجّزیة العلم الإجمالی أن یقع الکلام فی بعض التنبیهات المرتبطة بقاعدة منجّزیة العلم الإجمالی، وهی أبحاث مهمّة جدّاً، ولعلّها فی بعض النواحی أهم من البحث عن أصل المنجّزیة:

التنبیه الأوّل: یرتبط بالثمرة العملیة بین القول بعلّیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة وبین القول بعدم العلّیة وأنّه مقتضٍ لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّهم ذکروا أنّ الثمرة تظهر ------------ کما تقدّم الإشارة إلی ذلک ---------- أنّ الثمرة تظهر فی أنّه علی العلّیة لا یجری الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی وإن لم یکن له معارض فی الطرف الآخر، بخلافه علی الاقتضاء، فأنّ الأصل یجری فی أحد الطرفین إذا لم یکن له معارض فی الطرف الآخر، وهذا کقضیة کلّیة ومجملة واضح، العلّیة تعنی أنّها تمنع من جریان الأصل فی بعض الأطراف بقطع النظر عن المعارضة، أمّا الاقتضاء، فلا یمنع من جریان الأصل فی بعض الأطراف إذا لم یکن له معارض، وإنّما الذی یمنع منه علی الاقتضاء هو وجود الأصل المعارض فی الطرف الآخر.

یظهر من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی کلا تقریریه (1) الإشکال فی هذه الثمرة، وعبارته فی(فوائد الأصول) ذکر بأنّ فرض أن یکون فی أحد الطرفین أصل نافٍ للتکلیف غیر مُعارض بمثله ولم یکن فی الطرف الآخر أصل مثبت له هو فرضٌ بعیدٌ؛ بل الظاهر أنّه غیر ممکن. الذی یُفهم من هذه العبارة وکذلک عبارته فی(أجود التقریرات) هو أنّه یرید أن یقول أنّ الثمرة بقطع النظر عن التطبیق والوجود الخارجی قد تکون صحیحة، علی القول بالاقتضاء یجری الأصل فی أحد الطرفین إذا لم یکن له معارض، وعلی القول بالعلّیة لا یجری حتّی إذا لم یکن له معارض، لکن من الصعب جدّاً أن نجد مصداقاً لذلک بحیث نشیر إلیه ونقول أنّ الثمرة تظهر هنا؛ لأنّه فی هذا العلم الإجمالی الأصل المؤمّن یجری فی أحد الطرفین بلا معارض مع افتراض أنّه فی الطرف الآخر کما لا یجری الأصل المعارض النافی کذلک لا یجری الأصل المثبت للتکلیف، یقول هذا فرض نادر؛ بل غیر واقع.

ص: 728


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 47.

یمکن أن یُفسّر کلامه بأنّ فرض انفراد الأصل المؤمّن بأحد الطرفین من دون أن یجری هذا الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، ولا یجری الأصل المثبت للتکلیف فی الطرف الآخر، یعنی الطرف الآخر لا یجری فیه الأصل المؤمّن ولا الأصل المثبت للتکلیف، فینفرد الأصل المؤمّن فی هذا الطرف، حتّی تظهر فیه الثمرة، یقول: هذا فرض بعید؛ بل غیر واقع، علی تقدیره تظهر فیه الثمرة، علی القول بالاقتضاء یجری هذا الأصل ولا مانع من جریانه؛ لأنّه لیس له معارض، ولا یجری علی القول بالعلّیة، لکن یقول هذا فرضه بعید، باعتبار أنّه لا موجب لعدم جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر إلاّ إذا کان فیه أصل مثبت للتکلیف. فی الطرف الآخر نقول: الطرف الأوّل یجری فیه الأصل ولا یعارضه الأصل فی الطرف الثانی. المحقق النائینی(قدّس سرّه) یقول: فی الطرف الثانی لا موجب لعدم جریان الأصل المؤمّن إلاّ فی حالة واحدة وهی حالة ما إذا جری فیه الأصل المثبت للتکلیف، فی حالة جریان الأصل المثبت للتکلیف فی الطرف الثانی لا یجری الأصل المؤمّن فیه کما هو واضح، وفی کلتا الحالتین لا یتحقق ما ذکروه ولا تظهر الثمرة. إذا لم یکن فی الطرف الثانی أصل مثبت للتکلیف، فیجری فیه الأصل المؤمّن؛ إذ لا موجب لعدم جریانه فیه إلاّ الأصل المثبت للتکلیف، فإذا لم یجرِ فیه الأصل المثبت للتکلیف جری فیه الأصل المؤمّن، ومع جریان الأصل المؤمن لا یجری الأصل المؤمّن فی الطرف الأوّل، وحتّی إذا قلنا بالاقتضاء لا یجری الأصل المؤمّن؛ لوجود المعارض، فهو لا یجری فی هذه الحالة سواء قلنا بالاقتضاء، أو العلّیة، فلا ثمرة.

ص: 729

وأمّا إذا قلنا أنّ الأصل المؤمن فی الطرف الثانی لا یجری؛ لأنّ هناک أصلاً مثبتاً للتکلیف فیه، یقول: هنا أیضا لا تظهر الثمرة؛ لأنّه علی کلا القولین یمکن إجراء الأصل المؤمن فی الطرف الأوّل، فلا تظهر الثمرة.

أمّا علی القول بالاقتضاء، فجریان الأصل المؤمّن فی الطرف الأوّل واضح؛ لأنّه لیس له معارض، إنّما یمنع من جریانه جریان الأصل المؤمن فی الطرف الثانی وقد فرضنا أنّ الأصل المؤمّن لا یجری فی الطرف الثانی لوجود الأصل المنجّز للتکلیف فیه، فالأصل المؤمّن یجری فی هذا الطرف بلا معارض.

وأمّا علی القول بالعلّیة أیضاً یجری الأصل المؤمّن بلا معارض؛ لأنّ الأصل المثبت للتکلیف إذا جری فی أحد أطراف العلم الإجمالی یوجب سقوط ذلک العلم الإجمالی عن المنجّزیة، یوجب انحلال العلم الإجمالی وهو المسمّی بالانحلال الحکمی، أنّ العلم الإجمالی له انحلال حقیقی وانحلال حکمی، عندما یجری الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین، یکون هذا موجباً لانحلال العلم الإجمالی حکماً وسقوطه عن المنجّزیة، ومثل هذا العلم الإجمالی الذی ینحل ویسقط عن المنجّزیة، حتّی من یقول بالعلّیة لا یری مانعاً من جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الأوّل.

فإذن: یرید أن یقول أنّه لیس هناک مورد یمکن أن یجری فیه الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین من دون افتراض جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر وکذا عدم جریان الأصل المثبت للتکلیف فی الطرف الآخر، إذا حصّلنا مورداً من هذا القبیل، یقول نعم تظهر فیه الثمرة، لکنّه لا یوجد عندنا مورد من هذا القبیل؛ لأنّ الطرف الآخر إمّا أن یجری فیه الأصل المؤمن، أو لا یجری، فإذا جری فیه الأصل المؤمن؛ حینئذٍ یکون معارضاً للأصل فی هذا الطرف سواء قلنا بالعلّیة، أو قلنا بالاقتضاء، وإن لم یجر الأصل المؤمّن فی الطرف الثانی، فهذا یعنی وجود منجّز منع من جریانه، وإلاّ لا موجب لجریانه إلاّ وجود الأصل المنجّز للتکلیف فیه، وإذا وجد الأصل المنجّز فی الطرف الثانی انحلّ العلم الإجمالی وسقط عن المنجّزیة، ومثل هذا العلم الإجمالی المنحل الساقط عن المنجّزیة حتّی القائل بالعلّیة لا یری مانعاً من جریان الأصل المؤمّن فی بعض أطرافه، وإنّما هو یری مانعاً من جهة العلم الإجمالی؛ لأنّه علّة لوجوب الموافقة القطعیة کما یری، أمّا إذا انحلّ العلم الإجمالی وسقط عن المنجّزیة، فلا مانع حینئذٍ من جریان الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین حتی علی القول بالعلّیة، ومن هنا أنکر الثمرة بین القولین. هذا ما یُفهم من کلام المحقق النائینی (قدّس سرّه).

ص: 730

یُفهم من کلمات المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی تعلیقته علی فوائد الأصول، أنّه لا یرضی بهذا الجواب، ویری أنّه بالإمکان أن تکون هناک ثمرة بین القولین تظهر فی بعض الموارد، یمکن تصوّر جریان الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین وتظهر فیه الثمرة بین القول بالعلّیة وبین القول بالاقتضاء وذکر أنّ المقصود من ذلک هو فیما إذا کان یجری فی کلا الطرفین أصل ترخیصی، أصلان ترخیصیان فی عرَضٍ واحدٍ، یجریان فی الطرفین وکان هناک أصل ترخیصی یختصّ بأحد الطرفین فی طول الترخیص الأوّل الذی له معارض فی الطرف الآخر، لا مانع من تصوّر هذا، فی هذه الحالة یمکن تصوّر ظهور الثمرة؛ لأنّ الأصلین الترخیصیین العرضیین یتعارضان؛ لأنّه لا یمکن أن یجری الترخیص فی هذا الطرف ویجری فی الطرف الآخر، فتقع المعارضة بینهما، وبعد التعارض والتساقط تصل النوبة إلی الأصل الترخیصی الطولی الجاری فی أحد الطرفین وتظهر فیه الثمرة، والثمرة تظهر فی هذا الترخیص الطولی الجاری فی أحد الطرفین، فعلی القول بالاقتضاء لا مانع من جریانه، وعلی القول بالعلّیة التامّة لا یمکن جریانه، فتظهر الثمرة فی حالةٍ من هذا القبیل؛ ولذا هو أنکر ما ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من عدم وجود موردٍ یمکن أن تجری فیه الثمرة. هذا الذی دعا البعض إلی أن یجعل هذا هو التنبیه الأوّل من تنبیهات العلم الإجمالی، فیقع الکلام فی أنّه ما هی الموارد التی یمکن افتراض اختصاص الأصل العملی المؤمّن النافی للتکلیف ببعض أطراف العلم الإجمالی من دون أن یجری فی الطرف الآخر حتی تظهر فیه الثمرة بین القول بالعلّیة وبین القول بالاقتضاء؟ هل هناک موارد یمکن تصوّرها یختصّ أحد الطرفین بجریان الأصل المؤمّن دون الطرف الآخر ؟ وما هی هذه الموارد ؟

ص: 731

ذُکرت ثلاث صور:

الصورة الأولی: أن نفترض أنّ اختصاص الأصل المؤمّن بأحد الطرفین دون الطرف الآخر، هذا ینشأ من کون أحد الطرفین لا یجری فیه الأصل المؤمّن فی حد نفسه وبقطع النظر عن مسألة الترجیح بلا مرجّح، ولیس أنّه لا یجری فیه کونه ترجیحاً بلا مرجّح الذی معناه أنّه یجری فیه فی حدّ نفسه، وإنّما یمنع منه استحالة الترجیح بلا مرجّح، بقطع النظر عن هذا، وإنّما هذا الطرف أصلاً هو لیس مورداً للأصل المؤمّن، ومُثّل لذلک بما إذا علم المکلّف علماً إجمالیاً بأنّه إمّا لم یصلِ الصلاة الفریضة الداخل وقتها، أو أنّه لم یأتِ بالدعاء الواجب عند رؤیة الهلال، أو أیّ شیء آخر، هنا فی هذه الحالة یحصل عنده علم إجمالی إمّا بوجوب صلاة الظهر علیه، أو وجوب الدعاء فی حالةٍ معیّنةٍ، أحد طرفی هذا العلم الإجمالی لیس مورداً للأصل المؤمّن، احتمال صلاة الظهر الداخل وقتها لیس مورداً للأصل المؤمّن ولا تجری فیه البراءة؛ لأنّ الشک فیه لیس شکاً فی التکلیف حتّی تجری فیه البراءة، وإنّما شک فی الامتثال؛ لأنّه قد دخل وقتها واشتغلت بها الذمّة بحسب الفرض، إذا شک فی أنّه صلّی الظهر، أو لا، فهذا شک فی الامتثال وهو مجری لقاعدة الاشتغال لا للبراءة. إذن: هذا الطرف للعلم الإجمالی هو لیس مورداً للأصل العملی فی حدّ نفسه، فیختص الأصل المؤمّن بالطرف الآخر. قالوا بأنّه یمکن أن تظهر الثمرة فی هذا الطرف باعتبار أنّ الطرف الثانی لیس مجریً للأصل المؤمن فی حدّ نفسه. هنا اتّفق الطرفان علی أنّه لا تظهر الثمرة فی هذا المورد؛ بل الصحیح هو أنّ الأصل المؤمّن النافی للتکلیف فی هذا الطرف الآخر، أی فی وجوب الدعاء عند رؤیة الهلال، یجری الأصل فی ذاک الطرف حتّی علی القول بالعلّیة، فلا تظهر الثمرة، لماذا یجری الأصل فی ذاک ؟ أمّا علی القول بالاقتضاء فواضح، حیث تجری أصالة عدم وجوب الدعاء عند رؤیة الهلال؛ لأنّه لیس له معارض، فأنّ أصالة البراءة لا تجری فی الطرف الآخر حتی تکون معارضة لها. وأمّا علی القول بالعلّیة، فلما تقدّمت الإشارة إلیه قبل قلیل؛ لأنّ المفروض أنّ أحد الطرفین یجری فیه أصل مثبت للتکلیف وهو قاعدة الاشتغال، وقلنا أنّ الأصل المثبت للتکلیف عندهم یکون موجباً لانحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة من دون فرقٍ بین أن یکون الأصل المثبت للتکلیف شرعیاً کاستصحاب التکلیف، أو یکون أصلاً عقلیاً کأصالة الاشتغال، کلٌ منهما مثبت للتکلیف فی أحد الطرفین، والأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین یوجب الانحلال الحکمی للعلم الإجمالی، وقلنا بأنّ هذا العلم الإجمالی المنحل الذی سقط عن المنجّزیة لا یمنع من إجراء الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، فإذن: لا ثمرة؛ لأنّ الأصل المؤمّن فی ذاک الطرف یجری علی کلا القولین، فلا تظهر الثمرة.

ص: 732

من الواضح جدّاً أنّ هذا الکلام یتوقّف علی هذه الکبری، علی الإیمان بأنّ جریان الأصل المثبت للتکلیف فی أحد أطراف العلم الإجمالی، سواء کان أصلاً شرعیاً، أو کان أصلاً عقلیاً، یوجب الانحلال وسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة وهو المُسمّی کما قلنا ب-----( الانحلال الحکمی). وأمّا إذا أنکرنا ذلک، وقلنا بأنّ جریان الأصل المثبت فی بعض الأطراف لا یحلّ العلم الإجمالی ولا یسقطه عن المنجّزیة؛ حینئذٍ تظهر الثمرة، ولا یصح الکلام المتقدّم بعدم ظهور الثمرة؛ لأنّه علی کلا التقدیرین یجری الأصل المؤمّن لنفی وجوب الدعاء عند رؤیة الهلال؛ بل تظهر الثمرة؛ لأنّه علی القول بالاقتضاء یجری هذا الأصل المؤمّن لنفی وجوب الدعاء عند رؤیة الهلال؛ لعدم وجود المعارض له. أمّا علی القول بالعلّیة، فلا یجری هذا الأصل المؤمّن؛ لأنّ العلم الإجمالی باقٍ علی منجزیته، ولم ینحل، والمفروض أنّ العلم الإجمالی علی القول بالعلّیة هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة ومنع جریان الأصول حتّی فی بعض الأطراف، فتظهر الثمرة هنا.

إذن: إنکار الثمرة فی هذه الصورة یبتنی علی بحث سیأتی التعرض له إن شاء الله تعالی فی بحث الانحلال الذی هو أحد تنبیهات العلم الإجمالی، أنّ جریان الأصل المثبت للتکلیف یوجب الانحلال الحکمی کما ذکروا، یعنی یجوّز للمکلّف ولا یلزمه بوجوب الموافقة القطعیة، أو لا ؟

الصورة الثانیة: أن یکون هذا الاختصاص لیس من الجهة الأولی بأن یکون الطرف فی حدّ نفسه لیس مورداً للأصل المؤمّن، وإنّما یکون الاختصاص ناشئاً من جهة أنّ الأصل الترخیصی فی أحد الطرفین لا یجری لوجود أصلٍ مثبت للتکلیف حاکم علیه، فلا یجری فیه الأصل المؤمّن، فیختص الأصل المؤّمن بالطرف الآخر. نفترض أنّ الطرف الأوّل یجری فیه الأصل المؤمّن، الطرف الثانی فیه أصل مؤمّن وهو فی نفسه مورد للأصل المؤمّن، لکن الطرف الثانی الأصل الترخیصی فیه محکوم بأصل تنجیزی مثبت للتکلیف یکون حاکماً علی الأصل الترخیصی فی مورده؛ فحینئذٍ هذا الأصل الترخیصی الموجود فی الطرف الآخر لیس له معارض، لیس هناک أصل مؤمّن فی الطرف الآخر یکون معارضاً له، فیکون الأصل الترخیصی مختصّاً ببعض الأطراف. من قبیل ما إذا فرضنا أنّ أصالة الحل تجری فی الطرفین، هذا مشکوک الحرمة وهذا أیضاً مشکوک الحرمة، کلٌ منهما مورد لأصالة الحل فی حدّ نفسه، لکن کان أحد الطرفین یجری فیه استصحاب المثبت للحرمة بأن نفترض أنّ الحالة السابقة لهذا الطرف کانت هی الحرمة، فإذا شککنا فی بقاء الحرمة نستصحب الحرمة. إذن، هذا الطرف، ولنفترضه الثانی هو مورد لأصالة الحل، لکنّ أصالة الحل فیه محکومة لاستصحاب الحرمة الثابتة سابقاً. هنا أیضاً قالوا بأنّه حتّی فی هذه الصورة لا تظهر الثمرة بین القول بالعلّیة والقول بالاقتضاء؛ لأنّه علی کلا التقدیرین أصالة الحل تجری فی الطرف الآخر، أمّا علی القول بالاقتضاء، فواضح؛ لأنّ أصالة الحل فی هذا الطرف لیس لها معارض؛ لأنّ معارضها وهی أصالة الحل فی الطرف الثانی سقطت باعتبار أنّ استصحاب الحرمة کان حاکماً علیها. إذن، أصالة الحل فی الطرف الآخر لیس لها معارض، فتجری بلا معارض بناءً علی القول بالاقتضاء.

ص: 733

وأمّا بناءً علی القول بالعلّیة: أیضاً تجری أصالة الحل فی هذا الطرف؛ لما تقدّم من أنّ العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز وینحل انحلالاً حکمیاً عندما یجری فی أحد الطرفین أصل مثبت للتکلیف، والأصل فی هذا المثال فی هذا المقام هو أصل شرعی مثبت للتکلیف وهو استصحاب الحرمة المتیقنة سابقاً، فإذا جری هذا الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین انحل العلم الإجمالی وسقط عن المنجّزیة وإذا سقط عن المنجزیة لا مانع من الرجوع إلی أصالة الحل فی الطرف الأوّل؛ لأنّ المنع من ذلک مبنی علی افتراض وجود علم إجمالی منجّز، فیکون علّة للمنع من المخالفة الاحتمالیة، فضلاً عن المخالفة القطعیة، أمّا إذا سقط عن التنجیز؛ فحینئذٍ لا اثر له.

هذا الکلام أیضاً یرد علیه نفس التعلیق السابق وأنّ هذا مبنی علی هذه الکبری، أنّ جریان الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز ویوجب الانحلال الحکمی، وإلاّ إذا أنکرنا ذلک تظهر الثمرة، فعلی القول بالاقتضاء یمکن الرجوع إلی أصالة الحلّیة فی هذا الطرف؛ لأنّها لیس لها معارض؛ لأنّ معارضها سقط بالأصل الحاکم. أمّا علی القول بالعلّیة لا یجوز إجرائها فی هذا الطرف؛ لأنّ العلم الإجمالی باقٍ علی منجّزیته، لم ینحل وهو علّة تامّة بحسب الفرض للمنع من إجراء الأصول حتّی فی بعض أطرافه، فتظهر الثمرة. فإذن: عدم ظهور الثمرة فی هذه الصور أیضاَ یکون مبنیاً علی تلک المسألة التی سیأتی التعرّض لها إن شاء الله تعالی.

الصورة الثالثة: أن یکون اختصاص الأصل المؤمّن ببعض الأطراف هو من جهة أخری غیر ما تقدّم، من جهة وجود أصل ترخیصی طولی فی أحد الطرفین مع افتراض وجود أصلین ترخیصیین فی عرض واحد فی کلٍ من الطرفین. أصلان ترخیصیان عرضیان یجریان فی الطرفین، لکن أحد الطرفین فیه أصل ترخیصی أیضاً، لکنّه فی طول الأصل الجاری فی مورده، من قبیل ما إذا علمنا بنجاسة أحد إناءین وکان أحدهما معلوم الطهارة سابقاً، فی هذه الحالة کلٌ منهما مورد لقاعدة الطهارة، هذا الطرف مشکوک النجاسة تجری فیه قاعدة الطهارة، وهذا أیضاً مشکوک النجاسة تجری فیه قاعدة الطهارة، کلٌ منهما مورد للأصل الترخیصی المؤمّن، لکن أحدهما حیث أنّ حالته السابقة هی الطهارة یکون مورداً لقاعدة الطهارة وهو أصل ترخیصی أیضاً. هنا أیضاً یقال فی هذه الحالة استصحاب الطهارة فی أحد الإناءین فی مورده یعارض أصالة الطهارة فی الطرف الآخر؛ لأنّهما لا یمکن أن یجریان معاً؛ لأننا نعلم بأنّ أحد الإناءین نجس، استصحاب الطهارة فی هذا یعارض أصالة الطهارة فی الطرف الآخر فیتساقطان، تصل النوبة إلی أصالة الطهارة فی مورد الاستصحاب؛ لأنّ أصالة الطهارة فی طول الاستصحاب ولیست فی مرتبته، أصالة الطهارة تبقی سالمة ولا تدخل طرفاً فی المعارضة؛ لأنّ رتبتها متأخرة عن رتبة الاستصحاب.

ص: 734

وبعبارةٍ أخری: هی حین التعارض بین الاستصحاب فی هذا الطرف وقاعدة الطهارة فی هذا الطرف لیس لها وجود؛ لأنّ رتبتها متأخّرة عن الاستصحاب، بعد سقوط الاستصحاب بالتعارض هی تکون موجودة، فیمکن الرجوع إلیها حینئذٍ، ویختصّ الأصل المؤمّن بهذا الطرف؛ حینئذٍ قد یقال بأنّ الثمرة هنا أیضاً تظهر. هل یمکن الرجوع إلی أصالة الطهارة فی هذا الطرف بعد سقوط الاستصحاب الجاری فی مورده، مع أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، أو لا یمکن ؟ علی الاقتضاء قالوا بأنّه یمکن الرجوع، وعلی القول بالعلّیة لا یمکن الرجوع. وسیأتی الکلام هن هذه الصورة إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

الصورة الثالثة التی یقع الکلام فیها فی أنّ الثمرة هل تظهر فیها أو لا ؟ بین القول بالعلّیة والقول بالاقتضاء هی ما إذا کان الاختصاص من جهة وجود أصل ترخیصی طولی فی أحد الطرفین مع وجود أصلین ترخیصیین فی الطرفین، فهناک ثلاثة أصول ترخیصیة، أحد الطرفین یوجد فیه أصلان ترخیصیان طولیان کاستصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة، بینما الطرف الآخر یختص بقاعدة الطهارة ولا یجری فیه الاستصحاب.

هنا قد یقال: بأنّ استصحاب الطهارة فی هذا الطرف یتعارض مع قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر وبعد التعارض والتساقط تصل النوبة إلی قاعدة الطهارة فی هذا الطرف، مستصحب الطهارة نجری فیه قاعدة الطهارة، فتظهر الثمرة، أنّه بناءً علی الاقتضاء لا مانع من جریان قاعدة الطهارة فی هذا الطرف؛ لأنّه لیس له معارض، وأمّا بناءً علی القول بالعلّیة، فلا تجری قاعدة الطهارة فی هذا الطرف وإن لم یکن لها معارض، فتظهر الثمرة فی ذلک.

ص: 735

والوجه فی ذلک واضح: لأنّ قاعدة الطهارة فی مرتبتها لا معارض لها التی هی مرتبة ما بعد سقوط استصحاب الأصل الحاکم؛ لأنّها فی طول استصحاب الطهارة، بعد سقوط استصحاب الطهارة بالمعارضة مع قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، قاعدة الطهارة فی هذا الطرف لا معارض لها، فی ظرف جریانها وفی مرتبتها لا معارض لها، وفی المرتبة السابقة لا وجود لقاعدة الطهارة فی هذا الطرف حتّی تسقط، لا وجود لها أصلاً؛ لأنّها إنّما توجد بعد سقوط الأصل الحاکم الذی هو عبارة عن استصحاب الطهارة.

المحقق العراقی(قدّس سرّه) رکّز کلامه علی هذه الصورة واعتبرها نقضاً علی القول بالاقتضاء، قال بأن القائل بالاقتضاء ماذا یقول فی المقام ؟ مقتضی القول بالاقتضاء هو الالتزام بجواز التمسّک بقاعدة الطهارة فی هذا الطرف لعدم المعارض، وبالتالی لا تجب الموافقة القطعیة حینئذٍ، وهذا نقض علی القائل بالاقتضاء؛ لأنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) یقول من البعید جدّاً أن یلتزم أحد بعدم وجوب الموافقة القطعیة فی محل الکلام، فبعد استبعاد الالتزام بعدم وجوب الموافقة القطعیة وجواز المخالفة الاحتمالیة فی محل الکلام؛ حینئذٍ یکون هذا نقضاً علی القائل بالاقتضاء؛ لأنّک لا تلتزم بعدم وجوب الموافقة القطعیة، بینما القول بالاقتضاء یقتضی الالتزام بعدم وجوب الموافقة القطعیة وجواز المخالفة الاحتمالیة، فماذا تصنع فی المقام ؟ فجعله نقضاً علی القول بالاقتضاء.

ومن هنا تصدّی القائلون بالاقتضاء للجواب عن هذا النقض وبیان أنّ الثمرة لا تظهر فی المقام، علی کلا التقدیرین لا یجری هذا الأصل المؤمّن فی هذا الطرف سواء قلنا بالعلّیة، أو قلنا بالاقتضاء، فلا تظهر الثمرة ولا یکون هذا نقضاً علینا.

ص: 736

المستفاد من کلمات المحقق النائینی(قدّس سرّه) الذی هو أبرز القائلین بالاقتضاء، أنّه أجاب عن هذا النقض بجوابین مذکورین فی تقریراته:

الجواب الأوّل: (1) یلزم من جریان الأصل فی محل الکلام، والمقصود بالأصل هو الأصل الترخیصی الطولی الذی یُراد إجراءه فی هذا الطرف بعد سقوط الأصل الحاکم علیه فی طرفه مع الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر. یقول: جریان هذا الأصل الترخیصی الطولی ------------- قاعدة الطهارة فی محل الکلام -------------- یلزم منه المحال، یلزم من وجوده عدمه، (2) وکل ما یلزم من وجوده عدمه یکون محالاً، إذن: لا یجری الأصل الترخیصی الطولی فی محل الکلام، ولا تظهر الثمرة؛ لأنّ هذا الأصل حتّی علی القول بالاقتضاء لا یجری، فضلاً عن القول بالعلّیة، کیف یلزم من جریان هذا الأصل الترخیصی الطولی فی مورده المحال ویلزم من وجوده عدمه ؟ یبیّن ذلک، یقول: باعتبار أنّ سقوط الأصل الحاکم ووصول النوبة إلی قاعدة الطهارة فی طرفه، هذا ینشأ فی الحقیقة من العلم الإجمالی ومنجّزیته؛ لأنّ العلم الإجمالی وکونه منجّزاً هذا یوجب سقوط الأصل الحاکم فی هذا الطرف، وإلاّ لو لم یکن هناک علم إجمالی ولو لم یکن العلم الإجمالی له تنجیز، فلا موجب لسقوط الأصل الحاکم فی هذا الطرف، وکان بالإمکان أن نجری استصحاب الطهارة فی هذا الطرف، وإنّما الذی أوجب سقوط الأصل الحاکم هو العلم الإجمالی وکونه منجّزاً، باعتبار أنّ هذا العلم الإجمالی یوجب التعارض بین استصحاب الطهارة فی هذا الطرف مع قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، یوجب التعارض بینهما والتساقط، فالعلم الإجمالی وکونه منجّزاً هو الذی أوجب سقوط هذا الأصل الحاکم فی هذا الطرف وقاعدة الطهارة فی ذاک الطرف، إذن: سقوط الأصل الحاکم وهو استصحاب الطهارة فی هذا الطرف ووصول النوبة إلی قاعدة الطهارة فی هذا الطرف نفسه هو ناشئ من العلم الإجمالی ومنجّزیته، فلو لم یکن العلم الإجمالی منجّزاً لما سقط الأصل الحاکم ولما وصلت النوبة إلی قاعدة الطهارة فی نفس الطرف؛ حینئذٍ یقول: إذا فرضنا أنّ الأصل الطولی الترخیصی فی هذا الطرف وهو قاعدة الطهارة فی مستصحب الطهارة إذا فرضنا أنّها تجری، یعنی توجب انحلال العلم الإجمالی ورفع منجزیته، معناه أنّ العلم الإجمالی لا یمنع من جریان الأصول فی أطرافه، إذا جرت قاعدة الطهارة فی هذا الطرف، فهذا معناه انحلال العلم الإجمالی وعدم منجّزیته وهذا هو معنی أنّ جریان الأصل الترخیصی الطولی یلزم من وجوده عدمه؛ لأنّ انحلال العلم الإجمالی ورفع منجزیته باعتبار جریان الأصل فی هذا الطرف یوجب رجوع الأصول النافیة التی سقطت سابقاً؛ لأنّه إذا ارتفعت منجّزیة العلم الإجمالی وأصبح غیر منجّز، فلا مانع حینئذٍ من استصحاب الطهارة فی هذا الطرف، فإذا جری الأصل المؤمّن الطولی فی هذا الطرف وحلّ العلم الإجمالی ورفع منجّزیته؛ حینئذٍ هذا یستلزم رجوع الأصول الترخیصیة المتعارضة العرضیة، وهی عبارة عن استصحاب الطهارة فی هذا الطرف وقاعدة الطهارة فی الطرف الآخر؛ لأنّ الذی أوجب سقوطها هو العلم الإجمالی ومنجّزیته، فإذا رفعنا منجّزیة العلم الإجمالی بجریان الأصل المؤمّن الطولی؛ فحینئذٍ ترجع هذه الأصول المتنافیة المتعارضة، وإذا رجعت الأصول المتنافیة وبضمنها استصحاب الطهارة؛ حینئذٍ یرتفع موضوع قاعدة الطهارة فی هذا الطرف باعتبار الحکومة، فیلزم من جریان هذا الأصل الطولی الترخیصی فی هذا الطرف عدم جریانه؛ لأنّ جریانه یبتنی علی سقوط الأصل الحاکم وسقوط الأصل الحاکم یتوقّف علی منجّزیة العلم الإجمالی، وإلاّ لماذا یسقط الأصل الحاکم ؟ فإذا جری الأصل الطولی الترخیصی، فمعنی جریانه أنّه لا تجب الموافقة القطعیة، وهذا یعنی أنّ العلم الإجمالی غیر منجّز لوجوب الموافقة القطعیة، فإذا کان جریان الأصل الطولی الترخیصی یوجب رفع منجّزیة العلم الإجمالی التی یتوقّف علیها أصل وجوده وأصل جریانه؛ لأنّ أصل جریان هذا الأصل الطولی یتوقّف علی منجّزیة العلم الإجمالی؛ لأنّه یتوقّف علی سقوط الأصل الحاکم حتّی تصل النوبة إلیه، وسقوط الأصل الحاکم یتوقّف علی منجّزیة العلم الإجمالی، فکیف یُعقل أن یکون هذا الأصل الذی یتوقّف فی أصل ثبوته وجریانه علی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون رافعاً لمنجّزیة العلم الإجمالی ؟ أن یکون رافعاً لما یقتضیه؛ لأنّ العلم الإجمالی ومنجّزیته هی التی تقتضی وجوده، فکیف یُعقل أن یکون رافعاً لما یقتضیه، وبحسب تعبیر المحقق النائینی(قدّس سرّه) یلزم من وجوده عدمه، أی بمجرد أن یجری معناه أنّ العلم الإجمالی قد انحل وارتفعت منجّزیته، وإذا ارتفعت منجّزیة العلم الإجمالی یعود الأصل الحاکم؛ لأنّ الرافع للأصل الحاکم هو منجّزیة العلم الإجمالی، فإذا قلنا أنّ هذا العلم الإجمالی لیس منجّزاً؛ حینئذٍ یرجع الأصل الحاکم، وإذا رجع الأصل الحاکم لا یجری الأصل الطولی المؤمّن، فیلزم من جریانه عدم جریانه، وهذا محال، ومن هنا لا یجری هذا الأصل الطولی المؤمّن.

ص: 737


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 46.
2- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 246.

الذی یُلاحظ علی هذا الجواب الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه): أنّه فیه خلط بین منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة وبین منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، الأصل الطولی الترخیصی، یعنی قاعدة الطهارة فی هذا الطرف، ماذا یرفع ؟ أیّ منجّزیةٍ من هاتین المنجّزیتین یرفعها الأصل الطولی الترخیصی ؟ قاعدة الطهارة عندما تجری فی هذا الطرف هل ترفع منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، أو ترفع منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب الموافقة القطعیة ؟ من الواضح أنّ الجواب هو الثانی، هو أصلاً یجری فی هذا الطرف ویثبت الترخیص فی هذا الطرف، وهذا معناه الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، معناه رفع المنجّزیة بمقدار وجوب الموافقة القطعیة ولیس أکثر من هذا، أمّا الطرف الآخر فیبقی، فالعلم الإجمالی ینجّزه ویوجب الاحتیاط فیه، قاعدة الطهارة تجری فی هذا الطرف وتثبت الترخیص فیه، وهذا ترخیص فی المخالفة الاحتمالیة ولیس ترخیصاً فی المخالفة القطعیة حتّی نقول أنّ هذا الأصل یرفع المنجّزیة بمقدار حرمة المخالفة القطعیة، کلا هو یرفع التنجیز بمقدار وجوب الموافقة القطعیة. إذن: ما یرفعه الأصل الترخیصی الطولی إذا جری هو عبارة عن المنجّزیة بمقدار وجوب الموافقة القطعیة لا المنجّزیة بمقدار حرمة المخالفة القطعیة.

سقوط الأصل الحاکم، وبالتالی جریان الأصل الطولی الترخیصی علی ماذا یتوقّف ؟ هل یتوقّف علی المنجّزیة بمقدار وجوب الموافقة القطعیة، أو یتوقف علی المنجّزیة بمقدار حرمة المخالفة القطعیة ؟ الجواب أیضاً واضح، أنّه یتوقّف علی منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة لا لوجوب الموافقة القطعیة؛ لأنّ استصحاب الطهارة فی هذا الطرف یسقط باعتبار أنّ جریانه مع جریان ما یعارضه فی الطرف الآخر وهو قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة وهو محال. جریانه وحده من دون معارضه ترجیح بلا مرجّح، إذن: حرمة المخالفة القطعیة بضمیمة استحالة الترجیح بلا مرجّح هو الذی أوجب سقوط الأصل الحاکم، وبالتالی وصول النوبة إلی الأصل المحکوم الذی هو قاعدة الطهارة فی هذا الطرف، المنجّزیة بمقدار حرمة المخالفة القطعیة بضمیمة استحالة الترجیح بلا مرجّح، هذا هو السبب فی سقوط الأصل الحاکم ووصول النوبة إلی الأصل الترخیصی الطولی المحکوم. إذا کان هذا واضحاً؛ حینئذٍ ینحل الإشکال، الإشکال کان مبنیّاً علی أنّ ما یتوقّف علیه جریان الأصل الطولی الترخیصی هو نفس ما یرفعه جریانه، هو یتوقف علی المنجّزیة وهو یرفع المنجّزیة، فیلزم الإشکال، من دون أن ندقق أنّ هذه المنجّزیة التی یتوقّف علیها ما هی؟ والمنجّزیة التی یرفعها ما هی ؟ هو یتوقّف علی المنجّزیة وإذا جری یرفع المنجّزیة، وهذا محال، أن یرفع ما یقتضیه، أو بعبارة أخری: یلزم من وجوده عدمه، بالبیان السابق، لکن هذا عندما تتّحد المنجّزیتان، بأن تکون نفس المنجّزیة التی یتوقّف علیها هو إذا جری یرفعها، أمّا إذا قلنا أنّه یتوقّف علی منجّزیةٍ، وما یرفعها هی منجّزیة أخری، هو یتوقف علی منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة؛ لأنّه ------------ جریان الأصل الطولی ------------- یتوقّف علی سقوط الأصل الحاکم، وسقوط الأصل الحاکم یتوقف علی منجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة، بینما إذا جری الأصل الطولی الترخیصی لا یرفع إلاّ المنجّزیة بمقدار وجوب الموافقة القطعیة، ومن هنا لا یلزم أیّ إشکال، لا یکون حینئذٍ جریان هذا الأصل رافعاً لما یقتضیه ولا یلزم من وجوده عدمه، یجری هذا الأصل فی هذا الطرف وما یثبته هو فقط الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة، فلا یکون رافعاً لمقتضیه ولا یلزم من وجوده عدمه وهذا معناه أنّ هذا الجواب لا یتم لإثبات عدم ظهور الثمرة کما قیل؛ بل مقتضی الصناعة هو أن نلتزم إلی هنا أنّ هذه الثمرة تظهر، هذا الأصل فی هذا الطرف بعد سقوط الأصل الحاکم علیه بالمعارضة مع الأصل الآخر، هذا علی القول بالعلّیة لا یجری، بینما یجری علی القول بالاقتضاء، ولا یلزم من جریانه المحال، فإذا کان یجری، فلابدّ أن یلتزموا بجریانه، وهم لا یلتزمون بجریانه، فیکون نقضاً علیهم.

ص: 738

((تنبیه))

لابدّ أن ننبّه علی أنّ المحقق النائینی(قدّس سرّه) لم یذکر الجواب الأوّل فی الصورة الثالثة التی نتکلّم عنها، وإنّما ذکره فی الصورة الثانیة المتقدّمة، یعنی عندما کان الأصل الحاکم الجاری فی أحد الطرفین أصلاً مثبتاً للتکلیف، فی الصورة الثالثة الأصل الحاکم أیضاً أصل ترخیصی، کل الأصول ترخیصیة، لکن لیس هناک مانع من أن تکون هناک طولیة بین أصلین ترخیصیین یجریان فی طرفٍ واحد، ویکون أحدهما حاکماً علی الآخر، هذا محل کلامنا. هو ذکر هذا الجواب الأوّل عندما کان هناک فی أحد الطرفین أصل مثبت للتکلیف وأصل ترخیصی، وکان الأصل الترخیصی فی طول الأصل المثبت للتکلیف، ویکون الأصل المثبت للتکلیف حاکماً علیه. الوجه نفسه یجری، هذا الأصل یعارض ذاک الأصل الآخر، فیسقطان، فتصل النوبة إلی الأصل الترخیصی بعد سقوط الدلیل الحاکم، فیأتی هذا الکلام ولیس هناک فرق بینهما.

الجواب الثانی: (1) الذی ذکره لمنع جریان الأصل الترخیصی فی محل الکلام فی الصورة الثالثة، أیضاً ذُکر فی کلا التقریرین، وهو ما ذکره من أنّ تعارض الأصول إنّما هو باعتبار تعارض مؤدیاتها وما هو المجعول فیها، باعتبار أنّ مؤدّی هذا الأصل یعارض مؤدّی ذاک الأصل، المناط علی المؤدی، ما هو المجعول فی هذا الأصل یعارض ما هو المجعول فی ذاک الأصل، یقول: والمؤدّی وما هو المجعول فی کلٍ من استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة أمر واحد، وهو عبارة عن طهارة مشکوک الطهارة والنجاسة، الشیء الذی تشک فی طهارته ونجاسته هو محکوم بالطهارة، هذا مفاد الاستصحاب وأیضاً مفاد قاعدة الطهارة، إذن: المؤدی فی الأصلین الحاکم والمحکوم ------------- الذی هو استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة -------------- واحد، ما هو المجعول فیهما واحد، وهو طهارة مشکوک الطهارة والنجاسة، هذا هو الذی یُفهم من الدلیل، والمفروض فی محل الکلام أنّه لا یمکن جعل الطهارة فی کلٍ من الطرفین؛ لأنّه یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فلا یمکن جعل هذا المؤدّی فی کلٍ من الطرفین، وهذا معناه أنّ مؤدّی الاستصحاب ومؤدّی قاعدة الطهارة فی هذا الطرف تعارض مؤدّی قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، وبذلک کل هذه الأصول تدخل فی المعارضة، کما أنّ استصحاب الطهارة یعارض قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، قاعدة الطهارة فی مستصحب الطهارة أیضاً تعارض قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر؛ لأنّ التعارض بین الأصول بحسب مؤدیاتها وبحسب ما هو المجعول فیها، هل یمکن أن یُجمع بین هذا المجعول وذاک المجعول فی الطرف الآخر، أو لا ؟ فإذا طرحنا هذا السؤال، فمن الواضح أنّ الجواب هو لا یمکن الجمع بین ما هو المجعول فی استصحاب الطهارة وبین ما هو المجعول فی قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر؛ لأنّه یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، ونفس الکلام نقوله فی قاعدة الطهارة فی هذا الطرف، ما هو المجعول فی قاعدة الطهارة ؟ هو نفس المؤدّی، هو طهارة مشکوک الطهارة والنجاسة، هذا أیضاً لا یمکن الالتزام بجعله مع جعل قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، وهذا معناه أنّ التعارض لا یقتصر علی استصحاب الطهارة مع قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، وإنّما قاعدة الطهارة فی مستصحب الطهارة تدخل طرفاً فی المعارضة وهذا یقتضی سقوط جمیع الأصول فی عرضٍ واحد. إذن: قاعدة الطهارة فی هذا الطرف لا تجری؛ لأنّها تسقط بالمعارضة کما سقط استصحاب الطهارة، فلا تظهر الثمرة، سواء قلنا بالعلّیة لا یجری هذا الأصل الطولی المؤمّن، أو قلنا بالاقتضاء أیضاً لا یجری؛ لأنّ مفاد کل هذه الأصول واحد وکلّها تدخل طرفاً فی المعارضة، وحیث أنّه لا یمکن إجراءها، فتسقط کل هذه الأصول فی عرضٍ واحد کما ذکر.

ص: 739


1- فوائد الأصول، إفادات المیرزا النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 48.

ثمّ یقول(قدّس سرّه): وأمّا مسألة أنّ الاستصحاب حاکم علی قاعدة الطهارة، فلا اثر لها فی المقام، وإنّما یظهر أثرها فی الشک السببی والشک المسببی، وفی ذیل عبارته یشیر إلی أنّه وإن نُقل عن بعض الأعلام خلاف هذا، لکن التحقیق یقتضی أنّ قاعدة الطهارة فی هذا الطرف تدخل طرفاً فی المعارضة ولا یمکن جعل هذا المؤدی مع مؤدی قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر. فیکون هذا هو الجواب الثانی عن النقض، وبالتالی یکون إنکاراً للثمرة فی محل الکلام.

المحقق العراقی(قدّس سرّه) أهتم بهذا الجواب الثانی، (1) وأجاب عنه بأنّه لو سلّمنا بأنّ المجعول والمؤدّی فی استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة أمر واحد کما ذکر، هو ینکر هذا ویری أنّهما أمران متغایران، المجعول فی استصحاب الطهارة غیر المجعول فی قاعدة الطهارة، حتّی لو سلّمنا أنّ التعارض بین الأصول إنّما هو باعتبار مؤدّیاتها وما هو المجعول فیها، یقول: المجعول متعدد فی استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة. یقول: لو سلّمنا أنّ مؤداهما أمر واحد، وما هو المجعول فیهما أمر واحد، لکن لا یمکن إنکار أنّ الشارع جعل طریقین لهذا المؤدّی الواحد والمجعول الواحد، واحد یُسمّی بالاستصحاب وواحد یُسمّی بقاعدة الطهارة، وجعل أحدهما فی طول الآخر بحیث أنّ النوبة لا تصل إلی أحدهما إلاّ بعد سقوط الآخر، وهذا واضح بالنسبة إلی الاستصحاب وبالنسبة إلی قاعدة الطهارة، لیکن مؤداهما واحداً غیر متعدد، لکن هناک طریقان لإثبات هذا المؤدّی مجعولان من قبل الشارع، الشارع هو جعل الاستصحاب وجعل قاعدة الطهارة لإثبات مؤدی واحد، وکان بین هذین الطریقین طولیة، یقول: حینئذٍ أیّ مانعٍ یمنع من التمسّک بقاعدة الطهارة والأخذ بعمومها فی محل الکلام فی ظرف سقوط الاستصحاب عن الحجّیة بالتعارض ؟ لأنّه یسقط بالمعارضة مع قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، وفی ظرف سقوط الاستصحاب عن الحجّیة ما هو المانع من أنّ نأخذ بقاعدة الطهارة فی طرفه، وإن أتّحد مفادها مع مفاد الاستصحاب، الشارع جعل لهذا المفاد الواحد طریقان أحدهما فی طول الآخر، فإذا سقط الأوّل بالمعارضة مع شیءٍ فی الطرف الآخر، أیّ محذورٍ فی أن نأخذ بالطریق الثانی، بقاعدة الطهارة لإثبات نفس المفاد الواحد ؟ باعتبار أنّ الأصل الذی یجری فی هذا الطرف ------------- الأصل المؤمّن الطولی، قاعدة الطهارة ------------ إنّما نأخذ به بعد سقوط الأصل الحاکم بالمعارضة مع قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر. یقول: لا محذور فی هذا؛ لأنّه مقتضی الصناعة تقتضی ذلک بعد فرض الطولیة فی طریقین، فی باب الدلالة، دلالة الاستصحاب سقطت عن الحجّیة بالمعارضة، ما هو المحذور فی أن نأخذ بالدلالة الثانیة ؟! أن نأخذ بعموم قاعدة الطهارة ونلتزم بها لإثبات عمومها لمحل الکلام، وإن کان مفادهما واحداً، وإن کان مؤداهما واحداً، لکنهما طریقان بینهما طولیة، فلا مانع حینئذٍ من الرجوع إلی قاعدة الطهارة فی مستصحب الطهارة.

ص: 740


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 320.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

ذکرنا أنّ الجواب الثانی الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) من عدم جواز الرجوع إلی الأصل المؤمّن الطولی؛ بل ذکر أنّ هذا الأصل یدخل کجزءٍ من المعارضة، الأصول الثلاثة فی الأطراف تتعارض وتتساقط، فلا یبقی أصل مؤمّن یُرجع إلیه فی هذا الطرف، وبذلک نصل إلی نفس النتیجة وهی عدم الترخیص فی المخالفة الاحتمالیة فی هذا المورد، فلا نلتزم بجواز المخالفة الاحتمالیة کما ذُکر فی النقض، ونصل أیضاً إلی النتیجة السابقة وهی أنّه لا تظهر الثمرة فی هذا المورد بین القول بالعلّیة وبین القول بالاقتضاء؛ لأنّه علی کلا التقدیرین لا یجری الأصل المؤمّن فی بعض الأطراف، لا علی القول بالعلّیة کما هو واضح، ولا علی القول بالاقتضاء؛ یقول لأننا نری أنّ هذا الأصل الطولی المرخّص هو طرف فی المعارضة لا أنّ الأصلین یتساقطان فی الطرفین وتصل النوبة إلی هذا الأصل الترخیصی المؤمّن، کلا، الأمر لیس کذلک، ودلیله علی ذلک الدلیل الثانی هو أنّ التعارض بین الأصول إنّما هو باعتبار مؤدّیاتها وما هو المجعول فیها، والمجعول فی استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة شیء واحد وهو طهارة المشکوک، وحیث أنّ الطهارة کحکم ظاهری لا یمکن جعلها فی کلا الطرفین؛ لأنّ هذا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ لا فرق بین أن تکون الطهارة مجعولة بالاستصحاب، أو بقاعدة الطهارة، الطهارة لا یمکن جعلها فی کلا الطرفین، کما أنّ هذا غیر ممکن بالاستصحاب هو أیضاً غیر ممکن بقاعدة الطهارة؛ لأننا بالنتیجة نجعل الطهارة فی هذا الطرف والطهارة فی ذاک الطرف، وهذا معناه أنّ قاعدة الطهارة فی مستصحب الطهارة تدخل جزءاً من المعارضة؛ لأنّ المعارضة بین الأصلین تنشأ من عدم إمکان جعلهما معاً فی الطرفین، وجعل أحدهما دون الآخر ترجیح بلا مرجّح، وهذا کما یمکن تطبیقه علی استصحاب الطهارة فی هذا الطرف مع قاعدة الطهارة فی ذاک الطرف، کذلک یمکن تطبیقه علی قاعدة الطهارة فی هذا الطرف، الذی هو الأصل الطولی المحکوم مع قاعدة الطهارة فی ذاک الطرف.

ص: 741

قد یوجّه ما قاله المحقق النائینی(قدّس سرّه) بأنّ المحذور من جریان الأصل فی الطرفین محذور ثبوتی، یعنی یؤدّی ذلک إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فجریان الأصل فی الطرفین منافٍ للمخالفة القطعیة، بلحاظ المحذور الثبوتی؛ حینئذٍ لا یُفرّق بین الأصول الحاکمة والأصول المحکومة، هناک محذور ثبوتی واقعی یترتّب هذا المحذور الثبوتی من جعل الطهارة کحکم ظاهری فی الطرفین مع العلم بنجاسة أحدهما؛ حینئذٍ لا یُفرّق بین الأصل الحاکم الذی هو استصحاب الطهارة فی هذا الطرف وبین الأصل المحکوم الذی هو قاعدة الطهارة فی نفس الطرف، جعل کلٍ منهما فی الطرفین محال، وجعل أحدهما فی أحد الطرفین ترجیح بلا مرجّح؛ ولذا لا فرق بینهما، فیمکن توجیه ما ذکره بهذا الشیء. وذکر فی عبارته کما ذکرنا فی الدرس السابق أنّه فرّق بین ما نحن فیه وبین الأصل السببی والأصل المسببی، قال: هناک لا مانع من الرجوع إلی الأصل المسببی عندما یسقط الأصل السببی بالمعارضة کما فی ملاقی أحد أطراف الشبهة المحصورة، عندما یسقط الأصل السببی بالمعارضة مع الطرف الآخر تصل النوبة إلی الأصل المسببی فی الملاقی، هنا یقول لا مانع من الرجوع إلی الأصل المسببی، فی محل الکلام منع من الرجوع إلی الأصل المحکوم، بینما هناک قال لا مانع من الرجوع إلی الأصل المسببی، والمقصود بالأصل المسببی هو الأصل الجاری فی الملاقی ----------- مثلاً ---------- ملاقی أحد أطراف الشبهة المحصورة، نعلم بنجاسة أحد شیئین، فی الملاقی، یعنی الأصل فی المُلاقی والأصل فی الطرف الآخر والأصل فی الملاقی کلّها تتعارض وتسقط کما ذکره هنا ؟ یقول: کلا، لعلّ السرّ فی ذلک أنّه یری أنّ المحذور فی محل الکلام ثبوتی؛ ولذا لا یُلحظ مسألة الحاکمیة والمحکومیة ولا مسألة الطولیة، بینما المحذور هناک فی مسألة الأصل السببی والأصل المسببی محذور إثباتی، لعلّه یقصد هذا.

ص: 742

قلنا أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) أجاب عن ذلک، ومرجع جوابه إلی أنّه فی محل الکلام حتّی إذا فرضنا أنّ الطهارة المجعولة بالاستصحاب والطهارة المجعولة بقاعدة الطهارة هی أمر واحد، لا مشکلة فی ذلک هی أمر واحد لکن له طریقان جعلهما الشارع یؤدّیان إلیه، أحدهما الاستصحاب والآخر قاعدة الطهارة، وأحد الطریقین مترتب علی الطریق الآخر، وفی طول الطریق الآخر، یعنی لا وجود له مع وجود الطریق الآخر، هذا معنی الطولیة والترتب، قاعدة الطهارة لیست طریقاً مع وجود استصحاب الطهارة، کما أنّ استصحاب الطهارة لیس طریقاً مع قیام الإمارة علی الطهارة، هناک طولیة بینها، مرّة تقوم الإمارة علی الطهارة ومرّة الاستصحاب یثبت الطهارة، ومرّة تثبت الطهارة بقاعدة الطهارة، بین هذه الأمور الثلاثة توجد طولیة، أفرض المؤدّی واحد، لکنّها فی مقام الإثبات والدلالة بینها طولیة، بمعنی أنّ النوبة لا تصل إلی المتأخّر منها إلاّ إذا أنعدم السابق، أمّا مع وجود السابق هی لیست طریقاً لإثبات الطهارة، یقول: بناءً علی هذا؛ حینئذٍ قاعدة الطهارة لا یُعقل أن تکون جاریة فی رتبة الاستصحاب؛ لأنّ وصول النوبة إلیه إنّما یکون إذا أنعدم موضوع الاستصحاب، ووصول النوبة إلی الاستصحاب إنّما یحصل إذا أنعدم قیام الإمارة علی الطهارة، إذا لم تقم الإمارة علی الطهارة تصل النوبة إلی الاستصحاب، وإذا لم یجرِ الاستصحاب تصل النوبة إلی قاعدة الطهارة. إذن: الاستصحاب الذی یعارض قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر فی هذه الحالة لا وجود ولا تحقق لقاعدة الطهارة فی نفس طرفه؛ لأنّها فی طوله، ولو فی مقام الإثبات والدلالة؛ فحینئذٍ لا معنی لأن یقال أنّها تسقط بالمعارضة مع الطرف الآخر. هذا هو جواب المحقق العراقی(قدّس سرّه).

ص: 743

الجواب الثالث: ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه)؛ لأنّه یقول بالاقتضاء ویتوجّه علیه هذا النقض بأنّه هل تلتزمون فی هذا المورد بجریان الأصل الطولی بناءً علی الاقتضاء؛ لأنّه بناءً علی الاقتضاء لا مانع من جریان الأصل فی بعض الأطراف إذا لم یکن له معارض، والأصل الطولی فی محل الکلام لیس له معارض؛ لأنّ المعارض، یعنی الأصل فی الطرف الآخر سقط بالتعارض مع الاستصحاب، فیبقی الأصل الطولی بلا معارض، بناءً علی الاقتضاء لابدّ أن یجری، فهل تلتزمون بجریانه وتجوّزون المخالفة الاحتمالیة، أو لا ؟ وهو لا یلتزم بذلک، فما هو الجواب عن هذا النقض ؟ ذکر (قدّس سرّه) جواباً، ذُکر فی تقریراته (1) (2) وهو جواب مفصّل لابدّ أن نذکره، حاصل ما ذکره: أنّ الأصل الجاری فی أحد الطرفین لا یخلوا من أحدی حالتین: إمّا أن یکون من سنخ الأصل الجاری فی الطرف الآخر، وإمّا أن لا یکون من سنخه، یختلف عنه سنخاً، من سنخٍ واحد مثل أصالة الطهارة وأصالة الطهارة، ومن سنخین مختلفین مثل أن یکون الأصل الجاری فی هذا الطرف هو أصالة الطهارة وفی الطرف الآخر هو أصالة الحلّیة. یقول: الأصلان العرضیان فی الطرفین إمّا أن یکونا من سنخٍ واحد أو من سنخین مختلفین.

إذا کانا من سنخٍ واحد، یقول: إمّا أن یکون أحد الطرفین مختصّاً بجریان أصلٍ طولی فیه دون الآخر، والتی هی الصورة الثالثة التی کنّا نتکلّم فیها، وإمّا أن لا یکون مختصّاً کذلک، ای لا یختص بأصلٍ طولی، وهذه بالدقّة تشمل ما إذا لم یکن هناک أصل طولی أصلاً، فقط أصلان عرضیان فی الطرفین، فنستطیع أن نقول لا یختص أحد الطرفین بأصلٍ طولی یجری فیه دون الآخر، ویشمل حالة ما إذا کان هناک أصلان طولیان فی الطرفین، یعنی أصلان عرضیان فی الطرفین وأصلان طولیان أیضاً فی الطرفین، أیضاً نستطیع أن نقول لا یختص أحد الطرفین بأصل طولی یجری فیه دون الآخر، هو یتکلّم عن کلتا الصورتین، وإمّا أن لا یکون کذلک؛ ولذا یقول: بناءً علی هذا التقسیم الأقسام المتصوّرة فی المقام ثلاثة:

ص: 744


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 363.
2- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الواعظ الحسینی، ج 2، ص 356.

القسم الأوّل: أن یکون الأصلان العرضیان من سنخٍ واحد مع اختصاص أحدهما بأصلٍ طولی، الذی هو مسألتنا تقریباً. هو یُمثّل لذلک بما إذا علم بوقوع نجاسة إمّا فی الماء، وإمّا علی الثوب، الأصل الذی یجری فی کل واحدٍ منهما هو أصالة الطهارة، هذان أصلان عرضیان، عند الشک فی طهارة الماء ونجاسته تجری أصالة الطهارة، وعند الشک فی طهارة الثوب ونجاسته أیضاً تجری أصالة الطهارة وهی من سنخٍ واحدٍ، لکن یوجد فی خصوص الماء اصل آخر طولی وهو اصالة الحل، بناءً علی أنّ أصالة الطهارة متقدّمة علی أصالة الحل، یعنی تکون حاکمةً علی أصالة الحل، بناءً علی هذا یکون هذا مثالاً؛ لأنّ أصالة الحل فی الماء هی فی طول أصالة الطهارة، فیختص أحد الطرفین بأصلٍ طولی، هذا الأصل الطولی لا یجری فی الثوب؛ إذ لا معنی لأصالة الحل فی الثوب وإنّما یجری فی الماء.

هنا فی هذه الصورة ذهب السید الخوئی(قدّس سرّه) خلافاً للمحقق النائینی(قدّس سرّه) إلی سقوط الأصلین العرضیین المتسانخین وجریان الأصل الطولی فی طرفه وهو أصالة الحل، أصالة الطهارة تسقط فی الطرفین، لکنّ الماء یمکن إجراء أصالة الحل فیه؛ لأننی أشک فی حلّیة شربه وحرمته، فالأصل فیه هو الحلّیة. لا تدخل أصالة الحل ----------- الأصل الطولی فی هذا الطرف ----------- طرفاً فی المعارضة ولا تسقط بالمعارضة، وإنّما یمکن الوصول إلیها والتمسّک بها لإثبات الحلّیة بالنسبة إلی الماء.

بینما المحقق النائینی(قدّس سرّه) یدخل الأصل الطولی طرفاً فی المعارضة ویلتزم بسقوط الأصول کلّها؛ لأنّ المحذور ثبوتی وهذا المحذور الثبوتی لا یُفرّق بین الأصل الحاکم الذی هو الاستصحاب فی مثاله وبین الأصل المحکوم الذی هو أصالة الطهارة فی المثال، وفی محل الکلام لا یُفرّق بین أصالة الطهارة التی هی الأصل الحاکم فی محل الکلام وبین أصالة الحلّیة التی هی الأصل المحکوم، کلّها تدخل فی المعارضة وتسقط. أمّا السید الخوئی(قدّس سرّه)، فیقول لا یدخل الأصل الطولی طرفاً فی المعارضة.

ص: 745

واستدل علی ذلک: بأنّ الأصل الجاری فی الطرفین لمّا کان من سنخٍ واحدٍ ----------- هو یُرکّز علی مسألة أنّهما من سنخٍ واحدٍ ---------- حینئذٍ لا مناص من القول بعدم شمول دلیله لکلا الطرفین، هذا السنخ الواحد، أصالة الطهارة لابدّ أن نقول أنّه لا یجری فی کلا الطرفین؛ لأنّه یستلزم المخالفة القطعیة ولا یجری فی أحدهما؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح، فإذن: أصالة الطهارة لا تجری فی کلا الطرفین ولا فی أحدهما؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح. وأمّا الأصل الطولی الذی هو أصالة الحلّیة فی الماء فی هذا المثال، أو قاعدة الطهارة فی المثال السابق، فلا مانع من شمول دلیله للطرف المختص به؛ إذ لا یلزم من هذا الشمول الترجیح من غیر مرجّح بعد عدم شمول دلیله للطرف الآخر کما هو المفروض، المفروض أنّ دلیل أصالة الحل لا یشمل الطرف الآخر الذی هو الثوب بحسب الفرض، وإنّما یختص بالماء، فعندما نجری أصالة الحل فی الماء لا یلزم من هذا الجریان الترجیح بلا مرجّح، بینما عندما نرید أن نجری أصالة الطهارة فی الماء فقط یلزم من ذلک الترجیح بلا مرجّح؛ لأنّ دلیل أصالة الطهارة کما یشمل هذا الطرف یشمل الطرف الآخر، فاختصاص الماء بالدلیل ترجیح بلا مرجح، فإذن: لا تجری أصالة الطهارة لا فی کلا الطرفین ولا فی أحد الطرفین، بینما أصالة الحل یمکن أن تجری فی الماء؛ لأنّ جریانها فیه لا یلزم منه الترجیح بلا مرجّح، فإذن: لا مانع من جریان هذا الأصل فی ذلک.

القسم الثانی: ما إذا کان الأصلان العرضیان من سنخٍ واحدٍ أیضاً کما فی الأوّل، لکن لا یختص أحد الطرفین بأصلٍ طولی، لا یوجد أصل طولی، فقط هناک أصلان عرضیان من سنخٍ واحدٍ. یقول: أنّ هذه الصورة تشمل ما إذا لم یکن هناک اصل طولی أصلاً، فقط أصلان عرضیان، أو کان هناک أصلان عرضیان وأصلان طولیان فی الطرفین، کلٌ من الطرفین فیه أصل عرضی وأصل طولی. یقول: هنا لا إشکال فی عدم جریان الأصل فی شیءٍ من الطرفین للمحذور المتقدّم مراراً من أنّ جریان الأصل فی کلا الطرفین یلزم منه الترخیص فی المخالفة القطعیة وجریانه فی أحدهما ترجیح بلا مرجّح، ونفس الکلام الذی نقوله عن الأصلین العرضیین نقوله عن الأصلین الطولیین لو فُرض وجودهما فی کلا الطرفین، فی الأصلین الطولیین أیضاً نقول لو فرضنا أنّ لدینا ماءین وعلمنا بنجاسة أحدهما، یوجد لدینا أصلان عرضیان وهما أصالة الطهارة وأصالة الطهارة وفی طولهما یوجد أصلان أیضاً وهما أصالة الإباحة وأصالة الحلّیة فی هذا، وأصالة الحلّیة فی هذا، نفس المانع الذی یمنع من جریان الأصلین الحاکمین الأوّلین فی الطرفین وفی أحد الطرفین، وهو مسألة الترجیح بلا مرجّح والترخیص فی المخالفة القطعیة نفسه یجری فی الأصلین الطولیین؛ إذ لا یمکنه الالتزام بحلّیة کلا الطرفین مع العلم بنجاسة أحدهما، کما أنّ اختصاص أحدهما بدلیل الحلّیة ترجیح بلا مرجّح، فإذن: لا یمکن أن یجری الأصل فی شیءٍ من الطرفین.

ص: 746

القسم الثالث: ما إذا کان الأصلان العرضیان فی الطرفین غیر متسانخین کما إذا فرضنا أننا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الماءین، أو غصبیة الآخر، ماءان نعلم أنّ أحدهما نجس، أو أنّ الآخر غصب، إمّا أن یکون أحدهما نجساً، فالآخر لیس غصباً، أو یکون أحدهما غصباً، فالآخر لیس نجساً. الأصل الذی یجری فی محتمل النجاسة هو أصالة الطهارة، بینما الأصل الذی یجری فی محتمل الغصبیة هو أصالة الحل، وأصالة الطهارة تختلف سنخاً عن أصالة الحل، هذان هما الأصلان العرضیان الجاریان فی الطرفین. هنا یقول لا فرق فی ما نقوله بین ما إذا اختص أحد الطرفین بأصلٍ طولی ---------- التفصیل الذی ذکره فی ما إذا کانا من سنخٍ واحد لا یجری هنا ---------- کما فی هذا المثال، محتمل النجاسة تجری فیه أصالة الطهارة، لکن هناک أصل آخر فی طوله وهو أصالة الحلّیة، أمّا محتمل الغصبیة فتجری فیه أصالة الحلّیة ولیس هناک أصل فی طوله، أو نفترض عدم اختصاص أحدهما بأصلٍ طولی، المهم عدم تسانخ الأصلین العرضیین. هناک ذکر بأنّه یتنجّز الواقع علی کل تقدیر ولا یمکن الرجوع إلی الأصل الطولی، لو وجد؛ بل یتنجّز الواقع ویجب الاحتیاط ولا تجوز المخالفة الاحتمالیة، واستدل علی هذا، وینبغی التأمّل فی هذا؛ لأنّه هو سوف یکون الفرق بین هذا القسم والقسم الأوّل، ما هو الفرق بین القسم الأوّل والقسم الثالث ؟ فی القسم الأوّل ذکر بأنّه یمکن الرجوع إلی الأصل الطولی، بینما هنا یقول لا یجوز الرجوع إلی الأصل الطولی، لو وجد، وإنّما یتنجّز الواقع علی کل حال، الفرق بینهما ینبغی أن یُبحث فی مسألة السنخیة وعدمها؛ لأنّ هذا هو الفارق بینهما، هناک فرض أنّ الأصلین العرضیین من سنخٍ واحدٍ، بینما هنا من سنخین مختلفین.

ص: 747

استدلّ علی ذلک بأنّ الأصلین فی الطرفین غیر متسانخین، وهذا هو المفروض فی المقام، إلاّ أنّه بعد العلم بالحرام الموجود فی البین یکون الترخیص الظاهری فی کلٍ من الطرفین مستلزماً للمخالفة القطعیة، وفی أحدهما ترجیحاً بلا مرجّح، بلا فرق فی ذلک بین کون الدلیل المرخّص فیه من الأصول الحاکمة، أو المحکومة، کلّها تدخل فی المعارضة، والذی هو رأی المحقق النائینی(قدّس سرّه) المتقدّم نقله عنه فی الصورة الثالثة. یقول: بعد أن علم المکلّف إجمالاً بوجود الحرام فی أحد هذین، هذا العلم الإجمالی بوجود الحرام فی أحد هذین کما یمنع من إجراء أصالة الحل فی محتمل الغصبیة منضمّاً إلی أصالة الطهارة ----------- الأصل الحاکم ----------- فی محتمل النجاسة، لماذا یمنع منه العلم الإجمالی بوجود الحرام ؟ لأنّ جریانهما معاً یؤدّی إلی المخالفة القطعیة، واختصاص أحدهما بالدلیل ترجیح بلا مرجّح. یقول: نفس هذا الکلام نستطیع أن ننقله إلی الأصل المحکوم، هذا المانع الذی یمنع من إجراء الأصل فی کلا الطرفین وفی أحد الطرفین، هذا المانع بنفسه موجود بلحاظ الأصل المحکوم الذی هو فی مثالنا أصالة الحلّیة المحکومة لأصالة الطهارة بالنسبة إلی الماء، وبین أصالة الحلّیة فی الطرف الآخر، کما أنّنا طبّقنا هذا الکلام علی أصالة الطهارة فی مقابل أصالة الحلّیة فی محتمل الغصبیة، نفس هذا الکلام نطبّقه علی أصالة الحلّیة فی محتمل النجاسة مع أصالة الحلّیة فی محتمل الغصبیة، بأن نقول: أنّ جریان أصالة الحلّیة فی محتمل النجاسة و أصالة الحلّیة فی محتمل الغصبیة یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وجریانه فی أحدهما ترجیح بلا مرجّح، فإذن: نفس المانع الذی منعنا من أن نلتزم بجریان الأصلین العرضیین فی الطرفین ومنعنا من أن نلتزم بجریان أحد الأصلین فی أحد الطرفین، نفسه موجود بالنسبة إلی الأصل المحکوم؛ لأنّ جریان أصالة الإباحة فی کلٍ من الطرفین یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، واختصاص أصالة الإباحة بأحدهما یؤدّی إلی الترجیح بلا مرجّح وهذا محال، فإذن: بالنتیجة لابدّ أن نلتزم بتساقط کل الأصول.

ص: 748

لأوّل وهلةٍ قد یقال: ما هو الفرق بین القسم الأوّل وبین القسم الثالث ؟ فهناک یمکن أن نطبّق نفس هذا الکلام، فهناک کان لدینا اصلان عرضیان من سنخٍ واحد، وهناک أصل طولی فی أحد الطرفین، أصالة الطهارة وفی طوله أصالة الإباحة، غایة الأمر أنّ الأصلان العرضیان من سنخٍ واحد، هناک قال: لیس هناک مانع، نرجع إلی الأصل الطولی، تتعارض أصالة الطهارة فی الطرفین، فتتساقط، فنرجع إلی أصالة الإباحة فی الماء الذی هو أصل طولی، نفس هذا الکلام نستطیع أن نقوله هنا، أصالة الإباحة فی الماء إذا قسناها بأصالة الطهارة فی الثوب لا یمکن إجراءهما معاً، هل یمکن أن نلتزم بأن الماء یُباح شربه وفی نفس الوقت نلتزم بطهارة الثوب ؟ لا یمکن؛ لأننا نعلم بأنّ النجاسة فی أحدهما، والنجاسة تولّد حرمة الشرب، لو کانت النجاسة فی الماء، معناه یحرم شربه، إذن: أنا أعلم بأنّه إمّا الماء یحرم شربه، أو الطرف الآخر نجس ولیس طاهراً، فالتزم بطهارة الطرف الآخر وإباحة شرب الماء، فکأنّه التزمت بطهارة کلٍ منهما، یعنی أجریت الأصلین فی الطرفین، وهذا یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، کما أنّ اختصاص أحد الأصلین بأحد الطرفین ترجیح بلا مرجّح، ما هو الفرق بینهما ؟ نفس هذا الکلام الذی قاله فی القسم الثالث لأوّل وهلة یبدو أنّه یمکن أن یقال فی القسم الأوّل، فهل هناک نکتة ؟ والنکتة ینبغی التماسها کما قلنا فی مسألة المسانخة وعدمها؛ لأنّ هذا هو الفرق بین القسم الثالث والقسم الأوّل، هل هناک نکتة تقتضی التفریق بینهما، أو لا ؟

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

ص: 749

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

کان الکلام فی الجواب الثالث الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) کما هو فی تقریراته (1) (2) وذکرناه مفصّلاً وکان یتلخّص فی أنّ الأصلین العرضیین المتعارضان فی الطرفین متی ما کانا من سنخٍ واحد کأصالة الطهارة فی هذا الطرف وأصالة الطهارة فی هذا الطرف، هنا لا مانع من الرجوع إلی الأصل الطولی، یتساقط الأصلان العرضیان من سنخٍ واحد فی الطرفین ویُرجع إلی الأصل الطولی، ومتی ما کان الأصلان العرضیان فی الطرفین من سنخین مختلفین لا یمکن الرجوع إلی الأصل الطولی؛ بل یدخل الأصل الطولی طرفاً فی المعارضة وتتساقط جمیع الأصول. قلنا أنّنا یجب أن نبحث عن الفرق بین القسمین فی مسألة السنخیة وعدمها، الفرق یکمن فی هذا؛ لأنّه لا فرق بین القسم الأوّل والقسم الثانی الذی هو القسم الأوّل فی کلامه والقسم الثالث، هو ذکر قسماً ثانیاً لیس کلامنا فیه. لا فرق بین القسمین إلاّ فی أنّ الأصلین العرضیین هل هما من سنخٍ واحدٍ کأصالة الطهارة وأصالة الطهارة، أو هما من سنخین کأصالة الطهارة وأصالة الإباحة، فالفرق هو أنّهما إن کانا من سنخٍ واحد تصل النوبة إلی الأصل الطولی بلا محذور، وإن کانا من سنخین مختلفین لا یجوز الرجوع إلی الأصل الطولی.

السید الخوئی(قدّس سرّه) ذکر فی بحثٍ آخر ما هو السرّ فی هذا وما هو السبب فی التفرقة بین القسمین، ذکره فی بحث ملاقی الشبهة، (3) هناک ذکر أمراً یمکن جعله وجهاً للتفرقة بین القسمین فی محل الکلام، وحاصل ما ذکره هو: إذا کان الأصلان العرضیان فی الطرفین من سنخٍ واحد؛ حینئذٍ یکون دلیلهما واحداً، وهذا الدلیل الواحد ورد علیه المخصص العقلی المتّصل وهو استحالة الترخیص فی المخالفة القطعیة، فأنّه یمنع من شمول ذلک الدلیل لکلا الطرفین، لولا هذا المخصص لکان الدلیل ------------ دلیل أصالة الطهارة فی حالة کون الأصلین من سنخٍ واحدٍ ----------- فی حدّ نفسه شاملاً لکلٍ من الطرفین معاً، لکن ورد علیه المخصص الذی یمنع من شموله لکلا الطرفین، وهذا المخصص مخصص عقلی، والمحذور عقلی، فیکون بحکم المخصص المتّصل بالدلیل، فإذا کان متّصلاً بالدلیل؛ فحینئذٍ یوجب إجماله، فیصبح الدلیل باعتبار أنّ المخصص له متصلاً به مجملاً من هذه الناحیة، بمعنی أنّه لا یُعلم بأنّه هل یجری فی هذا الطرف، أو یجری فی ذاک الطرف ؟ یصاب هذا الدلیل بالإجمال الداخلی؛ لأنّه لا یشمل کلا الطرفین؛ لأنّه ترخیص فی المخالفة القطعیة، هل یشمل هذا فقط، أو یشمل ذاک فقط ؟ الدلیل الواحد یکون مجملا، فإذا کان الدلیل الواحد مجملاً من هذه الناحیة؛ فحینئذٍ لا یمکن إجراءه فی کلا الطرفین ولا فی أحد الطرفین؛ لأنّه أصبح مجملاً بحسب هذا الفرض، فلا یصح التمسّک به فی أحد الطرفین، وهذا معناه سقوط الأصل وعدم شموله لکلا الطرفین، فتصل النوبة إلی الأصل الطولی بلا محذور؛ لأنّ الأصلین العرضیین عندما یکونا من سنخ واحد یُصاب دلیلهما بالإجمال من هذه الناحیة، فلا یمکن التمسّک به لإثبات مفاده فی هذا الطرف ولا فی ذاک الطرف، وهذا معناه أنّ الدلیل لا یشمل کلا الطرفین. هذه هی النکتة التی یعتمد علیها لإثبات صحّة الرجوع إلی الأصل الطولی عندما یکونان الأصلان المتعارضان العرضیان من سنخٍ واحدٍ.

ص: 750


1- دراسات فی علم الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید الشاهرودی، ج 3، ص 364.
2- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد الواعظ الحسینی، ج 2، ص 357.
3- الهدایة فی الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للشیخ حسن الصافی، ج 3، ص 426.

أمّا إذا کان الأصلان العرضیان من سنخین مختلفین، (1) أصالة الطهارة فی هذا الطرف تعارض أصالة الإباحة فی الطرف الآخر، یقول: فی هذه الحالة لا یمکن أن نثبت نفس النتیجة وهی تساقط هذین الأصلین وإمکان الرجوع إلی الأصل الطولی بنفس النکتة السابقة؛ لأنّ کل أصلٍ له دلیل یخصّه، ودلیل کلٍ من الأصلین لیس فیه إجمال؛ إذ لا محذور من شموله لمورده، فدلیل أصالة الطهارة فی حدّ نفسه یشمل هذا الطرف، ودلیل أصالة الإباحة فی حدّ نفسه یشمل ذلک الطرف، فإذن: لا موجب لافتراض وقوع الإجمال فی دلیل أصالة الطهارة، کما لا موجب لافتراض وقوع الإجمال فی دلیل أصالة الإباحة؛ لأنّ کلاً من الأصلین له دلیل یخصّه، وهذا الدلیل لا مانع من شموله لمورده، فإذن: نکتة الإجمال التی ارتکزنا علیها فی القسم الأوّل لإثبات تعارض الأصلین العرضیین والرجوع إلی الأصل الطولی لیست موجودة فی حالة کون الأصلین العرضیین من سنخین مختلفین؛ لأنّ کل واحدٍ منهما له دلیل یخصّه ولیس لهما دلیل واحد حتّی یقال أنّ هذا الدلیل الواحد یُصاب بالإجمال، فتصل النوبة إلی الأصل الطولی بلا محذور؛ بل لهما دلیلان، ودلیل کل واحدٍ منهما فی حدّ نفسه لیس فیه إجمال ویمکن أن یشمل مورده، فنکتة الإجمال لیست موجودة فی حال افتراض کونهما من سنخین مختلفین. نعم، لا إشکال فی أنّه یقع التعارض بین هذین الأصلین، ولا یمکن إجراءهما معاً، لا یمکن أن نجری أصالة الطهارة فی هذا الطرف وأصالة الإباحة فی ذاک الطرف؛ لأنّ هذا یؤدی إلی المخالفة القطعیة، فیقع التعارض بینهما، لکن الکلام فی الأصل الطولی، هذا الأصل الطولی فی حالة عدم التسانخ هل یدخل طرفاً فی هذه المعارضة، فتکون المعارضة ثلاثیة بین الأصول الثلاثة، أو لا یدخل طرفاً ؟ السید الخوئی(قدّس سرّه) یقول: أنّه یدخل طرفاً فی المعارضة. وبذلک تتساقط کل الأصول الثلاثة ولا یمکن الرجوع إلی الأصل الطولی، بعد ما قلناه فی القسم الأوّل من تعارض القسمین وتساقطهما وعدم شمول الأصل لکلٍ من الطرفین باعتبار الإجمال، هذا لا یصح أن یقال فی الصورة الثانیة وفی القسم الثانی؛ بل هو یری أنّ الأصل الطولی یدخل فی المعارضة، فیحصل التعارض بین کل الأصول الثلاثة وتسقط کلّها فی محل الکلام.

ص: 751


1- الهدایة فی الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للشیخ حسن الصافی، ج 3، ص 427 -- 428.

ما هو الدلیل علی أنّ الأصل الطولی فی هذه الصورة یدخل فی المعارضة، والمعارضة کما توجب سقوط الأصلین العرضیین کذلک توجب سقوط الأصل الطولی، ما هو الدلیل علی هذا ؟

الدلیل علی ذلک هو الذی قلنا أنّه ذکره فی بحثٍ آخر، وحاصله: أنّ الأصل الطولی وإن کان هو فی طول الأصل الحاکم فی طرفه، هو فی رتبةٍ متأخّرةٍ عن الأصل الحاکم فی طرفه، حیث قلنا أنّ لدینا فی طرف أصالة الطهارة وأصالة الحلّیة التی هی فی طول أصالة الطهارة، وفی الطرف الآخر لدینا أصالة الحلّیة، فالأصلان العرضیان أصالة الطهارة فی هذا الطرف وأصالة الإباحة فی هذا الطرف وهما من سنخین مختلفین، صحیح أنّ الأصل الطولی هو فی رتبةٍ متأخّرةٍ عن الأصل الحاکم فی طرفه، لکن هذا لا یعنی بالضرورة أنّ الأصل المحکوم، أی الأصل الطولی أیضاً یکون متأخّراً عن الأصل الجاری فی الطرف الآخر، لیس لدینا قاعدة عقلیة تلزمنا أن نقول أنّ هذا الأصل الطولی فی مورده عندما یکون فی مرتبة متأخّرة عن أصلٍ حاکمٍ فی نفس المورد أنّه یجب أن یکون هذا الأصل الطولی هو أیضاً فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عن الأصل الجاری فی الطرف الآخر، نقول: هذا یصح عندما یکون التقدّم والتأخّر فی الزمان، فالمتأخّر عن شیء فی الزمان قهراً یکون متأخراً عن مساوی ذلک الشیء الذی یحصل فی نفس زمانه. (1) شیئان یحصلان فی زمان واحد وکان هناک شیء متأخّر عن أحدهما زماناً، قهراً هذا المتأخّر عن أحدهما زماناً یکون أیضاً متأخّراً عن الآخر زماناً، لکن التقدّم والتأخّر فی محل الکلام تقدّم وتأخّر رتبی ولیس زمانیاً، ولیس هناک قانون یقول أنّ التأخّر عن أحد المتساویین رتبةً یجب أن یکون متأخراً عن مساویه فی الرتبة؛ لأنّ التأخّر الرتبی یعنی أنّ هذا المتأخّر ناشئ من ذاک ومعلول له، هذا معنی التأخّر الرتبی، أنّه ناشئ منه ومعلول له، لیس هناک ملزم عقلی بأنّ هذا الناشئ من هذا یجب أن یکون ناشئاً من الآخر ومعلولاً له، التأخّر الرتبی یعنی أنّ أحد شیئین هو فی طول الآخر وینشئ من الآخر ومعلولاً له، فلیکن هذا معلولاً لهذا، لکن لیس بالضرورة أن یکون أیضاً ناشئاً ومعلولاً لما یساوی ذاک فی الرتبة، هذا إنّما یصدق فی التقدّم والتأخّر الزمانی دون التقدّم والتأخّر الرتبی.

ص: 752


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السید الخوئی للسید محمد الواعظ الحسینی، ج 2، ص 417 -- 418.

بناءً علی هذا؛ حینئذٍ لا مشکلة فی افتراض التعارض الثلاثی، وإن کان الأصل الطولی متأخّراً رتبةً عن الأصل الحاکم الجاری فی طرفه؛ لأنّ الأصل المحکوم المتأخّر رتبة عن الأصل الحاکم فی طرفه لیس متأخّراً رتبةً عن الأصل فی الطرف الآخر، فإذا لم یکن متأخّراً عنه رتبةً، فأنّه یدخل فی المعارضة، والمعارضة تکون ثلاثیة وکما أنّ هذا الأصل فی الطرف الأخر یُعارض الأصل الحاکم کذلک هو یعارض الأصل المحکوم؛ لماذا تختص المعارضة والمنافاة فقط مع الأصل الحاکم ؟! بل هو له قابلیة أن یعارض کلا الأصلین، الحاکم والمحکوم الّذَین هما فی رتبتین متعددّتین، فکما أنّه یعارض الأصل الحاکم ولا یمکن الجمع بینهما للزوم المحذور العقلی کذلک هو یعارض الأصل المحکوم ولا یمکن الجمع بینهما للزوم المحذور العقلی، ومسألة أنّ هذا متأخّر رتبة عن هذا، فلابدّ أن یکون متأخّراً رتبةً عن ذاک، فکیف یمکن إیقاع المعارضة بین أمرین بینهما تقدّم وتأخّر رتبی ؟ یقول: لا یصح هذا الکلام، وإنّما هذا یصح فی التقدّم والتأخّر الزمانی، وفی التقدّم والتأخّر الزمانی لیس هناک دلیل یقول أنّ هذا الأصل الطولی هو متأخر رتبة عن الأصل فی الطرف الآخر، ومجرّد أنّه متأخّر رتبة عن الأصل الحاکم فی طرفه، هذا لا یعنی أنّه متأخّر رتبة أیضاً عن الأصل فی الطرف الآخر، وبهذا تکون الأصول کلّها متعارضة ولابدّ من الالتزام بتساقطها. ویشهد لهذا الأمر هذا المثال الذی هو یقول(قدّس سرّه) ولا أظن أنّ أحداً یلتزم بنتیجة ما ذکروه فیه، وهو ما إذا علم المکلّف ببطلان وضوئه لصلاة الصبح، أو بطلان صلاة الظهر بترک رکنٍ من أرکانها، أنّه علم إجمالاً بأنّه إمّا صلاة الصبح باطلة لترک الوضوء، أو أنّ صلاة الظهر باطلة؛ لأنّه ترک رکناً من أرکانها، یقول فی هذه الحالة یُحکم ببطلان الوضوء وبطلان صلاة الصبح وبطلان صلاة العصر؛ لأنّ الأصل المؤمّن الذی یجری عند الشکّ فی کل واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة الذی هو قاعدة الفراغ، هذه الأصول متعارضة فی الأطراف الثلاثة، أصالة الفراغ المصححّة للوضوء، وأصالة الفراغ المصححّة لصلاة الصبح، وقاعدة الفراغ المصححّة لصلاة الظهر، هذه کلّها لا یمکن أن تجری معاً فی الجمیع؛ لأنّه یعلم إجمالاً بأنّ أحدی الصلاتین باطلة، فتدخل کل هذه الأصول الثلاثة فی المعارضة وتسقط جمیعاً، فإذا سقطت جمیعاً؛ فحینئذٍ یجب علیه الوضوء، ویجب علیه إعادة صلاة الصبح، ویجب علیه إعادة صلاة الظهر، ویُحکم ببطلان کل هذه الأمور الثلاثة، مع أنّ الشکّ فی صلاة الصبح مُسبَبّ عن الشکّ فی صحّة الوضوء؛ لأنّه یحتمل بطلان صلاة الصبح من جهة احتمال بطلان الوضوء، فهو یعلم إجمالاً إمّا بطلان وضوئه لصلاة الصبح، أو ترک رکناً فی صلاة الظهر، فالشکّ فی صحّة صلاة الصبح مُسبَبّ عن الشکّ فی صحّة الوضوء، فالأصل الجاری فی الوضوء یکون حاکماً علی الأصل الجاری فی صلاة الصبح، الطولیة بینهما واضحة والتأخّر الرتبی واضح بین قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح وبین قاعدة الفراغ فی الوضوء، بالرغم من هذا یُحکم ببطلان الجمیع، ویُحکَم بدخول قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح فی المعارضة مع أنّه بناءً علی الکلام السابق ینبغی إیقاع المعارضة بین قاعدة الفراغ فی الوضوء وقاعدة الفراغ فی صلاة الظهر، هذان أصلان عرضیان یسقطان، فتصل النوبة إلی قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح، ویمکن حینئذٍ تصحیح صلاة الصبح، یقول: بینما الفتوی لیست علی هذا، وإنّما علی الحکم ببطلان الجمیع وإیقاع التعارض بین کل هذه الأصول المؤمّنة الثلاثة مع أنّه فی الطرف الواحد یوجد أصلان طولیان، ویقول أنا لا أظن أنّ أحداً یلتزم بتصحیح صلاة الصبح اعتماداً علی قاعدة الفراغ فیها بافتراض أنّ التعارض یقع بین قاعدة الفراغ فی الوضوء وقاعدة الفراغ فی صلاة الظهر، فیتساقطان، فتصل النوبة إلی قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح. یقول: هذا یؤیّد ما قلناه من أنّ الأصل الطولی یدخل فی المعارضة کما أنّ الأصل الحاکم یُعارض الأصل الجاری فی الطرف الآخر، الأصل المحکوم الطولی أیضاً یعارض الأصل الجاری فی الطرف الآخر، فالمعارضة ثلاثیة، وهذا یوجب سقوط کل الأصول فی محل الکلام.

ص: 753

إذن: نستطیع أن نقول أنّه فی جوابه یرید أن یقول: أنّ القاعدة فی محل الکلام تقتضی تساقط کل الأصول الثلاثة لما ذکره، فقط فی حالةٍ واحدة لا تقتضی سقوط کل الأصول وهی موجودة فی القسم الأوّل، وهی حالة ما إذا کان الأصلان العرضیان من سنخٍ واحدٍ؛ لأنّهما لهما دلیل واحد ویختص الأصل الطولی بدلیل یخصّه، إذا أُصیب الدلیل الأوّل بالإجمال وهذا الإجمال منع من شموله لکلٍ من الطرفین، فیبقی الأصل الآخر بدلیلٍ لیس فیه إجمال، فیمکن إجراءه فی مورده. هذا الاستثناء الوحید. أمّا إذا کان الأصلان العرضیان من سنخین مختلفین؛ فلا إجمال حینئذٍ، ولا تجری نکتة الإجمال؛ لأنّ کل أصلٍ له دلیل یخصّه ولیس هناک محذور فی أن یشمل هذا الدلیل مورده، وذاک الدلیل یشمل مورده، إذن: لا إجمال، فیأتی الدلیل الذی ذکره وهو أنّ الأصل الطولی یدخل طرفاً فی المعارضة، ولابدّ من الالتزام بسقوط الأصول الثلاثة. هذا الوجه الثالث الذی یذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) للجواب عن الشبهة فی محل الکلام.

ولکن لوحظ علیه عدّة أمور:

الأمر الأوّل: أنّ النکتة التی اعتمد علیها لإثبات إمکان الرجوع إلی الأصل الطولی وهی نکتة أن یکون الأصلان العرضیان من سنخٍ واحدٍ؛ فحینئذٍ یقع التعارض بین الأصلین العرضیین ویتساقطان لإجمال الدلیل، فتصل النوبة إلی الأصل الطولی، الملاحظة هی أنّ هذه النکتة لا تختصّ بافتراض الطولیة بین الأصلین، النکتة هی أنّ الأصلین العرضیین من سنخٍ واحد، أو لا ؟ إذا کانا من سنخٍ واحد، إذن: الأصل الثالث یختص بدلیلٍ یخصّه، سواء کان هذا الأصل الثالث فی طول أحد الأصلین، أو کان فی عرضهما، النکتة واحدة، النکتة هی أنّه هل هناک أصلان لهما دلیل واحد فی قبال أصلٍ له دلیل یخصّه ؟ إذا کان هناک أصلان لهما دلیل واحد، هذا الدلیل الواحد یُبتلی بالإجمال، وهذا الإجمال یمنع من التمسّک به فی أیّ واحدٍ من الطرفین، فتصل النوبة إلی الدلیل الآخر الذی لیس فیه إجمال؛ لأنّ الأصل الثالث له دلیل یخصّه بحسب الفرض، ولا مانع ولا محذور عقلاً من شموله لمورده، فتصل النوبة إلیه؛ وحینئذٍ یحکم بجریانه، وإن لم یکن فی طول أحد الأصلین؛ لأنّ النکتة لیست إلاّ عبارة عن المسانخة وکون الأصلین لهما دلیل واحد، فالدلیل الواحد یکون مجملاً؛ وحینئذٍ یُرجَع إلی الدلیل الآخر الذی لا یُبتلی بالإجمال، سواء کان فی طوله، أو لم یکن فی طوله. (مثلاً): إذا فرضنا أنّ أحد الطرفین تجری فیه أصالة الطهارة وفی الطرف الآخر تجری أصالة الطهارة، أصلان من سنخٍ واحدٍ، وفرضنا أنّه فی أحد الطرفین یجری استصحاب الطهارة، بناءً علی أنّ استصحاب الطهارة لیس حاکماً علی أصالة الطهارة فی حالة التوافق، هذا محل کلام، أنّ استصحاب الطهارة هل هو حاکم علی قاعدة الطهارة مطلقاً، سواء توافقا، أو اختلفا، أو أنّه حاکم علیها إذا اختلفا؟ أمّا إذا کانا متّفقین فی المفاد، فلا حکومة، بناءً علی الرأی القائل بأنّ الاستصحاب الموافق لقاعدة الطهارة لیس حاکماً علیها، وإنّما هو فی عرضها، فإذن: لدینا طرفان، أحدهما یختصّ بقاعدة الطهارة والطرف الآخر تجری فیه قاعدة الطهارة واستصحاب الطهارة فی عرضٍ واحد، الاعتراض یقول بأنّ النکتة موجودة هنا، فینبغی أن نلتزم بتساقط أصالة الطهارة فی کلٍ من الطرفین والرجوع إلی استصحاب الطهارة؛ لأنّ استصحاب الطهارة یختصّ بدلیلٍ یخصّه، بینما أصالة الطهارة فی هذا الطرف وأصالة الطهارة فی ذاک الطرف لمّا کانت من سنخٍ واحدٍ، فلها دلیل واحد، وهذا الدلیل الواحد مخصصّ بالمحذور العقلی المتّصل المانع من شموله للطرفین، وهذا یوجب الإجمال فی هذا الدلیل الواحد، فیبقی دلیل استصحاب الطهارة لیس فیه إجمال، فیمکن الرجوع إلیه، فهل یُلتزَم بذلک ؟ یعنی نلغی حینئذٍ خصوصیة الطولیة بین الطرفین؛ فحتّی إذا کانا فی عرضٍ واحد، النکتة هی أنّه هل له دلیل یخصّه، أو لیس له دلیل یخصّه ؟ فإذا کان له دلیل یخصّه، فأنّه لا یصاب بالإجمال، فیمکن الرجوع إلیه.

ص: 754

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

کان الکلام فی النقض الذی وُجّه علی القول بالاقتضاء: وهو أنّه فی الموارد التی یکون هناک أصلان ترخیصیان عرضیان یجریان فی الطرفین وکان أحد الطرفین یختص بأصلٍ ترخیصی طولی، المعترض یقول: بناءً علی الاقتضاء لابدّ من الرجوع إلی الأصل الترخیصی الطولی، علی القواعد، أصلان ترخیصیان یتعارضان، فیتساقطان، فتصل النوبة إلی الأصل الطولی، وهذا یعنی أنّ العلم الإجمالی فی هذه الحالة لیس منجّزاً لوجوب الموافقة القطعیة، وهذا لا یلتزم به القائلون بالاقتضاء، فسُجّل نقضاً علیهم.

الجواب الثالث عن هذا النقض کان للسید الخوئی(قدّس سرّه)، وذکرنا جوابه وبیّنا الملاحظة الأوّلی علی هذا الجواب وقد تقدّمت.

الملاحظة الثانیة: النقض بما إذا لم یکن الأصّلان العرضیان من سنخٍ واحد، بأن کانا من سنخین مختلفین، لکن الأصل الطولی فی هذا الطرف مع الأصل فی الطرف الآخر کانا من سنخٍ واحدٍ، یعنی عکس الحالة التی کنّا نتکلّم فیها، حیث کنّا نتکلّم سابقاً فی القسم الأوّل الذی ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) هو أنّ الأصلین العرضیین من سنخٍ واحد، هنا نعکس، نقول: الأصلان العرضیان لیسا من سنخٍ واحد، لکن الأصل الطولی فی أحد الطرفین مع الأصل فی الطرف الآخر من سنخٍ واحدٍ. النقض یقول: مقتضی ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) من النکتة أن نلتزم فی هذه الحالة بسقوط الأصلین الّذین هما من سنخٍ واحدٍ، یعنی الأصل الطولی فی هذا الطرف مع الأصل فی الطرف الآخر؛ لأنّهما من سنخٍ واحد یسقطان وتصل النوبة إلی الأصل الحاکم فی ذاک الطرف، لنفس النکتة، والسرّ هو أنّ الأصل الطولی فی هذا الطرف مع الأصل فی ذاک الطرف لمّا کانا من سنخٍ واحدٍ، فدلیلهما واحد ویکون هذا الدلیل مجملاً بسبب التعارض لعدم إمکان إجرائهما معاً؛ وحینئذٍ هذا یمنع من جریان هذا الدلیل لإثبات مفاده فی کلٍ منهما، فتصل النوبة إلی الأصل الحاکم، فلابدّ أن نرجع إلی الأصل الحاکم، کما قال هو فیما إذا کان الأصلان العرضیان من سنخٍ واحدٍ، یکون دلیلهما مجملاً وتصل النوبة إلی الأصل المحکوم ------------- الأصل الطولی -------------- الآن نقول: إذا کان الأصل الطولی مع الأصل الجاری فی الطرف الآخر هما من سنخٍ واحدٍ، وهو قد مثّل مثالاً ولم یلتزم بمقتضی هذا النقض فیه، وهو ما إذا علم ببولیة مائع، أو نجاسة ماء نجاسةً عرضیة. یعنی مائع وماء، وهو یعلم إمّا أنّ هذا المائع بول، أو هذا الماء نجس بنجاسةٍ عرضیة. هنا فی هذا الماء یوجد أصّلان طولیان وهما استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة؛ لأنّ هذا الماء نجس بنجاسةٍ عرضیةٍ، یعنی حالته السابقة کانت هی الطهارة، فیجری فیه استصحاب الطهارة وهو أیضاً محکوم بقاعدة الطهارة، بینما فی المائع الآخر لا توجد فیه إلاّ قاعدة الطهارة؛ لأنّه مائع نشکّ فی بولیته، قاعدة الطهارة فی الماء هی فی طول استصحاب الطهارة، فتکون أصلاً طولیاً، قاعدة الطهارة فی الماء مع قاعدة الطهارة فی المائع الآخر من سنخٍ واحدٍ، فإذا کانا من سنخٍ واحدٍ یکون دلیلهما مجملاً؛ لأنّ دلیلهما واحد، وهذا یوجب عدم جریان أصالة الطهارة فیهما، فتصل النوبة إلی الأصل الحاکم، یعنی إلی استصحاب الطهارة؛ لأنّ استصحاب الطهارة له دلیل یخصّه ولا یسری الإجمال إلی هذا الدلیل، وإنّما الإجمال یکون فقط فی دلیل الأصلین اللّذین هما من سنخٍ واحدٍ، فمقتضی ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) سابقاً من النکتة هو أن یلتزم فی هذا المثال بسقوط الأصلین المتسانخین ووصول النوبة إلی الأصل الحاکم، فیجری استصحاب الطهارة فی الماء، ولا یُظنّ أنّه یلتزم بذلک؛ بل هو صرّح فی کلامه فی هذا المثال بأنّ الأصول الثلاثة کلّها تدخل فی المعارضة وتسقط، یعنی قاعدة الطهارة فی الماء وقاعدة الطهارة فی المائع واستصحاب الطهارة فی الماء کلّها تسقط، بینما مقتضی النکتة التی ذکرها فی القسم الأوّل التی علی ضوئها ذهب إلی وصول النوبة إلی الأصل الطولی عندما یتعارض الأصلان العرضیان من سنخٍ واحدٍ ویتساقطان، فتصل النوبة إلی الأصل الطولی. نفس هذه النکتة یمکن تطبیقها علی هذا المثال؛ لأنّ النکتة هی اختصاص أحد الأصول بدلیلٍ یخصّه، بینما الأصّلان الآخران یشترکان فی دلیلٍ واحد، هذا لا فرق بین أن یکون الأصلان المشترکان فی دلیلٍ واحد عرضیان، أو یکون أحدهما یجری فی هذا والآخر أصل طولی، نکتة الإجمال تأتی حینئذٍ؛ لأنّ الدلیل واحد ولا یمکن إجراء هذا الدلیل وإثبات مفاده فی کلا الموردین، یعنی لا یمکن أن نلتزم بطهارة الماء عملاً بقاعدة الطهارة ونلتزم بطهارة المائع الآخر عملاً بقاعدة الطهارة، وهذا معنی أنّ دلیل کلا القاعدتین یکون مجملاً ویکون مانعاً من جریان القاعدة فی کلٍ من الطرفین، فیتساقطان ولا تجری القاعدة فیهما، فتصل النوبة إلی إجراء استصحاب الطهارة، الأصل الحاکم فی الماء، بینما هو(قدّس سرّه) لم یلتزم به، وإنّما کما قلنا هو صرّح بسقوط الأصول الثلاثة کلّها.

ص: 755

قد یقال: بعدم جریان استصحاب الطهارة فی الماء کما یقول السید الخوئی(قدّس سرّه)، وذلک باعتبار أنّ استصحاب الطهارة فی الماء یمنع من جریان أصالة الطهارة فیه، باعتبار أنّ استصحاب الطهارة یکون وارداً، أو حاکماً علی قاعدة الطهارة فی الماء ورافعاً لموضوعها.

وبعبارة أخری: یکون استصحاب الطهارة فی الماء مخرجاً له عن کونه مورداً لقاعدة الطهارة، هذا معنی الورود؛ لأنّ استصحاب الطهارة یثبت طهارة الماء، فلا شکّ حتّی تجری فیه قاعدة الطهارة، فأنّ قاعدة الطهارة إنّما تجری عندما نشکّ فی الطهارة والنجاسة، بینما استصحاب الطهارة أثبت الطهارة تعبّداً، فیکون مخرجاً للمورد عن کونه مورداً لقاعدة الطهارة. إذن: هذا الماء لا تجری فیه قاعدة الطهارة؛ وحینئذٍ یقع التعارض بین استصحاب الطهارة وبین أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، فیتعارضان ویتساقطان، وهذا هو نفس ما قاله السید الخوئی(قدّس سرّه) من سقوط کل الأصول الثلاثة. لا معنی لأن نقول بأنّ أصالة الطهارة فی الماء تجری وتعارض أصالة الطهارة فی الطرف الآخر، فتصل النوبة إلی استصحاب الطهارة فی الماء؛ لأنّ استصحاب الطهارة فی الماء یمنع من جریان قاعدة الطهارة فیه ویُخرج الماء عن کونه مورداً لقاعدة الطهارة. إذن: الماء لیس مورداً لقاعدة الطهارة؛ حینئذٍ یبقی استصحاب الطهارة مع قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، فیتعارضان ویتساقطان، وهذا معناه عدم جریان استصحاب الطهارة فی الماء، ومعناه سقوط الأصول الثلاثة فی المقام، وهو ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه).

ویجاب عنه: (هذه المناقشة مبنائیة) بأنّ هذا الکلام مبنی علی افتراض الطولیة بین الاستصحاب والأصل فی الماء، أنّ الأصل فی طول الاستصحاب حتّی إذا کانا متوافقین کما فی المقام استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة، بناءً علی الطولیة بین الأصل والاستصحاب المتوافقین؛ حینئذٍ یتم هذا الکلام، فیقال بأنّ الاستصحاب مع وجود المقتضی لجریانه وعدم وجود المانع من جریانه؛ حینئذٍ لا تصل النوبة إلی قاعدة الطهارة، هو یمنع من جریان قاعدة الطهارة، ویُخرج الماء عن کونه مورداً لقاعدة الطهارة، فیأتی هذا الکلام السابق، وأمّا إذا أنکرنا الطولیة، فی حالة التوافق قلنا بعدم وجود طولیة بین استصحاب الطهارة وقاعدة الطهارة، وإنّما هما یجریان معاً وفی عرض واحد بنکتة أنّ تقدّم الأصول بعضها علی بعض یکون قائماً علی اساس القرینة، والقرینة إنّما تکون موجودة فی حالات التخالف بین الأصول، عندما یکون الأصلان متخالفین؛ حینئذٍ تأتی نکتة القرینة التی توجب تقدّم بعض الأصول علی البعض الآخر، فیقال: أنّ الاستصحاب المثبت للتکلیف متقدّم علی أصالة الطهارة، أمّا فی حالة التوافق فلا تأتی نکتة القرینیة؛ لأنّهما متوافقان ونتیجتهما واحدة ولا یوجد بینهما تنافٍ، فلا طولیة بینهما وإنّما هما یجریان فی عرضٍ واحدٍ ولا طولیة بینهما. بناءً علی هذا المبنی؛ حینئذٍ لا یتم الکلام السابق؛ لأنّه بناءً علی هذا الکلام هما یجریان فی عرضٍ واحدٍ، وإذا کانا یجریان فی عرضٍ واحدٍ، فالاستصحاب لا یمنع من جریان هذا الأصل؛ لأنّه لیس فی طوله.

ص: 756

أو بعبارة أخری أکثر وضوحاً: الاستصحاب لیس حاکماً حینئذٍ علی قاعدة الطهارة فی مورده، وإنّما یکون حاکماً علیها عندما تکون قاعدة الطهارة فی طول الاستصحاب، فیکون الاستصحاب حاکماً علیها ومانعاً من جریانها، فیتم الکلام السابق، أنّ الاستصحاب منع من جریان قاعدة الطهارة فی الماء، فلا یبقی الا الاستصحاب فی الماء وقاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، یتعارضان ویتساقطان، وهذا معناه سقوط کل الأطراف وجمیع الأصول، لکن عندما نقول لا حکومة ولا طولیة بینهما، هذا معناه أنّ الاستصحاب لا یمنع من جریان قاعدة الطهارة فی مورده، فإذا کان لا یمنع من جریان قاعدة الطهارة فی مورده تأتی نکتة السنخیة، نکتة أنّ قاعدة الطهارة فی الماء التی لا یمنع منها استصحاب الطهارة بحسب الفرض بناءً علی عدم الطولیة، هنا قاعدة الطهارة فی الماء وقاعدة الطهارة فی الطرف الآخر من سنخٍ واحد ولهما دلیل واحد، وهذا الدلیل یسری إلیه الإجمال ویمنع من جریان قاعدة الطهارة فیهما، فتصل النوبة إلی الاستصحاب، فیمکن حینئذٍ إجراء استصحاب الطهارة فی الماء، وهذا ما لا یلتزم به السید الخوئی(قدّس سرّه).

إذن: هذا الکلام مبنی علی افتراض طولیة وحکومة بین الاستصحاب وبین قاعدة الطهارة فی حالات التوافق کما هو الحال فی حالات التخالف، عندما نلتزم بذلک حینئذٍ یأتی هذا الکلام ویقال أنّ الاستصحاب یمنع من جریان قاعدة الطهارة ویُخرج الماء عن کونه مورداً لقاعدة الطهارة، إذن، أصبح الماء لیس مورداً لقاعدة الطهارة، لیس فیه إلاّ الاستصحاب وقاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، فیتعارضان ویتساقطان، فتسقط کل الأصول. أمّا علی المبنی الآخر الذی یقول بعدم الحکومة وعدم الطولیة وأنّ الاستصحاب لا یمنع من جریان قاعدة الطهارة؛ حینئذٍ تأتی نکتة الإجمال فی الدلیل الواحد عندما یکون الأصلان من سنخٍ واحدٍ، وهذا حسب رأیه یمنع من جریان الأصلین، فتصل النوبة إلی الاستصحاب؛ لأنّ الاستصحاب یختص بدلیلٍ یخصّه، فلا یسری إلیه الإجمال، فیمکن إجراء هذا الدلیل وإثبات مفاده فی الماء.

ص: 757

الجواب الثانی: حتّی بناءً علی الطولیة، لنلتزم بمضمون أنّ الاستصحاب حاکم علی قاعدة الطهارة فی مورده، وأنّ قاعدة الطهارة هی فی طول الاستصحاب، بناءً علی هذا المبنی، مع ذلک یمکن أن یقال بجریان الاستصحاب بلا معارض وعدم سقوطه کما یقول السید الخوئی(قدّس سرّه)؛ بل یجری الاستصحاب ولیس له معارض، وذلک باعتبار أنّ جریان قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر هو فی طول جریان الاستصحاب فی هذا الطرف، هو متوقّف علی جریان الاستصحاب فی هذا الطرف، فلا یُعقل أن یکون مانعاً منه ومعارضاً له کما قیل فی الکلام السابق من أنّ الاستصحاب یتعارض مع قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، نقول: أنّ جریان قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر متوقف علی جریان الاستصحاب فی هذا الطرف، فإذا کان هو متوقّف علیه کیف یکون معارضاً له ومانعاً منه ؟! أمّا توقفه، فباعتبار أنّ جریان قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر هو فرع ومتوقّف علی عدم شمول قاعدة الطهارة للماء، جریان قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر یتوقّف علی عدم جریان قاعدة الطهارة فی الماء؛ لأنّه إذا جرت قاعدة الطهارة فی الماء تکون معارضة لقاعدة الطهارة فی الطرف الآخر وتمنع من جریانها ولو علی أساس الإجمال، إذن: متی تجری قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر ؟ إذا لم تجرِ قاعدة الطهارة فی الماء، وعدم جریان قاعدة الطهارة فی الماء هو فرع جریان الاستصحاب فی الماء؛ لأنّه لو لم یجرِ الاستصحاب لجرت قاعدة الطهارة فی الماء، المانع من جریان قاعدة الطهارة فی الماء هو الاستصحاب، بناءً علی الطولیة والحکومة؛ لأنّه وارد وحاکم علیها ورافع لموضوعها. إذن: عدم جریان قاعدة الطهارة فی الماء هو فرع جریان الاستصحاب فی الماء، فیکون جریان قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر هو فرع عدم جریان قاعدة الطهارة فی هذا الماء، وعدم جریان قاعدة الطهارة فی الماء هو فرع جریان الاستصحاب فی الماء، والنتیجة هی أنّ جریان قاعدة الطهارة فی ذاک الطرف متوقف علی جریان الاستصحاب فی الماء، فکیف یُعقل أن تکون معارضة له ومانعة منه کما قیل ؟! لأنّ النتیجة التی ذکرها السید الخوئی(قدّس سرّه) هی وقوع التعارض بین استصحاب الطهارة فی الماء وبین قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر، حتّی بناء علی قبول الطولیة والحکومة نقول هذا غیر معقول؛ باعتبار أنّ أحد أسباب وجود قاعدة الطهارة هو جریان الاستصحاب فی الماء؛ لأنّه لو لم یجرِ الاستصحاب فی الماء لجرت قاعدة الطهارة فی الماء، ولو جرت قاعدة الطهارة فی الماء لمنعت من جریان قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر. إذن: جریان قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر موقوف علی عدم جریان قاعدة الطهارة فی هذا الطرف، وعدم جریان قاعدة الطهارة فی الماء موقوف علی جریان الاستصحاب، فبالنتیجة یکون جریان قاعدة الطهارة فی الطرف الآخر موقوفة علی جریان الاستصحاب فی الماء، وإذا کانت موقوفة علی جریان الاستصحاب کیف تکون معارضة له ومانعة منه ؟! هذا غیر معقول.

ص: 758

هذه الملاحظات کلها جانبیة لا تمس أصل وجوهر ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه)؛ لأنّه سیأتی الکلام فی هذا.

الملاحظة الثالثة: أنّ المثال الذی استشهد به (قدّس سرّه) لعدم ترتب الأثر علی التقدّم الرتبی، حیث أنّه فی التقدّم والتأخّر الرتبی استشهد بمثالٍ ذکرناه فی الدرس السابق، قد یقال: أنّ هذا یخالف ما تقدّم منه فی القسم الأوّل، هو فی القسم الأوّل ذکر هذا الذی ذکرناه، أنّه عندما یکون الأصلان العرضیان من سنخٍ واحدٍ، هذا لا یمنع من جریان الأصل الطولی، وفی هذا المثال الذی هو إمّا صلاة الصبح باطلة لأجل بطلان الوضوء، وإمّا صلاة الظهر باطلة لأجل نقصان رکن فیها، هنا ذکر(قدّس سرّه) بأنّ کل الأصول تتساقط، الأصول المؤمّنة الجاریة فی المقام هی قاعدة الفراغ، هنا قال قاعدة الفراغ فی الوضوء وقاعدة الفراغ فی صلاة الصبح وقاعدة الفراغ فی صلاة الظهر کلّها تتساقط بالرغم من وجود تقدّم وتأخّر رتبی بین قاعدة الفراغ فی الوضوء وبین قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح، بالرغم من هذا یقول کل هذه القواعد تدخل فی التعارض وتتساقط جمیعاً، ولا یمکن تصحیح صلاة الصبح بقاعدة الفراغ بدعوی إیقاع المعارضة بین قاعدة الفراغ فی الوضوء وقاعدة الفراغ فی صلاة الظهر، فتصل النوبة إلی قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح، لم یقبل بها، وقال حتّی صلاة الصبح تدخل فی المعارضة وتسقط. هذا ألا ینافی ما تقدّم منه ؟ لأنّه فی المقام أیضاً الأصلان العرضیان المتعارضان من سنخٍ واحدٍ، هنا قاعدة فراغ فی الوضوء وهنا قاعدة فراغٍ فی صلاة الظهر، هما من سنخٍ واحدٍ، هو قال إذا کانا من سنخٍ واحدٍ لا مانع من الرجوع إلی الأصل الطولی، یعنی قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح التی هی فی طول قاعدة الفراغ التی فی الوضوء، هذا المثال الذی ذکره هل ینافی ما تقدّم، أو لا ؟

ص: 759

قد یقال: أنّ مقصوده هناک عندما ذکر أننا نرجع إلی الأصل الطولی، مقصوده هو الأصل الطولی المخالف الذی هو لیس من سنخ الأصلین العرضیین الذین هما من سنخٍ واحدٍ بحسب الفرض کما کان یُمثّل هناک، قاعدة الطهارة هنا وقاعدة الطهارة هنا وفی طول قاعدة الطهارة ----------- فرضاً ------------ توجد أصالة الإباحة، هنا قال تتعارض قاعدة الطهارة فی الطرفین، فیتساقط الأصلان العرضیان، فتصل النوبة إلی أصل طولی مخالف لهما کأصالة الإباحة، بینما فی هذا المثال الأصل الطولی لیس مخالفاً لهما؛ بل هو من سنخهما، کلّها قاعدة فراغ، غایة الأمر هناک طولیة وتقدّم رتبی بین قاعدة الفراغ فی الوضوء وبین قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح، لکن المتأخّر رتبة هو من سنخ المتقدّم رتبة؛ لأنّها کلّها قاعدة فراغ؛ وحینئذٍ قد یُدّعی بأنّ الإجمال یسری ویمنع حتّی من جریان قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح؛ لأنّ الدلیل واحد، وعندما یکون الدلیل واحداً وهو دلیل قاعدة الفراغ؛ حینئذٍ یُصاب هذا الدلیل بالإجمال؛ وحینئذٍ لا یمکن إجراءه فی جمیع الأطراف. قد یقال فی مقام الجواب عن هذا الإشکال أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) کان ناظراً إلی هذا.

لکن یبدو أنّ الصحیح فی المقام هو: أنّ سریان الإجمال إلی قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح فی حالات التوافق کما هو المفروض فی محل کلامنا منوط بالطولیة وأمثالها، هل هناک طولیة بین قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح وبین قاعدة الفراغ فی الوضوء، أو لا ؟ ولیس منوطاً بشیء آخر، إن أنکرنا الطولیة وقلنا بعدم وجود طولیة بین قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح وبین قاعدة الفراغ فی الوضوء، باعتبار التوافق، أی باعتبار أنّهما متوافقان، وإنّما تکون طولیة وحکومة فی حالات التخالف لا فی حالات التوافق، فإذا أنکرنا الطولیة؛ حینئذٍ شبهة سریان الإجمال إلی الدلیل المانع من شموله حتّی لصلاة الصبح موجودة؛ لأنّها کلّها فی عرضٍ واحدٍ، قاعدة الفراغ فی الوضوء وقاعدة الفراغ فی صلاة الصبح وقاعدة الفراغ فی صلاة الظهر کلّها فی عرضٍ واحدٍ ولا طولیة بینها، فیسری الإجمال فی الحقیقة إلی الدلیل؛ لأنّ دلیلهما واحد، فیسری الإجمال إلی الدلیل ویمنع من تطبیق مفاده فی کل هذه الأطراف الثلاثة. وأمّا إذا قلنا بالحکومة، وقلنا بأنّ قاعدة الفراغ فی الوضوء حاکمة ومتقدّمة علی قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح؛ حینئذٍ قد یقال بأنّه لا موجب لسریان الإجمال إلی الدلیل بلحاظ شموله لصلاة الصبح وإن کان الدلیل واحداً، لکن یمکن التمسّک بإطلاق هذا الدلیل لإثبات مفاده فی صلاة الصبح؛ لأنّ إطلاق هذا الدلیل لإثبات مفاده فی صلاة الصبح لیس له معارض، إطلاق هذا الدلیل لإثبات مفاده فی الوضوء له معارض وهو تطبیق مفاده فی صلاة الظهر ولا یمکن تطبیق المفاد علی کلٍ منهما، وهذا هو الذی یوجب الإجمال، لکن الإجمال فی إطلاق الدلیل بلحاظ هذا المورد، الوضوء وصلاة الظهر لوجود التعارض بینهما بالنحو المتقدّم، لکن إطلاق دلیل قاعدة الفراغ بالنسبة إلی صلاة الصبح لا موجب للالتزام بإجماله؛ لأنّه فی طول قاعدة الفراغ فی الوضوء نفسه، فإذا کان فی طوله یمکن أن یُلتزم بعدم سریان الإجمال إلیه.

ص: 760

هذه ملاحظات جانبیة علی کلام السید الخوئی(قدّس سرّه)، أصل المطلب الذی ذکره یأتی الکلام عنه عندما نبحث أصل المسألة، وهی أنّ الأصول الترخیصیة الجاریة فی أطراف العلم الإجمالی عندما یختصّ أحد الطرفین بأصلین طولیین، أحدهما فی طول الآخر، الأصل الطولی الترخیصی المختص بأحد الطرفین هل یدخل طرفاً فی المعارضة، أو لا یدخل طرفاً فی المعارضة ؟ هذا محل الکلام، هل التعارض یقع بین الأصلین الترخیصیین العرضیین فقط، وهذا لا یدخل طرفاً فی المعارضة ؟ حینئذٍ تأتی شبهة المحقق العراقی(قدّس سرّه) أنّه بناءً علی هذا یتساقط الأصلان العرضیان ولابدّ من إعمال الأصل الترخیصی الطولی، وقلنا أنّ معنی هذا هو عدم وجوب الموافقة القطعیة، وهذا ما لا یلتزم به القائلون بالاقتضاء، أو أنّه یدخل طرفاً فی المعارضة ویسقط کما تسقط الأصول العرضیة ؟ هذا لبّ المطلب، ویأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

الآن نتکلّم فی أصل المسألة: وهو فرض وجود أصلین عرضیین ترخیصیین فی الطرفین، هذه القیود کلّها مأخوذة فی محل الکلام، مع اختصاص أحد الطرفین بأصلٍ ترخیصی طولی، یعنی فی طول الأصل الترخیصی الذی یجری فی نفس الطرف من قبیل أصالة الطهارة عندما تجری فی کلا الطرفین ویختص أحد الطرفین بأصالة الإباحة، فهذا أصل ترخیصی طولی یختصّ بأحد الطرفین ولا یجری فی الطرف الآخر.

ذکرنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) ذکر بأنّه إذا کان الأصلان العرضیان من سنخٍ واحدٍ؛ فحینئذٍ لا تسری المعارضة إلی الأصل الطولی؛ بل یبقی الأصل الطولی ویجری، وإنّما تجری المعارضة بین الأصلین العرضیین، ویتساقطان، فتصل النوبة إلی الأصل الطولی. ومقتضی إطلاق کلامه هو أنّه لا یفرّق فی ذلک بین ما إذا کان الأصل الطولی من سنخ الأصلین العرضیین، أو کان مخالفاً لهما فی السنخ، مقتضی إطلاق کلامه هو عدم الفرق، علی کلا التقدیرین هو یلتزم ببقاء الأصل الطولی ووصول النوبة إلیه وجریانه، سواء کان هذا الأصل الطولی من سنخ الأصلین المتعارضین، أو لم یکن من سنخهما.

ص: 761

الصحیح فی مقام ترتیب البحث هو أن یقال: أننّا تارة نتکلّم عن ما إذا کان الأصلان العرضیان من سنخٍ واحدٍ، وترةً أخری نتکلّم عن ما إذا کان الأصلان العرضیان من سنخین مختلفین، فالکلام یقع فی مقامین:

المقام الأوّل: إذا کان الأصلان العرضیان من سنخٍ واحدٍ، الذی هو القسم الأوّل فی کلام السید الخوئی(قدّس سرّه). هنا توجد صورتان:

الصورة الأولی: أن نفترض أنّ الأصل الطولی من سنخٍ آخرٍ غیر سنخ الأصلین العرضیین.

الصورة الثانیة: أن نفترض أنّ الأصل الطولی من سنخ الأصلین العرضیین.

أمّا الصورة الأولی وهی ما إذا کان الأصل الطولی من سنخٍ آخرٍ غیر سنخ الأصلین العرضیین، هنا یصحّ ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) من عدم السریان، یعنی أنّ المعارضة لا تسری إلی هذا الأصل الطولی، وذلک لما تقدّم سابقاً من أنّ دلیل الأصلین العرضیین المتعارضین هو دلیل واحد؛ لأنّهما من سنخٍ واحد بحسب الفرض، هذا الدلیل الواحد سوف یُبتلی بالتعارض الداخلی، والمقصود بالتعارض الداخلی أن یکون شمول نفس الدلیل لهذا الطرف یُعارض شموله للطرف الآخر، وهذا هو معنی ما تقدّم سابقاً من أنّ هذا الدلیل یکون مجملاً من ناحیة شموله لهذا الطرف، أو شموله لهذا الطرف، هذا یُسمّی بالتعارض الداخلی؛ لأنّ المفروض أنّ شموله لکلا الطرفین غیر ممکن، فیقع فیه التعارض الداخلی، ویطرأ علیه الإجمال؛ وحینئذٍ لا یجری الأصل فی هذا الطرف ولا فی ذاک الطرف، وعدم شمول الدلیل لهذا الطرف ولا لذاک الطرف هو من نتائج التعارض الداخلی فی نفس الدلیل الواحد.

وأمّا الأصل الآخر ------------ الأصل الطولی ------------ الذی افترضنا أنّه من غیر سنخ الأصلین المتعارضین العرضیین کأصالة الإباحة؛ حینئذٍ یقال أنّ دلیل هذا الأصل الطولی غیر مُبتلی بالتعارض الداخلی؛ لأنّه لا یوجد فی مقابله معارض له من سنخه حتّی یکون الدلیل مجملاً من هذه الجهة ویطرأ علیه التعارض الداخلی؛ لأنّه لا یوجد له معارض من سنخه فی الطرف الآخر؛ لأنّ المفروض أنّ الطرف الآخر لا تجری فیه أصالة الإباحة، وإنّما تختص بأحد الطرفین، أصالة الطهارة فی هذا الطرف لها معارض فی الطرف الآخر وهو أصالة الطهارة، ودلیل أصالة الطهارة لا یمکن أن یشمل کلاً منهما، فیحصل التعارض الداخلی فی نفس الدلیل، أمّا دلیل أصالة الحلّیة فی هذا الطرف، فلیس لها معارض فی الطرف الآخر من سنخها؛ بل لیس لها معارض فی الطرف الآخر حتّی من غیر سنخها، فلا موجب لسقوط هذا الدلیل عن أن یشمل هذا الطرف ویثبت فیه مفاده الذی هو الحلّیة؛ لأنّ هذا مورد لأصالة الإباحة، ولیس لدلیل أصالة الإباحة ما یمنع من شموله له؛ لأنّه لیس له معارض من سنخه فی الطرف الآخر حتّی یتحقق التعارض الداخلی، ولیس له معارض فی الطرف الآخر من غیر سنخه حتّی یتحقق التعارض الخارجی، أصلاً لا تعارض فی المقام، فقط أصالة الإباحة تجری فی هذا الطرف، فهو دلیل دال علی الإباحة ولیس مجملاً؛ لأنّه لا یطرأ علیه التعارض الداخلی، ولیس له معارض فی الطرف الآخر؛ فحینئذٍ یتعیّن الأخذ بهذا الدلیل وإثبات مفاده فی هذا الطرف.

ص: 762

هذه النکتة المتقدّمة فی محل الکلام تجری والنکتة هی إذا کان للأصل الطولی دلیل یخصّه غیر دلیل الأصلین المتعارضین العرضیین، وهذا إنّما یتحقق عندما یکون من غیر سنخ الأصلین العرضیین، فیکون له دلیل یخصّه، فی هذه الحالة ما ذکره السید الخوئی(قدّس سرّه) یکون تامّاً، باعتبار أنّ هذا دلیل لا یُبتلی بالتعارض الداخلی ولا بالتعارض الخارجی، ولیس له معارض یمنع من شموله لهذا الطرف، وإنّما منعنا من شمول دلیل أصالة الطهارة لهذا الطرف لوجود ما یعارضها فی الطرف الآخر، وهو من سنخها، فیکون موجباً لإجمال دلیل أصالة الطهارة، ومع إجمال دلیل أصالة الطهارة لا یجری هذا الدلیل لإثبات مفاده فی هذا الطرف ولا فی هذا الطرف.

وهذا الذی قلناه لا یُفرّق فیه فی الحقیقة بین أن یکون الأصل الثالث طولیاً، أو یکون فی عرض الأصلین المتسانخین، فحتّی إذا کان فی عرض الأصلین المتسانخین أیضاً نفس النکتة تجری فیه وهذه النکتة تقتضی جریان هذا الأصل الثالث ووصول النوبة إلیه؛ لأنّ النکتة هی أن یکون للأصل الثالث دلیل یخصّه، فإذا فرضنا أنّ هذا الأصل الثالث لیس فی طول أصالة الطهارة، وإنّما هو فی عرضها کما إذا قلنا(علی المبنی المتقدّم) أنّه فی حالة توافق الأصلین، فلا طولیة بینهما ولا حکومة، وإنّما هما یجریان فی عرضٍ واحدٍ کما قد یقال فی استصحاب الطهارة بالنسبة إلی أصالة الطهارة، لیس هناک طولیة بینهما، حتّی فی هذا الفرض أیضاً یصح الکلام السابق، وهو أنّ أصالة الطهارة فی هذا الطرف تتعارض مع أصالة الطهارة فی ذاک الطرف، وتصل النوبة إلی استصحاب الطهارة، أو إلی أصالة الاباحة بناءً علی أنّها لیست فی طول أصالة الطهارة؛ لأنّهما متوافقان. لا فرق بین أن یکون الأصل الثالث فی طول الأصل الجاری فی مورده، وبین أن لا یکون فی طوله، علی کل حال هذه النکتة تامّة، وهی تعتمد علی أنّ دلیل الأصلین العرضیین المتسانخین یُبتلی بالتعارض الداخلی، فلا یمکن التمسّک به لإثبات مفاده فی شیءٍ من الطرفین، بینما دلیل الأصل الآخر یسلم عن التعارض الداخلی؛ إذ لیس له معارض فی الطرف الآخر حتّی یُبتلی بالتعارض الداخلی، هو دلیل تام، وحجّة، ولیس له ما یعارضه، ولیس له ما یمنع من شموله لمورده؛ فحینئذٍ یتعیّن الالتزام بشموله لهذا المورد وإجرائه والالتزام بالإباحة إذا کانت أصالة الإباحة، أو الطهارة إذا کان هو عبارة عن استصحاب الطهارة. هذا بالنسبة إلی الصورة الأولی.

ص: 763

وأمّا الصورة الثانیة: وهی أن نفترض أنّ الأصل الثالث ----------- ولنسمّه بالأصل الطولی ----------- کان من سنخ الأصلین المتعارضین العرضیین، ومثاله هو المثال الذی مثّل به السید الخوئی(قدّس سرّه) وهو مثال قاعدة الفراغ التی تجری فی الوضوء، وفی صلاة الصبح، وفی صلاة الظهر فیما لو علم إجمالاً بأنّه إمّا وضوئه الذی توضأ به لصلاة الصبح باطل، أو أنّه ترک رکناً من أرکان صلاة الظهر. فی هذه الحالة عندنا قاعدة الفراغ فی الوضوء تقابلها قاعدة الفراغ فی صلاة الظهر، هاتان قاعدتان متعارضتان لا یمکن إجراؤهما معاً؛ لأنّه علی خلاف العلم الإجمالی بأنّ أحدی الصلاتین باطلة، أی أنّ أحد الأمرین باطل إمّا الوضوء باطل، أو صلاة الظهر باطلة، ونحن نجری قاعدة الفراغ ونصحّح بها الوضوء، ونجری قاعدة الفراغ ونصحّح بها صلاة الظهر، هذا ممّا لا یمکن؛ لأجل العلم الإجمالی. وفی مرحلة أخری لدینا قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح، باعتبار أنّه عمل جاء به المکلّف وفرغ منه ویشکّ فی صحّته، فهو مورد أیضاً لقاعدة الفراغ. هذا الأصل الطولی ----------- قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح ---------- هو من سنخ الأصلین العرضیین المتسانخین.

هنا: تارةً ننکر الطولیة بین هذه القواعد، ونقول کل هذه القواعد الثلاثة فی عرضٍ واحد ولیس هناک طولیة بین قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح وبین قاعدة الفراغ فی الوضوء، ننکر الطولیة بناءً علی أنّ الأصول المتوافقة لا طولیة بینها، وإنّما تختص الطولیة بما إذا کانت الأصول متخالفة فی المؤدی. بناءً علی إنکار الطولیة فی الأصول المتوافقة؛ حینئذٍ یقال فی محل الکلام أنّ الإجمال یسری إلی هذا الأصل الثالث، یعنی إلی قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح أیضاً، والإجمال لا یختص بقاعدة الفراغ فی الوضوء وقاعدة الفراغ فی صلاة الظهر؛ بل کما یتحقق الإجمال فی هاتین القاعدتین، کذلک فی قاعدة الفراغ بالنسبة إلی صلاة الصبح؛ لأنّ دلیل هذه القواعد المؤمّنة الثلاث واحد، وحیث أنّها بحسب الفرض تجری فی عرضٍ واحد من دون طولیة؛ حینئذٍ هذا الإجمال الذی یحصل فی دلیل هذه القواعد سوف یکون إجمالاً بالنسبة إلی کل هذه الأمور الثلاثة، یعنی هناک إجمال فی شمول دلیل قاعدة الفراغ للوضوء، وإجمال فی شمول دلیل قاعدة الفراغ لصلاة الظهر، وإجمال فی شمول دلیل قاعدة الفراغ لصلاة الصبح، الإجمال سارٍ، والتعارض سارٍ، فتکون قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح جزءاً من المعارضة؛ وحینئذٍ لا یشملها الدلیل، وکما أنّ الدلیل لا یشمل الوضوء ولا یشمل صلاة الظهر، کذلک لا یشمل صلاة الصبح؛ لأنّها فی عرضٍ واحدٍ بحسب الفرض، وهذه نفس النتیجة التی ذکرها السید الخوئی(قدّس سرّه)؛ لأنّه ذکر هذا المثال وحکم بسقوط الأصول المؤمّنة فی کل هذه الأطراف الثلاثة.

ص: 764

وأمّا إذا لم ننکر ذلک، وقلنا أنّ بینهما طولیة حتّی فی حالة التوافق، قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح هی فی طول قاعدة الفراغ فی الوضوء، إذا قلنا بالطولیة بینهما؛ حینئذٍ یمکن أن یقال بأنّ النتیجة سوف تختلف، بمعنی أنّ الإجمال لا یسری إلی قاعدة الفراغ الجاریة فی صلاة الصبح التی هی بحسب الفرض فی طول قاعدة الفراغ الجاریة فی الوضوء، بمعنی أنّ قاعدة الفراغ لا تسقط؛ بل یمکن الرجوع إلیها باعتبار أنّ دلیل قاعدة الفراغ وإن أبتُلی بالإجمال والتعارض الداخلی، لکنّ هذا التعارض الداخلی فی دلیل قاعدة الفراغ إنّما هو بالنسبة إلی الوضوء وصلاة الظهر، هنا یحصل تعارض داخلی فی دلیل قاعدة الفراغ؛ لأنّ شمول دلیل قاعدة الفراغ للوضوء یُعارضه شموله لصلاة الظهر، وصلاة الصبح لا تدخل فی المقام؛ لأنّنا افترضنا أنّها فی طول قاعدة الفراغ فی الوضوء. إذن: فی مرتبة الوضوء، شمول دلیل قاعدة الفراغ للوضوء معارض بشمول دلیل قاعدة الفراغ لصلاة الظهر، ولا یمکن أن یشمل دلیل قاعدة الفراغ کلا الأمرین وهو دلیل واحد بحسب الفرض؛ فحینئذٍ یُبتلی بالتعارض الداخلی والإجمال، وهذا الإجمال یمنع من التمسّک بإطلاق دلیل قاعدة الفراغ لإثبات مفاده فی الوضوء کما یمنع من التمسّک بإطلاقه لإثبات مفاده لصلاة الظهر. وأمّا صلاة الصبح باعتبارها مورداً لقاعدة الفراغ، عمل فرغ منه المکلّف وشکّ فی صحّته، فلا موجب للقول بأنّ دلیل قاعدة الفراغ یکون مجملاً من ناحیة شموله لها؛ إذ لیس فیه إجمال؛ لأنّ دلیل قاعدة الفراغ بالنسبة إلی صلاة الصبح لیس مجملاً، ولیس فیه تعارض داخلی؛ لما قلناه من أنّ قاعدة الفراغ فی صلاة الصبح لیس لها معارض فی الطرف الآخر؛ لأننّا نتکلّم عن شمول قاعدة الفراغ لصلاة الصبح بعد الفراغ عن عدم شمول دلیل قاعدة الفراغ لصلاة الظهر للتعارض الداخلی، دلیل قاعدة الفراغ لا یشمل صلاة الظهر؛ لأنّه معارَض بشموله للوضوء، ولا یمکن أن یشمل کلاً منهما، فیُبتلی بالتعارض الداخلی وهذا یمنع من شموله للوضوء ویمنع من شموله لصلاة الظهر.

ص: 765

إذن: بعد الفراغ عن عدم شمول دلیل قاعدة الفراغ لصلاة الظهر؛ حینئذٍ نتحدّث -------- بناءً علی الطولیة--------- عن صلاة الصبح، دلیل قاعدة الفراغ بالنسبة إلی صلاة الصبح لیس له معارض؛ لأنّ النوبة إنّما تصل إلیه بعد الفراغ عن عدم شمول دلیل قاعدة الفراغ لصلاة الظهر؛ فحینئذٍ هذا دلیل لا یُبتلی بالتعارض الداخلی ولا بالإجمال؛ فحینئذٍ لا یکون مجملاً من ناحیة شموله لصلاة الصبح وإن کان مجملاً من ناحیة شموله للوضوء ومن ناحیة شموله لصلاة الظهر، فیمکن الالتزام بجریان هذا الأصل ---------- قاعدة الفراغ فی هذا المثال بقطع النظر عن الأمور الخاصّة التی قد تکتنف هذه الأمثلة ----------- المؤمّن فی صلاة الصبح فی هذا المثال ولا محذور فی ذلک، لکن هذا عندما نفترض أنّ الأصل الثالث وإن کان من سنخ الأصلین العرضیین، لکنّه فی طولهما؛ ولذا یُفرّق بین ما إذا کان الأصل المسانخ للأصلین المتعارضین، إذا کان فی عرضهما هنا یمکن أن یقال بسریان الإجمال إلیه وسریان التعارض الداخلی إلیه، وهذا یمنع من التمسّک به لإثبات مفاده حتّی فی صلاة الصبح، وبین ما إذا کان فی طولهما، فیمکن أن یقال أنّ الدلیل وإن کان واحداً، الأصل الجاری فی هذه الأمور الثلاثة له دلیل واحد وهو دلیل قاعدة الفراغ، لکن هذا الدلیل أیّ ضیر فی أن نقول یکون مجملاً من ناحیة ولا یکون مجملاً من ناحیة أخری ؟ لیس هناک محذور فی أن یکون دلیل مجملاً من ناحیةٍ باعتبار التعارض الداخلی، ولکنّه لیس مجملاً من ناحیةٍ أخری باعتبار أنّ شموله لصلاة الصبح لیس له ما یعارضه.

وأمّا المقام الثانی: وهو ما إذا کان الأصلان العرضیان من سنخین مختلفین، المثال الذی مُثّل به سابقاً هو ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءین، أو غصبیة الآخر، هنا الأصل الذی یجری فی محتمل النجاسة هو عبارة عن أصالة الطهارة، والأصل الذی یجری فی محتمل الغصبیة هو أصالة الحل، هذان أصلان عرضیان متعارضان، وواضح أنّه لا یمکن إجراءهما معاً، بأن نلتزم بطهارة هذا الإناء وحلّیة الآخر؛ لأنّ هذا علی خلاف العلم الإجمالی، لکن الإناء محتمل النجاسة یختص بأصلٍ طولی وهو عبارة عن أصالة الحل التی تجری فقط فی محتمل النجاسة ولا تجری فی محتمل الغصبیة کأصلٍ طولی؛ لأنّ محتمل الغصبیة جرت فیه أصالة الحل فی البدایة وعارضت أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، وفی طول ذلک لا یوجد عندنا إلاّ أصالة الحل فی محتمل النجاسة ولا یوجد أصل طولی فی محتمل الغصبیة؛ فحینئذٍ یکون هذا مورداً لمحل الکلام؛ لأنّ الأصلین العرضیین المتعارضین لیسا من سنخٍ واحدٍ، أحدهما أصالة الطهارة والآخر أصالة الحل، وهما غیر متسانخین. هنا فی هذا المقام السید الخوئی(قدّس سرّه) ذهب إلی سقوط الأصل الطولی، یقول هذا الأصل الطولی الذی هو فی هذا المثال أصالة الحل فی الماء الذی یفترضه فی طول أصالة الطهارة فی الماء، یقول: أصالة الحل تدخل فی المعارضة وتسقط ولا تجری، کما أنّ أصالة الطهارة فی الماء لا تجری، وأصالة الحل فی محتمل الغصبیة لا تجری، وأصالة الحل فی محتمل النجاسة أیضاً لا تجری، فتسقط کل هذه الأصول الثلاثة. هذا الذی نقلناه عنه سابقاً.

ص: 766

من الواضح جدّاً أنّ حدیث الإجمال المتقدّم فی المقام الأوّل لا مجال له فی هذا المقام؛ لأنّه إنّما یکون عندما یُفترَض أنّ الأصلین المتعارضین العرضیین من سنخٍ واحدٍ حتّی یکون لهما دلیل واحد، وهذا الدلیل الواحد یُصاب بالتعارض الداخلی، وبالتالی الإجمال. هذا لا مجال له عندما نفترض أنّهما من سنخین مختلفین بحیث یکون لکلٍ واحدٍ منهما دلیل یخصّه، فلا معنی لافتراض الإجمال، وإنّما الشیء الذی یمکن فرضه هو حصول تعارض عادی بینهما، أو فلنسمّه تعارض خارجی فی قبال التعارض الداخلی، أنّ دلیل أصالة الطهارة یعارض دلیل أصالة الحل فی محتمل الغصبیة؛ لأنّه لا یمکن إجراءهما معاً؛ لأنّه علی خلاف العلم الإجمالی بتحقق أحدهما، أمّا النجاسة، أو الغصبیة، أی عدم الإباحة، فنلتزم بالطهارة عملاً بقاعدة الطهارة، ونلتزم بالإباحة عملاً بقاعدة الإباحة، هذا علی خلاف العلم الإجمالی، فیقع التعارض الخارجی ما بین الأصلین، هنا یتعارض الأصلان؛ وحینئذٍ یتساقطان. الکلام یقع فی أنّ أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة هل تدخل فی هذه المعارضة وتسقط کما سقطت أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، وأصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة کما یقول السید الخوئی(قدّس سرّه)، أو أنّها لا تدخل فی المعارضة؛ بل تصل النوبة إلیها بعد سقوط الأصلین المتعارضین واللّذان هما عبارة عن أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة وأصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة ؟ الکلام یقع فی هذا.

وبعبارةٍ أکثر وضوحاً: الکلام یقع فی أنّه لا إشکال ولا ریب أنّ أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة و أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة بقطع النظر عن أصالة الطهارة، علی فرض أنّ أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة لا تجری، ولیس لدینا إلاّ أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة وأصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة، لا إشکال ولا ریب فی وجود تعارضٍ بینهما؛ لأنّه لا یمکن أن یجریا معاً، یعنی نثبت إباحة الماء وفی نفس الوقت نثبت إباحة الشیء الآخر، کإباحة الثوب ---------- مثلاً ---------- فی الطرف الآخر؛ لأنّ الالتزام بکلتا الإباحتین علی خلاف العلم الإجمالی؛ لأنّی أعلم إجمالاً بأنّ أحد الطرفین غیر مباح قطعاً، إمّا لکونه نجساً، أو لکونه مغصوباً، فالالتزام بإباحتهما معاً علی خلاف العلم الإجمالی.

ص: 767

إذن: لا إشکال فی أنّ بین الإباحتین فی الطرفین توجد معارضة، الکلام یقع الآن فی أنّ کون الإباحة فی محتمل الغصبیة عورضت بأصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، هذا التعارض هل أوجب حدوث شیءٍ فی أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة یخرجها عن کونها صالحة لمعارضة أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، أو لا ؟ وإلاّ أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة وأصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة واضح أنّ بینهما تعارض بقطع النظر عن معارضة أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة مع أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، بقطع النظر عن هذه المعارضة بینهما تعارض بلا إشکال، بمعنی أنّ أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة صالحة لأن تعارض أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، فلماذا نشکّ فی صلاحیتها لذلک ؟ الکلام یقع فی أنّ أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة عارضها أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، هذه المعارضة بینهما هل تفقدها صلاحیة أن تعارض أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، أو لا ؟ إذا قلنا أنّها تفقدها هذه الصلاحیة بحیث لم تعد صالحة لمعارضة أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، هذا معناه جریان أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة؛ لأنّه لیس لها ما یعارضها، وإذا قلنا أنّها تصلح للمعارضة، هی کما تعارض أصالة الطهارة تعارض أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة؛ فحینئذٍ تدخل أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة طرفاً فی المعارضة وتسقط کما سقط الأصلان العرضیان.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

کان الکلام فی المقام الثانی: وهو ما إذا کان الأصلان العرضیان غیر متسانخین، بأن کانا من سنخین مختلفین، هنا قلنا أنّ السید الخوئی(قدّس سرّه) ذهب إلی سقوط الأصل الطولی وعدم جریانه، وذکرنا أنّ الکلام یقع فی أنّ هذا الأصل الطولی هل یدخل فی التعارض، أو لا یدخل فی التعارض.

ص: 768

وبعبارةٍ اخری: أنّ أصالة الحلّیة فی المثال السابق فی الطرف الآخر هل هی باقیة علی صلاحیتها لمعارضة أصالة الحلّیة فی محتمل النجاسة فی المثال السابق، أو طرأ علیها شیء أسقطها عن هذه الصلاحیة باعتبار أنّها عارضت اصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، أصالة الحلّیة فی محتمل الغصبیة بعد أن عارضت اصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، هل أفقدها هذا صلاحیتها لمعارضة أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، أو أنّها باقیة علی صلاحیتها، وکما تعارض اصالة الطهارة فی هذا الطرف، کذلک تعارض أصالة الحلّیة فی نفس الطرف ؟

علی الأوّل، أی إذا فقدت صلاحیتها، فهذا یعنی وصول النوبة إلی الأصل الطولی، أی أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة بعد تساقط الأصلین العرضیین. أمّا علی الثانی هی تدخل فی المعارضة، أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة معارضة بأصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة، فتسقط کل الأصول.

السید الخوئی(قدّس سرّه) استدلّ علی السقوط ودخول الأصل الطولی فی المعارضة الذی معناه بحسب الحقیقة أنّه باقٍ علی صلاحیته لمعارضة أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، استدلّ علی ذلک بهذا الدلیل العام، وهو أنّ جریان أصالة الإباحة فی الطرفین یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة، وفی أحدهما یستلزم الترجیح بلا مرجّح؛ وذلک لأنّه یری أنّ العلم الإجمالی کما یمنع من جریان أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة واصالة الطهارة فی محتمل النجاسة للسبب المتقدّم، کذلک یمنع بنفس الدرجة وبنفس القوة من جریان أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة وأصالة الإباحة فی محتمل النجاسة بنفس الملاک السابق، جریان أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة واصالة الطهارة فی محتمل النجاسة معاً خلاف العلم الإجمالی، وجریان أحدهما ترجیح بلا مرجّح، فیتعارضان ویتساقطان، نفس الکلام نطبّقه علی أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة مع أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، أیضاً جریانهما معاً یؤدی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وجریان أحدهما یستلزم الترجیح بلا مرجّح.

ص: 769

هذا الکلام جید جداً، لکن النقطة المهمّة التی ینبغی البحث فیها هی ما قلناه من أنّ أصالة الإباحة بعد أن عارضت أصالة الطهارة، هل لها قابلیة معارضة أصالة الإباحة أیضاً التی هی فی طول اصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، أو أنّها تسقط عن هذه القابلیة ؟ الذی یقول بعدم السقوط یدّعی أنّ أصالة الإباحة فی الطرف الآخر تفقد هذه القابلیة بمجرّد أن تکون معارضة مع اصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، هذه المعارضة التی تؤدّی إلی تساقطهما لا تعود صالحة لمعارضة أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، ویستدّل علی ذلک بوجوه، القائل بالسقوط یدّعی أنّ اصالة الطهارة فی محتمل النجاسة لا معارض لها، فتجری بلا معارض؛ لأنّ أصالة الإباحة فی الطرف الآخر لیست صالحة لمعارضة أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، ویذکر وجوهاً فی الاستدلال علی ذلک وإثبات عدم الصلاحیة للمعارضة، وبالتالی عدم سقوط الأصل الطولی وجریانه خلافاً لما یقوله السید الخوئی(قدّس سرّه):

الوجه الأوّل: وهذا الوجه مبنی علی افتراض الطولیة بین أصالة الطهارة وبین أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، ولو کانا متوافقین. بناءً علی هذا؛ حینئذٍ یقال أنّ هذا الأصل الطولی الذی هو أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة فی طول معارضة الأصلین العرضیین وتساقطهما؛ لوضوح أنّه لولا وقوع التعارض بین أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة واصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، وتساقط هذین الأصلین لما وصلت النوبة إلی أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة الذی هو فی طول أصالة الطهارة بحسب الفرض.

إذن: أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة هی فی طول التعارض بین الأصلین والتساقط، حتّی تصل النوبة إلیها، وإلاّ لو لم یتعارضا ولم یتساقطا لم تصل النوبة إلی أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، وهذا معناه أنّ هذا الأصل الطولی فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عن تساقط الأصلین العرضیین؛ حینئذٍ لا یُعقل أن یکون هذا الأصل الذی هو فی طول تعارض الأصلین وتساقطهما، أن یکون معارضاً بواحدٍ من هذین الأصلین اللّذین فُرض تعارضهما وتساقطهما؛ لأنّ الأصل الساقط الذی هو عبارة عن أصالة الإباحة فی الطرف الآخر الذی سقط بالمعارضة مع أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، هذا الأصل الساقط لا یُعقل أن یکون مانعاً من شیءٍ لا یتم مقتضیه إلاّ بعد فرض هذا السقوط، أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة لا یتم مقتضیه إلاّ إذا فُرض سقوط أصالة الإباحة فی الطرف الآخر بالتعارض؛ لأننا فرضنا أنّ النوبة لا تصل إلیه ولا یتمّ مقتضیه إلاّ بعد فرض التعارض والتساقط بین الأصلین العرضیین. إذن: لا یتم مقتضی هذا الأصل فی محتمل النجاسة ---------- الأصل الطولی ----------- إلاّ بعد فرض سقوط ذلک الأصل، هذا الأصل الساقط لا یُعقل أن یمنع من شیءٍ لا یتمّ مقتضیه إلاّ بعد فرض ذلک السقوط، فکیف نقول أنّ هذا الأصل الساقط یکون مانعاً من جریان هذا الأصل الطولی فی محتمل النجاسة ؟! هذا غیر معقول.

ص: 770

هذا الوجه یبتنی علی افتراض أنّ الأصل الطولی فی محل الکلام فی طول سقوط الأصل الجاری فی الطرف الآخر، کما هو فی طول سقوط الأصل الحاکم، واضح أنّه یفترض أنّ أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة کما هی فی طول سقوط الأصل الحاکم، یعنی أصالة الطهارة فی نفس طرفها التی هی حاکمة علیها بحسب الفرض، کذلک هی فی طول سقوط الأصل العرضی فی الطرف الآخر، هی فی طول سقوطهما. هو یرید أن یجری هذا الکلام، إذا کان جریان أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة فی طول سقوط ذاک الأصل ولا یتم مقتضی أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة إلاّ بعد فرض ذلک السقوط؛ فحینئذٍ کیف یُعقل أن یکون هذا الساقط مانعاً من هذا الأصل الذی لا یتم مقتضیه إلاّ بعد فرض السقوط، سقط؛ فحینئذٍ یتم مقتضی هذا الأصل؛ حینئذٍ کیف یکون هذا الساقط مانعاً منه. هنا یأتی هذا الکلام السابق، ولکن الأمر لیس هکذا، بمعنی أنّ أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة لیست فی طول أصالة الإباحة فی الطرف الآخر، وإن کانت هی فی طول أصالة الطهارة، فی طول الأصل الحاکم، لکنّها لیست فی طول أصالة الإباحة فی الطرف الآخر، وذلک باعتبار أنّ سقوط الأصل الحاکم ----------- أصالة الطهارة ----------- لو کان فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر لتمّت هذه الدعوی؛ لأنّ أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة فی طول سقوط الأصل الحاکم، وسقوط الأصل الحاکم فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر، وبالتالی یکون الأصل الطولی فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر، فیأتی حدیث أنّه کیف یُعقل أن یکون مانعاً منها، لکنّ سقوط الأصل الحاکم لیس فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر؛ بل هما فی عرضٍ واحد، سقوط أصالة الطهارة وسقوط أصالة الإباحة فی الطرف الآخر فی عرضٍ واحد ولیس بینهما طولیة، وإنّما هما فی عرضٍ واحد، وسقوط کل واحدٍ منهما ینشأ فی الحقیقة من کون مقتضی الأصل الآخر مانعاً من جریانه، الأصل الحاکم، الذی هو أصالة الطهارة لماذا تسقط ؟ لأنّ مقتضی الأصل فی الطرف الآخر یمنع من جریانه، الأصل فی الطرف الآخر لماذا یسقط ؟ لأنّ مقتضی الآخر یقتضی عدم جریانه، أو یمنع من جریانه، کما أنّ سقوط الآخر ینشأ من أنّ مقتضی هذا الأصل یمنع من جریانه. إذن: سقوط الأصل الحاکم لیس فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر.

ص: 771

وبعبارةٍ أخری أکثر وضوحاً: أنّ سقوط الأصل الحاکم هو فی طول فاعلیة الأصل فی الطرف الآخر وتأثیره فی منع جریان الأصل الحاکم لا أنّه فی طول سقوطه؛ بل هو فی الحقیقة فی طول عدم سقوطه، الأصل الحاکم إنّما یسقط؛ لأن الآخر یمنع منه، بمعنی أنّ أصالة الطهارة تسقط؛ لأنّ أصالة الإباحة فی الطرف الآخر تمنع منها، أصالة الإباحة فی الطرف الآخر تسقط لأنّ الأصل الحاکم یمنع منها. إذن: سقوط کل واحدٍ منهما لیس فی طول سقوط الآخر؛ بل إذا صحّ التعبیر هو فی طول عدم سقوطه وتأثیره فی منع جریانه. إذن: لا طولیة بین سقوط الأصل الحاکم وبین سقوط الأصل فی الطرف الآخر حتّی یکون الأصل المحکوم الذی هو الأصل الطولی فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر حتّی یأتی هذا الکلام الذی ذُکر، وإنّما الصحیح أنّ الأصل المحکوم ---------- الأصل الطولی ----------- هو فقط فی طول سقوط الأصل الحاکم ولیس فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر؛ بل فی الواقع والحقیقة هو فی طول عدم سقوطه؛ لأنّ عدم سقوطه هو الذی یمنع من جریان الأصل الحاکم وبالتالی تصل النوبة إلی الأصل المحکوم، وإلاّ لو جری الأصل الحاکم لما وصلت النوبة إلی الأصل المحکوم، الذی یمنع من جریان الأصل الحاکم هو عدم سقوط الأصل فی الطرف الآخر، وبقاءه علی تأثیره فی منع جریان الأصل الحاکم، هذا هو الذی یوجب سقوط الأصل الحاکم، فتصل النوبة إلی الأصل المحکوم. إذن: الأصل المحکوم وإن کان فی طول سقوط الأصل الحاکم، ولکنّه لیس فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر؛ بل هو فی الحقیقة فی طول عدم سقوطه ولا یتم الکلام السابق؛ لأنّه کان یبتنی علی افتراض أنّ الأصل الطولی فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر، هو یقول أنّ هذا الأصل فی الطرف الآخر بعد فرض سقوطه، کیف یکون مانعاً من جریان هذا الأصل الذی لا یتم مقتضیه إلاّ بعد فرض سقوطه ؟ هذا غیر معقول! نقول: أنّ هذا الأصل الطولی لیس فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر؛ بل هو فی طول عدم سقوطه.

ص: 772

الوجه الثانی: هذا الوجه یُفترض فیه عدم الطولیة، یعنی نفترض فیه أنّ الأصل الطولی لیس فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر، لکن مع ذلک یُدّعی بأنّ هذا الأصل الطولی لا یکون جاریاً؛ بل لابدّ أن یُلتزم بسقوطه بوجهٍ آخر غیر مسألة أنّه فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر، وذلک بأن یقال: أنّه وإن لم یکن فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر، لکنّه قطعاً فی طول سقوط الأصل الحاکم، باعتبار کونه محکوماً له، أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة فی طول سقوط أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، وسقوط الأصل الحاکم مع سقوط الأصل فی الطرف الآخر هما یستندان إلی علّة واحدة هی التی تؤثّر فی هذین السقوطین، وهذه العلّة هی عبارة عن التعارض بین الأصلین، المعارضة بین هذین الأصلین العرضیین هو الذی أوجب سقوطهما. إذن: سقوط الأصل الحاکم وسقوط الأصل فی الطرف الآخر لهما علّة واحدة وهی عبارة عن المعارضة، وهذا یثبت لنا أنّ الأصل الطولی فی طول المعارضة بین الأصلین. ومن الواضح أنّ الأصل المُعارَض الذی هو أصالة الإباحة فی الطرف الآخر بما هو مُعارَض یستحیل جریانه حتّی یقع طرفاً للمعارضة مع الأصل الطولی، کیف یُعقل أنّ أصل الإباحة فی الطرف الآخر باعتبار کونه معارضاً لأصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، أن یکون طرفاً للمعارضة مع الأصل الطولی.

وبعبارةٍ أخری: أنّ أصالة الإباحة فی الطرف الآخر بعد کونها طرفاً للمعارضة مع أصالة الطهارة، لا یُعقل أن تکون طرفاً للمعارضة مع الأصل الطولی؛ لأنّ الأصل الطولی هو فی طول المعارضة بین هذین الأصلین؛ حینئذٍ کیف یُعقل أن یکون هذا الأصل فی الطرف الآخر مع کونه معارضاً بأصالة الطهارة، کیف یُعقل أن یکون معارضاً للأصل الطولی الذی هو فی طول هذه المعارضة ؟

ص: 773

هذا الوجه فیه مغالطة، والمغالطة تنشأ من أنّه عندما قیل أنّ الأصل الطولی فی طول المعارضة، هذا لابدّ من تحلیله، ما هو المقصود بالمعارضة فی المقام ؟ المعارضة تتقوّم بأمرین: بمانعیة هذا الأصل لذاک الأصل، وممنوعیة ذاک لهذا، والثانی مانعیة الأصل الآخر للأصل الأوّل، وممنوعیة الأصل الأوّل، أن یکون هذا الأصل مانعاً من ذاک، وذاک مانعاً من هذا، فتتحقق المعارضة بینهما. فی مثالنا: المعارضة بین أصالة الطهارة وبین أصالة الإباحة فی الطرف الآخر تتقوّم بمانعیة مقتضی جریان الأصل الحاکم الذی هو أصالة الطهارة عن تأثیر مقتضی الجریان فی الأصل الآخر، وفی مقابلها ممنوعیة مقتضی جریان الأصل فی الطرف الآخر، هذا جانب. الجانب الآخر هو العکس، أن نلتفت إلی الطرف الآخر، فنقول: أنّ مقتضی جریان الأصل فی الطرف الآخر یمنع من مقتضی جریان الأصل الحاکم. هذا أیضاً یقابله ممنوعیة مقتضی جریان الأصل الحاکم، المعارضة تتقوّم بهاتین المانعیتین والممنوعیتین؛ حینئذٍ نأتی إلی کلامه من أنّ الأصل الطولی هو فی طول المعارضة، ما هو المقصود بالمعارضة التی یدّعی بأنّ الأصل الطولی هو فی طولها ؟ إن کان المقصود أنّ الأصل الطولی هو فی طول مانعیة مقتضی الأصل فی الطرف الآخر عن مقتضی جریان الأصل الحاکم، فهذا أمر صحیح؛ لأننا قلنا أنّ النوبة لا تصل إلی الأصل الطولی إلاّ بعد سقوط الأصل الحاکم، وسقوط الأصل الحاکم لا یکون إلاّ إذا منع منه الأصل فی الطرف الآخر. إذن: الأصل الطولی هو فی طول مانعیة مقتضی جریان الأصل فی الطرف الآخر عن تأثیر مقتضی جریان الأصل الحاکم وممنوعیته، هذا مطلب صحیح ولا غبار علیه، لکن ما هو المحذور فی أن یکون الأصل العرضی فی الطرف الآخر مانعاً من جریان الأصل الطولی ؟ أی ضیرٍ فی أن تکون أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة مانعةً من جریان أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة ؟ هذا لیس فیه محذور، الأصل الطولی لیس فی طول ممنوعیة الأصل فی الطرف الآخر حتّی یحصل إشکال، وإنّما الأصل الطولی هو فی طول مانعیة الأصل فی الطرف الآخر عن جریان الأصل الحاکم، فی طول ممنوعیة جریان الأصل الحاکم لا فی طول ممنوعیة جریان الأصل فی الطرف الآخر، وإنّما هو فی طول مانعیة الأصل فی الطرف الآخر عن جریان الأصل الحاکم، لا محذور فی هذا، ولا محذور فی أن یکون هذا الأصل فی الطرف الآخر الذی کان الأصل الطولی فی طول مانعیته من جریان الأصل الحاکم، أن یکون هذا الأصل مانعاً من جریان أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة.

ص: 774

بعبارةٍ أخری: أنّ الأصل فی الطرف الآخر یمنع من أمرین: یمنع من تأثیر مقتضی أصالة الطهارة فی إثبات الطهارة فی محتمل النجاسة، ویمنع من تأثیر مقتضی أصالة الإباحة لإثبات الإباحة فی محتمل النجاسة، یمنع منهما ویعارضهما معاً، وهذا یقتضی تساقط کل الأصول، ما هو المحذور فی هذا ؟ بعد أن لم یکن الأصل الطولی فی طول ممنوعیة الأصل فی الطرف الآخر، إذا کان فی طول ممنوعیته، یعنی کان فی طول سقوطه، وإذا کان فی طول سقوطه؛ فحینئذٍ لا یمکن أن یکون معارضاً له، لکن هو لیس فی طول سقوطه، وإنّما هو فی طول مانعیته عن تأثیر الأصل الحاکم فی إثبات الطهارة فی محتمل النجاسة، وهذا لا محذور فیه، أن یکون فی طول مانعیة الأصل فی الطرف الآخر، ولا محذور أیضاً فی أن یکون الأصل فی الطرف الآخر مانعاً أیضاً ومعارضاً لهذا الأصل الطولی کما کان مانعاً ومعارضاً مع الأصل الحاکم.

وأمّا إذا کان المقصود أنّ الأصل الطولی فی طول مانعیة الأصل الحاکم ولیس فی طول مانعیة الأصل فی الطرف الآخر عن الأصل الحاکم، وإنّما الأصل الطولی هو فی طول مانعیة الأصل الحاکم عن جریان الأصل فی الطرف الآخر، إذا ادُّعی هکذا، فهذه الدعوی لیست صحیحة، الأصل الطولی لیس فی طول مانعیة الأصل الحاکم من جریان الأصل فی الطرف الآخر؛ لأنّ الأصل الطولی هو فی طول سقوط الأصل الحاکم بحسب الفرض، بفرض الطولیة معناه أنّ الأصل المحکوم الذی هو الأصل الطولی هو فی طول سقوط الأصل الحاکم ولا یُعقل أن یکون فی طول مانعیته عن جریان الأصل فی الطرف الآخر.

ص: 775

إذن: بحسب التحلیل، کون الأصل الطولی فی طول المعارضة، هذا صحیح، لکن المقصود بالمعارضة هو أنّه فی طول مانعیة الأصل فی الطرف الآخر عن جریان الأصل الحاکم وممنوعیة جریان الأصل الحاکم فی هذا الطرف، وهذا مطلب صحیح؛ وحینئذٍ لا محذور فی أن یکون الأصل فی الطرف الآخر الذی کان الأصل الطولی فی طول مانعیته لا فی طول ممنوعیته، ما هو المحذور فی أن یکون هذا الأصل الذی کان الأصل الطولی فی طول مانعیته عن جریان الأصل الحاکم، أن یکون مانعاً من جریان الأصل المحکوم ؟ وهذا معناه أنّ التعارض یقع بین کل الأصول؛ وحینئذٍ تتساقط کل الأصول.

إذن: هذا الوجه الثانی أیضاً لیس تامّاً.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

الوجه الثالث الذی ذُکر فی المقام: لمنع جریان الأصل الطولی فی محل الکلام هو أن یُقال بأنّه لا إشکال فی أنّ الأصل الطولی فی طول الأصل الحاکم وفی مرتبةٍ متأخّرةٍ عنه، هذا مُسلّم باعتبار الحکومة، الأصل الطولی هو فی طول سقوط الأصل الحاکم، فإذا سقط الأصل الحاکم فی نفس الطرف تصل النوبة إلی الأصل الطولی الذی هو الأصل المحکوم. هذا من جهة.

من جهةٍ أخری: أنّ سقوط الأصل الحاکم هو فی مرتبة سقوط الأصل فی الطرف الآخر، سقوط الأصلان العرضیان فی مرتبةٍ واحدةٍ، بمعنی أنّ سقوط الأصل الحاکم فی هذا الطرف هو فی مرتبة سقوط الأصل فی الطرف الآخر. إذا تمّ هذان الأمران؛ حینئذٍ یثبت أنّ الأصل الطولی متأخّر بحسب الرتبة عن سقوط الأصل فی الطرف الآخر؛ لأنّ الأصل الطولی هو فی رتبةٍ متأخّرةٍ عن سقوط الأصل الحاکم، والمفروض أنّ الأصل الحاکم فی نفس الرتبة مع سقوط الأصل فی الطرف الآخر، قهراً یکون الأصل الطولی فی طول سقوط الأصل فی الطرف الآخر؛ وحینئذٍ یقال: عندما یکون الأصل الطولی فی رتبةٍ متأخّرةٍ عن سقوط الأصل فی الطرف الآخر؛ حینئذٍ یستحیل أن یکون معارضاً له؛ لأنّه فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عن سقوطه، وإنّما تصل النوبة إلی الأصل الطولی بعد فرض سقوط الأصل فی الطرف الآخر؛ لأنّه فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عنه، وإذا کان بهذا الشکل؛ حینئذٍ یستحیل أن یکون معارضاً لذاک الأصل فی الطرف الآخر، التعارض بینهما غیر معقول حینئذٍ، وعلی هذا الأساس لا مانع من الرجوع إلی الأصل الطولی فی محل الکلام؛ لأنّه فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عن سقوط الأصل فی الطرف الآخر.

ص: 776

من الواضح أنّ هذا الوجه مبنی علی قضیةٍ تقول بأنّه إذا کان هناک أمران فی مرتبةٍ واحدةٍ، قهراً یکون المتأخّر عن أحدهما متأخّراً عن الآخر، یعنی أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین فی الرتبة قهراً یکون متأخّراً عن الآخر ونفس الکلام یقال فی التقدّم، أنّ المتقدّم علی أحد المتساویین فی الرتبة، قهراً یکون متقدّماً علی المساوی الآخر فی الرتبة. وقد تقدّم سابقاً الإشارة إلی هذه القاعدة ومناقشتها وأنّها غیر صحیحة وأنّها إنما تصحّ عندما یکون التساوی فی الزمان، أیّ أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین زماناً، قهراً یکون متأخّراً زماناً عن الآخر، وهکذا المتقدّم. أمّا بلحاظ الرتبة، فلا دلیل علی أنّ المتأخّر عن أحد المتساویین رتبةٍ یکون متأخّراً عن المساوی الآخر فی الرتبة، وذلک لما ذکرناه سابقاً من أنّ التأخّر فی الرتبة یعنی أن یکون المتأخّر ناشئاً من المتقدّم ومعلولاً له، ومن الواضح أنّه لیس هناک ضرورة تفرض أنّه إذا کان هناک شیء معلول لأحد الأمرین وناشئ منه، فلابدّ أن یکون أیضاً معلولاً للآخر وناشئاً منه حتّی یکون متأخّراً عنه رتبة، التأخّر الرتبی یعنی العلّیة والمعلولیة، یعنی النشوء، لیس هناک قاعدة عقلیة تقتضی أن یکون المتأخّر الناشئ من أحد الشیئین والمعلول لأحد الشیئین أنّه لابدّ أن یکون معلولاً لما یساویه فی الرتبة، وأن یکون ناشئاً أیضاً ممّا یساویه فی الرتبة، لیس هناک قاعدة عقلیة تقتضی ذلک؛ بل یکون هذا المتأخّر رتبة معلولاً لهذا وناشئاً منه وفی نفس الوقت هو لیس معلولاً للطرف الآخر، یعنی لیس فی رتبةٍ متأخّرةٍ عن الطرف المساوی الآخر. هذا هو الوجه الثالث وجوابه.

ص: 777

الوجه الرابع هو أن یقال: حتّی إذا سلّمنا أنّ الأصل الطولی لیس فی طول الأصل العرضی فی الطرف الآخر، وتنزّلنا عن الوجوه السابقة التی تقتضی أنّه فی طوله؛ ولذا قیل بأنّه لا یصلح للمعارضة؛ لأنّه فی طوله وفی مرتبةٍ متأخّرةٍ عنه. الآن نسلّم أنّ الأصل الطولی لیس فی طول الأصل فی الطرف الآخر، وإنّما هو فی رتبته، لکن مع ذلک یُدّعی فی هذا الوجه أنّه لا یمکن الرجوع إلی هذا الأصل الطولی؛ وذلک ببرهان أنّ هذا الأصل الطولی لا یمکن أن یقع طرفاً للمعارضة مع الأصل العرضی فی الطرف الآخر؛ فحینئذٍ لا مانع من أن تصل النوبة إلیه؛ لأنّه لا یصلح ولا یقبل أن یقع طرفاً للمعارضة مع الأصل العرضی فی الطرف الآخر. والبرهان علی هذا هو أنّ الأصل الطولی یلزم من کونه مانعاً ومعارضاً للأصل العرضی فی الطرف الآخر محذور عقلی، مانعیة الأصل الطولی عن جریان الأصل العرضی فی الطرف الآخر ومعارضته له، یلزم من هذه المانعیة المحال، فتکون المانعیة محال، وإذا کانت المانعیة محال، فهذا یعنی أن الأصل الطولی لا یصلح أن یکون معارضاً وممانعاً للأصل العرضی الجاری فی الطرف الآخر، فلا مانع من الرجوع إلیه. وکون مانعیة الأصل الطولی عن جریان الأصل العرضی فی الطرف الآخر محالاً؛ لأنّه یلزم من هذه المانعیة عدمها، وکل ما یلزم من وجوده عدمه یکون محالاً، فهذه المانعیة یلزم من وجودها عدمها، وهذا محال.

توضیح ذلک: علی تقدیر أن یکون الأصل الطولی مانعاً من الأصل العرضی فی الطرف الآخر یؤدّی إلی رجوع الأصل الحاکم، فی مثالنا السابق هو أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة؛ لأنّ المانع من رجوع الأصل الحاکم ----------- الذی هو أصالة الطهارة فی هذا الطرف ----------- إنّما هو الأصل المعارض له الموجود فی الطرف الآخر، هذا هو الذی یمنع من جریان الأصل العرضی الآخر فی هذا الطرف الذی نسمّیه بالأصل الحاکم، فالذی یمنع من جریان الأصل الحاکم فی هذا الطرف هو معارضته بالأصل العرضی فی الطرف الآخر، فإذا کان الأصل الطولی مانعاً من جریان الأصل العرضی فی الطرف الآخر، هذا یؤدّی إلی رجوع الأصل العرضی الحاکم فی هذا الطرف، وإذا رجع الأصل الحاکم فی هذا الطرف؛ حینئذٍ یرتفع الأصل الطولی؛ لأنّ الأصل العرضی الجاری فی هذا الطرف حاکم علی الأصل الطولی؛ لأنّه فی طوله بحسب الفرض، أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة هی فی طول أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة، فإذا رجعت أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة؛ حینئذٍ تنتفی أصالة الإباحة؛ لأنّها فی طول سقوط الأصل الحاکم، أمّا إذا کان الأصل الحاکم موجوداً؛ فحینئذٍ لا تصل النوبة إلی الأصل الطولی ----------- أصالة الإباحة ------------ فرجوع الأصل الحاکم یعنی ارتفاع وانتفاء موضوع الأصل الطولی المحکوم، ومن الواضح أنّ الأصل إذا انتفی موضوعه ولم یکن له مقتضیٍ ولم یکن حجّة؛ حینئذٍ لا یکون مانعاً من الأصل العرضی فی الطرف الآخر، یستحیل أن یکون مانعاً من الأصل العرضی فی الطرف الآخر؛ لأنّ موضوعه قد انتفی وسقط عن الحجّیة، فلا یُعقل أن یکون مانعاً من الأصل العرضی فی الطرف الآخر، وبالنتیجة تکون مانعیة الأصل الطولی عن الأصل العرضی فی الطرف الآخر تستلزم عدم المانعیة، وهذا هو الذی قلنا أنّه یلزم من وجود الشیء عدمه، أی یلزم من فرض المانعیة عدم المانعیة، وکل شیءٍ یلزم من وجوده عدمه محال؛ لأنّ المانعیة تستلزم سقوط الأصل فی الطرف الآخر، وسقوط الأصل فی الطرف الآخر یستلزم رجوع الأصل الحاکم، ورجوع الأصل الحاکم یلزم منه انتفاء الأصل الطولی المحکوم، وإذا انتفی الأصل المحکوم ولم یکن مقتضیٍ لثبوته، إذن، هو لیس حجّة، فلا یکون مانعاً عن جریان الأصل العرضی فی الطرف الآخر، فیلزم من مانعیة الأصل الطولی عن جریان الأصل العرضی فی الطرف الآخر عدم مانعیته له، وهذا محال. هذا هو الوجه الرابع.

ص: 778

ویُلاحظ علی هذا الوجه: أنّ قضیة سقوط الأصل فی الطرف الآخر یستلزم رجوع الأصل الحاکم، هذا غیر مسلّم، سقوط الأصل العرضی فی الطرف الآخر باعتبار فرض أنّ الأصل الطولی منع منه، فرض المانعیة أنّ الأصل الطولی یمنع من ذاک، یعنی أنّ الأصل العرضی فی الطرف الآخر سقط؛ حینئذٍ یقال أنّ سقوط الأصل العرضی فی الطرف الآخر باعتبار مانعیة الأصل الطولی فی هذا الطرف، یستلزم حیاة ورجوع الأصل الحاکم فی هذا الطرف.....الخ. هذه القضیة ممنوعة، فی محل الکلام سقوط أحد المتعارضین لا یستلزم رجوع الأصل الآخر، والنکتة فی ذلک هی أنّ سقوط الأصل فی ذاک الطرف هو فی طول تمامیة مقتضی الجریان فی الأصل الطولی، وهذا واضح، سقوط الأصل فی ذاک الطرف هو فرع جریان الأصل الطولی وتمامیة مقتضی جریانه، وإلاّ لولا الأصل الطولی الذی فُرض کونه مانعاً من ذاک لکان ذاک الأصل جاریاً فی الطرف الآخر، إذن: سقوط الأصل العرضی فی الطرف الآخر هو فی طول جریان الأصل الطولی وتمامیة مقتضی جریانه، ومن الواضح أنّ جریان الأصل الطولی هو فرع سقوط الأصل الحاکم، وإلاّ لا تصل النوبة إلی الأصل المحکوم إذا کان الأصل الحاکم جاریاً، إذن: جریان الأصل المحکوم الذی هو الأصل الطولی وتمامیة مقتضی جریانه هو فرع سقوط الأصل الحاکم، فبالنتیجة یکون سقوط الأصل العرضی فی هذا الطرف الآخر هو فی طول سقوط الأصل الحاکم؛ لأنّ سقوط الأصل العرضی فی الطرف الآخر هو فی طول تمامیة مقتضی الجریان فی الأصل الطولی، وتمامیة مقتضی الجریان فی الأصل الطولی هو فرع وفی طول سقوط الأصل العرضی الآخر الذی هو الأصل الحاکم. إذن، سقوط الأصل العرضی فی هذا الطرف هو فی طول سقوط الأصل الحاکم. مثل هذین المتعارضین لا یکون سقوط أحدهما مستلزماً لرجوع الآخر وحیاته، قد یکون فی موردٍ آخر لیس فیه هذه الطولیة، یمکن أن یکون سقوط أحد المتعارضین؛ بل لعلّه هو الصحیح، یستلزم حیاة الآخر، لکن عندما یکون سقوط أحد المتعارضین هو فی طول سقوط الآخر وفی طول موته؛ حینئذٍ کیف یکون نفس هذا السقوط الذی هو فی طول سقوط الآخر مستلزماً لحیاته ولرجوعه ؟! هذا غیر معقول ! الأمران العرضیان المتعارضان إذا کان سقوط أحدهما فی طول سقوط الآخر؛ حینئذٍ لا یمکن أن یکون سقوط أحدهما مستلزماً لحیاة الآخر الذی هو بحسب الفرض فی طول سقوطه وفی طول موته، فکیف یکون سقوطه الذی هو فی طول سقوط الآخر مستلزماً لحیاة الآخر ؟! هذا البرهان یستند إلی قضیة أنّ سقوط أحد المتعارضین یستلزم حیاة الآخر، هذا فی محل کلامنا غیر صحیح؛ لأننا بحسب الفرض نفترض أنّ هناک طولیة بین السقوطین، سقوط هذا هو فرع سقوط ذاک، بالبرهان؛ لأنّ سقوط هذا هو فرع تمامیة مقتضی الجریان فی الأصل الطولی، وتمامیة مقتضی الجریان فی الأصل الطولی هی فرع سقوط الأصل الحاکم، إذن، سقوط هذا هو فی طول سقوط الأصل الآخر الذی هو فی عرضه، فإذا کان سقوطه فی طول سقوطه، فکیف یُعقل أن یکون سقوطه موجباً لحیاته ورجوعه ؟! هذا أمر غیر معقول ! والبرهان یستند إلی هذه القضیة، وهذه القضیة لیست صحیحة. إذن: لا یلزم من مانعیة الأصل الطولی عن جریان الأصل العرضی فی الطرف الآخر عدم المانعیة، یعنی لا یلزم من المانعیة عدم المانعیة، وبالتالی لا تکون مانعیته عنه ودخوله فی المعارضة محالاً کما قیل فی هذا الوجه.

ص: 779

الوجه الخامس هو أن یقال: فی محل الکلام یوجد علمان إجمالیان، وأحد العلمین الإجمالیین هو فی طول العلم الإجمالی الآخر، العلم الإجمالی الأوّل هو العلم الإجمالی بکذب أحد الأصلین العرضیین، المکلّف یعلم فی هذا المثال فی محل الکلام، بأنّه إمّا أصالة الطهارة فی محتمل النجاسة کاذبة، أو أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة فی الطرف الآخر، أحد الأصلین العرضیین کاذب؛ إذ لا یمکن أن یکون کل منهما صادقاً، وأن یجری کلٌ منهما؛ لأنّ هذا مخالف للعلم الإجمالی. وعلی أساس هذا العلم الإجمالی ومنجّزیته؛ حینئذٍ یسقط کلا الأصلین، أصالة الطهارة فی هذا الطرف وأصالة الإباحة فی الطرف الآخر، وهذا معناه أنّ الأصل الحاکم یسقط عن الحجّیة علی أساس هذا العلم الإجمالی، فی طول سقوط هذا الأصل الحاکم یتولّد الأصل المحکوم الذی هو الأصل الطولی فی محل الکلام الذی هو أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة.

هناک علم إجمالی ثانٍ یحصل نتیجة تولّد هذا الأصل الطولی؛ لأنّه بعد سقوط الأصل الحاکم بالمعارضة مع ذاک الأصل فی الطرف الآخر للعلم بکذب أحدهما یتولّد الأصل الطولی، فی طول تولّد هذا الأصل الطولی الذی هو أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة یحصل علم إجمالی ثانٍ، هذا العلم الإجمالی الثانی هو العلم بکذب أحد الأصلین، إمّا أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، أو أصالة الإباحة فی محتمل الغصبیة، أحدهما کاذب، طبعاً نغضّ النظر عن مسألة الترتب والتقدّم الرتبی بینهما؛ لأنّنا أغمضنا النظر عن الوجوه الثلاثة السابقة التی تقول بوجود الترتب، وإنّما هنا نفترض أنّهما فی مرتبةٍ واحدةٍ، فی طول تولّد الأصل المحکوم --------- الأصل الطولی ---------- یحصل علم إجمالی بأنّ أحد الأصلین کاذب، ولا یمکن أن تثبت الإباحة لکلٍ منهما؛ لأنّنا نعلم إجمالاً بأنّ أحدهما لیس مباحاً، إمّا غصب وإمّا نجس.

ص: 780

إذن: هناک علمان إجمالیان، العلم الإجمالی الأوّل والعلم الإجمالی الثانی، هذا العلم الإجمالی الثانی بهذا البیان یکون متأخّراً رتبة عن العلم الإجمالی الأوّل، باعتبار أنّ هذا العلم الإجمالی الثانی هو فی طول الأصل الطولی؛ لأنّه عندما تولّد الأصل الطولی حدث علم إجمالی ثانٍ، إذن، هو فی طول الأصل الطولی الذی هو أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، والأصل الطولی هو فی طول سقوط الأصل الحاکم، وسقوط الأصل الحاکم هو فی طول العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ العلم الإجمالی الأوّل هو الذی أوجب سقوط الأصل الحاکم. إذن یکون العلم الإجمالی الثانی فی طول العلم الإجمالی الأوّل، النتیجة هی أنّه فی محل الکلام نلاحظ أنّ هذین العلمین الإجمالیین یشترکان فی طرفٍ واحد، وهذا الطرف الواحد هو عبارة عن أصالة الإباحة فی الطرف الآخر، هذا دخل طرفاً فی العلم الإجمالی الأوّل وطرفاً فی العلم الإجمالی الثانی، فإذن، علمان إجمالیان یشترکان فی طرفٍ واحدٍ؛ حینئذٍ تُطبّق قاعدة سیأتی بحثها، أنّه إذا کان أحد طرفی العلم الإجمالی منجّزاً فی مرتبةٍ سابقةٍ بعلمٍ إجمالی آخر، فالعلم الإجمالی الثانی یسقط عن التنجیز، من قبیل ما یقال من أنّ أحد الأطراف إذا کان منجّزاً بسببٍ آخر ولیس بعلم إجمالی آخر سابق، وإنّما کان منجّزاً بمنجّزٍ ما، کما تقدّم، منجّز عقلی، أو منجّز شرعی، أو بأیّ منجّز کان، العلم الإجمالی حینئذٍ یسقط عن التنجیز ولا یمنع من جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر. هذا من هذا القبیل، غایة الأمر أنّ التنجیز حصل فی مرتبةٍ سابقةٍ بعلمٍ إجمالی آخر، فأنّ الطرف الآخر تنجّز بالعلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ العلم الإجمالی الأوّل کما قلنا یوجب التنجیز، وبالتالی تسقط الأصول فی کلا طرفیه. إذن، الطرف الثانی الذی هو الطرف الآخر تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل، عندما یحصل العلم الإجمالی الثانی ------------ لو فرضنا أنّه فی رتبة متأخّرة بالبیان السابق ------------ یجد أنّ أحد أطرافه تنجّز بمنجّزٍ سابق، فإذا تنجّز بمنجّزٍ سابق، مثل هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً للطرف الآخر، ولا یمنع من جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر الذی هو محتمل النجاسة فی محل کلامنا، هو لا یمنع من جریان أصالة الإباحة فی محتمل النجاسة، فیجری الأصل الطولی فی المقام بلا مانع. هذا الوجه الخامس الذی یقال لعدم سقوط الأصل الطولی، وجریان الأصل الطولی فی محل الکلام.

ص: 781

هذا الوجه الخامس یبتنی علی الإیمان بهذه القاعدة التی بینّاها وهی أنّ أحد أطراف العلم الإجمالی إذا کان منجّزاً بعلمٍ إجمالی سابق؛ حینئذٍ هذا یوجب سقوط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز، لو تشکّل علم إجمالی ثانٍ کان هذا الذی تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل طرفاً فیه، هذا العلم الإجمالی الثانی لا ینجّز أطرافه؛ لأنّ أحد أطرافه تنجّز بمنجّز سابق. وأمّا إذا أنکرنا هذه القاعدة وقلنا بأنّ العلم الإجمالی ینجّز أطرافه بالرغم من أنّ بعض أطرافه منجّز بعلمٍ إجمالی سابق، هل هناک مجال لإثبات هذا الوجه الخامس، وبالتالی إثبات إمکان الرجوع إلی هذا الأصل الطولی بقطع النظر عن هذا المبنی، یعنی حتّی إذا أنکرنا هذا المبنی، هل یمکن إثبات وصول النوبة إلی الأصل الطولی، وإمکان الرجوع إلیه فی محل الکلام، أو لا ؟ هذا یأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

انتهی الکلام إلی الوجه الخامس: من الوجوه التی قد تُذکر لإثبات عدم دخول الأصل الطولی فی محل الکلام فی المعارضة، وأنّ التعارض یقع بین الأصلین العرضیین، وبعد تعارضهما وتساقطهما تصل النوبة إلی الأصل الطولی. قلنا هناک وجوه تذکر لإثبات هذا المطلب فی مقابل أنّ الأصل الطولی یدخل فی المعارضة، وبالتالی تتساقط کل الأصول الثلاثة فی الأطراف، وهو الرأی الذی تبنّاه السیّد الخوئی(قدّس سرّه) علی ما نقلنا عنه، عندما یکون الأصلان العرضیان غیر متسانخین، هو ذکر بأنّ الأصل الطولی یدخل فی المعارضة ویسقط ولا مجال لأن نقول یتعارض الأصلان العرضیان وبعد التعارض والتساقط تصل النوبة إلی الأصل الطولی.

ص: 782

الوجه الأخیر الذی انتهی الکلام إلیه وهو الوجه الخامس، وحاصله: أن یُدّعی أنّ هنا یوجد علمان إجمالیان بینهما طرف مشترک، فنطبّق علی ذلک المبنی الذی یقول بأنّ الطرف المشترک لا یقبل أن یکون منجّزاً بالعلم الإجمالی الثانی بعد أن کان منجّزاً بالعلم الإجمالی الأوّل.

أو بعبارةٍ أخری: أنّ العلمین الإجمالیین إذا کان بینهما طرف مشترک وکانت منجّزیة العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک فی طول منجّزیة العلم الإجمالی الأوّل للطرف المشترک، فی حالةٍ من هذا القبیل هناک مبنی یری أنّ العلم الإجمالی الثانییسقط عن التنجیز ولا یکون منجّزاً للطرف المشترک. وبعبارة أخری نستطیع أن نقول أنّ العلم الإجمالی ینحل؛ لأنّ أحد أطراف العلم الإجمالی قد تنجّز بمنجّزٍ فی مرتبةٍ سابقة. إذن: هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، وإنّما یکون منجّزاً لمعلومه علی أحد التقدیرین، أمّا علی تقدیر أن یکون معلومه هو الطرف المشترک، فالمفروض أنّ الطرف المشترک قد تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی السابق، إذن، هذا العلم الإجمالی الثانی لا یصلح أن ینجّز معلومه علی کل تقدیرٍ، وهذا شرط فی منجّزیة العلم الإجمالی؛ ولذا لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً، إذا لم یکن العلم الإجمالی الثانی منجّزاً، سقط عن التنجیز وأنحل؛ حینئذٍ لا مانع من الرجوع إلی الأصل الطولی؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی الذی طرفاه الأصل الطولی هنا، والأصل العرضی فی الطرف الآخر، یعنی یکون هناک تعارض بین الأصل العرضی فی الطرف الآخر وبین الأصل الطولی فی هذا الطرف، هذا العلم الإجمالی ینحل، ولو حکماً ویسقط عن المنجّزیة، فإذن، لا یکون مانعاً من الرجوع إلی الأصل الطولی، بناءً علی هذه الفکرة.

ص: 783

تطبیق هذه الفکرة فی محل الکلام واضح، وهو أن یقال: أنّ العلم الإجمالی الثانی فی محل الکلام هو فی طول الأصل الطولی الذی یتولّد بعد سقوط الأصل الحاکم علیه، وسقوط الأصل الحاکم علیه هو حاصل بعد فرض تنجیز العلم الإجمالی الأوّل، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی الثانی هو فی طول العلم الإجمالی الأوّل؛ لأنّ العلم الإجمالی الثانی إنمّا یحصل عندما تصل النوبة إلی الأصل الطولی، فنقول أنّ هذا الأصل الطولی مع الأصل العرضی فی الطرف الآخر نعلم بکذب أحدهما. إذن: هذا العلم الإجمالی الثانی هو فی طول تولّد الأصل الطولی ووصول النوبة إلیه، ووصول النوبة إلی الأصل الطولی هو فی طول سقوط الأصل الحاکم، وإلاّ لو کان الأصل الحاکم جاریاً لما وصلت النوبة إلی الأصل الطولی المحکوم، وسقوط الأصل الحاکم متفرّع علی منجّزیة العلم الإجمالی الأوّل. إذن: العلم الإجمالی الأوّل یحصل وینجّز أطرافه، فیسقط الأصل الحاکم، فیتولّد الأصل الطولی، وفی طول تولّد الأصل الطولی یحصل العلم الإجمالی الثانی بأنّه إمّا هذا الأصل الطولی کاذب، أو الأصل العرضی الجاری فی الطرف الآخر. إذن: الطولیة موجودة، فتأتی هذه القاعدة وتقول: ما دام کانت هناک طولیة بین علمین إجمالیین بأن یکون العلم الإجمالی الثانی فی طول منجّزیة العلم الإجمالی الأوّل، عندما یکون بینهما طرف مشترک یستحیل أن یتلقّی هذا الطرف المشترک التنجیز مرّة أخری من العلم الإجمالی الثانی؛ لأنّه بما هو منجّز یستحیل أن یکون منجّزاً مرّة أخری، الطرف المشترک بحسب الفرض تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل، ومع کونه تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل؛ حینئذٍ لا یُعقل أن یتلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الثانی؛ لأنّ العلم الإجمالی الثانی بحسب الفرض فی طول العلم الإجمالی الأوّل، یعنی نفترض العلم الإجمالی الأوّل ومنجّزیته لأطرافه، ثمّ تصل النوبة للعلم الإجمالی الثانی ونرید أن نقول أنّ هذا العلم الإجمالی الثانی ینجّز الطرف المشترک، هذا غیر ممکن؛ لأنّ المنجّز بما هو منجّز یستحیل أن یتعلّق به التنجیز مرّة أخری، وهذا معناه فی الحقیقة أنّ العلم الإجمالی الثانی لا یستطیع أن ینجّز أطرافه؛ لاختلال شرطٍ من شرائط المنجّزیة للعلم الإجمالی وهو أنّ العلم الإجمالی لابدّ أن یکون منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر، یعنی سواء کان معلومه فی هذا الطرف هو ینجّزه، أو کان فی هذا الطرف أیضاً هو ینجّزه، بینما فی المقام هذا الشرط مختل؛ لأنّ العلم الإجمالی لا ینجّز معلومه علی تقدیر أن یکون متحققاً فی الطرف الآخر؛ لأنّ الطرف الآخر تلقّی التنجیز فی مرتبةٍ متقدّمة، فلا مانع حینئذٍ من الرجوع إلی الأصل الطولی.

ص: 784

الجواب عن هذا الوجه مرّة یکون جواباً مبنائیاً، بإنکار هذا المبنی أساساً، فیقال بأننا لا نلتزم بسقوط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز إذا کان أحد أطرافه منجّزاً بعلمٍ إجمالی فی مرتبةٍ سابقة؛ بل یبقی العلم الإجمالی الثانی منجّزاً ولا یسقط عن المنجّزیة بمجرّد أن أحد أطرافه قد تلقّی التنجیز من علمٍ إجمالی متقدّمٍ. وفی الحقیقة إذا بنینا علی إنکار هذا المبنی؛ حینئذٍ هذا یمنع من جریان الأصل الطولی؛ لأنّ العلم الإجمالی الثانی یبقی علی تنجیزه، کما أنّ العلم الإجمالی الأوّل منجّز، العلم الإجمالی الثانی أیضاً یبقی علی التنجیز؛ لأنّه لا مانع من أن یکون العلم الإجمالی الثانی منجّزاً لأطرافه بالرغم من وجود طرفٍ مشترک بینه وبین علم إجمالی آخر تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی السابق. وسیأتی تحقیق هذا المطلب فی باب الانحلال، فبناءً علی إنکار هذا المبنی؛ حینئذٍ یکون الجواب واضحاً فی محل الکلام.

وأخری یُراد الجواب عن هذا الوجه الخامس مع تسلیم هذا المبنی الذی یبتنی علیه، بمعنی تسلیم أنّ العلم الإجمالی الثانی یسقط عن التنجیز إذا کان أحد أطرافه قد تلقّی التنجیز من علمٍ إجمالی فی مرتبةٍ أسبق، فینحل ویسقط عن المنجّزیة. هذه الکبری نسلّمها الآن فعلاً؛ وحینئذٍ یقال فی مقام الجواب عن الوجه الخامس بأنّ سقوط العلم الإجمالی الثانی عن التنجیز هو متفرّع ومبنی علی افتراض انحلال العلم الإجمالی الثانی؛ وحینئذٍ یسقط عن التنجیز وصلاحیته للتنجیز، فلا یمنع من جریان الأصل الطولی فی طرفه. الانحلال ------------ بناءً علی هذه الکبری ------------- إنّما یکون باعتبار أنّ التنجیز الذی یتلقّاه الطرف المشترک من العلم الإجمالی الثانی هو فی مرتبة متأخّرة رتبة عن التنجیز الذی یتلقّاه من العلم الإجمالی الأوّل، أنّ هذا الطرف المشترک یتلقّی التنجیز من علمین إجمالیین لکن بینهما طولیة، بینهما تقدّم وتأخّر فی الرتبة، التنجیز الذی یتلقّاه الطرف المشترک من العلم الإجمالی الثانی هو فی طول التنجیز الذی یتلقّاه من العلم الإجمالی الأوّل، حینما یُفترض ذلک؛ حینئذٍ یقال بأنّ هذا محال، لما تقدّم من أنّ المنجّز بما هو منجّز یستحیل أن یکون قابلاً للتنجیز مرّة أخری، وفی المقام فُرض أنّ هذا الطرف المشترک تلقّی التنجیز فی مرتبةٍ أسبق من العلم الإجمالی الأوّل، فلا یُعقل أن یکون منجّزاً بالعلم الإجمالی الثانی، وهذا هو الذی یوجب الانحلال واختلال شرطٍ من شرائط منجّزیة العلم الإجمالی وهو أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً لمعلومه علی کل تقدیر؛ فحینئذٍ یسقط عن التنجیز وینحل. هذا هو الوجه فی تطبیق الکبری فی محل الکلام، وهذا معناه أنّ انحلال العلم الإجمالی الثانی یتوقّف علی أن یکون تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف المشترک، وعبّرنا عنه بأنّه یتوقّف علی أن یکون الطرف المشترک یتلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الثانی فی طول تلقّیه التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل.

ص: 785

هذه الطولیة إذا بقیت محفوظة یأتی هذا المبنی الذی یقول أنّ العلم الإجمالی الثانی لابدّ أن ینحل؛ لأنّ الطرف المشترک فُرض أنّه تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل، أنّ العلم الإجمالی الأوّل نجّز الطرف المشترک، فالطرف المشترک اکتسب التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل فی مرتبةٍ سابقةٍ؛ حینئذٍ هذا العلم الإجمالی الثانی لا یستطیع أن ینجّزه مرّة أخری، فیختل شرط منجّزیة العلم الإجمالی، فینحل ویسقط هذا العلم الإجمالی، فلا مانع من الرجوع إلی الأصل الطولی. هذه هی الفکرة.

هذا الکلام هل هو متحقق فی محل الکلام، أو لا ؟ هل صحیح أنّ تلقّی الطرف المشترک التنجیز من العلم الإجمالی الثانی هو فی طول تلقّی الطرف المشترک التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل ؟

بعبارةٍ أخری: تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک هل هو فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل له، حتّی یکون هذا التنجیز فی طول ذلک التنجیز ؟ فیکون هناک تنجیزان للطرف المشترک أحدهما فی طول الآخر ؟ هل هذا المطلب متحقق فی محل کلامنا حتّی نحقق هذه الکبری التی تقول بأنّ العلم الإجمالی إذا کان أحد أطرافه قد تلقّی التنجیز فی مرتبةٍ أسبق یسقط عن المنجّزیة وینحل ؟ أو أنّ صغری هذه الکبری غیر متحققة فی محل الکلام ؟ هنا یمکن أن یقال أنّ هذه الصغری غیر متحققّة فی محل الکلام؛ لما تقدّمت الإشارة إلیه فی أثناء استعراض الوجوه السابقة من أنّ تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک لیس فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف المشترک، الذی قلنا بأنّ الانحلال مبنی علی هذه الطولیة؛ بل فی الحقیقة تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک هو فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف المختص بالعلم الإجمالی الأوّل، یعنی بعبارةٍ أخری: هو فی طول سقوط الأصل الحاکم کما عبّرنا مراراً سابقاً، العلم الإجمالی الثانی یکون منجّزاً للطرف المشترک عندما یسقط الأصل الحاکم فی هذا الطرف وتصل النوبة إلی الأصل المحکوم، فیکون لدینا أصلان، الأصل المحکوم الذی نعبّر عنه بالأصل الطولی، ویُعارضه الأصل العرضی فی الطرف الآخر، هذان یتعارضان، نعلم بکذب أحدهما، فیحصل عندنا هذا العلم الإجمالی.

ص: 786

إذن: العلم الإجمالی الثانی بکذب أحد الأصلین، إمّا الأصل الطولی، أو الأصل العرضی فی الطرف الآخر، هو فرع سقوط الأصل الحاکم، یعنی بعبارةٍ أخری: فرع تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف المختص الذی یجری فیه الأصل الحاکم؛ لأنّ العلم الإجمالی ینجّز طرفیه وهما الأصلان العرضیان، فیمنع من جریان الأصلین العرضیین، العلم الإجمالی الثانی لیس متفرّعاً علی سقوط الأصل فی الطرف الآخر، وإنّما هو متفرّع علی سقوط الأصل الحاکم فی الطرف المختص بالعلم الإجمالی الأوّل، فالعلم الإجمالی الأوّل فیه طرف مختص وفیه طرف مشترک مع العلم الإجمالی الثانی، وهو متفرّع علی سقوط الأصل الحاکم فی الطرف المختص بالعلم الإجمالی الأوّل، فإذا سقط الأصل الحاکم تصل النوبة إلی الأصل الطولی، فیتولّد لدینا علم إجمالی ثانٍ وهو أن نعلم بأنّه إمّا هذا الأصل الطولی کاذب، أو الأصل العرضی فی الطرف الآخر؛ لأنّه یستحیل الجمع بینهما، إذن: منجّزیة العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک لیست فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف المشترک حتّی نطبّق الکبری أنّ هذا الطرف المشترک تلقّی التنجیز من علمین إجمالیین وبین التنجیزین توجد طولیة، بمعنی أنّ تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک هو فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل له، الکبری تقول هذا محال؛ لأنّک تفترض أنّ الطرف المشترک تلقّی تنجیزه من العلم الإجمالی الأوّل، وبعد أن تفترض أنّه تلقّی التنجیز من العلم الإجمالی الأوّل یأتی العلم الإجمالی الثانی وینجّزه، هذا محال؛ لأنّ المنجّز بما هو منجّز لا یقبل التنجیز مرّة أخری، فیختل شرط تنجیز العلم الإجمالی ویسقط العلم الإجمالی وینحل، لکن لابدّ أن نثبت أن تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک هو فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف المشترک، وهذا غیر متحقق فی محل الکلام. فی محل الکلام تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک لیس فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف المشترک؛ بل هو فی طول تنجیز العلم الإجمالی الأوّل للطرف المختص الذی هو عبارة عن سقوط الأصل الحاکم؛ لأنّ العلم الإجمالی الأوّل عندما ینجّز الطرفین، وهما الطرف المشترک وهو محتمل الغصبیة، والطرف الآخر محتمل النجاسة، هو ینجّز کلا الطرفین، یعنی یمنع من جریان الأصل المؤمّن فی کلا الطرفین، یعنی یوجب سقوط الأصل الحاکم فی هذا الطرف الذی هو قاعدة الطهارة، إذا سقط الأصل الحاکم یتفرّع علی سقوطه تولّد الأصل المحکوم الذی هو أصالة الإباحة، أو الحلّیة فی محتمل النجاسة، فإذن: تولّد الأصل المحکوم هو فی طول سقوط الأصل الحاکم، یعنی فی طول منجّزیة العلم الإجمالی الأوّل للطرف المختص ولیس فی طول منجّزیة العلم الإجمالی الأوّل للطرف المشترک، وإنّما هو فی طول سقوط الأصل الحاکم، یسقط الأصل الحاکم، فیتولّد الأصل المحکوم، وإذا تولّد الأصل المحکوم صار لدینا علم إجمالی ثانٍ بأنّه إمّا هذا الأصل المحکوم کاذب، أو الأصل فی الطرف المشترک کاذب، هذا علم إجمالی ثانٍ تولّد بعد تولّد الأصل المحکوم الذی هو فی طول سقوط الأصل الحاکم الذی هو عبارة أخری عن منجّزیة العلم الإجمالی الأوّل للأصل المختص.

ص: 787

إذن: لا یمکن تطبیق الکبری فی محل الکلام؛ لأنّ تطبیقها یحتاج إلی افتراض أن یکون هناک تنجیزان مترتبان، أحدهما فی طول الآخر یتعلّقان بالطرف المشترک، علمان إجمالیان بینهما طرف مشترک، تنجیز العلم الإجمالی الأوّل فی مرتبةٍ اسبق من تنجیز العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک بحیث یکون الطرف المشترک یتلقّی التنجیز من کلٍ منهما مع افتراض الطولیة، الکبری تطبّق هنا، فتقول هذا محال وغیر معقول، هذا فی محل الکلام غیر متحقق؛ لأنّه یتوقف علی افتراض أن یکون منجزیة العلم الإجمالی الثانی للطرف المشترک فی طول منجّزیة العلم الإجمالی الأوّل للطرف المشترک، بینما الأمر لیس هکذا.

تبیّن ممّا تقدّم عدم تمامیة شیءٍ من الوجوه السابقة التی ذُکرت لإخراج الأصل الطولی الترخیصی عن المعارضة، وإثبات اختصاص المعارضة بالأصلین العرضیین فی الطرفین، فالصحیح أن المعارضة تسری إلی الأصل الطولی کما قال السید الخوئی(قدّس سرّه)، وتسقط کل الأصول الثلاثة فی الأطراف.

هنا قد یُعترض باعتراضٍ لا بأس بالتعرّض له، وحاصله: أنّه یقال ما هو الفرق بین الأصول العملیة التی نتکلّم عنها وبین الأصول اللّفظیة ؟ لأنّه فی الأصول العملیة فی محل الکلام انتهینا إلی أنّ الأصل الطولی یدخل فی المعارضة ویسقط مع الأصلین العرضیین لا أن الأصلین العرضیین یتعارضان ویتساقطان، ثمّ تصل النوبة إلی الأصل الطولی. الأمر لیس هکذا؛ بل الأصل الطولی یسقط مع الأصلین العرضیین.

الاعتراض یقول: أنتم فی الأصول اللّفظیة لا تلتزمون بذلک؛ بل تلتزمون بأنّ الخاصّین ----------- مثلاً ----------- المتعارضین بعد تعارضهما یتساقطان ونرجع إلی العموم الفوقانی مع أنّهما من وادٍ واحد، حیث لدینا خاصّان متعارضان، أحدهما یقول(أکرم زیداً العالم) والآخر یقول(لا تکرم زیداً العالم)، فهنا بینهما تعارض وموضوعهما واحد وهو(زید العالم)، ولدینا عام فوقانی(أکرم کل عالمٍ). عملاً وبلا خلاف لا إشکال عندهم فی جواز الرجوع إلی العام الفوقانی بعد تعارض هذین الخاصّین وتساقطهما لعدم المرجّح لأحدهما، فالسؤال یقول ما هو الفرق بین محل الکلام وبین هذا ؟ مع أنّهما متشابهان؛ لأنّه لدینا عام فوقانی(أکرم کل عالم) وأحد الخاصّین(أکرم زیداً العالم) موافق له، والخاصّ الآخر(لا تکرم زیداً العالم) مخالف له. واضح أنّ الأصل الفوقانی هو فی طول أحد الخاصّین، بمعنی أنّ النوبة لا تصل إلی اصالة العموم عند وجود(لا تکرم زیداً العالم)، إنّما تصل النوبة إلی اصالة العموم بعد سقوط هذا الخاص المخصص للعام، وهذا واضح؛ لأنّ العام لا یمکن التمسّک بعمومه إلاّ إذا لم یکن هناک مخصص له، أمّا إذا کان له مخصص فمن الواضح عدم جواز التمسّک بعمومه، فإذن لا تصل النوبة إلی أصالة العموم فی العام إلاّ بعد فرض عدم المخصص له، وإثبات عدم المخصص له یکون بالتعارض، یعنی یسقط المخصص له(لا تکرم زیداً العالم) بالمعارضة، ولو لم یسقط بالمعارضة لکان مخصصّاً للعام ومانعاً من انعقاد أصالة العموم فیه، لکن(لا تکرم زیداً العالم) وُجد له معارض وهو(أکرم زیداً العالم)، فیتعارضان، ویتکاذبان، ولا مرجّح لأحدهما، فیتساقطان؛ وحینئذٍ تصل النوبة إلی العام؛ لأنّ هذا العام لم یثبت أنّ له مخصص؛ لأنّ ما یصلح أن یکون مخصصاً له قد سقط بالتعارض، فتصل النوبة إلی أصالة العموم مع أنّ أصالة العموم أیضاً واقعة فی طول ذلک المخصص؛ لأنّ النوبة لا تصل إلی أصالة العموم فی العام إلاّ إذا فرضنا عدم وجود مخصص له، وإلاّ مع وجود المخصص لا تصل النوبة إلی العام.

ص: 788

إذن: أصالة العموم هی فی طول أحد الخاصّین المتعارضین کما هو الحال فی محل الکلام، الأصل الطولی فی محل الکلام هو فی طول أحد الأصلین العرضیین المتعارضین، فإذن: ما نحن فیه هو من قبیل أصالة العموم فی المثال السابق، فلماذا یُفرّق بینهما ویُلتزم فی محل الکلام بعدم الانتهاء إلی الأصل الطولی بعد تساقط الأصلین العرضیین، بینما هناک یُلتزم بالانتهاء والرجوع إلی أصالة العموم فی العام بعد تعارض الخاصّین وتساقطهما ؟

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

انتهی الکلام إلی النقض بالأصول الّلفظیة: وأنّه ما الفرق بین الأصول العملیة والأصول اللّفظیة ؟ لماذا یفرّق بینهما ؟ فی الأصول العملیة التی هی محل الکلام یُبنی علی عدم الرجوع إلی الأصل الطولی وأنّ الأصل الطولی فی محل الکلام یدخل فی المعارضة وتتساقط الأصول جمیعاً، بینما فی الأصول اللّفظیة یبنی علی الرجوع إلی الأصل الطولی، فی مسألة العموم من الواضح جدّاً أنّه بعد تعارض الخاصّین وتساقطهما یُرجع إلی العام الفوقانی مع أنّه أیضاً هو فی طول أحد الخاصّین کما بیّنّا، وبعبارة أخری: أنّ النوبة لا تصل إلیه إلاّ إذا لم یکن له مخصص، یعنی إذا تمّ هذا الخاص المخالف لا تصل النوبة إلی العموم، وإنّما تصل النوبة إلی أصالة العموم عندما یسقط الخاص المخالف الذی یقول(لا تکرم زیداً العالم)، إذا سقط هذا بالمعارضة مع الخاص الآخر؛ حینئذٍ تصل النوبة إلی العموم. إذن: العموم أیضاً هو فی طول أحد الخاصّین، وفی محل الکلام الأصل الطولی هو أیضاً فی طول أحد الأصلین العرضیین المتعارضین بحسب الفرض، فلماذا نفرّق بینهما بذلک.

ص: 789

الجواب عن هذا الاعتراض: أنّ الأصل الطولی فی المقام کما تبیّن من خلال أجوبة الوجوه السابقة، لیس فی طول سقوط الأصل العرضی فی الطرف الآخر ------------ هذه نقطة مهمّة جدّاً -------------- وإنّما هو فی طول سقوط الأصل العرضی فی نفس الطرف الذی یجری فیه والذی عبّرنا عنه بسقوط الأصل الحاکم، الأصل المحکوم الذی هو الأصل الطولی فی هذا الطرف هو فی طول سقوط الأصل الحاکم فی نفس الطرف؛ لأنّ النوبة لا تصل إلی الأصل المحکوم، إلاّ بعد سقوط الأصل الحاکم، فالطولیة الموجودة فی محل الکلام لیست بین الأصل الطولی والأصل المخالف له، وإنّما بین الأصل الطولی والأصل الموافق له الجاری فی نفس طرفه، وأمّا إذا لاحظنا الأصل الطولی مع الأصل العرضی فی الطرف الآخر، فلا طولیة بینهما؛ بل هما فی مرتبةٍ واحدةٍ وفی عرضٍ واحد؛ ولذا قلنا بأنّ الأصل الطولی یدخل فی المعارضة، بمعنی أنّ الأصل العرضی فی الطرف الآخر کما یعارض الأصل الحاکم، کذلک یعارض الأصل الطولی المحکوم؛ لأنّ الأصل الطولی المحکوم هو فی رتبة الأصل العرضی فی الطرف الآخر ولیس فی طوله؛ ولذا یکون معارضاً له، فیدخل فی المعارضة وتتساقط کل الأصول. هذا فی محل الکلام.

وأمّا فی الأصول اللّفظیة، فالأمر بالعکس، بمعنی أنّ الطولیة محفوظة بین أصالة العموم فی العام وبین الخاص المخالف، أصالة العموم فی(أکرم کل عالم) هی فی طول سقوط الأصل الخاص المخالف القائل(لا تکرم زیداً العالم) لما قلناه من أنّه لا تصل النوبة إلی أصالة العموم فی العام، إلاّ بعد سقوط الأصل المخالف، وإلاّ لو کان الأصل المخالف ثابتاً ولیس ساقطاً وکان معتبراً بحسب الفرض؛ فحینئذٍ لا یمکن التمسّک بأصالة العموم؛ لقیام الدلیل الخاص علی إخراج زیدٍ العالم من العموم، فکیف یمکن التمسّک بأصالة العموم فی العام، إذن: لا تصل النوبة إلی أصالة العموم فی العام إلاّ بعد سقوط الخاص المخالف، وهذا هو معنی الطولیة بینهما، إذن: هما لیسا فی عرضٍ واحد وفی مرتبةٍ واحدة؛ بل أصالة العموم هی فی طول سقوط الخاص المخالف، وهذه الطولیة المفهومة عرفاً والتی یبنی علیها العرف؛ لأنّ العرف یبنی علی تعارض الخاصّین، یعنی بمقتضی الفهم العرفی تعارض الخاصّین وتساقطهما والرجوع إلی أصالة العموم، وهذا لا یکون إلاّ باعتبار الطولیة، هذه الطولیة وتعددّ المرتبة فی هذین الأصلین اللّفظیین فی أصالة العموم فی العام وأصالة الظهور فی الخاص المخالف، هذه الطولیة هی التی تمنع من دخول أصالة العموم طرفاً فی المعارضة، ویصحّ حینئذٍ أن یقال أنّه فی الرتبة السابقة یتعارض الأصلان الخاصّان ویتساقطان، فتصل النوبة إلی أصالة العموم فی العام. تمام النکتة فی الجواب هی أنّ الطولیة فی محل الکلام غیر موجودة، بینما الطولیة فی الأصول اللّفظیة موجودة ومفهومة عرفاً ولا یُشک فیها کذلک، هذه الطولیة فی الأصول اللّفظیة بین أصالة العموم والخاص المخالف تمنع من ادخال أصالة العموم طرفاً فی المعارضة، فتصل النوبة إلیها بعد تساقط الخاص المخالف بالمعارضة، بینما هذه الطولیة لیست موجودة فی محل الکلام؛ لما قلناه مراراً من أنّ الأصل الطولی لیس فی طول سقوط الأصل العرضی فی الطرف الآخر، وإن کان هو فی طول سقوط الأصل الحاکم، ومن هنا لا طولیة بینه وبین الأصل العرضی فی الطرف الآخر، فلا مانع من أن یکون الأصل العرضی فی الطرف الآخر معارضاً له کما هو معارض للأصل الحاکم، وهذا معنی أنّ الأصول الثلاثة تتعارض وتتساقط جمیعاً؛ فحینئذٍ لا تصل النوبة إلی الأصل الطولی فی محل الکلام.

ص: 790

هذا الذی تقدّم کلّه کان مبنیاً علی افتراض عدم اختصاص الحکومة والطولیة بالأصول المتخالفة؛ بل کما هی موجودة فی الأصول المتخالفة هی موجودة فی الأصول المتوافقة، فاستصحاب الطهارة وإن کان موافقاً مع أصالة الطهارة هو أیضاً حاکم علیها، وهی فی طوله، هنا تکون حکومة وتکون هناک طولیة، بالرغم من توافقهما، أنّ الحکومة لا تختص بالأصول المتخالفة؛ بل تشمل حتّی الأصول المتوافقة. الکلام کلّه کان مبنیاً علی هذا.

وأمّا إذا قلنا أنّ الطولیة والحکومة تختصّ بخصوص الأصول المتخالفة أمّا الأصول المتوافقة، فلا طولیة بینها، وإنّما هی تجری فی عرضٍ واحدٍ؛ حینئذٍ فی محل الکلام لا معنی لکل هذا الکلام المتقدّم؛ لأنّ الأصول الثلاثة التی هی أصول ترخیصیة بحسب الفرض، أصلان ترخیصیان عرضیان فی الطرفین ویختص أحد الطرفین بأصلٍ ترخیصی آخر، فإذا قلنا أنّ هذا الأصل الترخیصی الآخر الموافق للأصلین العرضیین؛ لأنّ کلاً منهما ترخیصی، هذه الأصول الترخیصیة لا حکومة فیما بینها، وإنّما هی تجری فی عرضٍ واحد، فإذا کانت تجری فی عرضٍ واحد؛ فحینئذٍ لا داعی لکل الکلام المتقدّم؛ لأنّها تجری فی عرضٍ واحد وتتعارض فی عرضٍ واحد، وتتساقط جمیعاً، فلا مجال للقول بأنّ النوبة تصل إلی الأصل الذی نسمّیه بالطولی، الکلام کلّه کان مبنیاً علی افتراض الطولیة، أنّ هذا الأصل فی طول هذا الأصل. هذا بناءً علی ثبوت الطولیة بین الأصول مطلقاً، متوافقة ومتخالفة یکون کلاماً معقولاً؛ لأنّ هذه الأصول متوافقة ویوجد فیما بینها طولیة، فیجری الکلام السابق؛ لأنّ هذا فی طول ذاک وإن کان موافقاً له. أمّا إذا أنکرنا ذلک وقلنا أنّ الحکومة تثبت فقط بین الأصول المتخالفة، أمّا المتوافقة فلا حکومة ولا طولیة فیما بینها؛ فحینئذٍ المسألة محلولة؛ لأنّها کلّها تکون فی عرضٍ واحد وفی مرتبةٍ واحدة؛ حینئذٍ تدخل جمیعاً فی التعارض وتتساقط جمیعاً، وهذا أیضاً أمر واضح وقد نبهنا علیه سابقاً.

ص: 791

یبقی الکلام فی ذیل هذا التنبیه فی ما نقلناه عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی أول البحث عن هذا التنبیه، حیث نقلنا عنه(قدّس سرّه) أنّه منع من الثمرة، ویقول لا ثمرة بین القول بالعلّیة وبین القول بالاقتضاء، الآن نرید أن نرجع إلی إنکاره للثمرة، اصل الثمرة بین القول بالعلّیة وبین القول بالاقتضاء تظهر فی جریان الأصل النافی الترخیصی فی أحد الطرفین إذا لم یکن له معارض فی الطرف الآخر علی القول بالاقتضاء وعدم جریانه علی القول بالعلّیة، هذه هی الثمرة، أنّه إذا کان فی أحد الطرفین أصل مؤمّن نافٍ دون الطرف الآخر، الطرف الآخر لیس فیه هذا الأصل الترخیصی النافی لأی سببٍ من الأسباب؛ حینئذٍ تظهر الثمرة فی هذا المورد، علی القول بالاقتضاء لا مانع من الرجوع إلی هذا الأصل النافی فی هذا الطرف؛ لأنّ المانع من جریانه هو المعارضة، فإذا لم یکن له معارض فیجری، بینما علی القول بالعلّیة لا یجری هذا الأصل النافی فی هذا الطرف وإن لم یکن له معارض فی الطرف الآخر.

تقدّم سابقاً أننا نقلنا کلاماً للمحقق النائینی(قدّس سرّه) یظهر منه إنکار هذه الثمرة، وفسّرنا کلامه علی ضوء ما یُفهم من عبارته التی نقلناها عنه سابقاً بهذا التفسیر: قلنا الظاهر أنّ مقصوده هو أنّه یستبعد افتراض مورد تظهر فیه الثمرة؛ بل فی عبارةٍ له أنّه من غیر الممکن تصوّره؛ لأنّ الثمرة إنّما تظهر عندما نفترض اختصاص أحد الطرفین بالأصل المؤمّن النافی، وإلاّ إذا لم یکن یختص، فمن الواضح أنّ الأصل لا یجری فی هذا الطرف، سواء قلنا بالعلّیة أو قلنا بالاقتضاء، إذا قلنا بالعلّیة فعدم جریان الأصل فی هذا الطرف واضح، وإذا قلنا بالاقتضاء أیضاً لا یجری الأصل فی هذا الطرف للمعارضة، إذن: لابدّ أن نفترض عدم وجود المعارض ولابدّ أن نفترض اختصاص أحد الطرفین بالأصل المؤمّن الترخیصی. والأمر الثانی هو أننّا لابدّ أن نفترض عدم وجود أصل مثبت للتکلیف فی الطرف الآخر؛ لأنّه إذا کان هناک أصل مثبت للتکلیف فی الطرف الآخر، هذا الأصل یوجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، یوجب انحلال العلم الإجمالی بناءً علی أنّ العلم الإجمالی ینحل بالأصل المثبت فی أحد الطرفین، أنّ التکلیف إذا تنجّز فی أحد الطرفین بأصلٍ شرعی أو عقلی علی ما تقدّم، هذا یوجب انحلال العلم الإجمالی، فإذا انحل العلم الإجمالی؛ فحینئذٍ یجوز الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی هذا الطرف علی کلا القولین؛ لأنّ العلم الإجمالی انحل وسقط عن المنجّزیة، إذا قلنا بالاقتضاء، فمن الواضح جواز الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی هذا الطرف، وعلی القول بالعلّیة أیضاً یجوز الرجوع؛ لأنّ من یقول بالعلّیة یقول أنّ العلم الإجمالی المنجّز هو الذی یمنع من الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین ولو لم یکن له معارض، الذی یوجب عدم جواز الرجوع إلیه هو منجّزیة العلم الإجمالی، فإذا فرضنا أنّ فی الطرف الآخر أصل مثبت للتکلیف، وهذا الأصل المثبت للتکلیف یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة، إذن: حتّی علی القول بالعلّیة لا مانع من الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی هذا الطرف، فلا تظهر الثمرة. المحقق النائینی(قدّس سرّه) کأنّه یرید أن یقول أنّ الثمرة إنّما تظهر بهذین الشرطین:

ص: 792

الشرط الأوّل: أن یختص أحد الطرفین بالأصل المؤمّن.

الشرط الثانی: أن لا یکون فی الطرف الآخر أصل مثبت للتکلیف؛ حینئذٍ یمکن تصوّر ظهور الثمرة، ویقول بأنّ هذا فرض بعید؛ بل لا واقع له، أن نفترض أنّ الأصل المؤمّن یجری فی أحد الطرفین دون الآخر من دون افتراض أنّه فی الطرف الآخر یوجد أصل مثبت للتکلیف، یقول هذا فرض غیر واقع؛ لأنّ الأصل المؤمّن إذا جری فی هذا الطرف، فهو یجری فی الطرف الآخر، وإنّما یمنع من جریانه فی الطرف الآخر وجود الأصل المثبت للتکلیف، هذا هو الذی یمنع من جریان الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر، الأصل المثبت للتکلیف فی الطرف الآخر یمنع من إجراء هذه الأصول المؤمّنة، وإلاّ الأصول المؤمّنة بحسب إطلاقها تشمل کلا الطرفین. نعم، إذا جری الأصل المثبت فی أحد الطرفین کاستصحاب التکلیف وأمثاله واصالة الاشتغال؛ حینئذٍ لا یجری الأصل المؤمّن فی الطرف الآخر. إذن: یدور الأمر بین شیئین: إمّا أن نفترض أنّ الأصل المؤمّن یجری فی کلا الطرفین إذا لم یجرِ فی الطرف الآخر أصل مثبت، یقول: لابدّ من افتراض أنّ الأصل المؤمّن یجری فی الطرفین، وإذا جری الأصل المؤمّن فی الطرفین، فالأصل المؤمّن فی هذا الطرف لا یجری علی کلا القولین، فلا تظهر الثمرة. وإمّا أن نفترض أنّ الأصل المثبت للتکلیف موجود فی هذا الطرف، فی هذه الحالة أیضاً یجوز إجراء الأصل المؤمّن فی هذا الطرف علی کلا القولین. إذن: فی أحدی الحالتین لا یجوز إجراء الأصل المؤمّن فی هذا الطرف علی کلا القولین حتّی علی القول بالاقتضاء؛ وذلک لوجود المعارض، هذا إذا کان له معارض، یعنی أصل مؤمّن یجری فی الطرف الآخر، فلا تظهر الثمرة، لا یجوز إجراءه هنا مطلقاً حتّی علی القول بالاقتضاء، إذا لم یکن هناک أصل مؤمّن فی الطرف الآخر، فلابدّ أن یکون أصل مثبت فی الطرف الآخر، وإذا وُجد الأصل المثبت فی الطرف الآخر أیضاً لا تظهر الثمرة؛ لأنّه یجوز إجراء الأصل المؤمّن فی هذا الطرف حتّی علی القول بالعلّیة؛ لأنّ الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة، ومع سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة حتّی القائل بالعلّیة یقول یجوز إجراء الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین.

ص: 793

إذن: یقول(قدّس سرّه): لیس هناک مورد تظهر فیه الثمرة؛ لأنّ أیّ موردٍ نفرضه، إمّا أن یجری الأصل المؤمّن فی کلا طرفیه، فلا یجری الأصل المؤمّن فی هذا الطرف مطلقاً علی القول بالعلّیة والاقتضاء، فلا تظهر الثمرة، وإمّا أن یوجد فی أحد طرفیه أصل مثبت للتکلیف، وهنا أیضاً لا تظهر الثمرة لجواز إجراء الأصل المؤمّن فی هذا الطرف علی القول بالعلّیة وعلی القول بالاقتضاء. هذا ما یُفهم من کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ویلاحظ علی هذا الکلام الذی یمکن أن یُفسّر به کلام المحقق النائینی(قدّس سرّه):

أولاً: أصل المبنی، وهو مسألة أنّ وجود الأصل المثبت فی أحد طرفی العلم الإجمالی یوجب انحلاله وسقوطه عن التنجیز؛ لأنّه إذا لم نلتزم بذلک تظهر الثمرة حتّی إذا کان هناک أصل مثبت للتکلیف فی الطرف الآخر، تظهر الثمرة فی هذا الطرف الذی فیه أصل مؤمّن، علی القول بالاقتضاء یجوز إجراء الأصل المؤمّن، بینما علی القول بالعلّیة لا یجوز إجراء الأصل المؤمّن، فالثمرة أنّما لا تظهر علی ما یقول فیما إذا قلنا أنّ الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن التنجیز، وأمّا إذا قلنا أنّه لا یوجب ذلک، یبقی العلم الإجمالی علی منجّزیته، هنا یکون فرق بین الاقتضاء والعلّیة، بناءً علی العلّیة لا یجری الأصل المؤمّن فی هذا الطرف؛ لأنّ العلم الإجمالی منجّز، بینما القائل بالاقتضاء یقول العلم الإجمالی لا یمنع من إجراء الأصل المؤمّن فی أحد الطرفین، فإذن تظهر الثمرة بینهما إذا أنکرنا هذا المبنی. هذا الجواب مبنائی.

ثانیاً: تبیّن من بعض الأبحاث السابقة أنّه یمکن فرض ظهور الثمرة فی بعض الموارد حتّی إذا سلّمنا هذا المبنی المتقدّم، یعنی حتّی إذا قلنا بأنّ وجود الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة یمکن أن نفترض ظهور الثمرة فی بعض الموارد:

ص: 794

المورد الأوّل: المقام الأوّل الذی تقدّم بحثه تعلیقاً علی کلام السید الخوئی(قدّس سرّه)، هناک ذُکر هذا المورد، وهو أنّه إذا کان هناک أصلان ترخیصیان عرضیان فی الطرفین وکانا من سنخٍ واحدٍ، وکان هناک أصل آخر من غیر سنخهما یختص بأحد الطرفین، أصالة الطهارة فی هذا الطرف وأصالة الطهارة فی الطرف الآخر، وکان أحد الطرفین یختصّ بأصلٍ آخرٍ لیس من سنخهما کأصالة الإباحة، فی هذا المورد تقدّم سابقاً بأنّه هنا یمکن الالتزام بسقوط الأصلین العرضیین المتسانخین ووصول النوبة إلی الأصل الآخر الغیر المسانخ لهما، وهناک ذکرنا بأنّه لا یُفرّق بین أن یکون هذا الأصل الآخر الغیر المسانخ طولیاً وبین أن یکون فی عرضهما؛ لأنّ النکتة التی اعتمدت سابقاً لجواز الرجوع إلی الأصل الآخر بعد تساقط الأصلین العرضیین المتسانخین هی نکتة الإجمال فی الدلیل، یعنی عندما یشترک الأصلان العرضیان المتسانخان فی دلیلٍ واحدٍ؛ حینئذٍ یکون دلیلهما مجملاً، وهذا الإجمال یمنع من التمسّک بالدلیل لإثبات مفاده فی هذا الطرف، ویمنع من التمسّک بالدلیل لإثبات مفاده فی الطرف الآخر، وإثبات مفاده فی کلا الطرفین غیر ممکن بحسب الفرض، فیُصاب الدلیل بالإجمال وهذا یمنع من إثبات مفاده فی کلا الطرفین وبالتالی یوجب سقوط الأصلین العرضیین المتسانخین، فإذا سقطا؛ حینئذٍ تصل النوبة إلی الأصل الآخر؛ لأنّه ینفرد بدلیلٍ یخصّه ولا یسری الإجمال من دلیل الأصلین المتسانخین إلی دلیل الأصل الآخر، والمفروض أنّه لیس له معارض من سنخه فی الطرف الآخر بحسب الفرض؛ لأنّ الأصل الآخر یختص بأحد الطرفین، ولیس له معارض من سنخه فی الطرف الآخر، فلا یعرض الإجمال علی دلیله؛ وحینئذٍ یمکن التمسّک به لإثبات مفاده فی هذا الطرف، لا مانع من الرجوع إلی الأصل الآخر، وقلنا بأنّ الطولیة لیست نکتة فی المقام، سواء کان طولیاً، أو کان فی عرضهما، النکتة هی أن یختصّ أحد الأصول الثلاثة بدلیلٍ یخصّه، فلا یسری إلیه الإجمال المانع من التمسّک به لإثبات مفاده فی هذا المورد. هذا الذی تقدّم سابقاً.

ص: 795

هذا المورد المتقدّم سابقاً یمکن جعله مورداً تظهر فیه الثمرة بین القولین حتّی إذا قلنا بأنّ وجود الأصل المثبت فی أحد الطرفین یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة، حتّی إذا قلنا بذلک تظهر فیه الثمرة؛ لأنّه فی هذا المورد لا یوجد أصل مثبت فی الطرف الآخر، وإنّما الأصل الموجود فی الطرف الآخر فی هذا المورد هو أصل ترخیصی مسانخ للأصل الترخیصی الموجود فی الطرف الأوّل، فإذن، لا یوجد فیه أصل مثبت ویختص بأصلٍ ترخیصی خاصٍ به وهو ---------- فرضاً ---------- أصالة الحلّیة، وأصالة الحلّیة هذه لیس لها معارض فی الطرف الآخر؛ حینئذٍ نقول أنّ هذا الأصل الترخیصی الذی لیس له معارض فی الطرف الآخر والذی یختلف سنخاً عن الأصلین العرضیین علی القول بالاقتضاء یمکن إجراءه، لکن علی القول بالعلّیة لا یمکن إجراءه، فتظهر الثمرة فی هذا المورد، یعنی هنا استطعنا أن نصوّر أنّ أحد الطرفین یختص بأصلٍ ترخیصیٍ خاصٍ به علی خلاف ما قاله هو(قدّس سرّه) من أنّ الأصل الترخیصی لا یختص بأحد الطرفین، إذا کان موجوداً فی هذا الطرف، فلابدّ أن یکون موجوداً فی الطرف الآخر، وإنّما الذی یمنع من وجوده فی الطرف الآخر هو کون الطرف الآخر مورداً لأصلٍ مثبتٍ للتکلیف، نحن نقول أننا استطعنا أن نصوّر اختصاص الأصل الترخیصی فی أحد الطرفین من دون أن یکون فی الطرف الآخر أصل مثبت للتکلیف کما فی محل الکلام؛ لأننا قلنا بأنّ الأصلین العرضیین المتسانخین یتساقطان علی اساس نکتة الإجمال، فتصل النوبة إلی الأصل الآخر الغیر المسانخ لهما؛ لأنّ هذا غیر مبتلی بالإجمال، فهذا أصل ترخیصی یجری فی أحد الطرفین ولیس له معارض فی الطرف الآخر کما أنّ الطرف الآخر لیس فیه أصل مثبت للتکلیف فتظهر فیه الثمرة، فعلی القول بالعلّیة لا یجری، بینما علی القول بالاقتضاء یجری. هذا المورد الأوّل الذی یمکن تصوّر ظهور الثمرة فیه من دون أن نقع فی المحذور الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، المورد الثانی یأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی.

ص: 796

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

کان الکلام فی ما نقلناه عن المحقق النائینی(قدّس سرّه): وإنکاره الثمرة بین القول بالاقتضاء والقول بالعلّیة، قلنا أنّ أوّل ملاحظة علی إنکار الثمرة هی ملاحظة مبنائیة وهی أنّ هذا یبتنی علی الالتزام بانحلال العلم الإجمالی بالأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین، فإذا کان هناک أصل مثبت للتکلیف فی أحد الطرفین ینحل العلم الإجمالی وهذا یستلزم إمکانیة افتراض اختصاص أحد الطرفین بالأصل الترخیصی، فیختص أحد الطرفین بالأصل الترخیصی، ویجری الأصل الإلزامی فی الطرف الآخر، وهذا الأصل الإلزامی کما هو واضح یمنع من جریان الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر؛ حینئذ تظهر الثمرة فی هذا الطرف الذی هو مورد للأصل الترخیصی؛ لأنّه علی القول بالعلّیة لا یجری هذا الأصل الترخیصی وإن لم یکن له معارض، بینما علی القول بالاقتضاء یجری هذا الأصل الترخیصی لعدم وجود المعارض له، فتظهر الثمرة حینئذٍ.

ثانیاً: قلنا یمکن تصوّر بعض الموارد التی تظهر فیها الثمرة وذکرنا المورد الأوّل، والمورد الثانی هو ما إذا فرضنا أنّ أحد الطرفین لا یجری فیه لا الأصل الإلزامی ولا الأصل الترخیصی کما إذا فرضنا أنّ الشک کان فی التکلیف بنحو الشبهة الوجوبیة، هنا لا یکون هذا مورداً لما کان من قبیل أصالة الحل من الأصول الترخیصیة؛ لأنّ أصالة الحل مختصة بالشبهات التحریمیة والمفروض أنّ هذه شبهة وجوبیة، فإذن: أصالة الحل کأصلٍ ترخیصی لا تجری فی هذا الطرف؛ لأنّ الشبهة وجوبیة، ولنفترض أنّ الاستصحاب النافی للتکلیف أیضاً لا یجری، إمّا باعتبار أنّ الاستصحاب لا یجری فی الشبهات الحکمیة، حیث یوجد مبنیً یقول بأنّ الاستصحاب لا یجری فی الشبهات الحکمیة، وإمّا لخصوصیةٍ فی المورد تمنع من جریان الاستصحاب النافی للتکلیف، ولو باعتبار توارد الحالتین ولا یُعلَم ما هی الحالة المتقدّمة منهما، ففی هذه الحالة الاستصحاب النافی أیضاً لا یجری فی هذا الطرف. وأیضاً لابدّ أن نلتزم بأنّ حدیث الرفع وحدیث الحجب وأمثال ذلک ممّا تثبت به البراءة الشرعیة أیضاً لا یجری فی المقام، باعتبار أنّ هناک مبنیً یلتزم به المحقق النائینی(قدّس سرّه) وهو أنّ البراءة الشرعیة الثابتة بحدیث الرفع وحدیث الحجب لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی. بالنتیجة هذا الطرف لیس فیه أصل مثبت للتکلیف ولیس فیه أصل ترخیصی، لا أصالة الحل؛ لأنّ الشبهة شبهة وجوبیة، ولا الاستصحاب النافی کأصل ترخیصی؛ لما تقدّم، ولا یمکن جریان البراءة الشرعیة المستندة إلی حدیث الحجب أو الرفع؛ لأنّ هذه البراءة لا تجری فی أطراف العلم الإجمالی، فإذن هذا الطرف لا یجری فیه الأصل الإلزامی و لا الأصل الترخیصی، ونفترض وجود أصلٍ ترخیصیٍ فی الطرف الآخر؛ حینئذٍ تظهر الثمرة، فی هذا الطرف الذی فیه الأصل الترخیصی بناءً علی القول بالعلّیة لا یمکن إجراء هذا الأصل الترخیصی، وإن لم یکن له معارض فی الطرف الآخر، وإمّا بناءً علی القول بالاقتضاء، فلا مانع من جریان هذا الأصل الترخیصی لعدم المعارض له، فیمکن ظهور الثمرة فی هذا المورد أیضاً بالرغم من عدم وجود أصلٍ ترخیصی فی الطرف الآخر، حتّی لو سلّمنا أنّ الأصل الترخیصی فی أحد الطرفین یوجب انحلال العلم الإجمالی، لکن هذا مورد فی الطرف الآخر لا یوجد أصل ترخیصی ولا أصل إلزامی ویختص الأصل الترخیصی بهذا الطرف؛ وحینئذٍ تظهر الثمرة فی هذا الطرف. نکتفی بهذا المقدار فی التنبیه الأوّل.

ص: 797

التنبیه الثانی: أنّ المحقق العراقی(قدّس سرّه) ذکر نقضاً علی القول بالعلّیة، (1) کأنّه نقض علی نفسه، وأجاب عن هذا النقض، والغرض من هذا التنبیه هو التعرّض إلی هذا النقض علی القول بالعلّیة، والتعرّض إلی جواب المحقق العراقی(قدّس سرّه). النقض الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) هو أنّه فی موارد دوران الأمر بین تکلیفین یترتب أحدهما علی عدم الآخر، هناک طولیة بین نفس التکلیفین اللّذین یدور الأمر بینهما ونعلم إجمالاً بثبوت أحدهما، بمعنی أنّ أحد التکلیفین یترتب علی عدم التکلیف الآخر، مثّل لذلک بما إذا علم إجمالاً بأنّه إمّا یجب علیه الوفاء بالدین؛ وحینئذٍ لا یبقی له مال فلا یکون مستطیع، فلا یجب علیه الحج، والطرف الآخر للعلم الإجمالی هو أن لا یجب علیه الوفاء بالدین؛ فحینئذٍ یکون مستطیعاً ویجب علیه الحج، ویمکن أن نعبر عنه بأنّه إمّا یعلم بوجوب الوفاء الدین، أو بوجوب الحج، إذا وجب علیه الوفاء بالدین لا یجب علیه الحج، وإذا لم یجب علیه الوفاء بالدین یجب علیه الحج، ومن الواضح أنّ وجوب الحج مترتب علی عدم وجوب الوفاء بالدین، فصار أحد التکلیفین المعلومین بالإجمال مترتباً وفی طول عدم التکلیف الآخر.

مثال آخر ذکره: وهو ما إذا نذر أنّه لو لم یجب علیه الوفاء بالدین تصدّق، أو صام، ومن الواضح أنّ هذا یکون ممّا نحن؛ لأنّ وجوب التصدّق، أو الصوم مترتب علی عدم وجوب الوفاء بالدین، باعتبار النذر لا باعتبار أصل الجعل الشرعی.

تقریب النقض الذی ذکره: أنّ مبانی المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی العلم الإجمالی علی ما تقدّم سابقاً أنّه یری أنّ العلم الإجمالی علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، وأنّ العلم الإجمالی یوجب سقوط الأصل فی الطرفین بقطع النظر عن المعارضة، حتّی إذا لم یکن له معارض الأصل لا یجری فی هذا الطرف ولا فی ذاک الطرف بقطع النظر عن المعارضة، لکن ضمناً تقدّم سابقاً أیضاً أنّه استثنی من ذلک موردین والتزم فیهما بإمکان جریان الأصل الترخیصی فی بعض الأطراف، ممّا یعنی عدم وجوب الموافقة القطعیة: (2)

ص: 798


1- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 315.
2- نهایة الأفکار، تقریر بحث المحقق العراقی للبروجردی، ج 3، ص 315.

المورد الأوّل: ما إذا جُعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، هو وافق المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی ذلک وذهب إلی أنّه عندما یُجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع؛ حینئذٍ لا مانع من إجراء الأصل الترخیصی فی هذا الطرف؛ لأنّ الطرف الآخر جُعل بدلاً عن الواقع، وکأنّ الشارع اکتفی بترک الطرف الآخر، أو فعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، إذن، لا محذور فی إجراء الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر.

المورد الثانی: هو ما إذا فُرض انحلال العلم الإجمالی بجریان الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین، إذا جری الأصل المثبت للتکلیف فی أحد الطرفین؛ حینئذٍ ینحل العلم الإجمالی، وإذا انحل العلم الإجمالی؛ حینئذٍ لا محذور فی الرجوع إلی الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر حتّی علی القول بالعلّیة؛ لأنّ القول بالعلّیة إنّما یمنع من جریان الأصل الترخیصی فی هذا الطرف باعتبار منجّزیة العلم الإجمالی، باعتبار أنّ العلم الإجمالی هو علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعیة، لکن هذا عندما یکون العلم الإجمالی باقٍ علی المنجّزیة، أمّا إذا سقط عن التنجیز وانحل؛ حینئذٍ لا محذور فی الرجوع إلی الأصل الترخیصی فی هذا الطرف. المحقق العراقی(قدّس سرّه) التزم فی هذین الموردین بإجراء الأصل الترخیصی فی أحد الأطراف، بعبارة أخری: التزم بعدم وجوب الموافقة القطعیة. هذه مبانی المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی العلم الإجمالی.

حینئذٍ یقال فی مقام تقریب النقض علی القول بالعلّیة: لا إشکال ولا شبهة فی أنّ الفقهاء یبنون فی المثال الأوّل علی إثبات وجوب الحج، أو وجوب الصوم فی المثال الثانی، بإجراء الأصول المؤمّنة والترخیصیة فی الدَین، وبتوسّط إجراء الأصل الترخیصی النافی فی الدَین یثبتون وجوب الحج، مثال الأصل الترخیصی الذی یجری فی الدین استصحاب عدم وجوب الدَین، أو أصالة البراءة، هم فی البدایة یجرون هذا الأصل النافی فی وجوب الدَین، ینفی وجوب الدَین، استصحاباً کان أو براءة، وفی طول ذلک یثبتون وجوب الحج؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب الحج مترتب علی عدم وجوب الوفاء بالدَین بحسب الفرض، کیف یحرزون موضوع وجوب الحج ؟ بإجراء الأصول النافیة، فینفون وجوب أداء الدَین باستصحابٍ، أو براءةٍ، باعتباره أمراً مشکوکاً، بعد إجراء الأصل المؤمّن لنفی وجوب أداء الدَین یثبتون فی طول ذلک وجوب الحج، باعتبار أنّ وجوب الحج بحسب الفرض مترتب علی عدم وجوب الوفاء بالدَین، فإذا أحرزوا عدم وجوب الوفاء بالدَین، ولو بهذه الأصول الترخیصیة؛ حینئذٍ یثبت وجوب الحج فی المثال الأوّل، أو یثبت وجوب الصوم فی المثال الثانی.

ص: 799

حینئذٍ یقال فی مقام بیان النقض: أنّ إثبات وجوب الحج بإجراء الأصل الترخیصی بالنسبة إلی الدَین لا یتلاءم مع القول بالعلّیة، هذا الذی بنا علیه الفقهاء بحسب الفرض، لا یتلاءم مع هذه المبانی المتقدّمة للمحقق العراقی(قدّس سرّه)، باعتبار أنّ هذه المبانی تقتضی أنّ الأصل الترخیصی لا یجری فی أحد الطرفین من طرفی العلم الإجمالی إلاّ فی موردین، المورد الأوّل أن یُجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، والمورد الثانی أن نفترض جریان الأصل المثبت للتکلیف فی الطرف الآخر؛ حینئذٍ یمکن إجراء الأصل الترخیصی فی هذا الطرف. بینما فی محل الکلام وفی هذا المثال بحسب الفرض لا یوجد جعل للبدل عن الواقع فی الطرف الآخر الذی هو عبارة عن وجوب الحج؛ لأنّهم بحسب الفرض یجرون الأصل المؤمّن لنفی وجوب أداء الدَین، هذا الأصل الترخیصی الذی یجری لنفی وجوب أداء الدَین لا یجوز إجراءه عند المحقق العراقی(قدّس سرّه) بناءً علی القول بالعلّیة إلاّ إذا جُعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع، وهنا لا معنی لأن نقول أنّ التکلیف بوجوب الحج جُعل بدلاً عن الواقع، فإذا نفینا هذا المورد؛ حینئذٍ نأتی إلی المورد الثانی، حتّی یجری الأصل الترخیصی لنفی وجوب أداء الدَین لابدّ من إثبات وجوب الحج فی الطرف الآخر بأصلٍ مثبت؛ لأنّه یقول حتّی یمکن إجراء الأصل الترخیصی لنفی وجوب أداء الدَین علی مبانی المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ لأنّه یقول أنّ الأصل الترخیصی فی أحد طرفی العلم الإجمالی لا یجری إلاّ فی أحدی حالتین، الحالة الأولی أن یُجعل الطرف الآخر بدلاً عن الواقع والحالة الثانیة هی أن یجری أصل مثبت للتکلیف فی الطرف الآخر، فإذا جری الأصل المثبت للتکلیف فی الطرف الآخر وثبت وجوب الحج؛ عندئذٍ یجوز إجراء الأصل الترخیصی لنفی وجوب أداء الدَین، هذا ما تقتضیه مبانی المحقق العراقی(قدّس سرّه)، بینما الفقهاء عکسوا الأمر، الفقهاء أثبتوا وجوب الحج استناداً لجریان الأصل الترخیصی النافی لوجوب أداء الدَین، یعنی هم فی البدایة أجروا الأصل الترخیصی لنفی وجوب أداء الدَین، فأثبتوا وجوب الحج باعتبار أنّ وجوب الحج مترتب علی عدم وجوب أداء الدَین، بینما مبانی المحقق العراقی(قدّس سرّه) تقتضی العکس؛ لأنّه یقول لا یجوز ولا یعقل إجراء الأصل الترخیصی فی أحد طرفی العلم الإجمالی إلاّ إذا جری الأصل المثبت للتکلیف فی الطرف الآخر وأثبت التکلیف؛ عندئذٍ یجوز إجراء الأصل الترخیصی، بینما ما بنا علیه الفقهاء هو عکس ذلک تماماً، ومن هنا یقال أن بناء الفقهاء علی إثبات وجوب الحج بإجراء الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر مخالف لمبانی المحقق العراقی(قدّس سرّه) وللقول بالعلّیة؛ إذ کیف یمکن إجراء الأصل الترخیصی فی أحد طرفی العلم الإجمالی ؟ مع أنّه عند إجرائه وفی رتبة إجرائه لا الطرف الآخر جُعل بدلاً عن الواقع ولا جری الأصل المثبت للتکلیف فی الطرف الآخر، ووجوب الحج فی مرتبة جریان الأصل الترخیصی، وإنّما هم یثبتون الحج فی مرتبةٍ متأخّرةٍ عن إجراء الأصل الترخیصی لنفی وجوب أداء الدَین، کیف یمکن إجراء الأصل الترخیصی قبل افتراض ثبوت وجوب الحج ؟ وافتراض الأصل المثبت لوجوب الحج، والحال أنّ هذا ینافی القول بالعلّیة؛ لأنّ القول بالعلّیة یقتضی أن لا یجری الأصل الترخیصی فی أحد طرفی العلم الإجمالی، بینما هنا أجروا الأصل الترخیصی بقطع النظر عن ذلک. هذا هو النقض الذی أورده علی نفسه بعنوان أنّه(قد یقال)، أو(قد یُنقض) علی القول بالعلّیة بهذا النقض.

ص: 800

جوابه عن النقض: فی الجواب ذکر ثلاثة فروض، لکن نحن نذکرهما کفرضین؛ لأنّ الفرض الأوّل والثانی حکمهما واحد، فنذکرهما کفرضٍ واحد. قال:

الفرض الأوّل: أن نفترض أنّ وجوب الحج مترتب علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، أو علی مطلق عدم وجوب أداء الدَین، ولو ظاهراً، إذا جاء دلیل ونفی وجوب أداء الدَین ظاهراً هذا یکفی لترتیب وجوب الحج.

الفرض الثانی: أنّ وجوب الحج مترتب علی مطلق المعذوریة من أداء الدَین، ولو عقلاً، بمجرّد أن یکون المکلّف معذوراً من أداء الدَین یترتب وجوب الحج.

فی الفرض الأوّل ذکر کجوابٍ علی النقض السابق بأنّه هنا یجری استصحاب عدم وجوب أداء الدَین ولا یکون ذلک نقضاً للمبانی التی نلتزم بها من القول بالعلّیة، لا مانع من إجراء استصحاب عدم وجوب أداء الدَین، وإثبات وجوب الحج کما یذهب إلیه المشهور؛ باعتبار أنّ استصحاب عدم وجوب أداء الدَین له مدلولان: (أحدهما) مدلول مطابقی وهو عدم وجوب أداء الدَین، هذا هو المستصحب، و(الآخر) مدلول التزامی وهو وجوب الحج؛ باعتبار أنّ المفروض أنّ وجوب الحج مترتب ومن الآثار الشرعیة لعدم وجوب أداء الدَین بحسب الفرض؛ لأنّه مترتب علی عدم وجوب أداء الدَین، ومن هنا یکون الاستصحاب له مدلولان مطابقی والتزامی، مدلوله المطابقی هو نفس المستصحب وهو عدم وجوب أداء الدَین، هذا المستصحب إذا ثبت بالاستصحاب یترتب علیه أثره الشرعی ولیس العقلی، ولا إشکال أنّ الاستصحاب یثبت الآثار الشرعیة للمستصحب، وأثره الشرعی هو وجوب الحج، فهو یدل علی وجوب الحج بالالتزام ویدل بالدلالة المطابقیة علی عدم وجوب أداء الدَین.

ص: 801

إذن: استصحاب عدم وجوب أداء الدَین بلحاظ مدلوله المطابقی یکون أصلاً ترخیصیاً، وبلحاظ مدلوله الالتزامی یکون أصلاً إلزامیاً مثبتاً للتکلیف وهو وجوب الحج؛ یقول: حینئذٍ یمکن الأخذ بالدلالة الثانیة للاستصحاب والتی یکون الاستصحاب بلحاظها أصلاً مثبتاً للتکلیف، فینحل العلم الإجمالی؛ وحینئذٍ لا مانع من الأخذ بالأصل الترخیصی فی هذا الطرف، وهذا لا ینافی مبانی المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ لأنّه یقول لا مانع من إجراء الأصل الترخیصی فی أحد الطرفین إذا ثبت التکلیف فی الطرف الآخر بأصلٍ مثبت، هنا أحد الطرفین ثبت فیه تکلیف، وهو وجوب الحج بأصلٍ مثبتٍ وهو الاستصحاب، لکن بلحاظ مدلوله الالتزامی، إذن: لا مانع من الرجوع إلی الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر، فیُرجع إلی الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر. یقول: هذا لیس فیه مخالفة للقول بالعلّیة، ولا یوجد هناک ما ینافی المبانی السابقة؛ لأنّ الرجوع إلی الأصل الترخیصی فی أحد الطرفین، إنّما هو بعد افتراض الانحلال بإجراء الأصل الإلزامی المثبت للتکلیف فی الطرف الآخر. هذا استصحاب واحد، لکن له مدلولان التزامی ومطابقی، فبلحاظ مدلوله الالتزامی یمکن الأخذ به وإثبات وجوب الحج استناداً إلی الاستصحاب بلحاظ مدلوله الالتزامی؛ وحینئذٍ لا مانع من الرجوع إلی الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر، یعنی أصالة عدم وجوب أداء الدَین، یعنی یرید أن یقول بعبارةٍ أخری: لا تتخیلوا أنّ الفقهاء عندما التزموا بوجوب الحج کما ذُکر فی النقض أنّهم أثبتوا وجوب الحج استناداً إلی الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر، یعنی أجروا الأصل الترخیصی أولاً، ثمّ اثبتوا وجوب الحج، هذا ینافی مبانی العلّیة؛ لأنّه کیف یمکن إجراء الأصل الترخیصی فی هذا الطرف قبل انحلال العلم الإجمالی ؟! یقول هم لم یفعلوا ذلک، وإنّما هم أثبتوا وجوب الحج استناداً إلی استصحاب عدم وجوب أداء الدَین، لکن بلحاظ مدلوله الالتزامی لا بلحاظ مدلوله المطابقی، فأثبتوا وجوب الحج، وبعد ذلک ینحل العلم الإجمالی؛ وحینئذٍ لا مانع من الرجوع إلی الاستصحاب بلحاظ مدلوله المطابقی الذی هو عدم وجوب أداء الدَین، فحکموا بأنّ هذا لا یجب علیه أداء الدَین ویجب علیه الحج، وهذا لا ینافی المبانی التی ذکرناها.

ص: 802

ثمّ یقول: لا فرق فی ما ذکرناه بین أن یکون التکلیف بالحج مترتباً علی التکلیف بأداء الدَین واقعاً، وبین أن یکون مترتباً علی عدم التکلیف بأداء الدَین ولو ظاهراً. نعم الفرق بینهما فقط هو إذا کان وجوب الحج علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً الأصل الترخیصی الذی یجری هو الاستصحاب، وأمّا إذا قلنا بأنّه یترتب علی عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً؛ حینئذٍ یمکن إجراء البراءة الشرعیة، ویجری نفس الکلام السابق. هذا کلّه فی الفرض الأوّل، وأمّا الفرض الثانی، فیأتی الکلام عنه إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

کان الکلام فی جواب المحقق العراقی(قدّس سرّه): علی النقض الذی أورده علی نفسه وعلی القول بالعلّیة بشکلٍ عام، هو فَرَض ثلاثة فروض لکن جعلناهما فرضین، الفرض الأوّل هو ما إذا فرضنا أنّ وجوب الحج کان موقوفاً علی عدم أداء الدین واقعاً، أو موقوفاً علی عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً، فی هذا الفرض ذکر بأنّ الاستصحاب الترخیصی فی طرف الدَین یجری ولا محذور فی جریانه ولا یکون جریانه منافیاً للقول بالعلّیة؛ لأنّ استصحاب عدم وجوب أداء الدَین له مدلول التزامی یثبت به وجوب الحج، فالاستصحاب بلحاظ أحد مدلولیه یکون أصلاً ترخیصیاً، وبلحاظ المدلول الآخر یکون أصلاً إلزامیاً، وأیّ ضیر فی أن نأخذ بکلا الدلیلین معاً ؟ فنلتزم بوجوب الحج عملاً بالدلالة المطابقیة للاستصحاب والذی یکون الأصل بلحاظها أصل الزامی، فینحل العلم الإجمالی؛ وحینئذٍ لا مانع من الأخذ بالدلالة المطابقیة والالتزام بعدم وجوب أداء الدَین.

ص: 803

عبارته(قدّس سرّه) تساعد علی هذا الفهم؛ لأنّه یقول: أنّ بناء الفقهاء علی جریان الأصل النافی الذی هو فی مثالنا استصحاب عدم وجوب أداء الدَین، إنّما هو بالنظر إلی ما یترتب علیه من الأثر الوجودی وهو ثبوت التکلیف بالحج، ما یترتب علی نفس هذا الأصل النافی الذی هو استصحاب عدم وجوب أداء الدَین، بنا الفقهاء علی جریانه باعتبار ما یترتب علیه من الأثر الوجودی وهو ثبوت التکلیف بالحج الموجب لسقوط العلم الإجمالی عن التأثیر بالنسبة إلی طرفه، ومن الواضح أنّ مثله لا ینافی علّیة العلم الإجمالی؛ لأنّه بهذه الجهة یکون من قبیل الأصول المثبتة للتکلیف فی بعض أطراف العلم الإجمالی الموجبة لسقوطه عن التأثیر بالنسبة إلی الطرف الآخر ورجوع الشک فیه بدویاً. ظاهر العبارة هو أنّ الفقهاء بنوا علی وجوب الحج باعتبار ما یترتب علی هذا الأصل النافی الذی هو الاستصحاب من الأثر الوجودی الذی هو ثبوت التکلیف بالحج، وهذا فی عین الوقت یوجب انحلال العلم الإجمالی وسقوطه عن المنجّزیة؛ حینئذٍ لا محذور فی الرجوع إلی الأصل النافی فی الدَین فی نفس الآن الذی یثبت فیه التکلیف بالحج عملاً بالاستصحاب بلحاظ مدلوله الالتزامی، وهذا لا ینافی القول بالعلّیة، القائل بالعلّیة یقول لا یجوز الرجوع إلی الأصل المؤمّن فی أحد الأطراف عندما یکون العلم الإجمالی باقیاً علی منجزیته، أمّا إذا سقط عن المنجزیة؛ فحینئذٍ حتّی علی القول بالعلّیة، لا مانع من الرجوع إلی الأصل النافی والترخیصی فی بعض الأطراف.

هو یرید أن یقول: أنّ الرجوع إلی الأصل النافی فی الدَین یکون فی نفس الآن الذی یسقط فیه العلم الإجمالی عن التنجیز؛ باعتبار ما قاله من أنّ الاستصحاب له مفادان، بلحاظ أحد مفادیه یکون أصلاً إلزامیاً مثبتاً للتکلیف الذی هو وجوب الحج فی ذاک الطرف؛ فحینئذ لا ینافی، یعنی فتوی الفقهاء ورجوعهم إلی الأصل الترخیصی فی الدَین وفتواهم بوجوب الحج، یقول: هذا لا ینافی المبانی المتقدّمة المثبتة للقول بالعلّیة. هذا ما یُفهم من کلامه(قدّس سرّه).

ص: 804

وأمّا الفرض الثانی: وهو ما إذا فرضنا أنّ وجوب الحج کان مترتباً علی مطلق المعذوریة من أداء الدین ولو کانت المعذوریة معذوریة عقلیة. إذا کان الشخص معذوراً من أداء الدَین ولم یکن عدم وجوب أداء الدَین ثابتاً لا واقعاً ولا ظاهراً، لکن المکلّف معذور منه ولدیه معذوریة عقلیة، یقول هذا یکفی فی ثبوت وجوب الحج. بناءً علی هذا الفرض، یقول: أنّ جریان البراءة عن التکلیف بالدَین، الذی هو الأصل الترخیصی الذی یجری فی أحد الطرفین الذی هو علی القول بالعلّیة غیر جائز، یقول: جریان البراءة عن التکلیف بالدَین فی هذا الفرض الثانی إنّما هو من جهة عدم منجّزیة العلم الإجمالی فی المقام لوجوب أداء الدَین؛ إذ یشترط فی تنجیز العلم الإجمالی أن یکون کلا طرفیه قابلاً للتنجیز فی عرضٍ واحد، والعلم الإجمالی فی محل الکلام وفی الفرض الثانی لیس قابلاً لذلک، لیس قابلاً لأن ینجّز کلا طرفیه فی عرضٍ واحد؛ ولذا هو یختلف عن العلوم الإجمالیة العادیة، فی مثال الإناءین العلم الإجمالی لا یسقط عن التأثیر؛ لأنّه قابل لأن ینجّز تکلیفه فی کلا طرفیه فی عرضٍ واحد، فیقول یحرم علیک هذا وفی نفس الوقت ینجّز التکلیف فی الطرف الآخر، ولا محذور فی ذلک، مثل هذا العلم الإجمالی یبقی علی منجّزیته، فی محل الکلام لا یُعقل أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً لکلا الطرفین فی عرضٍ واحد؛ وذلک لأنّه لا یمکن أن نفترض اجتماع منجّزیة العلم الإجمالی للتکلیف بالحج مع منجّزیة العلم الإجمالی بالتکلیف بأداء الدَین، باعتبار أنّه فی فرض منجّزیة العلم الإجمالی للتکلیف بأداء الدین یُقطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّه فی الفرض الثانی المفروض أنّ وجوب الحج مترتب علی مطلق المعذوریة من أداء الدین ولو کانت عقلیة، فمع منجّزیة العلم الإجمالی لوجوب أداء الدَین یرتفع وجوب الحج قطعاً؛ لأنّ وجوب الحج معلّق علی أن یکون المکلّف معذوراً من أداء الدَین، بینما نحن فرضنا أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب أداء الدین علیه، فمع تنجیز العلم الإجمالی لوجوب أداء الدَین علیه یرتفع موضوع وجوب الحج قطعاً ویرتفع وجوب الحج قطعاً، ومع القطع بارتفاع وجوب الحج لا یُعقل أن یقال أنّ العلم الإجمالی ینجّز وجوب الحج علی المکلّف، ولا یُعقل الجمع بین هاتین المنجّزیتین، أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً للتکلیف فی هذا الطرف ومنجّزاً للتکلیف فی الطرف الآخر، کما هو الحال فی مثال الإناءین؛ لأنّ هذا العلم الإجمالی إن نجّز عقلاً التکلیف بوجوب أداء الدَین یستحیل افتراض أنّه ینجّز التکلیف بوجوب الحج؛ لأنّه فی حال تنجیز العلم الإجمالی للتکلیف بوجوب أداء الدَین نقطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج بحسب الفرض الثانی مترتب علی مطلق المعذوریة عن أداء الدَین، وهنا لا یوجد معذوریة عن أداء الدَین؛ لأنّ العقل نجّز علیه التکلیف بأداء الدَین. إذن: هو لیس معذوراً عن التخلّف عن أداء الدَین، فإذن عدم المعذوریة عن أداء الدَین متحقق، ومعه یُقطع بعدم وجوب الحج، فلا یُعقل أن ینجّز هذا العلم الإجمالی التکلیف بوجوب الحج فی عرض تنجیزه لتکلیفه بأداء الدین. یقول: أنّ مثل هذا العلم الإجمالی لیس منجّزاً؛ وحینئذٍ لا مانع من الرجوع إلی الأصل الترخیصی الذی هو البراءة فی الدَین؛ لأنّه لیس فیه منافاة للقول بالعلّیة؛ لما قلناه من أنّ القول بالعلّیة إنّما یمنع من إجراء الأصل الترخیصی فی بعض الأطراف عندما یکون العلم الإجمالی باقیاً ومنجّزاً لکلا الطرفین، أمّا عندما یستحیل أن ینجّز کلا الطرفین فی عرضٍ واحد فیسقط عن المنجّزیة، وإذا سقط عن المنجّزیة، فلا مانع من التمسّک بالبراءة فی الدَین، وبالتالی إثبات عدم وجوب أداء الدَین، وإذا ثبت عدم وجوب أداء الدَین بالأصل الترخیصی یثبت حینئذٍ وجوب الحج، ولا محذور فی الرجوع إلی الأصل المؤمّن؛ لأنّ العلم الإجمالی ساقط عن المنجّزیة ولیس له اثر.

ص: 805

قد یُقال: لماذا هذا یختص بالفرض الثانی ؟ یعنی لماذا نقول بأنّ العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز ولا یمنع من الرجوع إلی البراءة فی الدین فی الفرض الثانی، یعنی عندما یکون وجوب الحج مترتباً علی مطلق المعذوریة ولو کانت عقلیة، لماذا لا نقوله فی الفرض الأوّل، یعنی عندما یکون وجوب الحج مترتباً علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، فهناک یمکن قول هذا الکلام دون التمسّک بالاستصحاب وأنّ الاستصحاب له مدلول مطابقی ومدلول التزامی.....الخ الکلام المتقدّم، فیمکن أن نقول هناک أنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة؛ لأنّه یستحیل أن ینجّز کلا التکلیفین فی الطرفین فی عرضٍ واحد کما قاله هنا، وبالتالی لا مانع من الرجوع إلی الأصل المؤمن فی الدَین، ففتوی المشهور علی القاعدة ولیس فیها منافاة للقول بالعلّیة، فلا یرد النقض .

هو یقول: هناک فرق بین الفرضین، هذا الذی ذکرناه یختص بالفرض الثانی، والنکتة هی أنّ تنجیز العلم الإجمالی لوجوب أداء الدَین یستلزم القطع بعدم وجوب الحج، ومع القطع بعدم وجوب الحج یستحیل أن یکون العلم الإجمالی منجّزاً لوجوب الحج، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز؛ لأنّه لا یمکنه أن ینجّز کلا الطرفین فی آنٍ واحد؛ لأنّه إذا نجّز وجوب أداء الدَین ارتفعت المعذوریة مطلقاً، الشرعیة والعقلیة، وهذا یستلزم القطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج مترتب علی المعذوریة ولو کانت عقلیة، فإذا ارتفع موضوعها؛ حینئذٍ یرتفع وجوب الحج، فنقطع بعدم وجوب الحج. هذا موجود فی الفرض الثانی.

وأمّا فی الفرض الأوّل، فهذا الشیء غیر متحقق؛ لأنّ وجوب الحج مترتّب فی الفرض الأوّل علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، فإذا فرضنا أنّ العلم الإجمالی نجّز التکلیف بالدَین، هل تستلزم منجّزیة العلم الإجمالی للتکلیف بالدّین القطع بعدم وجوب الحج، أو لا ؟ هو یقول: فی الفرض الأوّل لا یستلزم القطع بعدم وجوب الحج، باعتبار أنّه من المحتمل براءة ذمته من الدَین واقعاً، صحیح أنّ العلم الإجمالی نجّز علیه وجوب أداء الدَین، لکن هذا لا یستلزم القطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج مترتب علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، کان یجب علیه بمقتضی العلم الإجمالی أن یؤدی الدَین؛ لأنّه نجّزه علیه، لکن یبقی احتمال تحقق موضوع وجوب الحج موجوداً کاحتمال؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، وهو یحتمل أنّ ذمّته بریئة من الدَین، فیتحقق عدم وجوب أداء الدَین واقعاً وإن کان العلم الإجمالی نجّز علیه وجوب أداء الدَین، ما دام یحتمل واقعاً تحقق موضوع وجوب الحج، إذن، لا قطع عنده بعدم وجوب الحج، ومن هنا یفترق الفرض الأوّل عن الفرض الثانی، فی الفرض الثانی تنجیز العلم الإجمالی لوجوب أداء الدَین یستلزم القطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّه یستلزم القطع بارتفاع موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو مطلق المعذوریة بحسب الفرض الثانی، وبتنجیز العلم الإجمالی لوجوب أداء الدَین تنقطع المعذوریة مطلقاً، فیقطع بعدم وجوب الحج، بینما فی الفرض الأوّل، لمّا کان وجوب الحج مترتباً علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، وهو یحتمل عدم وجوب أداء الدَین فی ذمّته واقعاً، وإن نجّز علیه العلم الإجمالی وجوب أداء الدَین، فمادام هناک احتمال، إذن: یمکن أن یکون العلم الإجمالی فی حدّ نفسه منجّزاً لکلا التکلیفین فی عرضٍ واحدٍ بقطع النظر عن مسألة أنّ الأصل الترخیصی الذی یجری فی أحد الطرفین یثبت التکلیف بوجوب الحج، هو کعلمٍ إجمالی صالح لأن ینجّز کلا التکلیفین فی آنٍ واحدٍ، فیکون حاله حال العلم الإجمالی فی مثال الإناءین؛ لأنّ تنجیزه لأحد الطرفین لا یستلزم القطع بانتفاء التکلیف فی الطرف الآخر، فإذا لم یستلزم القطع، یعنی یبقی احتمال التکلیف قائم فی الطرف الآخر، یأتی العلم الإجمالی أیضاً ینجّز التکلیف فی الطرف الآخر؛ یقول: ولذا احتجنا إلی تخریج فتوی المشهور إلی الدخول فی مسألة الاستصحاب وغیرها. هذا هو جواب المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی النقض الذی أورده علی نفسه.

ص: 806

وأعتُرض علی هذا الجواب بعدّة اعتراضات:

الاعتراض الأوّل: یرتبط بما ذکره من أننا نأخذ بدلالة الاستصحاب الذی هو الأصل الترخیصی الذی ذکره فی کلامه، .....نأخذ بدلالة الاستصحاب علی الأثر الوجودی الإلزامی، یعنی علی وجوب الحج الذی قلنا أنّه المدلول الالتزامی لدلیل الاستصحاب، ثمّ نأخذ بدلالته علی المدلول المطابقی الذی یکون الاستصحاب بلحاظه أصلاً ترخیصیاً، هذا الکلام، أن نأخذ بالدلالتین المطابقیة والالتزامیة یتمّ بشکلٍ واضح عندما نفترض أنّ دلیل الأصل یتکفّل بیان کلا الأمرین، إذا تکفّل دلیل الأصل بنفسه بیان کلا الأمرین، ودلیل الأصل یعنی دلیل الاستصحاب، روایات زرارة التی تجعل الاستصحاب حجّة یتکفّل هذین الأمرین، یعنی یتکفّل بإثبات الأثر الوجودی والأثر العدمی، أو بعبارةٍ أخری: فی المثال المذکور یتکفّل بوجوب الحج، ویتکفّل بعدم وجوب أداء الدَین، الاستصحاب یجری فی الدَین، استصحاب عدم وجوب أداء الدَین، مدلوله المطابقی هو عدم وجوب أداء الدَین، ومدلوله الالتزامی هو وجوب الحج، إذا کان یتکفّل بیان کلا الأمرین، هذا الکلام لا مانع منه، لکنّ ذلک ممنوع فی دلیل الاستصحاب. قبل الاستصحاب نأتی إلی البراءة التی هو أدخلها فی البین، هذا ممنوع بشکلٍ واضح فی دلیل البراءة، لماذا هو أدخل البراءة ؟ ذکرنا فی الدرس السابق أنّه قال لا فرق بین أن یکون وجوب الحج مترتباً علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، أو ظاهراً، سوی أنّه فی الثانی تجری أصالة البراءة، یعنی إذا کان وجوب الحج مترتباً علی عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً، یقول: هنا بدل الاستصحاب یمکن أن نتمسّک بالبراءة، فکأنّه یعتبر أنّ البراءة کأصلٍ ترخیصی تجری فی الدّین حالها حال استصحاب عدم وجوب أداء الدَین فی أنّه یمکن الاستناد إلیها لإثبات کلا الأمرین، البراءة من وجوب أداء الدَین ووجوب الحج، هذا الکلام إنّما یتمّ إذا کان دلیل الأصل یتکفّل ببیان کلا الأمرین، لکنّ هذا ممنوع فی أصالة البراءة بشکلٍ قطعی، باعتبار أنّ اصالة البراءة لا تتکفل إلاّ ببیان حکم واحد وهو رفع وجوب أداء الدَین ظاهراً، وأمّا وجوب الحج، صحیح أنّ وجوب الحج یترتّب علیها؛ لأنّ موضوعه هو عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً، والبراءة تثبت عدم وجوب أداء الدَین ظاهراً، فیتحقق موضوع وجوب الحج، فیترتّب وجوب الحج، لکن هل معنی ذلک أنّ نفس دلیل البراءة یتکفّل بیان وجوب الحج حتّی نتمسّک بدلیل الاستصحاب لإثبات وجوب الحج ؟ ونقول بأنّ دلیل الاستصحاب له مدلولان، أحدهما: عدم وجوب أداء الدَین، والثانی: وجوب الحج ؟ کلا، دلیل البراءة لیس فیه هکذا لسان، وإنّما هو یرفع وجوب الحج رفعاً ظاهریاً ولیس أکثر من هذا، یمکن؛ بل لابدّ من إثبات وجوب الحج، لکن إثبات وجوب الحج یکون تمسّکاً بدلیله الدال علی وجوب الحج المترتب علی عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً، فیثبت وجوب الحج، لکن یثبت بدلیله لا بالاستصحاب، وإنّما یثبت بدلیله باعتبار تحقق موضوعه، البراءة نقّحت له موضوعه الذی هو عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً، والبراءة أثبتت عدم وجوب أداء الدَین ظاهراً، فتنقّح موضوع وجوب الحج، فثبت وجوبه، یعنی ثبوت وجوب الحج لیس بالبراءة، وإنّما ثبت بدلیله الدال علی وجوب الحج علی المستطیع الذی لا یجب علیه أداء الدَین؛ لأنّه لا یکون مستطیعاً إلاّ إذا لم یجب علیه أداء الدین، ولو ظاهراً، فیثبت وجوب الحج بدلیله لا بالاستصحاب کما ذکر، فلا معنی لأن یقال أنّ دلیل الأصل فی المقام یُتمسّک به لإثبات مفاده الثانی وهو وجوب الحج، کأنّه یستند فی إثبات وجوب الحج إلی البراءة، إلی دلیل هذا الأصل، بینما دلیل هذا الأصل لا یتکفّل إثبات ذلک، وإنّما یتکفّل إثبات حکم واحد وهو البراءة عن وجوب أداء الدَین لا أکثر من ذلک، فإذن: هذا الکلام لا یصحّ فی البراءة.

ص: 807

وأمّا فی الاستصحاب، فتمامیة هذا الکلام فی الاستصحاب تکون موقوفة علی أن یُدّعی بأنّ دلیل الاستصحاب یتکفّل بیان کلا الأمرین، یتکفّل بیان ذات المستحب الذی هو عبارة عن عدم وجوب أداء الدَین، ویتکفّل بیان اثره الشرعی، والأثر الشرعی لعدم وجوب أداء الدَین هو وجوب الحج. إذا قلنا: أنّ دلیل الاستصحاب یتکفّل إثبات المستصحب واثره الشرعی ولیس الأثر العقلی؛ لأنّه بلحاظه یکون أصلاً مثبتاً، لکن یتکفّل إثبات المستصحب وآثاره الشرعیة، وفی المقام الأثر الشرعی لعدم وجوب أداء الدَین -------------- الذی هو المستصحب ------------- هو وجوب الحج. إذن: دلیل الاستصحاب یتکفّل بیان کلا الأمرین، فیتمّ الکلام الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ لأنّ دلیل الاستصحاب یتکفّل ببیان کلا الأمرین، فیأتی الکلام السابق، فنأخذ بهذا ونأخذ بهذا فی عرضٍ واحد ویندفع النقض.

وأمّا إذا أنکرنا هذه الدعوی، وقلنا بأنّ دلیل الاستصحاب لا یتکفّل ببیان کلا الأمرین، وإنّما هو یتکفّل فقط جعل المستصحب ولا یتکفّل جعل آثاره، هو لیس فی مقام بیان آثاره، حتّی الشرعیة منها، فضلاً عن العقلیة، وإنّما تترتب الآثار الشرعیة بنفس أدلّتها لا بالاستصحاب کما قلنا فی البراءة، الاستصحاب فقط هو یأمر بالبناء علی المستصحب الذی کنت علی یقینٍ منه سابقاً، لکن هو لا یقول رتّب الآثار الشرعیة علیه، وإنّما بمجرّد أن یأمر بالبناء علی بقاء المتیقّن سابقاً؛ حینئذٍ یتنقّح موضوع وجوب الحج الثابت بدلیله؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو عدم وجوب أداء الدَین، فباعتبار أنّک کنت علی یقین من عدم وجوب أداء الدَین سابقاً الاستصحاب ثبّت لک عدم وجوب أداء الدَین، فإذا ثبت عدم وجوب أداء الدَین یثبت وجوب الحج، لکن لا یثبت وجوب الحج بنفس الاستصحاب، وإنّما یثبت بدلیله، الاستصحاب فقط یأمر بالبناء علی بقاء الحالة السابقة، ترتیب الآثار الشرعیة علی بقاء الحالة السابقة یتکفّل بها دلیل الأثر الشرعی نفسه لا نفس الاستصحاب. إذا قلنا بذلک؛ حینئذٍ لا یتمّ کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه)؛ لأنّه حتّی دلیل الاستصحاب هو لا یتکفّل بیان أمرین، حتّی یقال: أیّ ضیرٍ فی أن نأخذ بمدلوله الالتزامی، وأحد مدلولیه، فنثبت وجوب الحج، فینحلّ العلم الإجمالی؛ وحینئذٍ لا مانع من الأخذ بمدلوله الآخر الذی یکون بلحاظه أصلاً ترخیصیاً، فلا یختلّ بذلک مبنی العلّیة؛ لأنّ العلم الإجمالی سقط عن المنجّزیة، هذا الکلام إنّما یصح عندما یکون دلیل الأصل یتکفّل بیان کلا الأمرین، بأن یکون له مدلولان، أحدهما عدم وجوب أداء الدَین، والآخر وجوب الحج، فإذا کان له مدلولان فی عرضٍ واحد، فهذا الکلام صحیح، لکن إذا أنکرنا ذلک، فلا یتم هذا الکلام.

ص: 808

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

کان الکلام فی الاعتراضات: علی الجواب الذی ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) علی النقض الذی أورده علی نفسه، وذکرنا الاعتراض الأوّل، وکان مبنیّاً علی افتراض أنّ الاستصحاب یتکفّل أمرین، عدم وجوب أداء الدین ووجوب الحج؛ حینئذٍ یتم کلامه، وأمّا إذا قلنا أنّ دلیل الاستصحاب لا یتکفل بیان الأمرین، وإنّما هو فقط یتکفل التعبّد الظاهری بالمستصحب، ومورد الاستصحاب هو عدم وجوب أداء الدین. نعم، یترتب علیه وجوب الحج، لکنّه یترتب علیه بدلیله، باعتبار أنّ الاستصحاب حققّ موضوعه؛ لأنّ موضوعه هو عدم وجوب أداء الدین، وهذا أحرزناه بالتعبّد الاستصحابی؛ فحینئذٍ یتنقّح الموضوع ویثبت الحکم بدلیله لا أنّ الاستصحاب یثبت هذا الحکم؛ فحینئذٍ لا یکون هذا الکلام تامّاً، فیکون هذا اعتراضاً علی المحقق العراقی(قدّس سرّه)، حاصله هو: إن کان الأصل الترخیصی هو البراءة، فمن الواضح جداً أنّه لا یتکفّل بیان حکمین، وإنّما یتکفل بیان حکم واحد وهو التأمین من ناحیة وجوب أداء الدَین ولا یتکفّل إثبات وجوب الحج، الکلام مبنی علی افتراض أنّ الاستصحاب یتکفّل بیان الأمرین، وأمّا إذا أنکرنا ذلک؛ فحینئذٍ لا یتم کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه).

دفع إنکار تکفّل الاستصحاب بیان کلا الأمرین لیس بعیداً، یعنی ما یراه المحقق العراقی(قدّس سرّه) بالفرض لیس أمراً غریباً وبعیداً، فدلیل الاستصحاب یتکفّل کلا الأمرین، یتکفّل عدم وجوب أداء الدین، ویتکفّل کذلک وجوب الحج، وذلک باعتبار أنّ مفاد دلیل الاستصحاب هو التعبّد بالمستصحب والجری العملی علی وفق الحالة السابقة، الجری العملی علی طبق الیقین بالمستصحب وبالحالة السابقة، ولا موجب لتخصیص الأمر بالجری العملی فی دلیل الاستصحاب بالبناء علی ثبوت المستصحب؛ بل ثبوت المستصحب والجری العملی علی وفق آثاره المرتبة علیه شرعاً، دلیل الاستصحاب هو یدلّ علی ذلک؛ لأنّ مفاد الاستصحاب هو الجری العملی علی وفق المستصحب والحالة السابقة، ومقتضی ذلک هو البناء علی ثبوت الحالة السابقة وثبوت المستصحب والبناء علی ترتیب الآثار الشرعیة المترتبة علی ذلک المستصحب، وهذا شیء یُستکشف من نفس دلیل الاستصحاب.

ص: 809

بعبارة أخری: لا إشکال ولا ینبغی أن یکون هناک إشکال فی أنّ دلیل الاستصحاب لا یتکفّل جعل وجوب الحج؛ بل لیس هذا هو محل الکلام، ولا أحد یدّعی أنّ دلیل الاستصحاب یتکفّل جعل وجوب الحج علی المستطیع الذی لا یجب علیه أداء الدَین، لا أحد یتوهّم ذلک، الکلام لیس فی الجعل، وإنّما الکلام أنّ دلیل الاستصحاب هل یتکفّل بیان وجوب الحج الثابت بدلیله، أو لا ؟

وبعبارةٍ أخری: هل دلیل الاستصحاب یأمر بالجری العملی بلحاظ آثار المستصحب الشرعیة التی تترتب علیه شرعاً، أو لا ؟ لیس الکلام فی أنّ دلیل الاستصحاب یتکفّل جعل وجوب الحج، حتّی نقول أنّ من الواضح أنّ دلیل الاستصحاب لا یتکفّل جعل وجوب الحج، وإنّما الکلام فی جعل وجوب الحج الثابت بدلیله، لکنّ الاستصحاب عندما یأمر بالبناء علی الحالة السابقة، هل معنی ذلک هو البناء علی الحالة السابقة والبناء علی الآثار الشرعیة للمستصحب، عندما یصدر هذا الأمر بالجری العملی علی وفق المستصحب من قِبل الشارع نفسه الذی رتّب هذا الأثر علی المستصحب، وعندما یأمر بالبناء علی المستصحب یُستفاد من ذلک الأمر بالجری العملی علی وفق آثار المستصحب الشرعیة، لیس معنی ذلک أننا نستفید جعل وجوب الحج من دلیل الاستصحاب، وإنّما دلیل الاستصحاب یتکفّل الجری العملی علی وفق المستصحب، وهذا کما یقتضی البناء علی ثبوت المستصحب، یقتضی أیضاً البناء علی آثاره المترتبة علیه شرعاً، وهذا معنی أنّ الاستصحاب یتکفّل کلا الأمرین، یعنی هو کما یکون دلیلاً علی عدم وجوب أداء الدین، یکون دلیلاً أیضاً علی ترتیب أثر عدم وجوب أداء الدین، وهو عبارة عن وجوب الحج، فیمکن أن یُفسّر کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) بهذا؛ وحینئذٍ لا یرد علیه الاعتراض. نعم، یرد علیه الاعتراض بلحاظ البراءة؛ لأنّ دلیل البراءة لا یُستفاد منه الجری العملی، ولا یُستفاد منها إلاّ التأمین من ناحیة التکلیف المشکوک.

ص: 810

الاعتراض الثانی: هو أن یُقالأنّ الظاهر من کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) هو أنّه یعترف ویُسلّم بمانعیة العلم الإجمالی عن جریان الأصل الترخیصی فی الفرض الأوّل بناءً علی العلّیة، ولکنّه یحل المشکلة ویلتزم بجریان الأصل الترخیصی فی الفرض الأوّل باعتبار الانحلال الحکمی، علی ما تقدّم توضیحه. الفرض الأوّل هو أن یکون وجوب الحج مترتباً علی عدم وجوب أداء الدین ولو ظاهراً، فی هذا یظهر من المحقق العراقی(قدّس سرّه) أنّه یُسلّم أنّ العلم الإجمالی فی المقام یکون مانعاً من جریان الأصل الترخیصی فی الدَین بناءً علی العلّیة، وحیث أنّ مبنی الفقهاء علی إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین، جعل هذا نقضاً علیه، یعنی نقضاً علی القول بالعلّیة، إذن: هو یعترف بأنّ العلم الإجمالی فی محل الکلام مانع من إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین.

نعم، هو یحل المشکلة عن طریق الانحلال الحکمی، هو یقول أنّ الاستصحاب هو بنفسه یدل علی وجوب الحج، هو یجری فی الطرف الآخر باعتباره أصلاً إلزامیاً؛ لأنّ الاستصحاب کان فیه مدلولان، التزامی ومطابقی، والاستصحاب بلحاظ مدلوله الالتزامی یکون أصلاً مثبتاً، فإذا جری الأصل المثبت للتکلیف فی أحد طرفی العلم الإجمالی؛ فحینئذٍ ینحل العلم الإجمالی حکماً؛ وحینئذٍ لا یبقی محذور ولا مانع من إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین، فهو أثبت إمکان جریان الأصل الترخیصی فی الدَین عن طریق الانحلال الحکمی، وهذا معناه أنّه لولا الانحلال الحکمی هو یعترف بأنّ العلم الإجمالی مانع ----------- بناءً علی العلّیة ---------- من إجراء الأصل الترخیصی فی الدین.

الاعتراض یقول: أنّ هذا الاعتراف والتسلیم بمانعیة العلم الإجمالی من إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین بناءً علی العلّیة، إنّما یتمّ فیما إذا کان وجوب الحج مترتّباً علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً؛ وذلک لأنّ جریان الأصل الترخیصی فی الدَین ینحصر ------------ بناءً علی العلّیة ------------ بالانحلال الحکمی کما ذکر، ولا وجه له إلاّ الانحلال الحکمی، فیتم کلامه، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی یمنع من إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین، وإنّما نجوّز الأصل الترخیصی فی الدَین باعتبار الانحلال الحکمی بالبیان الذی ذکره؛ حینئذٍ یکون هذا الکلام یکون تامّاً. وأمّا إذا فرضنا أنّ وجوب الحج کان مترتباً علی عدم وجوب أداء الدین ولو ظاهراً . فی هذه الحالة؛ حینئذٍ یقال: لا وجه لاعترافه وتسلیمه بمانعیة العلم الإجمالی من إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین وحلّ الإشکال عن طریق الانحلال الحکمی، وذلک باعتبار أنّ مانعیة العلم الإجمالی عن جریان الأصل الترخیصی فی الدَین ----------- بناءً علی هذا الفرض ------------- غیر معقولة.

ص: 811

وبعبارةٍ أخری: أنّ هذا الفرض یستلزم انحلال هذا العلم الإجمالی وانقلابه إلی علمٍ تفصیلی.

توضیح هذا المطلب: بناءً علی أنّ وجوب الحج مترتّب علی عدم وجوب أداء الدین، ولو ظاهراً، العلم الإجمالی الموجود فی المقام سوف ینحلّ انحلالاً حکمیاً بإجراء الأصل الترخیصی لنفی وجوب أداء الدین؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب الحج مترتّب علی مطلق نفی وجوب أداء الدین ولو ظاهریاً، فإذا جری الأصل الترخیصی فی الدَین، فهو یقتضی ثبوت وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب الحج مترتّب علی عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهریاً، بحیث أنّ الأصل النافی لوجوب أداء الدین ظاهراً یحقق الموضوع الواقعی والشرط الواقعی لوجوب الحج واقعاً؛ فحینئذٍ یکون الحج ثابتاً ثبوتاً واقعیاً، وهذا هو معنی انقلاب العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بوجوب الحج. هذا کلّه علی تقدیر جریان الأصل الترخیصی فی الدَین، عندما یجری الأصل الترخیصی فی الدَین؛ حینئذٍ نقطع بوجوب الحج؛ حینئذٍ ینقلب العلم الإجمالی بوجوب إمّا الدین، أو الحج، ینقلب إلی علمٍ تفصیلی بوجوب الحج؛ لأنّه بمجرّد أن یجری الأصل الترخیصی وینفی وجوب أداء الدین یتحقق الموضوع الواقعی لوجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج مترتب علی مطلق عدم وجوب أداء الدین، ولو ظاهراً، وهذا الأصل یحقق هذا، هذا الأصل ینفی وجوب أداء الدین ظاهراً، فیتحقق ما هو الموضوع الحقیقی لوجوب الحج، فیثبت وجوب الحج؛ وحینئذٍ سوف نقطع بوجوب الحج واقعاً، ومع القطع بوجوب الحج ینحل العلم الإجمالی إلی علمٍ تفصیلی بوجوب الحج وشک بدوی فی هذا.

حینئذٍ یقال: لإثبات استحالة المانعیة فی هذا الفرض، یعنی یستحیل أن یکون هذا العلم الإجمالی مانعاً من إجراء هذا الترخیص؛ لأنّ هذا الترخیص علی تقدیر جریانه یوجب نفی العلم الإجمالی وانقلابه إلی علمٍ تفصیلی، فإذا کان العلم الإجمالی ینقلب إلی علم تفصیلی بإجراء الأصل الترخیصی فی هذا الطرف، فلا یُعقل أن یکون مانعاً من إجراء الأصل الترخیصی، هذا أشبه ما یقال ----------- مثلاً ----------- فی منجّزیة الاحتمال، حیث أنّها علی بعض المسالک موقوفة علی عدم الترخیص من قِبل الشارع، معناه أنّ الترخیص الشرعی یرفع أصل منجّزیة الاحتمال، وفی هذه الحالة لا یُعقل أن تکون منجّزیة الاحتمال مانعة من هذا الترخیص؛ لأنّها هی موقوفة علی عدمه، فإذا جاء الترخیص یکون رافعاً لمنجّزیة الاحتمال. نفس هذا الکلام تماماً یقال فی محل الکلام، لدینا وجوب الحج مترتب علی عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً بحیث یکون جریان الأصل الترخیصی فی الدَین رافعاً للعلم الإجمالی وموجباً لانقلابه إلی علم تفصیلی، فهل یکون مثل هذا العلم الإجمالی المتوقف فی أصل وجوده علی عدم الترخیص الظاهری فی الدَین، أی علی عدم إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین، هل یُعقل أن یکون مانعاً من جریان هذا الأصل الترخیصی ؟ لا یُعقل ذلک، فالمانعیة محال بقطع النظر عن الانحلال الحکمی، لسنا بحاجةٍ إلی الانحلال الحکمی حتّی نقول أنّ هذا العلم الإجمالی لا یمنع من إجراء الأصل الترخیصی، مفاد الکلام أنّه یمنع بناءً علی العلّیة، وعن طریق الانحلال الحکمی نرفع هذه المانعیة، الاعتراض الثانی یقول: بقطع النظر عن الانحلال الحکمی وبقطع النظر عن الاستصحاب، نفس هذا العلم الإجمالی یستحیل أن یکون مانعاً من إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین؛ لأنّ جریان الأصل الترخیصی فی الدَین یرفع أصل وجود العلم الإجمالی ویقلبه إلی علمٍ تفصیلی؛ لأنّه بمجرّد أن یجری الأصل الترخیصی فی الدَین سوف نقطع بوجوب الحج، یعنی نعلم بوجوب الحج علماً تفصیلیاً، ومع العلم التفصیلی بأحد الطرفین ینحلّ العلم الإجمالی.

ص: 812

إذن: بقطع النظر عن الانحلال الحکمی لا مانع من جریان الأصل الترخیصی فی الدَین؛ لأنّه لا یمنع منه مثل هذا العلم الإجمالی.

ویمکّن أن تبیّن استحالة هذه المانعیة ببیانٍ آخر: وهو أن یقال أنّ مانعیة العلم الإجمالی عن إجراء الأصل الترخیصی فی أحد أطرافه إنّما تُعقل إذا لم یکن إجراء الأصل رافعاً لوجود العلم الإجمالی وانقلابه إلی العلم التفصیلی، کما هو الحال فی الأمثلة العادیة للعلم الإجمالی، جریان الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی العادی فی غیر محل کلامنا لا یکون موجباً لزوال العلم الإجمالی. هنا مثل هذا العلم الإجمالی یمنع من جریان هذا الأصل بناءً علی العلّیة، أمّا عندما یکون جریان الأصل فی أحد طرفی العلم الإجمالی رافعاً لأصل العلم الإجمالی وموجباً لانقلابه من العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی، ففی هذه الحالة لا یُعقل أن یکون مثل هذا العلم الإجمالی مانعاً من جریان هذا الأصل؛ لأنّ مانعیته عن جریان مثل هذا الأصل موقوفة علی عدمه؛ فحینئذٍ کیف یُعقل أن یکون مانعاً منه، والحال أنّ أصل مانعیة العلم الإجمالی موقوفة علی وجود العلم الإجمالی، وهذا التوقّف واضح جدّاً، ووجود العلم الإجمالی موقوف علی عدم جریان الأصل الترخیصی فی هذا الطرف، وإذا أردنا أن نقول أنّ عدم جریان الأصل الترخیصی فی هذا الطرف موقوف علی المانعیة؛ فحینئذٍ یلزم الدور، وهو أنّ المانعیة تتوقّف علی نفسها، والصحیح أن نقول أنّ جریان الأصل الترخیصی لیس موقوفاً علی المانعیة؛ بل الأصل الترخیصی یجری، والعلم الإجمالی لا یکون مانعاً عن جریانه، فأصل المانعیة غیر معقولة فی محل الکلام، وبهذا لا نحتاج حینئذٍ إلی مسألة الانحلال الحکمی حتّی نثبت إمکان إجراء الأصل الترخیصی فی طرف الدَین.

ص: 813

ومن هنا یتبیّن الفرق بین صورتی الفرض الأوّل، یعنی بین ما إذا کان وجوب الحج مترتّباً علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، وبین ما إذا کان وجوب الحج مترتباً علی عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً، فی الثانی یرِد هذا الاعتراض بأنّ مثل هذا العلم الإجمالی لا یُعقل أن یکون مانعاً من إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین بقطع النظر عن الانحلال الحکمی، أمّا فی الصورة الأوّلی وهی ما إذا کان وجوب الحج مترتباً علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً؛ فحینئذٍ لا یکون هذا الاعتراض تامّاً، وکلام المحقق العراقی(قدّس سرّه) یکون تامّاً؛ لأنّه بناءً علی أنّ وجوب الحج مترتب علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، الأصل الترخیصی فی الدَین هل یثبت عدم وجوب أداء الدَین واقعاً ؟ لا یثبت عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، وإنّما هو یکون مجرّد تأمین من ناحیة وجوب أداء الدَین، أنّ أداء الدَین لیس منجّزاً علیک، هذا الأصل الترخیصی ظاهراً لا یجب علیک أداء الدَین، وهذا لا ینافی وجوب أداء الدَین واقعاً، إجراء الأصل الترخیصی فی هذه الصورة لا یعنی القطع بتحقق موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج فی هذه الصورة هو عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، والأصل الترخیصی الجاری فی الدَین لا یثبت عدم وجوب أداء الدَین واقعاً حتّی نقول بتحقق ما هو الموضوع الحقیقی لوجوب الحج ونقطع بوجوب الحج، لا ملازمة بین نفی وجوب الحج ظاهراً وبین نفیه واقعاً، والمفروض أنّ موضوع وجوب الحج هو النفی الواقعی لا النفی الظاهری، فجریان الأصل الترخیصی فی الدَین فی هذه الصورة لا یقلب العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی؛ لأنّه لا یوجب القطع بوجوب الحج حتّی نقول أنّه یستلزم زوال العلم الإجمالی، ومثل العلم الإجمالی الذی یکون جریان الأصل فی بعض أطرافه مستلزماً لزواله، لا یُعقل أن یکون مانعاً من ذلک الأصل الترخیصی؛ فحینئذٍ لا یجری هذا الکلام فی الصورة الثانیة، وإنّما یجری فی الصورة الأولی، باعتبار أنّ جریان الأصل الترخیصی فی الدَین یستلزم القطع بتحقق موضوع وجوب الحج، وبالتالی القطع بوجوب الحج، ومع القطع بوجوب الحج ینقلب العلم الإجمالی إلی علمٍ تفصیلی، بینما فی الصورة الثانیة الأمر لیس هکذا؛ لأنّ مجرّد إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین لا یعنی الجزم بتحقق موضوع وجوب الحج؛ إذ لا ملازمة بین النفی الظاهری وبین النفی الواقعی.

ص: 814

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی

الاعتراض الثالث: علی ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) وهو آخر الاعتراضات، وهو أنّ یقال: أنّ ما ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) من أنّ وجوب الحج إذا کان مترتباً علی مطلق المعذوریّة عن أداء الدین الذی هو الفرض الثانی فی تقریب کلام المحقق العراقی(قدّس سرّه)، هناک ذکر بأنّه فی هذا الفرض جریان اصالة البراءة(الأصل الترخیصی) فی الدَین إنّما هو باعتبار أنّ العلم الإجمالی لیس منجّزاً حینئذٍ فی هذا الفرض، باعتبار سقوط العلم الإجمالی فی هذا الفرض عن المنجّزیة، ومن الواضح أنّه إذا سقط عن المنجّزیة لا مانع من إجراء الأصل الترخیصی، وبیّن کیف أنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة، قال: إذ یشترط فی منجّزیة العلم الإجمالی أن یکون صالحاً لتنجیز کلا الطرفین فی عرضٍ واحدٍ، وفی محل الکلام، هذا العلم الإجمالی ----------- بناءً علی هذا الفرض ------------ لا یصلح لتنجیز کلا الطرفین، یعنی وجوب أداء الدَین ووجوب الحج فی عرضٍ واحد؛ لأنّه علی تقدیر تنجیزه لوجوب أداء الدَین سوف نقطع بعدم وجوب الحج؛ لأنّ وجوب الحج ----------- بحسب الفرض ------------- مترتب علی عدم تنجّز وجوب أداء الدَین الذی عبّر عنه بالمعذوریة عن أداء الدَین، مجرّد أن لا یتنجّز علیک وجوب أداء الدَین یجب علیک الحج، فإذا نجّز العلم الإجمالی وجوب أداء الدَین، یرتفع موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو عدم تنجّز وجوب أداء الدَین، أو قل بعبارةٍ أخری: المعذوریة عن أداء الدَین، فإذا تنجّز وجوب أداء الدَین بالعلم الإجمالی؛ حینئذٍ سوف نقطع بعدم وجوب الحج، وهذا معناه أنّ العلم الإجمالی لا یمکنه فی عرضٍ واحد أن ینجّز کلا المحتملین فی الطرفین، یعنی ینجّز وجوب أداء الدَین، وینجّز وجوب الحج أیضاً، هذا غیر ممکن، إذا نجّز وجوب أداء الدَین ارتفع موضوع وجوب الحج وقطعنا بعدمه، مثل هذا العلم الإجمالی لا یصلح للتنجیز، فجریان الأصل الترخیصی فی الدَین علی ما نُسب إلی المشهور، یقول: هذا علی القواعد، لیس فیه مخالفة لما نختاره من القول بالعلّیة؛ لأنّ العلم الإجمالی سقط عن التنجیز؛ وحینئذٍ یمکن إجراء الأصل الترخیصی فی هذا الطرف......والخ ما ذکره المشهور.

ص: 815

أقول: الاعتراض الثالث یقول أنّ هذا الکلام غیر صحیح وغیر فنّی، باعتبار أنّه ذکر أنّ موضوع وجوب الحج هو مطلق المعذوریة، ولو کانت عقلیة، الذی هو الفرض الثانی، رتّب علیه هذا الکلام، السؤال هو: هل یمکن تصوّر أن یکون موضوع وجوب الحج هو خصوص فقط وفقط المعذوریة عن أداء الدَین ؟ عدم تنجّز أداء الدَین فقط هو یکون موضوع وجوب الحج ؟ هذا الکلام معناه أنّه لو ثبت عند المکلّف عدم وجوب أداء الدَین واقعاً لا یترتّب وجوب الحج، یترتب وجوب الحج إذا لم یتنجّز أداء الدَین علیه، إذا کان معذوراً، أمّا لو ثبت عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، أو ظاهراً لا یترتب علیه وجوب الحج، هذا الشیء غیر ممکن الالتزام به، یعنی عندما نقول بأنّ وجوب الحج یترتب علی مطلق المعذوریة عن أداء الدَین لیس المقصود بذلک هو تخصیص ترتب وجوب الحج علی المعذوریة فقط، واضح أنّ المقصود به لیس هذا، وإنّما المقصود به هو أنّه یترتب علی الأعم من عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، أو قل الأعم من عدم وجوب أداء الدَین، ولو ظاهراً، ومن المعذوریة، ولو کانت عقلیة، الأعم منذ لک هو موضوع وجوب الحج لا أن وجوب الحج یترتب فقط علی المعذوریة وعدم التنجّز العقلی، لیس هذا هو المقصود، وإنّما هذا یقال فی قِبال الفرض الأوّل، فی الفرض الأوّل کان وجوب الحج مترتباً علی عدم وجوب أداء الدَین، ولو ظاهراً، لکن المهم یثبت عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهریاً، مجرّد المعذوریة العقلیة وعدم التنجّز العقلی لا یکفی لترتیب وجوب الحج، هذا الفرض الأوّل، وإنّما یحتاج فی وجوب الحج إلی إثبات عدم وجوب أداء الدَین، ولو ظاهریاً، بالاستصحاب مثلاً، الفرض الثانی عندما یقول أنّ وجوب الحج مترتب علی المعذوریة ولو کانت عقلیة لیس المقصود به تخصیص ترتیب وجوب الحج علی المعذوریة فقط، وإنّما المقصود به هو أنّ وجوب الحج یترتب علی الأعم من وجوب أداء الدَین، ولو ظاهراً ومن المعذوریة، ومن صرف عدم التنجّز، هذا هو المقصود بالفرض الثانی، بناءً علی أنّ هذا هو المقصود بالفرض الثانی؛ حینئذٍ إذا نجّز العلم الإجمالی وجوب أداء الدَین، قال المحقق العراقی(قدّس سرّه): هنا نقطع بعدم وجوب الحج، الاعتراض یقول: لا قطع بعدم وجوب الحج حتّی یقال أنّ العلم الإجمالی سقط عن المنجّزیة، فلا مانع من الرجوع إلی الأصل الترخیصی فی الدَین، لا نقطع بعدم وجوب الحج کما یقول، لو نجّز العلم الإجمالی وجوب أداء الدَین فی هذا الطرف، لا قطع بعدم وجوب الحج حتّی یتمّ ما ذکره من سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، وبالتالی لا مانع من جریان الأصل الترخیصی فی الدَین، وذلک لأنّ تنجّز أداء الدَین بالعلم الإجمالی لا یستلزم العلم بوجود الدین، فیبقی العلم الإجمالی علی حاله، باعتبار احتمال عدم وجود الدَین.

ص: 816

بعبارةٍ أخری: من المحتمل أن لا یجب علیه أداء الدَین واقعاً، باعتبار أنّ تنجّز وجوب أداء الدَین لا یستلزم العلم بوجود الدَین حتّی نقول هنا نعلم بعدم وجوب الحج؛ لأننا قطعنا بوجوب أداء الدَین، وعند القطع بوجوب أداء الدَین؛ حینئذٍ نقطع بعدم وجوب الحج، هذا لا یحصل فی المقام؛ لأننا نحتمل عدم وجود الدین، ومع عدم وجود الدین؛ حینئذٍ لا یجب علیه واقعاً أداء الدَین، فعلی تقدیر أن لا یجب علیه أداء الدَین؛ حینئذٍ یتحقق موضوع وجوب الحج؛ لأنّ موضوع وجوب الحج هو الأعم ------------- بحسب الفرض ------------- لیس موضوع وجوب الحج هو فقط عدم تنجّز أداء الدَین، عدم وجوب أداء الدَین واقعاً هو أیضاً موضوع لوجوب الحج، لیس لدینا قطع بعدم وجود الدَین؛ بل نحتمل وجود الدَین، ومع احتمال وجود الدَین؛ حینئذٍ یجب أداء الدَین، ونحتمل عدم وجود الدَین؛ فحینئذٍ لا یجب أداء الدَین. إذن: وجوب الحج یکون محتملاً، ولا قطع بعدمه کما هو یقول، هو یرید أن یقول أنّه بمجرّد أن ینجّز العلم الإجمالی وجوب أداء الدَین نقطع بعدم وجوب الحج، فیثبت ما ذکره، بینما الصحیح هو أنّه بمجرّد تنجیز العلم الإجمالی لوجوب أداء الدَین، هذا لا یستلزم القطع بوجوب الحج؛ لأننا نحتمل عدم وجوب الحج؛ لأننا نحتمل وجود الدَین ووجوب أداء الدَین، ومع هذا الاحتمال؛ حینئذٍ المهم عندنا هو أن لا قطع بوجوب الحج، وإذا لم یکن هناک قطع بوجوب الحج؛ حینئذٍ لا یتم کلامه؛ لأنّه یبقی العلم الإجمالی صالحاً لتنجیز کلا الطرفین فی عرضٍ واحد ----------- بقطع النظر عن الکلام المتقدّم فی الاعتراض السابق من الانحلال الحقیقی ------------- هنا یوجد احتمال وهنا أیضاً یوجد احتمال، وتنجیز العلم الإجمالی للاحتمال فی باب الدَین لا یوجب القطع بعدم وجوب الحج، القطع بعدم وجوب الحج غیر موجود، فیبقی الاحتمال موجود والاحتمال الآخر موجود؛ وحینئذٍ یکون العلم الإجمالی صالحاً لتنجیز کلا الطرفین فی عرضٍ واحد بقطع النظر عن ما تقدّم من دعوی الانحلال الحقیقی.

ص: 817

هذا هو الاعتراض الثالث علی کلامه(قدّس سرّه)؛ وحینئذٍ ننتهی إلی هذه النتیجة، وهی أنّ الصحیح فی هذا التنبیه أن یقال: لا مانع من جریان الأصل الترخیصی فی الدَین فی المثال بناءً علی مسلک الاقتضاء؛ وحینئذٍ إذا فرضنا أنّ وجوب الحج کان مترتباً علی عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً، أو علی مطلق المعذوریة وعدم التنجّز؛ حینئذ أمکن عن طریق إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین إثبات وجوب الحج واقعاً، هنا لا یُفرّق بین أن یکون الأصل الجاری فی الدَین أصلاً تنزیلیاً -و أصلاً غیر تنزیلی، علی کلا التقدیرین، هذا الأصل الترخیصی، تنزیلیاً کان، أو غیر تنزیلی، إذا جری فی الدَین یمکن إثبات وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب الحج واقعاً مترتب علی الأعم من عدم وجوب أداء الدَین، ولو ظاهراً، أو عدم التنجّز، أو المعذوریة، فأیّ أصلٍ یجری فی الدَین، سواء کان استصحاباً یثبت به عدم وجوب أداء الدَین، أو کان اصلاً غیر تنزیلی، کالبراءة یثبت به مجرّد المعذوریة وعدم التنجّز، أی شیء یجری فی الدَین یمکن أن نثبت به وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ المفروض أنّ وجوب الحج واقعاً مترتب علی الأعم؛ وحینئذ کما هو واضح مع ثبوت وجوب الحج؛ حینئذٍ لا مجال لجریان الأصل الترخیصی فی الحج؛ لأنّه قد ثبت وجوب الحج واقعاً بمجرّد جریان الأصل الترخیصی فی الدَین، ولعلّ المشهور ذهب إلی وجوب الحج واقعاً علی المکلّف بإجراء الأصل الترخیصی فی باب الدَین لهذا الشیء.

وأمّا إذا فرضنا أنّ وجوب الحج کان مترتباً علی خصوص عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، إذا أحرزت عدم وجوب أداء الدَین واقعاً یثبت حینئذٍ وجوب الحج، وإلاّ فلا یثبت؛ حینئذٍ الأصل الترخیصی الجاری فی الدَین، مهما کان لا یثبت به وجوب الحج واقعاً؛ لأنّ وجوب الحج واقعاً ----------- بحسب الفرض ------------ مترتّب علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، وأیّ أصلٍ ترخیصی یجری فی الدَین لا یستطیع أن یثبت عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، وإنّما هو یثبت عدم وجوب أداء الدَین ظاهراً إذا کان استصحاباً، أو یثبت التأمین والمعذوریة وعدم التنجّز إذا کان أصلاً غیر تنزیلی، وهذا معناه أننا هنا نعجز عن إثبات وجوب الحج واقعاً عند إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین، بینما فی الصورة السابقة کان یمکن إثبات وجوب الحج واقعاً عند إجراء الأصل الترخیصی فی الدَین، سواء کان أصلاً تنزیلیاً، أو کان أصلاً غیر تنزیلی، والنکتة هی أنّه هناک افترضنا أنّ وجوب الحج واقعاً مترتب علی الأعم من عدم وجوب أداء الدَین ولو ظاهراً ومن المعذوریة وعدم التنجّز، ایّ واحدٍ منهم تحقق یترتب علیه وجوب الحج واقعاً، وهذا قطعاً یتحقق بإجراء الأصل الترخیصی فی الدَین، أمّا إذا کان وجوب الحج مترتباً علی عدم وجوب أداء الدَین واقعاً، فالأصل الترخیصی فی الدَین لا یحرز ذلک. ومن هنا کان هناک مجال لإجراء الأصل الترخیصی فی الطرف الآخر، یعنی إجراء الأصل الترخیصی فی الحج؛ لأنّی لا أحرز وجوب الحج واقعاً، وإنّما احتمل ذلک، فیکون هناک مجال لإجراء الأصل الترخیصی فی الحج ومعارضته مع الأصل الترخیصی فی الدَین، هذا مجرّد إمکان، لکن الصحیح هو أنّ الأصل الترخیصی الجاری فی الدَین إذا کان استصحاباً فیکون مقدّماً علی الأصل الترخیصی الجاری فی الحج، باعتباره حاکماً، الاستصحاب الجاری فی الدَین یکون حاکماً علی الأصل الترخیصی الجاری فی الحج حتّی إذا کان ذلک الأصل الترخیصی الجاری فی الحج تنزیلیاً، یعنی استصحاب وغیره، للحکومة القائمة علی اساس أنّ هذا أصل سببی وذاک أصل مسببی؛ لأنّ الشک فی وجوب الحج مسببَ عن الشک فی وجوب أداء الدَین واقعاً، فالأصل الذی یجری فی الدَین یکون أصلاً سببیاً، بینما الأصل الذی یجری فی الحج یکون أصلاً مسببیاً، والأصل السببی یکون حاکماً علی الأصل المسببی ومقدّماً علیه، ومن هنا الصحیح هو تقدیم الأصل السببی الجاری فی الدین علی الأصل المسببی الجاری فی الحج حتّی إذا کان استصحاباً أیضاً مماثلاً للأصل الجاری فی الشکّ السببی، وبناءً علی هذا التقدیم بالحکومة ما یثبت هو وجوب الحج ظاهراً لا واقعاً، یثبت وجوب الحج استناداً إلی هذا الاستصحاب ثبوتاً ظاهریاً.

ص: 818

وأمّا إذا فرضنا أنّ الأصل الجاری فی الدَین لم یکن استصحاباً وإنّما کان براءة؛ حینئذٍ نکات الحکومة هنا تختل؛ وحینئذٍ إذا أختلّت نکات الحکومة فی هذه البراءة، فسوف یقع التعارض بین البراءة الجاریة فی الدَین وبین الأصل الترخیصی الجاری فی الحج، وإذا وصلت النوبة إلی التعارض بین الأصلین الترخیصیین فی الطرفین، فی هذه الحالة یتنجّز العلم الإجمالی علی المکلّف؛ لأننّا نتکلّم بناءً علی مسلک الاقتضاء، وعلی مسلک الاقتضاء العلم الإجمالی یتنجّز بتعارض الأصلین فی الطرفین وتساقطهما، وإنّما لا یتنجّز إذا جری أحد الأصلین فی أحد الطرفین بلا معارض، هنا لا مانع من جریانه، أمّا عندما یعارض الأصل الترخیصی فی أحد الطرفین بالأصل الترخیصی فی الطرف الآخر یتعارضان، فیتساقطان، فینجّز العلم الإجمالی کلا الطرفین. هذه هی النتیجة التی تذکر فی المقام بالنسبة إلی هذا التنبیه.

التنبیه الثالث من تنبیهات العلم الإجمالی

هذا التنبیه معقود فی الشبهة غیر المحصورة. لهم کلام طویل فی الشبهة غیر المحصورة حیث ذکروا أنّ الکلام فی الشبهة غیر المحصورة أولاً یقع فی ما سمّوه بتعریفها، أو فی ما هو المیزان فی کون الشبهة محصورة، وفی کون الشبهة غیر محصورة، ثمّ یقع الکلام فی حکمها، بعد أن نعرف ماهی الشبهة غیر المحصورة وما هو المیزان فی تحققها، یقع الکلام فی حکمها، والمقصود من حکمها هو مسألة وجوب الموافقة القطعیة وحرمة المخالفة القطعیة.

وبعبارة أخری: أنّ العلم الإجمالی فی موارد الشبهة غیر المحصورة، هل حاله حال العلم الإجمالی فی الشبهة المحصورة الذی کنّا نتکلّم عنه سابقاً من حیث حرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة ؟ فی البحث الأوّلیعنی فی تحدید الشبهة غیر المحصورة، أو فی بیان ما هو المیزان فی کون الشبهة غیر محصورة، ذکروا أموراً کثیرة فی بیان ما هو المیزان:

ص: 819

المیزان الأوّل: هو تعسّر العد، إذا کانت أطراف العلم الإجمالی کثیرة کثرة بالغة إلی حدٍّ بحیث یعسر عدّها تکون الشبهة غیر محصورة، فی قِبال ما یمکن عدّه؛ وحینئذٍ تکون الشبهة محصورة.

المیزان الثانی: هو عدم التمکّن من الموافقة القطعیة لهذا العلم الإجمالی، کل علمٍ إجمالی تکون أطرافه کثیرة بحیث لا یتمکّن المکلّف من موافقتها القطعیة، فهذه شبهة غیر محصورة، وأمّا إذا کانت الأطراف بحیث یتمکّن المکلّف من موافقتها القطعیة کما هو الحال فی الأمثلة المتعارفة؛ حینئذٍ تکون هذه الشبهة شبهة محصورة.

المیزان الثالث: هو ما لا یتمکّن المکلّف عادةً من مخالفته القطعیة، یعنی ما یتعسّر مخالفته القطعیة، العلم الإجمالی یکون علماً إجمالیاً فی شبهةٍ غیر محصورة عندما تتعسّر المخالفة القطعیة لکل أطراف العلم الإجمالی. فی السابق کان المیزان فی کون الشبهة غیر المحصورة هو أن یتعسّر علیه موافقتها القطعیة، أمّا الثانی فیقول أنّ المیزان هو أن تتعسّر المخالفة القطعیة لجمیع الأطراف؛ فحینئذٍ تکون الشبهة غیر محصورة. المهم هو المیزان الثانی والثالث؛ لأنّ فیهما کلام وهناک میزان آخر سیأتی التعرّض إلیه.

من الواضح أنّ المیزان الثانی الذی هو تعسّر الموافقة القطعیة لجمیع المحتملات یختص بالشبهات الوجوبیة ولا یمکن فرضه فی الشبهات التحریمیة، باعتبار أنّ الموافقة القطعیة فی باب المحرّمات ممّا یمکن ولا یتعسّر إطلاقاً مهما کثرت الأطراف تکون ممکنة؛ لأنّها تتحقق بالترک وهذا أمر متیسّر لکل أحد ولیس فیه عسر، ومن هنا لا یمکن جریان هذا المیزان فی الشبهات التحریمیة؛ لأنّ الشبهات التحریمیة مهما کثرت أطرافها لا یتعسّر موافقتها القطعیة، بخلاف الشبهات الوجوبیة حیث یمکن تطبیق هذا المیزان بشکلٍ واضح؛ لأنّه فی الشبهات الوجوبیة إذا کثرت الأطراف کثرة معتد بها؛ حینئذٍ یمکن افتراض تعسّر الموافقة القطعیة فی باب الواجبات؛ لأنّ الموافقة القطعیة فی باب الواجبات تحتاج إلی الفعل، فإذا کانت الأطراف کثیرة جدّاً یمکن فرض تعسّر الموافقة القطعیة فی باب الواجبات، فإذن: المیزان الثانی یختص بالشبهات الوجوبیة تماماً عکس المیزان الثالث؛ لأنّ المیزان الثالث یختص بالشبهات التحریمیة ولا یتأتی فی الشبهات الوجوبیة، حیث فی الشبهات التحریمیة یمکن فرض التعسّر فیها عندما تکون الأطراف کثیرة؛ لأنّ المخالفة القطعیة فی باب المحرّمات تحتاج إلی الارتکاب، فإذا کانت الأطراف کثیرة جدّاً لا یتمکّن المکلّف من ارتکاب الجمیع، فتتعسّر علیه المخالفة القطعیة، فیمکن تصوّر تحقق المیزان فی الشبهات التحریمیة، وأمّا فی الشبهات الوجوبیة لا یمکن فرض هذا المیزان؛ لأنّه فی الشبهات الوجوبیة المخالفة القطعیة فی باب الواجبات یکفی فیها مجرّد الترک حتّی لو یعلم بوجوب أمر دائر بین ملیون طرفٍ، المخالفة القطعیة له سهلة المئونة وهو أن یترک، فلا یمکن تصوّر تعسّر المخالفة القطعیة فی باب الواجبات، وإنّما یمکن فرض ذلک فی باب المحرّمات.

ص: 820

السید الخوئی(قدّس سرّه) فی هذا المیزان الثالث؛ لأنّه أختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه)، له کلام فی هذا وله اعتراضات نتعرّض لها إن شاء الله تعالی.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

ذکرنا فی الدرس السابق بعض التحدیدات للشبهة غیر المحصورة، وانتهی الکلام إلی المیزان الثانی والثالث، السید الخوئی(قدّس سرّه) أورد علی المیزان الثالث، وقبل أن نذکر إیراد السید الخوئی(قدّس سرّه) علی المیزان الثالث، المیزان الأوّل الذی ذُکر وهو أن یجعل المیزان هو عسر العدّ، فکل ما کانت أطراف العلم الإجمالی بالغة من الکثرة بحیث یعسر عدّها تکون الشبهة غیر محصورة، وبالتالی لا یکون العلم الإجمالی منجّزاً.

الذی یُلاحظ علی هذا الکلام هو أنّه یُدخل عنصر العسر والحرج فی تعریف الشبهة غیر المحصورة، العسر والحرج من العد، عدّ الأطراف یکون فیه عسر وحرج، وهذا لا مدخل له فی کون الشبهة غیر محصورة لا تجب موافقتها القطعیة، أو لا تحرم مخالفتها القطعیة، لیس له علاقة بذلک، إنّما الذی له علاقة بوجوب الموافقة القطعیة، أو عدم وجوبها، وحرمة المخالفة القطعیة، أو عدم حرمتها هو شیء آخر لیس له علاقة بأن یعسر علیه عدّ الأطراف، أو لا یعسر علیه عدّ الأطراف. إقحام هذا فی تشخیص أنّ هذه الشبهة غیر محصورة، وبالتالی لا تحرم مخالفتها القطعیة، ولا یجب موافقتها القطعیة، هذا لیس له علاقة بهذه القضیة. مضافاً إلی أنّ هذا الشیء(یعسر عدّها) غیر منضبط، هل یعسر عدّها فی زمان خاص، أو فی جمیع الأزمنة ؟ فقد یکون عدد یعسر عدّه فی دقیقة، لکن لا یعسر عدّه فی نصف ساعة، هذا یختلف باختلاف الزمان وباختلاف الشخص، هذا لیس ضابطاً یمکن الاعتماد علیه فی تمییز الشبهة المحصورة عن الشبهة غیر المحصورة.

ص: 821

المیزان الثانی الذی ذُکر وهو أنّ المیزان هو عُسر مخالفتها القطعیة، أنّ الکثرة تبلغ إلی درجة بحیث یصعب علی المکلّف أن یخالف مخالفة قطعیة؛ لأنّها أفراد کثیرة جدّاً یصعب علیه المخالفة القطعیة.

ویُلاحظ علی هذا التحدید للعُسر والحرج أنّ هذا فیه إدخال لعاملٍ آخرٍ من عوامل سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، یعنی أننا نستعین بملاکٍ غیر الملاک الذی نتکلّم عنه موجبٍ لسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، ومن الواضح أنّ هذا الملاک لا یختص بالشبهة غیر المحصورة، یعنی بافتراض کثرة الأطراف؛ بل حتّی مع قلّة الأطراف، حتّی لو کان العلم الإجمالی له طرفان فقط، مع العسر والحرج یسقط وجوب الموافقة القطعیة، وتسقط حرمة المخالفة القطعیة بأدلّة العسر والحرج. إذن: یُستعان بملاکٍ لسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة لا یختص بمحل الکلام الذی هو عبارة عن کثرة الأطراف؛ لأنّ هذا الملاک یوجب السقوط حتّی فی الشبهات المحصورة. نحن نتکلّم عن بقاء العلم الإجمالی علی المنجّزیة، أو عدم بقائه علی المنجّزیة من حیث فقط کثرة الأطراف، بحیث لا نأخذ بالاعتبار سوی أنّ الأطراف کثیرة، هذا هل یجعل الشبهة غیر محصورة، وبالتالی یسقط العلم الإجمالی فیها عن المنجّزیة، أو لا ؟ هذا محل کلامنا. أمّا أن ندخل عوامل أخری فرغنا عن أنّها توجب سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة، کالعُسر والحرج، أو خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، هذا خُلف الفرض؛ لأنّ الکلام لیس فی ذلک الملاک، الکلام فی هذا الملاک، هذا الملاک فی حدّ نفسه هل هو صالح لأن یُسقط العلم الإجمالی عن التنجیز وهو کثرة الأطراف بما هی کثرة أطراف من دون أن نضم إلیها ملاکاً آخراً یقتضی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، المیزان الثانی کأنّه أدخل عنصراً آخراً، ذکر بأنّه إذا کانت الموافقة القطعیة للعلم الإجمالی تکون بالغة إلی درجة العُسر والحرج؛ حینئذٍ یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، هذا خروج عن محل الکلام؛ لأنّه قد ینطبق علی الشبهة المحصورة أیضاً کما هو واضح، فی بعض الأحیان قد تعسر الموافقة القطعیة لهذا العلم الإجمالی، الحکم الثابت فی موارد العسر والحرج أنّه یسقط، إذن: وجوب الموافقة لهذا التکلیف المعلوم بالإجمال، ذاک المعلوم بالتفصیل یسقط، أو حرمة المخالفة تسقط أیضاً مع افتراض العسر والحرج. هذا من جهة.

ص: 822

من جهة أخری أنّ العسر والحرج من قبیل الضرورات التی تُقدّر بقدرها، یعنی العسر والحرج یوجب سقوط التکلیف، لکن بمقدار ما یکون هناک عسر وحرج لا أنّه یوجب سقوط التکلیف مطلقاً، وإنمّا بمقدار ما یندفع به العسر والحرج، بینما المُدّعی فی المقام هو أنّه فی الشبهة غیر المحصورة یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز مطلقاً، لا أنّه یُراعی فیه بقاء العسر والحرج، أو ارتفاعه، وإنّما المدّعی فی المقام أنّه فی موارد الشبهة غیر المحصورة یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، فلا تحرم المخالفة القطعیة ولا تجب الموافقة القطعیة مطلقاً، بینما إذا کان المستند هو العسر والحرج، فلا بدّ أن یتقیّد بالمقدار الذی یندفع به العسر والحرج، نجوّز له المخالفة بالمقدار الذی یندفع به العسر والحرج، أمّا ما زاد علی ذلک فلا موجب للتجویز؛ لأنّه لا دلیل علی التجویز؛ لأنّ العسر والحرج ----------- بحسب الفرض ------------ اندفعا بهذا المقدار، والمقدار الباقی یجب فیه الاحتیاط، بینما المدّعی هو سقوط وجوب الاحتیاط مطلقاً، فهذه أیضاً ملاحظة أخری علی المیزان الثانی.

بالنسبة إلی المیزان الثالث، اختاره المحقق النائینی(قدّس سرّه) وذکر بأنّ عدم التمکن من ارتکاب جمیع الأطراف، یعنی عدم التمکّن من المخالفة القطعیة هو المیزان فی کون الشبهة غیر محصورة، فکل شبهةٍ تکثر أطرافها کثرة بحیث لا یتمکّن المکلّف عادةً من المخالفة القطعیة تکون شبهة غیر محصورة وتترتب علیها أحکام الشبهة غیر المحصورة من سقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة. تقدّم فی الدرس السابق کما نبّه علیه المحقق النائینی(قدّس سرّه) أنّ هذا المیزان یختص بالشبهات التحریمیة؛ لأنّ الشبهات التحریمیة هی التی تکون المخالفة القطعیة فیها بالارتکاب، وممکن تصوّر العسر والحرج فیها، أو عدم التمکن من ارتکاب جمیع الأطراف عندما تکون کثیرة، أمّا فی الواجبات، فالمخالفة القطعیة فی الواجبات تحصل بالترک، وهذا یمکن، یعنی لا یمکن افتراض العسر والحرج فیه إطلاقاً فی باب الواجبات؛ ولذا یختص هذا المیزان بالشبهات التحریمیة.

ص: 823

السید الخوئی(قدّس سرّه) أورد علی هذا المیزان بعدّة إیرادات، نتعرّض لها مختصراً:

الإیراد الأوّل: أنّ عدم التمکن من ارتکاب جمیع الأطراف فی الشبهات التحریمیة لا یُلازم کون الشبهة غیر محصورة، باعتبار أنّ هذا قد یتحقق مع قلّة الأطراف وکون الشبهة محصورة؛ إذ لا یتمکن المکلّف من المخالفة القطعیة فی شبهة محصورة، ویمثّل لذلک بما إذا علمنا بحرمة الجلوس فی أحد مکانین فی زمان واحد، عند الزوال یحرم علیه الجلوس إمّا فی هذا المکان، أو فی ذاک المکان، فلا یتمکن المکلّف من المخالفة القطعیة؛ لأنّه لیس بإمکانه أن یجلس فی مکانین فی وقتٍ واحد، فإذن: هنا لا یتمکن المکلّف من المخالفة القطعیة مع کون الشبهة محصورة، فإذن: عدم التمکّن من المخالفة القطعیة لا یکون میزاناً للشبهة غیر المحصورة؛ لأنّ هذا قد یتحقق فی الشبهات المحصورة.

لکن هذا الإیراد لا مجال للإیراد به علی المحقق النائینی(قدّس سرّه)؛ لأنّه هو نفسه ذکر بصریح العبارة فی أحد تقریریه (1) وأشار إلی ذلک فی التقریر الآخر، (2) ذکر أنّ مقصوده فی هذا المیزان هو عدم التمکّن من المخالفة القطعیة من جهة کثرة الأطراف، واعتبر فی الشبهة غیر المحصورة أمرین، الأمر الأوّل: کثرة الأطراف. الأمر الثانی: عدم التمکّن من المخالفة القطعیة، کلٌ منهما معتبر.

وبعبارةٍ أخری: هو یری أنّ المیزان هو عدم التمکّن من المخالفة القطعیة الناشئ من کثرة الأطراف ویعتبر هذا الأمر ویصرّح بذلک، ومن هنا لا یتوجّه هذا الإیراد علیه؛ لأنّ عدم التمکن فی الإیراد شیء وعدم التمکّن الذی یقصده شیء آخر، عدم التمکن فی الإیراد لیس ناشئاً من کثرة الأطراف، وإنّما هو ناشئ من خصوصیة فی المورد ولیس من کثرة الأطراف، بینما ما یعتبره هو میزاناً هو عدم التمکّن الناشئ من کثرة الأطراف، فهذا الإیراد لا یرد علی المحقق النائینی(قدّس سرّه).

ص: 824


1- فوائد الأصول، تقریر بحث النائینی للشیخ الکاظمی الخراسانی، ج 4، ص 118.
2- أجود التقریرات، تقریر بحث النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 275.

الإیراد الثانی: أنّ عدم القدرة علی المخالفة یختلف باختلاف المعلوم بالإجمال، فهو یختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف قلّة الزمان وکثرته وغیرها من الخصوصیات، فقد یتمکن شخص بینما لا یتمکن شخص آخر، وقد یتمکن شخص فی زمانٍ بینما لا یتمکن فی زمانٍ آخر قصیر، ومن هنا یقول هذا لا یمکن جعله ضابطاً کلّیاً.

یظهر أنّ المقصود بهذا الإیراد هو أنّ اختلاف التمکن وعدم التمکن باختلاف الأشخاص واختلاف المعلوم بالإجمال، هذا کأنّه یجعل عدم التمکّن الذی یکون میزاناً، وکذا التمکن المقابل له الذی هو بالضرورة یکون میزاناً للشبهة المحصورة، یجعل هذا المیزان میزاناً مبهماً وغیر واضح؛ لأنّه یختلف باختلاف کل هذه الخصوصیات، فلا یصلح جعله ضابطا ومیزاناً فی محل الکلام، للمنافاة بین کون الشیء میزاناً وضابطاً نمیّز به بین الشبهة المحصورة وبین الشبهة غیر المحصورة..... للمنافاة بینه وبین الإبهام وعدم الوضوح؛ لأنّ ما یکون میزاناً لابدّ أن یکون واضحاً حتّی یکون میزاناً، وعند تطبیقه نفهم أنّ هذه الشبهة محصورة، أو غیر محصورة، أمّا عندما یکون المیزان أمراً مبهماً ولیس واضحاً، فلا معنی لجعله میزاناً وضابطاً فی محل الکلام. الظاهر أنّ هذا هو المقصود من الإیراد الثانی.

إذا کان هذا هو المقصود من الإیراد الثانی؛ حینئذٍ یمکن أن یقال: أنّ هذا الاختلاف لا یوجب إبهاماً فی نفس مفهوم التمکن وعدم التمکن، والمقصود بعدم التمکّن هو عدم التمکّن العادی لا عدم التمکّن العقلی، فی عدم التمکّن العادی هذه الاختلافات فی الخصوصیات ترجع إلی جهة التطبیق ولیس لها علاقة بالمفهوم، فالمفهوم یبقی بیّناً وغیر مجمل ولیس فیه إبهام، لکنه یختلف فی التطبیقات، فما هو المحذور فی هذا ؟ أنّ المفهوم الواضح البیّن یختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، هذا لیس فیه محذور، کثیر من المفاهیم هی من هذا القبیل، تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، فرضاً مفهوم الاجتهاد، فأنّه یختلف باختلاف الأزمان بلحاظ مصادیقه، الاجتهاد فی زمان متقدّم غیر الاجتهاد فی زمان متأخّرٍ، مفهوم العلم کذلک یختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، والجمال أیضاً یختلف باختلاف الأشخاص والبقاع، وهکذا....الکثیر من المفاهیم، وهذا لا یعنی أنّ نفس المفهوم یصبح مبهماً وغیر واضح؛ بل المفهوم واضح وغیر مبهم وإن کان یختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، هذا الاختلاف لا یوجب أن یکون المفهوم نفسه مبهماً بحیث نقول أنّ هذا المفهوم غیر واضح ولیس معلوم ما هو المراد به؛ بل معلوم ما هو المراد به وهو عدم التمکن العادی، غایة الأمر أنّ عدم التمکّن العادی ولیس العقلی یختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، هذا لا یوجب الإبهام فی نفس المفهوم؛ وحینئذٍ لا یکون هناک محذور فی جعله میزاناً وضابطاً کلّیاً فی محل الکلام بتخیّل أنّ هذا یوجب الإبهام فی نفس المفهوم .

ص: 825

الإیراد الثالث: أنّ عدم التمکّن من المخالفة القطعیة إذا أرید به عدم التمکن منها دفعة، فهذا یرد علیه أنّه لیس میزاناً للشبهة غیر المحصورة؛ لأنّه یتحقق فی بعض الشبهات المحصورة أیضاً، فی الشبهات المحصورة المکلّف غیر متمکن من المخالفة القطعیة دفعةً، کما فی مثال حرمة الجلوس فی أحد مکانین فی زمانٍ واحد، هو غیر متمکن من المخالفة القطعیة دفعةً، إذن، هذا لیس ضابطاً للشبهة غیر المحصورة؛ لأنّ عدم التمکّن من المخالفة القطعیة دفعة کما یتحقق فی الشبهة غیر المحصورة أیضاً یتحقق فی الشبهة المحصورة. وإن أرید به عدم التمکّن من المخالفة القطعیة ولو تدریجاً، فرضاً فی ضمن سنة هو غیر متمکن من المخالفة القطعیة، ویخرج بهذا مثال الجلوس فی مکانین؛ لأنّه متمکّن من المخالفة القطعیة تدریجاً، بأن یجلس فی هذا المکان لدقیقة، ثمّ یقوم ویجلس فی المکان الآخر، فإذا کان هذا هو المراد؛ فحینئذٍ یرد علیه أنّ کثیر من الشبهات غیر المحصورة یتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، ولو تدریجاً، بمعنی أنّ هذا المیزان سوف لن یحصر کل الشبهات غیر المحصورة؛ لأنّ کثیر من الشبهات غیر المحصورة یتمکّن المکلّف من المخالفة القطعیة، ولو تدریجاً، هو یعلم بأنّ هناک لحم مغصوب فی هذه المدینة، هو لا یتمکّن من المخالفة القطعیة دفعةً، لکن هل یتمکّن من المخالفة القطعیة تدریجاً ؟ السید الخوئی(قدّس سرّه) یقول یتمکّن.

الملاحظة علیه هی: أنّ المقصود هو عدم التمکّن من المخالفة القطعیة ولو تدریجاً، وکثیر من الشبهات لا یتمکن المکلّف من المخالفة القطعیة التدریجیة فیها. صحیح بعض الشبهات یتمکن المکلّف من المخالفة التدریجیة فیها، لکن بعض الشبهات غیر المحصورة لا یتمکن المکلّف من المخالفة التدریجیة فیها، فیصح الضابط الذی ذکره المحقق النائینی(قدّس سرّه) ویتحقق فی هذه الشبهات، کما فی المأکولات وفی الملبوسات وفی المشروبات؛ لأنّ المکلّف لا یتمکّن من المخالفة القطعیة التدریجیة، هو یعلم بأنّ هناک لحماً مغصوباً فی ضمن أسواقٍ فی هذه المدینة، هو لا یتمکّن من المخالفة القطعیة دفعةً، وأیضاً لا یتمکن من المخالفة القطعیة التدریجیة؛ لأنّ هذا اللّحم لا یبقی، وإنّما ینفذ ولو لعدم بقاء بعض اللّحوم التی هی أطراف للعلم الإجمالی، عدم بقائها، أو استعمالها أو طرو ما یزیل العلم الإجمالی عن بعض الأطراف بعد ذلک، کلّ هذا یوجب أنّ المکلّف لا یتمکن من المخالفة القطعیة التدریجیة، فیتحقق هذا الضابط الذی یقوله.

ص: 826

نعم، بعض الشبهات غیر المحصورة یصح فیها ذلک، أنّ المکلّف بالنتیجة یتمکّن من ارتکاب جمیع الأطراف فی ضمن سنة، أو أکثر، إذا علم أنّ هناک بیت من بیوت النجف ---------- مثلاً ---------- وقف مغصوب، یتمکّن من المخالفة القطعیة فی ضمن سنة؛ لأنّ هذه أمور ثابتة لا تتغیّر ولا تزول، لکن فی کثیر من أمثلة العلم الإجمالی فی الشبهات غیر المحصورة عدم التمکّن موجود، ولو تدریجاً هو لا یتمکّن من المخالفة القطعیة، ولو لزوال الأطراف، ولو لزوال العلم الإجمالی فی الأطراف عندما یکون الارتکاب تدریجی، هو لا یتمکّن من المخالفة القطعیة، فیتحقق المیزان فی مثل هذه الموارد.

المیزان الرابع: وهو ما نُسب إلی الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، (1) حیث جعل المیزان فی الشبهة غیر المحصورة هو ما کان احتمال التکلیف فی کلّ واحدٍ من أطرافه موهوم، الکثرة تصل إلی درجةٍ بحیث یکون احتمال التکلیف فی کل واحدٍ من الأطراف احتمالاً موهوماً جدّاً؛ وحینئذٍ تتحقق الشبهة غیر المحصورة وتترتّب آثار، أو أحکام الشبهة غیر المحصورة علی ذلک، والسرّ هو أنّه کلّما کثرت الأطراف کلّما کان احتمال انطباق التکلیف المعلوم بالإجمال بعد تساوی نسبته إلی کل الأطراف، احتمال انطباقه علی هذا الطرف أقل، وکلّما قلّت الأطراف یکون احتمال انطباق وتحقق المعلوم بالإجمال فی کل طرفٍ احتمالاً أکبر، فإذا بلغت الکثرة إلی درجة کبیرة جدّاً؛ حینئذٍ یکون احتمال انطباق التکلیف المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف، یعنی بعبارةٍ أخری احتمال انطباق التکلیف علی هذا الطرف یکون احتمالاً موهوماً، یعنی یحصل الظن أو الاطمئنان بعدمه فی هذا الطرف وفی ذاک الطرف ....وهکذا، وهذا یوجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز وبالتالی یوجب کون الشبهة غیر محصورة وبالتالی تترتب آثار وأحکام الشبهة غیر المحصورة.

ص: 827


1- نسبه المیرزا النائینی فی أجود التقریرات، ج 2، ص 276.

وأورد علیه: قیل بأنّ هذا المیزان إنّما یکون تامّاً إذا فرضنا أنّ احتمال التکلیف فی کل طرف نتیجةً لکثرة الأطراف وصل إلی درجة بحیث یحصل الاطمئنان بعدم التکلیف فی ذاک الطرف؛ لأنّ احتمال التکلیف إذا ضعف یقوی فی مقابله احتمال عدم التکلیف، فإذا ارتفع احتمال عدم التکلیف إلی درجةٍ بحیث یصل إلی حد الاطمئنان، فیحصل اطمئنان بعدم التکلیف، إذا حصل اطمئنان بعدم التکلیف؛ حینئذٍ لا مشکلة فی أن نلتزم بعدم التنجیز؛ لأنّ هذا الاطمئنان حجّة عقلائیة ممضاة من قبل الشارع، فهی حجّة عقلائیة وشرعیة، وهذه الحجّة قامت علی عدم التکلیف فی هذا الطرف، فیجوز ارتکاب هذا الطرف؛ لقیام الحجّة علی عدم التکلیف فیه، فلا مشکلة فی ارتکاب هذا الطرف، وهکذا الطرف الآخر ......وهکذا، فیصح هذا الکلام.

وأمّا إذا فرضنا أنّ ضعف الاحتمال لم یبلغ إلی هذه الدرجة، ولم یوجب حصول الاطمئنان بعدمه، وإنّما غایة ما یوجبه هو حصول الظن، ولو کان ظنّاً قویاً بعدمه؛ حینئذٍ لا یصح هذا الکلام، کیف نجوّز لهذا العالم بالإجمال أن یرتکب هذا الطرف والمفروض أنّه عنده علم إجمالی، ولا مؤمّن عنده ؟ لأنّ الظنّ الذی لم یقم دلیل علی اعتباره لیس مؤمّناً، لا عقلائیاً هو مؤمّن ولا الشارع جعله مؤمّناً؛ فحینئذٍ کیف نسوّغ له ارتکاب هذا الطرف والحال أنّ هناک ما ینجّز التکلیف فی هذا الطرف وهو العلم الإجمالی ؟ وإنّما نسوّغ له الارتکاب عندما یحصل علی مؤمّن، والمؤمّن هو الاطمئنان بعدم التکلیف، فإذا لم یوجب الاطمئنان بعدم التکلیف، فلا اعتبار به.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

ص: 828

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

ما ذکرنا هو أهم الوجوه التی ذُکرت فی مقام تحدید الشبهة غیر المحصورةفی مقام بیان ما هو المیزان فی الشبهة غیر المحصورة فی مقابل الشبهة المحصورة. أهم الوجوه هی ما ذکرناه.

ولکن الصحیح فی هذا الصدد هو أن یقال: من الواضح أنّ عنوان الشبهة غیر المحصورة لم یرد فی شیء من الأدلّة، لیس هناک نص واحد ذُکر فیه عنوان الشبهة غیر المحصورة؛ ولذا لا ضرورة ولا حاجة إلی البحث عن مفهوم هذا العنوان؛ لأنّه لم یرد فی شیء من الأدلّة، وإنّما الموجود عندنا هو العلم الإجمالی ومنجّزیة العلم الإجمالی لحرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة، وأیضاً من الأمور الواضحة أنّ هذا العلم الإجمالی لا یکون منجّزاً فی موارد محددّة اتفقوا علیه وسیأتی البحث فیها، أنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة فی موارد معیّنة، هذا أیضاً لا إشکال فیه من قبیل خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، والاضطرار إلی ارتکاب بعض الأطراف ----------- مثلاً ---------- والعسر والحرج أیضاً، هذه أمور یسقط فیها العلم الإجمالی عن المنجّزیة.

الکلام یقع فی أنّ کثرة الأطراف بماهی کثرة أطراف من دون أن نضمّ إلی هذه الکثرة سبب سقوط المنجّزیة عن العلم الإجمالی، کثرة الأطراف بما هی کثرة أطراف هل توجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز مطلقاً، أو بالتفصیل بین حرمة المخالفة القطعیة وبین وجوب الموافقة القطعیة، أو أنّها لا توجب سقوطه ؟ الکلام یقع فی هذا؛ ولذا لابدّ فی محل الکلام أن نستبعد مسألة الوقوع فی العسر والحرج، ونستبعد مسألة خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء، ومسألة الاضطرار إلی بعض الأطراف، بقطع النظر عن هذه کلّها کثرة الأطراف هل توجب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، أو لا ؟ علم إجمالی فرغنا عن أنّه ینجّز حرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة، هذا عندما تکون الأطراف قلیلة، ولکن عندما تکون أطرافه کثیرة هل یبقی علی تنجیزه لحرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة، أو یسقط عن هذا التنجیز ؟ الکلام فی هذا، سواء سمّیناها شبهة غیر محصورة، أو لم نسمّها شبهة غیر محصورة، کثرة الأطراف هل هی سبب من أسباب سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، أو لا ؟ وإذا فرغنا عن أنّها سبب من أسباب السقوط؛ حینئذٍ لابدّ أن نبحث عن مقدار الکثرة التی یتحقق بها سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز.

ص: 829

وبعبارة ثانیة: نستطیع أن نقول: هل هناک دلیل یدلّ علی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز ؟ لأنّه علم إجمالی ولا یمکن إنکار ذلک، أو أنّ المفروض فی محل کلامنا هو وجود علم إجمالی بلا إشکال، هل هناک دلیل یدلّ علی أنّ هذا العلم الإجمالی عندما تکون أطرافه کثیرة یسقط عن المنجّزیة، ولا یحکم العقل بتنجیزه لحرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة، أو یوجد عندنا دلیل ؟ الکلام ینبغی أن یقع فی هذا؛ ولذا لابدّ أن ندخل فی تفاصیل هذا البحث، ما هی الوجوه التی ذُکرت لسقوط العلم الإجمالی عن التنجیز عندما تکون أطرافه کثیرة ؟ لابدّ من استعراض هذه الوجوه، بقطع النظر عن عنوان(الشبهة غیر المحصورة) وما هو مفهومه وما هی تحدیداته ؟ ولذا نستعرض هذه الوجوه:

الوجه الأوّل: الذی استُدل به علی سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز، بلا أن ندخل فی تفاصیل سقوط العلم الإجمالی عن تنجیز حرمة المخالفة القطعیة ووجوب الموافقة القطعیة، أو یسقطه عن أحدهما فقط، نؤخّر هذا الکلام الآن، بالنتیجة الدلیل الأوّل الذی استُدلّ به علی أنّ العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة عندما تکون أطرافه کثیرة لیس حاله حال العلم الإجمالی عندما تکون أطرافه قلیلة، هناک ینجّز ولا إشکال فی تنجیزه، بینما هنا یسقط عن التنجیز، وهل سقوطه مطلقاً، أو بالتفصیل ؟ هذه مسألة نؤخّر بحثها. الدلیل الأوّل هو الذی تقدّم نقله عن الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، حیث یظهر من کلامه بأنّه ذکر أنّ غیر المحصور هو ما بلغ من الکثرة إلی حیث لا یعتنی العقلاء بالعلم الإجمالی الحاصل فی تلک الوقایع، فی عبارة أخری یحدّد الوجه أکثر ویقول: أنّ کثرة الأطراف توجب عدم الاعتناء بالضرر المعلوم وجوده بین المحتملات. (1) وهذا هو الذی أشرنا إلیه فی الدرس السابق من أنّه یرید أن یقول أنّ کثرة الأطراف بطبیعة الحال توجب ضعف احتمال التکلیف فی کلّ طرف، أن یکون احتمال التکلیف فی هذا الطرف احتمالاً ضعیفاً، وکلّما کثرت الأطراف التی یتردّد المعلوم بالإجمال بینها یضعف الاحتمال فی کل طرف، فإذا بلغت الکثرة إلی درجةٍ بحیث أصبح احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی هذا الطرف احتمالاً موهوماً لا یعتنی به العقلاء؛ حینئذٍ تتحقق الشبهة غیر المحصورة ویُحکم بعدم منجّزیة ذلک العلم الإجمالی. هو لم یذکر أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علی کل طرف عندما یصیر احتمالاً موهوماً، قهراً وبالضرورة یکون احتمال عدم الانطباق علی ذاک الطرف یکون واصلاً إلی درجة الاطمئنان، وهذا الاطمئنان اطمئناناً معتبراً وحجّة ومؤمّن عند العقلاء، وبضمیمة عدم الردع یثبت أنّه مؤمّن شرعی.

ص: 830


1- فرائد الأصول، الشیخ الأنصاری، ج 2، ص 263.

إذن: هذا الطرف عندما یأتی إلیه المکلّف لدیه اطمئنان بعدم انطباق المعلوم بالإجمال علیه، وهذا الاطمئنان مؤمّن عقلاً وشرعاً، فبإمکانه أن یُقدِم ویرتکب ذلک الطرف.

هذا الطرح للشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) وتخریج جواز الارتکاب وسقوط العلم الإجمالی عن المنجّزیة علی الأقل بمقدار وجوب الموافقة القطعیة، سقوط العلم الإجمالی عن تنجیزه لوجوب الموافقة القطعیة یتم علی اساس أنّ احتمال التکلیف فی کل طرف یکون موهوماً، فیحصل الاطمئنان بعدمه والاطمئنان حجّة. هناک عدّة اعتراضات علی هذا الوجه:

الاعتراض الأوّل: وهذا الاعتراض مذکور فی کلمات کثیر من المحققین؛ لأنّهم اهتموا بهذا الوجه الذی ذکره الشیخ(قدّس سرّه)، حاصل هذا الاعتراض: قالوا بأنّ الاطمئنان إنّما یکون حجّة فی غیر المقام، الاطمئنان یکون حجّة فی الأغراض الدنیویة التی لا یکون هناک أهمیة خاصّة للمحتمل فیها، المحتمل فی تلک الموارد لیس له أهمیة خاصّة؛ فحینئذٍ قالوا: إذا حصل اطمئنان بالعدم، هذا الاطمئنان یکون معتبراً وحجّة عند العقلاء ویعملون به. أمّا إذا فرضنا أنّ المحتمل فی تلک الموارد کان علی درجة من الأهمّیة، نعم، احتماله ضعیف وعلی خلافه الاطمئنان، لکنّ المحتمل قوی وله درجة من الأهمیة، فی هذه الحالة لا نعترف بأنّ هناک بناءً علی العمل بالاطمئنان عندما یکون المحتمل مهمّاً من قبیل الدماء، حتّی لو کان الاحتمال ضعیفاً، لکن هذا لا یبررّ الإقدام عندما یکون المحتمل مهمّاً وقویاً، لیس هناک بناء علی العمل بالاطمئنان حتّی فی هکذا موارد، الموارد الأخری من الأغراض الدنیویة یمکن البناء علی الاطمئنان؛ لأنّ المحتمل لیس له تلک الدرجة من الأهمّیة؛ حینئذٍ یقال: فی محل الکلام المحتمل هو العقاب والضرر الأخروی، بالنتیجة هو یعتمد علی اطمئنانه بعدم الانطباق علی هذا الطرف فی إقدامه علی ارتکاب هذا الطرف والإتیان به، لکن یوجد احتمال ولو کان ضعیفاً، بأنّ التکلیف موجود فی هذا الطرف، وهذا التکلیف الموجود فی هذا الطرف مع العلم به، ولو إجمالاً یترتب علیه ضرر أخروی، فالمحتمل هو المخالفة التی فیها ضرر أخروی، مثل هذا المحتمل الذی له درجة کبیرة من الأهمّیة ولا یکون الاطمئنان مسوّغاً للوقوع فیه؛ بل فی هذه الحالة الاطمئنان لا یکون مورداً للعمل؛ بل العقلاء یعتنون بالاحتمال الضعیف إذا کان المحتمل قویاً. ما نحن فیه المحتمل هو العقاب، وهذا له أهمیّة کما هو واضح، ولیس حاله حال المنافع الشخصیة والدنیویة، فالاحتمال ولو کان ضعیفاً، ولو علی خلافه الاطمئنان، لکن ما دام المحتمل مهمّاً وقویاً، فلا بناء علی العمل بالاطمئنان وعدم الاعتناء بهذا الاحتمال ولو کان ضعیفاً، وبحسب تعبیر السیّد الخوئی(قدّس سرّه) یقول: أنّ احتمال التکلیف حتّی إذا کان ضئیلاً، لوجود الاطمئنان علی عدمه فی هذا الطرف، هو یساوق احتمال العقاب (1) کما هو الحال فی کل احتمال تکلیف، احتمال التکلیف یعنی احتمال العقاب علی المخالفة. إذن: احتمال التکلیف ولو کان ضعیفاً یعنی احتمال العقاب بتلک الدرجة من الضعف، هذا العقاب له أهمّیة خاصّة، ولیس هناک بناء علی العمل بالاطمئنان وعدم الاعتناء بالاحتمال الضعیف للعقاب؛ لأنّ العقاب هو الملاک فی تنجّز التکلیف ما لم یحصل مؤمّن ولو کان هذا الاحتمال احتمالاً ضعیفاً.

ص: 831


1- مصباح الأصول، تقریر بحث السیّد الخوئی للسید محمد سرور الواعظ الحسینی، ج 2، ص 373.

ویُجاب عن هذا الاعتراض: بأنّ هذا الاعتراض إنّما یرد علی الوجه الذی ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) عندما نفترض أنّ مقصوده بهذا الوجه هو التمسّک بالاطمئنان بعدم العقاب، عندما یرید أن یصل إلی النتیجة، وهی تسویغ الإقدام علی هذا الطرف والأطراف الأخری تمسّکاً بالاطمئنان بعدم العقاب، بدعوی أنّ احتمال التکلیف فی هذا الطرف لمّا کان ضعیفاً وموهوماً، فیحصل اطمئنان بعدم التکلیف فی هذا الطرف، والاطمئنان بعدم التکلیف فی هذا الطرف یساوق الاطمئنان بعدم العقاب، فیتمسّک بالاطمئنان بعدم العقاب للإقدام علی هذا الطرف. لو کان هذا هو مقصوده؛ فحینئذٍ یمکن أن یرد علیه هذا الاعتراض؛ لأنّه یقال له: حتّی لو فرضنا وجود اطمئنان بعدم العقاب، لکن احتمال العقاب موجود بدرجةٍ ضئیلة، فیقال حینئذٍ: حتّی لو کان احتمال العقاب ضعیفاً، لکنّ المحتمل الذی هو العقاب مهم، وله درجة من الأهمّیة، فحتّی لو کان احتماله ضعیفاً لکنّه ممّا یعتنی به العقلاء، فکیف تتمسّک بالاطمئنان بعدم العقاب لتسویغ وتجویز الدخول فی هذه الشبهة ؟

وأمّا إذا فرضنا أنّ الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) لیس هذا مقصوده، وإنّما هو یرید أن یقول بأنّ احتمال التکلیف فی هذا الطرف لمّا کان موهوماً وضعیفاً قهراً یحصل الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، وأنّ هذا الاطمئنان بعدم الانطباق مؤمّن عند العقلاء وبعدم الردع یکون مؤمّناً شرعیاً؛ وحینئذٍ نقطع بعدم العقاب، مع وجود المؤمّن العقلی والشرعی یقطع المکلّف بعدم العقاب؛ وحینئذٍ لا یوجد احتمال العقاب احتمالاً ضعیفاً، فیرِد الکلام السابق من أنّه کیف تلغی الاحتمال الضعیف للعقاب ولا تعتنی به وتعتمد علی الاطمئنان بعدم العقاب ؟! ولکن، هو لا یعتمد علی الاطمئنان بعدم العقاب ولا یعتنی باحتمال العقاب الضعیف، وإنّما هو یرید أن یصل إلی نتیجة القطع بعدم العقاب، باعتبار أنّ الاطمئنان حجّة ومؤمّن ومعتبر، ومع وجود المؤمّن؛ حینئذٍ یُقطع بعدم العقاب؛ فحینئذٍ لا یرد علیه هذا الاعتراض؛ لأنّه لا یرید أن یتمسّک بالاطمئنان بعدم العقاب حتّی یقال مادام هناک درجة ولو ضعیفة من العقاب، هذا الاحتمال ولو کان ضعیفاً یکون منجّزاً؛ لأنّ المحتمل مهم، وإنّما یرید أن یتمسّک بالنتیجة بالقطع بعدم العقاب، باعتبار أنّ هناک اطمئناناً بعدم التکلیف، والتکلیف موهوم فی هذا الطرف وهناک اطمئنان بعدمه، العقلاء بنوا علی هذا الاطمئنان وجعلوه مؤمّناً کالعلم بعدم التکلیف، وهذا معناه حصول القطع بعدم العقاب، ومع وجود المؤمّن یحصل القطع بعدم العقاب، ومن هنا، فالظاهر أنّ الاعتراض الأوّل لا یرد علی الوجه الذی ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) إذا فسّرنا کلامه بهذا التفسیر الأخیر.

ص: 832

الاعتراض الثانی: وهذا الاعتراض موجود أیضاً فی کلمات کثیر من المحققین وینقله المرحوم الشیخ الحلّی(قدّس سرّه)، عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) فی تقریرات بحثه، ویقول أنا کتبت عنه هذا المعنی، وإن کان الظاهر أنّه غیر موجود فی أجود التقریرات ولا فی فوائد الأصول، وموجود أیضاً فی درر الفوائد للشیخ عبد الکریم الحائری(قدّس سرّه)، (1) حاصل هذا الجواب هو المنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق علی کل طرف؛ إذ لا یحصل الاطمئنان بعدم الانطباق علی کل طرف، کان التخریج لکلام الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) هو أنّ احتمال التکلیف فی کل طرفٍ یکون موهوماً، فیحصل اطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرف، وهذا الاطمئنان معتبر وحجّة........الخ. الاعتراض الثانی یقول: نمنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرف؛ بل وجود الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرف محال، أصلاً یستحیل افتراض وجود الاطمئنان بعدم الانطباق علی کل طرف من أطراف العلم الإجمالی؛ لأنّ الأطراف ------------ بحسب الفرض ------------ کلّها متساویة فی هذا الاطمئنان ولیس هناک شیء یمیّز هذا الطرف عن ذاک الطرف؛ لأنّ فی هذا الطرف یوجد اطمئنان بعدم الانطباق فیه، وفی ذاک الطرف أیضاً یوجد اطمئنان بعدم الانطباق فیه، فالأطراف متساویة فی أنّها تستحق هذا الانطباق؛ حینئذٍ إذا فرضنا وجود اطمئنانات متعدّدة بعدم الانطباق بعدد أطراف العلم الإجمالی الکثیرة؛ حینئذٍ هذا محال؛ لأنّ هذه الاطمئنانات الفعلیة بعدم الانطباق فی جمیع أطراف العلم الإجمالی تکون مناقضة ومنافیة للعلم الإجمالی بالانطباق فی بعض هذه الأطراف؛ إذ کیف یمکن الجمع بین اطمئنانات متعددّة بعدد أطراف العلم الإجمالی بعدم الانطباق ؟! هذا الطرف هناک اطمئنان بعدم الانطباق فیه، وذاک الطرف أیضاً ......وهکذا کلّ الأطراف، إذن: أین صار العلم الإجمالی بالانطباق ؟! أین صار العلم الإجمالی بوجود التکلیف، والعلم الإجمالی بوجود الحرام، أو النجاسة فی هذه الأطراف ؟! الاطمئنانات المتعدّدة بعدم الانطباق إذا کانت موجودة فی جمیع الأطراف، فأنّها تناقض العلم الإجمالی بالانطباق فی بعض هذه الأطراف؛ لوضوح المناقضة والمنافاة بین الموجبة الجزئیة وبین السالبة الکلّیة، فالموجبة الجزئیة الحاصلة بالعلم الإجمالی، وهی أننا نعلم بالانطباق فی الجملة، علی بعض الأطراف، تنافی وتناقض السالبة الکلّیة الحاصلة نتیجة تجمیع هذه الاطمئنانات بعدم الانطباق فی جمیع الأطراف؛ لأنّ معنی تجمیع هذه الاطمئنانات بعدم الانطباق فی جمیع الأطراف أن نحصل علی هذه النتیجة: وهی عدم الانطباق فی هذه الأطراف، أو قل: هناک اطمئنان بعدم الانطباق فی جمیع الأطراف، وهذا یناقض العلم بالانطباق فی بعض هذه الأطراف؛ لأنّ السالبة الکلیة تنافی وتناقض الموجبة الجزئیة، وحتّی لو فرضنا أنّ الحاصل هو الظنّ بعدم الانطباق ولیس الاطمئنان به، مع ذلک هو أیضاً لا یجتمع مع الانطباق بنحو الموجبة الجزئیة، من غیر الممکن أن یظنّ المکلّف بعدم الانطباق فی جمیع هذه الأطراف مع علمه بالانطباق بنحو الموجبة الجزئیة؛ بل حتّی احتمال عدم الانطباق فی جمیع الأطراف أیضاً یناقض العلم بالانطباق فی الجملة، کیف تعلم بالانطباق فی الجملة وفی کل طرف أنت تحتمل عدم الانطباق ؟! فالسالبة الکلّیة لا تجتمع مع الموجبة الجزئیة، سواء کان هناک اطمئنان بالسالبة الکلّیة، أو کان هناک ظنّ بالسالبة الکلّیة، أو کان هناک احتمال السالبة الکلّیة، کلّ ذلک لا یجتمع مع الموجبة الجزئیة، فکیف تقول أنّ هناک اطمئنان فی کل طرف من أطراف العلم الإجمالی بعدم الانطباق ؟!

ص: 833


1- درر الفوائد، الشیخ عبد الکریم الحائری، ج 2، ص 125.

إذن: نمنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی .

وأجیب عن هذا الاعتراض بالنقض بأمرین:

الأمر الأوّل: مذکور فی کلمات السیّد الشهید(قدّس سرّه) (1) وهو النقض بالشک فی الأطراف، یعنی الشکّ فی الانطباق وعدمه فی کل طرف، وهذا موجود قهراً، فعلی الأقل المکلّف یشکّ فی أنّ المعلوم بالإجمال ینطبق علی هذا الطرف، أو لا ینطبق، وکذلک فی الطرف الثانی أیضاً یوجد شکّ فی الانطباق وعدمه، ولنعبّر عن الشک بالاحتمال، یقول: احتمال عدم الانطباق فی هذا الطرف، واحتمال عدم الانطباق فی الطرف الثانی، واحتمال عدم الانطباق فی الطرف الثالث ......وهکذا جمیع الأطراف، هذا أیضاً لا یجتمع مع العلم الإجمالی بالانطباق فی بعض هذه الأطراف؛ لما قلناه قبل قلیل من أنّ الموجبة الجزئیة لا تجتمع مع السالبة الکلّیة، سواء کان هناک اطمئنان بالسالبة الکلّیة، أو ظنّ بها، أو احتمالها؛ إذ لا یجوز الشکّ فی الانطباق وعدمه فی جمیع الأطراف مع العلم بالانطباق فی بعض هذه الأطراف، یقول: هذا نقض؛ لأنّ هذا الشیء موجود فی کل العلوم الإجمالیة، بالنتیجة فی کل علمٍ إجمالی لابدّ أن یکون هناک شکّ فی هذا الطرف، علی الأقل هناک شک فی هذا الطرف، ولا یمکن إنکار هذا، فحتّی لو فرضنا عدم وجود اطمئنان، لکن ماذا تقول فی الشکّ ؟ لا یمکن إنکار أنّ هناک شکّاً فی الانطباق وعدمه فی کل طرف، شکّ فی ثبوت التکلیف فی هذا الطرف وعدم ثبوته، بحیث المکلّف یحتمل عدم الانطباق وفی الثانی یحتمل عدم الانطباق، وفی الثالث أیضاً یحتمل عدم الانطباق .....وهکذا فی کل الأطراف الألف، مجموع هذه الاحتمالات الألف سوف یؤدی إلی احتمال عدم الانطباق فی جمیع الأطراف، فالمکلّف یحتمل عدم الانطباق فی جمیع هذه الأطراف، أو قل: یشکّ فی الانطباق فی جمیع هذه الأطراف، هذا أیضاً لا یُعقل أن یجتمع مع الموجبة الجزئیة، لا یُعقل أن یجتمع مع العلم بالانطباق فی بعض هذه الأطراف، فما یکون به الجواب عن هذا یکون به الجواب عن محل الکلام.

ص: 834


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 230 -- 231.

الأمر الثانی: ولعلّه یمکن إرجاعه إلی النقض الأوّل، وهو النقض بالشبهة المحصورة، فی الشبهة المحصورة هناک طرفان، إذا لم نفترض عوامل خاصّة، قهراً سوف یکون هناک شکّ فی هذا الطرف فی انطباق المعلوم بالإجمال علیه، وفی الطرف الثانی أیضاً یوجد شک، فإذن: احتمال عدم الانطباق موجود فی هذا الطرف، وموجود فی الطرف الثانی أیضاً. إذا کان مجموع الاحتمالین یؤدّیان إلی احتمال عدم الانطباق فی الجمیع، کما هو المُدّعی، بحیث یصبح المکلّف یحتمل عدم الانطباق فی الطرفین هذا أیضاً ینافی العلم الإجمالی بالانطباق فی أحدهما، وهذا لیس شیئاً مختصاً بالشبهات غیر المحصورة.

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی الاعتراض الثانی عن الدلیل الأوّل الذی ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه)، وکان خلاصته المنع من حصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرف؛ بل یستحیل حصول هذا الاطمئنان؛ لأنّ افتراض حصول هذا الاطمئنان بعدم الانطباق فی جمیع الأطراف یعنی الاطمئنان بعدم الانطباق فی الجمیع، وهذه سالبة کلّیة تنافی الموجبة الجزئیة المستفادة من نفس العلم الإجمالی بالانطباق فی بعض الأطراف، فیستحیل افتراض حصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرف من أطراف العلم الإجمالی. أورد علیه بالنقض وتقدّم الکلام فیه.

وأجیب عنه بالحل، ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) فی مقالاته، (1) وحاصل ما یمکن أن یُذکر فی مقام الحل هو أن یقال: أنّ هذه القضیة إنّما تکون متحققة حینما نفترض أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ ثابت علی نحو الإطلاق، بمعنی أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ ثابت حتّی علی تقدیر عدم الانطباق فی الأطراف الأخری؛ حینئذٍ لا إشکال فی أنّ الاطمئنان الموجود فی هذا الطرف والاطمئنان الموجود فی ذاک الطرف بعد فرض أنّ کل واحدٍ منها ثابت بالإطلاق وحتّی علی تقدیر عدم الانطباق فی الأطراف الأخری، لا إشکال أنّ مجموع هذه الاطمئنانات فی الأطراف یوّلد الاطمئنان بعدم الانطباق فی الجمیع، والاطمئنان بعدم الانطباق فی الجمیع هو عبارة عن السالبة الکلّیة التی لا تجتمع مع الموجبة الجزئیة.

ص: 835


1- مقالات الأصول، المحقق العراقی، ج 2، ص 242.

وأمّا إذا فرضنا أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرفٍ لیس ثابتاً بنحو الإطلاق، وإنّما هو ثابت، لکن علی تقدیر الانطباق فی الأطراف الأخری، فی مثل هذه الحالة لا یصح الکلام السابق؛ لأنّ مجموع هذه الاطمئنانات الموجودة فی کل طرف وجوداً فعلیاً لا یؤدی إلی الاطمئنان بعدم الانطباق فی الجمیع، حتّی یحصل الاطمئنان بالسالبة الکلّیة المنافیة للموجبة الجزئیة؛ لأنّ کل اطمئنانٍ من هذه الاطمئنانات هو اطمئنان مقیّد، اطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف علی تقدیر الانطباق فی الأطراف الأخری ولیس ثابتاً ثبوتاً مطلقاً، ومن الواضح أنّ الاطمئنان المقید الموجود فی هذا الطرف زائداً الاطمئنان المقید الموجود فی الطرف الثانی وفی الطرف الثالث وفی الرابع وفی الخامس..... وهکذا، لا یکاد ینتج حصول الاطمئنان عند المکلّف بعدم الانطباق فی الجمیع، أی لا ینتج الاطمئنان فی السالبة الکلّیة؛ لأنّ المفروض أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف إنّما حصل ونشأ مع افتراض الانطباق فی الأطراف الأخری، فهذا اطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، لکن هو توّلد نتیجة افتراض الانطباق فی غیره، الاطمئنان فی الطرف الآخر أیضاً اطمئنان بعدم الانطباق موجود فعلیاً فیه، لکنّه اطمئنان توّلد بافتراض الانطباق فی الأطراف الأخری، وهکذا فی کل طرفٍ من الأطراف، مجموع هذه الاطمئنانات المقیّدة والثابتة علی تقدیر الانطباق فی الأطراف الأخری، لا ینتج بالضرورة حصول الاطمئنان عند الإنسان بعدم الانطباق فی الجمیع، لا یستطیع الإنسان أن یقول بأنّی مطمئن بعدم الانطباق فی الجمیع؛ لأنّ الاطمئنان لیس ثابتاً فی کل طرفٍ علی نحو الإطلاق، وإنّما هو ثابت فی کل طرفٍ بنحو التقیید، فی موارد الشبهة المحصورة، مورد النقض السابق المسألة واضحة، کان النقض هو أنّه عندما یکون هناک طرفان للعلم الإجمالی لا إشکال فی أنّ احتمال عدم الانطباق فی هذا الطرف ثابت بالوجدان، واحتمال عدم الانطباق فی هذا الطرف أیضاً، احتمال عدم الانطباق فی هذا الطرف إنّما یکون ثابتاً علی تقدیر الانطباق فی الطرف الآخر، إذن احتمال عدم الانطباق فی هذا الطرف لیس ثابتاً ثبوتاً مطلقاً، یعنی لا یثبت احتمال عدم الانطباق حتّی علی تقدیر عدم الانطباق فی الطرف الآخر؛ بل احتمال الانطباق فی الطرف الآخر هو الذی یوّلد احتمال عدم الانطباق فی هذا الطرف، إذن: احتمال عدم الانطباق فی هذا الطرف ثابت ثبوتاً مقیداً کما أنّ احتمال عدم الانطباق فی الطرف الآخر أیضاً ثابت ثبوتاً مقیداً، الجمع بین مثل هذین الاحتمالین لا ینتج احتمال عدم الانطباق فی الجمیع حتّی یقال أنّ هذا احتمال للسلب الکلّی وهو ینافی الموجبة الجزئیة؛ لأننا قلنا أنّ الموجبة الجزئیة ینافیها لیس فقط الاطمئنان بالسلب الکلّی؛ بل الاطمئنان بالسلب الکلّی والظن بالسلب الکلّی واحتمال السلب الکلّی أیضاً ینافی الموجبة الجزئیة، لکنّ ضمّ هذین الاحتمالین المقیّدین بعضهما إلی بعض لا ینتج عدم الانطباق فی کلٍ من الطرفین علی نحوٍ یکون منافیاً للإیجاب الجزئی، وإنّما الاحتمال الثابت فی کل واحدٍ منهما ثابت علی نحو التقیید لا علی نحو الإطلاق.

ص: 836

وبعبارةٍ أخری: فی محل کلامنا الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل طرف لا یمکن إنکاره، وهو ثابت ثبوتاً فعلیاً بالوجدان، لکن الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف إنّما حصل فی الحقیقة نتیجة اتّفاق احتمال الانطباق الموجود فی الأطراف الأخری علی نفی الانطباق فی هذا الطرف، یعنی حصل الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف؛ لأنّه یوجد احتمال الانطباق فی هذا الطرف وفی ذاک الطرف وفی ذاک الطرف .......وهکذا 999 طرف إذا کانت الأطراف 1000، مجموع احتمالات الانطباق فی کل هذه الأطراف الکثیرة هی التی تنفی احتمال الانطباق فی هذا الطرف وتوصل احتمال عدم الانطباق إلی درجة الاطمئنان فی هذا الطرف. إذن: الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف توّلد نتیجة الجمع بین احتمال الانطباق فی الطرف الثانی واحتمال الانطباق فی الطرف الثالث واحتمال الانطباق فی الرابع ........وهکذا، مجموع هذه الاحتمالات هو الذی ینفی احتمال الانطباق فی هذا الطرف ویوصله إلی درجة الاطمئنان بعدم الانطباق. إذن: هذا الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف توّلد من احتمال الانطباق فی الأطراف الأخری؛ حینئذٍ کیف یُعقل أن یکون الجمع بین هذا الاطمئنان بهذا النحو وبهذه الکیفیة، وبین الاطمئنان الموجود فی الطرف الآخر أیضاً بهذا النحو وبهذه الکیفیة، والاطمئنان الموجود فی الطرف الثالث....... وهکذا، کیف یکون هذا موجباً لحصول الاطمئنان بالسالبة الکلّیة ؟! یعنی کیف یکون هذا موجباً لحصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی جمیع الأطراف علی نحوٍ یکون منافیاً للموجبة الجزئیة کما ذکرنا ؟! وإنّما مثل هذا یصح عندما یکون الإحراز، مهما کانت درجة الإحراز، سواء کان الإحراز علی نحو الاطمئنان، أو علی نحو الظن، أو علی نحو الاحتمال، إذا کان إحراز المتعلّق ثابتاً فی کل طرف مطلقاً، هو ثابت فی هذا الطرف حتّی علی تقدیر عدم ثبوته فی الطرف الآخر؛ حینئذٍ یمکن أن یحصل نتیجة ذلک إحراز عدم الانطباق فی الجمیع، یعنی إحراز السالبة الکلّیة المنافیة للموجبة الجزئیة، کما لو فرضنا قامت إمارة علی عدم الانطباق فی هذا الطرف، وقامت إمارة علی عدم الانطباق فی هذا الطرف أیضاً بلا افتراض علم إجمالی، نستطیع أن نقول حینئذٍ حصل الاطمئنان بقیام إمارة بعدم النجاسة فی هذا الإناء، وقامت إمارة أخری علی عدم النجاسة فی الإناء الآخر من دون افتراض علم إجمالی، لا إشکال فی أنّ مجموع الاطمئنانین یوجب الاطمئنان بعدم النجاسة فی کلٍ منهما؛ لأنّ الاطمئنان بعدم النجاسة فی هذا ثابت ثبوتاً مطلقاً، یعنی ثابت حتّی علی تقدیر عدم النجاسة فی الطرف الآخر، وهکذا الطرف الآخر، الاطمئنان بعدم النجاسة فیه ثابت حتّی علی تقدیر عدم ثبوت النجاسة فی الطرف الأوّل، فهنا اطمئنان بعدم النجاسة وهنا أیضاً اطمئنان بعدم النجاسة، فیستطیع أن یقول المکلّف بأنی مطمئن بعدم النجاسة فی الجمیع، فیحصل الاطمئنان بالسالبة الکلّیة، فإذا فرض فرضاً وجود موجبة جزئیة؛ حینئذٍ تکون منافیة ومعارضة لها. فی محل الکلام الأمر یختلف، الاطمئنان بعدم النجاسة فی هذا الطرف هو ولید وجود النجاسة فی الطرف الآخر، یعنی هو ثابت علی تقدیر وجود النجاسة فی الطرف الآخر، هذا هو الثابت فی محل کلامنا، الاطمئنان بعدم الانطباق فی أطراف العلم الإجمالی الکثیرة هو ولید افتراض الانطباق فی غیره من الأطراف، وهذا هو معنی الکلام الذی قلناه من أنّ هذا الاطمئنان ینشأ ویتوّلد نتیجة الاحتمالات المتعدّدة للانطباق فی الأطراف الأخری، فأنّ هذه الاحتمالات المتعددّة للانطباق فی الأطراف الأخری هی التی توّلد هذا الاطمئنان وتنفی احتمال الانطباق فی هذا الطرف، ونفس الکلام یقال فی أیّ طرف نضع یدنا علیه، أیّ طرفٍ من الأطراف یوجد فیه اطمئنان بعدم الانطباق عندما تکون الأطراف کثیرة، وهذا الاطمئنان بعدم الانطباق یتوّلد نتیجة احتمال الانطباق الموجود فی باقی الأطراف، فأنّه یوّلد هذا الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف. مثل هذا الاطمئنان بهذا الشکل فی هذا الطرف وهذا الاطمئنان بهذا الشکل فی الطرف الثانی، والثالث، والرابع....وهکذا، هذا لا ینتج الاطمئنان بالسالبة الکلّیة.

ص: 837

هذا الجواب الحلّی ذکره السید الشهید(قدّس سرّه) فی تقریرات بحثه (1) لکن ذکره المحقق العراقی(قدّس سرّه) قبله لیس بهذا البیان، لکن یمکن أن یستفاد منه هذا البیان، المحقق العراقی(قدّس سرّه) بعد أن ذکر أصل الاعتراض بعنوان(التوهّم) ذکر توهّم اقتضاء ضعف کل طرف وجود الاطمئنان بالعدم فیه، واضح أنّ ضعف احتمال الانطباق فی هذا الطرف یوجب حصول الاطمئنان بعدم الانطباق فیه، ضعف کل طرف یستلزم وجود الاطمئنان بالعدم فیه، وهو مستلزم للاطمئنان بعدم التکلیف فی جمیع الموارد ------------- الذی هو السالبة الکلّیة ------------- وهو مع وجود العلم الإجمالی بوجوده ------------ أی بوجود التکلیف ------------- فی بعضها مستحیل، باعتبار المناقضة بین السالبة الکلّیة والموجبة الجزئیة. بعد أن ذکر هذا التوهّم أجاب عنه بما نصّه، قال:

(مدفوع ---------- هذا التوهّم ---------- بأنّه کذلک ------------- یعنی یوجب الاطمئنان بعدم التکلیف فی جمیع الموارد، یعنی الاطمئنان بالسالبة الکلّیة المنافی للعلم الإجمالی ------------- لو کان ضعف الاحتمال فی کل واحدٍ ملازماً للاطمئنان بعدمه فی هذا المورد تعییناً، وأمّا لو کان ملازماً للاطمئنان بوجوده فی غیره ------------ أی بوجود التکلیف فی غیره ----------- فلا یکون لازم الاحتمال المزبور إلاّ الاطمئنان بالعدم فی کل طرفٍ بنحو التبادل ---------- لا الاطمئنان بعدم التکلیف فی جمیع الموارد الذی هو الاطمئنان بالسالبة الکلّیة ------------- ولا بأس حینئذٍ بالجمع بین هذا النحو من الاطمئنان بالعدم بالنسبة إلی جمیع الأطراف مع العلم المزبور ------------- یعنی مع العلم الإجمالی، أی مع العلم بالموجبة الجزئیة -------------). (2)

ص: 838


1- بحوث فی علم الأصول، تقریر بحث السید محمد باقر الصدر للسید محمود الشاهرودی، ج 5، ص 231.
2- مقالات الأصول، المحقق العراقی، ج 2، ص 242.

هذا فی الحقیقة هو نفس البیان السابق؛ لأنّ مراده من أنّ ضعف الاحتمال فی کل طرف لو کان ملازماً للاطمئنان بعدم الانطباق فی ذلک الطرف بقطع النظر عن الانطباق، أو عدمه فی الأطراف الأخری، یکون التوهّم فی محلّه، لو کان ضعف الاحتمال فی هذا الطرف فقط یثبت الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف بقطع النظر عن الانطباق وعدم الانطباق فی الأطراف الأخری، نقول: هذا التوهّم یکون فی محلّه، وهو معنی ما تقدّم من أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق إذا کان ثابتاً بنحو الإطلاق، یعنی أنّه ثابت حتّی علی تقدیر عدم الانطباق فی الأطراف الأخری، لکنّ الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف المتولّد من ضعف الانطباق فی هذا الطرف یستلزم الاطمئنان بوجود التکلیف فی غیره، وهذا معنی أنّ الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف لیس ثابتاً علی نحو الإطلاق، وإنّما هو ثابت علی تقدیر افتراض ثبوت التکلیف فی الأطراف الأخری، ومثل هذا الاطمئنان الثابت ثبوتاً مقیّداً بهذا النحو لا ینتج الاطمئنان بالسالبة الکلّیة، فلا مانع من أن یجتمع مع الموجبة الجزئیة، ظاهراً أنّه یمکن تفسیر کلامه بهذا الشیء الذی ذکرناه سابقاً.

الاعتراض الثالث علی ما ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه): أننّا حتّی لو سلّمنا حصول الاطمئنان بعدم الانطباق فی کل أطراف العلم الإجمالی، لکن من قال بأنّ هذا الاطمئنان حجّة ؟ الظاهر أنّ هذا الاطمئنان لا اعتبار به، لیس من جهة التشکیک بأنّ الاطمئنان حجّة عند العقلاء ولم یردع عنه الشارع، فیکون حجّة شرعاً، لیس من هذه الجهة؛ بل نسلّم هذه الجهة، أنّ الاطمئنان حجّة ومؤمّن عند العقلاء، وأنّ الشارع لم یردع عن ذلک، فیکون حجّة شرعاً أیضاً، لکن، إنّما یقال فی المقام بعدم حجّیة الاطمئنان باعتبار التعارض، علی غرار الأصول المتعارضة فی أطراف العلم الإجمالی، فکما یقال هناک أنّ الأصل یسقط فی کل طرفٍ من أطراف العلم الإجمالی ولا یکون حجّة؛ لأنّ الأصل فی هذا الطرف معارض بالأصل فی الأطراف الأخری، ولا یمکن إجراء الأصول فی جمیع الأطراف؛ لأنّه علی خلاف العلم الإجمالی، ولا یمکن إجراء الأصول فی بعض الأطراف دون البعض الآخر؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح، وهذا یحقق حالة التعارض بین الأصول؛ وحینئذٍ لابدّ من افتراض التساقط فیها.

ص: 839

نفس هذا الکلام یقال فی الاطمئنانات الموجودة فی محل الکلام؛ لأننّا فرضنا سابقاً أنّ نسبة هذا الاطمئنان إلی کل الأطراف نسبة واحدة تستحقه کل الأطراف. إذن: الاطمئنان موجود فی هذا الطرف وهذا الطرف وذاک الطرف، وذاک ........وهکذا إلی آخر الأطراف الکثیرة، هل یمکن الالتزام بحجّیة هذه الاطمئنانات فی جمیع الأطراف ؟ کلا؛ لأنّه ینافی العلم الإجمالی؛ لأننا نعلم إجمالاً بثبوت التکلیف فی بعض هذه الأطراف، کیف یمکن الجمع بین العلم الإجمالی بثبوت التکلیف فی بعض هذه الأطراف وبین إجراء حجّیة الاطمئنان فی هذا الطرف وفی ذاک الطرف وذاک الطرف .... وهکذا کل الأطراف ؟ هذا لا یمکن الالتزام به، الالتزام بحجّیة الاطمئنان لا أصل تکوّن الاطمئنان کما کنّا نتکلّم عنه سابقاً، الالتزام بحجّیة هذا الاطمئنان فی جمیع الأطراف علی خلاف العلم الإجمالی، والالتزام بحجّیة الاطمئنان فی بعض الأطراف دون بعضٍ ترجیح بلا مرجّح، فیحصل التعارض بین هذه الاطمئنانات وتتساقط، فلا یبقی هناک اطمئنان معتبر یمکن الاستناد إلیه لتجویز الإقدام علی ذلک الفرد.

أجیب عن هذا الاعتراض: بأنّ تساقط الأدلّة فی صورة العلم بکذب بعضها، أصولاً کانت، أو أدلّة، أو اطمئنانات، عندما نعلم بأنّ بعضها کاذب؛ لأننا نعلم بوجود التکلیف فی بعض هذه الأطراف، إذن: بعض هذه الاطمئنانات کاذب ولیس حجّة، ولکن لا نستطیع أن نشخّص أیّ اطمئنان منها هو کاذب ویسقط عن الحجّیة؛ فحینئذٍ تحصل حالة التعارض ویسقط الجمیع. سقوط الأدلّة المتعارضة فی موارد العلم الإجمالی له سببان:

السبب الأوّل: أن تحصل حالة التکاذب نتیجة جریان تلک الأدلّة فی جمیع الأطراف؛ وحینئذ یقال لا یمکن الالتزام بحجّیة الأدلّة المتکاذبة مع افتراض أنّها متکاذبة، کما لو فرضنا قیام الدلیل علی وجوب صلاة الجمعة، وقام دلیل آخر علی وجوب صلاة الظهر فی زمان الغیبة ونحن نعلم بأنّ أحد الوجوبین کاذب؛ لأنّ الواجب فی زمان الغیبة هو أحد الأمرین، إمّا صلاة الظهر، أو صلاة الجمعة، إذن: أحد الوجوبین الذین قام علیهما الدلیل هو غیر مطابق للواقع، نعلم بذلک إجمالاً، فی هذه الحالة یتعارض الدلیلان ویتساقطان؛ لأنّ هناک حالة تکاذب بینهما؛ لأنّ هذا الدلیل الذی یدلّ علی وجوب صلاة الجمعة یدلّ بالدلالة الالتزامیة علی عدم وجوب صلاة الظهر، یعنی هو یکذّب الدلیل الآخر، کما أنّ الدلیل الآخر الدال علی وجوب صلاة الظهر یکذّب وینفی وجوب صلاة الجمعة بالدلالة الالتزامیة، إذن: الدلیلان بینهما تکاذب ولا یمکن جعل الحجّیة لکلیهما، ولا یمکن أن یکون کل منهما حجّة؛ لأنّهما متکاذبان، ولا یمکن جعل الحجّیة لأمرین متکاذبین، فلابدّ من افتراض تساقطهما فتتحقق حالة التساقط، هذا سبب للتساقط.

ص: 840

السبب الثانی: هو أنّه یلزم من البناء علی حجّیة کلا الدلیلین الترخیص فی المخالفة القطعیة، إجراء هذا الدلیل فی هذا الطرف، وهذا الدلیل فی هذا الطرف یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، والترخیص فی المخالفة القطعیة ممنوع ومحال، فیقع التعارض بین الدلیلین، أو بین الأصلین.

بالنسبة إلی السبب الأوّل وهو مسألة حصول حالة التکاذب، هذه لیست متحققة فی محل الکلام، یعنی لا یمکن أن نلتزم بسقوط الاطمئنانات الموجودة فی أطراف العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة، أنّ نلتزم بتساقط هذه الاطمئنانات علی اساس التکاذب؛ لأنّه أیّ اطمئنان من هذه الاطمئنانات الموجودة فی الأطراف، الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف( أ ) هذا إذا أخذناه مع الاطمئنان بعدم الانطباق فی الطرف الثانی ( ب ) أو مع الاطمئنان فی الطرف الثالث، لیس بینهما تکاذب؛ إذ بالإمکان أن یکون کل منهما صادقاً، لا مشکلة فی أن یکون الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف صادقاً، بأن لا یکون هناک نجاسة فی هذا الطرف، وهذا الاطمئنان بعدم الانطباق أیضاً صادق، بأن لا یکون هناک تکلیف ولا نجاسة فی الطرف الثانی، فمع افتراض إمکان أن یکون کل منهما صادقاً، فهذا معناه أنّه لیس بینهما حالة تکاذب، وهذا واضح. وأمّا إذا أخذنا الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف مع الاطمئنانات بعدم الانطباق الموجودة فی سائر الأطراف، هل یوجد بینهما تکاذب ومنافاة، أو لا ؟ المُدّعی فی المقام عدم وجود تکاذب بینهما؛ باعتبار أنّ هذه الاطمئنانات بعدم الانطباق الموجودة فی سائر الأطراف المفروض ------------- علی ضوء ما تقدّم فی الجواب الحلّی ------------ أنّها لا تؤدّی إلی الاطمئنان بعدم الانطباق فی جمیع هذه الموارد؛ لأننا قلنا أنّه أیّ اطمئنانین یکونان ثابتین ثبوتاً مقیّداً لا مطلقاً، هذان الاطمئنانان لا ینتجان الاطمئنان بعدم الانطباق فی الجمیع؛ لأنّهما ثابتان ثبوتاً مقیّداً لا ثبوتاً مطلقاً، الاطمئنان فی سائر الأطراف هو من هذا القبیل، هو اطمئنان بعدم الانطباق ولا فرق بینه وبین الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف، إذن: مجموعة الاطمئنانات فی سائر الأطراف لا تؤدّی إلی الاطمئنان بعدم الانطباق فی جمیع سائر الأطراف؛ لأنّ ثبوتها ثبوتاً مقیداً ولیس ثبوتاً مطلقاً، وعلیه: فلا یحصل هناک تکاذب بین الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف وبین مجموعة الاطمئنانات بعدم الانطباق فی سائر الأطراف التی لا تؤدّی إلی الاطمئنان بعدم الانطباق فی جمیع سائر الأطراف، لا یوجد بینهما تکاذب؛ بل من الممکن أن یکون کل منهما صادقاً، ولا محذور فی ذلک؛ لأنّ هذا لا یؤدّی إلی الاطمئنان بعدم الانطباق فی جمیع الباقی، لو کان یؤدّی إلی الاطمئنان بعدم الانطباق فی جمیع الباقی، هذا ینافی الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف.

ص: 841

درس الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة بحث الأصول

الموضوع: الأصول العملیّة/ تنبیهات العلم الإجمالی/ الشبهة غیر المحصورة

کان الکلام فی الاعتراض الثالث الذی یقول أنّ التعارض یحصل بین الاطمئنانات فی الأطراف حیث لا یمکن جریان جمیع الاطمئنانات بعدم الانطباق فی جمیع الأطراف؛ لأنّ هذا خلاف العلم الإجمالی، فلا یمکن أن تکون الاطمئنانات حجّة؛ لأنّ حجّیة الاطمئنانات فی جمیع الأطراف تنافی العلم الإجمالی، کما أنّ جعل الحجّیة لبعض هذه الاطمئنانات دون البعض الآخر ترجیح بلا مرجّح؛ فحینئذٍ تتساقط الاطمئنانات فی الأطراف، فلا یبقی اطمئنان فی الطرف حتّی یکون مسوّغاً لاقتحام ذلک الطرف کما هو المُدّعی فی الشبهة غیر المحصورة، فلا یجوز ارتکاب بعض أطراف الشبهة وتجب الموافقة القطعیة؛ لعدم وجود المسوّغ الذی هو الاطمئنان.

الجواب عن ذلک قلنا بأنّ تعارض الأدلّة فی الأطراف وتساقطها یتحققّ بأحد سببین:

السبب الأوّل: أن تکون تلک الأدلّة متکاذبة، بمعنی أنّ الدلیل الجاری فی هذا الطرف یکذّب الدلیل الجاری فی الطرف الآخر، وبعد حصول التکاذب بین الدلیلین یستحیل جعل الحجّیة لهما؛ إذ لا یمکن جعل الحجّیة لدلیلین متکاذبین؛ فحینئذٍ لا یمکن جعل الحجّیة لهما، ولا لأحدهما دون الآخر؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح، فیتساقطان. وفی الدرس السابق بیّنّا أنّ هذا السبب لیس متحققاً فی محل الکلام، لا فی حالة ما إذا لاحظنا الدلیل الجاری فی هذا الطرف الذی نرید اقتحامه مع دلیلٍ آخرٍ فی طرفٍ ثانٍ، قلنا لا تکاذب بینهما؛ لإمکان أن یکون کل منهما صادقاً؛ لاحتمال عدم الانطباق فی طرفین من أطراف الشبهة غیر المحصورة، ولا فی حالةٍ ثانیة وهی ما إذا لاحظنا الدلیل الجاری فی هذا الطرف الذی نرید اقتحامه مع الاطمئنانات الأخری الموجودة فی سائر الأطراف، لا تکاذب بین الاطمئنان فی هذا الطرف وبین سائر الاطمئنانات فی سائر الأطراف، فإذن: هذا السبب لا یکون سبباً مسوّغاً لسقوط الاطمئنانات عن الحجّیة بافتراض تعارضها؛ لعدم التکاذب بین الاطمئنان فی هذا الطرف وبین أیّ اطمئنان آخر؛ بل لا یوجد تکاذب بینه وبین سائر الاطمئنانات فی سائر الأفراد.

ص: 842

السبب الثانی: هو أن تؤدّی حجّیة کلٍ منهما إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، إذا کان الدلیلان ----------- فرضاً ----------- لا یوجد بینهما تکاذب، بمعنی أنّ احدهما لا یکذّب الآخر، لکن کان الّلازم من جریانهما فی الطرفین الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ حینئذٍ هذا یکون منافیاً لمنجّزیة العلم الإجمالی، وهذا یکون موجباً لتعارض هذین الدلیلین، وبالتالی تساقطهما؛ إذ لا یمکن إجراءهما معاً؛ لأنّ هذا خلاف منجّزیة العلم الإجمالی بقطع النظر عن التکاذب ولا یمکن البناء علی حجّیة أحدهما؛ لأنّه ترجیح بلا مرجّح، فیتساقطان.

هذا السبب أیضاً غیر متحقق فی المقام، وذلک باعتبار أنّ حجّیة هذه الاطمئنانات فی جمیع أطراف العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، ألیس السبب هو أنّ إجراء الأدلّة فی جمیع الأطراف یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، فتتعارض وتتساقط، هنا ندّعی بأنّ الاطمئنانات فی جمیع الأطراف لا تؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ وذلک باعتبار أنّ حجّیة الاطمئنان بشکلٍ عام هی حجّیة عقلائیة، باعتبار بناء العقلاء علی حجّیة الاطمئنان، معنی أّنّ العقلاء یبنون علی حجّیة الاطمئنان، ومعنی أنّ الاطمئنان فی هذا الطرف حجّة هو أنّ ما یقابله فی نفس الطرف احتمال ضعیف جدّاً ولیس منجزاً، الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف معناه أنّ احتمال التکلیف فی هذا الطرف احتمال لیس منجّزاً؛ لأنّه احتمال ضئیل جدّاً بنظر العقلاء؛ لأنّه یوجد اطمئنان علی خلافه، وعلیه: حینما یکون احتمال التکلیف فی هذا الطرف لیس منجّزاً؛ حینئذٍ یجوز ارتکاب ذلک الطرف لعدم وجود ما ینجّزه، بناء العقلاء علی الاطمئنان معناه أنّ احتمال التکلیف فی ذاک الطرف احتمال لا أثر له ولیس منجّزاً بنظر العقلاء؛ ولذا یقتحمون هذا الطرف، هذا معنی حجّیة الاطمئنان بنظر العقلاء، حجّیة الاطمئنان بنظر العقلاء إنّما هی الاحتمال المخالف للاطمئنان فی نفس الطرف غیر معتنی به، وضعیف، ولا یراه العقلاء منجّزاً، فیبنون علی حجّیة الاطمئنان، هذا هو معنی حجّیة الاطمئنان. هذا المعنی من حجّیة الاطمئنان یتحققّ عندما نفترض أنّ المکلّف یرید اقتحام طرفٍ واحدٍ من أطراف الشبهة غیر المحصورة؛ حینئذٍ یقال: لا مانع من اقتحام هذا الطرف بنظر العقلاء؛ لأنّ العقلاء یبنون علی حجّیة الاطمئنان بعدم الانطباق فی هذا الطرف الذی معناه أنّ احتمال الانطباق احتمال ضعیف ولیس منجّزاً بنظر العقلاء.

ص: 843

أمّا إذا فرضنا أنّ المکلّف أراد اقتحام طرفین لا طرف واحد، أراد اقتحام ثلاثة أطراف من هذه الشبهة غیر المحصورة لا طرفٍ واحدٍ، بطبیعة الحال سوف یکون احتمال التکلیف فی هذه الأطراف التی یرید ارتکابها احتمالاً أکبر، احتمال وجود التکلیف، احتمال الانطباق فی واحدٍ من هذه الأطراف الثلاثة التی یرید اقتحامها سوف یکون احتماله اکبر ممّا إذا فرضنا أنّه أراد اقتحام طرفٍ واحدٍ، واحتمال التکلیف الموجود فی هذه الأطراف التی یرید ارتکابها عندما یکون أکبر؛ حینئذٍ قد لا یقابله الاطمئنان بعدم الانطباق، وإنّما الاطمئنان بعدم الانطباق یقابله عندما نلاحظ هذا الطرف الذی یرید اقتحامه فقط، فیقال أنّ احتمال التکلیف به مقداره احتمال واحد بالألف، فیکون علی خلاف الاطمئنان، أمّا إذا نتعدّی من الطرف الواحد إلی الأطراف الأخری؛ حینئذٍ سوف لا یکون احتمال التکلیف فی هذه الأطراف الأخری التی یرید اقتحامها لیس ما یقابله هو الاطمئنان بعدم الانطباق، قهراً کلّما یکون احتمال التکلیف أکبر کلّما تقل درجة احتمال عدم الانطباق، وهذا معناه أنّ دلیل حجّیة هذه الاطمئنانات الذی هو بحسب الفرض بناء العقلاء، دلیل الحجّیة لا یقتضی أکثر من الحجّیة التی عبّر عنها المحقق العراقی(قدّس سرّه) ب----(علی نحو التبادل)، یعنی یسوّغ للمکلّف ارتکاب طرفٍ واحد، لکنّه لا یسوّغ للمکلّف ارتکاب أطرافٍ کثیرة من هذه الشبهة غیر المحصورة؛ لأنّه کما قلنا ارتکاب أطراف کثیرة من الشبهة غیر المحصورة لا یکون فیه اطمئنان یبنی العقلاء علی حجّیته بمعنی ضآلة احتمال الانطباق فی ذلک الطرف، لا یوجد فی قباله اطمئنان من هذا القبیل حتّی یکون هذا الاطمئنان حجّة ببناء العقلاء، وهذا معناه أنّ الاطمئنان بنظر العقلاء هو الحجّیة البدلیة ولیس الحجّیة الشمولیة، بمعنی أنّ العقلاء لا یبنون علی حجّیة الاطمئنان فی جمیع هذه الأطراف، وإنّما یبنون علی حجّیة الاطمئنان علی نحو التبادل، حجّیة بدلیة لا حجّیة شمولیة تشمل جمیع الأطراف، وبالنتیجة نصل إلی أنّ البناء علی حجّیة الاطمئنانات فی جمیع الأطراف لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، هذا ما نرید الوصول إلیه؛ لأنّ هذه الحجّیة حجّیة علی البدل ولیست حجّیة شمولیة، والبناء علی حجّیة جمیع الاطمئنانات فی جمیع الأطراف علی نحو البدل لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، الذی یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة هو البناء علی حجّیة الاطمئنانات جمیعاً بنظر العقلاء فی جمیع الأطراف علی نحو الشمول لا علی نحو البدل، یعنی یشمل هذا وذاک، وذاک ...... وهکذا، هذا بلا إشکال حجّیة الاطمئنانات الشمولیة فی جمیع الأطراف تؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، أمّا البناء علی حجّیة الاطمئنانات علی نحو البدل فلا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ ولذا السبب الثانی الذی یوجب تعارض الأصول وتساقطها أیضاً غیر متحقق فی محل الکلام، فالاطمئنانات فی محل الکلام لا یوجد بینها تکاذب، کما أنّ البناء علی حجّیتها لا یستلزم الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لأنّ حجّیة هذه الاطمئنانات حجّیة علی نحو البدل ولیست حجّیة شمولیة.

ص: 844

ومن هنا یظهر من هذه المناقشة أنّ الدلیل الذی ذکره الشیخ الأنصاری(قدّس سرّه) یبدو أنّه تام، ولا ترِد علیه الاعتراضات الثلاثة المتقدّمة، وبالتالی یمکن الاستناد إلیه لإثبات عدم تنجیز العلم الإجمالی إذا کانت الشبهة غیر محصورة، وحاصل هذا الدلیل: أنّ هناک مؤمّن فی کل طرفٍ من هذه الأطراف، أیّ طرفٍ یرید المکلّف ارتکابه هناک مؤمّن من ناحیته، وهذا المؤمّن هو الاطمئنان بعدم الانطباق؛ لضآلة احتمال التکلیف فی کل طرفٍ من هذه الأطراف، والقدر المتیقّن من هذا هو أنّه یؤدّی إلی الترخیص فی ترک الموافقة القطعیة، بمعنی أنّ العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة بمقتضی هذا الدلیل یؤدّی إلی سقوط ذلک العلم الإجمالی عن تنجیز وجوب الموافقة القطعیة؛ وحینئذٍ یجوز له ارتکاب بعض الأطراف. هذا هو الدلیل الأوّل علی عدم منجّزیة العلم الإجمالی إذا کانت الشبهة غیر محصورة.

الدلیل الثانی: هو ما تقدّم نقله عن المحقق النائینی(قدّس سرّه) حیث جعل المیزان فی الشبهة غیر المحصورة هو عدم التمکّن من المخالفة القطعیة، یعنی أن لا یکون المکلّف متمکناً من ارتکاب جمیع الأطراف فی الشبهة التحریمیة، وقد ذکر أنّ میزانه لا یتحققّ إلاّ فیها. المحقق النائینی(قدّس سرّه) رتّب علی هذا المیزان الدلیل علی سقوط العلم الإجمالی فی محل الکلام، فذکر أنّ العلم الإجمالی فی حالة من هذا القبیل، إذا کان المکلّف غیر متمکّن من المخالفة القطعیة لکثرة الأطراف؛ حینئذٍ یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز؛ إذ لا مانع حینئذٍ من جریان الأصول الترخیصیة فی جمیع الأطراف؛ لأنّ جریانها فی جمیع الأطراف لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لعدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة بحسب الفرض، فلو جرت الأصول فی جمیع الأطراف لا یلزم من ذلک الترخیص فی المخالفة القطعیة، علی غرار ما قیل فی دوران الأمر بین المحذورین، هناک قالوا لا مانع من إجراء الأصل الترخیصی لنفی الحرمة، وإجراء الأصل الترخیصی لنفی الوجوب؛ لأنّ جریان الأصلین لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لعدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة فی ذلک الباب. هنا أیضاً یقال هذا، لکن بافتراض أنّ عدم القدرة فی المقام ناشئ من کثرة الأطراف، فإذن: لا مانع من جریان الأصول فی جمیع الأطراف؛ لأنّ جریانها لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، باعتبار أنّ المفروض افتراض الکثرة إلی درجةٍ بحیث لا یمکن للمکلّف اقتحام جمیع الأطراف. وبهذا یختل أحد أرکان منجّزیة العلم الإجمالی وهو أن یکون جریان الأصول فی الأطراف موجباً للترخیص فی المخالفة القطعیة، فلا یکون هذا العلم الإجمالی منجّزاً. هذا هو التخریج الذی یقال علی لسان المحقق النائینی(قدّس سرّه) لسقوط العلم الإجمالی فی محل الکلام عن المنجّزیة.

ص: 845

التخریج بعبارة واضحة: أنّ إجراء الأصول فی جمیع الأطراف المؤدی إلی عدم منجّزیة العلم الإجمالی لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة، وإنّما نمنع من جریان الأصول فی الأطراف؛ لأنّ ذلک یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لعدم قدرة المکلّف علی المخالفة القطعیة. هذا ما یقال علی لسانه.

لکن الموجود فی تقریری بحثه قد یُستفاد منه شیء آخر، فی(أجود التقریرات) وفی(فوائد الأصول) یبدو أنّه لا یقصد المعنی المتقدّم، وإنّما یُفهم من کلامه شیء آخر، نقرأ عبارة(أجود التقریرات)؛ لأنّها أوضح، قال:

(وأمّا الجهة الثانیة ----------- یعنی حکم الشبهة المحصورة؛ لأنّه عندما دخل فی الشبهة المحصورة قال نتکلّم عن الموضوع، ثمّ نتکلّم عن حکم الشبهة المحصورة ------------- فالحق فیها عدم تنجیز العلم الإجمالی، لا من جهة حرمة المخالفة القطعیة ولا من جهة وجوب الموافقة القطعیة ----------- یعنی لو تمکّن المکلّف من ارتکاب جمیع الأطراف یجوز له ذلک ------------ أمّا من جهة حرمة المخالفة؛ فلأنّ المفروض عدم التمکّن منها ------------ أی من المخالفة القطعیة ----------- لکثرة الأطراف فلا یمکن أن تتصف بالحرمة عقلاً، أو شرعاً). (1) یقول أنّ المخالفة القطعیة حیث أنّها غیر مقدورة؛ لذا لا یمکن أن تتّصف بالحرمة الشرعیة ولا بالحرمة العقلیة، أی بالقبح العقلی.

الذی یُفهم من هذه العبارة هو: أنّ عدم تنجیز العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة إنّما هو باعتبار أنّ المخالفة لیست قبیحة عقلاً، ولندع الحرمة الشرعیة للمخالفة القطعیة جانباً؛ لأنّها لا معنی لها کما سیأتی؛ لأنّ المخالفة القطعیة فیها قبح عقلی ولیس فیها حرمة شرعیة، فیکون الترکیز علی القبح العقلی للمخالفة، کأنّه یرید أن یقول: أنّ العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة لا یکون منجّزاً؛ لأنّ المخالفة لیست قبیحة عقلاً؛ لأنّه یقول: أنّ المفروض عدم القدرة علی المخالفة، فلا تتّصف المخالفة بالحرمة الشرعیة ولا بالحرمة العقلیة؛ لعدم القدرة علیها؛ فلأنّ المخالفة لا تتصف بالقبح العقلی یسقط العلم الإجمالی عن التنجیز، وکأنّ سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز إنّما هو من جهة انّ المخالفة الغیر مقدورة لیست قبیحة؛ حینئذٍ لا مانع من إجراء الأصول فی الأطراف؛ لأنّها تؤدّی إلی مخالفة لیست محرّمة شرعاً ولیست قبیحة عقلاً. هذا ما یُفهم من کلامه، وکأنّه یری أنّ القدرة من مقومات اتّصاف الشیء بالقبح، یعنی المخالفة تکون قبیحة عقلاً عندما تکون مقدورة، أمّا إذا خرجت عن القدرة، فهذه لا تتصف بالقبح العقلی، وحیث أنّه فی محل الکلام المخالفة غیر مقدورة، إذن هی لا تتّصف بالقبح العقلی کما لا تتّصف بالحرمة الشرعیة کما یقول، وکأنّ القدرة هی من مقوّمات القبح العقلی، ای أن یکون القبیح مقدوراً، فإذا لم یکن مقدوراً؛ فحینئذٍ لا یتّصف بالقبح العقلی، والنتیجة هی أنّ العلم الإجمالی یسقط عن التنجیز؛ لأنّ المخالفة القطعیة لیست قبیحة.

ص: 846


1- أجود التقریرات، تقریر بحث المحقق النائینی للسید الخوئی، ج 2، ص 276.

هذا المعنی غیر المعنی الذی ذکرناه فی تقریب دلیله، فی تقریب دلیله لا یقال بأنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة باعتبار أنّ المخالفة لیست قبیحة، وإنّما یقول: أنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجزیة باعتبار أنّ المخالفة لیست مقدورة، فهناک فرق بین أن نقول أنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة باعتبار أنّ المخالفة لیست قبیحة، ولو من جهة عدم القدرة، وبین أن نقول أنّ العلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة باعتبار أنّ المخالفة لیست مقدورة للمکلّف، فإجراء الأصول فی الأطراف لا یؤدّی إلی الترخیص فی المخالفة القطعیة؛ لأنّ المکلّف غیر قادر علی المخالفة؛ فلأجل عدم قدرته علی المخالفة لا مانع من الترخیص فی المخالفة القطعیة، لا مانع من جریان الأصول، وعدم منجّزیة العلم الإجمالی، ولیس لأنّ المخالفة لیست قبیحة یجوز إجراء الأصول فی الأطراف والعلم الإجمالی یسقط عن المنجّزیة، الظاهر أنّ هناک فرقاً بین التقریبین.

علی کل حال، الذی یُلاحظ علی ما ذکره فی أجود التقریرات: أنّ مسألة حرمة المخالفة القطعیة شرعاً لابدّ أن نعزلها علی حدة؛ لأنّ المخالفة القطعیة لیس فیها حرمة شرعیة، وإنّما فیها قبح عقلی، هی من الأمور التی یحکم العقل بقبحها، فلا معنی للتعبیر عنها بأنّ فیها حرمة شرعیة، کلا، لیس فیها حرمة شرعیة، وإنّما فیها قبح عقلی، القبح العقلی لا یُناط بالقدرة وعدمها، عندما یکون الشیء قبیحاً ویُدرک العقل قبحه ویری أنّ فیه ملاک للقبح؛ حینئذٍ لا یُناط هذا القبح بالقدرة علیه، قد یکون استحقاق الذم والملامة منوط بالقدرة، باعتبار أنّ غیر القادر لا یستحق الذم والملامة، نفس القبح لا یکون منوطاً بالقدرة، فعدم قدرة المکلّف علیه لا یُخرج الشیء عن کونه قبیحاً. هذا من جهة.

ص: 847

ومن جهة أخری أنّ المفروض والغرض الأساسی فی المقام هو إثبات الترخیص الفعلی فی المخالفة القطعیة، باعتبار عدم القدرة علیها، والمقصود هو إثبات الترخیص فی المخالفة القطعیة کما هو ذکر؛ لأنّه یتکلّم عن حرمة المخالفة القطعیة، ما یریده هو إثبات الترخیص العقلی فی المخالفة القطعیة باعتبار عدم القدرة علیها، إذا سلّمنا أنّ القبح العقلی للمخالفة القطعیة منوط بالقدرة، عندما ترتفع القدرة یرتفع حکم العقل بالقبح، بمعنی أنّ العقل لا یحکم بالقبح، القبح العقلی منوط بالقدرة، تنزلّنا وسلّمنا ذلک، فعندما لا تکون المخالفة مقدورة یرتفع الحکم العقلی بالقبح، بمعنی أنّ العقل لا یحکم بقبح هذه المخالفة غیر المقدورة، لکن هل یحکم بعدم القبح الذی یستلزم الترخیص فی الارتکاب کما هو المدّعی فی المقام ؟ هذا ما یرید أن یثبته، أنّه من ناحیة العقل عندما تکون المخالفة مقدورة، العقل یمنع من المخالفة، لکن عندما لا تکون مقدورة العقل یرخّص فی المخالفة، من الصعب فی المقام إثبات هذا الترخیص العقلی فی المخالفة المبنی علی حکم العقل بعدم القبح لمجرّد أنّ القبح العقلی منوط بالقدرة، إناطة القبح العقلی بالقدرة یعنی انتفاء القبح العقلی عند انتفاء القدرة ؟ لا یحکم العقل بالقبح عندما تکون المخالفة مقدورة، لا أنّه یحکم بعدم القبح وبالتالی یرخّص فی المخالفة کما هو المفروض فی المقام، هذا لا یثبت بمجرّد إناطة القبح العقلی بالقدرة، هذه ملاحظات علی کلامه مذکورة فی کلمات المرحوم الشیخ الحلّی(قدّس سرّه) لاحظها علی ما ذکره، وهذه ملاحظات واردة علیه.

ص: 848

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.