آرشیو دروس خارج اصول آیت الله سید علیرضا حائری33-32

اشارة

سرشناسه:حائری، علیرضا

عنوان و نام پدیدآور:آرشیو دروس خارج اصول آیت الله سید علیرضا حائری33-32/علیرضا حائری.

به همراه صوت دروس

منبع الکترونیکی : سایت مدرسه فقاهت

مشخصات نشر دیجیتالی:اصفهان:مرکز تحقیقات رایانه ای قائمیه اصفهان، 1396.

مشخصات ظاهری:نرم افزار تلفن همراه و رایانه

موضوع: خارج اصول

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نبحث فِی السنة الدراسیة الماضیة دلالةَ العامّ، وذکرنا أن فِی هذا البحث توجد جهات ثلاث:

الجهة الأولی: فِی تعریف العموم.

الجهة الثَّانیة: فِی أقسام العموم.

الجهة الثَّالثة: فِی ألفاظ العموم وأدواته.

فتکلمنا سابقاً فِی الجهتین الأولی والثانیة، ووصلنا إلی الجهة الثَّالثة فِی ألفاظ العموم وأدوات العموم، وَقُلْنَا: إِنَّ هذه الألفاظ والأدوات عدیدة، ذکرنا الأولی منها وهی عبارة عن لفظة «کُلٍّ»، وبحثنا عنها مفصَّلاً وانتهینا منها، ووصلنا إلی اللفظة الثَّانیة من ألفاظ العموم وأدوات العموم وهی عبارة عن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، أو قل بعبارة أخری: «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع. وَقُلْنَا: یمکن ثبوتاً وَعَقْلاً تصویر دلالة هذه «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع، علی العموم والاستیعاب، وصورنا هذه الدِّلاَلَة بهذا النَّحْو وبهذا الشِّکْل، وهو أَنْ تَکُونَ «اللاَّم» دالَّة عَلَیٰ استیعاب معنی الهیئة لمعنی الْمَادَّة؛ فإِنَّهُ توجد ثلاثة أمور فی الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ من قبیل العلماء: 1- «اللاَّم». 2- هیئة الجمع (= هیئة العلماء). 3- هیئة الْمَادَّة (هیئة «عالم»). معنی الْمَادَّة واضح، فهو یَدُلّ عَلَیٰ طبیعة العالم. وهیئة الجمع (العلماء) تَدُلّ عَلَیٰ عددٍ من أفراد الْمَادَّة لا یقلّ عن ثلاثة. وَاللاَّم إذا دخلت عَلَیٰ الکلمة وأصبحت الکلمة عبارة عن العلماء، فهذه «اللاَّم» یمکن ثبوتاً وَعَقْلاً تصویر هذه الدِّلاَلَة بأَنَّ بالإمکان أَنْ تَکُونَ «اللاَّم» تَدُلّ عَلَیٰ استیعاب معنی الهیئة لمعنی الْمَادَّة. أی: هذا العدد الَّذی لا یقل عن ثلاثةٍ مستوعبٌ لکل أفراد العالم الموجودین فِی الخارج. فمثلاً إذا کان عدد العلماء 100 عالم، فکلمة «العلماء» (أی: الهیئة) تَدُلّ عَلَیٰ أن معنی الهیئة (أی: العدد الَّذی لا یقل عن ثلاثة) مستوعب لکل أفراد العالم، أی: لکل المائة. هذا کُلّه بحثنا.

ص: 1

ثم انتقلنا إلی مقام الإثبات لنری ما هو الصَّحِیح؟ هل أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ حقیقةً یَدُلّ عَلَیٰ العموم؟ قلنا إن الْمَشْهُور والمعروف هو ذلک، و نحن نقبل ذلک. کما أن ذلک هو ظاهر لغة العرب. إلاَّ إن جاءت قرینة ودلّت عَلَیٰ خلاف ذلک. لکن کیف نثبت ذلک؟

قلنا: یوجد مسلکان فِی دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم، مسلک یقول بأن هذه الدِّلاَلَة وضعیَّة، أی: «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع وضعت فِی اللغة للعموم والاستیعاب.

مسلک آخر: «اللاَّم» لم توضع للعموم مباشرة، بل «اللاَّم» مطلقاً (سواء الداخلة عَلَیٰ الجمع أم الداخلة عَلَیٰ المفرد) وضعت لتَعَیُّنِ مدخولها، أی: وضعت للدلالة عَلَیٰ أن مدخولها متعین ومتشخص. غَایَة الأَمْرِ أَنَّ تعین کل شیء بحسبه، إذا دخلت «اللاَّم» عَلَیٰ المفرد کان التّعیّن هناک بنحو، وإذا دخلت «اللاَّم» عَلَیٰ الجمع أیضاً تَدُلّ «اللاَّم» عَلَیٰ التّعیّن، تَدُلّ عَلَیٰ أن هذا الجمع المدخول للام متعین، وتعین الجمع لا یکون إلاَّ بالعموم. (فنحن نتصور تعین الجمع بما هو جمع بأن نقول أَنَّهُ أراد کل المائة، فلو أراد التسعین من المائة فهذا التسعین غیر متشخص، فهناک تسعینات عدیدة داخل المائة). هذا مسلک ثان فِی باب إفادة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ للعموم. شرحنا هذین المسلکین فِی السَّابِقَ وبیّنّا الفوارق بینهما، وقد أعدناه للتذکیر.

والآن علینا أن ندرس هذین المسلکین، فلنستعرض أوَّلاً المناقشات والاعتراضات الَّتی وجهت أو یمکن أن توجّه إلی هذین المسلکین أو إلی أحدهما فِی قِبَال الآخر.

وثانیاً بعد ذلک نستعرض سائر الوجوه الَّتی ذکرت أو الَّتی یمکن أن تذکر لدلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم.

أَمَّا المناقشات فنقتصر عَلَیٰ ثلاث مناقشات: مناقشة حول المسلک الأوّل ومناقشة حول المسلک الثَّانِی، ومناقشة ثانیة حول کلا المسلکین معاً.

ص: 2

أَمَّا المناقشة الأولی حول المسلک الأوّل الَّذی یقول بأن «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع وضعت للعموم لغةً، وهی ما یذکرها السید الأستاذ الخوئی رحمه الله حیث یقول: إن هذا الکلام غیر صحیح ولا یمکننا أن نقبل أن «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع وضعت للعموم؛ وذلک لأَنَّهُ لو کان الأمر کذلک للزم أن یکون استعمال الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ فِی موارد العهد استعمالاً مَجَازِیّاً. فإن الْمُتِکَلِّم قد یستعمل الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ ولا یرید منه العموم والاستیعاب، بل یرید جماعةً معهودة. مثلاً الأب یتحدث مع ابنه حول علماء الفقه وبعد قلیل یقول له: «أکرم العلماء»، ویکون مقصوده علماء الفقه؛ فإن استعمال الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ فِی موارد العهد وإرادة جماعة معهودة مُعَیَّنَة مجازیةٌ بناءًا عَلَیٰ المسلک الأوَّل؛ لأَنَّ «اللاَّم» استعملت هنا فِی غیر معناها الحقیقی (فِی غیر العموم) بینما هذا باطل بالوجدان والضرورة؛ فإن الوجدان یقضی ویحکم بأن هذا الاستعمال حقیقی، فلا یحس العربی بأی نوع من التَّجوُّز فِی مثل هذا الاستعمال.

إذن فهذا شاهد عَلَیٰ بطلان هذا المسلک الأوّل وهذا بخلاف المسلک الثَّانِی، فلو قلنا بالمسلک الثَّانِی لا یرد هذا الإشکال. أی: لو قلنا بأن «اللاَّم» وضعت لتعین مدخولها، فإن التّعیّن (=المعنی الحقیقی للام) محفوظ فِی مثل هذا المثال، فِی مثل موارد العهد. بناء عَلَیٰ المسلک الثَّانِی، سواء استعمل الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ فِی العموم أو استعمل فِی العهد فإن کلاهما استعمال حقیقی؛ لأَنَّ التّعیّن موجود. فلا یلزم المجاز ولا یلزم هذا الإشکال، بینما عَلَیٰ المسلک الأوّل یلزم هذا الإشکال. هذا ما أفاده السید الخوئی رحمه الله((1) ).

أقول: یمکن لقائل أن یدفع هذا الإشکال عن المسلک الأوّل ویقول بأن هذا الإشکال إِنَّمَا یرد عَلَیٰ المسلک الأوّل لو کان صاحب المسلک الأوّل یقول بأن «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع وضعت بوضع واحد للعموم (أی: لها معنی واحد وقد وضعت له وهذا المعنی الواحد هو العموم)، لَوَرَد إِشْکَال السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله، وهو أَنَّهُ إذن یلزم المجاز لو استعملت «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع فِی غیر العموم، استعملت فِی العهد، یلزم المجاز. لکن من المستبعد أن یکون أصحاب المسلک الأوّل یقولون بهذا الکلام. هم یعترفون بأن «اللاَّم» وضعت مطلقاً لتعین مدخولها، غایة الأمر: خصوص «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع لها وضع ومعنی (حقیقی مَوْضُوع له) آخر. فهناک وضعان للام: أحدهما تعیّن المدخول والآخر العموم. أی: معنیان حقیقیان. أی: مشترک لَفْظِیّ. مثل کلمة «عین». فإذا استعملت «اللاَّم» فِی العهد کان الاستعمال حقیقیّاً؛ لأَنَّهَا استعملت فِی تعیّن مدخولها، وإذا استعملت «اللاَّم» فِی العموم، أیضاً کان الاستعمال حقیقیّاً؛ لأَنَّ العموم معنیً آخر أیضاً حقیقی. وقد سبق أن ذکرنا هذا المطلب فِی العامّ الماضی فِی الفارق الأوّل عندما کُنَّا نبحث الفوارق بین المسلکین. فلا یلزم الإشکال.

ص: 3


1- (1) - أجود التقریرات: ج1، 445.

وأمّا ما ذکره السید الهاشمی حفظه اللٰه فِی المقام فِی هامش تقریراته لبحث سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله قائلاً: «إِنَّ الإنصاف هو أنَّ المصیر إلی الاشتراک اللَّفظیّ فِی مدلول اللام بینَ مَعْنَیَیْنِ لا رابط بینهما خلاف الوجدان جِدّاً». أی: الالتزام بالاشتراک اللَّفظیّ، أی: لو ادعی صاحب المسلک الأوّل الاشتراکَ اللَّفظیّ فحینئذٍ لا یرد علیه إِشْکَال السید الخوئی رحمه الله، یقول الهاشمی: الاشتراک اللَّفظیّ هنا خلاف الوجدان؛ لأَنَّه لا رابط بین هذین المعنیین، بأن نقول: «اللاَّم» وضعت بوضعین لمعنیین لا رابط بینهما، بنحو الاشتراک اللَّفظیّ، هذا خلاف الوجدان.

هذا الکلام غریب، لأَنَّهُ أوَّلاً متی کان مِنَ الشَّرْطِ فِی الاشتراک اللَّفظیّ وجود رابط بین معنییه أو بین معانیه؟! فإن کلمة «عین» مشترکة لفظیة ولا رابط بین معانیها، أو کلمة «المولی» مشترکة بین السید والعبد، والسید ضدّ العبد والعبد ضدّ السید ولا رابط بینهما أبداً.

وثانیاً: عَلَیٰ تقدیر التَّسْلِیم بِالشَّرْطِ (بأن نفرض أَنَّهُ یشترط فِی المشترک اللَّفظیّ وجود رابط بین معنییه) فإن هذا الشَّرْط متوفر فِی المقام؛ حیث أن صاحب المسلک الأول إذا ادعی أن «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع لها معنیان وضعیان، أحدهما تعیّن المدخول والآخر العموم، فیوجد بینهما ترابط؛ لأَنَّ تعین المدخول فِی الجمع ملازم للعموم. فإن التّعیّن فِی الجمع ملازم للعموم((1) ).

المناقشة الثَّانیة هی المناقشة عَلَیٰ المسلک الثانی وهی مناقشة الآخوند حیث یقول الخُراسانیّ: إن کون «اللاَّم» موضوعة لتعیّن مدخولها لا یُنتج العموم، وتعیّن الجمع لا ینحصر بالعموم؛ لأَنَّ الجمع کما یکون تعیّنه بالعموم (أی: بإرادة کل المائة والمرتبة العلیا والأخیرة) کذلک یمکن تعیّن الجمع بإرادة المرتبة الدنیا (وأقل الجمع وهی الثَّلاثة).

ص: 4


1- (2) - بحوث فِی علم الأصول: ج3، 245.

إذن، المسلک الثَّانِی لا یوصل صاحبه إلی العموم، وإنَّما نستفید العموم لو قلنا بالمسلک الأول، أی: لو قلنا بأن مجموع «اللاَّم» والجمع (أی: «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع) وُضع للعموم.

إِشْکَال السید الأستاذ الخوئی رحمه الله عَلَیٰ کلام الآخوند: إِنَّ المسلک الثَّانِی الَّذی یقول بأن «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع تفید تعیّن الجمع وتعیّن الجمع لا یکون إلاَّ بالمرتبة الأخیرة المساوقة للعموم، یقصد بالتعیّنِ التعینَ فِی الصدق الخارجیّ. أی: أَنْ یَکُونَ مدخول «اللاَّم» مصداقه خارجاً مُعَیَّناً ومشخصاً. أی: یقصد بالتعیّن التّعیّن فِی الصدق والانطباق الخارجیّ، لا یقصد التّعیّن الْمَاهُوِیّ. نعم لو کان یقصد التّعیّن الْمَاهُوِیّ، فهذا التّعیّن الْمَاهُوِیّ کما هو موجود فِی المرتبة العلیا (المائة) کذلک موجود فِی المرتبة الدنیا (الثَّلاثة، فإن عدد الثَّلاثة مُعَیَّن ماهیةً، وموقعه مشخص، حیث یقع بعد الاثنین وقبل الأربعة)؛ فإِنَّهُ لا تردید فِی ماهیَّة أقل الجمع. فلو أراد القائل من قوله: «أکرم العلماء» کل العلماء الموجودین وهم مائة مثلاً، فإن المائة لَیْسَ لها إلاَّ مصداق واحد ولا تردید فیه؛ لأَنَّهُ لا توجد عندنا عدّة مئات. وهذا بخلاف ما إذا أراد من قوله «أکرم العلماء» التسعین، حَیْث أَنَّه تتصور هناک تسعینات عدیدة، فالتسعین غیر مشخص. فیقول صاحب المسلک الثَّانِی: إن «اللاَّم» وضعت لتعین مدخولها تعینا من حیث المصداق الخارجیّ، ولا یکون هذا التّعیّن إلاَّ إذا أراد العموم وهو المائة. أَمَّا لو أراد أقل الجمع وهو الثَّلاثة، فتوجد تعین ماهوی فِی الثَّلاثة، ولکن لا یوجد فیها التّعیّن فِی الصدق الخارجیّ؛ إذ تتصور داخل المائة ثلاثات کثیرة. فهذا الإشکال من الآخوند عَلَیٰ صاحب المسلک الثانی غیر وارد. هذا کلام السید الخوئی((1) ).

جواب السید الصدر: وقد أفاد السید الأستاذ الشهید أن بالإمکان أن ننتصر للخراسانی وندفع إِشْکَال السید الخوئی، وذلک بأن نقول: «اللاَّم» مطلقاً (سواء الداخلة عَلَیٰ الجمع أو الداخلة عَلَیٰ المفرد) وُضعت لتعیّن مدخولها، لکن لا یراد من التّعیّنِ التعینُ فِی الصدق الخارجیّ کما قال السید الخوئی، بل المراد منه تعیّن الجنس. والفرق بین تعین الجنس والتعین الخارجیّ هو أن تعین الجنس یکون فیما إذا کان مدخول «اللاَّم» مُفْرداً (فَیَکُونُ تعینه الجنسی بذات طبیعة العالم؛ فإن کل واحدة من الطَّبَائِع لها تعین من حیث الطَّبِیعَة). أَمَّا إذا کان مدخول «اللاَّم» جمعاً، فَسَوْفَ یکون التّعیّن الجنسی عبارة عن هذا الَّذی نقوله بین قوسین: (جماعة من أفراد الطَّبِیعَة لا تقل عن ثلاثة)، فهذا تعین ولا یوجد غموض وتردید وشک فِی معنی هذه العبارة. وهذا مطلب عُرْفِیّ یبنی علیه العرف، فِی باب الجمع وفی باب التَّثْنِیَة. مثلاً یقول القائل العرفی: «العلماء خیر من العالم الواحد». فإن «اللاَّم» فِی هذا القول أفادت التعیّنَ، فهذا التّعیّن لَیْسَ تعیناً خارجیّاً فِی قول هذا القائل. أی: یرید أن یقول: «إن جنس الکثیر أحسن من جنس القلیل». فالتعین محفوظ، مع أَنَّهُ لا یوجد من حیث المصداق الخارجیّ تعینٌ؛ لأَنَّ الکلام لَیْسَ عن المصداق الخارجیّ أبداً. فیُؤتی باللام من أجل إفادة الحدّ الجنسی لماهیة الکثیر، من أجل بیان المقابلة بین ماهیَّة الکثیر وماهیة القلیل.

ص: 5


1- (3) - أجود التقریرات: ج1، 445.

إذن، فاللام موضوعة لجامع التّعیّن، غایة الأمر هذا التّعیّن کما قد یکون خارجیاً من حیث المصداق الخارجیّ (کما فِی موارد العهد، لو قال «أکرم العلماء» وکان یقصد مجموعة مُعَیَّنَة من العلماء، فَیَکُونُ التّعیّن موجوداً ویکون خارجیاً) کذلک قد یکون ذِهْنِیّاً وَقَدْ یَکُونُ تعیّناً ماهویاً (تعینا للجنس).

إذن، بناء عَلَیٰ المسلک الثَّانِی القائل بأن «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع تفید تعینَّ مدخولها، یأتی إِشْکَال الخُراسانیّ بأَنَّهُ لا وجه لاستفادة العموم؛ لأَنَّ التّعیّن الجنسی الموجود هنا الَّذی وضعت له «اللاَّم»، کما هو ثابت فِی المرتبة العلیا والأخیرة (وهو المائة مثلاً)، کذلک هو ثابت فِی المرتبة الدنیا کما فِی الثَّلاثة، فیأتی إِشْکَال الآخوند.

إذن، بقی الإشکال عَلَیٰ المسلک الثَّانِی وارداً، ولا یدفعه انتصار السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله. للبحث تتمة تأتی إن شاء اللٰه تعالی.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

المناقشة الثَّالثة: وهی المناقشة حول أصل دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم والاستیعاب، سواء عَلَیٰ المسلک الأوّل القائل بالوضع للعموم، أم عَلَیٰ المسلک الثَّانِی القائل بالوضع للتعیّن الملازم للعموم. والمناقشة هی أَنَّهُ لا شکّ فِی صحَّة دخول أدوات العموم الاسمیّة (من قبیل «کُلٍّ» و«جمیع» وأمثالهما) عَلَیٰ الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ (مثلاً یصحّ أن تدخل کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ کلمة «العلماء» ویقال: «أکرم کل العلماء»، وهذا استعمال صحیح بلا إِشْکَال، وکذلک کلمة «الجمیع» یصحّ أن تدخل عَلَیٰ الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، وأمثال ذلک). وهذا شاهد ودلیل عَلَیٰ أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ هو فِی نفسه لا یفید العموم والاستیعاب، وإنَّما کلمة «کُلٍّ» أو کلمة «جمیع» أو نحوهما إذا دخلت عَلَیٰ هذا الجمع تفید العموم، وإلا فلو کان الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ بنفسه دالاًّ عَلَیٰ العموم والاستیعاب والاستغراق، للزم فِی موارد دخول کلمة «کُلٍّ» أو کلمة «جمیع» عَلَیٰ هذا الجمع، أحد محذورین:

ص: 6

إما مَحْذُور التَّکرار (وهو مَحْذُور إِثْبَاتِیّ خلاف الوجدان)؛ لأَنَّ کلمة «کُلٍّ» تَدُلّ عَلَیٰ العموم والجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یَدُلّ عَلَیٰ العموم أیضاً. بینما من الواضح وجداناً أن ابن اللُّغَة لا یحس بالتکرار عندما یقال له: «أکرم کل العلماء».

وإما مَحْذُور ثُبُوتِیّ، وهو أن المماثل یقبل مماثله، بینما من المستحیل عقلاً قبول المماثل لمماثله. أو قل بعبارة أخری: یستحیل اجتماع المثلین. فلا یجتمع الاستیعابان فِی شیء واحد. فلو کانت کلمة «العلماء» هی تفید العموم والاستیعاب، إذن ماذا تصنع کلمة «کُلٍّ» عندما تدخل عَلَیٰ کلمة «العلماء»؟ هل تفید الاستیعاب أیضاً؟ استیعابُ هذا المستوعِب؟! لا؛ لأَنَّ المستوعِب لا یُستوعَب (مثلاً: المُتِنَجّس بالنجاسة البولیة لا یتنجس مرّةً ثانیة بالنجاسة البولیة، ولا یجنب الجنب مرّةً ثانیة). فلو کانت کلمة «العلماء» تَدُلّ عَلَیٰ العموم، فیلزم فِی موارد دخول کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ العلماء، هذا المحذور الثُّبوتیّ، بینما من الواضح أیضاً أَنَّهُ لا یوجد مَحْذُور فِی هذا الاستعمال، عندما یقال: «أکرم کل العلماء».

إذن، هذا شاهد ودلیل عَلَیٰ أن الجمع نفسه لا یَدُلّ عَلَیٰ العموم، وإنَّما کلمة «کُلٍّ» هی الدَّالَّة عَلَیٰ العموم والاستیعاب، إذن فلا تَکرار ولا قبول المماثل لمماثله. هذا هو الإشکال الوارد عَلَیٰ أصل المطلب، بمعزل عن المسک الأوّل أو الثَّانِی.

جواب المناقشة: إلاَّ أن بالإمکان الإجابة عن هذا الإشکال بأن الاستیعاب الَّذی نفهمه من کلمة «کُلٍّ» غیر الاستیعاب الَّذی نفهمه من الجمع، حیث أن الاستیعاب الَّذی تَدُلّ علیه کلمة «کُلٍّ» (عندما تدخل هذه الکلمة عَلَیٰ «العلماء») إِنَّمَا هو استیعاب أجزائی، بینما الاستیعاب الَّذی یَدُلّ علیه لفظ «العلماء» (الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ نفسه) هو الاستیعاب الأَفْرَادِیّ. فأحد الاِسْتِیعَابَیْنِ غیر الآخر، فلا تَکرار ولا قبولَ المماثل للمماثله.

ص: 7

توضیح ذلک: قد تقدّم فِی العامّ الماضی عند دراستنا لکلمة «کُلٍّ» أن هذه الکلمة إذا دخلت عَلَیٰ النَّکِرَة أفادت الاستیعاب الأَفْرَادِیّ، وإذا دخلت عَلَیٰ المعرفة أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ. مثلاً عندما یقال: «اقرأ کل کتاب» یکون الاستیعاب الَّذی تَدُلّ علیه کلمة «کُلٍّ» استیعاباً أَفْرَادِیّاً، وهذا بخلاف ما إذا قیل: «اقرأ کل الکتاب»؛ إذ لا یکون الاستیعاب أَفْرَادِیّاً؛ لأَنَّ «الکتاب» هذا، لَیْسَ له أفراد. نعم یَدُلّ عَلَیٰ الاستیعاب الأَجْزَائِیّ؛ لأَنَّ الکتاب له أجزاء.

وحینئِذٍ إذا دخلت کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، فَوَفقاً للقانون المتقدّم هناک، تفید کلمةُ «کُلٍّ» الاستیعابَ الأَجْزَائِیَّ؛ لأَنَّ مدخولها معرَّف باللاَّم؛ فإنَّ الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ ببرکة «اللاَّم»، یُفید الاستیعابَ (استیعابَ کل أفراد العالم "کل أفراد الْمَادَّة"). وحینئِذٍ أصبح کل فرد من أفراد «العالم» جزءاً من معنی «العلماء»، ولیس فرداً؛ لأَنَّ العالم الواحد لَیْسَ من أفراد ومصادیق الجمع الَّذی لا یقل عن ثلاثة؛ فإن مصادیق هذا الجمع: أحدها الثَّلاثة، والآخر الأربعة، والخمسة وهکذا. فإذا دخلت «کُلٍّ» أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ، وَفقاً للقاعدة.

فالاستیعاب الأَجْزَائِیّ فِی طول الاستیعاب الأَفْرَادِیّ. الاستیعاب الَّذی نفهمه من «کُلٍّ» یختلف سِنْخاً وَنَوْعاً عن الاستیعاب الَّذی نفهمه من «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع. فلا یلزم شیء من المحذورین، لا التکرار (لأَنَّهُ یوجد هناک شیئان: "الاستیعاب الأَجْزَائِیّ من خلال کلمة «کُلٍّ»" و"الاستیعاب الأَفْرَادِیّ من خلال «اللاَّم»") ولا قبول المماثل للمماثله. الاستیعاب الأَجْزَائِیّ طرأ عَلَیٰ المستوعِب الأَفْرَادِیّ. من قبیل - بلا تشبیه - المُتِنَجّس بالنجاسة البولیة یتنجس بالدم؛ فَإِنَّ هذا مطلب آخر؛ إِذْ أَنَّ النَّجَاسَة الدمیة غیر النَّجَاسَة البولیة. نعم، المُتِنَجّس بالنجاسة البولیة لا یتنجس مرّةً أخری بالنجاسة البولیة، أَمَّا أَنَّهُ هل یتنجس بنجاسة أخری غیر النَّجَاسَة البولیة، فهذا لا إِشْکَال فیه. إذن، طرأ هنا المستوعِب الأَجْزَائِیّ عَلَیٰ الاستیعاب الأَفْرَادِیّ. فلا یرد مَحْذُور قبول المماثل للمماثله، فهذه المناقشة الثالثة غیر واردة.

ص: 8

وبهذا نختم الحدیث عن المناقشات الواردة عَلَیٰ هذه المسألة، وبعد ذلک - کما وعدنا بالأَمْسِ - نستعرض سائرَ الوجوه الَّتی اِسْتَدَلَّ بها أو الَّتی یمکن أن یُستدلّ بها لإِثْبَاتِ دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم والاستیعاب. وهی وجوه عدیدة نذکر منها ثلاثة أو أربعة، وبعد انتهائها ننتهی من بحث الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، وذلک کالتالی:

الوجه الأوَّل: صحَّة الاستثناء من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ؛ إذ لا شکّ ولا إشکال فِی أن الاستثناء من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ صحیح فِی لغة العرب، حیث یصحّ أن یقال: «أکرم العلماء إلاَّ زیداً»؛ لأَنَّ معنی الاستثناء هو إخراجُ ما کان داخلاً (إخراج ما لو لا الاستثناء لکان داخلاً). ومعنی ذلک أن زَیْداً کان داخلاً فِی «العلماء»، ومعنی ذلک إفادة «العلماء» الاستغراقَ والشمولَ.

غایة الأمر یبقی مطلب لا بُدَّ من تنقیحه وهو أَنَّهُ هل کان زید داخلاً فِی المعنی الوضعیّ لکلمة «علماء»، أم کان مشمولاً للإطلاق الجاری فِی کلمة «العلماء». وعلی أساسه تختلف النَّتِیجَة؛ فإِنَّهُ لو کان «زید» داخلاً فِی الْمَدْلُول الوضعیّ لکلمة «العلماء» فهذا یثبت المطلوب. أی: صحَّة استثناء زید من العلماء، وإخراجه من المدلول الوضعیّ لکلمة «العلماء» دلیل عَلَیٰ أن الْمَدْلُول الوضعیّ لکلمة «العلماء» هو العموم، وهذا هو المطلوب والمُدَّعی.

أَمَّا لو کانت کلمة «العلماء» شاملة ومستوعبة لزید، لا بِالدِّلاَلَةِ الوضعیَّة، بل بالإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة، فلا ینتج الإطلاقُ ومقدّمات الحِکْمَة العمومَ. فقد تکلمنا فِی العامّ الماضی فِی تعریف العموم عن الفرق بین العامّ والمطلق، فقد تقدّم أن العموم عبارة عن الاستیعاب الَّذی یَدُلّ علیه اللَّفظ بِالدِّلاَلَةِ الوضعیَّة، بخلاف الإِطْلاَق فإِنَّهُ لَفظ یَدُلّ عَلَیٰ العموم والشمول والاستیعاب، لکن لا بالوضع، بل ببرکة قرینة خارجیّة هی قرینة الحِکْمَة.

ص: 9

وهنا، صحَّة استثناء زید من «العلماء»، معناه أَنَّنَا أخرجنا زَیْداً من مدخول العلماء بعد أن کان داخلاً. أَمَّا أَنَّهُ هل کان داخلاً فِی الْمَدْلُول الوضعیّ للعلماء لکی یثبت المطلوب، أم أَنَّهُ کان داخلاً فِی الْمَدْلُول الحکمی، فهذا ما لا یثبت العموم.

فصاحب هذا الوجه یکمّل جوابه ویقول: نعم کان داخلاً فِی الْمَدْلُول الوضعیّ، لا أَنَّهُ کان مشمولاً للإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة؛ لأَنَّ الإِطْلاَق إِنَّمَا یجری فیما إذا کان الْمُتِکَلِّم جاداً فِی کلامه، فإن شأن الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة تعیینُ المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ. وهذا عبارة عن أن مکان الإِطْلاَق هو فِی الموارد الَّتی یوجد فیها مراد جدّی لِلْمُتِکَلِّمِ، وأمّا فِی الموارد الَّتی لا یوجد فیها مراد جدّی لِلْمُتِکَلِّمِ فلا یجری الإِطْلاَق فِی کلام الْمُتِکَلِّم حتّی نثبت أَنَّهُ ما هو مراده من هذا الکلام؛ إذ هو هازل ولیس بجادٍّ. بینما نحن نری أن استثناء زید من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ صحیح حتّی فِی موارد الهزل. أی: حتّی لو قال الْمُتِکَلِّم هازلاً: «أکرم العلماء إلاَّ زَیْداً»، لا یکون کلامه هذا مخالفاً لنظام اللُّغَة، ولم یرتکب الْمُتِکَلِّم مخالفةً لغویةً. وهذا معناه أَنَّهُ استعمل کل هذه الألفاظ فِی معانیها. فقد أخرج زیداً من العلماء (من الْمَدْلُول اللَّفظیّ ولیس الْمَدْلُول الحکمی).

فهذا یکشف عن أن صحَّة الاستثناء من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ دلیل عَلَیٰ أن الْمَدْلُول الوضعیّ لکلمة «العلماء» عبارة عن العموم والاستیعاب. إذن ثبت المطلوب. هذا وجه یذکر فِی مقام إثبات دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ علی العموم.

الرَّدّ عَلَیٰ الوجه الأوّل: إلاَّ أن هذا الوجه لا نقبله؛ وذلک لأَنَّهُ یرد علیه إشکالان أحدهما نقضیّ والآخر حلیّ.

أَمَّا الإشکال النقضی: فعبارة عن النقض بصحة الاستثناء من المفرد، حیث یصحّ الاستثناء من المفرد الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، کالآیات التالیة: «بسم اللٰه الرحمن الرحیم، والعصر إن الإنسان لفی خسر، إلاَّ الَّذین آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر». وکذلک «أَکْرِمِ الْعَالِمَ إلاَّ زَیْداً». فقد یکون هناک من یقول بأن المفرد المعرّف باللام یفید العموم، ولٰکِنَّهُ خلاف الْمَشْهُور. نعم، قد نستفید العموم والاستیعاب، ولکن ببرکة الإِطْلاَق.

ص: 10

فلو کانت صحَّة الاستثناء دَلِیلاً عَلَیٰ أن اللَّفظ المستثنی منه یفید العموم، لَوَرَدَ هذا النقض بأن نجعل صحَّة الاستثناء من المفرد المعرف باللام دَلِیلاً عَلَیٰ أن المفرد المعرف باللام یفید العموم، وهذا عَلَیٰ الأَقَلّ خلاف الْمَشْهُور.

وإن أشکلتم فِی هذا النقض بأَنَّ هناک فرقاً نشعر به وجداناً بین الاستثناء من المفرد المعرف باللام وبین الاستثناء من الجمع، وهو أن الاستثناء من المفرد لا یخلو من العنایة، ولکن الاستثناء من الجمع لا عنایة فیه.

إن أشکلتم بهذا الإشکال فنحن نبدل النقض وننقض بالجمع المضاف، مثل ما لو قیل: «أکرم علماء البلد إلاَّ زَیْداً»، حیث یصحّ الاستثناء منه بلا إِشْکَال. فلو کان صحَّة الاستثناء دَلِیلاً عَلَیٰ أن المستثنی منه یفید العموم، إذن یلزم بأن تقولوا هنا: إن الجمع المضاف یفید العموم، بینما لا تلتزمون بذلک (علماء البلد لا یفید العموم). هذا هو النقض ویبقی الجواب الحلی وهذا ما نؤجله إلی غد إن شاء اللٰه تعالی. تقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا ندرس الوجه الَّذی یرید إثبات دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم عن طریق الدَّلِیل الَّذی شرحناه بالأَمْسِ، وهو عبارة عن أن صحَّة الاستثناء من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ دَلِیل عَلَیٰ أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یفید العموم.

قلنا: لا یمکن قبول هذا الدَّلِیل، ولا یمکن جعل صحَّة الاستثناء دَلِیلاً عَلَیٰ أن المستثنی منه یفید العموم، وذلک أوَّلاً للنقض الَّذی ذکرناه بالأَمْسِ، وثانیاً للجواب الحلی:

الجواب الحلی: هو أَنَّهُ یصحّ الاستثناء من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، ولا إِشْکَال فِی أن الاستثناء معناه إخراج ما هو داخل فِی المستثنی منه، وإنَّما الکلام فِی أَنَّ الاستثناء معناه إخراج ما کان داخلاً فِی المعنی الوضعیّ للمستثنی منه أو إخراج ما کان داخلاً فِی المعنی التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ للمستثنی منه، أو لا هذا ولا ذاک، بل إخراج ما کان داخلاً فِی المعنی الاستعمالیّ؟!

ص: 11

فکأنَّ صاحب هذا الوجه لم یتصوّر إلاَّ شقین:

الشق الأوّل: إما أن یکون زیدٌ المستثنی فِی قولنا: «أکرم العلماء إلاَّ زَیْداً» داخلاً فِی المعنی الوضعیّ للعلماء وأُخرج فِی الاستثناء.

الشق الثَّانِی: وإما أن یکون داخلاً فِی المعنی التَّصدیقیّ والمراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ وأُخْرِجَ.

ثُمَّ قَالَ صاحب الوجه (کما شرحنا بالأَمْسِ): أَمَّا الثَّانِی فمنتفی، باعتبار أَنَّهُ لو کانت صحَّة استثناء زید من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، دَلِیلاً عَلَیٰ أن زَیْداً داخل فِی المراد الْجِدِّیّ واستثنی، فهذا معناه أَنَّ صحَّة الاستثناء تختصّ بالموارد الَّتی یوجد فیها مرادٌ جدّی لِلْمُتِکَلِّمِ، أَمَّا فِی موارد الهزل الَّتی لا مراد جدّی لِلْمُتِکَلِّمِ فیها، فلا یمکن القول بأن زَیْداً استثنی من المراد الْجِدِّیّ. بینما نحن نری أَنَّهُ یصحّ الاستثناء حتّی فِی موارد الهزل، فإن للمازح أن یقول: «أکرم العلماء إلاَّ زَیْداً».

فَجَعَلَ صاحبُ هذا الوجه صحةَ الاستثناء حتّی فِی موارد الهزل دَلِیلاً عَلَیٰ تَعَیُّنِ الشق الأوّل (القول بأن المستثنی کان داخلاً فِی الْمَدْلُول الوضعیّ للمستثنی منه) فیثبت المُدَّعی.

لکِنَّنََا نقول: لا یدور الأمر بین هذین الشقین، بل هناک شق ثالث، وهو أنْ یکون زید الَّذی استثنی وأخرج من العلماء، یکون داخلاً قبل الاستثناء (لولا الاستثناء) لا فِی المعنی الوضعیّ للعلماء ولا فِی المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ من العلماء، بل یکون داخلاً فِی المراد الاستعمالیّ لِلْمُتِکَلِّمِ، بحیث یکون الْمُتِکَلِّم مستعملاً لفظ العلماء (= الجمع) فِی العموم، استعمالاً صحیحاً وحقیقیّاً؛ لأَنَّ هیئة الجمع (= العلماء) وضعت لجماعة من أفراد العالم لا تقلّ عن ثلاثة، فَیَصِحُّ استعمال لفظ العلماء فِی ثلاثة من العلماء، کما یصحّ استعمال هذا اللَّفظ فِی أربعة، وفِی عشرة وفِی «کُلّ العلماء» أی: المائة. فَیَکُونُ استعمال هذا اللَّفظ فِی کُلّ هذه المراتب استعمالاً صحیحاً وحقیقیّاً؛ لأَنَّ هیئة الجمع (العلماء) وضعت بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ لکل جمع لا یقل عن ثلاثة.

ص: 12

إِنَّمَا أقول: «بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ» إشارةً إلی ما قلناه قبل سنین فِی بحث معانی الحروف والهیئات من أن الوضع فِی الحروف وکذلک فِی الهیئات بشکل عامّ، عامّ والموضوع له خاصّ. یعنی: أن الواضع حینما أراد أن یضع کلمة «فِی» (الَّتی هی حرف) تصوّرَ عنواناً عاماً (= مفهوماً اسمیّاً عامّاً) وهو مفهوم «الظرفیة»، ثم وضع لفظ «فِی» لا لهذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ نفسه، لأَنَّ معنی لفظ «فِی» لَیْسَ الظرفیة؛ لأَنَّ «الظرفیة» اسم، بینما «فِی» حرف، والحرف لَیْسَ مرادفاً للاسم. أی: وضع لفظ «فِی» لمصادیق هذا المعنی الخاصّ، أی: واقع الظَّرفیّات الموجودة فِی الخارج. فالموضوع له خاصّ، أی: الْمَوْضُوع له فِی کلمة «فِی» نفس هذه الظرفیة الخارجیة. وهذا ما تقدّم شرحه مفصَّلاً بِالنِّسْبَةِ للحروف وکذلک بِالنِّسْبَةِ للهیئات؛ فإن هیئة «العلماء» وضعت بنحو الْمَوْضُوع له الخاصّ والوضع العامّ. یعنی: الواضع حینما أراد أن یضع هیئة «العلماء»، استظهر هذا العنوان العامّ (= الجامع الاِسْمِیّ) کعنوان مشیر إلی مصادیق هذا العنوان العامّ. مصادیق هذا العنوان العامّ کثیرة منها الثَّلاثة ومنها الأربعة ومنها العشرین ومنها المائة الَّتی هی المرتبة الأخیرة. فهذه المراتب کُلّهَا مصادیق لذاک الجامع، وهیئة الجمع وضعت لهذه المصادیق، أی: الوضع عامّ ولکن الْمَوْضُوع له خاصّ. هیئة الجمع وضعت للثلاثة ووضعت للأربعة ووضعت للعشرین ووضعت للمائة. إذن، یصحّ استعمال «العلماء» فِی کُلّ واحد واحدٍ من هذه المراتب وهذا الاستعمال حقیقی ولا تجوّز فیه. هذا شأن الجمع.

الْمُتِکَلِّم هنا استعمل لفظ «العلماء» فِی العموم (أی: فِی المائة) استعمالاً صحیحاً، ثم أخرج من هذا زیداً. فصحة الاستثناء لا تَدُلّ إلاَّ عَلَیٰ أن الْمُتِکَلِّم استعمل العلماء فِی العموم، ثم أخرج منه زیداً، وهذا ما لا کلام لنا فیه. فإِنَّهُ لا نتحدث عن صحَّة استعمال العلماء فِی العموم أو عدم صحَّة هذا الاستعمال؛ فإِنَّهُ لا شکّ فِی صحَّة هذا الاستعمال.

ص: 13

أَمَّا مدعاکم وهو أَنَّهُ لطالما الاستعمال صحیح فَیَکُونُ العلماء قد استعمل فِی العموم، فهذا کلام صحیح. وکذلک صحیح أن هذا الاستعمال حقیقی، ونحن أیضاً نقبل بذلک، لکن الکلام فِی أَنَّهُ هل أن استعمال العلماء فِی غیر العموم حقیقی أم هو مجازی؟ إذا کان «العلماء» (= الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ) مَوْضُوعاً للعموم فاستعماله فِی غیر العموم مجاز. وإذا لم یکن مَوْضُوعاً للعموم وإنَّما مَوْضُوع لکل جماعة لا تقل عن ثلاثة، إذن استعماله فِی غیر العموم استعمال حقیقی ولیس مَجَازِیّاً.

کلامنا فِی هذا. بینما أنتم تدعون أَنَّهُ مَوْضُوع للعموم، وتریدون إثبات ذلک بصحة الاستثناء. بینما لا تَدُلّ صحَّة الاستثناء عَلَیٰ أن لفظة العلماء موضوعة للعموم بحیث یکون استعماله فِی غیر العموم مجاز. بل صحَّة الاستثناء دلیل عَلَیٰ مطلبٍ یقبل به الکلُّ ولا نقاش فیه (= لا نقاش ولا خلاف فِی صحَّة استعمال الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ فِی العموم وهذا الاستعمال حقیقی بلا إِشْکَال، یقبل به المنکرون لوضع الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ؛ لأنهم یقولون إن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ مثل الجمع غیر الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، أی: العلماء مثل «علماء»، کما أَنَّهُ یقبل به المثبتون). فلیس الکلام فِی أن استعمال العلماء فِی العموم هل هو صحیح أم لا، حتّی تأتون بدلیل یقول: یصحّ الاستثناء من العلماء. فهذا ما نقبل به، ولا نقاش فیه. أَمَّا هل أن لفظة «العلماء» (أی: هیئة الجمع الَّتی حُلّیت باللام) هل هی موضوعة للعموم، بحیث لو استعمل العلماء وأرید منه العشرة یکون الاستعمال مجازاً، أو لا؟

ولذا نقضنا بالأَمْسِ علی هذا الکلام بالجمع المضاف، فلو کان صحَّة الاستثناء تَدُلّ عَلَیٰ أن المستثنی منه مَوْضُوع للعموم فماذا تقولون فِی الجمع المضاف مثل «أکرم علماء البلد إلاَّ زَیْداً»، فهل تجعلون هناک صحَّة الاستثناء دَلِیلاً عَلَیٰ أن علماء البلد مَوْضُوع للعموم. رغم أن الاستثناء منه صحیح. هذا ما أردنا أن نقوله بِالنِّسْبَةِ للوجه الأوَّل.

ص: 14

إذن، الوجه الأوّل من هذه الوجوه الَّتی ذکرت لإِثْبَاتِ دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم، غیر تامّ.

الوجه الثَّانِی: هو أَنَّهُ لا شکّ فِی صحَّة دخول أدوات العموم الاسمیّة من قبیل «کُلٍّ» و«جمیع» عَلَیٰ الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، کما فِی قولنا: «أکرم کل العلماء» أو «أکرم جمیع العلماء»، کما لا إِشْکَال فِی أَنَّ العموم یستفاد من قوله «أکرم کل العلماء»، بینما استفادة العموم من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ فقط محلّ خلاف. أی: لو قال: «أکرم العلماء» فَیَکُونُ مختلف فیه بأَنَّهُ هل یُستفاد منه العموم أو لا، ولکن لو قال: «أکرم کل العلماء» فلا شکّ فِی استفادة العموم منه عِنْدَ الْجَمِیعِ.

وحینئِذٍ یراد فِی هذا الوجه أن یجعل هذا دَلِیلاً عَلَیٰ أَنَّ الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ (أی: کلمة «العلماء») تَدُلّ عَلَیٰ العموم، عَلَیٰ عکس ما تقدّم بالأَمْسِ (فِی الإشکال الثَّالث) حیث کان یراد أن یُجعل دخول کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ «العلماء» دَلِیلاً عَلَیٰ أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ (= العلماء) لا یفید العموم؛ إذ لو أفاد العموم وکلمة «کُلٍّ» أیضاً تفید العموم فیلزم اجتماع المثلین أو التَّکرار. ولکن یأتی الوجه الثَّانِی عَلَیٰ عکس ذلک، أی: یجعل هذا دَلِیلاً عَلَیٰ دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم؛ وذلک بأن یقال: إِنَّنّا ذکرنا سابقاً فِی العامّ الماضی عندما کُنَّا نبحث عن کلمة «کُلٍّ» (فِی الجهة الثَّانیة من جهات البحث عن لفظة «کُلٍّ») أنَّ العموم الْمُسْتَفَاد من کلمة «کُلٍّ» حین دخولها عَلَیٰ المعرفة عموم أجزائی ( مثل «احفظ کلَّ الکتاب»)، بینما العموم الْمُسْتَفَاد منها حین دخولها عَلَیٰ النَّکِرَة عموم واستیعاب أَفْرَادِیّ (أی: مصادیق عدیدة، مثل: «اقرأ کل سورة» و«لا تأکل کل طعام»).

وکلامنا الآنَ فِی دخول کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ «العلماء»، فِی قول القائل: «أکرم کل العلماء»، حیث دخلت «کُلٍّ» عَلَیٰ المعرفة، ووَفقاً للقاعدة المذکورة (إذا دخلت عَلَیٰ المعرفة أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ) تفید کلمة «کُلٍّ» الاستیعاب الأَجْزَائِیّ (أی: تفید استیعاب جمیع العلماء)؛ إذ أنَّها دخلت عَلَیٰ «العلماء» و«العلماء» معرفة. وأمّا ما هی أجزاء العلماء؟ فإن الأداة لا تُعَیِّن ولا تُحَدِّد أجزاء مدخولها، ولا دخل لها بأجزاء المدخول، وإنَّما بعد أن تتشخّص أجزاء مدخولها تأتی کلمة «کُلٍّ» وتدلّ عَلَیٰ استیعاب هذه الأجزاء. أی: أنَّ کلمة «کُلٍّ» لا تَدُلّ عَلَیٰ أَنَّهُ ما هی أجزاء الکتاب فِی «اقرأ کل الکتاب»، بل تأتی کلمة «کُلٍّ» وتدلّ عَلَیٰ استیعاب أجزاء الکتاب، وذلک بعد تعین وَتشَخّص أجزاء الکتاب. أَمَّا أجزاء الکتاب فتحددها طبیعة الکتاب. أی: کل طبیعة هی واجدة لأجزاء نفسها. فالمدخول بعد أن تتعین أجزاؤه تأتی کلمة «کُلٍّ» لاستیعاب هذه الأجزاء.

ص: 15

وحینئِذٍ إذا قال المتکلّم: «أکرم کل العلماء» فمعنی ذلک تعیّن أجزاء العلماء وتشخصها قبل دخول کلمة «کُلٍّ»، لتأتی کلمة «کُلٍّ» بعد ذلک وتدلّ عَلَیٰ استیعاب هذه الأجزاء. والمعیِّن والمشخِّص لهذه الأجزاء هو «اللاَّم»؛ فإن «اللاَّم» هی الَّتی عیّنت أن أجزاء العلماء کلهم. فکل فرد من العلماء هو جزء لهذا المدخول (=الجمع)، لکی تأتی بعد ذلک کلمة «کُلٍّ» وتدلّ عَلَیٰ استیعاب هذه الأجزاء.

هذا خلاصة هذا الوجه. یبقی أن ندرس هذا الوجه فِی الیوم القادم إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کان الوجه الثَّانِی من وجوه إثبات أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یَدُلّ عَلَیٰ العموم یقول: لا إِشْکَال فِی صحَّة دخول أدوات العموم الاسمیّة (من قبیل کلمة «کُلٍّ» و«جمیع» ونحوهما) عَلَیٰ الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، وإذا دخلت لا شکّ فِی أَنَّهُ یُفهم منها العموم والاستیعاب. من قبیل أن یقال: «أکرم کل العلماء»، فإِنَّهُ لا إِشْکَال فِی فهم العموم هنا قَطْعاً، حتّی لدی المنکر لدلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم؛ فإِنَّهُ یقبل هنا بأَنَّهُ إذا دخلت «کُلٌّ» عَلَیٰ هذا الجمع یُفهم العموم.

والمطلب الثَّانِی هو أنَّ کلمة «کُلٍّ» إذا دخلت عَلَیٰ المعرفة أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ (استیعاب أجزاء مدخولها).

والمطلب الثَّالث هو أن کلمة «کُلٍّ» لا تُعیّن أجزاء مدخولها، وإنَّما بعد أن تتعیّن أجزاء المدخول، تَدُلّ کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ استیعاب هذه ا لأجزاء، أَمَّا نفس الأداة (کلمة «کُلٍّ» نفسها) لا تَدُلّ عَلَیٰ أن أجزاء المدخول ما هی؟ مثلاً عندما نقول: «اقرأ کل الکتاب» فإن کلمة «کُلٍّ» لا تُعیِّن أجزاء الکتاب، وإنَّما بعد أن تَعَیَّنَتْ أجزاءُ الکتاب بمعیّنٍ، تأتی کلمة «کُلٍّ» لتدل عَلَیٰ استیعاب هذه الأجزاء.

ص: 16

إذن، نفهم العموم من قوله: «أکرم کل العلماء» فیما إذا کانت کلمة «العلماء» دالَّة عَلَیٰ أن کل فرد فردٍ من العلماء هو جزء من معنی العلماء، وذلک فِی المرتبة السَّابِقَة عَلَیٰ دخول کلمة «کُلٍّ»، وبقطع النَّظَر عن دخول کلمة «کُلٍّ». فلو أن کلمة «العلماء» لم تَدُلّ عَلَیٰ أن کلَّ عالم هو جزء من مدلول هذه الکلمة، بأن کان عدد العلماء مائة مثلاً، ولم تکن «العلماء» دالَّة عَلَیٰ أن کل واحد من هؤلاء المائة هو جزء من مدلول هذه الکلمة (بأن نفرض مثلاً أن هذه الکلمة تَدُلّ عَلَیٰ أن تسعین منهم أجزاء، وعشرة منهم لیسوا أجزاءً)، فحینئذٍ تَدُلّ کلمة «العلماء» عَلَیٰ معنیً أجزاؤه تسعون، ولیس بمائة. إذن کیف نفهم کلَّ المائة؟! والأداة لا تعین أجزاء مدخولها، بل تقول: أنا أستوعب أجزاء المدخول، أَمَّا أجزاء المدخول کم هی؟ ثمانون تسعون أو کل المائة؟! فیجب أن یَدُلّ المدخول بنفسه عَلَیٰ التسعین أو المائة حتّی تأتی بعد ذلک کلمة «کُلٍّ» لتدل عَلَیٰ کل المائة.

ویرد علیه باعتراضین:

الاعتراض الأوّل: النقض عَلَیٰ هذا الکلام بالجمع المضاف، مثل: «علماء البلد»، فإِنَّهُ یصحّ أن تدخل کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ هذا المضاف ویقال: «أکرم کل علماء البلد» ولا إِشْکَال فیه، کما لا إِشْکَال فِی فهم العموم منه. وحینئِذٍ نتساءل صاحب الوجه بأَنَّهُ هل یلتزم بما التزم به فی «أکرم العلماء». من أن یکون مدخول «کُلٍّ» دالاًّ عَلَیٰ استیعاب کل المائة؟ بحیث یصبح کل فرد فردٍ من العلماء جزءاً من العموم، حتّی تأتی کلمة «کُلٍّ» وتدلّ عَلَیٰ الاستیعاب الأَجْزَائِیّ؟! إِذْ أَنَّ الْمَشْهُور ذهبوا إلی أن الجمع المضاف (=علماء البلد) لا یفید العموم. ولئن کان هناک خلاف معتد به فِی الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، فإِنَّهُ لا خلاف معتد به فِی الجمع المضاف. مَعَ أَنَّکم جعلتم صحَّة دخول کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ الجمع وإفادة العموم دَلِیلاً عَلَیٰ أن المدخول یفید العموم. فمقتضی هذا الدَّلِیل هو أن الجمع المضاف یفید العموم. أی: ما قلتموه فِی الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ (حین دخول کلمة «کُلٍّ») یأتی فِی الجمع المضاف عندما تدخل کلمة «کُلٍّ» علیه، مع أَنَّهُ لا تلتزمون بذلک. هذا أوَّلاً.

ص: 17

الاعتراض الثَّانِی (وهو الجواب الحلی للثغرة الموجودة فِی هذا الوجه): وهو أن لدینا فِی قول القائل: «أکرم کل العلماء» أداة العموم (= کلمة «کُلٍّ»)، الداخلة عَلَیٰ العلماء. فالمدخول عبارة عن «العلماء»، وهذا المدخول له معنیً وَضْعِیّ لغةً وله معنیً استعمل هذا اللَّفظُ فیه مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم. فهناک مدلول وَضْعِیّ لهذه الکلمة کما أنَّ هناک مدلولاً استعمالیّاً (أی: ذاک المعنی الَّذی أراده الْمُتِکَلِّم حینما استعمل هذا اللَّفظ، فإِنَّهُ لا بُدَّ لکل متکلم أن یکون له مراد استعمالی عندما یتکلم بکلمة، وهو ذاک المعنی الَّذی أراد إلقاءَهُ وإخطاره فِی ذهن السَّامِع. هذا هو المعنی أو الْمَدْلُول الاستعمالیّ).

أَمَّا ما هو المعنی الوضعیّ وما هو المعنی المستعمل فیه لکلمة «العلماء»؟ فنجیب عنهما تباعاً:

«المعنی المستعمل فیه» متعیّن فِی الواقع وفی نفس الأمر، فإِنَّهُ لا بُدَّ لهذا الْمُتِکَلِّم حینما تَلَفَّظَ بلفظ «العلماء» من أن یکون قد قصد إما ثلاثةً من العلماء أو أربعةً منهم أو خمسةً أو عشرة أو عِشْرِینَ أو الجمیع (أی: کل المائة). أَمَّا أَنْ لاَّ یَکُونَ قد قصد لا الثَّلاثة ولا الأربعة ولا الخمسة ولا المائة، فماذا یکون قد قصد؟! فإحدی مراتب الجمع قَطْعاً هی مقصودة لِلَّفْظِ «العلماء». نعم، هو غیر متعیّن عند السَّامِع، لکن نفس الْمُتِکَلِّم یدری، بحیث إن سئل لأجاب أنه قصد ثلاثةً أو أربعة أو عشرةً من العلماء أو أَنَّهُ قصد کل المائة. فالمدلول الاستعمالیّ لِلْکَلِمَةِ متعیّن فِی الواقع ونفس الأمر وعند الْمُتِکَلِّم وإن کان غیر متعین عند السَّامِع.

أَمَّا «الْمَدْلُول الوضعیّ»، فهو غیر متعین؛ لأَنَّ الْمَدْلُول الوضعیّ لکلمة «العلماء» سنخ مدلولٍ ومعنیً مَرِن وانسیابی قابل للانطباق عَلَیٰ معانٍ عدیدة. وذلک لأَنَّ کلمة «العلماء» تحتوی عَلَیٰ مَادَّةً وَهَیْئَةً. أَمَّا الْمَادَّة فهی «العالم» الَّتی تَدُلّ عَلَیٰ طَبِیعِیّ العالم، وهذا ما لا شغل لنا به. وأمّا المعنی الَّذی وضعت له هیئة الجمع (الْمَدْلُول الوضعیّ) هو عدد لأفراد الْمَادَّة لا یقل عن ثلاثة، أو قل: ما یزید عَلَیٰ اثنین من أفراد الْمَادَّة (= العالم). أی: ثلاثة فما فوق. و«ما یزید عَلَیٰ اثنین» ینطبق عَلَیٰ ثلاثة وأربعة وخمسة وهکذا إلی المائة. فکل واحدة من هذه المراتب هی معنیً مَوْضُوع له لهیئة الجمع((1) ) (کالمشترک اللَّفظی الَّذی له معانٍ عدّة)، حیث وضع الواضع هیئةَ الجمع لکل مرتبة مرتبةٍ من مراتب الجمع. فهناک معانٍ حقیقیَّة عدیدة بین الثَّلاثة إلی المائة، وهذه کُلّهَا معان حقیقیَّة (أی: وضعت هیئة الخمسة للخمسة بما هی خمسة، لا بما هی تحتوی عَلَیٰ الثلاثة أو الأربعة. ووضعت هیئة السِّتَّة للستة بما هی ستة، لا بما هی تحتوی عَلَیٰ الخمسة أو الأربعة).

ص: 18


1- (1) - وهذا البحث یرتبط بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ المتقدّم فِی مبحث وضع الحروف والهیئات وَالَّذِی أشرنا إلیه بالأَمْسِ.

إذن الْمَدْلُول اللَّفظیّ لکلمة «العلماء» غیر متعین (کالمشترک اللَّفظیّ الَّذی یشبه المجاز، حیث یحتاج المجاز إلی قرینة صارفة، بخلاف المشترک اللَّفظیّ - مثل کلمة «العین» - الَّذی لا یحتاج إلی قرینة صارفة بل یحتاج إلی قرینة مُعَیِّنَة)، وحیث أن بحثنا فِی دخول الأداة عَلَیٰ العموم، نأتی إلی الأداة (کلمة «کُلٍّ») ونقول: قد سبق فِی العامّ الماضی أن کلمة «کُلٍّ» عندما تدخل عَلَیٰ المعرفة من قبیل «کل الکتاب»، تَدُلّ عَلَیٰ الاستیعاب الأَجْزَائِیّ، وأنَّ هذه الأداة لا تُعیِّن أجزاء مدخولها، وإنَّما بعد أن تتحدد أجزاء المدخول، تأتی کلمة «کُلٍّ» لتدل عَلَیٰ استیعاب هذه الأجزاء، لا أکثر.

هنا عندنا سؤال: هل تَدُلّ کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ استیعاب أجزاء المعنی المستعمل فیه لِلْمَدْخُولِ؟ أم تَدُلّ عَلَیٰ استیعاب أجزاء المعنی والوضعیّ (= الْمَوْضُوع له)؟

إن کان الأوّل فیتم هذا الوجه؛ لأَنَّهُ یقال حینئذٍ (کما قال صاحب هذا الوجه): لکی تکون الأداةُ دالَّةً عَلَیٰ استیعاب أجزاء المدخول، لا بُدَّ من أن تَتَحدَّد أجزاء المراد الاستعمالیّ من «العلماء» حتّی تأتی الأداة وتدلّ عَلَیٰ استیعابها.

إذن فهذا معناه أن المدخول (= العلماء) هی بنفسها تَدُلّ عَلَیٰ أجزائها (أی: تَدُلّ عَلَیٰ أن کل فرد من أفراد العلماء هو جزء من المراد الاستعمالیّ لِلْمُتَکَلِّمِ. ولیس مراده الاستعمالیّ ثلاثة من العلماء، ولا أربعة ولا خمسة ولا عِشْرِینَ من العلماء، بل المراد الاستعمالیّ هو کل المائة. لا بُدَّ أن نقول بهذا، لکی تکون کل المائة أجزاءً للمراد الاستعمالیّ حتّی تأتی «کُلّ» وتدلّ عَلَیٰ استیعاب أجزاء المراد الاستعمالیّ، ویتم فهم العموم.

وإلا فلو لم نقل بهذا، أی: لو قلنا بأن المراد الاستعمالی للمدخول خمسین مثلاً، ولیس مائة، وتأتی کلمة «کُلٍّ» وتدلّ عَلَیٰ استیعاب هؤلاء الخمسین، فبالنتیجة ما فهمنا العموم، والحال أَنَّنَا قلنا من المقطوع أَنَّنَا نفهم العموم عندما تدخل الأداة عَلَیٰ المدخول. أی: یَتُِمّ فهم العموم بالقول بأن الْمُتِکَلِّم أراد من «العلماء» المرتبةَ الأخیرة (أی: المائة). أی: کل واحد من العلماء هو جزء، حتّی تأتی الأداة بعد ذلک وتدلّ عَلَیٰ استیعاب المراد الاستعمالیّ. فیتم هذا الوجه فیما إذا قلتم بأن کلمة «کُلٍّ» وضعت لاستیعاب الْمَدْلُول الاستعمالیّ.

ص: 19

لکن الواقع أن الأمر لَیْسَ هکذا؛ فإن کلمة «کُلٍّ» وضعت لاستیعاب أجزاء المدخول، لکن لا لاستیعاب أجزاء المراد الاستعمالیّ لکلمة المدخول، بل لاستیعاب أجزاء الْمَدْلُول الوضعیّ للمدخول. ولیس لنا دخل بالمراد الاستعمالیّ للمدخول. تَدُلّ کلمة «کُلٍّ» عَلَیٰ استیعاب أجزاء الْمَدْلُول الوضعیّ للمدخول. أی: کل ما یمکن أن یکون جزءاً من المعنی الوضعیّ للمدخول، تستوعبه کلمة «کُلٍّ». تماماً کما إذا دخلت «کُلّ» عَلَیٰ النَّکِرَة، فإن قوله: «اقرأ کل الکتاب»، لا یختلف عن قوله: «اقرأ کل کتابٍ» من جهة أَنَّهُ فِی کلا الموردین وضعت کلمة «کُلٍّ» لتدل عَلَیٰ استیعاب أجزاء الْمَدْلُول الوضعیّ، کما أَنَّنَا نقول فی «اقرأ کل کتاب» أن کلمة «کُلٍّ» تَدُلّ عَلَیٰ استیعاب کل ما یمکن أن ینطبق علیه الْمَدْلُول الوضعیّ للکتاب.

وکذلک الأمر فِی الدخول علی المعرفة، فَإِنَّنَا نبدل الفرد بالجزء فِی المعرفة ونقول: إن کلمة «کُلٍّ» تَدُلّ عَلَیٰ استیعاب کل ما یمکن أن یکون جزءاً من الْمَدْلُول الوضعیّ».

وحینئِذٍ عندما یقول القائل: «أکرم کل العلماء» وکان عندنا عالم واحد، فلا یصحّ هذا الکلام من القائل؛ لأَنَّهُ لا یصدق علیه أَنَّهُ جمعٌ، کما لا یصحّ هذا الکلام إن کان عندنا عالمان فحسب. أَمَّا إن کان لدینا ثلاثة علماء إلی المائة. فکل فرد من هؤلاء الثَّلاثة یمکن أن یکون جزءاً من الْمَدْلُول الوضعیّ لهیئة الجمع، فتستوعبه کلمة «کُلٍّ». وکذلک الفرد الرَّابع یمکن أن یکون جزءاً من الْمَدْلُول الوضعیّ لهیئة الجمع، فتستوعبه کلمة «کُلٍّ»، وکذلک الخامس إلی المائة. فالعموم الَّذی نفهمه من أمثال قوله: «أکرم کل العلماء» هذا عمل الأداة (= کلمة «کُلٍّ») نفسها ولیس منتوجاً ل_«العلماء» (حیث أراد صاحب الوجه أن یقول بأن هذا من صنیع العلماء ومن عمل المدخول)، إذن، فکلمة «کُلٍّ» تَدُلّ عَلَیٰ استیعاب الأجزاء.

ص: 20

وَالنَّتِیجَة أن فهم العموم واستفادته مستند إلی کلمة «کُلٍّ» (= الأداة) ولم یثبت أن العموم استفید من العلماء نفسه (أی: من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ). فهذا الوجه الَّذی أراد أن یثبت أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یفید العموم، لم یَتُِمّ ولم نقبله.

وبهذا البیان الَّذی ذکرناه نستطیع أن نفسر استفادة العموم من الکلام حتّی فِی الموارد الَّتی لا یوجد لِلْمُتَکَلِّمِ فیها مراد استعمالی. من قبیل المتکلم النائم الَّذی قال مِنْ دُونِ قصد: «أکرم العلماء». أی: لا یصحّ أن نقول: هذا الْمُتِکَلِّم النائم تَلَفَّظَ بهذا اللَّفظ لکی یُخطر المعنی الکذائی فِی ذهن السَّامِع؛ فإِنَّهُ لا التفات له ولا قصد لدیه. ونفهم العموم هنا بواسطة الأداة.

فَیَکُونُ هذا التَّفْسِیر فِی فهمنا للعموم تفسیر شامل لا یختصّ بموارد وجود الإرادة الاِسْتِعْمَالِیَّة، فَإِنَّ من الواضح وجداناً أَنَّنَا نفهم العموم حتّی فِی موارد فقدان الإرادة الاِسْتِعْمَالِیَّة کفهمنا من قول النائم: «أکرم کل العلماء».

فهذا شاهد عَلَیٰ أن کلمة «کُلٍّ» هی الَّتی تَدُلّ عَلَیٰ العموم، لا أنّ لفظ «العلماء» تَدُلّ عَلَیٰ العموم، کما تخیّل صاحب الوجه؛ إذ لو کان الأمر هکذا فصاحب الوجه لا یستطیع أن یفسّر لنا فهمَ العموم فِی موارد فقدان الإرادة الاِسْتِعْمَالِیَّة کالنوم. إذن، فهذا الوجه الثَّانِی غیر تامّ أیضاً.

بعد ذلک نأتی إلی الوجه الثَّالث من الوجوه الَّتی یمکن أن تُذکر لإِثْبَاتِ أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یَدُلّ عَلَیٰ العموم. وهذا الوجه یرید أن یرکّز ویدعم المسلک الثَّانِی من المسلکین المتقدّمین (فِی الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ). حیث بحثنا سابقین بأَنَّ هناک مسلکین: 1- الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ وُضِع للعموم فِی اللُّغَة مباشرو. 2- «اللاَّم» وضعت لا للعموم ابتداءً، بل وضعت لتعیّن مدخولها. غایة الأمر إذا دخلت «اللاَّم» عَلَیٰ الجمع تَدُلّ عَلَیٰ أن مدخولها وهو الجمع متعین، وتعین الجمع لا یکون إلاَّ بالمرتبة الأخیرة، وإلا فلو أراد الْمُتِکَلِّم أقل من المرتبة الأخیرة (کالتسعین) فَإِنَّهَا لا تکون متعینة؛ لأَنَّهُ تُتَصَوَّر عدّة تسعینات داخل المائة (فیبقی مردداً وغیر متعیناً من حیث المصداق الخارجیّ). فالتعین فِی الجمع ملازم للعموم، وهذا کان مسلکاً ثانیاً یؤدی بالمآل إلی العموم لکن یصل إلی العموم بصورة غیر مباشرة.

ص: 21

فیراد دعم هذا المسلک الثَّانِی وتکمیله فِی الوجه الثَّانی الَّذی سوف نبینه غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الوجه الثَّالث من وجوه إثبات أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یفید العموم والاستیعاب هو أن یقال: بأن لا إِشْکَال فِی دلالة «اللاَّم» لغةً وعرفاً عَلَیٰ التّعیّن، وأن مدخول هذه الکلمة (هذا المدخول، مدخول «اللاَّم») معناه متعیّن ومشخص ولیس مردّداً ولا غموضَ ولا إجمال فیه عرفاً. وأمّا لغةً فقد نص علماء الْعَرَبِیَّة عَلَیٰ أن «اللاَّم» تَدُلّ عَلَیٰ التّعیین، فلا بُدَّ من أن یکون مدخولها مُتَعَیَّناً بنحو من أنحاء التّعیّن.

وحینما تدخل هذه «اللاَّم» عَلَیٰ الجمع مثل «علماء» فِی «العلماء»، یبقی للاَّمِ هنا المفاد نفسه الَّذی ذکرناه، أی: «اللاَّم» تَدُلّ عَلَیٰ أن هذا الجمع الَّذی دخلت علیه «اللاَّم»، جمعٌ متعین ومشخص. إلی هنا واضح، ولا إِشْکَال فیه.

وحینئِذٍ یبقی أن نعرف کیفیَّة تصوّر الجمع الْمُتَعَیّن، وأنَّه ما معنی تعیّن الجمع؟!

فِی الإجابة عن هذا السُّؤَال نَقُول: إِنَّ تعین الجمع له أحد الأنحاء الثَّلاثة التالیة:

النَّحْو الأوّل: أَنْ یَکُونَ هذا التّعیّن تعیناً عهدیّاً، أی: أَنْ یَکُونَ الجمعُ جمعاً معهوداً (جماعة معهودة)، سَوَاءٌ کَانَ هذا العهد عهداً ذِهْنِیّاً (أی: توجد جماعة معهودة من العلماء فِی ذهن الْمُتِکَلِّم وفی ذهن السَّامِع) أم کان عهداً ذِکریّاً (کما إذا قال الْمُتِکَلِّم: «أکرم العلماء» وکانا قد أتیا عَلَیٰ ذکر جماعةٍ معهودة) أم کان عهداً خارجیّاً (کما إذا کان هناک جماعة مُعَیَّنَة من العلماء جالسون بین یدی الْمُتِکَلِّم والسامع، وقال الْمُتِکَلِّم للسامع: «أکرم العلماء».

ص: 22

عَلَیٰ کلٍّ، لا إِشْکَال فِی أن التّعیّن الَّذی من «اللاَّم» تعین عهدی فِی کُلّ مورد یُفترض فیه وجودُ عهدٍ بنحو من الأنحاء الثلاثة. أی: أنّ «اللاَّم» تَدُلّ عَلَیٰ جماعة معهودة، ولا دلالة للام هنا عَلَیٰ العموم والاستیعاب (= کل العلماء)؛ لأَنَّ العهد قرینة قویة تمنع من أن تَدُلّ «اللاَّم» عَلَیٰ شیء غیر هذه الجماعة المعهودة. فلا إِشْکَال فِی عدم دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم وعدم استفادة العموم منه فِی موارد العهد. أی: عدم التّعیّن العهدیّ أصلٌ موضوعیٌّ مفروغ عنه فِی باب دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم. هذا هو النَّحْو الأوّل من التّعیّن وهو واضح.

النَّحْو الثَّانِی من التّعیّن هو أن یکون التّعیّن تعیناً جنسیّاً. أی: أن «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ اسم الجنس (مثل العالم أو الرَّجُل أو المرأة) تَدُلّ عَلَیٰ تعیّن الجنس((1) ). والتعین الجنسی واضح فِی المفرد (مثل: العالم خیر من الجاهل)، ومعناه أن ذات الطَّبِیعَة (کطبیعة الرَّجُل) لها نحو من التعیّن والتشخص، ولا توجد طبیعة غامضة ومجملة.

أَمَّا إذا دخلت اللام عَلَیٰ الجمع، فَتَدُلُّ حینئذٍ عَلَیٰ الجنس أیضاً. أی: سوف یکون مقصود الْمُتِکَلِّم جنس الجمع، جنس الکثرة، مثلاً إذا قال: «العلماء خیر من العالم الواحد» فإِنَّهُ لا یقصد من العلماء، علماء معهودین، ولا یقصد منه العموم (عموم الأفراد) بل یقصد جنس الجمع والکثرة (أی: کثرة العلماء خیر من العالم الواحد). هذا نحو آخر من التّعیّن. فلم یتجاوز الْمُتِکَلِّم هنا الوضعَ والمعنی الوضعیّ، ولم یتجوّز فِی استعماله واستعماله حقیقی.

ص: 23


1- (1) - فإنّ جنس الرَّجُل له تعیّن، وجنس المرأة له تعیّن، وجنس العالم له تعین کجنس، لا کفرد مُعَیَّن، أی: ذات الطَّبِیعَة؛ لأَنَّ اسم الجنس تَدُلّ عَلَیٰ الطَّبِیعَة، ذات الرَّجُل متمیزة عن الطَّبَائِع الأخری. فکل طبیعة من الطَّبَائِع لها نوع من التّعیّن والتشخص الخاصّ بها.

فیا تُرَیٰ هل لنا أن نحمل التّعیّن (فِی قوله: «أکرم العلماء») عَلَیٰ التّعیّن الجنسی؟

الجواب: لا؛ لأَنَّ التّعیّن الجنسی وإن کان نحواً من أنحاء التّعیّن، واستعمال «اللاَّم» فِی هذا النَّحْو من التّعیّن وإن کان صحیحاً وعرفیّاً، إلاَّ أَنَّهُ بحاجة إلی قرینة. فإن فِی قولنا: «العلماء خیر من العالم الواحد»، توجد قرینةٌ عَلَیٰ أن مقصوده من العلماء، کثرةُ العلماء. وهذه القرینة عبارة عن أن هذا الْمُتِکَلِّم أوجد تقابلاً بین العلماء وبین العالم الواحد، مِمَّا جعلنا نفهم من هذا التقابل أَنَّهُ یرید أن یقیس الجمع بالمفرد. فمقصوده من العلماء «جمع العلماء». إذن، فلا إِشْکَال فِی أن الکلام یحمل عَلَیٰ هذا التّعیّن الجنسی.

أما إذا لم تکن هناک قرینة عَلَیٰ أن الْمُتِکَلِّم قصد التّعیّن الجنسی (أی: قصد جنس الجمع)، کما فِی قول القائل: «أکرم العلماء». فلا توجد قرینة عَلَیٰ أَنَّهُ أراد جنس الجمع، فلا موجب هنا عَلَیٰ حمل الکلام عَلَیٰ التّعیّن الجنسی. بل هناک قرینة ارتکازیة عَلَیٰ خلاف هذا العهد الجنسی، وهی عبارة عن أَنَّهُ من المرتکز لدی العرف أن الْمُتِکَلِّم عندما یتلفظ بلفظ الجمع، یکون نظره إلی ذوات الأفراد، لا إلی جنس الجمع والکثرة. وهذا الارتکاز یسبب انصراف الکلام إلی التّعیّن الجنسی (اللهم إلاَّ إذا کانت هناک قرینة، وقد تقدّم أَنَّها مسألة أخری. أَمَّا لو خلی الکلام وطبعه تقول القرینة الاِرْتِکَازِیَّة أن نظر الْمُتِکَلِّم إلی ذوات الأفراد، ولیس نظره إلی جنس الجمع وجنس الکثرة).

النَّحْو الثَّالث: التّعیّن المصداقی وهو أَنْ یَکُونَ مدخول «اللاَّم» مُتَعَیَّناً خارجاً من حیث المصداق، ولیس مردّداً من حیث المصداق بین اثنین أو ثلاثة أو أربعة. وإذا بطل الأوّل وَالثَّانِی یَتَعَیَّنُ هذا النحو الثَّالث.

ص: 24

مثاله ما إذا دخلت «اللاَّم» عَلَیٰ الجمع وقیل: «أکرم العلماء»، فَحَیْثُ أَنَّ «اللاَّم» وضعت لغة وعرفاً لتدل عَلَیٰ أن مدخولها متعین، لا تعیّناً جنسیّاً (لأَنَّنَا قلنا أَنَّ هناک قرینة ارتکازیة عَلَیٰ خلافه) ولا تعیّناً عهدیّاً (لأَنَّ المفروض أَنَّهُ لا توجد قرینة عَلَیٰ العهد)، فَیَنْحَصِرُ التّعیّن بالتعین المصداقیّ. أی: «اللاَّم» تَدُلّ هنا عَلَیٰ أن مدخولها متعین من حیث المصداق خارجاً. ولا یتحقّق هذا التّعیّن المصداقی خارجاً إلاَّ إذا کان مراده من «العلماء» «کل العلماء»؛ لأَنَّه لا مصداق خارجاً لتمام المائة من إلاَّ مصداق واحد (إذ لا توجد أکثر من مائة داخل المائة). وأَمَّا لو أراد الْمُتِکَلِّم من العلماء ما هو أقل من المائة، کالتسعین أو الثمانین، فَتُتَصَوَّرُ هناک عدّة تسعینات وثمانینات داخل العلماء المائة.

إذن، أثبت هذا النحو الثَّالث أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یَدُلّ عَلَیٰ العموم.

إلاَّ أن الصَّحِیح (کما أفاد سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه اللَه) هو أنَّ هذا الوجه أیضاً لا یُثبت لنا أنَّ «اللاَّم» تَدُلّ عَلَیٰ العموم وحدها. نعم، نحن نقبل بنتیجة أن قوله: «أکرم العلماء» یفهم منه الشُّمُول والاستیعاب. أی: یفهم منه وجوب إکرام تمام المائة إذا کان عدد العلماء مائة مثلاً. وهذا واضح ولا نرید أن نناقشه. ولکن هل هذا الفهم (فهم الشُّمُول والاستیعاب) مستند إلی «اللاَّم» بالبیان الَّذی ذکره صاحب هذا الوجه؟ أو مستند إلی مجموع «اللاَّم» مع قرینة الحِکْمَة المتوفرة فِی قوله: «أکرم العلماء»؟!

توضیح ذلک: أَنَّنَا لا نناقش فِی أن «اللاَّم» وضعت وتدلّ عَلَیٰ التّعیّن (تعین المدخول) ولا نناقش أیضاً فِی أن التّعیّن هو تعین مصداقی. بل نتساءل أن قوله: «أکرم العلماء» الَّذی یَدُلّ عَلَیٰ وجوب إکرام تمام الأفراد (المائة)، عَلَیٰ أی أفراد یَدُلّ؟ هل یَدُلّ عَلَیٰ تمام أفراد الْمَادَّة (= مادّة العلماء، یعنی العالم)؟ أم تَدُلّ عَلَیٰ أَنَّهُ أراد تمام أفراد «العالم العادل»؟ أم أراد تمام أفراد «العالم المؤلف»؟ أم أراد أفراد العالم الفقیه وهکذا سائر القیود الْمُتَصَوَّرَة والمحتملة؟! إذن، تَدُلّ «اللاَّم» عَلَیٰ أن مراده تمام الأفراد، لأَنَّ التّعیّن المصداقی منحصر فِی أن یکون مراده تمام الأفراد، ولیس مراده عدداً صحیحاً أقل من التمام (کالتسعین؛ لأَنَّ مصداقه مُرَدَّد بین أکثر من واحد) ولا عدداً کسراً أقل من العلماء (کنصف العلماء وثلث العلماء؛ لأَنَّ مصداقه مُرَدَّد) ولا نسبةً مئویة أقل (کعشرین بالمائة من العلماء؛ لأَنَّ مصداقه مُرَدَّد أیضاً). إلی هنا مقبول ولا نقاش فِیه.

ص: 25

لکن السُّؤَال هو أن مراده تمام أفراد «العالم» (أی: تمام أفراد الطَّبِیعَة المطلقة)، فَیَکُونُ مقصوده کل المائة، أم تمام أفراد «العالم العادل» من بین هؤلاء المائة، فإن مصداق تمام «العلماء العدول» من هؤلاء المائة، مُعَیَّن ولیس مردداً ولیس له مصداقان، فإذا قال الْمُتِکَلِّم: «أکرم العلماء» وأراد تمام أفراد العلماء العدول من بین المائة، لا یکون کلامه مردداً؛ إِذْ أَنَّ عدد العلماء العدول مُعَیَّن داخل المائة (مثلاً ثمانون منهم عدول وَعِشْرُونَ منهم فساق). إذن، التّعیّن محفوظ ولکن بماذا ننفی احتمال أن یکون مراده تمام علماء العدول، واحتمال أن یکون مراده الفقهاء من العلماء أو المتهجدین منهم أو ...؟! هل ننفیه ب_«اللاَّم»؟ الجواب: «اللاَّم» حیادیة حیال ذلک؛ إذ أنَّها ترید تمام الأفراد حتّی لا تکون مصداقه مُرَدَّداً فِی الخارج. وحینئِذٍ یصل الدّور إلی إجراء الإِطْلاَق وقرینة الحِکْمَة فِی طبیعة «العالم»، والقول بأَنَّهُ لطالما قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ»، تَدُلّ مَادَّة الجمع عَلَیٰ الطَّبِیعَة المطلقة (أی: هو أراد تمام أفراد الطَّبِیعَة المطلقة، وتمام الأفراد هو المائة).

والخلاصة أن فهمنا للعموم یکتمل فیما إذا ضممنا قرینة الحِکْمَة إلی جانب «اللاَّم»، وقلنا: إن «اللاَّم» تَدُلّ عَلَیٰ أَنَّهُ أراد تمام الأفراد، وقرینة الحِکْمَة تَدُلّ عَلَیٰ أَنَّهُ أراد تمام أفراد الطَّبِیعَة المطلقة؛ إذ لو کان مراده تمام أفراد «العالم العادل» لذکر القید، ولو أراد تمام أفراد العالم الفقیه لذکر القید. فلم یثبت ما أراده صاحب الوجه من أن فهم العموم والشمول والاستیعاب مستند إلی «اللاَّم»، باعتبار أنَّها وضعت للتعین ولا یکون تعیّن الجمع إلاَّ بالعموم (لکل المائة).

هذا هو التلفیق الَّذی یقوله سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه اللَه. أی: مِنْ دُونِ التلفیق بین «اللاَّم» وبین مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ لا یَتُِمّ هذا الوجه.

ص: 26

یبقی عندنا الوجه الرَّابع وهو الوجه الأخیر من وجوه دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم یأتی إن شاء اللٰه تعالی یوم الأحد؛ لأَنَّ یوم السبت یصادف ذکری استشهاد الإمام الصادق علیه السلام. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نتحدث فِی الوجه الثَّالث من الوجوه الَّتی قد تذکر لإِثْبَاتِ أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یَدُلّ عَلَیٰ العموم وقد ذکرنا فِی البحث السَّابِقَ هذا الوجه، وکان هذا الوجه یستند إلی القول بأن اللاَّم موضوعة لتعین مدخولها، والتعیّن لا یمکن أن یکون فِی الجمع إلاَّ بإرادة المرتبة الأخیرة من الجمع؛ لأَنَّ الجمع له تعین فِی مرتبته الأخیرة من حیث المصداق الخارجیّ. أی: مصداقه واضح ولیس له غیر مصداق واحد وهو کل المائة (فیما لو کان العلماء مائة). أَمَّا ما دون المرتبة الأخیرة فهذا الأَقَلّ کالتسعین من المائة، لَیْسَ مشخصا خارجاً أَنَّهُ من هم؟ فاللام تَدُلّ عَلَیٰ التّعیّن والتعین فِی الجمع مساوق وملازم للعموم.

هذا الوجه ناقشناه فِی الیوم الدرسی الماضی، وأرید هنا أن أزیدکم شیئاً من التوضیح للجواب الَّذی ناقشنا به هذا الوجه ثم ننتقل إلی الوجه الرَّابع:

أقول: لا إِشْکَال فِی أن الجمع بمعزل عن اللاَّم مثل علماء له مراتب، وکل مرتبة من المراتب تتمثل فِی کثرة وجماعة لا تقل عن ثلاثة، من مرتبة ثلاثة فما فوق. وبعض المراتب أکبر. وکل واحدة من هذه المراتب محددة بحد تتقوّم بهذا الحدّ. وهذا الحدّ عَلَیٰ قِسْمَیْنِ: حدّ کمی، وحد کیفی.

أَمَّا الحدّ الکمی فنقصد به عدد أفراد هذه الجماعة وهذه الکثرة، ومقدارها، مثلاً: سبعة من العلماء، أو ثلث من العلماء، أو عِشْرِینَ بالمائة من العلماء.

ص: 27

وأمّا الحدّ الکیفی ونقصد به نوعیة أفراد هذه الجماعة وهذه الکثرة. أی: فئتهم الخاصّة الَّتی ینتسبون إلیها، هل هم من فئة العدول أو من فئة الْفُسَّاق، من فئة الفقهاء أو من فئة الفلاسفة وهکذا. وحینئِذٍ فعلی أی حال کل واحد من هذه الجماعة یتنسب إلی فئة واجدة لقید أو فاقدة لقید.

حینئذٍ نَقُول: إِنَّ هیئة الجمع وضعت (کأی هیئة من الهیئات) بالوضع العام والموضوع له الخاصّ لکل کثرة وجماعة من هذه الکثرات والجماعات الَّتی قلنا أن کل واحدة منها محدودة بحد کمی ومحدودة بحد کیفی.

ومعنی الوضع العامّ هو أنّ الواضع حینما أراد أن یضع هیئة الجمع تصوّر واستحضر فِی ذهنه معنیً عامّاً جامعاً مشیراً إلی واقع الکثرات والجماعات، واتخذه مشیراً إلی واقع هذه الکثرات الَّتی کل واحدة منها متمیزة ومتحدّدة بحد کمی وکیفی.

ومعنی الْمَوْضُوع له الخاصّ هو أن الواضع حینما وضع هیئة الجمع ما وضعها لهذا المعنی الجامع (وإلا لکان الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً وکان یصبح اسم الجنس) وإنَّما وضع اللَّفظ لکل واحدة واحدةٍ من هذه الکثرات الَّتی هی مصادیق لذاک المعنی العامّ (أی: لواقع الکثرات الموجودة فِی الخارج، بحیث أن کل جماعة لا تقل عن ثلاثة ومحدودة بحد کمی وکیفی، هی معنی من معانی هیئة الجمع. مثل المشترک اللَّفظیّ، حَیْث أَنَّ کل معنی من المعانی فِی المشترک اللَّفظیّ هو معنی مستقلّ للمشترک اللَّفظیّ، کذلک ثلاثة من العلماء معنیً من معانی هیئة الجمع، کما أن أربعة من العلماء معنیً من معانی هیئة الجمع وهکذا فِی الخمسة والستة والسبعة وغیرها. وکذلک الأمر فِی الحدّ الکیفی مثل العلماء العدول (أی: هذه الجماعة المحددة بحد کیفی وهو حدّ العدالة) معنیً من معانی هیئة الجمع. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هیئة الجمع لها معانٍ عدیدة بعدد الکثرات والجماعات المحددة بحد کمی وکیفی. فتکون هیئة الجمع کالمشترک اللَّفظیّ تماماً.

ص: 28

غایة الأمر، أن المشترک اللَّفظیّ مَوْضُوع بأوضاعٍ عدیدة لمعانٍ عدیدة، لکن هیئة الجمع مَوْضُوع بوضع واحد لمعانٍ عدیدة. وهذه میزة الْمَوْضُوع له الخاصّ کما قلنا. وکذلک الحروف مثل کلمة فِی؛ فإنّ الْمَوْضُوع له فِیها خاصّ، أی: هذه الظرفیة الخارجیة الموجودة بین هذا الماء وهذا الإناء بحدها الخارجیّ المتمیز هی معنیً من معانی فِی. ولیس معنی فِی عبارة عن الظرفیة الجامع الَّذی هو مفهوم اسمی، وإلا فکانت فِی تصبح اسماً، بل معنی فِی واقع الظَّرفیّات الکثیرة (المتوفرة بالملایین) بین الظروف والمظاریف. فالحروف بشکل عام والهیئات بشکل عامّ الوضع فیها عامّ، لکن الموضوع له فیها خاصّ. ومعنی الْمَوْضُوع له فیها خاصّ یعنی خصوص ذاک الفرد الخارجیّ هو معنی من معانی هذا الحرف أو هذه الهیئة. ومن هنا بعضهم أنکره لأَنَّهُ بعید عن الذِّهْن ویحتاج إلی تعمّق. ونحن أثبتنا ذلک بِالنِّسْبَةِ للحروف والهیئات فِی البحوث السَّابِقَة قبل سنین.

وهذا معناه أن استعمال هیئة الجمع فِی کُلّ واحدة واحدةٍ من هذه المعانی استعمالٌ صحیح (أی: لَیْسَ مخالفاً لنظام اللُّغَة) وحقیقیّ (أی: لیس مجازاً)؛ لأَنَّ کل واحدة من هذه المراتب هی معنیً مَوْضُوع له. کما أن استعمال المشترک اللَّفظیّ فِی کُلّ معنیً من معانیه استعمالٌ صحیح وحقیقیّ (أی: لا یحتاج إلی قرینة صارفة). فإن استعمل الْمُتِکَلِّم لفظ علماء وأراد به ثلاثة من العلماء (بینما أن عدد العلماء مائة)، سوف یکون استعماله صحیحاً وحقیقیّاً. وکذلک یصحّ استعماله فیما لو استعمله وأراد به أربعة أو عشرة (= الحدّ الکمی) أو أراد علماء عدول (= الحدّ الکیفی).

أجل، السَّامِع سوف لا یفهم مقصود الْمُتِکَلِّم، ویحتاج إلی قرینة مُعَیَّنَة للتفهیم، ولا یحتاج إلی قرینة صارفة، فإن الأخیرة للمجاز، کما هو شأن المشترک اللَّفظیّ حیث یحتاج إلی قرینة مُعَیِّنَة وإلا فَسَوْفَ لا یفهم المخاطب مقصودَ الْمُتِکَلِّم. فعلی سبیل المثال إن کلمة القرء الواردة فِی الآیة الکریمة {والمطلقات یتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} تحتاج إلی قرینة معیِّنة تعیّن وتبین أن المقصود من القرء ثلاثة أطهار أو ثلاثة حیضات. مَعَ أَنَّ الاستعمال فِی کلیهما صحیح. فالإجمال موجود، ولکن وجود الإجمال لا یضرّ بصحة الاستعمال ولا یضرّ بکون الاستعمال استعمالاً حقیقیّاً.

ص: 29

الآنَ نأتی إلی اللاَّم، إذا جاءت اللاَّم ودخلت عَلَیٰ هذا الجمع، فنسلم ونؤمن بما یقوله صاحب الوجه الثَّالث من أن اللاَّم عندما تدخل عَلَیٰ الجمع، موضوعة لتعیّن هذا الجمع. والمقصود هو التّعیّن المصداقی دون العهدی والجنسی. أی: أَنْ یَکُونَ هذا الجمع الَّذی أراده الْمُتِکَلِّم وقصده وهذه الجماعة وهذه الکثرة الَّتی أرادها الْمُتِکَلِّم حینما قال: العلماء، أَنْ تَکُونَ هذه الجماعة لها مصداق خارجی مُعَیَّن ومشخص. وهذا لا یکون إلاَّ إذا کان مراده مرتبة الاستغراق والتمام. أی: أَنْ یَکُونَ مقصوده تلک المرتبة من الکثرة الَّتی هی المرتبة الأخیرة. أی: تلک المرتبة من الکثرة الَّتی لیست محددة بحد کمی. هذا معنی قولهم فِی النَّحْو: اللاَّم للاستغراق (أی: اللاَّم عندما تدخل عَلَیٰ الجمع تَدُلّ عَلَیٰ أن مدخولها متعین مصداقاً والتعین المصداقی لا یکون إلاَّ بالاستغراق). فالحاصل أَنَّنَا نقبل بأن المقصود تمام أفراد الکثرة، ولیس نصفهم أو ثلثهم أو أقل من التمام.

إذن، هیئة الجمع عند دخول اللاَّم علیها تَدُلّ اللاَّم عَلَیٰ أن هذا الجمع الَّذی أرید مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم، هو جمعٌ مستغرِق، أی: غیر محدّد بحد کمی.

ولکن یبقی سؤال آخر وهو أَنَّهُ بعد أن نفینا الحدّ الکمی من خلال اللاَّم، هل یُحدّد هذا الجمع بحد کیفیّ (أی: تمام العلماء العدول أو تمام العلماء المؤلفین أو تمام العلماء الزاهدین). فلا کلام حینئذٍ فِی قبول الاستغراق، وإنَّما الکلام کُلّه فِی هویة هذا الاستغراق، وهذا ما لا تعیّنه اللاَّم ولا تجیب عنه؛ إذ أنّ معنی اللاَّم (وهو تعیّن المدخول من حیث المصداق الخارجیّ) محفوظٌ فِی الحدّ الکیفی. أی: إذا أراد الْمُتِکَلِّم تمام العلماء العدول، لا نشک بأن مصداق تمام العلماء العدول فِی الخارج واحد وغیر مُرَدَّد؛ فإِنَّهُ لا یوجد عندنا تمامان من العلماء العدول، کما أَنَّهُ لا توجد عندنا مائتان من العلماء (حَسَبَ الْفَرْضِ). وحینئِذٍ نسأل: کیف ننفی أن یکون مراده تمام العلماء العدول (أو القیود الأخری) والحال أن اللاَّم حیادیة (حیال أن المراد تمام العلماء المائة أو تمام العلماء العدول) ولا تنفی شیئاً، ومعنی اللاَّم محفوظ فِی کلیهما. إذن، نحتاج إلی دالّ آخر یَدُلّ عَلَیٰ أنّ المقصود تمام أفراد العالم (= ذات الطَّبِیعَة مِنْ دُونِ أی قید)، مِنْ دُونِ قید العدالة وقید التألیف والزهد وإلی ما هنالک من القیود المحتملة.

ص: 30

هذا هو التوضیح الَّذی أردت أن أبینه لمناقشة الوجه الثَّالث.

الوجه الرَّابع: من الوجوه الَّتی قد تذکر لإِثْبَاتِ دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم هو أن یقال: لا إِشْکَال فِی فهم العموم والاستیعاب من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ (ومن هنا فإن ورد أکرم العلماء لا یوجد فقیه لا یفتی بالاستیعاب والعموم ووجوب إکرام جمیع العلماء، کما تقدّم) إِنَّمَا الکلام فِی منشأ هذا الشُّمُول والاستیعاب الَّذی نفهمه من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ. هل أن المنشأ هو الوضع؟ أو أَنَّ المنشأ هو الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة.

فعلی الأوّل (أی: إن کان الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ حقیقةً مَوْضُوعاً فِی اللُّغَة للعموم) سوف یکون العموم مدلولاً وَضْعِیّاً تصوُّریّاً (أی: بمجرّد أن نسمع اللَّفظ، یأت العموم إلی الذِّهْن)، بحیث لو استعمل هذا اللَّفظ فِی غیر العموم لکان الاستعمال مجازاً.

وعلی الثَّانِی (أی: إن کان منشأ هذه الدِّلاَلَة والفهم هو الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة دون الوضع)، فسوف لا یَکُونُ العموم والاستیعاب الَّذی نفهمه مدلولاً وَضْعِیّاً (لأَنَّهُ ثابت من خلال قرینة الحِکْمَة) تصوُّریّاً لِلَّفْظِ (لأَنَّ مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ تثبت المراد الْجِدِّیّ ولا تثبت المراد التَّصوُّریّ، ومن هنا لا یجری الإِطْلاَق فِی الموارد الَّتی لا یوجد مراد جدّی فیها لِلْمُتِکَلِّمِ، کالهازل والنائم).

إذن، لو کان منشأ هذه الدِّلاَلَة الإطلاقُ فهذا معناه أن الاستیعاب والشمول الَّذی نفهمه مدلول تصدیقی جدّی للکلام، وحینئِذٍ یکون استعمال الجمع فِی غیر العموم أیضاً استعمالاً حقیقیّاً؛ لأَنَّنَا فرضنا أن العموم هذا لم یدخل فِی المعنی الوضعیّ للکلمة وإنَّما استفدنا العموم من قرائن الحِکْمَة. فلو استعمل اللَّفظ فِی غیر العموم یکون الاستعمال حقیقیّاً ولیس مَجَازِیّاً. فنحن نرید أن نفهم هل أن منشأ الدِّلاَلَة ومنشأ هذا الفهم للعموم هو الوضع أو الإِطْلاَق؟ السُّؤَال المطروح فِی المقام هو أَنَّهُ هل تصلح مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ لکی تفسّر لنا هذا الفهم؟ أی: هل تصلح مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ لکی تکون منشأ هذه الدِّلاَلَة وهذا الفهم الَّذی ذکرناه؟ إن کانت صالحة فمعناه أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ سوف یبقی مُجْمَلاً، لأَنَّنَا سوف لا نفهم هل أن منشأ الشُّمُول (الَّذی فهمناه) هو الوضع أو الإِطْلاَق؟! حَیْث أَنَّ کلا من الوضع والإطلاق صالح لتفسیر هذا الفهم. أَمَّا لو لم تصلح مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ لتفسیر هذا الفهم، فحینئذٍ یَتَعَیَّنُ الوضع؛ إذ لا یوجد خیار ثالث. ومن هنا یرید الوجه الرَّابع الترکیز عَلَیٰ هذه النُّقْطَة، أی: یرید أن یثبت ببرهانین أن مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ غیر صالحة لتفسیر هذا الفهم والشمول، کی یکون التالی کون الوضع هو منشأ هذا الفهم. وهذا ما سوف نذکره غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

ص: 31

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی وجوه إثبات دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم وانتهینا إلی الوجه الرَّابع وهذا الوجه یرید أن یثبت أن فهمنا للاستیعاب والشمول من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ لَیْسَ مستنداً إلی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ وقرائنها، وبالتَّالی فیتعین أن یکون هذا الفهم مستنداً إلی الوضع (فإن دلالة لفظ عَلَیٰ معنیً لا تأتی من السَّماء، ولا بُدَّ أَنْ تَکُونَ إما من قرینة وإما وضع الواضع فِی اللُّغَة) فیثبت المُدَّعی والمطلوب. فهذا الوجه یرید أن یثبّت أن هذه الدِّلاَلَة لَیْسَ منشأها مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، فیتعین أن یکون منشأها هو الوضع؛ وذلک بالقول بأَنَّهُ لا إِشْکَال فِی أن هناک فرقاً بین العامّ وبین المطلق. وقد سبق أن ذکرنا هذا الفرق فِی أوَّل بحث العامّ عندما کُنَّا نذکر تعریف العموم حیث قلنا إِنَّه رغم أن العامّ (= مثل أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ) والمطلق (= مثل أَکْرِمِ الْعَالِمَ) مشترکان فِی الشُّمُول والاستیعاب (= سرایة الحکم إلی تمام الأفراد)، لکن هناک فرق جوهری وحقیقیّ بین العامّ والمطلق، وهذا الفرق هو أَنَّ فِی العامّ نظر الْمُتِکَلِّم فِی مرحلة اللَّفظ والکلام إلی الأفراد (یعنی: الأفراد ملحوظة فِی مرحلة اللَّفظ والکلام). الْمُتِکَلِّم حشر الأفراد فِی المدلول الوضعیّ والاستعمالی للعامّ، ثم صبّ الحکم وقال: أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ مثلاً، وإن کانت هذه النظرة إجمالیة ولیست تفصیلیة. أی: اللَّفظ بمدلوله ناظر إلی الأفراد. هذا فِی باب العامّ.

أَمَّا فِی باب المطلق (= أَکْرِمِ الْعَالِمَ) فلا یکون اللَّفظ نَاظِراً إلی الأفراد، بل هو ناظر إلی ذات العالم ویدلّ عَلَیٰ ذات الطَّبِیعَة بما هی هِی، ثم بعد ذلک تأتی مقدّمات الحِکْمَة وتنفی القیودَ الزائدة (تنفی قید العدالة فیما إذا کُنَّا نحتمل إکرام العالم العادل وأی قید یُحتمل) لنبقی نحن والذّات بما هی هِی، لکی یسری حینئِذٍ الحکم الَّذی انصبّ عَلَیٰ ذات الطَّبِیعَة إلی الأفراد. ولا یکون هذا السریان باللَّفظ؛ إِذْ أَنَّ اللَّفظ لَیْسَ هو الَّذی أسری الحکمَ إلی الأفراد کما کان فِی باب العامّ، ومقدّمات الحِکْمَة لم تسرِ الحکم إلی الأفراد أیضاً وإنَّما هی نفت القید (نفت أن یکون المراد العالم العادل أو الفقیه أو...). أَمَّا سریان الحکم إلی الأفراد فإنما هو بقانون عقلی یقول: إن انطباق الطَّبِیعَة عَلَیٰ أفرادها قهری (لطالما أن الحکم منصب عَلَیٰ ذات الطَّبِیعَة ولطالما أن هذه الأفراد أفرادٌ لهذه الطَّبِیعَة ولیست أفراداً لطبیعة أخری من الطَّبَائِع فِی العالم، إذن تنطبق هذه الطَّبِیعَة عَلَیٰ أفرادها بالعقل).

ص: 32

هذا هو الفرق الجوهری بین باب العامّ وباب المطلق. وحینئِذٍ لو قال الْمُتِکَلِّم: أَکْرِم علماء مِنْ دُونِ اللاَّم (مع عدم افتراض التَّنْوِین الدَّالّ عَلَیٰ الْبَدَلِیَّة)، نفهم منه ثبوت الحکم عَلَیٰ جماعة لا تقل عن ثلاثة، من أفراد العالم.

وحینئِذٍ نقول بأننا لو بقینا مع مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، یجب علینا أن نفهم من أکرم العلماء ما نفهمه من أَکْرِمِ الْعَالِمَ نفسه، فکما نفهم منه ثبوت الحکم عَلَیٰ طبیعة العالم (بمعزلٍ عن الأفراد، حَیْث أَنَّ الکلام فِی أَکْرِمِ الْعَالِمَ لَیْسَ نَاظِراً إلی الأفراد). إذن، إن نفینا فِی أَکْرِمِ الْعَالِمَ أَنْ تَکُونَ اللاَّم موضوعة للعموم وبقینا نحن ومقدّمات الحِکْمَة علینا أن نفهم ثبوت الحکم عَلَیٰ طبیعة جمع العالم (وَالَّذِی کُنَّا نفهمه هناک)، مِنْ دُونِ أن نفهم شیئاً أکثر من هذا.

والحال (یقول صاحب هذا الوجه) أن هذا خلاف الوجدان؛ لأن الوجدان قاضٍ بأننا نفهم من أکرم العلماء النَّظَر إلی الأفراد، لا إلی ذات الطَّبِیعَة بما هی هِی. فهناک فرق بین أکرم العلماء وبین أَکْرِمِ الْعَالِمَ. فلا نفهم فِی أَکْرِمِ الْعَالِمَ النظرَ إلی الأفراد (وإنَّما نظره إلی ذات الطَّبِیعَة)، بینما الْمَفْهُوم من أکرم العلماء هو النَّظَر إلی الأفراد. وهذه الأفراد منظورة بأی منظار؟ بمنظار مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ؟ لا، لأَنَّهُ تقدّم أن مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ لا تُری الأفراد، حتّی فِی أَکْرِمِ الْعَالِمَ وإنَّما دورها نفی القیود الزائدة عَلَیٰ الطَّبِیعَة.

إذن، فبأی شیء تَمَّ هذا النَّظَر المحسوس لدی الوجدان العربی إلی الأفراد فِی أکرم العلماء؟ فلو لم نقل أن هذه النَّظَر من خلال اللاَّم الَّتی وضعت فِی اللُّغَة للدِّلالة عَلَیٰ هذا الاستیعاب والشمول والنظر إلی الأفراد، فمن أین أتی؟ فیستنتج صاحب هذا الوجه أَنَّه إذن نعرف من خلال وجدانیَة الرُّؤْیَة إلی الأفراد فِی الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ أَنَّهُ إذن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ (أو قل اللاَّم الداخلة عَلَیٰ الجمع) مَوْضُوع للعموم. هذا وجه من وجوه إثبات أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یَدُلّ عَلَیٰ العموم.

ص: 33

الجواب عن هذا الوجه: إلاَّ أن هذا الوجه أیضاً کالوجوه السَّابِقَة قابل للمناقشة؛ وذلک لأَنَّ من ینکر وضع الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ للعموم بإمکانه أن یقول فِی الجواب عن هذا الوجه: إن هذا الأمر الوجدانی الَّذی نشعر به جمیعاً (وهو وجود نظرة ولو إجمالیة إلی الأفراد فِی الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، وَالَّذِی لا نشکک فیه) لَیْسَ دَلِیلاً عَلَیٰ أنّ اللاَّم موضوعة للعموم، وإن کان أمراً صحیحاً؛ وذلک لأَنَّ بإمکان القائل أن یقول: إنّ هذه الرُّؤْیَة جاءت من اللاَّم (لا من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ)، لکن لا بما أن اللاَّم وضعت للعموم، بل أن اللاَّم وضعت لتعین مدخولها (أی: وضعت لکی تَدُلّ عَلَی أن مدخول اللاَّم مصداقاً مشخص ومعین وغیر مُرَدَّد بین أفراد، إما مُعَیَّن بالعهد أو بالجنس أو بالمصداق الخارجیّ)، ولنفترض أَنَّنَا رجحنا التّعیّن المصداقی والخارجی. ثم ماذا؟ إذا کانت اللاَّم تَدُلّ عَلَیٰ أن مدخولها مصداقه مُعَیَّن وغیر مُرَدَّد، وحینئِذٍ قال القائل: أکرم العلماء، فَسَوْفَ تَدُلّ اللاَّم هنا عَلَیٰ أن العلماء (الدالَّة عَلَیٰ جماعة لا تقل عن ثلاثة) تَدُلّ عَلَیٰ أن مصداق هذه اللاَّم مشخص خارجاً، وذلک فیما إذا أراد الْمُتِکَلِّم من قوله: أکرم العلماء تمامَ المائة. أَمَّا إن أراد أقل من المرتبة الأخیرة فَحَیْثُ توجد بدائل عدیدة للأقل من المائة (إِذْ أَنَّ هناک تسعینات عدیدة داخل المائة عَلَیٰ البدل).

فینحصر التعین المصداقی الخارجیّ بالعموم؛ إِذْ أَنَّ النظر إلی الأفراد جاءت من اللاَّم. وذلک باعتبار أن اللاَّم تَدُلّ عَلَیٰ تعین مدخولها (تَدُلّ عَلَیٰ إرادة مرتبة من الجمع هی غیر محددة بحد کمی. یعنی: مرتبة مستغرقة للأفراد). إذن سببه اللاَّم لکن لا بالسبب الَّذی تصورتموه أنتم، بأن اللاَّم وضعت للعموم رأساً؛ إذ قد یکون المنشأ أن اللاَّم وضعت لتعین المدخول وتعین المدخول هنا مساوق للعموم.

ص: 34

إذن، هذا هو النقاش الَّذی یمکن أن یناقش به هذا الوجه.

ومعنی ذلک أَنَّهُ لا یوجد حینئذٍ برهان ودلیل لدینا یقتضی الوضعَ للعموم ویثبت الوضع له. فلا یوجد ما یَدُلّ عَلَیٰ أن اللاَّم وضع للعموم ابتداء، ولا یوجد دلیل عَلَیٰ أن اللاَّم وضعت لتعین المدخول المساوق للعموم کما کان یقول المسلک الثَّانِی. لا یوجد دلیل عَلَیٰ شیء من الأَمْرَیْنِ؛ لأَنَّ الدَّلِیل إما هو دلیل لمی وهو تصریح علماء اللُّغَة، بأن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ هکذا. أو أن الدَّلِیل إنّیّ، أی: نحن نشعر بالوجدان فِی نفوسنا بذلک، وهذا الوجدان لا یمکننا تفسیره إلاَّ عَلَیٰ أساس الوضع. فمن المعلول نکتشف العلّة.

أَمَّا الدَّلِیل الأوّل (= تصریح أهل اللُّغَة) فلم نجد أحد من اللغویین صَرَّحَ بأن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ وضع للعموم.

وأمّا الدَّلِیل الثَّانِی (= أن نجد وجداناً فِی داخل نفوسنا ثم لا یمکننا أن نفسره إلاَّ عَلَیٰ أساس العموم) فصحیح أَنَّنَا نشعر بالاستیعاب (کما قلنا بالأَمْسِ أَنَّهُ لا شکّ أن الفقیه یفتی بوجوب إکرام الجمیع إن سمع أکرم العلماء، فلیس الکلام فِی الدِّلاَلَة وفی أصل الاستیعاب)، لکن هذا الوجدان لَیْسَ بحیث لا یمکننا تفسیره إلاَّ بالوضع، بل بالإمکان أیضاً تفسیره بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِکْمَةِ کما عرفنا سابقاً.

إذن دلالته عَلَیٰ العمموم لم تکن لوضعه عَلَیٰ العموم. فلم یثبت الوضع للعموم لا ابتداءً ولا بتوسط التّعیّن (کما یقول المسلک الثَّانِی). أی: لم یثبت عندنا شیء من الأَمْرَیْنِ، بل لعلّ من المطمئن به عندنا عدم کلا الأَمْرَیْنِ. أی: أصل الدِّلاَلَة عَلَیٰ العموم بتوسط اللاَّم الداخلة عَلَیٰ التّعیّن، قد ناقشناه فی الأیام الماضیة وَقُلْنَا: إِنَّ اللاَّم وضعت لتعین مدخولها وتعین المدخول یُقصد به التّعیّن من حیث المصداق الخارجیّ أیضا، ولکن غایة ما یثبته هذا هو أَنَّ الْمُتِکَلِّم أراد من قوله: أکرم العلماء تمامَ الأفراد، ولیس أقل من التمام؛ لأَنَّ التمام هو الَّذی مصداقه واحد ومصداق غیر التمام أکثر من واحد. لکن یبقی هذا السُّؤَال، أَنَّهُ أراد تمام ماذا؟ تمام أفراد أی شیء؟ تمام أفراد طبیعة العالم المطلقة؟ أو تمام أفراد طبیعة العالم المقیّدة بالعدالة؛ لأَنَّها أیضا تمام الأفراد، لٰکِنَّها تمام أفراد الطَّبِیعَة المقیّدة بالعلم.

ص: 35

إذن، إن معرفة هویة التمام بحاجة إلی إجراء الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة لکی نقول: تمام أفراد الطَّبِیعَة المطلقة مِنْ دُونِ القیود، وإلا فمن دون مقدّمات الحکمة نبقی فِی منتصف الطَّرِیق.

فکلا المسلکین غیر صحیح؛ لأَنَّ المسلک الأوّل أیضاً بالإضافة إلی کونه مستبعداً من خلال استبعاد الاشتراک؛ لأَنَّ معنی ذاک المسلک هو أن یکون ل_اللاَّم وضعان فِی اللغة: 1- وضعٌ لتعین المدخول. 2- ووضعٌ للعموم بالخصوص؛ فإن هذا الاشتراک نفسه مستبعد، أی: لا نصیر إلیه إلاَّ فِی موارد فیها دلیل قوی. فهذا یحتاج إلی إثبات قوی.

هذا، وهناک منبه یرشدنا إلی أن اللاَّم لم توضع فِی اللُّغَة للعموم، وهو عبارة عن أَنَّنَا نری أَنَّهُ لا إِشْکَال فِی عدم العنایة والتجوز فیما لو أن الْمُتِکَلِّم قیّد الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ بقید وقال: أکرم العلماء العدول؛ إذ أَنَّهُ کلام عربی صحیح والاستعمال قوی ولا إحساس بالمجاز فِی هذه الجملة، فهو یشبه تقیید المفرد (مثل: أَکْرِمِ الْعَالِمَ العادل)، فکما لا نحتاج إلی العنایة فِی تقیید المفرد، کذلک لا نشعر بالعنایة والتجوز فِی تقیید الجمع.

وهذا یکشف ویدلّ عَلَیٰ أَنَّ اللاَّم هی لیست موضوعة للعموم، وإلا فلو کانت اللاَّم موضوعة للعموم لدخلت عَلَیٰ علماء وأفادت العموم ثم هذا العلماء الدَّالّ عَلَیٰ العموم خُصِّصَ بالعدول. وهذا معناه أن التخصیص والتقیید بالعدول تَنَافَی مع المعنی الَّذی تَدُلّ علیه کلمة العلماء؛ لأَنَّ کلمة العلماء عُرفت باللام ثم وُصفت بالعدول؛ لأَنَّ الوصف مُعَرَّفٌ (= العدول) والوصف المُعَرَّف هو وصف للموصوف المعرف.

فاللام أوَّلاً جعلت علماء معرفة (أی: دخلت علیها وعرّفتها) ثم وصفت بالعدول. فرتبة التوصیف بعد رتبة دخول اللاَّم. أی: أصبح لهذا الاستعمال نوع من التلکأ.

ص: 36

للکلام صلة تأتی غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إِنَّه لم یَتُِمّ شیء من المسلکین فِی باب دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم:

المسلک الأوّل فکان یقول بدلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم؛ وذلک لأَنَّ اللاَّم الداخلة عَلَیٰ الجمع وضعت فِی اللُّغَة للعموم مباشرة وَرَأْساً، کما أنَّها وضعت لتعیّن مدخولها أیضاً (أی: وضعت مَرَّتَیْنِ وبوضعین: 1- وضعت لتعین مدخولها. 2- وضعت للعموم مباشرة).

والمسلک الثَّانِی: فهو القائل بأن هذه الدِّلاَلَة ناشئة من کون اللاَّم قد وضعت لتعین مدخولها، وبما أن تعیّن مدخولها ملازم للعموم، فَتَدُلُّ اللاَّم عَلَیٰ العموم.

أَمَّا المسلک الثَّانِی: فقد تَمَّت مناقشته وطرحه.

وأمّا المسلک الأوّل: فقد رفضناه أیضاً وذلک عَلَیٰ أساس أن من المستبعد جِدّاً أَنْ تَکُونَ اللاَّم مشترکاً لفظیّاً فِی لغة العرب، وذکرنا منبهاً لهذا الاستبعاد لم نکمله، وإلیک التکملة:

المنبه هو أَنَّهُ لا إِشْکَال فِی عدم العنایة والتجوز فِی موارد تقیید الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ بالمقید المتصل، کقولنا: أکرم العلماء العدول؛ إِذْ أَنَّ هذا التَّقْیِید تقییدٌ لا مؤونة فیه، وهو عَلَیٰ حدّ تقیید المفرد الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ. فَکَمَا لا یحس العربی بالمئونة والتجوز فِی مثل أَکْرِمِ الْعَالِمَ العادل، کذلک لا یشعر بالمجاز فِی مثل أکرم العلماء العدول، من حیث کونهما تقییدین بمقیدین مُتَّصِلَیْنِ، مع أَنَّهُ لو کانت اللاَّم موضوعة للعموم (ودالةً عَلَیٰ استیعاب أفراد مدخولها) لَشعرنا بالعنایة فِی مثل أکرم العلماء العدول، حیث أن قید العدول سوف یکون منافیاً ومخالفاً للمعنی الَّذی وضعت له اللاَّم؛ إِذْ أَنَّ اللاَّم (حسب فرضکم) موضوعةٌ لاستیعاب المدخول لأفراد العالم، فإن اللاَّم دخلت عَلَیٰ کلمة علماء لتصبح علماء ببرکة اللاَّم مستوعبة لکل أفراد العالم (سواء العدول أو الْفُسَّاق)، وبعد ذلک حینما جاء قید العدول أصبح هذا القید منافیاً (بحسب الدِّلاَلَة الوضعیَّة) لذاک الاستغراق الْمَدْلُول علیه باللام. أی: دخلت اللاَّم عَلَیٰ علماء قبل أن نقیِّد العلماء بالعدول، ثم بعد أن دخلت اللاَّم عَلَیٰ کلمة علماء وحوّلتها إلی المعرفة (= العلماء)، أردفنا لها وصف العدول. فجاء التوصیف فِی مرحلة مُتِأَخِّرَة عن دخول اللاَّم.

ص: 37

وبعبارة أخری إن مدخول اللاَّم عبارة عن علماء فحسب، لا المجموع المرکب من العلماء والعدول. فلو کان هذا المجموع المرکب مَدْخُولاً للاَّم، لَوَجَبَ أن یکون وصفه نکرةً أیضاً (وَفقاً للتنکیر الموجود فِی مدخول اللاَّم؛ إذ المدخول بواسطة اللاَّم یصبح معرفةً)، والحال أن الوصف معرفةٌ. فکان من المفروض أن نقول: أکرم العلماء عدول ولا نقول أکرم العلماء العدول؛ لأَنَّ المدخول عبارة عن المجموع المرکب من علماء وعدول. والحال أن هذا الاستعمال خاطئ وصحیحه هو أکرم العلماء العدول. ومعنی ذلک أن التوصیف أتی بعد أن أصبحت کلمة علماء معرفةً (أی: بعد دخول اللاَّم)، ف_اللاَّم وضعت لاستیعاب أفراد مدخولها، إذن فهی تَدُلّ بدلالتها الوضعیَّة التَّصوُّریَّة (قبل مجیء عدول) عَلَیٰ الاستیعاب والاستغراق. إذن، بعد ذلک عندما یأتی قید عدول ویُخرج الْفُسَّاق سوف یکون هذا القیدُ منافیاً وضعاً للاستغراق الَّذی دَلَّتْ علیه اللاَّمُ. هذا هو المنبه عَلَیٰ أن اللاَّم لم توضع لاستیعاب تمام أفراد مدخولها.

وبعبارة أکثر وضوحاً أقول: إن قلنا بأن اللاَّم وضعت لاستیعاب مدخولها فَسَوْفَ نواجه ثلاثة احتمالات (فِی موارد تقیید الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ بقید مُتَّصِل مثل أکرم العلماء العدول) کُلّهَا بعیدة وفی کل واحد منها محذور، والاحتمالات هی کالتالی:

الاحتمال الأوّل: أن نفترض أن یکون هذا القید (هذا المقیِّد المتصل المتقدّم ذکره) أیضاً جزءاً من مدخول اللاَّم (أی: مدخول اللاَّم هو المجموع المرکب من المقیِّد والقید، أو قل: هو المجموع المرکب من الموصوف والوصف).

وهذا الاحتمال بعید جِدّاً من الناحیة الإثباتیة ومن ناحیة المنهج الْعُرْفِیّ للترکیبات اللَّفظیَّة وذلک بحسب علماء الْعَرَبِیَّة؛ إِذْ أَنَّ مدخول اللاَّم عبارة عن کلمة علماء فحسب، ولیس مدخولها عبارة عن کلمة علماء والکلمات الَّتی تأتی بعد کلمة علماء (أی: لَیْسَ القید جزءاً من المدخول)، فهذه مِمَّا لا یعتبرها علماء الْعَرَبِیَّة مَدْخُولاً للاّم. ولو کان هذا المجموع مَدْخُولاً للام، لزم منه صحةُ قولنا: أکرم العلماء عدول؛ لأَنَّ مدخول اللاَّم مرکب من الموصوف والوصف، والموصوف نکرة. فهذا الاحتمال الأوّل مُنْتَفٍ إثباتاً.

ص: 38

الاحتمال الثَّانِی أن نفترض أن القید لَیْسَ جزءاً من المدخول، وإنَّما مدخول اللاَّم هو کلمة علماء فحسب، ولکن یفترض صاحب هذا الاحتمال أن اللاَّم وضعت لاستیعاب تمام أفراد المدخول، من دون أیّ شرط وقید. فالمقیَّد عامّ ومستغرق لجمیع الأفراد (لدخول اللاَّم علیه)، لکن جاء القید وأخرج بعض الأفراد. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. المقیِّد یقول: الکل والقید یقول: لَیْسَ الکل. فیحصل التَّنَافِی فِی مرحلة الدِّلاَلَة الوضعیَّة بین الْمَدْلُول الوضعیّ للمقیَّد والمدلول الوضعیّ للقید. وهذا هو العنایة الَّتی قلنا إِنَّنّا نشعر بها.

أجل، إِنَّنّا نقدِّم القید عَلَیٰ المقیِّد أخیراً وفِی مرحلة الدِّلاَلَة التصدیقیة الجدّیَّة؛ لأَنَّهُ قرینة متصلة. ولکن هل یحصل التَّنَافِی المذکور؟ هل یشعر العربی بنوع من التضارب والتمانع بین المدلولین التصوریین هنا (بِغَضِّ النَّظَرِ عن تلک الدِّلاَلَة التصدیقیة الجدّیَّة "أی: فِی الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة الوضعیَّة")؟!

الجواب عنه: هو أَنَّنَا لا نشعر بذاک التَّنَافِی والعنایة والتجوز فِی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ الوضعیّ (وهو العموم مثلاً) بین مدخول اللاَّم وبین هذا القید المتصل. إذن، فهذا الاحتمال بعید جِدّاً وهو خلاف الوجدان الْعُرْفِیّ الَّذی یشعر بعدم العنایة وعدم التَّجوُّز فِی مرحلة الدِّلاَلَة الوضعیَّة.

الاحتمال الثَّالث هو أن نقول: إِنَّ القید خارج عن المدخول (کالاحتمال الثَّانِی) ومدخول اللاَّم کلمةُ علماء فحسب، وَاللاَّم وضعت لاستیعاب أفراد العالم لکن بشَرْطِ (خلافاً للاحتمال الثَّانِی) أن لا یُذکر بعد المدخول قیدٌ، أَمَّا إن ذُکر بعد المدخول قید فهذا القید سوف لا یکون منافیاً لما دَلَّتْ علیه اللاَّم؛ لأَنَّ اللاَّم حینئذٍ لا تَدُلّ عَلَیٰ العموم. فإن صَحَّ هذا الاحتمال فلا نشعر بالعنایة والتجوز.

لکن هذا الاحتمال أیضاً بعید جِدّاً وذلک لنقطتین:

النُّقْطَة الأولی: أَنَّهُ خلاف الوجدان القاضی بأن الإتیان بالقید تقییدٌ لسعة المقیَّد ولیس کاشفاً عن التَّقَیُّد؛ فإن الإتیان بالقید (بناء عَلَیٰ هذا الاحتمال) یکشف عن أن العلماء کان مقیّداً من البدایة؛ إِذْ أَنَّ هذا الاحتمال یقول: إن اللاَّم وضعت لاستیعاب مدخولها بشرط أن لا یُذکر قیدٌ، فمع ذکر القید تبیّن أن الشَّرْط (شرط دلالة اللاَّم علی العموم) غیر موجود من البدایة. بینما الوجدان یقضی بأن القید لَیْسَ کاشفاً وإنَّما هو تقیید للمقیَّد من حین ذکره للمقید، فشأنه تماماً کشأن المفرد؛ فحینما نقول: أَکْرِمِ الْعَالِمَ العادل لا یکشف العادل عن شیء مسبق، وإنَّما هو تقیید سعة المقیِّد.

ص: 39

النُّقْطَة الثَّانیة: هی أن لازم هذا الاحتمال الثَّالث هو أنَّ الْمَدْلُول التَّصوُّریّ الوضعیّ للجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یبقی معلقاً بین السَّماء والأرض إلی أن یُنهی الْمُتِکَلِّمُ کلامَهُ. وحینئِذٍ لا یکون أی معنی للعلماء، لأَنَّ علینا أن ننتظر الْمُتِکَلِّم لنری هل سیذکر قیداً أو لا یذکر؟ إن ذکر قیداً فیکشف القید عن أَنَّ اللاَّم لا یَدُلّ عَلَیٰ الشُّمُول، إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. وإن لم یذکر القید فَیَکُونُ الشَّرْط متوفراً فَتَدُلُّ اللاَّم حینئذٍ عَلَیٰ الاستیعاب. أی: أن الدِّلاَلَة الوضعیَّة لکلمة علماء تبقی مذبذبة بین السَّماء والأرض، لا هی موجودة ولا هی مفقودة، إلی أن یُنهی الْمُتِکَلِّم کلامه. وهذا خطأ فادح؛ إِذْ أَنَّ کل کلمة بمجرّد أن تُلفظ تحصل عَلَیٰ مدلولها الوضعیّ اللغوی. إذن فهذا الاحتمال الثَّالث بعید أیضاً.

وبهذا نکون قد أکملنا الکلام فِی هذه الجهة الثَّانیة من الجهات الثَّلاث الَّتی عقدناها فِی الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ، حیث عقدنا فِی البدایة (فِی العامّ الماضی) ثلاث جهات:

الجهة الأولی: فِی البحث عن تصویر دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم (ثبوتاً وَعَقْلاً)، وهذا ما درسناه فِی العامّ الماضی.

الجهة الثَّانیة: البحث عن إثبات هذه الدِّلاَلَة خارجاً، وهذه هی الَّتی انتهت الیوم. وقبل الانتقال إلی الجهة الثَّالثة والأخیرة من جهات البحث حول الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ ألخص ما قلناه فِی هذه الجهة من أَنَّهُ اتَّضَحَ لنا من خلال هذه الجولة الواسعة أَنَّهُ یوجد بشأن دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم تخریجان ومسلکان واتجاهان رئیسیان فِی علم الأصول:

المسلک الأوّل: اللاَّم وضعت للعموم ابتداءً ومباشرة.

المسلک الثَّانِی: لم توضع اللاَّم ابتداء للعموم، بل وضعت لمعنی آخر ذاک المعنی یلازم العمومَ وذاک المعنی عبارة عن تعیّن المدخول.

ص: 40

أَمَّا نحن فلم یثبت عندنا شیء من المسلکین، لا ثبت وضعُ اللاَّم للعموم ابتداء، ولا ثبت عندنا وضع اللاَّم للعموم بتوسط وضعها لتعین المدخول، بل لعلّ المطمئن به عدم کلا الأَمْرَیْنِ. نعم، إِنَّنّا لا ننکر أصل دلالة الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عَلَیٰ العموم، بمعنی أَنَّهُ إن واجهنا فِی الفقه جمعاً محلی باللام منحطاً علیه حکم من الأحکام الشَّرعیَّة نفتی بلا إِشْکَال بالعموم. إلاَّ أَنَّهُ لم یتبرهن لدینا أن هذه الدِّلاَلَة هل هی مستندة إلی الوضع (کما یقول هذان المسلکان) أو أنَّها لیست مستندة إلی الوضع. وبالمآل والنتیجة: لا یمکننا أن نسمی الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عاماً؛ إِذْ أَنَّ العامّ بالمصطلح الأُصُولِیّ هو الَّذی دلالته عَلَیٰ العموم تکون وضعیَّة. فأصل دلالته عَلَیٰ الشُّمُول والاستیعاب واضح، إلاَّ أَنَّهُ مذبذب بین العامّ والمطلق، فلم یتبرهن لدینا أَنَّهُ من أی واحد منهما.

هذا تمام الکلام فِی هذه الجهة الثَّانیة.

تبقی الجهة الثَّالثة وهی البحث عن أَنَّهُ هذا العموم الْمُسْتَفَاد من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ أی قسم من أقسام العموم، فعندنا عموم استغراقیّ ومجموعی وبدلی. وهذا ما سنشرع فیه فِی الیوم القادم إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

بقیت الجهةُ الثَّالثة من جهات البحث عن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ وهی عبارة عن البحث عن نوعیة العموم الْمُسْتَفَاد من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ. والسؤال المطروح هو أَنَّهُ هل یُستفاد العمومُ الْمَجْمُوعِیُّ من هذا الجمعِ. فهل یُستفاد من قوله «أکرم العلماء» وجوبُ إکرامِ مجموع العلماء، بحیث یکون لدینا حکم واحد وهو وجوب إکرام هذا المجموع بما هو مجموع. فلو کان عدد مجموع العلماء مائة، فهناک حکم واحد نحن مکلفون بامتثاله وهو وجوب إکرام هذه المائة. فلو أکرمنا تسعة وتسعین ولم نکرم واحداً لم نمتثل هذا الحکم أبداً؛ لأَنَّهُ کان یجب علینا إکرام مجموع المائة بما هو مجموع. إن کان هکذا فَسَوْفَ یکون العموم الْمُسْتَفَاد منه عموماً مجموعیّاً.

ص: 41

أم أن الْمُسْتَفَادَ من هذا الجمع عموم استغراقیّ شُمُولِیّ، لیکون الواجبُ فی مثل هذا المثال «إکرام هذا العالم» وإکرامُ عالم آخر بوجوب آخر وإکرام عالم ثالث بوجوب ثالث وهکذا إلی تمام المائة، بحیث یَنْحَلُّ الحکمُ إلی أحکامٍ عدیدة بعدد أفراد العالم. فإن امتثلنا الجمیع نکون ممتثلین لجمیع الأحکام، ولو أکرمنا بعضهم نکون قد امتثلنا البعض وترکنا البعض.

ومن الطَّبِیعِیّ أن هناک عموماً ثالثاً لَیْسَ مستفاداً من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ قَطْعاً، ألا وهو العمومُ الْبَدَلِیّ؛ فَإِنَّه إذا استفید العمومُ من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ سوف یکون عموماً وشمولاً للأفراد بنحو عَرضِیّ، لا بنحو تبادلیّ، بحیث یکون أحد الأفراد بَدِیلاً عن الآخرین. فالعموم الْبَدَلِیّ لَیْسَ مراداً ولیس مستفاداً من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ قَطْعاً. وإنَّما هو یستفاد من مثل قوله: «أکرم أحد العلماء»، فهو عامّ بدلیّ بإمکانه الانطباق عَلَیٰ کل واحد من أفراد العلماء، لکن انطباقه عَلَیٰ الفرد الأول لَیْسَ فِی عَرض انطباقه عَلَیٰ الأفراد الأخری، وإنَّما ینطبق علیه بنحو البدل. فالعموم الْمُسْتَفَاد من الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ منحصر فِی نحوین، والعموم فِی کلا النحوین عَرضِیّ، أی: یشمل الأفراد فِی عَرض واحد. غایة الأمر: العموم الْمَجْمُوعِیّ فیه عنایة توحید الأفراد وجعلهم أجزاء لمرکب واحد، أَمَّا فِی المرکب الْبَدَلِیّ لَیْسَ فیه هذا التوحید والترکب.

الجواب عن هذا السُّؤَال هو أَنَّهُ اتَّضَحَ مِمَّا تقدّم فِی العامّ الدراسی الماضی فِی الجهة الرَّابعة من الجهات الَّتی بحثنا فیها عن کلمة «کُلٍّ»، حیث طرحنا نفس هذا السُّؤَال بِالنِّسْبَةِ إلی هذه الکلمة (کلمة «کُلٍّ»)، وأجبنا عنه بجواب ینطبق فِی المقام أیضاً؛ لأَنَّ «اللاَّم» الداخلة عَلَیٰ الجمع (بناء عَلَیٰ استفادة العموم منها) تکون مثل کلمة «کُلٍّ»، فکما أَنَّنَا اعتبرنا کلمة «کُلٍّ» من أدوات العموم ودالاًّ عَلَیٰ استیعاب مدخولها لکل الأفراد، کذلک «اللاَّم» (إن بنینا عَلَیٰ أنَّها موضوعة للعموم)، فنطبّق علیها ما ذکرناه هناک.

ص: 42

وحاصل ما ذکرناه هناک مع تطبیقه عَلَیٰ ما نحن فیه هو أن نَقُول: إِنَّ مقتضی الطبع الأوّلی ومقتضی أصالة التَّطَابُق بین مقام الإثبات ومقام الثُّبوت هو أن «اللاَّم» لطالما قد وضعت لاستیعاب مدخولها إذن فمقتضی الطبع الأوّل فِی هذا الاستیعاب هو أن یکون هذا الاستیعاب استیعاباً مجموعیّاً. أی: أَنْ یَکُونَ العموم عموماً مجموعیّاً. هذا هو المفاد الأوّلیّ للام؛ وذلک لأَنَّ الْمَجْمُوعِیَّة وإن کانت فیها عنایة تقیید بعض الأفراد بالبعض الآخر، وتحویل هذه المائة إلی أجزاء لمرکب واحد، لکی نَصُبَّ بعد ذلک الحکم (وهو وُجُوب الإِکْرَامِ) عَلَیٰ هذا المجموع المرکب، لٰکِنَّهَٰا ملحوظة لِلْمُتِکَلِّمِ عَلَیٰ کل حال، وداخلة فِی المراد الاستعمالیّ لِلْمُتِکَلِّمِ؛ لأَنَّ «اللاَّم» حَسَبَ الْفَرْضِ وضعت وتدلّ عَلَیٰ استیعاب مدخولها، فلا بُدَّ من أن یکون مدخولها عبارة عن مفهوم واحد یُحیط بتمام الأفراد، وأَمَّا مِنْ دُونِ أَنْ یکون معنی «اللاَّم» معنیً واحداً (أی: أَنْ یَکُونَ الملحوظ هو الأفراد الْمُتِکَثِّرَة بما هی مُتِکَثِّرَة) فلا یمکن أن تدخل «اللاَّم» علیها؛ إذ «اللاَّم» تدخل عَلَیٰ کلمة واحدة، والکلمة الواحدة تحکی عن مفهوم واحد (عن معنیً وحدانی) ولا یمکن أَنْ تَکُونَ الکلمة الواحدة تَدُلّ عَلَیٰ الکثیرین بما هم کثیرون، مِنْ دُونِ توحید هذه الأفراد الْمُتَکَثِّرَة.

«اللاَّم» وضعت لکی تَدُلّ عَلَیٰ استیعاب مدخولها، فلا بُدَّ من أن یکون مدخولها معنیً واحداً. فالمتکلم لا بُدَّ له فِی مقام الاستعمال من إعمالِ عنایة توحید الکثیر. أی: هذه العنایة مأخوذة فِی الْمَدْلُول الاستعمالیّ لکلمة «العلماء»؛ لأَنَّ اللَّفظ لا یمکن استعمالُهُ فِی المتکثرات بما هی متکثرات. فاللام تَدخل عَلَیٰ هذا الْمَفْهُوم الوحدانی الواحد الَّذی توحدت فیه المتکثرات، کی یمکن استعمال هذا اللفظ فِی هذا الْمَدْلُول والمعنی الواحد. إذن، المراد الاستعمالیّ والمدلول الاستعمالیّ هو المعنی الواحد المرکب.

ص: 43

إذن هذا ما نفهمه من مقام الإثبات والاستعمال. فلفظ «العلماء» فِی مقام الإثبات استُعمل فِی معنیً واحد (أی: استعمل فِی مجموع العلماء، لا فِی الجمیع). هذا شأن الاستعمال. فمقام الإثبات عبارة عن العموم الْمَجْمُوعِیّ.

وحینئِذٍ نضم إلی هذا المطلب مطلباً آخر وهو أن الأصل هو تطابق مقام الإثبات مع مقام الثُّبوت. فهناک أصل عُقَلاَئِیّ یبنیه العقلاء والعرف فِی المحاورات والاستعمالات، وهی عبارة عن أصالة التَّطَابُق بین ما یقوله (فِی مقام الإثبات) وما یریده (فِی مقام الثُّبوت) فما یقوله یریده أیضاً. وهو قال: «أکرم العلماء» (= العموم الْمَجْمُوعِیّ) فهو یرید العموم الْمَجْمُوعِیّ. فبهذا الأصل نثبت أن عنایة توحید العلماء المتکثرین فِی معنیً واحد جاءت فِی مقام الاستعمال والإثبات؛ لأَنَّهُ مِنْ دُونِ هذه العنایة لم یکن بالإمکان استعمال لفظ «العلماء» فِی الکثیرین بما هم کثیرون. فهذه العنایة طرحت إثباتاً مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم فتقول أصالة التَّطَابُق: إن الأصل أن یتطابق ما طُرح إثباتاً مع ما هو موجود فِی قَرارَة نفس الْمُتِکَلِّم ثبوتاً. إذن، فالموجود فِی قرارة نفسه هو العموم الْمَجْمُوعِیّ أیضاً.

هذا معنی ما قلنا فِی بدایة البحث أن مقتضی الطبع الأوّلیّ ومقتضی أصالة التَّطَابُق هو العموم الْمَجْمُوعِیّ.

لکن هناک نکتة زائدة تتدخل فِی هذا الموقف، وهذه النُّکتة ذکرناها سابقاً فِی بحث «کُلٍّ» (فَإِنَّنَا نعید ما ذکرناه فِی بحث «کُلٍّ»((1)

(2)

ص: 44


1- (1) - ذکرنا ذلک فِی الجلسة 89، من الیوم 19/06/1432 وما قبلها، وإلیک بعضاً مِمَّا تقدّم:
2- (2) النَّحْو الأوّل: أَنْ یَکُونَ توحید الکثیر أمراً أخذ فِی مقام الإثبات ومقام الاستعمال لضرورة الاستعمال فقط وفقط ولا أکثر. أی: الْمُتِکَلِّم فِی مقام الاستعمال باعتبار أَنَّهُ لا یمکنه أن یستعمل اللَّفظ فِی الْمُتَکثّرَات بوصفها متکثرات، فکان مضطراً إلی أن یعتبر هذه المتکثرات أمراً واحداً ویُلبسها ثوبَ الوحدة ویعتبر لها لوناً من الوحدة ویتصور فیها نَوْعاً من الوحدة فیها لکی یتمکن من أن یستعمل اللَّفظ فیها؛ باعتبار أن الأفراد مشترکة فِی صفة واحدة کصفة العلم، وهو یرید أن یعبر عنهم جمیعاً بلفظ واحد وهو لفظ «کل»، فلم یکن له خیار غیر أن یُلبس هذه الأفراد المتکثرات ثوب الوحدة ویجعلها شیئاً واحداً ویستعمل اللَّفظ فیه.

(1)

(2)

(3)

ص: 45


1- (3) إذن هذه عنایة، ولکنها من شؤون الاستعمال ومن شؤون إراءة المعنی، ولیس لها محکی وراء ذلک فِی الخارج؛ لأَنَّ هذه الصفة المشترکة (= العلم) فِی الأفراد الْمُتِکَثِّرَة لیست قائمة فِی الخارج بمجموع الأفراد، بل هی قائمة بالجمیع؛ فَإِنَّ «صفة العلم» قائمة بکل فرد فردٍ بما هو هو ومستقلاً. أی: هذا عالم سَوَاءٌ کَانَ الآخرون علماء أم لا، وذاک عالم أیضاً سَوَاءٌ کَانَ هذا وآخرون علماء أم لا. فصفة العلم لیست قائمة فِی الخارج بمجموع هؤلاء المائة (إذا افترضنا أن مجموعهم مائة عالم)، بحیث إذا کان 99 منهم عَالِماً ولم یکن الأخیر عَالِماً یسقط المجموع عن کونها عَالِماً، لا هذا لَیْسَ صحیحاً؛ لأَنَّ صفة العلم قائمة بالجمیع لا بالمجموع. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه فلم تُعطی هذه الصفة توحّداً للأفراد فِی الخارج، بحیث یصیّرهم مرکّباً واحداً، وإنَّما توحید هؤلاء أمر اعتباری اعتبره المستعمِل لضرورة الاستعمال، بعد أن کان مکتوف الید ولم یکن بإمکانه أن یستعمِل اللَّفظ فِی المتکثرات بما هی مُتِکَثِّرَة.
2- (4) فعنایة توحید الکثیر هنا ضرورة اِسْتِعْمَالِیَّة لا أکثر، وإلا فلا یوجد وراء هذه الضَّرورة محکیٌّ فِی الخارج (فقد قلنا بأَنَّهُ لا یوجد توحد خارجی بین العلماء، فکل فرد مَوْضُوع مستقلّ). أی: لم تقم صفة العلم بمجموع المائة من العلماء بل قامت بکل واحد واحدٍ من المائة، أی: بالجمیع.
3- (5) وإذا کانت عنایةُ توحید الکثیر بهذا النَّحْو فالحق مع القول الأوّل، وهو القول بأن مقتضی الأصل هو کون العموم الْمُسْتَفَاد من لفظة «کل» عموماً اِسْتِغْرَاقِیّاً. أی: کل فرد فردٍ مَوْضُوع مستقلّ، ولیست هذه العنایة مأخوذةً فِی المُراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ فِی مقام الثُّبوت. نعم هی مأخوذة فِی مقام الإثبات والاستعمال.

(1)

(2)

(3)

(4)

ص: 46


1- (6) لا یقال: إن هذا خلاف أصالة التَّطَابُق بین مقامی الإثبات والثُّبوت.
2- (7) إذ یقال: بأنَّها أصل عُقَلاَئِیّ یجریه العقلاء عندما کان المأخوذ لا لضرورة الاستعمال وَالتَّعْبِیر، بل أخذ فِی مقام الإثبات لأَنَّ له محکیاً فِی الخارج وله ما بإزاء فِی الخارج وراء الاستعمال. أَمَّا فیما نحن فیه أخذ فِی مقام الإثبات والاستعمال عنایة التوحید لکن لأجل ضرورة التَّعْبِیر فقط. فلا تنطبق أصالة التَّطَابُق المذکور هنا ولا یُشَکِّل أفراد العالم (فِی هذا المثال) مُرَکَّباً واحداً فِی الخارج، نعم وَحَّدَهُم المستعمِلُ اعتباراً لکی یتسنی لهم أن یستعمل کلمة «کُلٍّ» فیهم ویمکنه التَّعْبِیر بلفظ واحد. أی: ضرورة تعبیریة وبیانیة واستعمالیة، وإلا فهم لیسوا واحداً فِی الخارج.
3- (8) إذن هذا الترکب والتوحد أمر اعتباری محض لضرورة الاستعمال لَیْسَ أکثر، ومثل هذا (أی: التَّطَابُق بین الإثبات وَالثُّبُوت) لا یقتضی حفظَه فِی مقام الثُّبوت والمراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ. فالحق مع العموم الاستغراقیّ فِی مثل هذا المورد.
4- (9) النَّحْو الثَّانِی: أَنْ تَکُونَ هذه العنایة (عنایة توحید المتکثرات وترکیبها) مأخوذة فِی الْمَدْلُول الاستعمالیّ بمعنی أنَّ هذا الترکیب والتوحید أمر واقعی فِی الخارج، أی: له ما بإزاء خارجاً ولیس أمراً اعتباریّاً بَحْتاً مِن قِبَلِ المستعمِل، بل هو أمر واقعی فِی الخارج وراء شؤون الاستعمال وبقطع النَّظَر عن اعتبار المستعمِل وبمعزلٍ عن طروّ الأداة واستعمالها مِن قِبَلِ الْمُتَکَلِّم ولها ما بإزاء خارجاً؛ باعتبار أنَّ الأفراد الْمُتَکَثِّرَة مشترکة فِی صفة واحدة، هذه الصفة قائمة بمجموع الأفراد خارجاً، لا بالجمیع. أی: الأفراد الْمُتِکَثِّرَة تشترک فِی عنوان واحد أعطاها نَوْعاً من التوحد والترکب، فأصبحت الأفراد بمجموعها (لا بجمیعها) مرکزاً لهذا العنوان والصفة، وذلک من قبیل عنوان «الجیش» و«العسکر»، فهذا العنوان قائم بمجموع الجنود والعساکر، والجندی الواحد لَیْسَ جیشاً، بخلاف العالم الواحد فإِنَّهُ عالم والعنوانُ محفوظ فیه. فهذا العنوان فِی الخارج قائم بمجموع الأفراد، أی: قائم فلیس قَائِماً بکل فرد فردٍ مستقلاًّ.

(1)

(2)

(3) ) ولکن مع تطبیقه عَلَیٰ «اللاَّم» فیما إذا بنینا عَلَیٰ أن «اللاَّم» تَدُلّ عَلَیٰ العموم). إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه وبموجب تلک النُّکتة الزائدة الَّتی تقدّم ذکرها هناک، نلغی هذه العنایة (عنایة توحید الکثیر)، ویکون الْمُسْتَفَاد من قوله «أکرم العلماء» هو العموم الاستغراقیّ، لا العموم الْمَجْمُوعِیّ. والنُّکتة هی أن هذه العنایة اعتبارٌ صادر من المستعمِل فِی مقام الاستعمال لمجرّد الاستطراق إلی التمکن من استعمال لفظ «العلماء» فِی الأفراد الْمُتِکَثِّرَة فحسب. أی: اعتبر کل المائة مُرَکَّباً واحداً لضرورة الاستعمال. فهذه الضَّرورة ضرورة اِسْتِعْمَالِیَّة، مِنْ دُونِ اعمال هذه العنایة لم یکن بإمکان الْمُتِکَلِّم من أن یستعمل لفظ «العلماء» ویرید منه هذا العالم وهذا العالم وذاک العالم (مِنْ دُونِ أن یُلقی نظرة وحدانیة إلی هؤلاء ویصبّهم فِی قالب واحد).

ص: 47


1- (10) ففرق کبیر بین عنوان العالم وبین عنوان الجیش والعسکر؛ حیث لم یعط عنوانُ «العالم» توحّداً وترکّباً لأفراد العالم، بینما العنوان الأخیر (الجیش أو العسکر) وحّد الأفراد توحیداً حقیقیّاً، فلیس توحیده لضرورة التَّعْبِیر وإنَّما هو فِی مرحلة أسبق من التَّعْبِیر، حیث یوجد توحد حقیقی وواقعی بین الأفراد.
2- (11) فإذا کانت العنایة من هذا القبیل، عندما یقول: «أکرم کل الجیش» أو «أکرم کل العسکر» تفید کلمة «کُلٍّ» العموم الْمَجْمُوعِیّ، فلا یوجد ألف وجوب بعدد الجنود (وهم ألف فرد)، بل الوجوب مجموعیّ.
3- (12) فالحاصل: أَنَّنَا نفرق بین قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» وبین قوله: «أکرم کل العسکر» أو «کل الجیش»؛ فإن مقتضی الإِطْلاَق فِی الأوّل هو أن العموم عموم استغراقیّ؛ وذلک لما قاله صاحب القول الأوّل من أنَّ الْمَجْمُوعِیَّة عنایة إضافیة وتحتاج إلی بیان زائد ولا یوجد فِی المقام بیان زائد. أی: تحتاجُ عنایةُ توحید الکثیر فِی مرحلة المراد الْجِدِّیّ إلی قرینة ولا قرینة فِی المقام. بینما فِی الثَّانِی «أکرم کل الجیش» مقتضی الأصل هو أن یکون العموم مجموعیّاً؛ لأَنَّ ترکب الکثیر وتوحّده هناک له محکی خارجاً وراء عالم الاستعمال.

فإن الْمُتِکَلِّم فِی مثالنا یرید أن یستعمل لفظ «العالم» فِی هذه الأفراد الْمُتِکَثِّرَة العدیدة والمشترکة فِی صفة «العلم»، فلا بُدَّ له من أن یُلبس هذه الأفراد ثوباً واحداً، وهو ثوب الوحدة، ویجعلهم مرکباً واحداً ثم یستعمل اللَّفظ فیه. ولکن هذه العنایة لَیْسَ لها محکیّ وما بإزاء فِی الخارج؛ إذ لیست إلاَّ صرف اعتبار اعتبره الْمُتِکَلِّم (طبعاً لا أَنَّهُ تبرع بهذه العنایة مِنْ دُونِ الحاجة إلیها ومن دون ضرورتها) ولکنها عَلَیٰ أی حال حاجة اعتباریة اقتضتها ضرورة الاستعمال.

وبعبارة أخری: هذه الصفة المشترکة وهی صفة العلم فِی هؤلاء المائة لَیْست قائمة فِی الخارج بمجموع هؤلاء المائة، بل هی قائمة بکل فردٍ فرد منهم؛ فَإِنَّ کون زید عَالِماً فِی الخارج لا یتقوّم بکون «عمر» عَالِماً، وکون عمر عالم خارجاً لا یتقوّم بکون «بکر» عَالِماً. فکل واحد منهم عَالِمٌ برأسه. وهذا معنی أن صفة العلم فِی الخارج لیست قائمة فِی الخارج بالمجموع بما هو مجموع، بل هی قائمة بالجمیع، أی: هی قائمة بکل فرد فردٍ بما هو هو.

ومعنی ذلک أن صفة العلم لم تعط هؤلاء المائة توحداً فِی الخارج، بل هذا التوحد کان فِی ذهن المستعمل الْمُتِکَلِّم الَّذی أعمل هذه العنایة لحاجةِ الاستعمال، وإلا فلا یوجد توحد فِی الخارج بین هذا الاستعمال وذاک الاستعمال، فکل واحد من الأفراد عالمٌ برأسه؛ فقد تقدّم فِی بحث «کُلٍّ» أن قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» یختلف عن قوله: «أکرم کل الجیش». فإن عنوان «الجیش له محکی فِی الخارج» ومحکیه هو المجموع بما هو مجموع، بحیث لو نظرنا إلی الجندی الواحد لا نراه جیشاً، کما لا یکون الجندیان أو ثلاثة جنود جیشاً؛ إِذْ أَنَّ عنوان «الجیشیة» وصفة «الجیشیّة» قائمة خارجاً بمجموع الجنود بما هم مجموع. فیستفاد العموم الْمَجْمُوعِیّ من «أکرم کل الجیش»؛ لأَنَّهُ فِی مقام الإثبات ذکر الْمُتِکَلِّم العموم الْمَجْمُوعِیّ فتقتضی أصالة التَّطَابُق أن یکون هو المراد فِی مقام الثُّبوت؛ لأَنَّهُ فِی عَالَمِ الإِثْبَاتِ ذکر کلمة «الجیش» وکلمة الجیش إثباتاً تَدُلّ عَلَیٰ مجموع الجنود بما هم مجموع، ولا تَدُلّ عَلَیٰ الجمیع، فإِنَّهُ لَیْسَ کل جندی بما هو هوَ جیشاً، لکن کل عالم بما هو هوَ عالمٌ.

ص: 48

إذن، لا یوجد شیء وراء «العلماء» اسمه التوحد الحقیقی والخارجی، فلا تجری أصالة التَّطَابُق فِی مثله؛ فَإِنَّها أصل عُقَلاَئِیّ لا یجریها العقلاء فیما إذا کان ما ذکره الْمُتِکَلِّم إِنَّمَا ذکره لأَنَّهُ لَوْ لَمْ یَکُنْ یذکره لم یکن قادراً عَلَیٰ الاستعمال، فذکره لأجل أن یقدر عَلَیٰ استعمال اللَّفظ. فلا تقول أصالةُ التَّطَابُق أن ما ذکره المستعمل رغم أنفه لضرورة الاستعمال، یکون قد أراده أیضاً. فإن لِلْمُتِکَلِّمِ أن یقول بِأَنَّ مَا ذکره لَیْسَ داخلاً فِی مراده الْجِدِّیّ، وإنَّما الَّذی ذکره مجرّد اعتبار یمکّنه من الاستعمال، لا أکثر.

وهذا بخلاف عنوان الجیش، فإن الوحدة فیه خارجی أیضاً، ولیست وحدة اعتباریة یعتبرها الْمُتِکَلِّم عندما یستعمل لفظ «الجیش»، بل توجد هناک وحدة حقیقیَّة خارجیّة هی الَّتی تصحح استعمال لفظ الجیش عَلَیٰ الجنود. أی: لا یکون الجنود جیشاً مِنْ دُونِ هذه الوحدة.

إذن، نحن بموجب هذه النُّکتة نقول بأَنَّهُ بناء عَلَیٰ أصل استفادة العموم من دخول «اللاَّم» عَلَیٰ الجمع سوف یکون العموم الْمُسْتَفَاد من «اللاَّم» هو العموم الاستغراقیّ لا الْمَجْمُوعِیّ. هذا تمام الکلام فِی الجهة الثَّالثة، وبذلک تَمَّ الکلام عن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ الَّذی هو اللَّفظ الثَّانِی من ألفاظ العموم، فکان اللَّفظ الأوّل هو کلمة «کُلٍّ» وقد درسناها فِی العامّ الماضی، واللَّفظ الثَّانِی من ألفاظ العموم وصیغه هذا الَّذی انتهینا منه الآنَ وهو «الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ». بعد ذلک إن شاء اللٰه نتعرض لِلَّفْظِ الثَّالث أو الصیغة الثَّالثة من صیغ العموم وهی عبارة عن النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو فِی سیاق النَّهْی.

النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهی أو النفی/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهی أو النفی/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

ص: 49

الثَّالثة من صیغ العموم وأدواته وألفاظه النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو الواقعة فِی سیاق النَّهْی، من قبیل قوله: «لا ضرر ولا ضرار» فإن کلاَّ من الضَّرَر والضرار نکرة وقعت فِی سیاق النَّفْی. أو من قبیل: ﴿مَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ﴾ حَیْث أَنَّ ﴿حرج﴾ نکرة واقعة فِی سیاق النَّفْی. أو من قبیل: ﴿لن یجعل اللٰه للکافرین عَلَیٰ المؤمنین سبیلاً﴾، حَیْث أَنَّ ﴿سبیلاً﴾ نکرة وقعت فِی سیاق النَّفْی. ومن قبیل: ﴿والله أخرجکم من بطون أمهاتکم لا تعلمون شیئاً﴾، وهکذا کثیر فِی سیاق النَّفْی.

وکذلک فِی سیاق النَّهْی مثل «لا تلبَس شیئاً مِمَّا لا یؤکَل فِی الصَّلاة» ومثل ﴿لا یضار کاتب ولا شهید﴾ و﴿لا یغتب بعضکم بعضاً﴾ و﴿لا تضار والدةٌ بولدها ولا مولود له بولده﴾ و﴿لا یبخس منه شیئاً﴾ وهکذا فِی کثیر من الموارد.

اُدعی أنَّ وقوع النَّکِرَة فِی سیاق النَّهْی أو النَّفْی (أی: وقوعه عقیب النَّفْی) من أدوات العموم ومن صیغه.

أَمَّا ما هو المنشأ لهذه الدَّعْوَیٰ؟ فقد أفاد سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله أنّ المنشأ والباعث لهذه الدَّعْوَیٰ فِی أکبر الظن هو أنهم لاحظوا أنَّ النَّکِرَة إذا وقعت فِی سیاق الإثبات (لا النَّهْی ولا النَّفْی) فلا دلالة لها عَلَیٰ الشُّمُولِیَّة. فإن «عَالِماً» فِی قوله: «أکرم عَالِماً» نکرة أیضاً، مثل ﴿بعضاً﴾ فِی الآیة الشریفة ﴿لا یغتب بعضکم بعضاً﴾، ولکن لا یمکن إثبات الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ ل_«عَالِماً» فِی هذا المثال، بحیث یسری وُجُوب الإِکْرَامِ إلی کل أفراد العالم، وإنَّما الإِطْلاَق هنا بدلیّ، کما تقدّم تفصیله فِی بحث المرَّة والتَّکرار وفی غیره حیث ذکرنا کراراً أن الإِطْلاَق فِی النَّکِرَة الواقعة بعد الإثبات إطلاق بدلیّ ولیس شُمُولِیّاً؛ فإن عَالِماً» فِی «أکرم عَالِماً» إطلاقه شُمُولِیّ ویصلح أن ینطبق عَلَیٰ هذا العالم وذاک العالم، لکن بشکل بدلیّ، أی: الاستیعاب استیعاب تبادلی ولیس عرضیّاً. ومن هنا یُکتفی فِی مقام الامتثال بإکرام شخص واحد. فإن قال: «صلِّ صلاةً» یکفی أن یصلی صلاةً واحدة. هذا شأن النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق الإثبات.

ص: 50

فإنهم لاحظوا أَنَّهُ لا یمکن إثبات الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ للنَّکِرَة الواقعة فِی سیاق الإثبات؛ والسبب فِی ذلک هو أن النَّکِرَة (أی: اسم الجنس المنون بتنوین التَّنْکِیر) لا یقبل الاستیعاب العَرضیّ (أی: أن یستوعب کلَّ أفراده فِی عَرض واحد)؛ لأَنَّ هذه النَّکِرَة (هذا الاسم الجنس) مُنَوَّنة بتنوین التَّنْکِیر وتنوین التَّنْکِیر یَدُلّ عَلَیٰ الوحدة (أی: فرد واحد من هذه الطَّبِیعَة). فکلمة «عَالِماً» تعنی: طبیعة العالم المقیّدة بقید الوحدة، کما أن «فَاسِقاً» یعنی: طبیعة الفاسق المقیّدة بقید الوحدة وکذلک «خَمْراً» فِی «لا تشرب خَمْراً» تعنی طبیعة الخمر المقیّدة بقید الوحدة. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ تلک الطَّبِیعَة لا تَدُلّ عَلَیٰ الاستیعاب العَرضیّ لکل أفرادها؛ لأَنَّهَا مقیدة بقید الوحدة. ومن هنا لا یمکن أن یکون الإِطْلاَق فِی النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق الإثبات شُمُولِیّاً، بل لا بُدَّ من أن یکون بَدَلِیّاً. هذا فِی جانب الإثبات.

هذا، بینما النَّکِرَة نفسها فِی سیاق النَّهْی أو النَّفْی تفید الشُّمُولِیَّة ولا تفید الْبَدَلِیَّة کما کانت تفیدها فِی جانب الإثبات. فَیَکُونُ معنی «لا تکرم فَاسِقاً»: لا تکرم أیَّ فاسقٍ. فلیس المقصود منه لا تکرم فَاسِقاً واحداً أَمَّا بقیة الْفُسَّاق فأکرمهم.

فلا بُدَّ من أن یکون الدَّالّ عَلَیٰ الشُّمُولِیَّة شیئاً آخر غیر النَّکِرَة، وإلا فإن هذه النَّکِرَة لا تفید الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ فِی سیاق الإثبات، وهذا الشَّیْء الآخر عبارة عن وقوع هذه النَّکِرَة عقیب النَّفْی أو النَّهْی. فهذا هو الباعث والمنشأ لهذه الدَّعْوَیٰ القائلة بأن النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی تفید الشُّمُولِیَّة.

لکن واقع المطلب هو أن هذه الشُّمُولِیَّة سواء فرضناها بنحو شمولیة العامّ (أی: اعتبرنا أن النَّکِرَة فِی سیاق النَّهْی أو النَّفْی هذه من صیغ العموم مثل کلمة «کُلٍّ» ومثل الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ بناء عَلَیٰ أنَّها موضوعة للعموم) أو فَسَّرْنّا الشُّمُولِیَّة فیها بنحو المطلق، نحتاج لفهم هذه الشُّمُولِیَّة إلی عنصرین:

ص: 51

العنصر الأوّل: أَنْ یَکُونَ هناک مفهوم اسمی قابل للاستیعاب الشُّمُولِیّ والعَرْضی.

العنصر الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ هناک قرینة ودالّ یَدُلّ عَلَیٰ أن هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ القابل للاستیعاب الأرضی مستوعِب فعلاً. أی: هذه القابلیة أصبحت فِعْلِیَّة، وهذا الدَّالّ عبارة عن الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة.

ونحن دائماً نحتاج إلی هذین العنصرین سواء فِی باب الإِطْلاَق أو فِی باب العموم.

أَمَّا فِی باب الإِطْلاَق فکلمة «عالم» تَدُلّ عَلَیٰ مفهوم اسمی صالح للانطباق عَلَیٰ أفراده بصورة عَرضِیَّة، کما أن لدینا قرینة دالَّة عَلَیٰ أن هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ مستوعب لأفراده فعلاً، وتلک القرینة عبارة عن مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ.

وأمّا فِی باب العموم (کما سبق شرحه فِی العامّ الماضی عند دراستنا لکلمة «کُلٍّ»)، فإِنَّهُ فِی مثل: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» یوجد لدینا مفهوم اسمی صالح للانطباق عَلَیٰ أفراده واستیعاب أفراده بصورة عَرضِیَّة وهو مدخول الأداة (أی: مفهوم «عالم») کما یوجد لدینا دالّ یَدُلّ عَلَیٰ أن هذا الْمَفْهُوم (عالم) مستوعِب لأفراده فعلاً، وهذا الدَّالّ هو «کُلٌّ».

ولکن فِی المقام (النَّکِرَة فِی سیاق النَّهْی أو النَّفْی) ما هو ذاک الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ القابل والصالح فِی ذاته للاستیعاب العَرضیّ فِی مقابل الْبَدَلِیّ، حتّی یأتی بعد ذلک دور الدَّالّ عَلَیٰ هذا الاستیعاب؟ وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مفهوم النَّکِرَة («عالماً» الَّذی هو اسم الجنس المنون بتنوین التَّنْکِیر) لا یصلح أن یکون قابلاً للاستیعاب العَرضیّ؛ لأَنَّهُ مقیَّد بقید الوحدة. إذن، کیف نفهم الشُّمُولِیَّة والاستیعاب العَرضیّ فِی المقام؟!

هنا یوجد تفسیران لهذه الشُّمُولِیَّة الَّتی نفهمها من النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی.

التَّفْسِیر الأوّل

ما ذکره سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله فِی الحلقة الثَّالثة ولم یذکره فِی مجلس بحثه، وهو أن نَقُول: تَثْبُتُ الشُّمُولِیَّة الَّتی نفهمها فِی المقام، بإجراء مقدّمات الحِکْمَة فِی النَّکِرَة نفسها، لکن بعد إخراجها عن کونها نکرة. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه ویَتُِمّ هذا الإخراج بقرینة السِّیَاق (أی: بقرینة وقوع النَّکِرَة بعد النَّفْی أو النَّهْی). فلیس السِّیَاق (أی: تَعَقُّب النَّکِرَة بعد النَّفْی أو النَّهْی ووقوعها بعدهما) هو الدَّالّ عَلَیٰ الشُّمُولِیَّة، بل الدَّالّ علی الشمولیة هو الإِطْلاَق وقرائن الحِکْمَة، لکن السِّیَاق لعب دور إخراج النَّکِرَة عن کونها نکرة، فیمنح السیاقُ النکرةَ صلاحیة الاستیعاب. أی: السِّیَاق یکون قرینة عَلَیٰ إخراج هذه الکلمة عن کونها نکرة، أی: یجرّدها عن قید الوحدة، وَالطَّبِیعَة إذا جُرّدت عن قید الوحدة، تصبحُ صالحة للاستیعاب العَرضیّ. وحینئِذٍ یأتی الدَّالّ فعلاً عَلَیٰ الاستیعاب وهو مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ.

ص: 52

وهذا تفسیر معقول وممکن، وبه اتَّضَحَ الجواب عن السُّؤَال الأوّل وهو أَنَّهُ کیف أصبحت النَّکِرَة الَّتی إذا وقعت فِی سیاق الإثبات لا تفید إلاَّ الإِطْلاَق الْبَدَلِیّ (= لا تفید الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ)، أَمَّا إذا وقعت هذه النَّکِرَة نفسها فِی سیاق النَّهْی أو النَّفْی أفادت الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ، مع أنَّها هی هِی.

فالجواب بات وَاضِحاً وهو أنَّ النَّکِرَة إذا وقعت فِی السِّیَاق أخرجها السِّیَاقُ عن کونها نکرة ووحیدة، رغم وجود التَّنْوِین، وبالتَّالی جعل النکرةَ صالحةً للاستیعاب العَرضیّ، وحینئِذٍ جاءت مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ ودلت عَلَیٰ أن هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ القابل للاستیعاب العَرضیّ مستوعِب لأفراده فعلاً. فأصبحت مثل سائر الموارد ک_«أَکْرِمِ الْعَالِمَ» حیث أتت مقدّمات الحِکْمَة ودلت عَلَیٰ أن هذه الطَّبِیعَة (= العالم) الَّتی هی غیر مقیدة بأی بقید زائد، مستوعِبة لأفرادها.

التَّفْسِیر الثَّانِی: ما أفاده المُحَقِّق الخُراسانیّ رحمه الله حیث قال: إن الشُّمُولِیَّة الَّتی نفهمها فِی موارد النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهْی أو النَّفْی إِنَّمَا یحکم بها العقل (أی: نفهمها من القرینة اللُّبِّیَّة المتَّصلة الْعَقْلِیَّة) فلیست الدِّلاَلَة عَلَیٰ الشُّمُولِیَّة لفظیّةً، بل هی عَقْلِیَّة، ولا دلالة للألفاظ (مثل لفظ النَّکِرَة أو لفظ «لا» الناهیة أو «لا» النافیة) عَلَیٰ هذه الشُّمُولِیَّة؛ وذلک لأَنَّ العقل دلَّ عَلَیٰ أن هذه الطَّبِیعَة منهی عنها (إذا کانت «لا» ناهیة) أو منتفیة ومنعدمة (إذا کانت «لا» نافیة). وحینئِذٍ یأتی العقل ویقول: إن انْتِفَاء الطَّبِیعَة لا یکون إلاَّ بانتفاء جمیع أفراده، أو أن انعدام الطَّبِیعَة لا یکون إلاَّ بانتفاء بانعدام جمیع أفرادها. فإِنَّهُ لطالما یوجد فرد واحد فِی الخارج فإن الطَّبِیعَة موجودة فِی ضمن ذاک الفرد. فالعقل هو الدَّالّ عَلَیٰ شُمُولِیَّة واستیعاب هذه النَّکِرَة لکل أفرادها، من باب أن انعدام الطَّبِیعَة لا یکون إلاَّ بانعدام جمیع أفراده. هذا تفسیر آخوندی لهذه الشُّمُولِیَّة.

ص: 53

أقول: توجد عدّة ملاحظات عَلَیٰ هذا التَّفْسِیر:

الملاحظة الأولی هی أن هذه الشُّمُولِیَّة لا تختصّ بالنکرة؛ فإن المعرفة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی یفهم منها الشُّمُولِیَّة. فکما أَنَّنَا نفهم الشُّمُولِیَّة من قوله: «لا تکرم فَاسِقاً» کذلک نفهم الشُّمُولِیَّة من قوله: «لا تکرم الفاسق». فلا تختلف النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی عن المعرفة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی فِی إفادة الاستیعاب وَالشُّمُولِیَّة. إذن هذه الشُّمُولِیَّة من شؤون نفس النَّهْی أو النَّفْی، سواء تعلقا بالنکرة أو بالمعرفة. ونحن ذکرنا الکلام بالتفصیل سابقاً قبل عدّة سنوات فِی بحث دلالة الأمر عَلَیٰ المرَّة والتَّکرار وکذلک فِی بحث آخر فِی بحث دلالة النَّهْی عَلَیٰ الاِنْحِلاَلِیَّة، ولعله فِی غیرهما أیضاً، ولکننا فِی ذینک البحثین فصلنا الکلام حول وقوع الطَّبِیعَة فِی سیاق الأمر أو فِی سیاق النَّهْی. (إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه) ووضعنا لهذا قانوناً عامّاً وَقُلْنَا: إِنَّ الأصل فِی الْمُتَعَلَّق أن یکون الإِطْلاَق فیه إطلاقاً بَدَلِیّاً والأصل فِی الْمَوْضُوع أن یکون الإِطْلاَق فیه شُمُولِیّاً. ولکل من هذین القانونین استثناء ذکرناه هناک. فالأصل العام فِی الْمُتَعَلَّق أن یکون إطلاقه بَدَلِیّاً إلاَّ إذا کان الْمُتَعَلَّق متعلّقاً بِالنَّهْیِ (مثل صلِّ ولا تکذب). والأصل فِی الْمَوْضُوع أن یکون الإِطْلاَق شُمُولِیّاً (مثل «أَکْرِمِ الْعَالِمَ»، حَیْث أَنَّ الإِطْلاَق بدلیّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَعَلَّقِ؛ إذ لا یَدُلّ «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» عَلَیٰ وجوب إکرام العالم بکل مصادیق الإکرام. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلی «العالم» فالإکرام شُمُولِیّ، أی: یجب إکرام جمیع أفراد العالم). فالأصل فِی الْمَوْضُوع الشُّمُولِیَّة إلاَّ إذا کان الْمَوْضُوع مُنَوَّناً بتنوین التَّنْکِیر، کما فِی قوله: «أکرم عَالِماً»؛ لأَنَّ هذا التَّنْوِین یعطیه قید الوحدة، وإذا کان مقیّداً بقید الوحدة فلا یمکن أن یکون دالاًّ عَلَیٰ الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ. هذه هی الملاحظة الأولی، وتبقی الملاحظات الأخری تأتی غداً إن شاء اللٰه تعالی.

ص: 54

النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهی أو النفی/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهی أو النفی/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الملاحظة الثَّانیة عَلَیٰ التَّفْسِیر الَّذی ذکره الخُراسانیّ لِلشُّمُولِیَّةِ هی أن هذه الشُّمُولِیَّةَ المستفادةَ من القرینة الْعَقْلِیَّة (القائلة بأن النَّهْی حیث أَنَّهُ نهی عن الطَّبِیعِیّ، أی یُطلب إعدامُ الطَّبِیعَة، وَالطَّبِیعَة لا تَنعدم إلاَّ بانعدام جمیع أفرادها)، لا تکون شمولیةً للحکم فِی مرحلة الجعل، وإنَّما شمولیة فِی مرحلة الامتثال؛ فإن شمولیة الحکم تارةً (وهذا بحث أیضاً تقدّم تفصیله فِی المرَّة والتَّکرار) تکون شمولیة فِی مرحلة الجعل، أی: انحلال الحکم إلی أحکام عدیدة بعدد الأفراد. مثلاً لو قال: «لا تکذب» سوف یَنْحَلُّ هذا النَّهْی إلی نواهٍ عدیدة بعدد الکذبات الْمُتَصَوَّرَة، بحیث تکون کل کذبة محکومةً بحرمةٍ.

والنوع الآخر من الشُّمُولِیَّة لیست بمعنی انحلال الحکم إلی أحکام عدیدة بعدد الأفراد، بل بمعنی أن لا یتحقّق الامتثال الخارجیّ للحکم إلاَّ بامتثال جمیع الأفراد، لکن لَیْسَ بالضرورة معناه أن یکون الحکم مُنْحَلاًّ إلی أحکام عدیدة، فإن هذا ینسجم مَعَ أَنْ یکون الحکم واحداً. فإن افترضنا أن الشُّمُولِیَّة شمولیة فِی مرحلة الامتثال فِی مثال: «لا تکذب» المتقدّم، لا فِی مرحلة الجعل. یعنی أن الحکم المجعول مِن قِبَلِ المولی واحد ولا توجد حرمات عدیدة بعدد الکذبات، لکن هذه الْحُرْمَة الواحدة الْمُتَعَلَّقَة بطبیعی الکذب لا تُمتَثَل خارجاً إلاَّ بترک کل الکذبات.

وتتمخض عن هذه القرینة الْعَقْلِیَّة الشُّمُولِیَّةُ من النَّوْع الثَّانِی (شمولیة الحکم فِی مرحلة الامتثال)، ولا نصل إلی الشُّمُولِیَّة المتوخاة (وهی الشُّمُولِیَّة فِی مرحلة الجعل). وتنسجم مقولة الآخوند هذه مع افتراض أَنْ تَکُونَ لدینا حرمة واحدة مجعولة مِن قِبَلِ المولی لطبیعی الکذب، لا حرمات عدیدة بعدد أفراد الکذب. ولکن لا یَتُِمّ امتثال هذه الْحُرْمَة الواحدة إلاَّ بترک جمیع الکذبات. وهذا غیر ما یُراد من النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهْی، وهو الوصول إلی الشُّمُولِیَّة فِی مرحلة الجعل (= انحلال الحکم إلی أحکام عدیدة بعدد الأفراد)، بحیث تکون هذه الکذبة محکومةً بالحرمة وتلک الکذبة محکومةً بالحرمة وهکذا باقی الکذبات. بحیث لو کذب کذبتین یکون قد ارتکب حرامین. هذا ما نریده وهذا لا یمکن الوصول إلیه من خلال القرینة الَّتی ذکرها الآخوند؛ إذ أنَّها تنسجم مع افتراض أن یکون الحکم واحداً ولیس متعدّداً، ولکن امتثالها لا یتحقّق إلاَّ بترک جمیع الکذبات. فلو لم یترک جمیع الکذبات لا یکون ممتثلاً لهذا الحکم. وَالَّذِی نریده أکثر من هذا، فَإِنَّنَا نرید أن نستفید الشُّمُولِیَّة بالمعنی الأوّل (= فِی مرحلة الجعل) من وقوع النَّکِرَة فِی سیاق النَّهْی، بحیث یکون مثل قوله: «لا تکذب» (أو «لا کذب فِی الإسلام») مُنْحَلاًّ إلی نواهٍ عدیدة بعدد الأفراد، بینما هذه القرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی ذکرها الآخوند لا تثبت هذا المعنی.

ص: 55

لکن هناک قرینة أخری ذکرناها عندما کُنَّا نبحث عن اِنْحِلاَلِیَّة النَّهْی، فقد قلنا هناک: إن لدینا قرینة عُرْفِیَّة وهی غیر هذه القرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی ذکرها الآخوند، بها تَتُِمّ الشُّمُولِیَّة الَّتی نریدها (وهی الشُّمُولِیَّة بمعنی انحلال الحکم إلی أحکام عدیدة)، وحاصلها أَنَّ هناک مطلبین:

المطلب الأوّل: أن النَّهْی عرفاً ینشأ غالباً من المفسدة، أی: أن فهم العرف من النَّهْی هو نشوء النَّهْی من وجود مفسدة أو خطر أو ورطة.

والمطلب الثَّانِی: هو أَنَّهُ غالباً المفسدة اِنْحِلاَلِیَّة. أی: فِی کُلّ فرد ومصداق من مصادیق الکلّی الطَّبِیعِیّ توجد مفسدة.

فعلی سبیل المثال یری العرف أن النَّهْی فِی «لا تکذب» ناشئ من وجود مفسدة فِی الکذب، هذا هو المطلب الأوّل. والمطلب الثَّانِی هو أن هذه المفسدة الموجودة فِی الکذب اِنْحِلاَلِیَّة، أی: توجد المفسدة فِی کُلّ مصداق من مصادیق الْمَنْهِیّ عَنْهُ (الکذب).

إذن، إِنَّمَا نصل إلی الشُّمُولِیَّة الَّتی نریدها من خلال هذه القرینة الْعُرْفِیَّة، دون القرینة الَّتی ذکرها الخُراسانیّ.

الملاحظة الثَّالثة عَلَیٰ کلام الآخوند هی أن هذه الشُّمُولِیَّة الَّتی أفادها المُحَقِّق الخُراسانیّ لا یمکن أن نعتبرها «عموماً» فِی المصطلح الأُصُولِیّ، وهی أجنبیة عن محلّ الکلام؛ فَإِنَّنَا نتکلّم عن ألفاظ العموم وصیغه، ومن الطَّبِیعِیّ أن هذه الشُّمُولِیَّة بموجب هذه القرینة الْعَقْلِیَّة أجنبیة عن محلّ الکلام؛ إِذْ أَنَّ معنی العموم کما تقدّم مراراً هو أن یکون الحکم شاملاً للأفراد بما هی أفراد، وبهذا میّزنا العموم عن الإِطْلاَق. الإِطْلاَق: ثبوت الحکم لِلطَّبِیعِیِّ ومن الطَّبِیعِیّ یسری إلی الأفراد. أمّا العموم فهو أقوی من الإِطْلاَق: أَنْ یَکُونَ الحکم شاملاً للأفراد بما هی أفراد. أی: أَنْ تَکُونَ هناک رؤیة للأفراد فِی مرحلة الکلام واللَّفظ والدِّلالة الوضعیَّة، لکن نظرة إجمالیة، ولیست نظرة تفصیلیة إلی کل فرد فردٍ. ولعلّ الآخوند أیضاً لا یرید أکثر من ذلک.

ص: 56

الملاحظة الرَّابعة: هی أن هذه الشُّمُولِیَّة متوقّفة عَلَیٰ جریان مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، بمعنی أن هذه القرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی ذکرها الخُراسانیّ، لا تغنی عن قرینة الحِکْمَة، کما أفاد هذا المطلب وإلیک نص کلامه:

«ربما عد من الألفاظ الدالة علی العموم النکرةُ فی سیاق النفی أو النهی، ودلالتها علیه لا ینبغی أن تُنکر عقلاً [أی: هذه القرینة العقلیة المتقدمة]؛ لضرورة أنّه لا یکاد یکون الطبیعة معدومةً إلاّ إذا لم یکن فرد منها بموجود وإلاّ لکانت موجودة. لکن لا یخفی أنّها [أی: النکرة الواقعة فی سیاق النفی أو النهی] تفیده [أی: الشمولَ] إذا أُخذت [النکرة] مرسلة [أی: مطلقة، اللابشرط القسمی] لا مبهمة [أی: ذات الطَّبِیعَة، واللابشرط المقسمی] وقابلة للتقیید، وإلاّ فسلبها [لأن النهی یسلب هذه الطَّبِیعَة] لا یقتضی إلاّ استیعاب السلب لما أُرید منها یقیناً، لا استیعاب ما یصلح انطباقها علیه من أفرادها، وهذا لا ینافی کون دلالتها علیه عقلیة، فإنّها بالإضافة إلی أفراد ما یراد منها، لا الأفراد التی یصلح لانطباقها علیها، کما لا ینافی دلالة مثل لفظ «کل» علی العموم وضعاً کون عمومه بحسب ما یراد من مدخوله، ولذا لا ینافیه تقیید المدخول بقیود کثیرة».

فحاصل ما یرید أن یقوله الآخوند هو أن فی النکرة الواقعة فی سیاق النهی، تکون تلک القرینة العقلیة المتقدمة قرینةً علی الشمولیة بالمعنی المتقدّم فیما إذا کانت مطلقة فحسب، مثل: «لا تکرم فاسقاً»، فإن أجرینا الإطلاق فی کلمة «فاسقاً» وقلنا إن المراد الجدی من «فاسقاً» هو مطلق الفاسق، سواء صاحب المعصیة الکبیرة أو صاحب الصغیرة، حینئذٍ إذا وقعت هذه الطَّبِیعَة المطلقة فی سیاق النهی «لا تکرم فاسقاً»، فیکون هذا الوقوع دالاًّ علی الشمولیة وعلی أنه کل من یصلح أن ینطبق علیه أنه فاسق مشمول للنهی.

ص: 57

أَمَّا إذا لم نجر الإِطْلاَق فِی «فَاسِقاً» فمعنی ذلک أن من المحتمل أَنَّهُ أراد ب_«فَاسِقاً» خصوص صاحب الکبیرة، وحینئِذٍ إذا لم نثبت أن المقصود به کل أصحاب المعاصی صغائر وکبائر، إذن إنَّ وقوع کلمة «فاسقاً» فِی سیاق النَّهْی سوف لا یدلنا عَلَیٰ الشُّمُول لکل أفراد الفاسق وإنَّما یَدُلّ عَلَیٰ الشُّمُول لخصوص مرتکبی الکبائر.

وبعبارة أخری: غایة ما تقتضیه القرینة الْعَقْلِیَّة المتقدّمة هی أن الطَّبِیعَة الواقعة فِی سیاق النَّهْی شاملة لکل أفرادها، أَمَّا ما هی هذه الطَّبِیعَة الواقعة فِی سیاق النهی؟ مرسلة (مطلقة) أو مبهمة؟! فهذا مطلب خارج عن وقوع الطَّبِیعِیّ (النَّکِرَة) فِی سیاق النَّهْی؛ فَإِنَّ وقوع النَّکِرَة فِی سیاق النَّهْی یَدُلّ (بموجب القرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی ذکرناها) عَلَیٰ أن هذه الطَّبِیعَة الواقعة فِی سیاق النَّهْی شاملة لکل أفرادها، أَمَّا هل هذه الطَّبِیعَة هی طبیعة الفاسق (المطلقة)، أو هی طبیعة الفاسق المرتکب للکبیرة (المقیّدة)؟! هذا مطلب لا یفیده وقوعُ النَّکِرَة فِی سیاق النَّهْی. فلا بُدَّ من إجراء مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ أوَّلاً فِی هذه الطَّبِیعَة وإثبات أن هذه الطَّبِیعَة الواقعة فِی سیاق النَّهْی هی الطَّبِیعَة المطلقة والمرسلة (بتعبیر الآخوند) ثم بعد ذلک نقول: وقوع هذه النَّکِرَة فِی سیاق النَّهْی یَدُلّ بموجب القرینة الْعَقْلِیَّة المتقدّمة عَلَیٰ أن الشُّمُول لکل أفرادها.

إذن، بموجب مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ تثبت الشُّمُولِیَّة ویتنقّح مَوْضُوع هذه الدِّلاَلَة الْعَقْلِیَّة.

هذه هی الملاحظة الرَّابعة. والأمر کما قال الخراسانی، أی: مِنْ دُونِ إجراء مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ فِی هذه النَّکِرَة لا یمکن أن نثبت الشُّمُولِیَّة.

طبعاً نحن أنکرنا فِی الملاحظة الثَّانیة أو الثَّالثة أصل دلالة هذه القرینة الْعَقْلِیَّة عَلَیٰ الشُّمُولِیَّة، لکن هذه الملاحظة صحیحة أیضاً، بأَنَّهُ حتّی لو فرضنا أن هذه الشُّمُولِیَّة ناشئة من هذه القرینة الْعَقْلِیَّة، لٰکِنَّهَٰا لا تثبت کل ما نریده، بل تثبت نصف ما نریده من أن ما وقع فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی شامل لکل أفراده. أَمَّا أَنَّهُ ما الَّذی وقع فِی سیاق النَّهْی؟ الطَّبِیعِیّ المطلق أو الطَّبِیعِیّ المقیِّد؟ فهذا خارج عن قوّة وقوع الطَّبِیعِیّ فِی سیاق النَّهْی وبحاجة إلی أن نستعین بِمُقَدَِّمَاتِ الْحِکْمَةِ لإِثْبَاتِ أن الواقع فِی سیاق النَّهْی هو الطَّبِیعَة المطلقة.

ص: 58

الملاحظة الخامسة والأخیرة هی أنَّ هناک نقاشاً فِی هذه القرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی ذکرها الآخوند وقد تقدّم ذکر هذا النقاش والجواب عنه فِی بحث دلالة الأمر عَلَیٰ المرَّة والتَّکرار وکذلک فِی بحث دلالة النَّهْی عندما کُنَّا نبحث عن أن النَّهْی نهی عن الطَّبِیعَة وشمولی.

والنقاش والإشکال هو أن هذا الکلام الَّذی ذکره الآخوند هنا هو فِی الواقع کلام یقال عادة فِی مقام الفرق بین الأمر وَالنَّهْی حیث یقولون عادةً: امتثال الأمر یَتَعَلَّقُ بالإتیان بفرد واحد، بینما امتثال النَّهْی لا یتحقّق إلاَّ بترک جمیع الأفراد. فلو قال المولی: «صلِّ» وأتی المُکَلَّف بصلاة واحدة یکون ممتثلاً ولیس بحاجة إلی الإتیان بکل الصَّلَوَات الْمُتَصَوَّرَة. لکن فِی النَّهْی حینما یقال: «لا تکذب»، فلا یتحقّق الامتثال إلاَّ بترک جمیع الکذبات. فیقال فِی مقام الفرق بین الأمر والنهی: إن وقوع الطَّبِیعَة فِی سیاق النَّهْی یختلف عن وقوعها فِی سیاق الأمر؛ إِذْ أَنَّ معنی الثَّانِی هو أن المولی أمر بإیجاد الطَّبِیعَة، وإیجاد الطَّبِیعَة إِنَّمَا یکون بإیجاد فرد واحد عَلَیٰ أقل تقدیر، أَمَّا إذا نَهَیٰ المولی عن الطَّبِیعَة فیجب عَلَیٰ المُکَلَّف أن یقوم بإعدام الطَّبِیعَة، والإعدام لا یکون إلاَّ بإعدام جمیع الأفراد.

صاحب الإشکال یأتی هنا ویقول: إن هذا الکلام (القائل بأن الطَّبِیعِیّ یوجد بوجود فرد واحد ولکن لا ینعدم بانعدام جمیع الأفراد) غلط من أساسه، وإنَّما یَتُِمّ ویصح هذا الکلام عَلَیٰ مقولة الرَّجُل الْهَمِدَانِیّ (کلیّ الْهَمِدَانِیّ)، حیث ادعی وأصرّ (حسب نقل الشَّیْخ الرئیس نفسه) أن نسبة الکلّی الطَّبِیعِیّ إلی الأفراد نسبة الأب الواحد إلی الأبناء. ومن الطَّبِیعِیّ أن الرَّجُل الْهَمِدَانِیّ لا یرید أن یقول بأن هذا الوجود الواحد مستقلّ عن الأفراد خارجاً؛ إذ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّه لا وجود مستقلّ لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ خارجاً فِی غیر أفراده، وإنَّما هو وجود واحد سِعیّ ومنتشر للأفراد.

ص: 59

لکن فِی مقابل هذا الکلام یأتی کلام شیخ الرئیس والمشهور والصحیح أیضاً من أنَّ نسبة الکلّی الطَّبِیعِیّ إلی الأفراد لَیْسَت نسبة الأب إلی الأبناء، بل نسبة الآباء العدیدین إلی الأبناء العدیدین:

لَیْسَ الطَّبِیعِیّ مع الأفراد کالأببل آباء مع الأولادفَکَمَا أَنَّ الآباء بِالنِّسْبَةِ إلی الأفراد لهم وجودات عدیدة خارجاً، کذلک کلی الطَّبِیعِیّ (مثل کلی الإنسان) له وجودات عدیدة فِی الخارج بعدد الأفراد ولیس کما یقول الْهَمِدَانِیّ.

صاحب الإشکال یقول: هذا الکلام الَّذی قلتموه وقاله الآخوند هنا وقاله غیره فِی أماکن أخری وهو أن الطَّبِیعِیّ یوجد بوجود فرد واحد، لٰکِنَّهُ لا ینعدم إلاَّ بانعدام جمیع الأفراد، هذا الکلام إِنَّمَا یصحّ عَلَیٰ بناء عَلَیٰ الکلّی الْهَمِدَانِیّ، وحیث أن الکلّی الْهَمِدَانِیّ باطل، والصحیح هو خلافه، إذن فهذا الکلام باطل أیضاً. وتوضیح هذا مع جوابه یأتی غداً إن شاء اللٰه تعالی.

النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهی أو النفی/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهی أو النفی/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا بصدد دراسة الملاحظة الأخیرة (وهی الَّتی ذکرها المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ وتابعه علیها السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله) عَلَیٰ القرینة الْعَقْلِیَّة الَّتی أفادها المُحَقِّق الخُراسانیّ وَقَالِ: إِنَّ عَلَیٰ أساسها نفهم الشُّمُولِیَّة من النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی، وهی عبارة عن: «أنَّ الکلّی الطَّبِیعِیّ یوجد بوجود فرد واحد ولٰکِنَّهُ لا ینعدم بانعدام فرد أو فردین، بل ینعدم بانعدام کل الأفراد»، وقد أسلفنا هذا النقاش بالمناسبة فِی بحث المرَّة والتَّکرار وکذلک فِی مواطن أخری، وتتحصل الملاحظة فِی أن القرینة إِنَّمَا تَتُِمّ بناءًا عَلَیٰ فکرة الرَّجُل الْهَمِدَانِیّ عن الکلّی الطَّبِیعِیّ، لا عَلَیٰ فکرة الْمَشْهُور (کالشَّیْخ الرئیس).

ص: 60

توضیح ذلک: یعتقد الرَّجُل الْهَمِدَانِیّ أن وجود الکلّی الطَّبِیعِیّ فِی الخارج وجودٌ واحد سعیّ منتشر فِی جمیع الأفراد، بینما النظرة الصحیحة والمشهورة هی أن الکلّی الطَّبِیعِیّ نسبته إلی أفراده نسبة الآباء العدیدین إلی الأبناء (أی: هناک وجودات عدیدة لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ فِی الخارج بعدد أفراده. فإذا کان أفراد البشر مائة مثلاً، یکون لهذا الکلّی مائة وجود فِی الخارج، ولیس له وجود واحد سعی منتشر فِی هؤلاء الأفراد المائة، کما إذا کان عندنا مائة أب فِی الخارج).

هذا، وتفید ملاحظة الشَّیْخ الأصفهانی والسّیّد الأستاذ الخوئی رحمه الله أنّ هذه القرینة تتلاءم مع تصوّر الرَّجُل الْهَمِدَانِیّ عن الکلّی الطَّبِیعِیّ ولکننا معکم ومع الْمَشْهُور ننکر الکلّی الْهَمِدَانِیَّ ونَقُول: إِنَّ نسبة الکلّی الطَّبِیعِیّ إلی أفراده نسبة الآباء العدیدین إلی الأبناء العدیدین، وعلیه لا یصحّ القول بأن الطَّبِیعَة توجد بوجود فرد واحد ولکن لا تنعدم بانعدام جمیع الأفراد، بل یجب القول بأنها توجد بوجود فرد واحد وتنعدم بانعدام فرد واحد. أی: وجود کلی «الإنسان» فِی وجود «زید» غیر وجوده فِی فرد آخر منه وهو «عمرو»؛ فَإِنَّ کل واحد من أفراد الکلّی له وجود لِلْکُلِّیِّ غیر وجود الفرد الآخر، فلا یعقل بقاء الکلّی الطَّبِیعِیّ الموجود ضمن «زید» بانعدام «زید» لکون الکلّی موجوداً ضمن «عمرو». إذن، إذا کان وجوده ضمن «زید» غیر وجوده ضمن «عمرو» - کما هو الصَّحِیح - فیتحقق وجودُه فِی ضمن «زید» بتحقّق «زید» وینعدم وجودُه فِی ضمن «زید» بانعدام «زید» حتّی لو کان «عمرو» والآخرون موجودین. وَلاَ یُعْقَلُ غیر هذا الکلام إلاَّ إذا قیل بمقولة الْهَمِدَانِیّ عن الکلّی الطَّبِیعِیّ وهی مقولة باطلة. أی: کَمَا أَنَّ هُنَاکَ وجودات عدیدة لِلْکُلِّیِّ بعدد الأفراد، کذلک هناک أعدام عدیدة لِلطَّبِیعَةِ بعدد الأفراد.

ص: 61

وحینئِذٍ بناءًا عَلَیٰ هذا یقول الإشکال: لا یبقی فرق بین باب الأمر وباب النَّهْی فِی عالم الامتثال؛ فإِنَّهُ بناء عَلَیٰ هذا الإشکال سوف ینهار الفارق الَّذی کان یُذکر بینهما فِی مقام الامتثال (بأَنَّ فِی امتثال الأمر یکفی الإتیانُ بفرد واحد من الْمُتَعَلَّق، ولکن فِی امتثال النَّهْی لا یکفی الانزجار والابتعاد عن فرد واحد. فإِنَّ فِی امتثال قوله: «صلِّ» یکفی الإتیان بصلاة ظهر واحدة ولا تجب جمیع صلوات الظهر المتصوَّرة. أَمَّا فِی قوله: «لا تکذب» لا یکون المُکَلَّف ممتثلاً إلاَّ إذا ترک کل أفراد الکذب)، ولا یبقی فرق بین الأمر وَالنَّهْی فِی مقام الامتثال؛ وذلک لأَنَّ الأمر تعلّق بالکلی الطَّبِیعِیّ وکذلک النَّهْی قد تعلّق بالکلی الطَّبِیعِیّ، وَالطَّبِیعَة توجد بوجودات عدیدة فِی الخارج بعدد الأفراد، وحیث أن الأمر «طلبٌ» من المولی لإیجاد هذه الطَّبِیعَة فِی الخارج، وَالنَّهْی «زجرٌ» و«تبعیدٌ» من المولی للمکلَّف عن الطَّبِیعَة، فَیَکُونُ کل من الأمر وَالنَّهْی متعلّقاً بالکلی الطَّبِیعِیّ، ومعنی ذلک أن ل_«کلیَّ الصَّلاة» وجودات عدیدة فِی الخارج بعدد أفراد الصَّلاة، وکذلک «کلی الکذب» له وجودات عدیدة بعدد أفراد الکذب، إذن، فالأمر طلب لإیجاد کلی الصلاة فِی الخارج. فیا تُرَیٰ هل تعلّق هذا الطّلب بوجود واحد من هذه الوجودات العدیدة أو تعلّق بکل هذه الوجودات؟

فإن قلتم إِنَّه تعلّق بوجود واحد من هذه الوجودات العدیدة، إذن یَتُِمّ الامتثال فِی باب الأمر بالإتیان بصلاة واحدة کما یجب أن یتحقّق الامتثال فِی باب النَّهْی بترک کذبة واحدة؛ لأَنَّنَا افترضنا أن الْمُتَعَلَّق فِی کُلّ من الأمر وَالنَّهْی عبارة عن وجود واحد من وجودات الطَّبِیعَة؛ فکما یتحقّق امتثال الأمر بالإتیان بصلاة واحدة یتحقّق امتثال النَّهْی بترک کذبة واحدة.

وإن قلتم إن الوجودات العدیدة هی مُتَعَلَّق الأمر وَالنَّهْی ولیس الوجود الواحد، فأیضاً لا یبقی فارق بین الأمر وَالنَّهْی؛ إذ کما أن النَّهْی لا یمتثل إلاَّ بترک کل الکذبات فکذلک الأمر لا یمتثل إلاَّ بالإتیان بکل الصَّلَوَات ویجب الإتیان بکل الصَّلَوَات الْمُتَصَوَّرَة (کالصَّلاة فِی الدَّقِیقَة الأولی من بعد الزوال والثانیة وفی الثوب الفلانی والمکان الفلانی وهکذا).

ص: 62

وَالْحَاصِلُ أَنَّ التفریق بین الأمر وَالنَّهْی فِی مقام الامتثال بالقول بأن الأمر یمتثل بفرد واحد وَالنَّهْی لا یمتثل إلاَّ بترک جمیع الأفراد، کان قائماً عَلَیٰ أساس فکرة الرَّجُل الْهَمِدَانِیّ القائلة بأن الطَّبِیعِیّ یوجد بوجود فرد واحد ولٰکِنَّهُ لا ینعدم بانعدام جمیع الأفراد، وحیث انهار أساس تلک الفکرة فقد انهار هذا التفریق المبتنی عَلَیها( (1) ).

الإجابة: ولکن قد ذکرنا الإجابة عن هذا الإشکال سابقاً (عند طرحنا هذا الإشکال فِی بحث المرَّة والتَّکرار) حیث قلنا: إن هذا الإشکال مبنیّ عَلَیٰ الخلط بین مسألتین فَلْسَفِیَّة وأصولیة؛ إِذْ أَنَّ هناک مسألة فَلْسَفِیَّة - وهی الَّتی دار حولها الخلاف بین الرَّجُل الْهَمِدَانِیّ والشیخ الرئیس ابن سینا - تدرس کیفیَّة وجود الکلّی الطَّبِیعِیّ خارجاً، بأَنَّهُ هل یوجد بوجود خارجی واحد أو له وجودات خارجیّة متعدّدة؟ وحیث أن هذا من شؤون الوجود، تتکَفَّل الفلسفة الاهتمام به. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. وفی جانب آخر توجد مسألة أصولیة وهی معرفة مُتَعَلَّق الأمر وَالنَّهْی، فهل الْمُتَعَلَّق وجود الصَّلاة الخارجیّ أو مفهومها وعنوانها؟ فیأتی الأُصُولِیّ لیقول: إن الأحکام الشَّرعیَّة لا تَتَعَلَّقُ بالوجود الخارجیّ رأساً، بل تَتَعَلَّقُ بالعناوین، بل إن الأمر لا یقتصر عَلَیٰ الأحکام الشَّرعیَّة؛ فَإِنَّ هذا شأن کل حکم صادر من أی حاکم کان، کحکم الحاکم بکون النار حارة؛ لأَنَّ الحکم إذعان وفعل للنَّفس، وأفعال النَّفس کالنفس مجرّدة عن الْمَادَّة، بینما الوجود الخارجیّ بالنار مادیّ، فکیف یَتَعَلَّقُ المجرّدُ عن الْمَادَّة بالمادیّ مباشرة؟! إذن، لطالما أن هذا الحکم مجرّد عن الْمَادَّة فیجب أن یَتَعَلَّقُ بشیء من سنخه مجرّد عن الْمَادَّة، وهو عنوان «النار» ومفهومها، ولکن نظرنا إلی «مفهوم النار» لَیْسَ نظراً مفهومیّاً وإلا لما أمکننا أن نحکم علیه بالحرارة، لأَنَّ الْمَفْهُوم لَیْسَ حاراً ولا بارداً وأساساً لَیْسَ مادیّاً. فالحکم الصَّادر عَلَیٰ الْمَفْهُوم قد انصب علیه بما هو عین النار الخارجیة وبالنظر الهوهویة والحمل الأولی (عَلَیٰ ما کان یعبر عنه السید الشهید الصدر رحمه الله)، أی: بنظرة تَرَیٰ أن «مفهوم النار» هو النار الخارجیة، لا بما هو مفهوم.

ص: 63


1- (1) - راجع نهایة الدرایة: ج2، ص185، وکلمات السید الخوئی رحمه الله.

إذن، بعد أن تبینت المسألة الأصولیة واتضح الفارق بینها وبین المسألة الْفَلْسَفِیَّة، یجدر بنا أن لا نخلط بینهما؛ فَإِنَّ الخلاف فِی تلک المسألة الْفَلْسَفِیَّة یدور حول الوجود الخارجیّ لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ، بینما لا یهمنا الوجود الخارجیّ لِلْکُلِّیِّ فِی المسألة الأصولیة؛ لأَنَّ الأمر وَالنَّهْی لا یَتَعَلَّقَانِ بالوجود الخارجیّ بل یستحیل تعلقهما به؛ فَإِنَّ الممکن والواقع هو تعلّق الأمر وَالنَّهْی بالعناوین کعنوان الصَّلاة. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. وحینئِذٍ نَقُول: إِنَّ عنوان «الصَّلاة» بلحاظ مصادیق الصَّلاة، نسبته نِسْبَة الآباء العدیدین إلی أبنائهم؛ فَإِنَّ مفهوم الصَّلاة مفهوم واحد فِی عالم الْمَفَاهِیم، ولا یتعدّد مهما تعدّدت المصادیق، ونسبة الْمَفْهُوم إلی المصادیق نِسْبَة الأَبِ الْوَاحِدِ إِلَی أَبْنَائِهِ ولا خلاف فِی هذا، ولا یمکن إدخاله فِی الخلاف الْفَلْسَفِیّ بین الشَّیْخ الرئیس رحمه الله والرجل الْهَمِدَانِیّ؛ لأَنَّ ذاک خلاف فِی الوجود الخارجیّ لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ وهو خارج عن محلّ البحث الأُصُولِیّ.

وحینئِذٍ یَتُِمّ ذاک الفرق الَّذی ذکروه بین الأمر وَالنَّهْی ولا ینهار وهو أن امتثال الأمر یتحقّق بامتثال فرد واحد بینما لا یتحقّق امتثال النَّهْی إلاَّ بامتثال جمیع الأفراد؛ لأَنَّ الأمر تعلّق بالمفهوم وقد طلب المولی منی أن أوجِد هذا المفهومَ، وإیجاد الْمَفْهُوم خارجاً یتحقّق بإیجاد مصداق واحد من مصادیقه، بینما طلب المولی منی فِی النَّهْی أن أعدِمَ هذا الْمَفْهُوم، ولا ینعدم الْمَفْهُوم إلاَّ إذا انعدم کل الأفراد.

فالفرق الْمَشْهُور الَّذی قالوه بین الأمر وَالنَّهْی، فرق یبقی محفوظاً وصحیحاً ولا علاقة للمسألة بمسألة الکلّی الْهَمِدَانِیّ. فهذا الإشکال الَّذی أورده الإِصْفِهَانِیّ وکذلک السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله غیر وارد.

حصیلة البحث: وهذا تمام الکلام بِالنِّسْبَةِ إلی النَّکِرَة فِی سیاق النَّهْی وَالنَّفْی. وقد اتَّضَحَ أن النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی لا تَدُلّ عَلَیٰ العموم، بل تَدُلّ عَلَیٰ الإِطْلاَق الشُّمُولِیّ، ولا تعتبر عندنا من صیغ العموم ومن ألفاظ العموم، عَلَیٰ أَنَّنَا قد ذکرنا الشُّمُولِیَّة أیضاً وفسرنا نکتتها. وبهذا تَمَّ الکلام فِی الکلمة الثَّالثة من کلمات العموم وهی «النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی» بعد أن درسنا الکلمتین الأخریین «کُلّ» و«الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ»، وبذلک یبقی الحدیث عن الکلمة الرَّابعة والأخیرة وهی عبارة عن أسماء الأعداد ک«عشرة» و«العشرین» و«المائة» و«الألف»، والَّتی هی أسماءٌ لأعدادٍ ریاضیة، فقد یُتصوّر أنَّها من ألفاظ العموم وأدواته؛ وذلک لأَنَّهَا تستوعب ما تندرج تحتها من آحاد؛ فَإِنَّ کلمة «العشرة» تستوعب الأجزاء والآحاد الموجودة تحت العشرة.

ص: 64

وقد حاول المُحَقِّق الخُراسانیّ أن یدفع هذا التوهّم ویبطله، وذلک بعد إعطائه تعریفاً عن العموم فِی بدایة البحث بأَنَّهُ عبارة عن أن یکون مفهوم مّا شاملاً ومستوعباً لجمیع الأفراد الَّتی یصلح هذا الْمَفْهُوم للانطباق علیها (شمول الْمَفْهُوم لجمیع ما یصلح المفهومُ للانطباق علیه) یقول: «وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغیرها کالعقود الأخر لآحادها المندرجة تحتها لَیْسَ من العموم؛ لعدم صلاحیتها بمفهومها للانطباق عَلَیٰ کل واحد منها

[أی: مفهوم «العشرة» بما هو مفهوم لا یصلح للانطباق عَلَیٰ کل واحد واحدٍ من هذه الآحاد] فلا یَتُِمّ تعریف العموم الَّذی ذکرناه

». ویأتی توضیح کلام الخُراسانیّ ودراسته غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهی أو النفی/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّهی أو النفی/ألفاظ العموم /العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

توضیح کلام المُحَقِّق الخُراسانیّ الَّذی نقلناه بالأَمْسِ حول أسماء الأعداد هو أن المقیاس فِی کون شیء مصداقاً وفردا للعامّ عبارة عن أن صدق العامّ بما له من مفهوم عَلَیٰ ذاک الشَّیْء. فعلی سبیل المثال إن المقیاس فِی کون زیدٍ فرداً من أفراد الإنسان هو أن کلمة الإنسان (وهی العامّ) بما لها من مفهوم تصدق عَلَیٰ زید، بأَنَّهُ متی ما کان هکذا فحینئذٍ ذاک الفرد یُعتبر فرداً ومصداقاً لذاک العامّ؛ لأَنَّ العامّ بما له من مفهوم یصدق علیه. أَمَّا إذا لم یکن هکذا فلا یکون ذاک الشَّیْء فرداً للعامّ. وکذلک الأمر فِی المقام (أی: فِی أسماء الأعداد)؛ فَإِنَّ مفهوم العشرة بما هو مفهوم لا یصدق عَلَیٰ کل واحد واحدٍ من الآحاد المندرجة تحتها ولا یستوعب أجزاء نفسه؛ إِذْ أَنَّ تلک الآحاد لیست أفراداً لها بل هی أجزاؤها المندرجة تحتها.

ص: 65

فحاصل جواب المُحَقِّق الخُراسانیّ عن توهّم کون اسم العدد من ألفاظ العموم هو أن العموم عبارة عن استیعاب الأفراد، بینما الوحدات المندرجة تحت اسم العدد (کالعشرة) لیست أفراداً للعشرة، وإنَّما هی أجزاؤها.

فالاستیعاب فِی أسماء الأعداد عبارة عن استیعاب مفهوم لأجزاء نفسه، بینما العموم عبارة عن استیعاب مفهوم لأفراده ومصادیقه.

ومن الطَّبِیعِیّ أَنَّنَا نرفض هذا الجواب الآخوندی لما سبق منَّا فِی العامّ الماضی عند دراستنا لکلمة «کُلٍّ» أنَّ الاستیعاب تارةً یکون «استیعاباً أَفْرَادِیّاً» وذلک عند دخول «کُلّ» عَلَیٰ النَّکِرَة مثل «أکرم کل إنسان»، بینما «کُلّ» نفسها عندما تدخل عَلَیٰ المعرفة تفید الاستیعاب الأَجْزَائِیّ مثل «اقرأ کل الکتاب».

فکأنَّ الخُراسانیّ یرید أن یقول: إن اسم العدد تارةً یُلحظ بما هو مضاف إلی طبیعة من الطَّبَائِع (إلی کلی طَبِیعِیّ) مثل «مائة عالم» حیث أن «المائة» اسم عددٍ أضیف إلی «العالم»، وأخری نتکلّم عن اسم العدد بالقیاس إلی أجزاء نفسه مثل «المائة» حَیْث أَنَّ هناک أجزاءً تحت المائة صیّرتها مائة.

أَمَّا فِی القسم الأوّل (أکرم مائة عالم) فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ «المائة» لا تفید استیعاب مدخولها؛ لأَنَّ المدخول هو «عالم» وَقَدْ یَکُونُ ل_«عالم» مائة مصداق فِی مدینة قم، والمائة لا تستوعب الألف، وإنَّما تَدُلّ عَلَیٰ حصّة من المدخول (وهو الألف). إذن، إن الواضح أنّ «مائة عالم» لا تَدُلّ عَلَیٰ استیعاب تمام أفراد مدخوله؛ لأَنَّ أفراد العالم أکثر من المائة، وإنَّما یَدُلّ عَلَیٰ استیعاب مقدارٍ من أفراد مدخوله.

وأمّا فِی القسم الثَّانِی فِی مثل «أکرم المائة» مِنْ دُونِ إضافتها إلی طبیعة من الطَّبَائِع لا یکون عدم دلالتها عَلَیٰ الاستیعاب وَاضِحاً شیئاً ما؛ لأَنَّهُ قد یقال بأن المائة تَدُلّ عَلَیٰ استیعاب جمیع آحادها، ولیست ک_«مائة عالم» حیث لا تستوعب «المائة» جمیعَ أفراد العالم. ومن هنا یأتی هذا التوهّم القائل بأن اسم العدد من ألفاظ العموم؛ لأَنَّ أصل الشُّمُول والاستیعاب موجود نَوْعاً مّا هنا، لکن یأتی حینئذٍ جواب الخُراسانیّ بأَنَّ هناک فرقاً بین أداة العموم وبین اسم العدد، حیث تقتضی أداة العموم استیعابَ الْمَفْهُوم لأفراده، بینما اسم العدد لا یقتضی غیر استیعاب الْمَفْهُوم لأجزائه، وهذا لَیْسَ هو العموم المصطلح. ولکننا لم نرتض هذا الجواب لأَنَّ الاستیعاب أفرادی وأجزائی، ولا نعتبر استیعاب مفهومٍ لأجزائه خارجاً عن العموم.

ص: 66

الجواب الصَّحِیح هو أَنَّنَا:

تارةً

نبنی عَلَیٰ التَّعْرِیف المختار عن العموم فِی بدایة البحث عن العموم حیث قلنا بأَنَّهُ عبارة عن استیعاب مفهومٍ وَضْعاً لمفهومٍ آخر، فلا بُدَّ من مفهومین فِی باب العموم أحدهما مستوعِب والآخر مستوعَب، کما لا بُدَّ من دالّ عَلَیٰ أن هذا الْمَفْهُوم الأوّل یستوعب ذاک الْمَفْهُوم الثَّانِی ولا بُدَّ أن یکون هذا الاستیعاب بالوضع، لا بقرینة الحِکْمَة أو بشیء آخر. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. غایة الأمر، إن استیعاب مفهومٍ لمفهوم آخر تارةً یکون ذاتاً، أی: ذاتاً یستوعب مفهوم مفهوماً آخر بالوضع، کما فِی «کُلٍّ» وکلمة «جمیع»؛ فإن مفهوم «کُلٍّ» یستوعب مفهوم مدخوله (کعالمٍ أو أی شیء آخر کان هو مدخوله) ومفهومُ مدخوله هو المستوعَب، وهذا الاستیعاب وَضْعِیّ و«کُلّ» ذاتاً یستوعب مدخوله ولا یحتاج إلی واسطة وأداة للاستیعاب.

وأخری

: یستوعب مفهومٌ مفهوماً آخر بدالٍ کما فِی «العلماء» (وهو الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ حسب ما صوّرناه فِی العامّ الماضی ثبوتاً وإن لم نقبل أن الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ وُضع إثباتاً للعموم، لکن ثبوتاً تعقلنا وتصورنا أن بالإمکان أن یوضع مِن قِبَلِ الواضع الجمعُ الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ بالنحو الَّذی یَدُلّ عَلَیٰ العموم بمعناه المصطلح الأُصُولِیّ وذلک بأن نفترض أن مفهوم هیئة الجمع هو المستوعِب ومفهوم مادّة الجمع هو المستوعَب، والدّال عَلَیٰ أن الأوّل یستوعب الثَّانِی هو «اللاَّم» (أی: وضعت «اللاَّم» لُغَةً للدِّلالة عَلَیٰ أن مفهومَ هیئة الجمع مستوعب لمادّة الجمع؛ فإن معنی هیئة العلماء عبارة عن الجماعة الَّتی لا تقل عن ثلاثة، ومعنی مادّة الجمع عبارة عن «العالم»؛ فاللام تَدُلّ عَلَیٰ أن تلک الجماعة الَّتی لا تقل عن ثلاثة مستوعِبة لأفراد «عالم»)، وهذا یصبح من القسم الثَّانِی، فإن هناک مفهوماً استوعب مفهوماً آخر، لٰکِنَّهُ استوعبه لا ذاتاً، بل بدال آخر هو «اللاَّم»، بخلاف «کُلٍّ» حیث أنَّها لا تحتاج إلی دالّ وإنَّما هی تَدُلّ ذاتاً عَلَیٰ استیعاب مدخوله.

ص: 67

بناء عَلَیٰ هذا التَّعْرِیف الَّذی هو الصَّحِیح فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ اسم العدد لَیْسَ من ألفاظ العموم؛ لأَنَّ اسم العدد لا یستوعب مفهوماً آخر أساساً، سواء لاحظناه بما هو مضاف إلی طبیعة من الطَّبَائِع (أکرم مائة عالم، حَیْث أَنَّ کلمة «مائة» لا تستوعب جمیع أفراد العالم، فلا یوجد فِی الْبَین استیعاب لمفهوم آخر، المائة لم تستوعب مفهومَ «عالم») أم لاحظنا اسمَ العدد مضافاً إلی وحدات نفسه ولم نقل: «مائة عالم» بل قلنا «مائة»؛ فهنا أیضاً لا یستوعِب اسم العدد مفهوماً آخر، بل تَدُلّ «المائة» عَلَیٰ استیعاب أجزاء نفسه. إذن، بناء عَلَیٰ التَّعْرِیف المختار للعموم لا یمکن اعتبار اسم العدد من ألفاظ العموم.

أَمَّا بناء عَلَیٰ تعریف الخُراسانیّ عن العموم فأیضاً یمکننا أن نجیب عن التوهّم فِی المقام ونقول بأن أسماء الأعداد لیست من ألفاظ العموم، وذلک لأَنَّهَا لا تَدُلّ عَلَیٰ الاستیعاب أصلاً، وإنَّما هی موضوعة لمعانٍ ومفاهیم مرکبة (وهی الأعداد) من أجزاء، سواء قلنا بأنها مرکبة ترکیباً حقیقیّاً کما یقوله الفلاسفة حیث أنهم یعتبرون الأعداد من المرکبات الحقیقیَّة( (1) ) وسواء نعتبره مفهوماً انتزاعیاً، لا مجال لأَنَّ یتصوّر شخص بأنها من العموم؛ لأَنَّ الْمَفْهُوم المرکب وإن کان مستوعِباً لأجزائه لکن هذا الاستیعاب من خواصّه وآثاره التَّکْوِینِیَّة الواقعیة، لا أنَّ هذا الاستیعاب داخل فِی نفس مفهوم اللَّفظ. وعلی سبیل المثال إن لفظ «العشرة» لا یَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ اللَّفظیَّة عَلَیٰ استیعاب الآحاد المندرجة تحتها، بل إِنَّها تَدُلّ عَلَیٰ مفهوم مرکب من عشرة أجزاء، من خواص هذا المرکب أن یکون واجداً لأجزائه، من قبیل لفظ «الکتاب» الْمَوْضُوع لهذا الموجود الخارجیّ المرکب من صفحات وأوراق وفصول، ومن الطَّبِیعِیّ أن یستوعب هذا الْمَوْضُوع الخارجیّ المرکب تلک الصفحات والأوراق والفصول. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. ومن هنا لم یتخیّل أحد أن من لفظ «الکتاب» من ألفاظ العموم، وکذلک لفظ «الدار» الَّذی یستوعب أجزاءه کالغرف والمطبخ والسطح والسرداب، لکن لفظ «الدار» لا یَدُلّ عَلَیٰ الاستیعاب بِالدِّلاَلَةِ اللَّفظیَّة، فلا یمکن أن نعتبره من ألفاظ العموم؛ لأَنَّ الدِّلاَلَة عَلَیٰ الاستیعاب لیست دلالة أساساً، وإنَّما الاستیعاب خاصیة تَکْوِینِیَّة للدار، والدار لا تکون داراً إلاَّ إذا کانت واجدةً لمرافقها، وکذلک الکتاب لا یکون کتاباً إلاَّ إذا کان واجداً لأجزائه. وهذا بخلاف ألفاظ العموم وأدوات العموم؛ فإن لفظ «کُلٍّ» مثلاً الَّذی نعتبره من ألفاظ العموم وضع فِی اللُّغَة لکی یَدُلّ عَلَیٰ الاستیعاب، بحیث إذا جرّدنا مفهوم کل من الاستیعاب لا یبقی لِلَّفْظِ «کُلٍّ» مفهوماً.

ص: 68


1- (1) - أی: أن الفلاسفة رحمهم اللٰه یعتبرون الأعداد من مقولة الکمّ المنفصل الَّتی هی إحدی مقولات العشر الحقیقیَّة، فإن «الکَمّ» عَلَیٰ قِسْمَیْنِ: منفصل کالأعداد، ومتصل کالخط الواحد الممتد مسافة مائة متر مثلاً، ومقولة «الکَمّ» مقولة عَرضِیَّة ولیست بجوهر.

أَمَّا هنا فِی کلمة «عشرة» و«مائة» و«ألف» فحالها حال سائر الألفاظ الموضوعة للمرکبات، فلا یمکن أن یقال إِنَّها من أدوات العموم.

عَلَیٰ أی حال، فبناءًا عَلَیٰ مسلک الخُراسانیّ فِی تعریف العموم أیضاً یکون دفع هذا التوهّم وَاضِحاً؛ لأَنَّ الاستیعابَ الَّذی یکون عموماً - بالمعنی المصطلح - هو الثَّابِت فِی مرحلة الدِّلاَلَة اللَّفظیَّة للکلام، بینما أسماء الأعداد لا تَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ اللَّفظیَّة عَلَیٰ الاستیعاب، نعم إِنَّها تَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الْعَقْلِیَّة والواقعیة عَلَیٰ استیعاب أجزائها تَکْوِیناً وواقعاً.

وبعبارة أوضح وأصرح: الاستیعاب حکم واقعی وخاصیة تَکْوِینِیَّة للعدد، ولیس مدلولاً لِلَفْظِ «العشرة» (بأن تستوعب الکلمةُ أجزاءها أو آحادها)، ولذا لا یصدق علیها مفهوم العموم.

هذا تمام الکلام فِی أسماء الأعداد وقد اتَّضَحَ أنَّها لا تَدُلّ عَلَیٰ العموم وبهذا تَمَّ الکلام فِی الجهة الثَّالثة من جهات البحث عن العامّ؛ فَإِنَّنَا ذکرنا فِی بدایة البحث عن العامّ فِی العامّ الماضی أَنَّنَا ندرس العامّ فِی ثلاث جهات:

الجهة الأولی: فِی تعریف العموم.

الجهة الثَّانیة: فِی أقسام العموم.

الجهة الثَّالثة: فِی ألفاظ العموم.

وتناولنا فِی الجهة الثَّالثة کلمةَ «کلّ» ثم «الجمع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ» ثم «النَّکِرَة الواقعة فِی سیاق النَّفْی أو النَّهْی» وأخیراً درسنا «أسماء الأعداد». وبهذا تَمَّ الحدیث عن العامّ، وهو البحث الرَّابع والعشرون من بحوث دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ اللَّفظیّ، وبعد ذلک إن شاء اللٰه ننتقل إلی البحث الخامس والعشرون من تلک البحوث وهو الأخیر فِی سلسلة البحوث عن دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ اللَّفظیّ عَلَیٰ أن ننتقل بعد «الإِطْلاَق» من تلک الدلالات وهو بحث «المطلق»، عَلَیٰ أن ننتقل بعد الانتهاء من سلسلة البحوث عن دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ اللَّفظیّ إلی البحث عن دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللَّفظیّ کفعل المعصوم علیه السّلام وتقریره.

ص: 69

وطبیعی أن نری فِی «الکفایة» والکتبِ الأصولیةِ الأخری السائرةِ عَلَیٰ منهاج الکفایة وکذلک فِی تقریرات بحث السید الأستاذ الشهید رحمه الله بحوثاً أخری ترتبط بالخاص، ولکن حیث أَنَّنَا نمشی عَلَیٰ منهجیة «حلقات فِی علم الأصول

»، وأننا قد أفرزنا بحث العامّ عن بحث الخاصّ فیما تقدّم لما قلنا من أنَّ قسماً من بحث الخاصّ یرتبط ببحث حجیة الظُّهُور، کالبحث عن حجیة العامّ بعد التخصیص فِی الباقی، وقسماً کبیراً آخر من تلک البحوث یرتبط ببحث التعارض کالبحث عن المخصص المتصل والمنفصل (لأَنَّه البحث یقع فِی أَنَّهُ ماذا نصنع إذا تعارض العامّ والخاص)، فمن هذا المنطلق أجلّنا تلکَ البحوث کُلاًّ إلی موقعه الخاصّ کالبحث عن حجیة الظُّهُور والتعارض وغیرهما.

إذن، فلا یقع لبس للقارئ الکریم فِی کیفیَّة تبویب البحوث والمسائل. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

البحث الخامس والعشرون من بحوث دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ اللَّفظیّ هو بحث دلالة المطلق وهو البحث الأخیر من هذه السِّلْسِلَة من بحوث الدلالات، بعد ذلک إن شاء اللٰه ننتقل إلی دلالات دلیل الشَّرْعِیّ غیر اللَّفظیّ. وتوجد فِی هذا البحث جهتان لا بُدَّ من دراستهما:

الجهة الأولی: فِی معنی المطلق، أی: معنی اسم الجنس.

الجهة الثَّانیة: فِی معنی الإِطْلاَق، أی: معنی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ.

أَمَّا الجهة الأولی فلا إِشْکَال فِی أن أسم الجنس مثل «الماء» و«الإنسان» وغیرهما، مَوْضُوع لمعنی کلیّ هو ماهیَّة «الإنسان»، لکن هذه الْمَاهِیَّة تارةً تُلحظ بصورة مطلقة مِنْ دُونِ أخذ قید زائد وحالة خاصّة، وأخری تلحظ بصورة مقیدة کما إذا لوحظت ماهیَّة {البیع} ببیع البالغ، أو لوحظت ماهیَّة «الإنسان» بصورة مقیدة هی «الإنسان العالم». فبما أن هذه الْمَاهِیَّة الکلّیّة الَّتی وضع لها اسم الجنس تُلحظ تارةً بهذا الشِّکْل وأخری بذاک الشِّکْل، وقع الکلام بین المحققین فِی أن هذا اللَّفظ هل هو مَوْضُوع للماهیة المطلقة بالخصوص، بحیث یکون الإِطْلاَق عنصراً دخیلاً فِی المعنی الَّذی وضع له لفظ {البیع} أو لفظ «الإنسان. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. وعلیه فإن لفظ «البیع مَوْضُوع للبیع المطلق» ومعناه الحقیقی هو البیع الملحوظ مطلقاً، ویترتَّب علیه أَنَّهُ:

ص: 70

أوَّلاً: لفظ {البیع} بنفسه سوف یکون دالاًّ عَلَیٰ الإِطْلاَق بِالدِّلاَلَةِ الوضعیَّة، ولا نحتاج إلی أی قرینة فِی استفادة الإِطْلاَق؛ لأَنَّ الإِطْلاَق أخذ قیداً فِی المعنی الْمَوْضُوع له.

وثانیاً: أن استعمال اللَّفظ فِی المقیِّد سوف یکون استعمالاً مَجَازِیّاً؛ لأَنَّ لفظ {البیع} مَوْضُوع للبیع المطلق، فإذا استعمل فِی بیع مقیَّد وخاص کبیع البالغ أو بیع العقدی فَسَوْفَ یکون هذا الاستعمال مَجَازِیّاً؛ لأَنَّهُ لم یستعمل فِی معناه الْمَوْضُوع له.

أم أن اسم الجنس لَیْسَ مَوْضُوعاً للماهیة المطلقة بل هی موضوعة للماهیة ذاتها مِنْ دُونِ أخذ أی شیء آخر معه، لا أخذ الإِطْلاَق ولا أخذ التَّقْیِید. إذن یترتَّب علیه أَمْرَانِ:

أوَّلاً: سوف لا یکون اللَّفظ (= اسم الجنس) دالاًّ بدلالته الوضعیَّة عَلَیٰ الإِطْلاَق؛ لأَنَّ الإِطْلاَق خارج عن المعنی الْمَوْضُوع له - کما قلنا - وإنَّما یَدُلّ اللَّفظ بدلالته الوضعیَّة عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة. أَمَّا إذا أردنا أن نستفید الإِطْلاَق فلا بُدَّ من قرینة عامة تَدُلّ علیه وهی قرینة الحِکْمَة الَّتی سوف یأتی الحدیث عنه إن شاء اللٰه تعالی.

وثانیاً: سوف یکون استعمال هذا اللَّفظ فِی المقیِّد استعمالاً حقیقیّاً ولا یکون مَجَازِیّاً؛ لأَنَّ اللَّفظ وضع لذات الْمَاهِیَّة وذات الْمَاهِیَّة محفوظة وموجودة.

هذا هو الخلاف الواقع بینهم، وحینئِذٍ لا بُدَّ من تحقیق المطلب، وقبل التَّحْقِیق لکی یَتَّضِح المقصود أکثر فأکثر من الْمَاهِیَّة المطلقة والمقصود من ذات الْمَاهِیَّة عادة یذکر الأُصُولِیِّیُونَ مقدّمةً یشرحون فیها أنحاء تصوّر الْمَاهِیَّة ولحاظها لکی یوضح فِی ضوئه أن اسم الجنس وُضع لأی نحو من هذه الأنحاء من الْمَاهِیَّة.

مقدّمة تمهیدیة

ونتخذ ماهیَّة «الإنسان» بالقیاس إلی صفة «العلم» مثالاً نشرح الحال فِی هذه المقدّمة، فنقول: إن هذه الْمَاهِیَّة تارةً نتتبع وجودَها فِی الخارج وأخری نتتبّع وجوها فِی الذِّهْن. فإذا أردنا أن نلاحظ وجودها فِی الخارج فَسَوْفَ نری أن لهذه الْمَاهِیَّة خارجاً نحوان من الوجود لا أکثر. فهناک فِی الخارج «إنسان مع العلم» أی: الإنسان العالم، وهناک فِی الخارج «إنسان بلا علم»، أی: الإنسان اللاعالم. ولا یوجد شق ثالث فِی الخارج لماهیة الإنسان، بحیث یکون هناک إنسان لا هو واجد لصفة العلم ولا هو فاقد لها؛ لأَنَّ الوجدان والفقدان نقیضان ولا یرتفع النقیضان.

ص: 71

أَمَّا مفهوم الإنسان الجامع بین الإنسان الواجد للعلم والإنسان الفاقد للعلم فهو غیر موجود فِی الخارج بوجودٍ مستقلّ عن هذین، وإنَّما هو موجود فِی ضمن هذین، ومن هذا المنطلق یکون جامعاً بینهما، وإلا لما أمکنه أن یکون جامعاً بینهما؛ لأَنَّهُ إن کان قسماً ثالثاً فِی عرضهما لکان قسیماً لهما والقسیم لا یکون جامعاً لقسیمه بل المقسم هو الجامع للأقسام، اللهم إلاَّ إذا کان شیء قسیماً فِی وعاء وعالم، ومقسماً فِی عالم آخر، کما یأتی توضیحه إن شاء اللٰه تعالی.

أَمَّا إذا اجتزنا عالم الخارج إلی عالم الذِّهْن فنجد وعاءین أحدهما وعاء المعقولات الأولیة وثانیهما الَّذی هو فِی مرحلة مُتِأَخِّرَة عن الوعاء الأوّل هو وعاء المعقولات الثانویة.

أَمَّا وعاء المعقولات الأولیة: یعنی ذاک الوعاء من الذِّهْن الَّذی یلتقط ویصوّر فیه الذِّهْن الْمَفَاهِیم من الخارج مباشرة. ونجد فِی هذا الظرف والوعاء أن للماهیة فِی هذا الوعاء ثلاثة أنحاء وحصص من الوجود الذهنی، وکل واحد من هذه الأنحاء یشکّل صورةً ذهنیة تختلف عن الصورتین الأخریین:

تارةً یلحظ الذِّهْن ماهیَّة الإنسان مع وجود صفة العلم، أی: الْمَاهِیَّة بشرط شیء.وأخری یلحظ ماهیَّة الإنسان بلا صفة العلم، أی: الْمَاهِیَّة بشرط لا.وثالثة یلحظ الْمَاهِیَّة لا بشرط وهو مفهوم «الإنسان». ومفهوم الإنسان لَیْسَ جامعاً بین المفهومین الأولین؛ لأَنَّهُ صورة ذهنیة مستقلّة عنهما (=موجود ذهنی فِی عرضهما)، فهو قسیم لهما، وإذا کان قسیماً لهما فلا یمکن أن یکون هذا الْمَفْهُوم الثَّالث موجوداً فِی وعاء المعقولات الأولیة (الَّتی نتکلّم عنها الآنَ، لا وعاء المعقولات الثانویة)، ویستحیل أن یکون القسیم جامعاً لقسیمه.

بینما تقدّم قبل قلیل (عندما کُنَّا نتکلّم عن الوجود الخارجیّ للماهیة) أنَّ للماهیة وجودان فِی الخارج، ومفهوم «العالم» أو مفهوم «الإنسان» جامع بین هذین الوجودین الخارجیین. وهذا الْمَفْهُوم (=الإنسان) نفسه الَّذی أصبح جامعاً بین وجودین خارجیین للماهیة بات قسیماً للمفهومین الآخرین فِی وعاء المعقولات الأولیة. فلا یمکن أن یکون جامعاً لقسیمیه متزامناً مع کونه جامعاً بین وجودین خارجیین للماهیة؛ لاختلاف العالَم والوعاء. أی: لطالما أَنَّهُ فِی عالَمه ووعائه قسیم لمفهومین آخرین فلا یمکن أن یکون جامعاً بینهما، لٰکِنَّهُ فِی الخارج (= فِی غیر عالَمه) لَیْسَ قسیماً للوجودین الخارجیین (لأَنَّهُ لا یوجد عندنا فِی الخارج «إنسان» لا هو «عالم» ولا هو «لا عالم») وبالتَّالی یمکن أن یکون جامعاً بین ذینک الوجودین الخارجیین.

ص: 72

هذه الْمَفَاهِیم الثَّلاثة هی المعقولات الأولیة وکل واحد منها بخصوصیته یباین الآخر، وإذا دقَّقنا النَّظَر وقارنّا بین نحوی وجود الخارجیّ للماهیة والأنحاء الثَّلاثة للوجود الْمَاهِیَّة الذهنی، نجد أن کلاًّ من الوجودین الخارجیین للماهیة یتمیز من الآخر بخصوصیة خارجیّة. فعلی سبیل المثال إن «الإنسان العالم» فِی الخارج یتمیز بخصوصیة خارجیّة وهی عبارة عن «وجدانه لصفة العلم» کما أن «الإنسان اللاعالم» خارجاً (وَالَّذِی هو نحو آخر للوجود الخارجیّ للماهیة) یتمیز بخصوصیة خارجیّة أخری وهی أَنَّهُ «فاقد لصفة العلم» خارجاً. وهاتان الخصوصیتان الخارجیتان للوجودین الخارجیین تُسمَّیانِ بالقیود الأولیة، أی: القیود الَّتی هی قیود للخارج مباشرةً (=قیود الخارج).

أَمَّا إذا تناولنا الوجودات الذِّهْنِیَّة الثَّلاثة للماهیة فنجد أن کل واحد منها یتمیز من الآخرین بخصوصیة لٰکِنَّهَٰا لیست خارجیّة، بل هی ذهنیة. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. مثلاً إن صورة الْمَاهِیَّة بشیء شیء تتمیز بوجود صورة للعلم (أی: خُصُوصِیَّة ذهنیة) فِی هذه الصُّورَة من الْمَاهِیَّة، لا أَنَّهُ یوجد العلم نفسه. کما أَنَّهُ توجد صورة لعدم العلم فِی «لحاظ الْمَاهِیَّة بشرط لا» إلی جانب تصویر الْمَاهِیَّة وتصوّرها. وفی التَّصْوِیر الثَّالث (فِی لحاظ الْمَاهِیَّة لا بشرط) یوجد تصویر ولحاظ للماهیة إلی جانب عدم لحاظ شیء آخر (أی: عدم لحاظ صفة العلم، وعدم لحاظ عدم صفة العلم).

هذه الخُصُوصِیّات الذِّهْنِیَّة الَّتی هی میزات للوجودات الذِّهْنِیَّة الثَّلاثة تُسمَّی بالقیود الثانویة؛ لأَنَّهَا لیست قیوداً للخارج بل هی قیود للشیء الَّذی انتزعه الذِّهْن من الخارج. أی: قیود للمعقولات الأولیة الَّتی انتُزِعَتْ من الخارج. بینما تلک القیود الأولیة انتزعت من الخارج مباشرة، ومن هنا سمیت بالقیود الأولیة. فالمعقولات الثانویة قیودٌ لمفاهیمَ انتزعت من الخارج ولیست قیوداً للخارج مباشرة.

ص: 73

وَالْحَاصِلُ أَنَّ لدینا قیدان أولیّان وهما وجود العلم خارجاً وعدم وجود العلم خارجاً، وعندنا ثلاثة قیود ثانویة عبارة عن:

1- لحاظ وجود العلم.

2- لحاظ عدم وجود العلم.

3- عدم لحاظ شیء.

فالقیود الأولیة الَّتی تجعل الوجودات الخارجیة للماهیة متقابلةً، هذه خُصُوصِیّات خارجیّة من شؤون عالم الخارج، أَمَّا القیود الثانویة الَّتی تجعل المعقولات الأولیة متقابلة فیما بینها، هی خُصُوصِیّات ذهنیة من شؤون عالم الذِّهْن ومن شؤون اللِّحَاظ وشؤون الصُّورَة الذِّهْنِیَّة للماهیة.

ومن هذا المنطلق حینما نقارن بین القیود الأولیة والقیود الثانویة نجد أن القید الثانوی الَّذی کان یمیِّز الصُّورَة الأولی (وهی صورة الْمَاهِیَّة بشرط شیء) من الصور الثَّلاث للماهیة فِی الذِّهْن، هو لحاظ العلم وتصوره ولیس العلم نفسه. هذا القید الثانوی الَّذی یمیِّز هذه الصُّورَة مرآةٌ لقیدٍ أوّلیّ، أی: إن لحاظ العلم یعکس وجود العلم خارجاً. فالقید الثانوی للحاظ الْمَاهِیَّة بشرط شیء مرآة للقید الأولی الَّذی کان قیداً للوجود الخارجیّ الأوّل للماهیة وهو وجود الإنسان العالم.

وکذلک القید الثانوی الَّذی کان یمیز الصُّورَة الثَّانِیة من الصور الثَّلاث (أی: صورة الإنسان بشرط لا، بشرط عدم العلم) بلحاظ عدم العلم مرآة لعدم وجود صفة العلم فِی الخارج.

أَمَّا القید الثانوی فِی الصُّورَة الثَّالثة فهو عبارة عن عدم کلا اللحاظین، ولکن حَیْث أَنَّ عدم اللِّحَاظ لَیْسَ مرآةً لشیء ولا یعکس شیئاً، یَتَعَیَّنُ أن یکون المرئی والملحوظ فِی الصُّورَة الثَّالثة (فِی لحاظ الْمَاهِیَّة لا بشرط) هو ذات الْمَاهِیَّة ولیس شیئاً آخر؛ لأَنَّ هذا التَّصْوِیر الثَّالث له قید لکن قیده «عدم اللِّحَاظ» و«عدم اللِّحَاظ» لا یُری للإنسان شیئاً؛ إِذْ أَنَّ معنی «عدم اللِّحَاظ» هو عدم التَّصْوِیر (طبعاً إن «ذات الْمَاهِیَّة» فِی الخارج لا یوجد إلاَّ فِی ضمن الْمَاهِیَّة بشرط شیء أو الْمَاهِیَّة بشرط لا، ولا یمکن تحقّق «الإنسان» خارجاً «لا مع العلم» و«لا مِنْ دُونِ العلم»).

ص: 74

إذن النَّحْو الثَّالث من الوجود الذهنی للماهیة یشکّل جامعاً بین نحوی الوجود الخارجیّ للماهیة. وللبحث تتمة تأتی إن شاء اللٰه فِی یوم السبت. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1413 کلمة.

معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا فِی البحث الماضی إن الْمَاهِیَّة إذا لوحظت فِی الذِّهْن وتُصورت فِی الذِّهْن فهناک ثلاثة أنحاء من هذا التَّصَوُّر الذهنی عن الْمَاهِیَّة، رغم أن هذه الْمَاهِیَّة نفسها إذا لاحظنا وجودها فِی الخارج لَیْسَ لها أکثر من وجودین خارجیین:

1- وجود الْمَاهِیَّة المتّصفة بالقید والواجدة للقید.

2- وجود الْمَاهِیَّة الفاقدة للقید.

ولکن توجد فِی الذِّهْن ثلاث صور ذهنیة وثلاثة أنحاء من لحاظ الْمَاهِیَّة:

1- لحاظ الْمَاهِیَّة بشرط شیء، مثل لحاظ ماهیَّة الإنسان بشرط العلم (= الإنسان العالم).

2- لحاظ الْمَاهِیَّة بشرط لا، کلحاظ ماهیَّة الإنسان بشرط عدم العلم (= الإنسان اللاَّعالم).

3- لحاظ الْمَاهِیَّة لا بشرط، مثل لحاظ ماهیَّة الإنسان مِنْ دُونِ کلا اللحاظین السابقین.

وقلنا أیضاً: إن لحاظ الْمَاهِیَّة بشرط شیء یُری وجوداً خارجیاً للماهیَّةِ (وهو الوجود الخارجیّ للماهیَّةِ الواجد للقید وهو الإنسان العالم)، کما أن لحاظ الْمَاهِیَّة بشرط لا أیضاً یُری وجوداً خارجیّاً للماهیَّةِ (وهو الإنسان الفاقد للعلم، الإنسان اللاعالم وَالَّذِی هو موجود فِی الخارج أیضاً). أَمَّا اللِّحَاظ الثَّالث فقد تقدّم أن میزته عدم اللحاظین السابقین، و«عدم اللِّحَاظ» لَیْسَ لحاظاً، والعدمُ لا یُری شیئاً؛ فإن اللِّحَاظ هو تصوّر والتصوّر یُری شیئاً، ولکن «عدم اللِّحَاظ» عدمٌ للتصوّر وعدم التَّصَوُّر لا یُری شیئاً.

ص: 75

إذن، لا یَری الإنسانُ فِی اللِّحَاظ الثَّالث إلاَّ ذات الْمَاهِیَّة؛ لأَنَّ المقطع الأخیر (وهو اللابشرط) لا یُری شیئاً، بل یبقی لحاظُ الْمَاهِیَّة. فبالتالی یکون المرئی والملحوظ فِی هذا اللِّحَاظ الثَّالث هو ذات الْمَاهِیَّة، وذات الْمَاهِیَّة محفوظة فِی المطلق کما أَنَّهَا موجودة فِی الْمُقَیَّد أیضاً. ومن هنا تکون «ذات الْمَاهِیَّة» جامعةً لهما. فیمکن القول بأن الملحوظ فِی اللِّحَاظ الثَّالث جامع بین الملحوظ فِی الرؤیتین الأولی والثانیة. نعم، إذا نظرنا إلی هذه الرُّؤْیَة الثَّالثة بوصفها رؤیةً ولحاظاً فَسَوْفَ تکون رؤیة ثالثة وراء الرؤیتین الأولیین ومستقلّة عنهما. هذا بِالنِّسْبَةِ إلی وعاء المعقولات الأولیة.

أَمَّا وعاء المعقولات الثانویة فلا یلتفت الذِّهْن فیه إلی الخارج حتّی ینتزع منه مفاهیمَ مُعَیَّنَة، بل یلتفت إلی وعاء المعقولات الأولیة (الَّتی سبق وأن انتزعها من الخارج) فینتزع منها بعض الْمَفَاهِیم. وهذا الَّذی ینتزعه الذِّهْن یُسمی بالمعقول الثانوی.

إذن، عرفنا أن الذِّهْن انتزع من الخارج ثلاثة مفاهیم:

1- مفهوم الْمَاهِیَّة بشرط شیء.

2- مفهوم الْمَاهِیَّة بشرط لا.

3 مفهوم الْمَاهِیَّة لا بشرط.

الآنَ یلقی الذِّهْنُ نظرةً أخری إلی هذه اللحاظات الثَّلاثة فینتزع منها مفهوماً اسمه «لحاظ الْمَاهِیَّة» وهذا هو «اللابشرط الْمَقْسَمِیّ» الجامع بین «البشرط شیء» و«البشرط لا» و«اللابشرط الْقِسْمِیّ».

إلی هنا اتَّضَحَ أن لدینا نحوین من الوجود الخارجیّ للماهیَّةِ، ولدینا أیضاً ثلاثة أنحاء من لحاظ الْمَاهِیَّة وتصورها مأخوذة من الخارج مباشرة وتُسمی بالمعقولات الأولیة، ولدینا مفهوماً آخر أعمّ انتزع من هذه اللحاظات الثَّلاثة وهو مفهوم «لحاظ الْمَاهِیَّة» الَّذی سمّیناه ب_«اللابشرط الْمَقْسَمِیّ».

هناک کلام لِلسَّیِّد الأستاذ الخوئیّ رحمه الله بِالنِّسْبَةِ إلی «اللابشرط الْقِسْمِیّ» یقول فیه: إن ترکیبة هذه الصُّورَة الذِّهْنِیَّة الثَّالثة الَّتی نسمیها ب_«اللابشرط الْقِسْمِیّ» لیست عبارة عن «لحاظ الْمَاهِیَّة» مع «عدم لحاظ لا وجود القید ولا فقدان القید»؛ لأَنَّهُ لا یکفی فیه هذا المقدار، بل لا بُدَّ فِی هذا اللِّحَاظ الثَّالث من أن یُلحظ عدم القید. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. أی: أن تُلحظ الطَّبِیعَة ویُلحظ معها «عدم دخل القید، لا دخل وجود القید ولا دخل فقدان القید» (أی: یُلحظ عدم دخل القید وجوداً وعدماً»، لا أَنَّهُ «لا یُلحظ دخل وجود القید» و«لا یلحظ دخل عدم القید». فلا بُدَّ من لحاظ عدم دخل القید وجوداً وعدماً لکی یکون اللِّحَاظ من القسم الثَّالِث( (1) ) و( (2) ).

ص: 76


1- (1) - الفیاض، محاضرات فِی علم الأصول (تقریراً لِلسَّیِّد الخوئیّ): ج5، ص362 وما بعدها.
2- (2) - فکأنه یقال: إن الْمَاهِیَّة إذا لوحظت ولوحظ معها عدمُ دخل القید (أی: لوحظ السریان والإطلاق مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم) فحینئذٍ یَتُِمّ الإِطْلاَق (أی: یسری الحکم إلی جمیع الأفراد)، فهو لاحظ الطَّبِیعَة ولاحظ معها السریان (الإِطْلاَق). أَمَّا إذا لاحظ الطَّبِیعَة ولم یلحظ السریان - کما لم یلحظ التَّقْیِید أیضاً - فَیَکُونُ من الطَّبِیعَة المهملة وهی لا تصلح لأَنْ تَکُونَ مَوْضُوعاً للحکم؛ لأَنَّ الإهمال مستحیل فِی مقام الثُّبوت. طبعاً هناک خلاف بین الْمَشْهُور وبین سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله حیث ذهب الأخیر إلی أن الإِطْلاَق «ذاتیّ» بینما قال الْمَشْهُور بأن الإِطْلاَق «لحاظیّ»، أی: لا بُدَّ وأن یُلحظ الإِطْلاَق وعدم دخل القید مضافاً إلی لحاظ ذات الطَّبِیعَة، وسیأتی توضیحه إن شاء اللٰه تعالی.

مناقشة کلام السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله: لا یمکن مساعدة هذا الکلام، وذلک لأَنَّنَّا نتساءل عمَّا یترتَّب عَلَیٰ «اللابدیة» فِی قولکم «لا بُدَّ من لحاظ عدم دخل القید وجوداً وعدماً»، فهل یُشترط فِی ترتّب الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة أن تُلحظ الْمَاهِیَّة ویُلحظ معها عدم دخل القید؟ مثلاً: إذا قال المولی: «یحرم قتل الإنسان»، فلکی یترتَّب هذا الحکم (= حرمة القتل) عَلَیٰ ماهیَّة الإنسان، بصورة مطلقة ویسری إلی جمیع أفراد الإنسان، لا بُدَّ من أن یُلحظ عدم دخل قید العلم مثلاً، عدم دخل قید العدالة وعدم دخل قید الفقر مثلاً أو أی قید آخر.

إن کان هذا هو المقصود، فیرد علیه أوَّلاً وثانیاً:

أَمَّا أوَّلاً فَلأَنَّ کلامنا هنا (فِی المقدّمة التمهیدیة) فِی نقطة أخری؛ وهی شرح أنحاء تصوّر الْمَاهِیَّة (أی: اعتبارات الْمَاهِیَّة) فِی نفسها وفی أقسام النظر التَّصوُّریّ الواقع عَلَیٰ الْمَاهِیَّة. ولیس الکلام فِی کیفیَّة ترتّب الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة (أی: بِغَضِّ النَّظَرِ عن أَنَّهُ أیّ حکم یترتَّب عَلَیٰ الْمَاهِیَّة).

وأَمَّا ثانیاً إذا سلمنا بأننا نرید أن نری ما هو دخیل فِی ترتّب الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة، لکن مع ذلک نَقُول: لا حاجة ل_«اشتراط عدم دخل القید» فِی ترتّب الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة، سواء لاحظ الْمَاهِیَّةَ ولاحظ عدم دخل القید، أم لاحظ الْمَاهِیَّة ولم یلحظ معها شیء أصلاً؛ لأَنَّ النَّتِیجَة نفسها الَّتی تتمخض عن «لحاظ عدم دخل القید» تؤخذ وتُستنتج من «عدم اللِّحَاظ»؛ لأَنَّ الطَّبِیعَة - کما قلنا - فِی نفسها صادقة عَلَیٰ تمام أفرادها، فلا حاجة إلی أن یُلحظ عدم دخل القید. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. أی: ذات الطَّبِیعَة المهملة أیضاً فِی قوّة المطلقة. ما إن لوحظت الطَّبِیعَةُ مِنْ دُونِ لحاظ شیء معها حتّی یَتُِمّ الإِطْلاَق ویسری الحکم إلی جمیع الأفراد والمصادیق، بلا حاجة إلی هذا الشَّرْط (لحاظ عدم دخل القید) الَّذی اشترطتموه.

ص: 77

إذن، یقول السّیّد الأستاذ الخوئی رحمه الله: إِنَّمَا نجعل عالم الإثبات دَلِیلاً عَلَیٰ عَالَمِ الثُّبُوتِ بشرط أن یکون عالم الإثبات کاشفاً عن عَالَمِ الثُّبُوتِ الَّذی هو لحاظ الطَّبِیعَة مع لحاظ عدم دخل القید. هذا الَّذی یجب أن یکشف الإثبات عنه لکی یَتُِمّ الإِطْلاَقُ. ونجیب عنه بأَنَّهُ لَیْسَ من الضروری أَن یکون الْمُتِکَلِّم ثبوتاً لاحظ الطَّبِیعَةَ ولاحظ معها عدم دخل القید، بل یکفی أن یکون قد لاحظ الطَّبِیعَة ولم یلحظ معها شیئاً. وللبحث تتمة تأتی إن شاء اللٰه غداً. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نناقش ما أفاده السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله حیث قال: لا یکفی فِی اللابشرط الْقِسْمِیّ مجرّد لحاظ الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ أن یلحظ معها دخلَ القید، بل یشترط فیه أن یُلحظ عدم دخل القید. قلنا: إِنَّه ماذا تقصدون من هذا الاشتراط؟

1- الشق الأوّل: هل هذا شرط فِی ثبوت الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة أو هو شرط فِی تصوّر الْمَاهِیَّة بما هی هی فِی نفسها وبقطع النَّظَر عن ترتّب الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة، بحیث إذا لم یلحظ «عدم دخل القید» لا یثبت الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة. مثلاً لو قال: «یحرم قتل الإنسان» فهل أن الحکم (وهو حرمة القتل) لا یترتَّب عَلَیٰ الْمَاهِیَّة ولا یثبت عَلَیٰ ماهیَّة الإنسان إلاَّ إذا کان الْمُتِکَلِّم قد لاحظ ماهیَّة الإنسان إلی جانب لحاظه عدم دخل أی قیدٍ. إذا کان هذا هو المقصود فیرد علیه:

أوَّلاً: أن هذا أجنبی عن محلّ الکلام؛ لأَنَّ الحدیث دائر حول تصورات الْمَاهِیَّة فِی نفسها وبما هی هیَ وبمعزل عن ترتّب الحکم علیها. أَمَّا أَنَّهُ ماذا یشترط فِی الْمَاهِیَّة لکی یترتَّب الحکم علیها وماذا لا یشترط فهذا خارج عن محلّ بحثنا؛ إذ أَنَّنَا نرید أن نری کیفیَّة تصوّر الْمَاهِیَّة بما هی هیَ (أی: نرید أن نعرف أنحاء الْمَاهِیَّة وکم لها من الوجودات الذِّهْنِیَّة؟)، ولسنا بصدد دراسة أَنَّهُ إذا أرید إثبات حکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة فکیف یترتَّب هذا الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة، وما هو الطَّرِیق؟

ص: 78

وثانیاً: لنفترض أن کلامنا فِی «ما هو دخیل فِی ترتّب الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة وما هو غیر دخیل فیه» مع ذلک لا مبرِّر لهذا الشَّرْط (القائل باشتراط لحاظ عدم دخل القید فِی اللابشرط الْمَقْسَمِیّ)؛ لأَنَّ الأثر المتوخی والمطلوب من هذا العنصر الَّذی ذکرتموه (وهو لحاظ عدم دخل القید) لکی یثبت الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة (ویکون مَوْضُوع الحکم عبارة عن ماهیَّة الإنسان مطلقاً) حتّی یسری الحکم إلی تمام أفراد الإنسان یحرم قتل الإنسان الجاهل، ویحرم قتل الإنسان العالم، وکذلک یحرم قتل باقی أفراد الإنسان من الإنسان العادل والفاسق و...

نقول: هذه الغایة وَالنَّتِیجَة (= حتّی یسری إلی تمام الأفراد) تحصل مِنْ دُونِ اشتراط لحاظ عدم دخل القید؛ فَإِنَّ سریان الحکم إلی تمام الأفراد لَیْسَ مَنُوطاً وَمَشْرُوطاً بأن یُلحظ عدم دخل القید، بل یکفی أن لا یُلحظ دخلُ القید، ولا یحتاج إلی «لحاظ عدم دخل القید».

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَی: إِن الإِطْلاَق (= سریان الحکم إلی کل أفراده) الَّذی تریدون استفادته إِنَّمَا هو من نتائج عدم دخل القید ولیس من نتائج لحاظ عدم دخل القید. أی: «نفس عدم دخل القید» ینتج أن یسری الحکم إلی کل الأفراد ولیس لحاظ ورؤیة عدم دخل القید.

2- الشق الثَّانِی: وأمّا إذا کان مقصودکم أن «لحاظ عدم دخل القید» شرط فِی تصوّر الْمَاهِیَّة بما هی هیَ فِی نفسها وبقطع النَّظَر عن ثبوت الحکم علیها أو عدم ثبوت الحکم علیها وترتب الحکم علیها. أی: تریدون أن تقولوا: إن الْمَاهِیَّة إذا لوحظت ولوحظ معها عدم دخل القید، حینئذٍ تکون هذه الْمَاهِیَّة متمیزة ومتصفة بأنها موجودة فِی الذِّهْن وحدها، فنسألکم: لحاظ عدم قصد القید الَّذی جعلتموه شرطاً لتصوّر الْمَاهِیَّة، هل المقصود منه «التَّصدیق بعدم دخل القید» أم المقصود منه «تصوّر عدم دخل القید»؟ فإن کلیهما لحاظ، ولکن الأوّل لحاظ تصدیقی لعدم دخل القید وَالثَّانِی لحاظ تصوّری له. فأی واحد منهما شرط فِی اللابشرط الْقِسْمِیّ؟

ص: 79

إن کان الأوّل (أی: شرط تصوّر الْمَاهِیَّة هو التَّصدیق بأنها وحدها ولیس معها شیء، أی: «التَّصدیق بعدم دخل القید وجوداً وعدماً» شرط فِی لحاظ الْمَاهِیَّة، بحیث أننی إن لم أصدّق بأن الْمَاهِیَّة وحدها فلا أکون مصدّقاً للماهیَّةِ) فهو محال؛ إذ کیف یکون التَّصدیق شرطاً للتصور والحال أن التَّصدیق متوقّف عَلَیٰ التَّصَوُّر؛ فَإِنَّ الصُّورَة حینما تأتی إلی الذِّهْن تکون معلومة لدی النَّفس بالعلم الحضوری (أی: حاضرة لدیها)؛ فإن علم النَّفس بصورها الذِّهْنِیَّة علم حضوری، کعلم النَّفس بالجوع، فهو لَیْسَ علماً بصورة الجوع فِی النَّفس، وإنَّما هو علم بواقع الجوع.

وإن کان الثَّانِی وهو اللِّحَاظ التَّصوُّریّ (لحاظ عدم قصد القید = تصوّر عدم قصد القید) لا التَّصدیق الَّذی هو فِی طول تصوّر الْمَاهِیَّة، فهو أیضاً غیر معقول؛ لأَنَّنَا نتکلّم عن اللابشرط الْقِسْمِیّ، وهو عبارة عن لحاظ من اللحاظات الثَّلاثة الموجودة لدی النَّفس عن الْمَاهِیَّة؛ لأَنَّ اللابشرط الْقِسْمِیّ من المعقولات الأولیة کما تقدّم فِی المقدّمة، والمعقولات الأولیة هی الأُمُور المنتزعة من الخارج مباشرة. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. فالملحوظ فِی هذا اللِّحَاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ هو ذات الْمَاهِیَّة، ومن هنا قلنا إن الملحوظ فِی اللابشرط الْقِسْمِیّ جامعٌ بین لحاظَیْ «بشرط شیء» و«بشرط لا»، وإن کان اللِّحَاظ مبایناً لهما. فعلی کل تقدیر لا یمکن أن نشترط «لحاظ عدم دخل القید» فِی الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ. وهذا مطلب له آثاره کما سوف نری فِی البحوث المقبلة.

هذا تمام الکلام فِی هذه المقدّمة التمهیدیة حول اعتبارات الْمَاهِیَّة وأقسام تصوّرها ولحاظها فِی الذِّهْن. والآن ندخل فِی صلب الْمَوْضُوع ونقول:

هناک خلاف بین الأُصُولِیِّینَ فِی نقاط ثلاث:

النُّقْطَة الأولی: هی أَنَّهُ بعد وضوح عدم انطباق الکلّی الطَّبِیعِیّ عَلَیٰ لحاظین من تلک اللحاظات وهما «البشرط شیء» و«البشرط لا» (أی: لیست ماهیَّة الإنسان المقیّدة بالعلم کلّیّاً طبیعیّاً، کما أن ماهیَّة الإنسان المقیّدة بالجهل - أی: اللاعالم - لیست کلّیّاً طبیعیّاً) وقع الکلام فِی انطباق الکلّی الطَّبِیعِیّ عَلَیٰ اللحاظین الآخرین وهما:

ص: 80

1- الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ.

2- الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْمَقْسَمِیّ.

أو أَنَّهُ ینطبق عَلَیٰ ما یُعَبَّر عنه بالماهیة المهملة؟

النُّقْطَة الثَّانیة: فِی معرفة الْمَاهِیَّة المهملة من أنَّها تلک الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ أم غیرها؟

النُّقْطَة الثَّالثة: فِی معرفة أن أسماء الأجناس موضوعة لأی واحد من هذه الأنحاء؟

أَمَّا النُّقْطَة الأولی: فَالصَّحِیحُ أن الکلّی الطَّبِیعِیّ هو نفس الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ وذات المرئی الملحوظ بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ، مِنْ دُونِ دخل اللِّحَاظ والرؤیة. ولطالما أن هذا هو معنی الکلّی الطَّبِیعِیّ فالکلی الطَّبِیعِیّ من المعقولات الأولیة المنتزعة من الخارج مباشرةً. وقد قلنا فِی المقدّمة التمهیدیة إن الملحوظ بلحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ جامع بین الملحوظ بشرط شیء والملحوظ بشرط لا (أی: جامع بین الوجودین الخارجیین للماهیَّةِ).

وهذا بخلاف ما لو بنینا عَلَیٰ ما ذهب إلیه السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله وَالَّذِی ناقشناه الیوم وبالأمس، حیث قلنا یترتَّب عَلَیٰ هذا الخلاف بعض الآثار، وهذا من تلک الآثار؛ إذ بناء عَلَیٰ کلامه رحمه الله فَسَوْفَ یکون الملحوظ باللحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ شیئاً غیر الکلّی الطَّبِیعِیّ؛ لأَنَّ الملحوظ باللحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ یصبح - وَفقاً لهذا المبنی - مقیَّداً بالقید (وهو لحاظ عدم دخل القید). واللحاظ یعنی التَّصَوُّر والرؤیة، فهو أمر ذهنی. إذن، الملحوظ بلحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ مقیَّد بقید ذهنی، والْمُقَیَّد بقید ذهنی غیر موجود فِی الخارج. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. فلا توجد مشکلة بناء عَلَیٰ ما قلناه، أی: لا یکون الملحوظ فِی لحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ مغایراً لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ؛ لأَنَّ الملحوظ فیه هو الْمَاهِیَّة ذاتها، لا أن یکون مقیّداً بقید ذهنی (وهو لحاظ عدم دخل القید المتقدّم ذکره، حتّی لا یکون موجوداً فِی الخارج، حتّی یتغایر مع الکلّی الطَّبِیعِیّ).

ص: 81

اعتراض السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله: حیث وجَّه رحمه الله اعتراضاً عَلَیٰ هذا الکلام القائل بأن الکلّی الطَّبِیعِیّ هو الْمَاهِیَّة عینها الملحوظة بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ، حیث یقول: کیف یصحّ هذا الکلام والکلی الطَّبِیعِیّ عبارة عمَّا یکون صالحاً وقابلا للانطباق عَلَیٰ کل أفراده؟! بینما الملحوظ بلحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ هو المطلق والمنطبق بالفعل عَلَیٰ أفراده. فهناک عنصر موجود ومأخوذ فِی اللابشرط الْقِسْمِیّ هذا العنصر غیر موجود فِی الکلّی الطَّبِیعِیّ عبارة عن فِعْلِیَّة الانطباق. اللابشرط الْقِسْمِیّ یعنی ما هو منطبق بالفعل علی أفراده. فعلی سبیل المثال عندما نقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» یکون «العالم» مطلقاً، أی: اللابشرط الْقِسْمِیّ، یعنی أَنَّهُ ینطبق بالفعل، لا أَنَّ هناک قابلیةً للانطباق، بینما فِعْلِیَّة الانطباق غیر موجود فِی الکلّی الطَّبِیعِیّ. وهذا إِشْکَال ندرسه غداً إن شاء اللٰه تعالی وتجدونه فِی أجود التقریرات( (1) ). إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1185 کلمة.

معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله اعترض عَلَیٰ القول بأن الکلّی الطَّبِیعِیّ هو نفس الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ حیث قال: إن الکلّی الطَّبِیعِیّ هو غیر الْمَاهِیَّة الملحوظة بلحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ؛ وذلک لأَنَّ الکلّی الطَّبِیعِیّ هو ما یکون صالحاً وقابلاً للانطباق عَلَیٰ کل الأفراد، بینما الملحوظ بلحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ هو ما یکون بالفعل منطبقاً عَلَیٰ تمام الأفراد وفانیاً فیها؛ فَإِنَّ الملحوظ بلحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ هو المطلق (الَّذی یدور حدیثنا حوله) وهو منطبق بالفعل عَلَیٰ کل الأفراد وشامل لها، لا أَنَّهُ فیه قوّة وقابلیة الانطباق عَلَیٰ الأفراد. فکیف یکون أحدهما عین الآخر؟!

ص: 82


1- (1) - الخوئی، أجود التقریرات (تقریراً للنَّائینی): فِی هامش ص523.

جواب الاعتراض: ولکن هذا الاعتراض غیر وارد فِی رأینا؛ لأَنَّنا نتساءل عن المراد من «الفعلیّة» فِی قوله، فهل أن المقصود منها هو أن اللابشرط الْقِسْمِیّ تُری الأفرادَ بما هی أفراد وبما لها من خُصُوصِیّات فردیة وتعکسها (ولو إراءة إجمالیة وانعکاساً ضعیفاً)؟ فهذا غیر صحیح؛ لأَنَّ معناه أن یکون حالُ اللابشرط الْقِسْمِیّ حالَ العامّ، کما أن العامّ یُری الأفراد بما هی أفراد کذلک اللابشرط الْقِسْمِیّ الَّذی هو المطلق یُری الأفراد بما هی أفراد. أی: قولنا «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» حاله حال قولنا «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ»؛ فَإِنَّ الأخیر یُری الأفرادَ - کما قلنا - ولکن «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» لا یُرِی الأفراد وإنَّما یُری الطَّبِیعَةَ، والطبیعةُ لا تُری إلاَّ نفسَها ولا تُری أفرادَها ولا تعکس مصادیقَها. إذن، إذا کان هذا هو المقصود فهذا غیر صحیح؛ لأَنَّهُ خلط بین العامّ والمطلق.

وإذا أردتم «بفعلیة الفناء والانطباق» المعنی الآخر وهو أَنَّهُ لو ترتّب وثبت حکم عَلَیٰ هذا الملحوظ بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ لَسَرَی هذا الحکمُ إلی کل الأفراد، فهذا موجود ومتوفر فِی الکلّی الطَّبِیعِیّ؛ لأَنَّهُ موجود فِی الخارج بوجود أفراده. فأین تلک «الفعلیّة» الموجودة فِی اللابشرط الْقِسْمِیّ وَالَّتِی هی مفقودة فِی الکلّی الطَّبِیعِیّ؟!

إذن، الصَّحِیح کما قلنا بالأَمْسِ هو أن الکلّی الطَّبِیعِیّ هو الْمَاهِیَّة عینها الملحوظة بنحو لحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ. والمقصود من الْعَیْنِیَّة بینهما (= هو عین ذاک) هو أَنَّ الکلّی الطَّبِیعِیّ عین الملحوظ باللِّحَاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ، مِنْ دُونِ أخذ اللِّحَاظ فِی البین. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. أی: أن الکلّی الطَّبِیعِیّ هو عین الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ، لکن لا بحدّها؛ لأَنَّ حدّها لَیْسَ داخلاً (حدها هو عدم لحاظ شیء)، وإنَّما المحدود بهذا الحدّ هو عین الکلّی الطَّبِیعِیّ.

ص: 83

إذن، هذه المناقشة مِن قِبَلِ السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله غیر واردة، ولعلّها نشأت من الخلط بین اللِّحَاظ والملحوظ. أی: أَنَّهُ رحمه الله اعتبر - کما تقدّم بالأَمْسِ - فِی الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللِّحَاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ خُصُوصِیَّةً زائدة عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة وهی «لحاظ عدم دخل القید». ولطالما هو رحمه الله اعتبر هذه الْخُصُوصِیَّة الزائدة فِی اللابشرط الْقِسْمِیّ وهو غیر موجود فِی الکلّی الطَّبِیعِیّ فکان من حقه أن یقول: یختلف الکلّی الطَّبِیعِیّ عن الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللِّحَاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ، وَالْمَاهِیَّة المقیّدة بهذا القید الذهنی غیر موجودة فِی الخارج ویستحیل أن یکون موجوداً فِی الخارج، بینما الکلّی الطَّبِیعِیّ موجود ضمن أفراده فِی الخارج، کما أسلفناه بالأَمْسِ.

وهناک قول آخر معاکس لهذا، وهو القول بأن الکلّی الطَّبِیعِیّ هو عین اللابشرط الْمَقْسَمِیّ، لا الْقِسْمِیّ. وهذا قول الفلاسفة أو عَلَیٰ الأَقَلّ قول بعضهم کالحکیم السبزواری( (1) ) بأن الکلّی الطَّبِیعِیّ هو عین الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْمَقْسَمِیّ.

هذا الکلام أیضاً مِمَّا لا یمکن المساعدة علیه وذلک لأَنَّنَا ذکرنا فِی المقدّمة التمهیدیة أن اللابشرط الْمَقْسَمِیّ من المعقولات الثانویة ولیس من المعقولات الأولیة، بینما الکلّی الطَّبِیعِیّ من المعقولات الأولیة، أی: أَنَّهُ مأخوذ ومنتَزَع من الخارج مباشرةً، کما هم یقولون فِی تفسیر الکلّی الطَّبِیعِیّ. إذن هذا جامع بین المعقولات الأولیة، بینما أن الکلّی الطَّبِیعِیّ جامع بین الوجودات الخارجیة بناء عَلَیٰ تفسیرکم لِلْکُلِّیِّ الطَّبِیعِیّ.

إذن، فلا معنی لهذا الکلام (وهو أن الکلّی الطَّبِیعِیّ هو اللابشرط الْمَقْسَمِیّ) أبداً، فکأنّه حدث خلط بین المعقولات الأولیة والمعقولات الثانویة، غفلة عن أن الکلّی الطَّبِیعِیّ معقول أولی بینما اللابشرط الْمَقْسَمِیّ معقول ثانوی.

ص: 84


1- (1) - السبزواری، شرح المنظومة: ص12.

هذا تمام الکلام فِی النُّقْطَة الأولی من النقاط الثَّلاث الَّتی عثرناها بالأَمْسِ حیث قلنا: وقع الخلاف بین الأُصُولِیِّینَ فِی نقاط ثلاث، کانت النُّقْطَة الأولی منها فِی أن الکلّی الطَّبِیعِیّ هل هو عین اللابشرط الْقِسْمِیّ أم هو عین اللابشرط الْمَقْسَمِیّ أم هو شیء ثالث؟ وقد اتَّضَحَ أن الصَّحِیح هو أن الکلّی الطَّبِیعِیّ عین اللابشرط الْقِسْمِیّ (بما هو ذات الْمَاهِیَّة لا مع أخذ اللِّحَاظ فیه).

أَمَّا النُّقْطَة الثَّانیة: فکانت عبارة عن تحقیق حال الْمَاهِیَّة المهملة أو الطَّبِیعَة المهملة، فهل هی اللابشرط الْقِسْمِیّ أو الْمَقْسَمِیّ أو أنَّها شیء ثالث؟

من المعلوم أن الْمَاهِیَّة المهملة مصطلح یُراد به الْمَاهِیَّةَ الَّتی تَتَوَفَّرُ فیها خاصیتان:

الخاصیة الأولی: أنَّها من المعقولات الأولیة المنتزعة من الخارج.

الخاصیة الثَّانیة: أنَّها ملحوظة ومنظور إلیها بلا إضافة أی شیء إلیها حتّی أن «عدم دخل القید» لا یُضاف إلیها. فهی ملحوظة بذاتها وذاتیاتها، أی: هی من حیث هی، خلافاً للابشرط الْقِسْمِیّ الَّذی کان یوجد فیه قید «عدم وجود اللِّحَاظ» (وَالَّذِی هو الإِطْلاَق)، وهو الکلام نفسه الَّذی یقوله الفلاسفة من أن «الْمَاهِیَّة من حیث هی لیست إلاَّ هی».

وحینئِذٍ یقع الکلام فِی أن هذه الْمَاهِیَّة الجامعة لهاتین الْخُصُوصِیَّتَیْنِ هل هی اللابشرط الْقِسْمِیّ عینه؟ أم هی اللابشرط الْمَقْسَمِیّ عینه؟ أم هی شیء ثالث؟

یبدو أنهم متفقون عَلَیٰ أنَّها لیست هی اللابشرط الْقِسْمِیّ، ولکنهم بعد هذا الاتفاق اختلفوا فِی ماهیَّة هذه الْمَاهِیَّة المهملة، فذهب الخُراسانیّ( (1) ) إلی أنَّها هی الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْمَقْسَمِیّ، بینما اعترض علیه تلامذته کالمحقق الإِصْفِهَانِیّ رحمه الله( (2) ) وتلمیذه السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله( (3) ) وقالوا: إن الْمَاهِیَّة المهملة أمر آخر غیر اللابشرط الْمَقْسَمِیّ، وقالا فِی اعتراضهما عَلَیٰ الآخوند: إن الْمَاهِیَّة

ص: 85


1- (2) - الخُراسانیّ، کفایة الأصول: ج1، ص376.
2- (3) - الإصفهانی، نهایة الدِّرایة: ج2، ص213.
3- (4) - الخوئی، أجود التقریرات: ج1، ص523-525.

تارةً تُؤخذ منظوراً إلی ذاتها وذاتیاتها بلا إضافة أی شیء، وحینئِذٍ لا یُحکم ولا یصحّ أن یُحکم فِی هذه المرتبة من اللِّحَاظ بأی شیء آخر غیر ذاتها وذاتیاتها. ذاتها مثل: «الإنسان إنسان» وذاتیاتها کالحکم بما هو جنس أو فصل له مثل: «الإنسان حیوان ناطق».

وأخری تؤخذ الْمَاهِیَّة منظوراً إلیها بالقیاس إلی أشیاء أخری خارجة عن ذاتها، مثلاً ماهیَّة الإنسان تُلحظ بِالنَّظَرِ إلی صفة «العلم» الخارجة عن ذات الإنسان وذاتیاته. وحینئِذٍ تارةً تُقیَّد بالعلم فتکون هی الْمَاهِیَّة بشرط شیء، وأخری تُقیَّد بعدم العلم فتکون الماهیةُ بشرط لا، وثالثة لا تُقیَّد لا بوجود العلم ولا بعدم القید، وهذا هو اللابشرط الْقِسْمِیّ (المطلق). فاللابشرط الْمَقْسَمِیّ جامع بین الصور الثَّلاث (البشرط شیء وَاللاَّبِشَرْطِ، وَاللاَّبِشَرْطِ الْقِسْمِیّ) للحاظات الْمَاهِیَّة بالقیاس إلی الأُمُور الخارجة عن الذّات والذاتیات، أَمَّا الْمَاهِیَّة المهملة هی الْمَاهِیَّة مع قصر النَّظَر عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة وذاتیاتها. هذا اعتراض الشَّیْخ الإِصْفِهَانِیّ رحمه الله والسّیّد الأستاذ الخوئی رحمه الله عَلَیٰ صاحب الکفایة.

أقول: أَمَّا ما ذهب إلیه صاحب الکفایة من أن الطَّبِیعَة المهملة عین اللابشرط الْمَقْسَمِیّ فهذا واضح البطلان؛ وذلک لما تقدّم فِی المقدّمة ولما تقدّم قبل قلیل أیضاً من أن اللابشرط الْمَقْسَمِیّ من المعقولات الثانویة بینما أن الْمَاهِیَّة المهملة فیها خصوصیتان تقدمت قبل قلیل، إذن هی غیر اللابشرط الْمَقْسَمِیّ. فهل هی اللابشرط الْقِسْمِیّ؟ أو أنَّها شیء ثالث؟ إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. بِالنِّسْبَةِ علی اللابشرط الْقِسْمِیّ تقدمت قبل قلیل «کأنهم اتفقوا عَلَیٰ أنَّها لیست اللابشرط الْقِسْمِیّ». وحینئِذٍ یجب أن ندقق النَّظَر فِی هذا الاتفاق، لنری ما هو دلیلهم عَلَیٰ ذلک، ویتخلص من مجموع کلماتهم فِی الاستدلال علیه أَمْرَانِ:

الأمر الأوّل: أن الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ أخذ فیها حدّ وقید وهو الإِطْلاَق، أی: عدم الحدّ أخذ کحدٍ. أی: حدّها الَّذی یمیزها من المقیَّد هو أَنَّهُ لَیْسَ فیها حدٌّ. بینما أن الْمَاهِیَّة المهملة (کما تقدّم قبل قلیل) کانت لها خاصیتان، وکانت الثَّانیة منهما أنَّها عاریة عن کل حدّ وقید، حتّی حدّ عدم الحدّ، بینما الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ یحظی بحد «عدم الحدّ».

ص: 86

ویرد علیه أَنَّهُ بناء عَلَیٰ ما قلنا فِی المقدّمة التمهیدیة من أن اللابشرط الْقِسْمِیّ هو أن تُلحظ الْمَاهِیَّة بهذا اللِّحَاظ، ویکون عدم الحدّ حَدّاً لها، لکن «عدم الحدّ» لَیْسَ قیداً لها، بل هو قید للحاظ الْمَاهِیَّة ورؤیتها. ومن هنا قلنا فِی المقدّمة أن المرئی فِی اللابشرط الْقِسْمِیّ جامع بین الملحوظین فِی اللحاظین الأولین، لأَنَّهُ لحاظ لذات الْمَاهِیَّة، وإلا لما أمکنه أن یکون جامعاً لهما.

هذا، وللبحث تتمة تأتی إن شاء اللٰه غداً. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1235 کلمة.

معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نناقش هذا الأمر الَّذی یبدو أَنَّهُ متفق علیه بینهم، وهو أن الْمَاهِیَّة المهملة هی غیر اللابشرط الْقِسْمِیّ، وقلنا إِنَّه یتحصل من مجموع کلماتهم دلیلان عَلَیٰ هذا المطلب، ذکرنا بالأَمْسِ الدَّلِیل الأوّل وناقشناه.

الدَّلِیل الثَّانِی: هو أن الْمَاهِیَّة المهملة یُقصر النَّظَر فیها عَلَیٰ ذاتها وذاتیاتها، ولا یُنظر فیها إلی شیء خارج عن ذاتها وذاتیاتها (کما تقدّم بالأَمْسِ فِی الخاصیة الثَّانیة للماهیَّةِ المهملة)، فمن هنا فهی عاریة عن أی قید حتّی قید «عدم القید»، فلا یمکن أن یُحکم علیها بشیء خارج عن ذاتها وذاتیاتها، بینما نحن نری أن الماهیة الملحوظة بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ یُحکم علیها بأمور خارجة عن ذاتها وذاتیاتها ویصح هذا الحکم، مثلاً نقول: «الإنسان عالم» أو «الإنسان یحرم قلته» أو «الإنسان یجب إکرامه» وهکذا. فهذا دلیل عَلَیٰ أن أحدهما غیر الآخر.

ولکن هذا الدَّلِیل غیر تامّ عندنا کسابقه، وذلک لأَنَّهُ یحتوی عَلَیٰ الخلط بین النَّظَر التَّصوُّریّ للماهیَّةِ وبین النَّظَر التَّصدیقیّ الحملی للماهیَّةِ؛ فَإِنَّ بإمکان الْمَاهِیَّة أن یُنظر إلیها بنحوین من النَّظَر:

ص: 87

تارةً یُنظر إلی الْمَاهِیَّة بِالنَّظَرِ التَّصوُّریّ المحض، وهذا النَّظَر مقصور بذات الْمَاهِیَّة وذاتیاتها فحسب.

وأخری یُنظر إلی الْمَاهِیَّة بِالنَّظَرِ التَّصدیقیّ الحملی، لا التَّصوُّریّ. أی: بِالنَّظَرِ الَّذی یُراد فیه حمل شیء عَلَیٰ الْمَاهِیَّة، ولا یُراد تصوّر الْمَاهِیَّة فحسب، أی: یراد فِی هذا النَّظَر أن یقال: إن هذا المحمول ثابت للماهیَّةِ. وهذا النَّظَر الثَّانِی أیضاً عَلَیٰ قِسْمَیْنِ:

القسم الأوّل: ما إذا أرید ثبوت هذا المحمول للماهیَّةِ فِی مرحلة الذّات، فَیَصِحُّ فِی هذه المرحلة حملُ الذّات أو الذاتیات عَلَیٰ «الإنسان»، ولا یمکن بحسب هذا النَّظَر أن یُحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة بأمر خارج عن ذاتها وذاتیاتها. فلا یصحّ حمل «العلم» عَلَیٰ الإنسان فِی مرتبة الذّات؛ لأَنَّ العلم خارج عن الذّات.

القسم الآخر: ما إذا نُظر إلی الْمَاهِیَّة فِی مرتبة الواقع، لا فِی مرتبة الذّات؛ فَإِنَّ مرتبة الواقع أوسع من مرتبة الذّات وَالْمَاهِیَّة فِی مرتبة ذاتها أضیق منها فِی مرتبة الواقع. أی: إذا أرید حمل شیء عَلَیٰ الْمَاهِیَّة فِی عالم الواقع، لا حمل شیء عَلَیٰ الْمَاهِیَّة فِی مرحلة الذّات. فَیَصِحُّ فِی هذه المرحلة الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة بما هو خارج عن ذاتها وذاتیاتها (أی: بالعَرَضیّ).

وحینئِذٍ نأتی إلی استدلالهم القائل ب_«أن الْمَاهِیَّة المهملة غیر الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ، بدلیل اقتصار النَّظَر فِی الْمَاهِیَّة المهملة عَلَیٰ ذاتها وذاتیاتها ولا یصحّ الحکم علیها إلاَّ بذاتها وذاتیاتها، بینما نحن نری أن الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ یصحّ الحکم علیها بأمور خارجة عن ذاتها وذاتیاتها» ونقول: إن هذا الاستدلال غیر تامّ؛ لأَنَّ کون النَّظَر فِی الْمَاهِیَّة المهملة مقصوراً عَلَیٰ الذّات والذاتیات صحیح، لٰکِنَّهُ لا یعنی عدم صحَّة الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة بما هو خارج عن ذاتها وذاتیاتها. أی: قصر النَّظَر فِی الْمَاهِیَّة المهملة عَلَیٰ الذّات والذاتیات لا یعنی بوجهٍ من الوجوه أَنَّهُ لا یصحّ الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة المهملة بما هو خارج عن الذّات والذاتیات (أی: بالعرضی)؛ لأَنَّ قصر النَّظَر فِی الْمَاهِیَّة عَلَیٰ الذّات والذاتیات إِنَّمَا هو بِالنَّظَرِ التَّصوُّریّ المحض، لکن لَیْسَ معنی ذلک عدم إمکانیة النَّظَر إلی هذه الْمَاهِیَّة نفسها بنظرة أخری غیر النَّظَر التَّصوُّریّ المحض کالنظرة التصدیقیة؛ فَإِنَّهَا ممکنة للماهیَّةِ بأن ننظر إلی «الإنسان» بالنظرة الحملیة التصدیقیة، وحینئِذٍ فإن أردت أن تحمل شیئاً عَلَیٰ الإنسان فِی مرتبة ذاته تحمل علیه الحیوانیة والناطقیة، فهذا شیء زائد عَلَیٰ النَّظَر التَّصوُّریّ؛ فَإِنَّ فِی النَّظَر التَّصوُّریّ لا یوجد حمل أساساً ولا یحمل شیء عَلَیٰ الإنسان، وإنَّما یُتَصَوَّر الإنسانُ. ولکن فِی النَّظَر التَّصدیقیّ یُحمل شیء عَلَیٰ الإنسان، لکن یُحمل شیء عَلَیٰ الْمَاهِیَّة فِی مرتبة ذاتها، فلا یصحّ الحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة بالعرضی؛ لأَنَّ هذا حمل فِی مرتبة الذّات والعرضی لَیْسَ فِی مرتبة الذّات.

ص: 88

وأخری تنظر إلی ماهیَّة الإنسان بِالنَّظَرِ الحملی التَّصدیقیّ الَّذی ترید فیه أن تحمل شیئاً عَلَیٰ ماهیَّة الإنسان لا فِی مرحلة الذّات بل عَلَیٰ ماهیَّة الإنسان کواقع من الواقعیات، فهنا یصحّ أن تحمل عَلَیٰ الإنسان حتّی العَرضیّ؛ لأَنَّ الإنسان کواقع یتّصف بالعرضی أیضاً کما أَنَّهُ یتّصف بذاتیاته، فنقول: «قصیر» و«طویل» و«عالم» و«جاهل» و«فقیر» و«غنی».

إذن، فمجرّد القول بأَنَّهُ لطالما أن النَّظَر فِی الْمَاهِیَّة المهملة مقصور عَلَیٰ الذّات والذاتیات، بینما الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ یُحمل علیها العَرضیّ، فلیس معنی ذلک أن الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ هی غیر الْمَاهِیَّة المهملة. فالماهیة المهملة هی عین الْمَاهِیَّة الملحوظة بلحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ (عین ذات الملحوظ ولیس مع أخذ اللِّحَاظ فیه کقید)، ولا یتنافی هذا مع قولهم: «إن الْمَاهِیَّة المهملة یُقصر النَّظَر فیها عَلَیٰ ذاتها وذاتیاتها» ولا یتنافی مع ما نری من أَنَّهُ یحکم عَلَیٰ الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ بالعرضی؛ فَإِنَّ کل هذا شیء واحد (تارةً یُسمی بالماهیة المهملة وأخری باللابشرط الْقِسْمِیّ) ولکن تارةً یُتَصَوَّر وأخری یحکم علیه، إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. والحکم أیضاً تارةً فِی ذاتها وذاتیاتها وأخری یحکم علیه بالعرضیات، ولٰکِنَّهُ شیء واحد، ولا یوجد دلیل عَلَیٰ الاثنینیة، وما ذکرتموه من أَنَّهُ «بما أنهم ذکروا فِی خاصیات الْمَاهِیَّة المهملة أَنَّهُ یُقصر النَّظَر فیها عَلَیٰ الذّات والذاتیات ولا یصحّ أن یحکم علیها بالعرضی، بینما نری أن الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ یحکم علیها بالعرضی، إذن یُبیّن أن هذا غیر ذاک» غیر تامّ.

إذن، هذا تمام الکلام فِی النُّقْطَة الثَّانیة من النقاط الثَّلاث الَّتی طرحناها للبحث، وهی أن الْمَاهِیَّة المهملة هل هی عین اللابشرط الْمَقْسَمِیّ أو هی عین اللابشرط الْقِسْمِیّ أو هی شیء ثالث؟ فقد اتَّضَحَ أن الصَّحِیح أن الْمَاهِیَّة المهملة عین الْمَاهِیَّة الملحوظة باللحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ، خلافاً لما قالوه. بعد ذلک ننتقل إلی النُّقْطَة الثَّالثة.

ص: 89

النُّقْطَة الثَّالثة: تحقیق المعنی الَّذی وضع له اسم الجنس لغةً. فهل أن اسم الجنس مَوْضُوع فِی اللُّغَة لذات الْمَاهِیَّة وَالطَّبِیعَة (فمن الآنَ وصاعداً نعبر عن الْمَاهِیَّة المهملة بالمهملة أو الطَّبِیعَة أو الکلّی الطَّبِیعِیّ، فقد تبین أن کُلّهَا واحد) أو أَنَّهُ مَوْضُوع للماهیَّةِ المطلقة؟ وندرس هذه النُّقْطَة ضمن خطوات:

الخطوة الأولی: لماذا یختصّ هذا البحث باسم الجنس؟ الجواب واضح؛ لأَنَّهُ لا یوجد فِی مقابل اسم الجنس من الأسماء إلاَّ اسم العَلَم (کأسماء الأعلام للأمکنة والأزمنة والأشخاص)، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ اسم العلم غیر مَوْضُوع لِلطَّبِیعَةِ أساساً حتّی نبحث عن أَنَّهُ هل وُضع لِلطَّبِیعَةِ المهملة أو وضع لِلطَّبِیعَةِ المطلقة؟ ومن هنا اختص بحثنا باسم الجنس.

الخطوة الثَّانیة: فِی أن اسم الجنس لَیْسَ مَوْضُوعاً للماهیَّةِ اللابشرط الْمَقْسَمِیّ؛ لأَنَّهُ - کما عرفنا خلال البحوث السَّابِقَة - جامع بین اللحاظات الذِّهْنِیَّة، ولیس جامعاً بین الأفراد الخارجیة؛ لأَنَّهُ معقول ثانوی یجمع الموجودات فِی وعاء المعقولات الأولیة، بینما الألفاظ فِی اللُّغَة لیست موضوعة للأمور الذِّهْنِیَّة بما هی ذهنیة. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. کما أَنَّهُ لا شکّ أیضاً فِی أن اسم الجنس لَیْسَ مَوْضُوعاً للماهیَّةِ الملحوظة بلحاظ بشرط شیء، ولا للماهیَّةِ المأخوذة بشرط لا؛ فَإِنَّ لفظ «الإنسان» لَیْسَ مَوْضُوعاً للإنسان المقیَّد بالعلم، کما أَنَّهُ لَیْسَ مَوْضُوعاً للإنسان المقیِّد بعدم العلم. إذن، یَتَعَیَّنُ أن نقول: «إن اسم الجنس مَوْضُوع للماهیَّةِ الملحوظة بلحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ».

إلی هنا لا ینبغی الإشکال فیه، وإنَّما الکلام والخلاف فِی نقطة أخری وهی أَنَّهُ لطالما أن اسم الجنس مَوْضُوع للابشرط الْقِسْمِیّ بلا إِشْکَال، نرید أن نعرف هل أَنَّهُ مَوْضُوع للابشرط الْقِسْمِیّ مع حدّه الَّذی یتمیز به (وحدّه عدم اللِّحَاظ، أی: عدم لحاظ وجود القید وعدم لحاظ فقدان القید، أی: الْمَاهِیَّة مع حدّ الإطلاق)، أی: هل أن هذا الحدّ الإِطْلاَقیّ داخل أیضاً فِی المعنی الَّذی وضع له اسم الجنس لغة، بحیث أن لفظ «الإنسان» وضع لماهیة الإنسان المطلقة. أی: یَدُلّ لفظ «الإنسان» بِالدِّلاَلَةِ الوضعیَّة عَلَیٰ الإِطْلاَق، بحیث أَنَّنَا نستفید الإِطْلاَق من الْمَدْلُول الوضعیّ لِلْکَلِمَةِ، مِنْ دُونِ حاجة إلی قرینة الحِکْمَة، لیصبح کالعموم، أو أن اسم الجنس وضع للماهیَّةِ الملحوظة للابشرط الْقِسْمِیّ لکن مِنْ دُونِ حدّه هذا. هذا هو البحث الَّذی أمامنا. والحمد لله رب العالمین. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1157 کلمة.

ص: 90

معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: معنی المطلق/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی معنی «المطلق» ونقصد به «اسم الجنس»، وکنا بصدد معرفة أَنَّهُ وضع لغة لأی شیء؟ قلنا بالأَمْسِ: لا شکّ فِی أن اسم الجنس لَیْسَ مَوْضُوعاً فِی اللُّغَة للماهیَّةِ الملحوظة بنحو اللِّحَاظ اللابشرط الْمَقْسَمِیّ؛ لأَنَّ ذاک جامع بین الوجودات الذِّهْنِیَّة ولیس جامعاً بین الوجودات الخارجیة، بینما الألفاظ توضع فِی اللُّغَة للمعانی الجامعة بین الأفراد والمصادیق الموجودة فِی الخارج. إذن، فهذا اللَّفظ لَیْسَ مَوْضُوعاً للابشرط الْمَقْسَمِیّ. کما أَنَّهُ لا إِشْکَال أَنَّهُ لَیْسَ مَوْضُوعاً للماهیَّةِ الملحوظة بشرط شیء ولا للماهیَّةِ الملحوظة بشرط لا؛ لأَنَّ کلتا هَاتَیْنِ الْمَاهِیَّتین ماهیَّة مقیَّدة، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ اللَّفظ لَیْسَ مَوْضُوعاً فِی اللُّغَة لمعنیً مع قیدٍ؛ فَإِنَّ القید لَیْسَ دخیلاً فِی حاقّ معنی اللَّفظ، فعلی سبیل المثال إن قید «البلوغ» لَیْسَ دخیلاً فِی حاقّ مفهوم «البیع»، بحیث یکون مفهوم البیع عبارة عن بیع البالغ.

إذن، بعد إبعاد اللابشرط الْمَقْسَمِیّ وإبعاد البشرط شیء والبشرط لا، یبقی عندنا شیء واحد وهو الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ، فیتعین أن یکون اسم الجنس مَوْضُوعاً لها. إلی هنا واضح ولا إِشْکَال فیه ولا خلاف، إِنَّمَا الکلام والخلاف فِی أن هذه الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ لها حدّ وقید وقیدها الإِطْلاَق وعدم الحدّ واللابشرطیة (کما تقدّم)، فهذا أیضاً داخل فِی المعنی الَّذی وضع له اسم الجنس، بحیث أن اسم الجنس مثل لفظ «البیع» أو «الإنسان» مَوْضُوع للماهیَّةِ المطلقة. وعلیه فَسَوْفَ نستفید الإِطْلاَق من اللَّفظ نفسه، ومن الدِّلاَلَة الوضعیَّة لاسم الجنس نفسها، فلا نحتاج إلی قرینة کقرینة الحِکْمَة أو غیرها لاستفادة الإِطْلاَق؛ لأَنَّ حالة الإِطْلاَق واللابشرطیة داخلة فِی صمیم المعنی الَّذی وضع له اسم الجنس.

ص: 91

هل هکذا، أو أن اسم الجنس (الَّذی قلنا لا إِشْکَال فِی أَنَّهُ مَوْضُوع للابشرط الْقِسْمِیّ) مَوْضُوع لذات الْمَاهِیَّة المرئیة برؤیة اللابشرط، بحیث تکون اللابشرطیة خارجة عن صمیم المعنی الَّذی وضع له اسم الجنس. بناء عَلَیٰ هذا یکون اسم الجنس مَوْضُوعاً للجامع بین المطلق والْمُقَیَّد؛ لأَنَّ ذات الْمَاهِیَّة محفوظة وموجودة فِی المطلق کما أنَّها محفوظة فِی المقیَّد، وقد فرغنا أن اللَّفظ مَوْضُوع لذات الْمَاهِیَّة الملحوظة والمرئیة، وذات الملحوظ والمرئی موجود فِی المطلق ومحفوظ فِی المقیَّد أیضاً، فقد تقدّم سابقاً أن الْمَاهِیَّة المرئیة بالرؤیة الثَّالثة نفسها جامعة بین المرئی بالرؤیتین الأولیین. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. فإذا کان اللَّفظ مَوْضُوعاً لهذا الجامع، فلا یَدُلّ اللَّفظ بنفسه عَلَیٰ الإِطْلاَق، کما لا یَدُلّ عَلَیٰ التَّقْیِید، بل یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة، أَمَّا إذا أردنا أن نستفید التَّقْیِید فنحتاج إلی قرینة، کما أن استفادة الإِطْلاَق بحاجة إلی القرینة أیضاً. وحینئِذٍ یجب البحث عن القرینة الَّتی تساعدنا عَلَیٰ فهم الإِطْلاَق، فنضطر إلی اللجوء إلی مقدّمات الحِکْمَة.

فذلکة الکلام هی أَنَّهُ یصحّ أن اسم الجنس مَوْضُوع للماهیَّةِ اللابشرط الْقِسْمِیّ، لٰکِنَّهُ هل هو مَوْضُوع لخصوص الْمَاهِیَّة المطلقة بحیث أن الإِطْلاَق داخل فِی المعنی الْمَوْضُوع له، أم أَنَّهُ مَوْضُوع للجامع بین المطلق والمقیَّد. والکلام فِی هذه النُّقْطَة یقع فِی مقامین:

المقام الأوّل: فِی البحث الثُّبوتیّ حول إمکان وضع اسم الجنس لأی واحد من هذین، فهل یعقل وضع اسم الجنس لخصوص المطلق؟ وهل یمکن ثبوتاً وَعَقْلاً وضع اسم الجنس للجامع بین المطلق والْمُقَیَّد أو لا یمکن؟

المقام الثَّانِی: فِی البحث عن الدَّلِیل الإثباتیّ لما تمخض من المقام الأوّل من إمکانیة وضع اسم الجنس لخصوص المطلق أو تعقّل وضعه للجامع بینهما.

ص: 92

أَمَّا المقام الأوّل: فیوجد فیه إِشْکَالاَن ثبوتیان:

الإشکال الأوّل: حول فرضیة وضع اسم الجنس لخصوص المطلق، حیث یرید أن یثبت استحالة وضعه له عقلاً، لیتعین الآخر.

الإشکال الثانی: عَلَیٰ عکس الأوّل، فهو إِشْکَال عَلَیٰ فرضیة وضع اسم الجنس للجامع بین المطلق والْمُقَیَّد، فیتعین أن یوضع لخصوص المطلق.

أَمَّا الإشکال الثُّبوتیّ الأوّل: فهو الظَّاهِر من کلمات المُحَقِّق الخُراسانیّ، وتوضیحه هو: أن الإِطْلاَق وبعبارة أخری اللابشرطیة أو بعبارة ثالثة: عدم لحاظ القید وجوداً وعدماً، هذا إِنَّمَا هو من القیود الثانویة؛ فقد سبق فِی المقدّمة التمهیدیة أن هناک قیوداً أولیة وهناک قیوداً ثانویة. وَقُلْنَا: إِنَّ القیود الأولیة هی الخُصُوصِیّات الخارجیة، کخصوصیة العلم الموجودة فِی الإنسان العالم، أو کخصوصیة فقدان العلم الموجودة الإنسان اللاعالم. والقیود الثانویة تعنی الصور الذِّهْنِیَّة الَّتی هی مرآة للقیود الأولیة، أی: لحاظ صفة العلم، لا العلم نفسه الموجود فِی الخارج فِی الإنسان العالم.

فهناک قیود أولیة وهی الصِّفات الخارجیة الَّتی تجعل الوجودات الخارجیة متقابلةً، کَمَا أَنَّ هُنَاکَ قیودات ثانویة وهی الصُّوَر الذِّهْنِیَّة الَّتی تجعل الصُّوَر الذِّهْنِیَّة متقابلة (کلحاظ شیء یعنی بشرط شیء، ولحاظ عدم شیء أی: بشرط لا، وعدم اللحاظین).

حینئذٍ یقول الخُراسانیّ إِنَّ اللابشرطیة (أو الإِطْلاَق) قید ثانوی مثل البشرط شیء والبشرط لا، فهی من شؤون اللِّحَاظ نفسه والرؤیة نفسها، ولیس من شؤون الملحوظ (أی: المرئی وَالْمَاهِیَّة نفسها) وهی قید للحاظ. وحینئِذٍ إذا جعلنا هذا القید الثانوی قیداً فِی صمیم المعنی الَّذی وضع له اسم الجنس، کما هو الفرض؛ لأَنَّ هذا الإِطْلاَق کما قلنا من شؤون اللِّحَاظ، ولیس من شؤون الْمَاهِیَّة، فإذا جعلنا الإِطْلاَق قیداً فِی المعنی الَّذی وضع له اسم الجنس فَسَوْفَ یصبح المعنی الَّذی وضع له اسم الجنس معنیً مقیّداً بأمر ذهنی هو قید الإِطْلاَق وقید اللابشرطیة، وهذا المعنی المقیَّد بقید ذهنی غیر موجود فِی الخارج ویستحیل أن یوجَد فِی الخارج. فتصبح أسماء الأجناس موضوعةً لمعانٍ ذهنیة فقط، لا تنطبق عَلَیٰ المصادیق والأفراد الخارجیة؛ لأَنَّ شرط الانطباقِ والحملِ والصدقِ هو الاتحادُ فِی الوجود، وهذان غیر متحدین فِی الوجود (لأَنَّ الْمَاهِیَّة المطلقة موجودة فِی الذِّهْن بینما الْمَاهِیَّة الموجودة فِی الخارج لیست مطلقة بل مقیدة بالعلم أو مقیَّدة بعدم العلم). فهذا یَدُلّ عَلَیٰ استحالة أن یکون اسم الجنس وضع لغةً لماهیة مطلقة؛ لأَنَّ معنی اسم الجنس منطبق عَلَیٰ الخارج بینما الْمَاهِیَّة المطلقة بحدها الإطلاقی یمتنع انطباقها عَلَیٰ الخارج( (1) ). وإلیک نص کلام الخُراسانیّ:

ص: 93


1- (1) - الخُراسانیّ، کفایة الأصول: ص 224.

«وبالجملة الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنی وصرف المفهوم الغیر الملحوظ معه شیء أصلا [حتی عدم لحاظ شیء] الذی هو المعنی بشرط شیء، ولو کان ذاک الشیء هو الإرسال والعموم البدلی، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شیء معه الذی هو الماهیة اللابشرط القسمی، وذلک لوضوح صدقها بما لها من المعنی، بلا عنایة التجرید عما هو قضیة الاشتراط والتقیید فیها، کما لا یخفی، مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم علی فرد من الأفراد، وإن کان یعم کل واحد منها بدلاً أو استیعاباً، وکذا المفهوم اللابشرط القسمی؛ فإنه کلی عقلی

لا موطن له إلا الذهن لا یکاد یمکن صدقه وانطباقه علیها

[أی: علی الأفراد والمصادیق الخارجیة]، بداهة أن مناطه [أی: مناط الصدق والانطباق هو] الاتحاد بحسب الوجود خارجاً، فکیف یمکن أن یتّحد معها [أی: مع الأفراد الخارجیة] ما لا وجود له إلا ذهناً؟!»

هذا الإشکال غیر تامّ؛ لأَنَّ الإِطْلاَق واللابشرطیة وإن صَحَّ أَنَّهُ قید ثانوی ومن شؤون اللِّحَاظ نفسه ومن شؤون الصُّورَة الذِّهْنِیَّة للماهیَّةِ ولیس من شؤون الْمَاهِیَّة نفسها - کما تقدّم - وإن صَحَّ أیضاً أَنَّهُ لو أخذ هذا الإِطْلاَق قیداً فِی المعنی الْمَوْضُوع له کانت النَّتِیجَة عبارة عن أن المعنی الْمَوْضُوع له عبارة عن أن المعنی الْمَوْضُوع له عبارة عن معنی ذهنی، لکن مع ذلک نقول: لا مَحْذُور عقلی فِی أن نفترض أن الواضع قد وضع اسم الجنس لخصوص الْمَاهِیَّة المطلقة، وذلک بناء عَلَیٰ ما اخترناه فِی حقیقة الوضع المتقدّم قبل سنین من أن الوضع عبارة عن القرن الأکید (الَّذی یوجِده الواضع بین اللَّفظ وبین صورة المعنی فِی الذِّهْن، بحیث یصبح اللَّفظ سبباً لإثارة صورة المعنی فِی ذهن السَّامِع) فلا مَحْذُور فِی أن یوجِد الواضع رَبْطاً سببیاً بین لفظ الإنسان وبین تلک الصُّورَة المطلقة عن ماهیَّة الإنسان وهی الصُّورَة الثَّالثة من الصور الذِّهْنِیَّة وهی الَّتی سمیناها باللابشرط الْقِسْمِیّ. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. فیأتی الواضع ویربط لفظ «الإنسان» بهذه الصُّورَة المطلقة عن ماهیَّة الإنسان، بحیث سَمَاع لفظ «الإنسان» یوجب إثارة هذه الصُّورَة الخالیة عن القید فِی الذِّهْن، وهذه الصُّورَة قابلة للحکایة عن الخارج، وهذا معنی انطباق مدالیل الألفاظ عَلَیٰ مصادیقها. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الصُّورَة الخالیة عن القید لماهیة الإنسان قابلة للحکایة عن الخارج، فینطبق مدلول اللَّفظ عَلَیٰ مصادیق وأفراده الخارجیة، بلا أی مَحْذُور.

ص: 94

وَالْحَاصِلُ أَنَّ وضع اسم الجنس لخصوص المطلق لا یعنی أن المعنی أصبح مقیَّداً بقید ذهنی؛ لأَنَّ حقیقة الوضع عندنا إیجاد العُلقة بین اللَّفظ وصورة المعنی فِی الذِّهْن، فعندما نَقُول: إِنَّ اسم الجنس وضع للماهیَّةِ نعنی أَنَّهُ وُجد ربط بین لفظ الإنسان وبین صورة ماهیَّة الثَّالثة المطلقة للإنسان فِی الذِّهْن.

إذن فهذا الإشکال الثُّبوتیّ الأوّل حول فرضیة وضع اسم الجنس لخصوص اسم الجنس، غیر تامّ، بعد ذلک یجب أن ننتقل إلی الإشکال الثُّبوتیّ الثَّانِی حول الْفَرَضِیَّة الأخری القائلة بأن اسم الجنس وضع للجامع بین المطلق والْمُقَیَّد. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.1300 کلمة.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نتحدث قبل العطلة عن المطلق (عن معنی اسم الجنس) فذکرنا فِی السِّیَاق أنّ هناک ثلاثَ نقاط لا بُدَّ من بیانها، ثم درسنا نقطتین منها وانتهینا إلی النُّقْطَة الثَّالثة حول معرفة المعنی الَّذی وضع له اسم الجنس فِی اللُّغَة:

1- فهل وُضع لذات الطَّبِیعَة وَالْمَاهِیَّة؟ أم وُضع للماهیّة وَالطَّبِیعَة المطلقة (بأن یکون الإِطْلاَقُ دخیلاً فِی المعنی الْمَوْضُوع له). مثلاً إن لفظ «الإنسان» هل وُضع لذات ماهیَّة الإنسان وطبیعته؟ لیکون معناه عدم أخذ معنی الإِطْلاَق ولا أی قید آخر فِی صمیم المعنی الْمَوْضُوع له (بل ذات الْمَاهِیَّة هی الْمَوْضُوع له وهو الجامع بین المطلق والْمُقَیَّد)، فلا یکون الإِطْلاَقُ مدلولاً وَضْعِیّاً للکلمة، وحینئِذٍ علینا أن نلتمس الإِطْلاَق من طریق آخر غیر الوضع.

2- أم أن اللَّفظَ وُضع للماهیة المطلقة بأن یَدُلّ وَضْعاً عَلَیٰ الإِطْلاَق؟ وهذا هو محلّ البحث فِی هذه النُّقْطَة.

ص: 95

طبعاً قلنا: إن مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ اسم الجنس لَیْسَ مَوْضُوعاً للماهیة اللابشرط الْمَقْسَمِیّ (وَالَّذِی تقدّم شرحه سابقاً)؛ لأَنَّ الْمَاهِیَّة اللابشرط الْمَقْسَمِیّ جامع بین اللحاظات الذِّهْنِیَّة (وهی 1- لحاظ اللابشرط الْقِسْمِیّ و2- لحاظ بشرط لا و3- لحاظ بشرط شیء)، بینما لا تُوضع الألفاظُ للأمور الذِّهْنِیَّة بما هی ذهنیة لا تنطبق عَلَیٰ الخارج کما هو شأن اللابشرط المقسمی، بل تُوضع للمعانی المنطبقة عَلَیٰ الخارج. إذن، من المقطوع به أن اسم الجنس لَیْسَ مَوْضُوعاً للابشرط الْمَقْسَمِیّ وکذلک لَیْسَ مَوْضُوعاً للماهیة «بشرط شیء» ولا للماهیة «بشرط لا». فعلی سبیل المثال لا یَکُونَ لفظ «الإنسان» مَوْضُوعاً لخصوص الإنسان بشرط العدالة بحیث لا یکون الإنسان الفاسق إنساناً، کما أَنَّهُ لَیْسَ مَوْضُوعاً للماهیة بشرط لا أی: بشرط عدم العدالة (وهو الإنسان الفاسق)، ولا أَنَّهُ مَوْضُوع للماهیة باللابشرط الْمَقْسَمِیّ، فیتعین أن یکون مَوْضُوعاً للماهیة اللابشرط الْقِسْمِیّ (لا الْمَقْسَمِیّ). إلی هنا واضح ولا غبار علیه، وإِنَّمَا الکلام فِی نقطتین:

النُّقْطَة الأولی: اسم الجنس هل هو مَوْضُوع للماهیة اللابشرط الْقِسْمِیّ بحدّه (أی: مع حدّه، والحد هو اللابشرطیة والإطلاق، أی: عدم لحاظ وجود القید وعدم لحاظ عدم القید)؟ وعلیه فَسَوْفَ یکون اسم الجنس مَوْضُوعاً لِلطَّبِیعَةِ المطلقة؛ لأَنَّ الحدّ وهو الإِطْلاَق دخل فِی المعنی الْمَوْضُوع له والْمَدْلُول الوضعیّ لِلْکَلِمَةِ. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه إذن، الوضع یَدُلّ علی الإِطْلاَق. أم أن اسم الجنس مَوْضُوع للماهیة اللابشرط الْقِسْمِیّ لکن لا مع حدّه، بل ذات الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو لحاظ اللابشرطی، مِنْ دُونِ أن یکون هذا اللِّحَاظ دخیلاً فِی المعنی الْمَوْضُوع له. هذا اللِّحَاظ عبارة عن لحاظ الْمَاهِیَّة، واسم الجنس مَوْضُوع لنفس الْمَاهِیَّة، لا للماهیة مع لحاظها (الَّذی هو لحاظ لا بشرطی)، أی: نفس المرئی، لا المرئی مع کیفیَّة رؤیته؛ إِذْ أَنَّ کیفیَّة الرُّؤْیَة هی الإِطْلاَق واللابشرطیة عَلَیٰ ما تقدّم من أنّ رؤیة الْمَاهِیَّة تَتُِمّ بإحدی الأنحاء الثَّلاثة:

ص: 96

1- تارةً تَتُِمّ بکیفیة إطلاقیة.

2- وأخری تَتُِمّ بکیفیة بشرط شیئیة.

3- وثالثةً تَتُِمّ بکیفیة بشرط لائیة.

فهذه الأنحاء الثَّلاثة هی کَیفِیَّات لرؤیة الْمَاهِیَّة، وأمّا المرئی فهو الْمَاهِیَّة. إذن، اللَّفظ مَوْضُوع لذات المرئیّ مِنْ دُونِ أَنْ تَکُونَ کیفیَّة الرُّؤْیَة دخیلةً فِی المعنی الَّذی وُضع له اسمُ الجنس.

إذا قلنا بهذا الکلام، فمعنی ذلک أن اسم الجنس مَوْضُوع لذات الْمَاهِیَّة وهی الطَّبِیعَة الجامعة بین المطلق والْمُقَیَّد. فهذا هو محلّ الکلام، وإلا فلا إِشْکَال فِی أصل أن الْمَاهِیَّة موضوعة للابشرط الْقِسْمِیّ، وإنَّما الخلاف فِی أَنَّهُ مَوْضُوع للابشرط الْقِسْمِیّ بحدّه أو أَنَّهُ مَوْضُوع لذات الْمَاهِیَّة اللابشرط الْقِسْمِیّ مِنْ دُونِ أن یتدخل الحدّ. هنا قلنا لا بُدَّ من البحث فِی مقامین:

المقام الأوّل: فِی البحث الثُّبوتیّ عن أَنَّهُ هل یمکن ثبوتاً وَعَقْلاً وضعُ اللَّفظ ووضع اسم الجنس للماهیة المطلقة؟ وهل یمکن ثبوتاً وَعَقْلاً وضعُ اللَّفظ (= اسم الجنس) للماهیة الجامعة بین المطلق والْمُقَیَّد أو أن هناک مَحْذُور عقلی؟

المقام الثَّانِی: فِی البحث الإثباتیّ عن أَنَّهُ بعد أن ثبتت إمکانیة الفرضین ثبوتاً وَعَقْلاً، فعلی أیهما یَدُلّ الدَّلِیل إثباتاً؟

أَمَّا المقام الأوّل: فقد أسلفنا أن هناک إشکالین ثبوتیین یطرح کل واحد منهما بوجه فرض من ذینک الفرضین. الإشکال الثُّبوتیّ الأوّل هو ما طرحه صاحب الکفایة عَلَیٰ الفرض الأوّل وهو أنْ یکون اسم الجنس مَوْضُوعاً لخصوص الْمَاهِیَّة المطلقة. هذا ما طرحناه قبل العطلة وأجبنا عنه وانتهینا إلی النَّتِیجَة التالیة: لا مَحْذُور ثُبُوتِیّ فِی أن یضع الواضعُ اسم الجنس لخصوص الْمَاهِیَّة المطلقة (أی: اللابشرط الْقِسْمِیّ بحدّه، بحیث یکون الإِطْلاَق دخیلاً فِی المعنی الْمَوْضُوع له).

ص: 97

انتهینا إلی الإشکال الثُّبوتیّ الآخر الَّذی یواجه الفرض الآخر، وهو أنْ یکون اسم الجنس مَوْضُوعاً لذات الْمَاهِیَّة الجامعة بین المطلق والْمُقَیَّد. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الإشکال عَلَیٰ عکس ذاک الإشکال الثُّبوتیّ، حیث أَنَّهُ یرید القول بأَنَّهُ یستحیل أن یوضع اسم الجنس للجامع بین المطلق والْمُقَیَّد؛ وذلک لأَنَّ هذا الجامع لا یمکن لحاظُه وتصوره فِی الذِّهْن بما هو جامع (أی: بحدّه) عَلَیٰ أن یأتی دلیله قَرِیباً، وإذا استحال تصوّره فِی الذِّهْن استحال وضع اللَّفظ له؛ إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه لأَنَّ الوضع متوقّف عَلَیٰ أن یتصوّر الواضعُ اللَّفظَ ویتصور المعنی حتّی یمکنه أن یضع اللَّفظ له؛ لأَنَّ الوضع حکمٌ یُصدره الحاکمُ عَلَیٰ کلّ من اللَّفظ والمعنی، أَمَّا إذا کان معنی من المعانی مستحیل التَّصَوُّر إذن یستحیل وضعُ اللَّفظ له.

یبقی علیکم أن تسألوه لماذا لا یمکن أن یتصوّر الواضع هذا الجامع بین المطلق والْمُقَیَّد بما هو جامع؟

یقول فِی الجواب: لا یحضر هذا الجامع بحدّه (أی: بما هو جامع) إلی الذِّهْن؛ لأَنَّهُ بمجرّد أن یأتی إلی الذِّهْن إما یأتی معه قیدٌ وإما لا یأتی معه قید، ولا یوجد شق ثالث. فعلی الأول أصبح مقیّداً وعلی الثَّانِی أضحی مطلقاً وبالتالی لم یحضر إلی الذِّهْن الجامعُ بین المطلق والْمُقَیَّد. ولطالما الجامعُ هذا لا یمکن أن یوجد فِی الذِّهْن لا فِی ضمن المطلق ولا فِی ضمن المقیِّد، أی: أن یوجد فِی الذِّهْن مِنْ دُونِ أن یُلحظ معه قید ولا مِنْ دُونِ أن لا یلحظ معه قید، فکیف یمکن تصوّره؟ وهذا معناه ارتفاع النقیضین وهو مستحیل.

إذن، لا یمکن أن یوجد هذا فِی الذِّهْن إلا فِی ضمن المطلق أو المقیَّد، إذن یستحیل وجودُه مستقلاًّ عن المطلق والْمُقَیَّد فِی الذِّهْن، إذن یستحیل تصوّره مستقلاًّ، إذن یستحیل وضع اللَّفظ له مستقلاًّ. إذن، الْفَرَضِیَّة القائلة بأن اسم الجنس مَوْضُوع فِی اللُّغَة للجامع بین المطلق والْمُقَیَّد مستحیلة؛ لأَنَّ تصوّر هذا الجامع غیر معقول.

ص: 98

هذا هو الإشکال الثُّبوتیّ الَّذی یواجهه الشق الثَّانِی أو الفرض الثَّانِی.

وقد یجاب عن هذا الإشکال: بأن هذا الجامع وإن کان مستحیلاً وجودُه فِی الذِّهْن مستقلاًّ، إلاَّ أَنَّنَا لا نقبل أَنَّهُ یستحیل وضعُ اللَّفظ له مِن قِبَلِ الواضع؛ لأَنَّهُ وإن صَحَّ قولُکم من أنَّه لا بُدَّ للواضع من أن یتصوّر اللَّفظ ویتصور المعنی (یستحضر اللَّفظ ویستحضر المعنی) ولکننا لا ننسی ما ذکرناه فِی بحث الوضع من أَنَّهُ:

تارةً: یکون الوضعُ خاصّاً والموضوع له خاصّاً وذلک کأسماء الأعلام (مثل أسماء الأشخاص وأسماء الأماکن وغیرهما).

وأخری: یَکُونُ الوضعُ عامّاً والموضوع له عامّاً کما فِی أسماء الأجناس.

وثالثةً: یکون الوضع عامّاً لکن الْمَوْضُوع له خاصّ کالحروف والهیئات. أی: عندما أراد الواضع أن یضع لفظةَ «فِی» لهذا المعنی (الَّذی نفهمه من کلمة «فِی» وهو الظرفیة) استحضر فِی ذهنه مفهوماً عامّاً (وهو مفهوم الظرفیة، لٰکِنَّهُ مفهوم اسمی ولیس مترادفاً مع «فِی» وإلا لَصَحَّ استعمال هذا فِی مکان کلمة «فِی» وبالعکس) لکن حینما یرید أن یضع لفظ «فِی» یضعها لأفراد ومصادیق وواقع الظَّرفیّات الموجودة خارجاً فالموضوع له خاصّ والوضع عامّ.

وحینئِذٍ نسأل هل أن الواضع تصوّر هذه الظَّرفیّات أم لم یتصوّر؟ إن قلتم بأَنَّهُ لم یتصورها فکیف یضع لها اللَّفظ؛ لأَنَّ الوضع حکم والحکم یحتاج إلی تصوّر وإن لم یتصوّر المعنی لا یمکنه وضع اللَّفظ له؟ وإن قلتم بأَنَّهُ تصوّرها فَیَکُونُ تصوّره من خلال تصوّر وجهها وعنوانها (من خلال العنوان المشیر) وهذا المقدار یکفی فِی باب الوضع ولا یشترط فِی باب الوضع أن یتصوّر الواضعُ المعنی بنفسه (أی: یحضر المعنی نفسَه إلی الذِّهْن)، وهذا المقدار هو أن عَلَیٰ الواضع إما أن یتصوّر المعنی لوضع اللَّفظ له وإما أن یتصوّر العنوان المشیر إلی ذاک المعنی لکی یمکنه وضع اللَّفظ له.

ص: 99

وحینئِذٍ نأتی بالکلام نفسه إلی المقام ونقول: إن کلامکم القائل ب_«استحالة استحضار الجامع بین المطلق والْمُقَیَّد» صحیح کما أن الظَّرفیّات الخارجیة لا تحضر إلی الذِّهْن؛ لأَنَّ تلک الظرفیة الموجودة بین هذا الماء وهذا الإناء متکونة من طرفیها، وبمجرد أن یزول الماء أو الإناء تتبخر تلک الظرفیة، لکن تلک الظَّرفیّات أتت إلی الذِّهْن من خلال عنوانها المشیر إلیها، وهذا المقدار کان کافیاً فِی باب الوضع، وهنا فِی أسماء الأجناس أیضاً یجب أن نقول بکفایته وبأن اسم الجنس مَوْضُوع للماهیة الجامعة بین المطلق والْمُقَیَّد، إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه ولکن یستحیل وجود هذا الجامع بحدّه فِی الذِّهْن - کما قال صاحب الإشکال - لأَنَّهُ بمجرّد الحضور إلی الذِّهْن یزول حدّه لصیرورته إما مطلقاً وإما مقیّداً، لکن لَیْسَ من الضروری أن یستحضر الواضعُ هذا الجامعَ بنفسه حتّی یضع اللفظَ له، بل له أن یستحضر هذا الجامع من خلال عنوان اسمی مشیر إلیه، وهذا العنوان عبارة عن «الجامع بین المطلق والْمُقَیَّد»، کما أن واقع الظَّرفیّات هناک لم یکن بإمکانه أن یحضر إلی الذِّهْن، لکن ذاک العنوان الاِسْمِیّ (= الظرفیة) کان عُنْوَاناً مشیراً إلیه، وهنا أیضاً یمکن أن یتصوّر الواضعُ هذا الجامع بین المطلق والْمُقَیَّد من خلال عنوانه المشیر، ثم یضع اللَّفظ لهذا الجامع (أی: للمعنوَن ولیس للعنوان).

هذا الکلام موجود فِی تقریرات السید الهاشمی حفظه اللٰه لبحوث سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله( (1) ) إلاَّ أن هذا الجواب لَیْسَ جواباً عن الإشکال قدر ما هو تسلیم للإشکال؛ لأَنَّ نَتِیجَة هذا الجواب هی أن أسماء الأجناس لا یمکن أَنْ تَکُونَ موضوعة لهذا الجامع بنحو «الوضع العامّ والموضوع له العامّ» وهذا هو الاعتراف بالإشکال بأَنَّهُ یستحیل تصوّر الْمَاهِیَّة الجامعة بین المطلق والْمُقَیَّد وإنَّما قلتم: إما أن اسم الجنس بنحو العامّ والموضوع له العامّ یوضع لخصوص الْمَاهِیَّة المطلقة، وإما أن یوضع للجامع بین المطلق والْمُقَیَّد، لکن بنحو العامّ والموضوع له الخاصّ، وهذا معناه الاعتراف بالإشکال؛ لأنکم قبلتم بأن تصوّر هذا الجامع مستحیل بنفسه ولکن یمکن تصوّره من خلال وَجهه وعنوانه المشیر.

ص: 100


1- (1) - الهاشمی، بحوث فِی علم الأصول: ج3، ص409.

أَمَّا أَنَّهُ هل یمکن تصوّر هذا الجامع بنفسه أو لا یمکن، فسیأتی الکلام عنه غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.1546 کلمة

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی أن اسم الجنس هل یمکن أن یکون مَوْضُوعاً للماهیة وَالطَّبِیعَة بما هی هیَ (الجامع بین المطلق والْمُقَیَّد)؟ فکان هناک إِشْکَال یقول بأَنَّهُ غیر ممکن؛ لأَنَّ الجامع بینهما یستحیل تصوّره ولحاظه فِی الذِّهْن؛ إذ بمجرّد أن یُلحظ فِی الذِّهْن ویُتصور فإما أن یتصوّر مِنْ دُونِ قید وهذا هو الْمَاهِیَّة المطلقة وإما یتصوّر مع قید وهذا هو الْمَاهِیَّة المقیّدة. فلا یوجد جامع بحدّه الجامعی بینهما، وکل ما لا یمکن لحاظه وتصوره لا یمکن وضع اللَّفظ له؛ لأَنَّ الوضع متوقّف عَلَیٰ لحاظ الْمَوْضُوع له وتصوره.

هذا الإشکال أیضاً غیر صحیح کَالإِشْکَالِ الثُّبوتیّ، فَکَمَا أَنَّ الإشکال الثُّبوتیّ الأوّل الَّذی کان یستهدف وضع اسم الجنس لخصوص الْمَاهِیَّة المطلقة لم یکن وارداً، کذلک هذا الإشکال الثُّبوتیّ الَّذی یستهدف وضع اسم الجنس للجامع بین الْمَاهِیَّة المطلقة وَالْمَاهِیَّة المقیّدة، غیر وارد أیضاً؛ وذلک لأَنَّنَا نَقُول: إِنَّ بإمکان الواضع حین الوضع أن یتصوّر الجامع بین المطلق والْمُقَیَّد والجامع هو ذات الْمَاهِیَّة بما هی هیَ. وهذا التَّصَوُّر واللحاظ هو اللِّحَاظ اللابشرط الْمَقْسَمِیّ الآنف الذکر، فبإمکانه أن یتصوّر ذات الْمَاهِیَّة بما هی هیَ ویضع اللَّفظَ للمتصوَّر، بمعزل عن الصُّورَة. یضع اللَّفظ للمرئی مِنْ دُونِ أخذ الرُّؤْیَة نفسها دخیلةً فِی المعنی الْمَوْضُوع له. أی: یضع اللَّفظ لذات المتصوَّر ولذات المرئی، لا للمرئی مع الرُّؤْیَة. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. أجل، إذا أراد أن یضع اللَّفظ للمرئی مع الرُّؤْیَة فَسَوْفَ لا یحصل الجامع بینهما؛ لأَنَّنا إذا لاحظنا المرئی مع کیفیَّة رؤیتها، فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ کیفیَّة الرُّؤْیَة إما تکون مع القید فهذا هو المقیِّد وإما لا تکون مع القید وهذا هو المطلق. لکن کل هذه المشاکل نجمت من أَنَّنَا أردنا أن نُدخل الرُّؤْیَة فِی المعنی الْمَوْضُوع له، ونفترض أن الواضع یرید وضع اللَّفظ مع کیفیَّة رؤیتها. بینما لا مبرِّر لهذا الافتراض؛ إِذْ أَنَّ بإمکان الواضع أن یضع اللَّفظ لذات الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ دخل کیفیَّة لحاظ الْمَاهِیَّة فِی المعنی الْمَوْضُوع له.

ص: 101

إذن، الصَّحِیح هو أَنَّهُ تبین لحد الآنَ أَنَّهُ لا إِشْکَال ثُبُوتِیّ فِی البین لا فِی وضع اسم الجنس لخصوص الْمَاهِیَّة المطلقة، بحیث یکون الإِطْلاَق دخیلاً فِی المعنی الْمَوْضُوع له (هذا الَّذی انتهینا إلیه قبل العطلة)، کما یمکن أن یوضع اللَّفظ للماهیة الأعمّ من المطلقة والمقیدة (أی: الجامع) ولا مَحْذُور عقلی فیه. فلا یوجد مَحْذُور فِی الناحیة الثُّبوتیّة بأن یکون لفظ «الإنسان» مَوْضُوعاً ل_«ماهیة الإنسان المطلقة» بحیث یکون استعمال «الإنسان» فِی فرد خاصّ من الإنسان استعمالا مَجَازِیّاً، فهذا ممکن ومعقول کما أن من المعقول أن یکون لفظ «الإنسان» مَوْضُوعاً ل_«ماهیة الإنسان»، لا ل_«ماهیة الإنسان المطلقة أو المقیّدة».

هذا تمام الکلام فِی المقام الأوّل، أی: فِی البحث الثُّبوتیّ.

أَمَّا المقام الثَّانِی: وهو البحث الإثباتیّ فِی أَنَّهُ ما هو الواقع خارجاً من هذین الفرضین الثبوتیین الممکنین ثبوتاً؟ أی: الواضع وضع اسم الجنس لأی فرض من ذینک الفرضین المعقولین؟ هل وضعه لِلطَّبِیعَةِ المطلقة أو لذات الطَّبِیعَة الجامعة بین المطلق والْمُقَیَّد؟

الصَّحِیح هو الأخیر، حَیْث أَنَّ اسم الجنس مَوْضُوع لغةً لذات الطَّبِیعَة لا لخصوص الطَّبِیعَة المطلقة، فاستعمال اسم الجنس فِی الطَّبِیعَة المطلقة استعمال حقیقی کما أن استعماله فِی الطَّبِیعَة المقیّدة استعمال حقیقی؛ لأَنَّ اسم الجنس مَوْضُوع للأعمّ منهما.

النُّقْطَة الأولی: هی الشَّاهد عَلَیٰ ذلک الوجدان اللُّغَوِیّ وَالْعُرْفِیّ؛ فَإِنَّنَا نری فِی اللُّغَة الملایین من أسماء الأجناس، فلا نری أن اسم الجنس مَوْضُوعاً للإطلاق، ولا یوجد أساساً ذکر للإطلاق، وإنَّما تفسر کلمة مّا بهذه الطَّبِیعَة. ولا یوجد قید الإِطْلاَق؛ فَإِنَّنَا لا نجد ولا فِی مورد واحدٍ أَنْ تَکُونَ اللُّغَة فسرت اسم الجنس فیها بالطبیعة المطلقة. ولم تؤخذ خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق فِی المعنی الْمَوْضُوع له لأسماء الأجناس، وإنَّما المأخوذ فِی معنی أسماء الأجناس هو الطَّبَائِع نفسها وَالطَّبِیعَة ذاتها.

ص: 102

النُّقْطَة الثَّانیة: هی أن الوجدان اللُّغَوِیّ وَالْعُرْفِیّ لابن اللُّغَة یحکم بعدم التَّجوُّز والعنایة فیما لو استعمل متکلمٌ اسمَ الجنس وأراد به نوعاً خاصّاً، کما إذا قال «الماء» وأراد منه ماء دجلة أو ماء الفرات أو ماء النیل، فلا یحس ابن اللُّغَة بتجوز فِی مثل هذا الاستعمال، إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. مثلما إذا اغتسل فِی ماء الفرات وقال: «اغتسلت فِی الماء». بینما لو کان لفظ «الماء» مَوْضُوعاً فِی اللُّغَة لِلطَّبِیعَةِ المطلقة لکان استعماله فِی الطَّبِیعَة المقیّدة استعمالا مَجَازِیّاً، أو مثل «یوم الخمیس» حَیْث أَنَّ کلمة «یوم» اسم جنس استعملناه فِی یوم خاصّ ولم نستعمله فِی ذات الیوم وماهیته، بل استعملناه فِی فرد خاصّ منه، ولکننا لا نشعر فیه بالتجوز، وکذلک «إنسان قرن العشرین» والملایین من الأمثلة. فلو کان الإِطْلاَق دخیلاً فِی المعنی الَّذی وضع له لفظ الإنسان، إذن لکان الاستعمال فِی الطَّبِیعَة المقیّدة استعمالاً مَجَازِیّاً.

فهذا کُلّه شاهد ودلیل عَلَیٰ أن اسم الجنس لَیْسَ مَوْضُوعاً لِلطَّبِیعَةِ المطلقة، وإنَّما هو مَوْضُوع لذات الطَّبِیعَة المنسجمة مع المطلقة والمنسجمة مع المقیّدة، إذن استعمال اللَّفظ فِی المقیّدة حقیقی کما أن استعماله فِی الطَّبِیعَة المطلقة حقیقی أیضاً.

إذن، انتهینا إلی هذه النَّتِیجَة القائلة بأن اسم الجنس بنفسه لا یَدُلّ عَلَیٰ الإِطْلاَق، بل یَدُلّ عَلَیٰ ذات الطَّبِیعَة، أَمَّا الإِطْلاَق فلا نفهمه من «اسم الجنس» نفسه؛ لأَنَّهُ لم یوضع لِلطَّبِیعَةِ مع الإِطْلاَق، فالإطلاق بحاجة إلی قرینة کما أن التَّقْیِید بحاجة إلی قرینة وکلاهما خارجان عن المعنی الْمَوْضُوع له.

أَمَّا کون التَّقْیِید بحاجة إلی قرینة فهو واضح.

وأَمَّا أن الإِطْلاَق أیضاً بحاجة إلی القرینة وإلی ما یَدُلّ علیه. والدّال عَلَیٰ الإطلاق تارةً یکون قرینة خاصّة وهذا قد یحصل فِی بعض الموارد فِی الفقه، أَمَّا إذا لم تکن هناک قرینة خاصّة فنبقی نحن وقرینة عامة تُذکر للإطلاق وهذه القرینة العامة هی الَّتی تُسمی ب_«مقدمات الحِکْمَة» أو ب_«قرائن الحِکْمَة» أو ب_«قرینة الحِکْمَة» وهذا هو الَّذی نبحث عنه - إن شاء اللٰه تعالی - فِی الجهة الثَّانیة من البحث، ولکن قبل الانتقال إلی تلک الجهة ینبغی لنا أن نشیر إلی مطلب آخر وقع الخلاف فیه مِن قِبَلِ الأُصُولِیِّینَ، وهو أن التقابل بین الإِطْلاَق والتقیید من أی قسم من أقسام التقابل؟ هل هو من تقابل الضِّدَّیْن أو من «النقیضین» أو من «العدم والملکة»؟

ص: 103

وطبعاً هذا الخلاف خاصّ بالإطلاق والتقیید الثبوتیین ولا یشمل الإطلاق والتقیید الإثباتیین؛ إِذْ أَنَّهُ لا خلاف فِی الأخیر بل الکل متفق عَلَیٰ أن التقابل بینهما من العدم والملکة. فما المقصود من الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین وما المقصود من الإِطْلاَق والتقیید الإثباتیین؟

أَمَّا المقصود من الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین هو الإِطْلاَق والتقیید فِی عالم اللِّحَاظ، فإن المتصور والملاحَظ حینما یرید أن یتصوّر الْمَاهِیَّة تارةً یتصورها مطلقة وأخری یتصورها مقیدة. وهذا ما نسمیه بالإطلاق والتقیید الثبوتیین.

أَمَّا المقصود من الإِطْلاَق والتقیید الإثباتیین فهو الإِطْلاَق والتقیید فِی عالم «الکلام». إذا ذکر الْمُتِکَلِّم وتلفظ بکلام یَدُلّ عَلَیٰ الْمَاهِیَّة، فإما أن یسکت عن ذکر ما یَدُلّ عَلَیٰ قیدٍ لهذه الْمَاهِیَّة، فهذا هو الإِطْلاَق الإثباتیّ، أی: السُّکوت فِی عالم الکلام عن ذکر القید وعدم التفوه بالقید. وإذا ذکر الْمُتِکَلِّم فِی کلامه ما یَدُلّ عَلَیٰ القید، فهذا هو التَّقْیِید الإثباتیّ. فالإطلاق والتقیید الإثباتیان یعنی ذکر القید أو السُّکوت عنه فِی عالم الکلام.

وطبعاً یکشف الإِطْلاَق الإثباتیّ عن الإِطْلاَق الثُّبوتیّ، أی: إذا رأینا أن الْمُتِکَلِّم ذکر فِی کلامه اسم الجنس (أی: ذکر ما یَدُلّ علی الْمَاهِیَّة) لٰکِنَّهُ لم یذکر ما یَدُلّ عَلَیٰ قید فِی هذه الْمَاهِیَّة، فقال: {أحل اللٰه البیع} و{البیع} اسم جنس یَدُلّ عَلَیٰ الْمَاهِیَّة، ولٰکِنَّهُ لم یقل: «أحل اللٰه البیع الَّذی جری بِاللُّغَةِ الْعَرَبِیَّةِ» مثلاً، أو «أحل اللٰه بیع البالغ» مثلاً. فحینئذٍ یکشف هذا الإِطْلاَق الإثباتیّ عن الإِطْلاَق الثُّبوتیّ، أی: یکشف عن أن الْمُتِکَلِّم عندما لاحظ ماهیَّة {البیع} لم یلحظ معها قید؛ إذ لو کان قد لاحظ قیداً ثبوتاً لذکر فِی الکلام وفی عالم الإثبات ما یَدُلّ علیه، فإذا لم یذکره إذن لم یلحظ القیدَ ولم یرده.

ص: 104

فالإطلاق الإثباتیّ یکشف عن الإطلاق الثُّبوتیّ کما أن التَّقْیِید الإثباتیّ یکشف عن التَّقْیِید الثُّبوتیّ. حینئذٍ متی یکون الإِطْلاَق الإثباتیّ کاشفاً عن الإِطْلاَق الثُّبوتیّ؟ أی: متی یکون السُّکوت فِی عالم الکلام دالاًّ عَلَیٰ أن الْمُتِکَلِّم لم یلحظ القید ولم یرده؟ فهل أن کل أنواع السُّکوت عن ذکر القید یَدُلّ عَلَیٰ أن الْمُتِکَلِّم لا یرید القید؟!

الجواب: لا؛ لأَنَّهُ قد لا یذکر الْمُتِکَلِّم القید لأنهم قد کمّموا فاه وألجموا فمه، وإن کان فِی مقام بیان تمام مراده. فهذا الإِطْلاَق لا یکشف عن الإِطْلاَق الثُّبوتیّ. فلیس کل سکوت عن ذکر القید دالاًّ عَلَیٰ أن القید غیر مراد وإنَّما السُّکوت عن القید الَّذی کان یمکن ذکره ولم یذکره. أی: تقابل العدم والملکة کالعمی والبصر حَیْث أَنَّ العمی عبارة عن عدم البصر ولکن لَیْسَ کل عدم البصر، فإن الحائط لا یبصر ولکن لا یقال له أعمی؛ لأَنَّ عدم الإبصار إِنَّمَا هو فیما من شأنه الإبصار. إذن، إن من الواضح هنا أیضاً أن التقابل بین الإِطْلاَق والتقیید الإثباتیین تقابل العدم والملکة.

أَمَّا أن التقابل بین الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین (الإِطْلاَق الثُّبوتیّ یعنی «عدم لحاظ القید» والتقیید الثُّبوتیّ یعنی «لحاظ القید») من أی نوع من التَّقابل، فهذا هو محلّ البحث فعلاً. وقد اختلف الأعلام فِی تشخیص هویته.

نحن عرفنا من خلال البحوث السَّابِقَة أن الْمَاهِیَّة حینما یتصورها اللاحظ فتارة تکون مطلقة (أی: مِنْ دُونِ أن یلحظ معها قیداً) وأخری تکون مقیدةً. إذن إن الْمَاهِیَّة یعرض علیها ویطرأ علیها ویتوارد علیها وصفان:

تارةً تُلحظ مطلقةً، أی: یطرأ علیها وصف الإِطْلاَق.

وأخری تُلحظ مقیدةً، أی: یطرأ علیها وصف التَّقْیِید.

وهذا الوصفان متقابلان ولا یمکن اجتماعهما فِی شیء واحد فِی آن واحد. حینئذٍ وقع الخلاف فِی معرفة نوع هذا التَّقابل، فذهب السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله ذهب إلی أن التقابل بینهما تقابل التَّضَادّ، واختار المحقق النائینی العدم والملکة مثل الإِطْلاَق والتقیید الإثباتیین، کما أن مختار سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله هو تقابل التناقض، أی: السَّلْب والإیجاب.

ص: 105

أَمَّا القول الأوّل (قول السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله) فهو مبنیّ عَلَیٰ الفکرة الَّتی تبنّاها (وقد تقدمت قبل العطلة الصیفیة) من أنَّ الإِطْلاَق عبارة عن «اللابشرط الْقِسْمِیّ» وهو عبارة عن أن تُلحظ الماهیةُ ویُلحظ معها عدمُ دخل القید. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. إذن، التقابل بینهما تقابل الضِّدَّیْن؛ لأنهما أَمْرَانِ وجودیان (لحاظ الْمَاهِیَّة ولحاظ عدم القید)، لکِنَّنََا رفضنا هذه الفکرة من منطلق أن «اللابشرط» عبارة عن لحاظ الْمَاهِیَّة مع عدم لحاظ دخل القید لا «لحاظ عدم دخل القید»، وفرق بینهما.

إذن، لا یمکننا المساعدة عَلَیٰ القول الأوَّل؛ لأَنَّ مبناه غیر تامّ لدینا وهو أن «اللابشرط الْقِسْمِیّ» عبارة عن لحاظ «الْمَاهِیَّة» مع لحاظ «عدم دخل القید» وجوداً و«عدم دخل القید» عدماً. وهذا المبنی باطل لأَنَّ الصَّحِیح أن «اللابشرط الْقِسْمِیّ» هو لحاظ الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ لحاظ القید، لا لحاظ الْمَاهِیَّة مع لحاظ عدم دخل القید.

إذن، یبطل القول الأوّل وهو أن التَّقابل تقابل التَّضَادّ، ویبقی الأمر بیننا وبین المیرزا وهذا ما سیأتی غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1620 کلمة

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی معرفة نوع التقابل بین الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین، فهل هو تقابل بنحو التَّضَادّ کما قال به السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله أم أَنَّهُ من العدم والملکة کما ذکره المیرزا أم أَنَّهُ من تقابل التناقض وَالسَّلْب والإیجاب کما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله، فقلنا بالأَمْسِ:

أَمَّا القول الأوّل (القائل بأن التقابل هو تقابل التَّضَادّ)فمرفوض عندنا؛ إذ لا یوجد ضِدَّانِ فی باب الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین؛ إذ لا یوجد لدینا أَمْرَانِ وجودیان، وإنَّما الموجود أمر وجودی وهو التَّقْیِید الَّذی هو عبارة عن لحاظ القید، ویقع فِی مقابله الإطلاقُ وهو لَیْسَ أمراً وُجُودِیّاً؛ لأَنَّهُ لَیْسَ عبارة عن «لحاظ عدم القید»، وإنَّما هو عبارة عن أمر عدمی هو «عدم لحاظ القید»، وبالتَّالی ما أصبحا أَمْرَیْنِ وجودین حتّی یصبحا من التَّضَادّ. ویکفی عدم لحاظ القید فِی الإِطْلاَق.

ص: 106

أجل، إذا بنینا عَلَیٰ مبنی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله من أن اللابشرط الْقِسْمِیّ متقوّم بلحاظ عدم القید، فحینئذٍ یصبح الإطلاق أمراً وُجُودِیّاً، لکِنَّنََا رفضنا فیما سبق أن یکون اللابشرط الْقِسْمِیّ متقوّماً بلحاظ عدم القید حیث قُلْنَا: إِنَّ «اللابشرط الْقِسْمِیّ» عبارة عن «لحاظ الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ لحاظ القید» لا «مع لحاظ عدم القید».

إذن فالقول الأوّل مرفوض.

وأمّا القول الثَّانِی (القائل بأن التقابل بینهما من العدم والملکة) فیشترک معنا فِی التَّسْلِیم بأن الإِطْلاَق لَیْسَ أمراً وُجُودِیّاً وإنَّما هو أمر عدمیّ؛ لأَنَّهُ عبارة عن «عدم لحاظ القید» بینما التقیید الثُّبوتیّ أمر وجودیّ. ولکن صاحب هذا القول یختلف معنا فیما یقول: الإِطْلاَق لَیْسَ عبارة عن «کل عدم لحاظ القید»، بل هو عبارة عن «عدم لحاظ القید فِی المورد الَّذی یمکن فیه عدم لحاظ القید ویکون قابلاً لِلتَّقْیِید»، فیصبح التقابل من العدم والملکة.

ویرد علیه بأنَّهُ لا مبرِّر لهذا الشَّرْط؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق الثُّبوتیّ للماهیة لا یشترط فیه أَنْ تَکُونَ الْمَاهِیَّة قابلة لِلتَّقْیِید، وإنَّما «سعة الْمَاهِیَّة لتمام الأفراد» أمر ذاتیّ لها.

أجل، إن الإِطْلاَق الإثباتیّ منوط بقابلیة المورد لِلتَّقْیِید الإثباتیّ. أی: فِی کُلّ مورد کان یمکن فیه ذکر القید فِی الکلام ولم یُذکر القید فهناک یتشکل الإِطْلاَق الإثباتیّ، أَمَّا فِی المورد الَّذی لم یکن بإمکان لِلْمُتِکَلِّمِ أن یتفوه بالقید بسبب من الأسباب (کما إذا أغلقوا فمه أو کان ذکر القید مستحیلاً وذلک مثلما یقال فِی استحالة أخذ قید «قصد امتثال الأمر» فِی الخطاب نفسه، أو مثلما یقال فِی استحالة أخذ العلم بالحکم فِی الحکم نفسه أو مثل استحالة أخذ قصد امتثال الأمر فِی مُتَعَلَّق الأمر وغیرها من الأمثلة. فإذا کان التَّقْیِید الإثباتیّ مستحیلاً (أی: إذا لم یمکن ذکر القید) فحینئذٍ یصبح الإِطْلاَق الإثباتیّ غیر ممکن أیضاً؛ لأَنَّ الإِطْلاَق الإثباتیّ إِنَّمَا هو عبارة عن عدم لحاظ القید فِی المورد الَّذی یمکن فیه ذکرُ القید، أَمَّا فِی المورد الَّذی لا یمکن فیه ذکر القید فلا یوجد فیه لا تقیید إِثْبَاتِیّ ولا إطلاق إِثْبَاتِیّ. لکن کلامنا الآنَ فِی الإِطْلاَق الثُّبوتیّ (أی: الإِطْلاَق والتقیید فِی عالم اللِّحَاظ) ولیس فِی الإِطْلاَق الإثباتیّ حَیْث أَنَّ بحثه تابع لمقدمات الحِکْمَة؛ لأَنَّ الإِطْلاَق الإثباتیّ یُکشف ویُفهم من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه فکأن السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله قد انساق ذهنه إلی الإِطْلاَق الإثباتیّ ووقع لدیه خلط بین الإطلاق الثُّبوتیّ والإِطْلاَق الإثباتیّ؛ بینما أن الکل یسلّم بأن التقابل الموجود بین الإِطْلاَق والتقیید الإثباتیین تقابل العدم والملکة، لٰکِنَّهُ أجنبی عن الإِطْلاَق الثُّبوتیّ.

ص: 107

إذن، المتعیَّن من بین هذه الأقوال الثَّلاثة هو القول الثَّالث القائل بأن التقابل بین الإطلاق والتقیید الثبوتیین تقابل التناقض (وَالسَّلْب والإیجاب)، أی: أن الإِطْلاَق عبارة عن عدم لحاظ القید والتقیید عبارة عن لحاظ القید، وهما نقیضان.

توضیحه: أن معنی الإِطْلاَق هو تلک الْخُصُوصِیَّة الَّتی تقتضی أن یکون هذا الْمَفْهُوم صالحاً للانطباق عَلَیٰ جمیع الأفراد. فما هی تلک الْخُصُوصِیَّة؟ هل هی أن یَلحظ المتکلمُ عدمَ القید؟ أم أنَّها عبارة عن أن لا یلحظ قیداً فِی المورد الَّذی یمکن فیه لحاظ القید؟ أم أنَّها عبارة عن أن لا یلحظ الْمُتِکَلِّم قیداً مطلقاً، سَوَاءٌ کَانَ من الممکن لحاظ القید أم لا.

نحن نرید أن نَقُول: إِنَّ تلک الْخُصُوصِیَّة الَّتی یجعل الْمَفْهُوم صالحاً للانطباق عَلَیٰ جمیع الأفراد یکفی فیها مجرّد أن لا یلحظ فیها اللاحظ القیدَ؛ لأَنَّ کل مفهوم من الْمَفَاهِیم یوجد فیه ذاتاً القابلیةُ للانطباق عَلَیٰ کل فرد ومصداق یکون هذا الْمَفْهُوم محفوظاً فیه. مثلاً توجد قابلیة الانطباق الذّاتیَّة فِی مفهوم «العالم» عَلَیٰ کل فرد یکون مفهوم العالم محفوظاً فیه، کما أن تلک القابلیة موجودة فِی الْمَفَاهِیم الأخری ک_«العالم العادل» و«العالم العادل الهاشمی» وهی الَّتی تجعل کل مفهومٍ صالحاً لإسراء الحکم الثَّابِت فِیه إلی جمیع الأفراد. وحیث أن هذه القابلیة ذاتیَّة لِلْمَفْهُومِ، فهی لازمة له ویستحیل أن تنفک عنه. وإذا کانت القابلیة من اللوازم الذَّاتیَّة لِلْمَفْهُومِ فَإِنَّنَا بحاجة إلی عدم وجود حجر عثرة ومانع یمنع هذا الْمَفْهُوم من الانطباق عَلَیٰ جمیع أفراده، وهذا المانع هو لحاظ القید حیث یأتی ویقف مانعاً أمام مفهوم «العالم» ویمنعه من الانطباق عَلَیٰ جمیع أفراده الَّتی قد حفظ فیها مفهوم «العالم»، وإن لم یکن هذا المانع موجوداً کان یکفی أن یصبح المفهومُ قابلاً للانطباق عَلَیٰ جمیع الأفراد، وبالتَّالی کان یسری الحکم المترتّب عَلَیٰ هذا الْمَفْهُوم إلی جمیع الأفراد، وهذا هو الإِطْلاَق.

ص: 108

یبقی هنا إِشْکَال: وهو ما أشار إلیه الشَّیْخ الطهرانی من أَنَّهُ کیف تقولون من جهة: إنّ هذه القابلیة (قابلیة انطباق الْمَفْهُوم عَلَیٰ جمیع أفراده) من اللوازم الذَّاتیَّة لِلْمَفْهُومِ واللازم الذَّاتیّ لا ینفک عن ملزومه، ومن جهة أخری تقولون: إذا لاحظ الْمَفْهُوم وَالْمَاهِیَّة ولاحظ القید، یصبح القید مانعاً من أن یکون قابلاً للانطباق عَلَیٰ جمیع الأفراد. کیف تصبح القابلیة ذاتیَّة وکیف یأتی القید ویفصل بین الملزوم ولازمه الذَّاتیّ. فالتفکیک بین الملزوم واللازم مستحیل.

الجواب هو أن التَّقْیِید ولحاظ القید لَیْسَ تفکیکاً بین اللاَّزِم وملزومه، وإنَّما إذا أردنا أن ندقق النَّظَر أکثر فعلینا أن نَقُول: إِنَّ التَّقْیِید فِی الحقیقة خلق مفهوم جدید (أی: العالم العادل مفهوم جدید یختلف عن مفهوم «العالم»)؛ لأَنَّ الْمَفَاهِیم فِی عالم الْمَفَاهِیم کُلّهَا متباینة، ولا توجد نسب أربع بین الْمَفَاهِیم، بل النِّسْبَةُ الموجودة فِی عالم الْمَفَاهِیم هی نسبة التَّبایُن، حتّی لو کان أحد المفهومین أعمّ من الآخر من حیث الصدق الخارجیّ، لکنهما فِی عالم الْمَفَاهِیم مفهومان متباینان (ک_«العالم» و«العالم العادل» و«العالم العادل الهاشمی» حیث لا تنفک القابلیة عن الْمَفْهُوم الأوّل فِی الْمَفْهُوم الثَّانِی والثالث، بل الموجود فِی الأخیرین هو خلق مفهومین جدیدین غیر الْمَفْهُوم الأوّل، وإلا - أی: إذا لاحظنا الْمَفْهُوم الأوّل بِغَضِّ النَّظَرِ عن الْمَفْهُوم الثَّانِی والثالث - فإنّ الْمَفْهُوم الأوّل لا زال قابلاً للانطباق عَلَیٰ جمیع أفراده). وعلی العموم إن الانطباق من شؤون العالم الخارجیّ ولا انطباق بین الْمَفَاهِیم بما هی مفاهیم.

وعلی هذا الأساس صَحَّ أن نقول: إِنَّنّا لو أردنا أن ندقق النَّظَر فِی هذه المسألة نری أَنَّهُ لا یوجد تقابل بین الإِطْلاَق والتقیید؛ لأَنَّ التقابل الَّذی قرأناه فِی المنطلق معناه أن یکون هناک شیئان یفرض ورودهما عَلَیٰ موضوع واحد، بینما الإِطْلاَق والتقیید لا یردان عَلَیٰ مورد واحد؛ إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه لأَنَّ الإِطْلاَق یرد عَلَیٰ مفهوم والتقیید یرد عَلَیٰ مفهوم آخر (لأَنَّ الْمَفَاهِیم متباینة فِی عالم الْمَفَاهِیم). الإطلاق اللِّحَاظِیّ یعنی أن تلحظ «العالم» ولا تلحظ معه قید، أی: مفهوم «العالم» فِی الذِّهْن. والتقیید الثُّبوتیّ یعنی أن تلحظ العالم ولا تلحظ معه قید، أی: مفهوم «العالم العادل» وهذا غیر مفهوم «العالم». فأین المورد الَّذی ورد فیه الإِطْلاَق والتقیید معاً عَلَیٰ مفهوم واحد حتّی یکونا متقابلین؟! فإِنَّهُ یستحیل بالدِّقَّة أن یرد الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین معاً عَلَیٰ مورد واحد، فلا یوجد تقابل حتّی لا یوجد تقابل التناقض الَّذی قلناه، وإنَّما ذکرنا التناقض ابتداءً ومن باب التسامح، فضلاً عن «التَّضَادّ» و«العدم والملکة».

ص: 109

إذن، انطباق الْمَاهِیَّة عَلَیٰ تمام أفرادها أمر ذاتیّ - کما قلنا - والذاتی لا یتخلّف أصلاً وهذا هو معنی الإِطْلاَق. أَمَّا التَّقْیِید ففی الواقع لَیْسَ تَخْصِیصاً لهذه القابلیة حتّی یأتی الإشکال بأن القابلیة الذَّاتیَّة کیف تنفک عن الْمَفْهُوم وتُخَصَّص، بل التَّقْیِید تَخَصُّص، أی: خلق مفهوم آخر (= العالم العادل)، الَّذی هو خارج عن مفهوم العالم تَخَصُّصاً.

إذن، الإطلاق یرد عَلَیٰ مفهوم والمفهوم یرد عَلَیٰ مفهوم آخر. فلیست نسبة المقیَّد إلی المطلق (کما یبدو فِی أوَّل وهلة) نسبة الأکثر إلی الأَقَلّ، بحیث یأتی بِالنَّظَرِ التسامحی إلی الذِّهْن أن النِّسْبَة بین «العالم» و«العالم العادل» نسبة الأَقَلّ والأکثر، کی یقع التقابل بلحاظ هذا الزَّائِد. فکل هذا الکلام من باب التسامح، وإلا فبالدقة لا مجال لکل هذا الحدیث.

هذه هی الأقوال الثَّلاثة فِی مسألة التَّقابل بین الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین وقد عرفنا الصَّحِیح منها کما عرفنا واقع المطلب أیضاً. بعد ذلک ننتقل إلی الفوارق والثمرات الموجودة بین هذه الأقوال نشرحها غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.1311 کلمة

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

بعد أن ذکرنا واستعرضنا الأقوال الثَّلاثة فِی باب التَّقابل بین الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین، لا بأس بأن نذکر بعض الفوارق بین هذه الأقوال والثمرات المترتّبة عَلَیٰ هذه الأقوال:

من جملتها أَنَّهُ بناء عَلَیٰ القول الثَّالث الَّذی یقول: بأن التَّقابل بین الإطلاق والتقیید الثبوتیین هو تقابل التناقض (تقابل السَّلْب والإیجاب) لا یمکن تصوّر حالة ثالثة غیر الإِطْلاَق والتقیید، بحیث لا تکون الطَّبِیعَة مطلقة ولا تکون مقیدة، وهذا أمر غیر ممکن، بناء عَلَیٰ القول الثَّالث؛ لأَنَّهُ بناء عَلَیٰ هذا القول الإِطْلاَق والتقیید نقیضان والنقیضان لا ثالث لهما؛ لأَنَّ معنی الثَّالث هو ارتفاع النقیضین وهو محال.

ص: 110

وهذا بخلاف ما إذا بنینا عَلَیٰ القول الأوّل (للسید الخوئی) أو الثَّانِی (للمیرزا)، فبناء عَلَیٰ ذینک القولین یمکن تصوّر حالة ثالثة لا یوجد فیها لا الإِطْلاَق ولا التَّقْیِید؛ لأَنَّهُ عَلَیٰ قول السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله التَّقابل بین الإطلاق والتقیید تقابل التَّضَادّ، وَمِنَ الْوَاضِحِ أن الضِّدَّیْن لا یستحیل أن یکون لهما ثالث.

وکذلک إذا بنینا عَلَیٰ مبنی المیرزا (= القول الثَّانِی) القائل بأن التَّقابل بینهما تقابل العدم والملکة، فمن الواضح أَنَّهُ لا یستحیل أن یکون لهما ثالث؛ لأَنَّ الملکة إذا وجدت فبها، وإلا فإذا کان المورد من الموارد الَّتی یمکن فیها أَنْ تَکُونَ الملکة موجودة فیصبح عدم الملکة، وأمّا إذا کان المورد من الموارد الَّتی لا یمکن أَنْ تَکُونَ فیها الملکة، فلا توجد هناک لا الملکة ولا عدم الملکة.

إذن، فبناء عَلَیٰ هذین القولین لا یستحیل تصوّر حالة ثالثة غیر الإِطْلاَق والتقیید، وهذه الحالة الثَّالثة الَّتی یمکن افتراضُها بناءًا عَلَیٰ القول الأوّل وَالثَّانِی ولا یمکن افتراضها بناءًا عَلَیٰ القول الثَّالث هی الَّتی یصطلح علیها لدی الأُصُولِیِّینَ بحالة الإهمال أو «الطَّبِیعَة المهملة».

إذن، قَضِیَّة أن الطَّبِیعَة المهملة هل هی ممکنة أو غیر ممکنة، تختلف باختلاف المبنی من هذه الأقوال الثَّلاثة.

عَلَیٰ القول الثَّالث تکون غیر ممکنة؛ لأَنَّهَا لا تکون مطلقة ولا تکون مقیدةً، أی: ارتفع فیها النقیضان وهو مستحیل.

أَمَّا عَلَیٰ القولین الأولین تکون الطَّبِیعَة المهملة ممکنة، وذلک عَلَیٰ رأی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله أو عَلَیٰ رأی المیرزا.

ثم بعد هذا انجر الکلام (بین هؤلاء القائلین بأن الطَّبِیعَة المهملة ممکنة) إلی أَنَّهُ إذا کانت الطَّبِیعَة المهملة ممکنة، وفرضنا مورداً تحقّق فیه هذا الإهمال (أی: فرضنا مورداً لا التَّقْیِید موجود فیه ولا الإِطْلاَق جارٍ فیه، وإنَّما الحالة حالة الإهمال) فهل الطَّبِیعَة المهملة هذه بحکم المطلقة أم أنَّها بحکم المقیّدة؟

ص: 111

مثلما إذا فرضنا التَّقْیِید فی مُتَعَلَّق الأمر بقصد امتثال الأمر، وجرینا مع الْمَشْهُور القائلین بأن متعلّق الأمر یستحیل أن یُقیَّد بقصد امتثال الأمر، فلا یوجد تقیید فِی البین. وکذلک لا یوجد الإِطْلاَق؛ لعدم جریان مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، فیصبح الأمر فِی قوله مثلاً: «انفق عَلَیٰ زوجتک» مهملاً من حیث التَّعبُّدیَّة والتَّوصُّلیَّة؛ إذ أَنَّهُ لَیْسَ مقیَّداً بقصد الْقُرْبَة؛ لاستحالة تعلّق قصد القُربة بالأمر، ولا أَنَّنَا قبلنا الإِطْلاَق. فلا یوجد لا التَّقْیِید لإِثْبَاتِ التَّعبُّدیَّة ولا الإِطْلاَق لکی یثبت التَّوصُّلیَّة، فأصبح مهملاً. ولکن یجب أن نعرف أن هذا المهمل فِی قوّة أی شیء؟ فهل هو فِی بمثابة المطلق أم هو بمثابة المقیِّد؟

هنا وقع الخلاف بین الأُصُولِیِّینَ بأن المهملة هل هی فِی قوّة المقیَّدة (فکأنه قیَّدَ وإن لم یقیِّد) أو أنَّها فِی قوّة المطلقة؟ هذا خلاف بعد أن خلاف بین القائلین بالقول الأوّل وَالثَّانِی، أَمَّا عَلَیٰ القول الثَّالث فقلنا من البدایة أَنَّهُ لا تُتَصَوَّر فیه حالةُ الإهمال. بخلاف القولین الأولین حیث یمکن فیهما هذه الحالة، وحینئِذٍ یأتی هذا الکلام من أن هذه الحالة المهملة هل هی فِی حکم الإطلاق أم هی فِی حکم التَّقْیِید؟

هذه من الفوارق والثمرات المترتّبة عَلَیٰ هذه الأقوال.

ومن جملة هذه الفواق والثمرات المترتّبة عَلَیٰ هذه الأقوال هی أن إمکان الإِطْلاَق منوط بإمکان التَّقْیِید بناء عَلَیٰ القول الثَّانِی (المیرزا)، لکن بناء عَلَیٰ القولین الآخرین لا یکون إمکان الإِطْلاَق مَنُوطاً وَمَشْرُوطاً بإمکان التَّقْیِید. فبناء عَلَیٰ قول المیرزا فِی کُلّ مورد یمکن فیه التَّقْیِید یمکن الإِطْلاَق فیه، أَمَّا إذا فرضنا مورداً یستحیل فیه التَّقْیِید فیستحیل الإِطْلاَق فیه أیضا؛ لأَنَّ الإِطْلاَق عند المیرزا عبارة عن عدم التَّقْیِید فیما من شأنه التَّقْیِید (أی: فِی مورد یمکن فیه التَّقْیِید، فإن لم یقیِّد فیه فهو الإِطْلاَق) أَمَّا فِی المورد الَّذی لا یمکن فیه التَّقْیِید فلا التَّقْیِید موجود (لأَنَّهُ لا یمکن حَسَبَ الْفَرْضِ) ولا الإِطْلاَق موجود؛ لأَنَّ الإِطْلاَق إِنَّمَا هو فیما إذا لم یقیِّد وکان التَّقْیِید ممکناً، والمقام لَیْسَ کذلک. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. فعندنا فِی علم الأصول بعض الموارد الَّتی یستحیل فیها التَّقْیِید ببعض القیود مثل المثال الَّذی ذکرناه من التَّعبُّدیّ والتَّوصُّلیّ من استحالة تقیید مُتَعَلَّق الأمر بقصد الْقُرْبَة (کما علیه الْمَشْهُور)؛ لأسباب یُذکر فِی محلّه (الدّور والتهافت فِی اللِّحَاظ). فهنا بناء عَلَیٰ قول المیرزا لطالما أن التَّقْیِید قصد الأمر بقصد الْقُرْبَة مستحیل، فیستحیل إطلاق مُتَعَلَّق الأمر أیضاً، ومن هنا اضطر المیرزا فِی بحث التَّعبُّدیّ والتَّوصُّلیّ إلی القول ب_«مُتَمِّم الجعل» لیُتمّم هذا الجعل الأوّل لکی یرتفع مَحْذُور الدّور والتهافت.

ص: 112

فالشاهد أن هذا من الموارد الَّتی یستحیل فیها التَّقْیِید، فبناء عَلَیٰ کلام المیرزا إذا استحال التَّقْیِید استحال الإِطْلاَق.

ومن جملة الموارد الَّتی یستحیل فیها التَّقْیِید هو تقیید الحکم بالعلم بالحکم (=أخذ العلم بالحکم فِی مَوْضُوع الحکم نفسه) مثلما یقول: «صلِّ إن علمتَ بوجوب الصَّلاة» (یستحیل لقضیة الدّور أو لأی مشکلة أخری ذکرها سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله من أنَّه یلزم من العلم أن یکون خالقاً لمعلومه، بینما دور العلم دور الکشف عن المعلوم)، وهنا أیضاً بناء عَلَیٰ مبنی المیرزا لطالما أن تقیید الحکم مستحیل فکذلک یستحیل الإِطْلاَق (إطلاق الحکم للعالم بالحکم والجاهل بالحکم مستحیل أیضاً)؛ لأَنَّ تقیید الحکم بالعالم بالحکم مستحیل، فکذلک إطلاق الحکم أیضاً مستحیل. لذلک بناء عَلَیٰ قول المیرزا لا یمکن إثبات اشتراک الأحکام بین العالمین والجاهلین بالإطلاق.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ إمکان الإِطْلاَق منوط بإمکان التَّقْیِید (بناء عَلَیٰ کلام المیرزا) أَمَّا بناء عَلَیٰ القولین الآخرین لا یکون إمکان الإِطْلاَق مَنُوطاً بالتقیید (بناء عَلَیٰ قول السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله وسَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله) غایة الأمر، بناءًا عَلَیٰ قول السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله (القائل بأن التَّقابل بین الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین هو تقابل التَّضَادّ) حَیْث أَنَّ استحالة التَّقْیِید لا توجد استحالة الإِطْلاَق فکذلک استحالة التَّقیید لا توجب ضروریة الإِطْلاَق (حسب قوله)، بل یبقی ممکناً. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. بینما عَلَیٰ قول سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله القائل بالتناقض: إذا استحال التَّقْیِید یصبح الإِطْلاَق ضروریّاً، لأنهما متناقضین. فیتعین أن یکون الإِطْلاَق هو الواقع وهو الثَّابِت.

هذه بعض الثمرات والفوارق بین هذه الأقوال. وبهذا انتهی کلامُنا فِی هذه الجهة الأولی من جهتی البحث فِی الإِطْلاَق وهی الجهة الَّتی عنوناها بالبحث عن معنی اسم الجنس وقد اتَّضَحَ أن معنی اسم الجنس الَّذی وضع له لغة عبارة عن «ذات الْمَاهِیَّة وَالطَّبِیعَة المهملة الجامعة بین المطلق والْمُقَیَّد»، ولَیْسَ اسم الجنس مَوْضُوعاً لخصوص الطَّبِیعَة المطلقة. فلا دلالة وضعیَّة لاسم الجنس عَلَیٰ الإِطْلاَق. وعلیه لا بُدَّ فِی إثبات الإِطْلاَق من قرینةٍ؛ لأَنَّ الوضع لم یؤمن لنا ولم یتعهد لنا بإفادة الإِطْلاَق. إذن، لکی نثبت الإِطْلاَق أو التَّقْیِید نحتاج إلی قرینة.

ص: 113

التَّقْیِید عادة له قرینة خاصّة، أَمَّا الإِطْلاَق فإن وجدت قرینة خاصّة تَدُلّ علیه فبها ونعم، وأمر تشخیصه بید الفقیه فِی الفقه، وهذا لَیْسَ بحثاً أصولیاً؛ لأَنَّهُ لَیْسَ عنصراً مشترکاً سیّالاً فِی جمیع الأبواب الفقهیّة، حتّی یأتی فِی علم الأصول.

أَمَّا إذا لم نجد قرینة خاصّة فحینئذٍ ینفتح باب هذا البحث وهو أَنَّهُ هل توجد قرینة عامة تفید الإطلاقَ أو لا؟ وهذا ما نبحث عنه فِی الجهة الثَّانیة.

الجهة الثَّانیة: وهی البحث عن الإِطْلاَق ومُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، وهی القرینة العامة الَّتی یقال بموجبها تَتُِمّ دلالة اسم الجنس عَلَیٰ الطَّبِیعَة المطلقة بالخصوص؛ لأَنَّهُ لا إِشْکَال فِی أن اسم الجنس رغم أَنَّهُ لم یوضع للمطلق لٰکِنَّهُ یَدُلّ عَلَیٰ المطلق بالخصوص ویُستفاد منه الإِطْلاَق ولو فِی الجملة وضمن شروط مُعَیَّنَة سوف نذکرها.

فیقال: إن أساس هذه الدِّلاَلَة (دلالة اسم الجنس عَلَیٰ الطَّبِیعَة المطلقة) عبارة عن قرینة عامة متوفرة فِی کُلّ الموارد وهی الَّتی تسمی بقرینة الحِکْمَة الَّتی تقتضی الإطلاقَ.

وهناک کلام آخر فِی قِبَال هذا الکلام یقول بأن أساس هذه الدِّلاَلَة لَیْسَ عبارة عن قرینة الحکمة، بعد القبول بأن اسم الجنس لم یوضع لغة للدِّلالة عَلَیٰ الطَّبِیعَة المطلقة وأن له الدِّلاَلَةُ عَلَیٰ الطَّبِیعَة المطلقة. فیقول صاحب هذا القول: بأن هذه الدِّلاَلَة لیست وضعیَّة ولیست أیضاً مستندة إلی قرینة الحکمة وإنَّما مستندة إلی أساس آخر.

إذن، هناک أساسان لإِثْبَاتِ الإِطْلاَق، ونرید معرفة هذین الأساسین ونعرف موقفنا منها والصحیح منهما. إذن، توجد فرضیتان یمکن طرحهما ابتداءً لکیفیة استفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس، بعد الفراغ من أن اسم الجنس لَیْسَ مَوْضُوعاً لغة لِلطَّبِیعَةِ المطلقة:

الْفَرَضِیَّة الأولی: هی أن یقال إن الإِطْلاَق وإن لم یکن مدلولاً وَضْعِیّاً لاسم الجنس (کما تقدّم فِی الجهة الأولی) إلاَّ أن قرینة الحِکْمَة (الَّتی سوف نذکرها بعد ذلک) تَدُلّ عَلَیٰ الإِطْلاَق، وذلک باعتبار أن الإِطْلاَق مدلول اِلْتِزَامِیّ لقرینة الحِکْمَة.

ص: 114

وقرینة الحِکْمَة عبارة عن أن یکون الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مرامه فِی شخص کلامه هذا، لا أن یکون فِی مقام بیان تمام مراده فِی مجموع کلماته المبعثرة طیلة عمره، وأن لا ینصب قرینة عَلَیٰ القید (طبعاً سوف نشرح هذا بکلا جزئیها مفصَّلاً).

فیقال: إن قرینة الحِکْمَة هذه، تُوَلِّدُ هذا الظُّهُور الْحَالِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ، فِی کونه بصدد بیان تمام مرامه بکلامه، ولازم هذا الظُّهُور (الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ لهذا الظُّهُور) هو أَنَّهُ هنا أراد الطَّبِیعَة المطلقة فِی المقام. فمثلاً عندما یقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» فإن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده فِی کلامه، لازم هذا الظُّهُور هو أَنَّهُ أراد من العالم مطلق العالم؛ لأَنَّهُ لو أراد من العالم خصوص العالم العادل مثلاً، لم یکن قد بین تمام مرامه فِی کلامه؛ لأَنَّ المفروض أن تمام مراده «إکرام العالم العادل» ولٰکِنَّهُ فِی کلامه ذکر نصف هذا المراد وهو «وجوب إکرام العالم». وهذا خلاف ظاهر حال کل متکلم عُرْفِیّ یتکلم وفق النُّظُم والقوانین الْعُقَلاَئِیَّة للمحاورات لابن اللُّغَة، القاضی بأَنَّهُ حینما یفتح فمه یکون فِی مقام بیان تمام مراده، أَمَّا أَنَّهُ یرید التکلم بالألغاز فهو لَیْسَ مستحیلاً ولٰکِنَّهُ خلاف الأصل الأوّلی.

فکون الْمُتِکَلِّم تَلَفَّظَ وتکلم معناه أَنَّهُ أصبح بصدد بیان تمام مرامه للآخرین من خلال هذا الکلام. هذا الظُّهُور الْحَالِیّ یَسْتَلْزِم أن یکون تمام مرامه هو وجوب العالم مِنْ دُونِ أی قید، بحیث لو أراد المقیِّد ولم یبین القید یکون قد خالف ظاهر حاله. فنثبت الإِطْلاَق بوصفه مدلولاً اِلْتِزَامِیّاً وبوصفه من لوازم الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی بیّنّاه. هذا هو الأساس الأوّل فِی المقام.

الاعتراض: هناک اعتراض عَلَیٰ هذا الأساس وهذه الاستفادة (استفادة الإِطْلاَق بهذه الطَّرِیقَة) بأننا نرضخ لهذا الظُّهُور الْحَالِیّ المذکور، لکن قولکم: «إن من لوازم هذا الظُّهُور الْحَالِیّ أَنَّ الْمُتِکَلِّم أراد الإِطْلاَق ولم یرد التَّقْیِید» غیر مقبول؛ لأَنَّ الْمُتِکَلِّم یکون قد ارتکب مخالفة لهذا الظُّهُور الْحَالِیّ سواء أراد الإِطْلاَق أم أراد التَّقْیِید؛ إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. لأَنَّهُ إن أراد المقیَّد فَیَکُونُ قد خالف ظهوره الْحَالِیّ فِی أَنَّهُ فِی مقام بیان تمام مراده (وهو المقیَّد). ولو فرضنا أَنَّهُ أراد المطلق أیضاً یکون قد خالف الظُّهُور الْحَالِیّ (أی: لم یبین تمام مراده فِی الکلام)؛ لأَنَّ کلامه لم یکن إلاَّ اسم الجنس حیث قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» واسم الجنس لا یَدُلّ عَلَیٰ الإِطْلاَق؛ فقد فرغنا فِی الجهة الأولی من البحث عن أن اسم الجنس لا یَدُلّ لا عَلَیٰ الإِطْلاَق ولا عَلَیٰ التَّقْیِید، بل یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة المطلقة. إذن، لا یستفادُ الإطلاقُ من هذا الظُّهُور الْحَالِیّ. ویأتی جوابه غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1738 کلمة.

ص: 115

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن الْمُسْتَفَادَ من اسم الجنس حین استعماله مِنْ دُونِ القید هو الإطلاق، رغم أن اسم الجنس لم یوضع فِی اللُّغَة للماهیة مع الإِطْلاَق، وإنَّما وضع لذات الْمَاهِیَّة، مع ذلک یستفاد منه الإِطْلاَق. وقلنا إِنَّه توجد فرضیتان لاستفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس، کلتا الفرضیتین تُسَلِّم وتقبل أن اسم الجنس لم یوضع للماهیة المطلقة، بل هی مَوْضُوع لذات الْمَاهِیَّة، لکن مع ذلک یُستفاد منه الإِطْلاَق. هَاتَانِ الفرضیتان نذکرهما تباعاً:

الْفَرَضِیَّة الأولی: هی أنَّ الإِطْلاَق یُستفاد من اسم الجنس (رغم أَنَّهُ لَیْسَ مدلولاً وَضْعِیّاً لاسم الجنس)؛ لأَنَّ هذا الإِطْلاَق مدلول اِلْتِزَامِیّ لظاهر حال الْمُتِکَلِّم القاضی بأَنَّهُ فِی صدد بیان تمام مراده بکلامه، ولازم هذا الظُّهُور الْحَالِیّ (اللاَّزِم العَقْلِیّ أو الْعُرْفِیّ) هو أَنَّهُ عندما یقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» مثلاً یرید من «العالم» الطَّبِیعَةَ المطلقة ولم یرد الطَّبِیعَةَ المقیّدة بقید العدالة أو بأی قید آخر؛ لأَنَّهُ لو کان قد أراد من قوله «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» المقیَّدَ وهو وجوب إکرام العالم العادل بالخصوص، فمعنی ذلک أَنَّهُ لم یُبَیِّن تمام مراده؛ لأَنَّ المفروض أن تمام مراده هو المقیَّد، بینما فِی کلامه أتی بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ الْمَاهِیَّة ولم یأت بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ التَّقْیِید (= علی العدالة). إذن، لو کان قد أراد «العالم العادل» والحال أَنَّهُ قال: «العالم» فهذا معناه أَنَّهُ قد بَیَّن بکلامه بعض مراده، وهذا خلاف الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدّم ذکره.

فإرادة المقیَّد مخالفة مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم لهذا الظُّهُور الْحَالِیّ، وهذا بخلاف ما إذا افترضنا أَنَّهُ أراد من قوله «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» المطلقَ، فلو کان مراده المطلق لکان یبیّن تمام هذا المراد بکلامه؛ لأَنَّ تمام مرامه حَسَبَ الْفَرْضِ هو ذات الْمَاهِیَّة، مِنْ دُونِ دخل القید، وقد أتی فِی الکلام بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة، وهو اسم الجنس. فقد تقدّم فِی الجهة الأولی من البحث فهو لم یرتکب مخالفة لذات الظُّهُور الْحَالِیّ. إذن فلازم الظُّهُور الْحَالِیّ المذکور هو أن یکون الْمُتِکَلِّم قد أراد المطلق لا المقیِّد.

ص: 116

هذا هو جوهر وروح قرینة الحِکْمَة.

قلنا: إن هذا الکلام قد یُعترض علیه بأن هذا الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی ذکرتموه صحیح؛ إذ لا إِشْکَال فِی أن ظاهر حال کل متکلم حینما یتکلم أَنَّهُ فِی صدد بیان تمام مراده بشخص کلامه، لکِنَّنََا لا نقبل قولکم «إنَّ لازم هذا الظُّهُور الْحَالِیّ هو أَنَّهُ أراد المطلق»، فلا نقبل أن یکون الإِطْلاَق مدلولاً اِلْتِزَامِیّاً لهذا الظُّهُور الْحَالِیّ؛ لأَنَّهُ عَلَیٰ کل تقدیر (سَوَاءٌ کَانَ قد أراد المطلق أو أراد المقیِّد) لم یمش وَفق الظُّهُور الْحَالِیّ بل ارتکب مخالفة؛ لأَنَّهُ إما یرید المقیَّد وإما یرید المطلق. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی. أَمَّا عَلَیٰ الأوّل فواضح بأَنَّهُ ارتکب مخالفة، وأمّا لو کان مراده المطلق أیضاً لم یبیّن تمامَ مراده بکلامه؛ لأَنَّ تمام مراده حَسَبَ الْفَرْضِ هو الْمَاهِیَّةُ والإطلاق، بینما لم یأت فِی کلامه بما یَدُلّ عَلَیٰ الْمَاهِیَّة والإطلاق، بل أتی فِی کلامه بما یَدُلّ عَلَیٰ الْمَاهِیَّة وهو اسم الجنس، وقد فرغنا فِی الجهة الأولی من أن اسم الجنس یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة ولا یَدُلّ عَلَیٰ الإِطْلاَق. إذن یکون قد خالف الظُّهُور الْحَالِیّ أیضاً. إذن، ارتکب هذا الْمُتِکَلِّم مخالفة للظهور الْحَالِیّ سواء أراد التَّقْیِید أو أراد الإِطْلاَق، ومن المقطوع أَنَّهُ أراد أحدهما (المطلق أو المقیَّد) من «أَکْرِمِ الْعَالِمَ».

وعلی کل تقدیر هو ارتکب مخالفة الظُّهُور الْحَالِیّ، فکیف تقولون إن الظُّهُور الْحَالِیّ المذکور یَسْتَلْزِم عقلاً أو عرفاً أن نقول إن هذا الْمُتِکَلِّم أراد المطلق. کلا، لا یَسْتَلْزِم أن یکون قد أراد المطلق ولا یَسْتَلْزِم أن یکون أراد المقیِّد، بل یَسْتَلْزِم أن یکون قد أراد ذات الْمَاهِیَّة. هذا هو الاعتراض.

بالإمکان التَّخلُّص من هذا الاعتراض بأحد هذه الأجوبة بنحو الترتیب:

ص: 117

الجواب الأوّل: أن نقول إن الظُّهُور الْحَالِیّ (الَّذی تمسکنا بدلالته الاِلْتِزَامِیَّة وَقُلْنَا: إِنَّ مدلوله الاِلْتِزَامِیّ هو الإِطْلاَق) المتقدّم ذکره ما هو بالتحدید؟ فهو بالتحدید عبارة عن کون الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مراده ومرامه، ونقصد بالمَرام والمراد الملحوظ والمتصوَّر والمرئی لهذا الْمُتِکَلِّم. أی: ما وقع تحت لحاظه وتصوره وما رآه. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمُتِکَلِّم لو کان قد أراد من قوله «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» المطلقَ، فَیَکُونُ ملحوظه فِی هذه الصُّورَة هو ذات الْمَاهِیَّة؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق کیفیَّة اللِّحَاظ والرؤیة، ولیس دخیلاً فِی الملحوظ والمرئی، بل المرئی بالرؤیة الإطلاقیة هو ذات الْمَاهِیَّة (کما تقدّم شرحه سابقاً). أی: هذه الکیفیات الثَّلاثة الآنفة الذکر (اللابشرط الْقِسْمِیّ والبشرط شیء، والبشرط لا) هذه کَیفِیَّات لرؤیة الْمَاهِیَّة ولحاظها، أَمَّا الملحوظ فهو ذات الْمَاهِیَّة.

إذن، إن خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق لا تدخل فِی المرئی والملحوظ، بینما نحن مقصودنا من «المراد» فِی الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدّم ذکره (حیث قلنا إن ظاهر حال کل متکلم أَنَّهُ بصدد بیان کل مراده) هو ملحوظه ومتصوَّره، لا کل ما هو موجود فِی ذهنه؛ فَإِنَّه إن أراد الْمُتِکَلِّم المطلقَ فیوجد فِی ذهنه شیئان: 1- ذات الْمَاهِیَّة. و2- کیفیة لحاظ هذه الْمَاهِیَّة (وهی کیفیَّة اللابشرطیة). ولکننا لا نقصد بالمراد والمرام کل ما هو موجود فِی ذهن الْمُتِکَلِّم وتصوَّره ولاحظه، لا الشَّیْء الملحوظ فِی ذهنه وَالَّذِی لَیْسَ ملحوظاً له کنفس اللِّحَاظ والرؤیة مع أَنَّهُ أمر ذهنی ولٰکِنَّهُ لا یدخل فِی المقام.

فحینئذٍ بناء عَلَیٰ هذا المبنی وهو الصَّحِیح (حیث قلنا فِی اللابشرط الْقِسْمِیّ إِنَّهُ عبارة عن أن تلحظ الْمَاهِیَّة ولا تلحظ معها قیداً، فالملحوظ فِی اللابشرط الْقِسْمِیّ هو الْمَاهِیَّة ذاتها، ولا یوجد شیء آخر زائد عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة). فلو قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» ودار الأمر بَیْنَ أَنْ یَّکُونَ قد أراد المطلق أو أراد المقیَّد نقول: إذا کان قد أراد المقیَّد فمعنی ذلک أَنَّهُ وقع تحت نظر الْمُتِکَلِّم ولحاظه شیئان: ذات الْمَاهِیَّة، والقید (قید العدالة مثلاً)، فملحوظه ومتصوَّره شیئان، أَمَّا هی فواحدة.

ص: 118

أَمَّا لو افترضنا أَنَّهُ أراد المطلق (ولاحظ الْمَاهِیَّةَ بنحو اللابشرط الْقِسْمِیّ)، فَیَکُونُ ملحوظه هو ذات الْمَاهِیَّة، ولم یقع تحت ملحوظه شیئان. فالأمر دائر بَیْنَ أَنْ یَّکُونَ ملحوظه ومتصوره شَیْئَیْنِ (ذات الْمَاهِیَّة والقید) وبین أن یکون ملحوظه ومتصوره شیئاً واحداً وهو ذات الْمَاهِیَّة.

فإن کان قد أراد الأوّل (أی: المقیِّد) إذن هو لم یبین تمام ملحوظه ومراده بکلامه، ویکون مخالفاً للظهور الْحَالِیّ؛ لأَنَّ الظُّهُور الْحَالِیّ کان عبارة عن کونه بصدد بیان تمام مراده وملحوظه ومتصوَّره بکلامه، والمفروض أن متصوره وملحوظه شیئان: الْمَاهِیَّة والقید. فَیَکُونُ قد بین الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ القید، وهذا هو المخالفة لظهوره الْحَالِیّ.

وهذا بخلاف ما إذا فرضنا أَنَّهُ أراد المطلق؛ فَإِنَّ ما تصوّره فِی المطلق هو ذات الْمَاهِیَّة، وقد أتی بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة. وهذا هو المطلوب ولا نطالب الْمُتِکَلِّم بشیء أکثر من هذا وهو الإتیان بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ تمام مراده ومقصوده، والمقصود من المراد والمقصود هو المتصوَّر والملحوظ، ولیس کل شیء یوجد فِی ذهنه. وخُصُوصِیَّة الإِطْلاَق کیفیَّة من کَیفِیَّات اللِّحَاظ ولا تقع تحت اللِّحَاظ؛ لأَنَّ الإطلاق عندنا لم یکن إلاَّ عبارة عن أن تلحظ الْمَاهِیَّة فقط. فتمام المراد هو ذات الْمَاهِیَّة وقد أتی بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة، فلم یرتکب مخالفة فیما لو فرضنا أَنَّهُ أراد المطلق. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی. فلیس الأمر کما تَوَهُّمه صاحب الإشکال أَنَّهُ عَلَیٰ کلا التقدیرین خالف الْمُتِکَلِّم الظُّهُور الْحَالِیّ؛ فإِنَّهُ عَلَیٰ تقدیر أن یکون أراد المقیَّد یکون قد خالف الظُّهُور الْحَالِیَّ؛ لأَنَّ مراده وملحوظه شیئان ولٰکِنَّهُ أتی بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ أحد الشیئین فقط.بینما عَلَیٰ فرض أن یکون أراد المطلق لا یکون قد خالف الظُّهُور الْحَالِیّ حیث أتی بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ تمام ملحوظه؛ لأَنَّ تمام ملحوظه (عندما یرید المطلق) هو الْمَاهِیَّة ذاتها؛ لأَنَّ هذا هو معنی الإِطْلاَق؛ فإن الإِطْلاَق هو أن تلحظ الْمَاهِیَّة فقط.

ص: 119

إذن، فنرجع مرّةً أخری إلی ما قلناه من أن الظُّهُور الْحَالِیّ المذکور یَسْتَلْزِم أن یکون قد أراد الإِطْلاَق. فلم تنخرم الملازمة (بَیْنَ أَنْ یَّکُونَ قد بین تمام مرامه وبین أن یکون أراد المطلق) بهذا الإشکال.

هذا هو الجواب الأوّل، وهو جواب صحیح عَلَیٰ مبنانا المتقدّم فِی تفسیر «اللابشرط الْقِسْمِیّ» حیث قلنا بأَنَّهُ عبارة عن لحاظ الْمَاهِیَّة وعدم لحاظ شیء آخر معه؛ لأَنَّهُ وَفقاً لهذا المبنی لا تقع خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق تحت لحاظ الْمُتِکَلِّم، لَیْسَ الإِطْلاَق أن تلحظ الْمَاهِیَّة وتلحظ الإِطْلاَق (أی: أن تلحظ عدم القید)، بل حقیقة الإِطْلاَق عندنا عبارة عن أن تلحظ الْمَاهِیَّة ولا تلحظ معها شیء. فبناء عَلَیٰ هذا المبنی یَتُِمّ هذا الجواب؛ لأَنَّ الأمر دائر بَیْنَ أَنْ یَّکُونَ قد لاحظ الْمَاهِیَّة ولاحظ قیداً، وبین أن یکون قد لاحظ الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ أی قید. فإن أراد الأوّل لا یکون قد بیّن کلَّ ما أراده بکلامه، وإن أراد الثَّانِی یکون قد بیَّن تمام مراده بکلامه.

أجل، بناء عَلَیٰ مبنی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله القائل بأن الإِطْلاَق (وهو اللابشرط الْقِسْمِیّ عنده) عبارة عن شَیْئَیْنِ: أن تلحظ الْمَاهِیَّة وأن تلحظ عدم دخل القید، ومن هنا أصبح الإِطْلاَق والتقیید عنده أَمْرَیْنِ وجودیین (لحاظُ عدم دخل القید ولحاظ القید). وحینئِذٍ سواء أراد الْمُتِکَلِّم المطلق أم أراد المقیِّد، فما وقع تحت لحاظه شیئان:

أ) - عَلَیٰ تقدیر أن یکون مراده المقیَّد فواضح أَنَّهُ وقع تحت لحاظه أَمْرَانِ: 1- ذات الْمَاهِیَّة و 2- القید، بینما أتی فِی کلامه بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة، فَیَکُونُ کلامه ناقصاً ولا یکون مبیِّناً تمامَ مرامه بکلامه، وهذا خلاف الظُّهُور الْحَالِیّ.

ب) - وعلی تقدیر أن یکون قد أراد المطلق فأیضاً وقع تحت لحاظه شیئان: 1- ذات الْمَاهِیَّة و2- لحاظ عدم القید (= الإِطْلاَق)، بینما ما أتی فِی کلامه بما یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة فقط. فیأتی الإشکال عَلَیٰ مبنی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله ولا یَتُِمّ هذا الجواب الأوّل. أی: یجب أن یفتش السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله عن جواب آخر عن هذا الإشکال.

ص: 120

الجواب الثَّانِی: هو أن نقول إنَّنا نسلّم بأن الإِطْلاَق کما یقول السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله عبارة عن لحاظ الماهیة ولحاظ عدم القید، مع ذلک هذا الإشکال المتقدّم هنا غیر تامّ؛ وذلک لأَنَّنَا مع ذلک نقول هذا المتکلم لو أراد المقیِّد خالف الظُّهُور الْحَالِیّ ولٰکِنَّهُ لو أراد المطلق لم یخالف ظهوره الْحَالِیّ الْمُسْتَلْزَم بأَنَّهُ أراد المطلق؛ وذلک بأن نَقُول: إِنَّ هذا الظُّهُور الْحَالِیّ (الَّذی نرید أن نتمسک بدلالته الاِلْتِزَامِیَّة عَلَیٰ إرادة الإِطْلاَق) تحدیداً عبارة عن کون الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مرامه. ونقصد ب_«المرام» المراد الْجِدِّیّ، لا المراد الاستعمالیّ والتّصوّریّ. ظاهر حال کل متکلم عُرْفِیّ وعاقل هو أَنَّهُ بصدد بیان تمام مرامه الْجِدِّیّ، لا تمام ما تصوّره وإن لم یرده جِدّاً؛ فقد یتصوّر الْمُتِکَلِّم أمورا لٰکِنَّهَٰا غیر داخلة فِی مراده الْجِدِّیّ، فلا یکون حال الْمُتِکَلِّم ظاهراً فِی أَنَّهُ بصدد بیان هذه الأُمُور، بل ظاهر حال الْمُتِکَلِّم الْعُرْفِیّ أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده الْجِدِّیّ من کلامه، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق حتّی عَلَیٰ مبنی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله (الَّذی عم نحکی عَلَیٰ مبناه فِی هذا الجواب الثَّانِی) داخلة تحت اللِّحَاظ والتصوّر (لأَنَّ الإِطْلاَق عنده عبارة عن أن تلحظ الْمَاهِیَّة وتلحظ معها رفضَ القید)، لٰکِنَّهَٰا قَطْعاً غیر داخلة فِی المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ. أی: حتّی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله یقبل ویسلّم بأن خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق وإن کانت ملحوظة للإنسان عندما یرید المطلق؛ لأَنَّهُ لاحظ الْمَاهِیَّة ولاحظ عدم القید. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. أَمَّا فِی مرحلة الْمَدْلُول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ لِلَّفْظِ الَّتی هی مرحلة الإسناد وجعل الحکم لا یمکن أَنْ تَکُونَ خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق داخلة ضمن المراد والمدلول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ من اللَّفظ؛ لأَنَّهُ یَسْتَلْزِم أن یکون الحکم مجعولاً لا عَلَیٰ هذا الْمَوْضُوع بما هو فانٍ فِی الخارج، بل مجعولاً عَلَیٰ هذا الْمَوْضُوع بما هو مطلق ومجرّد عن القید؛ لأَنَّ الملحوظ والمتصور هو هذا (وَفقاً لمبناه)، وهذا لازم فاسد. أی: من الواضح أَنَّهُ لَیْسَ من أفراد هذا الْمَوْضُوع فِی الخارج ما یکون مطلقاً ومجرداً عن القید، بینما قَطْعاً هو یقصد من الْمَوْضُوع ما له فرد فِی الخارج حتّی یمکن إکرامه، وإلا فإن الإنسان المطلق غیر موجود فِی الخارج حتّی نکرمه. وکذلک الأمر فِی قوله: {أحل اللٰه البیع}، فلو فرضنا أن الإِطْلاَق داخل فِی المراد الْجِدِّیّ للآیة الکریمة، فَیَکُونُ معناها: «أحل اللٰه البیع المطلق»، ولکن أین البیع المطلق خارجاً؟ فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ البیع الخارجیّ لا یکون مطلقاً، بل إما یکون بشرط شیء (کالبلوغ) أو بشرط لا.

ص: 121

إذن، خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق عَلَیٰ فرض إرادة المطلق وإن کانت داخلة تحت اللِّحَاظ عَلَیٰ رأی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله، لٰکِنَّهَٰا لیست داخلة تحت المراد الْجِدِّیّ، بینما الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی شرحناه عبارة عن ظهور حال الْمُتِکَلِّم أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده الْجِدِّیّ، لا تمام ما هو فِی ذهنه وما هو متصوَّر له.

فلو أراد المطلق یکون مراده الْجِدِّیّ هو ذات الْمَاهِیَّة (ماهیَّة البیع) وقد أتی بلفظ یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة وهو اسم الجنس الدَّالّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة، ومراده الْجِدِّیّ ذات الْمَاهِیَّة أیضاً حتّی عَلَیٰ رأی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله، ولیس ذات الْمَاهِیَّة مع الإِطْلاَق؛ لأَنَّه بناء عَلَیٰ مبناه یکون الإِطْلاَق مراداً تصوُّریّاً واستعمالیّاً ولیس مراداً جدیّاً وإن لم یکن عَلَیٰ مبنانا مراداً تصوُّریّاً حتّی فضلاً عن أن یکون مراداً جدیّاً.

إذن، إذا لاحظ ما هو موضوع الحکم جِدّاً، فالأمر دائر بین الأَقَلّ والأکثر: إمّا أن مراده الْجِدِّیّ عبارة عن الْمَاهِیَّة مع القید (البیع + البلوغ) وإما أن یکون مراده شیئاً واحداً وهو الْمَاهِیَّة (=البیع). نعم إن مراده التَّصوُّریّ الاستعمالیّ حتّی فِی الفرض الثَّانِی عبارة عن ماهیَّة البیع مع الإِطْلاَق، لٰکِنَّهُ مراد تصوُّریّ، ولٰکِنَّهُ لَیْسَ ما کان الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمامه؛ فإِنَّهُ کان بصدد بیان تمام مراده الْجِدِّیّ، فهو لم یرتکب مخالفةً لهذا الظُّهُور الْحَالِیّ، حتّی لو بنینا عَلَیٰ مبنی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله.

إذن هذا هو الجواب الثَّانِی عن الإشکال، وهو جواب یَتُِمّ عَلَیٰ کل المبانی، سواء عَلَیٰ مبنانا أم عَلَیٰ مبنی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 2025 کلمة.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

ص: 122

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن استفادة الإطلاق من اسم الجنس بعد الفراغ عن أن اسم الجنس لَیْسَ موضوعاً لِلطَّبِیعَةِ المطلقة (فالإطلاق لا یُستفاد من الدِّلاَلَة الوضعیَّة للکلمة) توجد فرضیتان لاستفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس، کُنَّا نتکلّم فی الفرضیة الأولی منهما، وهی الْفَرَضِیَّة القائلة بأن الإِطْلاَق إِنَّمَا یستفاد من اسم الجنس باعتبار أن هذا الإِطْلاَق مدلول اِلْتِزَامِیّ لظهور حالیٍّ لِلْمُتِکَلِّمِ، هذا الظُّهُور مفاده هو أن الْمُتِکَلِّم عادة بصدد بیان تمام مراده بکلامه. لازم هذا الظُّهُور العَقْلِیّ أو الْعُرْفِیّ هو أَنَّهُ أراد المطلق؛ لأَنَّهُ لو أراد المقیِّد کان معناه أَنَّهُ لم یبیّن بکلامه تمام مراده، بل بیّن بکلامه قسماً من مراده، وسکت عن قسم آخر من کلامه، وهذا خلاف ظاهر حاله.

وقد واجه هذا الظُّهُور الْحَالِیّ (الَّذی أردنا أن نستفید منه الإِطْلاَق) مشکلةً واعتراضاً یقول بأن الْمُتِکَلِّم عَلَیٰ کل حال لم یمش وفق هذا الظُّهُور الْحَالِیّ، سواء أراد المطلق أم أراد المقیَّد؛ لأَنَّهُ إن أراد المقیِّد فواضح أَنَّهُ لم یبین کل هذا المقیَّد فِی کلامه، وإن أراد المطلق أیضاً لم یبیّن المطلق فِی کلامه، بل بَیَّن فِی کلامه اسمَ الجنس وهو لا یَدُلّ عَلَیٰ المطلق، بل یَدُلّ عَلَیٰ الطَّبِیعَة (لا عَلَیٰ الطَّبِیعَة المطلقة). فلا الإِطْلاَق بینه فِی کلامه ولا التَّقْیِید، إذن لم یبین تمام مراده بکلامه، فکنا بصدد معالجة هذه المشکلة والإجابة عنها.

ذکرنا جوابین ألخصهما فِی سطر:

یرید کلا الجوابین أن یقول: إنَّ هذا الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی بیّناه وهو ظهور حال الْمُتِکَلِّم فِی کونه بصدد بیان تمام مراده، المقصود من «مراده» یعنی: ما تصوّره فِی ذهنه وأراده جِدّاً. فظاهر حال الْمُتِکَلِّم هو أَنَّهُ بصدد بیان ما تصوّره وأراده جِدّاً.

ص: 123

فالجواب الأوّل عَلَیٰ هذا الأساس یقول: إن الْمُتِکَلِّم لم یتصوّر الإطلاقَ، فلو أراد المقیَّد لم یبیّن تمامَ ما تصوّره؛ لأَنَّ تمام ما أراده هو الْمَاهِیَّة مع القید، ولو أراد المطلق بین تمام ما أراده؛ لأَنَّ تمام ما أراده هو ذات الْمَاهِیَّة، وذات الْمَاهِیَّة هی الْمُتَصَوَّرَة، أَمَّا إطلاقها فلیس داخلاً تحت التَّصَوُّر. هذا هو الجواب الأوّل الَّذی قلنا إِنَّه جواب صحیح.

فبناء عَلَیٰ إرادته المطلق، لا یکون مخالفاً لظهور حاله، أَمَّا إذا أراد المقیَّد فتمام متصوَّره هو الْمَاهِیَّة مع القید، فلم یبیِّن تمامَ ما تصوّره، فَیَکُونُ قد خالف ظهور حاله.

والجواب الثَّانِی: کان یقول: حتّی لو فرضنا أن الإِطْلاَق یدخل تحت التَّصَوُّر، لٰکِنَّهُ لا یدخل تحت المراد الْجِدِّیّ قَطْعاً، فَحَتَّی لو فرضنا أن الإِطْلاَق عبارة عن لحاظ عدم القید - کما یقوله السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله - ولٰکِنَّهُ لَیْسَ هو المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ، وإنَّما مراده الْجِدِّیّ هو ذات الْمَاهِیَّة. فلو أراد المطلق یکون مراده الْجِدِّیّ هو ذات الْمَاهِیَّة، وکلامه وافٍ ببیان ذات الْمَاهِیَّة (کلامه اسم الجنس، واسم الجنس وافٍ ببیان ذات الْمَاهِیَّة)، فلم یزد مراده الْجِدِّیّ عَلَیٰ کلامه. أی: بیَّنَ کل مراده الْجِدِّیّ بکلامه، وقد بیّنها من خلال اسم الجنس.

بخلاف ما إذا فرضنا أَنَّهُ أراد المقیَّد؛ فَإِنَّ فی مثل: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» یکون مراده الْجِدِّیّ «العالم العادل» بینما کلامه غیر وافٍ بهذا المراد, فلم یبین تمام مراده بکلامه. أی: خالف الظُّهُور الْحَالِیّ، فالظهور الْحَالِیّ یَسْتَلْزِم أَنَّهُ أراد المطلق. هذا هو الجواب الثَّانِی.

الجواب الثَّالث بعد فرض التنزل عن الجوابین الأولین، وبعد فرض أن یقال إِنَّنّا تنزلنا عن الجواب الأوّل القائل بأن الإِطْلاَق غیر داخل تحت اللِّحَاظ والتصوّر، بل قلنا بأن اللِّحَاظ لَیْسَ کیفیَّة فِی اللِّحَاظ کما یقول به السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله، وتنزلنا عن الجواب الثَّانِی أیضاً القائل بأن الإِطْلاَق لَیْسَ داخلاً فِی المراد الْجِدِّیّ، مع ذلک نرید أن نقول: إذا دار الأمر بَیْنَ أَنْ یَّکُونَ الْمُتِکَلِّم أراد بقوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» المطلق أو أراد المقیَّد، فإذا دار الأمر بینهما یمکننا أن نقول بأَنَّهُ أراد المطلق لا المقیَّد. ونعین ذلک بالظهور الْحَالِیّ الَّذی ذکرناه لکن بالاستعانة إلی الظُّهُور القائل بعدم وجود مؤونة زائدة، وذلک بالقول بأن من الصَّحِیح أن هذا الْمُتِکَلِّم سواء فرضناه أَنَّهُ یرید المقیَّد فَیَکُونُ مراده أزید من کلامه؛ لأَنَّ کلامه عبارة عن «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» ولکن مراده عبارة عن إکرام العالم العادل.

ص: 124

ولو أراد المطلق یکون مراده أزید من کلامه؛ لأَنَّ کلامه «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» بینما مراده الْجِدِّیّ هو «أَکْرِمِ الْعَالِمَ المطلق» حَسَبَ الْفَرْضِ، فعلی کل تقدیر، سواء أراد المقیَّد أم أراد المطلق (والإطلاق عبارة عن لحاظ عدم القید) یکون قد أراد شیئاً زائداً عَلَیٰ ما یَدُلّ علیه اسم الجنس وَالَّذِی یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة (إما ذات الْمَاهِیَّة مع عدم لحاظ القید أو لحاظ الْمَاهِیَّة مع لحاظ عدم القید).

إذن، توجد زیادة فِی کُلّ من المطلق والْمُقَیَّد، ولکن زیادة المطلق أقل وزیارة المقیَّد أکثر؛ لأَنَّ المقیَّد عبارة عن لحاظ الْمَاهِیَّة مع لحاظ وجود القید، بینما المطلق زیادته أقل فِی نظر العرف (الَّذی هو المحکّم فِی الظهورات)؛ لأَنَّهُ لا یَسْتَلْزِم تلک المؤونة الزائدة فِی المقیَّد. فلو دار الأمر بینهما یکون الأصل عدم تلک المؤونة الزائدة فِی المقیَّد.

إذن، بضمیمة أصالة عدم المؤونة الزائدة (وَالَّتِی هی من الأُصُول الْعُقَلاَئِیَّة أیضاً) مع ضمه إلی ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی یَقُولُ: إِنَّهُ بیَّن تمامَ مراده بکلامه، هو أَنَّهُ بیّن المطلقَ بکلامه؛ لأَنَّهُ لو کان قد أراد المطلق لکان لاحظ الْمَاهِیَّة ولاحظ عدم القید، أَمَّا معنی أَنَّهُ یرید المقیَّد أَنَّهُ لاحظ الْمَاهِیَّة ولاحظ وجود القید. والعرف یری أن مؤونة الثَّانیة أثقل من الأوّل، فینصرف إلی الأوَّل، إلاَّ أَنْ تَکُونَ هناک قرینة عَلَیٰ الثَّانِی وحینئِذٍ یصبح مقیَّداً. وعلی أی حال نصل إلی الإِطْلاَق الَّذی نریده.

هذه أجوبة ثلاثة عَلَیٰ هذا الإشکال الَّذی کان یستهدف الْفَرَضِیَّة الأولی القائلة بإمکانیة استفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس بمؤونة الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی یقول إن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم دائماً فِی أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده فِی کلامه. إذن، ارتفع الإشکال فسَلُمَتْ الْفَرَضِیَّة الأولی من الإشکال، وهذه الْفَرَضِیَّة هی الصحیحة وَالَّتِی نتبنّاها.

ص: 125

ومن هنا وقبل أن ننتقل إلی الْفَرَضِیَّة الثَّانیة، تبیّنت النُّکْتَة المتکررة فِی البحوث السَّابِقَة من أن «الإِطْلاَق مدلولٌ تصدیقی للکلام ولیس مدلولاً تصوُّریّاً للکلام»؛ لأَنَّنَا عرفنا من خلال هذا البحث الَّذی انتهینا منه الآنَ؛ لأَنَّنَا عرفنا من خلاله أن الإِطْلاَق هو فرع الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی ذکرناه (أی: مدلول اِلْتِزَامِیّ لهذا الظُّهُور الْحَالِیّ)، وهذا الظُّهُور یعیِّن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ. أی: ظاهر حال الْمُتِکَلِّم هو أَنَّهُ بیّن بکلامه مرادَه الْجِدِّیّ (أی: محور هذا الظُّهُور هو المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ). فهو ظهور ناظر إلی عالم الواقع وعالم الجد، ولیس إلی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی. أی: یقول هذا الْمُتِکَلِّم الَّذی أتی باسم الجن: لَیْسَ فِی مراده الْجِدِّیّ ما یزید عَلَیٰ ما یَدُلّ علیه اسم الجنس، بل کل ما یَدُلّ عَلَیه اسم الجنس هو مراده الْجِدِّیّ، وقد بیّنا معنی «اسم الجنس» فِی الجهة الأولی من أن معنی اسم الجنس هو ذات الْمَاهِیَّة. فالإطلاق من شؤون المراد الْجِدِّیّ للکلام دائماً.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا: إن الإِطْلاَق مأخوذ فِی المعنی الوضعیّ لاسم الجنس (طبعاً إِنَّنّا لم نقل به ولا نعهد أن أحد الأُصُولِیِّینَ قال به) ولکن لو قال به أحد فیصبح الإِطْلاَق من الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للکلام ولیس تصوُّریّاً؛ لأَنَّ الوضع هو الَّذی یُحَدِّدُ المدالیل التَّصوُّریّة للکلمات. أَمَّا الَّذی یُحَدِّدُ وَیُعَیِّنُ المرادات الجدّیَّة للمتکلمین عبارة عن الظهورات الحالیة للمتکلمین، ومنها هذا الظُّهُور الْحَالِیّ.

هنا قد یقال: بأن الوجدان یحکم ویقضی بأن الإِطْلاَق مدلول تصوُّریّ للکلام، ولیس مدلولاً تَصْدِیقِیّاً له؛ لأَنَّنَا إذا سمعنا جملة ﴿أحل اللٰه البیع﴾ وحسبنا حساب الصُّورَة الذِّهْنِیَّة التَّصوُّریَّة الَّتی ترد إلی ذهننا عند سَمَاع هذه الجملة، فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ ما ینطبع وینتقش فِی ذهننا هو صورة ذهنیة عن ماهیَّة البیع مِنْ دُونِ لحاظ أی قید زائد، وهذا هو الإِطْلاَق. فهو کان عبارة عن الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ لحاظ أی شیء، إذن فقد أتت إلی ذهننا صورة الْمَاهِیَّة المطلقة. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. فالإطلاق أصبح مدلولاً تصوُّریّاً للکلام، ولیس مدلولاً تَصْدِیقِیّاً؛ لأَنَّهُ بمجرّد أن نسمع هذا اللَّفظ یأتی إلی ذهننا صورة ماهیَّة مِنْ دُونِ قید، وَالْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ قید هو الإِطْلاَق، وَاللاَّبِشَرْطِ الْقِسْمِیّ.

ص: 126

فما قلتموه وکررتموه مراراً فِی حنایا علم الأصول من أن الإِطْلاَق مدلول تصدیقی للکلام لَیْسَ إلاَّ خطأ وذلک بحکم الوجدان؛ لحضور هذه الصُّورَة إلی الذِّهْن بمجرّد سَمَاع هذا اللَّفظ من أی مصدر، سواء سمعناه من اللافظ الشاعر أم من اصطکاک حجر بحجر، وسواء کان اللافظ شَاعِراً أم نائما، وسواء کان هذا اللافظ الشاعر جادّاً أم کان هازلاً، فالإطلاق مدلول تصوُّریّ للکلام ولیس مدلولاً تَصْدِیقِیّاً. هذا ما قد یقال.

الرَّدّ: إلاَّ أن هذا الکلام فیه من الخطأ والاشتباه ما لا یخفی، فلا بُدَّ من توضیح الخطأ فیه، وحاصل الجواب عن هذا الإشکال هو:

أن ما قلتموه صحیح؛ إذ لا شکّ فِی أَنَّ الصُّورَة الذِّهْنِیَّة الَّتی تحضر فِی ذهن السَّامِع عند سَمَاعه اسم الجنس (من أی مصدر کان) عبارة عن صورة الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ قید، وهی الْمَاهِیَّة المطلقة، بناء عَلَیٰ ما بنینا علیه من أن الإِطْلاَق هو عدم لحاظ القید. لکن هذا کُلّه لا یعنی أن هذه الصُّورَة المطلقة الَّتی جاءت إلی ذهننا بعد سَمَاع لفظ «البیع» أتت کُلّهَا بتأثیر من لفظ «البیع»، بعد الاعتراف بمجیء هذه الصُّورَة المطلقة بعد سَمَاع لفظ «البیع» إلی الذِّهْن، ولکن هل کان السَّبَب لحضور کل هذه الصُّورَة إلی الذِّهْن لفظ «البیع»؟ لأَنَّ فِی هذه الصُّورَة عنصران:

الأوّل: عنصر ذات الْمَاهِیَّة.

الثَّانِی: عنصر عدم القید.

ومجموع هذین العنصرین شکّلا الصُّورَة المطلقةَ. فهل أتی مجموع هذین العنصرین إلی الذِّهْن بسبب لفظ ﴿البیع﴾؟ أو العنصر الأوّل فقط؟

هذا ما نرید أن نُؤَکِّد علیه ونقول: الَّذی سبَّبَ مجیء العنصر الأوّل إلی الذِّهْن، هو لفظ ﴿البیع﴾؛ لأَنَّهُ وُضع فِی اللُّغَة لذات الْمَاهِیَّة والوضع هو الَّذی یُحَدِّدُ الدلالات التَّصوُّریَّة. فالوضع سبب لدلالة لفظ البیع تصوُّراً عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة.

ص: 127

أَمَّا العنصر الثَّانِی وهو «عدم القید» فهل أتی إلی الذِّهْن بسبب لفظ ﴿البیع﴾؟ کلا، بل کان سببه عدم وجود لفظ یَدُلّ عَلَیٰ القید؛ لأَنَّ وجود لفظ یَدُلّ عَلَیٰ القید علةٌ لتصوّر القید، وعدم العلّة علّة لعدم المعلول. فإذا ذکرت القید فِی الکلام یکون هذا علّة لتصوّر القید، وإذا لم یذکر قید فِی الکلام فَسَوْفَ یکون عدم ذکر القید علّة لعدم تصوّر القید وعدم لحاظه.

إذن، لَیْسَ سبب العنصر الثَّانِی هو لفظ ﴿البیع﴾، بل سببه عدم وجود لفظ یَدُلّ عَلَیٰ القید، ولطالما أن سبب العنصر الثَّانِی لَیْسَ هو لفظ البیع فکیف یمکننا أن نقول: هذه الصُّورَة المطلقة بمجموعها مدلول تصوُّریّ لِلَّفْظِ البیع. فإن نصف هذه الصُّورَة المطلقة مدلول تصوُّریّ لِلَّفْظِ ﴿البیع﴾، ونصفها الآخر معلول لعلّته التَّکْوِینِیَّة ولیس له علاقة بلفظ البیع، وعلته التَّکْوِینِیَّة هی عدم وجود القید فِی الکلام. فالإطلاق لَیْسَ مدلولاً تصوُّریّاً لِلَّفْظِ ﴿البیع﴾. وتأتی تتمة البحث وتوضیحه غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1602 کلمة.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن الإِطْلاَق مدلول تصدیقی للکلام، ولیس مدلولاً تصوُّریّاً له، وشرحنا هذا المطلب بالأَمْسِ وذکرنا اعتراضاً عَلَیه أیضاً بأنَّ الإطلاق لَیْسَ مدلولاً تَصْدِیقِیّاً للکلام بل هو مدلول تصوُّریّ، وذلک بحکم الوجدان القاضی بأننا بمجرّد سَمَاعنا «البیع» فِی قوله «البیع حلال» أو «البیع نافذ» مثلاً، تنتقش فِی ذهننا صورةٌ عن ماهیَّة «البیع» مِنْ دُونِ أی قید زائد علیها، حتّی إذا سمعنا هذا اللَّفظ من لافظ غیر جاد کالإنسان الهازل بل حتّی إذا سمعنا هذا اللَّفظ من لافظ لَیْسَ فقط لا إرادة جدیة له، بل لا شعور ولا التفات له کالنائم والساهی، بل حتّی لو سمعنا هذا اللَّفظ من غیر لافظ کالحجر، وعلی أی حال تأتی إلی ذهننا صورة ذهنیة عن الْمَاهِیَّة «البیع» مِنْ دُونِ قید، بواسطة سَمَاعه من أی مصدر کان، وهذا هو الإِطْلاَق؛ فقد تقدّم أن الإطلاق عبارة عن لحاظ الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ لحاظ قید معها (خلافاً لِلسَّیِّد الأستاذ الخوئیّ رحمه الله الَّذی ذهب إلی أن الإِطْلاَق هو لحاظ الْمَاهِیَّة مع لحاظ عدم القید)، وهذه الصُّورَة الذِّهْنِیَّة الَّتی تأتی إلی الذِّهْن بمجرّد سَمَاع لفظ «البیع» هی الصُّورَة المطلقة. إذن أصبح الإِطْلاَق مدلولاً تصوُّریّاً لِلَّفْظِ بلا حاجة إلی المراد الْجِدِّیّ.

ص: 128

إذن، فالإطلاق مدلول تصوُّریّ لِلَفْظِ البیع، وکیف قلتم: الإِطْلاَق مدلول تصدیقی منوط بالإرادة الجدّیَّة؟

الجواب عن هذا الإشکال هو أن هذه الصُّورَة الحاضرة فِی الذِّهْن عند سَمَاع لفظ البیع من أی مصدر کان، وإن صَحَّ أنَّها صورة الْمَاهِیَّة المطلقة - کما قلتم - بحکم الوجدان، لکن بالضَّبط نرید أن نحدد أَنَّهُ أی عنصر من هذه الصُّورَة تأتی إلی الذِّهْن بسبب اللَّفظ (= لفظ البیع) وأی عنصر من هذه الصُّورَة جاء إلی الذِّهْن بسبب عامل آخر غیر اللَّفظ.

یَتُِمّ الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلَّفْظِ (حیث تریدون أن تجعلوا الإِطْلاَق مدلولاً تصوُّریّاً لِلَّفْظِ) فیما لو کان اللَّفظ هو السَّبَب فِی استحضار ذاک المعنی إلی الذِّهْن، نتیجة القرن الأکید الحاصل عند الواضع بین اللَّفظ والمعنی، ولیس کل تصوّر یأتی إلی الذِّهْن (بأی عامل من العوامل) یُسمی بالمدلول التَّصوُّریّ.

هذه الصُّورَة المطلقة عن الْمَاهِیَّة الَّتی قلتم بأَنَّهُ تأتی إلی الذِّهْن صورة الْمَاهِیَّة البیع المطلقة، هذه الصُّورَة المطلقة متکونة من عنصرین هما یشکلان هذه الصُّورَة المطلقة؛ لأَنَّ هذه الصُّورَة المطلقة عبارة عن صورة الْمَاهِیَّة زائداً عدم صورة القید. فهناک صورتان: صورة الْمَاهِیَّة حضرت إلی الذِّهْن بسبب لفظ البیع، فلولا أن لفظ البیع وضع فِی لغة العرب لماهیة البیع لم تکن تأتی صورة ماهیَّة البیع إلی ذهننا عند سَمَاع لفظ «البیع»، کما أَنَّنَا حینما نسمع أی لفظ آخر لا تأتی إلی ذهننا صورة ماهیَّة البیع، کلفظ الماء الَّذی لا یسبب حضور ماهیَّة البیع إلی الذِّهْن. هذا العنصر مدلول تصوُّریّ للکلام.

أَمَّا العنصر الثَّانِی وهو «عدم صورة عن القید» فسببه هو أَنَّهُ لم یکن هناک لفظ یَدُلّ عَلَیٰ القید. عدم اللَّفظ سبب لعدم تصوّر القید، کما أن عدم العلّة علّةٌ لعدم المعلول. وهذا العنصر الثَّانِی لاَ عَلاَقَةَ لَهُ بلفظ «البیع».

ص: 129

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّورَة المطلقة عن البیع (البیع مِنْ دُونِ لحاظ قید) وإن کانت تأتی إلی ذِهْن السَّامِع عند سَمَاع لفظ «البیع» لکن حضورها بکلا عنصریها لَیْسَ بسبب لفظ «البیع»، وإنَّما حضورها بعنصرها الأوّل بسبب لفظ «البیع»، أَمَّا حضورها بعنصرها الثَّانِی (الَّذی هو أمر عدمی) فلَیْسَ بسبب لفظ «البیع»، بل سببه عدم لفظ القید. إذن، فإن کانت الصُّورَة موجودة عند سَمَاع اللَّفظ ولکنها لیست مدلولاً تصوُّریّاً لِلَفْظِ «البیع»، عَلَیٰ مبنانا القائل بأن الإِطْلاَق عبارة عن صورة الْمَاهِیَّة مِنْ دُونِ صورة القید. فلا یصحّ أن نعتبر الإِطْلاَق مدلولاً تصوُّریّاً للکلام لِلَفْظِ «البیع» کما قال المستشکل، وإنَّما یبقی مدلولاً تَصْدِیقِیّاً.

إذن، کون الإِطْلاَق ثابتاً فِی هذه الصُّورَة الذِّهْنِیَّة الَّتی تتکَوَّن فِی ذهن السَّامِع عند سَمَاع «البیع حلال» شیء، وکون هذا الإِطْلاَق داخلاً فِی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلَفْظِ «البیع» شیء آخر. فالأوّل مقبول عندنا (بأن هذا الإِطْلاَق ثابت فِی الصُّورَة الذِّهْنِیَّة الَّتی تتکَوَّن فِی ذهن السَّامِع عند سَمَاع «البیع») أَمَّا کونه داخلاً فِی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لِلَّفْظِ «البیع» لا نقبله، وثبوت الأوّل لا یقتضی ثبوت الثَّانِی.

طبعاً هذا کُلّه بناء عَلَیٰ مبنانا المختار الصحیح من أن الإِطْلاَق هو أن تُلحظ الْمَاهِیَّة ولا تُلحظ معها شیء، ولم نقبل المبنی الآخر (مبنی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله) القائل بأن الإِطْلاَق (=اللابشرط الْقِسْمِیّ) هو لحاظ الْمَاهِیَّة مع لحاظ عدم القید. فقد اتَّضَحَ جواب الإشکال بناء عَلَیٰ مبنانا، وأَمَّا بناء عَلَیٰ مبنی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله (وهو أن الإِطْلاَق عبارة عن لحاظ عدم القید) فالإشکال یرتفع من أساسه؛ لأَنَّه وَفقاً لمبناه لا تأتی صورة الْمَاهِیَّة المطلقة إلی الذِّهْن أساساً؛ لأَنَّ الْمَاهِیَّة المطلقة عنده «لحاظ الْمَاهِیَّة مع لحاظ عدم القید» والحجر ما عنده لحاظ، فَإِنَّنَا لاحظنا الْمَاهِیَّة عندما سمعنا لفظ «البیع» من اصطکاک حجر بحجر، فحضرت صورة ذات الْمَاهِیَّة إلی الذِّهْن إثر القرن الأکید، لکن العنصر الثَّانِی (=لحاظ عدم القید) فمنتفٍ لأَنَّهُ لَیْسَ من شأن الحجر أن یلحظ عدم القید. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. وبالتَّالی لا تأتی صورة الْمَاهِیَّة المطلقة إلی الذهن بناءًا عَلَیٰ مبنی السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله؛ لأَنَّهُ لا لفظ البیع (=اسم الجنس) مَوْضُوع للماهیَّةِ المطلقة (وهذا ما یوافق علیه الکلُّ)، ولا أن هذا الإِطْلاَق معلول لسببه التَّکوینیّ؛ لأَنَّ السَّبَب فِی أن یلحظ المخاطب القیدَ هو أن یکون الْمُتِکَلِّم قد لاحظه، وَالْمُتِکَلِّم لم یلحظ القیدَ؛ لأَنَّنَا فرضنا أن الْمُتِکَلِّم غیر جاد أو غیر لافظ.

ص: 130

وبهذا یَتَّضِح أَنَّهُ إذا أردنا أن یکون الإِطْلاَق مدلولاً للکلام، لا یکون إلاَّ مدلولاً تَصْدِیقِیّاً. نعم، إذا أرید بالإطلاق کأمر واقعی وکشیء موجود ثابت فِی ذهن السَّامِع (= توجد الآنَ فِی ذهنه صورة ماهیَّة البیع المطلقة) فهی موجودة فِی ذهن السَّامِع، لکن هذا لا یُسمی بالمدلول التَّصوُّریّ للکلام، بل نصف هذا مدلول تصوُّریّ للکلام ونصفه الآخر معلول لعلته التَّکْوِینِیَّة کما شرحنا.

فإن قیل: ما الفرق بحسب النَّتِیجَة بین أن نفترض الإِطْلاَق الَّذی نشعر به وجداناً عند سَمَاع قوله: «البیع حلال» ثابتاً فِی الصُّورَة الذِّهْنِیَّة الموجودة فِی ذهننا کأمر واقعی (نتیجة وجود سببه التَّکوینیّ) وبَیْنَ أَنْ یَّکُونَ مدلولاً تصوُّریّاً للکلام؟ فإن المُهِمّ ما رضیتم به من حصول الصُّورَة المطلقة عن الْمَاهِیَّة فِی ذهن السَّامِع، بِقَطْعِ النَّظَرِ عن مرحلة المراد الْجِدِّیّ، ولو سُمع اللَّفظ من حجر أو من لافظ غیر جاد، غایة الأمر قلتم إن هذه الصُّورَة لیست مدلولاً تصوُّریّاً لِلَفْظِ «البیع»، بل نصفها مدلول تصوُّریّ له ونصفها الآخر معلول لعلته التَّکْوِینِیَّة، وما یفیدنا هو ما رضیتم به من أن الإِطْلاَق فِی ذهن السَّامِع یحصل مِنْ دُونِ الإرادة الجدّیَّة، وهذا هو المراد، حیث أَنَّنَا نرید الترکیز عَلَیٰ أن الإِطْلاَق لَیْسَ مدلولاً تَصْدِیقِیّاً للکلام، وبالتَّالی لسنا بحاجة إلی الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدّم ذکره.

الجواب: الفارق کبیر بین أن نفترض أن هذه الصُّورَة المطلقة الحاضرة فِی ذهننا (بمجرّد سَمَاع لفظ البیع من أی مصدر، وهی صورة «الْمَاهِیَّة المطلقة») کُلّهَا مدلول تصوُّریّ لکلام الْمُتِکَلِّم وبین أن یکون نصفها مدلولاً تصوُّریّاً ونصفها الآخر معلولاً لسبب تَکْوِینِیّ؛ إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. لأَنَّنَا لو افترضنا أن کل هذه الصُّورَة بکلا عنصریها (الْمَاهِیَّة والإطلاق) مدلول تصوُّریّ لکلام الْمُتِکَلِّم فیمکننا أن ندین الْمُتِکَلِّم عَلَیٰ هذا الإِطْلاَق ونؤاخذه ونحاسبه ونتعامل معه کما نتعامل مع الْمُتِکَلِّم الَّذی تکلم بالإطلاق؛ لأَنَّنا افترضنا أن هذه الصُّورَة المطلقة مدلول تصوُّریّ لکلامه، أی: هو قالها. فنطبق علیه القانون القائل بِأَنَّ مَا قاله أراده. أی: مقتضی التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصوُّریّ (أی: ما قاله) وبین المدلول التَّصدیقیّ (أی: ما أراده) هو أَنَّهُ لطالما تکلم الْمُتِکَلِّم بالإطلاق فَیَکُونُ قد أراده. والخلاصة أَنَّنَا نحمّله مسؤولیّةَ الإِطْلاَق ونقول: إنک أردت البیع المطلق.

ص: 131

وهذا بخلاف الفرض الثَّانِی؛ لأَنَّ فِی الفرض الثَّانِی لا یکون کل الصُّورَة المطلقة الحاضرة فِی الذِّهْن عند سَمَاع لفظ «البیع» مدلولاً تصوُّریّاً لِلَفظ البیع، فلا یکون الْمُتِکَلِّم هو الَّذی قالها کُلّهَا، بل قال نصفها؛ لأَنَّهُ تَلَفَّظَ بلفظ «البیع» وهو یَدُلّ عَلَیٰ ذات الْمَاهِیَّة، أَمَّا الإِطْلاَق (= عدم لحاظ القید) فهذا خارج عن معنی لفظ «البیع». إذن، هو لم یقل بالإطلاق، ولطالما لم یقل به فلا یمکننا أن نحمّله مسؤولیّة الإِطْلاَق؛ إذ هو مسؤول عمَّا قاله ولیس مسؤولاً عمَّا لم یقله.

وحینئِذٍ نتمسک بالظهور الْحَالِیّ ونثبت الإِطْلاَق، فلا یوجد طریق آخر. وللبحث صلة. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1241 کلمة.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن هذا الإِطْلاَق الَّذی نشعر به وجداناً، یَصِحُّ أن یُنسب إلی الْمُتِکَلِّم ونحمّله مسؤولیتَه فیما إذا کان مدلولاً تصوُّریّاً للکلام وناشئاً من دلالة اللَّفظ عَلَیه، فنثبت بأصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصوُّریّ والمدلول التَّصدیقیّ أَنَّهُ أراد الإِطْلاَق جِدّاً؛ لأَنَّهُ قاله، فَیَکُونُ قد أراده.

أَمَّا إذا لم یکن الإِطْلاَق مدلولاً تصوُّریّاً لکلام الْمُتِکَلِّم (أی: لم یکن ناشئاً من دلالة کلام الْمُتِکَلِّم علیه وإنَّما کان ناشئاً من عاملٍ تَکْوِینِیّ آخر لاَ عَلاَقَةَ لَهُ بلفظ الْمُتِکَلِّم وکلامه) فلا یصحّ أن ننسب الإِطْلاَق إلیه ونقول: إِنَّه أراد الإِطْلاَق؛ لأَنَّنَا فرضنا أن الإِطْلاَق مسبَّب عن سبب وعامل تَکْوِینِیّ، وهو لَیْسَ کاشفاً عن مراد الْمُتِکَلِّم؛ فَإِنَّه یُعقل أن یکون کلام الشخص کاشفاً عن مراد الْمُتِکَلِّم، أَمَّا أن یکون هناک عامل تَکْوِینِیّ أثّر عَلَیٰ ذهن السَّامِع وخلق فِی ذهنه شیئاً یکون هذا الشَّیْء مراداً لِلْمُتِکَلِّمِ، فهذا غیر صحیح ولا یَتُِمّ کشف مراد الْمُتِکَلِّم بهذه الطَّرِیقَة؛ لأَنَّ الْمُتِکَلِّم لَیْسَ هو الَّذی کوَّن هذا الإطلاقَ فِی ذهن السَّامِع من خلال کلامه.

ص: 132

وَالنَّتِیجَة أَنَّهُ لا یوجد أی کشفٍ فِی هذا الإطلاق التَّکوینیّ عن مراد الْمُتِکَلِّم، کی یمکن التَّمسُّک به لإِثْبَاتِ إرادة الإِطْلاَق. فإذا أردنا أن نستکشف أن الْمُتِکَلِّم أراد الإِطْلاَق فلا بُدَّ أن ندخل الإِطْلاَق فِی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ لکلام الْمُتِکَلِّم ونقول: إن اسم الجنس (لفظ البیع) وضع فِی اللُّغَة للبیع المطلق، فیکون کلام الْمُتِکَلِّم دالاًّ بِالدِّلاَلَةِ التَّصَوُّرِیَّةِ الوضعیَّة عَلَیٰ الإِطْلاَق، وحینئِذٍ نثبت بأصالة التَّطَابُق بین الْمَدْلُول التَّصوُّریّ والمدلول التَّصدیقیّ أن الْمُتِکَلِّم أراد الإِطْلاَق؛ لأَنَّه تکلم بلفظ معناه فِی اللُّغَة الإِطْلاَق (البیع المطلق)، والأصل فِی کُلّ متکلم أن یکون قد أراد مرادَه.

ولکننا رفضنا ذلک فِی الجهة الأولی من البحث (فِی معنی اسم الجنس) حیث قلنا إن معانی أسماء الأجناس لیست عبارة عن الطَّبَائِع المطلقة، وإنَّما وضع اسم الجنس لِلطَّبِیعَةِ، لا لِلطَّبِیعَةِ مع خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق. فهذا الطَّرِیق (أن یکون الإطلاق مدلول کلامه) مسدود علینا، فَیَنْحَصِرُ الطَّرِیق باستفادة الإِطْلاَق من ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ السیاقی.

هذه هی الْفَرَضِیَّة الأولی، وهی فِی الواقع روح مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ؛ فَإِنَّهَا کما تأتی إن شاء اللٰه ترجع بروحها إلی مطلبین ومقدمتین:

المقدّمة الأولی: کون الْمُتِکَلِّم فِی مقام البیان. ومرجع هذه المقدّمة إلی هذا الظُّهُور الْحَالِیّ السیاقی القائل بأن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم فِی أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده بکلامه.

المقدّمة الثَّانیة: أن لا ینصب قرینة عَلَیٰ القید. ومرجع هذه المقدّمة إلی تتمیم الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة للظهور الْحَالِیّ. فالظهور الْحَالِیّ عبارة عن کون الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مراده بکلامه، ویدلّ هذا الظُّهُور بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّة عَلَیٰ أن هذا الْمُتِکَلِّم أراد المطلق.

وتتم هذه الدِّلاَلَة فیما إذا لم تنصب الْمُتِکَلِّم قرینةً عَلَیٰ التَّقْیِید، وإلا فلا توجد دلالة التزامیة عَلَیٰ أَنَّهُ أراد المطلق؛ لأَنَّهُ فِی فرض نصب قرینة عَلَیٰ التَّقْیِید لم یکن قد خالف ظهوره الْحَالِیّ القائل بأَنَّهُ فِی صدد بیان تمام مراده بکلامه، وهو قد بیَّن تمام مراده بکلامه الَّذی کان فیه ذکرٌ للمقیَّد. فإرادة المقیَّد هنا لا تعنی خلف الظُّهُور الْحَالِیّ، بل فیما لو أراد المقیَّد ولم ینصب قرینة عَلَیٰ القید یعتبر مخالفاً.

ص: 133

فمجموع مقدمتی الحِکْمَة یشکلان الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة عَلَیٰ الظُّهُور الَّذی ذکرناه عَلَیٰ الإِطْلاَق. وهذه الْفَرَضِیَّة یَتَعَیَّنُ الأخذ بها فیما إذا أبطلنا الأخذ بالفرضیة الثَّانیة.

الْفَرَضِیَّة الثَّانیة: إن الإِطْلاَق یستفاد من اسم الجنس بعد الفراغ من أن اسم الجنس غیر مَوْضُوع لِلطَّبِیعَةِ المطلقة، بل هو مَوْضُوع لأصل الطَّبِیعَة، لکِنَّنََا نستفید الإطلاق بِالدِّلاَلَةِ الْمُطَابِقِیَّة (رغم أَنَّهُ لَیْسَ مدلولاً وَضْعِیّاً لاسم الجنس) من نفس عدم ذکر القید، مِنْ دُونِ حاجة إلی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، ومن دون حاجة إلی الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة لهذا الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی ذکرناه.

فکأنّ هذه الْفَرَضِیَّة حالة وسطیة بین القول بأن الإِطْلاَق مستفاد من الوضع وبین القول بأن الإِطْلاَق مستفاد من قرینة الحِکْمَة. فالإطلاق لا هو مستفاد من الوضع (وهذا ما فرغنا عنه فِی الجهة الأولی) ولا هو مستفاد من قرینة الحِکْمَة الَّتی کانت الْفَرَضِیَّة الأولی، وإنَّما یستفاد من عدم ذکر القید (= یستفاد الإِطْلاَق بِالدِّلاَلَةِ الْمُطَابِقِیَّة من «التجرد عن ذکر القید»).

ولهذه الْفَرَضِیَّة تقریبان:

التَّقریب الأوّل: هو أن اسم الجنس فِی حدّ ذاته مَوْضُوع لِلطَّبِیعَةِ (لا لِلطَّبِیعَةِ المطلقة) لکن وضع «عدم ذکر القید إلی صفّ اسم الجنس» فِی اللُّغَة بوضعٍ ثان غیر وضع اسم الجنس للإطلاق. کما یقولون أحیاناً فِی النَّحْو إن التجرد عن شیء یَدُلّ عَلَیٰ شیء آخر، مثل تجرد المبتدأ عن عامل النصب وعامل کذا یکون عاملاً لِلرَّفْع، فلا نحتاج إلی الظُّهُور الْحَالِیّ ولا إلی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ.

إذن، إن اسم الجنس یَدُلّ عَلَیٰ الإِطْلاَق بِالدِّلاَلَةِ الوضعیَّة وَالَّتِی هی أقوی من قرینة الحِکْمَة وهذه الدِّلاَلَة تَتُِمّ بمجموع وضعین: 1- وضعُ اسم الجنس لذات الْمَاهِیَّة. 2- وضع تجرده عن ذکر القید.

والدَّلیل عَلَیٰ هذا الوضع هو أَنَّهُ لو کان اسم الجنس مَوْضُوعاً للماهیَّةِ المطلقة لکان استعماله فِی موارد المقیِّد المتصل (مثل «ماء دجلة» أو «یوم الجمعة») مَجَازِیّاً، والحال أَنَّنَا لا نلتزم بِالتَّجَوُّزِ فِی هذه الموارد. أی: سواء استعملنا اسم الجنس (= الماء) فِی المقیَّد (= ماء دجلة عذب) أو استعملناه فِی المطلق (الماء لذیذ)؛ لأَنَّ اسم الجنس وضع لِلطَّبِیعَةِ المهملة وأصل الطَّبِیعَة موجود فِی المقیَّد کما أَنَّهُ موجود فِی المطلق، فالمعنی الْمَوْضُوع له محفوظ فِی کلیهما، فالاستعمال حقیقی فِی کلیهما.

ص: 134

وحینئِذٍ یترتَّب عَلَیٰ هذا أَنَّهُ لو استعمل اسم الجنس وحده ومن دون قید مثل «الماء أمر نافع» (بخلاف «ماء دجلة») فیستفاد منه الإِطْلاَق ببرکة الوضع الثَّانِی.

أَمَّا إذا استعمل اسم الجنس مع القید مثل «ماء دجلة عذب»، فیستفاد منه المقیَّد مِنْ دُونِ أن یلزم منه المجاز؛ لأَنَّ اسم الجنس (الماء) إذا استعمل مع القید لا یکون له حینئذٍ إلاَّ وضع واحد، وهو الوضع لِلطَّبِیعَةِ المهملة، ویستفاد من کلمة «دخلة» القیدَ، فبتعدد الدَّالّ والمدلول نستفید المقیَّد مِنْ دُونِ أن یلزم المجاز.

فبهذه الْفَرَضِیَّة استعطنا أن نجتنب التَّجوُّز فِی موارد التَّقْیِید المتصل، عَلَیٰ أساس الوضع الأوّل، متزامنا مع استفادتنا الإِطْلاَق فِی موارد عدم التَّقْیِید وذلک عَلَیٰ أساس الوضع الثَّانِی. هذه هی الْفَرَضِیَّة الثَّانیة.

الاعتراض: وقد یقال بصدد الاعتراض عَلَیٰ هذا التَّقریب الأوّل للفرضیة الثَّانیة: إِنَّه بناء عَلَیٰ أن یکون اسم الجنس مع خُصُوصِیَّة التجرد عن ذکر القید مَوْضُوعاً بالوضع الثَّانِی لِلطَّبِیعَةِ المطلقة، یصبح اسم الجنس مشترکاً لفظیّاً، مثل لفظ «العین» الَّذی له معان عدیدة، إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. وکذلک اسم الجنس له معنیان، فِی أحد الوضعین معناها الْمَاهِیَّة المهملة، وفی الوضع الآخر الْمَاهِیَّة المطلقة (لأَنَّ الوضع الثَّانِی کان عبارة عن اسم الجنس مِنْ دُونِ ذکر القید) وأیهما المراد؟

وقد یجاب عنه بأن الأصل فِی المشترک اللَّفظیّ أن یکون مستعملاً فِی جمیع معانیه فِی آن واحد، وإنَّما نرفع الید عن هذا الأصل الأولیّ فِی المشترک اللَّفظیّ ونقول: لا یمکن لِلْمُتِکَلِّمِ أن یکون قد أراد کلا المعنیین بسبب تعدّد اللِّحَاظ عند الْمُتِکَلِّم، وهو مستحیل فِی آن واحد.

هذا المحذور یسبب أن نقول فِی المشترک اللَّفظیّ عادة لا یمکن أن یکون قد أراد کلا المعنیین معاً فِی آن واحد، أَمَّا فِی المقام فلا یوجد هذا السَّبَب. فلو قلنا إن الْمُتِکَلِّم أراد الطَّبِیعَة المهملة الَّتی هی المعنی الأوّل لاسم الجنس بحسب الوضع الأوّل وأیضاً أراد الطَّبِیعَة المطلقة بحسب الوضع الثَّانِی، لأَنَّ الطَّبِیعَة المهملة موجودة فِی ضمن المهملة.

ص: 135

إذن، لا یلزم هنا تعدّد اللِّحَاظ، نعم فِی سائر المشترکات اللَّفظیَّة فِی اللُّغَة یلزم هذا المحذور؛ لأَنَّ هذا المعنی هناک غیر موجود فِی ضمن المعنی الآخر، فعلی سبیل المثال الطهر غیر موجود فِی الحیض، ولا الحیض موجود فِی الطهر، أو کالمولی فِی اللُّغَة الَّذی یعنی العبد أیضاً، ولکن العبد غیر موجود فِی المولی، کما أن المولی غیر موجود فِی العبد أیضاً.

فلا یوجد مانع من أن نقول هنا إِنَّه أراد المطلق، فنستفید الإطلاق بلا أی مَحْذُور. إن قبلتم هذا الجواب فبه ونعم، وإلا فَسَوْفَ ننتقل إلی الجواب الآخر غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1182 کلمة.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی التَّقریب الأوّل للفرضیة الثَّانیة لاستفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس، وکان حاصله - کما شرحناه بالأَمْسِ - هو أن اسم الجنس مع تجرده عن القید مَوْضُوع للدِّلالة عَلَیٰ الإِطْلاَق. فکأنَّ اسم الجنس له وضعان: وضعٌ لاسم الجنس فِی حدّ ذاته للماهیَّةِ (وهی الَّتی نعبر عنها بالمهملة)، ووضع آخر لاسم الجنس مجرداً عن القید (بشرط لا عن القید) للماهیَّةِ المطلقة.

وقد وُجِّه إلی هذا الکلام اعتراض یَقُولُ: إِنَّهُ إذن لو استعمل اسم الجنس وحده مِنْ دُونِ ذکر القید یصبح اسم الجنس مشترکاً لفظیّاً لما له من معنیین:

المعنی الأوّل: الْمَاهِیَّة المهملة بحکم الوضع الأوّل.

والمعنی الثَّانِی: هو الْمَاهِیَّة المطلقة، بحکم الوضع الثَّانِی.

والمفروض هنا هو تجرد اسم الجنس عن القید، فیدور مراد الْمُتِکَلِّم بین المعنیین. وعدم وجود قرینة فِی المقام یحیل دون استفادة الإِطْلاَق ویعرقلها.

ص: 136

وَقُلْنَا: إِنَّ بالإمکان الإجابة عن هذا الاعتراض بأن الأصل الأولیّ فِی المشترک اللَّفظیّ هو أن الْمُتِکَلِّم یرید کلا المعنیین المشترکین لفظیّاً من منطلق کونهما حقیقیّین (لأَنَّ الأصل فِی کُلّ متکلم أن یرید المعنی الحقیقی)، إلاَّ أَنَّنَا إن قلنا بأن الْمُتِکَلِّم إن أراد «کلا المعنیین» المشترکین لفظیّاً (مثل کلمة «قروء» فِی قوله: {والمطلقات یتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} حیث أنها مشترک لَفْظِیّ بین «ثلاثة حیضات» وبین «ثلاثة أطهار») فیلزم منه محذور تعدّد اللِّحَاظ (أی: یلزم منه لحاظ شَیْئَیْنِ متباینین) وإن أراد «أحدهما دون الآخر» فهو ترجیح بلا مرجِّح وإن أراد«أحدهما الْمُرَدَّد» فَیَکُونُ فاقداً للمعنی.

إذن، إن مَحْذُور تعدّد اللِّحَاظ هو سرّ ابتلاء المشترک اللَّفظیّ بالإجمال (وإلا فکنّا نحمله عَلَیٰ کلا المعنیین)، فنحتاج إلی قرینة معیِّنة لرفع هذا الإجمال (لا القرینة الصارفة الَّتی یحتاجها المجازُ).

أَمَّا فِی خصوص ما نحن فیه لا مَحْذُور فِی حمل اسم الجنس عَلَیٰ کلا المعنیین ولا یلزم مَحْذُور تعدّد اللِّحَاظ؛ لأَنَّ أحد معنیی اسم الجنس هو الْمَاهِیَّة (بالوضع الأوّل) وَالثَّانِی هو الْمَاهِیَّة المطلقة (بالوضع الثَّانِی). وهذان المعنیان متداخلان؛ إِذْ أَنَّنَّا حینما نلحظ الْمَاهِیَّة بلحاظ واحد نری أنَّها موجودة فِی ضمن الْمَاهِیَّة المطلقة. إذن، لا یوجد مَحْذُور باسم تعدّد اللِّحَاظ فِی هَذَا الْفَرْضِ.

هذا هو الجواب الَّذی قد یذکر عَلَیٰ هذا الإشکال. فإن تَمَّ هذا الجواب عندنا فبه ونعم، وإلا فعلینا أن نعدل الجواب تعدیلاً لا یرد علیه هذا الإشکال.

تعدیل التَّقریب: هو أن لا نفترض اسم الجنس مَوْضُوعاً بوضعین أحدهما وضعٌ للماهیَّةِ والآخر وضعٌ ل_«عدم ذکر القید» حیث أَنَّهُ مَوْضُوع فِی اللُّغَة للإطلاق. أی: هذا الأمر المعنویّ الَّذی نعبر عنه بالتجرد عن ذکر القید هذا وُضع للإطلاق لغةً. وحینئِذٍ لا یوجد لدینا مشترک لَفْظِیّ حتّی یأتی ذاک الإشکال (بأن المشترک اللَّفظیّ یحتاج إلی قرینة مُعَیِّنَة ولا توجد قرینة مُعَیِّنَة فِی المقام)، بل عندنا وضع لاسم الجنس ووضع آخر للتجرد عن ذکر القید.

ص: 137

هذا هو التَّقریب الأوّل للفرضیة الثَّانیة، فهل هذا التَّقریب (سواء بشکله المعدَّل أو بشکله غیر المعدَّل) صحیح أو لا؟

الجواب عن التَّقریب بشکلیه: هو أن هذا التَّقریب وإن کان معقولاً ثبوتاً وفی نفسه، لکن یرد علیه أَنَّهُ خلاف الاستظهار الْعُرْفِیّ الخارجیّ؛ فَإِنَّنَا نلاحظ خارجاً فِی موارد عدم تَمَامِیَّة ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ السیاقی (الَّذی تحدثنا عنه فِی الْفَرَضِیَّة الأولی)، بل کان (بصدد الإهمال والإجمال) متعمّداً أن یذکر کلامه مُجْمَلاً ومهملاً، لغرض من أغراضه، کالآیات المتشابهة فِی القرآن الکریم، فلا نستفید الإِطْلاَقَ فِی هذه الموارد، والحال أن المفروض بناءًا عَلَیٰ هذا التَّقریب هو استفادة الإِطْلاَق بینما لا تَتُِمّ استفادته؛ لأَنَّهُ لم یکن بصدد تمام مراده بکلامه، وهذا یکشف أن استفادة الإِطْلاَق منوطة بذاک الظُّهُور الْحَالِیّ، وإلا لو کانت استفادة الإِطْلاَق مرتبطة بوضع اسم الجنس (بالنحو الأوّل وهو أَنَّهُ مع عدم ذکر القید مَوْضُوع للإطلاق أو بالنحو المعدَّل بأَنَّ اسم الجنس مَوْضُوع للماهیَّةِ وعدم ذکر القید مَوْضُوع للإطلاق) لکان المفروض أن نستفید الإِطْلاَقَ حتّی فِی موارد الإهمال والإجمال (= حتّی فِی الموارد الَّتی لا یکون الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مراده بکلامه)؛ فإنکم ربطتم الإطلاق بالوضع، لا بالظهور الحالی، فینخرم هذا التَّقریب الأوّل.

فهذا منبه وجدانی عَلَیٰ عدم صحَّة هذا التَّقریب، وعدم إمکان الاستغناء فِی مقام استفادة الإِطْلاَق من ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ السیاقی الَّذی ذکرناه.

التَّقریب الثَّانِی لهذه الْفَرَضِیَّة الثَّانیة أن یقال: إن اسم الجنس فِی حدّ ذاته موضوع لأصل الْمَاهِیَّة وهذا ما قد فرغنا عنه سابقاً، لکن العقلاء تعهدوا بِأَنْ یَّکُونَ عدم ذکر القید کاشفاً عندهم عن الإِطْلاَق، أی: تبانی العقلاء عَلَیٰ أَنَّهُ متی ما ذَکروا اسم الجنس ولم یذکروا القید أرادوا الإِطْلاَق، فهذا تعهد عُقَلاَئِیّ یکشف عن الإطلاق.

ص: 138

وتوضیحه: لو بینینا نحن فِی باب الوضع عَلَیٰ مسلک التَّعَهُّد الَّذی بنی علیه السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله وقال: لَیْسَ الوضع أساساً إلاَّ تعهد مِن قِبَلِ کل متکلم بأَنَّهُ إذا ذکر اللَّفظ (کالأسد) یرید منه المعنی الفلانی (وهو الحیوان المفترس فِی المثال). ومن هنا یری رحمه الله أنَّ کل متکلم هو واضع، لا أنَّ هناک واضعاً وضع الألفاظ للمعانی لیأتی الآخرون ویستعملوها فِی تلک المعانی. وإذا کان هکذا فَیَکُونُ هذا التَّقریب راجعاً إلی التَّقریب الأوّل؛ لأَنَّ التَّعَهُّد هو وضعٌ، وسوف یکون الإِطْلاَق مستفاداً من الوضع.

أَمَّا إذا لم نبن عَلَیٰ مبناه رحمه الله ولم نقل بأن حقیقة الوضع هی التَّعَهُّد - کما لم نقل به - بل قلنا بالقرن الأکید، فحینئذٍ یصبح هذا التَّقریب تقریباً مستقلاًّ عن التَّقریب الأوّل، بل یرتبط بالتزام والتَّعهد العُقَلاَئِیّ المخصوص الَّذی یکشف عن إرادة الإِطْلاَق عند العقلاء، بأنهم کُلَّمَا ذکروا اسم الجنس ولم یذکروا القید.

الجواب: أَنَّهُ یرد عَلَیٰ هذا التَّقریب نفس الإیراد الَّذی أوردناه عَلَیٰ التَّقریب السَّابِقَ، وهو أَنَّهُ یلزم من هذا التَّقریب أن نستفید الإِطْلاَق حتّی فِی موارد عدم تَمَامِیَّة ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ (أی: فِی مورد علمنا وجزمنا أن الْمُتِکَلِّم لم یکن بصدد بیان تمام مراده بکلامه)؛ لأَنَّ هذه الْفَرَضِیَّة لا تُربط الإِطْلاَقَ بالظُّهُور الْحَالِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ بل یفترض أن هناک تعهداً والتزاماً عُقَلاَئِیّاً بأَنَّهُ کُلَّمَا ذکروا اسم الجنس ولم یذکروا القید یریدون الإطلاقَ، والحال أَنَّنَا لا نستفید الإِطْلاَق فِی الموارد الَّتی نعلم بأن الْمُتِکَلِّم بصدد الإجمال قَطْعاً. فلو کان الإِطْلاَق مُرْتَبِطاً بهذا التَّعَهُّد والالتزام الْعُقَلاَئِیّ لکان المفروض أن نستفید الإِطْلاَق حتّی فِی موارد تعهد الإجمال والإهمال مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم. وهذا دلیل عَلَیٰ أن الإِطْلاَق إِنَّمَا هو من شؤون الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة لذاک الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی ذکرناه، ولیس ناشئاً من ملاک مستقلّ، سَوَاءٌ کَانَ هذا الملاک المستقل عبارة عن الوضع، أو کان عبارة عن التَّعَهُّد، أو أی شیء آخر؛ لأَنَّهُ لو کان له ملاک مستقلّ لَمَا ارتبط الإطلاقُ بذاک الظُّهُور وجوداً وعدماً، بینما نحن نری أَنَّهُ مرتبط به.

ص: 139

إذن، فالفرضیة الثَّانیة لاستفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس غیر تامَّة (وهی فرضیة استفادة الإِطْلاَق من شیء آخر غیر الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدّم ذکره).

فَالصَّحِیحُ فِی المقام عبارة عن الْفَرَضِیَّة الأولی الَّتی تقول: إن الإِطْلاَق إِنَّمَا یستفاد من قرینة الحِکْمَة، بدعوی أن الإِطْلاَق مدلول اِلْتِزَامِیّ لظهور حالی ینعقد لِلْمُتِکَلِّمِ عادةً، وهذا الظُّهُور مفاده ومقتضاه أن الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مرامه بکلامه، وهذا الظُّهُور یَسْتَلْزِم (له دلالة التزامیة عُرْفِیَّة وعقلیة) عَلَیٰ أن الْمُتِکَلِّم أراد المطلق؛ لأَنَّ المفروض أن لا یزید کلامه عَلَیٰ مرامه ولا مرامه یزید عَلَیٰ کلامه. وهذا الظُّهُور فِی الواقع عبارة عن صیاغة فنیة لمقدمات الحِکْمَة الَّتی ذکرها الأصحاب.

والآن بعد أن اتَّضَحَ ارتباطُ استفادة الإِطْلاَق بهذا الظُّهُور الْحَالِیّ، وتبیَّن أن منشأ دلالة الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق هو هذا الظُّهُور الْحَالِیّ، فحینئذٍ لا بُدَّ لنا أن نتعرض لخلافین فِی المقام ویرجع کل من هذین الخلافین فِی الحقیقة إلی تحدید هذا الظُّهُور الْحَالِیّ (بعد أن أثبتنا أصلَه)، فما هو بالضَّبط؟

الخلاف الأوّل: حول أن المقیِّد المنفصل أو قل القید المنفصل أو قل القرینة المنفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید، هل هذه تهدم الظُّهُور والإطلاق أو لا؟

الخلاف الثَّانِی: حول وجود القَدْر المتیَقَّن فِی باب التخاطب هل یخلّ بالظهور والإطلاق أو لا؟ وکل من هذین الخلافین یرجع إلی الخلاف حول هذا الظُّهُور الْحَالِیّ، فلا بُدَّ من أن ندرس الخلافین معاً،

أَمَّا الخلاف الأوّل حول القرینة المنفصلة، فقد اتفقوا عَلَیٰ أن المقیِّد المتصل یهدم الظُّهُور (مثل: «أکرم الإنسان العالم» حیث أنَّ کلمة «العالم» تمنع من أن ینعقد للإنسان إطلاق) ثم اختلفوا فِی أن المقیِّد المنفصل (مثلما إذا قال: «أکرم الإنسان» ثم سکت سکوتاً طویلاً یعتبره العرف مُنْفَصِلاً عن الکلام الثَّانِی الَّذی ذکر فیه «العالم») هل یهدم ظهور الکلام الأوّل فِی الإطلاق، أو أن هذا لا یهدم ظهور الأوّل المنعقد فِی الإِطْلاَق، بل عندنا کلام مطلق وعندنا کلام آخر مقیِّد، فیتکاذبان بعضهما البعض ویدخلان فِی باب التعارض، والعرف حینئذٍ یجمع بینهما بحمل المطلق عَلَیٰ المقیَّد. أی: یسبب الکلام الثَّانِی أن نرفع الید عن الکلام الأوّل. أی: تسقط حجیة الکلام الأوّل ولا یسقط ظهوره الإطلاقی.

ص: 140

وسوف ندرس الصَّحِیح منهما إن شاء اللٰه فِی یوم السبت، أَمَّا غداً فیصادف استشهاد الإمام السجاد علیه السلام.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا بعد أن بَیَّنَّا کیفیَّةَ استفادة الإِطْلاَق من اسم الجنس (وذلک عَلَیٰ أساس الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی ذکرناه) لا بُدَّ من التَّعَرُّض لمسألتین خلافیتین مرجع کلتیهما إلی الخلاف فِی تحدید ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ ومدی دلالته، وهما:

المسألة الأولی: عبارة عن الخلاف فِی أن المقیِّد المنفصل هل یهدم الظُّهُورَ فِی الإِطْلاَق کالمقیِّد المتَّصِل أو ینفی حُجِّیَّته فحسب؟

والمسألة الثَّانیة: فِی أنَّ وجود القَدْرِ المتیَقَّنِ فِی مقام التخاطب هل یهدم أو یمنع عن انعقاد ظهورٍ فِی الکلام عن الإِطْلاَق (= هل یضرّ بالإطلاق)؟

فلا بُدَّ من دراسة هَاتَیْنِ المسألتین تباعاً:

أَمَّا المسألة الأولی: فتوضیحها هو أَنَّهُ بعد اتفاقهم عَلَیٰ أن المقیِّد المتصل یهدم الظُّهُور فِی الإِطْلاَق بلا إِشْکَال، اختلفوا فِی أن المقیِّد المنفصل هل هو کذلک؟ فعلی سبیل المثال إن قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» ثُمَّ بیَّن قیدَ العدالة فِی کلام آخر منفصلٍ عن هذا الکلام قائلاً: «لا تکرم العالم الفاسق» أو «إن العالِم الَّذی یجب إکرامُه یجب أن یکون عادلاً» (أو بأی لسان آخر)، فهل هذا المقیِّد المنفصل یسبّب أن لا یبقی للکلام الأوّل ظهور فِی الإِطْلاَق أبداً؟ أو أنَّ الکلام الأوّل تستقر دلالتُه عَلَیٰ الإِطْلاَق بمجرّد ذِکر «العالم» مِنْ دُونِ ذکر قیدٍ مُتَّصِل به، ومجیء القید المنفصل لا یوجب انثلامَ ذاک الظُّهُور الإطلاقی وإنَّما یکذِّبه قائلاً: ذاک الظُّهُور غیر مراد جِدّاً لِلْمُتَکَلِّمِ، لا أَنَّهُ ینفی أصل ذاک الظُّهُور، بل إنّ أصل الظُّهُور باقٍ، ولازال الکلام الأوّل ظاهراً فِی الإِطْلاَق (= فِی وجوب إکرام العالم، و«العالم» مطلق)، إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. والکلام الثَّانِی یکذّب هذا الظُّهُور قائلاً: إنَّ هذا الظُّهُور لَیْسَ بمرادٍ جِدّاً لِلْمُتِکَلِّمِ. ومعنی ذلک أنَّ المقیِّد المنفصل یهدم حجیةَ الکلام المطلق، لا أَنَّهُ یهدم ظهوره فِی الإِطْلاَق.

ص: 141

أَمَّا الآخوند الخُراسانیّ فذهب إلی أن المقیِّد المنفصل لا یهدم أصل الظُّهُور، بل یهدم حُجِّیَّته، بینما ذهب النائینی إلی أَنَّهُ یهدم أصل الظُّهُور الإطلاقی.

وَالَّذِی ینبغی أن یکون هو المنشأ لهذا الاختلاف عبارة عن الاختلاف فِی تحدید ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدّم الَّذی قلنا إِنَّه یَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّة الْعَقْلِیَّة أو الْعُرْفِیَّة عَلَیٰ أن الْمُتِکَلِّم حینما یذکر اسم الجنس مِنْ دُونِ القید یکون قد أرادَ الإِطْلاَق؛ لأَنَّهُ إن أراد التَّقْیِید دون الإِطْلاَق فمعناه أَنَّهُ لم یُبَیِّن تمام مراده بکلامه، بینما یقول الظُّهُور الْحَالِیّ: إن ظاهر حال کل متکلم هو أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده بکلامه.

ولکن ما هو مفاد هذا الظُّهُور بالتحدید؟ فهل أن مفاده هو أن حال کل الْمُتِکَلِّم ظاهر فِی کونه بصدد بیان تمام مراده بشخص کلامه هذا؟ أم أن ظاهر حال کل متکلم أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده فِی مجموع کلماته طیلة عمره، لا فِی شخص هذا الکلام. أیهما هو الظهور الْحَالِیّ الْعُرْفِیّ الْعُقَلاَئِیّ للمتکلمین؟

فإن بنینا عَلَیٰ الأوّل فَسَوْفَ یکون الحق مع الخُراسانیّ؛ لأَنَّهُ قد بیَّن تمام مراده فِی هذا الکلام، فإذا لم یکن فِی هذا الکلام قیدٌ فَیَکُونُ مراده هو المطلق؛ لأَنَّ ظاهر حاله هو أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده الْجِدِّیّ فِی شخص هذا الکلام ولا یوجد فِی شخص هذا الکلام قیدٌ.

وأمّا إن بنینا عَلَیٰ الثَّانِی فلا یکون کلامه مخالفاً لظهور حاله، والأصل عدم المخالفة؛ إِذْ أَنَّ الأصل فِی کُلّ متکلم أَنَّهُ یتکلم وَفق الأصول الْعُقَلاَئِیَّة الجاریة فِی المحاورات، ومن جملة هذه الأصول أن کلّ متکلم بصدد بیان تمام مراده الْجِدِّیّ فِی شخص کلامه. فإذا لم یذکر قیداً مُتَّصِلاً فِی شخص کلامه واستقر الکلام الأوّل وَصَحَّ السُّکوت علیه، یکون ظاهر حاله أَنَّهُ بیَّن کلَّ مراده فِی هذا الکلام، وکلُّ مراده هو اسم الجنس؛ لأَنَّهُ مطلقٌ. فَیَکُونُ الحق مع صاحب الکفایة من أن المقیِّد المنفصل لا یهدم هذا الظُّهُور المستقَرّ فِی الإطلاق.

ص: 142

إذن، أصبحنا أَمام ظهور فعلی ناجز جاهز قائم، ومن ثَمَّ إن جاء کلام آخر مخالف، فَسَوْفَ یخالف هذا الظُّهُور ویکذّبه قائلاً: إن ما یظهر من هذا الکلام لَیْسَ بمرادٍ جِدّاً.

وحینئِذٍ یجب الرجوع إلی أسالیب الجمع الْعُرْفِیّ، فقد یُقدِّم الجمعُ العرفی الثَّانِی عَلَیٰ الأوّل، أی: یقول: إن ذلک یوجب هدم حجیة هذا الظُّهُور، لا أَنَّهُ ینفی وینسف ظهوره من الأساس. فشأن المقیِّد المنفصل شأن المخصص المنفصل. فعلی سبیل المثال حینما یقول: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» ثُمَّ یخصصه قائلاً: «لا تکرم العالم الفاسق» لا یکون قد هدَّم بهذا التخصیص ظهورَ الکلام الأوّل فِی العموم، بل یبقی الکلام الأوّل (حتّی بعد مجیء المخصص المنفصل) ظاهراً فِی العموم والشمول لکل العلماء حتّی ذاک الشخص المستثنی، لکن هذا الظُّهُور لَیْسَ بمراد من الْمُتِکَلِّم بقرینة المخصص المنفصل، ولا یمکن الاعتماد عَلَیٰ هذا الظُّهُور الأول، أی: لَیْسَ حجّة. فلا یرتفع هذا الظُّهُور وإنَّما ترتفع حُجِّیَّته بمجیء المخصص المنفصل.

هذا إذا بنینا عَلَیٰ أن الصِّیَاغَة الفنیة للظهور الْحَالِیّ الَّذی تکلمنا عنه عبارة عن أن الْمُتِکَلِّم إِنَّمَا هو بصدد بیان تمام مرامه فِی شخص کلامه.

وأمّا إذا بنینا عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأخری الَّتی تقول بأن صیاغة الظُّهُور الْحَالِیّ هی أن ظاهر حال کل الْمُتِکَلِّم أَنَّهُ بصدد بیان تمام مرامه فِی مجموع کلامه، لا فِی خصوص هذا الکلام، فَسَوْفَ یکون الحق مع النائینی القائل بأن المقیِّد المنفصل یهدم الظُّهُورَ؛ لأَنَّهُ وإن صَحَّ أَنَّهُ ذکر فِی کلامه الأوّل اسمَ الجنس ولم یذکر القید، لکن مع ذلک لا مانع من أن یرید بکلامه الأوّل المقیَّد؛ فلا یکون مخالفاً لظهوره الْحَالِیّ؛ لأَنَّ ظهوره الْحَالِیّ هو أن الکلام الأوّل مع الکلام الثَّانِی ومع الکلام الثَّالث و... کُلّهَا یُبَیِّن مرادَه. فکلامه الأوّل لَیْسَ ظاهراً فِی أَنَّهُ أراد الإِطْلاَق حتّی یکون الثَّانِی مکذِّبا للکلام الأوّل. فلا یکون الإِطْلاَق منعقداً بالکلام الأوّل. أی: لا یکون هناک مخالفة بین ظاهر کلامه الأوّل وبین ما أراده من التَّقْیِید.

ص: 143

إذن، فکل من یبنی عَلَیٰ أن إحدی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ عدمُ ذکر القید المتصل، فهذا معناه أن الظُّهُور الْحَالِیّ عند هذا الشخص إِنَّمَا هو الصِّیَاغَة الأولی (أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده فِی شخص کلامه)، ومن هنا سوف تکون إحدی مقدّمات الحِکْمَة عند هذا الشخص عبارةً عن عدم ذکر القید المتصل. هذا عند صاحب الصِّیَاغَة الأولی.

أَمَّا من یبنی عَلَیٰ أن إحدی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ عبارة عن عدم ذکر القید ولو مُنْفَصِلاً، فمعناه أن الظُّهُور الْحَالِیّ عند هذا الشخص هی الصِّیَاغَة الأوسع الَّتی ذکرناها، وهی أن هذا الْمُتِکَلِّم بصدد بیان مراده فِی مجموع کلامه.

هذا بیان لأصل الخلاف وجذره ومنشأه، أَمَّا أَنَّ «الحق مع من؟» فلا إِشْکَال فِی أن الحق مع صاحب الکفایة، أی: أن المقیِّد المنفصل لاَ عَلاَقَةَ لَهُ بأصل الظُّهُور فلا یهدم أصل الظُّهُور والإطلاق؛ فإن الإِطْلاَق ینعقد للکلام بمجرّد عدم ذکر المقیِّد المتصل. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. أی: ظاهر حال الْمُتِکَلِّم حینما یتصدَّی لإبراز معنیً من المعانی بکلامٍ، فظاهر حاله هو أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده بشخص کلامه؛ لأَنَّهُ یلزم عَلَیٰ کلام النائینی لازمٌ باطل یکشف ببطلانه عن بطلان الملزوم.

واللازم الباطل هو أن هذا الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی ذکرناه (من أن الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مراده) إذا کان کما یقوله المیرزا (بأن ظاهر حال کل متکلم أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده بجموع کلامه)، فلازمه أَنَّهُ لا یجوز لنا أن نتمسک بالإطلاق فِی کُلّ مورد نحتمل فیه صدور مقیِّد منفصل؛ لأَنَّ الظُّهُور الْحَالِیّ هو أن الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مراده فِی مجموع کلامه، أی: مراد الْمُتِکَلِّم مبیَّن فِی مجموع کلامه، هذا الکلام و ما سیصدر وما صدر مستقلاًّ عنه فِی کلام سابق. فإذا احتملنا أن له کَلاَماً آخر فِی نفس هذه المسألة فلا نقدر أن نتمسک بإطلاق هذا الکلام.

ص: 144

فاللاَّزِم الباطل لکلام النائینی هو نسف أصالة الإِطْلاَق من أساسها، بینما یکثر وجود المقیِّدات فِی الشّریعة، فعلی سبیل المثال یتحدث الإمام الصادق علیه السلام بحدیث شریف ثُمَّ یرد المقیِّد فِی حدیث الإمام الرضا علیه السلام أو الإمام الهادی علیه السلام.

إذن، اللاَّزِم الباطل هو أَنَّهُ بناء عَلَیٰ هذا الکلام لا یمکن حمل هذا الکلام الأوّل عَلَیٰ الإِطْلاَق، أی: یکون احتمال المقیِّد المنفصل مثل الاحتمال المقیِّد المتصل تماماً، فَکَمَا أَنَّ احتمال المقیِّد المتصل یمنع من حمل الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق فکذلک یمنع المقیِّد المنفصل عن انعقاد الإِطْلاَق عَلَیٰ مبنی المیرزا، وهذا فِی الحقیقة تعطیل لأصالة الإِطْلاَق، فِی کُلّ ما یحتمل فیه التَّقْیِید المنفصل، وغالباً وعادةً نحتمل فِی الخطابات الشَّرعیَّة وجود تقییداتٍ منفصلة.

هنا، قد یُدافع عن المیرزا ویُنتصر له بأن له ولمن یقول بمقالته (= أن المقیِّد المنفصل یهدم أصل الظُّهُور) أن یتمسّک بطریقة لنفی هذا الاحتمال وَالطَّرِیقَة هی التَّمسُّکُ بأصالة عدم القرینة لنفی وجود قرینة منفصلة، وحینئِذٍ یَتُِمّ الإطلاق (لانتفاء القرینة المتَّصلة والمنفصلة).

إلاَّ أن هذا الدفاع لا ینفع؛ لأَنَّنَا نتساءل: هل أن المقصود من «بأصالة عدم القرینة» أَنْ تَکُونَ أصلاً عُقَلاَئِیّاً أم أصلاً شَرْعِیّاً (کاستصحاب عدم القرینة)؟

إذا کان المقصود هو الأوّل، فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ العقلاء یجرون هذا الأصل الْعُقَلاَئِیّ عند احتمال وجود قرینة منفصلة عَلَیٰ خلاف ظهور فعلیّ ناجز وجاهز ومستقر ولا یرتّبون أثراً عَلَیٰ احتمال القرینة المنفصلة، ولکن أین نحن من ذاک الظُّهُور القائم فِی المقام؟ فإن المفروض عدمُ وجود ظهور فِی المقام؛ لأَنَّ الظُّهُور عند المیرزا متقوّم بأن لا تکون هناک قرینة منفصلة. فالظهور هنا متوقّف عَلَیٰ عدم القرینة المنفصلة فکیف نقول بأن العقلاء یجرون هنا أصالةَ عدم القید والقرینة؟

ص: 145

فلا تجری فِی المقام أصالة عدم القرینة عند العقلاء.

وإن أرید بأصالة عدم القرینة الأصل الشَّرْعِیّ والتَّعَبُّد الشَّرْعِیّ (کاستصحاب عدم القرینة)، بأن یقول المیرزا بأننا نقطع بعدم وجود قرینة منفصلة سابقاً (ولو قبل الشّریعة)، وبعد التشریع نشک بأَنَّهُ هل یوجد تقیید منفصل لهذا التشریع أو لا؟ لیَکُون الأصل عدمه، فنستصحب عدم القرینة المفصلة.

وحینئِذٍ یطرح السُّؤَال نفسه بأنکم تریدون إثبات أی شیء بهذا الاستصحاب؟ فهل تریدون إثبات أن مراد الْمُتِکَلِّم هو المطلق؟ إن کان هذا هو المقصود فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّه «أصل مثبت». أی: توجد ملازمة عَقْلِیَّة أو عُرْفِیَّة بین أن لم یکن قد ذکر القید المنفصل وبین أن یکون قد أراد الإِطْلاَق. وأنت استصحبتَ عدم القید لکی تثبتَ هذا اللاَّزِم العَقْلِیّ وهو أنه «إذن أراد المطلق». وهذا من أظهر مصادیق الأصل المثبت؛ لأَنَّ إرادته الإطلاقَ لَیْسَ أثراً شَرْعِیّاً یترتَّب علی المستصحَب؛ فَإِنَّ الآثار الشَّرعیَّة تترتّب عَلَیٰ المستصحَب، ولیس الآثار الْعَقْلِیَّة؛ فإن المستصحَب عبارة عن «عدم ذکر القید المنفصل» ولطالما ذکر اسم الجنس و لم یذکر اسم الجنس فَیَکُونُ قد أراد المطلق. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذه النَّتِیجَة القائلة «إذن أراد المطلق» لازم غیر شَرْعِیّ، بل هو لازم عقلی أو عُرْفِیّ. إذن هذا الاستصحابُ لا ینتجُ.

وقد یتخیّل کما ذکر النائینی هذا التخیل حسب تقریرات تلمیذه البارز السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله( (1) ) وهو أن بالإمکان أن یتخلص النائینی ببیان یأتی مع جوابه غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1593 کلمة.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

ص: 146


1- (1) - أجود التقریرات: ج1، ص530.

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا ندرس أن المقیِّد المنفصل هل یخلّ بالظهور والإطلاق أم لا؟ وَقُلْنَا: إِنَّ المُحَقِّق النائینی اختار أن المقیِّد المنفصل یخلّ بالإطلاق، بمعنی أن إحدی مقدّمات الحِکْمَة عنده عبارة عن عدم ذکر القید سواء القید المتصل أو المنفصل. فکما لو ذکر القیدَ المتصل لا ینعقد للکلام إطلاق، کذلک لو ذکر القید المنفصل لا ینعقد للکلام إطلاق.

ونحن أرجعنا کلامه هذا إلی أن یکون الظُّهُور الْحَالِیّ (الَّذی تحدثنا عنه) عنده عبارة عن أن ظهور حال کل الْمُتِکَلِّم أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده فِی مجموع کلامه، وعلی أساسه یقول المیرزا بأن الْمُتِکَلِّم إذا ذکر القیدَ فِی مجموع کلامه - وإن لم یذکره فِی شخص کلامه - وحملنا کلامه عَلَیٰ المقیَّد، لا یلزم منه خلفُ الظهور الْحَالِیّ.

فکنا بصدد دراسة هذا الکلام وفی هذا السِّیَاق قلنا بالأمس: إن هذا الکلام یُنتَقض بأَنَّهُ إن بنینا علیه فَسَوْفَ لا یصحّ التَّمسُّک بالإطلاق فِی کُلّ مورد یحتمل فیه صدورُ المقیِّد المنفصل، وبالتَّالی لا یمکن التَّمسُّک بأصالة الإِطْلاَق.

وقد ذکر النائینی نفسه طریقاً لِلتَّخَلُّصِ من هذا المأزق حیث قال: إن لقولنا «الإِطْلاَق مشروط بعدم ذکر القید ولو مُنْفَصِلاً» صورتان، لا تُنتقض إحداهما بهذا النقض دون الأخری، وهما کالتالی:

الصُّورَة الأولی: افتراض أنَّ إجراء الإطلاق فِی کُلّ کلام مشروطٌ بعدم ذکر مقیِّد منفصل ولو فِی المستقبل، فإن جاء مقیِّد فِی المستقبل یکشف عن عدم انعقاد الإِطْلاَق لهذا الکلام من البدایة؛ لأَنَّ دلالة هذا الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق مشروط بِنَحْوِ الشَّرْطِ المتأخر بعدم مجی المقیِّد المنفصل بعد ذلک.

فبناء عَلَیٰ هذه الصُّورَة یأتی النقض المذکور؛ إذ طالما نحتمل أَنَّهُ قد یأتی مقیِّد منفصل فِی المستقبل، لا نحرز شرط الإِطْلاَق المتأخر، ومع عدم إحراز شرط الإِطْلاَق لا یَتُِمّ الإِطْلاَق، وعدم تَمَامِیَّة الإِطْلاَق معناها تسجیل هذا النقض عَلَیٰ الصُّورَة الأولی.

ص: 147

الصُّورَة الثَّانیة: أن نقول بأن الإِطْلاَق فِی الکلام مشروط بعدم المقیِّد بِنَحْوِ الشَّرْطِ المقارن (لا بِنَحْوِ الشَّرْطِ المتأخر)، بِأَنْ یَّکُونَ الإِطْلاَق فِی کُلّ کلام مشروطاً بِأَنْ لاَّ یَکُونَ فِی ذاک الوقت مقیِّد ولو مُنْفَصِلاً. فعلی سبیل المثال إن قال الْمُتِکَلِّم فِی یوم السبت: {أحل اللٰه البیع} ولم یذکر مقیِّداً مُنْفَصِلاً فِی یوم السبت ینعقد الإِطْلاَق، ولکن بقاء الإِطْلاَق إلی یوم الأحد مشروط بِأَنْ لاَّ یَکُونَ هناک مقیِّد ولو منفصل فِی یوم الأحد ولکن حدوث الإِطْلاَق لَیْسَ مشروطاً بأن لا یأتی مقیِّد فِی یوم الأحد. بحیث إن جاء یوم الأحد مقیِّد لکلامه (الصَّادر فِی یوم السبت) لا یکشف هذا المقیِّد عن عدم انعقاد الإِطْلاَق لکلامه فِی یوم السبت، بل کان لکلامه إطلاق فِی یوم السبت ولٰکِنَّه لم یبق إلی یوم الأحد الَّذی جاء فیه المقیِّد. وبالتَّالی لا یرد النقض عَلَیٰ المیرزا فِی هذه الصُّورَة الثَّانیة؛ لأَنَّ الإِطْلاَق ینعقد للکلام الفاقد للمقیِّد المتصل والمنفصل فِی الیوم الأوّل ویبقی احتمال ورود المقیِّد المنفصل بعد انعقاد الإِطْلاَق فِی الأیام والسنین اللاحقة، فإن ورد مقیِّد فِی الأزمنة التالیة فَسَوْفَ یهدم هذا المقیِّد ذاک الإِطْلاَق، أی: یزول الإِطْلاَقُ بقاءً لا حدوثاً.

وهذا ینتج مقصود المُحَقِّق النائینی، وهو أَنَّهُ متی ما جاءت القرینة فِی المستقبل ینهدم الإِطْلاَق نفسه (لا حُجِّیَّته کما یقول الآخونی)، لکن ینهدم من حین مجیء القرینة. أی: القرینة تمیت الَّذی کان موجوداً، لا أنّ القرینة تکشف عن موت الإِطْلاَق من الأوّل. وبهذا یمکن التَّخلُّص من المأزق الَّذی واجهه المیرزا مع إصراره عَلَیٰ المبنی.

الجواب: إلاَّ أن هذا التَّخلُّص لا یجدی المیرزا نفعاً وذلک:

أوَّلاً: لأَنَّ هذا غیر معقول فِی نفسه أساساً؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق بالمعنی الَّذی نتحدث عنه (أی: الظُّهُور ودلالة الکلام) لَیْسَ أمراً له حدوث وبقاء؛ فهو یختلف عن الْحُجِّیَّة الَّتی هی حکم عُقَلاَئِیّ وشرعی یمکن أن یکون ثابتاً فِی یوم السبت ولا یکون ثابتاً فِی یوم الأحد؛ إذ هو شیء له الْحُجِّیَّة فِی یوم السبت ولکن ترتفع حُجِّیَّته فِی یوم الأحد بمجیء حجّةٍ أقوی منه. أَمَّا الظُّهُور فشأنه لَیْسَ هکذا؛ فَإِنَّ دلالة الکلام وظهوره عَلَیٰ مطلبٍ إما یکون موجوداً وإما لا یکون موجوداً، أَمَّا أن یکون له ظهور الآنَ ولکن غداً لا یکون له ظهور فهذا غیر معقول؛ لأَنَّ تکوّن الظُّهُور فِی الیوم الأوّل حقیقةٌ وواقعٌ ولا ینقلب الواقع عمَّا وقع علیه.

ص: 148

وثانیاً: إن سلمنا بأن هذا معقول، لکن مع ذلک لا یتخلص النائینی من النقض الَّذی أوردناه علیه؛ وذلک لأَنَّهُ إن صدر کلام مطلق من الْمُتِکَلِّم وشککنا فِی أَنَّهُ صدرت قرینة عَلَیٰ التَّقْیِید منه أو لا؟ لا یمکن التَّمسُّک بإطلاق هذا الکلام بناء عَلَیٰ مبنی المیرزا؛ لأَنَّ الإِطْلاَق له حدوثٌ وبقاء (عند النائینی)، وبقاؤه مشروط بعدم القرینة عَلَیٰ القید. ونحن قد شککنا فِی هذا الشَّرْط، وإذا شککنا فِی شرط الإِطْلاَق نکون قد شککنا فِی الإِطْلاَق نفسه. إذن، لا یَتُِمّ الإِطْلاَق وهذا هو النقض عینه؛ لأَنَّ الإِطْلاَق إِنَّمَا یَتُِمّ عندکم مع إحراز شرطه، وشرطه أن لا تکون هناک قرینة عَلَیٰ القید، ولو بنحو الصُّورَة الثَّانیة الَّتی تقولونها (ولیس بِنَحْوِ الشَّرْطِ المتأخر فِی الصُّورَة الأولی).

فإن قلت دفاعاً عن المیرزا: نستصحب الإطلاقَ، حَیْث أَنَّ الإِطْلاَق کان موجوداً أن الإِطْلاَق له حدوث وبقاء، ولکن قلتم لا یوجد یقین ببقاء الإِطْلاَق.

قلت: لا یمکن ربط مصیر الإِطْلاَق بمصیر الاستصحاب، إذ لو لم نبن عَلَیٰ حجیة الاستصحاب فَسَوْفَ لا یکون لدینا الإِطْلاَق، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الإطلاقات الواردة فِی الکتاب والسنة لیست متوقّفة عَلَیٰ صحیحة زرارة المثبِتة للاستصحاب بالوجدان الفقهیّ( (1) ).

وهذا دلیل عَلَیٰ أَنَّهُ یجب علینا أن نصوغ نظریَّة الإِطْلاَق بنحو یُصَحِّح التَّمسُّکَ بالإطلاقات الواردة فِی الکتاب والسنة مباشرة ومن دون الحاجة إلی حجیة الاستصحاب أو إلی حجیة أی شیء آخر. فنتمسک بالإطلاق فِی موارد احتمال القرینة المنفصلة، وهذا ما لا یمکن عَلَیٰ مبنی المُحَقِّق النائینی، فلا یصحّ التَّمسُّک بأصالة الإِطْلاَق فِی کُلّ مَوْرِد نحتمل فیه القیدَ المنفصل، وهذا معناه تعطیل أصالة الإِطْلاَق، وقد تقدّم أن أصالة عدم القرینة لا تجری أیضاً، وبینا السَّبَب. فلا یمکن التَّخلُّص من هذا المأزق أبداً، فنبقی نحن والنقض عَلَیٰ قوّته.

ص: 149


1- (1) - مضافاً إلی وجود إطلاقات فِی أدلّة الاستصحاب نفسها. منه عفی عنه.

هذا تمام الکلام فِی المسألة الخلافیة الأولی، وهی الخلاف حول المقیِّد المنفصل، وقد تبین أن الحق مع الآخوند، ولیس مع المیرزا، والحق أن المقیِّد المنفصل لا یضرّ بالظهور، وإنَّما یضرّ بحجیته، لا نفس الظُّهُور.

بعد ذلک ندخل فِی المسألة الخلافیة الثَّانیة، وهی عبارة عن الخلاف حول ما إذا کان وجود قدر متیقن فِی مقام الخطاب یضرّ بالإطلاق ویمنع من انعقاده؟ فمثلاً إن سأل السائل: «هل أتصدق عَلَیٰ الفقیر الهاشمی»؟ وأتی الجواب من الإمام × ب_«تصدق عَلَیٰ الفقیر». فَحَیْثُ توجد حصّة متیقنة من الفقیر مشمولة لجواب الإمام وهی الفقیر الهاشمی؛ لأَنَّهُ هو المسؤول عنه ولا یُعقل أن یشمل جواب الإمام × الفقیرَ الهاشمی ولا یشمل المسؤول عنه. فهل وجود هذا القَدْر المتیَقَّن یضرّ بإطلاق کلام الإمام × بحیث لا یمکن التَّمسُّک بإطلاق کلام الإمام والقول بأن قوله ×: «تصدق عَلَیٰ الفقیر» یشمل الفقیر الهاشمی کما أَنَّهُ یشمل الفقیر غیر الهاشمی. هذه هی المسألة الثَّانیة الَّتی نرید أن ندرسها غداً إن شاء اللٰه تعالی.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

انتهینا إلی المسألة الخلافیة الثَّانیة وهی عبارة عن أن وجود القَدْر المتیَقَّن فِی عالم الخطاب والکلام، هل یضرّ بالإطلاق ویمنع عن دلالة الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق کالقرینة المتَّصلة فِی المقیِّد المتصل أو لا؟

توضیح ذلک هو أن الکلام الَّذی یصدر من المتکلم له ثلاث صور:

الصُّورَة الأولی: عدم وجود القَدْر المتیَقَّن، لا فِی عالم الخطاب ولا فِی خارج مقام التخاطب.

الصُّورَة الثَّانیة: وجود القَدْر المتیَقَّن فِی الکلام، إلاَّ أَنَّهُ غیر معلوم من مقام التخاطب، بل هو معلوم من خارج الکلام والخطاب، وهذا ما یسمونه بالقدر المتیقن خارج مقام التخاطب.

ص: 150

والصورة الثَّالثة: وجود القَدْر المتیَقَّن من داخل الخطاب، وهذا ما یُسَمَّی بالقدر المتیقن فِی مقام التخاطب.

أَمَّا الصُّورَة الأولی فالإطلاق تامّ فیها بلا خلاف.

وأمّا الصُّورَة الثَّانیة فالمشهور ذهب إلی تَمَامِیَّة الإِطْلاَق فیها.

وأمّا الصُّورَة الثَّالثة فهی محلّ النِّزَاع والخلاف بین الأُصُولِیِّینَ.

أَمَّا شرح الصُّورَة الأولی فکما إذا قال المولی: «تَصَدَّق عَلَیٰ الفقیر» ولا یوجد لدینا فرد متیقن بأَنَّهُ هو مراد المولی من أفراد الفقیر؛ فَإِنَّ أفراد الفقیر کثیرة کالفقیر العالم والجاهل، والفقیر العادل والفاسق، والفقیر المجاهد والقاعد وهکذا.. وکلّ هذه الأفراد متکافئة فِی احتمال ثبوت هذا الحکم (= وجوب التصدق) له؛ إذ یحتمل أن یکون هذا الحکم مُخْتَصّاً بالفقیر الهاشمی کما یحتمل اختصاصه بباقی أفراد الفقیر. ومعنی ذلک عدم وجود فرد أولی من غیره فِی ثبوت الحکم له، أی: عدم وجود القَدْر المتیَقَّن من بین أفراد العالم.

فقلنا بأَنَّهُ لا خلاف ولا إِشْکَال فِی انعقاد الإِطْلاَق لکلام المولی فِی هذه الصُّورَة.

أَمَّا شرح الصُّورَة الثَّانیة فهو ما إذا لم تکن أفراد المطلق الوارد فِی کلام الإمام × (تصدق عَلَیٰ الفقیر) متکافئة ومتساویة فِی احتمال ثبوت هذا الحکم لها، بل هناک بعض الأفراد هی أولی من غیرها من ثبوت هذا الحکم لها. لکِنَّنََا علمنا بهذه الأَوْلَوِیَّة من خارج هذا الخطاب، کما إذا علمنا من الآیة الکریمة: {فَضَّلَ اللٰهُ المجاهدینَ عَلَیٰ القاعدینَ دَرَجةً وکُلاًّ وَّعَدَ اللٰهُ الحسنی وفَضَّلَ اللٰهُ المجاهدینَ عَلَیٰ القاعدینَ أجراً عظیماً}( (1) ) الَّتی هی خارج عن خطاب «تصدق عَلَیٰ الفقیر» أن المجاهد أولی من الفقیر القاعد فِی ثبوت هذا الحکم له.

ص: 151


1- (1) - سورة النساء (4): الآیة 95.

أو کمثالنا السَّابِقَ وهو حدیث «ثمن العذرة سحت» الوارد فِی کتاب المکاسب؛ فإن «العذرة» لفظ مطلق یشمل عذرةَ کل من الإنسان وغیر الإنسان مِمَّا یؤکل لحمه، وممَّا لا یؤکل لحمه. لکن القَدْر المتیَقَّن من مصادیق العذرة الَّذی هو أولی من غیره فِی ثبوت هذا الحکم له (= کون ثمنه سحتاً) هو عذرة الإنسان والحیوان الَّذی لا یؤکل لحمه. أی: لا نحتمل أن قوله: «ثمن العذرة سحت» مختص بعذرة الحیوان الَّذی یؤکل لحمه بحیث لا یشمل عذرة الإنسان والحیوان الَّذی لا یُحرم أکل لحمه.

ذهب الْمَشْهُور هنا إلی أن وجود القَدْر المتیَقَّن فِی خارج التخاطب لا یضرّ بالإطلاق. فقوله: «ثمن العذرة سحت» مطلق یشمل جمیع أنواع العذرات؛ لأَنَّ الإِطْلاَق تامّ (رغم أن بعض أفراد العذرة قدر متیقن) لٰکِنَّهُ من خارج الخطاب.

إذن، إن وجود القَدْر المتیَقَّن من خارج الخطاب لا یضرّ بإطلاق الخطاب، أی: لا یضرّ بذاک الظُّهُور الْحَالِیّ (الَّذی تحدثنا عنه وقلنا إِنَّه هو الأساس فِی دلالة الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق، بأن الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام مراده بشخص کلامه). فهنا إن أراد المولی من «العذرة» مطلقَ العذرة، فشخص هذا الکلام قد وفی بتمام مراده. أَمَّا إن أراد من کلمة «العذرة» فِی هذا الخطاب فرداً خاصّاً (= المقیَّد)، فلا یفی کلامه لا بتمام مراده؛ لأَنَّهُ لا یوجد فِی کلامه ما یَدُلّ عَلَیٰ الْخُصُوصِیَّة والقید. فیکون قد خالف هذا الظُّهُور الْحَالِیّ وأضرّ به، بینما مقتضی الظُّهُور الْحَالِیّ أَنَّهُ بیَّن کلَّ مراده فِی شخص کلامه. فالمشهور ذهب إلی تَمَامِیَّة الإطلاق وإحکامه فِی هذه الصُّورَة.

أَمَّا شرح الصُّورَة الثَّالثة: فهو فیما إذا تکلم المولی بکلام مطلق (مثل «أکرم الفقیر) ولم تکن أفراد المطلق (الفقیر فِی المثال) متکافئة ومتساویةً فِی احتمال ثبوت هذا الحکم (وُجُوب الإِکْرَامِ) لها، بل کان یحظی بعض الأفراد بالأولویة وبکونه القَدْر المتیَقَّن، کما إذا کان الفرد وقع موقع سؤال السائل (مثل «هل أکرِمُ الفقیر الهاشمی»؟) فأجاب الإمام × عنه (ب_: «أکرم الفقیر»)، فالقَدْر المتیَقَّن من أفراد الفقیر هو مورد سؤال السائل (أی: الفقیر الهاشمی) ولا یُعقل أن یجیب الإمام × عمَّا لَیْسَ هو مورد السُّؤَال؛ لأَنَّهُ خلاف المحاورة. إذن، کون الفقیر الهاشمی هو القَدْر المتیَقَّن أمر مقطوع به من خلال الخطاب.

ص: 152

هذا هو الَّذی وقع فیه الخلاف، بأَنَّهُ مع وجود القَدْر المتیَقَّن فِی داخل الخطاب، هل یتشکل إطلاق للکلام، بحیث یشمل غیر هذا القَدْر المتیَقَّن؟ فقوله: «أکرم الفقیر» هل یشمل «الفقیر غیر الهاشمی» (بعد أن عرفنا أَنَّهُ یشمل الفقیر الهاشمی لأَنَّهُ القَدْر المتیَقَّن)؟ هل للکلام إطلاق یشمل غیر المورد الَّذی هو القَدْر المتیَقَّن؟ أو لَیْسَ له إطلاق؛ لأَنَّ وجود القَدْر المتیَقَّن یمنع من أن ینعقد للکلام إطلاق. هنا ذهب صاحب الکفایة إلی المنع وهناک من ذهب إلی خلاف ذلک.

هذا هو الخلاف الَّذی أردنا أن نبیّنه. ولیُعلم أن الصورتینِ الأولیینِ خارجتان عن محلّ البحث.

وحینئِذٍ نربط هذا الخلاف الثَّانِی بما ربطنا به الخلاف الأوّل (حول المقیِّد المنفصل) أیضاً، حیث قلنا: إنَّ مدی الظُّهُور الْحَالِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ (بأنه فِی مقام بیان تمام مراده فِی شخص کلامه کی لا یضرّ المقیِّد المنفصل بالإطلاق، أو أَنَّهُ فِی مقام بیان تمام مراده فِی مجموع کلماته حتّی یکون المقیِّد المنفصل مضراً بالإطلاق) هو المنشأ للخلاف الأوّل. فیطرح السُّؤَال نفسه هنا بأَنَّهُ إن وُجد القَدْر المتیَقَّن فِی شخص کلامه فهل یضرّ هذا القَدْر المتیَقَّن بالإطلاق؟ أی: إن أراد المولی من «أکرم الفقیر» الفقیرَ الهاشمیَّ یکون قد بَیَّنَ کلَّ مراده فِی شخص کلامه؛ لأَنَّ ثبوت هذا الحکم للفقیر الهاشمی هو المتیقَّن من داخل الکلام. فإن أراد من «أکرم الفقیر» خصوصَ الفقیر الهاشمی، لا یقال بأن المولی لم یُبَیِّن کل مراده فِی شخص کلامه. وهناک من یقول هنا: إن أراد المولی منه خصوص الفقیر الهاشمی لم یکن قد بیَّن کلَّ مراده فِی شخص کلامه؛ لأَنَّ کلامه لا زال عبارة عن اسم الجنس (ذات الفقیر). هذا هو البحث المعروف ب_«المورد هل یخصص الوارد» وهو مُهِمّ جِدّاً فقهیّاً.

ص: 153

فیقول صاحب الکفایة: إن وجود القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب یمنع من انعقاد الإِطْلاَق للکلام. أی مثلاً: الوارد یُخَصِّصُ المورد.

إذن، إن الشبهة الموجودة فِی ذهن صاحب الکفایة هی أَنَّهُ لو أراد المولی هنا من الکلمة خصوصَ الفقیر الهاشمی مثلاً، فلم یخالف ظهوره الْحَالِیّ؛ لأَنَّ ظهوره الْحَالِیّ کان عبارة عن أن یبیّن کل مراده فِی شخص کلامه، وهو بیَّن کلَّ کلامه فِی شخص کلامه فعلاً؛ لأَنَّ وجود القَدْر المتیَقَّن فِی شخص هذا الکلام یکون کالبیان، وکما إن بیَّن القید، أی: کالقرینة المتَّصلة، فلو کان قَدْ بَیَّنَ القید لا یوجد اعتراض عَلَیٰ کلام المولی؛ لأَنَّهُ أراد المقیَّد وَقَدْ بَیَّنَ القیدَ. وهنا وإن لم یُبَیِّن المولی القیدَ بلسانه، لکن کون الفقیر الهاشمی هو القَدْر المتیَقَّن فِی شخص هذا الکلام فهذا بمثابة أن یذکر المولی قید «الهاشمی». إذن، إرادة المتیقن هنا لا یخالف الظُّهُور الْحَالِیّ، فنتحیر بأَنَّهُ هل أراد المقیَّد أم أراد المطلق، والکلام لا یَدُلّ عَلَیٰ الإِطْلاَق. وهذه هی شبهة صاحب الکفایة القائل بأن وجود القَدْر المتیَقَّن یُخِلُّ بالإطلاق، فیصبح الکلام مُجْمَلاً بِالنِّسْبَةِ للفقیر غیر الهاشمی، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلی الفقیر الهاشمی فهو القَدْر المتیَقَّن.

وقد یجاب عن هذه الشُّبهَة قائلاً: إن وجود القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التَّخاطب لا یضرّ بالإطلاق؛ لأَنَّ مفاد الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدّم ذکره (ظهور حال الْمُتِکَلِّم فِی کونه فِی مقام بیان تمام مراده فِی شخص کلامه) بالضَّبط هو شیئان:

الأوّل: أن الْمُتِکَلِّم بین کل مراده فِی شخص هذا الکلام.

الثَّانِی: أن ما بیَّنه فِی شخص هذا الکلام هو تمام المراد، أی: غیره لَیْسَ بمراد.

یأتی شرحه غداً.

ص: 154

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی أَنَّهُ هل یضرّ القَدْر المتیَقَّن المعلوم من داخل الخطاب بالإطلاق ویمنع من دلالة الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق، أم لا؟ حیث تقدّم بأَنَّهُ حینما لا یکون هناک قدر متیقن نقول بأن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم أَنَّهُ بیَّن کل مراده فِی هذا الکلام (أی: فِی «أکرم الفقیر»). فإذا کان المقیَّد هو مراد الْمُتِکَلِّم (أی: أراد من «الفقیر» فقیراً خاصّاً مُعَیَّناً مثل الفقیر الهاشمی أو الفقیر العادل أو الفقیر المجاهد) لزم الخلف (أی: لزم أَنْ لاَّ یَکُونَ قَدْ بَیَّنَ کل مراده فِی هذا الکلام؛ لأَنَّهُ لم یُبَیِّن القید، فلم یُبَیِّن کلَّ مراده). إذن، فمقتضی هذا الظُّهُور الْحَالِیّ أَنَّهُ لم یخالف هذا الظُّهُورَ الحال، بل مشی وفقه وبیَّن کلَّ مراده فِی کلامه؛ إذن مراده المطلق؛ لأَنَّ کلامه وافٍ ببیان مراده، لٰکِنَّهُ لَیْسَ وافیاً ببیان المقیَّد.

هذا أمر کُنَّا نقوله فِی سائر الموارد، والآن نرید أن نری هل لنا أن نطبقه فِی المقام (= وجود القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب) ونقول بأَنَّهُ: «وإن کان سؤال السائل عن إکرام الفقیر الهاشمی وأمر الإمام علیه السلام بالتصدق عَلَیٰ الفقیر، ولکن القَدْر المتیَقَّن من الفقیر هو الفقیر الهاشمی الَّذی هو مورد السُّؤَال، فلو أراد المولی علیه السلام من الفقیر الفقیرَ الهاشمی، لم یکن کلامُه وافیاً بتمام المراد، بل کان کلامه مبیِّنا لنصف المراد، وهذا خلاف ظاهر حال الإمام علیه السلام من أَنَّهُ بصدد بیان تمام المراد، إذن فتمام مراده هو مطلق الفقیر سواء الهاشمی أم غیره»، هل یمکننا أن نقول بهذا الکلام؟ أی: هل یمکننا أن نقول: «لو أراد المقیَّد لزم الخلف»؟ إن صَحَّت هذه المقولة فمعناها أن وجود القَدْر المتیَقَّن فِی داخل الخطاب لا یضرّ بالإطلاق ولا یمنع من دلالة الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق. أو لا یمکننا أن نقول بهذه المقولة من منطلق أن کلام المتکلم یفی ببیان المقیَّد؛ لأَنَّ السُّؤَال کان عن المقیَّد (=الفقیر الهاشمی)، فَیَکُونُ کلام المولی علیه السلام (=أکرم الفقیر) وافیاً بهذا المراد ولا یلزم منه الخلف إن أراد المقیَّد، کما لا یلزم منه الخلف لو أراد المطلق أیضاً. وبالتَّالی فِی موارد وجود القَدْر المتیَقَّن لا یکون للکلام دلالة عَلَیٰ الإِطْلاَق، ویبقی الکلام مُجْمَلاً.

ص: 155

القَدْر المتیَقَّن مشمول قَطْعاً، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لغیر الهاشمی فلا یوجد إطلاق، فمعنی ذلک أن القَدْر المتیَقَّن یضرّ بالإطلاق.

الشُّبهَة: هنا قلنا تأتی الشُّبهَة الَّتی یتمسّک بها کلّ مَن یقول بأن القَدْر المتیَقَّن یضرّ بالإطلاق کصاحب الکفایة وغیره من أن الْمُتِکَلِّم لو أراد المقیَّد لا یلزم الخلف؛ لأَنَّ کلامه وافٍ ببیان هذا المقیَّد، فلو کان مراده إکرام الفقیر الهاشمی لم یکن قد خالف هذا الظُّهُور الْحَالِیّ؛ لأَنَّ هذا الفقیر الهاشمی باعتباره متیقَّناً فِی مقام التخاطب یَکُونُ بمثابة البیان له (=کونه هو المتیقن بمثابة بیانه)، فکأنه قال: «أکرم الفقیر الهاشمی»، فالکلام وافٍ ببیان المقیَّد. فلو أراد الإمام علیه السلام الفقیرَ الهاشمی لم یخالف ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدّم. أی: بیَّن تمام مرامه بشخص هذا الکلام. فلو أراد المولی من قوله: «أکرم الفقیر» خصوص الفقیر الهاشمی لا یحق لأحد أن یقول للمولی لماذا لم تبیّن؟ لأَنَّهُ یقول: کلامی کان صَرِیحاً فِی الفقیر الهاشمی باعتباره هو المتیقَّن.

ومن هنا یفرق صاحب الکفایة وغیره ممن یقول بکلام صاحب الکفایة بین ما إذا کان القَدْر المتیَقَّن من داخل الخطاب وبین ما إذا کان من خارج الخطاب. فلو کان القَدْر المتیَقَّن من داخل الخطاب إذن حینما یرید الْمُتِکَلِّم خصوصَ المقیَّد لم یخالف الظُّهُور الْحَالِیّ؛ لأَنَّ کلامه وافٍ ببیان هذا المقیَّد. أَمَّا لو کان القَدْر المتیَقَّن من خارج الخطاب، فلا یکون کلامه وافیاً ببیان تمام المراد لو أراد المقیَّد. مثلاً فِی قوله: «ثمن العذرة سحت» لا یأتی هذا الکلام، حینما یکون القَدْر المتیَقَّن من خارج الخطاب، لو أراد الْمُتِکَلِّم خصوص المقیَّد (أی: لو أراد المولی علیه السلام من العذرة خصوصَ عذرة الإنسان) یلزم الخلف. أی: یلزم أن یکون قد خالف هذا الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی ذکرناه، والإمام لم یبین کل مراده (خصوص عذرة الإنسان) فِی کلامه، ومن هنا وإن کان عذرة الإنسان هو المتیقن من خارج الخطاب، ولکن کونها هو المتیقن من خارج الخطاب لا یمنع من أن نتمسک بإطلاق «العذرة» فِی قول الإمام علیه السلام؛ لأَنَّ الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدّم یقتضی أن یکون الْمُتِکَلِّم أراد المطلق عندما قال: «ثمن العذرة سحت» إذ لو کان أراد المقیَّد لم یکن کلامه وافیاً ببیان کل هذا المراد، وهذا خلاف ظاهر حاله؛ إذن فمقتضی ظاهر الحال أَنَّهُ بین تمام مراده فِی هذا الکلام وتمام مراده الَّذی بُیِّن بهذا الکلام هو المطلق. فوجود القَدْر المتیَقَّن من خارج الخطاب لا یضرّ بالإطلاق بهذه النُّکتة، وهذا بخلاف وجود القَدْر المتیَقَّن فِی داخل الخطاب.

ص: 156

جواب الشُّبهَة: هو أَنَّنَا إذا أردنا تقویم هذه الشُّبهَة لا بُدَّ لنا من معرفة مفاد الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی تحدثنا عنه قائلین: إن الإِطْلاَق یُستفاد من الظُّهُور الْحَالِیّ. فهل أن مفاده مطلب واحد أم أَنَّهُ یفید مجموع مطلبین؟ فعلی الأوّل (بِأَنْ یَّکُونَ المتکلم بصدد بیان تمام مراده بکلامه) ترد الشُّبهَة، أی: وجود القَدْر المتیَقَّن داخل الخطاب یمنع من دلالة الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق؛ لأَنَّ السائل عندما یسأل: «هل أُکرِمُ الفقیر الهاشمیّ»؟ ویجیبه الإمام علیه السلام ب_ «أکرم الفقیر»، یتکوّن لدینا قدر متیقن وهو «الفقیر الهاشمی» وَالَّذِی سوف یمنع من أن یکون کلام الإمام دالاًّ بإطلاقه عَلَیٰ وجوب إکرام فقیر غیر الهاشمی؛ لأَنَّنَا نستفید الإِطْلاَق من الظُّهُور الْحَالِیّ، وقد فرضنا أن مفاد الظُّهُور الْحَالِیّ مطلب واحد وهو کون الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مراده فِی کلامه. فهنا لو أراد المولی خصوص الفقیر الهاشمی فهل کان کلامه وافیاً؛ إذن لو أراد المقیَّد لم یکن الإمام قد خالف الظُّهُور الْحَالِیّ، لأَنَّهُ کان یُبَیِّن هذا المطلب الواحد. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. کما لو أَنَّهُ أراد المطلق یکون کلامه وافیاً. فکلاهما (المطلق والْمُقَیَّد) سواءٌ، إذن لا دلالة للکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق (عَلَیٰ شمول الحکم للفقیر غیر الهاشمی).

ومن هنا یمنع القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب من انعقاد الإِطْلاَق للکلام فِی الشُّمُول للفقیر غیر الهاشمی.

هذا إن کان مفاده مطلب واحد.

أَمَّا لو افترضنا أَنَّهُ یقتضی مطلبین، کُلَّمَا تَمَّ هذان المطلبان یَتُِمّ هذا الظُّهُور الْحَالِیّ:

المطلب الأوّل: أَنْ یَکُونَ کلام الْمُتِکَلِّم وافیاً بتمام المراد.

المطلب الثَّانِی: أَنّ ما بیَّنه فِی کلامه هو المراد؛ أی: غیره لَیْسَ بمراد.

وإذا کانت هذه الصِّیَاغَة هی صیاغة الظُّهُور الْحَالِیّ، فلا ترد شبهة صاحب الکفایة. أی: وجود القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب لا یمنع من التَّمسُّک بالإطلاق، ولا یمنع من انعقاد ظهور للکلام فِی الإِطْلاَق؛ لأَنَّهُ وإن کان القَدْر المتیَقَّن فِی هذا المثال هو إکرام الفقیر الهاشمی لأَنَّهُ هو مورد السُّؤَال. فلو أراد المولی من قوله «أکرم الفقیر» کان کلامه وافیاً ببیان هذا المراد، لکن هذا هو المطلب الأوّل من الظهور الْحَالِیّ. لکن هل کان کلامه وافیاً ببیان أن هذا هو التمام وغیر هذا (أی: المطلق) لَیْسَ بمراد؟ فلو أراد المقیَّد یکون نصف الظُّهُور الْحَالِیّ متوفرا، لکن نصفه الآخر (وهو أنْ یکون کلام الإمام وافیاً ببیان أن هذا هو تمام المراد وغیره لَیْسَ بمراد) لم یُبَیِّنه الإمام علیه السلام؛ لأَنَّهُ لا یوجد قید فِی کلام الإمام علیه السلام.

ص: 157

فَیَکُونُ الإمام علیه السلام قد أراد المطلق؛ إذ لو أراد المقیَّد لزم الخلف (أی: أَنَّهُ ذکر نصف مراده). فَیَکُونُ الظُّهُور الْحَالِیّ مقتضیاً لحمل کلام الإمام علیه السلام عَلَیٰ الإِطْلاَق، ومعنی ذلک عدم ورود شبهة صاحب الکفایة (أی: وجود القَدْر المتیَقَّن یخل بالإطلاق).

فلو بنینا عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأولی یَتُِمّ کلام صاحب الکفایة، ولٰکِنَّهُ غیر تامّ عَلَیٰ الصِّیَاغَة الثَّانیة.

إلاَّ أن سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید قال: لا أصل الشُّبهَة تامَّة ولا هذا الجواب وتوضیح ذلک یَتُِمّ من خلال ذکر اعتراضین عَلَیٰ هذا الجواب الَّذی ذکرناه:

الاعتراض الأوَّل: هو أن هذا الجواب فِی الواقع اعتراف بورود الشُّبهَة بناءًا عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأولی للظهور الْحَالِیّ (وهی الَّتی تقول بأن الظُّهُور الْحَالِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ فِی أن شخص کلام الْمُتِکَلِّم وافٍ بتمام مراده فِی شخص کلامه)؛ لأَنَّهُ إذا کان مقصود المولی علیه السلام من قوله: «أکرم الفقیر» المقیَّدَ (أی: الفقیر الهاشمی) لا یلزم الخلف؛ لأَنَّ کلام الإمام علیه السلام وافٍ ببیان إکرام الفقیر الهاشمی، باعتباره هو القَدْر المتیَقَّن المعلوم من داخل کلام الإمام علیه السلام حسب الفرض. فیعترف الجواب عن الشُّبهَة بتسجیل شبهة صاحب الکفایة بناءًا عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأولی.

وهذا ما نفنّده ونقول: إن هذه الشُّبهَة غیر واردة حتّی لو فَسَّرْنّا الظُّهُور الْحَالِیّ بالصیاغة الأولی. فلنفرض أن مضمون الظُّهُور الْحَالِیّ شیء واحد ولیس شَیْئَیْنِ، وهو أنْ یکون کلام الْمُتِکَلِّم وافیاً بتمام مرامه، مع ذلک لا تصح شبهة صاحب الکفایة؛ لأَنَّ ظاهر حال الْمُتِکَلِّم هو کونه بصدد بیان تمام مراده، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المقصود من «تمام مراده» هو المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ والثَّابِت عَلَیٰ مَوْضُوع مُعَیَّن. فالمقصود النهائی والمراد الْجِدِّیّ للإمام علیه السلام عبارة عن «وُجُوب الإِکْرَامِ» المجعول عَلَیٰ مَوْضُوع محدَّد. وإن حملنا کلام الإمام علیه السلام عَلَیٰ المقیَّد لم یُبَیَّن فیه أَنَّهُ ما هو مَوْضُوع الحکم. نعم، الفقیر الهاشمی قدر متیقن، فنقطع بوجوب إکرامه، لکن ما هو موضوع الحکم لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ فِی الشریعة؟ هل هو ذات الفقیر أو هو الفقیر الهاشمی؟ فإذا حملنا کلام الإمام علیه السلام عَلَیٰ المقیَّد لا یکون کلامه علیه السلام وافیاً ببیان مَوْضُوع الحکم. وهذا خلاف ظاهر حال کل متکلم؛ فَإِنَّ ظاهر حال کل متکلم أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده الْجِدِّیّ، أی: بصدد بیان تمام مَوْضُوع الحکم.

ص: 158

فالظهور الْحَالِیّ حتّی عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأولی یقتضی حمل کلام الإمام عَلَیٰ الإِطْلاَق، وهذا معناه عدم ورود شبهة صاحب الکفایة، أی: وجود القَدْر المتیَقَّن لا یمنع من التَّمسُّک بالإطلاق.

للکلام تتمة وشرح یأتی إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

ذکرنا بالأَمْسِ الشُّبهَةَ الَّتی عَلَیٰ أساسها یُقال (کما قال صاحب الکفایة) إن وجود القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب یمنع من انعقاد الإطلاق. وَکَانَ حَاصِلُهَا أن الْمُتِکَلِّم فِی هَذَا الْفَرْضِ لو کان مراده خصوص المقیَّد (مثلاً فِی المثال المتقدّم بالأَمْسِ عندما یسأل عن إکرام الفقیر الهاشمی فیأتی الجواب: أکرم الفقیر، هنا الإمام علیه السلام الَّذی قال: أکرم الفقیر)، أی: وجوب إکرام الفقیر الهاشمی، هذا المراد قد بیَّنه الإمام علیه السلام وکلامه علیه السلام وافٍ ببیانه؛ لأَنَّ السُّؤَال کان عن الفقیر الهاشمی وجاء الجواب عنه. وکذلک إن کان مراده المطلق یکون کلامه وافیاً به أیضاً؛ لأَنَّهُ قال: تصدق عَلَیٰ الفقیر، والفقیر مطلق یشمل الهاشمی وغیر الهاشمی. إذن، کیف نفهم الإِطْلاَق وأن مراده المطلق؟ لأَنَّ کلامه ینسجم مع إرادة المطلق کما ینسجم مع إرادة المقیَّد. وبالتَّالی یبقی الکلام مُجْمَلاً، طبعاً مُجْمَلاً بِالنِّسْبَةِ إلی الفقیر غیر الهاشمی. ولا یمکن التَّمسُّک بإطلاق کلام الإمام علیه السلام.

فکان الجواب عن هذه الشُّبهَة بالأَمْسِ وحَاصِلُهُ التَّفْصِیل بین ما إذا کان الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی هو أساس الدِّلاَلَة عَلَیٰ الإِطْلاَق) بحسب الصِّیَاغَة الأولی المتقدّمة بالأَمْسِ، أی: ظاهر حال الْمُتِکَلِّم أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده بهذا الکلام، فتکون الشُّبهَة واردة؛ لأَنَّهُ کما قلنا: کلام الإمام وافٍ ببیان المقیَّد لو کان هو المراد کما أَنَّهُ وافٍ ببیان المطلق لو کان هو المراد. فکلاهما ینسجم مع الظُّهُور الْحَالِیّ. فیبقی الکلام مُجْمَلاً بین التَّقْیِید والإطلاق.

ص: 159

أَمَّا إذا کان الظُّهُور الْحَالِیّ عبارة عن هذه الصِّیَاغَة الثَّانیة وهو «أن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم هو أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده بکلامه وأیضاً بصدد بیان أن ما ذکره هو تمام المراد وغیره لَیْسَ هو المراد» فلا ترد الشُّبهَة؛ لأَنَّهُ لو کان مراد الإمام هو المقیَّد (حسب هذه الصِّیَاغَة، أی: وجوب إکرام الفقیر الهاشمی) فَیَصِحُّ القول بأن کلامه وفی به (لأَنَّهُ وقع مورد السُّؤَال) ولکن الأمر الثَّانِی غیر موجود، وهو أن هذا هو تمام المراد وغیره (أی: إکرام الفقیر غیر الهاشمی) لَیْسَ بمراد. فمعنی ذلک أن القَدْر المتیَقَّن لا یضرّ بالإطلاق، ولا تکون الشبهة واردة.

إلاَّ أن سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید قال: إِنَّه لا أصل الشُّبهَة تامّ ولا هذا الجواب. أَمَّا هذا الجواب غیر تامّ؛ فَلأَنَّهُ یوجد هناک اعتراضان عَلَیٰ هذا الجواب، الاعتراض الأوّل هو أَنَّ صاحب هذا الجواب اعترف بأن الشُّبهَة واردة بناء عَلَیٰ التَّفْسِیر الأوّل للظهور الْحَالِیّ (بأن الکلام وافٍ بالمراد لو أراد المطلق ولو أراد المقیَّد)، بینما هذا الکلام غیر صحیح؛ لأَنَّ الشُّبهَة غیر واردة حتّی بناء عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأولی؛ وذلک لأَنَّهُ إن کان المقصود من قولکم: «إن أراد الْمُتِکَلِّم المقیَّد کان کلامه وافیاً بتمام المراد» أن کلامه وافٍ ببیان أن المقیَّد هو مَوْضُوع الحکم (أی: کلام الإمام علیه السلام عندما قال: أکرم الفقیر، وافٍ ببیان أن الْمَوْضُوع الحکم الشَّرْعِیّ عبارة عن الفقیر الهاشمی) فهو واضح البطلان؛ لأَنَّ الخطاب وهو قوله أکرم الفقیر، لم یُبَیَّن فیه تعلّق الحکم بالفقیر الهاشمی؛ لأَنَّهُ لم یؤخذ فیه قیدُ «الهاشمی» بل قال علیه السلام: «أکرم الفقیر»، وبما أن القید لم یذکر فِی مَوْضُوع الحکم فلا یَدُلّ الکلام عَلَیٰ أن مَوْضُوع وُجُوب الإِکْرَامِ هو الفقیر الهاشمی، وإنَّما الَّذی بُیِّنَ فِی هذا الکلام هو أن الفقیر الهاشمی یجب إکرامه، باعتباره هو القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب، لکن لم یُبیَّن أن مَوْضُوع وُجُوب الإِکْرَامِ هو الفقیر أو الفقیر الهاشمی. فقد بُیِّن أن الفقیر الهاشمی یجب إکرامه. لکن هذا لا یعنی أن مَوْضُوع الحکم هو الفقیر الهاشمی؛ إذ من الممکن أن یکون مَوْضُوع الحکم هو الفقیر الهاشمی، کما أن من الممکن أن یکون مَوْضُوع الحکم هو الفقیر. فعلی کل تقدیر یکون وجوب إکرام الفقیر الهاشمی ثابتاً وقدراً متیقناً، ولکن مجرّد ثبوت وُجُوب الإِکْرَامِ للفقیر الهاشمی لا یُعَیِّنُ بالضرورة أن مَوْضُوع الحکم بوجوب الإکرام هو الفقیر الهاشمی، فقد یکون هو مَوْضُوع الحکم کما یمکن أن یکون الفقیر الهاشمی هو مَوْضُوع الحکم أیضاً.

ص: 160

إذن، «کون الفقیر الهاشمی هو المتیقن» شیء و«کون الفقیر الهاشمی هو مَوْضُوع الحکم» شیء آخر، والأول أعمّ من الثَّانِی، وهذا هو اللاَّزِم الأعمّ، وعلیه فینعقد الإِطْلاَق ولا ترد الشُّبهَة حتّی عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأولی، فلا یُسجَّل هذا الاعتراض، أی: القَدْر المتیَقَّن لا یضرّ بالإطلاق؛ لأَنَّ الصِّیَاغَة الأولی تقتضی أن یکون کلام الْمُتِکَلِّم وافیاً ببیان تمام عناصر مَوْضُوع حکمِه، بینما إذا کان مَوْضُوع الحکم عبارة عن إکرام الفقیر الهاشمی لا یکون کلام الإمام علیه السلام مبیِّناً له، وإلاَّ لکان یقول: «أکرم الفقیر الهاشمی»، کأی حکم آخر مع موضوعه حیث یُبَیِّن الإمام علیه السلام تمام عناصره.

هذا فیما لو أراد صاحب الشُّبهَة بقوله: «لو کان المراد هو المقیَّد فهو مبیَّنٌ فِی الکلام» أَنَّهُ بُیِّن بما هو موضوع الحکم فهو واضح البطلان.

وأمّا إن أراد بقوله: «الکلام وافٍ ببیان المراد» أَنْ یَکُونَ کلامه وافیاً ببیان ثبوت الحکم لذات المقیَّد (أی: وفائه ببیان وجوب إکرام الفقیر الهاشمی) لا للمقیَّد بوصفه مقیَّداً (کی یرجع إلی الفرض السَّابِقَ)، أی: إن لم یکن الکلام وافیاً ببیان أن الفقیر الهاشمی هو مَوْضُوع الحکم، فحینئذٍ یأتی الإشکال القائل بأَنَّهُ کما أَنَّ القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب یضرّ بالإطلاق کذلک القَدْر المتیَقَّن من خارج مقام التخاطب یضرّ بالإطلاق. أی: نرجع إلی مثال «ثمن العذرة سحت» حیث کان یوجد القَدْر المتیَقَّن فیه من خارج الخطاب؛ لأَنَّنَا نعلم من خارج الخطاب أن القَدْر المتیَقَّن من العذرات الَّتی ثمنها سُحت هو عذرة الإنسان قَطْعاً، ولم نعلم به من داخل الخطاب؛ لعدم وجود سؤال، بل الإمام علیه السلام ابتداءً قال: «ثمن العذرة سحت». أی: لا یمکن أن یکون ثمن عذرة الإنسان والحیوان المحرم أکل لحمه غیر سحت، ولکن یکون ثمن عذرة الحیوان المأکول اللحم سحتاً. وهذا - بناءًا عَلَیٰ الفرض الثَّانِی - یضرّ بالإطلاق أیضاً، بحیث لو أراد المقیَّد (أی: عذرة الإنسان بالخصوص) لم یخالف الظُّهُور الْحَالِیّ؛ لأَنَّ الظُّهُور الْحَالِیّ کان عبارة عن أن یکون کلامه وافیاً ببیان ثبوت الحکم للمقیَّد، وهو کذلک؛ لأَنَّ هذا المقیَّد هو المتیقن (وإن کان متیقناً من الخارج). وکذلک لو أراد المطلق لا یکون قد خالف ظهور حاله. إذن، کلامه وافٍ ببیان کل من المطلق والْمُقَیَّد. وبالتَّالی نبقی حائرین فِی أن قوله «ثمن العذرة سحت» هل یشمل عذرة غیر الإنسان أو لا؟ فلا یمکننا أن نتمسّک بالإطلاق. وهذا معناه أن وجود القَدْر المتیَقَّن من خارج الخطاب أیضاً یضرّ بالإطلاق. والحال أنکم قلتم مع الْمَشْهُور بأن وجود القَدْر المتیَقَّن خارج مقام التخاطب لا یضرّ بالإطلاق. هذا بِالنِّسْبَةِ إلی الفرض الثَّانِی.

ص: 161

فهذا منبه وجدانی عَلَیٰ أن المعنی الصَّحِیح ل_«کون الکلام وافیاً بتمام المراد» هو الأوّل، أَنْ یَکُونَ الکلام وافیاً ببیان مَوْضُوع الحکم. أی: ظاهر حال الْمُتِکَلِّم هو أَنَّهُ بصدد بیان ما هو موضوع الحکم بتمام عناصره، وحینئِذٍ لا تکون الشُّبهَة واردة؛ لأَنَّ الإمام سواء فِی قوله: «ثمن العذرة سحت» أو فِی قوله: «أکرم الفقیر» جواباً عن سؤال السائل: «هل أکرم الفقیر الهاشمی»؟ لو کان مراد الإمام علیه السلام المقیَّد لم یکن کلامه وافیاً بتمام المراد؛ لأَنَّ المفروض أن یکون کلامه وافیاً بأن مَوْضُوع الحکم هو هذا، بینما لم یُبَیِّن مَوْضُوع الحکم فِی کلا الموردین، بینما لو کان مَوْضُوع الحکم هو المطلق کان کلامه وافیاً به.

ومن هنا ینقدح حل الشُّبهَة نفسها أیضاً؛ فَإِنَّ حلها هو أَنَّهُ سَوَاءٌ کَانَ هناک قدر متیقن فِی مقام التخاطب أو لم یکن قدر متیقن فِی مقام التخاطب، لو أراد الْمُتِکَلِّم المقیَّد یلزم خلف الظُّهُور الْحَالِیّ وَالَّذِی هو - بحسب صیاغته الصحیحة - عبارة عن أن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم هو أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده (أی: تمام موضوع حکمه الْجِدِّیّ) بکلامه، أَمَّا إن أراد المطلق لا یلزم الخلف.

هذا هو الاعتراض الأوّل من الاعتراضین عَلَیٰ هذا الجواب الَّذی ذُکر عن الشُّبهَة.

الاعتراض الثَّانِی هو أَنَّهُ لو سَلَّمنا وغضضنا النَّظر عن الاعتراض الأوَّل، وسلَّمنا بتسجیل الشُّبهَة بناءًا عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأولی ولا ینعقد الإِطْلاَق عند وجود القدر المتیقَّن فِی مقام التخاطب، إذن المفروض أن لا یَتُِمّ الإِطْلاَق عَلَیٰ الصِّیَاغَة الثَّانیة أیضاً؛ فإن تفصیلکم بین الصیاغتین بالقول بأن الشُّبهَة واردة عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأولی دون الثَّانیة، غیر صحیح؛ لما یقال فِی الصِّیَاغَة الثَّانیة من أن الظُّهُور الْحَالِیّ مفاده أَمْرَانِ:

ص: 162

أوَّلاً: کون الکلام وافیاً بتمام المرام.

وثانیاً: کون الکلام وافیاً ببیان أن هذا هو التمام وغیره لَیْسَ بمراد.

وهذا معناه أن هناک ظهورین حالیین لِلْمُتِکَلِّمِ. ظهور یتناول الجانب الإیجابی ویقول: إن هذا هو مراد الْمُتِکَلِّم، وظهور آخر یتناول الجانب السلبی ویقول: إن غیره لَیْسَ بمراد.

وحینئذٍ نقول: إذا صرفنا النَّظَر الآنَ عن الظُّهُور الثَّانِی فَسَوْفَ نری أَنَّهُ إذا کان مراد الْمُتِکَلِّم هو المقیَّد، لا یلزم منه خلف الظُّهُور الْحَالِیّ الأوّل؛ لأَنَّهُ لا شکّ أن الکلام وافٍ بوجوب إکرام الفقیر الهاشمی. وهذا معناه أن وجوب القدر المتیقَّن فِی مقام التخاطب یمنع من أن یکون للکلام إطلاق یشمل الفقیر غیر الهاشمی. أی: یصبح الکلام مُجْمَلاً، وإذا کان کذلک فَسَوْفَ لا یکون هذا الکلام وافیاً بإرادة ما زادَ عَلَیٰ هذا المقیَّد؛ لأَنَّ الکلام مجملٌ والمجمل لا یُبَیِّنُ شیئاً. وحیث أن الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام مراده - حسب الظُّهُور الْحَالِیّ الأوّل - وکلامه لم یُبَیِّن ما زاد عَلَیٰ المقیَّد، فنثبت بهذا الظُّهُور الأوّل أن ما زاد عَلَیٰ المقیَّد لَیْسَ بمرادٍ. وهذا معناه الحفاظ عَلَیٰ الظُّهُور الثَّانِی. إذن، بات الْمُتِکَلِّم مبیِّناً أن المقیَّد هو تمام المراد وأن غیره لَیْسَ بمراد. فإذا أراد المولی المقیَّدَ لا یلزم خلفٌ لشیء من الظهورین، لا خلف الظُّهُور الْحَالِیّ الأوّل ولا خلف الظُّهُور الْحَالِیّ الثَّانِی، وبالتَّالی لا ینعقد الإِطْلاَق (لأَنَّه إن أراد المقیِّد لا یلزم منه الخلف، کما إذا أراد المطلق لا یلزم منه الخلف، فبالتالی لا نعرف بأَنَّهُ هل أراد المقیَّد أم أراد المطلق، فلا ینعقد الإِطْلاَق) حتّی علی الصِّیَاغَة الثَّانیة.

فقولکم: «بناء عَلَیٰ الصِّیَاغَة الثَّانیة ینعقد الإِطْلاَق والقَدْر المتیَقَّن لا یضرّ» غیر صحیح.

ص: 163

مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

بعد أن اتَّضَحَ عدمُ ورودِ الشُّبهَةِ الَّتی أثارها المُحَقِّقُ الخُراسانیُّ حولَ الإِطْلاَقِ فِی مواردِ وجودِ القَدْرِ المتیَقَّنِ فِی مقامِ التخاطبِ، یَتَّضِح أن الصَّحِیحَ جریانُ الإِطْلاَقِ فِی کُلّ الموارد التَّالیةِ:

1)- المورد الَّذی لا یوجد فیه قَدْرٌ متیَقَّن أصلاً، کما إذا قال: «تَصَدَّق عَلَیٰ الفقیر».

2)- المورد الَّذی یوجد فیه قَدْرٌ متیَقَّن من خارج الخطاب، کما إذا قال: «تصدق عَلَیٰ الفقیر» وعلمنا من الخارج أن الفقیر المجاهد مثلاً أولی من غیره.

3)- المورد الَّذی یوجد فیه قَدْرٌ متیَقَّن من داخل الخطاب، کما إذا کان السُّؤَال عن الفقیر العالم وأجاب الإمام علیه السلام: «تصدق عَلَیٰ الفقیر».

وَالْحَاصِلُ أَنَّ وجود القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب لا یضرّ بالإطلاق بتاتاً، ناهیک عنه فِی خارج الخطاب.

وللمقارنة بین تصوّرنا وتصوّر الخُراسانیّ عن المطلق والْمُقَیَّد نلفت نظر القارئ الکریم إلی مثال «تَصَدَّقْ عَلَیٰ الْفَقِیرِ»! فإذا کان العددُ الکلّی للفقراء مائة، وکان خَمْسُونَ منهم هاشمیین وَخَمْسُونَ آخرون غیر هاشمیین، حینئذٍ یَتَرَدَّدُ الأمر بین ثبوت الحکم (وهو وُجُوب الإِکْرَامِ) لمطلق الفقیر وبین ثبوت الحکم لِلْمُقَیَّدِ (= خصوص الهاشمیین). وَالنِّسْبَة بین المطلق والْمُقَیَّد هنا هی نسبة الأَقَلّ والأکثر، ولکن أیهما هو الأَقَلّ وأیهما هو الأکثر؟

الجواب: إذا کان الملحوظ فِی المقارنة بین المطلق والْمُقَیَّد هو مصادیق الحکمِ الخارجیةُ من حیث الکمّیّةِ (بأن تکون مصادیق المطلق أکثر من مصادیق المقیَّد خارجاً أو أقل منها)، فمِنَ الْوَاضِحِ - حسب هذا التَّصَوُّر - أنْ یکون المقیَّدُ هو الأَقَلّ، والمطلقُ هو الأکثر.

ص: 164

هذا، بینما یلحظ التَّصَوُّر الثَّانِی (فِی المقارنة بین المطلق والْمُقَیَّد) العنوانَ الَّذی یقع مَوْضُوعاً للحکم فِی عالم الجعل، عَلَیٰ أن تنقلب الآیةُ وَالنِّسْبَةُ - وَفق هذا التَّصَوُّر - لیکون المقیَّدُ هو الأکثر، والمطلقُ هو الأَقَلُّ؛ إذ لو کان الحکم (وهو وجوب التصدق) ثابتاً للمطلق (وهو الفقیر) - فِی هذا التَّصَوُّر - لکان مَوْضُوع الحکم فِی عالم الجعل عبارة عن ذات الفقیر فحسب، خلافاً لما إذا کان الحکم ثابتاً للمقیَّد (وهو الفقیر الهاشمی) فحینئذٍ لا یکون مَوْضُوع الحکم عبارة عن ذات الفقیر، بل یکون عُنْوَاناً مُرَکَّباً من جزأین هما «الفقیر» و«الهاشمی»، وبالتَّالی یصبح المقیَّد هو الأکثر والأزید والمطلقُ هو الأَقَلّ، عَلَیٰ عکس النَّتِیجَة الَّتی تمخضت عن التَّصَوُّر الأوّل.

وکلام المُحَقِّق الخُراسانیّ راجع روحه إلی التَّصَوُّر الأوّل؛ لأَنَّ تمام مرام الْمُتِکَلِّم بلحاظ الأفراد الموجودین فِی الخارج عبارة عن وجوب إکرام خمسین منهم؛ لأَنَّ الموجود خارجاً هو خَمْسُونَ هاشمیّاً، والمفروض أن کلامه قد وفی بذلک؛ لأَنَّ هؤلاء الخمسین هم القَدْرُ المتیَقَّن فِی مقام التخاطب؛ إذ هم مورد السُّؤَال بحسب الفرض. فلا یلزم الخلف لو أراد المقیِّد، فلا ینعقد لکلامه إطلاق.

ونحن لنا کلامان مع الخُراسانیّ:

أوَّلاً: أنَّ أساس التَّصَوُّر الأوّل (عن المطلق والْمُقَیَّد) غیر صحیح ومرفوض، وإِنَّنَا نأخذ بالتصور الثَّانِی (القائل بأن الْمُطْلَقِ والْمُقَیَّد إِنَّمَا هما بلحاظ ما هو موضوع الحکم فِی عالم الجعل) ونقول: لو أراد الْمُتِکَلِّم المقیَّدَ (الَّذی هو الهاشمی فحسب) لا یکون قَدْ بَیَّنَ تمامَ مراده (رغم أن المقیَّد هو القَدْر المتیَقَّن؛ لأَنَّهُ وقع مورد السُّؤَال)؛ لأَنَّنَا نقصد ب_«تمام المرام» تمام العنوان الَّذی هو مَوْضُوع (کلی) للحکم فِی عالم الجعل، والمفروض أن یکون کلام الْمُتِکَلِّم وافیاً بکل ما هو مَوْضُوع للحکم فِی عالم الجعل.

ص: 165

إذن، إن الخطاب مرتبط بعالم الجعل ولیس مُرْتَبِطاً بالمصادیق الخارجیة؛ إِذْ أَنَّ الخطابات لا تَدُلّ إلاَّ عَلَیٰ جعل الحکم عَلَیٰ مَوْضُوع محدّد. فإذا أرید من الکلام أن یکون وافیاً بتمام المرام یجب أن یکون الکلام وافیاً ببیان کل ما هو مَوْضُوع الحکم فِی عالم الجعل. فإن أراد المولی خصوص المقیَّد (الفقیر الهاشمی الَّذی وقع السُّؤَال عنه) لم یُبَیِّن فِی کلامه ما هو تمام مَوْضُوع الحکم فِی کلامه؛ إذ أَنَّ «تَصَدَّقْ عَلَیٰ الْفَقِیرِ» خطاب یتکفَّل بیان حکمٍ ثابت عَلَیٰ مَوْضُوع محدّد هو «الفقیر». فإذا فرضنا أن تمام المرام وتمام ما هو مَوْضُوع الحکم عند المولی هو الفقیر الهاشمی، لا یکون کلام الإمام وافیاً ببیان تمام ما هو مَوْضُوع الحکم.

أجل، إن إکرام الفقیر الهاشمی واجب عَلَیٰ أی حال؛ لأَنَّهُ مَوْضُوع السُّؤَال، لکن هل یجب إکرامه لوجوب إکرام الفقیر الهاشمی دون غیره، أو یجب إکرامه من منطلق وجوب إکرام مطلق الفقیر، ومن جملتهم الفقیر الهاشمی؟!

فلو أراد المقیَّد لم یکن کلامه وافیاً بتمام المرام، لأَنَّ تمام المرام (= مَوْضُوع الحکم) مرکب من جزأین (= الفقیر والهاشمی) والإمام بیَّنَ جزءاً وهو الفقیر الهاشمی ولم یُبَیِّن الجزء الآخر، فلم یکن کلامه وافیاً بتمام مراده، فیلزم الخلف، و من هنا نَقُول: ینعقد الإِطْلاَق لکلام الإمام علیه السلام؛ لأَنَّهُ لو لم یرد المطلق وأراد المقیَّد خالف ظهوره الْحَالِیّ. إذن فالظهور الْحَالِیّ یقتضی أَنَّهُ علیه السلام أراد المطلق، وهذا معناه أن القَدْر المتیَقَّن لم یضرّ بالإطلاق.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ المقصود من الظُّهُور الْحَالِیّ (القائل بأن الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام مرامه) هو کون المتکلِّم فِی مقام بیان تمام ما هو مأخوذ فِی موضوع الحکم فِی مقام الجعل؛ لأَنَّ هذا هو مدلول الخطاب (لأَنَّ الخطابات بشکل عامّ تَدُلّ عَلَیٰ جعول وتشریعات) ولیس المقصود من الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدّم کون الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام ما هو مصداقٌ لحکمه خارجاً. وشتّان بین المطلبین.

ص: 166

فَیَکُونُ المقیَّد بلحاظ هو الأکثر والمطلق هو الأَقَلّ (أی: أضفنا عنصراً زائداً عَلَیٰ عنصر الطَّبِیعَة. أی: هل الطَّبِیعَة أکثر؟ أو الطَّبِیعَة مع شیء آخر، أکثر؟).

عَلَیٰ کل حال، بناءًا عَلَیٰ هذا التَّصَوُّر فِی موارد وجود القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب، بُیِّن لِلْمُقَیَّدِ أن وُجُوب الإِکْرَامِ ثابت له، ولکن لم یُبَیِّن أَنَّهُ مَوْضُوع الحکم. فلو أراد المولی هذا لم یکن کلامه وافیاً ببیانه. وهذا خلاف ظاهر حال المولی؛ إِذْ أَنَّ ظاهر حاله أَنَّ کلامه وافٍ ببیان موضوع الحکم، والمولی قال: «أکرم الفقیر»، فنتمسک بإطلاق الفقیر ونقول: إن مَوْضُوع الحکم هو ذات الفقیر، هاشمیّاً کان أم غیره.

وثانیاً: یَسْتَلْزِم من التَّصَوُّر الأوّل عدّة محاذیر نسردها تباعاً:

المحذور الأوّل: هو ما تقدّم شرحه فی البحوث السَّابِقَة من الالتزام بعدم تَمَامِیَّة الإِطْلاَق بناء عَلَیٰ التَّصَوُّر الأوّل فِی موارد وجود القَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب، حتّی لو کان ظاهر حال الْمُتِکَلِّم کونه فِی مقام بیان تمام المراد وأنه هو التمام (أی: حتّی إذا کان مفاد الظُّهُور الْحَالِیّ أَمْرَیْنِ).

المحذور الثَّانِی: عدم إمکانیة التَّمسُّک بالإطلاق حتّی فِی موارد وجود القَدْر المتیَقَّن من خارج الخطاب، کما إذا افترضنا أن الإمام علیه السلام قال ابتداءً: «تَصَدَّقْ عَلَیٰ الْفَقِیرِ» (مِنْ دُونِ السُّؤَال والجواب)، وعلمنا من الخارج (ومن القیم الَّتی تهتم بها الشّریعة) أن بعض الفقراء أولی من الآخرین، فمن الطَّبِیعِیّ أن نتمسک بالإطلاق، بینما بناء عَلَیٰ تصوّر الخُراسانیّ المتقدّم لا یَتُِمّ الإِطْلاَق فِی هَذَا الْفَرْضِ. أو المثال الفقهیّ المتقدّم «ثمن العذرة سحت» لا یوجد فیه القَدْر المتیَقَّن فِی داخل الخطاب؛ لأَنَّهُ کلام ابتدائی من الإمام علیه السلام، ولا یوجد فیه سؤال، لکن نعلم من خارج السُّؤَال أن عذرة الحیوان المحرم أکله هو المتیقن، بحیث لا نحتمل أن هذا الحکم یختصّ بعذرة الحیوان المحلل الأکل ولا یشمل الحیوان المحرم الأکل.

ص: 167

فهنا بناءًا عَلَیٰ تصوّر الخُراسانیّ لا یَتُِمّ الإِطْلاَق؛ لأَنَّهُ معنی کون الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام المراد هو أَنَّهُ فِی مقام بیان تمام الأفراد والمصادیق الَّتی یریدها، ولیس معناه بیان تمام ما هو مَوْضُوع للحکم فِی مقام الجعل. فلا یلزم الخلف - بناءًا عَلَیٰ هذا التَّصَوُّر - إذا أراد الْمُتِکَلِّم المقیَّدَ. فعلی سبیل المثال إن کان مقصوده من «الفقیر» هو «الفقیر المجاهد» (القَدْر المتیَقَّن الَّذی نعلمه من الخارج) لا یلزم الخلف؛ لأَنَّهُ قد بیَّن هذا المرام والمراد فِی کلامه، ولو فِی ضمن بیان المطلق؛ فهو قَدْ بَیَّنَ وجوب إکرام الفقیر المجاهد ولو فِی ضمن المطلق. فلا یمکننا أن نقول: «إن أردت المقیَّد لم تمش علی ظهور حاله، فمرادک المطلق»، بل یحتمل أن یکون مراده المطلق کما یحتمل أن یکون مراده المقیَّد، فلا ینعقد لکلامه إطلاق.

فلطالما أن الظُّهُور الْحَالِیّ عند الخُراسانیّ هو أن الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام ما هو مصداق للحکم خارجاً (التَّصَوُّر الأوّل عن المطلق والْمُقَیَّد)، فلماذا تخصصون الْقَضِیَّةَ بالقدر المتیقن فِی مقام التخاطب؟ بل إن القَدْر المتیَقَّن من خارج الخطاب یضرّ بالإطلاق أیضاً؛ للنُّکتة نفسها الَّتی تذکرونها للقدر المتیقن داخل الخطاب.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

تقدّم أن الخُراسانیّ ذهب إلی أن «وجود القدر المتیقَّن فِی مقام التخاطب یمنع من انعقاد الإِطْلاَق»، وهذا الکلام راجع بروحه إلی التَّصَوُّر الآنف الذّکر عن المطلق والْمُقَیَّد وَالَّذِی کان ینتج أنّ المطلق هو الأکثر والأوسع والأزید، والْمُقَیَّدُ هو الأَقَلّ؛ لأَنَّهُ یُراد بِالْمُطْلَقِ الأفراد والمصادیق الخارجیة لموضوع الحکم. فعلی سبیل المثال إن کان عدد الفقراء مائة، فالمطلق یعنی کل المائة، بینما المقیَّد یعنی الفقراء الهاشمیون الخمسون، والخمسون بِالنِّسْبَةِ إلی المائة أقل، وهذا واضح.

ص: 168

وتقدم أیضاً أن هناک محاذیر تُوجَّه إلی هذا التَّصَوُّر، أسلفنا المحذور الأوّل منها وإلیک:

المحذور الثَّانِی: أن یلزم منه عدم انعقاد الإطلاق حتّی فِی موارد وجود القدر المتیقَّن من خارج الخطاب، مثلما إذا قال المولی: «أکرم الفقیر» مِنْ دُونِ أن یلفّ الخطابَ قدرٌ متیقن، ولکِنَّنََا علمنا من الخارج أن الفقیر المجاهد أولی من غیره لجهاده، أو أن الفقیر العادل أولی من غیره لعدالته. فحینئذٍ یُفترض أن لا ینعقد للکلام إطلاق - بناءًا عَلَیٰ هذا التَّصَوُّر - مع أَنَّهُ قال: «أکرم الفقیر»؛ لأَنَّ وجود القَدْر المتیَقَّن من خارج الخطاب یضرّ بهذا الإِطْلاَق بنفس النُّکتة الموجودة فِی القدر المتیقَّن فِی مقام التخاطب؛ لأَنَّ ظهور حال الْمُتِکَلِّم (وَفقاً للتصور الآخوندی) عبارة عن أَنَّهُ فِی مقام بیان تمام مراده فِی کلامه، وتمام مراده (وَفقاً لهذا التَّصَوُّر) هو تمام الأفراد الخارجیة الَّتی یریدهم (أی: یرید وجوبَ إکرامهم)، فإن کان مراد المتکلم بقوله: «أکرم الفقیر» خصوص الفقراء المجاهدین، یکون قَدْ بَیَّنَه بکلامه ولو فِی ضمن العبارة المطلقة؛ لأَنَّ الظُّهُور الْحَالِیّ هو أساس الدِّلاَلَة عَلَیٰ الإِطْلاَق وقد تصوّره الآخوند بهذا التَّصَوُّر. فلا یکون کلامه مخالفاً لظهور حاله فیما لو أراد المقیَّد، فلا یقتضی ظهوره الْحَالِیّ أن یکون مراده المطلقُ؛ لأَنَّهُ لو أراد المقیَّد کان ماشیاً عَلَیٰ وفق الظُّهُور الْحَالِیّ. فکیف نتمسّک بإطلاق کلامه؟

فإن قلتم: لو سَلَّمنا بهذا المحذور یجب أن نسلم به حتّی فِی موارد عدم القَدْر المتیَقَّن أساساً (لا فِی داخل الخطاب ولا خارج الخطاب)؛ لأَنَّ النُّکتة فیه ما ذکرتموها من أن تصوّر الآخوند یفترض أن یکون الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام مرامه، وتمام المرام عبارة عن تمام الأفراد الَّذین یرید ثبوت الحکم لهم. وعلیه لا ینعقد الإِطْلاَق فِی موارد وجود القَدْر المتیَقَّن فِی خارج الخطاب فقط، بل لا ینعقد حتّی فِی موارد عدم وجود القَدْر المتیَقَّن أساساً. فلنفترض عَلَیٰ سبیل المثال أَنَّهُ قال: «تصدق عَلَیٰ الفقیر»، ولم یکن هناک سؤال ولا جواب حتّی یکون لدینا قدر متیقن ولم تکن هناک أولویة خارجیّة لبعض الفقراء عَلَیٰ بعضهم (أی: أن یحتمل اختصاص الحکم للفقیر الهاشمی دون غیره إلی جانب احتمال اختصاص الحکم للفقیر غیر الهاشمی دون الهاشمی، مع احتمال أن یکون الحکم ثابتاً لهما معاً) وکان کل أفراد الفقیر متکافئة فِی احتمال اختصاص الحکم لها وفی شمول الحکم لها.

ص: 169

هنا یقول المستشکل: حینئذٍ لا شکّ بأنکم تتمسکون بالإطلاق، بینما یفترض بکم من منطلق الإشکال الَّذی أوردتموه عَلَیٰ الآخوند أن لا تتمسکوا بالإطلاق؛ لأَنَّ النُّکتة الَّتی ذکرتموها تأتی هنا، فقد قلتم فِی الإشکال عَلَیٰ الآخوند: «یقتضی الظُّهُور الْحَالِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ أن یکون فِی مقام بیان تمام مراده بکلامه، وتمام المراد یعنی تمام الأفراد الَّذین یرید ثبوت الحکم لهم، إذن، فلو أراد المقیَّد لم یلزم الخلف». هنا أیضاً نقول: «لو أن الْمُتِکَلِّم أراد بقوله "تصدق عَلَیٰ الفقیر" الفقیرَ الهاشمیَّ (أی: أراد المقیَّدَ)، کان کلامه وافیاً ببیان تمام الأفراد الخارجیّة الَّذین یرید ثبوت الحکم لهم، فلا یحق لنا أن نقول: لم یرد المقیَّد وأراد المطلق؛ لأَنَّهُ إِنَّمَا یحق لنا أن نقول ذلک فیما إذا لزم الخلفُ (خلاف ظاهر حاله) من إرادته المقیَّد، بینما هنا لا یلزم الخلف إن أراد المقیَّد. فلا یمکننا أن نقول: إِنَّه أراد المطلق. إذن، ینسد باب الإِطْلاَق نهائیّاً. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَن لا أحد یلتزم بهذا اللاَّزِم الباطل!!

قلت: إن ما ذکرناه من الإشکال والمحذور عَلَیٰ کلام الآخوند فِی فرض وجود القدر المتیقَّن من خارج الخطاب، لا یأتی فِی هَذَا الْفَرْضِ (فرض عدم وجود القَدْر المتیَقَّن أبداً)؛ فإِنَّهُ عندما یوجد قدر متیقن ولو من خارج الخطاب یصحّ أن نَقُول: إن أراد الْمُتِکَلِّم المقیَّدَ لم یخالف ظاهر حاله؛ لأَنَّ کلامه وافٍ ببیان المقیَّد. أَمَّا فِی هذا المورد الَّذی ذکرتموه فِی الإشکال وهو مورد عدم وجود القَدْر المتیَقَّن أبداً فلا یصحّ أن نَقُول: إِنَّ الْمُتِکَلِّم لو أراد المقیَّد لکان قَدْ بَیَّنَ ذلک؛ فإِنَّهُ إن قلتم بأَنَّهُ بیَّن المقیَّد فِی ضمن المطلق، نجیب بأَنَّهُ لم یُبَیِّن وجوب التصدق عَلَیٰ تمام الأفراد الَّذین یریدهم (کالهاشمیین)؛ لأَنَّنا افترضنا أن کل الفقراء متساوون، فَکَمَا نحتمل أن الحکم ثابت للهاشمی دون غیره، نحتمل العکس أیضاً: نحتمل أن یکون الحکم لغیر الهاشمی دون الهاشمی. أی: لا یوجد فقیر أولی من غیره فِی ثبوت هذا الحکم له. فهناک احتمالات متعارضة، فکیف نقول: لو أراد المقیَّد لکان مبیَّناً ذلک فِی کلامه؟ کیف یُبَیِّن المتناقضات فِی هذا الکلام؟ إذن، یقتضی الظُّهُور الْحَالِیّ أن ننفی احتمالات إرادة المقیَّدات ونتمسک بالإطلاق کسائر الموارد.

ص: 170

وحاصل المحذور المترتّب عَلَیٰ کلام الخُراسانیّ هو أَنَّهُ بناءًا عَلَیٰ تصوّره عن المطلق والْمُقَیَّد یلزم عدم انعقاد الإِطْلاَق فِی موارد وجود القَدْر المتیَقَّن من خارج الخطاب، فلا تختصّ الْقَضِیَّة بوجود القَدْر المتیَقَّن فِی داخل الخطاب.

المحذور الثَّالث: هو أَنَّهُ یلزم من التَّصَوُّر الخُراسانیّ عن المطلق والْمُقَیَّد سدّ باب الإِطْلاَق وغلق بابه نهائیّاً؛ لأَنَّ جوهر مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ والإطلاق هو أن یقال: إن کلام الْمُتِکَلِّم دائر أمره بین المطلق والْمُقَیَّد ولا یمکن أن یکون الْمُتِکَلِّم قد أراد المقیَّد؛ لاستلزامه خلف الظُّهُور الْحَالِیّ لدیه، فیَتَعَیَّنُ الإطلاق.

فهناک جملتان بمجموعهما تُشکّلان مُقَدَِّمَاتِ الْحِکْمَةِ:

الجملة الأولی هی أن الْمُتِکَلِّم لو أراد الإِطْلاَق یکون کلامه وافیاً به، بینما لو أراد المقیَّد لا یکون کلامه وافیاً به. وبما أن ظاهر حاله أن کلامه یجب أن یفی بتمام مراده، إذن فهو أراد المطلق.

أَمَّا الجملة الأولی: فتَتُِمّ بناء عَلَیٰ تصورنا نحن عن المطلق والْمُقَیَّد (وَالَّذِی تقدّم شرحه فِی البحث الماضی). أی: أَنَّهُ بناء عَلَیٰ تصورنا یصحّ فِی مثل هذه الجملة (مثل: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» فِی الموارد الاعتیادیة ولیس فِی موارد القَدْر المتیَقَّن) أن نقول: لو أراد المطلق لکان کلامه وافیاً به؛ لأَنَّ تصورنا عن المطلق کان عبارة عن ما هو تمام الْمَوْضُوع الکلّی للحکم فِی عالم الجعل، لا تمام الأفراد والمصادیق لموضوع الحکم. فتصبح العبارة: «هل أن الْمُتِکَلِّم عندما قال: أَکْرِمِ الْعَالِمَ، وکان مراده أن یکون مَوْضُوع حکمه عبارة عن المطلق (أی: ذات الفقیر مِنْ دُونِ أی قید) یکون کلامه قد وفی بذلک أم لا»؟ نعم؛ لأَنَّ کلامه کان عبارة عن لفظ «العالم» وهو اسم جنس یَدُلّ عَلَیٰ ذات العالم. فلو کان قد أراد المطلق. أی: أراد أن یکون مَوْضُوع حکمه فِی عالم الجعل عبارة عن ذات الفقیر، لکان کلامه وافیاً به؛ لأَنَّهُ جعل اسم الجنس فِی کلامه واسم الجنس یَدُلّ عَلَیٰ ذات الفقیر. فلو أراد المطلق (حسب تصورنا) کان کلامه وافیاً. بینما إن انتقلنا إلی تصوّر الآخوند نری أن المطلق عنده عبارة عن الأفراد والمصادیق الخارجیة للحکم، فلا یصحّ - بناءًا علیه - أن نقول: لو أراد المطلق لکان کلامه وافیاً ببیانه؛ لأَنَّ کلامه کان عبارة عن اسم الجنس (= أَکْرِمِ الْعَالِمَ) واسم الجنس لا یَدُلّ عَلَیٰ الأفراد والمصادیق الخارجیة؛ فَإِنَّ المطلق والْمُقَیَّد عند الآخوند عبارة عن الأفراد (المطلق تمام المائة عنده والْمُقَیَّد الخمسون فقیراً مثلاً).

ص: 171

فَالْحَاصِلُ أَنَّ هذا الطرز من التفکیر الَّذی یتبناه الخُراسانیّ عن المطلق والْمُقَیَّد لا ینسجم مع طبیعة الدِّلاَلَة الإطلاقیّة، ولا ینسجم مع ملاک دلالة مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ؛ فإن جوهر هذه الدِّلاَلَة قائم عَلَیٰ أساس أن اسم الجنس وحده لا یفی بِالدِّلاَلَةِ عَلَیٰ المقیَّد، وإنَّما یفی بِالدِّلاَلَةِ عَلَیٰ المطلق. أی: الَّذی توجّه أذهان الأُصُولِیِّینَ والعرف نحو أن الْمُتِکَلِّم أراد المطلق ولم یرد المقیَّد هو أَنَّهُ بما أن اسم الجنس وحده یمکنه أن یوصّل إلی ذهننا المطلقَ، لٰکِنَّهُ لا یستطیع أن یوصل إلی ذهننا المقیَّد، وهذا أساس الإطلاق. وأمّا «اللابشرطیة» فقد تقدّم بأنها خارجة عن ذات الْمَاهِیَّة والمرئی، بل هی کیفیَّة فِی الرُّؤْیَة.

وهذا معناه أن المطلق هو الأَقَلّ والْمُقَیَّد هو الأزید (مرکب من ذات الْمَاهِیَّة ومن شیء آخر)، فهذا الأکثر بحاجة إلی بیان زائد (أی: التَّقْیِید)، ومن هنا أصبح التَّقْیِید محتاجاً إلی بیان. وهذا کُلّه إِنَّمَا یَتُِمّ بناءًا عَلَیٰ تصورنا عن المطلق والْمُقَیَّد وهو التَّصَوُّر الثَّانِی فِی فهم وتصویر الإطلاق. أی: أَنْ یَکُونَ النَّظَر إلی مَوْضُوع الحکم فِی مرحلة الجعل فَیَکُونُ التَّقْیِید هو الأکثر والإطلاق هو الأقل، بینما إذا نظرنا إلی المصادیق تنقلب الآیة ویصبح الإِطْلاَق هو الأکثر ویصبح التَّقْیِید هو الأَقَلّ.

هذا تمام الکلام فِی المسألة الخلافیة الثَّانیة، وقد تبیَّن أن المقیَّد المنفصل لا یضرّ بالإطلاق فِی المسألة الخلافیة الأولی، وتبیَّن فِی الثَّانیة أن القَدْر المتیَقَّن لا یضرّ بالإطلاق، وأن الإِطْلاَق ینعقد مع وجود القَدْر المتیَقَّن حتّی فِی داخل الخطاب، فضلاً عن وجوده فِی خارج الخطاب. فالإطلاق تامّ فِی جمیع الصور الثَّلاثة الَّتی طرحناها فِی بدایة المسألة:

الصُّورَة الأولی: ما إذا لم یوجد قدر متیقن أبداً.

الصُّورَة الثَّانیة: ما إذا کان القَدْر المتیَقَّن فِی خارج الخطاب.

ص: 172

الصُّورَة الثالثة: ما إذا کان القَدْر المتیَقَّن فِی داخل الخطاب.

اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: اسم الجنس/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

بعد أن اتَّضَحَ جوهر مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ وروحها وحالُ المسألتین الخلافیتین (المقیِّد المنفصل والقَدْر المتیَقَّن فِی مقام التخاطب) المترتبتین عَلَیٰ هذا الجوهر وهذه الروح، نأتی لنطبق ما ذکرناه عَلَیٰ مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ الَّتی ذکرها الأصحاب فِی کتبهم، فقد ذکر الخُراسانیّ( (1) ) أن مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ ثلاث:

المقدّمة الأولی: کون الْمُتِکَلِّم فِی مقام البیان، لا فِی مقام الإهمال والإجمال.

المقدّمة الثَّانیة: عدم نصب قرینة عَلَیٰ القید.

المقدّمة الثَّالثة: عدم وجود قدر متیقن فِی مقام التخاطب.

أَمَّا المقدّمة الأولی: فقد ذکر الخُراسانیّ أنَّها تُثبَتُ بالأصل الْعُقَلاَئِیّ حیث یقال: «إن الأصل فِی کُلّ متکلّم أن یکون فِی مقام البیان، لا فِی مقام الإهمال والإجمال». وقلنا فیما سبق: إن هذه المقدّمة تعبّر بشکلٍ وآخرَ عن ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ الآنف الذکر (وَالَّذِی قلنا إِنَّه الأساس فِی استفادة الإِطْلاَق) وبناءًا علیه نقول للخراسانی هنا:

1)- إن قصدتم بهذا الأصل الْعُقَلاَئِیّ ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ (وإن کان تعبیرکم عن الظُّهُور بالأصل تعبیراً مسامحیّاً) فهذا عین ما قلناه سابقاً (من أن ظاهر حال کل متکلم أَنَّهُ بصدد بیان مرامه ولیس بصدد إجمال مرامه).

2)- وأمّا إذا کان مقصودکم منه الْحُجِّیَّة والقرار العُقَلاَئِیّ الموجود (کما هو الظَّاهِر والمتعارف من کلمة «الأصل»)، أی: تریدون أن تقولوا: إن العقلاء تبانوا وقرّروا حمل هذه الکلمة عَلَیٰ هذا المحمل (أَنَّهُ بصدد البیان لا الإجمال والإهمال) بحیث یکون کل کلامٍ حجّةً تَعَبُّدِیَّة وأمارةً عُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ أن الْمُتِکَلِّم کان فِی مقام البیان ولم یکن فِی مقام الإهمال والإجمال.

ص: 173


1- (1) - کفایة الأصول: ج1، ص384، طبعة المشکینی.

فهذا یرد علیه أَنَّهُ لا یوجد عندنا أصل من هذا القبیل فِی مقابل أصالة الظُّهُور وبغض النَّظَر عن الظُّهُور الَّذی ذکرناه. أی: لا یوجد فِی المقام أصل تعبدی عُقَلاَئِیّ غیر أصالة الظُّهُور، ولا یوجد تبانٍ مِن قِبَلِ العقلاء عَلَیٰ حمل کلام الْمُتِکَلِّم عَلَیٰ هذا المحمل لَیْسَ إلاَّ صغری من صغریات أصالة الظهور. أی: إن أرجعنا أصالة «کون الْمُتِکَلِّم فِی مقام البیان» إلی أصالة الظُّهُور نفسها فبها المراد، وأَمَّا إن أرید بها شیء آخر غیر أصالة الظُّهُور فنحن ننکره؛ إذ لا یوجد شیء آخر غیر أصالة الظُّهُور ولا نحتاج أیضاً إلی شیء غیر أصالة الظُّهُور.

إذن، فجوهر هذه المقدّمة الأولی من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ هو هذا الظُّهُور الْحَالِیّ القائل بأن الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام مرامه بکلامه.

لفتة نظر:

ولا بُدَّ من الالتفات فِی خصوص هذه المقدّمة الأولی إلی أنَّ هذه المقدّمة لا تُعَیِّنُ أنَّ الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان أی شیء؟ وإنَّما بعد تشخیص أن المتکلم بصدد بیان الشَّیْء الفلانی (وذلک بالاستعانة من ظهورات الکلام) یأتی دور هذه المقدّمة الأولی (أو قل: دور هذا الظُّهُور الْحَالِیّ) لیقول: إن الأصل فِی ذاک الشَّیْء الَّذی کان الْمُتِکَلِّم بصدد بیانه أَنَّ الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمامه لا بصدد بیان بعضه وقطعةٍ منه. أی: دور هذه المقدّمة الأولی من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ یأتی بعد أن یتعیَّن أن معنی کلام الْمُتِکَلِّم ما هو؟

فعلی سبیل المثال إن قال المولی: «کلوا مِمَّا افترسه الکلبُ»، فیجب علینا أوَّلاً أن نُعَیِّنَ أَنَّهُ ما هو الظَّاهِر من هذه الجملة؟ هل أن الأمر بالأکل مِمَّا افترسه الکلبُ إرشادٌ إلی طهارةِ فریسة الکلب؟ أو أَنَّهُ إرشاد إلی تذکیته؟ وقبل هذا التّعیین لا یأتی دور مقدّمة الحِکْمَة، بل یأتی دورها بعد أن استظهرنا أَنَّهُ إرشاد إلی التذکیة لیقول: ظاهر حال الْمُتِکَلِّم الَّذی أصبح بصدد بیان تذکیة فریسة الکلب أَنَّهُ بیَّن کلَّ العناصر الدخیلة فِی تذکیة الفریسة (أی: بیَّن کل ذاک المعنی الَّذی استظهرناه من کلامه). فإذا لم یأت بقید خاصّ ولم یذکر نَوْعاً خاصّاً من الأکل، أو نَوْعاً خاصّاً من الافتراس، أو ما ذکر شرطاً خاصّاً، فحینئذٍ نتمسک بالإطلاق ونقول: إن ظاهر حاله أَنَّهُ بصدد بیان کل ما له دخل فِی التذکیة وما ذکره ولم یذکر القید. أَمَّا إذا لم یَتَعَیَّنْ عندنا معنی الکلام بعدُ، فلا معنی لأَنْ تأتی المقدّمة الأولی.

ص: 174

نکتة مهمة:

ومن هنا حینما یقال فِی کثیر من الموارد: «هذا الکلام لَیْسَ فِی مقام البیان من هذه الجهة کی تتمسک بإطلاقها»، هذا الکلام لا ینافی هذا الظُّهُور الْحَالِیّ (المقدّمة الأولی من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ)؛ فَإِنَّ هذا الفقیه الَّذی یقول بهذا الکلام یعترف بهذه المقدّمة أیضاً ولا یرید النقاش فیها، بل یقصد بالأصل والمقدّمة الأولی لزوم تعین وَتشَخّص معنی الکلام لنقول بعد ذلک: إِنَّه کان بصدد بیان کل هذا المعنی، لا بعضه.

فلیست وظیفة هذا الظُّهُور الْحَالِیّ تعیین مفاد الکلام، بل تعیین مفاد الکلام یأتی بالظهورات اللَّفظیَّة المقرَّرة، وإنَّما یأتی الظُّهُور الْحَالِیّ بعد تعیّن ظاهر الکلام لیقول: إن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم هو أَنَّهُ بصدد بیان تمام ما هو مراده.

مثلاً إن أراد فقیهٌ أن یتمسّک بإطلاق {فَکُلُواْ مِمَّا أَمْسَکْنَ عَلَیْکُمْ} فِی الآیة الشریفة: {یَسْأَلُونَکَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَکُمُ الطَّیِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُکَلِّبِینَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَکُمُ اللّهُ فَکُلُواْ مِمَّا أَمْسَکْنَ عَلَیْکُمْ وَاذْکُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَیْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِیعُ الْحِسَابِ}( (1) ) ویقول: یجوز أکل کلّ ما افترسه الکلب؛ لأَنَّ هذه الآیة تثبتُ تذکیةَ کل ما افترسه الکلب، حتّی الأرنب الَّذی نشک فِی أَنَّهُ هل یجوز أکل لحمه أو لا، فَتَدُلُّ الآیة عَلَیٰ جواز أکله، مَعَ أَنَّ جواز أکل لحم الأرنب غیر ثابت لدینا من خارج هذه الآیة. فیرد عَلَیٰ هذا الکلام بأنَّ الآیة لیست بصدد بیان هذه الجهة، أی: أنَّ الآیة لیست بصدد بیان أنّ أیّ حیوان یجوز أکل لحمه ذاتاً وأی حیوان لا یجوز أکل لحمه ذاتاً ومن غیر تذکیة.

هذا تمام الکلام فی المقدّمة الأولی.

ص: 175


1- (2) - سورة المائدة (5): الآیة 4.

وأَمَّا المقدّمة الثَّانیة: فهی عبارة عن أنْ لا ینصب الْمُتِکَلِّمُ قرینةً عَلَیٰ التَّقْیِید. وهذه المقدّمة ضروریة؛ لأَنَّ الْمُتِکَلِّم حینما ینصب قرینةً عَلَیٰ التَّقْیِید یکون قَدْ بَیَّنَ المقیَّد فیما إذا کان مراده المقیَّد، ولطالما بیّن المقیَّد فذاک الظُّهُور الْحَالِیّ لا یَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّة عَلَیٰ أَنَّهُ أراد المطلق؛ لأَنَّ ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ إِنَّمَا کان یَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّة عَلَیٰ أن الْمُتِکَلِّم أراد الإِطْلاَق فیما إذا لم یُبَیِّن الْمُتِکَلِّم مرامه فِی فرض إرادته المقیَّد. أی: فِی الحالة الَّتی إن کان الْمُتِکَلِّم یرید المقیَّد لم یکن قَدْ بَیَّنَ المقیَّد. فِی هذه الحالة کُنَّا نقول: إذن ظاهر حاله أَنَّهُ أراد المطلق. أَمَّا إذا بیّن القید فلیس ظاهر حاله أَنَّهُ أراد المطلق؛ لأَنَّهُ بیّن القید.

إذن، الأصل والشرط والسبب الضروری فِی تکوّن الدِّلاَلَة الالتزامیة لذاک الظُّهُور الْحَالِیّ عَلَیٰ الإِطْلاَق هو أَنْ لاَّ یَکُونَ الْمُتِکَلِّم قَدْ بَیَّنَ القید والْمُقَیَّد. أی: أن لا ینصب قرینة عَلَیٰ القید؛ فحینئذٍ یصبح هذا سبباً فِی القول بأَنَّهُ أراد الإِطْلاَق؛ لأَنَّ ظاهر حاله أن تمام مراده مُبَیَّنٌ.

إذن، أصل هذه المقدّمة واضحة وضروریة.

لکن الکلام الَّذی لا بُدَّ من طرحه فِی المقام هو فِی معرفة صیاغة هذه المقدّمة؛ إِذْ أَنَّ هناک اِخْتِلاَفاً فِی صیاغتها عَلَیٰ قِسْمَیْنِ، فقد ذهب الخُراسانیّ إلی الصِّیَاغَة الأولی القائلة بأن من مقدّمات الحکمة عدمُ نصب القرینة المتَّصلة عَلَیٰ القید. بینما ذهب النائینی ومدرسته إلی الصِّیَاغَة الثَّانیة القائلة بأن من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ عدم نصب القرینة لا المتَّصلة ولا المنفصلة. أی: إن القرینة المنفصلة عندهم تمنع من الإِطْلاَق وتضر بانعقاد الإِطْلاَق.

فهنا عندما نرید دراسة هذه المقدّمة الثَّانیة یجب أن نعرف ما هی الصِّیَاغَة الصحیحة لهذه المقدّمة؟ وقد ذکرنا سابقاً أن من نتائج الفرق الصیاغتین هو أَنَّهُ بناء عَلَیٰ الصِّیَاغَة الأولی لا تزاحم القرینة المنفصلةُ أصلَ الإِطْلاَق بل یزاحم حجیّتَه، بینما عَلَیٰ الصِّیَاغَة الثَّانیة (صیاغة المیرزا) تزاحمُ القرینةُ المنفصلةُ أساس الإِطْلاَق.

ص: 176

هَاتَانِ الصیاغتان تشترکان فِی «عدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ القید» وتفترقان فِی «عدم نصب قرینة منفصلة» وَالَّتِی یقول به المیرزا دون الآخوند، وإذا أردنا دراسة ما به الاشتراک علینا أن نقول: توجد ثلاثة احتمالات فِی تفسیره نذکرها غداً إن شاء اللٰه تعالی.

مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی المقدّمة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ وَالَّتِی هی عبارة عن عدم نصب الْمُتِکَلِّم قرینةً عَلَیٰ التَّقْیِید، وَقُلْنَا: إِنَّ هذه المقدّمة توجد لها صیاغتان:

الصِّیَاغَة الآخوندیة: القائلة بأن المقدّمة عبارة عن عدم نصب الْمُتِکَلِّم قرینةً متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید.

الصِّیَاغَة المیرزائیة: القائلة بأن المقدّمة الثَّانیة عبارة عن عدم نصب الْمُتِکَلِّم قرینةً عَلَیٰ التَّقْیِید مطلقاً، سواء المتَّصلة أم المنفصلة.

وَقُلْنَا: إن هَاتَیْنِ الصیاغتین مشترکتان فِی اشتراط عدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید وتمتاز الصِّیَاغَة الثَّانیة باشتراط عدم نصب قرینة منفصلة أیضاً عَلَیٰ التَّقْیِید.

فلنتکلم أوَّلاً فِی ما به اشتراک الصیاغتین، وثانیاً فیما به امتیاز الصِّیَاغَة الثَّانیة:

أَمَّا ما به اشتراکهما، أعنی: اشتراک عدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید، ففی تفسیره توجد ثلاثة احتمالات وتفاسیر( (1)

ص: 177


1- (1) - یرجی الالتفات إلی الأمثلة الخمسة أدناه، لکی یَتَّضِح البحث أکثر فأکثر من خلالها، وهی کالتالی:المثال الأوّل: أن یقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ العادل».المثال الثَّانِی: أن یقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم العالم الفاسق».المثال الثَّالث: أن یقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولیکن العالمُ عادلاً».المثال الرَّابع: أن یقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق».المثال الخامس: أن یقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم کل فاسق».

):

الاحتمال أو التَّفْسِیر الأوّل: أَنْ یَکُونَ المقصود من «القرینة المتَّصلة» الَّتی یکون عدمها من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ وَشَرْطاً لانعقاد الإِطْلاَق، خصوص ما یصلح للقرینیّة عَلَیٰ القید حتّی فِی فرض کون الاستیعاب وَضْعِیّاً بحیث حتّی لو کان المطلق عامّاً أیضاً لکان هذا صالحاً لتقییده؛ لأَنَّهُ قرینة عَلَیٰ القید، وذلک إما بالتصریح بالقید عَلَیٰ نحو التوصیف، کقوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ العادل»، وإما بکون المقیِّد فِی جملة أخری متصلة وصالحة للقرینیّة إما بالأخصیة، کقوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم العالم الفاسق»، وإما بِالنَّظَرِ والحکومة کقوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولْیَکُنْ العالم عادلاً»؛ فَإِنَّ القرینة فِی مثل هذه الموارد صالحة لِلْقَرِینِیَّةِ عَلَیٰ ما هو الصَّحِیح، حتّی لو أبدلنا المطلق بالعامّ الوضعیّ، بأن نقول فِی المثال الأوّل: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ عادل»، ونقول فِی المثال الثَّانِی: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ ولا تکرم العالم الفاسق»، ونقول فِی المثال الثَّالث: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ ولیکن عادلاً».

إذن، فمقتضی هذا الاحتمال هو أن ما ینافی الإِطْلاَق إِنَّمَا هو مثل هذه القرینة المتَّصلة، وأمّا إذا جیء مع المطلق ببیانٍ یَدُلّ عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد ضمن مطلق آخر، کما إذا قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق»، أو ضمن عامّ کما إذا قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم کل فاسق» فَسَوْفَ لا یکون هذا منافیا للإطلاق؛ لأَنَّ هذا المطلق الآخر أو العامّ لا یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ حتّی فِی فرض تبدیل المطلق بالعامّ الوضعیّ، بأن نقول: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ ولا تکرم الفاسق» أو نقول: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ ولا تکرم کل فاسق»؛ ضرورةَ أن النِّسْبَة حینئذٍ بین العامّ والمطلق (فِی المثال الأوّل) أو بین العامین (فِی المثال الثَّانِی) هی العموم من وجهٍ.

وحاصل التَّفْسِیر الأوّل هو أن یکون المراد من عدم نصب قرینة متصلة هو عدم نصب قرینة عَلَیٰ القید، لا عدم الإتیان ببیان یَدُلّ عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد.

ص: 178

وعلیه، فتَتُِمّ مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ وینعقد الإِطْلاَق فِی المطلق الَّذی جیء معه ببیان دالّ عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد ضمن مطلق آخر (کقوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق») أو ضمن عامّ (کقوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم کل فاسق»)، غایة الأمر یقع التعارض بین الظهورین الإطلاقیین فِی المثال الأوّل، کما أَنَّهُ یقع التعارض بین الظُّهُور الإطلاقی والظهور الوضعیّ فِی المثال الثَّانِی کما هو واضح.

الاحتمال أو التَّفْسِیر الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ المقصود ب_«القرینة المتَّصلة» الَّتی یکون عدمها من مقدّمات الحِکْمَة وَشَرْطاً لانعقاد الإِطْلاَق ما یشمل البیان الدَّالّ فعلاً عَلَیٰ نفی الحکم عن غیر المقیَّد ضمن عامّ وَضْعِیّ نسبته إلی هذا المطلق نسبةُ العموم من وجهٍ، کما فِی قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم کل فاسق»، فلیس المراد من عدم نصب قرینة متصلة فِی هذا الاحتمال خصوص عدم نصب ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ عَلَیٰ القید کما کان (بناءًا عَلَیٰ الاحتمال الأوّل)، بل یشمل أیضاً عدم الإتیان بکلام دالّ بالفعل عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد، ولو لم یکن هذا الکلام صالحاً لِلْقَرِینِیَّةِ، کالعام الوضعیّ فِی المثال المتقدّم آنِفاً؛ فإِنَّهُ بِالرَّغْمِ من عدم صلاحیته لِلْقَرِینِیَّةِ (حیث لا قرینیّةَ للعامّ عَلَیٰ الإِطْلاَق) بیان دالّ فعلاً عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر العادل، فلا ینعقد الإِطْلاَق فِی «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» حینئذٍ؛ لانهدام المقدّمة الثَّانیة من مقدّمات الحِکْمَة وهی أن لا یَأْتِی الْمُتِکَلِّم ببیان یکون دالاًّ بالفعل عَلَیٰ عدم وجوب إکرام الفاسق من العلماء، والمفروض أن العامّ الوضعیّ هنا (أی: قوله «لا تکرم کل فاسق») دالّ بالفعل عَلَیٰ عدم وجوب إکرام الفاسق من العلماء؛ لأَنَّ دلالته وضعیَّة تنجیزیّة (ولیست مُعَلّقَة عَلَیٰ عدم القرینة)، فَیَکُونُ العامّ الوضعیّ رَافِعاً لمقدمات الحِکْمَة فِی المطلق، فلا ینعقد الإِطْلاَق من أساسه. وهذا هو معنی ما یقولونه من «حکومة العامّ عَلَیٰ المطلق»؛ لأَنَّ ظهور العامّ تنجیزیّ، وظهور المطلق تعلیقی، فبینما لم یکن مثل هذا العالم الوضعیّ منافیاً للإطلاق بناءًا عَلَیٰ الاحتمال الأوّل (کما رأینا) نجده منافیاً للإطلاق بناءًا عَلَیٰ هذا الاحتمال الثَّانِی، فما ینافی الإِطْلاَق بناءًا عَلَیٰ هذا الاحتمال لا یختصّ بما کان ینافیه بناءًا عَلَیٰ الاحتمال الأوّل، بل یشمل البیان الدَّالّ فعلاً عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد ولو لم یکن صالحاً لِلْقَرِینِیَّةِ، کالعام الوضعیّ فِی المثال المتقدّم.

ص: 179

وعلیه، فإذا لم یأت عقیب المطلق بکلام دالّ بالفعل عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد، وإنَّما أتی بکلام لا یَدُلّ فعلاً عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد (کما إذا قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق») فَسَوْفَ تکون المقدّمة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ محفوظة ویتم الإِطْلاَق بناءًا عَلَیٰ هذا الاحتمال؛ لأَنَّ کلا من المطلقین (أی: قوله «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» وقوله «لا تکرم الفاسق») لا یَدُلّ بالفعل عَلَیٰ نفی الحکم المذکور فِی الآخر عن غیر المقیَّد؛ إذ لا الأوّل دالّ فعلاً عَلَیٰ نفی الْحُرْمَة عن إکرام الفاسق العالم، ولا الثَّانِی دالّ فعلاً عَلَیٰ نفی الوجوب عن إکرام العالم الفاسق.

وعلیه، ما یقتضی الإِطْلاَق فِی کُلّ منهما (أعنی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ) موجود وتام بناءًا عَلَیٰ هذا الاحتمال، وحینئِذٍ یکون التعارض بین الإطلاقین من باب تزاحم المقتضیین، ومصیرهما مصیر ظهورین عمومیّین وضعیین إذا تعارضا، کما إذا قال: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ ولا تکرم کل فاسق». إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی المقدّمة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، فقلنا: إن لهذه المقدّمة صیاغتین، أحدهما ما أفاده الخُراسانیّ والأخری ما ذکرها المیرزا، ثُمَّ قلنا: إن هَاتَیْنِ الصیاغتین مشترکتان فِی اشتراط عدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید وتمتاز الصِّیَاغَة الثَّانیة باشتراط عدم نصب قرینة منفصلة أیضاً عَلَیٰ التَّقْیِید. ثُمَّ تحدثّنا عن ما به اشتراک الصیاغتین وَقُلْنَا: إِنَّ هناک ثلاثة احتمالات وتفاسیر فِی اشتراک عدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید، تقدّم التَّفْسِیران الأوّل وَالثَّانِی منها، وبقی التَّفْسِیر الثَّالث لنذکره فِیما یلی:

ص: 180

الاحتمال أو التَّفْسِیر الثَّالث: أَنْ یَکُونَ المقصود ب_«القرینة المتَّصلة» الَّتی یکون عدمها من مقدّمات الحِکْمَة وَشَرْطاً لانعقاد الإِطْلاَق ما یشمل الکلام الَّذی یکون - لو خُلّی وطبعه - دالاًّ عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد، وإن کان هذا الکلام عبارة عن مطلق آخر، کما إذا قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق».

فلیس المراد من عدم نصب قرینة متصلة - بناءًا عَلَیٰ هذا الاحتمال - خصوص عدم نصب ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ عَلَیٰ القید (مثلما کان بناءًا عَلَیٰ الاحتمال الأوّل) ولا خصوص عدم الإتیان بکلام دالّ فعلاً عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد (کما کان بناءًا عَلَیٰ الاحتمال الثَّانِی) بل یشمل أیضاً عدم الإتیان بکلام یَدُلّ - ولو بإطلاقه - علی عدم وجوب إکرام العالم الفاسق. فلا تَتُِمّ مقدّمة الحِکْمَة هنا، لا فِی قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» ولا فِی قوله: «لا تکرم الفاسق»؛ لأَنَّ کلا منهما مبتلی بکلام لو خلی وطبعه دلَّ عَلَیٰ عدم ثبوت الحکم لغیر المقیَّد. إذن، بناء عَلَیٰ هذا التَّفْسِیر أو الاحتمال الخامس لا ینعقد الإِطْلاَق فی کل هذه الأمثلة الخمسة.

هذه هی الاحتمالات أو التفاسیر الثَّلاثة للقرینة المتَّصلة الَّتی یُشترط عدم وجودها لکی یَتُِمّ الإطلاق. وکما لاحظتم أنَّها مُتدرّجة من الأضیق إلی الأوسع؛ فَإِنَّ دائرة القرینة المتَّصلة بناءًا عَلَیٰ الاحتمال الأول أضیق من دائرة القرینة المتَّصلة من الاحتمالین الأخیرین، کما أنَّها بناءًا عَلَیٰ الاحتمال الثَّانِی أضیق من دائرة الاحتمال الثَّالث وأوسع من دائرة الاحتمال الأوّل؛ فَإِنَّنَا فِی الاحتمال الأوّل کُنَّا نکتفی فِی دائرة القرینة المتَّصلة بخصوص ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ، وفی الاحتمال الثَّانِی توسّعنا وقلنا: «ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ أو حتّی إذا لم یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ لکن یَدُلّ فعلاً عَلَی التَّقْیِید»، بینما توسعنا أکثر فأکثر فِی الاحتمال الثَّالث، حیث قلنا: «حتّی لَوْ لَمْ یَکُنْ صالحاً لِلْقَرِینِیَّةِ ولم یکن دالاًّ فعلاً عَلَیٰ التَّقْیِید لکن کان لو خلی وحده لَدَلَّ عَلَیٰ التَّقْیِید»، أی: هذا المقدار یکفی فِی القرینة المتَّصلة.

ص: 181

وفی المقابل دائرة الإِطْلاَق عَلَیٰ الاحتمال الأوّل أوسع منها عَلَیٰ الاحتمالین الأخیرین؛ لأَنَّه عَلَیٰ الاحتمال الأوّل یَتُِمّ الإِطْلاَق فِی المثال الرَّابع والخامس، أَمَّا علی الاحتمال الثَّانِی یَتُِمّ الإِطْلاَق فقط فِی المثال الرَّابع، بینما لا یَتُِمّ الإطلاق عَلَیٰ الاحتمال الثَّالث فِی شیء من الأمثلة الخمسة).

فلو قال مثلاً: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق» (= المثال الرَّابع) أو قال مثلاً: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم کل فاسق» (المثال الخامس)، فهنا یَتُِمّ الإِطْلاَق فِی کلمة «عالم» فِی کلا المثالین بناءًا عَلَیٰ الاحتمال الأوّل؛ لأَنَّ مقدّمة الحِکْمَة محفوظة، وبناءًا عَلَیٰ الاحتمال الثَّانِی یَتُِمّ الإِطْلاَق فِی المثال الرَّابع، ولٰکِنَّهُ لَیْسَ تامّاً فِی المثال الخامس، بینما إذا بنینا علی الاحتمال الثَّالث لا یَتُِمّ الإِطْلاَق فِی شیء من المثالین، کالأمثلة الثَّلاثة الأولی.

إذن، فالقدر المشترک بین هذه الاحتمالات الثَّلاثة هو «اشتراک عدم ذکر ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ بالنحو الَّذی ذکرناه فِی الاحتمال الأوّل». هذا هو القَدْر المتیَقَّن الَّذی لا نشک بأَنَّهُ شرط معتبرٌ فِی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ؛ لأَنَّ من الواضح الَّذی لا إِشْکَال فیه هو أنَّ المرجع فِی صحَّة الاحتمالات الثَّلاثة هو ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ، وقد قلنا إِنَّه یَدُلّ بالالتزام عَلَیٰ أن الْمُتِکَلِّم أراد المطلق دون المقیَّد؛ لأَنَّهُ لو أراد المقیَّد رغم أَنَّهُ لم یُبَیِّن ذلک، لزم خلف الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی یقول بأن الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مرامه بکلامه. فلا بُدَّ من معرفة أَنَّهُ متی یلزم الخلف لو أراد المقیَّدَ ومتی یرتفع الخلفُ لو أراد المقیَّد، کی نحدد بعد ذلک موقفنا من هذه التفاسیر الثَّلاثة.

ولا إِشْکَال فِی أن الْمُتِکَلِّم إذا لم یُبَیِّن القید أصلاً بوجهٍ من الوجوه (أی: قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ»)، فمن الواضح فِی مثل هذه الصُّورَة أَنَّهُ لو أراد المقیَّد لزم خلف ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ، إذن فَیَدُلُّ ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ التزاما عَلَیٰ أَنَّهُ أراد المطلق ولم یرد المقیَّد.

ص: 182

أَمَّا إذا بیّن المقیَّد فلا بُدَّ من أن نعرف أن أیّ مقدارٍ من بیان المقیَّد یوجب ارتفاع الخلف، بحیث لو أراد المقیَّد لا یلزم منه أن یکون خالف ظهورَ حاله؟

الجواب عنه هو الَّذی یُحَدِّدُ موقفنا تجاه هذه التفاسیر والاحتمالات الثَّلاثة المتقدّمة؛ فإن بیان المقیَّد عبارة أخری عن القرینة المتَّصلة الَّتی یشترط عدمها فِی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، فهنا یَتَّضِح جلیّاً أن ما به الاشتراک بین الاحتمالات الثَّلاثة هو ما ذکر فِی الاحتمال الأوّل من عدم بیان ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ عَلَیٰ القید بالنحو الَّذی ذکرناه فِی الاحتمال الأوّل. أی: عدم وجود ما یصلح لأنْ یکونَ قرینة عَلَیٰ المطلق حتّی لو بدلنا المطلق بالعامّ کما ذکرنا فِی الاحتمال الأوّل. فاشتراط عدم وجود ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ عَلَیٰ التقیید فِی الإِطْلاَق أمر واضح؛ لأَنَّهُ إن أراد المتکلم المقیَّدَ مع وجود ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ عَلَیٰ التَّقْیِید، لا یلزم منه خلفُ الظُّهُور الْحَالِیّ. فعلی سبیل المثال إن قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ العادل» (= المثال الأول) لا یکون قد خالف ظهورَ حاله إن أراد خصوص العالم العادل؛ لأَنَّهُ بیّن المقیَّد فِی کلامه.

وکذلک فِی «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم العالم الفاسق» (المثال الثَّانِی) لو أراد المقیَّد لا یکون قد خالف ظهور حاله؛ لأَنَّ ظاهر حاله أَنَّهُ فِی مقام بیان تمام مرامه بکلامه، وقد بیَّن تمام مرامه وهو «وجوب إکرام العالم العادل وعدم إکرام خصوص العالم الفاسق»، وقد بیَّنه بکلامه، فلا ینعقد الإِطْلاَق؛ لأَنَّهُ إن أراد المقیَّد لا یلزم الخلف.

وکذلک فِی «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولیکن العالم عادلاً» (=الاحتمال الثَّالث) حَیْث أَنَّ هذا الکلام وافٍ بتمام مرامه وهو أن الإکرام ثابت لخصوص العالم العادل، فلا ینعقد الإِطْلاَق بحیث یشمل العالم الفاسق.

ص: 183

إذن، لا شکّ أن المقدار الَّذی یقوله الاحتمال وَالتَّفْسِیر الأوّل مشترطٌ عدمُه لکی یَتُِمّ الإِطْلاَق؛ لأَنَّه مع وجوده لا تَتُِمّ الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة للظُّهُور الْحَالِیّ عَلَیٰ الإطلاق. فهذا النَّحْو من بیان المقیَّد یوجِب ارتفاع الخلف. فلکی تَتُِمّ الملازمة بین الظُّهُور الْحَالِیّ وبین إرادة الإِطْلاَق نحتاج إلی أن نشترط عدم وجود قرینة یکون الکلام مع وجودها وافیاً بتمام المرام فِی فرض کون المرام هو المقیَّد.

فالمقدار الَّذی یشترطه الاحتمال الأوّل لانعقاد الإِطْلاَق، لا شکّ فِی اشتراطه کما عرفنا.

إذن، الاحتمال الأوّل صحیح، أی: هذا المقدار مُسَلَّمٌ أنَّ القرینة المتَّصلة الَّتی نشترط عدمها فِی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ عبارة عن خصوص ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ حتّی لو بدلنا المطلق بالعامّ، یصلح للقرینة.

یبقی أن نعرف حال التفسیرین الآخرین وهذا ما سیأتی غداً إن شاء اللٰه تعالی.

مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

تمخض عمَّا تقدّم أَنَّنَا نوافق عَلَیٰ المقدار المشتَرَط فی الاحتمال الأوّل (من الاحتمالات الثَّلاثة فِی القرینة المتَّصلة) لانعقاد الإِطْلاَق (لأَنَّه القَدْرُ المتیَقَّن والأضیق بین هذه الاحتمالات الخمسة)، ونقبل به کمقدّمة ثَانیةٍ من مقدّمات الحِکْمَة وهو عبارة عن عدم وجود ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ عَلَیٰ التَّقْیِید، وإلاَّ (فِی فرض وجود ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ) فلا تکون المقدّمة الثَّانیة محفوظةً وبالتَّالی لا ینعقد الإِطْلاَق، کما فِی المثال الأوّل وَالثَّانِی والثالث من تلک الأمثلة الخمسة.

أَمَّا الاحتمالان الآخران فیطرح حولهما سؤالان:

السُّؤَال الأوّل: هل الاحتمال الثَّالث صحیح؟ أی: هل یشترط فِی انعقاد الإِطْلاَق عدمَ وجود ما یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ أو ما یَدُلّ فعلاً عَلَیٰ التَّقْیِید أو حتّی ما لا یَدُلّ فعلاً عَلَیٰ التَّقْیِید لٰکِنَّهُ لو عزل وجیء به بصورة مستقلّة لَدَلَّ عَلَیٰ التَّقْیِید؟

ص: 184

فإن قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق»، نری أن الجملة الثَّانیة (= ولا تکرم الفاسق) تَدُلّ فعلاً عَلَیٰ التَّقَیید بأَنَّهُ لا یجب إکرام العالم الفاسق (أی: الجملة الثَّانیة لا تقیِّد الأولی)؛ لأَنَّ الجملة الثَّانیة مطلقة کالأولی، المطلق إذا اقترن بمطلق آخر لا یَدُلّ عَلَیٰ تقییده، بل اقترانهما ببعضهما یصیّرهما معاً مجملین. ولکن إن کانت الجملة الثَّانیة منفصلة ومعزولة وخلیت وحدها لدلّت - ولو بإطلاقها - عَلَیٰ عدم وجوب إکرام العالم الفاسق. وعلیه، فهل المقدّمة الحِکْمَة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ تبقی محفوظة هنا؟

الجواب هو عدم الحفاظ عَلَیٰ مقدّمة الحِکْمَة فِی الاحتمال الثَّالث؛ لأَنَّهُ کان یشترط فِی المقدّمة الثَّانیة عدمَ وجود جملة من هذا القبیل (عدم وجود ما لو خلی وحده لدل عَلَیٰ التَّقْیِید)، فلا ینعقد الإِطْلاَق فِی قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» لکی یشمل «العالم العادل» و«العالم الفاسق» معاً؛ لفقدان المقدّمة الثَّانیة؛ إذ أنَّها کانت عبارة عن أَنْ لاَّ یَکُونَ فِی الکلام ما لو خلی وحده لدل عَلَیٰ التَّقْیِید، والحال أَنَّهُ یوجد فِی الکلام ما لو خلی وحده لدل عَلَیٰ التَّقیید (وهو ما یتبناه الاحتمال الثَّانِی) أو لا یشترط هذا الشَّرْط فِی مقدّمة الحِکْمَة، بمعنی أَنَّهُ حتّی لو کان فِی الکلام ما لو خلی وحده لدَلَّ عَلَیٰ التَّقْیِید لٰکِنَّهُ فعلاً لا یَدُلّ عَلَیٰ التَّقْیِید. فأی من الاحتمالین الثَّانِی والثالث صحیح؟

الجواب: هو الثَّانِی، أی: نحن لا نشترط فِی المقدّمة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ هذا الشَّرْط الثَّانِی، أی: حتّی لو اقترن بِالْمُطْلَقِ کلامٌ، هذا الکلام لو خلی وحده یَدُلّ عَلَیٰ التَّقْیِید لٰکِنَّهُ فعلاً لا یَدُلّ عَلَیٰ التَّقیید، فإن ذلک لا یضرّ بانعقاد الإِطْلاَق، أی: مقتضی الإِطْلاَق تامّ حتّی مع وجود هذا الکلام؛ لأَنَّ ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی هو الأساس للدِّلالة عَلَیٰ الإِطْلاَق یقول: إن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم هو أَنَّهُ بصدد بیان تمام مرامه بکلامه. فإن أراد من قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» (فِی «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق») إکرامَ خصوص العالم العادل، لا یکون کلامه وافیاً ببیان هذا المراد؛ لأَنَّهُ لم یُبَیِّن التَّقْیِید بالعدالة. بینما ظاهر حاله أن یکون کلامه وافیاً بتمام مرامه. إذن، نقول: لازم هذا الظُّهُور الْحَالِیّ هو أَنَّهُ أراد من قوله «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» مطلق العالم. فلو کان یرید مطلق العالم لکان کلامه وافیاً. فالمتقضی للإطلاق محفوظ فِی هذه الصُّورَة.

ص: 185

وبعبارة أخری: لو أراد المقیَّد لزم خلف الظُّهُور الْحَالِیّ؛ باعتبار أن السَّامِع - عَلَیٰ أی حال - عندما یسمع قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق» لا یتحصل له مراد الْمُتِکَلِّم وهو وجوب إکرام العالم العادل؛ لأَنَّ هذا الکلام بمجموعه «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم الفاسق» لم یُبَیِّن للسامع حکم العالم الفاسق (بأَنَّهُ یجب إکرامه لأَنَّهُ عالم، أو یحرم إکرامه لأَنَّهُ فاسق)، فلم یُبَیِّن الْمُتِکَلِّم تمام مرامه لو کان مراده واقعاً وجوب إکرام خصوص العالم العادل، أی: خالف ظهوره الْحَالِیّ، والأصل أَنْ لاَّ یَکُونَ الْمُتِکَلِّم مخالفاً لظهور حاله، بل یکون قد مشی وَفق ظهوره الْحَالِیّ بأن بیّن کل مرامه فِی کلامه. وهذا معناه أن کلامه مطلق وفِیه اقتضاء الإِطْلاَق. إذن، هذا المقدار الَّذی یشترطه الاحتمال الثَّالث لا نقبله.

هذا فیما یخصّ السُّؤَال الأوّل من السؤالین الَّذین طرحناهما.

السُّؤَال الثَّانِی: هل یُشترط فِی الاحتمال الثَّانِی ذاک المقدار الزَّائِد الَّذی یشترطه الاحتمال الثَّانِی إضافةً إلیٰ ما یشترطه الاحتمال الأوّل؟

وبالرجوع إلی الاحتمال الثَّانِی نری أَنَّهُ کان یقول: إن القرینة المتَّصلة المشترط عدمها لانعقاد الإِطْلاَق، إما هی عبارة عمَّا یصلح لِلْقَرِینِیَّةِ عَلَیٰ التَّقْیِید، أو أنَّها عبارة عن کلام یَدُلّ فعلاً (لا لو عُزل) التَّقْیِید. فجملة «ولا تکرم کل فاسق» فِی «أَکْرِمِ الْعَالِمَ ولا تکرم کل فاسق» (= المثال الخامس) عامّ ولا یصلح أن یکون قرینة عَلَیٰ شیء؛ إذ لَیْسَ من موارد الجمع الْعُرْفِیّ قرینیة العامّ عَلَیٰ المطلق، لکن هذه الجملة الثَّانیة فعلاً تَدُلّ بدلالة ناجزة ومستقرة (ولیس لو عُزلت) عَلَیٰ العموم بدلالة وضعیَّة «لا تکرم کل فاسق»، أی: حتّی لو کان الفاسق عَالِماً. فتَدُلّ هذه الجملة الثَّانیة فعلاً عَلَیٰ أن وُجُوب الإِکْرَامِ غیر ثابت للعالم الفاسق (أی: تَدُلّ عَلَیٰ التَّقْیِید). فهل لنا أن نعتبره قرینة متصلة لکی لا ینعقد الإِطْلاَق؟

ص: 186

کان یقول الاحتمال الثَّانِی: إن هذا قرینة متصلة أیضاً، ویشترط عدمها لانعقاد الإِطْلاَق. فنرید الآنَ أن نری هل أن هذا الشَّرْط صحیح؟ أی: لو أن المطلق اقترن بعامّ فهل اقترانه بالعامّ یسبب إنهدام المقدّمة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، وبالتَّالی لا ینعقد الإِطْلاَق فِی المطلق أم لا؟ هذا هو السُّؤَال الثَّانی الَّذی نرید أن نجیب عنه.

هنا یوجد وجهان وکلامان لصحة الاحتمال الثَّانِی:

الوجه الأوّل: هو صحَّة المقدار الَّذی یشترطه الاحتمال الثَّانِی لانعقاد الإطلاق. أی: أَن العامّ المقترن بالمطلقِ بیانٌ للمقیَّد عند العرف؛ فَإِنَّ قوله: «لا تکرم کل فاسق» عامّ ودلالة العامّ وضعیَّة ویفهم العرف من العامّ العموم والاستیعاب، أی: «لا تکرم کل فاسق، حتّی لو کان الفاسق عَالِماً»، فَیُعتبر هذا الکلامُ بَیَاناً عند العرف لقید العدالة فِی قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ»، فلو أراد الْمُتِکَلِّم المقیَّد هنا لم یکن خالف ظهوره الْحَالِیّ؛ لأَنَّ ظاهر حاله أن یکون کلامه وافیاً بتمام مرامه وفعلاً کلامه وافٍ بتمام مراده، فلا معنی لحمل کلامه عَلَیٰ الإِطْلاَق.

ولطالما حکّمنا العامّ عَلَیٰ المطلق (باعتبار أن دلالة العامّ تنجیزیّة ولیست مُعَلّقَةً عَلَیٰ شیء، بخلاف المطلق، حَیْث أَنَّ دلالة المطلق مُعَلّقَة عَلَیٰ تَمَامِیَّة مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ) نسنتیج بالنهایة أن وُجُوب الإِکْرَامِ ثابت لغیر العالم الفاسق، أی: نُخرج العالمَ الفاسق الَّذی هو مادّة الاجتماع عن المطلق (وهو قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ») وندخله فِی «لا تکرم کل فاسق». فَالْمُقَیَّدُ هو تمام مرامه ولا یلزم الخلف. إذن، إن وجود العامّ کافٍ فِی رفع الخلف وهدم مقدّمة الحِکْمَة. فالاحتمال الثَّانِی صحیح.

الوجه الثَّانِی: یستظهر خلاف هذا الوجه الأوّل، وهو أَنَّهُ لا یشترط فِی مقدّمة الحِکْمَة عدمُ وجود عامّ من هذا القبیل، بل حتّی مع وجوده یَتُِمّ الإِطْلاَق وینعقد؛ لأَنَّ الْمُتِکَلِّم لو أراد المقیَّد (أی: خصوص العالم العادل من قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ») لم یکن قد مشی عَلَیٰ وفق الظُّهُور الْحَالِیّ بل خالفه؛ لأَنَّهُ وإن کان کلامه یَدُلّ عرفاً عَلَیٰ التَّقْیِید، ولکن إن أمعنا النَّظَر فِی الظهور الْحَالِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ (القائل بأَنَّهُ الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مرامه بکلامه) نری أَنَّهُ لا یقتضی أَنَّ الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مرامه بکلامه کیف ما اتفق لیتم الظُّهُور الْحَالِیّ، بل إن الظُّهُور الْحَالِیّ (الَّذی هو أساس الإِطْلاَق) عبارة عن أن یکون الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام مرامه بکلامه بمعنی أن یکون الکلام وافیاً بتمام المرام بالنحو الَّذی یتطابق مع واقع المرام لا کیف ما اتفق. فواقع المرام عبارة عن تقیید العالم بالعدالة، وأین بُیِّن هذا التَّقْیِید فِی الکلام؟ کلامه لم یکن وافیاً بهذا المرام بالنحو الَّذی یتطابق مع واقع هذا المرام.

ص: 187

وبعبارة أخری: ظاهر حال الْمُتِکَلِّم أَنَّهُ إن أراد العالم العادل، یکون کلامه بلسان الْقِیْدِیَّة أیضاً، بینما لم یکن کلامه بلسان الْقِیْدِیَّة بل کان کلامه بلسان الإِطْلاَق. أجل، إن الجملة الثَّانیة عامّ آخر ونحن حکّمنا العامّ عَلَیٰ المطلق، وبذلک فهم العرفُ بالکاد والقوّة أَنَّهُ لا یجب إکرام العالم الفاسق، ولکن عَلَیٰ أی حال لم یکن لسان العامّ لسان التَّقْیِید.

فیقول صاحب الوجه الثَّانِی: الظُّهُور الْحَالِیّ هو أن یکون کلام الْمُتِکَلِّم وافیاً بتمام المرام بالنحو الَّذی یتطابق مع نفس المرام، فإذا کان نفس المرام عبارة عن التَّقْیِید، یکون الکلام أیضاً بلسان التَّقْیِید، لا بلسان آخر یجمع العرف بینه وبین لسان آخر لیصل إلی التَّقْیِید فِی نهایة المطاف؛ فَإِنَّ هذا لَیْسَ مقتضی الظُّهُور الْحَالِیّ، بل مقتضی الظُّهُور الْحَالِیّ هو أَنَّهُ إذا کان مرامک التَّقْیِید إذن یجب أن یکون فِی کلامک التَّقْیِید أیضاً، والحال أن کلامک لَیْسَ بلسان التَّقْیِید، نعم فُهم منه التَّقْیِید بالنتیجة وکیف ما اتفق، لکن اللسان ما کان لسان التَّقْیِید.

وبعبارة ثالثة: إن العرف یأخذ التطابقَ بین مقام الإثبات مع مقام الثُّبوت فِی الحسبان والاعتبار، فإذا کانت الْقِیْدِیَّة موجودة فِی عَالَمِ الثُّبُوتِ فیجب أَنْ تَکُونَ مذکورة وموجودة فِی عالم الکلام. والعامّ الوضعیّ (= قوله: لا تکرم کل فاسق) وإن دَلَّتْ بالنتیجة عَلَیٰ أن الحکم المذکور (= إکرام العالم) مختص بالعالم العادل، لٰکِنَّهُ لَیْسَ بلسان قیدیة العدالة (أی: قیدیة عدم الفسق)؛ لأَنَّ هذا اللسان لَیْسَ لسانَ القید. فلو کان مراد الْمُتِکَلِّم عبارة عن الْقِیْدِیَّة إذن یکون قد خالف الظُّهُور الْحَالِیّ. إذن، فهذا النَّحْو من بیان المقیَّد لا یوجد ارتفاع الخلف، وبالتَّالی لا یصحّ الاحتمال الثَّانِی، بل ینعقد الإِطْلاَق فِی کلمة «العالم» فِی هذا المثال( (1) ).

ص: 188


1- (1) - ذکر الأستاذ حفظه اللٰه بعد مجلس بحثه أَنَّهُ یمیل إلی عدم صحَّة الاحتمال الثَّانِی (أی: لا یحتمل أکثر من المقدار الَّذی یشترطه الاحتمال الأوّل) بعد وضوح بطلان الاحتمال الثَّالث.

هذا تمام الکلام فِی هذه الاحتمالات والتفاسیر الثَّلاثة لهذه المقدّمة الثَّانیة من مقدّمات الحِکْمَة، طبعاً بالصیاغة المشترکة بین الآخوند والمیرزا، وهی عبارة عن عدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید. فلم نصل بعد إلی الصِّیَاغَة الَّتی ینفرد بها المیرزا وهی عدم نصب قرینة لا متصلة ولا منفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید. فکان الاحتمال الأوّل صحیحاً والاحتمال الثَّالث قَطْعاً غیر صحیح، والاحتمال الثَّانِی کان فیه وجهان، بإمکانکم أن تختاروا أیهما شئتم.

مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

اتَّضَحَ مِمَّا تقدّم صحَّةُ المقدّمة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ الَّتی کانت تشترط فِی انعقاد الإِطْلاَق عدمَ وجود قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید. وعلیه فقد اتَّضَحَ لنا - إلی الآنَ - مقدمتان من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ هما:

المقدّمة الأولی: کون الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام مراده بکلامه، وقد سلمنا بهذه المقدّمة وَقُلْنَا: إِنَّ هذا هو ظاهر حال کل متکلم.

المقدّمة الثَّانیة: هی عدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید.

نکتة: من خلال ما ذکرناه تتضح نکتة أخری لدینا وهی أن هذه المقدّمة الثَّانیة - بالشرح الَّذی قدّمناه - تساهِمُ فِی تکوین الإطلاق وانعقاده وتتمیم المقتضی للإطلاق؛ فإنَّ عَدم وجود قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید فِی الکلام جزء من المقتضی للإطلاق؛ لأَنَّ المقدّمة الثَّانیة بیانٌ لعدم المانع، ولیست بَیَاناً لوجود المقتضی؛ فَإِنَّ المقتضی للإطلاق إِنَّمَا هو بالمقدّمة الأولی من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ الَّتی تقول: إن الْمُتِکَلِّم بصدد بیان تمام مراده بکلامه. أَمَّا المقتضی فیعطی مفعوله إذا انعدم المانع الَّذی هو وجود قرینة متصلة فِی داخل الکلام عَلَیٰ التَّقْیِید. فالواقع أنَّ المقدمة الثَّانیة تمثِّل عدمَ المانع، ولا تمثل المقتضی. فإذا بیّن الْمُتِکَلِّم التَّقْیِید فِی الکلام (أی: نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید) فلا یؤثر المقتضی أثرَه. فإذا لم یُبَیِّن معناه عدم وجود مانعٍ من أن یؤثر المقتضی أثره وتتم دلالة الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق فعلاً.

ص: 189

فقد اتَّضَحَ بطلان هذا التوهّم من خلال شرحنا لواقع المقدّمة الثَّانیة؛ فإِنَّهُ قد اتَّضَحَ مِمَّا قدمناه أن هناک لاَزِماً وملزوماً :

1)- الملزوم هو ظهور حال الْمُتِکَلِّم فِی کونه بصدد بیان تمام مرامه بکلامه.

2)- اللاَّزِم هو أن ما ذکره الْمُتِکَلِّم (من کلامٍ مَوْضُوعٍ فِی اللُّغَة لذات الطَّبِیعَة بلا أی قید، ولم ینصب قرینةً متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید) یشکّل تمامَ مرامه. والإطلاق إِنَّمَا یثبت لکونه لاَزِماً لذاک الظُّهُور الْحَالِیّ. إذن، إن دلالة الکلام عَلَیٰ الإِطْلاَق دلالةٌ عَلَیٰ لازم ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ.

وعلیه، إذا أراد شیئاً زائداً عَلَیٰ ذات الطَّبِیعَة ولم یذکره فِی کلامه، لا یکون قد بیَّن تمام مراده فِی کلامه، والحال أن ظاهر حاله أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده بکلامه. فإنما یَدُلّ الکلام عَلَیٰ الإطلاق بوصفه لاَزِماً لذاک الظُّهُور الْحَالِیّ، ولا تَتُِمّ الدِّلاَلَة عَلَیٰ اللاَّزِم إلاَّ إذا توفر مجموع أَمْرَیْنِ: أحدهما ثبوت الملزوم والآخر ثبوت الملازمة بین الملزوم واللازم. ولا تَتُِمّ الدِّلاَلَة عَلَیٰ اللاَّزِم بصرف إثبات الملزوم مِنْ دُونِ إثبات الملازمة. وحینئِذٍ نَقُول: لا تحدث الملازمة بین هذا الظُّهُور الْحَالِیّ وبین إرادة الإطلاق بمجرّد أن یذکر الْمُتِکَلِّم فِی کلامه قرینةً عَلَیٰ التَّقْیِید.

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَی: إذا کان مراده الواقعی فِی «أَکْرِمِ الْعَالِمَ العادل» (أی: فِی حال ذکر قرینة عَلَیٰ التَّقْیِید) خصوص «العالم العادل» (وهو المقیَّد)، لا تنافی هذه الإرادةُ ظاهر حاله؛ فَإِنَّه بیّن تمام مرامه بکلامه حینما قال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ العادلَ». ومعنی ذلک أن ذاک الظُّهُور لا یقتضی الإِطْلاَقَ فِی هَذَا الْفَرْضِ (أی: لا یقتضی القول بأن المراد من العالم فِی هَذَا الْفَرْضِ مطلق العالم). ومعنی ذلک أن لا ملازمة بین الظُّهُور الْحَالِیّ وبین إرادة الإِطْلاَق

ص: 190

الإِطْلاَقَ فِی هَذَا الْفَرْضِ (أی: لا یقتضی القول بأن المراد من العالم فِی هَذَا الْفَرْضِ مطلق العالم). ومعنی ذلک أن لا ملازمة بین الظُّهُور الْحَالِیّ وبین إرادة الإِطْلاَق، وبانتفاء الملازمة لا یمکن إثبات اللاَّزِم (وهو الإِطْلاَق) بالملزوم وحده مِنْ دُونِ الملازمة. إذن، إن هذه المقدّمة تحقّق أصلَ الملازمة بین الملزوم واللاَّزم.

والخلاصة أن هَاتَیْنِ المقدمتین بمجموعهما دخیلان فِی تکوین المقتضی للإطلاق ولیس الأمر کما تَوَهُّمه المتوهِّم من أن المقدّمة الثَّانیة تعبر عن عدم المانع، بینما المقتضی بالمقدّمة الأولی نفسها، بل الصَّحِیح أن المقتضی لا یَتُِمّ إلاَّ بمجموع الأَمْرَیْنِ؛ لأَنَّ المقتضی للإطلاق لا یَتُِمّ إلاَّ إذا ثبت الملزوم وثبتت الملازمة، کما هو شأن سائر الملزومات ولوازمها، غایة الأمر قد تکون الملازمة عَقْلِیَّة فالعقل هو الَّذی یسعفنا ببیان الملازمة، وَقَدْ تَکُونُ عُرْفِیَّةً کما نحن فیه، فلا تَتُِمّ هذه الملازمة الْعُرْفِیَّة - فِی المقام - إلاَّ إذا لم یذکر الْمُتِکَلِّم فِی کلامه ما یکون قرینة عَلَیٰ التَّقْیِید.

إلی هنا تناولنا الحدیث عن ما به الاشتراک بین الصِّیَاغَة الآخوندیة والصیاغة المرزائیة فِی المقدّمة الثَّانیة، بعد ذلک یصل الدّور إلی ما به امتیاز الصیاغتین، حیث اشترطت مدرسة المیرزا النائینی (بالإضافة إلی ما قلناه من کون الْمُتِکَلِّم فِی مقام البیان وعدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید) عدم نصب قرینة منفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید. ویُتَصَوَّر لهذا الشَّرْط صیغتان:

الصیغة الأولی لِلشَّرْطِ: هی صیغة الشَّرْط المتأخر، بأن یتوقَّف انعقاد الإِطْلاَق وتکوّن الظُّهُور لکلام الْمُتِکَلِّم (من حین صدور الکلام) عَلَیٰ أن لا یَنصبَ الْمُتِکَلِّم بعد ذلک قرینة عَلَیٰ التَّقْیِید (ولو بعد حین، سنة أو سنین)، بحیث لو نَصَبَ قرینةً منفصلةً عَلَیٰ التَّقْیِید فَسَوْفَ تکشف هذه القرینة (فِی أی وقت جاءت) أَنَّهُ لم ینعقد لکلامه إطلاق من أوَّل الأمر.

ص: 191

والصیغة الثَّانیة لِلشَّرْطِ: هی صیغة الشَّرْطِ المقارن، بأن ینعقد إطلاق کلامه من حین صدوره ویستمر إلی حین مجیء القرینة عَلَیٰ التَّقْیِید. ومعنی ذلک أن یکون الإِطْلاَق فِی کُلّ یومٍ (یلی صدورَ الکلام من الْمُتِکَلِّم) مشروطاً بعدم توفر القرینة إلی الیوم التالی، بحیث إن جاءت القرینة عَلَیٰ التَّقْیِید بعد خمسة أیام من صدور الکلام، لا تکون هذه القرینة کاشفةً (خلافاً للصیاغة الأولی) عن أَنَّهُ من الیوم الأوّل لم ینعقد الإِطْلاَق فِی کلامه، بل تقوم هذه القرینة بارتفاع الإِطْلاَق ابتداء من الیوم الخامس فصاعداً.

ولکن الواقع أن کلتا الصیاغتین باطلتان، وقد تقدّم الوجهُ (أو بعض الوجه) فِی بطلانهما عند دراسة المسألة الخلافیة الأولی، حیث کانت عبارةً عن أَنَّهُ هل أن القرینة المنفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید کالقرینة المتَّصلة تمنع عن الإِطْلاَق أو لا؟ فقد ذکرنا هناک رأیَ المیرزا القائل بأنها کالقرینة المتَّصلة تمنع عن الإطلاق، فِی مقابلِ الرَّأْی الآخر القائل بأنها لا ترفع ولا تزیل الإِطْلاَق فِی الکلام وإنَّما ترفع حجّیّة ذاک الإِطْلاَق وتکذّبه؛ فإن الإِطْلاَق یبقی موجوداً ولکن لا یبقی لوجوده مفعول ولا طائل، ولا یکشف هذا الإِطْلاَق عن المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ. وقد سجلّنا هناک إِشْکَالاَت عَلَیٰ رأی المیرزا بکلتا صیغتیه، ولا بأس أن نبیّن المطلب هنا بشکل کامل وذلک بالإشکال علی کلتا الصیاغتین:

أَمَّا الصیغة الأولی فیرد علیها إشکالان حلی ونقضی:

أَمَّا الإشکال الحلی عَلَیٰ الصیغة الأولی: فهو أَنَّهُ مخالف للوجدان اللُّغَوِیّ وَالْعُرْفِیّ؛ إذ لا نری العرف یتعامل هکذا فِی باب المحاورات، فإن الوجدان الْعُرْفِیّ یقضی بأن الظُّهُور الْحَالِیّ الَّذی تحدثنا عنه (وهو أن ظاهر حال کل متکلم هو أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده بکلامه) یَدُلّ بالالتزام عَلَیٰ الإطلاق منذ البدایة ومن حیث صدور الکلام، إذا لم ینصب الْمُتِکَلِّم فِی ذلک الکلام قرینة عَلَیٰ التَّقْیِید، ویتمسک العقلاء بهذا الإِطْلاَق ولا ینتظرون المجیءَ المحتملَ للقرینة المنفصلة مستقبلاً.

ص: 192

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَی: لا بُدَّ أن المیرزا لا یشترط جزافاً عدم القرینة المنفصلة بِنَحْوِ الشَّرْطِ المتأخر فِی انعقاد الإِطْلاَق من أوَّل الأوّل، بل یشترطه بنکتةٍ کعدمِ تکوّنِ الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة عَلَیٰ الإِطْلاَق لکلام الْمُتِکَلِّم مِنْ دُونِ هذا الشَّرْط. أی: یُرجع هذا الشَّرْط الإِضَافِیّ الَّذی ذکره إلی مسألة أن ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ یقتضی هذا الشَّرْط.

ولکی یحصحص الحق لا بُدَّ لنا أن نراجع هذا الظُّهُور الْحَالِیّ بوصفنا أفراداً من العرف لنری هل أَنَّهُ یقتضی هذا الشَّرْط؟ أی: هل أن ظهور حال الْمُتِکَلِّم أَنَّهُ بصدد بیان مراده فِی شخص کلامه أو فِی مجموع کلماته فِی حیاته؟!

فعلی الثَّانِی یجب علینا بعد سَمَاع قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» أن نصبر حتّی نسمع کلماته الأخری الَّتی سوف یقولها فِی حیاته، لنری هل أنَّها تحتوی عَلَیٰ قرینة لکی یکون مراده المقیَّد، أم أَنَّهُ لا یأتی بالقرینة لیکون مراده المطلق؟!

وعلی الأوّل ینعقد الإِطْلاَق للکلام ولا یجب علینا أن ننتظر لنری ماذا یصدر منه فِی المستقبل؟

وقد قلنا: لا شکّ بأن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم هو الأوّل؛ لأَنَّ الوجدان یری أَنَّهُ ما إن یَتُِمّ الکلام (الَّذی یصحّ السُّکوت علیه) حتّی ینعقد له ظهوره. أی: ظاهر حال الْمُتِکَلِّم الْعُرْفِیّ أَنَّهُ بصدد بیان تمام مرامه فِی شخص کلامه. فلطالما لا توجد قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید لا نشترط عدم القرینة المنفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید أیضاً، لانعقاد الإِطْلاَق.

أَمَّا الإشکال النقضی عَلَیٰ الصیغة الأولی: فقد أردفنا سابقاً أَنَّهُ یلزم من هذا الکلام (أی: اشتراط عدم القرینة المنفصلة بِنَحْوِ الشَّرْطِ المتأخر فِی الإِطْلاَق) عدمُ التَّمسُّک بالإطلاق ما إذا احتملنا عدم مجیء القرینة المنفصلة (عَلَیٰ التَّقْیِید) فِی المستقبل، أو احتملنا مجیئها ولکنها لم تصلنا؛ لأَنَّ الإِطْلاَق - بناءًا عَلَیٰ هذه الصیغة - فرعُ عدم مجیء القرینة المنفصلة مستقبلاً، فیتم إحراز الإطلاق بعد أن أحرزنا عدم مجیء القرینة. أَمَّا ما لم نحرز عدم مجیء القرینة فِی المستقبَل أو عدم وصولها إلینا، لا نکون قد أحرزنا الشَّرْط وبالتَّالی لم نحرز المشروط.

ص: 193

والخلاصة أنَّ مع الشَّکّ فِی مجیء القرینة نشک فِی تکوّن الإِطْلاَق وحدوثه، ومعنی ذلک أن احتمال المقیِّد المنفصل کاحتمال المقیِّد المتصل یمنع عن التَّمسُّک بالإطلاق. وهذا فِی الحقیقة نسف لنظریة الإطلاق وتعطیل له من أساسه. هذا هو اللاَّزِم الباطل الَّذی یطویه هذا الکلام.

لا یقال: إِنَّنّا نتمسک بأصالة عدم القرینة فِی موارد القرینة المنفصلة.

لأَنَّنَا نَقُول: إِنْ قصدتم بأصالة عدم القرینة الأصلَ الْعُقَلاَئِیّ، فمن الواضح أنهم إِنَّمَا یبنون عَلَیٰ عدم القرینة المنفصلة فیما إذا کان لدیهم فعلاً ظهور فعلی ناجز مستقر ویرون أن تلک القرینة المنفصلة المحتَملة مکذِّبة لهذا الظُّهُور، فیتمسکون بحجیة هذا الظُّهُور لیسقطوا ذاک الظُّهُور عن الْحُجِّیَّة. ولکن بناءًا عَلَیٰ کلام المیرزا لا یوجد ظهور فعلیّ؛ لأَنَّ ظهور الکلام فِی الإِطْلاَق فرعُ عدم القرینة المنفصلة، ولا نحرز عدم القرینة المنفصلة، وبالتَّالی لا نحرز وجود ظهور فعلیّ فِی الإِطْلاَق. فلا معنی لأصالة عدم القرینة.

وإن قصدتم بأصالة عدم القرینة الاستصحابَ فقد تقدّم سابقاً بأَنَّهُ أصل مثبت (أی: التَّمسُّک باستصحاب عدم القرینة المنفصلة لإِثْبَاتِ أن لهذا الکلام ظهور فِی الإِطْلاَق، لازم عقلی وعرفی، والاستصحاب لا یثبت إلاَّ اللوازم الشَّرعیَّة). هذا تمام الکلام فِی الصیغة الأولی، یبقی الحدیث عن الصیغة الثَّانیة وهو ما نتناوله غداً إن شاء اللٰه تعالی. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. 1476 کلمة.

مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مقدّمات الحکمة/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وأَمَّا الصیغة الثَّانیة: فمن الطَّبِیعِیّ أن لا یرد علیها الإشکال النقضی الْمُوَجَّه إلی الصیغة الأولی؛ لأَنَّ بإمکاننا أن نتمسک بإطلاق الکلام قبل مجیء القرینة حتّی مع احتمال مجیئها فِی المستقبل ولا نتوقف عن العمل به إلی حین مجیء القرینة فِی المستقبل.

ص: 194

فمثلاً لو قال فِی یوم السبت: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» ولم یردف کلامه بقرینة متصلة، ینعقد لکلامه إطلاق فِی یوم السبت. وحیث أن هذا الإطلاق مشروط بعدم القرینة المنفصلة والمفروض أَنَّهُ لا توجد قرینة منفصلة یوم السَّبت، فیستمرّ الإِطْلاَق إلی یوم الأحد. واستمرار الإطلاق إلی یوم الأحد منوط بعدم قرینة منفصلة إلی یوم الأحد. وهکذا یوم الاثنین وباقی الأیام.

بینما بناءًا عَلَیٰ الصیغة الأولی کان الإطلاق فِی یوم السبت مَنُوطاً بعدم القرینة یوم الأحد، حیث کُنَّا نستکشف عدم انعقاد الإطلاق منذ یوم الأحد بمجیء القرینة یوم الأحد. وهذا ینتج مقصودَ الْمُحقق النائینی؛ فإن مقصوده هو أَنَّهُ متی ما تأتی القرینة فِی المستقبل ینهدم الإِطْلاَق من حین مجیئها، وبذلک یمکن التخلّص من النقض الوارد عَلَیٰ الصیغة الأولی مع التَّحَفُّظ عَلَیٰ أصل المبنی، إلاَّ أن هذه الصیغة الثَّانیة کالصیغة الأولی لا تسلم من الإشکال والاعتراض، لا حلاًّ ولا نقضاً:

أَمَّا الإشکال الحلی عَلَیٰ الصیغة الثَّانیة: فَلأَنَّها وإن لم یرد علیها الوجدانُ الَّذی ادّعیناه فِی الصیغة الأولی (لأَنَّ الصیغة الثَّانیة لا تنافی عملَ العقلاء بإطلاق الکلام قبل مجیء القرینة المنفصلة مستقبلاً) إلاَّ أنَّها غیر معقولة ثبوتاً؛ لأَنَّ أصل هذا الشرط الَّذی أضافه المیرزا (وهو اشتراط عدم القرینة المنفصلة) لَم یشترطه المیرزا جزافا؛ وإنَّما اشترطه لعدم تکوّن الدِّلاَلَة عَلَیٰ الإِطْلاَق لکلام الْمُتِکَلِّم مِنْ دُونِ هذا الشَّرْط. فکأنه یری أن الظُّهُور الْحَالِیّ (الَّذی هو أساس الإِطْلاَق) هو الَّذی یفرض علینا أن نشترط هذا الشَّرْط لکی یلزم الإِطْلاَق من ذاک الظُّهُور، وإلاَّ فمِنْ دُونِ هذا الشَّرْط لا یکون لازم ذاک الظُّهُور الإِطْلاَق. فإذا کان الأمر هکذا فلا بُدَّ لنا من مراجعة هذا الظُّهُور الْحَالِیّ لکی نعرف مقتضی هذا الظُّهُور! فهل یقتضی حقّاً مثل هذا الشَّرْط الَّذی اشترطه المیرزا أم لا؟

ص: 195

ولدی مراجعتنا لهذا الظُّهُور الْحَالِیّ نجد أن فیه احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأوّل: أَنْ یَکُونَ هذا الظُّهُور عبارة عن ظهور حال الْمُتِکَلِّم فِی أَنَّهُ بصدد بیان تمام مرامه بشخص کلامه.

الاحتمال الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ هذا الظُّهُور عبارة عن ظهور حال الْمُتِکَلِّم فِی أَنَّهُ بصدد بیان تمام مرامه بجموع کلامه الْفِعْلِیّ والاستقبالی.

الاحتمال الثَّالث: أَنْ یَکُونَ هذا الظُّهُور عبارة عن ظهور حال الْمُتِکَلِّم فِی أَنَّهُ بصدد بیان تمام مرامه بجموع ما هو فعلاً من کلامه، أی: بمجموع ما صدر عنه لحد الآنَ من الکلمات. أو قل: ظهور حال الْمُتِکَلِّم فِی أَنَّهُ بصدد بیان تمام مرامه فِی کُلّ آنٍ، بمجموع ما یصدر منه إلی ذلک الآنَ. فلو قال یوم الجمعة: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» ولم یصدر منه تقیید فی یوم السبت، سوف یکون کلامه الْفِعْلِیّ فِی یوم الجمعة ویوم السبت واحداً، فمقتضی ظهوره الْحَالِیّ أَنَّهُ أراد الإطلاق فِی هذین الیومین. وحینئِذٍ لو صدر منه القیدُ فِی یوم الأحد أصبح مجموع الکلامین هو الْفِعْلِیّ من کلامه، أحدهما الکلام الَّذی قاله یوم الجمعة وهو کان مطلقاً، والآخر کلامه فِی یوم الأحد وهو الکلام الدَّالّ عَلَیٰ التقیید. فَیَکُونُ مقتضی ظهور حاله أَنَّهُ أراد التَّقْیِید یوم الأحد حین صدوره. فیرتفع هذا الظُّهُور الْحَالِیّ حین صدور القرینة یومَ الأحد. فلا یکون ظاهر حاله فِی یوم الأحد فما بعد أَنَّهُ أراد الإِطْلاَق. لکن قبل یوم الأحد یکون ظاهر حاله أَنَّهُ یرید الإِطْلاَق.

یتمخض عن الاحتمال الأوّل أن الْمُتِکَلِّم ما إن أکمل کلامه وسکت ولم ینصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید حتّی یفی کلامه بتمام مرامه، فَیَدُلُّ الظُّهُور الْحَالِیّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّة عَلَیٰ الإِطْلاَق، سواء وُجدت القرینةُ المنفصلة أم فُقِدت؛ فَإِنَّه لو أراد المقیَّدَ لزم الخلف؛ لأَنَّ ظهور حاله کان عبارة عن أن یکون شخصُ کلامه وافیاً بتمام مراده. بینما هو یرید المقیَّد هنا، فشخص الکلام لم یف بتمام المراد، بل وفی بجزء من الکلام والجزء الآخر وفتْ به القرینةُ المنفصلة، وهذا خلاف ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ.

ص: 196

إذن بناءًا عَلَیٰ الاحتمال الأوّل (الَّذی هو الصَّحیح عندنا وجداناً کما سبق) فِی تفسیر هذا الظُّهُور الْحَالِیّ، لا یشترط فِی الإِطْلاَق عدمُ القرینة المنفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید أصلاً، لا بنحو القرینة المتأخرة ولا بِنَحْوِ الشَّرْطِ المقارن.

ویُنتج عن الاحتمال الثَّانِی أن یَدُلّ هذا الظُّهُور الْحَالِیّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّة عَلَیٰ الإطلاق فیما إذا لم ینصب الْمُتِکَلِّم قرینةً عَلَیٰ التَّقْیِید أصلاً، لا متصلة ولا منفصلة، بحیث ما لم نتأکد من انْتِفَاء القرینتین ولم نحرز انتفاءهما لا نستطیع التَّمسُّک بالإطلاق؛ لأَنَّ الإِطْلاَق فرض لزوم الخلف من إرادة المقیَّد؛ وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مع وجود القرینة المتَّصلة عَلَیٰ التَّقْیِید لا یلزم الخلفُ من إرادة المقیَّد؛ لأَنَّ مجموع کلامه (الْفِعْلِیّ والاستقبالی) قد وفی بتمام مراده. فَیَکُونُ الإِطْلاَق - بناءًا عَلَیٰ هذا الاحتمال - مشروطاً بعدم القرینة المنفصلة بِنَحْوِ الشَّرْطِ المتأخر. أی: إطلاق الکلام الیومَ مشروط بعدم مجیء قرینة ولو بعد سنة؛ إذ لو أتت قرینة بعد سنة تکون مجموع کلامه (مع القرینة المنفصلة بعد سنة) وافیاً بتمام مرامه، وهذا یرجع إلی الصیغة الأولی الَّتی تقدمت بالأَمْسِ وناقشناها.

ویتمخض عن الاحتمال الثَّالث أن هذا الظُّهُور الْحَالِیّ إِنَّمَا یَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّة عَلَیٰ الإِطْلاَق ما لم ینصب قرینة عَلَیٰ التَّقْیِید، وترتفع تلک الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة بمجرد صدور القرینة عَلَیٰ التَّقْیِید. هذا هو الَّذی تقتضیه الصیغة الثَّانیة (أی: بِنَحْوِ الشَّرْطِ المقارن).

وحینئِذٍ بعد أن أفادنا الاحتمال الأوّل ولم یفد المیرزا أبداً، وبعد أن أرجعنا الاحتمال الثَّانِی إلی الصیغة الأولی (الشَّرْط المتأخر)، وارتفعت هذه الصیغة الثَّانیة بالشکل الثَّالث، نرید أن نقول إن الاحتمال الثَّالث غیر معقول ثبوتاً؛ لأنَّ معناه أن الظهور الْحَالِیّ (فِی کلام الْمُتِکَلِّم) یقتضی أَنَّهُ أراد الإِطْلاَق فِی یوم الجمعة ویوم السبت وأراد التَّقْیِید فِی یوم السبت, وهذا واضح البطلان؛ لأَنَّ هناک کَلاَماً واحد هو «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» وله معنی واحد، بینما یلزم منه أن یکون للکلام الواحد مفادان ومرادان من کلام واحد، وهذان المرادان (الإِطْلاَق والتقیید) متهافتان، ولا یمکن أن یکون هناک مرادان ومقصودان متهافتان من کلام واحد. إذن، هذه الصیغة غیر معقولة؛

ص: 197

هذا هو الجواب والاعتراض الحلی عَلَیٰ هذه الصیغة.

الإشکال النقضی: هو عَلَیٰ فرض التَّسْلِیم بتعقّل هذه الصیغة (أی: تنزلنا عن الإشکال الحلی) نتساءل عن المقصود من قولکم: «الإِطْلاَق مشروط بعدم مجیء القرینة المنفصلة بِنَحْوِ الشَّرْطِ المقارن»، فهل المقصود أن الإِطْلاَق مشروط بعدم صدور القرینة المنفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید؟ أم هو مشروط بعدم وصول القرینة المنفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید؟

فعلی الأوّل یلزم عدمُ صحَّة التَّمسُّک بالإطلاق عند احتمال صدور القرینة المنفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید من الْمُتِکَلِّم؛ إذ مع عدم إحراز الشَّرْط (وهو عدم صدور القرینة المنفصلة) لا یمکننا إحراز المشروط (وهو الإِطْلاَق)، بینما من الواضح لدی کل أحد أَنَّهُ یصحّ التَّمسُّک بالإطلاق فِی موارد احتمال صدور ووجود قرینة منفصلة (عَلَیٰ التَّقْیِید) لم تصل إلینا.

وعلی الثَّانِی یلزم باطل واضح آخر؛ لأَنَّ وصول کلام آخر لا دخل له بظهور الکلام الأوّل (المطلق) فِی تشخیص ظهور هذا الکلام وتشخیص مرام الْمُتِکَلِّم منه (وهو التَّقْیِید)؛ إذ قد یصل التَّقْیِید إلی شخص ولا یصل إلی الآخر، ولکن ینعقد للکلام الأوّل (المطلق) ظهوره الثَّابِت عند کلیهما، فلا یختلف معنی «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» من سامع إلی آخر. فلا یکون وصول التَّقْیِید إلی شخص دخیلاً فِی تشخیص ظهور الکلام الأوّل (= المراد الْجِدِّیّ من الإطلاق).

نعم «وصول کلام آخر وعدم وصوله» له دخل فِی مُنَجَّزِیَّة الکلام الأوّل ومعذریته، أی: حینما یصل التَّقْیِید إلی الشخص الأوّل تسقط حجیة الکلام الأوّل لدیه، أَمَّا الشخص الآخر الَّذی لم یصله التَّقْیِید یبقی الکلام المطلق حجّةً علیه. إذن، الصیغة الثَّانیة باطلة أیضاً.

وعلیه، فقد اتَّضَحَ أن الإِطْلاَق غیر مشروط بعدم القرینة المنفصلة عَلَیٰ التَّقْیِید لا بنحو الشَّرْط المتأخر ولا بِنَحْوِ الشَّرْطِ المقارن، فما اختارته مدرسة النائینی غیر تامّ؛ فَالصَّحِیحُ فِی المقدّمة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ ما قاله الخُراسانیّ، وهو أَنَّهُ المقدّمة الثَّانیة عبارة عن عدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید.

ص: 198

هذا تمام الکلام فِی المقدّمة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ الثَّلاث الَّتی ذکرها الخُراسانیّ.

المقدّمة الثَّالثة: هی عدم وجود قدر متیقن فِی مقام التخاطب.

وقد اتَّضَحَ لنا مفصَّلاً أَنَّهُ لا أساس لهذه المقدّمة، وأن وجود القدر المتقین فِی مقام التخاطب لا یضرّ بانعقاد الإطلاق وتمامیة مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، فنحن لا نقبل هذه المقدّمة الثَّالثة.

هذا تمام الکلام فِی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ وقد اتَّضَحَ أن الصَّحیح فِی مقدّمة الحِکْمَة أَمْرَانِ:

المقدّمة الأولی: کون الْمُتِکَلِّم فِی مقام بیان تمام مرامه بشخص کلامه.

المقدّمة الثانیة: عدم نصب قرینة متصلة عَلَیٰ التَّقْیِید.

بقیت فِی ختام البحث فِی هذه الجهة الثَّانیة (المعقودة لبحث مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ) عدّةُ أمور ینبغی التَّعَرُّض لها ضمن خطوات نسمیها بتنبیهات مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ.

تنبیهات مُقَدَّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: تنبیهات مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

تنبیهات مقدّمات الحکمة

بعد أن انتهینا قبل العطلة من الحدیث حول الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة بقیت فِی المقام عدّة تنبیهات بها تکتمل نَظَرِیَّة الإِطْلاَق:

التَّنبیه الأوّل

هو أَنَّهُ فِی ضوء ما ذکرناه فِی صیاغة الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة وتفسیر الإِطْلاَق تتضح عدّة أمور کثیراً مّا تتردد عَلَیٰ الألسن وکُنَّا نحیل تحقیقها عَلَیٰ بحث دلالة المطلق، فقد آن الأوان لذکرها وَفقاً للتفسیر الَّذی قدّمناه للإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة:

الأمر الأوّل: هو أن الإِطْلاَق مدلول تصدیقی للکلام ولیس مدلولاً تصوُّراً، ووجه ذلک واضح فِی ضوء ما تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ ملاک الإطلاق وأساس دلالة الکلام علیه کما عرفت هو الظُّهُور الْحَالِیّ السِّیَاقِیّ لِلْمُتِکَلِّمِ فِی کونه بصدد بیان تمام ما هو دخیل فِی مراده الْجِدِّیّ (وهو الجعل والحکم) وهذا لا ینتج أکثر من إثبات ما هو المدلول التَّصْدِیقِیّ (أی: الحکم وحدوده)؛ فقرینة الحکمة الدالة عَلَیٰ الإِطْلاَق ناظرة إلی المدلول التَّصْدِیقِیّ للکلام ابتداءً ولا تدخل فِی تکوین المدلول التصوری للکلام، خِلاَفاً لما إذا قیل بأن الدِّلاَلَة عَلَیٰ الإِطْلاَق وَضْعِیَّة، باعتباره قَیْداً مَأْخُوذاً فِی المعنی الَّذِی وضع له اللَّفْظ؛ فَإِنَّ الدِّلاَلَة الإِطْلاَقِیَّة تدخل حِینَئِذٍ فِی تکوین المدلول التَّصَوُّرِیّ.

ص: 199

الأمر الثَّانِی: (وَالَّذِی أیضاً تکررت الإشارةُ إلیه فِی البحوث السَّابِقَة) هو أن الإِطْلاَقَ لا یُثبت الحکمَ عَلَیٰ الأفراد، وإنَّما یُثبته عَلَیٰ ذات الطَّبِیعَة خِلاَفاً للعموم، وقد اتضح وجه هذا الفرق فِی ضوء ما تقدّم قبل العطلة؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق عبارة عن عدم دخل القید فِی مَوْضُوع الحکم زَائِداً عَلَیٰ الطَّبِیعَة، وهذا غایة ما یقتضیه إثبات الطَّبِیعَة المطلقة، والطبیعة المطلقة لیست غیر لحاظ الماهیة وعدم لحاظ القید، وَبِالتَّالِی لا نظر لها إلی الأفراد، وَإِنَّمَا المستفاد فِی هذه المرحلة هو ثبوت الحکم للطبیعی، وَأَمَّا ثبوت الحکم للأفراد وسرایته إلی کُلّ فرد فردٍ فلیس مدلولاً لِلدَّلِیلِ المطلق نفسه، وَإِنَّمَا هو بحکم العقل القائل بانحلال الحکم فِی مرحلة التطبیق والفعلیة بعدد الأفراد، وهذا بخلاف باب العموم حیث أن الدَّلِیل الْعَامّ ناظر إلی الأفراد مباشرة؛ فالأفراد متصوَّرة ومدلولة له ولو إجمالاً.

فلو قال: {أحل اللٰه البیع}، الإِطْلاَق یقول: قید البلوغ لَیْسَ دخیلاً فِی الحکم بحلیة البیع وصحته ونفوذه، أو قید الإسلام لَیْسَ دخیلاً، أو أی قید آخر یُشک فیه. وهذا معناه أن مَوْضُوع الحکم ذات طبیعة البیع. فالإطلاق لا یثبت أکثر من هذا المقدار وهو أن الحکم منصب عَلَیٰ ذات الطَّبِیعَة، أَمَّا سرایة الحکم من الطَّبِیعَة إلی الأفراد لیست بموجب الإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة، بل هو بموجب عامل آخر. الإطلاق بنفسه لا یقتضی ثبوت الحکم عَلَیٰ الأفراد. بل یقتضی ثبوت الحکم عَلَیٰ الطَّبِیعَة. فتدل {أحل اللٰه البیع} بإطلاقها عَلَیٰ أن الحلیة والنفوذ ثابت لذات البیع وطبیعته، أَمَّا سرایة هذا الحکم إلی هذا البیع وذاک البیع فهذا لا یثبت بهذا الدَّلِیل المطلق، وإنَّما بحکم عقلی، کما ذکرناه فِی مورده ومحله. فالعقل یقول: إذا انصب الحکم فِی مرحلة الجعل عَلَیٰ ذات الطَّبِیعَة إذن یَنْحَلُّ هذا الحکم فِی مرحلة المجعول إلی مجعولات عدیدة بعدد الأفراد. فهذا انحلال فِی مرحلة الفعلیّة والتطبیق والمجعول.

ص: 200

الأمر الثَّالث: هو أن الإِطْلاَق عبارة عن رفض القیود لا جمعها، وقد تبین وجه هذا أَیْضاً من خلال ما تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ الإِطْلاَق هو استشکاف عدم دخل القید فِی المرام ثبوتاً من عدم ذکره فِی مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ إِثْبَاتاً، فهو انتقال من عدم القید إِثْبَاتاً إلی عدم دخله ثُبُوتاً، لا إلی دخل القیود جمیعا فِی الْحُکْمِ؛ فَإِنَّ هذا أمر زائد لا تقتضیه مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ بوجهٍ کما لا یخفی.

وبعبارة أخری: إن ثبوت الحکم لواجد القید ولفاقده لَیْسَ بلحاظ أن هذا واجد للقید وذاک فاقد له، بل ثبوته لهما إِنَّمَا هو بلحاظ الحقیقة المشترکة المحفوظة فیهما معاً، فلا الوجدان قید دخیل فِی ثبوت الحکم ولا الفقدان له؛ لأَنَّ مُقْتَضَیٰ التطابق بین مدلول الکلام وتمام المرام هو أن تمام المرام لا یزید عَلَیٰ مدلول الکلام، ووجود القید لَیْسَ داخلاً فِی مدلول الکلام، وَحِینَئِذٍ یخرج عن المرام.

إذن، فالإطلاق هو إخراج القید ورفضه عن المرام تبعاً لخروجه ورفضه عن مدلول الکلام.

الأمر الرَّابِع: هو أن الإِطْلاَق والتقیید الإثباتیین متقابلان تقابل العدم والملکة، بخلاف الإِطْلاَق والتقیید الثبوتیین فِی عالم الجعل فهما متقابلان تقابل النقیضین (أی: تقابل السَّلْب والإیجاب). وقد اتضح وجه هذا مِمَّا تَقَدَّمَ أَیْضاً؛ فَإِنَّ عدم نصب القرینة عَلَیٰ القید إِنَّمَا ینتج الإِطْلاَق ویکشف عنه فِی مورد یکون الْمُتَکَلِّم فیه قادراً عَلَیٰ ذکر القید ولا یکون ممنوعاً عنه لتقیةٍ أو عجزٍ أو ضیق وقت أو غیر ذلک من الأسباب، وَإلاَّ فلا تنشأ الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة للظهور الْحَالِیّ وعدم ذکر القید عَلَیٰ إرادة الإِطْلاَق کما هو واضح.

وبعبارة أخری: إن الإِطْلاَق الحَکَمِیّ المنصبّ عَلَیٰ الطَّبِیعَة رهین لمُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ الَّتِی من جملتها عدم نصب قرینة عَلَیٰ القید، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ ترک نصب القرینة عَلَیٰ القید:

ص: 201

تَارَةً: یکون لعدم قدرة الْمُتَکَلِّم لساناً عن نصبها وذکرها لأمثال الموانع الَّتِی أشیر إلیها آنفاً.

وأخری: یکون عدم ذکر القید رغم تمام الاقتدار عَلَیٰ ذکره إثباتاً.

وعلی الثَّانِی یلزم من إرادة الْمُقَیَّد الخلف لذاک الظُّهُور الْحَالِیّ السِّیَاقِیّ لِلْمُتَکَلِّمِ؛ لأَنَّهُ فِی مقام بیان تمام مراده بشخص کلامه، فلو کان مراده الْمُقَیَّد وهو قادر عَلَیٰ ذکر القید ومع هذا لم یذکره فهو مخالف للظهور الْحَالِیّ المذکور، وببرهان استحالة الخلف یثبت الإِطْلاَق، وَبِالتَّالِی هو یرید الإطلاق.

وَأَمَّا إن فرض الشق الأَوَّل وهو أن الْمُتَکَلِّم غیر قادر عَلَیٰ ذکر القید إِثْبَاتاً تَکْوِیناً، فَحِینَئِذٍ لا یکون إرادة الْمُقَیَّد خُلفاً؛ إذ قد یکون تمام مراده الْمُقَیَّد وهو فِی مقام بیان تمام المرام، لٰکِنَّهُ حیل ما بینه وبین ذکر القید لعارض العجز فِی اللسان أو ما شابه ذلک، فَحِینَئِذٍ لا یلزم الخلف من إرادة الْمُقَیَّد ومعه لا یتعین کون المطلق هو المرام، وَبِالتَّالِی لا ینعقد الإِطْلاَق ولا یکون الکلام حِینَئِذٍ مُطْلَقاً کما أَنَّهُ لَیْسَ مُقَیَّداً أیضاً لعدم ذکر القید ففی موارد عدم إمکان ذکر القید ینتفی کُلّ من الإِطْلاَق وَالتَّقْیِید الإثباتیین؛ لأَنَّ الإِطْلاَق الإِثْبَاتِیّ هو عدم ذکر التقیید إِثْبَاتاً عند إمکانه.

وهذا بخلاف الإِطْلاَق الثبوتی الَّذِی معناه عدم لحاظ القید؛ فَإِنَّهُ یقابل التقیید الثبوتی الَّذِی معناه لحاظ القید تقابل السلب والإیجاب؛ ففی موارد عدم إمکان لحاظ القید (نظیر ما یذکر فِی بحث التَّعَبُّدِیّ وَالتَّوَصُّلِیّ من عدم إمکان لحاظ القیود الَّتِی هی من التقسیمات الثَّانَوِیَّة للحکم کقید قصد امتثال الأمر فِی مُتَعَلَّق الأمر فِی مقام الجعل) حیث أن التقیید الثبوتی غیر ممکن، فیتعیّن الإِطْلاَق الثبوتی؛ لاستحالة ارتفاع النقیضین.

ونلخص النقاط المذکورة فِی التَّنْبِیه الأَوَّل فِی أربعة أمور کالتالی:

ص: 202

1)_ الإِطْلاَق مدلول تصدیقی ولیس تصوُّریّاً.

2)- الإِطْلاَق عبارة عن کون الحکم مُنْصَبّاً عَلَیٰ الطَّبِیعَة ولیس عَلَیٰ الأفراد.

3)- الإِطْلاَق هو رفض القیود ولیس جمعاً للقیود.

4)- الإِطْلاَق وَالتَّقْیِید الإثباتیان متقابلان تقابل العدم والملکة بخلاف الإِطْلاَق وَالتَّقْیِید الثبوتیین فإِنَّ تقابلهما تقابل السلب والإیجاب (أو قل التناقض).

تنبیهات مُقَدَّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: تنبیهات مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

التَّنبیه الثَّانِی

هو أَنَّهُ قد اتضح فِی ضوء ما ذکرناه فِی الأمر الأَوَّل من الأمور الَّتِی ذکرناها فِی التَّنْبِیه الأَوَّل أن الإِطْلاَق لَیْسَ مدلولاً تصوُّریّاً للکلام بل هو مدلول تصدیقی للکلام، والآنَ نرید أن نرتب شیئاً عَلَیٰ هذا المطلب وهو أَنَّهُ لطالما الإِطْلاَق مدلول تصدیقی للکلام إذن یترتَّب علیه أن الإِطْلاَق لا یجری فِی الجمل الناقصة؛ إذ لَیْسَ لها مدلول تصدیقی (مثل المضاف والمضاف إلیه) بل مدلولها تصوری بحت، وقد قلنا إن مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ لا تشخّص ما هو المدلول التَّصَوُّرِیّ للکلام، فإن هذا یؤخذ من نظام اللغة والعلاقة اللغویة الثَّابِتَة بین الألفاظ ومعانیها.

أَمَّا الجمل التَّامَّة فهی مشتملة عَلَیٰ معانٍ اسمیة ومعان حرفیة؛ فَإِنَّ مثل جملة أَکْرِمِ الْعَالِمَ تشتمل عَلَیٰ معنی حَرْفِیّ وهو عبارة عن النِّسْبَة التامة الإِرْسَالِیَّة الَّتِی تَدُلُّ علیها هیئة أکرم، وتشتمل عَلَیٰ معنیین اسمیین وهما الإکرام الَّذِی هو المتعلَّق والَّذِی تَدُلُّ علیه مادة أکرم الَّتِی هی اسم جنس، والآخر العالم الَّذِی هو الْمَوْضُوع والَّذِی یَدُلّ علیه لفظ العالم الَّذِی هو أَیْضاً اسم جنس.

وهذان المعنیان الاسمیان هما فِی الواقع أحد طرفی النِّسْبَة التامة الإِرْسَالِیَّة، وهو المرسل إلیه، وَأَمَّا الطَّرف الآخر فهو المرسَل (أی: المخاطب) وهو أَیْضاً معنی اسمی، لکن لا یَدُلّ علیه اسم جنس، بل یَدُلّ علیه الضمیر المستتر فِی أکرم.

ص: 203

إذن، فالمعانی الاسمیة الَّتِی تشتمل علیها الجملة التامة هی فِی الواقع أطراف المعنی الْحَرْفِیّ الَّذِی تشتمل علیه الجملة، ولا إشکال فِی جریان الإِطْلاَق فِی المعانی الاسمیة وأطراف النِّسْبَة التامة إذا کانت مدالیل لأسماء الأجناس؛ ذلک طبقا لما تَقَدَّمَ من بحوث فِی نَظَرِیَّة الإِطْلاَق، ففی المثال المذکور یجری الإِطْلاَق فِی کُلّ من الإکرام والعالم، غایة الأمر أن الإِطْلاَق فِی الإکرام بدلیّ، وفی العالم شمولی کما سیأتی قریباً التعرض له إن شاء الله تعالی.

وَأَمَّا المعنی الْحَرْفِیّ نفسه (کالنسبة التامة الإِرْسَالِیَّة فِی المثال المتقدم الَّتِی هی مفاد هیئة إکرام وَالَّتِی وقع المدلول التَّصْدِیقِیّ والمراد الجدّیّ لِلْمُتَکَلِّمِ بإزائها) فهل یجری فیه الإِطْلاَق أم لا؟ هل الإِطْلاَق یجری فِی المعانی الحرفیَّة والنسب؟ فیه بحث وکلام وخلاف بینهم، حیث یُدعی أن المعنی الْحَرْفِیّ لا یمکن أن یجری الإطلاق فیه، وقد تعرضنا لذلک وأجبنا عنه فِی بحث معانی الحروف والهیئات وکذلک فِی بحث مفهوم الشَّرْط.

التَّنبیه الثَّالِث

إن تقسیم الإِطْلاَق إلی شمولی وبدلی لَیْسَ بلحاظ نفس ما تنتجه مقدماتُ الحکمة، بل لهما مقیاس آخر.

وتوضیحه: أن الإِطْلاَق قد یکون شمولیا کما فِی {البیع} من قوله تعالی: {وأحل الله البیع}، کما قد یکون بَدَلِیّاً کما فِی الرقبة من قوله: اعتق رقبة، بل قد یکون الإِطْلاَق فِی حکم واحد شمولیا بلحاظ موضوعه وَبَدَلِیّاً بلحاظ متعلقه، کما فِی قوله: أَکْرِمِ الْعَالِمَ، حیث أَنَّهُ بلحاظ أفراد العالم یکون الحکم شمولیا، ولکن بلحاظ أفراد الإکرام یکون الحکم بَدَلِیّاً، کما أَنَّهُ قد یکون الإِطْلاَق بلحاظ الْمُتَعَلَّق أَیْضاً شمولیا کما فِی الکذب من قوله: لا تکذب.

ومن هنا یأتی السؤال عن منشأ الشُّمُولِیَّة والْبَدَلِیَّة مع کون الدَّال عَلَیٰ الإِطْلاَق فِی جمیع هذه الموارد شَیْئاً واحداً وهو عبارة عن مقدمات الکمة، فکیف اختلفت النَّتِیجَة مع وحدة الْمُقَدَِّمَة؟

ص: 204

وقد تعرضنا لهذا البحث مُفَصَّلاً فِی بحث دلالة الأمر عَلَیٰ المرة أو التَّکْرَار، وأیضا فِی بحث دلالة النهی، وقلنا: إن الإِطْلاَق الَّذِی تنتجه مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ لَیْسَ سوی شیء واحد وهو ثبوت الحکم عَلَیٰ ذات الطَّبِیعَة بلا قید، إلا أن هذه الطَّبِیعَة إذا وقعت موضوعاً للحکم فالأمر یختلف عَمَّا إذا وقعت متعلقاً للحکم، ووقوعها مَوْضُوعاً للحکم مِنْ دُونِ تنوین الوحدة یختلف عن وقوعها موضوعاً للحکم مع تنوین الوحدة، کما أن وقوعها متعلقاً للأمر یختلف عن وقوعهاً متعلقاً للنهی، فعلیک بمراجعة البحثین لمعرفة النکات والتفاصیل.

التَّنبیه الرَّابِع

وهو أن الإطلاق أحیاناً لا یَتُِمّ ولا ینعقد فِی بعض الموارد بسبب الانصراف( (1) ) الَّذِی هو عبارة عن حالة معینة قد تؤدی إلی عدم تَمَامِیَّة مقدمات الحکمة وعدم انعقاد الإِطْلاَق، ویُقصد ب_الانصراف أن یتبادر إلی الذِّهْن عند سَمَاع اللَّفظ حصّة خاصّة من حصص الطَّبِیعَة، أو فرد خاصّ من أفراد الطَّبِیعَة الَّتی وُضع اللَّفظُ لها؛ وذلک بسبب أنس ذهنی بتلک الحِصَّة أو بذاک الفرد، وهو عَلَیٰ أقسام ثلاثة باعتبار أن سبب الأنس الذهنی المذکور أحد أمور ثلاثة والأقسام هی:

القسم الأَوَّل: هو الانصراف النّاشِئ من کثرة وجود تلک الحصة الخاصة (أو الفرد الخاص) المأنوسة إلی الذِّهْن من بین سائر حصص الطَّبِیعَة وغلبة وجودها فِی الخارج وندرة وجود سائر الحصص، فقد توجب هذه الغلبة فِی الوجود والکثرة الخارجیة أنس الذِّهْن بتلک الحصة الغالبة الکثیرة، ویکون هذا الأنس هو السَّبَب فِی انصراف اللَّفْظ عند سماعه إلی تلک الحصة وتبادرها بالخصوص إلی الذِّهْن.

ص: 205


1- (1) - بحث الانصراف بحث مُهِمّ؛ لأَنَّهُ فِی الفقه کَثِیراً ما تُناقَش الإطلاقاتُ بالانصراف.

ومثاله أن نفرض شخصاً یعیش فِی بلد یکثر فِیه الإنسان الأسود، فقد توجب هذه الکثرة أنس ذهنه بخصوص الإنسان الأسود، ویکون هذا الأنس هو السَّبَب فِی انصراف لفظ إنسان عند سماعه مِنْ قِبَلِ هذا الشخص إلی خصوص الإنسان الأسود وتبادره إلی ذهنه.

وکذلک العکس فیما إذا فرضنا شخصاً یعیش فِی بلد یکثر فیه الإنسان الأبیض، فقد توجب هذه الکثرة الأنس بخصوص الأبیض وَبِالتَّالِی انصراف اللَّفْظ إلیه وتبادر الأبیض إلی ذهن هذا الشخص عند سَمَاع لفظ الإنسان.

وهذا القسم من الانصراف لا علاقة له بِاللَّفْظِ والدلیل أصلاً، بل هو انصراف بدوی لا أثر له فِی فهم المعنی من الدَّلِیل ولا یوجب هدم الإِطْلاَق والمنع عن انعقاده وإعاقة مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ؛ لأَنَّ فهم ذلک المعنی الخاص وتبادر تلک الحصة الخاصة إلی الذِّهْن لَیْسَ مسبَّباً عن اللَّفْظ ومستنداً إلیه ولیس ظهوراً للکلام بما هو کلام، بل هو فهم مسبّب عن الغلبة والکثرة الخارجیة مِنْ دُونِ أَنْ یَکُونَ للکلام دخل فیه.

إذن، فیبقی اللَّفْظ دالاً عَلَیٰ معناه الَّذِی وضع له وهو الطبیعی ویکون مُقْتَضَیٰ الظُّهُور الْحَالِیّ السِّیَاقِیّ الَّذِی ذکرناه أن الْمُتَکَلِّم قد أراد الإِطْلاَق؛ إذ لو کان قد أراد هذه الحصة الخاصة لم یکن کلامه وافیا ببیانه، فیلزم الخلف، فمقدمات الحکمة تَامَّة.

أجل، إذا کانت ندرة سائر الحصص الَّتِی انصرف عنها الذِّهْن بالغة إلی درجة بحیث لا تُری عرفاً أَنَّهَا من أفراد هذه الطَّبِیعَة، ویُری أن اللَّفْظ لَیْسَ موضوعاً للمقسم الشامل لها فَحِینَئِذٍ ینهدم الإِطْلاَق لعدم تَمَامِیَّة مُقَدَِّمَة الْحِکْمَةِ؛ إذ لو أراد الْمُتَکَلِّم هذه الحصة الخاصة لم یلزم الخلف، لوفاء الکلام ببیانه؛ إذ المفروض ضیق مدلول اللَّفْظ واقتصاره عَلَیٰ هذه الحصة.

ص: 206

تنبیهات مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: تنبیهات مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

القسم الثَّانِی (من الانصراف): هو الانصراف النّاشِئ من کثرة استعمال اللَّفظ فِی تلک الحصة الخاصة المأنوسة لدی الذِّهْن من بین سائر حصص الطَّبِیعَة؛ وذلک إما استعمالاً مجازیا، أو بنحو تَعَدّد الدَّال والمدلول؛ فَإِنَّ هذا الاستعمال الکثیر والاقتران المتکرّر بین اللَّفْظ وهذه الحصة قد توجب حدوث العلاقة الشدیدة بین اللَّفْظ وتلک الحصة بحیث یأنس الذِّهْن بتلک الحصة، ویکون هذا الأنس هو السَّبَب فِی انصراف اللَّفْظ عند سماعه إلی تلک الحصة وتبادرها بالخصوص إلی الذِّهْن.

ومثاله لفظة إمام الَّتِی معناه اللغوی عبارة عن کُلّ من یُقتدی به، لکنها استعملت کثیراً فِی خصوص مَن یُقتدی به فِی الصَّلاَة وأرید منها هذا المعنی کثیراً، إما بنحو المجاز بأن قیل: رأیت الإمام وأرید به إمام الجماعة، أو بنحو تَعَدّد الدَّال والمدلول بأن قیل: رأیت إمام الجماعة فحصل بین اللَّفْظ وبین هذا الفرد من طبیعی الإمام أنس أوجب الانصراف عند استعماله.

وهذا الأنس الذهنی مسبب عن اللَّفْظ ومستند إلیه؛ لأَنَّهُ ناشئ من استعمال اللَّفْظ فِی هذه الحصة الخاصة وإفادتها به، فهو أنس لفظی لا خارجی، فهو یختلف حَقِیقَة عن الأنس الموجود فِی الْقِسْمِ الأَوَّل من أقسام الانصراف؛ فَإِنَّ ذاک مسبب کما رأینا عن الغلبة الخارجیة، بینما هذا حاصل بسبب اللَّفْظ.

وهذا الأنس الناشئ من کثرة الاستعمال هو الَّذِی قد یؤدی إلی الوضع التعیّنی إذا بلغ مرتبةً عالیة فیصبح اللَّفْظ منقولاً عن معناه الأَوَّل أو مشترکاً بینه وبین المعنی الجدید؛ فَإِنَّ هذا الأنس له مراتب بعضها أشد من بعض، فإذا بلغ الأنس مرتبةً نسمّیها بالوضع التعینی (کما تَقَدَّمَ فِی بحث الوضع) وَحِینَئِذٍ فقد یُهجر المعنی الأَوَّل فیکون اللَّفْظ منقولاً (وقد لا یُهجر).

ص: 207

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الأنس إذا وصل إلی هذه المرتبة مِنْ دُونِ هجر المعنی الأَوَّل فَسَوْفَ یصبح اللَّفْظ حِینَئِذٍ مشترکاً لفظیاً بین المعنی الأعم وبین الحصة الخاصة المأنوسة إلی الذِّهْن. وَحِینَئِذٍ إذا أطلق اللَّفْظ بعد ذلک وتردد بین المعنیین یکون مجملاً، کما هو الحال فِی کُلّ مشترک إذا أطلق ولم یعیّن أحد معنییه أو معانیه بقرینةٍ معینة.

وَأَمَّا إذا لم یصل الأنس إلی هذه المرتبة (أی: مرتبة الوضع التعیّنی) وَإِنَّمَا کان قریبا منها جِدّاً ومجرد أنس وعلاقة شدیدة، فَحِینَئِذٍ سوف تصلح هذه المرتبة المعتدّ بها من الأنس لاعتماد الْمُتَکَلِّم علیها فِی مقام بیان إرادة الحصة الخاصة المأنوسة، وإن لم تصلح لإیجاد الوضع، فلا یکون الاعتماد علیها فِی مقام البیان خروجاً عن ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ السِّیَاقِیّ الَّذِی هو الأساس فِی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ ومخالفةً له.

وَحِینَئِذٍ یمکن القول بأن إرادة الْمُتَکَلِّم للمقیَّد والحصة (مع وجود هذه المرتبة من الأنس بین اللَّفْظ وبین الْمُقَیَّد والحصة) لا یلزم منها الخلُف بِالنِّسْبَةِ إلی ذاک الظُّهُور؛ لأَنَّ البیان الَّذِی یجب عَلَیٰ الْمُتَکَلِّم أن یوفّره لَیْسَ بأقوی من البیان الَّذِی وفّره فِعْلاً؛ فالانصراف بهذا المعنی إذن قد یوجد الخلل فِی مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ وعدم تمامیتها کما أَنَّهُ یوجب إجمال الکلام حِینَئِذٍ کما هو واضح.

القسم الثَّالث: الانصراف النّاشِئ من المناسبات الموجودة بین الحکم وَالْمَوْضُوع الْعُرْفِیَّة الْعُقَلاَئِیَّة الموجودة فِی الخطاب، وذلک فِی الخطابات المتعرضة لتشریعات لها جذور عُرْفِیَّة مرکوزة فِی أذهان العرف وتطبیقات عُقَلاَئِیَّة موجودة لدی الْعُقَلاَء.

وتوضیح ذلک أن الخطاب الشَّرْعِیّ قد یتعرض لعملیة أو تشریع، وهذه العملیة عملیة عُرْفِیَّة لها تطبیق عرفی مُعَیَّن، أو هذا التشریع هو تشریع له جذور عُرْفِیَّة، والعرف بما هو مرکوز عنده من مناسبات بین هذا التشریع وبین موضوعه له نحو استیناس بمقدار هذه العملیة وبحدود هذا التشریع، وَحَیْثُ أَنَّ استیناسه یکون بین الحکم وبین حصة معینة لذا فقد یکون هذا الاستیناس الناشئ من تلک المناسبات المرکوزة الْعُقَلاَئِیَّة موجباً لانصراف الذِّهْن العرفیّ إلی تلک الحصة الخاصة عند سَمَاع اللَّفْظ.

ص: 208

ومثاله أن یرد خطاب شرعی یقول الماء مطهّر وَحَیْثُ أَنَّ المطهریة حکم وتشریع له منشأ عرفی وجذر عقلائی، والمناسبة المرکوزة فِی ذهن العرف بین المطهریة والمطهر هی أن الشیء المطهِّر والمزیل للقذارة لا تزول بقذارة، إذن فالعرف له استیناس بحدود هذا التشریع، وَحَیْثُ أَنَّ استیناسه إِنَّمَا هو بین هذا الحکم والتشریع (أی: المطهریة) وبین حصة معیّنة من الْمَوْضُوع (أی: الماء) وهی عبارة عن الماء الطاهر، لذا یکون هذا الاستیناس الناشئ من تلک المناسبات المرکوزة موجباً لانصراف الذِّهْن العرفیّ إلی تلک الحصة الخاصة عند سَمَاع اللَّفْظ، فیفهم من دلیل المطهریة بموجب مناسبة الحکم وَالْمَوْضُوع أن المراد من الماء المطهر هو الماء الطاهر فِی نفسه لا النجس، فینصرف لفظ الماء إلی هذه الحصة الخاصة.

فهذا الانصراف ناشئ من مناسبة الحکم وَالْمَوْضُوع (أی: المناسبة الْعُرْفِیَّة القائلة بأن مثل هذا الحکم إِنَّمَا یناسب خصوص هذا الْمَوْضُوع وهذه الحصة الخاصة) ولذا لو تغیّر هذا الحکم إلی حکم آخر کما إذا ورد خطاب شَرْعِیّ یقول: لا ینظر المُحرم إلی الماء فَسَوْفَ یتغیر الانصراف المذکور ویزول، فلا ینصرف الذِّهْن العرفیّ (فِی الخطاب الثَّانِی) إلی خصوص الماء الطاهر؛ إذ لا توجد مناسبة عُرْفِیَّة تقول بأن مثل هذا الحکم وهو النهی عن النَّظَر إِنَّمَا یناسب خصوص هذا الْمَوْضُوع وهذه الحصة الخاصة (أی: الماء الطاهر)، بل لا یریٰ العرف بفهمه العرفیّ وبما لدیه من مرکوزات أی مانع من شمول هذا الحکم لمطلق الماء (طاهره ونجسه) ولذا یتمسک حِینَئِذٍ بإطلاق الماء، بینما فِی الفرض الأَوَّل کان لا یتقبل بفهمه العرفیّ وبما لدیه من مرکوزات شمول الحکم لمطلق الماء.

إذن، فالانصراف الناشئ من مناسبات الحکم وَالْمَوْضُوع الْعُرْفِیَّة مانع عن انعقاد الإِطْلاَق وهادم لِلْمُقَدَّمَةِ الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ؛ لأَنَّهُ یوجب ظهوراً للکلام فِی إرادة الْمُقَیَّد والحصة الخاصة؛ لأَنَّ مناسبات الحکم وَالْمَوْضُوع الْعُرْفِیَّة هی قرائن لبّیة متصلة تکتنف الدَّلِیل وتشارک فِی ظهوره فِی مرحلة المدلول التَّصْدِیقِیّ، وإذا تَمَّ ظهور الدَّلِیل فِی الْمُقَیَّد لم یَتُِمّ الإِطْلاَق حِینَئِذٍ لعدم تَمَامِیَّة الْمُقَدَِّمَة الثَّانیة من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، وهی عبارة عن عدم وجود قرینة متصلة عَلَیٰ التقیید.

ص: 209

ومن هذا القبیل أَیْضاً قوله تعالی: {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَینِ}( (1) ) حیث أن هذا الخطاب بتعرض لعملیة مسح الرأس، وهی عملیة عُرْفِیَّة لها تطبیق عرفی مُعَیَّن عند العرف وهو عبارة عن المسح بالید، حیث أن أیّ إنسان إذا أراد المسح برأسه أو أراد مسح رجله مسحه بکفّه، فالعرف له نحو استیناس بمقدار هذه العملیة وَحَیْثُ أَنَّ استیناسه إِنَّمَا هو بحصة معینة من المسح وهی المسح بالید، لذا یکون هذا الاستیناس موجباً لانصراف الذِّهْن العرفیّ عند سَمَاع لفظ المسح إلی خصوص المسح بالید، فلا ینعقد الإِطْلاَق فِی الخطاب المذکور بحیث یشمل المسح بغیر الید.

تنبیهات مُقَدَّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: تنبیهات مُقَدَّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن العامل وَالسَّبَب الثَّالِث الَّذِی قد یوجِب الانصراف ویمنع عن تَمَامِیَّةِ مُقَدَِّمَاتِ الْحِکْمَةِ والإطلاق عبارة عن مناسبة الحکم وَالْمَوْضُوع المرکوزة فِی ذهن العرف والعقلاء حیث أنسوا بهذا الحکم مع هذا الْمَوْضُوع، فلا یَتَعَقَّل العرفُ أَنْ یَکُونُ هذا الحکم ثابتاً لموضوع آخر، بل یری أن المناسب لهذا الحکم هو هذا الْمَوْضُوع. فتأتی مناسبة الحکم وَالْمَوْضُوع فِی الأحکام الشرعیة والتشریعات الدینیة التی لها جذور عُرْفِیَّة وَعُقَلاَئِیَّة (بخلاف التشریعات التَّعَبُّدِیَّة المحضة التی هی تأسیس من الشارع؛ لأن العرف لَیْسَ له مثل هذا التشریع، فلا معنی لمناسبة الحکم وَالْمَوْضُوع فیه)؛ لأن للعرف مثل هذا التشریع، فقد یری العرف أن هذا الحکم وهذا التشریع یناسبه الْمَوْضُوع الفلانی ولا یناسبه الْمَوْضُوع الفلانی. وهذا الاستیناس والارتکاز العرفی یُشَکِّل قرینةً لُبِّیَّة کَالْمُتَّصِلَةِ بِالْکَلاَمِ، بحیث لا تمنع من أن ینعقد للکلام إطلاق. وقد مثّلنا له بالأمس بما لو ورد فِی خطاب شرعی أن «الماء مطهِّر»، فلا یکون الشَّارِع مُؤَسِّساً فِی هذا التشریع؛ إذ أن العرف غیر الْمُتَشَرِّعِیّ أَیْضاً یعتبر الماءَ مُنَظِّفاً للقذارات، مع أن الشَّارِع والعرف یختلف عن بعضهما فِی مصادیق النجاسات والقذارات، لکنهما متفقان فِی کون الماء مُطَهِّراً للقذارات والنجاسات وَالتَّلَوُّثَات، وهذا التشریع الشرعی له منشأ وجذر عقلائی؛ فإن من الواضح أن العرف فِی تشریعه العرفیّ لا یری أن کُلَّ ماء مُنَظِّف، بل له استیناس بِنَوْعٍ مُّعَیَّنٍ من الماء، وهو الماء الَّذِی یکون نَظِیفاً فِی نفسه، وَإلاَّ فإن العرفَ لا یری الماء الوسخَ مُنَظِّفاً للأوساخ والمتلوثات؛ إذ من الواضح أن القذارة لا تزول بقذارة أخری. إذن، العرفُ لا یُشَرِّعُ الْمُشَرِّعِیَّةَ فِی تشریعه لمطلق الماء ولو کان الماء فِی نفسه قذراً، وَإِنَّمَا یُشَرِّع الْمُشَرِّعِیَّةَ للماء النظیف. فهنا هذه المناسبة العرفیة المرکوزة فِی ذهن العرف بین هذا الحکم وهذا الْمَوْضُوع تَتَدَخَّل فِی الموقف وَیُشَکِّل مَانِعاً وَعَائِقاً من أن ینعقد إطلاق فِی قول الشَّارِع عندما قال: «الماء مُطَهِّر» فتقول: «لا یمکن التَّمَسُّک بإطلاق قوله: "الماء مُطَهِّر" لیقال: «الماء مُطَهِّر حتَّی الماء النجس؛ لأن الماء النجس ماء أیضاً ویشمله إطلاق الکلام». فلا یصح هذا الکلام؛ ذلک لأن الْمُقَدَِّمَة الثَّانیة (أی: أن لا ینصب الْمُتَکَلِّم قرینة متصلة عَلَیٰ القید) من مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ غیر تامة؛ لأن المولی بقوله «الماء مُطَهِّر» نصبَ قرینةً لُبِّیَّة کَالْمُتَّصِلَةِ بهذا الخطاب تقول: «لَیْسَ کُلّ ماء، بل خصوص الماء الطاهر» والقرینة اللُبِّیَّة عبارة عن هذه المناسبة العرفیة المذکورة فِی ذهن العرف بین مُطَهِّرِیَّة الماء وطهارة الماء.

ص: 210


1- (1) - سورة المائدة (5): الآیة 6.

لکن هذه المناسبة التی شکلت قرینةً لُبِّیَّة متصلة بالخطاب، قلنا مناسبة بین خصوص هذا الحکم (المطهریة) وهذا الْمَوْضُوع. ولذا لو تغیر الحکم وبقی الموضوعُ (وهو الماء)، کما إذا غیّرنا الحکم وکان الحکم عبارة عن «المحرم لا ینظر فِی الماء»، هنا نتمسک بإطلاق الماء ونقول: النظر الحرام عَلَیٰ المحرم هو النظر فِی کُلّ ماءٍ، سَوَاءً الماء الطاهر أم الماء النجس؛ لأن تلک المناسبة العرفیة التی کانت مرکوزة فِی ذهن العرف والتی کانت تشکل قرینة متصلة فِی المطهریة، غیر موجودة فِی المقام؛ لأن هذا الحکم (وهو حرمة نظرِ المحرِمِ إلی الماء) لَیْسَ له جذر عقلائی، بل هو حکم تعبدی محض، ومن هنا لا توجد لدی العرف مرتکزات حول هذا التشریع، بأن هذا الحکم هل یناسب هذا الْمَوْضُوع أو یناسب مَوْضُوعاً آخر؛ لأَنَّهُ جدیدٌ علیه هذا التشریع. ومن هنا نَتَمَسَّک بإطلاق الماء هنا ونقول: إذا حرم النظر فِی الماء عَلَیٰ المحرم یحرم علیه فِی مطلق الماء، سَوَاءً الماء الطاهر أو الماء النجس.

فلو کان مراد المولی خصوص الماء الطاهر فِی الجملة الثَّانیة فکلامه غیر واف بمراده. وهذا خلاف ظهوره الحالی؛ فإن ظاهر حال کُلّ متکلم أَنَّهُ بصدد بیان تمام مراده بکلامه. فیجری الإِطْلاَق هناک مِنْ دُونِ مانع.

إذن، لا یجری الإِطْلاَق فِی مثل هذا.

کذلک افرضوا مثالا آخر وهو الآیة الکریمة : {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَینِ} فإن من الواضح أن المرکوز عند العرف أن الناس یمسحون رؤوسهم وأرجلهم بأیدیهم، فتدل الآیة عَلَیٰ وجوب المسح بالید، فلو مسح رجله برجله الآخر فلا یصح.. فالآیة وإن کانت مطلقة من ناحیة المسح، بأن الماسح أی شیء کان، ولکن یوجد ارتکاز عرفی یصرف الآیة عن ذاک المعنی وهو أن الناس یمسحون رؤوسهم وأرجلهم بأیدیهم. وهذا بخلاف الغسل فإن بالإمکان أن یُغمس شخص یده أو رجله تحت الماء ویغسلها بالغمس, ولا توجد مناسبة عرفی فِی المقام.

ص: 211

موجباً لانصراف الذِّهْن العرفیّ عند سَمَاع لفظ المسح إلی خصوص المسح بالید، فلا ینعقد الإِطْلاَق فِی الخطاب المذکور بحیث یشمل المسح بغیر الید.

هذا تمام الکلام فِی التَّنبیه الرَّابِع من تنبیهات مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ.

التنبیه الخامس

إن الإِطْلاَق الْحَکَمِیّ الذی یثبت من خلاله مُقَدَِّمَة الْحِکْمَةِ یختلف عن الإِطْلاَق الْمَقَامِیّ اختلافاً جَوْهَرِیّاً وأساسیّاً؛ ذلک لأَنَّ الأمر المحتمل فِی موارد الإِطْلاَق الْحَکَمِیّ والَّذِی یُراد نفیه بالإطلاق هو شیء عَلَیٰ فرض ثبوته یکون قَیْداً فِی الْمُرَادِ الجدّی من اللَّفْظ وَمُوجِباً لتضییق دائرة مدلوله التَّصْدِیقِیّ. فعلی سبیل المثال حینما یقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» فَسَوْفَ یکون الأمر المحتَمل فِی المقام هو «العدالة» مثلاً، وهی عَلَیٰ فرض ثبوتها ودخلها فِی مراد الْمُتَکَلِّم تکون مُقَیَّدَة ومضیّقةً للمراد الجدّی من «العالم»، فیدور أمر المراد الجدّیّ لِلْمُتَکَلِّمِ من قوله «أَکْرِمِ الْعَالِمَ»» بین أَنْ تَکُونَ العدالة دخیلة فیه وبین أن لا تکون کذلک، وَحِینَئِذٍ فَبِالإِطْلاَقِ الْحَکَمِیِّ نثبت عدم دخلها فیه وذلک عَلَیٰ أساس الظُّهُور الْعَامّ الَّذِی هو عبارة عن ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ السِّیَاقِیّ القائل بکون الْمُتَکَلِّم بصدد بیان تمام موضوع الحکم المدلول لکلامه من خلال شخص کلامه هذا؛ فالإطلاق الحکمی ینفی القید بهذا الظُّهُور الْعَامّ ولا یحتاج إلی قرینة وعنایة خاصة فِی مورده، ومن هنا کان الإِطْلاَق الْحَکَمِیّ هو مُقْتَضَیٰ الأصل، وأما الإِطْلاَق الْمَقَامِیّ فلیس کذلک. بمعنی أن الأمر المحتمل فِی موارد الإِطْلاَق الْمَقَامِیّ والَّذِی یُرَادُ نفیه بالإطلاق الْمَقَامِیّ هو شیء عَلَیٰ فرض ثبوته لَیْسَ قَیْداً فِی الْمُرَادِ الجدّیّ من اللَّفْظ والکلام الَّذِی بأیدینا ولیس موجباً لضیق دائرة مدلوله التَّصْدِیقِیّ، بل هو عَلَیٰ فرض ثبوته مطلب آخر ومرام ومراد جدی آخر وراء هذا المرام والمراد الجدّیّ.

ص: 212

فالإطلاق الْمَقَامِیّ مرتبط بمرام آخر علاوةً عَلَیٰ المدلول التَّصْدِیقِیّ للکلام الموجود. فَمَثَلاً إذا قال الإمام علیه السلام فِی مقام بیان الوضوء: «ألا أعلّمکم وضوء رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم؟ ثُمَّ قال علیه السلام: «غسل الوجه من الوضوء، وغسل الیدین جزء، ومسح الرّأْس کُلّ منهما جزء وهکذا إلی آخره. فهنا:

تَارَةً نَشُکُّ فِی أن غسل الوجه الَّذِی هو جزء هل هو غسل الوجه کیفما اتفق أم غسله من الأعلی إلی الأسفل؟ فهنا تجری مُقَدَِّمَة الْحِکْمَةِ وَنَتَمَسَّک بِالإِطْلاَقِ الْحَکَمِیِّ لإثبات أنَّ الغَسل جزء کیفما وقع؛ ؛ لأَنَّهُ لو کانت الْجُزْئِیَّة مخصوصة بخصوص حصة خاصة من غسل الوجه (وهی حصة غسل الوجه من الأعلی مثلاً) لکان هذا قَیْداً زَائِداً فِی المرام الجدّیّ من کلامه، فکان لابد من بیانه بِمُقْتَضَیٰ الظُّهُور الْحَالِیّ السِّیَاقِیّ القائل بکونه بصدد بیان تمام ما له دخل فِی مرامه الجدّیّ بشخص کلامه، وحیث أن المفروض أَنَّهُ لَمْ یُبَیِّنْهُ؛ لأن کلامه لا یقتضیه ولا یَدُلّ علیه، فننفیه بِالإِطْلاَقِ الْحَکَمِیِّ وَیَتَعَیَّنُ بِمُقْتَضَیٰ ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ أن ما هو جزء فِی الوضوء إنما هو طبیعی غسل الوجه ثُبُوتاً؛ ؛ لأَنَّهُ هو الْمُبَیَّن إِثْبَاتاً. إذن، فالمرجع فِی هذه الحالة هو الإِطْلاَق الْحَکَمِیّ.

وأخری نَشُکُّ فِی جزئیة أمر آخر غیر الأمور التی ذکرها، کما لو شککنا فِی جزئیة المضمضة مثلاً فِی الوضوء واحتملنا وجوبها، وکان الإمام علیه السلام قد سکت عنها فِی سیاق ما ذکره من أجزاء للوضوء، فهنا لا یمکن التمسک بِالإِطْلاَقِ الْحَکَمِیِّ لإثبات عدم جزئیّتها ولا تجری مُقَدَِّمَة الْحِکْمَةِ؛ وذلک لأن المضمضة المحتمل وجوبُها هی عَلَیٰ فرض ثبوت وجوبها وجزئیّتها للوضوء فِی الواقع لیست قَیْداً فِی المرام الجدّیّ من کلامه الدال عَلَیٰ وجوب غسل الوجه والیدین ومسح الرأس والقدمین، بل هی عَلَیٰ فرض ثبوت وجوبها وجزئیتها مطلب آخر ومرام جدی آخر وراء مرامه الجدّیّ هذا المدلول لکلامه؛ فوجوب المضمضة وَجُزْئِیَّتهَا حکم آخر وراء الحکم الَّذِی یَدُلّ علیه الکلام، ولیس هذا الحکم قَیْداً لذاک، وَإِنَّمَا یمکن التمسک حِینَئِذٍ بالإطلاق الْمَقَامِیّ لفنی جُزْئِیَّتِهَا ووجوبها بشرط أن نحرز أن الْمُتَکَلِّم کان فِی مقام استیعاب تمامِ أجزاء الوضوء وقد سکت عن جزئیة المضمضة؛ فإن نفس الدَّلِیل الدال عَلَیٰ أَنَّهُ فِی مقام استیعاب تمام أجزاء الوضوء مع سکوته عن جزئیة المضمضة یَدُلّ بِالاِلْتِزَامِ عَلَیٰ أن ما سکت عنه ولم یذکره لَیْسَ جُزْءاً للوضوء ولیس وَاجِباً، وإلا لکان خلف الدَّلِیل الدال عَلَیٰ أَنَّهُ فِی مقام استیعاب تمام أجزاء الوضوء، ولکن الدَّلِیل الَّذِی یَدُلّ عَلَیٰ أن الْمُتَکَلِّم فِی مقام استیعاب تمام أجزاء الوضوء اتفاقی قد یحصل (کما فِی المثال الَّذِی ذکرناه حیث أن الظاهر من قوله: «ألا أعلّمکم وضوءَ رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم» أَنَّهُ فِی مقام استیعاب تمام أجزاء الوضوء)، وقد لا یحصل (کما إذا قال الإمام علیه السلام رأساً وابتداءً: «غسل الوجه جزء من الوضوء»، فَإِنَّهُ حِینَئِذٍ لَیْسَ ثَمَّة ما یَدُلّ عَلَیٰ أَنَّهُ فِی مقام استیفاء تمام أجزاء الوضوء، وهذا بخلاف الظُّهُور الْحَالِیّ السِّیَاقِیّ الَّذِی هو الأساس للإطلاق الحکمی؛ فَإِنَّهُ ثابت عَلَیٰ القاعدة فِی کُلّ موردٍ تصدّیٰ فیه الْمُتَکَلِّم لإبراز تمام موضوع الحکم المدلول لکلامه من خلال شخص کلامه؛ فإن ظاهر حاله أَنَّهُ قد بَیَّنَ تمام موضوع ذاک الحکم، ولذا یکون الإِطْلاَق الْحَکَمِیّ عَلَیٰ القاعدة ظُهُوراً عَامّاً ثابتاً عَلَیٰ القاعدة؛ إذ لَیْسَ هناک ظهور عام یقول: إن ظاهر حال کُلّ مَن تصدّیٰ لبیان حکمٍ ومرامٍ هو أن یبیّن حکماً ومراماً آخر أَیْضاً.

ص: 213

تنبیهات مُقَدَّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: تنبیهات مُقَدَّمَات الْحِکْمَةِ/المطلق/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

إذن، فالإطلاق الْمَقَامِیّ باعتبار کونه مرتبطاً بمرامٍ وحکمٍ آخر علاوةً عَلَیٰ مدلول الکلام تکون الاستفادة منه مُبْتَنِیَة عَلَیٰ عنایة زائدة ومقام بیان خاصّ أکثر مما قد أبرزه الکلام الَّذِی تکلم به. أی: أن الإِطْلاَق الْمَقَامِیّ یصبح بحاجة إلی عنایة زائدة وقرینة خاصة عَلَیٰ أَنَّهُ فِی مقام بیان ذلک المرام الآخر وتلک الجهة وَالْحَیْثِیَّة التی لم یُبرزها الْمُتَکَلِّم بکلامه الأَوَّل الَّذِی تکلم به، وهذه القرینة فِی الإِطْلاَق الْمَقَامِیّ عَلَیٰ نحوین:

النحو الأَوَّل: أَنْ تَکُونَ لفظیة إما صریحة أو تُفهم من ظاهر حال المتلفِّظ، کما لو قال الإمام علیه السلام: «ألا أعلمکم الوضوء»؟ وهناک عَبَائِر وکلمات أقل من هذه یمکن أن یُسْتَظْهَر منها أَنَّهُ فِی مقام بیان المرام الآخر واستیعاب أجزاء الوضوء، ومعرفة هذه القرائن اللَّفْظِیَّة منوطةٌ باستظهار الفقیه من الروایة فِی کُلّ مورد بخصوصه؛ فإن تَمَّ ذلک تَمَّ الإِطْلاَق الْمَقَامِیّ.

النحو الثَّانِی: أَنْ تَکُونَ غیر لَفْظِیَّةٍ وهی عبارة عن اقتضاء شأن الشارع الأقدس فتکون دلالتها من نوع دلالة الاقتضاء، لا من نوع دلالة الألفاظ، کما إذا فرض أن جُزْءاً من الأجزاء کان مِمَّا یُغفلُ عنه عَادَةً بحسب نوعه، بحیث لو لَمْ یُبَیِّنْهُ الشَّارِعُ بنفسه لم یَلْتَفِت إلیه عَامَّة الناس لیسألوا الشَّارِع عنه؛ لعدم خطور احتمال دخله فِی مراد الشَّارِع عَلَیٰ الأذهان العادیة، وإن کان هو مِمَّا یخطر عَلَیٰ الأذهان تَصَوُّراً، کقصد القربة مثلاً، وقد یکون هو أَیْضاً مِمَّا لا یخطر حتَّی تَصَوُّراً عَلَیٰ أذهانهم وَإِنَّمَا یَلْتَفِت إلیه الأصولیون والفقهاء کقصد الوجه أو التَّمْیِیز؛ فَإِنَّهُ فِی مثل هذه الموارد تَتُِمّ دلالةُ الاقتضاء فیقال: إن ما یناسب شأن الشَّارِع ویقتضیه هو بیان دخل هذا الجزء فِی مراده لو کان حَقّاً جُزْءاً، فحیث لَمْ یُبَیِّن ذلک فِی کلامه وسکت عنه نَتَمَسَّکُ بالإطلاق الْمَقَامِیِّ لکلامه لنفی الْجُزْئِیَّة؛ فإن نفس اقتضاء شأن الشَّارِع مع سکوته عن الْجُزْئِیَّة یَدُلّ بالالتزام عَلَیٰ عدم الْجُزْئِیَّة، وَإلاَّ لکان خلف ما یقتضیه شأنه.

ص: 214

وعندما نقول هنا: «إننا نَتَمَسَّک بالإطلاق الْمَقَامِیّ لکلام المولی لا نقصد التمسک بکلام واحد من کلماته وخطاب واحد من خطاباته، بل نقصد التمسک بمجموع کلماته وخطاباته بأن نقول: إن مجموع الکلمات والخطابات الواصلة إلینا من الشَّارِع لَیْسَ فیها أی إشارة إلی جزئیة التَّمْیِیز أو قصد الوجه مثلاً، ونضمّ إلی ذلک الاطمئنان بعدم وجود إشارة إلیهما فِی روایة أخری لم تصلنا واختفت علینا لعلّةٍ مّا، فیَتُِمّ الإِطْلاَق الْمَقَامِیّ.

هذا تمام الکلام فِی التَّنْبِیه الخامس، وبذلک تَمَّ الکلام فِی تنبیهات مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ. وبهذا نکون قد انتهینا من الکلام فِی الجهة الثَّانیة من جهتی البحث وهی الجهة الْمُتَکَفِّلَة للبحث عن مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ، وبه تَمَّ الکلام فِی بحث دلالة المطلق وهو البحث الخامس والعشرون من بحوث دلالات الدَّلِیل الشرعی اللفظی، وهذا البحث هو الأخیر من هذه البحوث، وبذلک نکون قد استکملنا کُلّ دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ اللَّفْظِیّ.

وأما البحوث المرتبطة بالتخصیص (والتی ذکرها الأصحاب فِی بحث الْعَامّ والخاص) وکذلک الْبُحُوث المرتبطة بالتقیید (والتی ذکروها فِی بحث المطلق وَالْمُقَیَّد) وکذلک بحث المجمل والمبیّن، فالأنسب حسب تقسیمنا لمباحث علم الأُصُول إیکالها إلی بحث التعارض؛ فإن هذه البحوث هی فِی الواقع تحاول الإجابةً عن هذا السؤال وهو أَنَّهُ إذا ورد دلیلان أحدهما عام والآخر خاصّ، أو أحدهما مطلق والآخر مُقَیَّد، أو أحدهما مجمل والآخر مُبَیَّن، فما هو الحلّ؟ فهی بحوث مرتبطة بتعارض دلیلین، فلا معنی للتعرض لها فِی ضمن بحوث الدلالات.

وعلیه، فقد قمنا لحدّ الآن بتحدید دلالات الأَدِلَّة الشرعیّة اللَّفْظِیَّة واستوعبناها، وبذلک تَمَّ البحث الأَوَّل من بحوث الفصل الأَوَّل السّتّة بحمد الله، ویتلوه بعد ذلک بعون الله ومشیئته البحث الثَّانِی فِی تحدید دلالات الأَدِلَّة الشرعیة غیر اللَّفْظِیَّة.

ص: 215

دلالة الْفِعْل أو التَّرْک الصادر من الْمَعْصُوم علیه السلام/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالة الْفِعْل أو التَّرْک الصادر من الْمَعْصُوم علیه السلام/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

دلالة الفعل أو الترک الصادر من المعصوم علیه السلام

البحث الثَّانِی من بحوث الأَدِلَّة هو عبارة عن البحث عن دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللَّفْظِیّ، و هو عبارة عمّا یصدر من المعصوم علیه السلام ولیس من نوع اللَّفْظ والکلام وله دلالة بنحو من الأنحاء عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ.

وهذا له مصداقان: أحدهما الفعل أو الترک، والآخر التقریر. فلا بد من البحث عن دلالة کُلّ منهما.

أَمَّا الفعل فلو صدر من المعصوم فعل معیَّن أو ترکُ فعلٍ معیَّن، فتارةً یقترن بقرینة (حالیةٍ أو مقالیةٍ) تَدُلُّ عَلَیٰ مطلب مُعَیَّنٍ فَحِینَئِذٍ یتحدّد مدلول الفعل أو الترک عَلَیٰ أساس تلک القرینة، کما إذا دلّت قرینة عَلَیٰ أن عملیة الوضوء التی قام بها الإمام علیه السلام کانت بغرض تعلیم الوضوء لِلْمُکَلَّفِ، فَیَدُلُّ الفعل حِینَئِذٍ عَلَیٰ أن الوضوء الشَّرْعِیّ إِنَّمَا هو بذاک النحو الَّذِی صدر من المعصوم علیه السلام، وکما إذا دَلَّتْ قرینةٌ عَلَیٰ أن الفعل الَّذِی قام به کان وَاجِباً أو مُسْتَحَبّاً أو مُبَاحاً، أو عَلَیٰ أن الفعل الَّذِی ترکه کان حَرَاماً أو مَکْرُوهاً أو مُبَاحاً؛ فَإِنَّ الْفِعْلَ أو التَّرْکَ حِینَئِذٍ یکتسب مدلوله من تلک القرینة وَیَدُلُّ الأَوَّلُ بموجبها عَلَیٰ الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة، والثانی عَلَیٰ الْحُرْمَة أو الکراهة أو الإباحة.

وأخری یفترض عدم اقتران الْفِعْل أو التَّرْک الصادر منه بقرینة من هذا القبیل. بل وقع مجرداً عنها، فَحِینَئِذٍ تثبت له بعض الدلالات:

ص: 216

منها: دلالة صدور الْفِعْل منه عَلَیٰ عدم حرمة ذاک الْفِعْل فِی الشریعة؛ وذلک بحکم عصمته، ولا یَدُلّ عَلَیٰ وجوب ذاک الْفِعْل ولا عَلَیٰ استحبابه، فَلَعَلَّهُ مباح، وهل یَدُلّ عَلَیٰ عدم کراهته أم لا؟ سیأتی الکلام فیه.

ومنها: دلالة ترکه فِعْلاً مُعَیَّناً عَلَیٰ عدم وجوب ذاک الفعل فِی الشریعة؛ وذلک بنکتة العصمة، ولا یَدُلّ عَلَیٰ حرمته ولا عَلَیٰ کراهته، فَلَعَلَّهُ مباح، وهل یَدُلّ عَلَیٰ عدم استحبابه أم لا؟ سیأتی الکلام فیه.

ومنها: دلالة صدور الْفِعْل عَلَیٰ وجهٍ عِبَادِیٍّ عَلَیٰ مَطْلُوبِیَّةِ ذاک الْفِعْل ورجحانه، کما إذا رأیناه یصوم فِی یوم الخمیس مثلاً، أو یصلّی فِی مکانٍ مّا أو زمانٍ مّا صلاةً مُعَیَّنَةً؛ وذلک لأن عدم حرمة الْعَمَلِ العِبَادِیِّ مساوق لمشروعیّته ورجحانه.

ومنها: دلالة تکرار صدور الْفِعْل منه ومواظبته علیه مع کونه من الأعمال الَّتِی لا یقتضی الطبعُ تکرارها والمواظبة علیها عَلَیٰ رجحان ذاک الْعَمَل فِی الشَّرِیعَة؛ لأَنَّهُ مع التَّکْرَار والمواظبة فِی مثل ذلک نحرز عدم وجود أیّ حافزٍ ومحرِّکٍ غیر شرعی له عَلَیٰ ذلک، فَیَتَعَیَّنُ کون الحافز والمحرِّک له شَرْعِیّاً من دلیل آخر غیر التَّکْرَارِ والمواظبة.

یبقی أن نری أن صدور الْفِعْل هل یَدُلّ عَلَیٰ عدم کونه مَرْجُوحاً وَمَکْرُوهاً أم لا یَدُلّ عَلَیٰ أکثر مِمَّا تَقَدَّمَ من عدم الْحُرْمَة؟ وأن ترکه لفعلٍ هل یَدُلّ عَلَیٰ عدم کون ذاک الْفِعْل راجحاً ومستحبّاً أم لا یَدُلّ عَلَیٰ أکثر مِمَّا تَقَدَّمَ من عدم الوجوب؟ هناک وجوه ثلاثة:

الوجه الأَوَّل: أن یقال بأنه یَدُلّ عَلَیٰ ذلک مُطْلَقاً، سَوَاء تکرر منه ذلک أم لا.

الوجه الثَّانِی: أن یقال بعدم دلالته عَلَیٰ ذلک مُطْلَقاً.

الوجه الثَّالِث: أن یقال بدلالته عَلَیٰ ذلک فِی فرض تکرار صدور ذاک الْفِعْل أو ذاک التَّرْک من المعصوم علیه السلام وعدم دلالته عَلَیٰ ذلک فِی فرض عدم التَّکْرَار.

ص: 217

وهذه الوجوه الثَّلاَثة مبنیةٌ عَلَیٰ:

1)- أن المعصوم علیه السلام هل یجوز فِی حقه ترک الأولی وفعل المکروه بشرط عدم التَّکْرَار؟

2)- أم یجوز حتَّی مع التَّکْرَار والمواظبة عَلَیٰ ذلک؟

3)- أم لا یجوز شیء من ذلک بِالنِّسْبَةِ إلیه؟

فعلی الأَوَّل: تکون النَّتِیجَة عبارة عن الوجه الثَّالِث.

وعلی الثَّانِی: تکون النَّتِیجَة عبارة عن الوجه الأَوَّل.

وعلی الثَّالِث: تکون النَّتِیجَة عبارة عن الوجه الأَوَّل.

وعلیه، فَیَکُونُ صدور الْفِعْل منه دَالاًّ عَلَیٰ عدم کراهته؛ إذ لا یفعل المکروهَ. کما هو دال أَیْضاً عَلَیٰ عدم کون ترک ذاک الْفِعْل مُسْتَحَبّاً وأولی من فعله؛ إذ لا یترک الأولی. کما أنَّ ترکَ الْمَعْصُومِ لفعلٍ مُعَیَّنٍ یکون دَالاًّ حِینَئِذٍ عَلَیٰ أن ترکه لَیْسَ بِمَکْرُوهٍ؛ إذ لا یرتکب الْمَکْرُوهَ. کما یَدُلّ أَیْضاً عَلَیٰ عدم کون ذاک الْفِعْل مُسْتَحَبّاً وأولی من ترکه؛ إذ لا یترک الأولی.

والصحیح بِالنِّسْبَةِ إلی النَّبِیِّ الأَعْظَمِ صلی الله علیه وآله وسلم وأهل بیته المعصومین علیهم أفضل الصَّلاَة والسلام هو عدم صدور فعل المکروه وترک الأولی والمستحب منهم؛ لا لأَنَّ عصمتهم تقتضی ذلک کی یناقَش بأن العصمة إِنَّمَا تعین عصمتهم عن العصیان وعن الخطأ والسهو والنسیان، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ فعل المکروه وترک الأولی لا هو عصیان ولا خطأ أو سهو أو نسیان، بل لما دَلَّ من الروایات عَلَیٰ أنهم أفضل من جمیع الأنبیاء السابقین، ولا شک فِی أن مُقْتَضَیٰ الأفضلیة ذلک؛ فَإِنَّ من وجوه الأفضلیة عدم صدور ما کان قد یصدر من الأنبیاء السابقین أو من بعضهم من ترک الأولی.

هذه هی دلالات الْفِعْل أو التَّرْک الصادر من الْمَعْصُوم علیه السلام.

ص: 218

تبقی هنا نقطة ینبغی الالتفات إلیها، وهی أن هذه الدَّلاَلاَتِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ وتثبت حکماً لِلْمُکَلَّفِ وَتَدُلُّ علیه بشرط افتراض وحدة الظَّرْف الَّذِی یعیشه الْمُکَلَّف وَالظَّرْف الَّذِی صدر فیه الْفِعْل أو التَّرْک من الْمَعْصُوم وتُماثِل هذین الظرفین فِی جمیع الجهات الَّتِی یحتمل کونها دخیلة فِی الحکم الشَّرْعِیّ ومؤثرة فِی ثبوته؛ ذلک لأن الفعل أو التَّرْک الصادر من الْمَعْصُوم علیه السلام دلیل صامت لَیْسَ له إِطْلاَقٌ؛ إذ لَیْسَ من نوع اللَّفْظ والکلام کی یتمسک بِإِطْلاَقِهِ لکل الظروف والحالات ویقال: إن هذا اللَّفْظَ یَدُلّ ُ ببرکة الإِطْلاَق عَلَیٰ عدم دخل ظرف خَاصّ أو حالة خاصة فِی ثبوت الحکم.

وعلیه، فهو لا یعیّن ما هی الظروف الَّتِی لها دخل فِی إثبات ذلک الحکم للمعصوم علیه السلام. إذن، فاللازم هو الأخذ بالقدر المتیقن وهی صورة المماثلة فِی جمیع الخصائص المحتمل کونها مؤثرة فِی ثبوت الحکم ولا یمکن تعمیم الحکم المستکشف من فعل الْمَعْصُوم علیه السلام أو ترکه لکل الحالات، بحیث نقول: إن هذا الحکم ثابت لغیر الْمَعْصُوم أیضاً فِی کُلّ حالاته وخصوصیاته، بل ما لم نحرز وحدة الظروف المحتمل دخلُها لا یمکن إثبات الحکم، وَبِالتَّالِی یثبت (من خلال فعل الْمَعْصُوم علیه السلام أو ترکه) ذلک الحکم فِی کُلّ حالة مماثلة لحالة الْمَعْصُوم علیه السلام من جمیع الجهات المحتمل دخلها فِی ثبوت ذاک الحکم له، فیثبت ذلک الحکم فِی حقّنا أَیْضاً فیما إذا کانت الصفات والخصائص الَّتِی توفّرت فِی الْمَعْصُوم علیه السلام حین صدور الْفِعْل أو التَّرْک منه والتی نحتمل کونها مؤثرة فِی ثبوت ذلک الحکم له متوفرة فینا أیضاً. فإذا رأیناه مثلاً یدعو بدعاء معیّنٍ حین البدء بالأکل، واحتملنا مدخلیّة حالة البدء بالأکل فِی ثبوت رجحان هذا الدعاء له، فلا یثبت الرجحان لنا إلاَّ فِی نفس الظَّرْف المحتمل دخله فِی ثبوت الرجحان للمعصوم، وهو ظرف البدء بالأکل.

ص: 219

ومن هنا فقد یُثار اعتراض عَامّ فِی المقام وهو أنَّ نفس «النبوة» و«الإمامة» ظرف یمیّز الْمَعْصُوم دائماً من غیره، فکیف یمکن أن نثبت الحکم عَلَیٰ أساس فعل الْمَعْصُوم أو ترکه؟

والجواب عن ذلک هو أن احتمال دخل هذا الظَّرْف فِی ثبوت الحکم له بحیث یکون الحکم من مختصاته مَلْغِیٌّ بقوله تعالی: {لَقَدْ کَانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللَهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ

}( (1) ) وما یناظره من الأَدِلَّة الشَّرْعِیَّة الدالة عَلَیٰ جعل النَّبِیّ صلی الله علیه وآله وسلم والإمام علیه السلام قدوةً( (2) )؛ فَإِنَّ فرض ذلک یقتضی إلغاء دخل النبوة والإمامة فِی سلوکهما المتمثّل فِی الْفِعْل أو التَّرْک الصادر منهما لکی یکون هذا السلوک قدوةً لغیرهما، فما لم یثبت بدلیلٍ أن الْفِعْل أو التَّرْک الْمُعَیَّن من مختصات النَّبِیّ صلی الله علیه وآله وسلم والإمام علیه السلام، یُبنی عَلَیٰ عدم الاختصاص، لکن بشرط المماثلة معه فِی الحالات والخصائص المحتمل دخلها فِی ثبوت الحکم له کما عرفت آنفاً.

هذا تمام الکلام فِی دلالة الْفِعْل أو التَّرْک الصادر من الْمَعْصُوم علیه السلام.

دلالةُ تقریرِ الْمَعْصُومِ علیه السلام/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: دلالةُ تقریرِ الْمَعْصُومِ علیه السلام/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

دلالة تقریر الْمَعْصُوم علیه السلام

وَأَمَّا التقریر فهو عبارة عن إمضاء الْمَعْصُوم علیه السلام لموقفٍ یتّخذه غیرُه بمرأی منه ومَسْمعٍ، سَوَاء کان الموقف فَرْدِیّاً مُتَمَثَّلاً فِی سلوک شخصیّ کما إذا مسح امرئٌ فی الوضوء رأسه منکوساً (من مقدَّم الرأس إلی مؤخّره) مقابل الْمَعْصُوم علیه السلام، أم کان الموقف اِجْتِمَاعِیّاً مُتَمَثّلاً فِی سلوک عَامّ یُسَمَّیٰ ببناء العقلاء أو السیرة الْعُقَلاَئِیَّة کسیرة العقلاء عَلَیٰ التصرف فِی مال الغیر بطیب نفسه ولو لم یأذن لَفْظِیّاً، وکسیرة العقلاء عَلَیٰ التملک بالحیازة فِی المنقولات، وسواء کان الموقف متجسّداً فِی سلوک خارجیّ، کما لاحظنا فِی الأمثلة، أم لم یتجسّد فِی سلوک خارجی وَإِنَّمَا کان مرتکزاً عُقلائیّاً وإن لم یصدر من العقلاء بالفعل سلوک خارجی عَلَیٰ طبقه لعدم تَحَقُّق موضوعه بعدُ، کما إذا کان من المرتکز عند کُلّ عاقل أَنَّهُ إذا قُدِّر له أن یمارس حالة الْمَوْلَوِیَّة ویتقمّص قمیصها فَسَوْفَ یجعل خبر الثقة حجةً بینه وبین عبده.

ص: 220


1- (1) - سورة الأحزاب (33): الآیة 21.
2- (2) - بحار الأنوار: ج92، ص96، وج102، ص163.

وإمضاء الْمَعْصُوم علیه السلام للموقف الَّذِی یواجهه قد یکون من خلال لفظ وکلام صادر منه ودال عَلَیٰ الإمضاء، فهذا خارج عن محل البحث وداخل فِی الدَّلِیل الشَّرْعِیّ اللَّفْظِیّ الَّذِی تحدّثنا عن دلالاته فِی البحث السابق.

وأخری یکون من خلال فعلٍ أو ترکٍ صادر من الْمَعْصُوم علیه السلام ودال عَلَیٰ الإمضاء، فهو أَیْضاً خارج عن محل البحث وداخل فِی الْفِعْل أو التَّرْک الصادر من الْمَعْصُوم وقد فرغنا عن بحثه آنفاً.

وثالثة: یکون من خلال سکوت الشَّارِع وعدم ردعه عن الموقف الَّذِی واجهه، وهذا هو الَّذِی نرید البحث عنه وهو المراد ب_«التقریر» فِی المصطلح الأُصُولِیّ، فالتقریر إذن هو الإمضاء المکتشف من سکوت الْمَعْصُوم عن الردع عن الموقف الاجتماعی المتمسک فِی السلوک الْعَامّ العقلائی أو المتمثل فِی الارتکاز الْعَامّ العقلائی. ومنه یتضح الحال فِی إمضائه للموقف الفردی المتمثل فِی السلوک الشخصی؛ إذ لَیْسَ فیه نکتة إضافیة کما سنری.

وعلیه فبحثنا الآن إِنَّمَا هو عن «المواقف الْعُقَلاَئِیَّة» سَوَاء تجسّدت فِی سلوک عقلائی خارجی أم کانت عبارة عن ارتکاز عقلائی ولنطلق عَلَیٰ الجمیع اسم «السیرة»، ولا توفرت الشروط اللازمة الَّتِی سوف تتضح من خلال البحث إن شاء تعالی تکون السِّیرَةُ دلیلا عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیِّ ولکن لا بذاتها، بل باعتبار تقریر الشَّارِع لها وإمضائه المکتشف من سکوت الْمَعْصُوم عن الردع عنها.

وبالرغم من أن الاِسْتِدْلاَلَ بالسیرة موجود فِی کلمات الأصحاب فِی بعض الموارد، لکنهم لم ینقّحوا بحث «السِّیرَة» عَلَیٰ حدّ تنقیحهم لسائر الأبحاث کبحث حجیة خبر الواحد، وبحث الحکم الظَّاهِرِیّ والجمع بینه وبین الحکم الْوَاقِعِیِّ وغیرهما، بینما موارد الحاجة إلی الاِسْتِدْلاَل بالسیرة کثیرة، سَوَاء فِی علم الأُصُول وفی علم الفقه؛ ففی علم الأُصُول نلاحظ أن من أهم الأَدِلَّة الَّتِی یستدل بها عَلَیٰ حُجِّیَّةِ أهمّ الأمارات (کالظهور وخبر الثقة وهما أهم أمارتین فِی الفقه) إِنَّمَا هو السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة کما یستدل بها عَلَیٰ أمارات أخری أَیْضاً، وفی الفقه أَیْضاً شاع الاستدلال بالسیرة فِی کثیر من الفروع والمسائل الفقهیة، خُصُوصاً فِی مثل أبواب المعاملات الَّتِی یکون للعقلاء تقنین فیها، فیتمسک بالسیرة لإثبات کثیر من النکات، بل الملحوظ هو اتّساع دائرة الاستدلال بالسیرة بالتدریج کلما تقلّصت دائرة الاستدلال بالأدلة الَّتِی کان یُعوّل علیها سابقا فِی الفقه لإثبات المسلّمات والمرتکزات الفقهیة، ثُمَّ بطلت بعد ذلک فِی علم الأُصُول تلک الأدلةُ والمدارک الَّتِی کان یُعتمد علیها فِی الفقه. فعلی سبیل المثال کان یُعوَّل سابقا عَلَیٰ «الإجماع المنقول» وعلی «الشهرة» وعلی «إعراض المشهور عن الْعَمَل بخبر صحیح» وعلی «عمل المشهور بخبر ضعیف» ونحوها. فکانت هذه القواعد تکفی وتفی للفقیه بإثبات ما أفتی به القدماء من الأصحاب وما هو المسلّم أو المشهور فِی کلماتهم، وکانت تدفع عنه محذور الوقوع فِی ما یتحرّج الفقیهُ نفسیّاً من الوقوع فیه وهو مخالفة ما هو المسلّم فِی کلمات الأصحاب والَّذِی یُعد خلافه غریبا، حیث أن هناک حالة نفسانیة ثابتة فِی نفس الفقیه تمنعه عن مخالفة المسلمات عند الأصحاب، ولذا تری أَنَّهُ کثیراً ما یذکر فِی الفقه بِالنِّسْبَةِ إلی أمرٍ من الأمور أَنَّهُ یلزم منه تأسیس فقه جدید، ویُجعل هذا دلیلا عَلَیٰ بطلان ذاک الأمر، فیقال مثلاً: «لو کانت نتیجة المعاطاة الإباحةُ یلزم منه تأسیس فقه جدید» أو یقال مثلاً: «لو أخذنا بقاعدة لا ضرر فِی المورد الفلانی تأسیس فقه جدید» والَّذِی یظهر من القرائن المحفوفة بکلماتهم ومن سوابق هذا الکلام ولواحقه فِی الموارد المختلفة أَنَّهُ لَیْسَ المقصود بذلک إبطال ذاک الأمر بعمومٍ أو إطلاقٍ أو إجماعٍ، وَإلاَّ لقالوا: إن هذا الأمر ینافی العموم الوارد فِی النصّ الفلانی، أو ینافی إطلاق النص الفلانی، أو ینافی الإجماع، بل الظاهر أن مقصودهم بذلک دعوی ما هو أقوی من الإجماع، وهو أن الالتزام بذاک الأمر عَلَیٰ أساس الدَّلِیل الفلانی یستلزم الالتزام بعدّة أمور یکون الالتزام بمجموعها خلاف الضرورة الفقهیة وما هو المسلّم عند الأصحاب، وخلاف ما هو مقطوع به لغایة وضوحه، ولا یمکن التفصیل بین بعض تلک الأمور والبعض الآخر؛ لأن کُلّهَا من وادٍ واحد، ونسبة الدَّلِیل الفلانی إلی کُلّ هذه الأمور عَلَیٰ حد سَوَاء، فنستکشف من ذلک إجمالاً بطلان ذاک الدَّلِیل الفلانی وظهور خلافه عند الأصحاب بنحو یُعدّ ذلک الأمر فقهاً جدیداً عَلَیٰ الأصحاب لم یعهدوه.

ص: 221

وکأنَّ هذه الحالة (أعنی حالة رفض مخالفة المسلّمات عند الأصحاب) موجودة فِی نفوس علماء فقهاء الْعَامّة أَیْضاً بِالنِّسْبَةِ إلی مسلمات عصر الصحابة مثلاً، فیرون مخالفة ما کان مسلّماً فِی عصر الصحابة شیئا لا یقبله الطبع.

ومن هنا یقع الفقیه فِی حرج عندما یصل بحسب مُقْتَضَیٰ الأَدِلَّة والقواعد إلی خلاف ما هو المسلّم عند الأصحاب، فتقع المنافاة عنده بین تلک الحالة النفسیة وهی حالة التحرّج من مخالفة المسلّمات عند الأصحاب وبین الأَدِلَّة والقواعد؛ فالحالةُ تزجره وتمنعه عن الإفتاء بالأمر الَّذِی توصّل إلیه فِی ضوء الأَدِلَّة والقواعد، نظراً إلی أَنَّهُ یخالف المسلّمات عند الأصحاب، بینما الأَدِلَّة والقواعد تبعثه نحو الإفتاء بذاک الأمر.

وکأنَّ ما صدر من الْعَامّة من سدّ باب الاجتهاد وحصره فِی الدائرة الرباعیّة وبعض تلامذتهم کان الدافع لهم إلیه فِی الواقع هذه الحالة النفسیة الکامنة فِی نفوسهم، حیث أن سدّ باب الاجتهاد وحصره فِی تلک الدائرة یعالج لهم تلک المشکلة؛ إذ لا تقع مخالفة بعد هذا بین الأَدِلَّة وبین تلک الحالة النفسیّة؛ لأن الأَدِلَّة هی أدلة الفقهاء الأربعة عَلَیٰ الأحکام، والفقهاء الأربعة لم یخالفوا مسلّمات الصحابة مثلاً، فأراحهم هذا الْعَمَل (أی: سد باب الاجتهاد) عن لزوم تأسیس فقه جدیدٍ وحکم غریب عَلَیٰ الصحابة انطلاقاً من الأَدِلَّة والقواعد، کما أن هذا الْعَمَل (أی: سد باب الاجتهاد) أراحهم أَیْضاً عن لزوم تأسیس فقه جدید وحکم غریب عَلَیٰ الصحابة، انطلاقاً من حالة عدم المبالاة بالدین؛ إذ کان کثیر منهم لا یبالون بدینهم ولا یتحرّجون من الإفتاء برأیهم وجعل الحکم عند أنفسهم، ولو کان عَلَیٰ خلاف ما هو المسلّم فِی نظرهم عند الصحابة مثلاً.

وَأَمَّا أصحابنا فقهاء الإمامیة رضوان الله علیهم فهو ولله الحمد بعیدون کُلَّ البعد عن هذه الناحیة الثَّانیة (أعنی: تأسیس فقه جدید وحکم غریبٍ مخالفٍ للمسلّمات عند الأصحاب) انطلاقاً من حالة عدم المبالاة بالدین؛ إذ لَیْسَ فِی فقهاء الإمامیة عَلَیٰ الإِطْلاَق مَن یجعل الحکم من عند نفسه، وهذه من نِعَم الله تعالی علیهم ومن برکات أهل البیت علیهم أفضل الصَّلاَة والسلام.

ص: 222

وَأَمَّا الناحیة الأولی (تأسیس فقه جدید وحکم غریبٍ مخالفٍ للمسلّمات عند الأصحاب انطلاقاً من الأَدِلَّة والقواعد) فقد کانوا أَیْضاً بعیدین عنها سابقا؛ لأن أدلّتهم وقواعدهم کانت بنحوٍ یتّسق مع المسلّمات والمشهورات بین الأصحاب وذلک لأن جملةً منهم کان یقول بحجیة الإجماع المنقول، وجملة منهم کان یقول بحجیة الشهرة أَیْضاً، وجملة منهم کان یقول بجبر ضعف سند الخبر بعمل الأصحاب وبوهن الخبر الصَّحِیح سنداً بإعراض الأصحاب، بل تعمّقوا فِی هذا المضمار أکثر من ذلک، فقال بعضهم بانجبار الدِّلاَلَة أَیْضاً بعمل الأصحاب، ویوجد مثل ذلک فِی کلمات الشیخ الأَعْظَم الأنصاری قده (مع أَنَّهُ یقال أَنَّهُ مؤسس صناعة الأُصُول الموجودة بأیدینا الیوم وإن کان الصَّحِیح أن مؤسس الأُصُول بمرحلته المألوفة الیوم هو الوحید البهبهانیّ ( (1) )) فَإِنَّهُ عَلَیٰ سبیل المثال قد یقول: لعل هذا الحدیث دلالته منجبرة بعمل الأصحاب، وقد یقال: إن إطلاق دلیل القرعة إِنَّمَا نعمل به فِی موردٍ عَمِلَ به الأصحاب فیه، ونحو ذلک مِمَّا یوجد فِی کلماتهم.

وهذه المبانی والأدلة والقواعد کانت تدفع عنهم محذور الوقوع فِی مخالفة تلک الحالة النفسیة وتأسیس فقهٍ جدید وحکم غریب مخالفٍ للمسلّمات عند الأصحاب انطلاقاً من الأَدِلَّة والقواعد.

ولکنَّ المتأخرین من الأصحاب رحمهم الله أخذوا یهدمون هذه المبانی والقواعد شیئاً فشیئاً، فقد کان هدم بعضها من قِبَل الوحید البهبهانی ومن بعده الشیخ الأنصاری رحمهما الله سُلَّماً لوصول مَن تأخّر عنهما من الأصحاب إلی نهایة ما یقتضیه هذا المسلک من هدم کُلّ تلک المبانی والقواعد؛ إذ کان التفطّن إلی بطلان بعضها مستدعیاً للتفطّن بالتدریج إلی بطلان ما یشابهه، وکأّنَّ السَّیِّدَ الأُسْتَاذَ الْخُوئِیَّ رحمه الله من أوائل مَن بَنی عَلَیٰ عدم انجبار ضعف السَّنَدِ (فضلاً عن الدِّلاَلَة) بعمل الأصحاب، وعدم وهن صحّة السند بإعراضهم.

ص: 223


1- (1) - راجع فِی ذلک المعالم الجدیدة.

وقد کانوا فِی أوائل أیام الشروع فِی إبطال هذه المبانی والقواعد یبطلونها فِی «الأُصُول» ولکن یتمسّکون بها فِی «الفقه»، ولذا کان یُشکَل علیهم بأن «الإجماع المنقول» مثلاً أصبح فِی «الأُصُول» فیرجحه ولٰکِنَّهُ فِی «الفقه» حجة وتری الشیخ الأَعْظَم الأنصاری رحمه الله یجعل لمثل الإجماع المنقول أثراً مهمّاً فِی الفقه والإفتاء مع إبطاله إیّاه فِی الأُصُول.

وواقع المطلب هو أن الدافع لهم فِی الحقیقة إلی الإفتاء بعدّة من الفتاوی والأحکام الَّتِی یتراءی أنهم استندوا فیها إلی أدلّةٍ من قبیل «الإجماع المنقول» و«الشهرة» ونحوها إِنَّمَا هو عبارة عن تلک الحالة النفسیة المذکورة الَّتِی کانت تمنعهم عن مخالفة المسلّمات عند الأصحاب، ولکنّ التزامهم بالفنّ کان مانعاً عن ظهور ذلک لهم بوضوح وموجباً للاستنکاف من الإفتاء بشیءٍ رغم اعترافهم بعدم اقتضاء الأدلّة والقواعد له، فکان أثر تلک الحالة النفسیة یبرز لهم فِی شکل دلیلٍ من قبیل «الإجماع المنقول» و«الشهرة» ونحو ذلک کی لا یکون إفتاؤهم بتلک الفتاوی والأحکام خروجا عن الفنّ وإفتاءًا بما لا تقتضیه القواعد والأدلة، بینما الدَّلِیل الحقیقی الْوَاقِعِیِّ لهم عَلَیٰ تلک الفتاوی إِنَّمَا هو تلک الحالة النفسیة دون هذه الأَدِلَّة الَّتِی استندوا إلیها (مثل الإجماع المنقول والشهرة ونحوهما) ولذا تراهم ینکرون هذه الأَدِلَّة فِی الأُصُول ویعملون بها ویستندون إلیها فِی الفقه؛ لوجود نفس الدافع السابق والَّذِی کان موجوداً عند مَن تقدّم علیهم ونفس الدَّلِیل الحقیقی الکامن فِی النفس، فکأن واقع الدَّلِیل لم یبطل ولا زال باقیا فِی النفس، وإن بطلت الأدلّةُ الصوریة الَّتِی کانت فِی الحقیقة ولیدةً لواقع الدَّلِیل ولتلک الحالة النفسیة.

إلی أن انتهی الأمر بالتدریج إلی جعل ما فِی علم الأُصُول الجدید من إبطال هذه المبانی مؤثّراً عَلَیٰ الفقه، فتری السَّیِّدَ الأُسْتَاذَ الْخُوئِیَّ رحمه الله یبنی فتاواه فِی الفقه عَلَیٰ ما یقتضیه إنکار الجبر بالعمل وإنکار الوهن بالعمل ونحو ذلک مِمَّا تنقّح فِی الأُصُول.

ص: 224

ولأجل هذه التطوّرات بدأت تلک الحالة النفسیة تظهر فِی مظهر آخر وهو حُجِّیَّة «السِّیرَة» ولذا تری الاستدلال بالسیرة فِی ألسنة المتأخرین عن الشیخ الأَعْظَم رحمه الله کثیراً، بینما هو فِی لسان الشیخ قلیلٌ، ناهیک عَمَّا قبله.

هذا هو معنی ما قلناه من اتّساع دائرة الاستدلال بالسیرة بالتدریج کلّما تقلّصت دائرة الاِسْتِدْلاَل بالأدلة الَّتِی کان یعوّل علیها سابقاً فِی الفقه لإثبات المسلّمات والمرتکزات الفقهیة ثُمَّ بطلت بعد ذلک فِی علم الأُصُول مثل الإجماع المنقول والشهرة والجبر بالعمل والوهن بالإعراض ونحو ذلک.

ومن هنا فقد اشتدّت الحاجة إلی بحث «السِّیرَة» بعد أن بطلت تلک المدارک الفقهیة، وَأَمَّا الإجماع المحصّل واتفاق الکلّ، فدعوی القطع به لیست بأهون من دعوی القطع بالحکم ابتداءً.

ومن هنا أصبحنا بحاجة ماسة الیوم إلی بحث وافٍ فِی نفس دلیلیّة «السِّیرَة» قبل استعمالها کدلیل لإثبات غیرها بها، وفی شروط هذه الدلیلیة ونکاتها حتَّی نکون عَلَیٰ بصیرة ورؤیة واضحة منها من حیث کیفیة الاستدلال بها، وأنه متی یکون الاستدلال بها صحیحاً؟ ومتی لا یکون؟

ومن أجل ذلک رأی سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ رحمه الله أن من الضروری عقد بحث مستقل فِی علم الأُصُول عن «السِّیرَة» بعنوانها، وهذا هو الصَّحِیح، وهو الَّذِی قام به رحمه الله فِعْلاً؛ فقد عقد بحثاً رائعاً عن السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة والمتشرعیة أبرز فیه الأسس والقوانین والنکات الَّتِی یبتنی الاِسْتِدْلاَل بالسیرة عَلَیٰ أساسها کما سوف نری ذلک إن شاء الله تعالی.

فحطّت «السِّیرَة» بفضل هذا البحث البدیع الرفیع قوائمها عَلَیٰ أسس متینة وقوانین رصینة ونکات جمّة، فهو بحث جدید تماماً عَلَیٰ علم الأُصُول، لا تجد أصولیّاً طرقه من قبل، وکم له رحمه الله فِی «الأُصُول» من مثل ذلک من الأبحاث القیّمة والجواهر الثمینة والدرر المضیئة الَّتِی تبهر العقول، مَلأَ بها مدرستَه الأصولیة الفریدة.

ص: 225

ولا غرو، فهو ذاک الأُصُولِیّ العملاق الَّذِی أسّس هذه المدرسة الأصولیة الرصینة وهذا البنیان الأُصُولِیّ الشامخ والمرصوص الَّذِی فاق المدارسَ الأصولیة الأخری دقّةً واستیعاباً وإبداعاً مِمَّا یجعلنا نعتبر المرحلة الَّتِی وصل إلیها مستوی هذا العلم عَلَیٰ یدیه رحمه الله طفرةً حقیقیةً وقفزةً نوعیة متمیّزة فِی هویّتها عَلَیٰ من المراحل السابقة لهذا العلم.

فلَئِن کان عصر الوحید البهبهانی ومن بعده الشیخ الأنصاری رحمه الله هو عصر کمال علم الأُصُول، فالعصر الَّذِی دخل فیه علم الأُصُول عَلَیٰ ید سَیِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِیدِ رحمه الله هو عصر قمّة کماله وذروة تمامه. فلله درّه وعلیه أجره.

ولندخل الآن فِی بحث «السِّیرَة» والکلام حولها یقع فِی جهات عدیدة:

الجهة الأولی: فِی أقسام السِّیرَة.

الجهة الثَّانیة: فِی کیفیة الاستدلال بها عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ.

الجهة الثَّالثة: فِی تخصیص الحکم الشَّرْعِیّ الَّذِی یثبت بسیرة المتشرعة.

الجهة الرابعة: فِی حدود إمضاء الشَّارِع علیه السلام لسیرة العقلاء.

الجهة الخامسة: فِی الفوارق بین «سیرة العقلاء» و«سیرة المتشرّعة».

وفیما یلی نَتَحَدَّثُ عن هذه الجهات تباعاً.

: أقسام السِّیرَةِ/السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: أقسام السِّیرَةِ/السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

السِّیرَة

الجهة الأولی من الجهات الَّتِی لا بد من البحث عنها فِی باب السِّیرَة عبارة عن البحث عن أقسام السِّیرَة؛ فَإِنَّ السِّیرَة یمکن تقسیمها إلی ثلاثة أقسام:

القسم الأَوَّل: السِّیرَةُ الَّتِی تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وصغراه، فلا یُراد بها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ نفسِهِ، ولا یُرَاد بها تنقیح ظُهُور الدَّلِیلِ الشَّرْعِیِّ فِی الْحُکْمِ.

ص: 226

القسم الثَّانِی: السِّیرَةُ الَّتِی تُنَقِّحُ فهمَنا للدلیل الدَّال عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ والظهورَ الدَّالَ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، ولا یُرَاد به إثبات مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، ولا یُرَاد به أَیْضاً إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ نفسه؛ فَإِنَّ للدَّلِیلَ الشَّرْعِیَّ دلیلُه، وَإِنَّمَا فهمنا لذاک الدَّلِیل یُثبت بِالسِّیرَةِ.

القسم الثَّالِث: السِّیرَةُ الَّتِی یُراد بها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ نفسه، أی: هی الدَّلِیل عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ.

فنلاحظ أنَّ هذه الأقسامَ الثَّلاَثةَ تختلف عن بعضها تماماً، ولکل واحد منها نحو أو أنحاء نبدأ فیما یلی بشرحها وتوضیحها:

أَمَّا القسم الأَوَّل: فهو عَلَیٰ نحوین:

النَّحْوُ الأَوَّل: أَنْ تَکُونَ السِّیرَةُ موجِدةً ثُبُوتاً للموضوع؛ أی: تُحَقِّق الْمَوْضُوعَ ثُبُوتاً.

النحو الثَّانِی: أَنْ تَکُونَ السَّیْرةُ کاشفةً إِثْبَاتاً عن وجود الْمَوْضُوع.

أَمَّا النحو الأَوَّل: فَالسِّیرَةُ فِی هذا النَّحْو تَتَصَرَّفُ وَتَتَدَخَّلُ فِی الْمَفْهُومِ والعنوانِ الَّذِی أُخِذ مَوْضُوعاً للحکم الشَّرْعِیِّ،کالسِّیرَةِ القائمةِ عَلَیٰ الإنفاق عَلَیٰ الزَّوْجَةِ بمستویً مُعَیَّنٍ، بحیث لو أنفق الزوجُ علیها بأقل من هذا المستوی لم یکن مصداقاً لِلإِمْسَاکِ بِالْمَعْرُوفِ فِی الآیة الکریمة {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاکٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِیحٍ بِإِحْسَانٍ

}( (1) ) أو مِصْدَاقاً لِلْمَعْرُوفِ فِی الآیة {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ

}( (2) )؛ فَإِنَّ الدَّلِیلَ الدَّالَّ عَلَیٰ وجوبِ النَّفَقَةِ عَلَیٰ الزَّوْجَةِ لَمْ یُبَیِّن مقدارَ النَّفَقَةِ ولا نوعَها ولا حدودَها، وَإِنَّمَا دَلَّ القرآنُ الکریمُ عَلَیٰ وُجُوبِ إمساکِ الزَّوْجَةِ بِالْمَعْرُوفِ أو تسریحها بإحسان. فکیف یتحقق مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الَّذِی هو «الإمساک بِالْمَعْرُوفِ»؟ ومتی یکون الإنفاق علیها إنفاقاً یتحقق به المقدار الواجب؟ فهل یتحقق «الإمساک بِالْمَعْرُوفِ» فِی المأکل برغیف من الخبز والفجل؟ أم هل یتحقق ذلک فِی المسکن بحجرة داخل مضیف أو فندق؟ أم عَلَیٰ عکس ذلک یتحقق «الإمساک بِالْمَعْرُوفِ» فِی المأکل باللحم والرز والفواکه، وفی المسکن بأن یأخذ الزَّوْجُ لها مسکناً خاصاً؟

ص: 227


1- (1) - سورة البقرة (2): الآیة 229.
2- (2) - سورة النساء (4): الآیة 19.

للإجابة عن هذا السؤال نأتی إلی الدَّلِیل الشَّرْعِیِّ ونری أَنَّهُ لم یُحَدِّدْ مقدارَ هذا الإنفاق وحدودَه، وبذلک یُفسح المجال أمام السِّیرَةِ لتُشخِّصَ وتُحدِّدَ أنَّ هذا المعروف عبارة عَمَّا هو المتعارف بین النَّاس. فإذا کانت السِّیرَة المتعارفة فی «الإمساک بالمعروف» فِی المسکن قبل قرونٍ شَیْئاً بسیطاً یقتصر فِی إسکان الزَّوْجَةِ فِی حجرةٍ واحدةٍ للظروف الاقتصادیة أو لظروف أخری، لکن شَیْئاً فشیئاً تغیرت الأزمنة ومن فیها وباتت السِّیرَةُ المتعارفة بین الناس عَلَیٰ أن «الإمساک بالمعروف» فِی المسکن عبارة عن بیت وبعض الکمالیات، ولا ننسی أن الأماکن لها دخل فِی السِّیرَة، فالقریة عَلَیٰ سبیل المثال أبسط من المدینة من ناحیة الإمکانیات و..

إذن، فالمهمّ أنّ السِّیرَةَ هنا نَقَّحَتْ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، وإذا تَنَقَّحَ الْمَوْضُوعُ یثبت الحکمُ الشَّرْعِیُّ؛ فإِنَّ الحکمَ یتبع الْمَوْضُوعَ (أی: الشَّارِع أوکلَ الحکمَ إلی الْمَوْضُوع وَالْمَوْضُوعُ مَوْضُوعٌ یمکن للعرف أن یتدخَّل فِی تشخیص مصداقه).

وَأَمَّا النحو الثَّانِی (أَنْ تکشف السِّیرَةُ إِثْبَاتاً عن وجود الموضوع وثبوته): فمعنی السِّیرَة فیه أنها لا تَتَصَرَّفُ ولا تَتَدَخَّل فِی الْمَوْضُوع والعنوان المأخوذ مَوْضُوعاً فِی الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ ولا تدخل فِی تکوینه وإیجاد فردٍ ومصداقٍ له، وَإِنَّمَا تکشف السِّیرَةُ عن وجود هذا الْمَوْضُوع. وإلی هذا النَّحْوِ من السِّیرَةِ یرجع أغلب البناءاتِ الْعُقَلاَئِیَّةِ الَّتِی یُراد بها تحلیل مرتکزات المتعاملین ومقاصدهم النَّوْعِیَّة فِی المعاملات. ونذکر کمثال عَلَیٰ ذلک تلک السِّیرَةَ القائمةَ عَلَیٰ اشتراط عدم الْغَبْن فِی المعاملة بحیث یکون هذا الاشتراط مَفْهُوماً ضمناً (وإن لم یُصرَّح فِی العقد مِنْ قِبَلِ المتعاملین ولٰکِنَّ هذا الشَّرْطَ موجود فِی ارتکاز الطرفین)، وهذه سیرةٌ تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ إِثْبَاتاً (ولیس ثُبُوتاً کما فِی النَّحْو الأَوَّل)، أی: یکشف عن أن مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ ثابت؛ لأَنَّ الْحُکْمَ الشَّرْعِیَّ الَّذِی ثبت بِالدَّلِیلِ هو النبوی صلی الله علیه وآله وسلم «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» وهذا مَا نُسَمِّیهِ فِی کتاب المکاسب ب_«خیار الشَّرْطِ»( (1) ). فإذا فرضنا أن البناء الْعَامّ لدی الْعُقَلاَء هو أنهم لا یرضون بأن تَفُوتَهُمْ مالیةُ مالٍ، بل یرضون بأن یُعَوَّضَ شَخْصُ المالِ بمال آخر مساوٍ له فِی الْمَالِیَّةِ أو إذا اختلف عنه فِی الْمَالِیَّةِ یکون الاختلاف والفارقُ بَسِیطاً جِدّاً. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه. إذن، المساواة بین المالیتین شرطٌ ضمنیٌّ فِی المعاملات، وإن لم یصرح بها العقلاءُ.

ص: 228


1- (3) - فالحکم هنا هو ثبوت الخیار وَالْمَوْضُوع هو اشتراط الخیار. أی: إذا اشترطتَ خیار الْغَبْن فِی العقد فَسَوْفَ یثبت لک هذا الخیار، أی:هذا الحکم یثبت عَلَیٰ هذا الموضوع.

هنا نقول: إِنَّ هذا البِناءَ الْعُقَلاَئِیَّ یوجب ظُهُوراً حَالِیّاً وَنَوْعِیّاً فِی أنهما قد اشترطا ضمناً المساواةَ فِی المالیتین عُرْفاً (أی: اشترط أحدهما عَلَیٰ الآخر أن لا یکون الاختلاف فاحشاً، أی: اشترطا عدم الْغَبْن)، فَالسِّیرَةُ کشفت هنا عن أن شرط «عدم الْغَبْن» موجودٌ فِی المعاملة، والدلیل دَلَّ عَلَیٰ أَنَّهُ متی ما اشترط «عدم الْغَبْن» فالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (أی: نَقَّحَتْ وأثبتت السِّیرَةُ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، بِمَعْنَی أَنَّهَا کشفت عَنْ أَنَّ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ (اشتراط الخیار) موجود فِی هذا الحکم الشَّرْعِیّ (وهو ثبوت الخیار).

ویترتب عَلَیٰ ما ذکرناه من الفرق بین هذین النحوین من السِّیرَة أثرٌ مهمٌّ فِی مقام استنباط الفقیه الحکمَ الشَّرْعِیَّ فِی حق الإنسان الَّذِی یشذُّ عن هذه السِّیرَة ویخالف الآخرین فِی مورد مُعَیَّنٍ؛ فَإِنَّ موقف الفقیه فِی حق هذا الإنسان فِی النَّحْو الأَوَّل یختلف عن موقفه تجاهه فِی النَّحْو الثَّانِی، أی: یختلف حکم الشذوذ عن النَّحْو الأَوَّل عن حکم الشذوذ عن النَّحْو الثَّانِی؛ فَإِنَّ بالإمکان أن یشذ بعض النَّاس عن النَّحْو الأَوَّل کما یمکن أن یشذ بعض النَّاس عن النَّحْوِ الثَّانِی (بأن یقول: إننی أوفِّر للزوجة هذا المستوی الأدنی من وسائل الراحة وإن کان هذا المستوی مخالفاً لسیرة النَّاس والمتعارف بینهم). هنا یظهر الفارق بین النحوین حیث أن موقف الفقیه تجاه الإنسان الأَوَّل (الَّذِی شذ عن السِّیرَة بالنحو الأَوَّل) یختلف عن موقفه تجاه الإنسان الثَّانِی (الَّذِی شذ عن السِّیرَة بالنحوِ الثَّانِی)؛ فَإِنَّ شذوذَ الإنسان الأَوَّل (الَّذِی شذ عن السِّیرَة الموجِدة للموضوع) لا یُؤَثِّرُ فقهیّاً فِی فاعلیّةِ هذه السِّیرَةِ؛ لأننا قلنا: إن السِّیرَة توجِد فرداً حقیقیاً للموضوع. إذن یجب عَلَیٰ الزَّوْجِ الَّذِی یرید امتثال الحکمِ الشَّرْعِیِّ حقیقةً أن یُنفق عَلَیٰ زوجته بهذا المستوی المتعارف الیوم، فلو أنفق علیها بالمقدار الأقل لم یمتثل الحکم (وهو الإمساک بِالْمَعْرُوفِ) حتَّی وإن کان شاذاً ویخالف الآخرین فِی هذه السِّیرَة، ولکن هذه السِّیرَة عَلَیٰ أی حال حققت الفردَ الحقیقیَّ لموضوع الإنفاق؛ إذ یجب علیه أن یوجِدَ الفردَ الحقیقیَّ للإنفاق، ولیس الفرد الادّعائیّ الشاذ الَّذِی یدّعیه.

ص: 229

وَالْحَاصِلُ أَنَّ شذوذَ الإنسان الأَوَّل لا یؤثر فِی فاعلیة هذه السِّیرَة وَإِنَّمَا تؤثر هذه السِّیرَة أثَرَها وتوجِد فرداً حقیقیاً لموضوعِ الحکمِ الشَّرْعِیِّ. فعلی هذا الإنسان الشاذ (إذا کان ملتزماً بالشَّریعة) أن یمتثل الحکمَ الشَّرْعِیَّ امتثالا بهذا النَّحْو فقط ولیس أقل من ذلک، ولو کان هو من المخالفین لهذه السِّیرَة؛ فَإِنَّ مخالفتَه لا تغیِّر الحکمَ الشَّرْعِیَّ، وهذا بخلاف النحو الثَّانِی، فإن الشذوذ والمخالفة یؤثر فِی حکم هذا الشخص، کما سوف نری ذلک إن شاء الله غداً. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه.

أقسام السِّیرَةِ/السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: أقسام السِّیرَةِ/السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نَتَکَلَّمُ فِی الْقِسْمِ الأَوَّلِ مِنَ السِّیرَةِ وهی الَّتِی تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وتحقق فَرْداً حَقِیقِیّاً لِمَوْضُوعِ الْحُکْمِ وَذَکَرْنَا أَنَّهَا عَلَیٰ نحوین؛ إذ تَارَةً تُنقِّح مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ ثُبُوتاً وأخری تُنقِّح موضوعَه إِثْبَاتاً. وذکرنا الفرق بین هذین النحوین، ثُمَّ انتهینا إلی آثار هذا الفرق، فذکرنا الأَثَرَ الأَوَّلَ وهو أن شذوذ الإنسان عن السِّیرَة بِالنَّحْوِ الأَوَّل لا یرفع عنه الحکمَ الشَّرْعِیَّ الثابت عَلَیٰ ذاک الْمَوْضُوع الَّذِی نَقَّحَتْ هذه السِّیرَةُ وجودَه وفرده حَقِیقَةً ووجداناً.

وهذا أثر مهم فِی مقام استنباط الفقیه للحکم الشَّرْعِیّ بشأن هذا الإنسان، فالفقیه یفتیه أنک وإن کنت مخالفاً للسیرةِ ورافضاً لها ولکن هذه السِّیرَةَ أوجدتْ عندکَ فَرْداً حَقِیقِیّاً من موضوع الحکم الشَّرْعِیّ، وَبِالتَّالِی أنت أحرزتَ الْمَوْضُوعَ الشَّرْعِیَّ، أی: أنت تقبل بأن سیرة الناس قائمة الیوم عَلَیٰ أن إمساک الزوجة والإنفاق علیها بالمعروف مثلاً هو أن یأخذ لها بیتاً خاصاً ویؤمن لها المأکل والمشرب والملبس المناسب لشؤونها فِی هذا العصر، ولیس ما کان یعتبر إنفاقاً بالمعروف قبل قرون، فیفتی الفقیه حِینَئِذٍ بوجوب اتّباع السِّیرَة.

ص: 230

وهذا بخلافِ الإنسان الَّذِی یشذ عن السِّیرَةِ الکاشفة عن وجود الْمَوْضُوعِ (أی: النَّحْوِ الثَّانِی)؛ إذ أن نتیجة السِّیرَةِ لیست ملزمة له، وقد مثّلنا له بِالسِّیرَةِ القائمةِ بین المتعاملین فِی عُرف الناس عَلَیٰ أَنَّهُم یشترطون «عدم الْغَبْن» بنحو الاشتراط الضمنی. فلو أن متبایعین بَنَیَا عَلَیٰ رفض هذه السِّیرَة ومخالفتها، وأقدما عَلَیٰ المعاملة مِنْ دُونِ أن یشترطا ضِمْناً ما یشترطه الناسُ (من عدم الغبن) فَحِینَئِذٍ لا یثبت الحکمُ بشأنهما؛ فَإِنَّ الحکم الَّذِی کان ثابتاً عَلَیٰ الْمَوْضُوع عبارة عن وجوب الوفاء بِالشَّرْطِ (= الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ)، بینما لم یشترط هذان الشخصان «عدمَ الْغَبْن»، فلا یثبت علیهما الحکم ب_«الْمُؤْمِنِینَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»، فلا یثبت لأی واحد منهما خیارُ الشَّرْط (فإِنَّنَا فِی هذا الفرض أرجعنا خیارَ الْغَبْن إلی خیار الشَّرْط).

وکذلک لو فرضنا أنَّ المشتری وحده رفض هذه السِّیرَةَ فأقدم عَلَیٰ شراء هذه السلعة بأی سعرٍ کان، باعتبار أن حاجته إلی هذه السلعة شدیدة، فأقدم عَلَیٰ هذه المعاملة ولو کانت غبنیةً. ومعنی ذلک أَنَّهُ رفع یده عن ذاک الارتکاز الموجود لدی العقلاء المتقدم وهو أن الْعُقَلاَء یبنون فِی معاملاتهم عَلَیٰ عدم رفع الید عن مالیة مالهم إلا بمالیةٍ مساویة له أو بأقل منها بقلیل؛ فلا یثبت بشأنه خیار الفسخ؛ لأن السِّیرَةَ (فِی هذا النَّحْو الثَّانِی) لا تُحمِّلُه الخیار؛ لأَنَّ دور هذه السِّیرَة هو الکشف عن قصد المرء وهذا المتبایعُ لم یشترط عدمَ الْغَبْن، فانتفی موضوع الحکم (وهو اشتراط الخیار)، فانتفی الحکم (وهو الخیار) أَیْضاً.

هذا هو الأثر الأَوَّل من آثار الفرق بین هذین النحوین من السِّیرَة فِی الْقِسْمِ الأَوَّلِ.

الأثر الثَّانِی: هو أنَّ هناک فارقاً جَوْهَرِیّاً بین الحکمِ الَّذِی یستنبطه الفقیهُ مبنیّاً عَلَیٰ النَّحْوِ الثَّانِی من السِّیرَةِ وبین الحکم الَّذِی یستنبطه بمعزل عن هذا النَّحْو الثَّانِی مِنَ السِّیرَةِ. فعلی سبیل المثال نذکر مثال «خیار الغبن» المتقدم الَّذِی ذکرناه کمثال فِی النَّحْو الثَّانِی مِنَ السِّیرَةِ فنقول: لقد تعلمنا فِی کتاب «المکاسب» أن هناک طریقین أمام الفقیه لاستنباط خیار الغبن للمتعامل المغبون (بائعاً کان أم مشتریاً):

ص: 231

الطریق الأَوَّل: هو الطریق الَّذِی سلکناه وهو عبارة عن إثبات خیار الْغَبْن بإرجاعه إلی خیار الشَّرْط، بحیث یکون خیار الغبن أحد مصادیق خیار الشَّرْط. أی: هناک خیار ثابت فِی الشَّرِیعَة اسمه «خیار الْغَبْن» ودلیله هو «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»، أی: کُلّ من اشترط شرطاً فِی المعاملة فله خیار فسخ المعاملة إذا تخلف الشَّرْط.

فتکون السِّیرَةُ فِی هذا النَّحْو الثَّانِی (مِنَ السِّیرَةِ الکاشفة عن الْمَوْضُوع) قائمة عَلَیٰ أن کُلّ عاقد لا یرفع یده عن مَالِیَّة ماله، فهذا معناه أن کُلّ عاقد یشترط ضمناً فِی المعاملة أن لا یکون مغبوناً غبناً فاحشاً من حیث الْمَالِیَّةِ، وَحَیْثُ أَنَّ الظاهر أن هذین المتعاملین عاقلان أَیْضاً وماشیان عَلَیٰ ممشی الْعُقَلاَء فِی مقاصدهم المُعاملیة والتی من جملتها عدمُ رفع الید عن مَالِیَّة المال، إذن ینعقد للمشتری مثلاً ظهور حالی عرفی فِی أن ظاهر حاله أَنَّهُ اشترط خیارَ الْغَبْن، فیشمله قوله صلی الله علیه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ». فیکون له خیار فسخ المعاملة عند الْغَبْن باعتبار أَنَّهُ قد اشترط فِی المعاملة ضِمْناً أن لا یقع مَغْبُوناً والدلیل قال: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».

والفقیه إذا سلک هذا الطریق لإثبات خیار الْغَبْن، وواجه إنساناً قد شذَّ عن الآخرین برفع یده عن مَالِیَّة ماله بما لا یساوی ماله أو یضاهیه قیمةً، بل دفع أضعافاً مضاعفةً من المال لأجل سلعةٍ رخیصةٍ. فهذا معناه أَنَّهُ لم یشترط الخیار لنفسه، وَحِینَئِذٍ لا یثبت له خیار الشَّرْط، رغم کونه مَغْبُوناً؛ لأننا أثبتنا خیار الْغَبْن عن طریق الشَّرْط وهذا الشَّرْط مفقود هنا؛ لأَنَّهُ لم یشترط فِی المعاملة، فلیس له خیار، وإن کان مَغْبُوناً، ولکن الْغَبْن لَیْسَ له مَوْضُوعِیَّة فِی نفسه، وَإِنَّمَا نعتبره فیما إذا اشترط فِی المعاملة عدمُ الْغَبْن، فإذا لم یشترط فیها عدم الْغَبْن فلا تکون للغبن خصوصیة، فلا یکون له الخیار حتَّی لو وقع مَغْبُوناً.

ص: 232

الطریق الثَّانِی: أن نثبت خیار الْغَبْن لا من باب أن البائع أو المشتری اشترطا عدمَه ضِمْناً، بل کان دلیلنا عَلَیٰ إثبات خیار الْغَبْن دلیلاً آخر کالسیرة (من النَّوْع الثَّالِث وهی السِّیرَة المشرِّعة للحکم والتی تُثْبِتُ الحکمَ الشَّرْعِیّ رأساً) أو کدلیل لفظی أو دلیل لبی آخر دَلَّ عَلَیٰ أَنَّهُ یجب أن لا یکون المشتری أو مَغْبُوناً. والمهمّ أن خیار الْغَبْن فِی هذا الطریق خیار شرعیّ ولیس بإرجاعه إلی خیار الشَّرْط، سَوَاء اشترط فِی المعاملة «عدم الخیار» أم لم یشترط فیها، فیکون خیار الغبن ثابتاً حتَّی لمن شذ عن عُرف النَّاس؛ لأَنَّه ثابت له شَرْعاً ولیس بإرجاعه إلی خیار الشَّرْط حتَّی نقول بأنه لم یشترط عدم الْغَبْن (لا ضِمْناً ولا صریحاً).

فهذان نحوانِ من السِّیرَة من القسم الأَوَّل وهی السِّیرَة المنقِّحةُ للموضوعِ.

وَحِینَئِذٍ نقول: یَتَرَتَّبُ عَلَیٰ القسم الأَوَّل بکلا نحویه أثران:

الأَوَّل: أَنَّ حُجِّیَّةَ هذه السِّیرَةِ عَلَیٰ القاعدة ولا نحتاج إلی فتح بحثٍ عن أن هذه السِّیرَة (بکلا نحویها) هل هی حجة أم لا؟ لأن دور هذه السِّیرَة إِنَّمَا هو دور إحراز الْمَوْضُوع. أی: یحرز الْمُکَلَّفُ ویقطع بأنَّ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ موجود وثابت. وَحِینَئِذٍ لا معنی لإفرادِ بحثٍ عن حُجِّیَّةِ القسم الأَوَّل مِنَ السِّیرَةِ؛ لأَنَّ هذا القسم مِنَ السِّیرَةِ لا یرید أن یثبت الحکمَ الشَّرْعِیَّ حتَّی تقولوا: کیف یثبتُ الحکمُ الشَّرْعِیُّ بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة؟ بل الحکم الشَّرْعِیّ هنا ثابت بدلیله وَإِنَّمَا السِّیرَة هذه تحرزُ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، وَحِینَئِذٍ یأتی الحکم الشَّرْعِیُّ ویحمل عَلَیٰ هذا الْمَوْضُوع. إذن، إن حُجِّیَّة هذه السِّیرَة ترجع إلی حُجِّیَّة إحراز الحکم الشَّرْعِیِّ، بأن الْمُکَلَّف إذا أحرز مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ فهل یکون إحرازُه حُجَّةً علیه أم لا؟ بالتأکید حجةٌ علیه وهذا لا یحتاج إلی بحث آخر.

ص: 233

وَثَانِیاً: لطالما أن حُجِّیَّة هذا القسم الأَوَّل عَلَیٰ القاعدة فلا یُشترط فِی حجیّتها أَنْ تَکُونَ هذه السِّیرَة معاصرة للمعصوم علیه السلام، بخلاف القسم الثَّانِی والثالث مِنَ السِّیرَةِ، بل تَتَوَقَّف عَلَیٰ أَنْ تَکُونَ هذه السِّیرَةُ موجودةً الیوم. وهذا ما نشرحه إن شاء الله یوم السبت.

السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کان الکلام فِی الْقِسْمِ الأَوَّل من أقسام السِّیرَة وهو عبارة عن السِّیرَة الَّتِی تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، بکلا نحویها سَوَاء الَّتِی توجد الْمَوْضُوع أو الَّتِی تکشف عن وجود الْمَوْضُوع. وقلنا: یَتَرَتَّبُ عَلَیٰ هذا القسم الأَوَّل مِنَ السِّیرَةِ:

أوَّلاً: أن حُجِّیَّة هذه السِّیرَة عَلَیٰ القاعدة ولا تحتاج حُجِّیَّتُهَا إلی بحث؛ فَإِنَّ المفروض أن هذه السِّیرَة تُحرز لِلْمُکَلَّفِ الموضوعَ الشَّرْعِیَّ (أی: توجب له القطع والقطع بموضوع الحکم الشَّرْعِیّ حجةٌ کما تَقَدَّمَ فِی بحث القطع)، فلا یوجد بحث آخر هنا.

وَثَانِیاً: أَنَّهُ لا یشترط فیها أَنْ تَکُونَ معاصرةً لعصر حضور الْمَعْصُوم علیه السلام، بل حتَّی لو کانت هذه السِّیرَةُ حادثةً بعد عصر الْمَعْصُوم تکون حجةً، وکونها معاصرة لعصر الْمَعْصُوم الحاضر لَیْسَ له دخل فِی حُجِّیَّة هذه السِّیرَة؛ وَذَلِکَ لأَنَّ وظیفةَ هذه السِّیرَة لیست هی الکشف عن أصل الحکم الکلیّ الشَّرْعِیّ کی یقال: إن سیرة الْعُقَلاَء المتأخرین عن عصر حضور الْمَعْصُوم علیه السلام کیف یستکشف بها الحکم الشَّرْعِیّ، بل یُراد بها تنقیح مَوْضُوعِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ کما عرفتم. إذن، اللازم فِی هذه السِّیرَة هو ملاحظةُ وجودها فِی الزمان الَّذِی یُراد إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ فیه (أی: زمان الْمُکَلَّف).

بل نقول أکثر من ذلک: لو ثبتت سیرةٌ تُنَقِّحُ مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وکانت معاصرةً لزمان الْمَعْصُوم ثُمَّ انتفت وزالت تلک السِّیرَة وانتهی أثرها وسقطت ولم تعد موجودة الیوم، فتلک السِّیرَة الموجودة فِی زمن الْمَعْصُوم سقطت عن مجال الاستنباط؛ لأنها لم تعد حِینَئِذٍ منقِّحة ومحرِزةً للموضوع فِی زماننا. إذن، فالحجة هی السِّیرَة الفعلیة فِی الْقِسْمِ الأَوَّل.

ص: 234

هذا تمام الکلام فِی الْقِسْمِ الأَوَّل.

وأَمَّا القسم الثَّانِی مِنَ السِّیرَةِ فهو السِّیرَة الَّتِی تُنَقِّحُ ظهورَ الدَّلِیلِ وفهمَنا لِلدَّلِیلِ (فلیس دورها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ ولا إثبات الْمَوْضُوع) وذلک من قبیل المناسبات الْعُرْفِیَّة والبناءات والارتکازات العُقلائیة الَّتِی تُنَقِّحُ فهمَنا للأدلة والنصوص الشَّرْعِیَّة؛ فإننا سوف نُبَیِّن فِی بحث حُجِّیَّة الظُّهُور إن شاء الله تعالی أن المرتکزات الْعُرْفِیَّة والبناءات الْعُقَلاَئِیَّة کثیراً مّا تَتَدَخَّلُ فِی تکوین الظُّهُور لِلدَّلِیلِ وَتَتَصَرَّفُ فِی تحقیق دَلاَلَةِ الدَّلِیل عَلَیٰ معنی مُعَیَّنٍ وتُشَکِّلُ قرائنَ لُبِّیَّةٍ مکتنفة بِالدَّلِیلِ (أی: غیر متصلة بالخطاب) کالقرائن اللَّفْظِیَّة الْمُتَّصِلَة بِالدَّلِیلِ الَّتِی تَتَصَرَّفُ فِی ظهور الدَّلِیل وَتُحَدِّدُ ظهورَ الدَّلِیل وَتُحَدِّد المراد من الدَّلِیل، وتوسِّعُ الدَّلِیل أو تضیق الدَّلِیل، أو تغیر الدَّلِیل من معنی إلی معنی آخر، کما سوف تأتی الأمثلة لها.

وحجیة هذا القسم مِنَ السِّیرَةِ أَیْضاً کالقسم الأَوَّل ثابتةٌ عَلَیٰ القاعدة ولا تحتاج إلی البحث، وذلک بعد الفراغ عن أصل حُجِّیَّة الظُّهُور؛ لأَنَّ هذه السِّیرَة تُنَقِّحُ الظُّهُورَ وحجیة الظُّهُور تثبت فِی بحث حُجِّیَّة الظُّهُور، فلا نحتاج إلی بحث آخر لإثبات حُجِّیَّة هذه السِّیرَة.

إذن، مع تَمَامِیَّة الدَّلِیل عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور لاَ بُدَّ من أخذ هذا القسم مِنَ السِّیرَةِ بعین الاعتبار.

مثال هذه السِّیرَة: لنفرض أن الدَّلِیل دَلَّ عَلَیٰ أن «المشتری إذا جاء بالثمن خلال ثلاثة أیام فله، وَإلاَّ فلا بیع بینهما»، فهذا الدَّلِیل إن لم نضمّه إلی ارتکاز عرفی عقلائی وجمدنا عَلَیٰ حاق هذا اللَّفْظ فَسَوْفَ نفهم من هذا الدَّلِیل انفساخ البیع بعد ثلاثة أیام، فلا یبقی بینهما لا بیع لازم ولا بیع متزلزلٌ، فیکون البیع بعد الثَّلاَثة باطلاً.

أَمَّا إذا أخذنا بالارتکاز العرفیّ وأَعْمَلْنَا هذه المناسبةَ الْعُرْفِیَّة عَلَیٰ أن معنی هذه الجملة هو أن «لا بیع لازم بینهما»، ولیس معناه «بطلان البیع وانفساخه»، فَحِینَئِذٍ بإمکانه أن یفسخ البیع باعتبار خیار التأخیر؛ لأَنَّهُ تأخر فِی دفع الثمن، کما له أن یستمر فِی بیعه. فبحسب مرتبة اللزوم لا یوجد بیع بینهما، لا بحسب الصِّحَّة والاقتضاء.

ص: 235

إذن، یُجعل الارتکازُ العرفیّ قرینةً عَلَیٰ أن البیع المنفی فِی قوله «فلا بیع بینهما» إِنَّمَا هو البیع اللازم، ولیس هو البیع الصَّحِیح الجائز.

وهذا القسم مِنَ السِّیرَةِ یختلف عن القسم الأَوَّل مِنَ السِّیرَةِ، وهو أن هذه السِّیرَة بحاجة إلی إثبات معاصرته لزمن التشریع وزمان صدور الدَّلِیل وحضور الْمَعْصُوم علیه السلام (بخلاف القسم الأَوَّل مِنَ السِّیرَةِ) کی تُؤَثِّر عَلَیٰ ظهور الدَّلِیل آنذاک؛ فَإِنَّ ظهور الدَّلِیل حجة فِی زمن التشریع، فیجب علینا أن نعرف معنی ذاک الدَّلِیل فِی ذاک الوقت، وَإلاَّ فلا تُشَکِّلُ هذه السِّیرَة قرینةً لُبِّیَّةً کَالْمُتَّصِلَةِ بالنص، وَبِالتَّالِی لا تؤثر عَلَیٰ ظهور الدَّلِیل فِی عصر صدوره؛ لأنها لم تکن موجودة فِی ذاک العصر ولم تکن معاصرةً لعصر النص، فلا تؤثر عَلَیٰ ظهور الدَّلِیل آنذاک، مع أن الحجیة إِنَّمَا هی لظهور النص فِی عصر صدوره ولیس فِی یومنا هذا.

وَحِینَئِذٍ توجد عندنا صور ثلاث:

الصُّورَة الأولی: أن نقطع بأن هذه السِّیرَة کانت موجودة فِی عصر صدور الدَّلِیل، فتکون حجة بلا خلاف من باب حُجِّیَّة الظُّهُور.

الصُّورَة الثَّانیة: أن نقطع بأن هذه السِّیرَة لم تکن موجودة فِی عصر صدور النص، وَحِینَئِذٍ لا کلام أَیْضاً؛ لأنها سوف لا تعود حجةً من باب حُجِّیَّة الظُّهُور؛ لأنها لم تکن موجودة آنذاک حتَّی تُحدد ظهورَ الدَّلِیل.

الصُّورَة الثَّالثة: أن نَشُکُّ فِی أن هذه السِّیرَة الموجودة فِی زماننا هل کانت موجودة فِی عصر التشریع أَیْضاً لکی تؤثر فِی ظهور الدَّلِیل أم لم تکن موجودة آنذاک؟ فهنا لا یوجد عندنا إلا احتمال وجود هذه السِّیرَة آنذاک.

أقول: هذا الاحتمال أَیْضاً کاف فِی المقام ویمکن الاعتماد علیه؛ وذلک لأننا نعتبر السِّیرَة الموجودة الیوم قرینةً وذلک لوجوه ثلاثة:

ص: 236

الوجه الأَوَّل: أن نقول بأن احتمال وجود هذه السِّیرَة واحتمال ثبوتها فِی عصر التشریع یُشَکِّل احتمالَ وجود القرینة الْمُتَّصِلَة، وفی الموارد المماثلة لا یمکن التَّمَسُّک بالمدلول اللغوی لِلدَّلِیلِ.

الوجه الثَّانِی: أن نُدخلَ المسألةَ تحت کبری أصالة عدم النقل وأصالة الثُّبات فِی اللغة والتی هی حجة فِی باب دلالات الألفاظ؛ فإن هذه السِّیرَة وهذا الارتکاز - کما قلنا - دخیلٌ فِی ظهور الکلام، وهذا معناه أن هذا الکلام لو صدر الآن لکان معناه هذا الشیء المعین، وَأَمَّا لو صدر قبل هذا (فِی عصر النص) فلا ندری ماذا کان معناه؟ لأننا لا ندری هل أن هذه السِّیرَة کانت موجدة آنذاک أم لا؟ فتجری حِینَئِذٍ أصالة عدم النقل ویثبت أن ما هو الظاهر من الکلام الیوم هو منه سابقاً.

الوجه الثَّالِث: أن نغض الطَّرف عن الوجهین السابقین ونقول: بما أن السِّیرَة موجودة لدینا الیوم ونشک أنها کانت موجودة فِی عصر الْمَعْصُوم أو لا، فهناک طرق لإثبات معاصرة السِّیرَة الموجودة الیوم فِی عصر التشریع والنصوص، وسوف نذکرها فِی الجهة الثَّانیة من جهات البحث عن السِّیرَة.

أَمَّا القسم الثَّالِث مِنَ السِّیرَةِ (وهو المهم) فهو السِّیرَة الَّتِی یُراد بها إثبات نفس الحکم الشَّرْعِیّ، لا تنقیحَ موضوعِ الحکم الشَّرْعِیّ ولا تنقیحَ فهمِنا لِلدَّلِیلِ الدَّال عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ. وبالإمکان تقسیم هذا القسم إلی نحوین:

النَّحْو الأَوَّل: السِّیرَة بلحاظ مرحلة الواقع، ونقصد بها السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة القائمة عَلَیٰ تصرفٍ مُعَیَّن وسلوک مُعَیَّن مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء، وهذا السلوک یتخذه الْعُقَلاَءُ کموقفٍ ینبغی اتخاذه فِی مثل هذا المورد.

وبعبارة أخری: السِّیرَة الَّتِی یُرَاد بها إِثْبَاتُ وتنقیحُ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الْوَاقِعِیِّ.

وهذه السِّیرَة هی الَّتِی یقع الاستدلال بها فِی الفقه عَادَةً، سَوَاء کان هذا الحکم الْوَاقِعِیِّ الَّذِی یُرَاد إثباته بِالسِّیرَةِ حُکْماً تَکْلِیفِیّاً أم حُکْماً وَضْعِیّاً.

ص: 237

مثال الأَوَّل (الحکم التَّکْلِیفِیّ): السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة القائمة عَلَیٰ أن التصرف فِی مال الغیر منوطٌ ومشروطٌ بأن یکون بطیب نفسه، وإن لم یأذن لفظاً بالتصرف، فالإذن اللَّفْظِیّ لَیْسَ دخیلاً فِی جواز التصرف فِی مال الغیر، والحکم الشَّرْعِیّ الْوَاقِعِیِّ الَّذِی یُراد إثباته بهذه السِّیرَة عبارة عن جواز التصرف فِی مال الغیر عند إحراز طیب نفسه.

مثال الثَّانِی (السِّیرَة الَّتِی یُرَاد بها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الْوَاقِعِیِّ الوضعی): له أمثلة عدیدة کالسِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة القائمة عَلَیٰ التملک بالحیازة فِی المنقولات؛ فَإِنَّ الحکم الشَّرْعِیّ الْوَاقِعِیِّ الَّذِی یُراد إثباته عن طریق هذه السِّیرَة لَیْسَ حُکْماً تَکْلِیفِیّاً وَإِنَّمَا هو حکم وضعی (أی: الملکیة)، فَیُقَالُ: إن السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة قائمة عَلَیٰ أن من یحوز شَیْئاً من الأموال المنقولة المباحة یکون مالکاً لذاک المال الَّذِی حازَه. فُیستدل بهذه السِّیرَة عَلَیٰ أن من حاز ملک شَرْعاً.

مثال آخر: السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة القائمة عَلَیٰ أن انفساخ المعاملة بسبب تلف المبیع والمُثمن قبل القبض، فیُرَاد بها إثبات الحکمِ الشَّرْعِیّ الْوَاقِعِیِّ الوضعی (الوضعی عبارة عن انفساخ البیع)، فیتمسک بِالسِّیرَةِ لإثبات أن التلف قبل القبض یوجب انفساخ المعاملة وبطلانها شَرْعاً.

ومثال ثالث: السِّیرَة القائمة عَلَیٰ ثبوت خیار الْغَبْن للمغبون (والَّذِی تَحَدَّثْنَا عنه فِی الْقِسْمِ الأَوَّل مِنَ السِّیرَةِ)، فیراد بها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الْوَاقِعِیِّ ولٰکِنَّهُ لَیْسَ حُکْماً تَکْلِیفِیّاً وَإِنَّمَا هو حکم وضعی وهو عبارة عن خیار الْغَبْن. فهذه السِّیرَة قائمة عَلَیٰ أن المغبون (بائعاً کان أم مشتریاً) له خیار الفسخ (بحیث لا نرجع خیار الْغَبْن إلی خیار الشَّرْط، بل رأساً نثبت خیار الْغَبْن عن طریق القول بأن سیرة الْعُقَلاَء قائمة عَلَیٰ أن کُلّ مغبون فِی المعاملة له خیار الفسخ، وَإلاَّ رجعنا إلی القسم الأَوَّل) حتَّی لو لم یشترط عدم الغبن.

ص: 238

هذا هو النَّحْو الأَوَّل من القسم الثَّالِث مِنَ السِّیرَةِ.

النَّحْو الثَّانِی من هذه السِّیرَة هی السِّیرَة بلحاظ مرحلة الظاهر (لا بلحاظ مرحلة الواقع)، أی: نقصد بها السِّیرَة القائمة عَلَیٰ تصرف مُعَیَّن مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء عندما یشکّون فِی أمر مُعَیَّن، فَیُراد بهذه السِّیرَة إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الظَّاهِرِیّ. وهذه السِّیرَة هی الَّتِی یقع الاستدلال بها عَادَةً فِی الأُصُول:

المثال الأَوَّل: من قبیل السِّیرَة القائمة عَلَیٰ الرجوع إلی قول اللغوی عند الشَّکّ فی معنی الکلمة، وإن لم یفد کلامُ اللغوی لهم أکثر من الظن.

المثال الثَّانِی: السِّیرَة القائمة عَلَیٰ رجوع کُلّ مأمور إلی الثقة للتعرف عَلَیٰ أمر المولی، وإن لم یفد خبر الثقة هذا له أکثر من الظن.

المثال الثَّالِث: السِّیرَة القائمة عَلَیٰ رجوع غیر أهل الخبرة إلی أهل الخبرة، أو رجوع غیر الأخصائی إلی الأخصائی، أو رجوع الجاهل إلی العالم وأهل الخبرة (کالتقلید).

المثال الرَّابِع: السِّیرَة القائمة عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور؛ فَإِنَّ الْعُقَلاَء یرجعون إلی ظاهر کلام الْمُتَکَلِّم ویکتشفون مراده من خلال ظاهر کلامه، وإن لم یفد ظاهر کلامه إلا الظن.

إذن، هذان نحوان مِنَ السِّیرَةِ فِی الْقِسْمِ الثَّالِث.

السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

انتهینا إلی القسم الثَّالِث من أقسام السِّیرَة والَّذِی شرحناه بالأمس، وقلنا إنها عبارة عن السِّیرَة الَّتِی یُرَاد منها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، وقلنا إنها عَلَیٰ نحوین؛ فتارة یُراد بها السِّیرَة الَّتِی تُثْبِتُ لنا الحکم الشَّرْعِیّ الْوَاقِعِیِّ، وأخری یُرَاد بها السِّیرَة الَّتِی یُرَاد بها أن تُثْبِتُ لنا الحکم الشَّرْعِیّ الظَّاهِرِیّ، ومثّلنا لکل من النحوین ببعض الأمثلة.

ص: 239

وسوف یظهر من خلال الْبُحُوث القادمة إن شاء الله تعالی بعضُ الفوارق الفنیة بین هذین النحوین مِنَ السِّیرَةِ من القسم الثَّالِث. من حیث أن طریقة استعمال النَّحْو الأَوَّل فِی مقام إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الْوَاقِعِیِّ تختلف عن طریقة استعمال النَّحْو الثَّانِی فِی مقام إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الظَّاهِرِیّ.

وعلی کُلّ حال فهذا القسم الثَّالِث یختلف عن القسمین السابقین مِنَ السِّیرَةِ فِی نقطةٍ مهمة وهی أن حُجِّیَّةَ هذا القسم مِنَ السِّیرَةِ ودلیلیّتها غیر ثابتة عَلَیٰ القاعدة، بل تَتَوَقَّف عَلَیٰ إعمال عنایة إضافیة (خلافاً للقسمین السابقین) لکی تثبت حُجِّیَّتُه ودلیلیته عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، وَإلاَّ فمن دون العنایة لا یتبادر إلی الذِّهْن إلا التساؤل والاستفهام عن معنی الاستدلال بسیرة النَّاس عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ؟ فإنَّ عمل الْعُقَلاَء إِنَّمَا یکشف (عَلَیٰ أحسن التقادیر) عن حکمٍ جعلوه وقرّروه عَلَیٰ أنفسهم، بینما یهتم الفقیه والأصولی بما هو الحکم المجعول مِنْ قِبَلِ الشَّارِع!

فما شروط تلک العنایة الَّتِی لاَ بُدَّ من إعمالها؟

الشَّرْط الأَوَّل: طبعاً سوف نتعرض لها بالتفصیل فِی البحوث الآتیة إن شاء الله، لکن نقول بالإجمال: إن تلک العنایة هی أن نستکشف إمضاء الشَّارِع لهذه السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة الَّتِی فرضناها قائمةً عَلَیٰ شیء مُعَیَّن ونستکشف موقفاً مناسباً وملائماً مِنْ قِبَلِ الشَّارِع (ولو إجمالاً)، وأدنی درجات هذا الموقف الملائم عبارة عن سکوته عن ردع هذه السِّیرَة، وَحِینَئِذٍ یثبت مضمونها وهو الحکم الشَّرْعِیّ الَّذِی نریده.

إذن، لیست الحجة والدلیل بحسب الواقع عبارةً عن عمل النَّاس وَإِنَّمَا الحجة عبارة عن إمضاء الشَّارِع لعملهم لا لِلسِّیرَةِ نفسها.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذه الصیغة من العنایة الَّتِی نحتاج إلیها فِی هذا القسم الثَّالِث مِنَ السِّیرَةِ متوقفة عَلَیٰ أَنْ تَکُونَ السِّیرَة الَّتِی نرید الاستدلال بها عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ معاصرةً لعصر الْمَعْصُوم علیه السلام وموجودة فِی زمن حضور الْمَعْصُوم علیه السلام؛ ذلک لأن هذه الصیغة من العنایة تتمسک بالموقف الملائم من الْمَعْصُوم تجاه السِّیرَة، وهذا فرع أَنْ یَکُونُ الْمَعْصُوم مَوْجُوداً ظَاهِراً بین النَّاس یتخذ المواقف تجاه أعمال النَّاس وسِیَرِ الْعُقَلاَء وَإلاَّ فالمعصوم الغائب عن أعین النَّاس لا یمکن أن نستکشف من سکوته شَیْئاً؛ لأَنَّ المفروض به أن لا یتخذ موقفاً من عمل النَّاس فِی هذه الکرة الأرضیة.

ص: 240

إذن، أول شرط فِی هذه العنایة هو معاصرة السِّیرَة لزمن التشریع وحضور الْمَعْصُوم علیه السلام.

وبهذا یتضح أن هذا القسم الثَّالِث مِنَ السِّیرَةِ یتفق مع القسم الثَّانِی فِی الحاجة إلی إثبات معاصرتها للمعصوم ×؛ فَإِنَّ القسم الثَّانِی مِنَ السِّیرَةِ الَّتِی تَقَدَّمَ الکلام عنه أَیْضاً قلنا: یشترط فیه أَنْ تکون معاصرة لزمان صدور النص من الْمَعْصُوم. وهذا بخلاف القسم الأَوَّل.

الشَّرْط الثَّانِی: أن یتخذ الْمَعْصُوم علیه السلام موقفاً ملائماً تجاه هذه السِّیرَة ولا یتخذ موقفاً شاجباً ورادعاً لهذه السِّیرَة، وذلک بالفحص عن الموقف الملائم الَّذِی یُراد استکشاف الإمضاء والتقریر منه. وسوف نَتَحَدَّثُ حول هذین الرکنین مفصلاً فِی الجهة الثَّانیة من جهات بحثنا وهی الجهة الَّتِی تتناول الاستدلال بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ.

تنبیه: وقبل ذلک تبقی نکتة لا بد من التَّنْبِیه علیها وهی أَنَّهُ من خلال ما قلنا لعله یتضح الجواب والرد عَلَیٰ ما قد یُتساءل فِی المقام، وهذا التساؤل سار وجار خاصة بین المثقفین والشباب، أَنَّهُ لماذا یحرص الفقهاء فِی الاستدلال الفقهی فِی مثل هذه الأَدِلَّة اللُبِّیَّة عَلَیٰ أن یتمسکوا بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة القدیمة ویترکون السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة المتحضرة المدنیة المستحدثة الیوم؛ فَإِنَّ وضع الْعُقَلاَء لَیْسَ فِی تخلف وتأخر وانحطاط عَمَّا کانوا علیه سَابِقاً من حیث المعارف بل هم فِی تَقَدَّمَ ونضج مستمر وتعایش مع الخبرات الفکریة والاجتماعیة والقانونیة، فما الَّذِی میّز سیرة الْعُقَلاَء القدماء عن سیرة الْعُقَلاَء الیوم؟ فکما بنی الْعُقَلاَء بالأمس عَلَیٰ حقوق کحق الخیار وحق الاختصاص بسبب الحیازة، کذلک جرت سیرة الْعُقَلاَء الیوم عَلَیٰ حق التألیف والنشر والطبع؟

فجوابه واضح؛ لأَنَّ الفقهاء إذا کانوا یریدون اتخاذ عمل الْعُقَلاَء بما هم عقلاء دلیلاً لصحّ هذا الکلام، لکننا عرفنا أن المقیاس لَیْسَ هذا، بل یستدلون بِالسِّیرَةِ بما هی کاشفة عن رأی الشَّارِع؛ فَإِنَّ المفید للفقیه فِی مقام الاستنباط هو موقف الشَّارِع من موقف الْعُقَلاَء، لا موقف الْعُقَلاَء بما هم عقلاء، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ موقف الشَّارِع من الْعُقَلاَء وسیرتهم لا یکشف لنا مِنْ دُونِ معاصرة موقف الشَّارِع لموقف الْعُقَلاَء، حتَّی یمکننا أن نستکشف موقف الشَّارِع من موقف الْعُقَلاَء وسیرتهم وَإلاَّ فلا معنی للاستدلال بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة المستحدَثة بعد عصر التشریع.

ص: 241

وقد یقال (لا بد من أن نثبت أن الشَّارِع أمضی السِّیرَة وَإلاَّ فإن السِّیرَة بما هی سیرة لَیْسَ لها قیمة): بأن الشَّارِع أمضی کُلّ السِّیَر الْعُقَلاَئِیَّة بنحو القضایا الحقیقیة وبوصفها النوعی وبما هی سیرة العقلاء، لا بوصفها مفردة خارجیة کانت موجودة فِی ذاک الوقت. أی: أننا نفهم من عدم تصدّی الشَّارِع لبیان أحکام وتأسیس تشریعات فِی مجالات مختلفة مِمَّا للعقلاء شأن فیه کأبواب المعاملات، نعرف من ذلک أَنَّهُ ترک هذه الأمور للعقلاء وإن تدخل أحیاناً بشکل جُزْئِیّ ولٰکِنَّهُ لم یتدخل بشکل تفصیلی فِی أبواب المعاملات کالتدخل الَّذِی نلحظه فِی باب العبادات والنکاح والطلاق وأمثالها. فنستکشف من سکوت الشَّارِع وعدم تصدیه فِی هذه المجالات أَنَّهُ عوَّل عَلَیٰ سیرة النَّاس بطبعها ونوعها وارتکازاتهم، فیکون هذا إمضاءً مسبَقاً مِنْ قِبَلِ الشَّارِع لکل ما سوف یستقر علیه سیرة النَّاس؛ إلا الموارد الْجُزْئِیَّة الَّتِی عرفنا فیها ردع الشَّارِع عن بعض أعمال الناس کالربا وغیرها.

وفیه أوَّلاً: لم یثبت لنا سکوت الشَّارِع وعدم تصدّیه لبیان أحکام وتأسیس تشریعات فِی مجالات متعددة من الحیاة مِمَّا للعقلاء شأنٌ فیه، کی نفهم أَنَّهُ ترک هذا المجال والحقلَ للناس فِی عمود الزمان؛ فَإِنَّ هذه المجالات الَّتِی یُتوهم أن الشَّارِع ترکها لِلسِّیرَةِ أَیْضاً بُیِّنت فِی الشَّرِیعَة أحکامُها أو ورد ما یُحتمل أَنْ یَکُونُ بیاناً لها، بإطلاق دلیل أو عمومه أو قاعدة کلیة أو فقهیة. فیُستبعد أَنْ یَکُونُ لدینا حکم مفتقر إلی السِّیرَة إلا وفیه خبرٌ یعالج لمورد السِّیرَة (بقطع النَّظَر عن صحة الخبر)، وَأَمَّا قلة الأَدِلَّة فلعلها ناشئة من عدم وجود تفصیلات واستثناءات کثیرة لتلک العمومات والإطلاقات، لا لتلک النکتة الَّتِی أشیر إلیها.

وما قد یقال من أن مجرد عدم وجود إطلاق أو عموم لا یکفی للردع عن سیرةٍ مُتَجَذِّرَةٍ مرتکزة فِی أذهان النَّاس، فهذا إِنَّمَا یصح فِی سیرة مُعَاشَةٍ حیة موجودة فِی عصر التشریع حیث نقول بأن هکذا سیرة ضاربة فِی الأرض ومترسخة لا یکفی فِی الردع عنها إطلاقُ آیة أو عموم آیة، وَإِنَّمَا إذا أراد الشَّارِع أن یردع عنها فیردع عنها بنصوص وافرة ومؤکدة، کما أکد فِی القیاس والربا.

ص: 242

وَثَانِیاً: لنفترض أن الشَّارِع ردع عن هذه السِّیرَة، لکن سکوته إِنَّمَا یَدُلّ عَلَیٰ إمضائه لِلسِّیرَةِ لا بوصفها النوعی وبنحو القضیة الحقیقیة وَإِنَّمَا إذا سکت الشَّارِع عن سیرة فمعناه أَنَّهُ أمضی هذه السِّیرَةَ بوصفها الشخصی وبنحو القضیة الخارجیة؛ لأَنَّهَا هی الَّتِی سکت عنها الشَّارِع ولم یسکت عن مطلق أعمال النَّاس فِی عمود الزمان إلی یوم القیامة.

هذا تمام الکلام فِی الجهة الأولی من جهات البحث والتی عقدناها لبیان أقسام السِّیرَة.

الجهة الثَّانیة: البحث عن کَیْفِیَّة الاستدلال بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ. وقد تبین أن السِّیرَة المشرِّعة (أی: القسم الثَّالِث) للحکم الشَّرْعِیِّ لاَ بُدَّ من توفر شرطین ورکنین فیها، إذا تَمَّ هذان الرکنان تصبح هذه السِّیرَة حجةً ودلیلاً عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وهما:

الرکن الأَوَّل: معاصرة السِّیرَة لزمن التشریع وحضور الْمَعْصُوم علیه السلام.

الرکن الثَّانِی: الملازمة بین هذه السِّیرَة وبین الحکم الشَّرْعِیّ، وهذه الملازمة تتجسد وتتمثل فِی موقفٍ ملائم یتخذه الْمَعْصُوم علیه السلام تجاه هذه السِّیرَة ویکون هذا الموقف الملائم کاشفاً عن إمضائه وقبوله لهذه السِّیرَة.

إذ، یجب أن ندرس من الآن فصاعداً هذین الرکنین ونحقق حال هذین الشرطین وندرس کَیْفِیَّة إثبات الشَّرْط الأَوَّل (أَیْ: أَن سیرةً مّا کانت موجودة فِی عصر التشریع) ونحن الآن بعیدون عن عصر التشریع بقرون؟ وبعد ذلک کیف نثبت الإمضاء والقبول بالسکوت؟

السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا: لاَ بُدَّ من البحث عن حُجِّیَّة القسم الثَّالِث من السِّیرَة، وهذا بحث عن الشرطین أو الرکنین الذَّیْنِ ذکرناهما لحجیة السِّیرَة، وهما:

الشَّرْط أو الرکن الأَوَّل: معاصرة السِّیرَة لزمن التشریع.

ص: 243

الشَّرْط أو الرکن الثَّانِی: الملازمة بین هذه السِّیرَة وبین الحکم الشَّرْعِیّ.

أَمَّا الشَّرْط الأَوَّل: فإن أساس هذه المعاصرة واضح (کما تَقَدَّمَ)؛ إذ أنَّ السِّیرَة الَّتِی تلازمُ الحکم الشَّرْعِیّ (کما سوف یأتی فِی الشَّرْط الثَّانِی) إِنَّمَا هی عبارة عن خصوص السِّیرَة الملازمة لحکم الشَّارِع دون غیرها، وبما أَنَّنَا لم نعاصر الشَّارِع فنحتاج فِی إثبات السِّیرَة المعاصرة للشارع إلی طرق من خلالها أو من خلال بعضها نُثبت أن السِّیرَة کانت موجودة فِی عصر الشَّارِع، وَإلاَّ فمن دون هذا یبقی الاستدلال الفقهی ناقصاً؛ لأَنَّ غایة ما یصنعه الفقیه أن یتأمل فِی سیرة النَّاس الیوم ویطمئن ویثق بأن سیرتهم قائمة عَلَیٰ سلوک مُعَیَّنٍ کقیام سیرتِهم عَلَیٰ حُجِّیَّة خبر الواحد فِی الموضوعات. لکن کیف یثبت أن هذه السِّیرَة بذاتها کانت موجودة فِی عصر الشَّارِع، وکان النَّاس یعملون بخبر الثقة فِی الموضوعات آنذاک. هنا یمکن ذکر عدة طرق لإثبات هذه المعاصرة:

الطریق الأَوَّل: ما یبدو فِی أول وهلة وفِی بادئ النَّظَر وهو أن یقال: لطالما أن هذه السِّیرَة موجودة الیوم فهی کانت موجودة آنذاک أَیْضاً؛ وذلک بِعَقْلِیَّةِ الاستصحاب القهقرائی الَّتِی هی عبارة عن إحراز الماضی عن طریق الواقع الحاضر، سَوَاء کانت تلک السِّیرَة الَّتِی نرید إثبات وجودها فِی عصر التشریع کانت سیرة عُقَلاَئِیَّة أم کانت سیرة مُتَشَرِّعِیَّة؛ فإننا نقول فِی

1)- السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة إننا نحدس بأن السِّیرَة القائمة الیوم عَلَیٰ حُجِّیَّة خبر الواحد فِی الموضوعات ناشئة من القریحة العامة والسلیقة النَّوْعِیَّة والنکات الفطریة للعقلاء مِمَّا کانت موجودة فِی عصر الشَّارِع أَیْضاً؛ إذ أن هذه القریحة لا تختلف من عقلاءٍ إلی عقلاء. فیثبت بذلک وجود هذه السِّیرَة فِی ذاک الزمان مثلاً.

2)- کما بإمکاننا أن نذکر بیاناً آخر یعم سیرةَ الْعُقَلاَء وسیرةَ المتشرعة معاً وهو أننا إذا وجدنا الیوم سیرةً قائمةً فِعْلاً ومنعقدة مِنْ قِبَلِ النَّاس (سَوَاء مِنْ قِبَلِ العرف الْعَامّ أو مِنْ قِبَلِ المتشرعة بالخصوص) عَلَیٰ شیء مُعَیَّن الیوم، فمن البعید جِدّاً أَنْ نفترض أنها حصلت دفعة وبصورة فجائیة وانقلابیة، مِنْ دُونِ أَنْ تَکُونَ هذه السِّیرَة موجودة سابقاً (فِی عصر الشَّارِع)، بحیث لا نحتمل احتمالاً متعارفاً وعقلائیاً أن سیرة النَّاس آنذاک کانت عَلَیٰ شیء ثُمَّ تحولت دفعة إلی شیء آخر نجده الیوم؛ لأَنَّ من المستبعد التحول الفجائی فِی السِّیَر والبناءات الْعُقَلاَئِیَّة والارتکازات. فنقول: الظاهر أن هذه السِّیرَة الموجودة الیوم قد وصلت إلینا یداً عن ید (حسب عقلیة الاستصحاب القهقهری) وَإلاَّ فإن انقلاب سیرة النَّاس فجأةً یُعدّ فِی ذاته شَیْئاً عجیباً، أو إذا حدث هکذا تحول فجائی فِی سیرتهم لَنَقَلَتْهُ کتب التأریخ.

ص: 244

وَالْحَاصِلُ أَنَّ المدعی فِی هذا الطریق الأَوَّل هو أننا عند ما نواجه سیرة موجودة الیوم یحصل لدینا هذا الحدس أو الاطمئنان بوجودها سابقاً؛ لأَنَّهَا إذا کانت عُقَلاَئِیَّة فناشئة من القریحة الْعُقَلاَئِیَّة العامة لدی الْعُقَلاَء، وإذا کانت عُقَلاَئِیَّة ومتشرعیة فمن المستبعد أن تتبدل هذه السِّیرَة ولا تنقله کتب التاریخ.

مثلما لو قلنا بأن سیرة المتشرعة قائمة عَلَیٰ الإخفات فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة، فیقول المدعی هنا: نحن من خلال هذه السِّیرَة سوف نعلم بأن هذه السِّیرَة موجودة فِی الأجیال السابقة وفی عصر التشریع ومتلقاةٌ من ذاک العصر؛ لأَنَّه إن کانت السِّیرَة عَلَیٰ ضد السِّیرَة الموجودة فِی عصرنا فهذا شیء غریب ولو کانت لنقلت فِی کتب التأریخ. ومن الصعب أن یتحول التزام المتشرعة من شکل إلی شکل آخر نقیض له، ولابد أَنْ یَکُونُ له سبب أو ظرف مُعَیَّن لهذا التحول، وحیث لم یذکر هکذا ظرف لهذا التحول ، فنطمئن بعدم وجوده.

والخلاصة أن هذا الطریق یجعل انعقاد السِّیرَة الیوم دلیلاً عَلَیٰ أَنَّهُ کان موجوداً سابقاً وله جذور قدیمة ترتفع إلی عهد الأئمة علیهم السلام، بنکتة أَنَّهُ مستعبد أن تتحول السِّیرَة من نقیض إلی نقیض.

دراسة الطریق:

هذا الطریق لا یمکننا أن نسلکه لإثبات معاصرة السِّیرَة لزمان الشَّارِع وذلک:

أوَّلاً: ما ذکر من الحدس والقریحة العامة والنکات الفطریة المشترکة بین جمیع الْعُقَلاَء غیر تَامّ؛ فَإِنَّ السِّیرَة کما یمکن أَنْ تَکُونَ ناشئة من جهة الاشتراک الموجودة بیننا وبین النَّاس فِی ذاک الزمان، کذلک یمکن أَنْ تَکُونَ ناشئة مِمَّا نمتاز به عنهم. فلا یمکن اعتبار الواقع الحاضر دلیلاً عَلَیٰ الماضی.

وَثَانِیاً: أَنَّ ما ذُکر من استبعاد انقلاب السِّیرَة وتحول الالتزام الْعُقَلاَئِیّ أو الْمُتَشَرِّعِیّ فیرد علیه أوَّلاً

ص: 245

أن هذا الانقلاب والتحول إِنَّمَا یکون غَرِیباً لو فرضنا حصوله الفجائی، بل قد نقطع بعدم حصول تحول فجائی مماثل (أی: بحسب حساب الاحتمالات، احتمال أَنْ تکون سیرة الْعُقَلاَء کانت قائمة عَلَیٰ الْعَمَل بخبر الثقة فِی الموضوعات مدة مدیدةً، ثُمَّ فجأة تحولت هذه السِّیرَة إلی عدمها)، لکن أصل هذا الافتراض لَیْسَ هو الافتراض الوحید الموجود عَلَیٰ طاولة البحث، بل بالإمکان أن نفترض التحول التدریجی فِی السِّیَر، فهذا أمر اعتیادی ومتعارف فِی تأریخ المجتمعات.

ویمکن أن نذکر الإجهار فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة مثاله له؛ فَإِنَّ بالإمکان افتراض انعقاد السِّیرَة فِی أیام الْمَعْصُوم عَلَیٰ الجهر فیها؛ لأَنَّ نظر المتشرعة آنذاک کان عَلَیٰ وُجُوبِ الإجهار باعتبار وجود روایات الجهر فِی یوم الجمعة والتی لا تُحَدِّد أن الجهر فِی یوم الجمعة خَاصّ بصلاة الظهر أو بصلاة الجمعة من ظهر الجمعة، ثُمَّ بعد مضی مدة دقق بعض الفقهاء والتفت أَنَّهُ لا یوجد وجوب للجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة، وَإِنَّمَا الروایات تَدُلُّ عَلَیٰ الجهر من یوم الجمعة، وعمل المتشرعة وإن کان قائماً عَلَیٰ الإجهار ولکن الْعَمَل دلیل صامت ولا یَدُلّ عَلَیٰ الوجوب، فلعل المتشرعة کانوا یجهرون فیها لاستحباب الإجهار، وَبِالتَّالِی برزت هذه الفتوی مِنْ قِبَلِ هذا الفقیه أو مِنْ قِبَلِ بعض الفقهاء بأن الجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة غیر واجب، وَبِالتَّالِی تبعه مقلِّدوه وأدی ذلک إلی عدم التزام جملة من المتشرعة بالجهر فِیها، ثُمَّ کثر الفقهاء والمحققون الَّذِین أدی نظرهم إلی الإخفات (إما اجتهاداً أو تقلیداً)، ثُمَّ بعد مضی زمان استفاد بعض الفقهاء من الجمع بین الأخبار عدمَ استحباب الجهر أساساً، ثُمَّ أتی من یشکک فِی أصل جواز الإجهار فیها.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ فرضیة من هذا القبیل لیست غریبة ولا صعبة التوقع، وتجعل الفقیهَ غیر قادر عَلَیٰ الاستدلال بواقع الحاضر الموجود عَلَیٰ ثبوت هذا الواقع فِی الماضی.

ص: 246

وثالثاً: سلمنا أن من الغریب أن تنقلب السِّیرَة إلی ضدها، لکن من الممکن أن نفترض عدم وجود سیرة قائمة عَلَیٰ أحد الطرفین فِی زمن التشریع کمثال الجهر والإخفات، فَلَعَلَّهُ لم تکن عندهم سیرةٌ قائمة عَلَیٰ أحد الطرفین، بل کان الحکم مختلفاً فیه عند المتشرعة، فکان بعضهم یجهر وبعضهم یخفت، کما أن هناک روایات متعارضة إلی جانب اختلاف السِّیرَة بین المتشرعة والناس باعتبار الروایات المختلفة، ومن هنا کانوا یسألون الإمام × عن حکم الإجهار أو الإخفات فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة حیث کان بعض الفرق والجماعات یجهرون والبعض الآخر کانوا یخفتون. فهذه الفرضیة ممکنة أَیْضاً ولا تنحصر الفرضیة فِی قیام السِّیرَة عَلَیٰ شیء مُعَیَّن آنذاک لکی نثبت أن السِّیرَة الموجودة فِی زماننا هی نفس تلک السِّیرَة آنذاک؛ إذ لعل السِّیرَة الیوم قائمة عَلَیٰ أمر مُعَیَّن ولکن فِی ذاک العصر لم تکن توجد هذه السِّیرَة، کما إذا کان هناک اختلاف بین المتشرعة.

ورابعاً: قد لا یکون ما نراه الیوم فِی الواقع المعاصر من سیرة المتشرعة سیرةً لهم بما هم متشرعة، وَإِنَّمَا اتفقوا عَلَیٰ هذه السِّیرَة لأمور غیر الشرع، فبعضهم من باب الغفلة عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیّ وبعضهم من باب النسیان، وبعضهم من باب الجری عَلَیٰ سیرة الْعُقَلاَء وذوقهم، وبعضهم من باب التقصیر، ثُمَّ أتی أبناء هؤلاء ونظروا فِی سیرهم فتخیلوا أنها هی الصحیحة فجروا علیها فاستقرت السِّیرَة علیها، کما فِی مسألة بطلان معاملة الصبی (کما هو المشهور)؛ فَإِنَّ ذوق الْعُقَلاَء لا یمیز بین معاملة البالغ وبین الصبی الممیز، بینما قامت سیرة المسلمین عَلَیٰ صحة معاملته لکن لا بما هم مسلمون بل بما هم عقلاء أو من باب الغفلة أو من باب النِّسْبَة أو من باب التقصیر أو القصور. المهم أن سیرة المسلمین کانت قائمة عَلَیٰ صحة معاملة الصبی.

ص: 247

إذن أصل مسألة «الواقع الحاضر دلیل عَلَیٰ الواقع المعاصر لعصر التشریع» لا نقبله.

وبذلک نکون قد انتهینا من الطریق الأَوَّل لإثبات المعاصرة، وقد تبین بطلانه.

السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الطریق الثَّانِی: إثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصومین علیهم السلام عن طریق النقل التأریخی والشهادات، سَوَاء فِی ذلک نطاق التأریخ الْعَامّ أو نطاق الروایات والأحادیث الفقهیة، ولهذا الطریق أمثلة عدیدة نذکر ثلاث منها تباعاً:

المثال الأَوَّل: ما ینقله الشیخ الطوسی رحمه اللَه فِی «العُدَّة» ویشهد به من استقرار بناء أصحاب الأئمة علیهم السلام وثبوت سیرة المتشرعة فِی عهدهم علیهم السلام جیلاً بعد جیل عَلَیٰ الْعَمَل بخبر الثقة فِی مقام أخذ معالم دینهم.

المثال الثَّانِی: ما تعکسه (من الناحیة التأریخیة) الروایات والأحادیث الواردة فِی باب الزکاة من ثبوت سیرة المتشرعة فِی زمان الإمام علیه السلام عَلَیٰ جواز التعامل بالنقد الأجنبی، حیث کثر السؤال فِی الروایات عن ثبوت الزکاة فِی النقد الأجنبی وعدمه، وعن ثبوتها فِی الدرهم المغشوش وعدمه (1) ؛ فَإِنَّ هذا یَدُلّ عَلَیٰ أنهم کانوا یتعاملون بالنقد الأجنبی.

المثال الثَّالِث: ما ینقله التأریخ الْعَامّ من ثبوت السِّیرَة آنذاک عَلَیٰ استخراج الفرد بعض أقسام المعدِن کالعقیق والملح، وتملّکه إیاه بذلک.

وکما یمکن الاستفادة فِی هذا المجال من الروایات والأحادیث الفقهیة باعتبار أنها تعکس ضمناً جوانب من حیاة الرواة والناس فِی ذلک الزمان (کما مثّلنا له آنفاً)، کذلک یمکن الاستفادة أَیْضاً فِی هذا المجال من فتاوی الجمهور والعامّة فِی باب المعاملات مثلاً، باعتبار أنها مأخوذة ومنتزعة أحیاناً عن الوضع الْعَامّ المرتکز عُقَلاَئِیّاً.

ص: 248


1- (1) - العاملی، وسائل الشیعة: ج6، ب7، زکاة النقدین.

وهذا الطریق یتوقف اعتباره عَلَیٰ أحد شرطین؛ فَإِنَّ النقل لاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونُ بأحد نحوین کی یمکننا الاعتماد علیه فِی إثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصومین علیهم السلام:

الشَّرْط الأَوَّل: أَنْ یَکُونُ النقل التَّأْرِیخِیُّ والشهادة من الناحیة الْکَمِّیَّة وَالْکَیْفِیَّة بِالنَّحْوِ الَّذِی یوجب العلم أو الاطمئنان عَلَیٰ أقل التقدیر بکون السِّیرَة معاصرةً للمعصوم علیه السلام؛ فمن ناحیة الکمّ لاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونُ النقل کثیراً ومستفیضاً , أن توجد هناک شهادات عدیدة بثبوت السِّیرَة فِی زَمَن الْمَعْصُوم علیه السلام، ومن نَاحِیَة الکیف لاَ بُدَّ وأن یکون النقل مقترناً بخصوصیات وشواهد لصدقه وأن لا یکون مقروناً بما یضعفه ویکسره، فلو نقل التأریخ لنا مثلاً استخراج الفرد للنفط وتملّکه فِی زمن النَّبِیّ صلی الله علیه وآله وسلم لم نصدّقه؛ لأَنَّ هناک نَقْلاً تَأْرِیخِیّاً أدقّ منه یَدُلّ عَلَیٰ أن اکتشاف النفط أساساً کان فِی زمن متأخر عن زمان النَّبِیّ الأَعْظَم صلی الله علیه وآله وسلم وأن معرفة النَّاس بعین النفط کانت متأخرة عن عهده صلی الله علیه وآله وسلم (1) .

الشَّرْط الثَّانِی: أَنْ یَکُونُ جامعاً لشروط الحجیة التَّعَبُّدِیَّة فِیمَا إذا لم یکن موجباً للعلم ولا للاطمئنان، کما إذا کان النقل مِنْ قِبَلِ ناقل واحد ثقة وبنینا عَلَیٰ حُجِّیَّة خبر الواحد الثقة بدلیل آخر غیر هذه السِّیرَة الَّتِی یُرَاد إثباتها بشهادة الثقة، کما لو فرضنا أن الشیخ الطوسی رحمه اللَه نقل لنا أن سیرةَ أصحاب الأئمة والمتشرعة کانت عَلَیٰ ترک صلاة الجمعة؛ فهذا نقل للسیرة بخبر الثقة الَّذِی هو حجة، وبه نثبت تَعَبُّداً سیرة أصحاب الْمَعْصُوم × عَلَیٰ ترک الجمعة.

ص: 249


1- (2) - الظاهر أن الإمام الصادق علیه السلام هو أول من کشف الغطاء عن وجود النفط وبشّر بخروج الزیت (النفط)، حیث ینقل أَنَّهُ علیه السلام عندما جث عَلَیٰ رکبته فی بعض مناطق الجزیرة العربیة قال: إن تحت هذه الأرض أشیاء یشبه الزیت لو أخرجته لأغنیت العرب جمیعاً. الطهرانی عفی عنه.

فإذا فرض أن هذا کان مشمولاً لدلیل الحجیة؛ فَإِنَّ حِینَئِذٍ تثبت السِّیرَة ویثبت بذلک لوازم هذه السِّیرَة الَّتِی منها إمضاء الْمَعْصُوم علیه السلام لها عَلَیٰ ما سیأتی الحدیث عنه فِی الرکن الثَّانِی - إن شاء اللَه تعالی - فیکون لکلام الشیخ الطوسی رحمه اللَه (فِی المثال) مدلول مطابقی وهو السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام، ومدلول التزامی وهو إمضاء الشَّارِع لها وثبوت الحکم الشَّرْعِیّ.

تنبیه: وینبغی هنا أن ننبّه عَلَیٰ نقطة هی أن حُجِّیَّة خبر الثقة الناقل للسیرة المعاصرة للمعصوم علیه السلام لا علاقة لها بمسألة حُجِّیَّة خبر الثقة فِی الموضوعات ولیست متوقفة عَلَیٰ القول بالحجیة فِی تلک المسألة رغم أن الخبر هنا خبر عن موضوع خارجی (وهو السِّیرَة المعاصرة للمعصوم)، بل إن الخبر (فِی المقام وفی کُلّ موضوع آخر مماثل لما نحن فیه، أی: کُلّ خبر عن موضوع یکون لازمه ثبوتُ الحکم الشَّرْعِیّ) لاَ بُدَّ من الفراغ عن حُجِّیَّتُه فِی مقام إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الملازم لذاک الْمَوْضُوع، سَوَاء قلنا فِی تلک المسألة بحجیة خبر الواحد فِی الموضوعات أم لم نقل.

توضیح ذلک أن الخبر فِی الموضوعات عَلَیٰ ثلاثة أقسام:

القسم الأَوَّل: أَنْ یَکُونُ الخبرُ خبراً عن المَوْضُوع الَّذِی هو مصداق لموضوع الحکم الکُلِّیّ، ویترتب عَلَیٰ هذا الخبر حکمٌ جُزْئِیّ وفرعی ولیس حُکْماً کُلّیّاً، کالإخبار عن خمریة سائلٍ، أو الإخبار عن طهارة سائل؛ فَإِنَّ خمیّرةَ هذا السائل أو طهارته من مصادیق الخمریّة والطهارة وهما موضوعان للحکم الکلی الَّذِی هو عبارة عن حرمة شرب الخمر وجواز شرب السائل الطاهر، ویَتَرَتَّبُ عَلَیٰ هذا الإخبار حکم جُزْئِیّ وفرعی هو حرمة شرب هذا أو جواز شرب ذاک.

القسم الثَّانِی: أَنْ یَکُونُ الخبر خبراً عن الْمَوْضُوع الَّذِی هو مصداق لمَوْضُوعِ الحکم الکُلِّیِّ، ویترتب عَلَیٰ هذا الخبر حکمٌ جُزْئِیّ، لکن تنتهی حُجِّیَّتُه إلی إثبات حکم کُلِّیّ، کما إذا أخبر الشیخ أو النجاشی أو المفید أو الآخرون من الأجلة (الَّذِی یوثّقون لنا الرواةَ) أن فلانا من الرواة ثقةٌ؛ فَإِنَّ وثاقة هذا الراوی مصداق من مصادیق الوثاقة الَّتِی هی موضوع للحکم الکلی وهو عبارة عن حُجِّیَّة خبر الثقة، ویَتَرَتَّبُ عَلَیٰ هذا الإِخْبَار حکم جُزْئِیّ وفرعی وهو حُجِّیَّة خبر هذا الراوی الَّذِی وثَّقه النجاشی، لکن تنتهی حُجِّیَّتُه إلی إثبات حکم کُلِّیّ وهو الحکم الَّذِی رواه ذاک الراوی کما لو نقل لنا حُکْماً کُلّیّاً عن الإمام الصادق علیه السلام مثل: «فِی المعدن الخمس».

ص: 250

القسم الثالث: أَنْ یَکُونُ الخبر خبراً عن مَوْضُوع یلازم الحکم الکلی (ولیس خبراً عن مِصْدَاق لموضوع کُلِّیّ کما فِی القسمین الأولین)، کالإخبار عن السِّیرَة المعاصرة للمعصوم والتی هی ملازمة للحکم الشَّرْعِیّ الکلی وهو مورد کلامنا الآن.

وَحِینَئِذٍ إن افترضنا أن هناک إطلاقاً فِی دلیل حُجِّیَّة خبر الثقة یشمل الإخبار عن الموضوعات، بحیث لم یکن دلیل الحجیة مختصاً بخبر الثقة فِی الأحکام، أو افترضنا وجود سیرةٍ تَدُلُّ عَلَیٰ حُجِّیَّة خبر الثقة فِی الموضوعات، ثبتت حُجِّیَّة خبر الثقة فِی الموضوعات مُطْلَقاً، فتکون الأقسام الثَّلاَثة کُلّهَا حجة.

أَمَّا إذا لم یکن هناک إطلاق فِی دلیل الحجیة أو سیرة من هذا القبیل؛ فَإِنَّ کان لدلیل حُجِّیَّة خبر الثقة فِی الأحکام إطلاق یشمل الخبر عن ا لموضوع الَّذِی یؤدی إلی حکم کُلِّیّ، ثبتت حُجِّیَّة خصوص القسمین الأخیرین دون الأَوَّل، وکذلک الأمر لو کانت هناک سیرة قائمة عَلَیٰ حُجِّیَّة الإخبار عن الْمَوْضُوع المؤدی إلی حکم کُلِّیّ.

أَمَّا إذا لم یکن هناک شیء من هذا القبیل أَیْضاً، فَحِینَئِذٍ لا یبقی دلیل عَلَیٰ حُجِّیَّة خبر الثقة فِی الموضوعات، ولا یمکن ترتیب الآثار والأحکام الشَّرْعِیَّة المترتبة عَلَیٰ الْمَوْضُوع الَّذِی أخبر به الثقة، فلا یبقی مجال لحجیة القسمین الأولین.

وَأَمَّا القسم الثَّالِث فهو یختلف سنخاً وجوهراً عنهما فِی أن الخبر فِی هذا القسم لَیْسَ خبراً عن مَوْضُوعَ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، بل هو خبر عن ملازم الحکم الشَّرْعِیّ، فلا یوجد هنا أثر وحکم شرعی یَتَرَتَّبُ عَلَیٰ الْمَوْضُوع الَّذِی أخبر به الثقة حتَّی یدخل هذا القسم فِی مسألة حُجِّیَّة خبر الثقة فِی الموضوعات؛ فَإِنَّ تلک المسألة تعنی بالبحث عن خبر الثقة فِی موضوعات الأحکام الشَّرْعِیَّة، بینما الخبر فِی الْقِسْمِ الثَّالِث لَیْسَ کذلک، فلا نحتاج فیه إلی القول بحجیة خبر الثقة فِی الْمَوْضُوعات؛ لأَنَّ الحکم الشَّرْعِیّ فیه لَیْسَ أثرا مترتباً عَلَیٰ الْمَوْضُوع المخبَر به، بل هو من لوازم هذا الْمَوْضُوع؛ ضرورةَ أن إمضاء الشَّارِع لَیْسَ من الآثار الشَّرْعِیَّة المترتبة عَلَیٰ السِّیرَة المعاصرة، ولیست السِّیرَة مَوْضُوعاً للحکم الشَّرْعِیّ وإمضاء الشَّارِع, وَإِنَّمَا الحکم والإمضاء من لوازم السِّیرَة.

ص: 251

وعلیه، فحجیة الخبر فِی الْقِسْمِ الثَّالِث لیست مبنیة عَلَیٰ حُجِّیَّة الخبر فِی موضوعات الأحکام الشَّرْعِیَّة، وَإِنَّمَا حُجِّیَّتُه مستفادة من دلیل حُجِّیَّة الخبر نفسه فِی الأحکام الشَّرْعِیّ، وإن لم یکن له إطلاق یشمل الخبر عن موضوعات الأحکام؛ ذلک لأن العرف لا یحتمل الْفَرْق بین نقل الثقة للحکم الشَّرْعِیّ الکلی بالمطابقة، وبین نقله لذلک بالملازمة، عَلَیٰ حد عدم احتماله الْفَرْق فِی الحجیة فی باب الأمارات بین الدِّلاَلَة الْمُطَابَِقِیَّة والدلالة الاِلْتِزَامِیَّة. وهذا یعنی حُجِّیَّة خبر الثقة فِی الْقِسْمِ الثَّالِث (أی: فِی الخبر عن الْمَوْضُوع الملازم للحکم) وحجیّته هذه لیست لأجل إثبات الْمَوْضُوع المخبَر به، کیف وقد فرضنا أننا نستفید هذه الحجیة من الدَّلِیل الدَّال عَلَیٰ حُجِّیَّة الخبر عن الحکم الشَّرْعِیّ، والخبر للموضوع المخبر به.

وبعبارة أخری: الحجیة هنا إِنَّمَا هی للدلالة الاِلْتِزَامِیَّة لهذا الخبر، حیث أن الدِّلاَلَة الْمُطَابَِقِیَّة له عبارة عن الإخبار عن السِّیرَة المعاصرة للمعصوم، والدلالة الاِلْتِزَامِیَّة له عبارة عن الإخبار عن الحکم الشَّرْعِیّ وإمضاء الشَّارِع.

السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کنّا ندرس الطرق الَّتِی یمکن أن تُذکر لإثبات وجودٍ سیرةٍ معاصرة للمعصوم علیه السلام، وانتهینا إلی الطریق الثَّانِی وقد شرحناه بالأمس.

لا یقال: إن الدِّلاَلَةَ الاِلْتِزَامِیَّةَ تَابِعَةٌ لِلدَّلاَلَةِ الْمُطَابَِقِیَّةِ فِی الْحُجِّیَّةِ، والمفروض هنا عدم حُجِّیَّةِ الدِّلاَلَةِ الْمُطَابَِقِیَّةِ؛ لأَنَّ الإخبار عن السِّیرَة المعاصرة للمعصوم لَیْسَ إخباراً عن الحکم الشَّرْعِیّ کی یشمله دلیل حُجِّیَّة خبر الثقة عن الحکم الشَّرْعِیّ. إذن، فالدَّلاَلَةُ الاِلْتِزَامِیَّةُ أَیْضاً تابعة لها فِی عدم الْحُجِّیَّةِ.لأننا نقول: إن القول بِالتَّبَعِیَّةِ لا یشمل المقامَ؛ لأَنَّ التَّبَعِیَّةَ إِنَّمَا هی فیما إذا کان مُقْتَضِی الْحُجِّیَّة شاملاً لکلتا الدَّلاَلَتَیْنِ، أی: لم یکن دلیل الْحُجِّیَّةِ ابتداءً مُخْتَصّاً بِالدَّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّةِ وَإِنَّمَا سقط کشف الدِّلاَلَة الْمُطَابَِقِیَّة بسبب وجود المعارض أو بسبب العلم بخطئها وعدم مطابقتها للواقع، أو لأی سبب آخر من هذا القبیل، فهنا نقول بتبعیة الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة لها فِی الْحُجِّیَّة، أَمَّا إذا لم یکن مُقْتَضِی الْحُجِّیَّة أصلاً شاملاً لکلتا الدَّلاَلَتَیْنِ، بل کان دلیل الْحُجِّیَّة ابتداءً مُخْتَصّاً بِالدَّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّةِ، کما فِی ما نحن فیه، حیث أن دلیل الْحُجِّیَّة إِنَّمَا دَلَّ عَلَیٰ حُجِّیَّة الخبر عن الحکم الشَّرْعِیّ، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الدِّلاَلَة الْمُطَابَِقِیَّة هنا لیست إخبارا عن الحکم الشَّرْعِیّ، وَإِنَّمَا الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة هی الإخبار عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیّ، فمقتضی الْحُجِّیَّة هنا مُخْتَصّ بالدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة، فلا یجری فِی المقام القول بِالتَّبَعِیَّةِ. إذن، فَلاَ یُتَوَهَّمُ أنَّ حُجِّیَّةَ خَبَرِ الثِّقَةِ النَّاقِلِ لِلسِّیرَةِ المعاصرة للمعصوم علیه السلام فِی المقام مَبْنِیَّةٌ عَلَیٰ القول بِحُجِّیَّةِ خَبَر الثِّقَةِ فِی الموضوعات؛ نَظَراً إلی أنَّ الإخبار الَّذِی هو حجةٌ إِنَّمَا هو الإخبار عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، والخبر المذکور النَّاقِل لِلسِّیرَةِ لَیْسَ إخباراً عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ إلا بدلالته الاِلْتِزَامِیَّةِ، وهی تابعة لِلدَّلاَلَةِ الْمُطَابَِقِیَّةِ فِی الْحُجِّیَّةِ، وبما أَنَّ الدِّلاَلَةَ الْمُطَابَِقِیَّةَ لهذا الخبر النَّاقِل لِلسِّیرَةِ عبارة عن الإخبار عن الْمَوْضُوع، فبناءً عَلَیٰ حُجِّیَّة الخبر فِی الموضوعات تَتُِمّ حُجِّیَّة هذا الخبر وَإلاَّ فلا؛ فَإِنَّ هذا التوهم لَیْسَ بصحیح، لما عرفت من أن تبعیة الدِّلاَلَة الاِلْتِزَامِیَّة لِلدَّلاَلَةِ الْمُطَابَِقِیَّةِ فِی الْحُجِّیَّة لا تجری فیما لو کان دلیل الْحُجِّیَّة ابتداءً مُخْتَصّاً بِالدَّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّةِ کما فِی المقام؛ فالخبر المذکور النَّاقِل لِلسِّیرَةِ وإن لم یکن إخباراً عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیّ إلا بدلالته الاِلْتِزَامِیَّة، إلا أنَّ هذه الدِّلاَلَةَ الاِلْتِزَامِیَّةَ غیر تابعة لِلدَّلاَلَةِ الْمُطَابَِقِیَّة فِی الْحُجِّیَّة کی تبتنی الْحُجِّیَّة فِی المقام عَلَیٰ الْحُجِّیَّة فِی باب الموضوعات؛ لأَنَّ دلیل الْحُجِّیَّة ابتداءً مُخْتَصّ بِالدَّلاَلَةِ الاِلْتِزَامِیَّةِ لهذا الخبر؛ لأنها الإخبار عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ.

ص: 252

وَأَمَّا دلالته الْمُطَابَِقِیَّة فبما أنها لیست إخباراً عَنِ الْحُکْمِ، فمقتضی الْحُجِّیَّة غیر متوفر فیها، فلا تجری التَّبَعِیَّة، وبانتفائها ینتفی ابتناء المسألة هنا عَلَیٰ مسألة حُجِّیَّة الخبر فِی الموضوعات.

وکیفما کان، فلنرجع إلی ما کنّا بصدده، فقد قلنا: إن خَبَر الثِّقَةِ النَّاقِل لِلسِّیرَةِ المعاصرة للمعصوم إن کان مشمولاً لدلیل الْحُجِّیَّة، فَحِینَئِذٍ تثبت به السِّیرَة تَعَبُّداً، ویکون طریقاً صحیحاً لإثبات السِّیرَة.

ولا یقدح فِی حُجِّیَّة نقل سیرة أصحاب الأئمة علیهم السلام مِنْ قِبَلِ الأصحاب (کالشیخ الطوسی رحمه اللَه وغیره) ما نراه منهم من التسامح فِی نقلهم للإجماع؛ فَإِنَّ تلک التسامحات الَّتِی ثبت وجودها کثیراً فِی کلمات أصحابنا فِی الإجماعات المنقولة إِنَّمَا یُلحظ وجودها فِی مقام نقل فتاوی الأصحاب ورأی فقهاء عصر الغیبة.

أَمَّا فِی مقام نقل سیرة المتشرعة وأصحاب الأئمة علیهم السلام فلم یثبت بناؤهم عَلَیٰ التسامح فِی نقلها؛ فالناقلون للإجماعات المنقولة ثبت التسامح منهم فِی نقلها، أَمَّا الناقلون لِلسِّیرَةِ المتشرعة وأصحاب الأئمة فلم یثبت تسامحهم فِی نقلها؛ لأَنَّ نقلها إِنَّمَا هو إخبار عن عمل خارجی لا عن رأی ونظر فِی مسألة علمیة کی یکتفی النَّاقِل فِی مقام تحصیل الآراء والفتاوی الموافقة لفتواه عَلَیٰ مجرد توفّر الدَّلِیل علیها واقتضائها لها.

إذن، فحینما یقول الشیخ رحمه اللَه: «استقر بناء أصحاب الأئمة والمتشرعة فِی حیاتهم جیلاً بعد جیل عَلَیٰ الْعَمَل بأخبار الثقات» یُحمل کلامه عَلَیٰ ظاهره ویُؤخذ به.

هذا تمام الکلام فِی الطریق الثَّانِی، وقد عرفت تمامیّتَهُ بِالنَّحْوِ الَّذِی ذکرناه.

الطریق الثَّالِث: إثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصومین علیهم السلام عن طریق القول بأن المسألة الَّتِی یُرَاد إثبات السِّیرَة فیها إذا کانت أوَّلاً: من المسائل الداخلة عادةً فِی محل الابتلاء بها کثیراً لدی النَّاس والمتدیّنین وَثَانِیاً کان السلوک الَّذِی یُرَاد إثبات انعقاد السِّیرَة علیه فِی المقام نحو سلوکٍ لا یوجد مبرّر لعدم الالتزام به، أی: لم یکن ذاک السلوک سلوکاً خلافه من الواضحات لدی النَّاس والمتشرعة، وثالثاً لم یکثر السؤال والجواب فِی المسألة فِی المجامیع الروائیة، هنا یَتُِمّ هذا الطریق الثَّالِث، وإن لَمْ تَتَوَفَّرْ هذه الشروط لا یَتُِمّ هذا الطریق الثَّالِث، سیأتی شرح هذه الشروط فِی البحث القادم إن شاء الله تعالی.

ص: 253

السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الطریق الثَّالِث: إثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصومین علیهم السلام عن طریق القول بأن المسألة الَّتِی یُرَاد إثبات السِّیرَة فیها إذا کانت أوَّلاً: من المسائل الداخلة عادةً فِی محل الابتلاء بها کثیراً لدی النَّاس والمتدیّنین وَثَانِیاً کان السلوک الَّذِی یُرَاد إثبات انعقاد السِّیرَة علیه فِی المقام نحو سلوکٍ لا یوجد مبرّر لعدم الالتزام به؛ إذ لَیْسَ خلافه من الواضحات لدی النَّاس والمتشرعة ولم یکثر السؤال والجواب فِی المسألة فِی ما بأیدینا من الروایات والنصوص، فَحِینَئِذٍ یستکشف فِی مثل ذلک أن ذاک السلوک کان ثابتاً فِی زمان الْمَعْصُوم علیه السلام أَیْضاً وکانت السِّیرَة منعقدة علیه، وَإلاَّ لزم إما أن یکثر السؤال عنه ویأتی الجواب فیه من الْمَعْصُوم علیه السلام وَإِمَّا أَنْ یَکُونُ خلافه من الواضحات لدی النَّاس عادةً، بحیث یکون هناک مبرِّر لانصرافهم عنه وعدم التزامهم به، وکلاهما خلف.

فَمَثَلاً إذا فرض الاِسْتِدْلاَل بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة وأرید إثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصوم عَلَیٰ ذلک عن هذا الطریق فیقال: بما أن المسألة کانت واقعة فِی محل ابتلاء أصحاب الأئمة علیه السلام کثیراً، ولم یکن هناک ما یبرر انصراف النَّاس عن الْعَمَل بخبر الثِّقَة (بقطع النَّظَر عن الشرع) باعتبار أن عدم حجیّته لَیْسَ من الأمور الواضحة بحسب الطباع الْعُقَلاَئِیَّة بحیث لا تحتاج إلی السؤال عن حُجِّیَّتُه، ولم تکثر فِی الأَدِلَّة والنصوص الصادرة من المعصومین علیهم السلام الأسئلة والأجوبة حول هذه المسألة، فَحِینَئِذٍ یثبت أن الْعَمَل بخبر الثِّقَة کان هو المتَّبَع والثابت آنذاک؛ لأَنَّ الأمر لا یخلو من أحد فرضین:

1)- فإما أن حُجِّیَّة خَبَر الثِّقَةِ کان من الواضحات عندهم، فلذا لم یکثر السؤال والجواب عنها، فیثبت المطلوب.

ص: 254

2)- وَإِمَّا أنها لم تکن من الواضحات عندهم فکان ینبغی إذن أن یکثر السؤال والجواب فِی المسألة؛ لأَنَّهَا محل الابتلاء کثیراً ولیس عدم الْحُجِّیَّة من الواضحات حسب الفرض، فإذا رأینا أن المسألة لم یکثر فیها السؤال والجواب بل ورد فیها ما یَدُلّ عَلَیٰ الْحُجِّیَّة نستکشف من ذلک کون الْحُجِّیَّة من الواضحات عندهم وأنهم کانوا یعملون بأخبار الثقات.

وَالْحَاصِلُ أَنَّه کلما کان لعدم قیام السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام عَلَیٰ أمر من الأمور لازم، وکان هذا اللازم منتفیاً وجداناً، ثبت قیام السِّیرَة آنذاک عَلَیٰ ذاک الأمر.

ولنوضّح ذلک فِی مثال آخر: لنفرض أننا نرید أن نثبت أن السِّیرَة المعاصرة للأئمة علیهم السلام کانت قائمة عَلَیٰ الاجتزاء والاکتفاء فِی الوضوء بالمسح ببعض الکف، فنقول: إن السِّیرَة آنذاک إما أنها کانت منعقدة حَقّاً عَلَیٰ ذلک، فهذا بنفسه یکون دلیلا عَلَیٰ عدم وجوب المسح بتمام الکلف لدی مَن یحاول الاستعلام عن حکم المسألة، فیُغنیه عن السؤال ما دام یریٰ أن سیرة المتشرعة قد انعقدت عَلَیٰ المسح ببعض الکف؛ إذ لا یَحتمل حِینَئِذٍ وجوب المسح بتمام الکف. إذن، فیثبت المطلوب.

وَإِمَّا أن السِّیرَة آنذاک لم تکن منعقدة عَلَیٰ ذلک وکان السلوک الْعَمَلِیّ لکثیر من المتشرعة هو المسح بتمام الکف، فهذا یعنی أن استعلام حکم المسألة ینحصر بالسؤال من المعصومین علیهم السلام أو الرجوع إلی روایاتهم؛ لأَنَّ مسح المتشرعة بتمام الکفّ لا یَدُلُّ عَلَیٰ وُجُوبِ هذا المسح؛ فَلَعَلَّهُ مستحب.

وَحَیْثُ أَنَّ المسألة محل الابتلاء لعموم أفراد المکلفین، ووجوب المسح بتمام الکف یستبطن عادةً عنایةً فائقة تحفّز عَلَیٰ السؤال، فمن الطبیعی أن تکثر الأسئلة فِی هذا المجال وتکثر الأجوبة تبعاً لذلک. وفی هذه الحالة یکون المفروض عادةً وصول مقدار من هذه الأسئلة والأجوبة إلینا عَلَیٰ أقل تقدیر، لاستبعاد اختفائها مع توفّر الدواعی عَلَیٰ نقلها وعدم وجود ما یبرّر إخفاءها أو اختفاءها. فإذا لم یصل إلینا ذلک تعرف أَنَّهُ لم تکن هناک أسئلة وأجوبة کثیرة. وَبِالتَّالِی لم تکن هناک حاجة إلی استعلام حکم المسألة عن طریق السؤال من المعصومین، وهذا یعیّن افتراض قیام السِّیرَة عَلَیٰ الاکتفاء بالمسح ببعض الکف، فهذا الاستدلال (کما لاحظنا) متوقف عَلَیٰ أَنْ تَکُونَ المسألة محل ابتلاء عَامَّة النَّاس، وأن یکون الحکم المقابل (کوجوب المسح بتمام الکف فِی المثال) مقتضیاً لسلوکٍ لا یقتضیه الطبع بنفسه، وأن تتوفر الدواعی عَلَیٰ نقل ما یرد فِی حکم المسألة، وأن لا توجد مبرّرات للإخفاء والاختفاء، وأن لا یصل شیء معتدّ به من الروایات وفتاوی المتقدمین فِی هذا المجال لإثبات الحکم المقابل.

ص: 255

فهذا الطریق الثَّالِث إذن یتقوّم بشروط عدیدة بعضها شروط عَامَّة جاریة فِی جمیع الموارد الَّتِی یُرَاد التَّمَسُّک فیها بهذا الطریق لإثبات السِّیرَة المعاصرة، وبعضها شروط خاصة لبعض الموارد لخصوصیة فِی تلک الموارد، ولکن لا یمکن ضبط تلک الشروط الخاصة، وَإِنَّمَا یکفی غالباًً توفّر الشروط العامّة فِی حصول العلم لنا بِالسِّیرَةِ المعاصرة، وتلک الشروط العامة یمکن حصرها وضبطها فِی أربعة شروط کما یلی:

الشَّرْط الأَوَّل: أَنْ یَکُونَ الحکم الَّذِی یُرَاد إثباته من خلال السِّیرَة حُکْماً فَرْدِیّاً، أَمَّا إذا کان حُکْماً اِجْتِمَاعِیّاً راجعا إلی ولی الأمر فلا یَتُِمّ الطریق المذکور لإثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام؛ لأَنَّ قوامه إِنَّمَا هو بالقول بأنه لولا انعقاد السِّیرَة آنذاک عَلَیٰ هذا المطلب لکثر السؤال وکثر الجواب ولَوَصَلَ إلینا ذلک.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الحکم إذا کان حُکْماً اِجْتِمَاعِیّاً راجعاً إلی ولی الأمر فلیس من الضروری واللازم أن یکثر السؤال عنه؛ إذ لَیْسَ محل ابتلاء الأفراد وعامّة النَّاس، فلو شککنا مثلاً فِی وجوب الإحسان إلی الفقراء عَلَیٰ الوالی، لم یصح القول بعدم الوجوب استناداً إلی أن بناء المتشرعة فِی زمان الْمَعْصُوم علیه السلام کان عَلَیٰ عدم والوجوب وعدم التزام الشخص بالإحسان إلی الفقراء لو صار والیاً، وَإلاَّ فلو لم تکن السِّیرَة منعقدة عَلَیٰ عدم الوجوب وکان افتراض إحسان الوالی إلی الفقراء واردا فِی السلوک الْعَمَلِیّ لکثیر من المتشرعة آنذاک فهذا یعنی أن استعلام حکم المسألة ینحصر بالسؤال من الْمَعْصومین علیهم السلام أو الرجوع إلی روایاتهم؛ لأَنَّ إحسان المتشرّع إلی الفقراء لو صار والیاً لا یکفی لإثبات الوجوب لدی مَن یحاول الاستعلام عن حکم المسألة ولا یغنیه عن السؤال عن الوجوب وعدمه.

إذن، فکان من الطبیعی أن تکثر الأسئلة فِی هذا المجال وتکثر الأجوبة تبعاً لذلک، ولوصل إلینا مقدار منها عَلَیٰ أقل تقدیر، بینما لم یصل شیء منه. إذن، یتعیَّن کون السِّیرَة آنذاک منعقدة عَلَیٰ عدم الوجوب.

ص: 256

أقول: إن هذا الکلام غیر صحیح؛ إذ أن الطبیعی هو أن تکثر الأسئلة فِی المسألة الَّتِی هی محل ابتلاء الأفراد، أَمَّا المسألة الَّتِی هی راجعة إلی الوالی ولیست محلاًّ لابتلاء الأفراد فلیس من المفروض واللازم أن یکثر السؤال عنها؛ لأننا نعلم أن أسئلتهم کانت تنشأ غالباً من الحاجة إلی فهم الحکم وتنبع من الابتلاء به.

هذا، مضافا إلی أَنَّهُ لو ثبتت هذه السِّیرَةُ لم تکن سیرة عملیةً بالفعل، وَإِنَّمَا کانت سیرة تقدیریة مِنْ دُونِ أَنْ یَکُونُ المقدر علیه (وهو کونه والیاً) ثابتاً بالفعل، وهذا ما قد یولّد إشکالا بلحاظ ما قد یقال، کما سیأتی - إن شاء الله تعالی - عند الکلام عن الرکن الثَّانِی من أن ما یلازم الحکم الشَّرْعِیّ وَیَدُلُّ علیه إِنَّمَا هو السِّیرَة الفعلیة لا التقدیریة.

الشَّرْط الثَّانِی: أَنْ یَکُونُ ذلک الحکم الفردی مِمَّا یکثر ابتلاء الأفراد به، وَأَمَّا فِی مثل تملّک المعِدن باستخراجه مثلاً فلا یمکن سلوک هذا الطریق لإثبات المقصود؛ لأَنَّهُ لم یکن مِمَّا یکثر ابتلاء الأفراد به کی تلزم کثرة السؤال والجواب، فلو شککنا مثلاً فِی أن الفرد هل یملک المعدِن إذا استخرجه أم لا؟ لا یَصِحُّ القول: بالتملک شَرْعاً اِسْتِنَاداً إلی أن بناء الْمُتَشَرِّعَةِ یحتملون أن من استخرج المعدن ملکه. فهذا معناه أن استعلام حکم المسألة ینحصر بالسؤال من الْمَعْصُوم علیه السلام، فکان من الطبیعی أن تکثر الأسئلة والأجوبة فِی هذا المجال، ولوصل إلینا مقدار منها عَلَیٰ الأقل، بینما لم یصل شیء منه. إذن، یتعین کون السِّیرَة آنذاک منعقدة عَلَیٰ التملک.

أقول: إن هذا الکلام غیر صحیح؛ لأَنَّ الطبیعی هو أن تکثر الأسئلة فِی المسألة الَّتِی یکثر ابتلاء الأفراد بها، أَمَّا المسألة الَّتِی لا یکثر ابتلاؤهم بها (کمسألة تملّک المعدِن بالاستخراج) فلیس من المفروض واللازم أن یکثر السؤال عنها؛ إذ ما دام الابتلاء بها قلیلاً، فالسؤال عنها أیضاً قلیل، والسؤال القلیل لَیْسَ من المفروض به أن یصل إلینا، بل قد یصل وقد لا یصل، فعدم الوصول لا یَدُلّ عَلَیٰ عدم وقوع السؤال والجواب، وَبِالتَّالِی فلا یثبت کون السِّیرَة آنذاک منعقدة عَلَیٰ التملک.

ص: 257

الشَّرْط الثَّالِث: أن لا یکون السلوک الَّذِی یتطلّبه الحکمُ المقابل موافقاً لطبع المجتمع آنذاک، ولو طبعاً مکتَسَباً من العادة.

وبعبارة أخری: أَنْ یَکُونُ ذاک السلوک سلوکاً لا یقتضیه الطبع بنفسه، فَمَثَلاً لا یمکن إثبات طهارة أبوال الدواب الثلاث المأکول لحمها [= البقر والإبل والغنم] عن هذا الطریق؛ لأَنَّ السلوک الَّذِی یتطلّبه الحکمُ المقابلُ للطهارة (وهو الحکم بالنجاسة) موافق للطبع، فلو شککنا فِی الطَّهَارَة والنجاسة لم یصح القول بالطهارة استناداً إلی أن بناء الْمُتَشَرِّعَة فِی زمان الْمَعْصُوم کان عَلَیٰ الطَّهَارَة نَظَراً إلی أَنَّهُ لو لم تکن السِّیرَة آنذاک عَلَیٰ الطَّهَارَة وکان افتراض النجاسة واردا فِی السلوک الْعَمَلِیّ لکثیر من الْمُتَشَرِّعَة آنذاک فهذا لازمه أن یکثر السؤال عن النجاسة، وأن یصل إلینا، بینما لم یصل، فیتعیّن کون السِّیرَة آنذاک منعقدة عَلَیٰ الطَّهَارَة.

أقول: إن هذا الکلام غیر صحیح؛ ذلک لأن اللازم والطبیعی أن یکثر السؤال عن النجاسة فیما إذا لم یکن السلوک الَّذِی یتطلّبه الحکم بالنجاسة موافقاً لطبع المجتمع آنذاک، بینما نحن نحتمل أن مُقْتَضَیٰ الطبع آنذاک کان هو الاجتناب عن أبوال هذه الدواب (ولو اکتساباً من العادة الناشئة من قول العامّة) الَّذِی هم الکثرة الکاثرة فِی ذلک الیوم) بالنجاسة مثلاً، فإذا کان السلوک الَّذِی یتطلبه الحکم بالنجاسة وهو الاجتناب سلوکاً یقتضیه الطبع بنفسه، إذن فلیس من المفروض واللازم حِینَئِذٍ أن یکثر السؤال عن النجاسة، فلعل السؤال عن النجاسة قد حصل، لٰکِنَّهُ کان قلیلاً، والسؤال القلیل لَیْسَ من المفروض به أن یصل إلینا، فعدم الوصول لا یَدُلّ عَلَیٰ عدم وقوع السؤال عن النجاسة والجواب بها، وَبِالتَّالِی فلا یثبت کون السِّیرَة آنذاک منعقدة عَلَیٰ طهارة هذه الأبوال.

الشَّرْط الرَّابِع: أن لا یکون الحکم المقابل مِمَّا دَلَّتْ علیه روایاتٌ عدیدة، أو أفتی به کثیرٌ من فقهائها المتقدّمین، فَمَثَلاً لا یمکن إثبات عدم وجوب السورة فِی الصَّلاَة عن هذا الطریق؛ لأَنَّ الحکم المقابل (وهو الوجوب) قد دَلَّتْ علیه روایات عدیدة وأفتی به کثیر من فقهائنا القدامی، فنحتمل أَنْ یَکُونُ ذلک نتیجة کثرة السؤال عن الوجوب والجواب، فلا یَتُِمّ القول بانعقاد السِّیرَة آنذاک عَلَیٰ عدم الوجوب نَظَراً إلی أَنَّهُ لو لا ذلک لکثر السؤال عن الوجوب والجواب؛ إذ أن وجود روایات عدیدة وفتاوی کثیرة بشأن الوجوب لعله ناشئ من کثرة السؤال والجواب کما هو واضح، فلا یصح إعمال هذا الطریق لنفی وجوب السورة فِی الصَّلاَة.

ص: 258

مُضَافاً إلی إمکان دعوی انتفاء الشَّرْط الثَّالِث المتقدم أَیْضاً بِالنِّسْبَةِ إلی هذا المثال وهو عدم وجوب السورة فِی الصَّلاَة.

هذه هی الشروط الأربعة العامّة للطریق الثَّالِث، فإذا توفّرت واجتمعت فِی موردٍ یَتُِمّ الطریق الثَّالِث لإثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام.

وکل هذه الشروط مجتمعة ومتوفرة فِی مسألة المسح فِی الوضوء بتمام الکف عَلَیٰ ظهر القدم؛ فَإِنَّ بالإمکان نفی وجوب ذلک عن طریق الاستدلال بقیام السِّیرَة المعاصرة.

السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وکل هذه الشروط مجتمعة ومتوفرة فِی مسألة المسح فِی الوضوء بتمام الکف عَلَیٰ ظهر القدم؛ فَإِنَّ بالإمکان نفی وجوب ذلک عن طریق الاستدلال بقیام السِّیرَة المعاصرة للمعصومین علیهم السلام عَلَیٰ عدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ؛ إذ یقال: لو لم تکن السِّیرَة آنذاک قائمة عَلَیٰ عدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ لکان یکثر السؤال عن وجوبه ویکثر الْجَوَابُ، وکان یصلنا ذلک فِی عدّة روایات، وهذا حکم فردی ولیس حُکْماً اِجْتِمَاعِیّاً رَاجِعاً إلی ولی الأمر، وهو حکم مبتلی به مِنْ قِبَلِ تمام الأفراد دائما، والسلوک الَّذِی یتطلبه الحکم المقابل (أی: الوجوب) وهو عبارة عن الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ لَیْسَ موافقاً للطبع، بل هو سلوک لا یقتضیه الطبع بنفسه، ولم یُفت أحد من الفقهاء بوجوبه ولم ترد أخبار عدیدة دالة عَلَیٰ وجوبه، وإن فرض ورود روایة واحدة بالوجوب فهذا لا یضرّ بالاستدلال بِالسِّیرَةِ بهذا الطریق الثَّالِث؛ لأَنَّ الروایة الواحدة لا یمکن أَنْ تَکُونَ ناشئة من کثرة السؤال عن الوجوب والجواب، فیبقی الاستدلال القائل بأنه «لو لم تکن السِّیرَة عَلَیٰ عدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ لکثر السؤال والجواب حول الوجوب» تَامّاً. إذن، فالشروط الأربعة متوفّرة فِی هذه المسألة، فیتم الاستدلال فیها بِالسِّیرَةِ المعاصرة الَّتِی نُثبتها بالطریق الثَّالِث.

ص: 259

یبقی هناک شرط خامس لاَ بُدَّ من البحث عنه وهو أن لا یکون الحکم الَّذِی یُرَاد إثباته بِالسِّیرَةِ قد دَلَّتْ علیه روایات عدیدة، فهل یُعتبر هذا أَیْضاً من شروط هذا الطریق الثَّالِث من طرق إثبات السِّیرَةِ المعاصرة؟ بحیث لو وردت روایات عدیدة مطابقة للحکم المقصود إثباته بِالسِّیرَةِ کما إذا وردت روایات عدیدة (فِی مسألة المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ فِی المثال) دالة عَلَیٰ عدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ، کان ذلک مضرّاً بالاستدلال بِالسِّیرَةِ بالطریق الثَّالِث، کما إن ورد روایات عدیدة دالة عَلَیٰ الحکم المقابل، أی: عَلَیٰ الوجوب فِی المثال، کان مُضِرّاً بهذا الاستدلال؛ إذ کان الشَّرْط الرَّابِع عبارة عن عدم ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ الحکم المقابل (أی: الوجوب فِی المثال)، فهل یشترط أَیْضاً عدم ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ الحکم الَّذِی یُرَاد إثباته (أی: عدم الوجوب فِی المثال)؟

التحقیق فِی ذلک أننا:

تَارَةً نرید الاستدلال بِالسِّیرَةِ مَحْضاً بحیث یکون الدَّلِیل لنا عبارة عن السِّیرَة فقط، کما کان هذا هو الظاهر من عباراتنا حتَّی الآن.

وأخری نرید جعل السِّیرَة جُزْءاً من الدَّلِیل، بحیث یکون الدَّلِیل ذا شقّین، أحدهما السِّیرَة، فهنا فرضان إذن، فعلی الفرض الأَوَّل یکون الشَّرْط الخامس المذکور معتبراً أَیْضاً، فیعتبر عدم ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ الحکم الَّذِی یُقصد إثباته (أی: عَلَیٰ عدم الوجوب فِی المثال)، فإذا وردت روایات مطابقة للحکم المقصود إثباته بِالسِّیرَةِ، کان ذلک مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاِلِ بِالسِّیرَةِ بالطریق الثَّالِث، وعلی الفرض الثَّانِی لا یکون الشَّرْط المذکور مُعْتَبَراً، فلا یشترط عدم ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ الحکم المقصود إثباته، فإذا وردت روایات مطابقة للحکم المقصود إثباته بِالسِّیرَةِ لم یکن ذلک مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاِلِ.

فهنا إذن تقریبان للاستدلال بِالسِّیرَةِ بالطریق الثَّالِث:

ص: 260

أحدهما: تقریب الاِسْتِدْلاَلِ بها مَحْضاً.

وثانیهما: تقریب الاستدلال بها کجزءٍ من الدَّلِیل:

أَمَّا التقریب الأَوَّل: فهو أن یقال بأنه لو لم تکن سیرة الجمیع أو الغالب آنذاک قائمةً عَلَیٰ عدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ لَسُئِلَ الإمام علیه السلام عن ذلک کثیراً، حتَّی لو افترضنا قیام السِّیرَة عَلَیٰ الاِلْتِزَام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ؛ لأَنَّ هذه السِّیرَة لا تَدُلُّ عَلَیٰ الوجوب ولا تکفی لإثباته؛ إذ لعل التزامهم بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ کان لأجل استحبابه وکثیر من الأصحاب یعرفون مثل هذه النکتة، فلا تکون مُغنیة عن استعلام حکم المسألة من الإمام علیه السلام، وَحَیْثُ أَنَّ المسألة محل ابتلاء عَامَّة الأفراد، والمفروض أن الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ خلاف الطبع، ووجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ یستبطن عنایة فائقة تحفّز عَلَیٰ السؤال، فمن الطبیعی أن تکثر الأسئلة فِی هذا المجال وتکثر الأجوبة تبعاً لذلک، وفی هذه الحالة یفترض عادةً أن یصل إلینا عَلَیٰ الأقل مقدار من تلک الأسئلة والأجوبة ضمن روایات عدیدة، لاستبعاد اختفاء جلّها مع توفر الدواعی عَلَیٰ نقلها وعدم وجود ما یبرّر الاختفاء. فإذا لم یصل إلینا ذلک نعرف أَنَّهُ لم تکن هناک أسئلة وأجوبة کثیرة؛ إذ أَنَّهُ لم تکن هناک حاجة إلی استعلام حکم المسألة عن طریق السؤال من الْمَعْصُوم علیه السلام؛ إذ کانت السِّیرَة قائمة عَلَیٰ الاجتزاء بالمسح ببعض الْکَفّ وعدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ، فیثبت المطلوب.

نعم، لو فرض أن وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ من قطعیّات الإسلام عَلَیٰ حدّ قطعیة عدد رکعات صلاة الظهر مثلاً، کان ذلک مُغنیاً لهم عن السؤال واستعلام الحکم فِی المسألة من الإمام علیه السلام، لکن هذا واضح البطلان.

وبناء عَلَیٰ هذا التقریب یکون الشَّرْط الخامس مُعْتَبَراً وهو عدم ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ الحکم المقصود إثباته بِالسِّیرَةِ وهو عدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ فِی المثال، ویکون ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ الحکم المقصود إثباته مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاَلِ (طبقا للشرط الرَّابِع)؛ لأَنَّ ورود روایات عدیدة یکشف عَلَیٰ کُلّ تقدیر عن کثرة السؤال وکثرة الجواب، فیبطل الاِسْتِدْلاَلُ بِالسِّیرَةِ حِینَئِذٍ؛ لأَنَّ الاستدلالَ کان یقوم عَلَیٰ أساس التلازم بین «عدم انعقاد السِّیرَة عَلَیٰ الاکتفاء بالمسح ببعض الْکَفِّ» وبین «کثرة السؤال وکثرة الجواب»، ولم یکن قائما عَلَیٰ أساس التلازم بین «عدم انعقاد السِّیرَة عَلَیٰ الاکتفاء بالمسح ببعض الْکَفِّ» وبین «کون الجواب خصوص الحکم بالوجوب»؛ فقد یکون الجواب هو الحکم بعدم الوجوب، فمجرد کثرة السؤال والجواب یمنعان عن إثبات السِّیرَة، سَوَاء کان الجواب بالإثبات أو النفی.

ص: 261

وَأَمَّا التقریب الثَّانِی فهو أن یقال: إما أن السِّیرَة آنذاک کانت قائمة عَلَیٰ الاجتزاء بالمسح ببعض الْکَفّ وعدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ، وَإِمَّا أنها لم تکن کذلک.

فعلی الأَوَّل یثبت عدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ؛ لما سیأتی - إن شاء الله تعالی - فِی بحث الرکن الثَّانِی من الملازمة بین السِّیرَة وبین الحکم الشَّرْعِیّ، وما سیأتی فِی الجهة الثَّالثة من أن السِّیرَة إذا قامت عَلَیٰ عدم التقیُّد والالتزام بفعلٍ مُعَیَّنٍ دَلَّتْ عَلَیٰ عدم وجوبه.

وعلی الثَّانِی یکون من الطبیعی حِینَئِذٍ أن یکثر السؤال عن وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ وعدم وجوبه، وعندئذٍ فإما أَنْ یَکُونُ الحکم فِی الواقع هو الوجوب أو عدم الوجوب، والثانی هو المقصود، والأول لو کان لکثر الجواب بالوجوب لوصل إلینا ذلک ضمن أخبار عدیدة؛ فمجرد عدم وصول أخبار عدیدة دالة عَلَیٰ الوجوب یکفی بناءًا عَلَیٰ هذا التقریب، ولا یضر وصول أخبار عدیدة دالة عَلَیٰ عدم الوجوب، فلا یکون الشَّرْط الخامس المذکور مُعْتَبَراً فِی الاستدلال بِالسِّیرَةِ بالطریق الثَّالِث.

وقد ظهر مِمَّا قلناه أننا إن أردنا أن ننفی حُکْماً من خلال الاستدلال بِالسِّیرَةِ بالطریق الثَّالِث:

فتارة نفترض أن ذاک الحکم الَّذِی نرید نفیه والاستدلال عَلَیٰ عدمه بِالسِّیرَةِ بهذا الطریق لَیْسَ فِی معرض النفی مِنْ قِبَلِ الإمام علیه السلام تقیةً، کما إذا أردنا أن ننفی وجوب الجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة من خلال الاِسْتِدْلاَل بِالسِّیرَةِ بالنحر المتقدم وافترضنا أن وجوب الجهر فیها لَیْسَ فِی معرض النفی تقیةً؛ إذ لَیْسَ رأی فقهاء العامة عَلَیٰ عدم وجوب الجهر مثلاً، فَحِینَئِذٍ یکفینا فِی مقام الاستدلال بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ نفی ذاک الحکم عدم ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ ثبوت ذاک الحکم، ففی المثال یکفینا عدم ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ الوجوب، ولا یضر بالاستدلال ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ نفی ذاک الحکم؛ لأَنَّ ورودها وإن کان مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاِلِ بِالسِّیرَةِ مَحْضاً (أی: بالتقریب الأَوَّل) لما قلناه من أن الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ مَحْضاً یُعتبر فیه الشَّرْط الخامس أَیْضاً وهو عدم ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ ما قصد إثباته بِالسِّیرَةِ، إلا أننا یکفینا الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ کجزءٍ من الدَّلِیل (أی: التقریب الثَّانِی) الَّذِی لا یُعتبر فیه الشَّرْط الخامس کما تَقَدَّمَ؛ فورودُ روایات عدیدة دالة عَلَیٰ عدم وجوب الجهر فِی المثال لا یضر بِالاِسْتِدْلاِلِ، بل هو مؤید للمطلوب.

ص: 262

وأخری نفترض أن الحکم الَّذِی یُراد نفیه والاستدلال عَلَیٰ عدمه بِالسِّیرَةِ بالطریق الثَّالِث حکم هو فِی معرض النفی تقیةً مِنْ قِبَلِ الإمام علیه السلام، کما إذا أردنا أن ننفی وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ فِی الوضوء من خلال الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ بِالنَّحْوِ المتقدم، وافترضنا أن وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ فِی معرض النفی تقیةً؛ نَظَراً إلی رأی الْعَامّة عَلَیٰ عدم المسح مثلاً، فَحِینَئِذٍ لا یکفینا فِی مقام الاِسْتِدْلاَل بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ نفی ذاک الحکم عدمُ ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ ثبوته، بل یشترط فیه أَیْضاً عدم ورود روایاتٍ عدیدة دالة عَلَیٰ نفیه الَّذِی هو المطلوب؛ لأَنَّهُ لو وردت روایات عدیدة دالة عَلَیٰ النفی المطلوب، فَحِینَئِذٍ یبطل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ مَحْضاً (أی: التقریب الأَوَّل) لانتفاء شرطه الخامس (وهو عدم ورود روایات عدیدة عَلَیٰ وفق المطلوب).

وَأَمَّا الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ کجزءٍ من الدَّلِیل (أی: التقریب الثَّانِی) فهو بنفسه بَاطِل فِی هذه الحالة؛ إذ من المحتمل أَنَّهُ لم تکن هناک سیرة قائمة آنذاک عَلَیٰ وفق المطلوب (أی: عَلَیٰ الاجتزاء بالمسح ببعض الْکَفّ وعدم التقیُّد بِتَمَامِ الْکَفِّ) وکثر السؤال عن الوجوب وجاء الجواب وفق المطلوب (أی: عدم الوجوب) تقیةً.

إذن، فورود روایات وفق المطلوب هنا لا ینفعنا، بل عدم ورودها أفضل؛ إذ عَلَیٰ تقدیر عدم ورودها تثبت السِّیرَة بِالتَّالِی ویثبت المطلوب وهو عدم الوجوب وجداناً، بینما عَلَیٰ تقدیر ورودها لا یثبت المطلوب فِی أحسن التقادیر إلا بالتَّعَبُّد؛ لأَنَّ الدَّلِیل عَلَیٰ المطلوب (أی: عدم الوجوب فِی فرض ورود روایات وفق المطلوب) ینحصر بنفس تلک الروایات بعد بطلان الاِسْتِدْلاَلِ بِالسِّیرَةِ بکلا تقریبیه کما تَقَدَّمَ آنفاً، وَحِینَئِذٍ إن کانت تلک الروایات حجةً تَعَبُّداً (أی: توفرت فیها شروط الْحُجِّیَّة) ولم یکن لها معارض (إذ مع وجود المعارض تحمل هذه الروایات عَلَیٰ التقیة) یثبت المطلوب وهو عدم الوجوب تَعَبُّداً.

ص: 263

بقیت فِی المقام نقطة لاَ بُدَّ من التَّنْبِیه علیها وهی أننا ذکرنا فِی الشَّرْط الرَّابِع من شروط الاِسْتِدْلاَل بِالسِّیرَةِ بالطریق الثَّالِث أن لا یکون الحکم المقابل مِمَّا دَلَّتْ علیه روایات عدیدة، أو أفتی به کثیر من فقهائها المتقدمین، وذکرنا فِی الشَّرْط الخامس الَّذِی أصبح من شروط الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ مَحْضاً (أی: من شروط التقریب الأَوَّل) أن لا یکون نفس الحکم المقصود إثباته بِالسِّیرَةِ أَیْضاً مِمَّا دَلَّتْ علیه روایات عدیدة، وَإلاَّ فیبطل التقریب الأَوَّل للاستدلال بِالسِّیرَةِ بالطریق الثَّالِث کما عرفت.

وعلیه، فنواجه هذا السؤال وهو أننا کما ألحقنا فتاوی الکثیر من فقهائها المتقدمین بالروایات فِی الشَّرْط الرَّابِع وقلنا بأنه یشترط أن لا یکون الحکم المقابل مِمَّا دَلَّتْ علیه روایات عدیدة أو أفتی به کثیر من فقهائها المتقدمین؛ فَإِنَّهُ حِینَئِذٍ یَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل؛ إذ لو کان قد کثر السؤال لکثر الجواب، ولو کثر الجواب لوصول الجواب إلینا إما ضمن روایات عدیدة أو ضمن فتاوی. فهل نلحقها بها فِی الشَّرْط الخامس أَیْضاً ونقول بأنه یشترط أن لا یکون الحکم المقصود إثباته بِالسِّیرَةِ أَیْضاً مِمَّا دَلَّتْ علیه روایات عدیدة أو أفتی به کثیر من فقهائنا المتقدمین؟ بحیث یبطل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ مَحْضاً (أی: التقریب الأَوَّل) فیما إذا کان الحکم الَّذِی یُراد إثباته بِالسِّیرَةِ مِمَّا أفتی به کثیر من فقهائنا المتقدمین، کما یبطل فیما إذا وردت روایات عدیدة دالة علیه، أم لا نلحقها بها فلا یبطل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ بنحو التقریب الأَوَّل فیما إذا کانت فتاوی الفقهاء القدامی مطابقة للحکم المقصود إثباته بِالسِّیرَةِ؟

مُقْتَضَیٰ القاعدة هو الإلحاق؛ إذ لا خصوصیة للروایات فیما نحن فیه؛ فَإِنَّ النکتة الَّتِی بها کان ورود روایات عدیدة دالة عَلَیٰ المقصود مُضِرّاً بِالاِسْتِدْلاِلِ، موجودة فِی الفتاوی المطابقة للمقصود أَیْضاً، والنکتة ما تَقَدَّمَ فِی الشَّرْط الخامس من أن ورود روایات عدیدة یکشف عَلَیٰ کُلّ حال (أی: سَوَاء کانت الروایات دالة عَلَیٰ الحکم المقابل أم کانت دالة عَلَیٰ الحکم المقصود إثباته) عن کثرة السؤال وکثرة الجواب، فیبطل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ بنحو التقریب الأَوَّل حِینَئِذٍ؛ فمجرد کثرة السؤال والجواب یمنعنا عن إثبات السِّیرَة، سَوَاء کان الجواب بالإثبات أو النفی، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذه النکتة ساریة وجاریة فِی الفتاوی أَیْضاً، فتاوی من الفقهاء المتقدمین مطابقة للحکم المقصود إثباته بِالسِّیرَةِ یضر بِالاِسْتِدْلاِلِ بِالسِّیرَةِ؛ إذ نحتمل حِینَئِذٍ کثرة السؤال والجواب ووصول الحکم إلینا ضمن هذه الفتاوی.

ص: 264

وفی ضوء هذا الإلحاق تکون النتیجةُ عبارة عن بطلان الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ مَحْضاً (أی: التقریب الأَوَّل) فِی مسألة المسح فِی الوضوء، فلا یصح الاِسْتِدْلاِل عَلَیٰ کفایة المسح ببعض الْکَفّ وعدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ بِالسِّیرَةِ بنحو التقریب الأَوَّل؛ إذ حتَّی لو لم ترد أیة روایة فِی المقام، ففتاوی الفقهاء المتقدمین هی مطابقة للحکم الَّذِی نرید إثباته بِالسِّیرَةِ.

وعلیه، فنحن نحتمل کثرة السؤال والجواب ووصول الأمر إلینا ضمن هذه الفتاوی.

والَّذِی یهوّن الخطب هو أن الإفتاء بکفایة المسح ببعض الْکَفّ وعدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ غیر متوقّف عَلَیٰ الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ بنحو التقریب الأَوَّل، بل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ بنحو التقریب الثَّانِی تَامّ فِی المسألة کما تَقَدَّمَ.

هذا، مُضَافاً إلی أن بالإمکان الاستغناء عن الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ رأساً؛ إذ لا یبعد القول بعدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ لأحد دلیلین:

الأَوَّل: أنا ما ورد من إجزاء المسح بشیء من ظَهر الرجل فِی ما بین الکعبین إلی أطراف الأصابع بناءً عَلَیٰ أن حمله (فِی مقام الجمع بینه وبین ما دَلَّ عَلَیٰ وُجُوبِ المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ) عَلَیٰ المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ الَّذِی هو غیر مستوعب لتمام ظهر الرجل حمل غیر عرفی یتعارض مع ما دَلَّ عَلَیٰ وُجُوبِ المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ، فإذا لم یمکن حمل الثَّانِی عَلَیٰ الاستحباب وتساقطا، نرجع إلی الأصل وهو عدم وجوب أکثر من مسمّی المسح.

الثَّانِی: أن ما قام من إجماع الإمامیة أو ما یشبه الإجماع مِنْ قِبَلِ قدماء الأصحاب عَلَیٰ عدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ یوجب سقوطَ الخبر الدَّال بظاهره عَلَیٰ وُجُوبِ المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ عن الْحُجِّیَّة، والنکتة فِی ذلک لیست عبارة عن مجرد التَّمَسُّک بالإجماع کی یقال: إِنَّهُ مدرکیّ أو محتمل المدرکیة، ولا هی عبارة عن مجرد إعراض الأصحاب عن الخبر المذکور کی یقال:

ص: 265

أوَّلاً: بعدم ثبوت إعراض الأصحاب عن سنده؛ لاحتمال حملهم له عَلَیٰ الاستحباب.

وَثَانِیاً: بأن إعراض الأصحاب عن السند لا یُسقط السند عن الْحُجِّیَّة عَلَیٰ ما هو الصَّحِیح.

وَإِنَّمَا النکتة فِی ذلک عبارة عن وضوح أن المسح عَلَیٰ الرجل کان محل ابتلاء کُلّ الشیعة فِی کُلّ یوم عدة مرات، فافتراض أن الحکم بقی غامضاً لدیهم إلی آخر زمان الأئمة علیهم السلام بحیث لم یکن الوجوب ولا عدم الوجوب واضحا عندهم، احتمال غیر وارد أصلاً، ولو افترضنا أن وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ کان هو الواضح عندهم، إذن فاحتمال أن ینقلب الأمر دفعةً من أول عصر الغیبة إلی إجماع الفقهاء عَلَیٰ عدم الوجوب، احتمالٌ غیر وارد.

وعلیه، فمثل هذا البیان قد یوجب القطع أو الاطمئنان (عَلَیٰ الأقل) بعدم وجوب المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ.

هذا تمام الکلام فِی الطریق الثَّالِث من طرق إثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام وقد عرفت أَنَّهُ طریق تَامّ إذا توفّرت شروطُه الَّتِی ذکرناها.

الطریق الرَّابِع: وهو مُخْتَصّ بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة، وهو إثبات السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة المعاصرة لزمان الشَّارِع من خلال الاستقراء الناقص، بأن نستقرئ أوضاعاً اجتماعیةً متعددة فِی مجتمعات کثیرة ومختلفة زماناً ومکاناً، فنلاحظ تطابقها عَلَیٰ سلوک مُعَیَّن وثبوت سیرة واحدة معینة فِی جمیعها، فمن خلال ذلک نعمّم الحکم عَلَیٰ جمیع المجتمعات الْعُقَلاَئِیَّة حتَّی المعاصرة لعهد الْمَعْصُوم علیهم السلام نستکشف ثبوت هذه السِّیرَة فِی زمان الشَّارِع، عَلَیٰ حد الاستکشاف الثابت فِی جمیع موارد التجربة والاستقراء الناقص، فکما أننا حینما نستقرئ حال قطعة من الحدید ونراها تتمدّد بالحرارة، ونستقرئ حال القطعة الثَّانیة وهکذا الثَّالثة والرابعة، ونری أن نتیجة الاستقراء فِی الجمیع واحدة، حِینَئِذٍ نعمّم الحکم عَلَیٰ کُلّ حدید بأنه یتمدّد بالحرارة، رغم أن استقراءنا کان نَاقِصاً وتجاربنا لم تکن إلا عَلَیٰ مصادیق معینة ومحدودة من الحدید، وکذلک الأمر حینما نحکم بأن کُلّ نار محرقة مع أن تجاربنا لم تکن إلا عَلَیٰ مصادیق محدودة من النار، أو نحکم عَلَیٰ کُلّ دجاجة مثلاً بأن فیها حالة خاصة مع أننا لم نستقرئ سوی کمّیّة محدودة من أفراد الدجاج الَّتِی رأینا فیها تلک الحالة الخاصة، فکذلک حینما نستقرئ مجتمعات عدیدة (غیر مجتمع الْمَعْصُوم الحاضر) ونری فیها ثبوت سیرة معینة، نحکم حِینَئِذٍ عَلَیٰ کُلّ مجتمع عقلائی بما فیه مجتمع الْمَعْصُوم الحاضر بثبوت تلک السِّیرَة فیه وباستقرار التعایش فِی جمیع المجتمعات الْعُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ تلک الْوَضْعِیَّة.

ص: 266

وهذا الطریق یختلف عن الطریق الأَوَّل المتقدم الَّذِی کان مبنیاً عَلَیٰ روح الاستصحاب القهقرائی وافتراض توارث السِّیرَة یداً عن ید؛ فَإِنَّ هذا الطریق لَیْسَ مبتنیاً عَلَیٰ ذلک، بل هو مبتنٍ عَلَیٰ روح التَّمَسُّک بالاستقراء واستنتاج النَّتِیجَة العامة والکلّیة من الاستقراء الناقص للجزئیات، کما هو الحال دائما فِی باب التجربة الَّتِی هی أساس العلوم الطبیعیة.

وفی مقام التعلیق عَلَیٰ هذا الطریق یوجد بیانان قد یرجعان بِالتَّالِی إلی مطلب واحد:

البیان الأَوَّل: أن یورد عَلَیٰ هذا الطریق بعدم تمامیته فِی جملة من الأحیان؛ لأننا بهذا الاستقراء إِنَّمَا نلاحظ غالباً المجتمعات المعاصرة لنا، بینما یُرَاد بالاستقراء تعمیم الحکم عَلَیٰ مجتمع لم نعاصره، بل یفصلنا عنه زمان طویل بما کان یشتمل علیه هذا الفاصل الزمنی البعید من أحداث وظروف ووقائع، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مثل هذا التعمیم متعذر بحسب قوانین الاستقراء وقواعد حساب الاحتمالات غالباً وفی کثیر من الأحیان؛ فَإِنَّ التعمیم فِی المقام إِنَّمَا یصح فیما إذا لم نحتمل وجود نکتة وخصوصیة فِی ظروف هذا المجتمع تمیّزه من غیره من المجتمعات، والحال أن هذا الاحتمال موجود وثابت فِی المقام؛ لأننا نعلم إجمالا بأن المجتمعات الْعُقَلاَئِیَّة قد اختلفت کثیراً بمرور الزمان فِی کثیر من خصوصیاتها ومرتکزاتها وسلوکها، وأن الأوضاع الاجتماعیة قد تغیّرت فِی الجملة عَمَّا کانت علیه فِی الأزمنة السابقة ولم تثبت جمیعاً عَلَیٰ ما کانت علیه نتیجة طروّ عوامل مختلفة، وبهذا الاختلاف والتغیّر تبدَّلَ کثیر من سلوک النَّاس ومرتکزاتهم، إذن، فلا یمکن أن نخرج من استقراء المعاصرین إلی تعمیم یشمل المجتمع الَّذِی لم نعاصره؛ لاحتمال تَحَقُّق بعض تلک العوامل بِالنِّسْبَةِ إلی السِّیرَة الَّتِی یُرَاد إثباتها.

البیان الثَّانِی: أن یورد علیه بأن هذا الطریق حیث أَنَّهُ قائم عَلَیٰ أساس التَّمَسُّک بالاستقراء فتحقیق حاله بنحو التفصیل یرتبط ببحث الأسس المنطقیة للاستقراء ودراسة قواعد التجربة وقوانین المنطق الذاتی، ولیس المقام موضع تفصیلها، إلا أننا نقول إجمالا:

ص: 267

تَارَةً یقصد بهذا الطریق (أی: الاستقراء) إثبات أصل وجود قریحة مشترکة بین المجتمعات وعلّیّتها لتحقّق هذه السِّیرَة، أو تلازمها بحیث أننا لم نعرف هذه القریحة لم نعلم بوجود هذا الشیء المشترک مسبَقاً وقبل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ بل نحتمل وجوده، وَإِنَّمَا نرید اکتشافه وإثبات وجوده مِنَ السِّیرَةِ نفسها، کی نقول بعد ذلک: إِنَّهُ العلة لتلک السِّیرَة أو أنهما متلازمان.

وأخری یقصد به إثبات العلیة أو التلازم بین أمرٍ مشترکٍ (- نَفْسَانِیّ أو خارجی - معلومٍ لنا مسبقاً وقبل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ) وبین السِّیرَة.

ففی الفرض الأَوَّل لا یُجدینا هذا الطریق فِی المقام، ولا ینفعنا الاستقراء المذکور لإثبات السِّیرَةِ المعاصرة للمعصوم علیه السلام. أَمَّا فِی الفرض الثَّانِی فقد یکون نَافِعاً لإثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام.

توضیح ذلک:

أَمَّا فِی الفرض الأَوَّل؛ فلأننا ما دمنا لا نعلم بأصل وجود عنصرٍ مشترکٍ فِی جمیع تلک الموارد الَّتِی جرّبناها والمجتمعات الَّتِی استقرأناها ولاحظنا تطابقها عَلَیٰ شیء واحد وسیرة معینة، إذن فلا یصح لنا أن نکتشفه ونستدلّ عَلَیٰ أصل وجوده بهذا الاستقراء، کی نقول بعد ذلک: إن هذا العنصر المشترک هو السَّبَب والعلة لتحقق هذه السِّیرَة أو هما متلازمان، وَالسَّبَب فِی عدم صحة هذا الاکتشاف والاستدلال هو عدم توفر شرط الاِسْتِدْلاِل بالاستقراء وعدم انطباق قانون التجربة فِی المقام؛ فَإِنَّ قانون التجربة والاستقراء إِنَّمَا ینطبق فِی ما لو علمنا بوجود عنصر مشترک فِی جمیع الموارد الَّتِی جرّبناها واستقرأناها، فنستکشف حِینَئِذٍ من التجربة علّیّة ذاک العنصر المشترک لکل تلک الْمَوَارِد الداخلة تحت التَّجْرُبَة والاستقراء أوتلازمهما، وَأَمَّا إذا لم نعلم بوجوده بل احتملنا ذلک فالتجربة لا توجب لنا القطع بعلیّة ذلک العنصر المحتمل لتلک الموارد أو تلازمه معها، فَمَثَلاً لو رأینا آلاف الأشخاص تناولوا قرصاً معیّناً فماتوا؛ فَإِنَّ هذا الاستقراء حِینَئِذٍ یوجب لنا العلم بأن ذاک القرص سُمّ قاتل وأنه العلة لموتهم؛ لأَنَّ العنصر المشترک فِی جمیعهم (وهو تناول القرص) نعلم بوجوده مسبَقاً، فنستکشف عِلِّیَّته للموت من الاستقراء، أَمَّا لو رأینا آلاف الأشخاص ماتوا، واحتملنا أنهم تناولوا قرصاً مُعَیَّناً، فإن هذا الاستقراء لا یوجب لنا العلم بأن ذاک القرص سمّ قاتل ولا یکون کاشفا عن عِلِّیَّته للموت، وما نحن فیه من هذا القبیل؛ فإننا ما دمنا قد فرضنا (فِی الفرض الأَوَّل) أننا لا نعلم بأصل وجود عنصر مشترک فِی جمیع المجتمعات الَّتِی استقرأناها ورأیناها مطبِقةً عَلَیٰ سیرة مُعَیَّنة، ولا نعرف شَیْئاً مشترکاً فِی ما بین هذه المجتمعات یحتمل کونه هو العلة وَالسَّبَب لتحقّق تلک السِّیرَة أو تلازمها، إذن فلیس من الصَّحِیح أن نکتشف بواسطة استقراء جملة من المجتمعات وملاحظة وجود تلک السِّیرَة فیها عِلِّیَّة عنصرٍ یُفترض اشتراکه فِی ما بین تلک المجتمعات لتلک السِّیرَة أو تلازمهما.

ص: 268

هذا مُضَافاً إلی أَنَّهُ حتَّی لو صحّ هذا الاکتشاف وفرضنا أن استقراء تلک المجتمعات أوجب لنا العلم بأن ذاک العنصر المشترک المحتمل وجوده فِی تلک المجتمعات هو العلة وَالسَّبَب لتحقق تلک السِّیرَة أو هما متلازمان، لکن لا طریق لنا إلی معرفة أن ذاک العنصر المشترک کان مَوْجُوداً فِی مجتمع الْمَعْصُوم الحاضر علیه السلام أَیْضاً کی نثبت من خلاله وجود تلک السِّیرَة فِی مجتمعه علیه السلام، إذن ففی الفرض الأَوَّل لا یَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بالاستقراء لإثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام.

السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وَأَمَّا فِی الفرض الثَّانِی؛ فلأننا ما دمنا نعلم مسبَقاً (وقبل الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ الَّتِی رأینا بالاستقراء تطابق جملة من المجتمعات علیها) بوجود عنصرٍ مشترکٍ فِی جمیع تلک المجتمعات (سَوَاء کان هذا العنصر أمرا نفسانیاً أم کان أمراً موضوعیاً خارجیاً) ورأینا بالاستقراء أن هذا العنصر المشترک مقارن لتلک السِّیرَة ولا ینفک عنها، إذن فقد یصح لنا أن نکتشف بالاستقراء المذکور عِلِّیَّتَه لتلک السِّیرَة أو تلازمهما، لتوفّر شروط الاِسْتِدْلاِل بالاستقراء وانطباق قانون التَّجْرُبَة (الَّذِی ذکرناه آنفاً) فِی المقام، فیکون الاستقراء موجباً لحصول العلم لنا بعلّیّة ذاک العنصر لتلک السِّیرَة أو تلازمهما؛ لأَنَّهَا توجد متی وجد وتنعدم مثلاً متی انعدم، لکن بشرط أن نری أن سائر الأمور المقارنة لتلک السِّیرَة (غیر هذا العنصر المشترک) لا یُحتمل علّیّتها لِلسِّیرَةِ أو تلازمهما وَإلاَّ فمع احتمال عِلِّیَّة أمر آخر مقارنٍ أَیْضاً لِلسِّیرَةِ أو تلازمهما لا یمکن إثبات المطلوب، لوضوح أَنَّهُ إذا وجد فِی کُلّ مجتمع من تلک المجتمعات المطبِقة عَلَیٰ سیرة مُعَیَّنة مقارن آخر لتلک السِّیرَة یحتمل کونه هو العلة لتحقیق السِّیرَة أو کونهما متلازمین، فَحِینَئِذٍ لا یثبت المطلوب ولا یحصل لنا العلم من خلال الاستقراء بعلیة ذاک العنصر لِلسِّیرَةِ أو تلازمهما.

ص: 269

إذن، فمع توفّر هذا الشَّرْط نثبت عِلِّیَّة ذاک العنصر لِلسِّیرَةِ أو تلازمهما وَحِینَئِذٍ إذا علمنا بوجود ذاک العنصر فِی زمان الشَّارِع فَسَوْفَ نعلم قهراً بوجود تلک السِّیرَة فِی ذلک الزمان، ومثال ذلک هو أن نفترض أننا استقرأنا مجتمعات عدیدة فرأینا أن سیرتها مطبِقة عَلَیٰ الملکیة الخاصة ورفض الملکیة الاشتراکیة، وعلمنا مسبَقاً بوجود درجة مُعَیَّنة من القدرة والسلطة للحکومة فِی هذه المجتمعات، ورأینا بحسب التَّجْرُبَة التقارن بین تلک الدرجة من السلطة الحکومیة وبین قیام السِّیرَة عَلَیٰ الملکیة الخاصة، مع عدم مقارنٍ آخر لهذه السِّیرَة یحتمل عِلِّیَّتَه لها أو تلازمها، فإذا رأینا أن تلک الدرجة من السلطة کانت ثابتة فِی عصر الْمَعْصُوم الحاضر، ثبتت هذه السِّیرَة لأصل ذاک الزمان.

ویمکننا أن ندرج فِی هذا الباب حُجِّیَّة الظُّهُور، بدعوی أننا رأینا المقارنة بین کون میزان التفهیم والتفهّم هو اللغة وبین قیام السِّیرَة عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور( (1) )، فنعلم أن الأَوَّل عِلَّة للثانی أو هما متلازمان ومعلولان لشیء واحد، فنستکشف من ذلک ثبوت هذه السِّیرَة فِی زمان الشَّارِع، باعتبار أن میزان التفاهم آنذاک کان هو اللغة بلا إشکال.

نعم، هذا الاستکشاف مشروط بدفع احتمال وجود مانعٍ فِی زمان الشَّارِع یمنع عن تأثیر المقتضی فِی تَحَقُّق هذه السِّیرَة؛ وَذَلِکَ لأَنَّ تجربة المقارنة بین «أ» و«ب» إِنَّمَا تثبت أن «أ» مقتضٍ ل_«ب»، ولا تثبت عدم وجود مانع صدفةً یمنع عن تأثیر فرد خَاصّ من «أ».

ص: 270


1- (1) - اللهم إلا أن یقال: إننا لم نشاهد مجتمعاً لا یکون میزان التفاهم عنده اللغة، کی نری أَنَّهُ هل تنتفی عنده السِّیرَة عَلَیٰ الْعَمَل بِالظُّهُورِ أم لا؟ فالمقارنة المذکورة تکون من قبیل ما لو رأینا النار فِی کُلّ الأمکنة ورأینا الاحتراق فِی کُلّ الأمکنة ولم نشاهد مکاناً خالیاً من النار کی نری أَنَّهُ هل ینتفی فیه الاحتراق أم لا؟ ومن الواضح أَنَّهُ عندئذٍ لا نستطیع أن نفهم عِلِّیَّة النار للاحتراق أو تلازمهما.

ویمکن إحراز عدم مَانِعِیَّةِ سائر المقارنات فِی زمان الشَّارِع فِی ما نحن فیه، باعتبار أن الْمَانِعِیَّة فِی باب السیر الْعُقَلاَئِیَّة مَانِعِیَّة مفهومیّة، فلا یُحتمل أیّ شیء عنها، ولیست کَالْمَانِعِیَّةِ فِی الأمور التکوینیة، من قبیل مَانِعِیَّة الرطوبة عن احتراق النار مثلاً الَّتِی لا یمکن إثباتها أو نفیها إلا بالتجربة؛ فَإِنَّ الْمَانِعِیَّة فِی باب السیر الْعُقَلاَئِیَّة مرتبطة بوعی البشر واختیاره؛ فقد تُنفی بحکم العقل، بلا حاجة إلی التَّجْرُبَة.

وبهذا الطریق ننفی مَانِعِیَّة المقارنات فِی زمان الشَّارِع عن تَحَقُّق السِّیرَة عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور.

مُضَافاً إلی أَنَّهُ فِی خصوص حُجِّیَّة الظُّهُور یمکن القول بأن الْمُقْتَضِی والملاک لها لَیْسَ عبارة عن مجرد کون اللغة هی أساس التفاهم، بل الملاک عبارة عَمَّا فیه من الکشف النوعی وتطابق درجة الکشف الموجود فیه مع درجة اهتمام الْعُقَلاَء بأغراضهم عند الشَّکّ، ولا نَشُکُّ فِی أن نفس هذه الحالة کانت موجودة فِی زمان الشَّارِع؛ لأَنَّهَا نابعة عن الأغراض الْعُقَلاَئِیَّة الَّتِی نتعقّلها والتی لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمکنة، وهذا ما سیأتی قریبا - إن شاء الله - فِی الطریق الخامس.

هذا تمام الکلام فِی الطریق الرَّابِع، وقد عرفت أَنَّهُ أَیْضاً تَامّ فِی بعض الفروض عند توفر الشروط الَّتِی ذکرناها.

الطریق الخامس: ما ذکره سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی الحلقة الثَّانیة من إثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام عن طریق الملاحظة التحلیلیة الوجدانیة، بمعنی أن الإنسان إذا عرض مسألةً عَلَیٰ وجدانه ومرتکزاته الْعُقَلاَئِیَّة فرأی أَنَّهُ منساق إلی اتخاذ موقفٍ مُعَیَّن، ولاحظ أن هذا الموقف واضح فِی وجدانه بدرجة کبیرة، واستطاع أن یتأکد بملاحظة تحلیلیة وجدانیة من عدم ارتباط هذا الموقف بالخصوصیات الَّتِی تتغیّر من حالة إلی حالة ومن شخص إلی شخص آخر، أمکنه أن ینتهی إلی الوثوق بأن ما ینساق إلیه من موقفٍ حالةٌ عَامَّةٌ فِی کُلّ الْعُقَلاَء، وقد یدعم ذلک باستقراء حالة الْعُقَلاَء فِی مجتمعات عُقَلاَئِیَّة مختلفة للتأکد من هذه الحالة العامة.

ص: 271

وکأن سَیِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِیدَ قد ذکر هذا الطریق علاجاً للنقض الَّذِی کان یواجهه الطریق الرَّابِع وهو الاِسْتِدْلاِل بالاستقراء، فلیس هذا الطریق مبنیا عَلَیٰ روح التَّمَسُّک بالاستقراء والتجربة واستنتاج النَّتِیجَة الکلیة من الموارد الْجُزْئِیَّة کی یواجه النقص الَّذِی ذکرناه هناک، وَإِنَّمَا هو مبنیّ عَلَیٰ تحلیل وجدانی یقوم به الإنسانُ؛ وَذَلِکَ لأَنَّ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة الَّتِی نعاصرها نحن کثیراً ما یمکن لنا بناءًا نحن عقلاء أن ندرک منشأها ونکتتها وأساسها، وذلک من خلال التحلیل الوجدانی الَّذِی ذکره سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ ؛ فإننا إذا حدسنا أن منشأ هذه السِّیرَة الَّتِی نعاصرها وأساسها وملاکها عبارة عن الأمر الفلانی ورأینا أن ذاک الأمر من الجهات المشترکة بین جمیع الْعُقَلاَء ولیس مِمَّا یحتمل وقوع تغیّر فیه بلحاظ الفوارق الحاصلة بین الأجیال بسبب مرور الزمان. یثبت لنا حِینَئِذٍ أن هذه السِّیرَة نفسها کانت ثابتة فِی عصر الشَّارِع أَیْضاً. فَمَثَلاً بِالنِّسْبَةِ للعمل بخبر الثِّقَة إن ثبتت فِی زماننا سیرة عُقَلاَئِیَّة علیه؛ فَإِنَّ منشأها ونکتتها (بحسب حدسنا بمن نحن عقلاء) عبارة عن تطابق درجة کشفه النوعی عن الواقع (والتی هی عبارة عن 80% مثلاً) مع درجة اهتمام الْعُقَلاَء غالباً بأغراضهم الَّتِی هی أَیْضاً عبارة عن «80%»، ونحن لا نحتمل اختلاف زمان الشَّارِع عن زماننا فِی هذه النکتة، فیحصل لنا الوثوق بثبوت هذه السِّیرَة آنذاک أَیْضاً؛ وکذلک الأمر بِالنِّسْبَةِ لقیام السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة فِی عصرنا عَلَیٰ الْعَمَل بالظهور، حیث یمکننا (بما نحن عقلاء) أن نحدث منشأ هذه السِّیرَة وأساسها وهو عبارة عن عدم وجود طریق آخر أفضل منه لتنظیم التفاهم بین النَّاس، حیث أن درجة الکشف النوعی الموجود فِی الظُّهُور تتطابق وتتناسب مع درجة اهتمام الْعُقَلاَء عادةً بأغراضهم عند الشَّکّ، ولا نحتمل الْفَرْق فِی ذلک بین زماننا وزمان الْمَعْصُوم علیه السلام.

ص: 272

إذن، فهذا الطریق یختلف عن الطریق الأَوَّل الَّذِی کان مبنیاً عَلَیٰ روح التَّمَسُّک بالاستصحاب القهقرائی وافتراض توارث السِّیرَة یداً بید، ویختلف أَیْضاً عن الطریق الرَّابِع الَّذِی کان مبنیاً عَلَیٰ روح التَّمَسُّک بالاستقراء کما قلنا؛ فَإِنَّهُ لَیْسَ مبنیاً عَلَیٰ هذا ولا عَلَیٰ ذاک، بل هو مبنیّ عَلَیٰ هذا ولا عَلَیٰ ذاک، بل هو مبنی عَلَیٰ تحلیل الإنسان لِلسِّیرَةِ الَّتِی یعاصرها تحلیلاً وجدانیاً ینتهی به إلی الوثوق بثبوت هذه السِّیرَة نفسها فِی عهد الْمَعْصُوم علیه السلام أَیْضاً؛ فَإِنَّ السیر الْعُقَلاَئِیَّة لیست (غالباً) غامضة السَّبَب والنکتة کُلّ الغموض، فیمکن للإنسان الحاسّ بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة فِی زمانه أن یدرک علّتها وملاکها، ولذا فإن هذا الطریق نعتبره طَرِیقاً استدلالیاً موضوعیاً بقطع النَّظَر عَمَّا یتاح للملاحِظ والمحلِّل من استقراء مجتمعات عُقَلاَئِیَّة مختلفة، وإن کان هذا خلاف ما ذکره سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی الحلقة الثَّانیة فِی مقام التعلیق عَلَیٰ هذا الطریق حیث قال:

وهذا الطریق قد یحصل للإنسان الوثوق بسببه، ولٰکِنَّهُ لَیْسَ طریقاً اِسْتِدْلاَلِیّاً مَوْضُوعِیّاً إلا بقدر ما یتاح للملاحِظ من استقراء للمجتمعات الْعُقَلاَئِیَّة المختلفة».

أقول: حتَّی بِغَضِّ النَّظَرِ عن استقراء عدة مجتمعات عُقَلاَئِیَّة؛ فَإِنَّ هذا الطریق استدلال موضوعی لإثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام، أَیْ: أَن أیّ عاقل آخر غیرنا فهو أَیْضاً یحدس کحدسنا ویدرک لَیْسَ فحسب عدم ارتباط هذه السِّیرَة بالخصوصیات المتغیرة من حال إلی حال، بل یدرک العلة والنکتة والأساس لها، فإذا کانت تلک العلة والنکتة ثابتة فِی مجتمع زمان الْمَعْصُوم علیه السلام یثبت المقصود بلا دخل لمسألة استقراء عدة مجتمعات.

هذا تمام الکلام فِی الطریق الخامس، وقد عرفت أَنَّهُ تَامّ.

الطریق السادس: هو إثبات السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام فِی المورد الَّذِی تتوفّر فیه هذه الخاصیة وهی أَنْ یَکُونُ لِلسِّیرَةِ الَّتِی یُراد إثباتها بدلیل بحیث لاَ بُدَّ من أَنْ تَکُونَ السِّیرَة آنذاک قائمة إما عَلَیٰ هذا الَّذِی نرید إثبات قیام السِّیرَة علیه أو عَلَیٰ ذاک البدیل، ویکون ذلک البدیل بنحوٍ بحیث لو کانت السِّیرَة آنذاک قائمة علیه فِی زمن الْمَعْصُوم لنقل ذلک إلینا، نظراً إلی کونه ظاهرة اجتماعیة غریبة ومهمة عَلَیٰ نحوٍ لا تقتضی العادة أن تمرّ هذه الظاهرة ویتحقق هذا البدیل فِی المجتمع مِنْ دُونِ التفات إلیه وتسجیل له، وذلک لخطورته وکونه فِی نفسه مِمَّا یبحث عنه ویُهتم به اهتماماً کبیراً، فمتی ما تَحَقُّق هذا الشَّرْط وکان للسلوک الَّذِی یُرَاد إثبات کونه سلوکاً عاماً للمعاصرین للأئمة علیهم السلام سلوک بدیل عَلَیٰ نحو لو لم نفترض ذاک الأَوَّل یتعین افتراض هذا البدیل، ویکون هذا السلوک البدیل معبِّراً عن ظاهرة اجتماعیة غریبة بحیث لو کانت قد وقعت وتحققت حَقّاً فِی المجتمع لَسُجِّلَت وانعکست عینا باعتبارها غریبة وعلی خلاف المألوف، فهنا نقول: حیث أن ذاک الْبَدِیل لم یُسَجَّل وتلک الظاهرة لم تنعکس علینا، نعرف أن الَّذِی وقع خارجاً آنذاک کان هو المبدل الَّذِی نرید إثبات قیام السِّیرَة آنذاک علیه لا الْبَدِیل.

ص: 273

ولعل من أحسن الأمثلة عَلَیٰ ذلک السِّیرَةُ عَلَیٰ الْعَمَل بالظهور، بأن نقول: إن السلوک الْعَامّ المعاصر للمعصومین علیهم السلام کان منعقداً عَلَیٰ اعتبار الظُّهُور والعمل به وَالأَخْذِ بظاهر الکلام؛ إذ لو لا ذلک لکان لاَ بُدَّ من سلوک بدیل یمثّل طریقةً أخری فِی التفاهم، ولما کانت الطریقة البدیلة تشکّل ظاهرة غریبة عن المألوف، کان من الطبیعی أن تنعکس علینا ویُشار إلیها، والتالی غیر واقع، فکذا المقدم، وبذلک یثبت استقرار السِّیرَة آنذاک عَلَیٰ الْعَمَل بالظواهر.

والحاصل أَنَّهُ لو لم تکن هذه السِّیرَة موجودة فِی عهد الْمَعْصُوم علیه السلام ولم یکن بناء الصحابة وأصحاب الْمَعْصُوم عَلَیٰ جعل الظُّهُور مقیاساً لاقتناص المعنی وکانوا یرون مثلاً أن اقتناص المعنی متوقف عَلَیٰ القطع بمراد الْمُتَکَلِّم وقیام قرائن قطعیة عَلَیٰ ذلک، إذن فحتماً کان لدیهم نظام آخر لاقتناص المعنی من اللَّفْظ غیر ظهور الکلام وکان لهم طریق آخر بدیل عن الظُّهُور لتلقّی الأحکام؛ إذ لا شک فِی أنهم کانوا ملزَمین بالعمل بالأحکام مثلنا، وکانوا یقتنصون الأحکامَ والمعانی من النصوص وَالأَدِلَّةِ الشَّرْعِیَّةِ عَلَیٰ کُلّ حال، فلو لم یکن ذلک عَلَیٰ أساس الظُّهُور والأخذ بظاهر الکلام لکان لهم إذن مسلک آخر لتلقّی الأحکام من الأَدِلَّة، وهذا المسلک الآخر البدیل الَّذِی یُفترض لو کان حق قد وقع خارجاً لکان یشکّل (أیّاً کان) ظاهرة اجتماعیة فریدة وغریبة عَلَیٰ الطباع الْعُقَلاَئِیَّة النَّوْعِیَّة وملفِتة للنظر؛ لأَنَّ الطباع الْعُقَلاَئِیَّة النَّوْعِیَّة لا تعهد قاعدة أخری بدیلة عن الظُّهُور، فلو کان النَّاس آنذاک قد تبانوا حَقّاً عَلَیٰ مسلک آخر لفهم مراد الْمُتَکَلِّم (غیر الأخذ بظاهر کلامه) وجروا عَلَیٰ قاعدة أخری غیر قاعدة الظُّهُور فترة طویلة من الزمن، لکان هذا بلا شک ظاهرة اجتماعیة غریبة وخارجة عن المألوف، وکان أمراً واسعاً وفی غایة الأهمیّة بحیث یهتمّ به منذ البدء کُلّ باحث وکاتب فِی الفقه والأصول، وکان قد وصل ذلک إلینا حتما؛ إذ لا یمکن عادةً أن تمرّ أمثال هذه الظاهرة مِنْ دُونِ أن تصل إلینا آثارها وأخبارها بشکل من الأشکال؛ فَإِنَّ ما هو أقل منها (سعةً وأهمّیّةً وغرابةً) من الظَّوَاهِر الاجتماعیة تصل آثاره عَادَةً إلی المتأخرین بالتدریج، وَحَیْثُ أَنَّ هذا البدیل لم یصل إلینا رائحةٌ منه بوجهٍ من الوجوه، نستکشف من ذلک بالقطع والیقین أَنَّهُ لم یکن هناک بدیل للظهور إطلاقا، بل کان هو الحجة عندهم.

ص: 274

لا یقال: إن الْعَمَل بالظهور أَیْضاً یشکّل ظاهرة اجتماعیة مهمّة، ولم یصلنا نقل عن أنهم فیما سبق کانوا یعملون بالظهور.

فَإِنَّهُ یقال: صحیح أن هذا أَیْضاً سلوک اجتماعیّ مهم، ولکن قد یکون عدم نقله لأجل الاعتماد فِی وصوله إلی نفس استمرار السِّیرَة، أو لأجل أن استقرار السِّیرَة علیه فِعْلاً کان مانعاً عن الالتفات التفصیلی إلی أهمیّته؛ فَإِنَّ سیرة الْعُقَلاَء إذا کانت عَلَیٰ الْعَمَل بالظهور فسیرة الْمُتَشَرِّعَة حِینَئِذٍ عندما تکون عین سیرة الْعُقَلاَء فهی لا تجلب انتباهاً ولا تلفت النَّظَر کی تُنقَل، أو أنها قد لا تُنقَل اِعْتِمَاداً عَلَیٰ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة نفسها، ولو کانت غیرها لنقلت. وکیف کان فَالسِّیرَةُ عَلَیٰ الْعَمَل بالظهور من أحسن أمثلة هذا الطریق.

وبالإمکان أن نمثّل له أَیْضاً بتملّک الفرد للمعدن؛ إذ لو لم تکن السِّیرَة المعاصرة للمعصوم علیه السلام منعقدة عَلَیٰ أن مَن یستخرج معدناً یکون مالکاً له، لکان لهذه السِّیرَة بدیل ولکان هناک طریق آخر لاستفادة النَّاس من المعدِن حتماً، وکان هذا البدیل ظاهرة اجتماعیة کبیرة ومهمة، لکثرة حاجة النَّاس إلی الاستفادة من المعدن ولکان یصل ذلک إلینا، فقیام السِّیرَة فِی عصر الْمَعْصُوم علیه السلام عَلَیٰ تملّک المستخرِج للمعدن رغم أَنَّهُ لم یمکننا إثباته بالطریق الثَّالِث المتقدم (لعدم توفّر شروطه فیه کما سبق) یمکننا إثباته بهذا الطریق.

هذا تمام الکلام فِی الطریق السادس وهو الأخیر وقد عرفتَ صِحَّتَه.

هذه هی الطرق الستة الَّتِی یمکن التَّمَسُّک بها والاستناد إلیها أو إلی بعضها عَلَیٰ الأقل لإثبات «معاصرة السِّیرَة لعصر المعصومین علیهم السلام) الَّتِی هی الرکن الأَوَّل من رکنی السِّیرَة المشرِّعة الَّتِی یُرَاد الاِسْتِدْلاِل بها عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ. وهذه الطرق هی طرق عَامَّة ولها ضوابط کما عرفنا.

ص: 275

وهناک طرق أخری کثیرة جُزْئِیَّة وخاصة ومتناثرة هنا وهناک لا یمکن استیعابها جمیعاً، ولیست لها ضوابط، وَإِنَّمَا هی قائمة عَلَیٰ أساس نکات وخصوصیات غیر منضبطة یواجهها الفقیه فِی الفقه عادةً. فمن جملتها مثلاً ألسنة الروایات وطرز الأسئلة والأجوبة الواردة فیها؛ فإنها قد تکون کاشفة (أحیاناً أو فِی کثیر من الأحیان) إِثْبَاتاً أو نفیاً عن سیرة الْمُتَشَرِّعَة وارتکازهم فِی عصر المعصومین علیهم السلام، ومن هنا فقد استفدنا نحن فِی الفقه من نفس الروایات الَّتِی یُتمسک بها لإثبات نجاسة أهل الکتاب ذَاتاً أن السِّیرَة آنذاک لم تکن قائمة عَلَیٰ نجاستهم الذاتیة، فالروایات الَّتِی استند إلیها المشهور لإثبات نجاستهم الذاتیة واستدلوا بها عَلَیٰ ذلک، جعلناها نفسها دلیلا عَلَیٰ أَنَّهُ لم تکن نجاسة أهل الکتابة مِمَّا انعقدت علیه السِّیرَةُ آنذاک عند الْمُتَشَرِّعَةِ وأصحاب الْمَعْصُوم علیه السلام؛ وَذَلِکَ لأَنَّ الأسئلة الواردة فِی تلک الروایات تکشف عن ذلک، حیث یسأل السائل مثلاً عن حکم لبس ثوب الیهودی مع أَنَّهُ یشرب الخمر ویأکل لحم المیتة؛ فَإِنَّ هذا الأُسْلُوبَ من السؤال یکشف عن عدم انعقاد السِّیرَة آنذاک عَلَیٰ نجاستهم الذاتیة؛ إذ لو کانت النجاسة الذاتیة أمراً مشهوراً ومفروغاً عنه عند الْمُتَشَرِّعَة آنذاک وکانت هی مصبّ السؤال، أی: کان السؤال عَلَیٰ حکم لبس ثوبه ناظراً إلی حیثیة نجاسته الذاتیة وأنه باعتبار نجساً ذَاتاً، فهل یجوز لنا لبس ثوبه أم لا؟

إذن، فلماذا یفترض السائل النجاسة العَرَضیّة الناشئة من شرب الخمر وأکل لحم المیتة وکون الیهودی فِی معرض الابتلاء بها، ویضیف إلی سؤاله أَنَّهُ یشرب الخمر ویأکل لحم المیتة؟ من الواضح أَنَّهُ مع فرض النجاسة الذاتیة لا معنی لضمّ السائل النجاسة العرضیة والمعرضیة لها إلی سؤاله.

ومن جملتها فقه الْعَامّة المشتمل عَلَیٰ فتاوی فقهائهم خُصُوصاً فِی باب المعاملات، حیث یمکن أن یستفاد منه بعض القرائن الدالّة عَلَیٰ ثبوت السلوک الخارجی للناس فِی عصر الْمَعْصُوم أو عَلَیٰ نفین، وذلک باعتبار أن قسماً من فقه العامة وفتاوی فقهائهم متفرّع عن الوضع والتعامل الخارجی فِی زمن الأئمة علیهم السلام وکاشف عنه.

ص: 276

إلی غیر ذلک من الخصوصیات الروائیة والتأریخیة وغیرهما مِمَّا لا یمکن ضبط قواعد کُلّیّة لها وَإِنَّمَا یترک أمر تفصیلها إلی الفقه حسب المسائل الفقهیة الَّتِی یواجهها الفقیه وطبیعتها.

هذا تمام الکلام فِی الرکن الأَوَّل من رکنی الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وهو إثبات معاصرة السِّیرَة لزمان حضور الْمَعْصُوم علیه السلام.

السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وینبغی التَّنْبِیه هنا عَلَیٰ أمرٍ وهو أن الحاجة إلی إثبات معاصرة السِّیرَة لزمان الْمَعْصُوم علیه السلام فِی الموارد الَّتِی یُرَاد إثبات «الْحُجِّیَّة» فیها کما فِی باب الأمارات إِنَّمَا هی فِی السِّیرَة الَّتِی تکون للعقلاء بما هم عقلاء أو للمتشرعة بما هم متشرعة أو بما هم عقلاء، لا لِلسِّیرَةِ الَّتِی تکون للعقلاء من باب حکم العقل، فنحن إِنَّمَا نحتاج إلی الرکن الأَوَّل وهو إثبات معاصرة السِّیرَة لزمان الشَّارِع فِی باب الأمارات فیما لو فرضنا السِّیرَة القائمة فِی باب الأمارات عَلَیٰ الْحُجِّیَّة سیرة عُقَلاَئِیَّة أو مُتَشَرِّعِیَّة بِالنَّحْوِ الَّذِی أشرنا إلیه، ولم نفترض أن حُجِّیَّة الأمارات ذاتیة کحجیة القطع؛ فَإِنَّهُ حِینَئِذٍ یکون الحکم (أی: الْحُجِّیَّة) حُکْماً عُقَلاَئِیّاً أو مُتَشَرِّعِیّاً، فلا بد من إثبات سیرة الْعُقَلاَء أو الْمُتَشَرِّعَة علیه فِی زمن الْمَعْصُوم.

أَمَّا بناءً عَلَیٰ أن حُجِّیَّة الأمارة ذاتیة کحجیة القطع، بمعنی أن العقل الْعَمَلِیّ یدرک أن مَن یطبّق جمیع أعماله عَلَیٰ الأمارة لا یکون مقصّراً فِی مقام العبودیة تجاه مولاه الحقیقی تبارک وتعالی؛ فَإِنَّهُ حِینَئِذٍ لا یکون الحکم حکماً عُقَلاَئِیّاً کی یجب إثبات معاصرة سیرة الْعُقَلاَء أو الْمُتَشَرِّعَة علیه لزمان الشَّارِع، وَإِنَّمَا قامت سیرة الْعُقَلاَء أو الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ هذا الحکم (أی: الْحُجِّیَّة) من باب حکم العقل بذلک، فهذا الحکم (أی: الْحُجِّیَّة) بنفسه أمر واقعی یدرکه العقل الْعَمَلِیّ کالوجوب والإمکان الذین یدرکهما العقل النَّظَرِیّ، فالعقل الْعَمَلِیّ أدرک حسب الفرض أن دائرة حق الْمَوْلَوِیَّة لیست واسعة بحیث تشمل لزوم إطاعة المولی فِی ما قامت الأمارة عَلَیٰ نفیه؛ فَإِنَّ تَمَّ هذا الکلام ثبت جواز الاعتماد عَلَیٰ الأمارة حُجِّیَّتُهَا بلا حاجة إلی إثبات السِّیرَة فِی زمن الْمَعْصُوم کما هو الحال فِی حُجِّیَّة القطع، فکما أن حُجِّیَّة القطع ذاتیة بمعنی عدم الحاجة إلی جعلها مِنْ قِبَلِ المولی؛ لأَنَّ العقل یحکم بِحُجِّیَّة، کذلک حُجِّیَّة الأمارة تکون (بناءً عَلَیٰ الکلام المذکور) ذَاتِیَّة بحکم بها العقل بلا حاجة إلی جعلها مِنْ قِبَلِ المولی، مع فارق واحد بین حُجِّیَّة القطع وحجیة الأمارة وهو أن ردع الشَّارِع عن الْعَمَل بالقطع غیر ممکن (کما تَقَدَّمَ فِی مباحث القطع) لکن ردعه عن الْعَمَل بالأمارة ممکن، فحجیة الأمارة وإن کانت ذَاتِیَّة بمعنی حکم العقل بها وعدم حاجتها إلی جعل المولی، لکنها معلَّقة عَلَیٰ عدم وصول ردع الشَّارِع منها إلینا، فلو وصلنا من المولی المنع عن الْعَمَل بالظهور مثلاً أو وصلنا منه تجویز مخالفة الظُّهُور سقطت حُجِّیَّتُه.

ص: 277

إذن، بناءً عَلَیٰ الکلام المذکور لا نحتاج (فِی إثبات الْحُجِّیَّة فِی باب الأمارات) إلی إثبات الرکن الأَوَّل (وهو معاصرة السِّیرَة القائمة عَلَیٰ الْحُجِّیَّة لزمان الشَّارِع) لما قلناه من أن سیرة الْعُقَلاَء علیها تکون (بناءً عَلَیٰ هذا الکلام) من باب حکم العقل الْعَمَلِیّ بها.

کما لا نحتاج أَیْضاً فِی هذه السِّیرَة بناءً عَلَیٰ هذا الکلام إلی إثبات الرکن الثَّانِی الَّذِی سوف یأتی الکلام عنه - إن شاء الله تعالی - قریباً وهو إمضاء الشَّارِع لِلسِّیرَةِ القائمة عَلَیٰ الْحُجِّیَّة؛ وذلک لکفایة عدم وصول الردع إلینا فِی حکم العقل بالحجیة.

ولا بأس بأن نشیر (قبل الدخول فِی البحث عن الرکن الثَّانِی) إلی مدی إمکان الاعتماد (فِی حُجِّیَّة الأمارات) عَلَیٰ هذه الدعوی القائلة بإرجاع السِّیرَة فِی باب الأمارات إلی حکم العقل الْعَمَلِیّ، فنقول: إن تمّت هذه الدعوی وخلت عَمَّا سیأتی - إن شاء الله - من شائبة الإشکال، یبقی الکلام فِی کفایتها لإثبات المقصود (أی: الْحُجِّیَّة فِی باب الأمارات)؛ وذلک لأننا لو سلمنا أن العقل الْعَمَلِیّ أدرک أن من حق المولی عَلَیٰ العبد أن یعمل بمقاصده ویمتثل أحکامه الَّتِی تصل إلیه من خلال الأمارة (کظهور کلام المولی أو خَبَر الثِّقَةِ مثلاً) ما لم یردع المولی عن ذلک، لکن مع ذلک نقول: إنَّ هذا الحکم مِنْ قِبَلِ العقل لا یصلح لأن یکون حاکماً عَلَیٰ أدلة الأُصُول أو مخصّصاً لها؛ إذ لَیْسَ حکماً مجعولاً مِنْ قِبَلِ الشَّارِع، فهو لَیْسَ کما لو جعل المولی الظُّهُورَ أو خَبَر الثِّقَةِ حجةً کی یقال: إِنَّهُ حاکم أو مخصّص لدلیل أصالة البراءة (مثل حدیث الرفع: «رُفع ما لا یعملون») أو لدلیل أصالة الحل (مثل قوله علیه السلام: «کُلّ شیء لک حلال حتَّی تعلم أَنَّهُ حرام» وَإِنَّمَا هو حکم مِنْ قِبَلِ العقل الْعَمَلِیّ الَّذِی أدرک حُجِّیَّة الظُّهُور أو حُجِّیَّة خَبَر الثِّقَةِ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ إطلاق مثل دلیل أصالة البراءة من قبیل حدیث الرفع بنفسه ظهور مشمول لهذا الحکم العقلی، وهذا الإِطْلاَق یَدُلّ عَلَیٰ عدم اهتمام الْمَوْلَی بأغراضه المشکوکة الَّتِی تَدُلُّ علیها کلماتُه أو الَّتِی تَدُلُّ علیها أخبارُ الثقات. أَیْ: أَن هذا الإِطْلاَق یَدُلّ عَلَیٰ نفی حُجِّیَّة تلک الظَّوَاهِر والأخبارِ، فلم یثبت المقصود وهو الْحُجِّیَّة فِی باب الأمارات (أی: الظواهر وأخبار الآحاد)؛ لأَنَّ إطلاق أدلة الأُصُول کأصالة البراءة ونحوها یَدُلّ عَلَیٰ عدم حُجِّیَّة هذه الأمارات.

ص: 278

نعم، هذا الإشکال إِنَّمَا یکون فیما إذا لم یکن هناک مانع عن جریان الأُصُول مثل أصالة البراءة ونحوها، کالعلم الإجمالی بوجود الأحکام مثلاً؛ فَإِنَّهُ مع فرض وجود هذا العلم الإجمالی لا تجری الأُصُول المؤمّنة، فلا بد من فرض الکلام فیه بعد فرض انحلال العلم الإجمالی المذکور بشکل من الأشکال.

ویمکن دفع هذا الإشکال فِی خصوص باب الظواهر بدعوی أن ظاهر قوله «رُفع ما لا یعلمون» بحسب الفهم العرفیّ هو رفع ما لا یُعلم من ظواهر خطاب المولی، فیکون وصول کلام المولی الظاهر فِی حکم إلزامی داخلاً فِی مصادیق الغایة (أی: «ما یعلمون») عُرْفاً.

لکن هذه الدعوی لا مجال لها بِالنِّسْبَةِ إلی خَبَر الثِّقَةِ بأن یقال: إن الغایة تشمل عُرْفاً وصول خَبَر الثِّقَةِ الدَّال عَلَیٰ حکم إلزامی.

نعم، لا یبعد القول( (1) ) بأن وضوح بطلان هذه الدعوی فِی خَبَر الثِّقَةِ نابع من وضوح بطلان أصل دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة لخبر الثِّقَة بالمعنی الَّذِی ذکرناه للحجیة الذاتیة، وَإلاَّ فبقدر ما یمیل الإنسان إلی دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة لطریق من طرق إیصال مقاصد المولی وأحکامه (کالظهور وخبر الثِّقَة وغیرهما من الأمارات) ویمیل إلی دعوی شدّة رسوخ الْحُجِّیَّة الْعُقَلاَئِیَّة لطریق من هذه الطرق، تقوی الذِّهْن دعوی انصراف الغایة فِی «رُفع ما لا یعلمون» إلی ما یشمل العلم بذاک الطریق؛ فَإِنَّ نکتة الانصراف إِنَّمَا هی کون هذا الطریق طَرِیقاً ذاتیاً إلی مقاصد المولی وأحکامه، أو کونه طَرِیقاً عُقَلاَئِیّاً راسخاً فِی غایة الوضوح والرسوخ.

إذن، فالفرق الأصلی بین باب الظُّهُور وباب خَبَر الثِّقَةِ لَیْسَ هو فِی دعوی کون وصوله مِصْدَاقاً للغایة وعدمه، وَإِنَّمَا هو فِی مدی وضوح دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة، فلو افترضنا أن دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة لخبر الثِّقَة واضحة کوضوح دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة للظهور، لم یبق فرق بین الظُّهُور وخبر الثِّقَة، فَتَتُِمُّ دعوی انصراف الغایة فِی «رُفع ما لا یعلمون» إلی ما یشمل وصول خَبَر الثِّقَةِ الدَّال عَلَیٰ حکم إلزامی، کما تَتُِمّ دعوی انصرافها إلی ما یشمل وصول کلام المولی الظاهر فِی حکم إلزامی.

ص: 279


1- (1) - القائل به هو السید الحائری حفظه الله فِی هامش تقریراته: ج2، ق2، ص120.

والواقع أن أصل دعوی حکم العقل الْعَمَلِیّ بالحجیة الذاتیة لظهور کلام المولی وبشکل عَامّ الدعوی القائلة بإرجاع السِّیرَة فِی باب الأمارات إلی حکم العقل الْعَمَلِیّ لا تخلو من شائبة الإشکال (الَّتِی وعدنا قبل قلیل بذکرها)، ووجه الإشکال فِی کُلّ دعوی من هذا القبیل هو أننا وإن کنّا ندرک مثل هذا الحکم ونحس به بشکل واضح، وهو أن الإنسان الَّذِی یخالف ظهور کلام المولی ولا یعمل به یستحق العقاب، والَّذِی یعمل بظاهر کلام المولی یکون قد أدّی إلیه حقه، ولکن لا سبیل لنا إلی إثبات أن هذا من مدرکات العقل الْعَمَلِیّ المجرد عن الشوائب والخصوصیات؛ إذ نحتمل أن ما جعلنا نشعر بقبح مخالفة ظاهر کلام المولی عبارة عن قوة العقل الْعَمَلِیّ منضمّة إلی ارتکاز حُجِّیَّة الظُّهُور فِی أذهان الْعُقَلاَء ارتکازاً عمیقاً طویلاً فِی تأریخ البشریة وقیام سیرتهم عَلَیٰ ذلک.

نعم، هذه الدعوی (أی: دعوی رجوع ذلک إلی حکم العقل الْعَمَلِیّ) تؤیّد وتؤکّد حُجِّیَّة الظُّهُور.

وإن شئت قلت: إن هذا الحکم إما عَقْلِیّ صرف أو لا، فإن کان الأَوَّل فقد ثبتت حُجِّیَّة الظُّهُور، وَإلاَّ فهو من نتائج ارتکاز جعل الْحُجِّیَّة فِی أذهان الْعُقَلاَء، الَّذِی أصبح بدرجة من الوضوح بحیث یتخیّل کونه عقلیّاً صرفاً.

هذا تمام الکلام فِی الرکن الأَوَّل من رکنی الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، وهو إثبات معاصرة السِّیرَة لحضور الْمَعْصُوم علیه السلام.

السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

ولا بأس بأن نشیر (قبل الدخول فِی البحث عن الرکن الثَّانِی) إلی مدی إمکان الاعتماد (فِی حُجِّیَّة الأمارات) عَلَیٰ هذه الدعوی القائلة بإرجاع السِّیرَة فِی باب الأمارات إلی حکم العقل الْعَمَلِیّ، فنقول: إن تمّت هذه الدعوی وخلت عَمَّا سیأتی - إن شاء الله - من شائبة الإشکال، یبقی الکلام فِی کفایتها لإثبات المقصود (أی: الْحُجِّیَّة فِی باب الأمارات)؛ وذلک لأننا لو سلمنا أن العقل الْعَمَلِیّ أدرک أن من حق المولی عَلَیٰ العبد أن یعمل بمقاصده ویمتثل أحکامه الَّتِی تصل إلیه من خلال الأمارة (کظهور کلام المولی أو خَبَر الثِّقَةِ مثلاً) ما لم یردع المولی عن ذلک، لکن مع ذلک نقول: إنَّ هذا الحکم مِنْ قِبَلِ العقل لا یصلح لأن یکون حاکماً عَلَیٰ أدلة الأُصُول أو مخصّصاً لها؛ إذ لَیْسَ حکماً مجعولاً مِنْ قِبَلِ الشَّارِع، فهو لَیْسَ کما لو جعل المولی الظُّهُورَ أو خَبَر الثِّقَةِ حجةً کی یقال: إِنَّهُ حاکم أو مخصّص لدلیل أصالة البراءة (مثل حدیث الرفع: «رُفع ما لا یعملون

ص: 280

») أو لدلیل أصالة الحل (مثل قوله علیه السلام: «کُلّ شیء لک حلال حتَّی تعلم أَنَّهُ حرام

» وَإِنَّمَا هو حکم مِنْ قِبَلِ العقل الْعَمَلِیّ الَّذِی أدرک حُجِّیَّة الظُّهُور أو حُجِّیَّة خَبَر الثِّقَةِ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ إطلاق مثل دلیل أصالة البراءة من قبیل حدیث الرفع بنفسه ظهور مشمول لهذا الحکم العقلی، وهذا الإِطْلاَق یَدُلّ عَلَیٰ عدم اهتمام الْمَوْلَی بأغراضه المشکوکة الَّتِی تَدُلُّ علیها کلماتُه أو الَّتِی تَدُلُّ علیها أخبارُ الثقات. أَیْ: أَن هذا الإِطْلاَق یَدُلّ عَلَیٰ نفی حُجِّیَّة تلک الظَّوَاهِر والأخبارِ، فلم یثبت المقصود وهو الْحُجِّیَّة فِی باب الأمارات (أی: الظواهر وأخبار الآحاد)؛ لأَنَّ إطلاق أدلة الأُصُول کأصالة البراءة ونحوها یَدُلّ عَلَیٰ عدم حُجِّیَّة هذه الأمارات.

نعم، هذا الإشکال إِنَّمَا یکون فیما إذا لم یکن هناک مانع عن جریان الأُصُول مثل أصالة البراءة ونحوها، کالعلم الإجمالی بوجود الأحکام مثلاً؛ فَإِنَّهُ مع فرض وجود هذا العلم الإجمالی لا تجری الأُصُول المؤمّنة، فلا بد من فرض الکلام فیه بعد فرض انحلال العلم الإجمالی المذکور بشکل من الأشکال.

ویمکن دفع هذا الإشکال فِی خصوص باب الظواهر بدعوی أن ظاهر قوله «رُفع ما لا یعلمون

» بحسب الفهم العرفیّ هو رفع ما لا یُعلم من ظواهر خطاب المولی، فیکون وصول کلام المولی الظاهر فِی حکم إلزامی داخلاً فِی مصادیق الغایة (أی: «ما یعلمون

») عُرْفاً.

لکن هذه الدعوی لا مجال لها بِالنِّسْبَةِ إلی خَبَر الثِّقَةِ بأن یقال: إن الغایة تشمل عُرْفاً وصول خَبَر الثِّقَةِ الدَّال عَلَیٰ حکم إلزامی.

نعم، لا یبعد القول( (1) ) بأن وضوح بطلان هذه الدعوی فِی خَبَر الثِّقَةِ نابع من وضوح بطلان أصل دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة لخبر الثِّقَة بالمعنی الَّذِی ذکرناه للحجیة الذاتیة، وَإلاَّ فبقدر ما یمیل الإنسان إلی دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة لطریق من طرق إیصال مقاصد المولی وأحکامه (کالظهور وخبر الثِّقَة وغیرهما من الأمارات) ویمیل إلی دعوی شدّة رسوخ الْحُجِّیَّة الْعُقَلاَئِیَّة لطریق من هذه الطرق، تقوی الذِّهْن دعوی انصراف الغایة فِی «رُفع ما لا یعلمون

ص: 281


1- (1) - القائل به هو السید الحائری حفظه الله فِی هامش تقریراته: ج2، ق2، ص120.

» إلی ما یشمل العلم بذاک الطریق؛ فَإِنَّ نکتة الانصراف إِنَّمَا هی کون هذا الطریق طَرِیقاً ذاتیاً إلی مقاصد المولی وأحکامه، أو کونه طَرِیقاً عُقَلاَئِیّاً راسخاً فِی غایة الوضوح والرسوخ.

إذن، فالفرق الأصلی بین باب الظُّهُور وباب خَبَر الثِّقَةِ لَیْسَ هو فِی دعوی کون وصوله مِصْدَاقاً للغایة وعدمه، وَإِنَّمَا هو فِی مدی وضوح دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة، فلو افترضنا أن دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة لخبر الثِّقَة واضحة کوضوح دعوی الْحُجِّیَّة الذاتیة للظهور، لم یبق فرق بین الظُّهُور وخبر الثِّقَة، فَتَتُِمُّ دعوی انصراف الغایة فِی «رُفع ما لا یعلمون

» إلی ما یشمل وصول خَبَر الثِّقَةِ الدَّال عَلَیٰ حکم إلزامی، کما تَتُِمّ دعوی انصرافها إلی ما یشمل وصول کلام المولی الظاهر فِی حکم إلزامی.

والواقع أن أصل دعوی حکم العقل الْعَمَلِیّ بالحجیة الذاتیة لظهور کلام المولی وبشکل عَامّ الدعوی القائلة بإرجاع السِّیرَة فِی باب الأمارات إلی حکم العقل الْعَمَلِیّ لا تخلو من شائبة الإشکال (الَّتِی وعدنا قبل قلیل بذکرها)، ووجه الإشکال فِی کُلّ دعوی من هذا القبیل هو أننا وإن کنّا ندرک مثل هذا الحکم ونحس به بشکل واضح، وهو أن الإنسان الَّذِی یخالف ظهور کلام المولی ولا یعمل به یستحق العقاب، والَّذِی یعمل بظاهر کلام المولی یکون قد أدّی إلیه حقه، ولکن لا سبیل لنا إلی إثبات أن هذا من مدرکات العقل الْعَمَلِیّ المجرد عن الشوائب والخصوصیات؛ إذ نحتمل أن ما جعلنا نشعر بقبح مخالفة ظاهر کلام المولی عبارة عن قوة العقل الْعَمَلِیّ منضمّة إلی ارتکاز حُجِّیَّة الظُّهُور فِی أذهان الْعُقَلاَء ارتکازاً عمیقاً طویلاً فِی تأریخ البشریة وقیام سیرتهم عَلَیٰ ذلک.

نعم، هذه الدعوی (أی: دعوی رجوع ذلک إلی حکم العقل الْعَمَلِیّ) تؤیّد وتؤکّد حُجِّیَّة الظُّهُور.

ص: 282

وإن شئت قلت: إن هذا الحکم إما عَقْلِیّ صرف أو لا، فإن کان الأَوَّل فقد ثبتت حُجِّیَّة الظُّهُور، وَإلاَّ فهو من نتائج ارتکاز جعل الْحُجِّیَّة فِی أذهان الْعُقَلاَء، الَّذِی أصبح بدرجة من الوضوح بحیث یتخیّل کونه عقلیّاً صرفاً.

هذا تمام الکلام فِی الرکن الأَوَّل من رکنی الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، وهو إثبات معاصرة السِّیرَة لحضور الْمَعْصُوم علیه السلام.

وَأَمَّا الرکن الثَّانِی: وهو إثبات موافقة الشَّارِع لِلسِّیرَةِ وإمضائه لها بعد فرض ثبوتها فِی زمانه ومعاصرتها لعهد حضوره، فالکلام هنا إِنَّمَا هو عن أن هذه السِّیرَة المعاصرة للشارع هل هی مطابقة لرأی الشَّارِع وموقفه وکاشفة عنه أم لا؟ وبعبارة أخری: کیف نستکشف الموقف الملائم المتخذ مِنْ قِبَلِ الشَّارِع تجاهها والکاشف عن الإمضاء والتقریر؟

والجواب هو أن هذه الْکَاشِفِیَّة یختلفُ برهانُها فِی سیرةِ الْمُتَشَرِّعَةِ عنه فِی سیرةِ الْعُقَلاَء؛ فصیغةُ استکشافِ رأیِ الشَّارِعِ وموقفهِ الملائمِ الکاشفِ عن الإمضاءِ والتقریرِ تختلفُ فِی سیرةِ أصحابِ الأئمةِ علیهم السلام والمتشرعة المعاصرین لهم عنها فِی سیرة الْعُقَلاَء؛ وَذَلِکَ لأَنَّ أصحاب الأئمة علیهم السلام والمتشرعین المعاصرین لهم توجد فیهم حیثیتان:

الأولی: حیثیة کونهم من العرف والعقلاء وتتحکّم فیهم أذواق العرف والعقلاء وارتکازاتهم ومواقفهم.

الثَّانیة: حیثیة کونهم مُتَشَرِّعَةً یأخذونَ الشرعَ والأحکامَ الدینیةَ من الشَّارِعِ ویطبّقونَ هذه الأحکامِ فِی حیاتهم، فیما لا ربطَ له بالعقلاء ومواقفهم.

وَحِینَئِذٍ فإذا صدر منهم سلوک لا ربط له بالأذواق الْعُقَلاَئِیَّة، بل هو مربوط بالجانب التَّعَبُّدِیّ الشَّرْعِیّ، فهذا معناه أن هذا السلوک صادر منهم بما هم متشرعة، کما إذا انعقدت سیرتهم مثلاً عَلَیٰ الجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة؛ فَإِنَّ هذا السلوک سلوک تَعَبُّدِیّ لا ربط له بالعقلاء ومواقفهم وأذواقهم؛ لأَنَّ الْعُقَلاَء لا بشرطٍ من هذه الناحیة. إذن، فهذا السلوک صدر منهم بما هم متشرعة، ویستندون فِی انعقاد سیرتهم علیه إلی الشَّارِع.

ص: 283

أَمَّا إذا صَدَرَ منهم سلوکٌ له ربطٌ بالارتکازِ الْعُقَلاَئِیِّ، فهذا معناه أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُم بما هم عقلاء [أی: بالحیثیة الأولی]، کما إذا انعقدت سیرتُهم واستقر بناؤُهم عَلَیٰ أن مَن یستخرج معدِناً یملکه؛ فَإِنَّ هذا البناء له جذور ونکات عُقَلاَئِیَّة.

وعلیه، فیحتمل أَنْ تَکُونَ سیرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ ذلک متأثّرة بتلک النکات الْعُقَلاَئِیَّة ولیست مستندة إلی الشَّارِع.

إذن، فللمتشرعة سیرتان:

الأولی: سیرة لهم بما هم متشرعة فِی القضایا الَّتِی لا یکون للعقلاء فیها موقفٌ، بل هم لا بشرطٍ فیها.

الثَّانیة: وسیرة لهم بما هم عقلاء فِی القضایا الَّتِی یکون للعقلاءِ فیها موقفٌ وملاک ونکتة ولیسوا لا بشرطٍ فیها.

ومن هنا توجد عندنا «سیرةٌ مُتَشَرِّعِیَّة» و«سیرةٌ عُقَلاَئِیَّة»، وَحَیْثُ أَنَّ ملاکَ کاشفیةِ کُلٍّ من السیرتین عن إمضاء الشَّارِعِ لها وقبوله لمضمونها یختلف عن ملاکِ الْکَاشِفِیَّةِ فِی الأخری، إذن فلابد من البحث تَارَةً بلحاظِ سیرةِ الْمُتَشَرِّعَة، وأخری بلحاظ سیرة الْعُقَلاَء:

أَمَّا سیرةُ الْمُتَشَرِّعَة، فإن ثبتت لدینا من خلال أحد الطرق المتقدم ذکرُها فِی البحث عن الرکن الأَوَّل علیه السلام فهی تکشف عَنِ الْحُکْمِ والموقف الشَّرْعِیِّ وَتَدُلُّ عَلَیٰ قبول الشَّارِعِ لمضمونها من بابٍ یُشبه باب البرهان الإنّی وکشف المعلول عن علّته ودلالته علیها.

السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

أَمَّا سیرةُ الْمُتَشَرِّعَة، فإن ثبتت لدینا من خلال أحد الطرق المتقدم ذکرُها فِی البحث عن الرکن الأَوَّل × فهی تکشف عَنِ الْحُکْمِ والموقف الشَّرْعِیِّ وَتَدُلُّ عَلَیٰ قبول الشَّارِعِ لمضمونها من بابٍ یُشبه باب البرهان الإنّی وکشف المعلول عن علّته ودلالته علیها.

ص: 284

توضیح ذلک: أننا نتکلم عن الْمُتَشَرِّعَة المعاصرین للأئمة ^ الَّذِین أُتیح لهم تلقّی الأحکام والمعارف الشَّرْعِیَّة من الأئمة بطریق الحسّ أو بطریق قریب من الحسّ، فمفروض الکلام إذن عبارة عن سیرة أصحاب الأئمة ^ الذین کانت ظروفهم تجعلهم مؤهَّلین لأخذ الحکم من الإمام علیه السلام وکانوا متمکّنین من تحصیل العلم بالحکم الشَّرْعِیّ بشکل حسّی أو قریب من الحسّ وذلک بالسؤال من الإمام ×، وهم جلّ المتفقّهة والفقهاء المعاصرین للأئمة ^ والناقلین لآثارهم.

وَأَمَّا فقهاء عصر الغیبة الَّذِی کان تلقّیهم للأحکام وعلمهم بها مبنیاً عَلَیٰ الحدس وإعمال النَّظَر وکانوا - ولا یزالون - یعتمدون الاجتهاد والاستنباط عادةً فِی فهم الحکم الشَّرْعِیّ دون الحس أو ما هو قریب من الحس؛ فَإِنَّ سیرتهم لیست عبارة عمّا هو محل الکلام من سیرة الْمُتَشَرِّعَة، وَإِنَّمَا سیرتهم وتطابق آرائهم وفتاواهم عَلَیٰ حکمٍ من الأحکام عبارة عمّا نسمّیه ب_الإجماع فِی الفتوی القائمة عَلَیٰ أساس الحدس لا الحسّ، وهذا ما سوف یأتی البحث والحدیث عنه وعن حجیّته وکاشفیّته عن الدَّلِیل الشَّرْعِیّ بصورة مستقلة فِی غیر هذا المقام - إن شاء الله تعالی - وَإِنَّمَا کلامها الآن فِی سیرة الطبقات الذین کانوا قبل هؤلاء وهم الذین کانو یتیسّر لهم معرفة الحکم الشَّرْعِیّ بالرجوع إلی الْمَعْصُوم × مباشرةً أو بواسطة قریبة بحیث تصل إلی درجة یکون الإطلاع فیها عَلَیٰ الحکم حسّیّاً أو قریباً من الحسّ، حیث کانوا یعاشرون الأئمة وأصحابهم ویتکلمون معهم ومع أصحابهم فِی مختلف المسائل؛ فهؤلاء إذا ثبت لنا (بأحد الطرق الَّتِی ذکرناها فِی البحث عن الرکن الأَوَّل) أن سیرتهم کانت منعقدة عَلَیٰ شیء معیّن وأنهم کانوا متطابقین عَلَیٰ سلوکٍ خَاصّ بما هم مُتَشَرِّعَةٌ، کالجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة، أو الاکتفاء بالمسح ببعض الْکَفّ فِی الوضوء، فَسَوْفَ یکشف سلوکهم هذا لا محالة عن تلقّیهم حکم ذاک السلوک من الشَّارِع وعن استناد موقفهم الْعَمَلِیّ هذا إلی الإمام ×، کما یکشف المعلول عن علّته؛ وَذَلِکَ لأَنَّ احتمال تلقّیهم هذه السِّیرَة من أذواقٍ اجتماعیةٍ واستناد موقفهم الْعَمَلِیّ هذا إلی نکاتٍ عُقَلاَئِیَّة غیر وارد حسب الفرض؛ لأَنَّ المفروض أن السِّیرَة انعقدت فِی مسألة شرعیة بحتة وأنهم سلکوا هذا السلوک بما هم مُتَشَرِّعَة لا بما هم عقلاء.

ص: 285

وَحِینَئِذٍ، فلو فُرض أن سلوکهم هذا لم یکن مستنداً إلی الشَّارِع وموافقاً للشرع وکان مِمَّا لا یرضی به الشَّارِع ولا یقبل به (بأن کان الجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة مثلاً غیر جائز واقعاً، أو کان المسح ببعض الْکَفّ فِی الوضوء غیر مُجزٍ واقعاً) لکن هؤلاء کانوا متفقین عملاً عَلَیٰ هذا السلوک فیجهرون فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة ویکتفون بالمسح ببعض الْکَفّ فِی الوضوء. فهذا معناه أن عدداً کبیراً من النَّاس أخطئوا أو أغفلوا فِی قَضِیَّة هی حسّیة بطبیعتها أو قریبة من الحسّ (حسب الفرض)؛ لأَنَّ هذا المتشرع الَّذِی یجهر مثلاً فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة والحال أن الجهر غیر جائز شَرْعاً، أو یکتفی مثلاً بالمسح ببعض الْکَفّ فِی الوضوء والحال أن المسح لاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونُ بِتَمَامِ الْکَفِّ، إما أَنْ یَکُونُ قد غفل عن أصل الفحص والسؤال عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ فِی المسألة فأقدم عَلَیٰ الجهر أو عَلَیٰ المسح ببعض الْکَفّ ولو ذهولاً عن أن عمله هذا خلاف الشرع، وَإِمَّا أَنَّهُ قد فَحَص لٰکِنَّ فحصه لم یکن تامّاً وغَفَل هو عن أَنَّهُ لم یستوف الفحص المطلوب فَتَسَرَّع عملاً وأقدم عَلَیٰ الجهر أو عَلَیٰ المسح ببعض الْکَفّ، وَإِمَّا أَنَّهُ قد فحص فحصا تاماً واستوفی الفحص المطلوب وسألَ الإمام × عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ فِی المسألة وأجابه الإمام ×، لٰکِنَّهُ غفل عن فهم ظاهر کلام الإمام × وأخطأ فِی فهمه.

وکل هذه غفلات، وهی وإن کانت محتملة فِی شخصٍ واحد، فیعقل أن یغفل شخص واحد عن الفحص والسؤال أو عن استیفاء الفحص أو عن فهم الجواب، لکن احتمال وقوع شخصین فِی الغفلة والخطأ أبعد من احتمال وقوع شخص واحد فیها بحسب حساب الاحتمال، فکیف باحتمال وقوع أکثر من شخصین فیها، وکیف باحتمال وقوع الجمیع أو جمع غفیر فِی الغفلة؟ فإن هذا الاحتمال یصل بحسب حساب الاحتمال إلی درجة الانعدام ویزول من النفس طبقاً لقوانین الاستقراء وأسسه المنطقیة.

ص: 286

ثُمَّ لنفرض أنهم جمیعاً قد غفلوا، لکن کیف أصبحت نتیجة کُلّ هذه الغفلات نتیجة واحدة متفقاً علیها متمثّلة بهذا السلوک الجماعی الَّذِی اتفقوا علیه (وهو الجهر والمسح ببعض الْکَفّ)؟ فلماذا أجهر هذا الَّذِی غفل عن الفحص والسؤال، وأجهر أَیْضاً ذاک الثَّانِی الَّذِی غفل هو أَیْضاً عن الفحص والسؤال، وأجهر أَیْضاً ذاک الثَّالِث الَّذِی غَفَل هو أَیْضاً عن الفحص والسؤال؟ وهکذا الرَّابِع و... فلماذا لم یُخفت بعض هؤلاء الغافلین أو لم یسمح بِتَمَامِ الْکَفِّ؟

إن تطابق هذه الغفلات عَلَیٰ نتیجة واحدة متفق علیها وإنتاج هذه الأخطاء کُلّهَا أمراً واحداً بعیدٌ جِدّاً بحسب حساب الاحتمال.

إذن، فافتراض اتفاق الْمُتَشَرِّعَة عملا عَلَیٰ شیء خطأً وغفلةً مساوق لافتراض غفلة الجمیع أو جمع غفیر فِی الحسّ أو فِی ما یقرب من الحسّ، وهذا ما لا نحتمله.

وعلیه، فإذا ثبت لنا انعقاد السِّیرَة مِنْ قِبَلِ هؤلاء الذین یکون خطؤهم فِی الحسّ أو فِی ما یقرب منه، فلا إشکال فِی أن سیرتهم تکشف عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، حیث نجزم بأن سلوکهم هذا ناشئ من تلقّی حکمه من الْمَعْصُوم ×.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ اتفاق هؤلاء الجماعة عَلَیٰ الغفلة عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ لسلوکهم بعیدٌ بحساب الاحتمالات الناتج من ضرب قیمة احتمال ثبوت عامل الغفلة (کالغفلة عن الفحص والسؤال) فِی حق أی وااحد منهم فِی قیمة احتمال ثبوت نفس ذاک العامل فِی الشخص الآخر. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الاحتمال یضعف بالتدریج بسبب الضرب إلی أن یصبح موهوماً؛ لأَنَّ القیم الاحتمالیة کسور، والکسور تنزل بالضرب.

وقد حقق سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی بحث المنطق الذاتی فِی کتابه القیم الأسس المنطقیة للاستقراء أن الاحتمال الموهوم یزول من النفس تلقائیاً وفق شروط معینة، فیحص القطع بعدم اجتماعهم عَلَیٰ الغفلة بعد أن کان احتمال اجتماعهم عَلَیٰ الغفلة أوهن من أی احتمال آخر فِی المقام (کاحتمال غفلة واحدٍ فقط وانتباه الآخرین، واحتمال غفلة اثنین فقط وانتباه الآخرین، واحتمال غفلة ثلاثة فقط وانتباه الباقین، وهکذا... إلی أن نصل إلی احتمال انتباه الجمیع. وسبب الأوهنیة هو أن الغفلات العدیدة بحاجة إلی عوامل وعلل عدیدة، بینما الانتباهات العدیدة تکفی فیها عِلَّة واحدة عَامَّة تقتضی التفات الجمیع (کصدور الحکم من الشَّارِع فِی المقام)، فلا یجری فِی جانب الانتباه الحساب الَّذِی أجریناه فِی جانب الغفلة.

ص: 287

هذا، مُضَافاً إلی أننا حتَّی لو فرضنا عدم زوال هذا الاحتمال الموهوم فلا شک فِی حصول الاطمئنان بخلافه، والاطمئنان حجة.

لا یقال: إن الاطمئنان لَیْسَ بِحُجَّةٍ بدلیل لفظی، وَإِنَّمَا هو حجة بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة.

فَإِنَّهُ یقال: إن الاطمئنان حجة بحکم العقل الْعَمَلِیّ؛ فَإِنَّ ما کنّا نحتمله فِی باب الظُّهُور من حُجِّیَّتُه الذاتیة عقلاً تنجیزاً وتعذیراً قد نقول به بنحو الجزم فِی باب الاطمئنان، کما نقول بذلک فِی باب القطع، بمعنی أن حق الطاعة الثابت عقلاً للمولی علینا کما یشمل حالة القطع بالتکلیف، کذلک یشمل حالة الاطمئنان به، وکما لا یشمل حق الطاعة حالة القطع بعدم التکلیف، کذلک لا یشمل حالة الاطمئنان بعدمه؛ فَإِنَّ هذه الدعوی إن صحَّت وتمّت لم نکن حِینَئِذٍ بحاجة إلی تعبد شرعی للعمل بالاطمئنان کی نحتاج إلی إثبات هذا التعبد من خلال السِّیرَة؛ لأَنَّ الاطمئنان بناءً عَلَیٰ هذه الدعوی حجة ذاتاً، بمعنی عدم حاجته إلی جعل الْحُجِّیَّة له تعبّداً مِنْ قِبَلِ الشَّارِع، فهو کالقطع، مع فارق واحد وهو إمکان الردع عن الْعَمَل بالاطمئنان مع عدم إمکانه فِی القطع کما تَقَدَّمَ فِی مباحث القطع.

القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وبما ذکرناه من سبب کشف سیرة الْمُتَشَرِّعَة عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ (وهو کون اجتماع الغفلات وتطابقها فِی قَضِیَّة حسیة أو قریبة من الحس بعیداً جِدّاً بحساب الاحتمالات) یتضح لنا أن سیرة الْمُتَشَرِّعَة أقوی بمراتب کشفاً عَنِ الْحُکْمِ والموقف الشَّرْعِیّ من الإجماع؛ لأَنَّ إجماع أهل النَّظَر والرأی والاجتهاد (أی: فقهاء عصر الغیبة) إِنَّمَا هو إجماع فِی قَضِیَّة حدسیة، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الخطأ فِی الحدس وَالنَّظَر غیر الخطأ فِی الحس، فکلما کانت القضیة أقرب إلی الحسّ کان احتمال الخطأ فیها مِنْ قِبَلِ الجمیع أبعد، وکلما کانت أقرب إلی الحدس کان احتمال خطأ الجمیع فیها أقرب، فإذا کان احتمال الخطأ فِی قَضِیَّة حسّیة أبعد، یکون انعقاد السِّیرَة من الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ هذه القضیة الحسّیة فِی ذاک العصر کاشفاً قطعیاً عن تلقّی الحکم من الْمَعْصُوم × کشفاً أقوی بکثیر من کشف إجماع الفقهاء عنه فِی قَضِیَّة حدسیة یکون احتمال الخطأ فیها مِنْ قِبَلِ الجمیع معقولاً کما هو واضح.

ص: 288

هذا کله فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة وملاک کشفها عن إمضاء الشَّارِع لها.

وَأَمَّا سیرة الْعُقَلاَء فلا یَتُِمّ فیها البیان الَّذِی ذکرناه فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة وهو استکشاف الحکم الشَّرْعِیّ وإمضاء الشَّارِع لها من أصل تکوّنها وانعقادها عَلَیٰ حدّ استکشاف العلة من المعلول؛ فَإِنَّ هذا البیان یختصّ بسیرة الْمُتَشَرِّعَة، أَمَّا فِی سیرة الْعُقَلاَء فهو غیر معقول؛ لأَنَّ الْعُقَلاَء وَالْمُتَشَرِّعَة المعاصرین للمعصومین ^ إذا سلکوا سلوکاً معیَّناً بما هم عقلاء (کالتملّک بالحیازة مثلاً) لا ینحصر سبب سلوکهم هذا فِی التلقّی من الشَّارِع کما کنّا نقول ذلک فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة؛ لأَنَّ الاحتمال الَّذِی لم یکن وارداً هناک وارد هنا، وهو احتمال تلقّیهم لهذه السِّیرَة من ذوقٍ اجتماعی ونکتة عُقَلاَئِیَّة؛ لأَنَّ المسألة لیست مسألة شرعیة بحتة حسب الفرض، بل لها جذور عُقَلاَئِیَّة، فیمکن هنا أن نفترض أن النکات والمرتکزات الْعُقَلاَئِیَّة باعتبار شدة سیطرتها عَلَیٰ الأفراد وتحوّلها إلی عادةٍ سلوکیة فِی الخارج تکون هی المنشأ لاستقرار السِّیرَة والاتجاه إلی سلوک مُعَیَّن، فلا ینحصر سببه فِی التلقی من الشَّارِع، بل لعله ناشئ من الجری اللاشعوری عَلَیٰ طبق تلک المرتکزات الْعُقَلاَئِیَّة الَّتِی هی ثابتة حتَّی عند الْمُتَشَرِّعَة بلحاظ حیثیة کونهم من العرف والعقلاء وتتحکّم فیهم أذواق الْعُقَلاَء وارتکازاتهم ومواقفهم کما تَقَدَّمَ.

وإن شئت قلت: إن فرض کون سلوکهم هذا غیر مستند إلی الشَّارِع وغیر موافق لِلشَّرْعِ، وغفلة جمیع الْمُتَشَرِّعَة منهم عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ فِی المسألة لا یساوق فرض اجتماع علل وعوامل عدیدة (خلافاً لما قلناه فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة من أن احتمال غفلتهم جمیعاً احتمال موهوم نقطع بعدمه نَظَراً إلی أن الغفلات العدیدة بحاجة إلی عوامل عدیدة)؛ وذلک لوجود شیء واحدٍ مشترک هنا یمکن أَنْ یَکُونُ هو العامل والعلة لسلوکهم هذا وغفلتهم جمیعاً عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، وهو عبارة عن قریحتهم وطبیعتهم الْعُقَلاَئِیَّة؛ فَإِنَّ من المحتمل استناد سیرتهم وسلوکهم هذا وغفلتهم جمیعاً عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ إلی طبعهم الْعُقَلاَئِیّ وذوقهم الاجتماعی ومرتکزاتهم الْعُرْفِیَّة، وَحِینَئِذٍ فلا یکون احتمال غفلتهم جمیعاً عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ احتمالاً موهوماً بحیث یزول من النفس تلقائیاً ویحصل القطع بعدمه؛ لأَنَّ هذه الغفلة الجماعیة لها تفسیر واحد کما قلنا.

ص: 289

إذن، فالبیان السابق مُخْتَصّ بسیرة الْمُتَشَرِّعَة ولا یَتُِمّ فِی سیرة الْعُقَلاَء.

وعلیه فَلاَ بُدَّ لنا (فِی مقام إثبات حُجِّیَّة السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة ودلالتها عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ) من بیان آخر، وهو عبارة عن ضم قضیّتین شرطیتین إلی السِّیرَة:

الأولی: أَنَّهُ لو لم یکن الشَّارِع موافقا لها لَرَدَعَ عنها.

الثَّانیة: أَنَّهُ لو ردع عنها لَوَصَلَ الردعُ إلینا.

وبما أن التَّالِی فِی القضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة باطل، فالمقدَّم فیها أَیْضاً باطل وهو التَّالِی فِی القضیة الشَّرْطِیَّة الأولی، وبذلک یبطل المقدّم فِی القضیة الشَّرْطِیَّة الأولی وهذا یعنی أن الشَّارِع موافق لها.

وعلیه، فَالسِّیرَةُ الْعُقَلاَئِیَّة المعاصرة للمعصومین ^ بحاجة إلی ضم أمور ثلاثة إلیها کی تَتُِمّ حجیّتها ودلالتها عَلَیٰ الموقف الشَّرْعِیّ وهی:

الأَوَّل: الشَّرْطِیَّة الأولی.

الثَّانِی: الشَّرْطِیَّة الثَّانیة.

الثَّالِث: بطلان التَّالِی فِی الشَّرْطِیَّة الثَّانیة.

فهنا أمور ثلاثة لاَ بُدَّ من البحث عنها.

الأمر الأَوَّل: إثبات القضیة الشَّرْطِیَّة الأولی القائلة بأن الشَّارِع لو لم یکن موافقاً لِلسِّیرَةِ ولم یکن قد أمضاها لَما سکت بل لَرَدَع عنها، ومحصَّل هذه القضیة هو أن السکوت وعدم الردع یَدُلّ عَلَیٰ الإمضاء والقبول، وهذه الدِّلاَلَة لها تقریبان:

التقریب الأَوَّل: أن یقال بأن دلالة سکوت الْمَعْصُوم × وعدم ردعه عَلَیٰ الإمضاء قائمة عَلَیٰ أساس وملاک عَقْلِیّ، فالدلالة عَقْلِیَّة إذن، ویمکن توضیح ذلک:

إما بملاحظة الْمَعْصُوم × مکلَّفاً فَیُقَالُ: إن هذه السِّیرَة لو لم تکن مرضیة وکانت عَلَیٰ خلاف الشَّرِیعَة لوجب عَلَیٰ الْمَعْصُوم (بوصفه مکلَّفاً) النهیُ عنها لوجوبِ النهی عن المنکر، أو لوجوب تعلیم الجاهل. فلو سکت ولم یردع عنها کشف ذلک عقلاً عن کونها مرضیة، وَإلاَّ کان سکوته تهرّباً من مسؤولیته وهو مستحیل بِالنِّسْبَةِ للمعصوم ×.

ص: 290

وَإِمَّا بملاحظة الْمَعْصُوم × مکلِّفاً وشارعاً وهادفاً، فیقال: إن هذه السِّیرَة لو لم تکن مرضیّة وکانت تفوّت علیه غرضه بما هو شارع لتعیّن الوقوف فِی وجهها ولَما صحّ السکوت؛ لأَنَّهُ نقض للغرض، ونقض الغرض من العاقل الملتفِت مستحیل.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ ملاک هذه الدِّلاَلَة العقلیة استحالة تخلّف الْمَعْصُوم عن أداء رسالته الَّتِی هی عبارة عن تبلیغ الشَّرِیعَة وبیان أحکامها وحرامها وحلالها، فهو بحکم کونه حجة عَلَیٰ العباد فِی تبلیغ الشَّرِیعَة مسئول عن توضیح موقفها تجاه ما یفعله الآخرون وَإلاَّ کان مخالفاً لمسؤولیته بما هو مکلَّف وناقضاً لغرضه بما هو مکلِّف، وکلاهما مستحیل.

وکل من اللحاظین له شروطه، فاللحاظ الأَوَّل (وهو لحاظ کون الْمَعْصُوم مکلَّفاً) یتوقف عَلَیٰ توفّر شروط وجوب النهی عن المنکر أو وجوب تعلیم الجاهل. وَاللِّحَاظِ الثَّانِی (وهو کون الْمَعْصُوم شارعاً وهادفاً) یتوقّف عَلَیٰ أَنْ تَکُونَ السِّیرَة المسکوت عنها مِمَّا تهدِّد بتفویت غرض شرعی فعلی؛ وذلک بأن تکون مرتبطة بالمجال الشَّرْعِیّ مباشرةً کالسیرة القائمة عَلَیٰ الْعَمَل بأخبار الآحاد الثقات فِی الشرعیات، أو تکون ناشئة من نکتةٍ تقتضی بطبعها الامتداد إلی المجال الشَّرْعِیّ عَلَیٰ نحو یتعرض الغرض الشَّرْعِیّ للخطر والتفویت، کما لو کان الْعَمَل بأخبار الآحاد الثقات قائما فِی المجالات الْعُرْفِیَّة ولکن بنکتةٍ تقتضی بطبعها تطبیق ذلک عَلَیٰ الشرعیات أَیْضاً عند الحاجة، فبرهان استحالة نقض الغرض إِنَّمَا یأتی فیما لو کانت السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة تمتدّ من مواردهم الْعُرْفِیَّة إلی موارد الأحکام الشَّرْعِیَّة؛ إذ مع فرض عدم الامتداد لَیْسَ سکوت الشَّارِع (فِی فرض عدم موافقته عَلَیٰ الْعَمَل بتلک السِّیرَة فِی أحکامه) نقضاً للغرض؛ فَإِنَّ أغراض المولی إِنَّمَا هی کامنة فِی أحکامه، وقد فرض عدم امتداد السِّیرَة إلی باب الأحکام کما هو واضح، فَمَثَلاً قد جرت عَادَةً النَّاس فِی حیاتهم الاعتیادیة عَلَیٰ الرجوع إلی الخبراء والأخصّائیین فِی کُلّ فنّ.

ص: 291

فإذا فرض أن هذه السِّیرَة صار لها نحو من التحکّم والترکز فِی السلوک الْعُقَلاَئِیّ بدرجةٍ قد تمتدّ أو هی فِی معرض الامتداد والسرایة إلی الشرعیات، بحیث یترقّب من مثل هؤلاء الْعُقَلاَء حین ابتلائهم بالقضایا والمسائل الشَّرْعِیَّة أن یرجعوا إلی الفقهاء والخبراء بالدین فِی أخذ معالم دینهم، فَحِینَئِذٍ تکون هذه السِّیرَة مِمَّا یشکّل خطراً عَلَیٰ أغراض الشَّارِع وتکون مفوّتة وناقضة لغرضه لو لم یکن راضیاً بها وممضیاً لها.

أَمَّا کیف تمتد السِّیرَة إلی باب الأحکام الشَّرْعِیَّة؟ فهذا ما یکون بأحد وجوه:

الوجه الأَوَّل: أَنْ یَکُونُ ذلک من باب العادة، فیقال مثلاً: إن الْعُقَلاَء بما أَنَّهُ جرت سیرتهم عَلَیٰ رجوع الجاهل بفن من الفنون إلی العالِم بذاک الفن، صار ذلک عادةً لهم، فیجرون عَلَیٰ ذلک فِی باب الأحکام الشَّرْعِیَّة جریاً عَلَیٰ طبق العادة بلا التفات إلی صِحَّة ذلک وعدمها.

وهذا الوجه قابل للتصور فِی کلا قسمی السِّیرَة المشرّعة الَّتِی نحن بصدد البحث عنها وهما:

السِّیرَة الفقهیة، أی: الَّتِی تثبت لنا الحکم الشَّرْعِیّ الْوَاقِعِیِّ، کالسیرة القائمة عَلَیٰ التملک بالحیازة.

والسیرة الأصولیة، أی: الَّتِی تثبت لنا الحکم الشَّرْعِیّ الظَّاهِرِیّ، وهی السِّیرَة القائمة عَلَیٰ حُجِّیَّة أمارة من الأمارات کقول اللغوی وخبر الثِّقَة وقول الأخصّائیّ والخبیر ونحو ذلک.

السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

ومن دون فارق أَیْضاً فِی هذا الثَّانِی بین أن نقول: إن الْحُجِّیَّة عبارة عن حکم ظاهری ناشئ من الملاک الموجود فِی نفس جعله وإنشائه، وبین أن نقول بما هو الصَّحِیح عندنا من أن روح الحکم الظَّاهِرِیّ (بعد فرض عدم السَّبَبِیَّة) عبارة عن تعیین درجة اهتمام المولی بأغراضه الواقعیّة؛ ففی کُلّ هذه الفروض یتصور الوجه الأَوَّل؛ فَإِنَّ الجری الْعَمَلِیّ والسیرة بأی نحو کان یقتضی تکوّن العادة عَلَیٰ طبقه.

ص: 292

الوجه الثَّانِی: أَنْ یَکُونُ ذلک من باب إیمان الْعُقَلاَء بصحة النکتة الَّتِی قامت عَلَیٰ أساسها السِّیرَة، مثلاً قد یقال: إن الْعُقَلاَء بنوا عَلَیٰ التملک بالحیازة لنکتة توقف نظام المعاش عَلَیٰ ذلک، وَالْمُتَشَرِّعَة منهم أَیْضاً بنوا عَلَیٰ ذلک ومشوا عَلَیٰ هذا الطریق إیمانا منهم بصحة هذه النکتة، فعملوا عَلَیٰ طبقها فِی مورد الحکم الشَّرْعِیّ بلا التفات إلی موافقة الشَّارِع وعدم موافقته إما غفلةً أو إهمالاً.

والفرق بین هذا الوجه والوجه السابق أن الجری عَلَیٰ طبق السِّیرَة فِی مورد الحکم الشَّرْعِیّ فِی هذا الوجه لا یفرض کونه عملا میکانیکیاً بحسب العادة کما کان فِی الوجه الأَوَّل، بل یفرض عملا عن وعی وشعور بلحاظ الإیمان بصحة نکتتها.

نعم، الشیء الَّذِی أُغفِل فِی البین ولم یُراعَ إِنَّمَا هو عبارة عن موافقة الشَّارِع وعدم موافقته.

وهذا الوجه إِنَّمَا یَتُِمّ فِی السِّیرَة الفقهیة الَّتِی یُرَاد بها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الْوَاقِعِیِّ کالسیرة القائمة عَلَیٰ التملک بالحیازة، دون السِّیرَة الأصولیة الَّتِی یُرَاد بها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الظَّاهِرِیّ کالسیرة القائمة عَلَیٰ حُجِّیَّة خبر الواحد، حتَّی بناءً عَلَیٰ القول بأن روح الْحُجِّیَّة والحکم الظَّاهِرِیّ عبارة عن جعل شرعی قائم عَلَیٰ أساس ملاک موجودٍ فِی نفس الجعل؛ وذلک لأننا لو افترضنا أن سیرة الْعُقَلاَء جرت عَلَیٰ أن کُلّ من تقمص بقمیص الْمَوْلَوِیَّة جعل خَبَر الثِّقَةِ حجة عَلَیٰ عبده وأنهم آمنوا بصحة هذه النکتة، لم یمکن افتراض أن إیمانهم بصحة هذه النکتة یجعلهم یمشون عَلَیٰ هذا الطریق فِی موارد الأحکام الشَّرْعِیَّة إلا بمعنی أنهم یعتقدون بأن الشَّارِع أَیْضاً یوافقهم عَلَیٰ هذه النکتة ویجعل هو أَیْضاً خَبَر الثِّقَةِ حجة عَلَیٰ عبده، فلم یمکن افتراض أنهم أغفلوا موافقة الشَّارِع وعدمها؛ فَإِنَّ الْحُجِّیَّة حسب الفرض عبارة عن جعل وتشریع مِنْ قِبَلِ المولی، ولا معنی لافتراض البناء عَلَیٰ ثبوت هذا الجعل مِنْ قِبَلِ المولی لصحة نکتته مع إغفال موافقة نفس المولی.

ص: 293

إذن، فلا معنی لفرض الْعُقَلاَء خبر الواحد فِی الشرعیان حجة إلا من باب العادة وهو الوجه الأَوَّل أو من باب إثبات موافقة الشَّارِع لهم فِی النکتة وهو الوجه الثَّالِث الآتی.

الوجه الثَّالِث: أَنْ یَکُونُ ذلک من باب إیمان الْعُقَلاَء بصحة نکتة السِّیرَة مع الاعتقاد بموافقة الشَّارِع علیها من باب أَنَّهُ لا یخطأ؛ فمع فرض عدم الخطأ تجب فِی نظرهم الموافقة؛ إذ المفروض صِحَّة النکتة فِی نظرهم.

وفرق هذا الوجه من سابقیه واضح؛ وهو یَتُِمّ فِی السِّیرَة الفقهیة المبنیة عَلَیٰ إیمان الْعُقَلاَء (ولو ارتکازاً) بنکتة عَامَّة موجودة فِی قریحة جمیع الْعُقَلاَء، کما فِی مسألة التملک بالحیازة، وَأَمَّا فِی السِّیرَة الأصولیة فإن بنینا عَلَیٰ أن روح الْحُجِّیَّة والحکم الظَّاهِرِیّ عبارة عن نفس جعل مّا مِنْ قِبَلِ المولی لمصلحة وملاک فِی الجعل، فأیضاً یمکن القول بتمامیة هذا الوجه فیها بدعوی أن الْعُقَلاَء یدرکون بقریحتهم العامة مصلحة معیشیة اجتماعیة فِی نفس هذا الجعل مثلاً، ویعتقدون بصحة هذه النکتة وبموافقة الشَّارِع علیها؛ لأَنَّهُ لا یخطأ.

أَمَّا بناءً عَلَیٰ ما هو المختار من أن روح الحکم الظَّاهِرِیّ عبارة عن تعیین درجة الاهتمام بالأغراض الواقعیّة؛ فَإِنَّ السیرة عَلَیٰ هذا لا تکون مرتکزة عَلَیٰ أساس نکتة مُدرکة بالقریحة العامة للعقلاء فقط، بل هی مرتکزة عَلَیٰ أساس نکتتین:

إحداهما: مُدرَکة بالقریحة العامة للعقلاء وهی مطابقة خَبَر الثِّقَةِ مثلاً للواقع بدرجة 80%.

والأخری: نکتة لا تکون کذلک، بل تکون شخصیة قد تختلف من شخص إلی شخص آخر، فلا توجد فِی شخصٍ مّا وإن کان الغالب وجودها فِی الأشخاص وهی درجة اهتمام الشخص بأغراضه؛ فَإِنَّ هذا إِنَّمَا یکون بملاک خَاصّ لِکُلّ واحد واحدٍ؛ فمن المحتمل مخالفة الشَّارِع للآخرین فِی درجة الاهتمام بأغراضه، فهذا المقدار لا یکفی فِی المقام للحصول عَلَیٰ النَّتِیجَة.

ص: 294

نعم قد یضمّ إلیه شیء آخر فیتم هذا الوجه وهو أن نقول (حتَّی عَلَیٰ المبنی المختار) بأن الْعُقَلاَء یجزمون بموافقة الشَّارِع لهم حتَّی فِی درجة اهتمامهم بأغراضهم الواقعیّة من باب حمل الشیء عَلَیٰ الأهم الأغلب، فیحصل لهم القطع بموافقة الشَّارِع لهم فِی درجة اهتمامهم.

هذا کله فِی التقریب الأَوَّل لدلالة سکوت الْمَعْصُوم × وعدم ردعه عن السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ الإمضاء، وهو تقریب الدِّلاَلَة العقلیة کما تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّ العقل یقول: إن الْمَعْصُوم إذا سکت عن موقف وسلوک یتخذه العقلاءُ بمرأی ومسمع منه وسکت ولم یردع ولم ینهَ عن هذه السِّیرَة، فالعقل یقول: إذن هو راض، إما بِاللِّحَاظِ الأَوَّل (بلحاظ کونه مکلَّفاً) کما تَقَدَّمَ شرحه بالأمس وَإِمَّا بِاللِّحَاظِ الثَّانِی (بلحاظ کونه مشرِّعاً وهادفاً وله أغراض ونقض الغرض مستحیل منه). هذا هو التقریب الأَوَّل لبیان أن سکوت الْمَعْصُوم یَدُلّ عَلَیٰ الإمضاء.

السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

التقریب الثَّانِی (الاستظهاری ولیس العقلی کالتقریب الأَوَّل): وذلک بادعاء أن ظاهر حال الْمَعْصُوم - عَلَیْهِ السَّلاَمُ - (بوصفه المسؤول الْعَامّ عن تبیلغ الشَّرِیعَة) هو أَنَّهُ عندما یسکت عن سلوک یواجهه وموقف عقلائی عَامّ یقع بین یدیه، ظاهر حاله أَنَّهُ یقبل هذا السلوک ویرتضیه، فلسکوته - عَلَیْهِ السَّلاَمُ - ظهور حالی فِی الإمضاء، والظهور لا ینحصر بِالْکَلاَمِ فَإِنَّهُ قد یکون للسکوت ظهور فِی معنی مُعَیَّن، بل کما قیل منذ القدیم قد یکون السکوت أبلغ من الکلام فِی التعبیر عن المقصود.

وهذا الظُّهُور یختلف باختلاف الأشخاص والظروف؛ فقد یکون ظهور فردٍ فِی ظرف مُعَیَّن دَالاًّ عَلَیٰ معنی ولکن سکوت فردٍ آخر فِی نفس ذاک الظَّرْف لا یکون دَالاًّ عَلَیٰ ذاک المعنی. فمثلاً سکوت الأب عن تصرف ابنه فِی ظرف مُعَیَّن قد یکون دَالاًّ عَلَیٰ رضاه وموافقته لسلوک ابنه، بینما سکوت شخص أجنبی فِی نفس ذاک الظَّرْف لا یکون دَالاًّ عَلَیٰ ذاک المعنی (عَلَیٰ الموافقة). کما أن سکوت الأب نفسه أَیْضاً تختلف دلالته باختلاف الظُّهُور؛ فقد یَدُلّ سکوته فِی ظرف عَلَیٰ الموافقة ولکن نفس هذا السکوت لا یکون له هذا الظُّهُور وهذه الدِّلاَلَة. والإمام - عَلَیْهِ السَّلاَمُ - بوصفه مُکَلَّفاً بتبلیغ الشَّرِیعَة ومسؤولاً عن توصیل الأحکام وتوضیحها للناس، إذن سوف یکون سکوته باعتبار مقامه هذا ظَاهِراً بالظهور الْحَالِیّ فِی الموافقة والارتضاء. وهذا السکوت یشبه سکوت الأب عن تصرف ابنه، باعتباره مسؤولاً عن سکوت ابنه وتربیته.

ص: 295

وَحِینَئِذٍ هذا الظُّهُور الْحَالِیّ:

تَارَةً نفرض أَنَّهُ یبلغ درجةً من الوضوح بحیث یوجب القطع والیقین بمطابقته للواقع، فَحِینَئِذٍ یکون حجةً بلا إشکال من باب حُجِّیَّة القطع.

وأخری نفترض أَنَّ درجته دون القطع (أی: الظن) فَحِینَئِذٍ حاله حال سائر الظهورات. أی: نحتاج حِینَئِذٍ فِی مقام إثبات حُجِّیَّة هذا الظُّهُور إلی أن نُثبت أوَّلاً أصل حُجِّیَّة الظُّهُور کی نستدل بعد ذلک بهذا الظُّهُور الْحَالِیّ (الَّذِی فرغنا عن حُجِّیَّتِه) عَلَیٰ الإمضاء.

ومن هنا یتضح لنا مطلب وهو أَنَّهُ لا یمکن أن یدخل هذا الظُّهُور الْحَالِیّ لسکوت الْمَعْصُوم (طبعاً إذا لم یکن قطعیّاً) فِی استدلالنا فِی بحث حُجِّیَّة الظُّهُور بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة القائمة عَلَیٰ کبری حُجِّیَّة الظُّهُور.

وبعبارة أخری: إذا أردنا فِی بحث حُجِّیَّة الظُّهُور أن نستدل عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة ونقول: بما أن سیرة الْعُقَلاَء قائمة عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور والشارع أَیْضاً سکت ولم یردع فسکوته یَدُلّ عَلَیٰ إمضائه لهذه السِّیرَة. فیأتی السؤال: کیف یَدُلّ سکوته عَلَیٰ إمضائه؟ هل عَلَیٰ أساس الظُّهُور الْحَالِیّ؟ إذا کان هکذا فهو دور؛ لأَنَّهُ لا یمکن إثبات حُجِّیَّة الظواهر من خلال السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة القائمة عَلَیٰ حُجِّیَّة الظَّوَاهِر بضمّها إلی ظاهر حال الْمَعْصُوم - عَلَیْهِ السَّلاَمُ - الکاشف عن الإمضاء؛ فإن ظاهر حال الْمَعْصُوم أَیْضاً من الظَّوَاهِر، والکلام فِی حُجِّیَّة الظَّوَاهِر، وهذا هو الدور المصرح.

وهذا معناه أَنَّهُ یمکننا أن نستفید من هذا التقریب الثَّانِی فِی کُلّ سیرة عَلَیٰ أی شیء کان، إلا السِّیرَة الدالة عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور. أَمَّا إذا لم نثبت حُجِّیَّة ظاهر الحال وظاهر المقال بعدُ، وأردنا إثبات حُجِّیَّته من خلال السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة فهذا التقریب الثَّانِی لا یجدینا نفعاً، وَإِنَّمَا ینحصر إثبات «دلالة سکوت الْمَعْصُوم تجاه السِّیرَة عَلَیٰ الإمضاء» عَلَیٰ التقریب الأَوَّل.

ص: 296

فتحصّل لدینا إلی الآن تقریبان لِدَلاَلَةِ السکوت عَلَیٰ الإمضاء لهذه القضیة الشَّرْطِیَّة الأولی الَّتِی نحن بصدد البحث عنها وهی أَنَّهُ «لو لم یکن راضیاً لَرَدَعَ»، فقد أثبتناها بالعقل وبظاهر الحال. وکلا التقریبین تَامّ وصحیح.

ومن الطبیعی أن التقریب الثَّانِی یمتاز من التقریب الأَوَّل فِی أَنَّهُ لا یخضع لبعض الشروط الَّتِی کان التقریب الأَوَّل یخضع لها (ککون الْمَعْصُوم مُکَلَّفاً بالتکالیف الشَّرْعِیَّة الَّتِی من جملتها الأمر بِالْمَعْرُوفِ والنهی عن المنکر وتعلیم الجاهل).

وفی ضوء هذا تبین عدم صِحَّة ما قد یقال مِنْ قِبَلِ بعض المحققین المعاصرین( (1) ) من المناقشة فِی أصل حُجِّیَّة هذا الظُّهُور الْحَالِیّ من إنکار حُجِّیَّة ظاهر الحال وإنکار حُجِّیَّة دلالة السکوت عَلَیٰ معنی مُعَیَّن ما لم یبلغ مرتبة القطع والیقین، لطالما نفترض أن هذه الدِّلاَلَة فِی مستوی الظُّهُور العرفیّ؛ إذ:

تارة لا تبلغ هذه الدِّلاَلَةُ مرتبةَ الظُّهُور العرفیّ فیُعدُّ هذا خروجاً عن البحث؛ إذ لا فرق بین هذا الظُّهُور العرفیّ الْحَالِیّ وبین الظُّهُور العرفیّ المقالی ما دامت السِّیرَةُ هی العمدة فِی استدلالنا عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور.

وأخری نفترض أن حُجِّیَّة الظُّهُور منحصرة فِی السِّیرَة الْمُتَشَرِّعِیَّة (لا السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة)، فیرد علیه بأن القدر المتیقن مِنَ السِّیرَةِ الْمُتَشَرِّعَة هو الأخذ بظاهر المقال لا ظاهر الحال.

إذن، ذکرنا أساسین لدلالة السکوت عَلَیٰ الإمضاء أحدهما الأساس العقلی والآخر الأساس الاِسْتِظْهَارِیّ.

ومن خلال هذا العرض اتضح أن السِّیرَة الَّتِی یُرَاد بها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، وَالَّتِی قسّمناها سَابِقاً إلی قسمین: سیرة فقهیة یُرَاد بها إِثْبَاتُ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الْوَاقِعِیِّ، وسیرة أصولیة یُرَاد بها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الظَّاهِرِیّ.

ص: 297


1- (1) - الهاشمی، أضواء وآراء: ج2، ص246.

والْقِسْمِ الأَوَّل (الْوَاقِعِیِّ) ینقسم بدوره إلی قسمین: 1- الحکم الشَّرْعِیّ الْوَاقِعِیِّ التَّکْلِیفِیّ. و2- الحکم الشَّرْعِیّ الْوَاقِعِیِّ الوضعی.

وقد تَقَدَّمَ الحدیث عنهما وذکرنا الأمثلة لِکُلّ من التَّکْلِیفِیّ (ومثاله جواز التصرف فِی مال الآخرین بمجرد طیب أنفسهم ولو لم یأذنوا بالتصرف) والوضعی (ککون الحیازة سبباً لملکیة الحائز).

وما یهمنا الآن هو أن هذا القسم الأَوَّل (وهو السِّیرَة الفقهیة الَّتِی یُراد بها إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ الْوَاقِعِیِّ) ینطبق علیه بلا إشکال کلا الأساسین (الأساس العقلی والأساس الاستظهاری) الَّذَیْنِ ذکرناهما لإثبات أن سکوت الْمَعْصُوم - عَلَیْهِ السَّلاَمُ - یَدُلّ عَلَیٰ الإمضاء؛ وذلک باعتبار أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ یَکُونُ للشارع رأی فِی مسألة أن التصرف فِی مال الآخرین منوط بأی شیء؟! فَلاَ بُدَّ من وجود حکم شرعی واقعی فِی هذه المسألة، فإذا لم یکن حکمه مطابقاً لما یجری علیه النَّاس لکان الحکم الشَّرْعِیّ شَیْئاً آخر وکان الشَّارِع یردع عَمَّا سارت علیه النَّاس. وَحَیْثُ أَنَّ الشَّارِع لم یردع وسکت عنها فسکوته یَدُلّ عَلَیٰ الإمضاء عَلَیٰ أساس کُلّ من العقل والاستظهار. هذا بِالنِّسْبَةِ إلی الحکم الْوَاقِعِیِّ التَّکْلِیفِیّ.

وکذلک الأمر بِالنِّسْبَةِ إلی الحکم الْوَاقِعِیِّ الوضعی کمسألة أن الحیازة تُملِّکُ وتوجِد الملکیةَ؛ فَإِنَّ للشارع فِی هذه المسألة رأی أَیْضاً، فإن لم یکن الشَّارِع موافقاً لهذه السِّیرَة القائمة لدی النَّاس فِی کون الحیازة مملِّکة لردع عنها، وحیث لم یردع عنها وسکت، فسکوته یَدُلّ عَلَیٰ إمضاء التملک بالحیازة عَلَیٰ أساس کُلّ من العقل والاستظهار.

لکن إذا أتینا إلی القسم الثَّانِی (أی: السِّیرَة الأصولیة) الَّتِی یُرَاد بها إثبات الأحکام الشَّرْعِیَّة الظَّاهِرِیَّة، من قبیل سیرة الْعُقَلاَء عَلَیٰ کُلّ من حُجِّیَّة الظُّهُور وحُجِّیَّة قول أهل الخبرة وحُجِّیَّة قول الأخصائی وحجیة قول اللغوی وأمثالها مِنَ السِّیَر الموجودة لدی الْعُقَلاَء، فهناک استشکال فِی تطبیق الأساسین الذین ذکرناهما عَلَیٰ هذه السِّیرَة. وهذا الاستشکال سوف یأتی توضیحه غداً إن شاء الله تعالی.

ص: 298

القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

الإشکال هو أن ما قلتموه من أن سکوت الْمَعْصُوم یَدُلّ عَلَیٰ الإمضاء عَلَیٰ أساس العقل أو عَلَیٰ أساس ظاهر الحال، لا یَتُِمّ ولا ینطبق عَلَیٰ هذا النَّحْو مِنَ السِّیرَةِ (= الأصولیة)؛ ذلک لأن سیرة الْعُقَلاَء عَلَیٰ أمارةٍ معینة کقول اللغوی مثلاً لها مجالان أو حقلان:

الحقل الأَوَّل: مجال الأغراض التکوینیة الشخصیة.

الحقل الثَّانِی: مجال الأغراض التشریعیة.

أَمَّا الحقل الأَوَّل فمعناه أن سیرة الْعُقَلاَء قائمة عَلَیٰ أن یعملوا بقول اللغوی فِی مقام تحصیل الشخص لأغراضه الشخصیة التکوینیة، أی: الأغراض الَّتِی هو شخصیاً یسعی لتکوینها؛ فَإِنَّ العاقل إذا کان لدیه غرض عقلائی کما إذا کان لدیه غرض فِی فهم کلمةٍ معینة حین تألیفه لکتابٍ مثلاً، فیرجع إلی قول اللغوی لتحدید معنی الکلمة فِی سبیل تحصیل غرضه الشخصی التکوینی وهو تألیف هذا الکتاب. فالعاقل یعمل بقول اللغوی فِی هذا المجال، ویرتِّب الأثرَ عَلَیٰ الظن الحاصل لدیه من قول اللغوی. ومعنی ترتب الأثر هو أَنَّهُ یستخدم هذه الکلمة فِی کُلّ مورد یرید فیه ذاک المعنی فِی کتابه.

أَمَّا الحقل الثَّانِی فهو مجال تحصیل الأغراض التشریعیة؛ وذلک بأن یأمر الإنسانُ شخصاً آخر بأن یقوم بتحصیل غرضه. هنا أَیْضاً توجد سیرة عند الْعُقَلاَء عَلَیٰ الْعَمَل بقول اللغوی مثلاً، بأن العبد العرفیّ حینما یسمع من مولاه «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» ولا یعرف هل أن کلمة «العالم» یشمل من انقضی عنه العلم أو لا، فیراجع اللُّغَوِیَّ لیری أن کلمة «العالم» تشمل الإنسانَ الَّذِی انقضی عنه المبدأ أم لا؟ فتکون شهادة اللغوی حجةً علیه. أَیْ: أَن هذه الشهادة تُنجِّزُ وجوبَ الإکرامِ عَلَیٰ هذا العالم الَّذِی کان عالماً ونسی علمَه، وهذا معناه أَنَّهُ عوَّل عَلَیٰ قول اللغوی فِی مقام تحصیل غرضه التشریعی الَّذِی کُلِّف به.

ص: 299

والْحَاصِلُ أَنَّ الحقل الثَّانِی هو حقل تحصیل الْعُقَلاَء أغراضَهم التشریعیة الَّتِی یُکلفون الآخرین بتحقیقها وتحصیلها، أی: المجال الَّذِی یوجد فیها آمر ومأمور وحجة ومنجز ومعذِّر. فهذان مجالان وحقلان لسیرة الْعُقَلاَء عَلَیٰ الْعَمَل بأی أمارة من الأمارات.

وَحِینَئِذٍ یقول صاحب الإشکال: إنکم تریدون الاِسْتِدْلاِلَ بسیرة الْعُقَلاَء فِی المجال الأَوَّل أو فِی المجال الثَّانِی؟ فإن أردتم الاِسْتِدْلاِل بها فِی المجال الأَوَّل (بأن تقولوا: بما أن الْعُقَلاَء یعملون بالأمارة فِی سبیل تحصیل أغراضهم التکوینیة والشارع سکت ولم یردع فهذا معناه حُجِّیَّة الأمارة شَرْعاً) فهذا الکلام غیر تَامّ؛ لأَنَّ سیرة الْعُقَلاَء القائمة عَلَیٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة أو بقول اللغوی أو بأیة أمارة من تلک الأمارات فِی مجال الأغراض الشخصیة التکوینیة لیس سیرةً عَلَیٰ الْحُجِّیَّة بمعناها الأُصُولِیّ؛ فَإِنَّ معنی الْحُجِّیَّةِ أصولیاً هو الْمُنَجِّزِیَّة وَالْمُعَذِّرِیَّة، ولا توجد الْحُجِّیَّة بهذا المعنی فِی الحقل الأَوَّل، بل یوجد ترتب الأثر عَلَیٰ القول اللغوی وذلک إذا کان هناک غرض عقلائی مترتب علیه لفهم معنی الکلمة الفلانیة؛ فترتیب الأثر عَلَیٰ قول اللغوی لَیْسَ حُجِّیَّةً لقول اللغوی بمعناها الأُصُولِیّ، کما تَقَدَّمَ فِی القطع حیث قلنا إن العطشان إذا قطع بوجود الماء فِی مکان مّا یرتِّب الأثرَ عَلَیٰ قطعه بالذهاب إلی الماء لیرتوی منه. ولَیْسَ معنی ذلک حُجِّیَّة القطع بمعناها الأُصُولِیّ.

وإن کان المقصود هو الثَّانِی (فِی مجال تحصیل الأغراض التشریعیة) فمعنی الْحُجِّیَّة متطابق مع ما نریده، لکنَّ سکوتَ الْمَعْصُوم هنا لا یَدُلّ عَلَیٰ إمضائه لِلسِّیرَةِ، لا عَلَیٰ أساس العقل ولا عَلَیٰ أساس الاستظهار؛ فَإِنَّ جعلَ الْعُقَلاَء الأمارةَ حجةً بینهم وبین مأموریهم لا یفرض عَلَیٰ الشَّارِع (إذا کان لا یرتضی ولا یقرّ بهذا السلوک) أن یجعلها حجةً بینه وبین مأموریه؛ فَإِنَّ الشَّارِع إذا لم یکن راضیاً فعلیه أن یردع عن سیرةٍ یراها وتمسّه، أَمَّا هذه السِّیرَةُ فلا تمس الشَّارِعَ (کالقیاس الَّذِی یمس الشَّارِع أو کالاستحسان)؛ فإن الْعُقَلاَء لم یقرروا أَنْ یَکُونُ خَبَر الثِّقَةِ حُجةً بین الشَّارِع وببین مأموریه، وَإِنَّمَا جعلوه حجةً بینهم وبین مأموریهم، لا أَنْ تَکُونَ سیرة الْعُقَلاَء منعقدة فِی أن خَبَر الثِّقَةِ حجة بین الشَّارِع وبین مأموریه.

ص: 300

إن قلت: لماذا تفترضون أن ضیق سیرة الْعُقَلاَء فِی أن کُلّ آمرٍ یجعل الأمارة حجةً بینه وبین مأموریه؟ فإن بإمکاننا أن نفترضها واسعةً تشمل کُلَّ آمر ومأمور بما فیهم الشَّارِع، وَحِینَئِذٍ إذا لم یردع الشَّارِع عنها (لأن المفروض به أن یردع عنها إن لم یکن یرتضی بها) فَسَوْفَ یَدُلّ سکوته عَلَیٰ الإمضاء عَلَیٰ الأساسین.

قلت: لا معنی لأَنْ نفترضَ أَنَّ سیرة الْعُقَلاَء انعقدت عَلَیٰ أَنْ یَکُونُ شیئاً ما کخبر الثِّقَة أو قول اللغوی أو أیة أمارة أخری حجةً بین کُلّ آمر مع مأموریه؛ فَإِنَّ کون شیءٍ حجةً بالمعنی الأُصُولِیّ (أی: مُعَذِّراً وَمُنَجِّزاً) هذا قرار یتخذهُ الآمر، ولا یُعقل لغیر الآمر أن یتخذ هکذا قرار.

هذا حاصل هذا الإشکال فِی تطبیق ما قلناه عَلَیٰ السِّیرَة الأصولیة ویأتی الجواب عنه - إن شاء الله تعالی - غداً.

القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

تَقَدَّمَ أنَّ سکوتَ الْمَعْصُومِ وعدم ردعه عن السِّیرَة یَدُلّ عَلَیٰ إمضائه لها، وهذه الدِّلاَلَة قائمة عَلَیٰ أساسین هما العقل والاستظهار. وقلنا إِنَّهُ: لا ریب فِی انطباق هذین الأساسین وتمامیتهما بِالنِّسْبَةِ لِلسِّیرَةِ الفقهیة، وأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلسِّیرَةِ الأصولیة الَّتِی یُراد بها إثبات الحکمَ الشَّرْعِیّ الظَّاهِرِیّ فِی فرض الشَّکّ (أی: إثبات الْحُجِّیَّة لبعض الأمارات والظنون الَّتِی یعمل الْعُقَلاَء بها)؛ فقد یستشکل فِی تطبیقهما علیها، وکانت فذلکة الاستشکال عبارة عن أن سیرة الْعُقَلاَء عَلَیٰ الْعَمَل بالأمارة الفلانیة إن أرید بها فِی الحقل التکوینی فلا تفیدنا فِی إِثْبَات الْحُکْمِ الظَّاهِرِیّ (وهو الْحُجِّیَّة)، وإن أرید بها فِی حقل الأغراض التشریعیة (فهذه سیرة بالمعنی الَّذِی نریده من الْحُجِّیَّة) فهی لم تنعقد فی الْعَمَل بالأمارات فِی مجال أحکام الشَّارِع ولا تمس الشَّارِع بشیء؛ إذ حتَّی إذا لم یکن الشَّارِع راضیاً بهذه السِّیرَة لَیْسَ من المفروض أن یردع عنها؛ لأَنَّهُ لا علاقةَ للشارع بها، وبِالتَّالِی سکوت الشَّارِع عن هذه السِّیرَة لا یَدُلّ عَلَیٰ إمضائه لها، وَبِالتَّالِی لا یمکن أن نجعل مثل هذه السِّیرَة دلیلا عَلَیٰ الْحُجِّیَّة. وإذا تَمَّ هذا الإشکال نخسر عمدةَ أدلّة حُجِّیَّة الأمارات وهی السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة؛ لأَنَّه سوف یأتی أن دلالة الآیات (مثل آیة النبأ و..) عَلَیٰ حُجِّیَّة الخبر الواحد غیر تَامَّة کما أن الروایات قابلة للمناقشة والإجماع فِی حُجِّیَّتُهَا کیت وکیت، فتبقی السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّةُ هی العمدةُ فِی الاِسْتِدْلاِل عَلَیٰ حُجِّیَّة الخبر الواحد، وکذلک الأمر فِی کثیر من الأمور کحجیة قول المفتی ورجوع العالم إلی الجاهل و...

ص: 301

إلا أن من حسن الحظ لا یَتُِمّ هذا الاستشکال والجواب عنه یظهر من خلال ما تَقَدَّمَ فِی البحث الَّذِی کان عندنا قبل ثلاث جلسات من امتداد السِّیرَة إلی باب الأحکام الشَّرْعِیَّة حیث قلنا: إن الاِسْتِدْلاِل بمثل هذه السِّیرَة الأصولیة عَلَیٰ الْحُجِّیَّة الشَّرْعِیَّة والحکم الشَّرْعِیّ الظَّاهِرِیّ صحیح ولا یرد علیه هذا الإشکال، وذلک لأن هذه السِّیرَة تمس الشَّارِعَ وإن کانت السِّیرَة جاریة عند الْعُقَلاَء فِی مجال أحکامهم، لکنها توجب عَلَیٰ أساس العادة الجریَ عَلَیٰ وفق هذه السِّیرَة حتَّی فِی نطاق الأغراض التشریعیة للمولی الَّذِی لم یساهم معهم فِی تکوین هذه السِّیرَة وهو الشَّارِع. أی: سوف یتعودون (بتلک العادة الَّتِی ذکرناها فِی الوجه الأَوَّل) عَلَیٰ أن سیرتهم هذه توحی (ولو خطأً وارتکازاً) إلی أن مؤدّاها مورد ارتضاء الجمیع حتَّی الشَّارِع. فإذا کان الشارع یرضی بهذا الإیحاء الباطل (عَلَیٰ موافقة الشَّارِع لسیرتهم) کان علیه أن یردع عنها؛ وذلک حفاظاً عَلَیٰ أحکامه، کما قاله بِالنِّسْبَةِ إلی القیاس والاستحسان.

ویتمخض عن ذلک أنَّه یشترط فِی الاِسْتِدْلاِل بکل سیرة عُقَلاَئِیَّة (فِی مجال حُجِّیَّة أمارة من الأمارات بالمعنی الأُصُولِیّ، أی: الْمُنَجِّزِیَّة وَالْمُعَذِّرِیَّة) أَنْ تَکُونَ هذه السِّیرَةُ (فِی مجال التطبیق الخارجی مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء) قد افترضت أن الشَّارِع أَیْضاً متفق مع الْعُقَلاَء فِی هذه الْحُجِّیَّة، أو فِی معرض أن تفترض هکذا.

وَحِینَئِذٍ نستنتج أن لا حاجة إلی أَنْ تَکُونَ السِّیرَة سیرةً مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء عَلَیٰ الْعَمَل بهذه الأمارة فِی مجال تحصیل الأغراض التشریعیة (أی: فِی الحقل الثَّانِی)، بل حتَّی إذا کانت السِّیرَة سیرةً عُقَلاَئِیَّة مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء عَلَیٰ الْعَمَل بهذه الأمارة فِی مجال الأغراض التکوینیة کما إذا افترضنا أن الْعُقَلاَء لم یشرّعوا أَنْ یکون خَبَر الثِّقَةِ حجةً (أی: مُعَذِّراً وَمُنَجِّزاً بین الآمرین والمأمورین) وَإِنَّمَا سیرتهم قائمة عَلَیٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة فِی ترتیب الأثر علیه (فِی الحقل الأَوَّل)، مِنْ دُونِ أن ترتبط قضیتهم بالحجیة والآمریة والمأموریة، بل کانوا یعملون بخبر الثِّقَة فِی مجال تحصیل أغراضهم التکوینیة؛ وَذَلِکَ لأَنَّ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة الجاریة عَلَیٰ الْعَمَل بالأمارة فِی مجال تحصیل الأغراض التکوینیة أَیْضاً إذا توفر فیها هذا الشَّرْط (التسبیب عند الْعُقَلاَء بعادةٍ توحی إلیهم بأن الْعَمَل بخبر الثِّقَة أمر صحیح حتَّی فِی مجال الأغراض التشریعیة) یَتُِمّ هذا الاِسْتِدْلاِل وتمس هذه السِّیرَة الشَّارِعَ، وتفوِّت عَلَیٰ الشَّارِع غرضه إذا لم یکن راضیاً بها، فالمفروض بالشارع حِینَئِذٍ أن لا یسکت عنها ویجنّب النَّاس عن الْعَمَل بهذه الأمارة، وَإلاَّ (إن سکت عنها) فَیَدُلُّ سکوته عَلَیٰ إمضائه لها عَلَیٰ أساس العقل وظاهر الحال.

ص: 302

هذا تمام الکلام فِی الأمر الأَوَّل من الأمور الثَّلاَثة الَّتِی تَتَوَقَّف علیها حُجِّیَّة السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة ودلالتها عَلَیٰ الحکمِ الشَّرْعِیِّ، وهو إثبات القضیة الشَّرْطِیَّة الأولی وهی أَنَّهُ لو لم یکن الشَّارِع مُوَافِقاً لِلسِّیرَةِ لَرَدَعَ عنها، فأثبتنا هذه الملازمة بین السکوت والإمضاء.

وفی ضوء ما ذکرناه نعرف السرَّ فِی الشَّرْط الأَوَّل أو الرکن الأَوَّل من رکنی الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ والَّذِی تَقَدَّمَ الکلام عنه مفصلاً وهو وجوب معاصرة السِّیرَة للمعصوم - علیه السلام -، والسر هو أن السِّیرَة المعاصرة للمعصوم - علیه السلام - هی السِّیرَة الوحیدة الَّتِی یَدُلّ سکوت الْمَعْصُوم - علیه السلام - عنها دَالاًّ عَلَیٰ الإمضاء عَلَیٰ کلا الأساسین.

أَمَّا السِّیرَة المتأخرة عن عصر الْمَعْصُوم فلا یَدُلّ سکوت الْمَعْصُوم - علیه السلام - عنها عَلَیٰ إمضائه لها؛ فقد یکون سکوته عنها باعتبار عدم وجوده فِی زمانه، لا بسبب کونه راضیاً بها.

وقد یتوهم فِی هذا المقام أن السِّیرَة المتأخرة عن زمان المعصومین ^ (أی: السِّیرَة الحادثة فِی عصر الغیبة) أَیْضاً معاصرة للمعصوم - علیه السلام -، وإن کان الْمَعْصُوم - عجل الله تعالی فرجه الشریف - غائباً، فاشتراط المعاصرة قَضِیَّة ضروریة بشرط المحمول، فَالسِّیرَةُ دائماً تُعاصِر المعصومَ - علیه السلام - ولا توجد لدینا سیرة غیر معاصرة للمعصوم - علیه السلام - حتَّی نقول بأنه یشترط فِی الاِسْتِدْلاِل باِلسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة الدالة عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ أَنْ تَکُونَ معاصرة للمعصوم - علیه السلام -.

وهذا الوهم باطل؛ لأننا نجیب عنه بأن سکوت الْمَعْصُوم - علیه السلام - فِی عصر الغیبة لا یَدُلّ عَلَیٰ الإمضاء، لا عَلَیٰ أساس العقل ولا عَلَیٰ أساس ظاهر الحال.

أَمَّا عَلَیٰ الأساس الأَوَّل فکان له لحاظان 1- کون الْمَعْصُوم - علیه السلام - مُکَلَّفاً بالنهی عن المنکر وتعلیم الجاهل. و2- کون الْمَعْصُوم مکلِّفاً وشارعاً وهادفاً یفرض به أن یردع عَمَّا ینافی غرضه.

ص: 303

أَمَّا اللِّحَاظِ الأول: فهو أن الْمَعْصُوم الغائب - علیه السلام - لا یفرض به أن ینهی عن المنکرات؛ فَإِنَّ الله تعالی أمره بالغیبة، والنهی عن المنکر یستدعی أَنْ یَکُونُ حاضراً.

أَمَّا اللِّحَاظِ الثَّانِی: وهو أن الْمَعْصُوم - علیه السلام - مکلِّف وشارع وهادف ویستحیل علیه نقضُ الغرض، فإذا کان بمرأی ومسمع من سیرة وسلوک مِنْ قِبَلِ النَّاس یفوِّت علیه أغراضَه یفترض به أن یردع عنه لکی لا یستلزم منه نقض الغرض.

ونجیب عنه أَنَّهُ صحیح أن الْمَعْصُوم علیه شارع وهادف وهذه السِّیرَة الحادثة فِی عصر غیبته تفوِّت علیه غرضَه بما هو شارع (إذا لم یکن راضیاً بهذه السِّیرَة) لکن أغراض الشَّارِع فِی عصر الغیبة لیست بتلک الدرجة من الفعلیة بحیث تستوجب أن یحافظ علیها الْمَعْصُوم بالطرق غیر الطبیعیة بأن یأتی فِی منام النَّاس أو مکاشفاتهم أو أن یزور النَّاس ویقول لهم، وهذا لا یُعَدُّ من نقض الغرض المستحیل؛ فَإِنَّ «نقض الغرض» المستحیل هو الَّذِی لا یَتُِمّ الحفاظ فیه الحفاظ عَلَیٰ الغرض بشکل طبیعی، والطریقة الطبیعیة تختص بعصر الحضور.

وأَمَّا عَلَیٰ الأساس الثَّانِی (ظاهر حاله) فحیث أن دلالة السکوت عَلَیٰ الإمضاء عَلَیٰ کان عَلَیٰ أساس ظاهر حال الْمَعْصُوم - علیه السلام - وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ ظرف الغیبة لا یساعد عَلَیٰ استظهار الإمضاء من سکوت الْمَعْصُوم - عجل الله تعالی فرجه الشریف - حیث أَنَّهُ غائب فلیس له ظاهر حال. إذن، فالأساس الثَّانِی أَیْضاً غیر تَامّ.

وبهذا تَمَّ الکلام فِی الأمر الأَوَّل من الأمور الثَّلاَثة الَّتِی کان علینا أن نثبتها لکی تَتُِمّ دلالةُ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ ویتم الاِسْتِدْلاِلُ بِالسِّیرَةِ لإثبات الحکم الشَّرْعِیّ الکلی، وبعد ذلک ننتقل إلی الأمر الثَّانِی من هذه الأمور الثَّلاَثة وهو عبارة عن إثبات القضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة المتقدمة وهی «لو ردع لوصل».

ص: 304

القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

انتهینا من الأمر الأَوَّل وهو إثبات الملازمة بین عدم الردع وبین الإمضاء والقبول، وأثبنا أَنَّهُ لو لم یردع الشَّارِع عن السِّیرَة وسکت عنها فسکوته یَدُلّ عَلَیٰ الإمضاء حتماً.

الأمر الثَّانِی: وهو إثبات الملازمة بین عدم صدور الردعِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِع وبین عدم وصوله إلینا. فنرید أن ندّعی الملازمة بین عدم الوصول وعدم الصدور.

وبعبارة أخری: ندعی الملازمة بین عدم الوجدان وعدم الوجود؛ إذ یصح أنَّه بشکل عَامّ لا یَدُلّ عدم الوجدان عَلَیٰ عدم الوجود، لٰکِنَّهُ یَدُلّ فِی قضیتنا عَلَیٰ عدم وجود الردع؛ وذلک بنکتة أن ردع الشَّارِع عن سلوک مُعَیَّن لاَ بُدَّ وأن یکون متطابقاً فِی حجمه وعمقه ومقداره مع حجم وعمق ذاک السلوک الَّذِی لا یرتضیه الشَّارِع، فکلما کان حجم السلوک کبیراً وضخماً وراسخاً وقویاً لاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونُ الردع أَیْضاً بذاک الحجم من الکِبر والضخامة وبتلک الدرجة من الرسوخ.

مثلاً قد یکون السلوک الَّذِی یرید أن یردع عنه الشَّارِع سلوکاً فَرْدِیّاً بأن یقوم أحدهم بعمل مخالف للموازین الشَّرْعِیَّة مقابل الْمَعْصُوم ×، فهذا سلوک فردی لا یتطلب أکثر من ردع وبیان واحد یصدره الْمَعْصُوم ×.

أَمَّا إذا کان السلوک الَّذِی یرید أن یردع عنه الشَّارِع سلوکاً عاماً وَنَوْعِیّاً ومتفشیّاً فِی عَامَّة النَّاس ویمارسه الجمیعُ ویتکرر منهم هذا السلوک بحکم العادة، ففی مثل هذا السلوک لا یکفی فِی الردع عنه بیانٌ واحد وجملة واحدة، بل هذا السلوک المتفشی المتکرر یتطلب أکثر من ردع واحد، لکی تناسب قوة الردع قوة المردوع عنه.

ص: 305

والنکتة والسر فِی اشتراط هذا التناسب هو أن الشَّارِع إِنَّمَا یردع عن سلوک النَّاس (إذا کان لا یرضی بذاک السلوک) بملاک دفع الخطر (الَّذِی تُشَکِّلُهُ السِّیرَةُ الْعُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ أغراضه)، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مثل هذا الردع المتفشی یختلف عن الردع الواحد؛ ففی الفرض السابق (= السلوک الفردی) قلنا إِنَّهُ یکفی فِی الردع عنه بیانٌ واحدٌ. فهذا الردع الواحد یمکن أن لا یصل إلینا، فاحتمال وصوله إلینا لَیْسَ احتمالاً موهوناً وضعیفاً وضئیلاً.

أَمَّا فِی الفرض الثَّانِی (السلوک الْعَامّ المتفشی النوعی لجمهور النَّاس) فبحاجة إلی ردع کثیر وقوی بحجم تفشی السلوک وعمقه بین النَّاس؛ لأَنَّ البیانات الکثیرة الَّتِی یُصدرها الشَّارِع بنفسها یکوّن انتباهاً لدی الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ أن هناک نکتةَ خلاف بین الشَّارِع وبین هذا السلوک الْعَامّ العرفیّ الْعُقَلاَئِیّ، وهذا یدفعهم إلی الذهاب إلی الأئمة ^ والسؤال منهم ^؛ إذ أنَّ هذه البیاناتِ تسبب البلبلةَ بین النَّاس وتصل هذه البیاناتُ إلی النَّاس عَلَیٰ اختلاف مراتب الوصول ( فبعض النَّاس یصلهم بنحو الجزم وبعضهم یصله بنحو الاحتمال)، وهذا معناه تکثر أجوبة الأئمة ^ وتفشیها فِی الأحادیث، وهذا أمر له شواهد خارجیة بِالنِّسْبَةِ للسِّیَرِ الْعُقَلاَئِیَّةِ الَّتِی لا یرضونها کالردع عن الربا والقیاس.

وَحِینَئِذٍ (إذا کثرت البیانات الرادعة) یأتی دور حساب الاحتمالات لیقول کلمته وهو أَنَّ من المستبعد أن لا تصلنا کُلُّ هذه البیانات حتَّی بیان واحد فِی خبر واحد ضعیف، رغم توفر الدواعی فِی نقل تلک البیانات ورغم أن تلک البیانات مصیریة تأسیسیة ترید أن تکسر سیرة النَّاس، والرواة یهتمون بنقل هذه الروایات:

أوَّلاً نَظَراً لأهمیتها التأریخیة؛ لأَنَّهُ ردع عن ظاهرة اجتماعیة موجودة ومرکوزة وهذا الردع عَلَیٰ خلاف طبع النَّاس.

وَثَانِیاً نَظَراً إلی الناحیة الشَّرْعِیَّة، أی: قد لا یُهتم بنقل الروایة الصادرة من الشَّارِع لبیان حکم واضح مِنْ قِبَلِ الرواة؛ وذلک اعتماداً عَلَیٰ وضوح الحکم أو اعتماداً عَلَیٰ وجود العمومات والإطلاقات الَّتِی تشمل مورد الحکم. وهذا بخلاف الروایات العدیدة الرادعة عن السِّیرَة، فَإِنَّهُ وإن صح وجود احتمال اختفاء کُلّ واحدة من هذه الروایات، ولکن ما هی قیمة هذا الاحتمال بحسب حساب الاحتمال؟ فإن فرضنا أن قیمة احتمال اختفاء الروایة الأولی (الرادعة عن الربا أو الناهیة عن القیاس مثلاً أو عن أی سیرة متفشیة أخری) هی النصف (أی: 50%) والروایة الأولی أَیْضاً احتمال اختفائها النصفُ (أی:50%) أَیْضاً واحتمال اختفائهما معاً سوف یکون أقل من النصف (مثلاً 25%) وبضم الروایة الثَّالثة إلیهما سوف ینزل احتمال اختفائهما وهکذا کلما کثرت الروایات والبیانات یکون احتمال اختفائها جمیعاً ضئیلاً وضعیفاً إلی حد لا یحتفظ به الذِّهْن البشری، وَبِالتَّالِی یصل الأمر إلی أَنْ یَکُونَ احتمال اختفاء جمیع هذه الروایات والبیانات مِمَّا نقطع بعدمه.

ص: 306

إذن، عدم وصول البیانات الکثیرة ولو بنحو الموجبة الْجُزْئِیَّة (أی: ولو بعضها) دلیلٌ ریاضی (بحسب حساب الاحتمالات) عَلَیٰ عدم صدور بیانات مِنْ قِبَلِ الشَّارِع عَلَیٰ الردع عن هذه السِّیرَة. وهذا معنی ما قلناه من أن عدم الوجدان فِی هذا المورد دلیل عَلَیٰ عدم الوجود، والدلیل قائم عَلَیٰ حساب الاحتمالات.

والنتیجة أن الشَّارِع لو ردع لوصل إلینا ردعُه قطعاً فإذا لم یصل فهذا دلیل عَلَیٰ أَنَّهُ لم یردع، وفی الأمر الأَوَّل قلنا بأن سکوته وعدم ردعه دلیل عَلَیٰ الإمضاء.

الأمر الثَّالِث: وهو عبارة عن إثبات أَنَّهُ لم یصل (أی: إثبات بطلان التَّالِی فِی القضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة الَّتِی طرحناها) وهو المحطةُ الأخیرة لاکتمال الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ.

ولا نقصد بعدم وصول الردع إلینا عدم وصول خصوص الردع الَّذِی یکون حجةً (أی: الردع ضمن خبر صحیح أو موثق)، حتَّی الوصول الضعیف.

أی: لو وصل إلینا الردع عن السِّیرَة ضمن روایات ضعیفة السند (ولا نحتاج أن یصل إلینا ضمن روایات صحیحة وموثقة) کفی فِی سقوط السِّیرَة عن الْحُجِّیَّة وَحِینَئِذٍ لا یَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بهذه السِّیرَة عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ والنکتة فِی ذلک هی أن ملاک الملازمة الَّتِی أثبتناها فِی القضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة القائلة بأنه لو کان قد ردع عن السِّیرَة لوصل الردعُ إلینا إِنَّمَا هو حساب الاحتمالات الریاضی الَّذِی کان یقول: لو صدر ردعٌ مناسب لحجمِ هذه السِّیرَة لوصل هذا الردعُ المناسب (أی: البیانات العدیدة) إلینا، أو لوصل إلینا عُشرُها عَلَیٰ أقل تقدیر ولو ضمن أخبار ضعافٍ؛ لأَنَّ احتمال اختفاء جمیعها ضعیف جِدّاً مِمَّا نقطع أو نطمئن بعدمه وَفْقاً لحساب الاحتمال.

فإذا وصلنا خبرٌ ضعیف عَلَیٰ خلاف مفاد السِّیرَة فلا تَتُِمّ المحطة الأخیرة من الاِسْتِدْلاِل ولا یمکننا حِینَئِذٍ أن نقول بأنه قد وصلنا إمضاء الشَّارِع × لِلسِّیرَةِ؛ لأَنَّ السِّیرَة حِینَئِذٍ تکون قد سقطت عن الْحُجِّیَّة ولا یمکن الاِسْتِدْلاِل بها لإثبات حکمٍ شرعی، کما لا یکفی الخبر الضعیف المعارض لِلسِّیرَةِ لإثبات الحکم الشَّرْعِیّ، فیجب علینا أن نرجع إلی دلیل آخر أو إلی الأصل الْعَمَلِیّ.

ص: 307

وإن شئت فقل: إن الأمر لا یخلو من إحدی حالات ثلاث:

الحالة الأولی: أن یصل إلینا الردع عن السِّیرَة بأحادیث معتبرة وموثقة، ففی هذه الحالة تسقط السِّیرَةُ مِنْ دُونِ أی إشکال ولا یَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بها وَإِنَّمَا یَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بذاک الخبر الموثق القائم عَلَیٰ الردع عن السِّیرَة.

الحالة الثَّانیة: أن یصل إلینا الردع عن السِّیرَة بحدیث غیر معتبر، فَحِینَئِذٍ لا یثبت لنا الردعُ عن السِّیرَة؛ إذ لعل الراوی کذاب، لکن لا یثبت إمضاء الشَّارِع لِلسِّیرَةِ أَیْضاً؛ إذ کیف نثبت أن الشَّارِع أمضی هذه السِّیرَة ولم یردع عنها؛ لأَنَّ الدَّلِیل عَلَیٰ الإمضاء غیر تَامّ؛ لأَنَّهُ کنّا قد اشترطنا فِی الدَّلِیل عَلَیٰ الإمضاء عدمُ وصول الردع عن السِّیرَة إلینا، باعتبار أن حساب الاحتمال والعادة تقضی بأن الردع الصادر عن الْمَعْصُوم × ینبغی أَنْ یَکُونَ بحجم السِّیرَة بحیث یقتضی أن یصل إلینا مقدار منها (عُشرها مثلاً). نعم، العادة لا تقضی أن یصل إلینا مقدار منها بطریق صحیح وحجة وموثَّق. فَحِینَئِذٍ إذا ورد الردع بطریق ضعیف لا یمکن أن نجزم بأن الشَّارِع لم یردع عن السِّیرَة، کما لا یمکن أن نجزم بأن الشَّارِع ردع عنها. وَحِینَئِذٍ کما قلنا لا یَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ کما لا یَتُِمّ الاِسْتِدْلاِل بهذا الخبر الضعیف النَّاقِل للردع إلینا.

الحالة الثَّالثة: أن لا یصل إلینا ردع عن السِّیرَة أصلاً لا ضمن خبر صحیح ولا ضمن خبر ضعیف، ففی هذه الحالة فَتَتُِمُّ الاستدلالُ بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ؛ لأَنَّهُ لم یصل الردع أبداً (أی: تَمَامِیَّة المحطة الثَّالثة)، إذن یَتُِمّ الإمضاء.

القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

ص: 308

انتهینا من الأمور الثَّلاَثة الَّتِی تَتَوَقَّف عَلَیٰ إثباتها حجیةُ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة ودلالتها عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ. ومما ذکرناه تظهر لنا مطالب ثلاثة:

المطلب الأَوَّل: أن حُجِّیَّةَ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة مشروطة بشرطین:

الشَّرْط الأول: أن تکون هذه السِّیرَةُ سیرةً جاریة وممتدةً فِی مجال الأحکام الشَّرْعِیَّة، أو عَلَیٰ الأقل تکون فِی معرض الجریان فِی الأحکام الشَّرْعِیَّة، بحیث تُشَکِّلُ خطراً عَلَیٰ أحکام الشَّارِع وأغراضه بِالنَّحْوِ الَّذِی ذکرناه مفصلاً.

الشَّرْط الثانی: أن هذه السِّیرَة مشروطة بأن لا یصل إلینا الردع عنها أصلاً ولو بروایة ضعیفة السند.

فإذا تَمَّ هذان الشرطان یَتُِمّ الرکنُ الثَّانِی من رکنی الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ والَّذِی أثبتناه من خلال الأمور الثَّلاَثة المتقدمة وهو عبارة عن الملازمة بین السِّیرَة وبین الموقف الشَّرْعِیّ. وهذا الرکن خَاصّ بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة الَّتِی تحتاج إلی إمضاء الشَّارِع. وهذا الرکن الثَّانِی إِنَّمَا یَتُِمّ إذا تَمَّ هذان الشرطان.

المطلب الثَّانِی: هو أن العبرة إِنَّمَا هی بِالسِّیرَةِ المعاصرة للشارع وَالَّتِی هی الرکن الأَوَّل من رکنی الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ وقد تَقَدَّمَ الکلامُ عنها مفصلاً، وهی شرط ورکنٌ فِی کُلّ سیرة (خِلاَفاً للرکن الثَّانِی الَّذِی کان خاصاً بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة).

أَمَّا سیرة الْمُتَشَرِّعَة فالسبب فِی اشتراط معاصرتها لزمن الشَّارِع واضح؛ ذلک لأن استکشاف الحکم الشَّرْعِیّ من السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة کان من باب استکشاف العلة من المعلول (ما یشبه برهان الإنّ) حیث قلنا إن الْمُتَشَرِّعَة (بما هم مُتَشَرِّعَة لا بما هم عقلاء) عندما تنعقد سیرتهم عَلَیٰ شیء فإما تکون هذه السِّیرَةُ ناشئةً من الغفلة أو ناشئة من الاستماع من الشَّارِع، فَیَتَعَیَّنُ أن السِّیرَة متلقاة من الشَّارِع.

إذن السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة المتأخرة عن عصر المعصومین ^ لا یمکن لأصحاب هذه السِّیرَة أن یستمعوا من الإمام - علیه السلام -، وسیرة مماثلة تحتاج إلی أحد التفسیرین (إما الغفلة وَإِمَّا الاستماع من الفقهاء) وکلاهما لا یکشفان عن رأی الشَّارِع.

ص: 309

إذن، المعاصرة شرط أساسی فِی کُلّ سیرة سَوَاء السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة أم سیرة الْعُقَلاَء.

لا یقال: لو لم یرض الْمَعْصُوم - علیه السلام - فِی زمن الحضور بهذه السِّیرَة الموجودة الیوم لردع عنها؛ إذ أَنَّهُ یعلم أن هکذا سیرة سوف تحدث بعد ألف سنة، وحیث لم یردع عنها فسکوته وعدم ردعه دلیل عَلَیٰ إمضائه لِکُلّ ما یحدث بعده وفی زمان غیبته من السِّیَرِ.

إذ نقول: صحیح أن الْمَعْصُوم - علیه السلام - یعلم بما یحدث وما یکون لکن الأئمة ^ لیسوا مکلفین بأن یحفظوا أغراض المولی تبارک وتعالی بالطرق غیر الاعتیادیة، بل لیسوا مکلفین بحفظ أنفسهم بتلک الطرق غیر الاعتیادیة.

المطلب الثَّالِث: فِی الفارق بین مسلکنا فِی إثبات حُجِّیَّة السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة وبین مسلک الشیخ المحقق الإِصْفِهَانِیّ - رحمه الله - فِی حاشیته عَلَیٰ الکفایة( (1) ) حیث یظهر من کلامه - رحمه الله - أن حُجِّیَّة السِّیرَة لا تحتاج إلی إحراز عدم الردع عنها مِنْ قِبَلِ الشَّارِع، بل یکفی فِی حُجِّیَّة السِّیرَة عدم إحراز الردع.

وهذه نقطة مهمة نختلف فیها عن مسلکه - رحمه الله -، ومن هنا کنّا نفتّش عن الطریق الَّذِی نحرز به عدم الردع وهو عبارة عن القضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة الَّتِی ذکرناها بأنه «لو ردع لوصل»، والتالی باطل؛ لأنه لم یصلنا فِی روایاتنا، فالمقدَّم أَیْضاً باطل وهو أَنَّهُ ردع. ومن هنا قلنا «لو وصلنا الردع بخبر ضعیف تسقط السِّیرَة عن الْحُجِّیَّة».

واستدل المحقق الإِصْفِهَانِیّ - رحمه الله - عَلَیٰ ذلک بأن للشارع حیثیتین:

الْحَیْثِیَّة الأولی: حیثیة کونه أحد الْعُقَلاَء بل سید الْعُقَلاَء ورئیسهم.

ص: 310


1- (1) - الإِصْفِهَانِیّ، نهایة الدرایة: ج3، ص248-251.

الْحَیْثِیَّة الثَّانیة: حیثیة کونه شارعاً ومشرِّعاً لدین مُعَیَّنٍ، وهذه میزة یمتاز بها من الْعُقَلاَء.

وَحِینَئِذٍ إن انعقدت سیرةٌ عُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ أمر من الأمور، فنحن نحرز أن الشَّارِع بلحاظ الْحَیْثِیَّة الأولی حاله ومسلکه حال ومسلک سائر الْعُقَلاَء، وَإلاَّ لزم منه خلف عُقَلاَئِیَّة الشَّارِع أو خلف عُقَلاَئِیَّة السِّیرَة، وکلاهما خطأ.

یبقی أننا لا ندری أن الشَّارِع بلحاظ حیثیته الثَّانیة هل یتطابق حاله مع حاله بلحاظ الْحَیْثِیَّة الأولی أم لا؟

بعبارة أخری: حیثیة کونه مشرعاً هل تمنع عن أَنْ یَکُونُ مُوَافِقاً للعقلاء فِی مسلکهم وموقفهم أو لا؟ وَحِینَئِذٍ نحتمل أَنَّ له حالة أخری بلحاظ کونه مشرعاً لدین تنافی حیثیتَهُ الأولی، وهذا مجرد احتمال ولا یمکن رفع الید عَمَّا أحرزناه من الشَّارِع (وهو الموافقة للعقلاء بلحاظ حیثیته الأولی) لمجرد احتمال أن له حالة أخری (حالة مشرِّعِیَّتِه) تنافیها. نعم، لو دَلَّ دلیل عَلَیٰ هذه الحالة الأخری (کما إذا دَلَّ دلیل عَلَیٰ الردع) فَحِینَئِذٍ نأخذ به.

هذا هو حاصل کلام المحقق الإِصْفِهَانِیّ - رحمه الله -.

إلا أن هذا الکلام غیر تَامّ وذلک لما أورده علیه سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ - رحمه الله - من إیرادات أربعة:

أوَّلاً: السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة لیست دائمة مُبْتَنِیَة عَلَیٰ نکتة ثابتة عند الْعُقَلاَء ومدرَکة من قبلهم بقریحتهم العامة، فقد تکون السِّیرَة مبتنیة عَلَیٰ غرضٍ شخصی تطابق الْعُقَلاَء فِیه صدفةً، وَحِینَئِذٍ من المحتمل أن لا تکون حالة الشَّارِع مطابقة فِی ذلک لحالتهم، حتَّی فِی حیثیته الأولی.

توضیح ذلک أن السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ قسمین:

القسم الأَوَّل: أن یتفق الْعُقَلاَء فِی سلوکهم عَلَیٰ شیء إیماناً منهم (ولو ارتکازاً) بنکتة عَامَّة موجودة فِی قریحة جمیع الْعُقَلاَء، بحیث یعرف الْعُقَلاَء نکتةَ هذه السِّیرَة ویعتبرون نکتتها واضحةً، والمفروض أَنْ تَکُونَ مدرَکة عند جمیع الْعُقَلاَء، بحیث لَوْ شَذَّ أحدُ الْعُقَلاَء عن هذه السِّیرَة کان مورداً للملامة مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء أو عَلَیٰ أقل تقدیر یکون مورداً للاستغراب.

ص: 311

ومواردها کثیرة فِی الفقه، کسیرة الْعُقَلاَء عَلَیٰ التملک فِی المنقولات بالحیازة، فهذه السِّیرَة قامت عند الْعُقَلاَء عَلَیٰ أن من حاز شَیْئاً من المنقولات فَسَوْفَ یکون مالکاً لها ولا یحق لأحد أن یعارضه فِی سلطنته هذه؛ وذلک لنکتةٍ أدرکوها عمومهم وهی نکتة نظامهم الاقتصادی.

وللکلام تتمة تأتی غداً إن شاء الله تعالی.

السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

القسم الثَّانِی: السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة القائمة عَلَیٰ شیء لکن لا لوجود نکتة ثابتة فِی قریحة الْعُقَلاَء بحیث یتوقعون من الآخرین أن یدرکوا هذه النکتة، بل کان اتفاقهم عَلَیٰ هذه النکتة لوجود حالات شخصیة عَمّت عامةَ النَّاس صدفةً مِنْ دُونِ أن توجد أیة ملازمة بین ثبوتها عند بعض الأفراد وبین ثبوتها عند بعض الأفراد الآخرین، کاستخدام بعض المواد الغذائیة المعینة لدی بعض النَّاس أو بعض الفیتامینات لدی کثیر من النَّاس، لکن مِنْ دُونِ أن یفترضوا أن عَلَیٰ کُلّ عاقل أن یتّبع هذه السِّیرَة، خِلاَفاً للقسم الأَوَّل حیث لا یُلام من شذ عن السِّیرَة ولا یُستغرب.

طبعاً الظاهر مِنَ السِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة هو القسم الأَوَّل، ولعله هو المقصود لدی الأصحاب عند استعمالهم هذه الکلمة فِی الفقه أو الأُصُول، إلا أننا لا نجزم أن مقصودهم خصوص القسم الأَوَّل؛ لأَنَّهُ أساساً لم یُنقح بحثُ السِّیرَة فِی کلماتهم ولم یذکروا هذین القسمین، لکن عدم تقسیم السِّیرَة مِنْ قِبَلِ الأصحاب إلی هذین القسمین لا یمنعنا عن هذا التقسیم، بعد أن کان هذا التقسیم مؤثراً عَلَیٰ النَّتِیجَة الَّتِی نتوخاها من هذه السِّیرَة وهی عبارة عن استنباط الحکم الشَّرْعِیّ. فقد تکون السِّیرَة من قبیل القسم الثَّانِی الَّذِی یحتمل فیه أن لا تکون حالة الشَّارِع بما هو عاقل (أی: بلحاظ حیثیته الأولی الَّتِی أکد علیها المحقق الإِصْفِهَانِیّ ) مُوَافِقاً معهم؛ فقد تکون سیرة الْعُقَلاَء من القسم الثَّانِی دون الأَوَّل، والَّذِی لَیْسَ من اللازم عَلَیٰ کُلّ عاقل أن تتطابق سیرتُه مع هذه السِّیرَة، کمن لا یتفق مع الْعُقَلاَء فِی أخذ الفیتامینات.

ص: 312

فقد تکون السِّیرَة الَّتِی نرید أن نستدل بها لإثبات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ سیرةً عُقَلاَئِیَّةً لکن من هذا القسم الثَّانِی الَّذِی لو شَذَّ إنسان عنها لا یلومه الْعُقَلاَء، فإن شذ الشَّارِع عنها لا یعنی أن الشَّارِع بما هو عاقل یوافقهم أَیْضاً.

الملاحظة الثَّانیة: أَنَّهُ حتَّی لو کانت السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة من القسم الأَوَّل (بِمَعْنَی أَنَّهَا قائمة عَلَیٰ نکتة ثابتة عند الْعُقَلاَء ومُدرَکة لدیهم بقریحتهم العامة) لکن هذا لا یعنی أننا أحرزنا أن الشَّارِع بلحاظ حیثیته الأولی الْعُقَلاَئِیَّة متحد المسلک مع الْعُقَلاَء فِی هذه السِّیرَة؛ ذلک لأننا نحتمل أَنْ یَکُونُ الشَّارِع بلحاظ حیثیته الْعُقَلاَئِیَّة مختلفاً معهم فِی المسلک فِی هذا المورد؛ وَذَلِکَ لأَنَّهُ لَیْسَ من الواجب أَنْ تَکُونَ تلک النکتة تبتنی علیها السِّیرَة عقلیةً بحتةً دَائِماً؛ لأَنَّ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة وإن کان معناها أَنَّهَا سیرة الْعُقَلاَء بما هم عقلاء، لکن لَیْسَ من الضروری واللازم فِی سیرة الْعُقَلاَء أَنْ تَکُونَ دائماً نابعة من حاقّ العقل؛ فَإِنَّ الْعُقَلاَء لیسوا عقولاً ریاضیة بحتة کی یقال: إن سیرتهم نابعة من حاق عقولهم ومتأثّرة بصمیم العقل فحسب، بل هم مجموعٌ خلیط من العقل والعواطف والمشاعر والانفعالات والارتکازات ونحوها. وعلیه، فقد تکون تلک النکتة الَّتِی تبتنی علیها سیرتهم راجعة إلی باب الانفعالات والعواطف ونحوها من الأمور الخارجة عن دائرة العقل، وتکون سیرتهم متأثرة بالعوامل غیر الْعَقْلِیَّة من العواطف والمشاعر الموجودة لدیهم والمؤثرة فِی سلوکهم وفی قراراتهم کثیراً؛ فمجرد انعقاد سیرة الْعُقَلاَء بما هم عقلاء عَلَیٰ أمرٍ من الأمور نتیجة إیمانهم ولو ارتکازاً بنکتة عامّة ثابتة عند جمیع الْعُقَلاَء لا یعنی أن تلک النکتة عَقْلِیَّة بحتة ولا یوجب أَنْ یَکُونَ السلوک المتّفَق علیه بینهم نابعاً من حاق العقل بینهم کی یقال: إن هذا العقل موجود عند الشَّارِع أَیْضاً؛ وَذَلِکَ لأَنَّ الْعُقَلاَء کما یشترکون فِی حاق العقل، یشترکون أَیْضاً فِی کثیر من المشاعر الَّتِی لا ترجع إلی حاق العقل، فقد یکون تطابقهم عَلَیٰ هذا السلوک بلحاظ حیثیة أخری تتناسب معهم غیر العقل وإن کانت لا تتنافی أَیْضاً مع العقل.

ص: 313

وَحِینَئِذٍ کیف یکون مجرد کون الشَّارِع من الْعُقَلاَء بل سیّدهم دلیلاً عَلَیٰ موافقته لهم فِی ذلک؟! وکیف نحرز أن الشَّارِع بلحاظ حیثیته الأولی الْعُقَلاَئِیَّة متحد المسلک معهم، طالما یمکن ابتناء السِّیرَة عَلَیٰ نکتة عاطفیة وانفعالیة تعالی الشَّارِع سبحانه عنها علواً کبیرا! فلعل الشَّارِع بما هو عاقل لا یتّحد مع الْعُقَلاَء فِی هذه السِّیرَة.

الملاحظة الثَّالثة: حتَّی لو سلمنا بأن هذه النکتة الَّتِی تبتنی علیها السِّیرَة عَقْلِیَّةً محضة وبحتة ولا ترجع إلی باب العواطف والأحاسیس أو رأینا أن هذه السِّیرَة الصادرة من الْعُقَلاَء (بعد تأمّل وإعمال عنایات زائدة) هی ناشئةٌ عنهم بلحاظ عقلهم لا بلحاظ حیثیة أخری من الحیثیات المشترکة بینهم، لکن مع هذا یمکن أن نحرز أن الشَّارِع بلحاظ حیثیته الأولی الْعُقَلاَئِیَّة متحد المسلک معهم فِی هذه السِّیرَة فِی هذه السِّیرَة رغم کونه عاقلاً وسیداً للعقلاء؛ وَذَلِکَ لأَنَّ من المحتمل خطأ الْعُقَلاَء فِی ما أدرکوه بعقولهم، لکن الشَّارِع بما هو سید الْعُقَلاَء وأعقلهم أدرک خطأَهم وتجنب عن سیرتهم ولم یوافقهم فِی سیرتهم. فکون الشَّارِع سید الْعُقَلاَء وأعقلهم هو الموجب لاحتمال افتراقه عنهم فِی هذه السِّیرَة؛ لأَنَّ معنی کونه سید الْعُقَلاَء هو أن مرتبة عقله أتم وأکمل من مراتب عقولهم، فهو بحسب مرتبة عقله الَّتِی یتعامل عَلَیٰ أساسها أعلی کثیراً من المرتبة الَّتِی یعیشها الْعُقَلاَء ویصدرون عنها؛ فَإِنَّ کُلّ مرتبة من العقل تناسب مرتبة من الاستنتاج، فکلما کان أعقل کان أکثر وصولاً وأدقّ وأصوب؛ فکثیراً ما یکشف الأعقل خطأَ العاقلِ ویلتفت إلی ما یمنعه من قبول ما اتفق علیه سائر الْعُقَلاَء الاعتیادیین؛ فمن المحتمل أن ما به امتاز عقل الشَّارِع عن عقل غیره أوجب امتیازه عنهم فِی السلوک فاتَّخذ موقفاً أفضل أو أشمل من موقفهم.

ص: 314

الملاحظة الرابعة: أَنَّهُ إن غضضنا النَّظَر عن الإشکالات السابقة وسلمنا بأن الشَّارِع اتحد مسلکه مع مسلک الْعُقَلاَء بلحاظ حیثیته الأولی الْعُقَلاَئِیَّة وبما هو عاقل بل سید الْعُقَلاَء، لکن مع ذلک لا یَتُِمّ ما أفاده المحقق الإِصْفِهَانِیّ + من کفایة عدم إحراز الردع عن السِّیرَة، بل لاَ بُدَّ من الجزم بعدم الردع وذلک لأنه:تَارَةً نفترض: أن هذا الاتحاد فِی المسلک بین الشَّارِع وبین الْعُقَلاَء أوجب لنا القطع بأن الشَّارِع بلحاظ حیثیته الثانیة وبما هو شارع أیضا لا یخالفهم، فهذا معناه أَنَّهُ لا نحتمل صدور الردع مِنْ قِبَلِ الشَّارِع. أی: نجزم بأن الشَّارِع بما هو شارع أمضی سیرة الْعُقَلاَء، وهذا خلف المفروض حیث أن المفروض هو الشک فی صدور الردع واحتمال کونه بما هو شارع یخالفهم کما هو واضح.وأخری: نحتمل أن الشَّارِع یختلف موقفه ومسلکه بما هو شارع عن موقفه ومسلکه بما هو عاقل(کما هو مفروض کلام المحقق الإِصْفِهَانِیّ+)، فحِینَئِذٍ نقول: کیف یُکتفی بمجرد اتحاد مسلکه الْعُقَلاَئِیّ معهم فِی ترتیب الأثر ما لم یثبت لنا اتحاده معهم فِی المسلک بما هو شارع؟ وأی أثر لمجرد إحراز موقفه بما هو عاقل فِی التنجیز والتعذیر العقلیین؟ فهل أن لموقفه غیر المولوی مَوْضُوعِیَّة عَقْلاً فِی التنجیز والتعذیر؟ فإن ادعی الاکتفاء بذلک عَلَیٰ وجه الموضوعیة فهذا باطل؛ لأَنَّ من الواضح أَنَّهُ لا مَوْضُوعِیَّة لدی العقل لموقف الشَّارِع بما هو عاقل، فاتحاده فِی المسلک مع الْعُقَلاَء بما هو عاقل لا مَوْضُوعِیَّة له عَقْلاً.

نعم بما هو کاشف عن اتحاده فِی المسلک معهم بما هو شارع یکون موضوعاً لحکما لعقل بالتنجیز والتعذیر، وهذا معناه أَنَّهُ یجب أَنْ تَکُونَ السِّیرَة کاشفة عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ ودالة عَلَیٰ الإمضاء وعدم الردع، وهذا هو الَّذِی اشترطناه وعرفته مفصَّلاً خلال البحوث المتقدمة.

ص: 315

أَمَّا أَنْ یَکُونَ موضوع حکم العقل عبارة عن مجرد اتحاد الشَّارِع فِی المسلک مع الْعُقَلاَء بما هو عاقل بحیث لکون بما هو عاقل یقیم الحجة علینا لا بما هو شارع، فهذا غیر صحیح أَیْضاً؛ لأَنَّهُ لا یقیم الحجة علینا عَقْلاً بما هو عاقل؛ لوضوح أن الْحُجِّیَّة والتنجّز فرع إعمال المولی مولویته وصدور أیٍّ منه بما هو مولی، وَأَمَّا إذا لم یُعمل مولویته فِی ذلک ولم یحکم بما هو مولی وشارع وَإِنَّمَا تطابق رأیه وذوقه بما هو عاقل مع آراء الْعُقَلاَء وأذواقهم لا بما هو شارع، فهذا لَیْسَ موضوعاً لحکم العقل بالتنجز، غایته أَنَّهُ یکون إِرْشَادِیّاً حتَّی وإن صدر من المولی.

وَأَمَّا إن ادعی الاکتفاء باتحاد الشَّارِع فِی المسلک بما هو عاقل مع الْعُقَلاَء لکن لا عَلَیٰ وجه الموضوعیة، بل عَلَیٰ نحو الطَّرِیقِیَّة والکاشفیة الطبیعیة النَّوْعِیَّة الظنیة له عن موقفه بما هو شارع، بحیث یُجعل الاتحاد بینه وبینهم فِی المسلک والموقف الْعُقَلاَئِیّ کاشفاً ظنیاً عن موقفه بما هو شارع، بأن یقال: ما دام الشَّارِع بما هو عاقل متحد المسلک والطریقة مع الْعُقَلاَء، فهذه إمارة کاشفة عن أَنَّهُ بما هو شارع أَیْضاً متحد المسلک معهم، فمن الواضح أن هذا وإن کان کشفا، لٰکِنَّهُ لَیْسَ قطعیاً وَإلاَّ لما احتملنا الردع والحال أننا فرضنا احتمال الردع، بل هو کشف ظنی ولا دلیل عَلَیٰ حُجِّیَّتُه ما لم یرجع إلی الظُّهُور الْحَالِیّ للشارع فِی الإمضاء والقبول عَلَیٰ أساس النکات الَّتِی تَقَدَّمَ شرحها، وَإلاَّ فلا. هذا تمام الکلام فِی الجهة الثَّانیة.

القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

ص: 316

کان الکلام قبل العطلة فِی السِّیرَة، حیث انتهینا إلی الجهة الثَّالثة من الجهات الَّتِی قلنا إِنَّهُ لاَ بُدَّ من البحث عنها فِی باب السِّیرَة.

الجهة الثَّالثة: هی عبارة عن البحث عَنِ حدود الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ المستفاد من السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة، فلا شغل لنا فِی هذه الجهة بسیرة الْعُقَلاَء، فنقول:

تارةً نفترض أن سیرة الْمُتَشَرِّعَة قائمة عَلَیٰ عدم الالتزام بشیء مُعَیَّن کما إذا قامت سیرتهم عَلَیٰ المسح بِتَمَامِ الْکَفِّ فِی الوضوء، أو إذا قامت سیرتهم عَلَیٰ عدم الالتزام بترک فعل مُعَیَّن کعدم الالتزام بترک المضمضة فِی الصوم، فتثبت هذه السِّیرَة أن ذاک الْفِعْل الَّذِی قامت السِّیرَةُ عَلَیٰ عدم الالتزام به لم یکن وَاجِباً فِی الشَّرِیعَة، وَإلاَّ فلو کان المسح بتمام الْکَفّ وَاجِباً فِی الوضوء فکیف التزم کُلّ الْمُتَشَرِّعَة بعدمه؛ إذ معنی ذلک أن کلهم أَخْطَئُوا وکلهم غفلوا وهذا منفی بحساب الاحتمالات. ومثاله الآخر أَنْ یَکُونَ کلهم لم یلتزموا بترک المضمضة فِی الصوم، فلو کانت المضمضة فِی الصوم محرمة أو مبطلة للصیام فکیف کلهم لم یلتزموا بترک ذلک، فهذا معناه أن عدم التَّرْک کان جائزاً ولذلک لم یلتزموا بترک المضمضة وَإلاَّ لاَ بُدَّ أن نلتزم بأن کلهم أَخْطَئُوا وکلهم غفلوا وهذا منفی بحسب حساب الاحتمالات.

هذا هو الفرض الأَوَّل، أن السِّیرَة قائمة عَلَیٰ عدم الالتزام بشیء مُعَیَّن، فَحِینَئِذٍ یثبت بهذه السِّیرَة عدم وجوب ذاک الْفِعْل أو عدم وجوب ذاک التَّرْک.

وأخری یُفترض قیام السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ الالتزام بشیء مُعَیَّن سَوَاء کان ذاک الشیء عبارة عن فعل مُعَیَّن کما إذا فرضنا أن السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة فِی عصر الأئمة ^ کانت منعقدة عَلَیٰ الالتزام بالجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة. أو کان ذاک الشیء الَّذِی قامت السِّیرَة عَلَیٰ الالتزام به عبارة عن ترک فعلٍ مُعَیَّن، کما إذا فرضنا أن السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة فِی عصر الأئمة ^ کانت قائمة ومنعقدة عَلَیٰ الالتزام بترک التکتف فِی الصَّلاَة مثلاً. وما یهمنا الآن أننا نفترض أن السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة قائمة عَلَیٰ الالتزام بفعل أو بترکٍ فِی زمان الأئمة ^. فهنا لا شک فِی أَنَّهُ یثبت بهذه السِّیرَة جواز ذاک الْفِعْل (جواز الجهر) أو التَّرْک (ترک التکتف فِی الصَّلاَة) الَّذِی التزموا به. وثبوته بنفس الملاک الَّذِی تَحَدَّثْنَا عنه قبل العطلة حیث قلنا: إن ملاک ثبوت الحکم الشَّرْعِیّ من خلال السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة عبارة عن حساب الاحتمال الریاضی، حیث قلنا: إِنَّهُ لو قامت السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ شیء مُعَیَّن فِی زمان الأئمة ^ فبحساب الاحتمالات لا یوجد لدینا احتمالٌ غیر احتمال أنهم تلقّوا ذلک من الشَّارِع ×، وَإلاَّ فلو لم یکونوا قد تلقوا ذلک من الشَّارِع فکیف التزم کُلّ الْمُتَشَرِّعَة التزم بالجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة؛ إذ لا یصح أن کلهم أخطئوا أو کلهم غفلوا أو کلهم ما فهموا جواب الإمام ×، فهذا معناه تطابق الأخطاء والغفلات صدفة عَلَیٰ شیء واحد، فهذا ما ینفیه حساب الاحتمالات. فیحصل الیقین لنا (أو عَلَیٰ الأقل الإطمئنان الَّذِی هو أخو الیقین) بأن ما التزموا به متلقی من الشَّارِع بما هم مُتَشَرِّعَة. هذا هو ملاک إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ من خلال السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة بحسب حساب الاحتمالات ولیس بحسب الإمضاء کما هو الشأن فِی سیرة الْعُقَلاَء؛ فإننا أثبتنا أن الحکم الشَّرْعِیّ إِنَّمَا یثبت بسیرة الْعُقَلاَء بشرط إمضاء الشَّارِع، والإمضاء بحاجة إلی الإثبات ولذا بحثنا مفصلاً عن کَیْفِیَّة إثبات الإمضاء.

ص: 317

سیرة الْمُتَشَرِّعَة بما هم مُتَشَرِّعَة إذا أحرزنا أَنَّهَا قامت عَلَیٰ شیء فقیامها عَلَیٰ شیء دلیل عَلَیٰ أن ذاک الشیء متلقی من الشَّارِع. أی: تکشف السِّیرَة عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ کما یکشف المعلول عن علته کشفا إنّیّاً، هذا فرض وهو واضح.

إذن، بحساب الاحتمال یثبت لنا أصل جواز ذاک الْفِعْل أو أصل جواز هذا التَّرْک الَّذِی التزموا به (وهو ترک التکتف فِی الصَّلاَة)، یبقی أن نری أَنَّهُ هل یثبت الوجوب أو الاستحباب أو الرجحان (الجامع بین الوجوب والاستحباب) مُضَافاً علی الجواز؟

الجواب عن هذا السؤال بحاجة إلی شیء من التفصیل وذلک لأنه:

تَارَةً یُفرض أننا نُحرز أصل التزامهم بهذا الشیء وأیضاً نحرز نکتةَ التزامهم به. مثلاً فِی نفس مثال الجهر نحرز أصل التزامهم بالجهر وکذلک نحرز أنهم إِنَّمَا التزموا بالجهر لأنهم کانوا یروون الجهر وَاجِباً، أو لأنهم کانوا یروون أن الجهر مستحب، وکذلک مثال التکتف.

أَمَّا أصل الالتزام فقد أثبتناه بحساب الاحتمال وَأَمَّا نکتة الالتزام فنثبته بحساب الاحتمال أَیْضاً، فَمَثَلاً فِی مثال الجهر یثبت أن أصل الجهر لَیْسَ محرماً ویثبت بالإضافة إلی ذلک أن ما کان فِی ذهنهم وهو أن الجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة واجب أَیْضاً صحیح، أو ما کان فِی ذهنهم من أن الجهر مستحب صحیح. أی: تثبت صِحَّة نکتة السِّیرَة أَیْضاً. أی: یثبت جواز أصل الْعَمَل من خلال السِّیرَة ویثبت وجه الْعَمَل الَّذِی کان مَوْجُوداً فِی أذهان الْمُتَشَرِّعَة بنفس الملاک الَّذِی یثبت أصل جواز الْعَمَل کذلک، أی: بنفس حساب الاحتمال.

فکما کنّا نقول لإثبات جواز الجهر بأن الجهر لو کان حَرَاماً شَرْعاً ومع ذلک انعقدت سیرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ الالتزام به فمعناه غفلة وخطأ جمع غفیر من النَّاس، وتطابق هذه الأخطاء الکثیرة والغفلات الکثیرة عَلَیٰ شیء واحد منفی بحساب الاحتمال، کذلک نثبت صِحَّة تلک النکتة المرتکزة فِی أذهانهم (الَّتِی افترضناها وجوب الجهر مثلاً) شَرْعاً، ونقول: یثبت وجوب الجهر بحسب حساب الاحتمالات، أی: یثبت ذاک العنوان المرتکز فِی أذهان الْمُتَشَرِّعَة.

ص: 318

وأخری أن نفترض أننا لا نحرز وجه الالتزام ونکتته بعد أن أحرزنا أصل الْعَمَل وأن سیرتهم قائمة بالالتزام عَلَیٰ هذا الْفِعْل أو هذا التَّرْک. هنا أَیْضاً یوجد فرضان:

الفرض الأَوَّل: أن نفترض وجود دوافع ودواعی طبیعیة کانت موجودة آنذاک بإمکانها أن تُفَسِّر لنا هذا الْعَمَل الَّذِی قامت سیرتهم علیه، کما إذا أحرزنا أن السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة کانت قائمة عَلَیٰ إبقاء اللحیة وترک حلقها، لکن ما هو وجه هذه السِّیرَة؟ هل کانوا ملتزمون بإبقاء اللحیة من باب وجوب إبقائها وهذا ما لا نعرفه. فإن ثبت ذلک إِنَّمَا یثبت جواز إبقاء اللحیة، لا أکثر (أی: لا یثبت الوجوب أو الاستحباب أو الرحجان)؛ ذَلِکَ لأَنَّهُ قد یکون التزامهم بسبب ذاک الدافع الطبیعی ولا ینحصر بالتلقی من الشَّارِع.

الفرض الثَّانِی: أن لا یکون وجه السِّیرَة واضحاً عندنا ولا یمکن أن نفسر عمل الْمُتَشَرِّعَة بدوافع ودواعی طبیعیة، کما إذا فرضنا قیام سیرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ الأکل بالید الیمنی، فأصل هذه السِّیرَة محرز لدینا بأنهم کانوا یأکلون بالید الیمنی، ولکن وجهها غیر محرز لدینا بأنهم کانوا یأکلون بالیمنی لأجل وجوبه أو استحبابه، وهذا الْعَمَل لَیْسَ مِمَّا قامت علیه دواعی ودوافع طبیعیة (کالفرض السابق)، فلا یمکن تفسیر عَمَلِهم بهذا التفسیر الطبیعی.

هنا بالإضافة إلی جواز الْعَمَل وعدم حرمته یثبت رحجانه شَرْعاً بنفس حساب الاحتمالات؛ إذ کیف التزم الْمُتَشَرِّعَةُ کلهم بالأکل بالید الیمنی والحال أَنَّهُ لا یوجد أی دافع طبیعی وأی داع خارجی طبیعی عَلَیٰ الأکل بالید الیمنی، واجتماع الصدف عَلَیٰ شیء واحد منفی بحساب الاحتمالات. وکذلک إذا قامت سیرتهم عَلَیٰ ترک عمل مُعَیَّن کترک الْمُتَشَرِّعَة کلهم العبثَ باللحیة أثناء الصَّلاَة، بأن لا نعلم وجه الالتزام بهذا التَّرْک، فیأتی فیه هذا الکلام أَیْضاً.

ص: 319

وللبحث صلة تأتی إن شاء الله غداً.

القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

کان الکلام فِی الجهة الرَّابِعَة عن حدود الحکم الشَّرْعِیّ الَّذِی تَدُلُّ علیه السِّیرَةُ الْعُقَلاَئِیَّة بأننا إذا أحرزنا وجود سیرة عُقَلاَئِیَّة فِی زمن الْمَعْصُوم × بأحد الطرق المتقدمة لإثبات معاصرة السِّیرَة لزمن الْمَعْصُوم ×، وأحرزنا أَیْضاً سکوتَ الشَّارِع عن الردع عن هذه السِّیرَة وَبِالتَّالِی أحرزنا إمضاء الشَّارِع لهذه السِّیرَة فما هو المقدار الممضی من هذه السِّیرَة؟ فإن هذه السِّیرَة قد یکون لها شیئان:

أحدهما: المقدار الممارَس عملیاً مِنْ قِبَلِ النَّاس آنذاک.

والآخر: جذر هذه السِّیرَة ونکتتها.

وَحِینَئِذٍ نحتمل أن الشَّارِع إِنَّمَا أمضی مِنَ السِّیرَةِ فقط ذاک المقدار الْعَمَلِیّ الخارجی الَّذِی کان یمارس فِی زمانه، وَأَمَّا النکتة (أی: التصور الْعَامّ الموجود عند الْعُقَلاَء) الَّتِی کانت تمثل جذر هذه السِّیرَة العملیة فنحتمل أن الشَّارِع لم یمضها ولم یقبلها، وَحِینَئِذٍ یُطرح هذا السؤال بأنه هل یمکن إثبات أن الشَّارِع × أمضی هذه النکتة أَیْضاً أم لا؟

ومثاله الأَوَّل: أَنْ تَکُونَ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة قائمة فِی زمن الْمَعْصُوم × عَلَیٰ من استخرج مَعْدِناً من المعادن یتصرف فیه ویتملکه، ولکن المقدار الممارَس آنذاک مِنْ قِبَلِ النَّاس کان مقداراً محدوداً؛ ذَلِکَ لأَنَّ قدراتهم کانت محدودةً، فمن الطبیعی أن المعدن الَّذِی یُراد استخراجه بالأدوات الساذجة والبسیطة مقدار محدود.

وَحِینَئِذٍ لا نَشُکُّ فِی أن سکوت الْمَعْصُوم وعدم ردعه دلیل عَلَیٰ إمضائه لهذا المقدار بالأدلة السابقة الدالة عَلَیٰ أن سکوت الْمَعْصُوم وعدم ردعه یَدُلّ عَلَیٰ الإمضاء والقبول.

ص: 320

لکن علینا أن ندرس تلک النکتة الذهنیة الَّتِی جعلت النَّاس یعتقدون أن من یستخرج المعدن یملکه، فنکتة جواز تصرفهم فِی الشیء أنهم کانوا یرون أنهم یصبحون مالکین بالاستخراج (أی: النکتة عبارة عن الملکیة فِی ذهنهم). ثُمَّ إنهم أَیْضاً کانوا یرون أن الملکیة مطلقة تشمل کُلّ المقادیر الَّتِی یمکن للإنسان أن یستخرجها مِنْ دُونِ أَنْ تَکُونَ الملکیةُ مقیَّدةً بالمقادیر المحدودة المتعارفة آنذاک. ولکن لعل الشَّارِع لم تصح عنده نکتة ذاک المقدار الممارس (وهی عبارة عن الملکیة) ولا یریٰ أن المستخِرج یصبح مالکاً له، بل یریٰ أن استخراج المعدن یجعل المستخرِج جائز التصرف فِی المعدن المستخرَج، ومعلوم أن جواز التصرف شیء والملکیة شیء آخر.

کما نحتمل أن الشَّارِع حتَّی لو أمضی الملکیة إِنَّمَا أمضاها بالمقدار المتعارف فِی ذاک الیوم. فهل یمکن أن نثبت إمضاء الشَّارِع لنکتة السِّیرَة وهل یمکن أن نُصَحِّح التطبیقات الحدیثة لِلسِّیرَةِ وَالَّتِی هی متأخرة عن زمن الشَّارِع؟

ومثاله الثَّانِی: أَنْ تَکُونَ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة المعاصرة للمعصوم × قائمة عَلَیٰ أن الحیازة من الغابات والأنهار مُمَلِّکةٌ، وذلک لنکتةٍ عَامَّة مرتکزة فِی أذهان الْعُقَلاَء آنذاک وهی أن حیازة المباحات المنقولة مملِّکة، ولکن حیث کانت قدرات النَّاس الاستخراجیة آنذاک محدودة فِی مقادیر قلیلة من الحیازات فالمقدار الممارَس خارجاً کان عبارة عن الطرق البسیطة الیدویة، کالاحتطاب من الغابة أو الاغتراف من البحر. أَمَّا حیازة مقادیر غیر محدودة من الغابة أو حیازة مقادیر غیر محدودة من الماء من البحر لم یکن قد تَحَقُّق فِی زمان الشَّارِع ×، بل حتَّی من قبیل نوع الأموال؛ لأنه کانت هناک أموال لم یکن بإمکان النَّاس أن یحوزونها آنذاک ولم یکونوا لیمتلکوها کالطاقة الکهربائیة، أو البترول أو النفط أو الغاز.

ص: 321

إذن، کانت حدود السِّیرَة آنذاک ضیقة ولکن نکتة السِّیرَة الموجودة فِی ذهنهم کانت أوسع من الحدود الممارسة آنذاک. فهل المقدار الممضی مِنْ قِبَلِ الشَّارِع لِلسِّیرَةِ هو المقدار الممارس المحدود آنذاک فلا یمکننا أن نُفْتِیَ من خلال هذه السِّیرَة بأن استخراج مقادیر لا محدودة من المعدن یملک، ولا یمکننا أن نفتی عَلَیٰ أساسها بأن حیازة مقادیر لا محدودة من الخشب من الغابة مملکة. أی: الإمضاء یَتُِمّ فقط فِی دائرة الموارد الَّتِی تحققت فِی زمان الْمَعْصُوم ونُفِّذَتْ، أم أن الإمضاء أوسع من ذلک. أی: الإمضاء إمضاء لنکتة السِّیرَة بشکل عَامّ.

هذا التساؤل له أثار مهم فِی الاِسْتِدْلاِل الفقهی عَلَیٰ السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة، ولا بد من دراستها وتمحیصها.

وَحِینَئِذٍ قد یقال هنا بأن سکوت الْمَعْصُوم × وعدم ردعه عن السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة لا یَدُلّ عَلَیٰ أکثر من ذاک المقدار الممارس مِنْ قِبَلِ النَّاس فِی ذاک الزمان. وَأَمَّا سعة نظر الْعُقَلاَء مِنْ دُونِ أن یقع جریٌ خارجی عَلَیٰ طبقها لا یمکن أن یُستکشف إمضاء الشَّارِع لهذه السعة؛ ذَلِکَ لأَنَّ الإمضاء إِنَّمَا هو بملاک أن هذا لو کان غیر جائز شَرْعاً لنهی عنه الْمَعْصُوم ×، ولو ردع × لَوَصَلَ، وحیث أَنَّهُ لم یصل فلم یردع، إذن أمضاه.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَعْصُوم × إذا کان ینهی کان ینهی عن المقدار المجسَّد والممارَس خارجاً. فإذا کان ما یقع خارجاً جائزٌ ولکن النکتة الموجودة فِی ذهن الْعُقَلاَء غیر جائزة بسعتها وعمومیتها، هنا لا یصح دلیلنا السابق لإثبات الإمضاء (وهو أَنَّهُ لو لم یکن راضیاً لردع، ولو ردع لوصل)؛ لأَنَّ سعة نظر الْعُقَلاَء عبارة عن مجرد تصورات فِی أذهانهم مِنْ دُونِ أن یجروا علیها ویعملوا بها، فلا یصدق علیها قولنا: لو لم یکن جائزاً لنهی عنه الْمَعْصُوم ×؛ فَإِنَّ نهی الْمَعْصُوم × وردعه إِنَّمَا هو فِی مقابل عملٍ غیر مرغوب فیه شَرْعاً، ولیس النهی عن تصور ذهنی لم یتجسد فِی عمل خارجی. والناس لم یتفق آنذاک أن حاز أحدهم بئر نفط مثلاً کی یردع عنه الْمَعْصُوم ×، فسکوته وعدم ردعه لا یَدُلّ عَلَیٰ أن الشَّارِع یمضی حیازة بئرِ نفط کبیر؛ فلیس الْمَعْصُوم مُکَلَّفاً بالنهی عن التصورات الموجودة فِی ذهن النَّاس.

ص: 322

وفذلکة هذا القول هی: أن الردع وکذلک السکوت وعدم الردع إِنَّمَا هو عن المقدارِ المُحَقَّقِ من الْعَمَلِ خارجاً ولیس عن النکتة والتصورات الذهنیة الَّتِی هی أوسع وأعم من المقدار الْعَمَلِیّ الممارس.

الجواب عنه:

الواقع أن الأمر یختلف باختلاف الدَّلِیل والمستند فِی إمضاء الشَّارِع لِلسِّیرَةِ، ومن هنا یجب علینا أن نرجع مَرَّة أخری إلی أبحاثنا السابقة ونستذکرها لنری أَنَّهُ ماذا کان دلیلنا عَلَیٰ أن الشَّارِع إذا سکت ولم یردع عن سیرة فهو راض؟ إذ أن الأَدِلَّة بعد أن کانت تَدُلُّ عَلَیٰ أَنَّهُ لو لم یکن الشَّارِع رَاضِیاً لردع وحیث أَنَّهُ لم یردع وسکت فهو راض کانت الأَدِلَّة مختلفة فِی ماهیتها وحقیقتها:

1)- فَمَثَلاً لو بنینا عَلَیٰ مبنی المحقق الإِصْفِهَانِیّ (والَّذِی ناقشناه قبل العطلة) من أَنَّنا إذا أحرزنا أن سیرة الْعُقَلاَء قامت عَلَیٰ شیء بما هم عُقلاء فالشَّارِع فِی ضمنهم بل سیدهم، فنحن نحن قد أحرزنا أن الشَّارِع بوصفه عاقلاً متفق معهم، وَإلاَّ فإما أن الشَّارِع × غیر عاقل وَإِمَّا أن السِّیرَةَ غیرُ عُقَلاَئِیَّةٍ وکلاهما خلف، وَبِالتَّالِی نحرز أن الشَّارِع بما هو عاقل متفق معهم. یبقی أن الشَّارِع بما هو شارع هل هو متفق معهم أم لا؟ هنا نحتمل أن الشَّارِع بما هو شارع لا یوافقهم کما نحتمل أَنَّهُ یتفق معهم، وَحِینَئِذٍ لا نرتّب الأثر عَلَیٰ احتمال أَنَّهُ مخالف للعقلاء؛ إذ أننا أحرزنا أن الشَّارِع بما هو عاقل وافقهم یقیناً، ولا نترک الیقین ونأخذ بالاحتمال.

ومن هنا کان یقول +: یکفی عدم إحراز الردع، ولیس من الضروری أن نحرز عدم الردع، ونحن ناقشناه وقلنا: إن من الضروری أن نحرز عدم الردع وإن احتمال الردع یکفی فِی هدم السِّیرَة عندنا.

ص: 323

أقول: لو بنینا عَلَیٰ هذا الدَّلِیل فهو کما یَتُِمّ بِالنِّسْبَةِ إلی المقدار الممارَس عملاً مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء خارجاً فِی زمن الْمَعْصُوم، کذلک یَتُِمّ هذا الدَّلِیل بِالنِّسْبَةِ إلی النکتة المرکوزة فِی أذهان الْعُقَلاَء، فنقول: إن الشَّارِع بما هو عاقل یتفق مع هذه النکتة المرکوزة فِی أذهان الْعُقَلاَء، وَإلاَّ لو لم یکن متفقاً معهم فِی هذه النکتة، فإما هو غیر عاقل وَإِمَّا أن السِّیرَة غیر عُقَلاَئِیَّة. إذن، الإمضاء إمضاء للنکتة أَیْضاً. هذا بناءً عَلَیٰ مبنی الإِصْفِهَانِیّ .

2)- وَأَمَّا إن کان الدَّلِیل ما تَقَدَّمَ أَیْضاً من أن الإمام × بوصفه مُکَلَّفاً بالنهی عن المنکر یجب علیه أن ینهی عن السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة المنکرة الَّتِی تعاصره وتکون عَلَیٰ مرأی ومسمع منه. فَحِینَئِذٍ لعله لا یمکن أن نثبت إمضاء الشَّارِع إلا بالمقدار الَّذِی وقع خارجاً فِی زمن الْمَعْصُوم × لا أکثر؛ لأن ما هو المنکر عبارة عن ما هو واقع خارجاً، أَمَّا التصورات والمرتکزات الذهنیة فلیست منکراً حتَّی یمنع عنها الإمام ×.

3)- الدَّلِیل القائم عَلَیٰ أن الشَّارِع أمضی السِّیرَة عبارة عن الدَّلِیل العقلی وهو لحاظ نقض الغرض، حیث کنّا نقول: إن الشَّارِع بوصفه شارعاً وهادفاً وله غرض ومن المستحیل أن ینقض العاقل الملتف إلی غرضه أن ینقض غرضه، إذن لو کان ما قامت السِّیرَة علیه غیر مرضی عنده وناقضاً لغرضه فکان المفروض به أن ینهی ویردع، وَإلاَّ فَسَوْفَ یکون سکوته نقضاً لغرضه، ونقض الغرض مستحیل من الشَّارِع ×. وَحِینَئِذٍ (بناءً عَلَیٰ هذا الدَّلِیل) لا یبعد فِی المقام التفصیل بین صورتین:

الصُّورَة الأولی: عبارة عن أَنَّهُ لو کانت هذه النکتة الموجودة فِی ذهن الْعُقَلاَء تقتضی سعةَ دائرة الْعَمَل فِی المستقبل وکان هذا الاقتضاء مترقَّباً فِی عصر الْمَعْصُوم (أی: کان من المترقب آنذاک أن هذه النکتة الموجودة فِی أذهانهم تُوَسِّع فِی المستقبل دائرةَ الْعَمَل) فالسکوت مِنْ قِبَلِ الشَّارِع × دلیل عَلَیٰ إمضائه لهذه النکتة؛ لأَنَّهُ لو لم یکن رَاضِیاً لردع عن هذه النکتة، باعتبار أَنَّهُ من المترقَّب أن توجب هذه النکتةُ سعة عمل النَّاس، وَبِالتَّالِی کان من المترقب أَنْ تَکُونَ هذه النکتة ناقضة لغرض الشَّارِع، بینما الشَّارِع لا ینقض غرضه، فکان من المفروض أن یردع وینهی ×، فإذا سکت یکون سکوته دلیلاً عَلَیٰ إمضائه لهذه النکتة.

ص: 324

الصُّورَة الثَّانیة: أن نفترض أَنَّهُ لم یکن من المترقب آنذاک أن هذه النکتة الواسعة الموجودة فِی ذهنهم تقتضی فِی المستقبل سعة دائرة الْعَمَل، حِینَئِذٍ لا یَدُلّ سکوت الْمَعْصُوم × وعدم ردعه عَلَیٰ إمضاء هذه النکتة؛ لأَنَّهُ حتَّی لو کانت هذه النکتة توجب نقض غرضه، لکن باعتبار أَنَّهُ لم یکن من المترقب آنذاک أَنْ تَکُونَ هذه ناقضة للغرض، إذن لا یثبت الإمضاء.

4)- أَنْ یَکُونَ الدَّلِیل عبارة أن الإمام × الْمَعْصُوم یجب علیه تبلیغ الأحکام الإلهیة للناس وتبیین الحقائق الإسلامیة والشرعیة للناس، فلذا لو رأی شَیْئاً غیر مطابق للشریعة فالمفروض به أن یبینه للناس، فإذا سکت ولم ینه ولم یردع فسکوته یَدُلّ عَلَیٰ إمضائه. والنتیجة أَنَّهُ لا فرق بین المقدار الممارَس خارجاً وبین النکتة المرکوزة فِی أذهان النَّاس، کما لا فرق بین أَنْ یَکُونَ اقتضاء النکتة لسعة دائرة الْعَمَل فِی المستقبل مترقَّباً آنذاک وبین ما إذا لم یکن کذلک. فإن فِی کُلّ هذه الفروض یثبت إمضاء الشَّارِع للنکتة أیضاً؛ فَإِنَّ النکتة إن لم تصح فِی نظر الْمَعْصُوم × لردع عنها من باب أَنَّهُ یجب علیه أن یوصل الحقائق الإسلامیة وأحکام الإسلام للناس. فسکوته یَدُلّ عَلَیٰ الإمضاء.

5)- أَنْ یَکُونَ الدَّلِیل عبارة عن ذاک الظُّهُور الْحَالِیّ المتقدم من أن ظاهر حال الإمام × عندما یریٰ ویسمع بسیرة مِنْ قِبَلِ النَّاس عَلَیٰ شیء مُعَیَّن ویسکت، ظاهر حاله أَنَّهُ راض بتلک السِّیرَة، وَحِینَئِذٍ یَدُلّ السکوت عَلَیٰ الإمضاء حتَّی بِالنِّسْبَةِ إلی النکتة الْعُقَلاَئِیَّة الَّتِی هی أساس الْعَمَل الخارجی للعقلاء؛ لأَنَّ الْمَعْصُوم × حجة الله عَلَیٰ العباد ومُبَلِّغ أحکامه وله مقام التشریع والتصحیح وتغییر ما ارتکز لدی النَّاس من أعرافٍ وتقالید باطلة.

ص: 325

ونحن حیث قبلنا بجمیع هذه الأَدِلَّة دون الدَّلِیل الأَوَّل الَّذِی قال به الإِصْفِهَانِیّ ، فالنتیجة سوف تکون منصبة عَلَیٰ النکتة المرکوزة عُقَلاَئِیّاً، ولا تنصب عَلَیٰ المقدار الممارس عَمَلِیّاً.

وبهذا نصل إلی نتیجتین ویترتب عَلَیٰ الدَّلِیل الَّذِی اخترنا أمران:

1)- أن الممضی مِنْ قِبَلِ الشَّارِع لَیْسَ عبارة عن الْعَمَل الصامت، وَإلاَّ فلا یَدُلّ الْعَمَل الصامت عَلَیٰ أکثر من جواز التصرف، بل تثبت الملکیة الَّتِی هی حکم وضعی ولا یثبت الجواز فقط الَّذِی هو حکم تکلیفی.

2)- الإمضاء لا یختص بالعمل المباشر عُقَلاَئِیّاً فِی عصر الْمَعْصُوم ×، وَإِنَّمَا إذا کانت النکتة والتصور الْعُقَلاَئِیّ المرتَکَز عند الْعُقَلاَء عن هذا السلوک الخارجی أوسع من حدود السلوک الفعلی لهم، کان الظاهر من حال الْمَعْصُوم × إمضاء هذه النکتة عَلَیٰ امتدادها، إذن فکل التطبیقات الحدیثة المتأخرة عن زمن الشَّارِع یثبت إمضاءُ الشَّارِع لها.

إذن، یثبت جواز التصرف وتثبت الملکیة ولکن لَیْسَ فِی المقدار المحدود آنذاک فحسب وَإِنَّمَا فِی الأکثر من ذلک.

هذا تمام الکلام فِی هذه الجهة الرابعة من جهات البحث عن السِّیرَة ویبقی البحث عن الجهة الخامسة والأخیرة.

القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

الجهة الخامسة: فِی بیان الفوارق بین سیرة الْعُقَلاَء وسیرة الْمُتَشَرِّعَة، حیث یظهر من مجموع ما ذکرناه أن هناک فوارق عدة بینهما، لکن قبل التعرض لهذه الفوارق لا بأس بتوضیح المراد من سیرة الْمُتَشَرِّعَة وسیرة الْعُقَلاَء فنقول:

أَمَّا سیرة الْمُتَشَرِّعَة فلها أحد معنیین:

المعنی الأَوَّل: سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص وهی السِّیرَة الَّتِی جری علیها الْمُتَشَرِّعَةُ لکونهم مُتَشَرِّعَة (أی: کانت الْحَیْثِیَّة التعلیلیة لسیرتهم عبارة عن کونهم مُتَشَرِّعَة ومتدینین وملتزمین بالشریعة) من قبیل أن نفرض أن سیرة الْمُتَشَرِّعَة فِی زمن الْمَعْصُوم × انعقدت عَلَیٰ الجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة (لو أحرزنا هکذا سیرة) فمن الواضح أن سببها عبارة عن کونهم مُتَشَرِّعَة، وَإلاَّ فلم یکونوا لیصلوا حتَّی یجهروا أو یخفتوا.

ص: 326

المعنی الثَّانِی: سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم، وهی السِّیرَة الَّتِی جری علیها الْمُتَشَرِّعَةُ والمتدینون لا لأنهم مُتَشَرِّعَة بل جروا علیها فِعْلاً، سَوَاء کان ذلک بسبب کونهم مُتَشَرِّعَة أو بِمُقْتَضَیٰ طبعهم الْعُقَلاَئِیّ، من قبیل أن نفرض أن سیرة الْمُتَشَرِّعَة وأصحاب الأئمة ^ انعقدت خارجاً عَلَیٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة لکن مِنْ دُونِ أن نجزم بأن عملهم هذا هل هو من باب کونهم عقلاء (أی: لطبعهم الْعُقَلاَئِیّ) أم لأجل أنهم تلقوا ذلک من الشَّارِع ×، فیحتمل فِی هذه السِّیرَة أَنْ یَکُونَ سببها التَّشَرُّع کما یحتمل أَنْ یَکُونَ السَّبَب فیه هو طبعهم الْعُقَلاَئِیّ.

وَأَمَّا سیرة الْعُقَلاَء: وفی مقابل سیرة الْمُتَشَرِّعَة بهذین المعنیین توجد سیرة الْعُقَلاَء، ومعناها هو السِّیرَة الَّتِی سلکها الْعُقَلاَء بِمُقْتَضَیٰ طبعهم الْعُقَلاَئِیّ، مِنْ دُونِ أن نحرز أن الْمُتَشَرِّعَة جروا عَلَیٰ وفق هذا الطبع وهذه السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة، وَإلاَّ إذا أحرزنا أن سیرة الْمُتَشَرِّعَة جرت علیها فَسَوْفَ تدخل فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم.

وکلا المعنیین لسیرة الْمُتَشَرِّعَة حجةٌ وَیَدُلُّ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ والملاک فِی هذه الْحُجِّیَّة ملاک واحد وهو عبارة عن کشف المعلول عن علته، إلا أن من الواضح أن سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص أقوی دلالةً عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ من سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم؛ ذَلِکَ لأَنَّ فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص لا یُحتمل أَنْ تَکُونَ هذه السِّیرَة ناشئة من الطبع الْعُقَلاَئِیّ؛ لأَنَّ المفروض فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص أن هذه السِّیرَة ناشئة من تشرّعهم وتدیّنهم، فَلاَ بُدَّ أَنْ تَکُونَ ناشئةً من بیان الشَّارِع. نعم یبقی احتمال خطأ الْمُتَشَرِّعَة وقصورهم وغفلتهم موجوداً ولکننا نفیناه سَابِقاً بحساب الاحتمالات، فلا یوجد منشأ آخر لهذه السِّیرَة نحتمله احتمالاً عقلائیاً.

أَمَّا سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم فیوجد بشأنها احتمال آخر وهو احتمال کونها ناشئة من الطبع الْعُقَلاَئِیّ، فمن هنا هذا هو السَّبَب فِی أَنْ تَکُونَ السِّیرَة بالمعنی الأخص أقوی دلالة عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ مِنَ السِّیرَةِ بالمعنی الأعم، وعلی أساس هذه الأقوائیة فتکون سیرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ الجهر أقوی دلالة عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ من سیرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة مثلاً؛ لأَنَّ فِی الأخیر یُحتمل أَنْ یَکُونَ الْعَمَل بخبر الثِّقَة ناشئاً من الطبع الْعُقَلاَئِیّ ولیس متلقی من الشَّارِع ×، بینما فِی الجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة لا نحتمل أَنْ یَکُونَ هذا الْعَمَل متأثراً بالطبع الْعُقَلاَئِیّ والنزعة الْعُرْفِیَّة؛ لأَنَّهُ أساساً لا توجد هناک نزعة عُقَلاَئِیَّة تجاه الجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة، وهو واضح.

ص: 327

فهذا الفارق موجود بین سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص وسیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم فِی أقوائیة دلالة الأولی منهما عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، لکن رغم وجود هذا الفارق تَدُلُّ کلتا السیرتین عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وتکون حجةٌ والملاک فِی الدِّلاَلَة عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ واحد، فکما أن ملاک دلالة سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ هو کشف المعلول عن علته، کذلک سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم دالة عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وکاشفة عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ بملاک کشف المعلول عن علته؛ ذَلِکَ لأَنَّنا وإن کنّا نحتمل فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم أَنْ تَکُونَ هذه السِّیرَة بِمُقْتَضَیٰ النزعة الْعُقَلاَئِیَّة والطبع الْعُقَلاَئِیّ، لکن هذه النزعة (وَالَّتِی تقتضی الجری عَلَیٰ وفق هذه السِّیرَة) لا یمکنها أن تُفسر لنا عملَ الْمُتَشَرِّعَة ککلّ؛ فقد نفینا احتمال أَنْ یَکُونَ منشأ سلوکهم الطبع الْعُقَلاَئِیّ (لا نقول إن الْمُتَشَرِّعَة لا یوجد فیهم طبع عقلائی وَإِنَّمَا نقول: لَیْسَ منشأ سلوکهم هو الطبع الْعُقَلاَئِیّ). إذن، نقطع أن نطمئن بأن منشأ سلوکهم وعملهم بخبر الثِّقَة هو أنهم حتما تلقوا ذلک من الشَّارِع، فتکون سیرتهم دالة عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ.

هذا ما أفاده سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ ولکن بالإمکان المناقشة فِی ذلک والمناقشة أَیْضاً نستفیدها من بعض بیاناته السابقة ، وهی أن نفس تکوّن سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص ووجودها فِی زمان الشَّارِع دلیل عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وکاشف عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیّ کما یکشف المعلول عن علته، کما أفاد ذلک بالبیان المتقدم مفصلاً فِی بحث سیرة الْمُتَشَرِّعَة، إذن سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص لا تحتاج فِی حُجِّیَّتُهَا ودلالتها عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ إلی ما کانت تحتاج إلیه سیرةُ الْعُقَلاَء؛ فإن سیرة الْعُقَلاَء کانت بحاجة إلی ضم قضیتین شرطیتین إلیها:

1)- لو لم یکن الشَّارِع موافقها لها لَرَدَعَ عنها.

ص: 328

2)- لو رَدَعَ عنها لَوَصَلَ إلینا الرَّدْعُ.

لکن سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص لا تحتاج إلی شیء من هاتین القضیتین الشرطیتین، أی: حتَّی لو لم یؤمن أحدهم بهاتین القضیتین الشرطیتین مع ذلک بِالنِّسْبَةِ لمثل هذا الشخص تَتُِمّ حُجِّیَّة سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص؛ لأَنَّ هذه السِّیرَة بغنی عن هاتین القضیتین. أی: أن وجود سیرة الْمُتَشَرِّعَة نفسه فِی زمن الشَّارِع دلیل عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، ولا نحتاج أن نَتَمَسَّک القضیتین الشرطیتین؛ لأَنَّنَا فرضنا فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص أن سبب سیرتهم عبارة عن التشرع والتدین.

أَمَّا فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم فلیس نفس تکونها وانعقادها ووجودها فِی زمان الشَّارِع دلیلاً عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وکاشفاً عن التلقی عن الشَّارِع، فهی لیست بنحو بحیث لا تحتاج حُجِّیَّتُهَا ودلالتها عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ إلی ضم شیء آخر إلیها؛ لأَنَّ احتمال أَنْ تَکُونَ هذه السِّیرَة معلولة لأمور أخری غیر الشَّرْع موجود؛ فلعل سیرة الْمُتَشَرِّعَة قامت عَلَیٰ هذا الْعَمَل (بطبعهم الْعُقَلاَئِیّ) رغم أن الشَّرْع کان عَلَیٰ خلافها، وقد تَقَدَّمَ من سَیِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِیدِ فِی البحث عن طرق إثبات المعاصرة لعصر الْمَعْصُوم ×، فِی الطریق الأَوَّل من هذه الطرق فِی إحدی مناقشاته لذاک الطریق( (1) ) أَنَّهُ: قد لا تکون سیرة الْمُتَشَرِّعَة فِی البدایة سیرةً لهم بما هم مُتَشَرِّعَة وَإِنَّمَا اتفقوا علیها فِی بدایة الأمر فِی أمور أخری غیر الشَّرْع لطبعهم الْعُقَلاَئِیّ مثلاً رغم أن الشَّرْع کان عَلَیٰ خلاف ذلک، فبعضهم عمل بهذه السِّیرَة لأجل الغفلة عن السؤال والاستفسار، وبعضهم عمل بهذه السِّیرَة لأجل النسیان رغم أَنَّهُ ملتفت بشکل عَامّ عَلَیٰ أَنَّهُ یجب علیه أن یستعلم من الشَّارِع، وبعضهم عمل بهذه السِّیرَة جریاً عَلَیٰ الطبع والارتکاز الْعُقَلاَئِیّ وبعضهم عمل بهذه السِّیرَة من باب القصور وآخرون من باب التقصیر أو من باب تخیّل أن الشَّارِع یوافقهم وبالنتیجة اتفقوا جمیعاً عَلَیٰ هذا الْعَمَل الخارجی، ثُمَّ جاء أبناء هؤلاء ورؤوا أن سیرة آبائهم جرت عَلَیٰ هذا الْعَمَل فتخیّلوا صِحَّةَ هذا الْعَمَل وعملوا عَلَیٰ وفقه واستقرت السِّیرَة علیه، وقد مثّلنا له فِی ذاک الوقت بمسألة معاملة الصبیان.

ص: 329


1- (1) - راجع الجلسة 53، المناقشة الرَّابِعَة، [ط].

إذن، إن احتمال أَنْ تَکُونَ سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم عبارة عن أمور أخری غیر الشَّرْع موجودٌ، وَبِالتَّالِی لا تکون سیرةُ الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم دلیلاً عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ بنحو کشف المعلول عن علته، وَإِنَّمَا تحتاج هذه السِّیرَةُ إلی أن نضم إلیها شیئاً آخر، فهی من هذه الناحیة تشبه سیرةَ الْعُقَلاَء، لکن تمتاز عن سیرة الْعُقَلاَء بأن الأخیرة کانت تحتاج إلی ضم قضیتین شرطیتین إلیها لکی تَدُلُّ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ (إحداهما: أن الشَّارِع × لو لم یکن مُوَافِقاً لردع. والثانیة: أن الشَّارِع لو کان قد رَدَعَ لَوَصَلَ الردعُ إلینا) بینما سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم لا تحتاج إلی القضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة، وَإِنَّمَا تحتاج فقط إلی القضیة الشَّرْطِیَّة الأولی، أی: حتَّی لو أن أحداً لم یقبل بالقضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة تکفی القضیةُ الأولی فِی تَمَامِیَّة السِّیرَة بالمعنی الأعم؛ لأَنَّنَا نقول حِینَئِذٍ: إن الشَّارِع لو لم یکن رَاضِیاً لسیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم لردع عنها، ولو ردع عنها لما کانت هذه السِّیرَة موجودةً بعد ولما کانت تستمر؛ إِذْ المفروض أنهم مُتَشَرِّعَة فکیف یردعهم الشَّارِع عن شیء ویبقون مخالفین للشریعة؟! إذن نفس ثبوتها واستمرارها فِی زمان الشَّارِع دلیل عَلَیٰ أن الشَّارِع لم یردع عنها.

أی: عندنا ثلاث مراتب:

المرتبة الأولی: مرتبة سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص، وهی المرتبة الأقوی؛ لأَنَّهَا لا تحتاج إلی القضیة الشَّرْطِیَّة الأولی ولا إلی القضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة.

المرتبة الثَّانیة: مرتبة سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم، فهذه أنزل من الأولی وأقوی من الثَّالثة؛ لأَنَّهَا تحتاج إلی القضیة الشَّرْطِیَّة الأولی ولا تحتاج إلی القضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة.

المرتبة الثَّالِثَة: مرتبة سیرة الْعُقَلاَء، وهی الأضعف؛ لکونها بحاجة إلی القضیتین الشرطیتین.

بعد ذلک سنبین الفوارق - إن شاء الله تعالی - بین سیرة الْمُتَشَرِّعَة وبین سیرة الْعُقَلاَء، والحمد لله رب العالمین.

ص: 330

القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: القسم3: السِّیرَة المشرِّعة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

بعد أن اتضح المرادُ من سیرة الْمُتَشَرِّعَة وتَبَیَّن المراد من سیرة الْعُقَلاَء نتعرض لأهم الفوراق بینهما:

الفارق الأَوَّل: هو أننا حینما نرید أن نستدل بسیرة الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ حکم شرعی سَوَاء سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأخص أو سیرة الْمُتَشَرِّعَة بالمعنی الأعم، یجب علینا أن نثبت أن بناء الْمُتَشَرِّعَة فِعْلاً کان عَلَیٰ هذا السلوک الْمُعَیَّن خارجاً (بنحو القضیة الخارجیة، أی: هم کانوا یجهرون فِعْلاً فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة أو أنهم فِعْلاً کانوا یعملون بخبر الثِّقَة)، أَمَّا إذا لم نثبت أنهم فِعْلاً کانوا یعملون هکذا فلا یمکن أن نثبت الحکم الشَّرْعِیّ من خلال هکذا سیرة.

أَمَّا حینما نرید الاِسْتِدْلاِل بسیرة الْعُقَلاَء فلیس من الضروری أن نثبت ذلک (أَیْ: أَن عمل الْعُقَلاَء فِعْلاً کان عَلَیٰ هذا) بل یکفی أن نثبت أن الطبع الْعُقَلاَئِیّ لو خُلِّیَ ونفسه ولم یُردع عنه لاقتضی هذا السلوکَ وهذا الْعَمَل الْمُعَیَّنَ، وإن کنّا فِعْلاً لا نجزم ولا نتیقن بأن الْعُقَلاَء فِی عصر الأئمة ^ کانوا فِعْلاً یسیرون عَلَیٰ هذا السلوک (لأَنَّنَا نحتمل وجود ردع عن هذا السلوک، وبالنتیجة لم یتحقق هذا السلوک منهم)؛ لأَنَّهُ إذا أحرزنا ذلک الاقتضاء فَحِینَئِذٍ یمکننا نفی الردع بالقضیة الشَّرْطِیَّة الثَّانیة (القائلة بأن الشَّارِع لو ردع لوصل الردع إلینا، وحیث لم یصل فلم یردع)، فیثبت الإمضاء مِنْ قِبَلِ الشَّارِع لِلسِّیرَةِ. هذا هو الفارق الأَوَّل بین سیرة الْمُتَشَرِّعَة بکلا معنییها وبین سیرة الْعُقَلاَء.

وبعبارة أخری: إننا ذکرنا (فِیما سبق) رکنین للاستدلال بِالسِّیرَةِ:

ص: 331

أحدهما عبارة عن معاصرة السِّیرَة للمعصومین ^.

وثانیهما عبارة عن إمضاء الشَّارِع لِلسِّیرَةِ.

وهذا الفارق الأَوَّل یرکّز عَلَیٰ الرکن الأَوَّل من هذین الرکنین ویقول بِالنِّسْبَةِ إلی السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة لاَ بُدَّ لنا أن نثبت معاصرة السلوک الخارجی فِعْلاً لعصر الْمَعْصُوم ×. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لسیرة الْعُقَلاَء فلیس من الضروری أن نثبت معاصرة السلوک الخارجی الفعلی مِنْ قِبَلِ الْعُقَلاَء لعصر الْمَعْصُوم، وَإِنَّمَا یکفی أن نثبت ونحرز أن الْعُقَلاَء لو خلو وأنفسهم ولم یُرْدَعُوا فإنَّ طبعهم الْعُقَلاَئِیّ یقتضی أن یسلکوا هکذا سلوک. فیکفی هذا المقدار وطبعهم یقتضی الجری عَلَیٰ هذا السلوک ولا نحتاج فِی سیرة الْعُقَلاَء إلی أکثر من إحراز هذه القضیة الطَّبْعِیَّة؛ إذ لو تمت هذه القضیة الطَّبْعِیَّة من المتوقَّع والمترقَّب من الشَّارِع أن یردع عن هذا السلوک إذا لم یکن رَاضِیاً بهذه السِّیرَة.

وبعبارة أخری: إذا لم یکن الشَّارِع رَاضِیاً بهذا السلوک کان علیه أن یردع؛ لأَنَّهُ إن لم یردع فالمقتضی لهذا السلوک موجودٌ والمانع أَیْضاً مفقود، وَبِالتَّالِی سوف یتحقق السلوک خارجاً، فلابد أن یردع عنه لو لم یرض به، وَحِینَئِذٍ نثبت عدم صدور الردع ببرهان عدم وصول الردع.

فعلی سبیل المثال إذا أردنا أن نستدل عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور فتارة نستدل علیها بسیرة الْمُتَشَرِّعَة ونقول بأنهم کانوا یعملون بالظواهر، فَلاَ بُدَّ هنا من إثبات وإحراز أن أصحاب الأئمة ^ کانوا یعملون بذلک. أَمَّا إذا أردنا أن نستدل عَلَیٰ حُجِّیَّة الظُّهُور بسیرة الْعُقَلاَء فلیس من الضروری أن نثبت أن الْعُقَلاَء فِعْلاً فِی زمان الْمَعْصُوم × کانوا یعملون بخبر الثِّقَة، بل یقتضی أن نثبت أن الطبع الْعُقَلاَئِیّ لو خلی وطبعه کان یعمل بخبر الثِّقَة، ولا نحتاج إلی إحراز الْعَمَل الخارجی.

ص: 332

والخلاصة أن القضیة الطَّبْعِیَّة المعاصرة للمعصوم × فِی سیرة الْعُقَلاَء تکفی بینما هی غیر کافیة فِی سیرة الْمُتَشَرِّعَة.

الفارق الثَّانِی: هو أن سیرة الْمُتَشَرِّعَة (سَوَاء بالمعنی الأَوَّل أو بالمعنی الثَّانِی) إذا استکمل سلوکها فلا معنی لاحتمال الردع عنها؛ وَذَلِکَ لأَنَّ الردع مستحیل؛ لأَنَّ سیرة الْمُتَشَرِّعَة کما عرفنا تکشف عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ کما یکشف المعلول عن علته. إذن، هذه السِّیرَة هی ولیدة البیان الشَّرْعِیّ، ووجودها یَدُلّ عَلَیٰ أن الشَّارِع موافق لها؛ لأَنَّهَا أتت نتیجة موافقة الشَّارِع وإمضاء الشَّارِع، فسکوتها دلیل عَلَیٰ عدم الردع فکیف نحتمل الردع عنها؟ فهذا تناقض؛ إذ من جهة هی موجودة وهی ولیدة للشارع ومن جهة أخری نحتمل أَنْ یَکُونَ الشَّارِع قد ردع عنها.

فعلی سبیل المثال لو انْعَقَدَتْ سیرةُ الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ الجهر فِی صلاة الظهر من یوم الجمعة أو عَلَیٰ الْعَمَل بخبر الثِّقَة، فهنا لا معنی للکلام عن أن الشَّارِع × هل ردع أم لم یردع؟ لأنه أساساً هنا لا یأتی احتمال الردع أبداً.

وهذا بخلاف سیرة الْعُقَلاَء (أی: انعقاد الطبائع الْعُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ سلوکٍ مُعَیَّنٍ)؛ فَإِنَّهَا لیست ولیدة للبیان الشَّرْعِیّ حتَّی یستحیل الردع عنه، فلیس معنی ثبوت سیرة الْعُقَلاَء عدم ردع الشَّارِع، فلذلک لاَ بُدَّ من نفی هذا الاحتمال بالبرهان المتقدم.

وهذا هو الفارق الثَّانِی وهو أن سیرة الْمُتَشَرِّعَة لا تحتاج إلی برهان ینفی الردع؛ لأَنَّهَا هی دلیل لعدم الردع، بینما سیرة الْعُقَلاَء بحاجة إلی برهان ینضم إلیها وهذا البرهان یثبت أن الشَّارِع لم یردع عنها.

الفارق الثَّالِث: هو أن إثبات السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة المعاصرة للمعصوم × أیسر وأسهل من إثبات السِّیرَة الْمُتَشَرِّعِیَّة المعاصرة للمعصوم ×، سَوَاء الْمُتَشَرِّعِیَّة بالمعنی الأخص أو الْمُتَشَرِّعِیَّة بالمعنی الأعم؛ ذلک لأَنَّنَا ذکرنا سَابِقاً طُرقاً ستة لإثبات معاصرة السِّیرَة للمعصوم ×، وکان بعض هذه الطرق مشترکاً بین سیرة الْمُتَشَرِّعَة وسیرة الْعُقَلاَء، لکن البعض الآخر من هذه الطرق کان مختصاً بسیرة الْعُقَلاَء کالطریق الرَّابِع والخامس. إذن، إن طرق إثبات السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة المعاصرة للمعصوم × أکثر من طرق إثبات سیرة الْمُتَشَرِّعَة المعاصرة للمعصوم ×، ومن الواضح أَنَّهُ کلما کانت طرق الإثبات أکثر وأوفر کان الإثبات أسهل وأیسر.

ص: 333

الفارق الرَّابِع: أن الاِسْتِدْلاِل بِالسِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ أوسع دائرةً من الاِسْتِدْلاِل بسیرة الْمُتَشَرِّعَة، سَوَاء کان ذاک الحکم الشَّرْعِیّ حُکْماً وَاقِعِیّاً وقد سمینا هذه السِّیرَة بِالسِّیرَةِ الفقهیة (سَوَاء کان تَکْلِیفِیّاً أو وَضْعِیّاً) أو کان الحکم الشَّرْعِیّ حُکْماً ظَاهِرِیّاً وهذه السِّیرَة سمیناها بِالسِّیرَةِ الأصولیة( (1) ).

وفی هذا الضوء تکون السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة عند الأُصُولِیّ وعند الفقیه أهمّ مِنَ السِّیرَةِ الْمُتَشَرِّعَة؛ ذلک لتنوّع مجال الاستفادة مِنَ السِّیرَةِ الْعُقَلاَئِیَّة بینما مجال الاستفادة من سیرة الْمُتَشَرِّعَة ومجال استخدامها لَیْسَ له ذاک التنوع.

والفارق الخامس والأخیر: هو أَنَّهُ قلّ ما ینحصر الدَّلِیل عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ فِی المسألة (سَوَاء الفقهیة أو الأصولیة) بِالسِّیرَةِ الْمُتَشَرِّعَة؛ ذَلِکَ لأَنَّهُ غالباً توجد فِی موارد السِّیرَة الْمُتَشَرِّعِیَّة أدلةٌ أخری غیر السِّیرَة الْمُتَشَرِّعَة وذلک کالعموم والإطلاق، وهذا بخلاف السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة، فهی لا تقلّ مواردُها الَّتِی ینحصر الدَّلِیل فیها بِالسِّیرَةِ (أی: لا یوجد دلیل آخر عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ).

هذا تمام الکلام فِی هذه الجهة الخامسة وبذلک نکون قد انتهینا عن البحث عن السِّیرَة. بقی فِی الختام البحث عن تلک الحالة النَّفْسِیَّة الَّتِی تحصل للفقیه وَالَّتِی ذکرناها فِی أول بحث السِّیرَة وهی حالة التحرج عن الإفتاء وفق الصناعة وطبق القواعد والأدلة.

فهناک حالة تحصل عند الکثیر من الفقهاء تمنعهم من أن یُعملوا مر الصناعة، ولعل هذه الحالة هی السَّبَب الَّذِی یجعلهم أن یفحصوا عن أدلة أخری تلائم حالته النَّفْسِیَّة، من قبیل الشهرة والإجماع المنقول أو القول بأن الخبر الضعیف سنداً ینجبر بعمل الأصحاب أو القول بأن الخبر الصَّحِیح سنداً یضعف بإعراض الأصحاب، بل أحیاناً نری أکثر من ذلک، فعلی سبیل المثال جاء فِی کلمات الشیخ الأنصاری ما هو أشد من ذلک حیث یقول بشأن بعض الروایات إنها صحیحة سنداً یعتضد بعمل الأصحاب، وإلیک نص کلامه: فلا یؤخذ بها ما لم تعتضد بعمل المشهور.

ص: 334


1- (1) - راجع عن ذلک الجلسة 62.

ولعل من الأَدِلَّة الَّتِی اصطنعت عَلَیٰ هذا الأساس (أساس الملائمة مع الحالة النَّفْسِیَّة الموجودة) السِّیرَة والارتکاز، ولذلک نجد أَنَّهُ کلما تقلصت دائرة الأَدِلَّة السابقة الَّتِی کان الفقهاء یتمسکون بها وأصبح الفقهاء یبتعدون عنها توسعوا فِی دائرة الارتکاز والسیرة لکی یفی هذا الدَّلِیل بتلک الحالة النَّفْسِیَّة ویقوم مقام تلک الأَدِلَّة. فعلی سبیل المثال کثر التَّمَسُّک سَابِقاً بمسألة الإجماع المنقول أو الإجماع المنقول أو جبر السند بعمل الأصحاب أو وهن الخبر الصَّحِیح بإعراض الأصحاب، ولکن شَیْئاً فشیئاً تقلصت دائرة التَّمَسُّک بهذه الأَدِلَّة نتیجة بحوث الفقهاء عن هذه الأَدِلَّة فِی الأُصُول وإبطالها، فکلما تقلصت دائرة التَّمَسُّک بتلک الأَدِلَّة توسعت دائرة التَّمَسُّک بِالسِّیرَةِ.

وعلی کُلّ حال یقع الکلام هنا:

تَارَةً فِی أصل هذه الحالة التحرجیة ونشوئها وأنه هل لها منشأ صحیح؟ وبعبارة أخری: ما هی نکتة هذه الحالة.

وأخری فِی الاتجاه نحو أدلة تلائم هذه الحالة، ما هو وجهه وما هو مبرر أن ینزعها الفقیه ویتجه إلی أدلة تلائم هذه الحالة.

أَمَّا الأمر الأَوَّل: وهو توجیه حالة التحرج عن الإفتاء بالحکم الشَّرْعِیّ الَّذِی تقتضیه الصناعة والقواعد، فنقول: إن هذه الحالة یمکن أن تنشأ من أحد عوامل وأسباب عدیدة، أی: لهذه الحالة نکات ومبررات عدیدة نقتصر عَلَیٰ وجهین منها:

الوجه الأَوَّل: أو یکون تحرج الفقیه نَفْسِیّاً عن الإفتاء بالحکم الإلزامی الَّذِی تقتضیه القواعدُ والصناعة، یکون ناشئاً من اطمئنانه الشخصی أو علمه الشخصی ببطلان هذا الحکم، رغم أن القواعد تقتضی هذا الحکم الإلزامی، فَحِینَئِذٍ تحصل تلک الحالة التحرجیة.

وهو لا یتمکن من أن ینقل هذه الحالة النَّفْسِیَّة الموجودة عنده تکویناً إلی الآخرین فمن هنا یفتش عن دلیل عَلَیٰ وفق مذاقه، حتَّی یصبح الدَّلِیل غطاء لهذا الفقیه لإثبات مقصوده للآخرین، ویوجب لهم الاطمئنان بذلک، وهذا الوجه صحیح.

ص: 335

خاتمة البحث عن السِّیرَة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: خاتمة البحث عن السِّیرَة/السِّیرَة/دلالة التقریر/الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

کان الکلام فِی ختام البحث عن السِّیرَة فِی حالة التحرج عن الإفتاء والَّتِی تعرض بِالنِّسْبَةِ لکثیر من الفقهاء، وقد ذکرنا السَّبَب الأَوَّل من أسبابها.

السَّبَب الأَوَّل: أَنْ تَکُونَ هذه الحالة ناشئة من العلم والاطمئنان الشخصی ببطلان هذا الحکم.

السَّبَب الثَّانِی: أن لا تکون هذه الحالة ناشئة من العلم بالبطلان، بل هو شَاکّ فِی هذا الحکم ولا یدری أن هذا الحکم هل هو ثابت واقعاً أو غیر ثابت، لکن مع ذلک باعتبار أَنَّهُ یریٰ أن شکَّه (فِی ثبوت هذا الحکم الإلزامی) شَکّ غیر متعارف (لأَنَّ الشَّکّ المتعارف والاعتیادی هو الشَّکّ فِی مورد لا تتوفر فیه مقتضیات العلم والاطمئنان)، وَحِینَئِذٍ هذا الفقیه لا یمکنه أن یرتب عَلَیٰ شکه لا آثار الشَّکّ ولا آثار الیقین.

ونرید بآثار الشَّکّ الرجوع إلی القواعد والأدلة والأُصُول الْعَقْلِیَّة والنقلیة المؤمنة. أی: حینما یشک الإنسان فِی حکم إلزامی تترتب عَلَیٰ شکه آثار، فهناک قواعد عقلیه ونقلیة جعلت آثاراً وأحکاماً عَلَیٰ الشَّکّ، ولا یمکن للفقیه أن یرتب تلک الآثار والأحکام عَلَیٰ شکّه، کما لا یمکنه أن یرتب آثار الیقین، ومن هذا الآثار إسناد هذا الحکم إلی الشَّارِع والقیام بالإفتاء (أی: جواز الإفتاء).

أَمَّا آثار الشَّکّ فلأن آثار الشَّکّ هی القواعد المؤمنة، وهی إما عَقْلِیَّة وَإِمَّا شرعیة.

أَمَّا القواعد الْعَقْلِیَّة المُؤَمِّنَة فلا توجد عندنا قاعدة عَقْلِیَّة مؤمنة غیر قاعدة قبح العقاب بلا بیان عَلَیٰ القول بثبوتها، وهی قاعدة یحکم بها العقل (عَلَیٰ القول بها) عندما لم یکن البیان تاماً لدی الْمُکَلَّف بیاناً بحسب المتعارف والعادة، وهذا الفقیه تَمَّ لدیه البیان عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ بحسب المتعارف، فلا یحکم العقل بقبح عقاب هذا الإنسان.

ص: 336

وَأَمَّا الأصول الشَّرْعِیَّة المؤمنة کأصالة البراءة مثلاً فأیضاً لا یمکنه التَّمَسُّک بها؛ إذ أَنَّهُ یریٰ أن قوله رفع ما لا یعلمون منصرف عن مثله هو، فقد أخذ فِی دلیل أصالة البراءة عدم العلم، أی: الشَّکّ فِی الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ، والشک هذا هو الشَّکّ المتعارف ولیس الشَّکّ الشاذ، کما أن أحکام القطع الموضوعی تنصرف عن مثل القطع غیر المتعارف وغیر الاعتیادی کقطع القطاع، کذلک الأحکام المترتبة عَلَیٰ الشَّکّ (کالأصول العملیة) منصرفة عن الشَّکّ غیر المتعارف. فمن هنا هذا الفقیه بما أَنَّهُ یعلم بأن شکه شَکّ غیر متعارف فلا یمکنه أن یرتّب آثار الشَّکّ عَلَیٰ شکه فیجری أصالة البراءة مثلاً فِی حق نفسه ویحصّل عَلَیٰ تأمین من ناحیة ذاک الحکم الإلزامی الَّذِی اقتضته القواعد والأدلة.

هذا بِالنِّسْبَةِ إلی ما قلناه من أن هذا الفقیه لا من جهة یمکنه أن یرتب آثار الشَّکّ، ولا یقدر أن یرتب آثار الیقین أَیْضاً؛ لأَنَّ الأثر البارز للیقین هو جواز الإفتاء وهو لا یقدر أن یفتی بالحکم الإلزامی الَّذِی اقتضته القواعد والصناعة؛ لأن المفروض أن هذا الفقیه شَاکّ بهذا الحکم وغیر متیقن به، وإن لم یکن شکه شَکّاً متعارفاً، فعنوان الشَّکّ منصرف عن شکه، ولکن هذا لا یعنی أَنَّهُ أصبح متیقناً وقاطعاً بالإلزام، فلا یمکنه أن یفتی بهذا الحکم الإلزامی.

إذن عَلَیٰ کُلّ تقدیر یقع هذا الفقیه فِی التحرج، فلا هو قادر عَلَیٰ أن یفتی بمر الصناعة لأنه شَاکّ فِی النَّتِیجَة الَّتِی أدت إلیها الصناعة، ولا هو قادر أن یرجع إلی الأُصُول والقواعد المؤمنة، فیبقی فِی حالة الحرج.

أَمَّا الأمر الثَّانِی: وهو الکلام حول تبریر الأَدِلَّة الَّتِی تلائم حالته، فما هو وجه اتجاه الفقیه نحو العثور عَلَیٰ دلیل وفق حالته النَّفْسِیَّة التحرجیة؟

ص: 337

قد یقال: إن هذا النزوح مِنْ قِبَلِ الفقیه لا دلیل علیه (أی: لا وجه لأن یتجه الفقیه عند حصول هکذا حالة نحو العثور عَلَیٰ دلیل یوافق مقصوده)؛ ذَلِکَ لأَنَّ محاولة العثور هذه من نتائج المنطق الأرسطی القائل بأن الشیء لاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونَ إما ضَرُورِیّاً أو مکتسَبا (أی: منتهیاً إلی الضروری)، فَمَثَلاً الإنسان علیه أَنْ یَکُونَ عالماً إما بشیء ضروری وَإِمَّا بشیء ینتهی إلی الضروری. وهذا المنطق خلَّف هذا التخیل فِی کُلّ حقول المعرفة البشریة ومنها المجال الفقهی بأن المفروض عَلَیٰ الإنسان العالم والواعی أن یقبل بأی دعوی لا هی ضروریة ولا هی منتهیة إلی الضرورة. هذا من نتائج ثقافة المنطق الأرسطی الَّذِی یقول: إن المعرفة لا بد وأن تنتهی إلی الضرورة. ومن هنا یحاول الفقیه أن یجد فِی المقام برهاناً حتَّی لا ینتهی بلا دلیل.

لکن الواقع أن العلم لَیْسَ دَائِماً نَاشِئاً من الدَّلِیل والبرهان؛ إذ قد ینشأ العلم من عِلَّة أَثَّرَتْ فِی الإنسان تَکْوِیناً وأوجدت العلمَ فِی الإنسان؛ فالعلم بنفسه أمر حادث قابع للقوانین العلمیة، سَوَاء عَلِمَ العالمُ بمنشأ علمه أم لم یعلم. ولیس حصول العلم بحاجة إلی التفتیش عن عِلَّة حصول العلم، کی نجدها فیوجد العلم، وَإِنَّمَا شأن العلم کشأن سائر العلل والمعالیل، فعلی سبیل المثال إن وجدت عِلَّة الحرارة تحصل الحرارةُ، سَوَاء علمنا بمنشأ الحرارة أم لم نعلم.

لکن هذا الکلام غیر تَامّ وذلک لأن العلم وإن کان من الحوادث والممکنات وتابعاً لعلته وتسیطر علیه قوانین العلیة، إلا أن العلم فِی غیر الضروریات والبدیهیات (کاستحالة اجتماع النقیضین) إِنَّمَا یکون علماً مَوْضُوعِیّاً (ونقصد به العلم الَّذِی تکون له مبررات مَوْضُوعِیَّة، أی: لم یکن هذا العلم حَاصِلاً من حالات نفسیة وأشباهها) وهو عبارة عن الأقیسة والأشکال المنطقیة الأربعة المعروفة؛ إذ أن العلم بالنتیجة فِی هذه الأشکال الأربعة من القیاس استُنتج من العلم بالمقدمات.

ص: 338

فلکی یصبح العلم مَوْضُوعِیّاً یجب علیه إما أن ینتهی إلی البرهان، وهو العلم الحاصل بأحد الأشکال الأربعة المنطقیة المعروفة.

وَإِمَّا یجب أن ینتهی إلی قوانین حساب الاحتمال، وهی الَّتِی نَقَّحَها سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی المنطق الذاتی من کتابه القیم الأسس المنطقیة للاستقراء، أی: یحصل لنا من العلم بقضایا عدیدة العلمُ بهذه القضیة، وتلک القضایا العدیدة لَیْسَ کالصغری والکبری؛ لأَنَّ العلم بالصغری والکبری (فِی القیاس) یستلزم العلم بالنتیجة؛ لأَنَّ النَّتِیجَة مستبطَنة فِی المقدمات؛ فَإِنَّ النَّتِیجَة إما هی أصغر من المقدمات أو هی مساویة لها، لکن فِی العلم المنتهی إلی قوانین حساب الاحتمال لا یستلزم العلم بالمقدمات العلمَ بالنتیجة من الناحیة الْعَقْلِیَّة، لکن کُلّ قَضِیَّة من هذه القضایا تُشَکِّلُ قیمة احتمالیة، فإذا تراکمت هذه القیم الاحتمالیة یحصل العلم عَلَیٰ شرح قد نشرحه فیما یأتی (فِی بحث التواتر) قریباً إن شاء الله تعالی.

وعلی کُلّ، لکی یکون العلم موضوعیاً له مبرراته الموضوعیة لاَ بُدَّ أن یَنْتَهِی إما إلی البرهان وَإِمَّا إلی قوانین حساب الاحتمال، وَإلاَّ فَسَوْفَ یکون هذا العلم نَاشِئاً من الوهم أو عن مقاییس لا ینبغی للإنسان أن یحصل له العلم بسببها.

وعلیه فنفس نزوح الفقیه إلی دلیل یلائم حالته (أی: نفس تفتیشه عن عِلَّة تلائم حالته) قد یوضِّح له أن علمه هل هو علم موضوعی له مبررات مَوْضُوعِیَّة أو أَنَّهُ علم غیر موضوعی، فقد یکون هذا سَبَباً لتراجعه عن علمه. إذن، إن التفتیش عن عِلَّة العلم والنزوح إلی دلیل یلائم حالته، لَیْسَ فاقداً للمبرر، بل له وجه صحیح ونحن مع هذا النزوح والتفتیش.

هذا تمام الکلام فِی السِّیرَة وبه تَمَّ الکلام عن دلالة التقریر، وبذلک تَمَّ البحث عن دلالة الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللَّفْظِیّ الَّذِی کان یتمثل فِی قول الْمَعْصُوم وتقریره، وقبل هذا کان بحثنا عن دلالة دلیل الشَّرْعِیّ اللَّفْظِیّ. إذن، إلی الآن تَمَّ لدینا بحثان من بحوث الدَّلِیل الشَّرْعِیّ:

ص: 339

البحث الأَوَّل: بحث دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ اللَّفْظِیّ وقد استغرق خمساً وعشرین بحثاً درسناها طیلة سنین.

البحث الثَّانِی: بحث دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللَّفْظِیّ وهذا ما انتهینا منه الآن.

أَمَّا البحث الثَّالِث: فهو البحث عن صدور الدَّلِیل من الشَّارِع، وهذا ما سندرسه تباعاً إن شاء الله تعالی.

البحث الثَّالِث: إثبات صدور الدَّلِیل الشَّرْعِیّ/الفصل الأَوَّل: الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان:

البحث الثَّالِث: إثبات صدور الدَّلِیل الشَّرْعِیّ/الفصل الأَوَّل: الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

(الفصل الأَوَّل: الأَدِلَّة المحرزة)

البحث الثَّالِث

صدور الدَّلِیل الشَّرْعِیّ من الشَّارِع ×

بعد أن تَحَدَّثْنَا فِی البحث الأَوَّل عن دلالالت الدَّلِیل الشَّرْعِیّ اللَّفْظِیّ وفی البحث الثَّانِی عن دلالات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ غیر اللَّفْظِیّ حان الوقت لدراسة الطرق والوسائل الَّتِی بها یثبت صدور الدَّلِیل الشَّرْعِیّ (اللَّفْظِیّ وغیر اللَّفْظِیّ) من الشَّارِع، فما هی الطرق الَّتِی نُثبت بها أن الإمام × قال کذا أو فعل کذا، أو أمضی کذا؟

وهذه الطرق والوسائل عَلَیٰ نحوین:

أحدهما: وسائل الإثبات الوجدانی وهی الطرق والأسباب الَّتِی توجب لنا الیقین الوجدانی بصدور الدَّلِیل من الشَّارِع.

وثانیهما: وسائل الإثبات التَّعَبُّدِیّ وهی الطرق والأسباب الَّتِی لا توجب لنا الیقین الوجدانی بالصدور، بل توجب التعبد بالصدور.

فلابد من الکلام عن کُلّ واحد من هذین النحوین تباعاً:

النَّحْو الأَوَّل

وسائل الإثبات الوجدانی

وسائل الإثبات الوجدانی لِلدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ بِالنِّسْبَةِ إلی غیر المعاصرین للمعصومین ^ عبارة عن الطرق الَّتِی توجب لهم العلم والیقین والقطع بصدور الدَّلِیل من الشَّارِع، ولا یمکن حصر هذه الطرق، ولکن یمکن ذکر ثلاثة طرق رئیسیة منها وهی:

ص: 340

الطریقة الأولی: الإخبار الحسی المتعدد إلی درجةٍ توجب الیقین، وهو المسمی بالخبر المتواتر.

الطریقة الثَّانیة: الإخبار الحدسی المتعدد بدرجةٍ توجب الیقین، وهو المسمی بالإجماع والشهرة.

الطریقة الثَّالثة: الآثار المحسوسة الکاشفة (بطریق الإنّ) عن الدَّلِیل الشَّرْعِیّ، وهی عبارة عن سیرة الْمُتَشَرِّعَة الَّتِی مضی الحدیث عنها مفصَّلاً فِی البحث السابق بمناسبة البحث عن دلالة التقریر، فلم تبق هناک نکتة تدعو إلی البحث عنها هنا.

وبما أن هذه الطرق کُلّهَا إِنَّمَا یقوم حصول الیقین بموجبها عَلَیٰ أساس حساب الاحتمالات، فمن المناسب أن نَتَحَدَّثُ بإیجاز عن کَیْفِیَّة تکوّن الیقین عَلَیٰ أساس حساب الاحتمال فنقول: إن الیقین أو القطع عَلَیٰ قسمین:

القسم الأَوَّل: الیقین الموضوعی، ونقصد به الیقین الَّذِی یکون القاطع فیه مُصِیباً فِی حصول ذاک الیقین له، بمعنی أَنَّ هذا الإنسان یمتلک مبررات مَوْضُوعِیَّة ومناشئ عُقَلاَئِیَّة لحصول هذا القطع والیقین، بحیث یحصل هذا الیقین لغیره أَیْضاً متی ما حصلت لدیه تلک المبررات ووجدت عنده تلک المناشئ، کالیقین الحاصل بسبب التواتر کما یأتی إن شاء الله تعالی.

القسم الثَّانِی: الیقین الذاتی، ونقصد به الیقین الَّذِی لا یکون القاطع مُصِیباً فِی حصوله، بمعنی عدم وجود مبررات مَوْضُوعِیَّة ومناشئ عُقَلاَئِیَّة لقطعه، وَإِنَّمَا حصل له القطع عَلَیٰ أثر حالة نفسیة خاصة به أو عَلَیٰ أثر عوامل أخری، بحیث أن الظَّرْف الموضوعی الَّذِی عاشه القاطع لو عاشه غیره لم یحصل له القطع، کالیقین الحاصل من إخبار إنسان واحدٍ تکون نسبة الصدق فِی إخباراته عموما بدرجة سبعین بالمائة؛ فَإِنَّ المفروض أن لا یحصل الیقین بسببه، وَإِنَّمَا یحصل الظن بدرجة سبعین فِی المائة مثلاً.

ونحن حینما نتکلم عن حُجِّیَّة القطع بعد افتراض تحققه لا نفرّق بین هذین القسمین بل نقول بِحُجِّیَّتهما معاً - کما تَقَدَّمَ فِی مباحث القطع -، ولکن هنا حینما نتکلم عن الأسباب والأدوات والوسائل الموجِبة للیقین والإحراز فمن المعقول أن نهتمّ بالتمییز بین الأسباب الموجبة للیقین الموضوعی وبین غیرها، ابتعاداً بقدر الإمکان عن التورّط فِی غیر الیقین الموضوعی.

ص: 341

والیقین الْمَوْضُوعِیّ بقضیة من القضایا عَلَیٰ قسمین:

الیقین الْمَوْضُوعِیّ الأَوَّلِیّ، کالیقین بالقضایا الضروریة البدیهیة، کاستحالة اجتماع النقیضین.

الیقین الْمَوْضُوعِیّ المُسْتَنْتَج وهو عَلَیٰ ضربین أَیْضاً:

الضرب الأَوَّل: الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستنباطی بقضیةٍ مّا، وهو الیقین الَّذِی کون سببه عبارة عن الیقین الْمَوْضُوعِیّ بقضیة أخری تتضمن أو تستلزم عقلاً تلک القضیة، ویکون الاستنتاج حِینَئِذٍ قَائِماً عَلَیٰ أساس قیاسٍ من الأقیسة المنطقیة (أی: الأشکال الأربعة) مثل قولنا: زید إنسان وکُلّ إنسان یموت ف_زید یموت، وهنا نلاحظ أن النَّتِیجَة (وهی زید یموت) أصغر من المقدمات، بینما الْمُقَدَِّمَة کانت عبارة عن کُلّ إنسان یموت، وقد تکون النَّتِیجَة متساویة مثل: الحیوان إما صامت وَإِمَّا ناطق والصامت یموت والناطق یموت إذن الحیوان یموت؛ فَإِنَّ الیقین الْمَوْضُوعِیّ بالنتیجة فِی هذین القیاسین سببه هو الیقین الْمَوْضُوعِیّ بالصغری والکبری فیهما.

الثَّانِی: الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی بقضیةٍ مّا، وهو الیقین الَّذِی یکون سببه عبارة عن الیقین بمجموعة من القضایا لا تتضمن ولا تستلزم عقلاً تلک القضیة (عَلَیٰ عکس ما کان فِی الیقین الاستنباطی)، لکن کُلّ واحدة من هذه القضایا تُشَکِّلُ قیمة احتمالیة (أو قولوا تُشَکِّلُ قرینة) بدرجةٍ مّا لإثبات تلک القضیة. وبتراکم تلک القیم الاحتمالیة تزداد درجة احتمال تلک القضیة وتتصاعد حتَّی یصبح احتمال نقیضها قریباً من الصِّفر وبسبب ذلک یزول احتمال النقیض نتیجة ضآلته وکون الذِّهْن البشری مخلوقاً عَلَیٰ نحو لا یحتفظ باحتمالات ضئیلة قریبة من الصفر.

ومثال ذلک أن نشاهد اقتران حادثة معیّنة (کتمدد الحدید) بحادثة أخری (کالحرارة) مرات کثیرة جِدّاً؛ فَإِنَّ هذه الاقترانات المتکررة هی مجموعة قضایا لا تتضمن ولا تستلزم عَقْلاً أَنْ تَکُونَ إحدی الحادثتین (وهی الحرارة) عِلَّةً للأخری (وهی التمدد)؛ إذ قد یکون اقتران الحادثتین صدفة، ویکون للحادثة الأخری (وهی التمدد) عِلَّة غیر منظورة، ولکن حیث أن من المحتمل فِی کُلّ اقتران أن لا یکون صدفة، وأن لا تکون هناک عِلَّة غیر منظورة، فیعتبر کُلّ اقتران وکل قَضِیَّة قرینةً احتمالیة عَلَیٰ عِلِّیَّة إحدی الحادثتین (وهی الحرارة) للأخری (وهی التمدد) وبتعدد هذه القرائن الاحتمالیة وتراکمها یقوی احتمال العلیة ویضعف احتمال عدمها حتَّی یصبح احتمال العدم قریبا من الصفر فیزول ویحدث فِی النفس الیقین بالعلیة وبأن کُلّ حدید یتمدد بالحرارة.

ص: 342

إذن، فالیقین الموضوعی الْمُسْتَنْتَج بقضیةٍ مّا تَارَةً یقوم عَلَیٰ أساس القیاس وأخری یقوم عَلَیٰ أساس الاستقراء. والنتیجة فِی القیاس مستبطَنة دَائِماً فِی المقدمات؛ لأَنَّ النَّتِیجَة إما هی أصغر من المقدمات (کالمثال الأَوَّل المتقدم) أو مساویة لها (کما فِی المثال الثَّانِی)، وهذا بخلاف النَّتِیجَة فِی الاستقراء؛ لأَنَّها غیر مستبطنة فِی المقدمات الَّتِی یتکوّن منها الاستقراءُ؛ لأَنَّهَا أکبر وأوسع من مقدماتها. ففی المثال السابق نجد أن النَّتِیجَة وهی أن کُلّ حدید یتمدد بالحرارة أکبر وأوسع من الاقترانات المتکررة؛ لأَنَّهَا مهما کثرت فهی لا تشمل کُلّ حدید.

وعَلَیٰ کُلّ حال، إن الطرق والوسائل الَّتِی تذکر عَادَةً لإثبات الدَّلِیل الشَّرْعِیّ وإحرازه وجداناً کهلا من وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی کما سنری ذلک - إن شاء الله تعالی - وهی عبارة عن: 1)- السِّیرَة. 2)- الخبر المتواتر. 3)- الإجماع. 4)- الشهرة.

أَمَّا السِّیرَة فقد تَقَدَّمَ الحدیث عنها مُفَصَّلاً فِی البحث السابق بمناسبة البحث عن دلالة تقریر الْمَعْصُوم ×، فلا نعید.

إذن، یبقی علینا أن نبحث عن الطرق الثَّلاَثة الأخری وهی:

1)- الخبر المتواتر.

2)- الإجماع.

3)- الشهرة.

الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان:

الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

1)- الخبر المتواتر

ویقع الکلام حوله فِی أربع جهات:

الجهة الأولی: فِی حَقِیقَةِ التواتر وکیفیة إفادته الیقین.

الجهة الثَّانیة: فِی ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین.

الجهة الثَّالثة: فِی التواتر غیر المباشر (أی: مع الواسطة)، وبعبارة أخری: تَعَدّد الوسائط فِی التَّوَاتُر.

ص: 343

الجهة الرَّابِعَة: فِی أقسام التواتر.

الجهة الأولی: حَقِیقَة التَّوَاتُر

أَمَّا الجهة الأولی: ففی حَقِیقَة التَّوَاتُرِ وأنه کیف یوجب الیقین؟ حیث أَنَّ أوضح مصادیق الخبر العلمی الَّذِی یفید الیقین الحقیقی أو الیقین العرفیّ (وهو الاطمئنان)عبارة عن الخبر الَّذِی یکون قَطْعِیّاً بالکثرة وهو المتواتر، وَأَمَّا الخبر الَّذِی یکون قَطْعِیّاً بعامل آخر غیر الکثرة فلا یعتبر یَقِینِیّاً، وفی مقابل الخبر العلمی یوجد قسم ثانٍ من الخبر وهو الخبر غیر العلمی الَّذِی لا یفید الیقین ولا الاطمئنان، وهو الخبر الواحد فِی اصطلاحهم، وقد اتّجه بحثهم عن حُجِّیَّة الخبر نحوَ القسم الثَّانِی (أی: الخبر غیر العلمی وهو الخبر الواحد) ونحن أَیْضاً سوف نبحث عنه - إن شاء الله تعالی - فِی النَّحْو الثَّانِی من وسائل الإثبات.

وَأَمَّا القسم الأَوَّل وهو الخبر العلمی، فبعد أن کان قطعیاً لم یبق معنی للبحث عن حُجِّیَّتُه؛ لأَنَّ مُقْتَضَیٰ کونه قطعیاً هو أن العقل یحکم بحجیته بلا حاجة لإقامة دلیل شرعی عَلَیٰ حُجِّیَّتُه. ولکن مع ذلک رأینا أن من المناسب التکلم فِی الْقِسْمِ الأَوَّل، وذلک لا عن حُجِّیَّتِه، بل عن کَیْفِیَّة إیجابه الیقین والضابط الفنّی لذلک ولو فِی الجملة؛ لأَنَّ فهم کَیْفِیَّة إنتاجا لتواتر للعلم والیقین وتشخیص المیزان الفنی له یؤدی إلی إمکان اتخاذ الاختیارات المناسبة فِی فروع بحث التَّوَاتُر کالتواتر الإجمالی والمعنوی وغیرهما من مسائل التَّوَاتُر الَّتِی هی بحاجة إلی اتخاذ اختیارات تجاهها؛ فَإِنَّ هذه الاختیارات سوف تکون أکثر سداداً وصواباً حینما نبحث عن حَقِیقَة التَّوَاتُر وسبب حصول الیقین منه وسرعة حصوله وبطئه.

إذن، فالکلام الآن إِنَّمَا هو عن أن التَّوَاتُر کیف یوجب الیقین والقطع؟ وبعبارة أخری: هل أن الیقین الْمَوْضُوعِیّ بالقضیة المتواترة یقینٌ استنباطی قائم عَلَیٰ أساس قیاس منطقی، أم هو یقین استقرائی قائم عَلَیٰ أساس تراکم قیم احتمالیة وازدیاد درجة احتمال القضیة المتواترة حتَّی یصبح احتمال نقیضها قریباً من الصفر، فیزول من الذِّهْن؟!

ص: 344

فنقول: عُرِّف التَّوَاتُر أو الخبر المتواتر فِی المنطق بأنه عبارة عن إخبار جماعة کثیرین یمتنع تواطؤهم عَلَیٰ الکذب.

فالقضیة المتواترة هی الَّتِی یجتمع عَلَیٰ الإخبار عنها عدد کبیر من المخبِرین بنحوٍ یستحیل تواطؤهم واتفاقهم عَلَیٰ الکذب نتیجة کثرتهم العددیة.

ولدی تحلیل هذا التعریف وتمحیصه یرجع إلی أن دلیلیة القضیة المتواترة تنحلّ إلی مقدّمتین بمعنی أن المنطق یفترض فِی هذا التعریف أن القضیة المتواترة مُسْتَنْتَجة من مجموع مقدمتین:

الْمُقَدَِّمَة الأولی (بمثابة الصغری): وهی عبارة عن تواجد عدد کبیر من المخبِرین واجتماعهم عَلَیٰ الإِخبار بقضیة معیّنة کموت زید مثلاً، وهذه الصغری ثابتة لنا بالحس.

الْمُقَدَِّمَة الثَّانیة (بمثابة الکبری): وهی أن کُلّ عدد من هذا القبیل یستحیل تواطؤهم عَلَیٰ الکذب، وهذه الکبری یفترض المنطلق أَنَّهَا ثابتة بحکم العقل، ولیست مستمدّة من المشاهدات والتجارب الخارجیة، فلو سألنا المنطق: کیف تثبت أن الجماعة الکثیرة کالألف مثلاً یستحیل اجتماعها وتواطؤها عَلَیٰ الکذب؟ یقول: إن هذا مِمَّا یستقل به العقل کاستقلاله باستحالة اجتماع النقیضین.

فالکبری بدیهیة یحکم بها العقل بمجرد تصورها وتُعتبر من القضایا الأولیة فِی العقل، فإذا ضممنا الصغری الخارجیة الثَّابِتَة بالحس إلی الکبری الْعَقْلِیَّة الَّتِی یحکم بها العقل کانت النَّتِیجَة عبارة عن استحالة کون القضیة المخبر بها (وهی موت زید مثلاً) کاذبة، وهذا معناه حصول الیقین الْمَوْضُوعِیّ لنا بتلک القضیة من خلال هذا القیاس المنطقی، فیثبت حِینَئِذٍ صدق القضیة المتواترة وحقّانیتها عَلَیٰ طریقة القیاس.

ونظراً لما قلناه (من أن الکبری فِی القیاس المستدلّ به عَلَیٰ القضیة المتواترة) من القضایا الضروریة الْعَقْلِیَّة عند المنطلق الأرسطی، لذا عَدَّ هذا المنطلق القضیة المتواترة من جملة القضایا الضروریة السّتّ الَّتِی تنتهی إلیها کُلّ قضایا البرهان؛ فَإِنَّ المنطلق الأرسطی یریٰ أن قضایا المعرفة البشریة الَّتِی هی جدیرة بالثقة ویجب قبولها هی القضایا الَّتِی تتّسم بطابع الیقین، ویری بالیقین تصدیق العقل بقضیةٍ تصدیقاً جازماً لا یمکن زواله أو زعزعته، فکل قَضِیَّة یتاح لها هذا اللون من التصدیق تعتبر قَضِیَّة یقینیةً.

ص: 345

والقضایا الیقینیة عَلَیٰ قسمین:

القسم الأَوَّل: القضایا الیقینیة المستدلَّة أو الْمُسْتَنْتَجة الَّتِی اکتسبت طابعها الیقینی بسبب کونها نتیجة لقضایا یقینیة سابقة.

القسم الثَّانِی: القضایا الیقینیة الرئیسیة الَّتِی تشکّل المنطلقات الأولیة للیقین فِی المعرفة البشریة، وتضع حَدّاً وبدایةً للتسلسل فِی استنتاج القضایا بعضها من بعض، وأحیاناً یُعبر عنه بمبدأ المعرفة البشریة.

ویُصنّف المنطلقُ الأرسطی القسمَ الثَّانِی هذا (أی: هذه القضایا الیقینیة الرئیسیّة) إلی ستة أصناف:

الصنف الأَوَّل: الأولیات وهی قضایا یُصَدِّقُ العقلُ بها لذاتها، أی: نفس تصور الطرفین کاف فِی أن یحکم العقل بصدق هذه القضیة، من قبیل قولنا: النقیضان لا یجتمعان، فبمجرد تصور النقیضین وتصور الاجتماع یحکم العقل بأنهما لا یجتمعان. أو مثل: الکل أعظم من الجزء.

الصنف الثَّانِی: المحسوسات، وهی القضایا الَّتِی یحکم بها العقل بواسطة الحس لا لذاتها، أی: لا یکفی فیها مجرد تصور الطرفین، والحس عَلَیٰ قسمین: الحس الظاهر والحس الباطن. القضایا المتیقنة بواسطة الحس الظاهر تُسمی بالحسیات من قبیل: هذه النار حارة؛ فَإِنَّ هذا التصدیق لم یأت بسبب تصور الطرفین بل نتیجة إحساسنا حرارة النار، ومثل الشمس مضیئة. والقضایا المتیقنة بواسطة الحس الباطن تسمی بالوجدانیات مثل: أنا أفکر أو أنا جائع أو الحکم بأن لنا حُبّاً وبغضاً وهکذا، فالعقل یصدق تصدیقا جازما بسبب الحس الجائع، فإن الجوع والألم والحب والبغض أمور لا تُری ولا تُلمس.

الصنف الثَّالِث: التجریبیات وهی القضایا الَّتِی یحکم بها العقل بواسطة تکرر المشاهدة فِی إحساسنا. من قبیل الحکم بأن کُلّ نار حارة.

الصنف الرَّابِع: المتواترات (وهی محل البحث) وهی قضایا یحکم بها العقل بواسطة إخبار عدد کبیر بها یمتنع تواطء هذا العدد عَلَیٰ الکذب، من قبیل حکم العقل بوجود مکان اسمه مکة المکرمة أو مکان اسمه المدینة المنورة.

ص: 346

الصنف الخامس: الحدسیات، وهی قضایا یحکم بها العقل عَلَیٰ أساس حدث قوی، بحیث یزول الشَّکّ. من قبیل حکمنا بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس.

الصنف السادس: الفطریات، وهی قضایا لا یکفی فیها تصور الطرفین فِی الجزم بها وتصدیق العقل بها بل لاَ بُدَّ من الحد الوسط، إلا أن هذا الحد الوسط دَائِماً موجود، ومن هنا یصدق العقل بهذه القضیة. وهذا ما یعبر عنها أحیاناً بقضایا قیاساتها معها. مثل قولنا: الاثنین نصف الأربعة؛ لأَنَّ الأربعة تنقسم إلی هذا وإلی ما یساویه، وکلما کان هناک عدد ینقسم إلی شیء وإلی ما یساویه، إذن یکون هذا الشیء نصف ذاک العدد.

إذن، کُلّ قَضِیَّة یستدل عَلَیها بمقدمات تنتمی إلی هذه الأصناف الستة، تکون تلک قَضِیَّة یقینیة نَظَرِیَّة مکتسَبة من هذه القضایا. فالقضایا الیقینیة الست تُشَکِّلُ القاعدة الرئیسیة للمعرفة الَّتِی هی جدیرة بالقبول والتصدیق فِی نظر المنطق الأرسطی، والقضایا الْمُسْتَنْتَجة من هذه القضایا بشکل مباشر أو غیر مباشر تُعتبر البناء العلوی للمعرفة الواجبة القبول. إذن، هناک قاعدة رئیسیة للمعرفة الیقینیة الَّتِی یجب قبولها (وهی الأصناف الستة) وهناک بناء علوی عَلَیٰ هذه القاعدة.

الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان:

الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

تلخص من بحث أمس أن القضایا الیقینیة الست الضروریة تُعتبر القاعدة الرئیسیة للمعرفة البشریة وهی المعرفة الجدیرة بالقبول حسب المنطق الأرسطی. والقضایا الَّتِی تُستنتج من هذه القضایا الست تُشَکِّلُ البناء العلوی للمعرفة البشریة. ویُطلق حسب مصطلحات المنطلق الأرسطی عَلَیٰ هذه المعرفة بقاعدتها وببنائها العرفیّ اسم المعرفة البرهانیة، ویُطلق عَلَیٰ الاِسْتِدْلاِل الَّذِی یُستخدم فِی إطار هذه المعرفة واستنتاج قَضِیَّة من قَضِیَّة أخری اسم البرهان. فالبرهان هو الدَّلِیل الَّذِی من خلاله یُراد إثبات قَضِیَّة یقینیة من هذه القضایا الضروریة الست. إذن، القضایا الیقینیة الست هی المبادئ الرئیسیة فِی الاِسْتِدْلاِل فِی المنطق الأرسطی.

ص: 347

إلا أن المبادئ الأولیة للاستدلال فِی رأی هذا المنطق لا تنحصر فِی هذه القضایا، وهذه القضایا الست هی المبادئ الأولیة للاستدلال الیقینی الْبُرْهَانِیّ، وهو الاِسْتِدْلاِل الَّذِی یوجب معرفةً واجبة القبول. وهذا أحد أقسام الاِسْتِدْلاِل، وهناک استدلالات لا تؤدی إلی المعرفة البرهانیة؛ فَإِنَّ هناک استدلالات غیر برهانیة والمنطلق فِیها یختلف عن بدایات القضایا البرهانیة. ومن هنا یعتبر المنطق الأرسطی مجموعَ القضایا الست (الَّتِی ذکرناها) أحد مبادئ الاِسْتِدْلاِل ویری إلی جانبها أصنافاً أخری من القضایا هی أَیْضاً مبادئ للاستدلال ولٰکِنَّهَا مبادئ للمعرفة غیر الیقینیة وهی القضایا المظنونة والمشهورة والمسلمة والمقبولة والوهمیة والمشبَّهة حسب المصطلح الأرسطی.

إذن، من حیث المجموع مبادئ الاِسْتِدْلاِل الَّذِی یستهدف إیجاد التصدیق بالقضیة المستدلة عبارة عن سبعة أصناف:

الصنف الأَوَّل: الیقینیات وهی القضایا الست الضروریة الیقینیة المتقدمة بالأمس.

الصنف الثَّانِی: المظنونات، وهی القضایا الَّتِی یعرّفها المنطق الأرسطی بِأَنَّهَا قضایا یُرَجِّحُ العقلُ صدقَها (أی: یجوز کذبها فِی الوقت نفسه ولا یثق بها العقل مائة فِی المائة)، کما لو رأی إنسانٌ أن زیداً یتکلم بصورة سریة مع عدوه، فیستنتج من هذا أَنَّهُ یتکلم ضده، لأنه یُسارّ عدوه، أو أن فلاناً باعتباره عاطلاً عن الْعَمَل یکون سافلاً.

الصنف الثَّالِث: المشهورات، وهی القضایا الَّتِی لا سند للإنسان فِی التصدیق بها إلا شهرتها (قضایا لا واقع لها إلا تطابق آراء النَّاس علیها)، من قبیل حسن العدل وقبح الظلم (طَبْعاً عند المنطق الأرسطی).

الصنف الرَّابِع: المسلّمات، وهی القضایا الَّتِی قد یحصل التسالم بینک وبین غیرک عَلَیٰ صدقها وثبوتها، کالتسالم الفقهی عَلَیٰ مسألة فِقْهِیَّة.

الصنف الخامس: المقبولات، وهی القضایا المأخوذة تقلیداً (ولیس استدلالاً واقتناعاً) ممن یوثَق بصدقه، وذلک إما لأمر سماوی من قبیل الشَّرِیعَة (وسبب صدقنا بکلام النَّبِیّ هو صدور المعجزة منه!)، وَإِمَّا لأمر غیر سماویّ وذلک من قبیل الأخذ بکلام الحکماء والعلماء والمتخصصین وذلک لمزید علمهم وخبرتهم مثلاً.

ص: 348

الصنف السادس: الموهومات أو الوهمیات، وهی القضایا الکاذبة الَّتِی ینساق الإنسان إلی التصدیق بها نتیجة الأنس والألفة الموجودة بین الإنسان وبین المحسوسات، من قبیل التصدیق بالقضیة القائلة بأن کُلّ موجود له مکان وجِهَةٌ، بینما لا یرضخ العقل له. وَالسَّبَب فِی هذا التوهم هو أَنَّ الإنسان ألِفَ المحسوساتِ ولذلک بات یعمم هذا الحکم لغیر المحسوسات أَیْضاً.

الصنف السابع: المشبَّهات، وهی القضایا الکاذبة الَّتِی قد یصدق بها الإنسان لشبهها بالقضایا الیقینیة أو لأنها تشبه المشهورات، کقضیةٍ تشبه اجتماع النقیضین.

إذن، إن هذه الأصناف السبعة هی مبادئ کُلّ استدلال یُرَاد منه إنتاج قَضِیَّة ویُطلق المنطق الأرسطی اسم البرهان عَلَیٰ کُلّ استدلال لا یستخدم من المقدمات سوی القضایا الیقینیة، ویُطلق اسمَ الجدل عَلَیٰ کُلّ استدلال یستخدم من المقدمات القضایا المشهورة والقضایا المسلَّمة، ویطلق اسم الخطابة عَلَیٰ کُلّ استدلال یستخدم المظنونات أو المقبولات ویطلق اسم السفسطة أو المشاغبة عَلَیٰ کُلّ استدلال یستخدم الصنفین الأخیرین، أی: القضایا الموهمة أو المشبَّهة.

هذا عرض سریعٍ لموقف المنطق الأرسطی من المعرفة، وبهذا العرض بصورة عَامَّة اتضح أن موقع القضیة المتواترة فِی المنطق الأرسطی هو القاعدة الرئیسیة الأساسیة للمعرفة البرهانیة الَّتِی هی أهم معرفة عند المنطق الأرسطی باعتبار أن المتواترات إحدی الیقینیات الست.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ القضیة المتواترة إِنَّمَا جعلت مِنْ قِبَلِ المنطق الأرسطی من ضمن القضایا الضروریة الست باعتبار أن الکبری الواقعة فِی القیاس الَّذِی یُسْتَدَلّ به عَلَیٰ القضیة المتواترة ضروریة، وَإلاَّ فإن القضیة المتواترة نفسها (کموت زید الَّذِی أخبر به ألف شخص) نتیجة مُسْتَنْتَجةٌ من القیاس ومستدل علیها بالقیاس ولیست من القضایا الضروریة (بل من هی من القضایا المکتَسَبة)، وَبِالتَّالِی لا یکون الیقین بها یَقِیناً أَوَّلِیّاً. إذن، الیقین بالقضیة المتواترة یقین موضوعی استنباطی (لأن النَّتِیجَة مستبطنة فِی المقدمات وأصغر منها( (1) )).

ص: 349


1- (1) - الصغری هی اجتمع ألف إنسان فِی الإخبار عن موت زید والکبری وکلما اجتمع ألف إنسان عَلَیٰ الإخبار بقضیة من القضایا أو حادثة من الحوادث ثبت صدق تلک القضیة واستحال کذبها والنَّتِیجَة لم یثبت موت زید، فالنتیجة أصغری من الکبری.

هذا هو تفسیر المنطق الأرسطی للقضیة المتواترة وأنه کیف یحصل الیقین بسبب التَّوَاتُر، ومن خلال قیاس مرکَّب من صغری حسیة وکبری عَقْلِیَّة بدیهیة أولیة، هی استحالة اجتماع ألف شخص عَلَیٰ الکذب. فالمنطق الأرسطی یعتبر هذه الاستحالة مثل استحالة اجتماع النقیضین الَّتِی هی من الأولیات.

وهذا التفسیر الأرسطی للقضیة المتواترة یشابه تماماً تفسیرَ المنطق الأرسطی للقضیة التجریبیة (الَّتِی هی من جملة القضایا الست المتقدمة)، فإذا اقترنت الحرارة المسلطة عَلَیٰ الحدید مثلاً بتمدد الحدید فِی ألف مَرَّة، هنا سوف تکون النَّتِیجَة عبارة عن أن الحرارة عِلَّة للتمدد، وهذه العلیة الَّتِی ثبتت بالتجربة والمشاهدة (عِلِّیَّة الحرارة للتمدد) مُسْتَنْتَجةٌ من قیاس مؤلف من صغری وکبری، صغراها حسیة (وهی أن حادثة التمدد اقترنت بحادثة الحرارة فِی ألف مَرَّة) وکبراها عَقْلِیَّة تقول بأن من المستحیل أَنْ یَکُونَ هذا الاقتران المتکرر ألف مَرَّة صُدفةً، فإن الصدفة لا تکون دائمیة ولا غالبیة، إذن یستحیل أَنْ یَکُونَ اقتران التمدد بالحرارة فِی کُلّ هذه المرات الألف من باب الصدفة مِنْ دُونِ وجود علاقة العلیة بین الحرارة والتمدد. إذن بضم هذه الکبری إلی تلک الصغری تکون النَّتِیجَة عبارة عن أن الحرارة هی عِلَّة التمدد، وَإلاَّ فلو لم تکن الحرارة هی العلة لتمدد الحدید بل کانت العلة فِی کُلّ مَرَّة من مرات شَیْئاً آخر غیر الحرارة ولٰکِنَّهُ اقترن مع الحرارة صدفة فِی کُلّ تلک المرات وأوجب التمدد، یواجه محذوراً عَقْلِیّاً وهو تکرر الصدفة.

ویعتبر المنطق الأرسطی هذه الکبری القائلة باستحالة الصدفة أولیةً وبدیهیة، ومن هذا المنطلق یعتبر المنطق الأرسطی أن التجریبیات من القضایا الست الضروریة مثلما تَقَدَّمَ منه أَنَّهُ یعدّ القضیة الیقینیة المتواترة ضمن الضروریات الست أَیْضاً، وَالسَّبَب فِی ذلک لحاظ کبراها، وَإلاَّ فإن القضیة المتواترة نفسها مُسْتَنْتَجةٌ وصغراها حسیة أَیْضاً ولیست عَقْلِیَّة کما أن النَّتِیجَة حسیة أَیْضاً.

ص: 350

إذن، بدیهیة القضیة التجریبیة لیست إلا بلحاظ الکبری، وهذا الرأی یشبه تماماً رأی المنطق الأرسطی فِی المتواترات.

ویعتقد هذا المنطق أن هذه الکبری (القائلة باستحالة الصدفة وکونها غیر غالبیة وغیر دائمیة) لا یمکن أن تثبت بالتَّجْرُبَة؛ لأَنَّ هذه القضیة تُشَکِّلُ الکبری فِی کُلّ القضایا التجریبیة الأخری، وَإلاَّ فبأی صغری وکبری ثبتت استحالة الصدفة وأن الصدفة لا تکون غالبیة ولا دائمیة وتجریبیة، فلا یمکنها أن تثبت نفسَها، وَإلاَّ أصبح من الدور المصرح المستحیل.

وفذلکة الکلام أن ما ذکره المنطق الأرسطی بشأن القضیة التجریبیة (من أَنَّهَا مُسْتَنْتَجة من قیاس کبراه عَقْلِیَّة) من صنف ما ذکره بشأن القضیة المتواترة، وتفسیره لکلتا القضیتین تفسیر واحد وهو أن کلتا القضیتین مُسْتَنْتَجةً بِالاِسْتِدْلاِلِ القیاسی الاستنباطی الَّذِی تکون النَّتِیجَة فیه دَائِماً مستبطنة فِی المقدمات (مساویة للمقدمات أو أصغر منها) ولیست النَّتِیجَة أکبر من المقدمات، خِلاَفاً للاستدلال الاستقرائی الَّذِی قلنا إن النَّتِیجَة فیه أکبر من المقدمات.

وإذا دقّقنا النَّظَر أکثر وجدنا أن مرجع الکبری الَّتِی تعتمد علیها القضیةُ المتواترة هو الکبری نفسها الَّتِی تعتمد علیها القضیةُ التجریبیة؛ فَإِنَّ الکبری فِی القضیة المتواترة کانت عبارة استحالة تواطؤ واجتماع ألف شخص مثلاً عَلَیٰ الکذب لاستحالة تکرر الصدفة وهذا شأن کبری القضیة التجریبیة أَیْضاً عَلَیٰ شرح یأتی - إن شاء الله تعالی - غَداً والحمد لله رب العالمین.

الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان:

الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

قلنا إن ما ذکره المنطق الأرسطی بشأن القضیة التجریبیة هو من سنخ ما ذکره بشأن القضیة المتواترة، فتفسیر هذا المنطق لکلتا القضیّتین تفسیر واحد، وهذا التفسیر هو أن کلتا القضیّتین مستنتجة من خلال الاِسْتِدْلاِل القیاسی الاستنباطی، وفی هذا القیاس النَّتِیجَة دَائِماً مستبطنة فِی المقدمات (إما أصغر منها أو مساویة لها) خِلاَفاً للاستدلال الاستقرائی.

ص: 351

وإذا دقّقنا النَّظَر أکثر وجدنا أن مرجع الکبری الَّتِی تعتمد علیها القضیةُ المتواترة هو الکبری نفسها الَّتِی تعتمد علیها القضیةُ التجریبیة؛ فَإِنَّ الکبری فِی القضیة المتواترة کانت عبارة استحالة تواطؤ واجتماع ألف شخص مثلاً عَلَیٰ الکذب لاستحالة تکرر الصدفة وهذا شأن کبری القضیة التجریبیة أَیْضاً. أی: ترجع کبری التَّوَاتُر وهی استحالة اجتماع جماعة کثیرة عَلَیٰ الکذب کبری التجربة وهی استحالة تکرر الصدفة مرات کثیرة؛ لأَنَّ معنی کذب المخبِر الأول فِی الخبر المتواتر بکذب زید هو أن ما قاله خلاف الواقع وأنه أخفی الواقع لمصلحة تدعوه إلی ذلک، کما أن معنی کذب المخبِر الثَّانِی هو أَنَّهُ أَیْضاً لدیه مصلحة شخصیة دعته إلی إخفاء الواقع، وهکذا فِی المخبر الثَّالِث والرابع والألف، ویتحصل من ذلک أن معنی کذب جماعة کثیرة اجتماعُ مصالحهم صدفة مع مصالح بعضهم. وهذا معناه أن الکبری الَّتِی افترضها المنطق الأرسطی واعتمد علیها فِی القضایا المتواترة ترجع بالدقة إلی الکبری الَّتِی اعتمد علیها هذا المنطق فِی إثبات القضایا التجریبیة وهی أن الصدفة یستحیل أن تتکرر مرات عدیدة، وقد قال المنطق الأرسطی أن مسألة الصدفة لا تتکرر بدیهیة.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّبَب عند المنطق الأرسطی فِی إفادة القضیة التَّجْرِیبِیَّة والقضیة المتواترة الیقینَ هو القیاس المنطقی الْمُرَکَّب من صغری وکبری، ولکن الکبری فِی کلا القیاسین عبارة عن قَضِیَّة الصدفة لا تتکرر وَالَّتِی قال عنه المنطق إِنَّهَا بدیهیة ولا تحتاج إلی الاِسْتِدْلاِل. هذا هو رأی المنطق الأرسطی بشأن التَّوَاتُر وبشأن التَّجْرُبَة وکیفیة حصول الیقین فِی هذین البابین.

إلا أن سَیِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِیدَ لم یوافق عَلَیٰ شیء من ذلک أبداً، ولم یقبل أن سبب الیقین فِی باب التَّوَاتُر وفی باب التجربة هو القیاس الَّذِی کبراه قَضِیَّة عَقْلِیَّة بدیهیة، وذهب إلی أن سبب الیقین فِی هذین البابین هو حساب الاحتمال الریاضی، وقال: إن الیقین بالقضیة التجریبیة وکذلک الیقین بالقضیة المتواترة لَیْسَ یَقِیناً استنباطیاً وَإِنَّمَا هو یقین استقرائی، وقال بأن الاعتقاد بهذین القضیتین (المتواترة والتجریبیة) حصیلة تراکم القرائن الاحتمالیة الکثیرة فِی مصب واحد وازدیاد احتمال ثبوت القضیة المتواترة أو التَّجْرِیبِیَّة وارتفاع احتمالها، وتناقص احتمال نقیضها وخلافها حتَّی یصبح احتمال الخلاف قریباً من الصفر جِدّاً، وعند ذلک یزول من النفس تلقائیاً بسبب ضئالته الشدیدة، طَبْعاً ضمن قواعد وشروط معینة ذکرها سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ بالتفصیل فِی کتابه القیم الأسس المنطقیة للاستقراء.

ص: 352

فمثلاً فِی القضیة المتواترة یقول: إننا نری أن إخبار کُلّ مخبِر قرینةٌ احتمالیة عَلَیٰ أن هذا الخبر صادق ومطابق للواقع، فإذا تکرر الخبر تعددت القرائن الاحتمالیة وتراکمت فِی محور ومصب واحد وهو ثبوت موت زیدٍ، وفی المقابل نقص وضعف احتمال عدم ثبوت موت زید إلی أن (أی: هذا تابع لقوانین وعوامل سوف نذکرها) یصبح احتمال الکذب ضئیلاً جِدّاً بحیث یزول من النفس. هذا فِی القضیة المتواترة.

ویأتی الکلام نفسه والمنهج ذاته فِی التجریبیات؛ إذ أن الإنسان حینما یجرب اقتران الحرارة مع الحدید مَرَّةً یشاهد التمدد فِی الحدید. فهذا الاقتران قرینة احتمالیة عَلَیٰ أن سبب التمدد هو الاقتران، کما أن هناک احتمال الخطأ أَیْضاً وهو أن لا تکون الحرارةُ سَبَباً لتمدد الحدید بل یکون سببه شیء آخر. فکلما تکرر هذا الاقتران تقوّی احتمال أَنْ یَکُونَ الحدید هو السَّبَب وضعف احتمال وجود عِلَّة أخری إلی أن یزول من النفس.

إذن، إن أساس حصول العلم والیقین فِی باب التَّوَاتُر وفی باب التَّجْرُبَة أساس واحد عند سَیِّدِنَا الأُسْتَاذِ الشَّهِیدِ ولا یوجب التَّوَاتُر أو التجریبة القطع والیقین عَلَیٰ أساس ما تخیّله المنطق الأرسطی؛ فَإِنَّ الأخیر قال بوجود ملازمة عَقْلِیَّة بین إخبار الجماعة الکثیرة وبین موت زید (فقد جعل هذه القضیة من القضایا الضروریة الأولیة الست) ویستحیل أن یخبر ألف شخص (أی: جماعة کثیرة) بموت زید ولا یکون زید میتاً واقعاً. ولکننا نرفض ذلک بسبب أن إخبار کُلّ واحد من هؤلاء یحتمل فیه الصدق کما یحتمل فیه الکذب، فلو حسبنا حساب کُلّ خبرٍ خبر ما حصلنا عَلَیٰ ملازمة بین إخبار هؤلاء وبین موت زید. ولا نقبل أَنْ یَکُونَ المجموع ملازماً لموت زید؛ ذَلِکَ لأَنَّ المجموع إِنَّمَا یکون ملازماً لموت زید فیما إذا کان هناک تنافیاً بین کذب البعض وکذب البعض الآخر، والحال أَنَّهُ لا یوجد أی تنافی بین کذب البعض وبین کذب البعض الآخر؛ إذ من الممکن فِی نظر العقل أَنْ یَکُونَ الکل قد کذبوا؛ فإننا لا ندرک بعقولنا ملازمةً بین إخبار هؤلاء وبین موت زید.

ص: 353

لا یقال: ماذا تقولون فِی مثال فتح الجیش لبلد، فلو حسبنا حساب کُلّ جندی جندیّ من أفراد هذا الجیش نری أَنَّهُ غیر قادر عَلَیٰ فتح البلد، بینما إذا حسبنا حساب جمیعهم نری أن بإمکانهم أن یفتحوا البلد. إذن، توجد ملازمة بینهم جمیعاً وبین الفتح، وإن لم تکن توجد ملازمة بین کُلّ واحد واحدٍ منهم وبین الفتح.

إذ نقول: بأنه لا مجال لهذا الکلام؛ فَإِنَّ الملازمة فِی مثال الجیش موجودة بین الجیش وبین الفتح، وهذه الملازمة قائمة عَلَیٰ أساس عِلِّیَّة عمل هؤلاء للفتح. أی: عمل الجمیع عِلَّة تَامَّة لفتح البلد، وعمل کُلّ فرد فردٍ من هؤلاء جزء العلة، ومن الواضح أَنَّهُ لا توجد ملازمة بین جزء العلة وبین المعلول، لکن توجد ملازمة بین الکل وبین المعلول، أَمَّا فِی ما نحن فیه لَیْسَت أخبار هؤلاء عِلَّة لموت زید حتَّی تقولوا: إن کُلّ خبر هو جزء عِلَّة، ومجموع الأخبار عِلَّة تَامَّة لموت زید.

إذن، لا توجد لدینا کبریات عَقْلِیَّة بدیهة لا فِی باب التَّوَاتُر ولا فِی باب التَّجْرُبَة، لا کبری عَقْلِیَّة تقضی باستحالة اجتماع کثیرین عَلَیٰ الکذب ولا کبری عَقْلِیَّة تقول باستحالة غلبة الصدفة وتکررها. فلا الکبری الواقعة فِی القیاس الَّذِی شکّله المنطق الأرسطی فِی باب التَّوَاتُر قضیةٌ أولیةٌ ثابتة فِی حاق العقل، ولا الکبری الَّذِی شکّلها فِی القیاس الَّذِی یُراد به إثبات القضیة التَّجْرِیبِیَّة والاستقراء. أی: أننا لو قطعنا النَّظَر عن العالم الخارجی وقطعنا النَّظَر عن مقدار تکرر الصدفة فِی العالم الخارجی أو مقدار التواطؤ والاجتماع عَلَیٰ الکذب فِی الخارج، وکنا لا نعرف النَّاس ولا نتجاوب معهم أبداً ولا نعرف کذبهم ولا أی شیء منهم، ولم نکن نعیش فِی هذا العالم أساساً، إن کنّا هکذا فهل کان عقلنا یحکم بعدم تکرر الصدفة؟ وهل کان یحکم بأن الجماعة الکثیرة یستحیل اجتماعها عَلَیٰ الکذب؟ کلا، بل کنّا نحتمل تکرر الصدفة دَائِماً، أو اجتماع الکثیرین عَلَیٰ الکذب، وَإِنَّمَا ننفی تکرر الصدفة واجتماع جماعة کثیرة عَلَیٰ الکذب بعد تجربتنا ومشاهدتنا للعالم الخارجی. فالکبری الَّتِی اعتمد علیها المنطق الأرسطی فِی القضیة المتواتر وفی القضیة التَّجْرِیبِیَّة معاً لیست قَضِیَّةً أولیةً مستقلة عن التَّجْرُبَة، بل هی بدورها أَیْضاً قَضِیَّة تجریبیة مُبْتَنِیَة عَلَیٰ التَّجْرُبَة؛ ذلک لأَنَّنَا لاحظنا من خلال الوقائع الکثیرة (الَّتِی عشناها وجرّبناها فِی الحیاة) ندرةَ الصدفة والاتفاق وعدم تکرّرها لا دَائِماً ولا غالباً، بل الاقترانات بین شیئین غالباً لیست من باب الصدفة والاتفاق. فحال هذه القضیة حال سائر القضایا التَّجْرِیبِیَّة الخاصة فِی کُلّ موردٍ مورد، غایة الأمر أَنَّهَا أکبر وأوسع من تلک. وما دامت هی أَیْضاً ثابتة فِی طول التَّجْرُبَة والشهود لا یمکن أَنْ تَکُونَ هی السَّبَب لحصول الیقین بالقضیة التَّجْرِیبِیَّة والمتواترة وأن تشکّل الأساس الاستدلالی والمنطقی للقضایا التَّجْرِیبِیَّة والمتواترة ککلّ. إذن، بقیت المشکلة عَلَیٰ حالها وهی أَنَّهُ کیف نفسّر حصول الیقین فِی باب التَّوَاتُر وباب التَّجْرُبَة وما هو الأساس الاستدلالی المنطقی للقضایا المتواترة والتجریبیة جمیعاً بعد أن ثبت أن هذه القضیة لیست إلا واحدة من تلک القضایا التَّجْرِیبِیَّة؟ ولطالما هی أَیْضاً تجریبیة تکون محکومةً للقوانین والأسس المنطقیة الحاکمة عَلَیٰ التَّجْرُبَة والاستقراء، وهی قوانین حساب الاحتمال.

ص: 354

وعلیه، فحصول الیقین فِی کُلّ من القضیة المتواترة والْقَضِیَّة التَّجْرِیبِیَّة إِنَّمَا هو ناتج عن تراکم الاحتمالات، لا عن قَضِیَّة عَقْلِیَّة بدیهیة.

وقد برهن سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی کتابه القیّم الأسس المنطقیة للاستقراء عَلَیٰ عدم کون المتواترات والتجریبیات قضایا ضروریة وبدیهیة، وعدم کون الیقین بها نَاشِئاً من تلک الکبری الَّتِی افترضها المنطق القدیم قَضِیَّةً عَقْلِیَّةً بدیهیة، ببراهین فنّیة عدیدة لا مجال لذکرها هنا( (1) )، وَإِنَّمَا نقتصر فِی المقام عَلَیٰ واحد منها وهذا ما یأتی بیانه غَداً إن شاء الله تعالی.

حَقِیقَة التواتر/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان:

حَقِیقَة التواتر/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

قلنا إن سَیِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِیدَ برهن فِی کتابه القیّم الأسس المنطقیة للاستقراء عَلَیٰ عدم کون المتواترات والتجریبیات قضایا ضروریة وبدیهیة، وعدم کون الیقین بها نَاشِئاً من تلک الکبری الَّتِی افترضها المنطق القدیم قَضِیَّةً عَقْلِیَّةً بدیهیة، ببراهین فنّیة عدیدة لا مجال لذکرها هنا( (2) )، وَإِنَّمَا نقتصر فِی المقام عَلَیٰ واحد منها وهو أننا نجد بالبرهان والحس أن حصول الیقین بالقضیة المتواترة والْقَضِیَّة التَّجْرِیبِیَّة (بلا فرق بینهما) یرتبط ویتأثر بکل العوامل والأسباب الَّتِی هی دخیلة فِی تقویة القرائن الاحتمالیة نفسها (وَالَّتِی سوف نَتَحَدَّثُ عنها - إن شاء الله تعالی - فِی الجهة الثَّانیة الجهة الثَّانیة من البحث عند بیان العوامل المؤثرة فِی حُصُول الیقین)، فکلما کُلّ قرینة احتمالیة من تلک القرائن أقوی وأوضح کان حصول الیقین من تجمّع القرائن الاحتمالیة وتراکمها أسرع.

ص: 355


1- (1) - ولکی لا یضیع الباحث عند مراجعته لکتاب الأسس المنطقیة للاستقراء ندلّه عَلَیٰ عنوانین فِی الکتاب، أحدهما: القسم الأَوَّل من الکتاب تحت عنوان نقد المبدأ الأرسطی فقد ذکر هذه البراهین کاعتراضاتٍ موجَّهةٍ إلی المبدأ الأرسطی وهی سبعة اعتراضات. والآخر: القسم الرَّابِع من الکتاب فی تفسیر القضیة التَّجْرِیبِیَّة وتفسیر القضیة المتواترة.
2- (1) - راجع عن ذلک الأسس المنطقیة للاستقراء، القسم الأَوَّل من الکتاب نقد المبدأ الأرسطی وأیضا القسم الرَّابِع منه فی تفسیر القضیة التَّجْرِیبِیَّة وتفسیر القضیة المتواترة.

وعلی هذا الأساس نلاحظ أن مفردات التَّوَاتُر (أی: کُلّ خبر خبرٍ من الأخبار الکثیرة) إذا کان عبارة عن إخباراتٍ یبعد فِی کُلّ واحد منها احتمال الاستناد إلی مصلحة شخصیة تدعو إلی الإخبار بصورة معینة (إما لوثاقة المخبر أو لظروف خارجیة) حصل الیقین بسببها بصورة أسرع؛ فهناک فرق وجداناً بین إخبار جماعة ثقات وورعین بشیء، وبین إخبار جماعة مجهولین بشیء؛ فَإِنَّ حصول الیقین فِی الأَوَّل أسرع منه فِی الفرض الثَّانِی، فقد یکفی إخبار ثلاثة ثقات ورعین فِی حصول الیقین لنا، بینما لا یکفی إخبار عشرین مجهولین بشیء فِی حصول الیقین، ولیس ذلک إلا أن کُلّ واحد من الأخبار فِی الفرض الأَوَّل (إخبار ثلاثة ورعین) حیث أن احتمال الصواب والمطابقة للواقع فیه أقوی وأکبر (مثلاً 90%) من احتمال الکذب والاستناد إلی مصلحة شخصیة دعته إلی الإخبار (ومقداره 10% مثلاً) ولیس مساویاً له، فلذا یکون حصول الیقین بصحة الخبر أسرع، وهذا بخلاف الفرض الثَّانِی حیث أن احتمال الصواب والمطابقة للواقع فِی کُلّ خبر مساوٍ لاحتمال الکذب والاستناد إلی مصلحة شخصیة داعیة إلی الإخبار، فلا یحصل الیقین بتلک الدرجة من السرعة.

وهذا معناه أن الیقین الحاصل فِی باب التَّوَاتُر یتأثر بالقیمة الاحتمالیة لِکُلّ واحد من الأخبار، ولا یتأثر بقاعدة عَقْلِیَّة قبلیة موضوعها کَمٌّ مُعَیَّنٌ کما یفترضه المنطق الأرسطی، فحیث أن الیقین ولید تجمّع القرائن الاحتمالیة فکلما کانت کُلّ قرینة من تلک القرائن فِی نفسها أقوی کان حصول الیقین أسرع؛ لسرعة تصاعد القیمة الاحتمالیة لصدق الخبر، وکلما کانت أضعف کان حصول الیقین أبطأ لبطئ تصاعد القیمة الاحتمالیة لصدق الخبر، فالنتیجة مرتبطة سرعةً وبُطأً بقوّة هذه القرائن الاحتمالیة وضعفها، وهذا شاهد عَلَیٰ أن الیقین إِنَّمَا هو نتیجة هذه الاحتمالات، ولو کان نتیجة قَضِیَّة عَقْلِیَّة بدیهیة کما یذهب إلیه المنطق الأرسطی، لَما کان هناک علاقة بین هذا الیقین وبین قوة هذه الاحتمالات وضعفها، ولَما کان الیقین یتأثّر بهذه العوامل. هذا فِی القضیة المتواترة.

ص: 356

وکذلک الأمر فِی باب الْقَضِیَّة التَّجْرِیبِیَّة؛ فإن مفردات التَّجْرُبَة عبارة عن الاقترانات العدیدة المتکررة بین الحادثتین، فکلما کان احتمال وجود عِلَّة غیر منظورة أضعف کانت الدِّلاَلَة والقرینیة الاحتمالیة لِکُلّ اقترانٍ عَلَیٰ العلیة بین الحادثتین أقوی، وَبِالتَّالِی یکون الیقین بالعلیة أسرع وأرسخ، ولیس ذلک إلا لأن الیقین ناتج عن تراکم القرائن الاحتمالیة وتجمّع قیمها الاحتمالیة المتعددة فِی مصب واحد، ولیس مشتقاً وناشئاً من قَضِیَّة عَقْلِیَّة أولیة کتلک الکبری الَّتِی یفترضها المنطق القدیم.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الیقین لو کان نَاشِئاً مِمَّا یقوله المنطق القدیم (وهو تلک الکبری) فاللازم أن یحصل هذا الیقین بشکل واحد وبدرجة واحدة من السرعة والبطء فِی جمیع الحالات، مع أننا نلاحظ أَنَّهُ لَیْسَ کذلک، بل حصوله أسرع فیما لو کانت مفردات التَّوَاتُر إخبارات الثقات أو الذین یبعد فِی حقهم احتمال الاستناد إلی مصلحة شخصیة، أو کانت مفردات التَّجْرُبَة اقترانات یبعد فِی کُلّ منها احتمال وجود عِلَّة غیر منظورة، فهذا منبّه وجدانی عَلَیٰ أن السَّبَب فِی حصول الیقین لَیْسَ هو ما ذکره المنطق الأرسطی وافترضه بدیهیاً، وَإلاَّ لزم أن لا یتأثر حصول الیقین سرعةً وبطأً بهذه الأمور.

وبکلمة أخری: إننا نتساءل عن الحد الأقل والعدد الأدنی الموجب للعلم والیقین فِی باب التَّوَاتُر وفی باب التَّجْرُبَة، فأیّ عدد من الإخبارات فِی باب التَّوَاتُر یُعتبر أقل عدد یوجب القطع بثبوت المخبَر به؟ وأی عددٍ من الاقترانات بین حادثتین فِی باب التَّجْرُبَة یُعبر أقل عدد یوجب القطع بالعلیة بینهما؟

الجواب واضح بحسب الوجدان، وهو أَنَّهُ لا یوجد عدد مُعَیَّن فِی هذا المجال، بل هو یختلف باختلاف المخبرین وباختلاف ظروفهم وأزمنتهم وأمکنتهم ونحوها. فَمَثَلاً فِی باب التَّوَاتُر قد تکون ثلاثة إخبارات من ثلاثة أشخاص موجبة للقطع؛ ذلک لوثاقتهم وورعهم عندنا، وقد لا تکون مائة إخبار من مائة شخص موجبة للقطع؛ وذلک لکونهم کذابین عندنا، وقد یکون عشرون خبراً من عشرین مخبِر موجباً للقطع؛ وذلک لأَنَّنَا لا نعرف حالهم من الوثاقة وعدمها، إذن یختلف العدد الأقل والحد الأدنی الموجب للعلم والیقین، فلماذا هذا الاختلاف؟

ص: 357

الجواب هو أن تفسیر ذلک وَفْقاً لرأینا واضح؛ فَإِنَّ العلم والیقین فِی باب التَّوَاتُر یتکوّن من تجمّع الاحتمالات وتراکمها عَلَیٰ مصبّ واحد، فإذا لاحظنا کُلّ إخبارٍ من الإخبارات ووجدنا أن احتمال کذبه فِی نفسه ضئیل وضعیف (نَظَراً إلی أن المخبِر ثقة ورع) فهذا معناه أن احتمال صدقه قویّ، فیکون من الطبیعی أن نحتاج إلی عدد قلیل من الإخبارات کی یحصل لنا القطع بالصدق، والعکس بالعکس کما هو واضح.

وَأَمَّا عَلَیٰ رأی المنطق الأرسطی الَّذِی یفسّر حصول الیقین فِی باب التَّوَاتُر بقضیة عَقْلِیَّة بدیهیة وقبلیة تقول باستحالة اتفاق عدد کبیر من النَّاس عَلَیٰ الکذب فلا تفسیر لاختلاف العدد الأقل الموجب للقطع باختلاف الأشخاص والظروف.

إذن، فالیقین فِی باب التَّوَاتُر قائم عَلَیٰ أساس الدَّلِیل الاستقرائی وحساب الاحتمالات کالیقین فِی باب التَّجْرُبَة تماماً، فروح الیقین فِی البابین واحدة، وملاک القضیة التَّجْرِیبِیَّة والمتواترة واحد، ولکی یتضح لنا أن القضیة المتواترة لیست إلا قَضِیَّة استقرائیة تقوم عَلَیٰ أساس الدَّلِیل الاستقرائی کالقضیة التَّجْرِیبِیَّة، لاَ بُدَّ من أن نوضّح أوَّلاً الاِسْتِدْلاِل الاستقرائی عَلَیٰ القضیة التَّجْرِیبِیَّة وکیفیة حصول الیقین فِی باب التَّجْرُبَة عَلَیٰ أساس حساب الاحتمالات، کی یتضح من خلاله الاِسْتِدْلاِل الاستقرائی عَلَیٰ القضیة المتواتر وکیفیة حصول الیقین فِی باب التَّوَاتُر عَلَیٰ أساس حساب الاحتمال، وسوف نری أن وروحهما واحدة، فنقول:

إن الاِسْتِدْلاِل الاستقرائی عَلَیٰ القضیة التَّجْرِیبِیَّة له شکلان تعرض لهما مُفَصَّلاً سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی کتابه القیّم الأسس المنطقیة للاستقراء( (1) ) نذکرهما بإیجاز:

الشکل الأَوَّل: هو الاِسْتِدْلاِل الَّذِی یُرَاد به إثبات عِلِّیَّة الموجود فِی المورد الَّذِی نعلم فیه بوجود شیئین خارجاً ونَشُکُّ فِی عِلِّیَّة أحدهما للآخر (کما فِی مثال الحرارة والتمدد) ولهذا الشکل قواعده وشروطه ونظامه.

ص: 358


1- (2) - السید محمد باقر الصدر، الأسس المنطقیة للاستقراء: ص254-340.

الشکل الثَّانِی: هو الاِسْتِدْلاِل الَّذِی یُرَاد به إثبات وجود العلة خارجاً بالتجربة فِی المورد الَّذِی نعلم بِعِلّیَّةِ أحد الشیئین للآخر (فِی الفرض الأَوَّل لا نعلم بالعلیة وَإِنَّمَا نعلم بوجود الحرارة وبوجود التمدد) ونشک فِی أن العلة هل وُجدت خارجاً أم لا؟ کما إذا علمنا بأن أستاذ الفقه فِی زماننا إذا أراد أن یبحث فِی کتاب الزکاة فَسَوْفَ یجمع الکتب الفقهیة الَّتِی تبحث عن الزکاة فِی مکتبته وعلی طاولة بحثه، فدخلنا غرفته مِنْ دُونِ أن نعلم بأنه عنده هذا البحث فِعْلاً، ولکننا رأینا کتب الزکاة عَلَیٰ طاولة بحثه، فنستدل بذلک عَلَیٰ أَنَّهُ یبحث حَالِیّاً فِی کتاب الزکاة.

وللکلام تتمة تأتی إن شاء الله غَداً.

حَقِیقَة التواتر / وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: حَقِیقَة التواتر / وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

أَمَّا الشکل الأَوَّل فهو یتجه إلی إثبات علاقة السَّبَبِیَّة والعلیة بین أ وب فِی المورد الَّذِی نعلم فیه بأن أ موجودةٌ مع عدد کبیر من الباءات، ولکن نَشُکُّ فِی علاقة السَّبَبِیَّة بین ماهیة أ وماهیة ب، فیراد إثبات سَبَبِیَّةِ أ ل_ب بالتجربة والاستقراء.

وَمِثَالُهُ مَا إِذَا أردنا إثبات عِلِّیَّة حبة الأسبرین( (1) ) لرفع الصداع والشفاء منه من خلال التَّجْرُبَة وَالاِسْتِقْرَاء وذلک بأن نقوم بعدّة تجارب عَلَیٰ عِدَّة مرضی مصابین بالصداع، فنعطی کُلّ واحد منهم حبة الأسبرین فیرتفع الصداع فِی کُلّ مَرَّة، فحبة الأسبرین موجودة فِی کُلّ مَرَّة لا شَکّ فیها، والشفاء من الصداع أَیْضاً موجود فِی کُلّ مَرَّة بلا شَکّ، إِنَّمَا الشَّکّ فِی علاقة السَّبَبِیَّة بین الأَوَّل والثانی، فنرمز إلی الأَوَّل ب_أ وإلی الثَّانِی ب_ب فنقول: إن عِلِّیَّة أ ل_ب قَضِیَّة محتملة منذ البدایة وقبل التَّجْرُبَة بدرجة خمسین بالمائة مثلاً (ولو من باب المصادرة)، وهی وإن کانت تنحلّ إلی قضایا عدیدة بعدد أقراص الأسبرین الَّتِی أعطیت للمرضی فِی مجموع المرّات، فهناک عِلِّیَّات محتملة عدیدة بعدد الأقراص والمرات، إِلاَّ أَن هذه العلیات المحتملة متلازمة فیما بینها ثُبُوتاً وعدماً، بِمَعْنَی أَنَّهُ حینما تکون طبیعة الأسبرین عِلَّة للشفاء من الصداع فَسَوْفَ تکون هذه العلیة (الَّتِی هی من خواص هذه الماهیة) ساریة فِی تمام الأقراص وثابتة فِی تمام المرات.

ص: 359


1- (1) - Aspirin

فهذه الاحتمالات (احتمالات العلیة فِی مجموع المرات) احتمالات متلازمة، فإما کُلّهَا صادقة وثابتة واقعاً وَإِمَّا کُلّهَا کاذبة وغیر ثابتة فِی الواقع، وفی مثل ذلک تکون القیمة الاحتمالیة لِلْعِلِّیَّةِ فِی مجموع الْمَرَّاتِ مساویة لِلْقِیمَةِ الاِحْتِمَالِیَّةِ لِلْعِلِّیَّةِ فِی کُلّ مَرَّةٍ ولا یکون احتمال المجموع أضعف من احتمال کُلّ واحد منها، فنحن هنا کَأَنَّنَا بإزاءِ قَضِیَّة واحدة؛ لأَنَّ التلازم بین الْقَضَایَا الاِحْتِمَالِیَّةِ یجعلها فِی قوة قَضِیَّة واحدة بحیث لا یکون احتمال المجموع أضعف من احتمال أیّ واحدة من مفردات هذه القضایا.

وَحِینَئِذٍ فلنفرض کما تَقَدَّمَ أن الاحتمال القبلی الأَوَّلِیّ لِعِلِّیَّةِ أ ل_ب فِی الْمَرَّة الأولی خمسون بالمائة، أی: النصف (وَطَبْعاً تحدید الاحتمالات القبلیة أمر له حسابات وقواعد شرحها سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی کتابه الأسس المنطقیة للاستقراء لا مجال للدخول فیها هنا ولا حاجة إلی ذلک فِعْلاً) فَحِینَئِذٍ احتمال أَنْ تَکُونَ تمام الأقراص فِی مجموع الْمَرَّاتِ عللاً احتمال لا ینقص عن النصف للملازمة بین الْعِلِّیَّات کما قلنا؛ فنحن أمام قَضِیَّة واحدة بحسب الحقیقة احتمالها هو النصف وهی عِلِّیَّة أ ل_ب.

وَأَمَّا لو لم تکن هذه الْعِلِّیَّة ثابتة (أی: احتمال عِلِّیَّة شیء آخر غیر أ) فَلاَ بُدَّ من أن نفترض ولو من باب الصدفة أن المریض الأَوَّل کان قد شرب فِی ذلک الوقت إلی جانب تناول القرص لبناً مخصوصاً کان هو العلة للشفاء من الصداع، ونفترض أَیْضاً أن المریض الثَّانِی قد نام نوماً مریحاً إلی جانب تناول القرص بحیث کان هذا النوم هو عِلَّة شفائه من الصداع، وهکذا الثَّالِث والرابع، فهنا نواجه بدیلا ونسمی هذا الْبَدِیل بالعلة الأخری.

إذن، فاحتمال عِلِّیَّة البدلی نفترضه النصف الآخر من رقم الیقین الَّذِی ینقسم بالتساوی عَلَیٰ الاحتمالات، إِلاَّ أَن من الواضح هنا أن افتراض العلة الأخری فِی الْمَرَّة الأولی لَیْسَ ملازماً لافتراضها فِی الْمَرَّة الثَّانیة (أَیْ: أَن هذه القضایا غیر متلازمة)؛ فکون المریض الأَوَّل قد شرب لبناً مخصوصاً غیر ملازم مع کون المریض الثَّانِی قد نام نوماً مریحاً، وهکذا.

ص: 360

وَحَیْثُ أَنَّ هذه القضایا المحتملة (أی: قَضِیَّة عِلِّیَّة غیر أ فِی الْمَرَّة الأولی، وقضیة عِلِّیَّة غیر أ فِی الْمَرَّة الثَّانیة وهکذا) غیر متلازمة؛ لعدم وجود أمر مشترک بینها معلوم غیر حبة الأسبرین، إذن فنحن هنا نواجه قضایا عدیدة لا قَضِیَّة واحدة، بینما فِی الفرض الأَوَّل کنّا نواجه قَضِیَّة واحدة مکرّرة (کَمَا عَرَفْتَ)، حیث أن احتمال عِلِّیَّة أ فِی کُلّ من الْمَرَّة الأولی والثانیة مثلاً احتمالان متلازمان مترابطان کما قلنا، أَمَّا احتمال عِلِّیَّة غیر أ فِی کُلّ من المرتین فلیسا متلازمین لعدم وجود أمر معلوم مشترک بین المرّتین غیر أ.

فلو افترضنا أننا أعطینا لِکُلّ قَضِیَّة مشکوکة من هذه القضایا المحتملة (أی: عِلِّیَّة غیر أ فِی کُلّ مَرَّة) درجة خمسین بالمائة (أی: النصف) فَسَوْفَ یصیر احتمال وجود العلة الأخری غیر أ فِی الْمَرَّة الأولی هو النصف، واحتمال وجود العلة الأخری غیر أ فِی الْمَرَّة الثَّانیة هو النصف، لکن احتمال وجود العلة الأخری غیر أ فِی کلتا المرتین یکون أقل وأضعف من النصف؛ لأَنَّ الاحتمالین غیر متلازمین. إذن، احتمال المجموع هنا أضعف من احتمال کُلّ واحدة بمفردها، کما أن احتمال وجود العلة الأخری فِی مجموع العشرین مَرَّة مثلاً یکون فِی غایة الضعف؛ لأَنَّ هذا یُنتج بحسب الحقیقة عن ضرب الاحتمال الأَوَّل فِی الثَّانِی ثُمَّ فِی الثَّالِث ثُمَّ فِی الرَّابِع وهکذا، والکسور کلما ضربنا بعضها فِی بعض تضاءلت؛ فالضرب یؤدی إلی ضعف احتمال وجود عِلَّة أخری غیر أ فِی مجموع الْمَرَّات، وبقدر ما یضعف هذا الاحتمال یقوی احتمال المقابل له، وهو احتمال عِلِّیَّة أ؛ لأَنَّ المسألة دائرة بین هذین الاحتمالین.

وقد کشف سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی کتابه الْقَیِّمِ الأُسَس المنطقیة للاستقراء نکتة هذا التوازن والتقابل الریاضی بین هذین الاحتمالین وسرّه المنطقی، حیث بیّن أن منشأ الاحتمال بحسب الحقیقة هو العلم الإجمالی ذو الأطراف المحصورة عَقْلاً؛ فکل احتمال مرتبط ب_علم إجمالی ولید له، وهنا الأمر کذلک؛ فَإِنَّهُ إذا افترضنا أننا أعطینا حبة الأسبرین لشخصین مصابین بالصداع، فشُفی کلاهما من الصداع، فهنا نقول: إن احتمال عِلِّیَّة الأسبرین للشفاء من الصداع کان قبل هاتین التجربتین خمسین بالمائة (النصف) من رقم الیقین، وَأَمَّا بعدهما فیکبر ویزید عن النصف، وما یقابله من الاحتمال یصغر ویتضاءل.

ص: 361

وتحلیله هو أَنَّهُ هنا یوجد علم إجمالی ذو أطراف محصورة عَقْلاً، وهو العلم بأن العلة الأخری المحتملة (غیر الأسبرین) الَّتِی کان احتمالها قبل التجربتین أَیْضاً خمسین بالمائة (النصف) یدور الأمر فیها عَقْلاً بین احتمالات أربعة لا خامس لها، فهی إما موجودة فِی کلتا التجربتین (تجربة إعطاء الأسبرین للشخص الأَوَّل، وتجربة إعطاء الأسبرین للشخص الثَّانِی)، وَإِمَّا هی معدومة فِی کلتیهما، وَإِمَّا هی موجودة فِی التَّجْرُبَة الأولی (حین إعطاء الأسبرین للشخص الأَوَّل) دون التَّجْرُبَة الثَّانیة، وَإِمَّا بالعکس، وهذا حصر علی دائر بین النفی والإثبات.

وَحِینَئِذٍ فهذا العلم الإجمالی الَّذِی له أطراف أربعة یتوزّع عَلَیٰ أربعة احتمالات، وإذا قصرنا النَّظَر عَلَیٰ هذا العلم الإجمالی فقط، فقیمة کُلّ احتمال من هذه الاحتمالات الأربعة عن رُبع العلم، حیث أن رقم الیقین والعلم أیّاً کان ینقسم عَلَیٰ أطرافه بالتساوی، فکل احتمال من هذه الأربعة یکون احتمالاً لربع العلم، فإذا فرضنا أن رقم الیقین والعلم الإجمالی المذکور هو 1، فقیمة کُلّ واحد من هذه الاحتمالات الأربعة عبارة عن الربع ، وهنا نری أن الاحتمال الثَّانِی من هذه الاِحْتِمَالاَت (وهو عدم وجود العلة الأخری فِی کلتا التجربتین) یُثْبِتُ بمقدار قوّته وقیمته الاِحْتِمَالِیَّةِ (وهی عبارة عن الرُّبع) أن حبة الأسبرین هی العلة للشفاء من الصداع؛ لأَنَّ المفروض أن الصداع کان مَوْجُوداً فِی کلتا التجربتین، وأن حبة الأسبرین أُعطیت فِی کلتا التجربتین، وأن الشفاء من الصداع قد حصل فِی کلتا التجربتین وأن شَیْئاً آخر یحتمل أَنْ یَکُونَ هو العلة للشفاء غیر موجود فِی کلتا التجربتین، إذن فَلاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونَ قرص الأسبرین هو العلة.

وَأَمَّا الاحتمال الثَّالِث (وهو وجود العلة الأخری فِی التَّجْرُبَة الأولی فقط دون الثَّانیة) فهو أَیْضاً یُثْبِتُ (بمقدار قیمته وقوته الاِحْتِمَالِیَّة وهی الرُّبع) أن حبة الأسبرین هی العلة للشفاء من الصداع؛ لأَنَّ المفروض هو أن الشفاء من الصداع قد حصل فِی التَّجْرُبَة الثَّانیة أَیْضاً؛ بینما المفروض أن العلة الأخری غیر موجودة فِی التَّجْرُبَة الثَّانیة، فَلاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونَ القرص هو العلة وَإلاَّ لما حصل الشفاء فِی التَّجْرُبَة الثَّانیة کما هو واضح.

ص: 362

وکذلک الاحتمال الرَّابِع (وهو وجود العلة الأخری فِی التَّجْرُبَة الثَّانیة فقط دون الأولی)؛ فَإِنَّهُ أَیْضاً یُثْبِتُ بمقدار قوّته وقیمته الاِحْتِمَالِیَّة (وهی الرُّبع) أن حبَّ الأسبرین هی العلة للشفاء من الصداع؛ لأَنَّ المفروض هو أن الشفاء قد حصل فِی التَّجْرُبَة الأولی أَیْضاً، بینما العلة الأخری غیر موجودة فِی التَّجْرُبَة الأولی، فَلاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونَ القرص هو العلة وَإلاَّ لما حصل الشفاء فِی التَّجْرُبَة الأُولَی کما هو واضح.

إذن، فالاحتمالات الثَّلاَثة الأخیرة کُلّهَا فِی صالح عِلِّیَّة حبة الأسبرین، فثلاثة أرباع العلم الإجمالی تُثْبِتُ أن القرص هو عِلَّة الشفاء، فقیمة احتمال علیّته مساویة لثلاثة أرباع.

یبقی الاحتمال الأَوَّل (وهو وجود العلة الأخری فِی کلتا التجربتین): وهو احتمال حیادی ولا بشرط تجاه عِلِّیَّة قرص الأسبرین للشفاء وعدم علیته؛ فهو لا یثبت هذه الْعِلِّیَّة ولا ینفیها؛ إذ کما أن الْعِلَّة الأخری موجودة فِی کلتا التجربتین بناءً عَلَیٰ هذا الاحتمال، کذلک حبة الأسبرین أَیْضاً موجودة فِی کلتا التجربتین کما هو المفروض؛ فلعلّ القرص لَیْسَ هو الْعِلَّة للشفاء، وَإِنَّمَا الشفاء ناتج عن الْعِلَّة الأخری، ولعل القرص عِلَّة لکن مع عِلَّة أخری؛ إذ لعله قد وجدت علتان للشفاء، وهذا معناه أن نصف القوّة والقیمة الاِحْتِمَالِیَّة الثَّابِتَة للاحتمال الأَوَّل (وَالَّتِی کانت عبارة عن الرُّبع) سوف یکون لصالح عِلِّیَّة حبة الأسبرین، والنصف الآخر یکون لصالح عِلِّیَّة شیء آخر.

وعلیه، فثلاثة أرباع العلم الإجمالی ونصف الرُّبع تُثْبِتُ عِلِّیَّةَ حَبَّةِ الأسبرین، ونصف الرُّبع (أی: الثُّمن ) یُثْبِتُ عِلِّیَّة شیء آخر.

وبعبارة أخری: قیمة احتمال عِلِّیَّة الأسبرین للشفاء من الصداع عبارة عن، بینما قیمة احتمال عِلِّیَّة شیء آخر عبارة عن ؛ فقبل التجربتین کانت قیمة احتمال عِلِّیَّة الأسبرین عبارة عن النصف (أی: أربعة أثمان ) ولکن بعد التجربتین صعدت إلی ثلاثة أربع ونصف الرُّبع (أی: سبعة أثمان ) بقانون العلم الإجمالی.

ص: 363

هذا فِی تجربتین فقط کما لاحظنا، وکلما کثرت التجارب ازدادت النِّسْبَة وتَرقَّت أکثر، فَمَثَلاً لو افترضنا أننا جرّبنا ثلاث مَرَّاتٍ، بأن أعطینا حبة الأسبرین لثلاثة أشخاص مصابین بِالصُّدَاعِ وشُفوا من صداعهم، فَسَوْفَ تصعد النِّسْبَة أکثر حِینَئِذٍ بقانون العلم الإجمالی؛ لأَنَّ العلم الإجمالی فِی الفرض السابق (أی: فِی فرض وجود تجربتین) کانت أطرافه أربعة، وَأَمَّا فِی هذا الفرض (فرض وجود ثلاث تجارب) فَسَوْفَ تکون أطرافه ثمانیة؛ لأَنَّهُ عَلَیٰ جمیع التقادیر والاحتمالات الأربعة السابقة إما أَنْ تَکُونَ الْعِلَّةُ الأخری فِی التَّجْرُبَة الثَّالثة موجودة، وَإِمَّا أَنْ تَکُونَ غیر موجودة، فتصیر الأطراف ثمانیة (ویتوزع رقم الیقین عَلَیٰ هذه الأطراف فتکون قیمة کُلّ واحد منها الثُّمن)، وهذه الثمانیة سبعة منها تکون فِی صالح عِلِّیَّةِ حبة الأسبرین للشفاء وتُثبت هذه الْعِلِّیَّة وهی:

1)- أَنْ تَکُونَ الْعِلَّة الأخری موجودة فِی التجربتین الأولیین فقط.

2)- أَنْ تَکُونَ الْعِلَّة الأخری موجودة فِی التَّجْرُبَة الأولی والثالثة فقط.

3)- أَنْ تَکُونَ الْعِلَّة الأخری موجودة فِی التَّجْرُبَة الأولی فقط.

4)- أَنْ تَکُونَ الْعِلَّة الأخری موجودة فِی التَّجْرُبَة الثَّانیة والثالثة فقط.

5)- أَنْ تَکُونَ الْعِلَّة الأخری موجودة فِی التَّجْرُبَة الثَّانیة فقط.

6)- أَنْ تَکُونَ الْعِلَّة الأخری معدومة فِی التجارب الثلاث کُلّهَا.

7)- أَنْ تَکُونَ الْعِلَّة الأخری موجودة فِی التَّجْرُبَتین الأولیین فقط.

ذَلِکَ لأَنَّ کُلّ واحد من هذه الاحتمالات السبعة یتضمّن عدم وجود الْعِلَّة الأخری إما فِی بعض التجارب الثلاث أو فِی کُلّهَا، رغم أن الشفاء من الصداع حاصل فِی کُلّ التجارب حسب الفرض، فهذا یبرهن عَلَیٰ عِلِّیَّة حبّة الأسبرین للشفاء.

إذن، فسبعة أثمان العلم الإجمالی تُثْبِتُ أن الأسبرین هو عِلَّة الشفاء، فقیمة احتمال علیته مساویة لسبعة أثمان .

ص: 364

یبقی من الاحتمالات الثمانیة احتمال واحد (وهو احتمال وجود الْعِلَّة الأخری فِی کُلّ التجارب الثلاث) وهو احتمال حیادی ولا بشرط تجاه عِلِّیَّة الأسبرین للشفاء وعدم علیته، فهو لا یُثْبِتُ هذه الْعِلِّیَّة ولا ینفیها؛ إذ کما أن الْعِلَّة الأخری موجودة فِی کُلّ التجارب الثلاث بناءً عَلَیٰ هذا الاحتمال، کذلک حبة الأسبرین أَیْضاً موجودة فِی کُلّ التجارب الثلاث حسب الفرض؛ فلعل الحبة عِلَّة للشفاء کما أن الْعِلَّة الأخری عِلَّة للشفاء (أی: وجدت علّتان للشفاء)، ولعلّها لیست عِلَّة له وَإِنَّمَا الشفاء ناتج عن الْعِلَّة الأخری.

وهذا معناه أن نصف هذا الاحتمال أَیْضاً فِی صالح عِلِّیَّة الأسبرین للشفاء.

إذن، فسبعة أثمان ونصف الثُّمن فِی صالح عِلِّیَّة الأسبرین؛ لأَنَّ نصف القوة والقیمة الاِحْتِمَالِیَّة الثَّابِتَة لهذا الاحتمال (وَالَّتِی کانت عبارة عن الثمن) کان فِی صالح عِلِّیَّة الأسبرین، وَأَمَّا عِلِّیَّة شیء آخر للشفاء فقیمته الاِحْتِمَالِیَّة عبارة عن نصف الثمن، (أی:).

إذن، فقد لاحظنا أَنَّهُ فِی تجارب ثلاث تصعد قیمة احتمال عِلِّیَّة الأسبرین للشفاء إلی وتتضاءل قیمة احتمال وجود عِلَّة أخری غیر الأسبرین للشفاء إلی ، وهکذا کلما زاد عدد التجارب صعد الحساب فِی جانب الْعِلِّیَّة نزل الحساب فِی جانب عدم الْعِلِّیَّة؛ ففی أربع تجارب تصعد قیمة احتمال الْعِلِّیَّة إلی وتنزل قیمة احتمال عدم الْعِلِّیَّة إلی، وهکذا إلی أن یزول احتمال عدم الْعِلِّیَّة من النفس لشدّة ضآلته ویحصل القطع والیقین بالعلیة حسب قواعد وأسس بَیَّنَها سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ مُفَصَّلاً فِی کتابه الْقَیِّمِ الأُسَس المنطقیة للاستقراء تحت عنوان الدَّلِیلُ الاستقرائیُّ فِی مرحلة التَّوَالُدِ الذَّاتِیِّ.

هذا کله فِی الشَّکْل الأَوَّل للاستدلال الاستقرائی عَلَیٰ الْقَضِیَّة التَّجْرِیبِیَّة وهو الاِسْتِدْلاِل الَّذِی یُرَاد به إثبات عِلِّیَّة الموجود.

وَأَمَّا الشَّکْل الثَّانِی من الاِسْتِدْلاِل الاستقرائی عَلَیٰ الْقَضِیَّة التَّجْرِیبِیَّة فهو یتّجه إلی إثبات وجود الْعِلَّة خَارِجاً فِی المورد الَّذِی نعلم فیه بأصل علاقة الْعِلِّیَّة وَالسَّبَبِیَّة بین أ وب ولکن نَشُکُّ فِی وجود الْعِلَّة خَارِجاً (أی: نَشُکُّ فِی وجود أ فِعْلاً)، وفی هذا الشَّکْل من الاِسْتِدْلاِل نستعمل أَیْضاً نفس الروح الَّتِی استعملناها فِی الشَّکْل الأَوَّل وبنفس الطریقة من الحساب ننتهی إلی إثبات وجود تلک الْعِلَّة ونفی وجود البدیل، وقد ذکر سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی الأسس المنطقیة للاستقراء أن هذا الشَّکْل من الدَّلِیل الاستقرائی (الَّذِی یثبت وجود أ) له حالات عدیدة، تهمّنا منها هنا الحالة الأولی من تلک الحالات وهی أَنْ یَکُونَ البدیل ل_أ المحتمل کونه سَبَباً ل_ب مجموعة مکوّنة من ج د ه_ مثلاً.

ص: 365

ومثال ذلک أننا نعلم بأن أستاذ الفقه إذا کان له بحث فِی الوضوء مثلاً فَسَوْفَ یکون هذا علةً لتجمیع الکتب المرتبطة بالوضوء عَلَیٰ طاولة مطالعته؛ فأصل الْعِلِّیَّة وَالسَّبَبِیَّة بین وجود بحث له فِی الوضوء وبین تجمیع الکتب المرتبطة بالوضوء معلومة لنا، ولکن أصل وجود الْعِلَّة خارجاً مشکوک لنا، فلا ندری هل أن للأستاذ فِعْلاً بحثاً حول الوضوء أم لا؟ فدخلنا غرفته ورأینا مجموعة من کتب الوضوء مثل کتاب الوضوء من الجواهر وکتاب الوضوء من الحدائق وکتاب الوضوء من مصباح الفقیه موضوعةً عَلَیٰ طاولة مطالعته؛ فَإِنَّ هذا التجمّع للکتب الباحثة عن الوضوء فِی مکان واحد حِینَئِذٍ نحتمل فیه احتمالین وله أحد تفسیرین فِی رأینا:

الأَوَّل: أَنْ یَکُونَ للأستاذ فِعْلاً بحث حول الوضوء، أَیْ: أَن عِلَّة تجمّع الکتب (وهی وجود بحث حول الوضوء) موجودة خَارِجاً.

الثَّانِی: أن لا یکون للأستاذ بحث حول الوضوء ولم تکن عِلَّة تجمّع الکتب قد وجدت خَارِجاً وَإِنَّمَا تجمّعت کتب الوضوء عَلَیٰ طاولة المطالعة صدفةً، بمعنی أن کُلّ واحد منها قد وجد عَلَیٰ الطاولة لعامل آخر لا بسبب وجود بحث للأستاذ فِعْلاً فِی الوضوء، بل وجد الأَوَّل هناک لغرض التجلید مثلاً، والآخر لغرض إعارته لصدیق مثلاً، والثالث لغرض تصحیح خطأٍ موجودٍ فیه مثلاً.

إذن، فهنا احتمالان لتجمّع هذه المجموعة الخاصة من الکتب الَّتِی تتناول موضوعاً واحداً معیّناً:

أحدهما: احتمال وجود عِلَّة هذا التجمع، وهی عبارة عن وجود بحث للأستاذ فِعْلاً حول هذا الْمَوْضُوع بالذات.

وثانیهما: احتمال وجود بدیل لهذه الْعِلَّة، والبدیل المحتمل کونه سَبَباً لهذا التجمّع عبارة عن مجموعة مکوّنة من التجلید والإعارة والتصلیح فِی المثال المذکور، وقد اقترنت أجزاء هذه المجموعة بعضها ببعض صدفةً؛ فغرض التجلید اقترن صدفةً بغرض الإعارة، وهما اقترنا صدفةً بغرض التصحیح، فتجمّعت هذه الکتب عَلَیٰ الطاولة صدفةً. فالتجمع صدفی واتفاقی وإن کان وجود کُلّ واحد منها مَعْلُولاً لعلةٍ معینة.

ص: 366

هذان احتمالان فِی المقام، وإذا فرضنا أن قیمة الاحتمال الأَوَّل (وهو احتمال أَنْ یَکُونَ للأستاذ بحث حول الوضوء) خمسون بالمائة (أی: النصف) قبل دخولنا الغرفة ورؤیة کتب الوضوء عَلَیٰ الطاولة، فَسَوْفَ یقوی هذا الاحتمال بعد أن ندخل الغرفة ونری کتب الوضوء عَلَیٰ الطاولة وتصعد قیمته کلما کثر عدد الکتب، وفی مقابله یضعف الاحتمال الثَّانِی القائل بعدم وجود بحث للأستاذ فِعْلاً فِی الوضوء وتنزل قیمته کلما کان عدد الکتب أکثر.

وَالسَّبَب فِی ذلک هو أن الاحتمال الأَوَّل وإن کان ینحل إلی احتمالات وقضایا عدیدة بعدد کتب الوضوء الموجودة عَلَیٰ الطاولة، فهناک معالیل عدیدة (لوجود بحث للأستاذ حول الوضوء) بعدد کتب الوضوء هناک؛ فوجود کتاب الوضوء من الجواهر مثلاً معلول له، ووجود کتاب الوضوء من الحدائق معلول له، ووجود کتاب الوضوء من مصباح الفقیه معلول له.

إِلاَّ أَن هذه الاحتمالات والقضایا العدیدة متلازمة فیما بینها ثُبُوتاً وعدماً، بِمَعْنَی أَنَّهُ حینما یکون هناک بحث للأستاذ حول الوضوء فَسَوْفَ یکون هذا علةً لوجود کُلّ تلک الکتب عَلَیٰ الطاولة؛ فاحتمالات المعلولیة لبحث الأستاذ فِی مجموع الکتب احتمالات متلازمة؛ فإما أن کُلّهَا صادقة وثابتة واقعاً وَإِمَّا أن کُلّهَا کاذبة وغیر ثابتة واقعاً.

وفی مثل ذلک تکون القیمة الاِحْتِمَالِیَّة للمعلولیة (فِی مجموع الکتب) لهذه الْعِلَّة (أعنی: وجود بحث للأستاذ حول الوضوء) مساویة للقیمة الاِحْتِمَالِیَّة للمعلولیة فِی کُلّ کتاب، ولا یکون احتمال المجموع أضعف من احتمال کُلّ واحد منها؛ فنحن هنا کأنَّنا بإزاء قَضِیَّة واحدة؛ لأَنَّ التلازم بین القضایا الاِحْتِمَالِیَّة یجعلها فِی قوّة قَضِیَّة واحدة بحیث لا یکون احتمال المجموع أضعف من احتمال أیّ واحدة من مفردات هذه القضایا.

وَحِینَئِذٍ فلنفرض (کما تَقَدَّمَ) أن قیمة احتمال کون وجود کتاب الوضوء من الجواهر عَلَیٰ الطاولة بسبب وجود بحث للأستاذ حول الوضوء عبارة عن خمسین بالمائة (أی: النصف ) فَحِینَئِذٍ احتمال أَنْ یَکُونَ وجود مجموع الکتب الثَّلاَثة عَلَیٰ الطاولة بسبب وجود بحث للأستاذ حول الوضوء لا ینقص عن النصف؛ للملازمة بین المعلولیّات کما قلنا؛ فنحن أمام قَضِیَّة واحدة بحسب الحقیقة احتمالها هو النصف وهی عبارة عن وجود بحث للأستاذ فِعْلاً حول الوضوء. هذا کله عن الاحتمال الأَوَّل.

ص: 367

وَأَمَّا الاحتمال الثَّانِی الَّذِی هو فِی مقابل هذا الاحتمال فقد کان (کما تَقَدَّمَ) عبارة عن وجود بدیلٍ لبحث الأستاذ عن الوضوء یحتمل وجوده خارجاً، فکان هو السَّبَب لوجود مجموع الکتب الثَّلاَثة عَلَیٰ الطاولة.

وهذا البدیل عبارة عن مجموعة مکوّنة من تجلید کتاب الوضوء من الجواهر وإعارة کتاب الوضوء من الحدائق وتصحیح خطأ موجود فِی کتاب الوضوء من مصباح الفقیه.

إذن، فاحتمال وجود هذا البدیل أیضاً یکون هو النصف (لانقسام رقم الیقین عَلَیٰ الاحتمالین بالتساوی) إِلاَّ أَن من الواضح هنا أن هذا الاحتمال الثَّانِی (وهو احتمال وجود البدیل) وإن کان یستبطن احتمالات ثلاثة (وهی احتمال وجود البدیل فِی وضوء الجواهر، واحتمال وجود البدیل فِی وضوء الحدائق، واحتمال وجود البدیل فِی وضوء المصباح) إِلاَّ أَن هذه الاحتمالات لیست متلازمة فیما بینها؛ فافتراض وجود غرض التجلید لکتاب الوضوء من الجواهر لَیْسَ ملازماً لافتراض وجود غرض الإعارة لکتاب الوضوء من الحدائق، وهکذا.. وحیث أَنَّهَا غیر متلازمة لعدم وجود أمر مشترک بینها معلوم، إذن فنحن هنا نواجه قضایا عدیدة لا قَضِیَّة واحدة، خِلاَفاً للفرض الأَوَّل الَّذِی کنّا نواجه فیه قَضِیَّة واحدة مکررة (کَمَا عَرَفْتَ)، حیث أن احتمال وجود بحث للأستاذ حول الوضوء کان یتکرر فِی الکتب الثَّلاَثة، فکانت الاحتمالات متلازمة مترابطة.

أَمَّا فِی هذا الفرض فلیس الأمر کذلک، فکون کتاب الوضوء من الجواهر إِنَّمَا وجد عَلَیٰ الطاولة لغرض التجلید لَیْسَ ملازما مع کون وجود کتاب الوضوء من الحدائق عَلَیٰ الطاولة لغرض الإعارة لصدیقٍ مثلاً، فالاحتمالات هنا غیر متلازمة.

فلو افترضنا أننا أعطینا لِکُلّ قَضِیَّة من هذه القضایا المحتملة (أی: وجود البدیل فِی کُلّ واحد من الکتب الثَّلاَثة) درجة خمسین بالمائة (أی: النصف) فَسَوْفَ یصیر احتمال وجود البدیل (وهو التجلید) فِی کتاب الوضوء من الجواهر هو النصف، واحتمال وجود البدیل وهو الإعارة فِی کتاب الوضوء من الحدائق هو النصف، واحتمال وجود البدیل وهو التصحیح فِی کتاب الوضوء من مصباح الفقیه هو النصف، لکن احتمال وجود البدیل فِی کُلّ هذه الکتب ومجموعها سوف یکون أقل وأضعف من النِّصْفِ؛ لأَنَّ الاحتمالات غیر متلازمة؛ فاحتمال المجموع هنا أضعف من احتمال کُلّ واحدة بمفردها؛ لأَنَّ احتمال المجموع ینتج بحسب الحقیقة من ضرب الاحتمال الأَوَّل فِی الثَّانِی ثُمَّ فِی الثَّالِث، والضرب یؤدی إلی تضاؤل احتمال وجود البدیل فِی مجموع الکتب وضعفه، وبقدر ما یضعف هذا الاحتمال یقوی الاحتمال الأَوَّل المقابل له وهو احتمال وجود الْعِلَّة (أی: أعنی بحث الأستاذ حول الوضوء).

ص: 368

والسر فِی هذا التوازن بین الاحتمالین المذکورین ما قلناه فِی الشَّکْل الأَوَّل من أن منشأ الاحتمال بحسب الحقیقة هو العلم الإجمالی ذو الأطراف المحصورة عَقْلاً؛ فکل احتمال مرتبط ب_علم إجمالی وولید له؛ ففی المقام حیث أن المفروض هو العلم بأصل علاقة الْعِلِّیَّة والسببة بین وجود بحث للأستاذ حول الوضو (ولنرمز إلی هذا ب_أ) وبین تجمع کتب الوضوء الثَّلاَثة عَلَیٰ الطاولة (ولنرمز إلیه ب_ب)، ولکننا نَشُکُّ فِی وجود الْعِلَّة (أی: أ) خَارِجاً، فنحتمل وجوده ونحتمل بالمقابل وجود بدیل له (ولنرمز للبدیل ب_ث)، وهذا معناه أننا نعلم أن ماهیة ب لها سببان: أحدهما ماهیة أ، والآخر ماهیة ث، فهناک علاقتا سَبَبِیَّة معلومتان، ونفترض أن أ یعبّر عن شیء واحد وهو وجود بحث للأستاذ حول الوضوء بینما یعبّر ث عن مجموعة أشیاء متعددة هی فِی المثال السابق عبارة عن تجلید وضوء الجواهر، وإعارة وضوء الحدائق، وتصحیح وضوء المصباح. ولنرمز إلی الأَوَّل ب_ح وإلی الثَّانِی ب_ه وإلی الثَّالِث ب_خ.

وما لم تجتمع هذه الأمور الثَّلاَثة لا یتکوّن ث الَّذِی هو السَّبَب الثَّانِی ل_ب وهو البدیل ل_أ.

فإذا رأینا ب قد وقع، فَسَوْفَ یوجد لدینا علم إجمالی بوجود أ أو ث، وعلی أساس هذا العلم تحدد قیمة احتمال وجود أ ب_النِّصْف (أی: ).

ولکن إذا افترضنا أن احتمال وجود أ یساوی احتمال وجود أیّ واحد من الأمور الثَّلاَثة المذکورة الَّتِی تکوّن بمجموعها ث وأن کُلّ واحد من تلک الاحتمالات یساوی ، فَسَوْفَ نحصل عَلَیٰ علم إجمالی آخر وهو علم یستوعب احتمالات وجود الأمور الثَّلاَثة: ح وه_ وخ، وهذا العلم یشتمل عَلَیٰ ثمانیة احتمالات کما یلی:

الأَوَّل: احتمال وجود ح وه_ وخ جمیعاً، بمعنی أن کتاب الوضوء من الجواهر یُرَاد تجلیده، وکتاب الوضوء من الحدائق یُرَاد إعارته لصدیق، وکتاب الوضوء من مصباح الفقیه یُرَاد تصحیحه، ولذا فقد اجتمعت الکتب الثَّلاَثة عَلَیٰ الطاولة.

ص: 369

الثَّانِی: احتمال وجود ح وه_ فقط، دون خ.

الثَّالِث: احتمال وجود ح وخ فقط، دون ه_.

الرَّابِع: احتمال وجود ه_ وخ فقط، دون ح.

الخامس: احتمال وجود ح فقط، دون ه_ وخ.

السادس: احتمال وجود ه_ فقط، دون ح وخ.

السابع: احتمال وجود خ فقط، دون ح وه_.

الثامن: احتمال عدم وجود ح وه_ وخ جمیعاً.

وهذه الاحتمالات الثمانیة إذا استثنینا الأَوَّل منها فالاحتمالات السبعة الأخیرة تستلزم وجود أ؛ لأَنَّهَا تفترض نفی ث، وما دام ب مَوْجُوداً أو لَیْسَ هناک ث، إذن ف_أ موجود.

ففی مثالنا المتقدم إذا استثنینا الاحتمال الأَوَّل الَّذِی تَقَدَّمَ آنِفاً، فالاحتمالات السبعة الأخری کُلّهَا تستلزم وجود بحث للأستاذ فِی موضوع الوضوء؛ لأَنَّ هذه الاحتمالات کُلّهَا تفترض نفی وجود السَّبَب الثَّانِی الَّذِی هو بدیل هذا البحث؛ لأَنَّ السَّبَب الثَّانِی لوجود الکتب الثَّلاَثة عَلَیٰ الطاولة کان عبارة عن مجموع الأمور الثَّلاَثة. فإذا انتفت، أو انتفی اثنان منها، أو انتفی واحد منها، انتفی البدیل، وقد رأینا أن الاحتمالات السبعة الأخیرة تتضمن انتفاء أحد الأمور الثَّلاَثة عَلَیٰ الأقل؛ فالسبب الثَّانِی لوجود الکتب الثَّلاَثة عَلَیٰ الطاولة غیر موجود، وما دامت الکتب موجودة عَلَیٰ الطاولة مِنْ دُونِ وجود السَّبَب الثَّانِی، إذن فالسبب الأَوَّل موجود وهو وجود بحث للأستاذ فِی موضوع الوضوء.

إذن، فسبعة من ثمانیة احتمالات أصبحت فِی صالح وجود أ، أَیْ: أَن سبعة أثمان العلم الإجمالی تُثْبِتُ وجود أ.

یبقی الاحتمال الأَوَّل وهو الاحتمال الوحید الَّذِی یفترض وجود ح وه_ وخ جمیعاً، وهذا الاحتمال حیادی ولا بشرط تجاه وجود أ وعدمه؛ فهو لا ینفی وجوده ولا یُثْبِتُ وجوده. بمعنی أن احتمال وجود کُلّ الأمور الثَّلاَثة الَّتِی تکون بمجموعها السَّبَب الثَّانِی لوجود الکتب عَلَیٰ الطاولة (وهی عبارة عن التجلید والإعارة والتصحیح) لا یُبت ولا ینفی السَّبَب الأَوَّل لوجود الکتب عَلَیٰ الطاولة (وهو وجود بحث للأستاذ فِعْلاً حول الوضوء)؛ إذ لعل السَّبَب الأَوَّل أَیْضاً موجود إلی جنب السَّبَب الثَّانِی، ولعله غیر موجود.

ص: 370

وهذا معناه أن نصف قیمة هذا الاحتمال الحیادی أصبح أَیْضاً فِی صالح وجود أ، أی: فِی صالح وجود بحث للأستاذ فِعْلاً حول الوضوء، وبهذا تصبح قیمة احتمال وجود أ بموجب هذا العلم الإجمالی عبارة عن سبعة أثمان العلم الإجمالی ونصف الثمن ویبقی نصف ثُمن العلم الإجمالی فقط فِی صالح عدم وجود أ، فقیمة احتمال وجود أ هی بینما قیمة احتمال البدیل أ هی ، هذا فِی مشاهدتنا لثلاثة کتب فِقْهِیَّة تتناول موضوع الوضوء موجودة عَلَیٰ الطاولة فِی غرفة الأستاذ، حیث یقوی احتمال وجود بحث للأستاذ حول الوضوء إلی وینزل احتمال البدیل إلی ، وکلما کثرت الکتب ازدادت النِّسْبَة فِی صالح وجود بحث له فِی الوضوء ونفی البدیل.

هذه هی الحالة الأولی (وهی الَّتِی تهمّنا فِعْلاً فِی هذا البحث) من حالا الشَّکْل الثَّانِی من شکلی الاِسْتِدْلاِل الاستقرائی عَلَیٰ الْقَضِیَّة التَّجْرِیبِیَّة، وهو الاِسْتِدْلاِل الَّذِی یُرَاد به إثبات وجود الْعِلَّة خَارِجاً، وکان الدَّلِیل الاستقرائی فِی هذه الحالة ینمّی قیمة احتمال وجود الْعِلَّة عَلَیٰ أساس علم إجمالی یضعّف قیمة احتمال البدیل کما رأینا.

فالشکل الثَّانِی من الاِسْتِدْلاِل الاستقرائی فِی العلوم الطبیعیة التَّجْرِیبِیَّة یتخلّص فِی مواجهة شیء مشکوک ومحتمل، وتنمیة احتمال وجوده عَلَیٰ أساس علم إجمالی.

وهذا الشَّکْل من الدَّلِیل الاستقرائی الَّذِی یُرَاد به إثبات وجود الْعِلَّة ینطبق تماماً عَلَیٰ الدَّلِیل العلمی عَلَیٰ إثبات وجود الْعِلَّة الأولی للکون وهو الصانع الحکیم تعالی، وقد أوضح ذلک مُفَصَّلاً سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی مُقَدَِّمَة کتابه الفتاوی الواضحة( (1) ).

هذا تمام الْکَلاَم فِی شکلی الدَّلِیل الاستقرائی عَلَیٰ القضایا التَّجْرِیبِیَّة وقد اتضح لنا أَنَّهُ کیف یحصل الیقین فِی باب التَّجْرُبَة عَلَیٰ أساس حساب الاحتمالات.

ص: 371


1- (2) - راجع الکتاب: ص31-50، طبعة المؤتمر العالمی للإمام الشهید الصدر .

والآن نأتی إلی ما نحن فیه (أعنی: باب التَّوَاتُر)، فقد قلنا: إن الیقین فِی باب التَّوَاتُر قائم عَلَیٰ أساس الدَّلِیل الاستقرائی وحساب الاحتمالات کالیقین فِی باب التَّجْرُبَة تماماً، فکان لاَ بُدَّ لنا (لکی یتضح أن الْقَضِیَّة المتواترة لیست إلا قَضِیَّة استقرائیة تقوم عَلَیٰ أساس الدَّلِیل الاستقرائی کالقضیة التَّجْرِیبِیَّة) من أن نوضّح الدَّلِیل الاستقرائی عَلَیٰ الْقَضَایَا التَّجْرِیبِیَّة وکیفیة حصول الیقین فِی باب التَّجْرُبَة عَلَیٰ أساس حساب الاحتمالات، وهذا ما قمنا به لحد الآن، فلیس علینا بعد هذا سوی توضیح الاِسْتِدْلاِل الاستقرائی عَلَیٰ الْقَضِیَّة المتواترة وکیفیة حصول الیقین فِی باب التَّوَاتُر عَلَیٰ أساس حساب الاحتمال، فنقول:

إن الْقَضِیَّة المتواترة هی فِی الحقیقة مثال من أمثلة الحالة الأولی من حالات الشَّکْل الثَّانِی من شکلی الدَّلِیل الاستقرائی عَلَیٰ القضایا التَّجْرِیبِیَّة؛ فقد عرفنا أن الشَّکْل الثَّانِی عبارة عن الاِسْتِدْلاِل الَّذِی یُرَاد به إثبات وجود الْعِلَّة خَارِجاً، لا إثبات عِلِّیَّة الموجود، وکانت الحالة الأُولی من حالاته عبارة عن تنمیة وتقویة قیمة احتمال وجود الْعِلَّة عَلَیٰ أساس علم إجمالی یضعف قیمة احتمال وجود البدیل المتکوّن من مجموعة أمور متعدّدة، وهذا هو ما یحصل فِی الْقَضِیَّة المتواتر.

فَمَثَلاً لو اشترک عدد کبیر من النَّاس فِی احتفال، وبعد انتهاء الحفل سألنا کُلّ واحد منهم عن الشخص الَّذِی ألقی المحاضرة فِی ذلک الاحتفال، فجاءت الأجوبة کُلّهَا تؤکد أن فلاناً هو الَّذِی ألقی محاضرة فِی ذلک الحفل، کانت هذه الْقَضِیَّة متواترة ویحصل لنا الیقین بما قالوا، وهذا الیقین قائم عَلَیٰ أساس الدَّلِیل الاستقرائی الَّذِی یقوّی احتمال وجود الْعِلَّة عَلَیٰ أساس علم إجمالی یضعّف احتمال وجود البدیل المتکوّن من عِدَّة أمور؛ فَإِنَّ اتفاق العدد الکبیر من المحتفلین عَلَیٰ جواب واحد عند السؤال منهم عن نوع الشخص المحاضِر فِی الحفلة یعبّر عن باءات عدیدة بعدد الإخبارات الصَّادِرَة منهم؛ فکل خبر من تلک الأخبار نرمز إلیه ب_ب، وکون الشخص الَّذِی اتفقوا عَلَیٰ ذکره هو الَّذِی ألقی المحاضرة حَقّاً یعبر عن أ؛ لأَنَّهُ إذا کان هو المحاضِر حقاً فهذا وحده یکفی (تقریبا) لکی یفسّر لنا کُلّ ال_باءات، وما هو البدیل ل_أ هو أن نفترض توفّر دواعٍ مصلحیة لدی کُلّ المخبِرین دعتهم إلی الکذب بطریقة واحدة، وهذا البدیل یشتمل عَلَیٰ افتراضات عدیدة مستقلة، ویمکّننا ذلک من تشکیل علم إجمالی یستوعب احتمالات تلک الافتراضات، فإذا فرضنا أن المخبِرین ثلاثة، فاحتمالات تلک الافتراضات ثمانیة؛ إذ یُحتمل أَنْ یَکُونَ واحد فقط من الثَّلاَثة یتوفّر لدیه دافع مصلحی إلی الإخبار بتلک الطریقة عن خطیب الحفل، ویُحتمل أَنْ یَکُونَ اثنان فقط من الثَّلاَثة یتوفر لدیهما ذلک.

ص: 372

ویُحتمل توفّر الدافع المصلحی لدیهم جمیعاً، کما یُحتمل عدم وجوده لدی أیّ واحد منهم.

والاحتمال الأَوَّل له ثلاثة فروض؛ لأَنَّ هذا الواحد إما هو المخبِر الأَوَّل، أو المخبر الثَّانِی أو الثَّالِث.

والاحتمال الثَّانِی أَیْضاً له ثلاثة فروض؛ لأَنَّ هذین الاثنین إما هما المخبِر الأَوَّل والثانی، أو هما المخبِر الأَوَّل والثالث، أو هما المخبِر الثَّانِی والثالث.

والاحتمالان الآخران لکلٍّ منهما فرض واحد، فتکون مجموع الفروض الَّتِی یستوعبها العلم الإجمالی فِی حالة وجود ثلاثة مخبِرین عبارة عن ثمانیة فروض قیمة کُلّ واحد منها الثّمن، وسبعة من هذه الفروض تُعتبر فِی صالح صدق الْقَضِیَّة الَّتِی أخبروا عنها؛ لأَنَّها تتضمّن أن واحداً (عَلَیٰ الأقل) من المخبِرین الثَّلاَثة لَیْسَ لدیه أیّ دافع مصلحی یبرّر إخباره.

وهی عبارة عن الستة الأولی مع الثامن، کما هو واضح؛ فسبعة أثمان العلم الإجمالی فِی صالح صدق الْقَضِیَّة المتواترة، یبقی فرض واحد وهو الفرض السابع الَّذِی یتضمن توفّر الدافع المصلحی لدی جمیع المخبرین الثَّلاَثة، وهذا الفرض حیادی ولا بشرط تجاه صدق الْقَضِیَّة الَّتِی أخبروا عنها وکذبها، فهو لا یُثْبِتُ هذه الْقَضِیَّة ولا ینفیها؛ إذ کون المخبِرین ذوی مصالح شخصیة دفعتهم إلی الإخبار عن هذه الْقَضِیَّة لا هو مستلزم لصدق الْقَضِیَّة ووقوعها، ولا هو مستلزم لکذبها وعدم وقوعها.

فمن وجهة نظر هذا الفرض الحیادی یُحتمل صدق الْقَضِیَّة الَّتِی أخبروا عنها ویُحتمل کذبها، وهذا یعنی أن نصف قیمة هذا الاحتمال الحیادی اللابشرط یکون أَیْضاً فِی صالح صدق الْقَضِیَّة المتواترة المخبَر عنها.

إذن، فسبعة أثمان العلم الإجمالی ونصف الثمن فِی صالح الْقَضِیَّة المتواترة؛ ففی حالة وجود ثلاثة مخبرین سوف تکون من قیم العلم الإجمالی. أی: متضمّنة لإثبات الْقَضِیَّة المتواترة المخبَر عنها ونفی البدیل المحتمل.

ص: 373

وفی حالة وجود أربعة مخبرین ترتفع القیم المثبِتة إلی ، أی: إلی وتنزل قیمة احتمال عدم ثبوت الْقَضِیَّة المتواتر المخبَر عنها إلی ، وهکذا.. حتَّی تصبح قیمة احتمال عدم ثبوت الْقَضِیَّة متمثّلة فِی کسر ضئیل جِدّاً، وعندئذٍ تبدأ المرحلة الثَّانیة من الدَّلِیل الاستقرائی فیفنی ذلک الکسر الضئیل ویتحول التصدیق بالقضیة المتواترة إلی یقین، طِبْقاً لشروط ذکرها سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ مُفَصَّلاً فِی کتابه الْقَیِّمِ الأُسَس المنطقیة للاستقراء( (1) ).

فوصول التصدیق بالقضیة المتواترة وکذلک بالقضیة التَّجْرِیبِیَّة إلی الیقین لَیْسَ ریاضیا واستنباطیاً وقیاسیاً، بل إِنَّمَا هو بِمُقْتَضَیٰ ما تفضّل به الله تبارک وتعالی عَلَیٰ الإنسان من العقل والضابط الذاتی بالنحو الَّذِی جعله لا یحتفظ بالکسور الضئیلة والقیم الاِحْتِمَالِیَّة الضعیفة جِدّاً، فتنطفئ عنده ویحصل له الیقین بالقضیة المتواترة والقضیة التَّجْرِیبِیَّة. ولولا ذلک لأصبح الإنسان مجنوناً لا یمکنه التعایش مع مَن حوله وما حوله؛ إذ لا یمکنه أن یقطع بشیء إطلاقاً ما دام ذهنه محتفظاً بالاحتمالات الضعیفة والضئیلة جِدّاً.

هذا تمام الْکَلاَم فِی الجهة الأولی من جهات البحث حول الخبر المتواتر، وقد عرفنا فِی هذه الجهة حَقِیقَة التَّوَاتُر وکیفیة إفادته الیقین وأنه یقین موضوعی استقرائی قائم عَلَیٰ أساس حساب الاحتمال.

ضابط التَّوَاتُر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین بحث الأصول

الجهة الثَّانیة:

ضابط التَّوَاتُر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین

وَأَمَّا الجهة الثَّانیة: ففی ضابط التَّوَاتُر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین، فمتی یعتبر الخبر متواتراً وموجباً لحصول الیقین؟

ص: 374


1- (3) - انظر الفصل الثَّانِی من القسم الثَّالِث من الکتاب تحت عنوان الدَّلِیل الاستقرائی فِی مرحلة التوالد الذاتی: ص355-400، الطبعة الأولی: دار الفکر، بیروت.

وقد اتضح إلی حَدّ کبیر الجواب عن هذا السؤال من خلال البحث المتقدم فِی الجهة الأولی؛ فَإِنَّ الضَّابِط فِی التَّوَاتُر عبارة عن الکثرة العددیة بلا إشکال؛ فَإِنَّهَا هی جوهر التَّوَاتُر وهی الَّتِی تصنع العلم الإجمالی الَّذِی ذکرناه فِی الجهة الأولی وقلنا عنه: إِنَّهُ یضعف احتمال عدم صدق الخبر المتواتر ویقوی احتمال صدفه، فالجانب العددی للمخبِرین هو الَّذِی یصنع هذا العلم الإجمالی، وکلما کثرت أطراف هذا العلم ارتفعت قیمة احتمال الصدق وتضاءلت قیمة احتمال الکذب.

ومن الواضح أَنَّهُ کلما ازداد عدد المخبِرین کثرت أطراف هذا العلم، کما لاحظنا ذلک کله فِی البحث المتقدم فِی الجهة الأولی. إذن، فبکثرة عدد الْمُخْبِرِینَ تکثر أطراف العلم، وبکثرة أطرافه تتراکم القیم الاِحْتِمَالِیَّة الکثیرة فِی صالح صدق الْقَضِیَّة المتواترة المخبَر عنها، فکثرة عدد الْمُخْبِرِینَ هی جوهر التَّوَاتُر بلا إشکال.

إِلاَّ أَن السؤال الَّذِی نواجهه هنا هو أن هذه الکثرة هل یمکن تحدیدها فِی رقم مُعَیَّن؟ وهل توجد هناک درجة معینة للعدد الَّذِی یحصل به القین بالخبر المتواتر کأن یقال مثلاً: إذا أخبر مائة شخص بشیء فهذا هو الخبر المتواتر وهو الَّذِی یفید الیقین؟.

حاول البعض وضعَ بعض التحدیدات الْکَمِّیَّة للتواتر، وقد وصفها الشهید الثَّانِی بسخف القول، من قبیل التحدید بعدد مَن شهد بدراً من الصحابة (وهو عبارة عن 313)، ومن قبیل التحدید بعدد نقباء بنی إسرائیل (وهو عبارة عن 12) ومن قبیل التحدید بعدد أصحاب موسی (عَلَیٰ نبینا وآله وعلیه الصَّلاَة والسلام) الذین اختارهم لمیقات ربهم (وهو عبارة عن 70) ومن قبیل التحدید بأکثر من أربعة؛ لئلاَّ تدخل البینة عَلَیٰ بعض الأمور المتوقفة عَلَیٰ أربعة شهود (کالزّنا) فِی التَّوَاتُر، ونحو ذلک من التحدیدات.

ص: 375

وقد أفاد الشهید الثَّانِی بعد تسخیف هذه التحدیدات أن المیزان فِی التَّوَاتُر إِنَّمَا هو إفادة العلم؛ فالعدد الَّذِی یفید العلم هو ضابط التَّوَاتُر( (1) ). انتهی کلام الشهید الثَّانِی .

ونحن وإن کنّا نوافقه عَلَیٰ تسخیف التحدیدات المذکورة، لکننا لا نوافقه عَلَیٰ المیزان الَّذِی ذکره؛ فَإِنَّ تفسیر المتواتر بما یفید العلم أو تفسیر التَّوَاتُر بإفادة العلم لَیْسَ إِلاَّ تَفْسِیراً لِلشَّیْءِ بنفسه، کتفسیر الماء بالماء.

وکل ذلک ناتج عن عدم تحدید صورة صحیحة لجوهر کاشفیة الخبر المتواتر، أَمَّا بعد تحدید ذلک فَحِینَئِذٍ یُعرف بأنه ما دام میزان الْکَاشِفِیَّة وجوهرها وأساسها المنطقی عبارة عن حساب الاحتمالات والأسس المنطقیة للاستقراء، إذن فکل عامل یؤثّر فِی حساب الاحتمالات صعوداً أو نزولاً یکون هو المؤثر فِی التَّوَاتُر، فلا یمکن وضع قاعدة ودرجة معینة للتواتر ولا یوجد تحدید دقیق لدرجة الکثرة العددیة الَّتِی یحصل بسببها الیقین بالقضیة المتواترة؛ لأَنَّ حصول الیقین یتأثّر بعوامل کثیرة سنذکر قَرِیباً أَهَمّهَا.

فأساس إفادة التَّوَاتُر للعلم والیقین هو حساب الاحتمالات لا رقم وکمّ عددیّ مُعَیَّن، وَأَمَّا الأرقام والتحدیدات الَّتِی ذکرت ونحوها فهی إِنَّمَا جاءت بوحی من منطق أرسطو الَّذِی کان یفترض أن هناک عَدَداً یحکم العقل بداهةً باستحالة اجتماعه عَلَیٰ الکذب بناءً عَلَیٰ وجود بدیهة من هذا القبیل تکون قَضِیَّة قبلیة ویکون التَّوَاتُر والکشف التواتری کشفاً قِیَاسِیّاً مُسْتَمَدّاً من تلک الْقَضِیَّة القبلیة البدیهیة کما تصوّره أرسطو.

وَحِینَئِذٍ بناءً عَلَیٰ هذا یحق للإنسان أن یبحث ویفحص ویسأل أرسطو عن ذلک العدد والکمّ الْمُعَیَّن الَّذِی یحکم العقل بداهةً بامتناع کذبه، فتطرح هذه التحدیدات وأمثالها کنتیجة طبیعیة لمثل هذا التصور وهذا الطرز من التفکیر الأرسطی عن الْقَضِیَّة المتواترة.

ص: 376


1- (1) - انظر البدایة فِی علم الدرایة: الطبعة الحجریة الأولی: ص12-13.

وَأَمَّا بناءً عَلَیٰ ما ذکرناه من عدم وجود قَضِیَّة بدیهة عَقْلِیَّة قبلیة فِی المقام، وَإِنَّمَا الْقَضِیَّة المتواترة مرتبطة بحساب الاحتمالات، فَحِینَئِذٍ لا مانع من افتراض المرونة فِی هذا العدد والجانب الکمی الَّذِی هو جوهر التَّوَاتُر، فهو یتأثر ویختلف (کما قلنا آنِفاً) باختلاف العوامل المؤثرة فِی حساب الاحتمالات، فقد تحصل بعض تلک العوامل لإخبار خمسة أشخاص بشیء، فیحصل للإنسان الیقین بذاک الشیء، وقد لا تحصل تلک العوامل لإخبار عشرین شخصاً بشیء، فلا یحصل للإنسان الیقین به.

وهذه العوامل المؤثرة فِی حساب الاحتمالات وَبِالتَّالِی فِی إفادة التَّوَاتُر للیقین والعلم تنقسم إلی قسمین:

القسم الأَوَّل: عوامل مَوْضُوعِیَّة مختلفة ترتبط بالأخبار والشهادات أو بالمخبرین والشهود.

القسم الثَّانِی: عوامل ذَاتِیَّة مختلفة ترتبط بطبائع السامعین ومَن یُرَاد ثبوت الْقَضِیَّة له بالتواتر ونفسیاتهم ومتبنَّیاتهم ومشاعرهم.

فأما القسم الأَوَّل (أی: العوامل الموضوعیة) فلا یمکن إحصاء هذه العوامل تماماً، لکن المهم منها ما یلی:

العامل الأَوَّل: نوعیة الشهود والمخبرین من حیث الوثاقة، وکذلک من حیث النباهة، فکلما کان کُلّ واحد من الشهود والمخبرین أکثر وثاقةً وأصدق لهجةً کان حصول التَّوَاتُر أسرع وبعدد أقل، فَمَثَلاً حینما یکون المخبرون کلهم من طبقة الثقات فقد لا یحتاج التَّوَاتُر إلا إلی نصف ما یحتاجه التَّوَاتُر حینما یکونون من غیر الثقات أو من المجهولین، أو إلی رُبع ذلک أو عُشره.

وبرهان ذلک واضح؛ فإننا بعد أن فرضنا أن التَّوَاتُر إِنَّمَا تکون کاشفیته عن الواقع وإفادته للیقین بلحاظ تجمّع الاحتمالات الناشئیة من الشهادات والإخبارات وتراکمها حول محور واحد، إذن فکلما کانت مفردات هذه الاِحْتِمَالاَت أقوی فَسَوْفَ یکون الوصول إلی النَّتِیجَة أسرع؛ فالشاهدون والمخبرون إذا کان کُلّ واحد منهم ثقةً ویُظنّ بصدقه بدرجة احتمال ثمانین بالمائة مثلاً، إذن سوف تتجمع لدینا احتمالات عدیدة (بعدد المخبِرین) من وزن ثمانین بالمائة فِی صالح صدق الْقَضِیَّة وَفِی الْمُقَابِلِ یکون احتمال الکذب فِی کُلّ واحد عشرین بالمائة، وَمِنَ الطَّبِیعِیِّ حِینَئِذٍ أَنْ یَکُونَ الوصول إلی النَّتِیجَة سریعاً، بینما إذا کان کُلّ واحد من الْمُخْبِرِینَ والشهود إِنْسَاناً اِعْتِیَادِیّاً وکانت درجة احتمال صدقه خمسین بالمائة مثلاً، فَسَوْفَ تتجمّع لدینا احتمالات من وزن خمسین بالمائة فِی صالح صدق الْقَضِیَّة، ویکون احتمال الکذب فِی کُلّ واحد خمسین بالمائة. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الوصول إلی الیقین سوف یکون فِی هذا الفرض أبطأ حصولا منه فِی الفرض السابق.

ص: 377

إذن، فالوثاقة فِی کُلّ مخبِر توجب ازدیاد درجة کاشفیة خبره وقوة قیمة احتمال صدقه، وَبِالتَّالِی سرعة الوصول إلی الیقین، والعکس بالعکس. هذا عن الوثاقة.

وکذلک الأمر فِی النباهة؛ فکلّما کان کُلّ واحد من الْمُخْبِرِینَ أکثر نباهةً وأقوی حفظاً لما یتلقّاه من الواقع الْمَوْضُوعِیّ عن طریق الحسّ کان حصول التَّوَاتُر أسرع وبعدد أقل، والعکس بالعکس؛ وذلک بنفس البرهان والنکتة الَّتِی ذکرناها فِی الوثاقة، فنباهة کُلّ مخبِر إذن توجب أَیْضاً ازدیاد درجة کاشفیة خبره وقوة احتمال صدقه وَبِالتَّالِی سرعة الوصول إلی الیقین.

وهذه الزیادة فِی الْکَاشِفِیَّة والقوة فِی القیمة الاِحْتِمَالِیَّة ل_الوثاقة والنباهة هی أَیْضاً محکومة وخاضعة لقوانین حساب الاحتمالات وثابتة بهذا الملاک؛ فَإِنَّ کاشفیة کُلّ خبر إِنَّمَا تکون بحسب حساب الاحتمال وبحسب علم إجمالی کما عرفنا، فإذا أخذنا المخبِر بقطع النَّظَر عن أیّ استقراء خارجی فمن الممکن أن یُعطی لصدقه قیمة احتمالیة بدرجة خمسین بالمائة؛ وذلک عَلَیٰ أساس افتراض وجود علم إجمالی بأنه إما صادق وَإِمَّا کاذب، والعلم الإجمالی نسبته إلی الطرفین عَلَیٰ حَدّ واحد وکل واحد من الطرفین یأخذ نصف رقم الیقین.

إِلاَّ أَن هذا فرض تجریدی، بمعنی أن کون نسبة الصدق فِی هذا الخبر خمسین بالمائة إِنَّمَا هو مع فرض التجرد عن الاستقراء الخارجی لإخبارات هذا المخبِر، فنسبة خمسین بالمائة إِنَّمَا هی نسبة تجریدیة.

أَمَّا حینما تتوفر لدینا استقراءات بحسب الخارج ونلحظها فِی المقام فَسَوْفَ تختلف نسبة الصدق فِی هذا الخبر، بمعنی أننا إذا لاحظنا عدد صدق کُلّ إنسان فِی مجموع إخباراته فیما مضی ورأینا أن هذا المخبِر یصدق فِی کُلّ عشر مرّات خمس مَرَّات، إذن سوف تتطابق هذه النِّسْبَة الاستقرائیة مع تلک النِّسْبَة التجریدیة الآنفة الذکر، وهی عبارة عن خمسین بالمائیة.

ص: 378

لکن إذا فرض أننا رأینا (من خلال الاستقراء) أَنَّهُ یصدق فِی کُلّ عشر مَرَّات ثمانی مَرَّات (أی: فِی کُلّ عشرة إخبارات تکون ثمانیة منها صادقة).

إذن، فبعد ذلک سوف یکون احتمال صدق هذا الخبر بحسب حساب الاحتمال یعنی ثمانین بالمائة لا خمسین بالمائة؛ وَذَلِکَ لأَنَّ دواعی الصدق فیه أکثر من دواعی الکذب، وهذه مرتبة من مراتب الوثاقة، فتختلف حِینَئِذٍ النِّسْبَة الاستقرائیة مع تلک النِّسْبَة التجریدیة وتکون أزید منها.

وقد تکون النِّسْبَة الاستقرائیة أقل من تلک، کما إذا رأینا أَنَّهُ یصدق فِی کُلّ عشر مَرَّات مَرَّة واحدة، فهنا احتمال الصدق استقرائیا بِالنِّسْبَةِ إلیه بحساب الاحتمالات هو یعنی عشرة بالمائة، بینما کان احتمال الصدق تجریدیاً عبارة عن خمسین بالمائة.

ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وینبغی الانتباه إلی أن هذا النمط من الاستقراء وَحِسَاب الاِحْتِمَالِ الذی تقدم ذکره فی الجهة الأولی، باعتبار أن هذا النمط یفترض فیه تطابق الماضی والمستقبل، بینما لم یکن هذا مُفْتَرَضاً فی حِسَاب الاِحْتِمَال السَّابِق الذی طبّقناه بِالنِّسْبَةِ إلی ذاک الشخص الذی وجدنا علیٰ طاولة مطالعته کتباً عدیدة تبحث عن الوضوء، وکنا نستکشف بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ أن لدیه بحثاً فی الوضوء وأن تواجد کتب الوضوء علیٰ طاولة المطالعة لیس من باب الصدفة، فهناک لم نکن نرید أن نقیس المستقبل علیٰ الماضی، وَإِنَّمَا کنا نرید أن نتکلم عن الحاضر وعن هذه الواقعة المعینة ونستخرج قیمة الاحتمال فی ضوء المدارک والظواهر الموجودة فعلاً فحسب، من دون أن نلحظ شیئاً آخر.

ص: 379

وهذا بخلاف ما نحن فیه حیث نرید أن نقیس المستقبل علیٰ الماضی؛ فَإِنَّنَا إذا استقرأنا حیاة زید خلال عشر سنین ورأینا أَنَّهُ طیلة هذه السنین العشرة کان یصدق من بین کل عشرة إخبارات من إخباراته فی ثمانیة منها مثلا، حِینَئِذٍ نقول: إنه فی المستقبل أَیْضاً سوف تتکرر نسبة الصدق بنفس الدرجة، حیث سوف یصدق فی المستقبل أَیْضاً (من بین کل عشرة من إخباراته) فی ثمانیة منها کما کان فی السنین الماضیة، فنقیس المستقبل علیٰ الماضی.

فهذا الاستنتاج هنا لن یکون رِیَاضِیّاً بَحْتاً، بل هو متوقف علیٰ هذا القیاس والقول بأن نفس النِّسْبَة التی لاحظناها فی الماضی (وهی نسبة الصِّدْق فی إخبارات زید بدرجة، أی: ثمانیة بالمائة) سوف یحملها الْمُسْتَقْبَل وَتَتَکَرَّرُ فیه أَیْضاً، وهذه هی عقدة الاستقراء الَّتِی استعصت عَلَیٰ الفکر العلمی، وهی أَنَّهُ کیف وبأیّ مبرّر منطقی یمکن أن نفترض أن الْمُسْتَقْبَل سوف یکون کالماضی ویحمل نفس النِّسْبَة الَّتِی کانت ثابتةً فِی الْمَاضِیّ؟

فإن هذه العقدة تواجهها کُلّ الاستقراءات العلمیة التکراریة الَّتِی آمن بها العلم الحدیث کاستقراء تمدّد الحدید بعد تسلیط الحرارة علیه؛ فَإِنَّ هذه الاستقراءات جمیعاً تتضمّن هذه الفکرة وهذه المصادرة القائلة بقیاس الْمُسْتَقْبَل عَلَیٰ الْمَاضِیّ.

وقد کان الفلاسفة العقلیون یبرّرون هذه المصادرة عَلَیٰ أساس أن النِّسْبَة والعلاقة بین الحرارة وتمدّد الحدید مثلاً إِنَّمَا هی علاقة علّیّة، وعلاقة الْعِلِّیَّةِ عندهم هی علاقة ضروریة ذَاتِیَّة، وعلیه فقوانین الْعِلِّیَّة قوانین عَقْلِیَّة قبلیة، فإذا کان العقل یحکم بضرورة تمدد الحدید عند تسلیط الحرارة علیه (نَظَراً إلی أن الحرارة عِلَّة للتمدد، وَالْعِلِّیَّة تعنی الضرورة والحتمیة) إذن، فالماضی والمستقبل فِی ذلک شرع سَوَاء، وإذا کان الحدید ذاتاً فِی الْمَاضِیّ بنحو لو سلّطت الحرارة علیه لکان من الحتمی والضروری تمدّده، إذن فهو فِی الْمُسْتَقْبَل أَیْضاً کذلک.

ص: 380

إِلاَّ أَن الفکر الفلسفی الأروبی التجریبی منذ أن نادی دیفید هیوم بأن الْعِلِّیَّة والضرورة لیست علاقة یمکن إثباتها بالتجربة، استغنی عن علاقة الضرورة والحتمیة.

ومن هنا تحیّر هذا الفکر فِی أَنَّهُ کیف یمکن أن یفترض أن الْمُسْتَقْبَل سوف یحتفظ بنفس نسبة الْمَاضِیّ؟ فإن النِّسْبَة الثَّابِتَة فِی الْمَاضِیّ بین الحرارة والتمدّد إِنَّمَا هی نسبة التعاقب فحسب، أی: حصول التمدد عقیب الحرارة.

وعلیه، فکیف وبأیّ مبرّر منطقی یمکن أن نفترض أن هذا التعاقب سوف یکون ثابتاً فِی الْمُسْتَقْبَل أَیْضاً؟ وَبِالتَّالِی فمَن قال لنا إِنَّهُ فِی الْمُسْتَقْبَل إذا سلّطت الحرارة عَلَیٰ الحدید فَسَوْفَ یتمدّد وما لم نقس الْمُسْتَقْبَل عَلَیٰ الْمَاضِیّ فَسَوْفَ لا یثبت قانون علمی تجریبی.

هذه هی العقدة الَّتِی تواجهها کُلّ الاستقراءات العلمیة التکراریة الَّتِی آمن بها العلم الحدیث، وقد قام سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی کتابه الْقَیِّمِ الأُسَس المنطقیة للاستقراء بحل هذه العقلة وإزاحتها عن وجه العلم والقوانین العلمیة التَّجْرِیبِیَّة؛ فَإِنَّ هذا هو أحد المباحث المفصلّة المطروحة فِی هذا الکتاب.

وعلی کُلّ حال فلنرجع إلی محل الْکَلاَم، فَالتَّوَاتُرُ یَتَأَثَّرُ بقیمة مفرداته الَّتِی هی عبارة عن کُلّ خبرٍ خبر، وکل خبرٍ من هذه الأَخْبَار العدیدة تعتمد کَاشِفِیَّتُهُ عَلَیٰ حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، لکن لا مجرد حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ الرِّیَاضِیّ، بل حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ المنضمّ إلی هذه المصادرة والفکرة الْقِیَاسِیَّةِ بأن الْمُسْتَقْبَل کالماضی. وبعبارة أخری: إن حِسَاب الاِحْتِمَالِ فِی المقام لاَ بُدَّ من أن یُثْبِتُ أَیْضاً قَضِیَّة استقبالیة وهی أن کُلّ خبر إذا کان خبر ثقة فَسَوْفَ تکون قیمته الاِحْتِمَالِیَّة وَکَاشِفِیَّتُهُ عن الواقعِ أکثر وأکبر مِمَّا إذا لم یکن خبر ثقة، نَظَراً إلی أن الأمر فِی الْمَاضِیّ کان کذلک.

وهذا ما برهن علیه سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ وشرحه مُفَصَّلاً فِی هذا الکتاب وذکر مبرّرات هذه المصادرة.

ص: 381

هذا کله فِی العامل الأَوَّل من العوامل الموضوعیة المؤثرة فِی حساب الاحتمالات وَبِالتَّالِی فِی إفادة التَّوَاتُر للعلم والیقین.

العامل الثَّانِی: نوعیة الْقَضِیَّة الَّتِی تواتر نقلها من حیث کونها قَضِیَّة مألوفة أو قَضِیَّة غریبة، فَکُلَّمَا کانت الْقَضِیَّة فِی نفسها قَضِیَّة اعتیادیة ومتوقَّعة ومنسجمة مع سائر الْقَضَایَا المعلومة کان حصول التَّوَاتُر أسرع وکان بحاجة إلی عدد من الْمُخْبِرِینَ أقل مِمَّا إذا کانت الْقَضِیَّة بعیدة وغریبة وغیر مألوفة وغیر متوقعة ولا منسجمة مع سائر القضایا المعلومة؛ فَإِنَّ حصول التَّوَاتُر حِینَئِذٍ یکون أبطأ ویحتاج إلی عدد أکثر من الْمُخْبِرِینَ؛ لأَنَّ غرابة الْقَضِیَّة المخبَر عنها تُشَکِّلُ فِی نفسها عاملاً عکسیاً وتکون فِی صالح کذب الْقَضِیَّة وعدم صدقها وثبوتها فِی الواقع.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ قوة احتمال الْقَضِیَّة فِی نفسها وضعفه من العوامل الَّتِی یَتَأَثَّر بها التَّوَاتُر والیقین، فَکُلَّمَا کانت قیمة الاحتمال القبلی للقضیة، أی: احتمال الْقَضِیَّة فِی نفسها أقوی (کما إذا أخبر عدد من النَّاس بوجود دجاجة بیضاء) کان حصول التَّوَاتُر أسرع مِمَّا إذا کانت قیمة الاحتمال القبلی للقضیة أضعف (کما إذا أخبروا بوجود دجاجة ذات أربع قوائم)؛ فَإِنَّ قیمة احتمال وجود مثل هذه الدجاجة فِی نفسه أضعف من قیمة احتمال وجود دجاجة بیضاء، ولذا فإن إخبار عدد قلیل من النَّاس بأن الدجاجة بیضاء قد یوجب الیقین، لکن إخبار عدد أکبر من هذا بکثیر عن أن الدجاجة ذات أربع قوائم قد لا یوجب الیقین؛ لضعف الْقَضِیَّة المخبر بها فِی نفسها، وبُعدها وغرابتها، فتحتاج إلی شهادات أکثر بکثیر من الأَوَّل حتَّی یحصل لنا الیقین بها.

وبُعد الْقَضِیَّة وضعف قیمة احتمالها القبلی عَلَیٰ نحوین:

الأَوَّل: البُعد والضعف عَلَیٰ أساس حساب استقرائی فِی علل الْقَضِیَّة وأسباب وجودها فِی الطَّبِیعَة فِی نفسها، کما فِی مثال الدجاجة ذات القوائم الأربع؛ فَإِنَّ فروض وجود مثل هذه الدجاجة هو أمر بعید وضعیف جِدّاً وقلَّما یتفق فِی الطَّبِیعَة، وهذا الاستبعاد ناشئ من استقرائنا لعلل وجود الدجاجة وأسبابها الطبیعیة، فبالاستقراء ثبت أن عوامل تثنیة القوائم فِی الدجاج أکثر من عوامل التربیع فیها.

ص: 382

الثَّانِی: البُعد والضعف عَلَیٰ أساس کثرة البدائل المحتملة لتلک الْقَضِیَّة لا لحساب الاحتمالات فِی الأسباب والعلل، فَمَثَلاً إذا طرق بابک طارق لا تعرف مَن هو، فالطارق مردّد عندک بین آلاف من النَّاس؛ لأنهم جمیعاً یُحتمل فِی حقهم ذلک؛ فَإِنَّ آلافاً من النَّاس یطرقون الباب عادةً، فاحتمال أَنْ یَکُونَ الطارق زیداً هو احتمال من واحد من مجموع آلاف احتمال، فهو احتمال ضعیف جِدّاً؛ إذ له بدائل محتملة کثیرة. فاستبعاد کون الطارق زیداً وضعف احتماله ناشئ من کثرة البدائل المحتملة لا من استقرائنا لعلل کون الطارق زیداً.

وَما قلناه من أن بُعد الْقَضِیَّة وضعف قیمة احتمالها القبلی فِی نفسه یؤدی إلی بُطء عملیة التَّوَاتُر إِنَّمَا هو فِی النَّحْو الأَوَّل من الضعف والاستبعاد، وهو فِی ما إذا کانت الْقَضِیَّة المتواترة بعیدة الاحتمال فِی حَدّ ذاتها، فیحتاج إثباتها بِالتَّوَاتُرِ وحصول الیقین بها إلی عددٍ أکبر (من الْمُخْبِرِینَ) مِمَّا إذا کانت قَضِیَّة طبیعیة فِی نفسها، وهذا شیء مطابق مع الوجدان؛ لأَنَّهُ فِی الأَخبار الغریبة یحتاج حصول الیقین بها إلی شهاداتٍ أکثر.

ونکتة ذلک أن کاشفیة التَّوَاتُر إِنَّمَا هی بتقویة الاحتمال الثابت للقضیة فِی نفسها؛ إذ کلما کان هذا الاحتمال القبلی للقضیة أضعف احتاج ثبوتها وحصول الیقین بها إلی شهادات أکثر، ولا ینطبق هذا عَلَیٰ النَّحْو الثَّانِی من البعد والضعف للاحتمال القبلی للقضیة، وهو الناشئ من کثرة البدائل لها، کما فِی مثال الطارق للباب المردّد بین آلاف؛ لأَنَّ هذا النَّحْو من الضعف والبُعد للاحتمال القبلی للقضیة المنقولة (وهی أن زیداً هو الطارق) لا یضّر بِکَاشِفِیَّة کُلّ واحدة من الشهادات؛ بدلیل أَنَّهُ قد یحصل الیقین بأن الطارق هو زید من خلال إخبار شخص واحد ثقة بذلک.

ص: 383

فلو کان ضعف احتمال کون الطارق زیداً مضراً بِکَاشِفِیَّة الشهادة لَمَا حصل الیقین من خلال هذه الشهادة الواحدة؛ لأَنَّ المفروض تضرّر هذه الشهادة بهذا الضعف، بینما لَیْسَ الأمر کذلک.

وهذا بخلاف النَّحْو الأَوَّل من البُعد والضعف للاحتمال القبلی للقضیة، وهو الناشئ من استقراء علل الْقَضِیَّة وأسبابها، کما فِی مثال الإخبار بوجود دجاجة ذات قوائم أربع؛ فَإِنَّ هذا النَّحْو من الضعف والبُعد للاحتمال القبلی للقضیة المنقولة یضرّ بِکَاشِفِیَّة کُلّ واحدة من الشهادات، ولذا فلا یحصل (عادةً) الیقین بمثل هذه الْقَضِیَّة من خلال إخبار شخص واحد مهما کان ثقةً؛ لأَنَّ الضعف المذکور قد أضر بِکَاشِفِیَّة هذا الإخبار وهذه الشهادة.

وقد برهن سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ عَلَیٰ نکتة الْفَرْق بین هذین القسمین من الاستبعاد للقضیة فِی کتابه الْقَیِّمِ الأُسَس المنطقیة للاستقراء، ولا نحتاج فِی المقام إلی ذلک ذاک البرهان، بل یکفینا (لغرضنا الفقهی والأصولی) انطباق ذلک عَلَیٰ الوجدان، حیث أن الْفَرْق وجدانی (کَمَا عَرَفْتَ).

ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

العامل الثَّالِث: نوعیة الشهود والمخبرین من حیث تباین ظروفهم وتباعد مسالکهم وعدمه، فبقدر ما یشتدّ التباعد والتباین بینهم فی أوضاعهم الحیاتیة والثقافیة والاجتماعیة یصبح احتمال اشتراکهم جمیعاً فی کون هذا الإخبار الْخَاصّ ذا مصلحة شخصیة داعیة إلیه بِالنِّسْبَةِ إلی جمیع أولئک المخبرین علیٰ ما بینهم من اختلافٍ فی الظروف أبعد وأضعَف بحسب حِسَاب الاِحْتِمَالِ، وبالتالی کان حصول الیقین من شهاداتهم وإخباراتهم أسرع وکان بحاجة إلی عدد أقلّ، والعکس أَیْضاً صحیح، فَکُلَّمَا اشتدّ التقارب والاتفاق بینهم بحسب ظروفهم وأسالیب حیاتهم کان حصول الیقین من شهاداتهم أبطأ وکانت کاشفیة التواتر محتاجة لعددٍ أکثر؛ لأَنَّ احتمال وجود غرض مشترک ومصلحة داعیة لهم جمیعاً إلی الکذب هنا أقوی منه فی الفرض السابق؛ لتقارب ظروفهم وتوافق أسالیب حیاتهم واتحاد ظروفهم.

ص: 384

وهذا مطلب أدرکه القدماء أَیْضاً بفطرتهم، فلذا اشترط بعضهم فی التواتر أن یکون الشهود والمخبرِین من بلدان عدیدة، واشترط البعض الآخر أن یکون الشهود من ملل وأدیان عدیدة ومختلفة، ونحو ذلک من الاشتراطات والمحاولات التی تشیر کلها إلی جوهر النکتة الذی ذکرناه، وهو أن جوهر التواتر هو حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ وهذا العامل مؤثّر علیٰ حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ وسرعتها نَفْیاً وَّإِثْبَاتاً؛ فَکُلَّمَا کان عدد المخبرین أکثر کان احتمال وجود غرض ومصلحة شخصیة فی الإخبار أبعد، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هؤلاء کلما کانوا متباینین فی الظروف والمصالح والأغراض یصبح احتمال اتفاقهم فی الغرض والمصلحة الشخصیة أبعد، وَحِینَئِذٍ تکون شهاداتهم أقوی احتمالاً وأسرع للیقین.

العامل الرابع: نوعیة الظروف الْخَاصَّة لکل مخبِر بالقدر الذی یبعّد أو یقرّب (بحسب حِسَاب الاِحْتِمَالِ) افتراض مصلحة شخصیة له دعته إلی الإخبار بذاک الشکل؛ فقد نطّلع علیٰ أن المخبِر صدیق للمخبَر عنه مَثَلاً، فهذا سوف یبعّد لدینا افتراض مصلحة شخصیة له فی الإخبار بهذا الشکل والافتراء علیٰ صدیقه، وقد لا یکون المخبر صدیقاً له لکن توجد فیه خصوصیة أخری تکون عاملاً مساعداً لإثبات صدقه بِحِسَابِ الاِحْتِمَالِ؛ لأَنَّ افتراض مصلحة خاصة تدعوه إلی الافتراء بعید، ومن هذا القبیل ما إذا نقل غیر الشیعی ما یدل علیٰ إمامة أهل البیت ^.

وقد نطّلع علیٰ أن المخبِر عدوّ للمخبَر عنه، فهذا سوف یقرّب لدینا افتراض المصلحة الشخصیة له فی الإخبار بهذا الشکل والافتراء علیه لعدائه له، کما أن العداء قد یکون عَامِلاً مُسَاعِداً لإثبات صدقه، کما إذا نقل الناصبیّ أو الأمویّ فضیلةً لعلیّ ×.

العامل الخامس: کیفیة تلقّی الْقَضِیَّة المتواترة من قبل کل مخبِر مخبِرٍ ودرجة وضوح المدرَک المدّعی للمخبرین؛ ففرق بین الشهادة بقضیة حسّیّة مباشرةً کنزول المطر، وبین الشهادة بقضیة لیست حسیة، وَإِنَّمَا لها مظاهر حسیة کالعدالة؛ فَإِنَّ نسبة الخطأ فی المجال الأَوَّل أقل منها فِی المجال الثَّانِی، وبهذا کان حصول الیقین فِی المجال الأَوَّل أسرع.

ص: 385

وَالْحَاصِلُ أَنَّه کلما کانت الْقَضِیَّة المشهود بها مِنْ قِبَلِ الشهود والمتلقّاة لهم أکثر حسیةً، أی: أقرب إلی الحس وأبعد عن النَّظَر والرأی کان حصول التَّوَاتُر والیقین بها أسرع وکان ذلک بحاجة إلی عدد أقل، والعکس بالعکس أَیْضاً، فَکُلَّمَا کانت الْقَضِیَّة أقل حسیةً (أی: أبعد عن الحس وأقرب إلی النَّظَر والرأی) تطلّب حصول الیقین بها عَدَداً أکثر من الْمُخْبِرِینَ؛ فَالتَّوَاتُرُ فِی نزول المطر یحصل بعدد أقل من التَّوَاتُر فِی عدالة زید، فلو فرض أننا نحتاج فِی حصول التَّوَاتُر فِی نزول المطر إلی عشر شهادات، فَسَوْفَ نحتاج فِی حُصُول التَّوَاتُر فِی عدالة زیدٍ إلی عدد أکثر من الشهادات کی یحصل لنا الیقین.

والسر هو أَنَّهُ کلما کانت الْقَضِیَّة أقرب إلی الحس کانت أقرب إلی الصِّدْق والواقع، وعلیه فنکتة تأثیر هذا العامل واضحة عَلَیٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ؛ فَإِنَّ الْقَضِیَّة الحسیّة کنزول المطر لمّأ کان احتمال الخطأ والاشتباه فیها أقل، إذن ففی مقام تجمیع القرائن والاحتمالات لصالح صدقها سوف نواجه احتمالات أکبر قیمةً، فتتجمّع لدینا احتمالات قویّة وأقرب إلی الیقین، فیکفی عدد قلی من الْمُخْبِرِینَ، بخلاف الْقَضِیَّة غیر الحسیة کعدالة زید؛ فَإِنَّهُ ما دام احتمال الخطأ والاشتباه فیها أکثر، إذن ففی مقام تجمیع القرائن والاحتمالات لصالح صدقها سوف نواجه احتمالات أصغر قیمةً، فتتجمع لدینا احتمالات ضعیفة وأبعد عن الصِّدْق وحصول الیقین، فنحتاج إلی عدد أکثر من الْمُخْبِرِینَ کما هو واضح.

هذا هو المهم من القسم الأَوَّل (أی: العوامل الموضوعیة الَّتِی تؤثّر فِی إیجاد الیقین أو فِی المنع منه عَلَیٰ أساس دخلها فِی حساب الاحتمال وتقییم درجته.

وَأَمَّا القسم الثَّانِی (أی: العواملَ الذَّاتِیَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ فِی حصول الیقین سرعةً وُبطأً) فهی أَیْضاً لا یمکن إحصاؤها تماماً، لکن نذکر منها فِی المقام ثلاثة بعد التَّنْبِیه عَلَیٰ أن هذه العوامل الذَّاتِیَّة تختلف عن العوامل الموضوعیة المتقدمة فِی أَنَّهَا لا دخل لها فِی حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ خِلاَفاً لتلک (کَمَا عَرَفْتَ)، لکنها تؤثّر فِی نفس الإنسان بحسب مزاجه؛ لأَنَّهَا ترتبط بالسامع ومَن یُرَاد ثبوت الْقَضِیَّة له بِالتَّوَاتُرِ، والعوامل الثَّلاَثة هی:

ص: 386

العامل الأَوَّل: قدرة الذِّهْن عَلَیٰ الاحتفاظ بالاحتمالات الضئیلة وعدمها؛ فَإِنَّ طباع النَّاس تختلف فِی ذلک؛ فهناک حَدّ أعلی من الضآلة لا یمکن لأی ذهن بشری أن یحتفظ بالاحتمال الَّذِی یبلغ ذاک الحد، مثل احتمال واحد من ملیون احتمال؛ فَإِنَّ مثل هذا الاحتمال لا یقدر الذِّهْن البشری عَلَیٰ الاحتفاظ به، فإذا بلغ احتمال خلاف الْقَضِیَّة المتواترة إلی هذا الحد من الضآلة فَسَوْفَ یزول من الذِّهْن واقعاً ویحصل للإنسان الیقین بالقضیة المتواترة.

أَمَّا الاحتمال الَّذِی لم یبلغ هذا الْحَدّ من الضآلة، بل هو أکبر منه، فالأذهان تختلف فِی القدرة عَلَیٰ الاحتفاظ به وعدم القدرة عَلَیٰ ذلک:

فقد یکون الذِّهْن ذهناً متعارفاً اعتیادیاً، بِمَعْنَی أَنَّهُ یحتفظ بالاحتمالات الَّتِی یحتفظ بها النَّاس عادةً فِی أذهانهم (مثل احتمال عشرین بالمائة)، حیث أن النَّاس یحتفظون به عَمَلِیّاً، فلا یحصل لهم الیقین بقضیةٍ ما دام احتمال خلافها بالغاً إلی درجة عشرین بالمائة، ولا یحتفظ بالاحتمالات الَّتِی لا یحتفظ بها النَّاس عادةً فِی أذهانهم (مثل احتمال واحد بالمائة) حیث أن النَّاس لا یحتفظون به عَمَلِیّاً بل یحصل لهم الیقین بقضیةٍ إذا کان احتمال خلافها واحداً بالمائة، فمثل هذا الإنسان صاحب هذا الذِّهْن المتعارف یعتبر إِنْسَاناً اِعْتِیَادِیّاً فِی تصدیقه وقطعه بالأشیاء، فلا هو بطیء الیقین ولا هو سریع الیقین، بل هو متعارف الیقین.

وقد لا یکون الذِّهْن ذهناً متعارفاً اِعْتِیَادِیّاً بهذا المعنی، بل هو ذهن شَاذّ منحرف عن الْحَدّ الاعتیادی ومبتلی بما یخرجه عن الحالة المتعارفة، وما یخرجه عن الحالة المتعارفة:

تَارَةً یکون عبارة عن سرعة الیقین بِمَعْنَی أَنَّهُ لا یحتفظ بالاحتمالات الَّتِی یحتفظ بها النَّاس عَادَةً فِی أذهانهم کاحتمال عشرین بالمائة، بل یلغیها ویحصل له الیقین بالقضیة؛ فحصول التَّوَاتُر والیقین لمثل هذا الإنسان بالقضیة المتواترة لا یحتاج إلی عدد کبیر من الْمُخْبِرِینَ.

ص: 387

وأخری یکون عبارة عن بطء الیقین، بِمَعْنَی أَنَّهُ یحتفظ بالاحتمالات الضئیلة والصغیرة الَّتِی لا یحتفظ بها الآخرون، کاحتمال واحد بالمائة مثلاً، ولا یلغیها ویحصل له الیقین بالقضیة؛ فحصول الیقین وَالتَّوَاتُر لمثل هذا الإنسان بالقضیة المتواتر یحتاج إلی عدد کبیر من الْمُخْبِرِینَ.

وقد بحثنا هذه الحالات وأحکامها مُفَصَّلاً فِی مباحث القطع عند الحدیث عن قطع القطاع، ولا نرید الدخول فِی ذاک البحث هنا، وَإِنَّمَا المقصود فِی المقام هُوَ أَنَّ مِن جملة العوامل الذَّاتِیَّة الْمُؤَثِّرَة فِی باب التَّوَاتُر حالة البطء أو السرعة الذَّاتِیَّة للذهن الَّتِی یختلف النَّاس فیها اختلافاً ذَاتِیّاً حتَّی مع وحدة الدَّلِیل الْمَوْضُوعِیّ عَلَیٰ الْقَضِیَّة، فجماعة واحدة تشهد عند زید بقضیة، وتشهد عند عمرو بنفس الْقَضِیَّة، فیحصل للأول الیقین بالقضیة دون الثَّانِی أو بالعکس؛ فَکُلَّمَا کانت الحالة الذهنیة الذَّاتِیَّة للإنسان أسرع کان حصول التَّوَاتُر والیقین بالقضیة المتواترة بِالنِّسْبَةِ إلیه أسرع، وکلما کانت أبطأ کان حصول التَّوَاتُر والیقین بِالنِّسْبَةِ إلیه أبطأ.

ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

العامل الثَّانِی: المتبنَّیات القبلیة للإنسان الَّتِی قد توقف الذِّهْن وتشکّل فیه حرکة حساب الاحتمال وإن لم تکن إلاَّ وهماً خالصا لا منشأ موضوعی له، وشبهةً لا مبرّر واقعی لها، لکنها عَلَیٰ کُلّ حال تؤثر أثرها باعتبار أن الإنسان یتبنّاها ویؤمن بها ویراها مطابقة للواقع وإن لم تکن کذلک حقیقةً؛ فالإنسان الَّذِی کان لمدّة بعیدة من الزمن معتقداً بخلاف الْقَضِیَّة المتواترة أو کانت لدیه شبهة حولها، بحیث أصبح هذا الاعتقاد أو الشبهة عَادَةً نفسانیةً وأُلفةً ذهنیةً له، فمثل هذا الاعتقاد أو الشبهة یُشَکِّل مَانِعاً ذَاتِیّاً نَفْسِیّاً وَعَقْلِیّاً یقف أمام حصول الیقین بالقضیة المتواترة، بحیث یکون تأثیر التَّوَاتُر حِینَئِذٍ فِی إفادة الیقین أبعد وأبطأ من تأثیره فیما إذا لم یکن یوجد لدیه اعتقاد أو شبهة من هذا القبیل، ویحتاج إلی عدد أکثر من الشهود والمخبرین.

ص: 388

العامل الثَّالِث: مشاعر الإنسان العاطفیة الَّتِی قد تزید أو تنقص من قیمة احتمال کُلّ خبر خبرٍ لدی الإنسان، أو تزید أو تنقص من قدرة الإنسان عَلَیٰ التشبّث بالاحتمال الضَّئِیل تَبَعاً للتفاعل معه إِیجَاباً وَسَلْباً؛ فالإنسان وإن کان قد خلقه الله تبارک وتعالی مرکبّاً من عقل وعاطفة، لٰکِنَّهُ أحیاناً یحکّم عاطفته عَلَیٰ عقله، وَحِینَئِذٍ فقد تکون الْقَضِیَّة المتواترة الَّتِی یُرَاد إثباتها بِالتَّوَاتُرِ وشهادات الشهود عَلَیٰ خلاف مشاعره وعواطفه وأشواقه، بنحو بحیث یشکّل حبّه وشوقه لضد الْقَضِیَّة المتواترة حجاباً بینه وبین إدراکه العقلی للحقیقة، فتکون هذه الحالة موجبةً لبطء حصول الیقین له بِالْقَضِیَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وتوجب أَیْضاً الافتقار إلی عدد أکثر من الشهود والمخبرین.

وهذا بخلاف ما إذا حکّم عقله؛ فَإِنَّهُ حِینَئِذٍ یزول ذاک الحجاب العاطفی ویستطیع العقل مع عدد قلیل من الشُّهُود أن یسیطر عَلَیٰ العاطفة ویدرک الحقیقة.

وبعبارة أخری: التفاعل العاطفی مع الاِحْتِمَالاَت الضَّئِیلة والضعیفة إِیجَاباً یوجب ازدیاد قدرة الإنسان عَلَیٰ التشبّث بهذه الاِحْتِمَالاَت وَبِالتَّالِی بطء حصول الیقین، کما أن التفاعل العاطفی معها سَلْباً یوجب نقصان قدرته عَلَیٰ التشبّث بها وَبِالتَّالِی سرعة حصول الیقین کما هو واضح.

وبهذا تَمَّ الْکَلاَم عَمَّا هو المهم من القسم الثَّانِی، أی: العوامل الذَّاتِیَّة الَّتِی تؤثر فِی إیجاد الیقین أو فِی الحیلولة دون حصوله فِی باب التَّوَاتُر عَلَیٰ أساس دخلها فِی نفسیّة السامع ومن یُرَاد ثبوت الْقَضِیَّة له بِالتَّوَاتُرِ، وبذلک تَمَّ الْکَلاَم فِی الجهة الثَّانیة.

الجهة الثَّالثة: التَّوَاتُر مع الواسطة

أَمَّا الجهة الثالثة: ففی التَّوَاتُر غیر المباشر، وتوضیح الْکَلاَم فِی ذلک: أن الْقَضِیَّة الأصلیة المطلوب إثباتها بِالتَّوَاتُرِ وَالَّتِی نسمّیها بِالْقَضِیَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ:

تَارَةً یتلقاها الإنسان مباشرةً فیستمع بنفسه للشهادات والإخبارات الَّتِی یتکون منها التَّوَاتُر، کما إذا أخبرک (بصورة مباشرة) العدید من النَّاس بموت زید مثلاً؛ فَإِنَّ هذه الإخبارات والشهادات محسوسة لک بصورة مباشرة، وهذا هو التَّوَاتُر المباشر حیث أن الإنسان یعاصر مفردات هذا التَّوَاتُر ولا کلام فیه.

ص: 389

وأخری: لا تکون موضعاً للإخبار المباشِر للإنسان فِی الإخبارات والشهادات المحسوسة له ولا یتلقّاها مباشرةً، بل یستمع للشهادات والإخبارات الَّتِی تنقل له هذا التَّوَاتُر مِنْ دُونِ أن یعاصر هو مفرداته الَّتِی یتکوّن منها، فَالتَّوَاتُرُ منقول له بالواسطة، وهذا هو التَّوَاتُر غیر المباشر، وهو الغالب فِی الروایات، حیث أن الْقَضِیَّة الأصلیة المطلوب إثباتها بالروایات (وهی عبارة عن صدور الدَّلِیل الشَّرْعِیّ من الْمَعْصُوم ×) لیست موضعاً للإخبارات الَّتِی استمعنا إلیها مباشرةً والشهادات الَّتِی أحسسنا بها؛ فَإِنَّ الرواة والمخبرین الَّذِی استمعنا إلیهم نحن مباشرة وأحسسنا بشهاداتهم لم ینقلوا لنا صدور الدَّلِیل الشَّرْعِیّ (من قبیل کلام الْمَعْصُوم ×) وَإِنَّمَا نقلوا لنا عن رواةٍ آخرین أنّهم سمعوا من الْمَعْصُوم × کذا وکذا؛ فالقضیة المطلوب إثباتها منقولة لنا بواسطة شهادات أخری، فإذا کانت الْقَضِیَّة متواترة فنحن لم نعاصر مفردات هذا التَّوَاتُر، وَإِنَّمَا مفرداته منقولة لنا.

وَحِینَئِذٍ یقع الْکَلاَم فِی أَنَّهُ کیف تثبت عندنا الْقَضِیَّة المتواترة ثُبُوتاً قَطْعِیّاً؟ وهل یکفی فِی مقام الثبوت القطعی لها بِالنِّسْبَةِ إلینا أن یَنقل لنا عن کُلّ واحدٍ من الرواة الآخرین (الذین سمعوا الْکَلاَم من الْمَعْصُوم ×) شخص واحد، فتکون کُلّ مفردة من مفردات التَّوَاتُر منقولة لنا بخبر واحد؟

فَمَثَلاً إذا فرضنا أنفسنا فِی الطبقة الثَّالثة الَّتِی هی بعد طبقة الصحابة وطبقة التابعین، وهی طبقة تابعی التابعین الذین لم یدرکوا النَّبِیّ ولا الصحابة، بل أدرکوا التابعین الذین أدرکوا الصحابة، وفرضنا أن الْحَدّ الأدنی والأقل للتواتر هو إخبار مائة شخص، وفرضنا أن الصحابة الذین نقلوا حدیث الغدیر عن النَّبِیّ وکوّنوا التَّوَاتُر هم مائة صحابی، فمفردات التَّوَاتُر الَّتِی لم نعاصرها نحن، إذن إخبارات مائة صحابی، فهل یکفی فِی حصول التَّوَاتُر مع الواسطة أن ینقل لنا (نحن تابعی التابعین) عن کُلّ صحابیٍّ تابعیٌّ واحد، فیکون فِی الطبعة الأولی (طبقة الصحابة) مائة راوٍ، وفی الطبقة الثَّانیة (طبقة التابعین) مائة راوٍ، وتکون کُلّ مفردة من مفردات التَّوَاتُر (أی: کلّ خبر صحابیّ) منقولة لنا بخبر واحد، أم أن التَّوَاتُر مع الواسطة مشروط بحصول التَّوَاتُر (فِی کُلّ طبقة متأخرة) عَلَیٰ کُلّ نقلٍ من نُقُول الطبقة المتقدمة؛ ففی المثال المتقدم لاَ بُدَّ لنا (نحن الطبقة الثَّالثة) من أن نحرز کُلّ واحدة من مفردات التَّوَاتُر (أی: کُلّ خبر صحابی) بِالتَّوَاتُرِ (أی: بإخبار مائة تابعی)، فلا یکفی أن ینقل لنا عن کُلّ صحابی تابعی واحد، بل یحتاج إثبات المتواتر وإحرازه بنحو قطعی إلی أن یتوافر النقل عن کُلّ صحابی، فیکون فِی الطبقة الأولی (طبقة الصحابة) مائة راوٍ، وفی الطبقة الثَّانیة (طبقة التابعین) عشرة آلاف راوٍ، وفی الطبقة الثَّالثة (طبقة تابعی التابعین) ملیون راوٍ، وهکذا..؟

ص: 390

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ هل یکفی فِی التَّوَاتُر مع الواسطة نقلٌ واحد عن واحد، أم لاَ بُدَّ من حصول التَّوَاتُر فِی کُلّ حلقة وطبقة؟

ذهب الأصحاب إلی الثَّانِی وقالوا: إن التَّوَاتُر مع الواسطة مشروط بحصول التَّوَاتُر فِی کُلّ حلقة وطبقة، ولا یکفی نقل واحد عن واحد، فلو فرضنا أن أقل التَّوَاتُر مائة والناقلون المباشرون للقضیة (کالصحابة فِی المثال) کانوا مائة، فَلاَ بُدَّ فِی الطبقة الثَّانیة من أن یتواتر نقلُ کُلّ واحد من الطبقة الأولی بمائة نقل، وَلاَ بُدَّ فِی الطبقة الثَّالثة من أن یتواتر نقل کُلّ واحد من الطبقة الثَّانیة بمائة نقل، وهکذا الحال فِی سائر طبقات الرواة إلی أن ینتهی الأمر إلینا ومن دون ذلک لا یثبت التَّوَاتُر بِالنِّسْبَةِ إلینا؛ وَذَلِکَ لأَنَّ کُلّ نقلٍ واقعة وحادثةٌ مستقلةٌ عن النقل الآخر، فَلاَ بُدَّ من إحراز کُلّ نقل بِالتَّوَاتُرِ، فلا یکفی أن ینقل مثلاً عن کُلّ صحابی تلمیذه التابعی، وَبِالتَّالِی فلا یکفی أن ینقل مائة تابعی عن مائة صحابی حدیث الغدیر وإن کان هذا العدد (أی: المائة) هو عدد التَّوَاتُر الَّذِی یستحیل تواطؤهم عَلَیٰ الکذب؛ لأَنَّ مائة صحابی وإن کان یمتنع تواطؤهم عَلَیٰ الکذب، وکذلک مائة تابعی، إلا أَنَّهُ لَیْسَ من المستحیل تواطؤ خمسین صحابیاً وکذلک تواطؤ خمسین تابعیاً عَلَیٰ الکذب، وَحِینَئِذٍ فلا یثبت نقل مائة عن مائة. هذا ما قالوه وذکروه.

وهذا التصویر للتواتر مع الواسطة وإن کان صحیحاً بمعنی أن التَّوَاتُر یتحقق به بلا إشکال، إِلاَّ أَن وقوعه خارجاً لا یعدو عادةً أَنْ یَکُونَ أَمْراً خیالیاً، وبذلک یُصبح ثبوت التَّوَاتُر فِی الروایات بِالنِّسْبَةِ إلینا أَمْراً مثالیاً خیالیاً لا یتّفق له مصداق عادةً إلا فِی البدیهیات والضروریات الَّتِی لا تحتاج إلی إثبات.

ص: 391

ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

والصحیح أَنَّهُ یکفی فِی التَّوَاتُر مع الواسطة نقل واحد عن واحد ولا یشترط فیه حصول التَّوَاتُر فِی کُلّ حلقة وطبقة، وهذا إِنَّمَا یَتُِمّ بناءً عَلَیٰ مسلکنا فِی کاشفیة التَّوَاتُر ومنطقنا فِی فهم التَّوَاتُر، ولا یَتُِمّ بناءً عَلَیٰ المنطق المتعارف فِی فهم التَّوَاتُر؛ لأَنَّ میزان الْکَاشِفِیَّة عَلَیٰ مبنانا هو حساب الاحتمالات وتجمیع القیم الاِحْتِمَالِیَّة لِکُلّّ خبر خبرٍ عَلَیٰ مرکز واحد وتعاضدها فیما بینها وتضاؤل احتمال الکذب والخطأ فِی الجمیع بِالضَّرْبِ إلی أن یحصل العلم والیقین بسبب ذوبان الاِحْتِمَال الضَّئِیل فِی النفس.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا لا یتوقف عَلَیٰ ما قالوه من التَّوَاتُر فِی کُلّ حلقة وطبقة، بل یتحقق حتَّی مع نقل واحد عن واحد؛ فإننا نبدأ بعملیة تجمیع القرائن والقیم الاِحْتِمَالِیَّة (عَلَیٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَال) من القیم الاِحْتِمَالِیَّة للخبر غیر المباشر، فنلحظ القیمة الاِحْتِمَالیّةَ للقضیة الَّتِی یُخبر شخص عن وجود مخبِر بها، ونجمعها مع قیم احتمالیة مماثلة حتَّی یحصل الإحراز الوجدانی؛ ففی المثال نأخذ کُلّ خبر واحد ینقل حدیث الغدیر بواسطة أو بوسائط ونضیف قیمته الاِحْتِمَالِیَّة إلی الخبر الآخر الَّذِی ینقل أَیْضاً الحدیث بواسطة أو بوسائط وهکذا تتعاضد القیم الاِحْتِمَالِیَّة ویتضاءل احتمال کذب الجمیع أو خطئهم بسبب الضرب إلی أن یحصل العلم وَالْیَقِینُ بصدور الحدیث من النَّبِیّ نتیجةَ ذوبان الاحتمال الضَّئِیل فِی النفس.

فلو فرضنا مثلاً أننا فِی عصر الطبقة الثَّالثة (أی: تابعی التابعین) وسمعنا التابعین یروون عن الصحابة عن النَّبِیّ حدیثَ الغدیر وافترضنا أن النَّاقِل عن کُلّ صحابی إِنَّمَا هو تابعی واحد ولم تتواتر شهادة کُلّ صحابی، فهنا یوجد لدینا عدد من الشهادات، کُلّ واحدة منها شهادة مرکّبة، یعنی أن کُلّ تابعی یشهد لنا بشهادة صحابی بصدور الحدیث من النَّبِیّ ، فنأخذ واحدةً من هذه الشهادات (کشهادة تابعی بشهادة عمر بصدور الحدیث من النَّبِیّ ) ونلحظ قیمتها الاِحْتِمَالِیَّة، ونأخذ شهادةً أخری من هذه الشهادات (کشهادة تابعی آخر بشهادة ابن مسعود بصدور الحدیث نم النَّبِیّ ) ونلحظ قیمتها الاِحْتِمَالِیَّة ونضیفها إلی القیمة الاِحْتِمَالِیَّة للشهادة الأولی، ونأخذ شهادة ثالثة من هذه الشهادات (کشهادة تابعی ثالث بشهادة جابر بصدور الحدیث من النَّبِیّ ) ونلحظ قیمتَها الاِحْتِمَالیَّةَ لصدور الحدیث من النَّبِیّ ویتضاءل احتمال کذب الجمیع وخطئهم بسبب ضرب قیمة احتمال کذب کُلّ واحد أو خطئه فِی قیمة احتمال کذب الآخر أو خطئه، إلی أن یحصل العلم والیقین بِالصُّدُورِ وذلک نتیجةَ ذوبان الاحتمال الضَّئِیل فِی النفس.

ص: 392

إن هذا الطریق صحیح وتام لحصول التَّوَاتُر مع الواسطة بلا حاجة إلی حصول التَّوَاتُر فِی کُلّ حلقة وطبقة، وذلک عَلَیٰ مبنانا المتقدّم فِی حَقِیقَة التَّوَاتُر الَّذِی یربط کاشفیة التَّوَاتُر بحساب الاحتمالات وتجمیع القیم الاِحْتِمَالِیَّة لِکُلّ مفردة من مفردات التَّوَاتُر.

غیر أن هذا الطریق یکلّفنا فِی التَّوَاتُر غیر المباشر ومع الواسطة افتراض عدد من الشهادات غیر المباشرة أکبر من العدد الَّذِی نحتاج إلیه فِی التَّوَاتُر المباشر وبلا واسطة من الشهادات المباشرة؛ لأَنَّ مفردات الجمع فِی الشهادات غیر المباشرة أصغر وأضعف قیمةً منها فِی الشهادات المباشرة.

وبعبارة أخری: القیمة الاِحْتِمَالِیَّة للخبر مع الواسطة أضعف من القیمة الاِحْتِمَالِیَّة للخبر بلا واسطة.

والنکتة فِی الأَضْعَفِیَّة هی أن الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لِکُلّ خبر مع الواسطة ودرجة کَاشِفِیَّته عن صدور الحدیث عن الْمَعْصُوم × إِنَّمَا تُحسب من خلال ضرب قیمة احتمال صدق المخبر الأَوَّل فِی قیمة احتمال صدق المخبر الثَّانِی، وبالضرب تنزل قیمة الاحتمال، ففی فرضنا السابق عندما نأخذ کُلّ واحدة من الشهادات المرکّبة (أی: شهادة هذا التابعی ونقله عن هذا الصحابی صدور الحدیث النبوی الشریف ) ونرید أن نلحظ الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لهذه الشهادة غیر المباشرة وهذا الخبر مع الواسطة، ونرید أن نعرف درجة کَاشِفِیَّته عن صدور الحدیث النبوی لاَ بُدَّ لنا من أن نضرب قیمة احتمال صدق التابعی فِی قیمة احتمال صدق الصحابی، فلو فرضنا بِمُقْتَضَیٰ الأصل الأوّلی أن قیمة احتمال صدق التابعی خمسون بالمائة (أی: ).

فعلی تقدیر صدقه وکون الصحابی قد نقل له حَقّاً حدیث الغدیر یأتی دور نقل الصحابی، وأنه هل کان صادقاً فِی النقل وأن الحدیث صادر حَقّاً من النَّبِیّ ؟

فهنا أَیْضاً احتمال صدق الصحابی نفرضه خمسین بالمائة (أی: ) بِمُقْتَضَیٰ الأصل، وَحِینَئِذٍ لکی نعرف قیمة احتمال صدور الحدیث النبوی لاَ بُدَّ لنا من أن نضرب فِی لکی نعرف قیمة احتمال صدقها معاً، فتکون قیمة احتمال صدور الحدیث النبوی عبارة ناتج ضرب فِی وهو عبارة عن (أی: خمسة وعشرون بالمائة)؛ فنحن لو کنّا قد سمعنا الحدیث من الصحابی مباشرةً لکانت قیمة احتمال صدوره خمسین بالمائة، لکننا سمعناه من التابعی عن الصحابی، إذن تکون قیمة احتمال صدوره خمسة وعشرین بالمائة.

ص: 393

وبعبارة ساذجة: عند ما یروی لنا التابعی عن الصحابی حدیث الغدیر یتشکل لدینا علم إجمالی ذو أطراف محصورة عقلاً فِی أربعة:

1)- فإما أن التابعی والصحابی کلیهما صادقان.

2)- وَإِمَّا أنهما کاذبان أو خاطئان.

3)- وَإِمَّا أن التابعی کاذب أو خاطئ.

4)- وَإِمَّا أن الصحابی کاذب أو خاطئ، فاحتمال صدقهما معاً هو احتمال واحد من أربعة احتمالات ، ونحن نتعامل مع هذا الخبر الَّذِی یرویه لنا التابعی عن الصحابی عن النَّبِیّ بلحاظ کَاشِفِیَّته عن آخر السلسلة، أی: عن الحدیث النبوی الشریف لا بلحاظ کَاشِفِیَّته عن قول الصحابی، فنعطیه رقماً وهو (کَمَا عَرَفْتَ)، ثُمَّ نضیف إلیه رقم خبر تابعی آخر عن صحابی آخر وهو أَیْضاً ونضیف إلهما رقم تابعی ثالث عن صحابی ثالث وهو أَیْضاً وهکذا..

ثُمَّ نجمع هذه الاحتمالات الرُّبعیة الَّتِی هی کثیرة إلی أن یحصل لنا بحساب الاحتمالات الیقین بِالْقَضِیَّةِ المنقولة عن النَّبِیّ .

إذن، فَالْقِیمَةُ الاِحْتِمَالِیَّةُ لِکُلّ واحد من هذه الأَخْبَار غیر المباشرة بمعنی درجة کَاشِفِیَّته عن صدور الحدیث أقل وأضعف من الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لِکُلّ واحد من الأَخْبَار المباشرة.

وبعبارة أخری الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لصدور حدیث یُخبر شخص بوجود مخبِر به أضعف من الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّةِ لصدور حدیث یخبر شخص به، وقد عرفت السر والنکتة فِی الأَضْعَفِیَّة، ولأجل هذه الأَضْعَفِیَّة یکون حصول الیقین هنا فِی التَّوَاتُر مع الواسطة بحاجة إلی مقدار أکثر من المفردات وعدد أکبر من الروایات؛ لأَنَّ الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لروایة تابعی عن صحابی هی نصف الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لروایة صحابی عن النَّبِیّ (کَمَا عَرَفْتَ)، فَلَئِن کانت تلک تمثّل الکسر ؛ فهذه تمثل الکسر، فمفردات التَّوَاتُر مع الواسطة ذات قیمة احتمالیة أضعف من مفردات التَّوَاتُر المباشر، وَبِالتَّالِی فحصول العلم والیقین هنا أبطأ منه هناک؛ لأَنَّ حصول العلم إِنَّمَا هو نتیجة تجمّع القیم الاِحْتِمَالِیَّة، فإذا کانت کُلّ واحدة من القیم الاِحْتِمَالِیَّة ضعیفة فَسَوْفَ یبطئ حصول الیقین کما هو واضح.

ص: 394

وهذا هو الشیء الَّذِی لم یقدر المنطق الأرسطی الوصول إلیه نظریاً؛ لأَنَّهُ عَلَیٰ مبناه یربط کاشفیة التَّوَاتُر بقضیة عَقْلِیَّة ضروریة قبل التَّجْرُبَة وحساب الاحتمالات، وهی أن العدد الفلانی (ولنفرضه عدد مائة) یمتنع عَقْلاً اجتماعه وتواطؤه عَلَیٰ الکذب.

ومن الواضح أَنَّهُ بناءً عَلَیٰ هذا المبنی لو أخبر ألف تابعی عن ألف صحابی بحدیث الغدیر مثلاً؛ فَإِنَّهُ مع ذلک لا یحصل التَّوَاتُر؛ لأَنَّهُ لو کان کُلّ هؤلاء التابعین کاذبین لا یلزم من ذلک اجتماعهم وتواطؤهم عَلَیٰ الکذب کی یقال: إن ذلک مستحیل، وَبِالتَّالِی فلیس کلهم کاذبین. إذن، فیحصل التَّوَاتُر المفید للعلم، والسر فِی عدم لزوم اجتماعهم عَلَیٰ الکذب هو أن کُلّ واحد منهم ینقل واقعةً غیر ما ینقله الآخر؛ فهذا ینقل أن عمر أخبر بالحدیث، والثانی ینقل أن ابن مسعود أخبر بالحدیث، والثالث ینقل أن جابراً أخبر بالحدیث وهکذا..، فلم یجتمعوا عَلَیٰ کذب واحد.

وعلیه، فلو فرضنا أن العدد الَّذِی یحصل به التَّوَاتُر وهو الَّذِی یقول المنطق الأرسطی باستحالة اجتماعه عَلَیٰ الکذب عبارة عن مائة، وفرضنا أن مائة تابعی نقل عن مائة صحابی حدیث الغدیر؛ فَإِنَّهُ مع ذلک لا یحصل التَّوَاتُر؛ لما قلناه من أن کُلّ واحد من هؤلاء التابعین ینقل غیر ما ینقله الآخر، وَحِینَئِذٍ فمن المحتمل کذب نصف هؤلاء التابعین مثلاً ونصف أولئک الصحابة.

وبالتلفیق بین کذب الفئتین نکون قد افترضنا کذب مائة شخص مِنْ دُونِ أن نکون ناقضین لقانون الاستحالة المذکور، ومن دون أن یلزم من ذلک محذور اجتماع مائة شخص عَلَیٰ قَضِیَّة واحدة کاذبة کی یقال إِنَّهُ مستحیل.

إذن، فتصویر الأصحاب للتواتر مع الواسطة وإن کان صحیحاً لٰکِنَّهُ خیالی کما قلنا، وهذا بخلاف تصویرنا له؛ فَإِنَّهُ صحیح عَلَیٰ مبنانا وواقعی، وأکثر ما ینقل وتثبت لدینا من تواترات فِی الخارج إِنَّمَا تستعمل فیه الطریقة الثَّانیة الَّتِی ذکرناها (وَالَّتِی هی عبارة عن نقل واحد عن واحد)؛ لا الطریقة الأولی الَّتِی ذکرها الأصحاب.

ص: 395

هذا تمام الْکَلاَم فِی الجهة الثَّالثة من جهات البحث عن الخبر المتواتر.

الجهة الرَّابِعَة: أقسام التَّوَاتُر

أَمَّا الجهة الرابعة: ففی أقسام التَّوَاتُر، وقد قسّموه إلی ثلاثة أقسام:

الأَوَّل: التَّوَاتُر اللَّفْظِیّ.

الثَّانِی: التَّوَاتُر المعنوی.

الثَّالِث: التَّوَاتُر الإجمالی.

وسوف یتضح الحال فِی هذا التقسیم ممّا سنذکره قَرِیباً - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَی - فنقول:

قد اتضح لنا مِمَّا سبق أن أساس حصول العلم فِی باب التَّوَاتُر هو تراکم احتمالات الصِّدْق وتعاضدها فیما بینها إلی أن تنقلب إلی القطع، وضعف احتمال کذب المجموع نتیجة ضرب قیمة احتمال کذب کُلّ واحد فِی قیمة احتمال کذب الآخر، مِمَّا یؤدی إلی ضآلة احتمال کذب الخبر، هذا بالإضافة إلی الضعف الناشئ من فریضة تماثل الصدف؛ فَإِنَّ ضعف احتمال کذب الخبر ومخالفته للواقع ینشأ من أمرین:

الأَوَّل: ما نسمّیه بالمضعِّف الکمّی، وهو عبارة عن الکثرة العددیة للأخبار؛ فَإِنَّ هذه الکثرة الَّتِی هی جوهر التَّوَاتُر (کَمَا عَرَفْتَ) تؤدّی إلی تکثّر ضرب قیمة احتمال کذب کُلّ خبر فِی قیمة احتمال کذب الخبر الآخر، فإذا کان عدد الأَخْبَار مائة، فهذا معناه أَنَّهُ لاَ بُدَّ لنا (لکی نعرف قیمة احتمال کذب الخبر ومخالفته للواقع) من أن نحصل عَلَیٰ قیمة احتمال کذب جمیع الأَخْبَار المائة، ولا طریق للحصول عَلَیٰ قیمة احتمال کذب المجموع غیر ضرب الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة للکذب بعضها فِی بعض، بأن نضرب قیمة احتمال کذب الخبر الأَوَّل فِی قیمة احتمال کذب الخبر الثَّانِی، ثُمَّ فِی قیمة احتمال کذب الخبر الثَّالِث، ثُمَّ فِی قیمة احتمال کذب الخبر الرَّابِع وهکذا إلی تمام المائة.

وهذا یعنی تکرّر الضرب تسعاً وتسعین مرةً، فإذا کانت قیمة احتمال کذب کُلّ خبر فِی نفسه عبارة عن خمسین بالمائة (أی: ) وذلک کما إذا کان المخبرون أناساً اعتیادیین مثلاً، فَسَوْفَ یتکرّر ضرب فِی تسعاً وتسعین مَرَّةً. ومن الواضح أَنَّهُ کلما ازداد تکرّر ضرب الکسر ازداد ضآلةً وضعفاً.

ص: 396

وإذا کانت قیمة احتمال کذب کُلّ خبر فِی نفسه أقل من، وذلک کما إذا کان المخبرون أناساً ثقاتٍ (عَلَیٰ ما عرفته فِی الجهة الثَّانیة من جهات البحث من تأثیر العوامل الموضوعیة کالوثاقة فِی حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ وحصول الیقین) فَسَوْفَ یتکرّر أَیْضاً ضرب هذا الکسر الضَّئِیل من قبیل تسعاً وتسعین مَرَّةً، وتکون نتیجة ضرب هذه الکسور الضئیلة أصغر من نتیجة ضرب تلک الکسور الکبیرة فِی الفرض الأَوَّل.

إذن، فالمضعِّف الکمّی هو التکثّر العددی للأخبار، مع النَّظَر إلی أصل قیمة احتمال کذب کُلّ خبر فِی نفسه، فکلّما کان العدد أکثر وکان احتمال الکذب منذ البدء أضعف، کان الوصول إلی العلم بتراکم الأَخْبَار أسرع، نتیجةَ شدّة ضآلة احتمال کذب الخبر ومخالفته للواقع.

ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: ضابط التواتر والعوامل المؤثرة فِی حصول الیقین/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

الثَّانِی: ما نُسَمِّیهِ بِالْمُضَعِّفِ الْکَیْفِیِّ، وهو عبارة عن تماثل الصُّدَفِ الْمُتَکَرِّرَة أو بعبارة أخری وحدة مصبّ الخطأ أو الکذب. فإذا کانت الأَخْبَار الکثیرة مُتَّحِدَة فِی المضمون والمخبَر به، فإن هذا أَیْضاً یُؤَثِّر فِی ضعف احتمال کذب الخبر ومخالفته للواقع؛ فَإِنَّ تجمّع دواعی الکذب أو أسباب الخطأ عَلَیٰ نقطة واحدة أبعد من انقسامها عَلَیٰ نقاط عدیدة، فَمَثَلاً لو صمَّم ألف کذاب عَلَیٰ أن یختلق کُلّ واحد منهم قصة کاذبة وأسطورة خیالیة، فاختلق کُلّ واحد منهم قصة غیر مماثلة لما اختلقه الآخر، لم تکن فِی ذلک غرابة.

أَمَّا لو اختلق کُلّ واحد منهم عین قصة الآخر مِنْ دُونِ إطلاع عَلَیٰ ما اختلقه الآخر، فهذا معناه أن القصص المختلَقة تماثلت صدفةً، أو قل: تماثلت الصُّدَف الَّتِی تکررت ألف مَرَّة.

ص: 397

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا یُعَدُّ حِینَئِذٍ من أعجب الغرائب؛ لأَنَّ النَّاس مختلفون عادةً فِی أفکارهم وظروفهم ومصالحهم والإیحاءات الَّتِی یجدونها فِی أنفسهم وما إلی ذلک. فاتفاقهم (رغم کُلّ هذا الاختلاف) عَلَیٰ اختلاق قصة واحدة عَلَیٰ أساس توارد الخواطر عَلَیٰ شیء واحد أمر بعید غایة البُعد.

وإذا لم تکن الأَخْبَار الکثیرة مُتَّحِدَة فِی المضمون والمخبَر به، لکنها کانت متقاربة، فإن هذا أَیْضاً یُؤَثِّر فِی ضعف احتمال کذب الخبر. وبعبارة أخری: کلما تقاربت الصُّدَف فِی التماثل أکثر فأکثر کان الْمُضَعِّفُ الْکَیْفِیّ أقوی وأسرع تأثیراً فِی خلق العلم والیقین فِی النفس. هذا هو الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ.

والآن مع أخذ هذین الْمُضَعِّفین بعین الاعتبار نقول:

إذا واجهنا عَدَداً کبیراً من الأَخْبَار فَسَوْفَ نجد إحدی الحالات التالیة:

الحالة الأولی: أن لا توجد هناک وحدة تقارب فِی المضمون والمحتوی بین هذه الأَخْبَار الکثیرة، أی: لا یوجد بین مدلولاتها مشترک یُخبر الجمع عنه، وَإِنَّمَا یُخبرون عن مواضیع مختلفة لا تشترک أصلاً لا فِی الْمَدْلُولِ الْمُطَابَقِیّ ولا التَّضَمُّنِیّ ولا الاِلْتِزَامِیّ؛ وذلک کما إذا التقطنا (بطریقة عشوائیة وغیر مدروسة) مائة روایة من مختلف الأبواب من کتاب الوسائل مثلاً، وفی هذه الحالة من الواضح أن کُلّ واحد من مدلولات تلک الأَخْبَار لا یثبت بِالتَّوَاتُرِ؛ لأَنَّ کُلّ مدلول من تلک الْمَدَالِیل لم یُخبر به غیر واحد، کما أن من الواضح أَنَّهُ لا یصدق عَلَیٰ مجموع المائة شیء من أقسام التَّوَاتُر؛ فَإِنَّ هذه المائة الَّتِی جُمعت عِشْوَائِیّاً لا هی متواترة لفظا، ولا هی متواترة معنیً، ولا هی متواترة إِجْمَالاً؛ وَذَلِکَ لأَنَّ المفروض عدم وجود مدلول مشترک فیما بینها وعدم تکثّر الإخبارات عَلَیٰ مصب واحد، وَإِنَّمَا یقع الْکَلاَم فِی إثبات أحد تلک الْمَدَالِیل عَلَیٰ سبیل العلم الإجمالی لکی ترتّب علیه آثار العلم الإجمالی، فنقول:

ص: 398

إذا لاحظنا الجامع بین مدالیل هذه الأَخْبَار عَلَیٰ إجماله ولو بعنوان أحدها فلا إشکال فِی أن احتمل صدق واحد منها عَلَیٰ الأقل احتمال کبیر وعالٍ جِدّاً وأن احتمال کذبها جَمِیعاً احتمال ضعیف جِدّاً؛ وذلک بنفس ملاک حِسَاب الاِحْتِمَال؛ لأَنَّ افتراض کون اختیارنا العشوائی قد وقع صدفةً عَلَیٰ مائةٍ کُلّهَا کاذبة افتراض قیمته الاِحْتِمَالِیَّة ضعیف جِدّاً؛ وذلک لوجود الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ، وهو عبارة عن الکثرة العددیة للأخبار، مِمَّا یسبّب تکثّر ضرب الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة للکذب بعضها فِی بعض من أجل الحصول عَلَیٰ قیمة احتمال کذب الجمیع، فتتضاءل نتیجة الضرب تَبَعاً لزیادة الضرب وتکثّره، فاحتمال کذب الجمیع ضئیل جِدّاً، وفی المقابل یکون احتمال صدق أحدها عَلَیٰ الأقل إِجْمَالاً اِحْتِمَالاً کبیراً جِدّاً نتیجةَ شدّة ضآلة احتمال کذب الجمیع.

إِلاَّ أَن هذا الاحتمال الضعیف (أعنی احتمال کذب الجمیع) رغم ضآلته نتیجة الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ لا یذوب فِی النفس ولا ینعدم ولا یبلغ درجة الیقین بعدم کذب الجمیع، بل یبقی احتمال کذب الجمیع مَوْجُوداً فِی النفس ویستحیل زواله وانعدامه وحصول الیقین، ولهذا لا یکون هذا تواتراً حَقِیقِیّاً؛ لأَنَّ التَّوَاتُر الحقیقی هو ما یوجب العلم وهنا لا یحصل العلم بصدق البعض (ولو أحد هذه المائة إِجْمَالاً)؛ فَإِنَّ العلم بالموجبة الْجُزْئِیَّة فرع زوال احتمال السالبة الکلیة، بینما احتمال السالبة الکلیة (أی: عدم صدق الجمیع) لا زال مَوْجُوداً فِی النفس.

أَمَّا أَنَّهُ لماذا لا یزول هذا الاحتمال (أی: احتمال کذب الجمیع وعدم صدق کُلّ المائة) رغم ضعفه وضآلته؟ وبعبارة أخری: لماذا لا یکفی الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ وحده لإفناء احتمال کذب الجمیع؟ فهذا ما برهن علیه سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی کتابه الْقَیِّمِ الأُسَس المنطقیة للاستقراء حیث ذکر الحالات الَّتِی یمکن أن یزول فیها مثل هذا الاِحْتِمَال، وذکر الحالات الَّتِی لا یمکن أن یزول فیها.

ص: 399

وحاصل وجه استحالة زوال هذا الاحتمال (أی: احتمال کذب جمیع المائة الَّتِی جُمعت عِشْوَائِیّاً) هو أن هذه المائة تشکّل طرفا من أطراف علم إجمالی آخر موجود فِی أنفسنا، وهو العلم إِجْمَالاً بوجود مائة خبر کاذب فِی مجموع الأَخْبَار الکثیرة جِدّاً الواصلة إلینا؛ فإننا نعلم بوجود مَن کانت تتوفر فیه دواعی الکذب بین الرواة، فلذا حصل کُلّ واحد منها (قبل أن نجمع هذه المائة عِشْوَائِیّاً) بأنّه یوجد فِی مجموع کتب الحدیث المشتملة عَلَیٰ مائة ألف روایة مثلاً مائة روایة کاذبة، وهذا العلم الإجمالی أطرافه کثیرة جِدّاً؛ إذ ما أکثر المئات الَّتِی یمکن تجمیعها وترکیبها من مجموع المائة ألف روایة.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ أیّ مائة من هذه المائة نمسکها لو حسبنا حسابنا معها وقطعنا النَّظَر عن هذا العلم الإجمالی لاستبعدنا کذب مجموعها؛ لأَنَّ احتمال کذب مجموع المائة یساوی ناتج ضرب القیم الاِحْتِمَالِیَّة لکذب هذه الأَخْبَار المائة بعضها فِی بعض، وهو ضئیل جِدّاً (کَمَا عَرَفْتَ).

إِلاَّ أَن هذا الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ لا یجعلنا نقطع بأن هذه المائة المجموعة عِشْوَائِیّاً لیست هی المائة الکاذبة الَّتِی نعلم إِجْمَالاً بوجودها فِی مجموع کتب الحدیث؛ لأَنَّ کُلّ مائة من الأَخْبَار نختارها بأی شکل من الأشکال نحتمل لا محالة انطباق المعلوم بالإجمال علیها، وهذه المائة الملتَقطة عِشْوَائِیّاً أَیْضاً إحدی تلک المئات الکثیرة الَّتِی هی أطراف العلم الإجمالی، فلا محالة نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیها، أی: نحتمل أَنَّهَا هی المائة الکاذبة المعلومة إِجْمَالاً، وقیمة احتمال انطباق المعلوم الإجمالی علیها تساوی قیمة انطباقه عَلَیٰ أیّ مائة أخری تُجمع بشکل آخر.

فلو کان الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ وحده کَافِیاً لإفناء احتمال کذب جمیع المائة المجموعة عِشْوَائِیّاً، أی: لإفناء احتمال انطباق المعلوم الإجمالی علیها، لکان معناه أن هذا الْمُضَعِّف کافٍ لإفناء احتمال انطباق المعلوم الإجمالی عَلَیٰ أی مائة أخری نفرضها؛ إذ لا مرجّح لهذه المائة المجموعة عِشْوَائِیّاً عَلَیٰ أیّ مائة أخری؛ فکل المئات هی أطراف متساویة للعلم الإجمالی المذکور والمضعف الْکَمِّیّ موجود فِی کُلّ واحدة منها.

ص: 400

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ فناء احتمال انطباق المعلوم الإجمالی عَلَیٰ أیّ مائة نفرضها یساوق فناء المعلوم الإجمالی وزواله، وهو خلف؛ إذ لو قطعنا بعدم کذب کُلّ هذه المائة، وبعدم کذب کُلّ تلک المائة وهکذا.. إذن فأین المائة الَّتِی نقطع بکذبها إِجْمَالاً؟

إذن، ذوبان احتمال انطباق المعلوم الإجمالی فِی بعض الأطراف دون بعض ترجیح بلا مرجح، وذوابه فِی کُلّ الأطراف خُلف فرض العلم الإجمالی.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ وإن أوجب ضآلة احتمال کذب الجمیع (أی: جمیع المائة العشوائیة) وحصول الاطمئنان لنا بصدق واحد من المائة عَلَیٰ الأقل إِجْمَالاً، إِلاَّ أَن هذا الاطمئنان یستحیل أن یتحول إلی یقین بسبب الضآلة والمضعف الْکَمِّیّ، وَإلاَّ للزم أن یحصل هذا الیقین فِی بقیة المئات العشوائیة أَیْضاً؛ لعدم الْفَرْق بین مائة ومائة من حیث ضآلة احتمال کذب جمیع المائة بسبب الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ، وَبِالتَّالِی یلزم أن تبقی المائة الکاذبة الَّتِی نعلم بوجودها إِجْمَالاً فِی مجموع الأَخْبَار بلا مصداق، وهذا معناه زوال العلم الإجمالی، وهو خلف فرض وجوده.

إذن، فَکُلَّمَا کان الاحتمال الضعیف نَاشِئاً من طرفیة المحتمل للعلم الإجمالی الْمُرَدَّد معلومه بین بدائل محتملة کثیرة جِدّاً، یستحیل زوال احتمال طرفیة ما اختیر عِشْوَائِیّاً لذاک العلم الإجمالی ما دام العلم المذکور مَوْجُوداً، کما یستحیل زوال احتمال طرفیة کُلّ طرف من الأطراف والبدائل الکثیرة. أی: کُلّ مائة تُجمع بأیّ طریقة فِی المثال؛ فَإِنَّ زوال هذا الاحتمال فِی أیّ طرفٍ مساوقٌ لزواله فِی الأطراف الأخری، وهو مساوق لزوال العلم نفسه، وهو خلف.

فالمقام نظیر ما إذا کان لدینا مائة ألف إناء وعلمنا إجمالاً بنجاسة واحد منها؛ فَإِنَّ أطراف هذا العلم الإجمالی کثیرة جِدّاً، وأیّ إناء أخذناه فإن احتمال کونه هو الإناء النجس احتمال ضعیف جِدّاً؛ لأَنَّهُ عبارة عن وفی المقابل احتمال کونه طاهراً احتمال قوی جِدّاً بالغ درجة الاطمئنان؛ لأَنَّهُ عبارة عن ، لکن بالرغم من ذلک کله یستحیل زوال الاحتمال الضعیف فِی الإناء الَّذِی أخذناه وتحوّل الاطمئنان بطهارته إلی الیقین بالطهارة؛ لأَنَّهُ لو أمکن زواله فیه لأمکن زواله فِی أیّ إناء آخر أخذناه؛ إذ لا فرق بین إناء وإناء. فزوال احتمال النجاسة فیه مساوق لزوال احتمال النجاسة فِی سائر الأوانی، وهذا مساوق لزوال العلم الإجمالیّ بنجاسة أحدها، وهو خلف.

ص: 401

إذن، فالحالة الأولی لا تعتبر من حَالاَت التَّوَاتُر وأقسامه؛ لعدم حصول العلم والیقین فِی هذه الحالة (کَمَا عَرَفْتَ)، وَإِنَّمَا تبقی درجة احتمال صدق واحد من الأَخْبَار المائة الملتقَطة عِشْوَائِیّاً فِی مستوی الاطمئنان فحسب لا أکثر.

وَأَمَّا حُجِّیَّة هذا الاطمئنان فحیث أن حُجِّیَّة الاطمئنان أساساً لیست عَقْلِیَّة، وبذلک تختلف عن حُجِّیَّة القطع، بمعنی أن العقل یحکم بِحُجِّیَّة القطع بینما لا یحکم بِحُجِّیَّة الاطمئنان، بل إن کان الاطمئنان حجة فحجیته عُقَلاَئِیَّة بمعنی انعقاد سیرة الْعُقَلاَء عَلَیٰ الْعَمَل به وعدم ردع الشَّارِع عنها، وَحِینَئِذٍ فبعد الفراغ عن انعقاد السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة عَلَیٰ الْعَمَل بالاطمئنان بشکل عَامّ، نواجه هذا السؤال وهو أن هذه السِّیرَة هل تشمل مثل هذا الاطمئنان الإجمالی المتکوّن فِی المقام نتیجة احتمالات أطرافه حیث أننا جمعنا احتمال صدق هذا الخبر مع احتمال صدق ذاک الخبر مع احتمال صدق الخبر الثَّالِث وهکذا.. فحصل لنا الاِطْمِئْنَانُ بصدق واحد من هذه الأَخْبَار، فهل أن السِّیرَة الْعُقَلاَئِیَّة المنعقدة عَلَیٰ الْعَمَل بِالاِطْمِئْنَانِ شاملة لمثل هذه الاِطْمِئْنَانات الإِجْمَالِیَّة، أم أَنَّهَا مختصة بِالاِطْمِئْنَانِ التفصیلی؟ فقد یُمنع عن شمول السِّیرَة لها.

إذن، فکیفما کان قد اتضح لنا أَنَّهُ لاَ بُدَّ (فِی مقام ذوبان احتمال الکذب وحصول العلم والیقین فِی باب التَّوَاتُر) من وجود مضعف کیفی یعالج مشکلة الترجیح بلا مرجح وذلک عَلَیٰ أساس وحدة المصب، فلا یکفی فِی التَّوَاتُر مجرد الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ مِنْ دُونِ وحدة المصب.

أقسام التَّوَاتُر/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: أقسام التَّوَاتُر/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

الحالة الثَّانیة: أن یوجد هناک مدلول ومعنی مشترک منظور إلیه فِی هذه الأَخْبَار الکثیرة یُخبر الجمیع عنه، ویکون ذاک الْمَدْلُول المشترک عبارة عن مدلول تحلیلی لِکُلّ خبر، إما بنحو الْمَدْلُول التَّضَمُّنِیّ لِکُلّ خبر، أو بنحو الْمَدْلُول الاِلْتِزَامِیّ العرفیّ لِکُلّ خبر، مع عدم التطابق بین الأَخْبَار فِی الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیّ بکامله، وهذا هو الَّذِی یُسَمَّیٰ فِی کلماتهم ب_التَّوَاتُر الإجمالی کما إذا أخبر جماعة بوقائع وقضایا کثیرة ومتغایرة فِی حیاة حاتم فکل واقعة وقضیة ینقلها أحدهم هی غیر الواقعة والقضیة الَّتِی ینقلها الآخر، لکنها کُلّهَا تتضمن أو تستلزم کرم حاتم، فهنا المصب الواحد المشترک لهذه الشهادات مدلول تحلیلی، والشهادات رغم تغایرها تتضمن جَمِیعاً مظاهر من کرمه، کما إذا قال أحدهم: إن الرماد فِی بیته کان کثیراً جِدّاً، وقال الآخر: إِنَّهُ کان یوقد النار فِی بیته لیراه الضیوف من بعید. وقال الثَّالِث: إِنَّهُ کان یفرح کثیراً إذا جاءه عبده بضیفٍ إلی حدٍّ بحیث کان یعته. وقال الرَّابِع: إِنَّهُ کان یرسل موالیه وخدمه إلی الأقطار لاستحصال الضیوف، وهکذا..

ص: 402

وفی هذه الحالة أَیْضاً من الواضح أن کُلّ واحد من مدلولات تلک الأَخْبَار لا یثبت بِالتَّوَاتُرِ؛ إذ لم یخبر به سوی واحد حسب الفرض، لکن الْمَدْلُول المشترک بینها یثبت بِالتَّوَاتُرِ ویحصل الیقین به؛ وذلک لوجود الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ والکیفی معاً:

أَمَّا الأَوَّل فکما رأیناه فِی الحالة السابقة؛ فَإِنَّ الکثرة العددیة للمخبرین توجب ضعف احتمال کذب الجمیع باعتبار ضرب الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لِلْکَذِبِ بعضها فِی بعض.

وَأَمَّا الثَّانِی فلأن افتراض کذب الجمیع معناه وجود مصلحة شخصیة لِکُلّ واحد من الْمُخْبِرِینَ دعته إلی الإخبار بذاک النَّحْو، وهذه المصالح الشخصیة إن کانت کُلّهَا تتعلق بذاک الْمَدْلُول المشترک (أی: الإخبار بکرم حاتم فِی المثال) فهذا یعنی أن هؤلاء الْمُخْبِرِینَ عَلَیٰ الرغم من اختلاف ظروفهم وتباین أحوالهم اتفق صدفةً أن کانت لهم مصالح متماثلة تماماً بحیث اقتضت مصلحة کُلّ واحد منهم أن یختلق کرم حاتم لا شَیْئاً آخر عن حاتم غیر الکرم ولا أی شیء عن شخص آخر غیر حاتم، فیلزم تماثل المصالح تماماً واتفاقهم عَلَیٰ مصب واحد بعینه صدفةً وَاتِّفَاقاً.

وإن کانت تلک المصالح الشخصیة تتعلق کُلّ واحدة منها بکامل الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیّ وتمام الْقَضِیَّة الَّتِی ینقلها، فالمحذور السابق (وهو تماثل المصالح تماماً واتحادها) وإن کان لا یلزم؛ لأَنَّ مصلحة الأَوَّل اقتضت أن ینقل کثرة الرماد مثلاً، بینما مصلحة الثَّانِی اقتضت أن ینقل إیقاد النار وهکذا...

إلا أَنَّهُ مع ذلک یلزم تقارب المصالح صدفةً بحیث اقتضت مصلحة کُلّ واحد أن یختلق قضیةً هی وإن کانت غیر الْقَضِیَّة الَّتِی اقتضت مصلحة الآخر اختلاقها لٰکِنَّهَا تَدُلُّ ضِمْناً أو اِلْتِزَاماً عَلَیٰ نفس ما تَدُلُّ علیه الْقَضِیَّة الأخری ضِمْناً أو اِلْتِزَاماً وهو عبارة عن کرم حاتم، وکل ذلک (أعنی تماثل المصالح واتحادها صدفةً وکذلک تقاربها بِالنَّحْوِ الَّذِی یتضمن أو یستلزم أَمْراً واحدا) بعید بحساب الاحتمالات، وهذا هو الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ یضاف إلی ذلک الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ، ولهذا نجد أن قوة الاحتمال (أی: احتمال صدق المصب والمدلول المشترک وهو کرم حاتم مثلاً) الَّتِی تحصل فِی هذه الحالة أکبر من قوة احتمال صدق واحد من المائة فِی الحالة السابقة؛ لأَنَّ احتمال کذب الجمیع هنا أضعف بکثیر منه هناک؛ لوجود مضعفین له هنا بخلافه هناک.

ص: 403

وَیَتَحَوَّل الاحتمال الْقَوِیّ هنا (وهو احتمال صدق الْمَدْلُول المشترک) إلی یقین، بسبب ضآلة احتمال الخلاف (أی: احتمال کذب الجمیع). وهذه الضآلة (أی: ضَآلَة احتمال کذب الجمیع) وإن کانت موجودة فِی الحالة السابقة (کَمَا عَرَفْتَ) حیث أن احتمال کذب جمیع المائة الملتقَطة عِشْوَائِیّاً کان ضعیفاً وضئیلاً، نتیجة وجود الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ، إِلاَّ أَن الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ وحده لم یکن کَافِیاً لإذابة هذا الاحتمال الضعیف (أی: احتمال کذب الجمیع) وانعدامه فِی النفس کی یحصل الیقین بصدق واحد منها عَلَیٰ الأقل، وقد عرفت السر فِی ذلک.

أَمَّا هنا فباعتبار وجود الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ أیضاً إلی جانب الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ، فلذا یذوب الاحتمال الضعیف (أی: احتمال کذب جمیع الأَخْبَار فِی النفس) وینعدم ویحصل لنا الیقین بصدق الْمَدْلُول المشترک.

ولا یقال هنا بما کنّا نقوله هناک فِی وجه استحالة ذوبان اِحْتِمَالِ کذب جمیع المائة الْمُلْتَقَطَة عِشْوَائِیّاً (من أن هذه المائة طرف من أطراف الْعِلْم الإِجْمَالِیِّ بوجود مائة خبر کاذب فِی مجموع الأَخْبَار الکثیرة، وکل مائة نختارها من الأَخْبَار فلا محالة نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیها. وهذه المائة الْمُلْتَقَطَة عِشْوَائِیّاً أیضاً هی إحدی تلک المئات، فنحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیها وکونها هی المائة الکاذبة)؛ وذلک بأن یقال هنا أَیْضاً إن هذه المجموعة من الأَخْبَار المتضمِّنة لکرم حاتم مثلاً وَالَّتِی یبلغ عددها مثلاً مائة خبر هی طرف من أطراف الْعِلْم الإِجْمَالِیِّ بوجود مائة خبر کاذب فِی مجموع الأَخْبَار الَّتِی تُنقَل فِی العالَم، فنحتمل إذن انطباق المعلوم بالإجمال علیها وکونها هی المائة الکاذبة.

وعلیه، فاحتمال کذب الجمیع لا ینعدم هنا أَیْضاً ولا یحصل لنا الیقین بالمدلول المشترک.

لأنه یقال فِی الجواب عَلَیٰ هذا الْکَلاَم: إن الْعِلْم الإِجْمَالِیَّ بوجود مائة خبر کاذب فِی مجموع الأَخْبَار المنقولة فِی العالم وإن کان مَوْجُوداً، إِلاَّ أَنّ هذه المائة المتضمنة أو المستلزمة لکرم حاتم مثلاً لیست من أطرافه، ولا نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیها وکونها بأجمعها کاذبة؛ وذلک لوجود الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ الَّذِی ذکرناه، حیث یسبب ذوبان احتمال کذب الجمیع فِی النفس وتحوّلَ الاحتمال الْقَوِیّ (وهو اِحْتِمَال صدق الْمَدْلُول المشترک، أی: کرم حاتم مثلاً) إلی الیقین، مِنْ دُونِ أن یلزم من ذلک ذوبان اِحْتِمَال کذب الجمیع فِی کُلّ مائة خبر أخری نجمعها بأیّ شکل من الأشکال؛ فَإِنَّ کُلّ مائة أخری من الأَخْبَار نجمعها بشکل وآخر لیست مثل هذه المائة المشترکة فِی مدلول واحد، لوجود الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ فِی هذه جون تلک المئات؛ فَإِنَّ الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ المذکور لا یتواجد إلا فِی مائةٍ تشترک ولو فِی جانب من مدلولاتها الخبریة.

ص: 404

أَمَّا المئات الأخری الَّتِی لا تشترک فِی نقطة واحدة فهی أطراف ذاک الْعِلْم الإِجْمَالِیّ ویحتمل انطباق المعلوم بالإجمال عَلَیٰ کُلّ واحدة منها؛ لعدم وجود الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ فیها، فیبقی فیها الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ فقط، وقد عرفت أَنَّهُ وحده لا یکفی لذوبان احتمال کذب الجمیع.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ دلیلنا هناک (فِی الحالة السابقة) عَلَیٰ استحالة ذوبان احتمال کذب جمیع المائة کان عبارة عن أَنَّهُ لو ذاب هذا الاحتمال بِالنِّسْبَةِ إلی هذه المائة ولم نحتمل انطباق المعلوم بالإجمال علیها، للزم ذوبانه بِالنِّسْبَةِ إلی أیّ مائة أخری؛ إذ لا فرق بین المئات من حیث ضَآلَة اِحْتِمَال کذب جمیع المائة بسبب الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ، فیلزم أن یحصل هذا الیقین فِی بقیة المئات، وَبِالتَّالِی یلزم أن تبقی المائة الکاذبة المعلومة بالإجمال بلا مصداق، وهذا معناه زوال الْعِلْم الإِجْمَالِیّ، وهو خُلف فرض وجوده.

أقسام التَّوَاتُر/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: أقسام التَّوَاتُر/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الدَّلِیل لا یَتُِمّ هنا فِی هذه الحالة؛ لأَنَّ هذه المائة المشترکة فِی مدلول واحد تمتاز عَلَیٰ سائر المئات الَّتِی تُجمَع بشکلٍ وآخر بوجود الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ، فلا یلزم من ذوبان اِحْتِمَال کذب الجمیع بِالنِّسْبَةِ إلیها ذوبانه بِالنِّسْبَةِ إلی أیّ مائةٍ أخری، وَبِالتَّالِی فلا یلزم منه الخُلف وزوال الْعِلْم الإِجْمَالِیّ.

وبعبارة موجزة: إن المعلوم بالإجمال هو کذب مائة خبر فِی مجموع الأَخْبَار الموجودة فِی العالَم ولیس المعلوم بالإجمال کذب مائة خبر تشترک فِی جانب من مدلولاتها فِی مجموع أخبار العالَم، فلا ینطبق المعلوم بالإجمال عَلَیٰ هذه المائة الَّتِی نَتَحَدَّثُ عنها فِی هذه الحالة کما هو واضح.

ص: 405

إذن، فِی هذه الحالة الثَّانیة یثبت الْمَدْلُول التَّضَمُّنِیّ أو الاِلْتِزَامِیّ المشترک (أی: کرم حاتم فِی المثال)؛ وذلک بِالتَّوَاتُرِ الإجمالی ویحصل الیقین به وإن لم یحصل الیقین بهذه الْقَضِیَّة بالخصوص أو بتلک من القضایا المتغایرة.

نعم، القطع بالمدلول المشترک المذکور یوجب ارتفاع احتمال کُلّ واحدة من تلک القضایا المتغایرة، أی: قیمة اِحْتِمَال الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیّ لِکُلّ واحد من تلک الأَخْبَار؛ وَذَلِکَ لأَنَّ توقُّع کُلّ واحدة من تلک القضایا واحتمالها سوف یکون حِینَئِذٍ من احتمال قضیةٍ مضمونها المعنوی ثابت، فیکون موقعها أشدّ وأقوی؛ فَإِنَّنَا فِی المثال بعد أن نقطع بکرم حاتم فَسَوْفَ یکون توقُّعنا واحتمالُنا وقوعَ قَضِیَّة کثرة الرماد مثلاً (الَّتِی ینقلها أحد الْمُخْبِرِینَ) من باب توقّع الشیء واحتمال صدوره من أهله؛ لأَنَّهَا قَضِیَّة تُدّعی بشأن مَن هو کریم واقعاً ومَن هو مِن أهل مَن یکثر رمادهم.

وکذلک یکون توقعنا واحتمالنا وقوع قَضِیَّة إیقاد النار مثلاً (الَّتِی ینقلها مخبِر آخر) وهکذا بِالنِّسْبَةِ إلی سائر القضایا والمدالیل الْمُطَابَِقِیَّة الَّتِی ینقلها سائر الْمُخْبِرِینَ؛ فَإِنَّ قیمة احتمال کُلّ واحدة منها سوف تقوی وترتفع فِی طول القطع بالمدلول المشترک المذکور وبسببه کما هو واضح.

الحالة الثَّالثة: أن یوجد هناک مدلول مشترک منظور إلیه فِی هذه الأَخْبَار الکثیرة یُخبر الجمیع عنه ویکون ذاک الْمَدْلُول المشترک عبارة عن کامل الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیّ لِکُلّ خبر من تلک الأَخْبَار، وهذا هو الَّذِی یُسَمَّیٰ فِی کلماتهم ب_التَّوَاتُر المعنوی، کما إذا أخبر جماعة بواقعة واحدة وقضیة معیّنة من قضایا کرم حاتم، کقضیة کثرة الرماد مثلاً.

وفی هذه الحالة تثبت تلک الْقَضِیَّة بِالتَّوَاتُرِ ویحصل الیقین بها، ویضعف احتمال کذبهم جَمِیعاً أو خطئهم إلی حَدّ الذوبان فِی النفس؛ لأَنَّ الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ الموجود هنا أیضاً إلی جانب الْمُضَعِّف الْکَمِّیّ أقوی فِی هذه الحالة منه فِی الحالة السابقة، واحتمال کذب الجمیع أو خطئهم هنا أضعف منه هناک؛ وذلک أَمَّا وجه کون اِحْتِمَال کذب الجمیع هنا أضعف فهو أن احتمال الکذب یعنی وجود مصلحة تدعو إلی الکذب وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مصالح النَّاس المختلقین کلما افترض تطابقها وتجمّعها فِی محور أضیق دائرةً کان ذلک أغرب وأبعد بحساب الاحتمالات؛ وذلک لما بینهم من الاختلافات والتباین فِی الظروف والأحوال.

ص: 406

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المصبّ والمدلول المشترک للأخبار هنا أضیق دائرةً منه فِی الحالة السابقة؛ إذ هناک کان المصب والمدلول المشترک للأخبار من أول الأمر عبارة عن کرم حاتم وهو أمر کُلِّیّ واسع الدائرة یمکن أن یتمثّل فِی قضایا عدیدة.

أَمَّا هنا فالمصب المشترک لَیْسَ کرم حاتم، بل قَضِیَّة معینة ومحددة من قضایا کرمه، فهذا هو معنی ضیق المصب، وکلما کان المصب أضیق فلا محالة یکون الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ أقوی، ویکون احتمال کذب الجمیع أبعد وأغرب؛ إذ کیف أدّت مصلحة کُلّ واحد من الْمُخْبِرِینَ إلی نفس ذاک المحور الَّذِی أدّت إلیه مصلحة الآخرین؟

هذا معناه أن مصلحة هذا المخبِر اقتضت اختلاق کذبة حول حاتم بالخصوص دون سائر النَّاس، وعن کرمه بالخصوص دون سائر شؤونه وبالذات خصوص هذه الْقَضِیَّة المعینة من قضایا کرمه دون سائر القضایا، واقترنت مصلحته هذه صدفةً وَاتِّفَاقاً بمصلحة المخبِر الثَّانِی الَّتِی اقتضت أَیْضاً عین ما اقتضته مصلحة المخبِر الأَوَّل، واقترنت هاتان المصلحتان صدفةً وَاتِّفَاقاً بمصلحة المخبِر الثَّالِث الَّتِی اقتضت أَیْضاً عین ما اقتضته مصلحة المخبِرین الأولین وهکذا.. لا شَکّ فِی أن هذا أغرب وأبعد من تماثل المصالح فِی الحالة السابقة؛ لأَنَّ التماثل المفروض هنا أقوی منه هناک کما هو واضح.

أقسام التَّوَاتُر/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: أقسام التَّوَاتُر/الخبر المتواتر/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وَأَمَّا وجه کون احتمال خطأ الجمیع هنا أضعف، فهو أن الجمیع إذا کانوا ینقلون واقعةً وقضیة واحدة جُزْئِیَّة، فاحتمال الخطأ فیهم جَمِیعاً أبعد مِمَّا إذا کانوا ینقلون وقائع وقضایا عدیدة تشترک فِی جانب من الجوانب؛ ففی الحالة السابقة لو فرضنا خطأ الناقلین واشتباههم جَمِیعاً، فَسَوْفَ لا یکون مرکز الأخطاء العدیدة المحتملة واحداً؛ لأَنَّ المفروض هناک تَعَدّد القصص والقضایا المنقولة، بینما فِی هذه الحالة لو فرضنا خطئهم واشتباههم جَمِیعاً فَسَوْفَ یکون مرکز الأخطاء العدیدة المحتملة واحداً؛ لأنهم جَمِیعاً نقلوا قَضِیَّة واحدة.

ص: 407

وَبِهَذَا اتَّضَحَ السِّرُّ فِی أَقْوَائِیَّة التَّوَاتُر المعنوی من التَّوَاتُر الإجمالی؛ لأَنَّ الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ فِی التَّوَاتُر المعنوی أشدّ قوة منه فِی التَّوَاتُر الإِجْمَالِیّ.

وینبغی أن نشیر فِی هذه الحالة إلی مطلب آخر وَهُوَ أَنَّ الْمَصَبَّ والمدلول الواحد الْمُشْتَرَک بین الإخبارات هنا وهو الْمَدْلُول الْمُطَابَقِیُّ کلما کان توحّده أوضح وکلما اشتمل عَلَیٰ تفاصیل أکثر وکان تطابق إخبارات الْمُخْبِرِینَ فِی هذه التفاصیل والخصوصیات أکمل کان احتمال الصِّدْق أکبر وکان الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ أقوی أثراً.

ومن هنا کان اشتمال کُلّ خبر عَلَیٰ نفس التفاصیل الَّتِی یشتمل علیها الخبر الآخر مؤدّیاً إلی تزاید اِحْتِمَال الصِّدْق بصورة کبیرة.

ومن أهم أمثلة ذلک ومصادیق ما یُسَمَّیٰ فِی کلماتهم ب_التَّوَاتُر اللَّفْظِیّ وهو التطابق بین النُّقُول فِی صیغة الْکَلاَم المنقول؛ فَإِنَّ هذا من مصادیق التَّطَابُق وَالاِتِّحَاد بین النُّقُول فِی تَفَاصِیل الْقَضِیَّة المنقولة، کما إذا نقل الجمیع کَلاَماً لشخصٍ بلفظ واحد (کما إذا نقلوا بأجمعهم لفظاً واحداً عن النَّبِیّ یوم الغدیر بشأن علی علیه السلام وهو مَن کنتُ مولاه فهذا علی مولاه؛ فَإِنَّ هذا من مصادیق اتحاد نقول الناقلین وتطابقها فِی تفاصیل الْقَضِیَّة المنقولة، فتقوی شِدَّة ضیق الْمَصَبّ الواحد الْمُشْتَرَک؛ لأَنَّنَا نتساءل حِینَئِذٍ: إذا لم تکن الْقَضِیَّةُ المنقولة واقعیة فکیف نقل الجمیع نفس الألفاظ؟ هل اتفق صدفة أن کانت للجمیع مصلحة فِی إبراز نفس الألفاظ بعینها بالرغم من إمکان أداء المعنی نفسه ونقله بألفاظ أخری؟

إذن، فقد اقترنت مصالحهم فِی أصل الکذب صدفةً، واقترنت مصالحهم صدفةً فِی أَنْ یَکُونَ الکذب عبارة عن نقل خصوص هذا المطلب والمعنی دون سائر المعانی والمطالب، واقترنت مصالحهم صدفةً فِی أَنْ یَکُونَ نقل هذا المطلب والمعنی بهذه الألفاظ بالخصوص دون سائر الألفاظ، أم کان هذا التطابق فِی الألفاظ عفویاً وصدفة؟

ص: 408

إذن، لم تکن لهذا المخبِر مصلحة معینة فِی نقل خصوص هذه الألفاظ، وَإِنَّمَا جاءت هذه الألفاظ عَلَیٰ لسانه صدفةً وبصورة عفویة من باب سبق اللسان ومن دون قصد، واقترن ذلک صدفةً بسبق لسان المخِبر الثَّانِی أَیْضاً کذلک، واقترنا صدفةً بسبق لسان المخبِر الثَّالِث أیضاً، وهکذا...

من الواضح أن کُلّ ذلک بعید بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ، ومن هنا نستکشف أن هذا التطابق ناتج عن واقعیة الْقَضِیَّة المنقولة وتقید الجمیع بنقل ما وقع بالضبط.

وعلی ضوء ما ذکرناه یتضح الوجه فِی أَقْوَائِیَّة التَّوَاتُر اللَّفْظِیّ من التَّوَاتُر المعنوی؛ لأَنَّ الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ فِی التَّوَاتُر اللَّفْظِیّ أقوی أثره منه فِی التَّوَاتُر المعنوی کما أَنَّهُ فِی التَّوَاتُر المعنوی أشدّ قُوَّة منه فِی التَّوَاتُر الإِجْمَالِیّ کما مَرَّ.

هذا تمام الْکَلاَم فِی الجهة الرَّابِعَة، وبذلک تَمَّ الْکَلاَم فِی الخبر المتواتر.

الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

2)- الإجماع

وهو عَلَیٰ قسمین:

الأَوَّل: الإِجْمَاع الْمُحَصَّل، وهو الاتفاق الَّذِی یحصل علیه الفقیه بنفسه من خلال تتبّعه شَخْصِیّاً لرأی الفقهاء فِی المسألة فیثق باتفاقهم عَلَیٰ حکمٍ مُعَیَّن فیها.

الثَّانِی: الإجماع المنقول، وهو الاتفاق الَّذِی ینقله الثِّقَة للفقیه مِنْ دُونِ أن یتتبّع الفقیه شَخْصِیّاً رأی الفقهاء فِی المسألة.

والإجماع المحصل عَلَیٰ قسمین:

الأَوَّل: الإِجْمَاع الْمُحَصَّل البسیط، وهو أن یحصل الفقیه عَلَیٰ الاتفاق عَلَیٰ رأی مُعَیَّن فِی المسألة کوجوب صلاة الجمعة فِی عصر الغیبة.

الثَّانِی: الإِجْمَاع الْمُحَصَّل الْمُرَکَّب، وهو أن یحصل الفقیه عَلَیٰ انقسام الفقهاء فِی المسألة إلی رأیین فقط مثلاً من مجموعة ثلاثة وجوه أو أکثر، فیُعتبر نفی الوجه الثَّالِث ثابتاً بالإجماع الْمُرَکَّب، کما إذا انقسم الفقهاء فِی مسألة صلاة الجمعة إلی رأی بالوجوب ورأی بالاستحباب، فیُعتبر نفی الْحُرْمَة ثابتاً بالإجماع الْمُرَکَّب.

ص: 409

فالکلام فِی المقام إذن یقع فِی جهات ثلاث:

الجهة الأولی: فِی الإِجْمَاع الْمُحَصَّل البسیط.

الجهة الثَّانیة: فِی الإِجْمَاع الْمُحَصَّل الْمُرَکَّب.

الجهة الثَّالثة: فِی الإجماع المنقول.

أَمَّا الجهة الأولی: فهناک أسس ومبانٍ ثلاثة فِی وجه حُجِّیَّة الإجماع المحصَّل البسیط:

المبنی الأَوَّل: حکم العقل الْعَمَلِیّ بِحُجِّیَّتِهِ.

المبنی الثَّانِی: قیام الدَّلِیل الشَّرْعِیّ عَلَیٰ حُجِّیَّتِه.

المبنی الثَّالِث: حکم العقل النَّظَرِیّ بِحُجِّیَّتِهِ.

والفارق بین هذه المبانی هو أن الإجماع عَلَیٰ الأساس الأَوَّل یکشف کشفاً عَقْلِیّاً عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ مباشرةً، وعلی الأساس الثَّانِی یکشف کشفاً تعبدیّاً عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیّ مباشرةً، وعلی الأساس الثَّالِث یکشف کشفاً قَطْعِیّاً عَنِ الْحُکْمِ أو عن وجود الدَّلِیل الشَّرْعِیّ علیه.

وفی هذا الضوء یکون البحث عن الإجماع عَلَیٰ الأساسین الأولین بَحْثاً عَنِ الدَّلِیلِ غیر الشَّرْعِیّ عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ؛ لوضوح أن العقل وکذلک الإجماع لَیْسَ کتاباً ولا سنةً، فهما لیسا من الأَدِلَّة الشَّرْعِیَّة الصَّادِرَة من الشَّارِع، وَأَمَّا عَلَیٰ الأساس الثَّالِث فالبحث عن حُجِّیَّة الإجماع قد یکون کذلک وقد یدخل فِی نطاق إحراز صُغْری الدَّلِیل الشَّرْعِیّ ویُعتبر البحث عنه من البحث عن طرق إثبات صدور الدَّلِیل الشَّرْعِیّ من الشَّارِع ووسائل إحرازه وجداناً.

إذن، فالبحث عن الإجماع عَلَیٰ الأساسین الأولین خارج عن محل کلامنا؛ لأَنَّنَا (فِی هذا البحث الثَّالِث) بصدد التعرف عَلَیٰ الطرق والوسائل الَّتِی نُثبت بها صدور الدَّلِیل الشَّرْعِیّ من الشَّارِع، ولذا لم یتعرض سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی الحلقة الثَّالثة للبحث عن الإجماع عَلَیٰ الأساسین الأولین؛ لأَنَّهُ کان بصدد البحث عن وسائل إثبات صدور الدَّلِیل الشَّرْعِیّ من الشَّارِع.

لکننا بالرغم من ذلک کله نرجّح البحث عن الإجماع فِی المقام عَلَیٰ کُلّ الأسس والمبانی الثَّلاَثة المذکورة، وذلک تتمیماً للفائدة.

ص: 410

الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

فلنتناول المبانی الثَّلاَثة بالبحث والدراسة بحسب الترتیب، فنقول:

أَمَّا المبنی الأَوَّل: وهو مبنی کشف الإجماع عن الحکم الشَّرْعِیّ عَلَیٰ أساس حکم العقل الْعَمَلِیّ، فهو الَّذِی یُنسب إلی بعض أکابر القدماء من علمائنا وأبرزهم الشیخ الطوسی ( (1) ) وهو یبتنی عَلَیٰ أساس قاعدة اللُّطْف الْعَقْلِیَّة المتفرّعة عَلَیٰ اصل العدل الإلهی فِی علم الْکَلاَم والَّذِی هو من مدرَکات العقل الْعَمَلِیّ.

وهذه القاعدة یُرَاد بها القاعدة الَّتِی تقرّر ما یکون واجباً عَلَیٰ الله تعالی، غیر أن التأدّب فِی التعبیر یقتضی أن نسمّیه ب_اللطف. فکأن هناک مراتب من اللُّطْف یدرک العقل الْعَمَلِیّ وجوبها عَلَیٰ الله تعالی وصدورها منه؛ لأَنَّهُ عادل ولو لم تصدر منه لم یتصف بالعدل.

إذن، فَالْمُدَّعَیٰ فِی قاعدة اللُّطْفِ هو حکم العقل الْعَمَلِیّ وإدراکه لما یکون واجباً عَلَیٰ الله تعالی بحکم کونه عادلاً، وحاصله حکم العقل بثبوت حق للعبد عَلَیٰ المولی کما یحکم العقل بثبوت حق للمولی عَلَیٰ العبد.

وهذه القاعدة والفکرة قد تمسک بها جملة من علماء الْکَلاَم لإثبات النبوة الْعَامَّة وضرورة بعث الأنبیاء والرسل وإنزال الشرائع والکتب بدعوی أن من اللُّطْف الواجب عَلَیٰ الله تعالی بحکم کونه عادلا أن یفتح للناس أبواب الهدایة من قبله ویقیم الحجة للناس عَلَیٰ طریق السعادة والشقاء.

وحاول الفقهاء الأقدمون تطبیق هذه القاعدة فِی مسألة الإجماع وجعلها مناطاً وملاکاً لاسْتِفَادَةِ حُجِّیَّتِه، بدعوی أَنَّهُ یقبح عَلَیٰ الله تعالی بحکم کونه عادلا إبقاءُ النَّاس فِی اشتباه وضلال وجَعلُهم یُجمعون عَلَیٰ خلاف الحق والواقع وتفویتُ مصلحة الواقع علیهم، فمن اللُّطْف اللازم والواجب علیه تعالی أن لا یسمح بضیاع المصالح الحقیقیة الموجودة فِی الأحکام الواقعیّة وفواتها عَلَیٰ النَّاس نهائیّاً، بل لاَ بُدَّ من أن لا یضیع الحق بین النَّاس، وَلاَ بُدَّ من منارةٍ لیعرف بها النَّاس ما یوجد لدیهم من أخطاء وضلالات، فَلاَ بُدَّ من أن یتلطّف علیهم بإبراز الحقیقة وحفظها ولو ضمناً (أی: ضمن بعض الأقوال).

ص: 411


1- (1) - الطوسی، عِدَّة الداعی: ص246-247.

وعلیه، فإذا فرضنا أن النَّاس اتفقوا وأجمعوا عَلَیٰ حکمِ مّا فَلاَ بُدَّ من إحدی حالتین:

فإما أَنْ یَکُونَ هذا الحکم صحیحاً فهو المطلوب.

وَإِمَّا أن لا یکون کذلک، فَلاَ بُدَّ لله تعالی بِمُقْتَضَیٰ قاعدة اللُّطْفِ من أن یتدخّل لإیجاد قولٍ بالحکم الصَّحِیح لکی لا یضیع عَلَیٰ العباد مصلحة ذاک الحکم.

إذن، فَکُلَّمَا وُجد إجماع عَلَیٰ حکمٍ حَقّاً ومن دون تشویش نستکشف أن معقد الإجماع هو الحق والمطابق للواقع، وَإلاَّ لزم خفاء الحقیقة کُلّیّاً وهو خلاف اللُّطْف.

هذه هی الفکرة الْعَامَّة لأصل حُجِّیَّة الإجماع، وإثباتها ب_قاعدة وجوب اللُّطْفِ عَلَیٰ الله تعالی.

وقد طوّرت هذه الفکرة فِی الإجماع فِی ما بعد عصر الشیخ الطوسی ، فذکر نظیر ذلک بِالنِّسْبَةِ للإمام × وذلک بدعوی أن وظیفة إمام العصر - أرواحنا فداه و - کآبائه الطاهرین × هی إبلاغ الأحکام إلی النَّاس وسدّ باب العدم من قبله ×؛ فَإِنَّ کان الحکم واصلا إلیهم مِنْ قِبَلِ إمامٍ سابق ویعرفه بعضهم فلیس عَلَیٰ إمام العصر × شیء؛ فَإِنَّ الإیصال واجب کفائی علیهم.

وإن انقطع الحکم عن الجمیع ولم یصل إلیهم نِهَائِیّاً ووقع الإجماع عَلَیٰ خلاف الحق وجب عَلَیٰ إمام العصر × إیصاله إلی النَّاس ولو بإلقاء الخلاف فیما بینهم بأسلوبٍ لا ینافی التستّر والغیبة المطلقة، فإذا لم یکن هناک خلاف فسو نستکشف دخوله × فِی الْمُجْمِعِینَ وهو الإجماع الدخولی.

الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

أقول: أَمَّا ما ذکر من تطویر الفکرة وتطبیقها عَلَیٰ إمام العصر فالواقع أَنَّهُ لا دلیل عَلَیٰ وُجُوبِ مثل هذا الإیصال عَلَیٰ الإمام ×؛ فَإِنَّ الأَدِلَّة الخاصة الواردة بشکل فردی فِی وجوب مثل هذا الإیصال بِالنِّسْبَةِ إلی الأئمة السابقین ^ لا تشمل صاحب العصر ؛ فإن کُلّ واحد من الأئمة السابقین ^ کان یتکلم عن نفسه.

ص: 412

وَأَمَّا الأَدِلَّة الْعَامَّة فهی إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَیٰ وُجُوبِ بیان الحکم عَلَیٰ الإمام بعنوان کونه إماماً لا بعنوان کونه شخصاً مجهولاً مثلاً، بِمَعْنَی أَنَّهُ یجب عَلَیٰ الإمام × إبلاغ الحکم بعنوان کونه إماماً عَلَیٰ النَّاس ویؤخذ منه الحلال والحرام ویُستدل عَلَیٰ إمامته بالمُعجِز ویَبثّ الأحکام بین النَّاس عن هذا الطریق، والمفروض عدم وجوب ذلک عَلَیٰ الإمام صاحب العصر ، لمنافاته للتستّر والغیبة، کما لا یجب علیه الانکشافُ أمام شخصٍ خاصّ بعنوان الإمام وبیانُ الحکم له؛ لأَنَّهُ ینافی التستر المطلق.

والقائل بِحُجِّیَّة الإجماع معترف بعدم وجوب الإیصال علیه بالشکل المنافی للتّستّر، وَإِنَّمَا یقول بوجوب الإیصال علیه بمثل إیقاع الخلاف؛ وذلک بالبروز کإنسان مجهول مثلاً، أو بإیقاع ورق مکتوب فِی الطریق کی یأخذه البعض مثلاً، وینتهی ذلک إلی الخلاف، بینما لا دلیل عَلَیٰ وُجُوبِ مثل ذلک.

إذن، فما هو واجب بالأدلة الْعَامَّة ساقط عن إمام العصر فِی زمان الغیبة؛ وذلک لمنافاته للتستّر، وما ینافی التستّر لم یَدُلّ دلیل عَلَیٰ وجوبه علیه.

وَأَمَّا إثبات حُجِّیَّة الإجماع ب_قاعدة وجوب اللُّطْفِ عَلَیٰ الله تعالی فالبحث حول أصل قاعدة اللُّطْفِ وأنه هل یحکم العقل حَقّاً بثبوت حقٍ للعبد عَلَیٰ المولی؟ فَسَوْفَ لا نتعرض له هنا، ونحیله إلی مَحَلّه فِی علم الْکَلاَم. ولکننا نناقش بعد فرض تسلیم صِحَّة القاعدة فِی تطبیقها عَلَیٰ ما نحن فیه بدعوی أَنَّهُ یجب عَلَیٰ الله تعالی من باب اللُّطْف إیصال المصالح الحقیقیة الکامنة فِی الأحکام الواقعیّة إلی النَّاس لکی لا یُحرموا جمیعاً عنها بسبب الإجماع الخاطئ عَلَیٰ خلاف الحق. والمناقشة هی:

أَوَّلاً: أن هذه المصالح الحقیقیة الَّتِی یُدَّعَیٰ فِی المقام أن من اللُّطْف الواجب عَلَیٰ الله تعالی تفویتها عَلَیٰ العباد وأنه لاَ بُدَّ من أن یوصلها إلیهم لکی لا یُحرموا جَمِیعاً منها بسبب الإجماع الخاطئ ماذا یُقصد بها؟ هل المقصود بها المصالح الأوّلیة القبلیة أم المقصود بها المصالح الثَّانَوِیَّة البَعدیة؟

ص: 413

ونقصد بالأولی الملاکاتِ التکوینیةَ الَّتِی هی ثابتة وکامنة فِی ذوات الأفعال ومتعلقات الأحکام بعناوینها الأولیة وبقطع النَّظَر عن أحکام الشَّارِع وتشریعاته، وَالَّتِی هی الدّاعیة إلی أن یحکم الشَّارِع عَلَیٰ طبقها؛ فالمضمضة مثلاً بعنوانها الأَوَّلِیّ فیها مصلحة وملاک تکوینی ثابت قبل حکم الشَّارِع وطلبه وأمره بها بحیث لو التزم بها کافر مثلاً لحصَّل أَیْضاً عَلَیٰ نفس تلک المصلحة والفائدة الموجودة فیها. وهذه المصلحة هی الَّتِی دعت الشَّارِع إلی الحکم وطلب المضمضة والأمر بها.

ونقصد بالثانیة الملاکاتِ الَّتِی هی ثابتة فِی الأفعال والمتعلقات بعناوینها الثَّانَوِیَّة وبعد حکم الشَّارِع وفی طوله، أی: المصالح الکامنة فِی الأفعال بما هی متعنونة بعنوان الطاعة والعبودیة لله تعالی والتدیّن بدینه والتقرّب إلیه کالمصلحة المترتبة عَلَیٰ التدین بالمضمضة والإتیان بها تقرّباً إلی الله تعالی، وَالَّتِی لا یحصل علیها الکافر ولا تَتَحَقَّقُ قبل حکم الشَّارِع وأمره بالمضمضة.

فإن کان المقصود المصالح الأولیة القَبلیّة فلا جزم لنا بلزوم اللُّطْف عَلَیٰ الله تعالی بإیصال جمیع المصالح التشریعیة إلی العباد بأکثر مِمَّا تقتضیه العوامل الطبیعیة وجهود الإنسان نفسه، فلعل هناک مصلحة فِی عدم إیصال بعضها بالشکل المطلوب هنا، وإیکال الأمر إلی مَا تَقْتَضِیهِ العوامل الطبیعی وسعی النَّاس أنفسهم وما إلی ذلک مِمَّا یوجب وصول الحکم إلیهم ولو بعد مئات السنین.

وقد رأینا نظیره فِی المصالح الطبیعیة، فکم مضی من آلاف السنین عَلَیٰ عمر الإنسان وهو لا یعرف دواء السّلّ، کما أَنَّهُ لم یتوصّل حتَّی الآن إلی معرفة دواء السرطان، وقد اقتضت المصلحة الإلهیة إیکال انکشاف أسرار الطَّبِیعَة ومصالحها ودفع مفاسدها إلی العوامل الطبیعیة وسعی الإنسان، فَلِمَ لا تکون المصالح التشریعیة أَیْضاً من هذا القبیل؟

ولا یقاس المقام بمسألة إرسال الرسل وإنزال الکتب؛ فَإِنَّ ذلک مشتمل عَلَیٰ القسم الثَّانِی من المصالح؛ أی: المصالح الثَّانَوِیَّة البَعدیة الَّتِی فِی طول الحکم الشَّرْعِیّ وَالَّتِی کانت تفوت لولا إرسال الرسل وإنزال الکتب.

ص: 414

أَمَّا القسم الأَوَّل الَّذِی نحن بصدده فلیس کذلک؛ فَإِنَّ مثل هذه الملاکات والمصالح یکاد یکون من الواضح عدم لزوم حفظها مِنْ قِبَلِ الله تعالی للبشریة، کما لا ینبغی الإشکال فِی أَنَّهُ لم تجر عَادَةً الله تعالی أَیْضاً عَلَیٰ ضمانها للبشریة وحفظها بتدخل مباشر منه تعالی، ولذا نری فِی تأریخ البشریة أن کثیراً من مصالح الإنسان الَّتِی یتوقف علیها دفع الأخطار المُهلکة عنه لم یشکفها الله تعالی للإنسان بطریق الوحی والدین، وَإِنَّمَا أوکِل ذلک إلی خبرة البشریة وجهدها وبصیرتها المتنامیة المتطورة من خلال التجارب والممارسات لکی یتوصّل عبر آلاف السنین إلی اکتشافها وحتی الآن لا تزال جملة منها غیر مکشوفة، والإنسان سائر فِی طریق اکتشافها.

ولعلّ الحکمة فِی ذلک هی أن نفس ترک الإنسان وخبرته وإیکال اکتشافها إلی جهده وسعیه مشتمل عَلَیٰ مصلحة تربویة للنوع البشری تکون أهم من تلک المصالح، حیث یتکامل الإنسان ویکدّ ویُجدّ وتتفتّح قدراتُه وإمکاناتُه تدریجیا.

إذن، ف_قاعدة اللُّطْفِ لا یصح تطبیقها عَلَیٰ مثل هذه المصالح والملاکات التشریعیة الأولیة التکوینیة إما لعدم الْمُقْتَضِی لمثل هذا التطبیق، باعتبار عدم إدراکنا بعقولنا لزومَ اللُّطْف عَلَیٰ الله تعالی بإیصال جمیعها إلی العباد بأکثر مِمَّا تقتضیه العوامل الطبیعیة وجهود البشریة نفسها، أو لوجود المانع وهو الملاک التربوی الَّذِی ذکرناه والَّذِی یزاحم ذاک الْمُقْتَضِی ویمنعه، ولذا لم یلزم عَلَیٰ الله تعالی أن یَبعث أطبّاء ومهندسین کما بعث أنبیاء ورسلاً، ولا جرت عادته عَلَیٰ ذلک کما جرت عادته عَلَیٰ بعث الأنبیاء والرسل.

نعم، أوجد الأطباء وخلقهم کما أوجد الأنبیاء وخلقهم، لکن هذا غیر البعث والإرسال کما هو واضح.

وَالْحَاصِلُ أَنَّنَا حتَّی لو آمنّا بوجوب اللُّطْف بالإیصال، فإنما نؤمن بذلک بمعنی فتح الطرق الطبیعیة للوصول وإن تأخرت فِعْلِیَّة الوصول مئات السنین؛ إذ من المحتمل وجود مصلحة فِی الاکتفاء بهذا المقدار.

ص: 415

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ تحقیق هذا المقدار (أی: فتح الطریق الطبیعی للوصول) بِالنِّسْبَةِ إلی القسم الثَّانِی من المصالح (أی: المصالح الثَّانَوِیَّة البعدیة الواقعة فِی طول الأحکام) إِنَّمَا یکون من خلال تشریع الشرائع وإرسال الرسل والأنبیاء وإنزال الکتب.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلی المصالح الطبیعیة فإنما یکون ذلک من خلال تزوید البشریة بقابلیة تحصیل الخبرات والتجارب.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلی الأَوَّل من المصالح وهو الَّذِی نحن بصدده فأیضاً یکون من خلال تبلیغ الأحکام عَلَیٰ لسان المبلِّغ الأَعْظَم وإن کان قد یَمنع ظلمُ الظالمین مثلاً عن الوصول فِعْلاً.

هذا کله فیما إذا کان المقصود عبارة عن المصالح الأولیة القَبلیة.

الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وَأَمَّا إن کان المقصود المصالح الثَّانَوِیَّة البَعدیة الَّتِی هی فِی طول الأحکام الشَّرْعِیَّة، فلا إشکال فِی أَنَّهُ جرت عَادَةً الله تعالی وسنّته عَلَیٰ حفظها للعباد، بلا لا إشکال فِی أن هذه المصالح تتمیّز عن القسم السابق بأن طریق حفظها ینحصر بالله تعالی بما هو مشرّع؛ لأَنَّ ما لدی الإنسان من خبرات إِنَّمَا یزید فِی معرفته بالکون الَّذِی یعیش فیه، وَأَمَّا العلاقة بالله تعالی بمعنی الطاعة والتدیّن فهذا مطلب لا یتوصل إلیه البشر الاعتیادی إلا عن طریق الوحی والدین وتشریع الأحکام، فالمصالح البعدیة تتمیز عن المصالح القَبلیة من هذه الناحیة، فتطبیق کبری قاعدة اللُّطْف عَلَیٰ مثل هذه المصالح لا یخلوا من وجه، ولذا کان تطبیق قاعدة اللُّطْف عَلَیٰ أصل النبوة الْعَامَّة والدین وإثباتها وجیهاً، حیث أن هذه المصالح إِنَّمَا تکون عن طریق التشریع وإرسال الأنبیاء، إِلاَّ أَن ذلک لا یُثْبِتُ الْمُدَّعَیٰ فِی المقام؛ لأَنَّ هذه المصالح الَّتِی فِی طول التشریع الربانی وهی ملاکات الطاعة والعبودیة لله تعالی لا تضیع ولا تفوت عَلَیٰ العباد بسبب خفاء الأحکام الواقعیّة علیهم؛ لأَنَّ الأحکام الظَّاهِرِیَّة حِینَئِذٍ موجودة وثابتة دَائِماً عند خفاء الأحکام الواقعیّة.

ص: 416

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ حالها حال الأحکام الواقعیّة من ناحیة مصلحة الامتثال والعبودیة والانقیاد لله تعالی، فلا فرق فِی حفظ هذه المصالح بین الحکم الْوَاقِعِیِّ وَالظَّاهِرِیّ، فحتی إذا کان ما أجمع علیه الفقهاء خلافَ الحکم الْوَاقِعِیِّ کما إذا أخطأ الفقهاء جَمِیعاً وتمسّکوا بالأصل کالاستصحاب مثلاً وکان الحکم الْوَاقِعِیِّ عَلَیٰ خلافه؛ فَإِنَّهُ مع ذلک لا یکون خَارِجاً عن الشَّرْع والدین، بل هو عَلَیٰ طبقه وبقاعدةٍ من قواعده وأصلٍ من أصوله ووظائفه المقررة ظاهریاً کما هو واضح.

فلیس إخفاء الحکم الْوَاقِعِیِّ عَلَیٰ العباد تفویتاً لهذه المصلحة علیهم کی یقال: إن ذلک قبیح بحکم قاعدة اللُّطْفِ، بل إن هذه المصلحة محفوظة وطریق الحصول عَلَیٰ هذه المصلحة مفتوح لهم من خلال الحکم الظَّاهِرِیّ، وعلیه فلا تکون قاعدة اللُّطْفِ دلیلاً عَلَیٰ حُجِّیَّة الإجماع وکشفه کشفاً قطعیاً عَقْلِیّاً عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ.

ثانیاً: أن المقصود من إیصال الحکم إلی النَّاس الواجب عَلَیٰ الله تعالی من باب اللُّطْف هل هو عبارة عن جعل نکتة فِی معرض الوصول إلی الجمیع بحیث یتمکّن کُلّ واحد منهم ولو بجُهدٍ جهید من الوصول إلی الحق أم تُدَّعَیٰ کفایة إیصال الحق إلی بعض النَّاس وإن لم یکن بالشکل الَّذِی تمکن کُلّ واحد منهم من الوصول إلیه ولو بالجُهد الکثیر؟

فإن قصد الثَّانِی ورد علیه أن نکتة وجوب اللُّطْف إِنَّمَا هی الْعُبُودِیَّة والحاجة، وهما ثابتتان فِی جمیع الأفراد عَلَیٰ حَدّ سَوَاء، فلا معنی لوجوب اللُّطْف بِالنِّسْبَةِ إلی فرد دون فرد ولا بِالنِّسْبَةِ إلی فرد واحد عَلَیٰ البدل؛ فَإِنَّ عنوان اجتماع النَّاس عَلَیٰ الخطأ لَیْسَ فیه محذور آخر غیر محذور خطأ نفس الأفراد.

وإن قصد الأَوَّل فهذا لطف ثابت بشأن الجمیع عَلَیٰ حَدّ سَوَاء، ولکن یلزم من ذلک أن یحصل للفقیه القطع کثیراً بأن ما أثبته بمثل الأصل الْعَمَلِیّ أو الأمارة التَّعَبُّدِیَّة مطابق للحکم الْوَاقِعِیِّ، فمتی ما یتّقن الفقیه بأنه لو کان هناک دلیل حاکم مثلاً عَلَیٰ ما توصل إلیه من الأصل أو الأمارة فهو عاجز عجزاً تاماً عن الوصول إلیه، أو یَتَیَقَّنُ بأنه لا یوجد دلیل حاکم علیه کی یمکن لأحد الوصول إلیه وأن مَن أفتی بخلاف ذاک الأصل أو تلک الأمارة فقد أخطأ فیما تخیّله من عدم کون المورد مورداً لذاک الأصل أو لتلک الأمارة، لزم من ذلک أن یحصل له القطع بأن مفاد هذا الأصل أو هذه الأمارة مطابق للحکم الْوَاقِعِیِّ، وهذا مِمَّا لا یلتزم به أحد.

ص: 417

وأیضا لو عرف المجتهد أن فِی المسألة الفلانیة یوجد للعلماء قولان، ونظر فِی أحدهما فحصل له القطع بأنه لیست هناک نکتة صحیحة تعیّنه، لزم من ذلک أن یحصل له القطع بصحة القول الآخر وموافقته للواقع بلا حاجة إلی مراجعة مدرکه والتأمل فیه؛ إذ المفروض أَنَّهُ لاَ بُدَّ من أن یوجد فِی الأقوال قول صحیح ذو نکتةٍ ترشد کُلّ من طلبها وبذل جهده الکامل فِی سبیلها إلی الحقیقة والواقع، وذلک من باب اللُّطْف الواجب عَلَیٰ الله تعالی، وهذا کما نری مِمَّا لا یلتزم به أحد.

إذن، فهذا اللُّطْف المذکور فِی إبراز الحقیقة والَّذِی یُدَّعَیٰ وجوبه ولزومه عَلَیٰ الله تعالی إن ادّعی أَنَّهُ لطف لازم من قبله تعالی ولو بِالنِّسْبَةِ إلی بعض المسلمین (أی: ادّعی أَنَّهُ لاَ بُدَّ من أن یتحقق بنحو یکون لطفاً ولو بِالنِّسْبَةِ إلی بعضهم، بحیث یکفی لإنجاز هذه المهمة الَّتِی یحکم بها العقل الْعَمَلِیّ مِنْ قِبَلِ الله تعالی أن یتلطّف عَلَیٰ خمسة من الفقهاء مثلاً فیرشدهم إلی الحقیقة والواقع وإن بقی الآخرون لا یعلمون الواقع)، فهذا أمر غریب فِی نفسه کبرویاً؛ لأَنَّ میزان ترقّب اللُّطْف من الله تعالی (الَّذِی عبر به عن الوجوب تأدّباً) إِنَّمَا هو العبودیة والحاجة إلی اللُّطْف (أی: کون الإنسان عبداً له تعالی ولا یملک سبیلاً إلی معرفة الحق والواقع الَّذِی هو بحاجة إلیه إلا مولاه).

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا المیزان فِی الجمیع عَلَیٰ حَدّ واحد، فکیف یختص بالبعض؟ وکیف یکفی اللُّطْف إلی البعض فِی سدّ الحاجة الموجودة عند الآخرین؟ وأیّ فرقٍ بین البعض والآخرین من ناحیة مُقْتَضَیٰ العبودیة والحاجة وهو التلطّف من الله تعلی بإبراز الحق والواقع؟

وإن ادعی أَنَّهُ لطف لازم من قبله تعالی بِالنِّسْبَةِ إلی کُلّ المسلمین وأنه لاَ بُدَّ من أن یتحقق بنحوٍ یکون لطفاً بِالنِّسْبَةِ إلی جمیع الفقهاء؛ وذلک بأن یُفترض أن الله تعلی قد جَعَل طریق الوصول إلی الحقیقة مفتوحاً للجمیع بحیث أن بالإمکان أن لِکُلّ فقیهٍ أن یصل إلیها کما وصل إلیها البعض، غایة الأمر أن ذلک بحاجة إلی مزید جهد وبذل وسع أکثر من المقدار الَّذِی هو لازم للاکتفاء بإجراء الأُصُول والقواعد الْعَامَّة فِی الاستنباط.

ص: 418

وبعبارة أخری: جَعَل مدارک الحقیقة موفورة لمن أراد أن یتعب نفسه فِی مقام الفحص ویتحمّل أزید من الْعَمَل الواجب المسوِّغ لإجراء الأُصُول؛ فَإِنَّهُ یصل حتماً إلی هذه الحقیقة، وإن کان لا یجب علیه إتعاب نفسه بهذا النَّحْو، لکن باب الحقیقة مفتوح بهذا النَّحْو؛ فَإِنَّ هذا هو اللُّطْف المبذول من قبله تعالی للجمیع بحکم قاعدة اللُّطْف الْعَقْلِیَّة.

فدعوی الجزم ببطلان هذا الادّعاء لَیْسَ مجازفة؛ لأَنَّنَا فِی کثیر من الموارد نقطع بأنه مهما اجتهد الفقیه وبذل الجهد أکثر فأکثر فَسَوْفَ لا یتغیّر الموقف ولا یصل إلی ما یغیّر مُقْتَضَیٰ القاعدة أو الأصل، وَحِینَئِذٍ فهل یعنی ذلک أن یحصل له القطع بأن ما أثبته حسب القواعد والأصول فِی مقام الاستنباط مطابق للحکم الْوَاقِعِیِّ؟

من الواضح أن ذلک مقطوع البطلان والعدم؛ لوضوح أن الفقیه حتَّی لو قطع بأنه مهما یبالغ فِی الجهد وبذل الوسع فَسَوْفَ لا تتغیّر النَّتِیجَة الَّتِی توصّل إلیها؛ فَإِنَّهُ مع ذلک لا یقطع بأن النَّتِیجَة الَّتِی توصّل إلیها مطابقة للحکم الْوَاقِعِیِّ، فالفقهاء جمیعاً ینفون الالتزام بحصول هذا القطع کما هو واضح.

ثالثاً: لو تنزّلنا عَمَّا قلناه وسلّمنا بکفایة اللُّطْف من الله تعالی بِالنِّسْبَةِ إلی البعض فِی أشباع هذه الحاجة وإنجاز هذه المهمة الْعَقْلِیَّة الَّتِی یحکم بها العقل الْعَمَلِیّ، فإن اللُّطْف المذکور إِنَّمَا یجب عَلَیٰ الله تعالی بِمَعْنَی أَنَّهُ لاَ بُدَّ من أن ینصب مَن یکون فِی نفسه طَرِیقاً إلی الحقائق، لا بِمَعْنَی أَنَّهُ لاَ بُدَّ من أن یرفع مطلق الموانع الَّتِی تمنع النَّاس عن الوصول إلی الحقائق حتَّی وإن کانت بفعل بعض العباد وعصیانهم أنفسهم.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ النصب بالمعنی المذکور قد سلکه الله تعالی بنفس نصب الإمام . وَأَمَّا غیابه فإنما هو من جهة منع بعض العباد وعصیانهم، فلا قصور من ناحیة المولی.

ص: 419

وَالْحَاصِلُ أَنَّنَا حتَّی لو قلنا بأن المراد من اللُّطْف هو اللُّطْف ولو بلحاظ بعض الأفراد، أی: إیصال الحکم الْوَاقِعِیِّ ولو إلی البعض، ولکن نقول: إن هذا اللُّطْف عَلَیٰ تقدیر وجوبه فهو إِنَّمَا یجب بمعنی أن عَلَیٰ المولی أن ینصب حجةً لإیصال ذلک ولو إلی بعضهم وأنه لاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونَ له طریق مفتوح ولو إلی بعضهم، لکن لو تصدّیٰ بعض العباد لخلق هذا الطریق فإن العقل لا یحکم حِینَئِذٍ بأن عَلَیٰ المولی التَّصَدِّیّ لفتحه، بل یحکم العقل بوجوب سلوک المولی الطرق المتعارفة، وهذا ما قد فعله.

إذن، فقد اتضح لحد الآن أن التقرب المذکور للاستدلال بقاعدة اللُّطْف عَلَیٰ حُجِّیَّة الإجماع غیر تَامّ.

وهناک وجهان آخران للاستدلال باللطف فِی باب الإجماع:

أحدهما: أن یقال إِنَّهُ کما یجب عَلَیٰ الله تعالی إرسال الرسل وتشریع الأحکام من باب اللُّطْف، کذلک یجب علیه تعالی من باب اللُّطْف أن لا یُبقی فِی الدین ثغرةً تستوجب الشبهة للناس فِی الدین. أی: یجب أن یجعل فِی قبال کُلّ شبهة الجواب الکافی بحدّ ذاته ولو لم یقتنع به صاحب الشبهة لنقصٍ وقصور فیه لا فِی الجواب.

وفی هذا الضوء یقال: لو اختلف العلماء فِی مسألة عَلَیٰ رأیین مثلاً، فکان أحدهما یقول بالفرق بین السید القرشی والأسود الحبشی فِی مقامٍ اجتماعی مثلاً، والرأی الآخر ینکر الْفَرْق بینهما، وکان الرأی الثَّانِی هو الصَّحِیح، واکتشف مَن یطعن عَلَیٰ الدین العیب الموجود فِی الرأی الأَوَّل فأراد أن یجعل ذلک شبهةً عَلَیٰ الدین أمکن الجواب علیه بأن شبهتک هذه إشکال عَلَیٰ رأی بعض العلماء، ولیس إِشْکَالاً عَلَیٰ الدین؛ إذ لعل الرأی الدینی الحقیقی متجسّداً فِی رأی الآخرین ولیس متجسّداً فِی رأی مَن أفتی بهذه الفتوی.

ص: 420

أَمَّا إذا افترضنا أن علماء الدین کلهم أجمعوا عَلَیٰ الرأی الباطل واکتشف الطاعِن عَلَیٰ الدین الثغرةَ الموجودة فِی هذا الرأی فَسَوْفَ یستحکم عنده أن هذه الثغرة ثغرة فِی الدین، وأن هذا إشکال عَلَیٰ الدین ولیس إِشْکَالاً عَلَیٰ فتاوی بعض علماء الدّین، فیجب عَلَیٰ الله تعالی أن یحول بشکل من الأشکال دون تَحَقُّق الإجماع عَلَیٰ الباطل، کی یَتُِمّ الجواب عَلَیٰ شبهة مَن یکتشف الثغرة الموجودة فِی الرأی الباطل ببیان أن هذا إشکال عَلَیٰ بعض الفتاوی ولعل رأی الدین متجسّد فِی الفتوی الأخری. إذن، فلو رأینا إجماعاً عَلَیٰ حکمٍ عرفنا أَنَّهُ الحق.

ویرد علیه أولاً: أن هذا لو تَمَّ فلا یَتُِمّ فِی الأحکام التَّعَبُّدِیَّة الصرفة الَّتِی لا تحصل (بفرض أی طرف من طرفی الإیجاب والسلب) ثغرة فِی الإسلام، مثلاً لو فرضنا نجاسة عرق الجنب من الحرام أو فرضنا عدم نجاسته فَسَوْفَ لن یؤدی ذلک إلی شبهة وثغرة فِی الإسلام.

وَثَانِیاً: أننا لو افترضنا فِی المرتبة السابقة عَلَیٰ اللُّطْف حصول العلم والاطمئنان (بواسطة العقل النَّظَرِیّ) بصحة ما أُجمع علیه إذن لم نحتج إلی قاعدة اللُّطْف لثبوت المطلوب قبلها بحکم العقل النَّظَرِیّ حسب الفرض، ولو افترضنا أَنَّهُ لم یثبت ذلک فِی الرتبة السابقة عَلَیٰ اللُّطْف إذن أمکن الجواب عَلَیٰ شبهة الطاعن عَلَیٰ الدین بأن هذا إشکال عَلَیٰ فتاوی العلماء ولم یُعلم کون رأی الدین متمثلاً فِی هذه الفتاوی؛ فلعل رأی الدین یخالف رأی هؤلاء العلماء جَمِیعاً.

ثانیهما: أن یقال إِنَّنَا عرفنا (من خلال التَّجْرُبَة) أن الله تعالی قد جرت عادته وسنّته عَلَیٰ اللُّطْف بعباده بعدم حجب المصالح التشریعیة الکامنة فِی الأحکام عنهم، ولذا نری أَنَّهُ قد أَرسل الأنبیاء والرسل، وأنزَل الکتب وشرَّع الشرائع، وجَعَل أوصیاء لأنبیائه ورسله، وأمر العلماء بتبلیغ الأحکام وتعلیمها وأمر الجهلاء بتعلمها، وما إلی ذلک من الأمور.

ص: 421

ومن نعلم أن الحکم المجمَع علیه لو کان بَاطِلاً لَتَلَطَّف عَلَیٰ عباده بإظهار خلافه؛ لأَنَّ هذه هی عادته وسنته الَّتِی عرفناها وعهدناها منه.

ویرد علیه أن التَّجْرُبَة (فِی حدود ما رأیناه وعرفناه من سدّ المولی أبواب عدم وصول المصالح التشریعیة إلی العباد الناتجة من ناحیة عدم إرسال الرسل، وعدم إنزال الکتب، وعدم نصب الأولیاء، وعدم إیجاب التبلیغ عَلَیٰ العلماء، وعدم إیجاب التعلم عَلَیٰ الجهلاء) لا تَدُلُّ عَلَیٰ بنائه تعالی عَلَیٰ سد باب عدم وصول تلک المصالح إلیهم الناتج من قصور النَّاس أو تقصیرهم فِی تلقّی الأحکام وإیصالها إلی الآخرین.

هذا مُضَافاً إلی ما یظهر مِمَّا سبق من أن سد أکثر أبواب العدم الَّتِی سَدَّها المولی تعالی کان مُؤَثِّراً فِی وصول المصلحة البَعدیة إلیهم الَّتِی هی فِی طول الحکم الشَّرْعِیّ وهی مصلحة التعبد والطاعة والانصیاع للمولی.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ اِحْتِمَال الْفَرْق بین هذه المصلحة وبین المصالح التشریعیة القَبلیة الثَّابِتَة فِی الأفعال قبل جعل الأحکام موجودٌ؛ فلعل السنة الإلهیة مُخْتَصّة بسدّ باب عدم وصول هذه المصلحة البَعدیة إلیهم، لانحصار حفظها ووصولها إلی العباد بذلک، بخلاف المصالح الأولیة القَبلیة؛ فَإِنَّهَا قد تکون کالمصالح الطبیعیة الموکولة إلی خبرة البشریة وجهدها فِی سبیل تحصیلها کما تَقَدَّمَ ذلک مشروحاً.

إذن، فلم یَتُِمّ شیء من التقاریب الثَّلاَثة للاستدلال بقاعدة اللُّطْف عَلَیٰ حُجِّیَّة الإجماع. وعلیه، فالمبنی والأساس الأَوَّل من أسس حُجِّیَّة الإجماع لإثبات الحکم الشَّرْعِیّ وکشفه عنه (وهو المبنی القائل بأن العقل یحکم بحجیّته من باب اللُّطْف) غیر تَامّ.

الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

ص: 422

وَأَمَّا المبنی الثَّانِی: وهو مبنی کشف الإجماع عن الحکمِ الشَّرْعِیّ عَلَیٰ أساس التعبد وقیام الدَّلِیل الشَّرْعِیّ عَلَیٰ حُجِّیَّتِه تعبداً نظیر قیام الدَّلِیل الشَّرْعِیّ عَلَیٰ حُجِّیَّة خبر الثِّقَة مثلاً تعبداً، فهو الَّذِی ذهب إلیه فقهاء الجمهور والعامة، حیث استدلوا عَلَیٰ حُجِّیَّة الإجماع بعدة أدلة لَفْظِیَّة، والَّذِی یستحق الذکر منها والتعرض له هو الحدیث المشهور المروی بطرق الْعَامَّة عن النَّبِیّ بلسان: لا تجتمع أمتی عَلَیٰ ضلالة أو ما هو قریب من هذا اللسان. قد وردت من قبلهم روایات عدیدة محصَّلها هو ما ذکرناه.

وتقریب الاِسْتِدْلاِل بذلک عَلَیٰ حُجِّیَّة الإجماع هو أن هذا اللسان وإن کان لسان إخبار، إلا أَنَّهُ شهادة من النَّبِیّ بعصمة مجموع الأمة وأن الأًمَّة بمجموعها المرکّب لا تکون ضالّة ومُخطئة وإن جاز الضلال عَلَیٰ کُلّ فردٍ فرد منها، وهذا هو معنی العصمة فِی المقام. غایة الأمر أن العصمة:

تارةً تضاف إلی الفرد بما هو فرد، کإضافة العصمة إلی کُلّ واحد من أئمتنا ^.

وأخری تضاف إلی الأمة بما هی أمة. أی: المجموع الْمُرَکَّب من الأفراد.

وَحِینَئِذٍ یقال: إن هذه الشهادة لو ثبتت وجداناً بطریق قطعی عن النَّبِیّ (کما لو سُمِعت منه مباشرةً أو حصل التَّوَاتُر فِی نقلها) فَحِینَئِذٍ یُقطع بعصمة الأمة بلحاظ المجموع الْمُرَکَّب، ولو ثبتت تعبداً بخبر الواحد فَحِینَئِذٍ تثبت العصمة هذه أَیْضاً ثبوتاً تَعَبُّدِیّاً، والنتیجة واحدة عَلَیٰ کُلّ حال وهی الْحُجِّیَّة ووجوب اتباع الأمة فیما إذا أجمعت عَلَیٰ شیء؛ لأَنَّهَا لا تُجمع عَلَیٰ شیء إلا وهو حق واقعاً، باعتبار عصمتها بمجموعها الْمُرَکَّب.

وقد یناقش هذا الاِسْتِدْلاِل بأن هذا اللسان وهذا المضمون إِنَّمَا یَدُلّ عَلَیٰ أن مجموع الأمة لا ینحرف ولا یخطئ، فغایة ما یثبت به حُجِّیَّة المجموع، وهذا أمر صحیح وثابت ومسلَّم عندنا أَیْضاً قَطْعاً؛ لأَنَّ أحد أفراد الأمة معصوم لا محالة؛ فهو موجود ضمن المجموع، وهو الإمام الحجة الموجود فِی کُلّ زمان؛ وذلک بشهادة حدیث الثقلین الَّذِی شهد بأن الکتاب والعترة لن یفترقا حتَّی یردا علیه الحوضَ، والمعصوم × لا یوافق غیره عَلَیٰ الضلال والخطأ. إذن، فتکفی عصمة أحد أفراد الأمة لعدم ضلالة الأمة بمجموعها، فهذا اللسان لا یُجدینا شَیْئاً وراء ما یمکن إثباته بنفس عصمة الإمام ×، فالحدیث عَلَیٰ تقدیر صدوره لَیْسَ فیه دلالة عَلَیٰ أکثر من وجود الْمَعْصُوم × فِی الأمة.

ص: 423

إِلاَّ أَن هذه المناقشة غیر تَامَّة؛ وَذَلِکَ لأَنَّ ظاهر هذا الحدیث هو أن المنافاة والمنافرة إِنَّمَا هی ثابتة بین نفس اجتماع الأمة وبین الضلالة، لا بین شخصٍ مُعَیَّنٍ منهم وهو الْمَعْصُوم × وبین الضلالة، ولذا جعل ذلک من میزات هذه الأمة، وَإلاَّ فإن الْمَعْصُوم × کان موجوداً فِی سائر الأمم أَیْضاً.

إذن، فالمقصود بهذا الحدیث عَلَیٰ الظَّاهِر هو عدم اجتماع غیر المعصومین عَلَیٰ الضلالة ممن یُتصوّر بشأن کُلّ واحد منهم بخصوصه الضلال.

وإن شئت قلت: إن ظاهر الحدیث هو أن موضوع العصمة وملاکها هو المجموع. أَیْ: أَن نکتة عدم الضلالة قائمة بالمجموع بما هو مجموع حیث عَبَّرَ بأن الأمة لا تجتمع عَلَیٰ ضلالة، لا أن ملاک العصمة وموضوعها عبارة عن وجود معصوم بینهم بحیث تکون نکتة عدم ضلالة الأمة قائمة به، ویکون ضم سائر أفراد الأمة إلیه من قبیل ضم الحجر إلی جنب الإنسان؛ فَإِنَّ مثل هذا لا یُفهم من هذا اللسان وهذا التعبیر الوارد فِی الحدیث.

نعم، قد یقال: إن الحدیث لا ینتج نتیجة عملیة زائدة عَلَیٰ نتیجة عصمة الإمام ×؛ فَإِنَّهُ وإن دَلَّ عَلَیٰ وجود معصوم آخر وهو مجموع الأمة بما فیهم الإمام ×، فیصبح عندنا معصومان:

أحدهما: الإمام علیه السلام بشخصه.

والآخر: مجموع الأمة بما فیهم الإمام ×.

إِلاَّ أَن هذا لا یتضمن نتیجة مفیدة بِالنِّسْبَةِ إلینا؛ لأَنَّ إحراز قول هذا الْمَعْصُوم الثَّانِی توأم دَائِماً مع إحراز قول الْمَعْصُوم الأَوَّل؛ إذ لو أحرزنا دخول الْمَعْصُوم الأَوَّل فِی الْمُجْمِعِینَ کفی ذلک فِی حُجِّیَّة الإجماع، وإن لم نُحْرِز ذلک لم نُحْرِز قول الْمَعْصُوم الثَّانِی أَیْضاً؛ لأَنَّ المفروض أن الْمَعْصُوم الأَوَّل جزء من الْمَعْصُوم الثَّانِی، فعدم إحراز قول الأَوَّل مساوق لعدم إحراز قول الثَّانِی، إذن فمثل هذا الإجماع الَّذِی یضم الإمام × نحن لسنا بحاجة إلی إثبات حُجِّیَّتِه، إذ یکفی فِی إثبات الحق عصمة الإمام علیه السلام، فلیست فِی هذا الإجماع فائدة مستقلة.

ص: 424

اللهم إِلاَّ أَن یقال: إِنَّهُ یمکن الاستفادة من ذیل الحدیث، حیث ورد فِی بعض صیغه أَنَّهُ قال: إن أمتی لا تجتمع عَلَیٰ ضلالة، فإذا رأیتم اختلافاً فعلیکم بالسواد الأَعْظَم( (1) )؛ فَإِنَّ ظاهر الذیل الوارد فِی هذه الصیغة من الحدیث إرادة المعنی العرفیّ للإجماع وهو الَّذِی لا ینثلم بخروج فردٍ أو فردین، لا المعنی الدقیق الَّذِی هو عبارة عن اتفاق الکل مِنْ دُونِ أیّ استثناء؛ وَذَلِکَ لأَنَّ الحدیث قد فرض سواداً أعظم، وفرض اختلافاً، وأمر باتّباع السواد الأَعْظَم.

إذن، فیکون المقصود بالإجماع هو السواد الأَعْظَم، وَبِالتَّالِی فیکون الْمَعْصُوم × الثَّانِی عبارة عن السواد الأَعْظَم من الأمة وَحِینَئِذٍ فلا یکون إحراز قوله توأماً دائماً مع إحراز قول الْمَعْصُوم الأَوَّل (وهو الإمام ×)، فقد لا نُحْرِز دخول الإمام × فِی الْمُجْمِعِینَ ومع ذلک نُحْرِز قول الْمَعْصُوم الثَّانِی وهو السواد الأَعْظَم، وَحِینَئِذٍ یکون لإثبات عصمته ولإحراز قوله اثر عملی.

هذا غایة ما یمکن أن یقال فِی تقریب الاِسْتِدْلاِل بالحدیث عَلَیٰ حُجِّیَّة الإجماع.

والصحیح فِی مناقشة الاستدلال المذکور هو أن الحدیث ساقط سنداً ودلالةً:

أَمَّا سقوطه سنداً وعدم اعتباره فلیس لأجل الأُصُول الموضوعیة المذهبیة عندنا فحسب، باعتبار ورود الحدیث عن طرق الْعَامَّة بواسطة أفرادٍ مجهولی الحال لدینا، بل السند ساقط وغیر معتبر حتَّی عَلَیٰ أصولهم وموازینهم فِی الجرح والتعدیل.

حُجِّیَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: حُجِّیَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وتوضیح ذلک أن الحدیث لم یرد فِی الصحیحین (صحیح البخاری وصحیح مسلم) وَإِنَّمَا ورد فِی سنن ابن ماجة( (2) ) وسنن أبی داوود( (3) ) وذکره الحاکم النیسابوری فِی مستدرکه عَلَیٰ الصحیحین مشیراً إلی عدم نقاء السند؛ فَإِنَّهُ وإن التزم فِی مستدرکه عَلَیٰ العموم بإخراج الأحادیث بأسانید قد احتجّ بمثلها الشیخان (البخاری ومسلم) أو أحدهما، لٰکِنَّهُ فِی خصوص المقام أشار إلی ضعف أسانید هذه الروایة محاولاً العلاج بما لا فائدة فیه، وبیان ذلک أَنَّهُ قد روی فِی مستدرکه هذا الحدیث عن ثلاثة: ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالک:

ص: 425


1- (1) - سنن ابن ماجة: ج2، ص1203.
2- (1) - راجع: الجزء الثَّانِی، ص1203.
3- (2) - راجع: الجزء الرَّابِع، ص98.

وما رواه عن ابن عمر فقد رواه عن المعتمر بن سلیمان بأسانید سبعة:

أولها: أبو الحسین محمد بن أحمد بن تمیم الأصمّ ببغداد، عن جعفر بن شاکر عن خالبد بن یزید القرنی، عن المعتمر بن سلیمان عن أبیه عن عبد الله بن دینار عن ابن عمر قال: قال رسول الله : لا یجمع الله هذه الأمة عَلَیٰ الضلالة أبداً... إلخ.

ثُمَّ قال: خالد بن یزید القرنی هذا شیخ قدیم للبغدادیین، ولو حفظ هذا الحدیث لحکمنا له بالصحة. یعنی بذلک أن هذا الحدیث من خالد بن یزید إلی رسول الله صحیح السند، فلو کان قد وصلنا من خالد بشکل صحیح لَتَمَّ سند الحدیث. وهذا کما تری یعنی الضعف فِی السند بِالنِّسْبَةِ للمقطع الواقع بین الحاکم وبین خالد.

ثُمَّ یسترسل فِی ذکر باقی الأسانید إلی المعتمر بن سلیمان إلی أن یصل إلی السند الخامس وهو أبو الحسن عبد الصمد بن علی بن حکرم البزّاز ببغداد، عن محمد بن غالب، عن خالد بن عبد الرحمن، عن المعتمر عن سلم بن أبی الذیال، عن عبد الله بن دینار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله : لا یجمع الله هذه الأمة، أو قال: أمتی، عَلَیٰ الضلالة...إلخ.

ثُمَّ قال: وهذا لو کان محفوظا من الراوی [یعنی المعتمر] لکان من شرط الصَّحِیح. وهذا أَیْضاً کما تری تضعیف للمقطع الواقع بینه وبین المعتمر.

وَأَمَّا باقی الأسانید السبعة (غیر الأَوَّل والخامس) فقد وقع فیها شخص بین معتمر بن سلیمان وعبد الله بن دینار غیر مَن مضی فِی السند الأَوَّل (وهو أبوه) وغیر مَن مضی فِی السند الخامس (وهو سلم بن أبی الذیان)، وهذا الشخص عُبّر عنه تَارَةً ب_أبی سفیان المدنی وأخری ب_سفیان وابی سفیان وثالثة ب_أبی سفیان سلیمان بن سفیان المدنی ورابعة ب_سلیمان المدنی وخامسةً ب_سلیمان أبی عبد الله المدنی.

ص: 426

وقال الحاکم: قال الإمام أبو بکر بن محمد بن إسحاق: لستُ أعرف سفیان وأبا سفیان هذا.

وقال فِی سبیل التخلّص من ضعف السند ما مضمونه: إن هذه أسانید سبعة إلی المعتمر بن سلیمان، وهو أحد أرکان الحدیث، لا یسعنا أن نحکم أن کُلّهَا محمولة عَلَیٰ الخطأ؛ لأَجل عدم معرفة سلیمان بن سفیان المدنی الواقع بین المعتمر وعبد الله بن دینار ونحن إذا قلنا هذا القول نسبنا الراوی (یعنی المعتمر) إلی الجهالة، فَوَهَّنَّا به الحدیث ولکنا نقول: إن المعتمر بن سلیمان أحد أئمة الحدیث، وقد روی عنه هذا الحدیث بأسانید یصح بمثلها الحدیث، فَلاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونَ له أصل بأحد هذه الأسانید.

أقول: کأنه یقصد بهذا الْکَلاَم أن سند الحدیث إلی المعتمر ثابت بالاستضافة أو التَّوَاتُر، فلا یضر ضعف الأسانید السبعة، ومجهولیة سلیمان بن سفیان المدنی عندنا الواقع بین المعتمر وعبد الله بن دینار لا تضرّنا؛ لأَنَّ المناقشة فِی السند لأجل هذا الأمر تعنی نسبة الراوی (أی: المعتمر) إلی الجهالة، فَلاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونَ قد سمع هذا الحدیث من ثقة، بأن یکون ابن سفیان ثقة، أو یکون قد رواه عن أبیه، أو عن سلم بن أبی الذیال کما ورد فِی بعض النُّقُول السبعة.

إِلاَّ أَن الحاکم فِی کلامه هذا لم یذکر لنا أَنَّهُ بأیّ دلیل کان یجب عَلَیٰ المعتمر أن لا یروی إلا عن ثقة؟ وهل هناک قاعدة تقولک إن الثِّقَة لا یروی إلا عن ثقةٍ، بحیث نلتزم بوثاقة کُلّ مَن روی عنه ثقة؟ إن هذا ما لم یلتزم به أحد.

ثُمَّ قال الحاکم لتأیید حدیث المعتمر: وجدنا للحدیث شواهد غیر حدیث المعتمر لا أدّعی صحتها ولا أحکم بتوهینها، بل یلزمنی ذکرها، لإجماع أهل السنة عَلَیٰ هذه القاعدة من قواعد الإسلام.

ص: 427

وهنا ینقل الحاکم الحدیث:

تَارَةً عن ابن عباس عن النَّبِیّ بسندین، والمتن فِی أحدهما هو لا یجمع الله أمتی أو قال: هذه الأمة عَلَیٰ الضلالة أبداً، وید الله عَلَیٰ الجماعة وفی الآخر هو لا یجمع الله أمتی عَلَیٰ ضلالة أبدا، وید الله عَلَیٰ الجماعة.

وأخری عن أنس بن مالک عن النَّبِیّ بسند فیه مبارک بن مُسیحم، والمتن هو إِنَّهُ سأل ربه أربعاً: سأله أن لا یموت جوعاً فأُعطی ذلک، وسأل ربه أن لا یجتمعوا عَلَیٰ ضلالة، فأعطی ذلک، وسأل ربه أن لا یرتدوا کفاراً فأعطی ذلک، وسأل ربه أن لا یغلبهم عدوُّهم فیستبیح بأسَهم، فأعطی ذلک، وسأل ربه أن لا یکون بأسهم بینهم، فلم یُعطَ ذلک.

ثُمَّ یقول الحاکم: أَمَّا مبارک بن سُحیم فَإِنَّهُ ممن لا یمشی فِی مثل هذا الکتاب، لکنی ذکرته اضطراراً( (1) ).

أقول: فقد اتضح أن الروایة الواردة عن ابن عمر غیر تَامَّة سَنَداً حتَّی عَلَیٰ أصولهم.

وَأَمَّا الواردة عن أنسب بن مالک فقد اعترف الحاکم نفسه بأن فِی سندها مَن لا یمشی فِی مثل کتاب المستدرک وهو مبارک بن سُحیم.

وَأَمَّا الواردة عن ابن عباس فهی مشمولة لقوله لا أدعی صحّتها ولا أحکم بتوهینها؛ إذ هی مِمَّا لم تثبت صحته.

وَأَمَّا إذا أراد الحاکم من سرد هذه الروایات إثبات استفاضتها فهی کما تری ترجع کُلّهَا إلی روایات ثلاث: عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالک، فکیف تَتُِمّ الاستفاضة بثلاث روایات؟

هذا، إضافةً إلی ما سوف نذکره من اِحْتِمَال اختلاق هذه الروایات بنکتة سیاسیة مشترکة، هذا کله عن الحاکم ومستدرکه عَلَیٰ صحیح البخاری وصحیح مسلم.

ص: 428


1- (3) - راجع: النیسابوری، المستدرک عَلَیٰ الصحیحین: ج1، ص115-117، ط مذیّلة بالتلخیص للحافظ الذهبی.

وهناک صیغتان أخریان للحدیث کما تقدمت الإشارة إلیهما وردت إحداهما فِی سسن ابن ماجة وهی ما عن أبی خلف الأعمی قال: سمعت أنس بن مالک یقول: سمعت رسول الله یقول: إن أمتی لا تجتمع عَلَیٰ ضلالة، فإذا رأیتم اختلافاً فعلیکم بالسواد الأَعْظَم( (1) ).

ووردت الأخری فِی سنن أبی داود وهی ما نقله شریح عن أبی مالک الأشعری، قال: قال رسول الله : إن الله أجارکم من ثلاث خصال: أن لا یدعوَ علیکم نبیّکم فتهلکوا جمیعاً، وأن لا یَظهر أهلُ الباطل عَلَیٰ أهل الحق، وأن لا تجتمعوا عَلَیٰ ضلالة( (2) ).

فأما الأولی فهی أَیْضاً ضعیفة السند بأبی خلف الأعمی، حیث شهد بضعفه جملة من علمائهم.

وَأَمَّا الثَّانیة ففی سندها قضمضم الَّذِی ینقل هذا الحدیث عن شریح وهو محل خلاف عندهم من حیث الجرح والتعدیل.

وَأَمَّا شریح الَّذِی نقل الحدیث عن أبی مالک فهو وإن شهدوا بوثاقته إِلاَّ أَن من المظنون قویا أَنَّهُ لم یُدرک أبا مالک الأشعری کما شهد هو ضمناً عَلَیٰ نفسه بذلک، حیث شهد بأنه لم یدرک سعد بن أبی وقّاص، وأبو مالک قد توفی فِی حیاة سعد.

وهناک مَن شَکَّک فِی أصل روایة شریح مباشرةً عن الصحابة، فلقد نقل عن محمد بن عون/عوف أَنَّهُ سُئل: هل سمع شریح من أصحاب رسول الله ؟ فقال: لا أظن ذلک بل کان یسمع ممَّن ینقل عن الرسول ثُمَّ یرسله. وصرَّح أبو حاتم بأن کُلّ ما یرویه شریح عن أبی مالک الأشعری فهو مرسل، لما عرفت.

ص: 429


1- (4) - سنن ابن ماجة: ج2، ص1203.
2- (5) - سنن أبی داود: ج4، ص98.

وبذلک یکاد یحصل الاطمئنان بالإرسال، وعلیه فالروایة الثَّانیة أَیْضاً غیر تَامَّة سَنَداً، إذن فالحدیث؟؟؟

هذا تمام الْکَلاَم حول سند هذا الحدیث کما هو وارد فِی کتب الْعَامَّة، وقد عرفت أَنَّهُ لا یُجدینا شیئاً. کما لا یُجدینا أَیْضاً بعض المراسیل الشیعیة الَّتِی نقلها صاحب کشف القناع عن الاحتجاج وتحف العقول وذلک بنفس نکتة الإرسال، وکذلک لا یُفیدنا ما ورد فِی البحار( (1) ) نَقْلاً عن الخصال بسند مشتمل عَلَیٰ مجاهیل عن الصادق × عن أبیه عن جده فِی قصة احتجاج علیّ × عَلَیٰ أبی بکر حیث تمسّک أبو بکر بقول رسول الله : إن الله لا یجمع أمتی عَلَیٰ ضلال وناقشه علی × فِی الصغری ولم یناقش أصل الصُّدُور. فإن هذا الحدیث أَیْضاً ساقط سَنَداً باشتماله عَلَیٰ مجاهیل.

وَأَمَّا سقوط الحدیث دلالةً فلأن الصَّلاَة إِنَّمَا هی العدول عن الحق عن عمد وتقصیر، وَأَمَّا مَن خالف حکماً من الأحکام فِی مسألة من المسائل عن اجتهاد بلا تقصیر فِی ذلک فلا یُعَدُّ من الضالّین، خُصُوصاً مع رجوعه إلی حکم شرعی ظاهری فِی المقام الَّذِی هو حکم الله أَیْضاً بشأنه بعد عدم وصوله إلی الحکم الْوَاقِعِیِّ، فکیف یُعتبر ضالاًّ مع أَنَّهُ تمسّک بحکم شرعی تَمَّ له موضوعه واقعاً وهو عدم العلم بالحکم الْوَاقِعِیِّ؟

فالحدیث إذن لا یَدُلّ عَلَیٰ ما یفید فِی مسألتنا الأصولیة؛ لأَنَّ الوارد فیه عنوان لا تجتمع عَلَیٰ ضلالة والضلالة تستبطن الإثم والانحراف، وهو أخص من الخطأ وعدم الحجة المبحوث عنه فِی الإجماع؛ فَإِنَّ خطأ الْمُجْمِعِینَ جَمِیعاً فِی مسألة فرعیة لا تعنی ضلالتهم کما هو واضح.

ص: 430


1- (6) - المجلد الثامن من المجلدات القدیمة فِی الفتن والمحن، الباب الخامس: احتجاج علی × عَلَیٰ أبی بکر فِی أمر البیعة، الحدیث الأَوَّل، ص78.

وإن شئت قلت: إن الروایة حتَّی لو فرضنا ثبوتها عن النَّبِیّ فهی لا تفید غرضنا الأُصُولِیّ هنا؛ لأَنَّهَا لم تقل: إن أمتی لا تجتمع عَلَیٰ خطأ وَإِنَّمَا قالت: إن أمتی لا تجتمع عَلَیٰ ضلالة والضلالة أخص من الخطأ؛ فَإِنَّ المجتهد إذا اجتهد وبذل جهده وصرف نظره فِی الآیات والروایات واستنبط استحباب قراءة السورة بعد الحمد فِی الصَّلاَة، لٰکِنَّهُ کان مخطئاً واقعاً، فلا یقال عنه: إِنَّهُ فِی ضلالة؛ لأَنَّ المتفاهم من الضلالة عرفاً هو الانحراف والإثم.

فغایة ما یثبت بهذه الروایة هو أن جمیع المسلمین سوف لا یصحون فِی یوم من الأیام فسقة وآثمین، فإذا أجمعوا عَلَیٰ استحباب السورة وکان هذا الإجماع خاطئاً فِی الواقع فهم مع ذلک لم یجتمعوا عَلَیٰ ضلالة وانحراف وإثم وبدعة، بل یقال عنهم: إنهم أَخْطَئُوا، فلا تَدُلُّ الروایة عَلَیٰ حُجِّیَّة الإجماع وکشفه تَعَبُّداً عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ.

وعلیه فالمبنی والأساس الثَّانِی من أسس حُجِّیَّة الإجماع لإثبات الحکم الشَّرْعِیّ وکشفه عنه (وهو المبنی القائل بقیام الدَّلِیل الشَّرْعِیّ عَلَیٰ حُجِّیَّتِه تعبداً) غیر تَامّ أَیْضاً کسابقه.

حُجِّیَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: حُجِّیَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وَأَمَّا المبنی الثَّالِث: وهو مبنی کشف الإجماع کشفاً قَطْعِیّاً عَلَیٰ أساس حکم العقل النَّظَرِیّ عَنِ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ أو عَنِ الدَّلِیلِ والحجة الظَّاهِرِیَّة التَّعَبُّدِیَّة المعتبرة عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ فهو المبنی الصَّحِیح.

وتوضیح ذلک: أن للاستدلال بالإجماع عَلَیٰ أساس العقل النَّظَرِیّ وجهین:

الأَوَّل: الاِسْتِدْلاِل به ابتداءً عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ.

الثَّانِی: الاِسْتِدْلاِل به عَلَیٰ أن معقده إن لم یکن حکماً واقعیاً فلا أقلّ من ثبوت حجة تعبدیة معتبرة علیه. ونتیجة التردد بین هذین الأمرین هی ثبوت الحکم تَعَبُّداً؛ لأَنَّ النَّتِیجَة تابعة لأخس المقدمات.

ص: 431

فأما الوجه الأَوَّل القائل بکشف الإجماع عن واقع الحکم عَلَیٰ أساس العقل النَّظَرِیّ فهو إِنَّمَا یَتُِمّ عند تَمَامِیَّة فرضین:

الأَوَّل: أن نعلم (ولو بتصریح المُجمعین) أن مصبّ الإجماع ومعقده هو واقع الحکم، لا جامع الوظیفة الملائم لواقع الحکم ولثبوت الحجة التَّعَبُّدِیَّة علیه.

الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ الحکم المجمع علیه بنحو لو کان الواقع خلافه لشاع ذلک الواقع وذاع، لتوفّر الدواعی إلی ذلک، وقد مرّ علینا (فِی بحث السِّیرَة) توضیح هذه الفکرة.

ومثال ذلک مسألة خُمس أرباح المکاسب، فهی مسألة عَامَّة الابتلاء عند الشیعة، ووجوب الخُمس فِی أرباح المکاسب مؤونة زائدة علیهم وعلی خلاف الطبع، وتتوفر الدواعی إلی التفتیش والسؤال عن ذلک، وعلی فرض کون الجواب الصَّحِیح هو النفی فداعی الإجابة عَلَیٰ السؤال بشکل واضح وعلنی موجود لدی الإمام ×؛ لأَنَّ الحکم لَیْسَ خلاف التقیة، بل هو عَلَیٰ وفق مذاق الْعَامَّة وعلی طبق الظروف الخارجیة الَّتِی کان الإمام × مبتلی بها. إضافة إلی أن ارتباط الشیعة فِی دفع الخمس إِنَّمَا کان بالإمام × أو وکلائه عَلَیٰ مَا یَقْتَضِیهِ طبع هذا الحکم؛ فَإِنَّ وجوب الخمس لَیْسَ حاله حال وجوب قراءة السورة فِی الصَّلاَة مثلاً الَّذِی هو عمل فردی للمصلی یقوم به منفرداً دون أن یتطلّب احتکاماً بالإمام × أو وکلائه، وَإِنَّمَا معنی وجوب الخُمس هو وجوب إعطائه للإمام علیه السلام أو وکلائه، وقد ثبت بِالتَّوَاتُرِ الإجمالی أَنَّهُ کان للإمام × وکلاء فِی البلاد الَّتِی کانت تسکن فیها الشیعة، فمع کُلّ هذا یکون اختفاء حکم ذلک عَلَیٰ الشیعة مستبعداً جِدّاً.

فهذه کُلّهَا أمارات دالة عَلَیٰ أَنَّهُ لو کان الحکم الْوَاقِعِیِّ هو عدم وجوب الخمس فِی أرباح المکاسب لَشَاع ذلک ولم یعقل وقوع الإجماع من الشیعة عَلَیٰ الوجوب، فهذا الإجماع فِی مثل هذا المورد (بالرغم من عدم اعتمادنا فِی موارد أخری عَلَیٰ الإجماع الَّذِی تُحتمل مدرکیته أو یظن بها) یکون دَلِیلاً قَطْعِیّاً عَلَیٰ الحکم، بل لا حاجة فِی مثل هذا المورد إلی الإجماع، وتکفینا الشهرة، فلا یضرنا نقل الخلاف من ابن أبی عقیل أو شخص آخر فِی خمس أرباح المکاسب إن صحَّ ذلک.

ص: 432

وَأَمَّا الوجه الثَّانِی القائل بکشف الإجماع (عَلَیٰ أساس العقل النَّظَرِیّ) عن صِحَّة متعلقه ومعقده، سَوَاء کان عبارة عن واقع الحکم، أم کان عبارة عن جامع الوظیفة المناسب أَیْضاً لغرض قیام الحجة عَلَیٰ الحکم؛ فقد ذکر الأصحاب (کما فِی الکفایة وغیرها) أن الإجماع یکشف عن صِحَّة معقده فیما لو تمّت بینهما (أی: بین الإجماع وصِحَّة المعقد) ملازمة عَقْلِیَّة أو عادیة أو اتفاقیة.

ومَثَّلوا للملازمة الْعَقْلِیَّة بالملازمة بین التَّوَاتُر والصِّدْق، فهناک ملازمة عَقْلِیَّة بین کون الخبر متواتراً وبین کونه صحیحاً وصادقاً.

وَمَثَّلُوا للملازمة العادیة بین اتفاق المرؤوسین ورأی رئیسهم حیث أَنَّهُ عَادَةً لا یصدر اتفاق المرؤوسین عَلَیٰ شیء إلا عن رأی رئیسهم، فهناک ملازمة عادیة بین رأیهم ورأیه، وإن کان لا یستحیل الانفکاک عقلاً بین رأیهم ورأیه.

وأیضاً مَثَّلُوا للملازمة العادیة بالملازمة بین طول العمر والهرم والشیخوخة، فهناک ملازمة عادیة بین طول العمر والشیخوخة، وإن کان لا یستحیل الانفکاک عَقْلاً بینهما؛ إذ قد یفرض عَقْلاً أن تتأخر الشیخوخة والهرم مهما طال العمر کما هی عقیدتنا بشأن الإمام الغائب صاحب العصر الحجة بن الحسن - صلوات الله وسلامه علیه وعلی آبائه و.

وَمَثَّلُوا للملازمة الاتفاقیة بالملازمة بین الاستفاضة والصِّدْق فهناک ملازمة اتفاقیة بین کون الخبر مستفیضاً لم یبلغ حَدّ التَّوَاتُر وبین کونه صحیحاً وصادقاً، وإن کان یمکن الانفکاک عقلاً وعادةً بینهما.

هذا هو التقسیم الثُّلاثی الَّذِی ذکره الأصولیون للملازمة.

وبنا عَلَیٰ الملازمة الاتفاقیة بین الإجماع وصِحَّة معقده فهو لا یکشف عن صِحَّة معقده دَائِماً خِلاَفاً لما إذا بنینا عَلَیٰ الملازمة الْعَقْلِیَّة أو العادیة بینهما، بل یکشف عنها أحیاناً، کما هو الحال فِی الاستفاضة الَّتِی لا تکشف دَائِماً عن صِحَّة الخبر وصدقه، بل قد تورث القطع بالصحة وقد لا تورث ذلک عَلَیٰ اختلاف الموارد والخصوصیات.

ص: 433

والتحقیق هو أن التقسیم الثلاثی المذکور لا یصح بلحاظ نفس الملازمة وحقیقتها؛ فَإِنَّ الملازمة فِی الحقیقة دَائِماً عَقْلِیَّة؛ لأَنَّهَا قائمة دائماً عَلَیٰ أساس الْعِلِّیَّة والمعلولیة، وهی عَقْلِیَّة لا محالة، والحکم بملازمة شیء یعنی الحکم باستحالة انفکاکه عنه والَّذِی من شأنه أن یصدر هذا الحکم إِنَّمَا هو العقل؛ فَإِنَّ الاستحالة والإمکان مِمَّا لا یدرک إلا بالعقل دَائِماً، وَإِنَّمَا التقسیم المذکور یصح بلحاظ الملحوظ؛ لأَنَّ الملزوم:

تارةً یکون عبارة عن ذات الشیء بلا قید أو شرط ومهما کانت ظروفه وأحواله، کالنار الَّتِی تستلزم الحرارة مُطْلَقاً؛ فالعقل هنا یحکم باستحالة الانفکاک مُطْلَقاً، وَحِینَئِذٍ فالملازمة بین النَّار والحرارة نسمیها بالملازمة الْعَقْلِیَّة. ومثال آخر لذلک: الملازمة بین وجود الجسم فِی مکان وبین عدمه فِی مکان آخر؛ فَإِنَّ الملزوم عبارة عن ذات وجود الجسم فِی مکانٍ، أو قل: الملازمة واقعة بین ذات الوجود فِی مکانٍ والعدم فِی مکان آخر.

وأخری: یکون الملزوم عبارة عن الشیء المنوط والمشروط بشروط وخصوصیاتٍ وظروف لا ذات الشیء، أو قل: إن استلزامه لِلشَّیْءِ الآخر مشروط بشروط. وَعِنْدَئِذٍ:

تارةً یفترض أن تلک الشروط والظروف والخصوصیات مقترنة مع الملزوم ومتواجدة فیه فِی عالَمنا دَائِماً أو غالباً، کدوام العمر مائة سنة الَّذِی یستلزم الهرم والشیخوخة، فالعقل هنا یحکم باستحالة الانفکاک ضمن تلک الظروف، وَحِینَئِذٍ فالملازمة نسمّیها بالملازمة العادیة وهی فِی الحقیقة لیست بین ذات دوام العمر مائة سنة والهرم، وَإِنَّمَا هی بین دوام العمر مائة سنة ضمن خصوصیات معینة وبین الهرم، وبرفع تلک المقارنات فِی الآخرة تختفی الملازمة بین العمر والهرم، کما هو الحال فِی الدنیا أَیْضاً حینما یتفق انتفاء تلک المقارنات کما اتفق بِالنِّسْبَةِ لمولانا صاحب العصر .

وأخری: یفترض أن تلک الشروط والظروف لیست مقترنة مع الملزوم ومتواجدة فیه دَائِماً ولا غالباً بل قد تقترن به ویتفق وجودها فیه، کالتعایش فِی البلاد الحارة الَّذِی یستلزم الابتلاء بمرض السِّلِّ مثلاً، فالعقل هنا یحکم باستحالة الانفکاک ضمن تلک الظروف الاتفاقیة وَحِینَئِذٍ فالملازمة نسمّیها بالملازمة الاتفاقیة.

ص: 434

إذن، فما ینبغی أن یقصد بالتقسیم الثلاثی المذکور لاَ بُدَّ من أَنْ یَکُونَ عبارة عن التقسیم بلحاظ مصب الملازمة لا ذاتها.

فإذا اتضح ذلک قلنا إِنَّهُ لا ملازمة أصلاً (لا فِی باب التَّوَاتُر ولا فِی باب الاستفاضة ولا فِی باب اتفاق المرؤوسین عَلَیٰ رأی ولا فِی باب الإجماع) بأیّ نحو من الأنحاء الثَّلاَثة المذکورة للملازمة، ولیس حصول العلم من إجماع العلماء بصحة المجمع علیه، أو من تواتر الخبر أو استفاضته بصحة المخبَر به، أو من اتفاق المرؤوسین عَلَیٰ رأیٍ برأی رئیسهم قَائِماً عَلَیٰ أساس الملازمة الْعَقْلِیَّة ولا العادیة ولا الاتفاقیة.

وقد وضّحنا هذا المطلب بما لا مزید علیه فِی أجلی أمثلة هذه الملازمة المدّعاة وهو عبارة عن الملازمة بین التَّوَاتُر وثبوت الْقَضِیَّة المتواترة وذلک فِی بحث التَّوَاتُر المتقدم، حیث قلنا: إِنَّهُ لا ملازمة أصلاً بأیّ نحو من الأنحاء بین هذین، فَالتَّوَاتُرُ (فضلا عن الإجماع وغیره من الأمثلة) لا یورث القطع والیقین عَلَیٰ أساس الملازمة الْعَقْلِیَّة، وهذا لا یُنافی علمنا وقطعنا بِالْقَضِیَّةِ القائلة کُلّ قَضِیَّة ثبت تواترها فهی ثابتة أو علمنا بِالْقَضِیَّةِ القائلة کُلّ قَضِیَّة قام علیها الإجماع فهی ثابتة أو غیرهما من الأمثلة؛ وَذَلِکَ لأَنَّ العلم بأن المحمول لا ینفک عن الْمَوْضُوع شیء، والعلم بأن المحمول لا یمکن أن ینفک عن الْمَوْضُوع شیء آخر، والملازمة إِنَّمَا هی عبارة عن الثَّانِی، بینما ما نعلمه إِنَّمَا هو الأَوَّل؛ وذلک عَلَیٰ أساس تراکم الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة وزوال الاِحْتِمَال المخالف نتیجة ضَآلته، لا نتیجة قیام البرهان عَلَیٰ امتناع محتَمله عَقْلاً.

فتواتر الأَخْبَار مثلاً بموت زید وإن کان یورث القطع والیقین بموته، ولکن لَیْسَ ذلک عَلَیٰ أساس الملازمة بین إخبار هؤلاء وبین موت زید؛ وَذَلِکَ لأَنَّ خبر کُلّ واحد من هؤلاء وحده نحتمل عدم اقترانه بالصدق، ولم ندرک ملازمة عَقْلِیَّة بینه وبین موت زید. إذن، ف_کُلّ واحد من الأَخْبَار نحتمل أَنْ یَکُونَ ناشئاً من مناشئ أخری غیر ثبوت الموت واقعاً، أی: نحتمل نشوءه من مناشئ هی محفوظة حتَّی مع کذب الْقَضِیَّة والفرد المردّد من الأَخْبَار لا وجود له، وجمیع الأَخْبَار لَیْسَ إِلاَّ عبارة عن نفس تلک الأَخْبَار، ولم نُدرک بعقولنا تمانعاً وتنافیاً بین کذب البعض وکذب البعض الآخر حتَّی یصبح المجموع ملازماً للصدق، وعنوان اجتماع آلاف الأکاذیب لَیْسَ إِلاَّ أَمْراً انتزاعیاً یُنتزع من نفس جمیع هذه الأَخْبَار الکاذبة، فلیس فیه محذور آخر غیر محذور الجمیع، وقد شرح ذلک بکل تفصیل سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی کتابه الأُسَس المنطقیة للاستقراء وقدّمنا جانباً من التوضیح له فِی بحث التَّوَاتُر.

ص: 435

حُجِّیَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: حُجِّیَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

ولا یُنتَقَص ما ذکرناه بمثل فتح الجیش للبلد حیث أن کُلّ فرد منهم وحده غیر قادر عَلَیٰ الفتح ولکنهم جَمِیعاً یفتحون البلد؛ وَذَلِکَ لأَنَّ الملازمة فِی هذا المثال بین الجیش والفتح قائمة عَلَیٰ أساس عِلِّیَّة عمل هؤلاء لفتح البلد، ومن المعقول أَنْ یَکُونَ کُلّ فرد منهم جزء الْعِلَّة، والجمیع تمام الْعِلَّة، فلا یَتَرَتَّبُ الفتح عَلَیٰ الفرد؛ لأَنَّهُ جزء الْعِلَّة لا تمامها، ولکن یَتَرَتَّبُ عَلَیٰ الجمیع؛ لأَنَّ الجمیع تمام الْعِلَّة.

أَمَّا فیما نحن فیه (أی: التَّوَاتُر)، فلیست أخبار المخبِرین عِلَّةً لموت زید حتَّی نفرّق فِی ذلک بین الجمیع والفرد بجزء الْعِلَّة وتمامها.

نعم أخبار المخبِرین عِلَّة للعلم بموت زید، ولکن هذه الْعِلِّیَّة لیست قائمة عَلَیٰ أساس الملازمة وَالْعِلِّیَّة بین الأَخْبَار والموت (کَمَا عَرَفْتَ)، بل هی قائمة عَلَیٰ أساس تراکم الاِحْتِمَالاَت.

إذن، فالکشف القطعی للتواتر (الَّذِی هو أجلی أمثلة الملازمة الَّتِی ادّعوها) لَیْسَ قَائِماً عَلَیٰ أساس الملازمة بأحد أقسامها الثَّلاَثة، وَإِنَّمَا هو عَلَیٰ أساس الاِحْتِمَالاَت، حیث أن احتمال وجود داعی الکذب لدی کُلّ واحد من الْمُخْبِرِینَ له قیمة خَاصّة، وبضرب مجموع الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة بعضها فِی بعض تظهر قیمة کذب الجمیع، وهی ضئیلة جِدّاً لا محالة، وحینما یتضاءل الاِحْتِمَال فِی النفس بدرجة معینة یذوب هذا الاحتمال الضَّئِیل فِی النفس وینطفئ ضمن قواعد وشروط معینة تفصیلها موکول إلی مَحَلّه.

وقد برهن سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ وذکر قوانینه وضوابطه فِی کتابه الْقَیِّمِ الأُسَس المنطقیة للاستقراء، وهو أمر وجدانی أَیْضاً بقطع النَّظَر عن البرهان.

ص: 436

وعین ما ذکرناه فِی التَّوَاتُر یأتی بِالنِّسْبَةِ إلی باقی أمثلة الملازمة کاتفاق المرؤوسین عَلَیٰ رأی والاستفاضة والإجماع (وَبِهَذَا اتَّضَحَ أَنَّهُ یجب تغییر منهج البحث فِی باب الإجماع)؛ فَإِنَّهُ إذا کان خطأ کُلّ واحد من الْمُجْمِعِینَ محتملا، فالقطع بعدم إمکان اجتماعهم عَلَیٰ الخطأ لا معنی له، إلا إذا فرض التمانع والتنافی بین خطأ البعض وخطأ بعض آخر، ونحن لا ندرک بعقولنا تمانعاً من هذا القبیل، فإن کان الإجماع موروثاً للقطع فهذا القطع قائم عَلَیٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، فالصحیح هو ربط کشف الإجماع بنفس تراکم الاحتمالات وفقاً لحساب الاحتمال کما هو الحال فِی التَّوَاتُر، فروح الْکَاشِفِیَّة والحجیة وملاکها فِی کُلّ من التَّوَاتُر والإجماع عبارة عن أمر واحد، فکما أن کاشفیة التَّوَاتُر قائمة عَلَیٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، فکذلک حُجِّیَّة الإجماع؛ فَإِنَّ احتمال الخطأ فِی فتوی کُلّ فقیه وإن کان وارداً إلا أَنَّهُ بملاحظة مجموع الفقهاء الْمُجْمِعِینَ عَلَیٰ فتوی واحدة وإجراء حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ فیها عن طریق ضرب الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لخطئهم بعضها فِی بعض یَتَضَاءَل احتمال اِحْتِمَال خطأ الجمیع، وبقدر ما یصغر احتمال خطئهم یکبر احتمال الصواب ویقترب معقد الإجماع نحو الواقع بدرجة کبیرة تتحول بِالتَّالِی إلی الیقین أو الاطمئنان عَلَیٰ أقل تقدیر بعدم خطأ الجمیع، وهو حجة عَلَیٰ کُلّ حال.

إذن، فالروح الْعَامَّة للکاشفیة فِی کُلّ من التَّوَاتُر والإجماع واحدة.

إلا أَنَّهُ مع ذلک توجد فوارق بین مفردات التَّوَاتُر بوصفها أخباراً حسّیة، وبین مفردات الإجماع بوصفها أخباراً حدسیة، فهناک نقاط ضعف عدیدة فِی الإجماع توجب بُطء حصول الیقین منه، بل عدم حصوله فِی کثیر من الأحیان غیر موجودة فِی التَّوَاتُر؛ فَإِنَّ تضاءل احتمال الخطأ والاشتباه فِی باب الإجماع وضعف هذا الاحتمال بالتدریج نتیجةَ تکثّر الأفراد أبطأ بکثیر من تضاءل احتمال الخطأ والاشتباه فِی باب التَّوَاتُر والإخبار عن حس، وقد یتّفق أن یصل الضعف إلی مرتبةٍ ولا یشتدّ الضعف بعد ذلک بضم الأفراد الآخرین، بخلاف باب الإخبار.

ص: 437

وهذه الأمور الَّتِی هی نقاط ضعف الإجماع وَالَّتِی توجب بُطء تضاؤل احتمال الخطأ وضعفه بنحو أکثر من باب التَّوَاتُر عدیدة نذکر أهمّها وعمدتها:

الأَوَّل: أنّ أصل اِحْتِمَال الخطأ والاشتباه (الَّذِی یضعف بالتدریج نتیجة ضرب الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة بعضها فِی بعض) فِی مفردات الإجماع أقوی بکثیر منه فِی مفردات التَّوَاتُر؛ لأَنَّ مفردات الإجماع اجتهادات وحدوس وأنظار، بخلاف مفردات التَّوَاتُر الَّتِی هی إخبارات وشهادات حسیة أو قریبة من الْحِسّ.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ أسباب الخطأ والاشتباه فِی باب الحدس والاجتهاد کثیرة، بخلاف باب الْحِسّ الَّذِی أسباب الخطأ والاشتباه فیه نادرة؛ فاحتمال الخطأ فِی الحدس أکبر منه فِی الْحِسّ ما دامت نسبة الخطأ فِی الحدسیات أکثر بکثیر من نسبته فِی الحسیات، فَیَکُونُ مبدأ حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ الَّذِی یُرَاد به التوصل إلی الْیَقِین أو الاِطْمِئْنَان فِی باب الإجماع عبارة عن قیمة احتمالیة أضعف من الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة الَّتِی هی مبدأ الحساب فِی باب التَّوَاتُر. أَیْ: أَن احتمال الخطأ فِی هذه الشهادة الحسیة (الَّتِی هی مفردة من مفردات التَّوَاتُر) أضعف منذ البدایة من اِحْتِمَال الخطأ فِی هذه الشهادة الحدسیة الَّتِی هی مفردة من مفردات الإجماع.

وَحِینَئِذٍ فحساب الاحتمال سوف یبدأ من أول الأمر بکسر کبیر یُرَاد تضعیفه بالتدریج فِی باب الإجماع، فإذا کانت قیمة احتمال الخطأ والاشتباه فِی الشهادة الحسیة عبارة عن النِّصْف مثلاً؛ فَإِنَّ قیمة اِحْتِمَال الخطأ والاشتباه فِی الشهادة الحدسیة عبارة عن ثمانیة أعشار.

ومن هنا کانت کاشفیة الإجماع تتأثّر بنکتة اقتراب الفتوی من الْحِسّ، فَکُلَّمَا کانت فتاوی الْمُجْمِعِینَ أقرب إلی الْحِسّ وکان حجم النَّظَر والاجتهاد فیها أقل کان احتمال الخطأ فیها أضعف وکانت کاشفیتها عن الواقع أقوی وآکد، وبهذا قد تتمیّز مسألة عن أخری باعتبار أن حجم النَّظَر الاجتهادی فیها أقل أو أکثر من الآخرین، وَبِالتَّالِی یتمیّز الإجماع فِی المسائل الفقهیة ذات المبادئ النظریة الاجتهادیة عادةً عَلَیٰ الإجماع فِی المسائل الفقهیة ذات المبادئ غیر النظریة المعقَّدة.

ص: 438

وکذلک یختلف الإجماع من عصر إلی عصر، فکما اقتربنا إلی حصر حضور الأئمة ^ کان حجم الجانب الْحِسِّیّ فِی الفتاوی أکبر وحجم تأثرها بالجانب النَّظَرِیّ أقل.

ومن هنا کانت قیمة فتاوی القدماء أکبر من قیمة فتاوی المتأخرین باعتبار أن طول الفاصل الزمنی بین أصحاب الفتاوی وبین الْمَعْصُوم الحاضر × هو الَّذِی یخلّف مشاکل کثیرة فِی المسألة وأدلّتها من حیث السند والدلالة، فَکُلَّمَا ابتعدنا عن عصر الْمَعْصُوم الحاضر × کان حجم الحدس وَالنَّظَر الاجتهادی فِی المسألة أکبر.

کما أَنَّهُ عَلَیٰ هذا الأساس أَیْضاً کلما کان مبلغ تبصّر الفقهاء الْمُجْمِعِینَ وألمعیّتهم وخبرتهم للوصول إلی الواقع أکثر کانت الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لفتاواهم أکبر، فالفقهاء الأنضج اجتهاداً والأکثر حدساً وإحاطة تکون فتاواهم أقرب کاشفیةً وأشدّ فِی مقام تزوید الإجماع بالکاشفیة، ومن أجل ذلک یختلف سنخ العلماء الْمُجْمِعِینَ باختلاف خصوصیاتهم العلمیة وقدراتهم الاجتهادیة الحدسیة.

هذا هو الفارق الأَوَّل بین باب الإجماع وباب الخبر المتواتر.

حُجِّیَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: حُجِّیَّة الإجماع تَعَبُّداً بِالدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

الثَّانِی: أن الأخطاء والاشتباهات العدیدة إذا فُرض انصبابها عَلَیٰ مصبّ ومحور واحد، فَسَوْفَ یکون احتمال اجتماعها أضعف مِمَّا إذا فُرض انصبابها عَلَیٰ أمور متفرقة ومحاور عدیدة، وقد تَقَدَّمَ شرح هذا فِی بحث التَّوَاتُر عند الْکَلاَم عن الْمُضَعِّف الْکَیْفِیّ، فلو أخبرَ ثلاثةُ أشخاص عن لون قبّة واحدة معیّنة وقالوا عنها أَنَّهَا حمراء مثلاً، فَسَوْفَ یکون اِحْتِمَال خطئهم جَمِیعاً أضعف وأبعد وجداناً من اِحْتِمَال خطأ ثلاثة أشخاصٍ أخبر کُلّ واحد منهم عن لون قبّةٍ غیر القبة الَّتِی أخبر عن لونها الآخران.

ص: 439

ولو قرأ عشرة أشخاص سورةً مَعَیَّنَةً من القرآن، فاحتمال خطئهم جمیعاً فِی آیة مَعَیَّنَةٍ من تلک السورة أضعف من اِحْتِمَال خطأ هذا فِی آیة، وذاک فِی آیة أخری، والثالث فِی آیة ثالثة من تلک السورة، وهکذا.

ولو أخبر عشرةُ أشخاص عن موت زید بالخصوص فاحتمال خطئهم واشتباههم جمیعاً أبعد وأغرب من احتمال خطأ جمیع العشرة إذا أخبر کُلّ واحد منهم عن موت شخص غیر الَّذِی أخبر عن موته الآخرون.

وهذه النکتة تسبّب فَارِقاً بین باب الحدس وباب الْحِسّ، ففی باب التَّوَاتُرِ والإخبار عن الْحِسّ یکون للأخطاء والاشتباهات (عَلَیٰ فرض خطأ جمیع الْمُخْبِرِینَ واشتباههم) عادةً محور ومصب واحد؛ لأَنَّ هناک قَضِیَّة حسیة واحدة (وهی عبارة عن لون القبة المعینة فِی المثال الأَوَّل، والآیة المعینة من السورة فِی المثال الثَّانِی، وموت زید بالخصوص فِی المثال الثَّالِث، بینما فِی باب الإجماع والإخبار عن الحدس قد لا یکون للأخطاء والاشتباهات عَلَیٰ فرض خطأ جمیع الْمُجْمِعِینَ واشتباههم) محور ومصب واحد فلو اتفق جمع کثیر من الفقهاء عَلَیٰ وُجُوبِ قراءة السورة فِی الصَّلاَة مثلاً، فعلی فرض خطئهم واشتباههم جَمِیعاً لَیْسَ من الضروری أَنْ تَکُونَ کُلّ الأخطاء منصبة عَلَیٰ مصب واحد، بل قد تکون للأخطاء محاور عدیدة، صحیح أنهم جمیعاً أفتوا بالوجوب، إِلاَّ أَن هذه الفتاوی إخبارات حدسیة بالوجوب ولیست هناک قَضِیَّة حسیة واحدة، وکل واحد من هذه الإخبارات الحدسیة بالوجوب إِنَّمَا جاء نتیجة مقدمات عدیدة دخیلة فِی الاجتهاد واستنباط الوجوب، فقد یخطأ هذا الفقیه فِی مُقَدَِّمَة من هذه المقدمات ویخطأ الثَّانِی فِی مُقَدَِّمَة أخری منها، ویخطأ الثَّالِث فِی مُقَدَِّمَة ثالثة منها، فهذا یتخیل مثلاً حدیث ما صحیحاً سَنَداً، بینما الحدیث ضعیف السند، وذلک یتخیّل حدیثاً آخر تَامّ الدِّلاَلَة عَلَیٰ الوجوب، بینما الحدیث ضعیف الدِّلاَلَة علیه، والثالث یتخیل کون المرجع فِی باب الأقل والأکثر الاِرْتِبَاطِیَّیْنِ عند فقدان الدَّلِیل عبارة عن أصالة الاحتیاط، بینما المرجع عبارة عن أصالة البراءة وهکذا..

ص: 440

وعلیه، فمن الواضح أن اجتماع أخطاء عدیدة عَلَیٰ مصب واحد أبعد من اجتماع أخطاء عدیدة فِی محاور عدیدة، ولذا یکون اِحْتِمَال خطأ الجمیع فِی باب الإِجْمَالِیّ أقوی منه فِی باب التَّوَاتُر، وَبِالتَّالِی یکون أبطأ تضاؤلاً وضعفاً بالتدریج منه فِی باب التَّوَاتُر.

ولهذا السَّبَب نفسه أَیْضاً کلما تکون مناشئ الفتوی المجمع علیها وجهاتها أقرب إلی الْمَصَبّ والمحور الواحد یکون الإجماع أقوی کشفاً، کما إذا فرضنا أن محل جهات المسألة الاجتماعیة واضحة؛ لوجود روایةٍ معتبرة لا إشکال فِی سندها، وَإِنَّمَا الْکَلاَم فِی دلالتها، وأجمعوا عَلَیٰ دلالتها مثلاً عَلَیٰ الحکم المجمع علیه، فمثل هذا الإِجْمَاع أقوی کشفاً من الإجماع فِی مسألةٍ لم تکن مناشئ الفتوی المجمع علیها فیها کذلک کما هو واضح.

الثَّالِث: أَنَّهُ فِی باب الإخبار وَالتَّوَاتُر لا یُحتمل عادةً کون إخبار البعض دَخِیلاً فِی حس الآخرین، بینما فِی باب الاجتهاد والإجماع کثیراً مّا یؤثّر اجتهاد السابق فِی اجتهاد اللاحق بحسن ظنّه، فیدخل احتمال خطأ الاجتهاد الثَّانِی فِی باب الاِحْتِمَالاَت المشروطة الَّتِی شرحها سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی کتابه الأُسَس المنطقیة للاستقراء.

وإذا اتفق جماعة من المجتهدین فِی عصر عَلَیٰ شیء، فقد یتبعهم المتأخرون باعتقاد أنَّ هذا المطلب أصبح إجماعیاً وأن الإجماع حُجِّیَّة، بلا أن یکلّفوا أنفسهم تصحیح دلیل هذه الفتوی، وإذا احتُمل بشأن المتأخر کون إفتائه قَائِماً عَلَیٰ أساس إجماع السابقین؛ فَإِنَّ موافقته لهم سوف لا توجب ضعفاً فِی احتمال خطئهم ولا تؤثر شَیْئاً إلا بمقدار قلیل لا یذکر، أَمَّا إذا عُلم بکون موافقته لهم عَلَیٰ هذا الأساس (کما لو صرَّح به) لم یبق لموافقته لهم أیّ أثر فِی تضعیف احتمال خطئهم جَمِیعاً أصلاً، فإذا کان کُلّ الموافقین المتأخرین من هذا القبیل لم یؤثّر ذلک فِی تضعیف احتمال خطأ السابقین.

ص: 441

وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فِی باب التَّوَاتُر لا یحتمل عادةً أَنْ یَکُونَ بعض الْمُخْبِرِینَ قد وضع تحت تأثیر وهم المخبر الآخر، بمعنی أن لم یَرَ الْقَضِیَّة المخبَر بها ولکن سمع من غیره؛ لأَنَّ ذلک خلف المفروض فِی باب التَّوَاتُر؛ إذا المفروض أنهم یخبرون عن الرؤیة، وهذا بخلاف باب الإجماع؛ فَإِنَّ تأثر اللاحق بالسابق فِی الفتوی حین إصدارها أمر محتمل، بل هو أمر واقع کثیر مِنْ دُونِ التفات تفصیلی لذلک؛ إذ قد یکون التأثر إجمالیاً وارتکازیاً، وهذه نقطة ضعف وسوف تنقص کثیراً من قیمة اِحْتِمَال مطابقة الفتوی اللاحقة للواقع بصورة مستقلة عن الفتوی السابقة واحتمال ذلک فِی الفتوی اللاحقة یوجب أَنْ یَکُونَ احتمال الخطأ منها أکبر؛ لأَنَّ خطأ الفتوی السابقة یکون من أسباب خطأ الفتوی اللاحقة ولا أقل من کون الفتوی السابقة سبباً محتملاً، وَحِینَئِذٍ کلما ازدادت الأسباب ازداد اِحْتِمَال المسبَّب.

وَبِالتَّالِی تَتَغَیَّر نتائج حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، ومن هنا کلما کانت الفتاوی أکثر عَرضیَّةً وأبعد عن الطولیة کانت أقوی فِی الْکَاشِفِیَّة عَمَّا إذا کانت طولیة ومترتّبة زماناً أو مدرسیاً.

إذن، فالعَرْضیة من عوامل القوة، والطولیة والترتب الزمنی أو المَدرسی من عوامل الضعف فِی الإِجْمَاع.

الرَّابِع: أَنَّهُ فِی باب الْحِسّ یکون الْمُقْتَضِی للإصابة (وهو عبارة عن الحواس الظَّاهِرِیَّة مع المدرَکات الأولیة للعقل کاستحالة اجتماع النقیضین مثلاً مُحرَزاً غالباً، ویبقی فقط اِحْتِمَال وجود المانع من قبیل رمد العین أو وجع الرأس أو اشتغال البال ونحو ذلک، بینما فِی باب الحدس والاجتهاد قد یقع الشَّکّ فِی أصل وجود الْمُقْتَضِی للإصابة، کما إذا احتملنا نشوء الخطأ من عدم خلق قدرة فهم النکتة الدقیقة الدخیلة فِی الاستنباط الصَّحِیح فِی نفس هذا المجتهد المستنبِط، فهذا أَیْضاً مِمَّا یوجب کون تضاؤل اِحْتِمَال الخطأ وعدم إصابة الواقع فِی باب الإجماع أبطأ منه فِی باب التَّوَاتُر، نَظَراً إلی أن وجود الْمُقْتَضِی للإصابة مشکوک وغیر محرَز.

ص: 442

الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وفی هذا الضوء نقول:

تَارَةً یفترض أننا قد اکتشفنا مدرک الْمُجْمِعِینَ أو احتملناه.

وأخری یفترض أننا لم نکتشفه ولم نجد مدرکهم ولا ما نحتمل کونه مدرکاً لهم.

ففی الفرض الأَوَّل تَارَةً نفترض أننا اکتشفنا مدرکهم قطعاً وذلک من خلال تصریحهم به أو من خلال أیّ طریق آخر، فهذا هو الَّذِی یُسَمَّیٰ ب_الإجماع المدرکی وَحِینَئِذٍ فإن کان ذاک المدرک تاماً عندنا کفی لنا مدرکاً للحکم بلا حاجة إلی الإجماع، وإن کان باطلاً عندنا فهذا یعنی أننا قطعنا بخطئهم فِی النکتة وَالدَّلِیل الَّذِی أفتوا بالحکم عَلَیٰ أساسه، فلا معنی لإجراء حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ لنفی خطئهم بعد العلم بخطئهم، وَبِالتَّالِی فلا یجدینا إجماعهم شَیْئاً.

وَأَمَّا إذا شککنا فِی صِحَّة ذاک المدرک وفساده فقد ینفعنا حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ لإثبات صِحَّة المدرک الَّذِی تمسّکوا به جمیعاً، وهذا هو الَّذِی کان یسمیه سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ بالتطبیق الضعیف لکاشفیة الإجماع الَّتِی تَقَدَّمَ شرحها، حیث کان یقول: إن هذه الْکَاشِفِیَّة لها طرزان من التطبیق: أحدهما ضعیف، والآخر قوی صحیح، وضعف الأَوَّل وقوة الثَّانِی کلاهما مرتبط بمؤثرات حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، فأما التطبیق الضعیف فهو أن یُرَاد بالإجماع کشف صلاحیة المدرک الَّذِی أفتی المجمعون عَلَیٰ أساسه بعد الفراغ عن أصل وجوده والشک فِی صحته وصلاحته للمدرکیة واستفادة تلک الفتوی منه، فیطبّق مبدأ کاشفیة الإجماع عَلَیٰ ذاک المدرک المتمثّل فِی آیة أو روایة أو دلیل عَقْلِیّ.

وَأَمَّا التطبیق الْقَوِیّ الصَّحِیح فسیأتی قَرِیباً ذکره - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَی.

ص: 443

وحاصل صورة هذا التطبیق الضعیف أن یقال: إن مدرک الْمُجْمِعِینَ إذا کان عبارة عن روایة مَعَیَّنَة مثلاً وشککنا فِی صِحَّة الاستناد إلیها فِی تلک الفتوی المجمع علیها، فَحِینَئِذٍ نطبق حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ عَلَیٰ استناد الْمُجْمِعِینَ إلیها ونقول: إن هذه الروایة قد استنتج منها الفقهاء عَلَیٰ کثرتهم هذه الفتوی المعینة، وقد یُخطأ فقیه واحد فِی الاستنتاج وفهم هذا الحکم من هذه الروایة نظراً إلی عدم تَمَامِیَّة دلالتها عَلَیٰ الحکم مثلاً، إِلاَّ أَن افتراض خطأ جمع کبیر من الفقهاء فِی ذلک منفی بحسب حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، فیحصل لنا الْیَقِین أو الاِطْمِئْنَان بصلاحیة تلک الروایة للمدرکیة؛ إذ لا یمکن افتراض أن کُلّ أولئک الَّذِی استندوا إلیها وجعلوها مدرکاً لفتواهم قد أَخْطَئُوا فِی استنادهم إلیها فِی فهمهم الحکم منها، وهذا الْیَقِین أو الاِطْمِئْنَان حجة لمَن حصل له عَلَیٰ الأقل وإن لم یکن حجة لغیره فیما إذا فرضنا حصول هذا الْیَقِین أو الاِطْمِئْنَان من مجرد جمع آراء الآخرین وملاحظة إجماعهم؛ فَإِنَّ رجوع الجاهل إلیه حِینَئِذٍ سوف لا یکون من رجوع الجاهل إلی العالم، بل من رجوع الجاهل إلی الجاهل، فلا یجوز تقلیده.

نعم، إذا فرضنا حصول هذا الْیَقِین أو الاِطْمِئْنَان له من الرجوع إلی مدارک المسألة وَالنَّظَر فیها لا من مجرد إجماع الآخرین، کان حُجِّیَّة لغیره أَیْضاً وجاز تقلیده؛ لأَنَّهُ حِینَئِذٍ یکون من رجوع الجاهل إلی العالم.

هذا هو التطبیق الضعیف لکاشفیة الإجماع، ووجه ضعفه هو أَنَّهُ غالباً یبتلی ببعض نقاط الضعف السابقة الَّتِی ذکرناها للإجماع، کنقطة الضعف الأولی ونقطة الضعف الثَّالثة، ونقطة الضعف الخامسة من تلک النقاط، فیمکن افتراض خطأ الکل فِی استنادهم إلی هذه الروایة؛ لأَنَّ الْقَضِیَّة حدسیة لا حسیة، أو لأن اللاحق قد اعتمد عَلَیٰ السابق وتأثر به، أو لأن هناک نکتة واحدة مشترکة لِکُلّ الأخطاء مثلاً.

ص: 444

هذا هو وجه ضعف هذا التطبیق، خُصُوصاً مع الالتفات إلی أن الإنسان یعلم أن کثیراً من الْقَضایا النظریة الحدسیة کانت قد اتفقت علیها کلمة جمهور العلماء فِی کُلّ فن، ثُمَّ انکشف بعد ذلک بطلانها وخطؤهم جَمِیعاً؛ إذ عَلَیٰ امتداد خط المعرفة البشریة تراکمت الخبرات والتجارب فانکشف خطأ تلک الحدوس ومع هذا کیف یحصل الجزم للإنسان؟

نعم، لو افترضنا أن حدوس الفقهاء وأنظارهم المتجمّعة فِی المسألة کانت قریبة من الْحِسّ وتشبهه بحیث تخلو عن نقاط الضعف المذکورة لکان لهذا التطبیق وجه وأمکن التَّمَسُّک حِینَئِذٍ بإجماعهم للکشف عن صِحَّة المدرک الَّذِی استندوا إلیه فِی فتاواهم، کما إذا فرضنا أن الفقهاء کلهم قد استندوا إلی ظهورٍ فِی روایة مَعَیَّنَة صحیحة السند عندنا، فاستظهروا جَمِیعاً من اللَّفْظ معنی واحداً مِنْ دُونِ إعمال قواعد التعارض والکبریات الظهوریة المعقدة، ففی مثل ذلک یحصل الوثوق عادةً بذاک الظُّهُور لولا وجود نکتة خاصة تمنع عن حصول الوثوق؛ لأَنَّ مدرکهم حِینَئِذٍ هو الاستظهار، والاستظهار مسألة تشبه الْحِسّ وقریبة منه کما هو واضح.

وَحِینَئِذٍ ففی مثل ذلک یکون لمثل هذا الإجماع نحو من الاعتبار، لا باعتبار تقلید أولئک الفقهاء الَّذِینَ استظهروا وحسن الظن بهم، بل باعتبار أنهم هم أنفسهم یمثّلون العرف، بل هم العرف الأدقّ والأبصر، فإذا کانوا یمثّلون عُرْفاً بصیراً بحسب الحقیقة، فهم بأجمع8هم معنی معیناً کانوا قد استظهروه من اللَّفْظ فلا محالة یحصل الجزم والاقتناع أو الوثوق بأن هذا هو الظُّهُور العرفیّ للکلام وأن هذا الفهم العرفیّ هو الصَّحِیح، فیما إذا لم تکن هناک نکتة خاصة یمکن أن تفسّر خطئهم جَمِیعاً فِی ذاک الفهم والاستظهار فتکون نکتة مشترکة لِکُلّ الأخطاء وتمنع حِینَئِذٍ عن حصول الوثوق بذاک الفهم وتقتضی رفع الید عن ذاک الاستظهار.

ص: 445

هذا کله إذا افترضنا أننا اکتشفنا مدرک الْمُجْمِعِینَ قَطْعاً.

وکذلک الحال فیما إذا احتملنا مدرکیة المدرک الفلانی عند الْمُجْمِعِینَ، أی: احتملنا أن فتاواهم قائمة عَلَیٰ أساسه، وهو الَّذِی یُسَمَّیٰ ب_الإجماع المحتمل المدرکیة. فإن کان ذلک المدرک تَامّاً عندنا کفی لنا مدرکاً للحکم بلا حاجة إلی الإجماع، وإن کان بَاطِلاً عندنا فمعناه أننا نحتمل خطأَهم بالفعل؛ إذ نحتمل أن مدرکهم هو هذا المدرک الخاطئ عندنا، ومع احتمال خطئِهم بالفعل لا معنی لکاشفیة الإجماع عَلَیٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ.

نعم، قد ینفعنا حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ لنفی کون هذا هو مدرکهم؛ إذ نستبعد أن یکونوا بأجمعهم قد اعتمدوا عَلَیٰ هذا المدرک الباطل واستندوا إلیه ولم یلتفتوا جمیعاً إلی فساده؛ إذ معناه اقتران غفلات کثیرة صدفةً، وهو بعید. وَحِینَئِذٍ فیخرج الإجماع عن کونه محتمل المدرکیة ویدخل فِی الفرض الثَّانِی الَّذِی سنتکلم عنه قَرِیباً - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَی -.

هذا کله فِی الفرض الأَوَّل، وهو فرض کون الإجماع مدرکیاً أو محتمل المدرکیّة.

الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وَأَمَّا فِی الفرض الثَّانِی وهو ما إذا لم نکتشف مدرکَ المجمعین ولم نجده، ولم نجد أَیْضاً ما نحتمل کونه مَدْرَکاً لهم، فهنا قد یَکشف إجماعُهم بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ عن مدرک صحیح لم یصلنا وبه یثبت الحکم المجمع علیه، وهذا هو الَّذِی کان یسمیه سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ بالتطبیق الصَّحِیح القویّ لمبدأ کاشفیة الإجماع، وهو أن یُرَاد بالإجماع استکشاف أصل وجود المدرک بنحو مفاد کان التامة؛ وذلک فیما إذا أجمع الفقهاء عَلَیٰ فتوی ولم یکن علیها دلیل فیما بین أیدینا من مدارک وأدلّة.

ص: 446

وتوضیح ذلک: أننا إذا افترضنا أن فقهاء الإمامیة المعاصرین للغیبة الصغری أو بُعیدها إلی فترة کالکلینی والمفید والمرتضی والصدوق والشیخ الطوسی - رحمهم الله - وغیرهم ممّن یُعَبَّر عنهم ب_قدماء الأصحاب قد أجمعوا عَلَیٰ رأی واحد واستقرّ فتواهم جَمِیعاً فِی مسألة من المسائل عَلَیٰ حکمٍ، ولم یکن یوجد بأیدنا مدرک یَدُلّ عَلَیٰ تلک الفتوی بحسب الصِّنَاعَةِ، نَظَراً إلی کون تلک الفتوی عَلَیٰ خلاف القواعد الْعَامَّة المنقولة مِنْ قِبَلِ نفس هؤلاء فِی کتب الحدیث مثلاً، ولم یکن بأیدنا مُخَصِّصٌ لتلک القواعد، ففی مثل ذلک نستکشف وجودَ مأخذ ومدرک دال عَلَیٰ ذاک الحکم بأیدیهم؛ وذلک ببیان أن إفتاء أولئک الأجلاء والأساطین مِنْ دُونِ دلیل ومدرک أمر غیر محتمَل فِی حقهم مع جلالة قدرهم وتثبّتهم فِی الدین وشدة تورّعهم عَلَیٰ الإفتاء بلا دلیل، کما أَنَّهُ لا یحتمل فِی حقّهم أن یکونوا قد غفلوا عن أن هذا الحکم الَّذِی أفتوا به لَیْسَ عَلَیٰ طبق القواعد الْعَامَّة کی لا یکون بحاجة إلی دلیل خَاصّ، بل هو عَلَیٰ خلاف القاعدة الأولیة؛ لأنهم هم نَقَلَة القاعدة الأولیة إلینا بحسب الفرض، خُصُوصاً إذا کانت تلک القاعدة واضحة ومشهورة ومطبَّقة من قبلهم فِی نظائر المسألة، فَحِینَئِذٍ نجزم بأنهم قد استندوا فِی فتواهم إلی مدرکٍ خرجوا بموجبه عن مُقْتَضَیٰ تلک القاعدة الأولیة، وهذا المدرک الْمُخَصِّص لحکم القاعدة الأولیة والَّذِی لم یصلنا یتردّد فِی بادئ الأمر بین احتمالین:

الاحتمال الأَوَّل: أَنْ یَکُونَ عبارة عن دلیل لَفْظِیّ وروایة عن الأئمة ^ دالّة عَلَیٰ هذا الحکم الَّذِی أفتوا به، وقد استندوا إلیها وبها خرجوا عن مُقْتَضَیٰ القاعدة، إِلاَّ أَن هذه الروایة لم تصل إلینا ولا غرابة فِی عدم وصولها.

وهذا الاحتمال ساقط عَادَةً؛ وذلک لأَنَّهُ لو کان توجد لدیهم روایة من هذا القبیل قد استندوا إلیها وأفتوا عَلَیٰ أساسها، فلماذا لم یذکروها فِی کتبهم الفقهیة الاستدلالیة ولا فِی مجامیعهم الحدیثیة الروائیة؟ إذ من غیر المعقول أنهم جَمِیعاً استندوا إلی روایة واضحة الدِّلاَلَة عَلَیٰ ذلک، ولذا أجمعوا عَلَیٰ مضمونها، ومع ذلک لم یتعرّض لذکرها أحد منهم مع أنهم أصحاب مجامیع حدیثیة وکتب فِقْهِیَّة استدلالیة، وطالما تعرّضوا لروایاتٍ رغم أَنَّهَا ضعاف ورغم أنهم لم یستندوا إلیها سنداً أو دلالةً، فضلا عن ما یستندون إلیه من الصحاح، بل کیف یحتمل ذلک بشأنهم مع ملاحظة أن فتاواهم ومتونهم الفقهیة کانت عَلَیٰ حسب الروایات الواردة غالباً ولم تکن عبارة عن تفریعات وتشقیقات مستقلّة کما فِی المتون الفقهیة المتأخرة، فکیف یفترض وجود روایة لم یجعلوا لها متناً فِی کتبهم وغفلوا عنها نهائیا؟

ص: 447

کُلّ هذا یوجب العلمَ عَادَةً بسقوط هذا الاحتمال والیقین أو الاطمئنان بعدم وجود مثل هذه الروایة، وَبِالتَّالِی یوجب تعیّن الاحتمال الثَّانِی.

الاحتمال الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ ذاک المدرک الَّذِی استند إلیه المجمِعون والَّذِی لم یصلنا عبارة عن دلیل لُبِّیّ غیر لَفْظِیّ وارتکاز عَامّ عاشوه فِی وجدانهم ولمسوه فِی الطبقة السابقة علیهم والجیل الَّذِی کان قبلهم وهو جیل أصحاب الأئمة ^ الَّذِی هو حلقة الوصل بین هؤلاء الفقهاء المجمِعین وبین الأئمة ^، ومنهم انتقل کُلّ هذا العلم والفقه إلیهم.

فالفقهاء تلقّوا الحکم الَّذِی أفتوا به لا بشکل دلیل لَفْظِیّ وروایة، بل بشکل هذا الارتکاز الْعَامّ الَّذِی کان مَوْجُوداً لدی الجیل السابق علیهم.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الارتکاز لَیْسَ دَلِیلاً لَفْظِیّاً وروایةً محددَّةً کی تُنقَل وتدوَّن فِی الکتب الفقهیة فِی مقام الاِسْتِدْلاِل الفقهی أو فِی المجامیع الروائیة فِی مقام جمع الأحادیث، بل هو مستفاد بشکل من الأشکال من مجموع دلالات السُّنَّة ومفاداتها من فعل الْمَعْصُوم أو تقریره أو قوله عَلَیٰ إجمالها، ولهذا لم یُضبط فِی أصل من الأُصُول، فهذا الارتکاز یکشف عن جامع السُّنة ووجود سُنَّةٍ إجمالا إما قولاً أو فِعْلاً أو تقریراً تثبت هذا الحکم الشَّرْعِیّ، لا أَنَّهُ یکشف عن خصوص قول الْمَعْصُوم أو فعله بالخصوص، وإجماع الفقهاء الأقدمین یکشف عن وجود هذا الارتکاز الْعَامّ عند جیل أصحاب الأئمة ^، وهذا هو التفسیر الوحید الَّذِی تلتئم به قطعیّاتنا الوجدانیّة فِی المقام، وَحَیْثُ أَنَّ الارتکاز المذکور شیء بعید عن الحدس وقریب من الحس لو لم یکن حسیاً، ولیس کالبراهین الْعَقْلِیَّة الحدسیة، فلا یقال: لعلّهم أَخْطَئُوا جَمِیعاً فِی فهمه، فالخطأ فِی هذا الارتکاز غیر محتمل عَادَةً.

إذن، فیحصل بذلک القطع بِالْحُکْمِ الشرعی، باعتبار أن الإجماع قائم عَلَیٰ أساس الإحساس بهذا الارتکاز، والارتکاز قائم عَلَیٰ أساس الحسّ، فلا محالة یحصل الجزم أو الوثوق بالحکم، لکن ضمن شروط وتحفّظات یجب أخذها بعین الاعتبار لتَتُِمَّ کاشفیة الإجماع حسب حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ، وسنذکرها قَرِیباً - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَی -.

ص: 448

هذا هو التطبیق الصَّحِیح والأقوی لمبدأ کاشفیة الإجماع، وبما قلنا اتضح أن هذا التطبیق إِنَّمَا یصح فِی إجماع القدماء من فقهائنا الذین تلوا عصر الرواة وأصحاب الأئمة ^، ولعلّ ذاک الارتکاز الَّذِی ذکرناه لم یکن اسمه غیر الإجماع، ولذلک کثرت دعوی الإجماع مِنْ قِبَلِ الشیخ الطوسی والمفید والصدوق - رحمهم الله - لٰکِنَّهُ إجماع غیر مکتوب وهو الَّذِی نسمّیه الیوم ب_الارتکاز. فعند ما یدّعی الشیخ الطوسی مثلاً الإجماعَ عَلَیٰ شیء، قد یکون المقصود به هو الإجماع غیر المکتوب الَّذِی حقیقته عبارة عن الارتکاز الَّذِی ذکرناه.

وهذا التطبیق کما یَتُِمّ فِی مسألة من المسائل الَّتِی تعرض لها هؤلاء الفقهاء القدماء وطرحوها للبحث فِی کتبهم ومتونهم واتفقوا فیها عَلَیٰ فتوی معیّنة، کذلک یَتُِمّ فِی مسألة لم یتعرضوا لها ولم یطرحوها للبحث فِی کتبهم ومتونهم الاستدلالیة والحدیثیة، فإذا اطّلعنا مثلاً عَلَیٰ متونهم الفقهیة ووجدناهم یتفقون عَلَیٰ فتوی مِنْ دُونِ أن یعنونوا المسألة ویطرحوها للبحث، فَحِینَئِذٍ یأتی نفس هذا التطبیق.

والنکتة فِی ذلک هی أن هذه الفتوی إذا أخذناها من متونهم الفقهیة فأیضا نقول بشأنها: إِنَّهُ لا یحتمل صدورها منهم بلا دلیل ومدرک، ولا یحتمل کون مدرکها روایة أهملوا ذکرها (کَمَا عَرَفْتَ)؛ فَإِنَّ کتب الفقه حینذاک کانت حسب متون الروایات، ولا یحتمل أن هذا الحکم کان مفاد روایة خاصة وصلت إلیهم بطرقهم ثُمَّ لم یعنونوا مسألة بإزاء مفاد تلک الروایة وغفلوا جَمِیعاً عن ذلک؛ فَإِنَّ هذا بعید جِدّاً، فیحصل الوثوق بأنهم تلقوا الحکم من الارتکاز الَّذِی عاشوه، والَّذِی لمسوه فِی الجیل المتقدم علیهم وهو جیل الرواة وأصحاب الأئمة ^.

وفی ضوء ما ذکرناه تندفع الإشکالات المعروفة الَّتِی أُورِدَتْ عَلَیٰ التَّمَسُّک بالإجماع، ونختار منها فیما یلی أربعة وهی:

ص: 449

الإشکال الأَوَّل: هو النقاش الصغرویّ فِی کَیْفِیَّة تحصیل الإجماع، وذلک باعتبار أننا لسنا قادرین عَلَیٰ الاطّلاع عَلَیٰ آراء جمیع الفقهاء بِالنِّسْبَةِ إلی أیّ عصرٍ من العصور، ولا نقطع بعدم وجود فقیهٍ فِی ذاک العصر یخالف الرأی الَّذِی وصلنا من ذاک العصر إلا فِی الضروریات وما یتلو تلوها، فکم من فقیهٍ لم یکتب فتواه، وکم ممّن کتب فتواه لم یصل کتابه إلینا، وغایة الأمر نفترض أن أقوال العلماء الذین وصلت إلینا أقوالهم أورثت لنا القطع بأن العلماء الآخرین الذین کانوا واقعین فِی خطّهم والتلامذة الذین تربّوا عَلَیٰ أیدیهم کانوا أَیْضاً یرتئون نفس الرأی، ولکن کیف نعرف آراء الآخرین الذین کانوا معاصرین لأساتذتهم وکانت لهم تحقیقات وأتباع، إلا أنهم انقرضوا وانتهت مدرستهم وبقی هذا الخط الْعَامّ؟

مثل ما وقع فِی العصر القریب حیث کان الشیخ هادی الطهرانی معاصراً للعَلَمَیْنِ المحقق الخراسانی صاحب الکفایة، والسید الیزدی صاحب العروة، وکانت له آراء وطلاب ومدرسة ولکن انقرضت مدرسته وبقی هذا الخط الموجود الآن.

والحاصل أَنَّهُ کیف یمکن تحصیل الإجماع بعد الالتفات إلی أن الأقوال الواصلة إلینا فِی المسألة هی عَلَیٰ أحسن التقادیر عبارة عن فتاوی أصحاب الکتب والمجامیع ممّن کانت له کتب ومجامیع، أو کان له منبر یجل تحته أصاحب کتب، وأصحاب الکتب أو المنابر هؤلاء هم الذین وصلت إلینا آراؤهم ونُقلت إلینا فتاواهم، ولکن هذا المقدار لا یمکن أن یمثّل إجماع علمائنا فِی عصر واحد، فضلاً عن أکثر من عصر؛ إذ لَیْسَ کُلّ فقهاء الإمامیة کانوا إما أصحاب کتب أو أصحاب منابر، بل کثیرون منهم لم یکن لهم کتب ولا مجامیع، أو کانت لهم کتب لکنها غیر مشتهرة بحیث یُنظر إلیها ویؤخذ منها؛ لأَنَّهَا لم تکن تؤخذ بنظر الاعتبار فِی مقام جمع الفتاوی وأخذ الأقوال، ولهذا نجد أن من یُنقل عنهم عَادَةً الفتاوی الفقهیة وتُذکر أسماؤهم فِی مجال نقل الأقوال عددٌ قلیل نسبیاً، مع أننا نجزم أن عدد علمائنا الإمامیة الاثنی عشریة فِی تلک العصور یزید عن هذا العدد، ولیس هذا إلا لأَنَّ عَدَداً کبیراً منهم لم تُدوَّن لهم أسماء، وبقوا خارج دائرة الآراء، إما لبُعدِهم عن المراکز والحوزات الَّتِی کانت تصدر منها الآراء، کمن کان یسکن النواحی والأقطار النائیة جِدّاً، أو کان مغموراً فِی وسطه وبیئته، أو لسبب آخر وهکذا.. وَحِینَئِذٍ فتحصیل الإجماع فِی المقام غیر ممکن.

ص: 450

الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وهذا الإشکال قد ظهر جوابه مِمَّا تَقَدَّمَ، فنحن لا نؤمن بالإجماع بما هو إجماع عَلَیٰ أساس بعض المبانی القدیمة فِی حُجِّیَّة الإجماع (کمبنی دخول الْمَعْصُوم × فِی المجمعین، وهو المسمَّی ب_الإجماع الدخولی، وکمبنی قاعدة اللطف المتقدمة القائلة بأن لطف الله تعالی بعباده یقتضی أن لا یجعلهم یُجمعون عَلَیٰ الخطأ) کی یقال فِی المقام: إننا نحتمل أَنْ یَکُونَ ذاک الَّذِی لم نعرف رأیه ولم نطّلع عَلَیٰ فتواه هو الإمام الْمَعْصُوم ×، فلم نُحرز دخول الْمَعْصُوم × فِی المُجمعین فلا یکون هذا الإجماع حجة، أو یقال: إننا نحتمل أَنْ یَکُونَ ذاک الَّذِی لم نعرف رأیه مخالفاً للمُجمعین فِی المسألة، فلا تنطبق قاعدة اللطف، ولا یلزم من إجماع المجمعین إجماع الکل عَلَیٰ الخطأ کی یتنافی مع لطف الله تعالی، وَإِنَّمَا نؤمن بالإجماع عَلَیٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ واستبعاد اشتباه الجمیع وخطئهم؛ فقد یحصل لنا العلم والیقین من نفس آراء الجماعة الذین وصلت إلینا آراؤهم وإن لم نطّلع عَلَیٰ آراء سائر فقهاء الإمامیة.

إذن، فبالتأمل فیما قلناه فِی تقریر حُجِّیَّة الإجماع یظهر أننا لا نتبع عنوان الإجماع بما هو هو؛ إذ لم یقع هذا العنوان موضوعاً للحجیة أو الأثر الشَّرْعِیّ، وَإِنَّمَا المناط فِی حُجِّیَّتُه هو الکشف عن ارتکاز أصحاب الأئمة × المعاصرین لهم والمعاشرین معهم، وهذا یکفی فیه الجیل الطلیعی المتقدم من فقهائها الأبرار الأقدمین الذین کانوا هم حملة علم أولئک وامتداد فقههم، فضمّ غیرهم من علماء الشیعة ممّن لم یکن بمستواهم عِلْماً أو مکانةً وقرباً من محاور فقه آل البیت ^ أو اهْتِمَاماً بتلقّیه وضبطه ونقله لَیْسَ دَخِیلاً فِی ملاک الْحُجِّیَّة شرحناه وهو الکشف عن الارتکاز بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ الکاشف عن رأی الْمَعْصُوم × ونظره.

ص: 451

وَالْحَاصِلُ أَنَّنَا لسنا فِی مقام مناقشة لفظ الإجماع وعنوانه؛ إذ لا دلیل شرعی عَلَیٰ حُجِّیَّة الإجماع بلفظه وعنوانه حتَّی یستشکل ویقال: إِنَّهُ کیف حصل الإجماع؟ وَإِنَّمَا الدَّلِیل عبارة عن کشف الإجماع کشفا عَقْلِیّاً قَطْعِیّاً قَائِماً عَلَیٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ.

ولا إشکال فِی أن هؤلاء الذین وصلت إلینا آراؤهم وهی فِی معرض الوصول هم طلیعة علماء الإمامیة، وهذا المقدار یکفی بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ عندنا.

وَحِینَئِذٍ نقول: إن هذا العدد من علماء الإمامیة هم الذین اتفقوا، وَبِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ تنفی أَنْ یَکُونَ اتفاقهم مِنْ دُونِ دلیل ومدرک، وننفی أَیْضاً أَنْ یَکُونَ اتفاقهم لروایة حصلوا علیها، وَحِینَئِذٍ یتعیّن أَنْ یَکُونَ اتفاقهم باعتبار الارتکاز الْعَامّ الَّذِی شرحناه.

ومن أجل أن موضوع الْکَاشِفِیَّة والحجیة لَیْسَ هو الإجماع بعنوانه، بل موضوعها هو الارتکاز الْعَامّ بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ، فلهذا قد یَتُِمّ الإجماع ویتحقق حتَّی فِی مورد وجود الخلاف، وذلک فیما إذا کان المخالف سنخ مخالف ونوع شخص لا یطعن بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ ولم یکن مُضِرّاً به بلحاظ مستواه ووضعه العلمی أو بلحاظ ظرفه التَّأْرِیخِیّ، أو بلحاظ خصوصیته فِی آرائه، بأن کان منعزلاً عن التَّیَّار الفقهی الإِمَامِیّ أو مَعْرُوفاً بمبانٍ أخری غیر متعارفة وباطلة فِی الفقه الإِمَامِیّ وخارجة عن روحه وإطاره الْعَامّ، وَبِالتَّالِی کانت مخالفته غیر متعارفة؛ فَحِینَئِذٍ یَتُِمّ الإجماع ویتحقق وإن وجد مخالف من هذا القبیل؛ وذلک لما عرفت بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ.

وهذا بخلاف ما إذا کان المخالف ممَّن هو فِی صمیم المرتکزات الشَّرْعِیَّة والمتشرعیة کالمفید والصدوق - رحمهما الله - ونحوهما؛ فَإِنَّ وجود المخالف الَّذِی هو من هذا القبیل سوف یکون مُضِرّاً بتحقق الإجماع حتَّی لو کان عدده قلیلاً؛ لأَنَّ المفروض هو أن هذا المخالف سنخ مخالف قد وقع فِی محور هذه الارتکازات کالشیخ المفید والشیخ الصدوق والسید المرتضی والشیخ الطوسی - رحمهم الله - وأمثالهم الذین هم عَلَیٰ رأس المبانی الفقهیة ومن صمیم هذه المرتکزات، فمثل هؤلاء خلافهم یضر بِحِسَابِ الاِحْتِمَالاَتِ، وَحِینَئِذٍ یجب عَلَیٰ الفقیه أن یفتّش عن خصوصیات المخالف حتَّی یمکنه أن یُجری حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ أو لا یجریه.

ص: 452

الإشکال الثَّانِی: هو النقاش الکبروی فِی حُجِّیَّة الإجماع بعد الفراغ عن تحصیله، وذلک بالقول بأن فقهاء عصر الغیبة کانوا محرومین من مصاحبة الإمام ×، فلیس إجماعهم کاشفاً عن رأی الْمَعْصُوم ×؛ فَإِنَّ إجماع أصحاب شخصٍ إِنَّمَا یکشف عن رأی ذاک الشخص أو ذوقه فیما إذا کانوا فِی موقعٍ یمکنهم فیه الاِتِّصَال المباشر به وبأفکاره وذوقه وأخذ الرأی منه، وَأَمَّا إذا کان محجوباً عنهم وکانوا محجوبین عنه ولیس بینهم إلا الظنون والحدس فاتفاقهم لا یکشف عن رأیه.

ومقامنا من هذا القبیل؛ فَإِنَّ فقهاء عصر الغیبة وإن کانوا هم أصحاب ولی العصر الإمام الغائب - سلام الله علیه وعجل الله تعالی فرجه الشریف - لکنهم محرومون من التشرف بالوصول إلیه وأخذ العلم منه، وَحِینَئِذٍ فِی مثل هذه الحالة لا یکشف اتفاقهم عَلَیٰ شیء عن رأیه ×.

وهذا الإشکال أَیْضاً قد ظهر جوابه مِمَّا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّنَا فِی التطبیق الثَّانِی الأقوی والصحیح لمبدأ کاشفیة الإجماع لم نحاول الکشف عن رأی الْمَعْصُوم × مباشرة من خلال إجماع الفقهاء، کی یقال: إن الْمَعْصُوم × محجوب عنهم، بل افترضنا وسیطاً بین الإجماع وبین رأی الْمَعْصُوم ×، وهو الارتکاز المتلقّی من جیل أصحاب الأئمة ×؛ فإجماع الفقهاء الأقدمین یکشف عن وجود ارتکاز فِی الطبقة الَّتِی هی أصل الروایات وهمزة الوصل بین الأئمة × وبین هؤلاء الفقهاء، وارتکاز هذه الطبقة کاشف لا محالة عن رأی الْمَعْصُوم ×؛ إذ لم یکن الْمَعْصُوم محجوباً عن هذه الطبقة، بل إن هذه الطبقة کانت معاشرة ومعاصرة للمعصوم وقد تلقّت کُلّ تصوراتها منه.

الإشکال الثَّالِث: هو النقاش الکبروی أَیْضاً فِی حُجِّیَّة الإجماع بعد الفراغ عن تحصیله، وهو ما ذکره المحقق الإِصْفِهَانِیّ ( (1) ) ویستفاد من کلامه الاعتراض عَلَیٰ اکتشاف قول الْمَعْصُوم × من الإجماع بنقطتین:

ص: 453


1- (1) - الإِصْفِهَانِیّ، نهایة الدرایة: ج3، ص185-186..

الأولی: أن غایة ما یتطلّبه افتراض أن الفقهاء لا یُفتون مِنْ دُونِ دلیل هو أن یکونوا قد استندوا إلی روایةٍ عن الْمَعْصُوم × اعتقدوا ظهورها فِی إِثْبَات الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ وحجیّتها سنداً؛ فَإِنَّ هذا هو غایة مَا یَقْتَضِیهِ إجماع الفقهاء عَلَیٰ حکمٍ نَظَراً إلی تورّعهم وعدالتهم وعدم إفتائهم مِنْ دُونِ دلیل وروایة، فَلاَ بُدَّ من افتراض أن هناک دَلِیلاً وَمَدْرَکاً استندوا إلیه، وهذا یکشف إِجْمَالاً عن وجود روایة تَامَّة عرفوها ووصلت إلیهم ولم تصلنا، ولذلک أفتوا.

إلا أَنَّهُ لا ضمان لنا لافتراض أن ما تَمَّ عندهم من روایةٍ سنداً ودلالة یَتُِمّ عندنا أَیْضاً سَنَداً ودلالةً لو وصلنا، فلیس من الضروری أَنْ تَکُونَ الروایة فِی نظرنا لو اطّلعنا علیها ظاهرةً فِی نفس المعنی الَّذِی استظهروه منها؛ وذلک لالتفاتنا إلی نکتةٍ خفیت علیهم کما یقع ذلک کثیراً.

کما أَنَّهُ لَیْسَ من الضروری أَنْ یَکُونَ اعتبار الروایة سَنَداً عند المُجمعین مساوقاً لاعتبارها سَنَداً عندنا أَیْضاً؛ وذلک لاختلاف المبانی فِی تصحیح الأسانید؛ فقد لا نبنی نحن إلا عَلَیٰ حُجِّیَّة الخبر الصَّحِیح وهو ما اتصل سنده إلی الْمَعْصُوم بِالإِمَامِیِّ العدل، بینما یکون المجمعون قد عملوا بالروایة لبنائهم عَلَیٰ حُجِّیَّة الخبر الحَسَن وهو ما اتصل سنده إلی الْمَعْصُوم × بِالإِمَامِیِّ الممدوح من غیر نص عَلَیٰ عدالته، أو حُجِّیَّة الخبر الموثَّق وهو ما کان فِی سنده شخص نصّ الأصحاب عَلَیٰ توثیقه مع فساد عقیدته.

إذن، فالجزم بتمامیة تلک الروایة سنداً ودلالةً عندنا غیر ممکن، فلا یکشف لنا إجماعهم عن قول الْمَعْصُوم × ووجود دلیل معتبر عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ.

الثَّانیة: أن أصل کشف الإجماع عن وجود روایة خاصة صحیحة سنداً وتامة الدِّلاَلَة عَلَیٰ الحکم قد وصلتهم ولم تصلنا أمر غیر صحیح؛ فَإِنَّ إجماعهم لا یکشف عن شیء من هذا القبیل؛ لأَنَّ هذا الکشف إِنَّمَا کان یقوم عَلَیٰ أساس استبعاد إفتائهم مِنْ دُونِ دلیل وعن غفلةٍ أو تقصیر واستغراب ذلک بشأنهم کما قلنا، ولکن فِی قبال هذا الاستغراب والاستبعاد یوجد استبعاد آخر وهو أَنَّهُ لو کانت هناک روایة من هذا القبیل قد وصلتهم إذن فلماذا لا نراها فِی مدوَّناتهم ومجامیعهم الروائیة الَّتِی هی مصادر الحدیث؟ فنحن لو کنّا نجد فِی مصادر الحدیث روایة من هذا القبیل إذن لکانت واصلة بنفسها إلینا لا بالإجماع، وکان لاَ بُدَّ علینا حِینَئِذٍ من تقییمها بصورة مباشرة.

ص: 454

أَمَّا حیث أننا لم نجد شَیْئاً من هذا، فافتراض وجود روایة وصلتهم واستندوا إلیها جَمِیعاً فِی فتواهم وهم أصحاب المجامیع والمتون الفقهیة ومع ذلک لم یذکروها فِی تلک المجامیع والمتون ولم ینقلوها لنا، ولذا لم تصلنا مع أنهم هم حملة الروایات إلینا افتراض غریب وبعید جِدّاً؛ إذ کیف نفسّر حِینَئِذٍ عدم ذکر أحد من المُجمعین لهذه الروایة فِی شیء من کتب الحدیث أو الاِسْتِدْلاِل مع أَنَّهَا هی الأساس لفتواهم، عَلَیٰ الرغم من أنهم یذکرون من الأَخْبَار حتَّی ما لا یستندون إلیه فِی کثیر من الأحیان، فقد نقلوا الغثّ والسمین والصحیح والسقیم من الروایات؟

وهذا الإشکال أَیْضاً قد ظهر جوابه ممّا حقّقناه وقلناه فِی کاشفیة الإجماع.

فالجواب عَلَیٰ النُّقْطَة الثَّانیة من الإشکال هو أن مسلکنا فِی الإجماع لم یکن عبارة عن أن نکتشف من خلال إجماع أهل النَّظَر والفتوی من فقهاء عصر الغیبة المتقدمین وجود مدرکٍ روائی وصلهم ولم یصلنا، کی یقال: إن عدم ذکر تلک الروایة وتدوینها فِی کتب الحدیث والفقه أمر غریب وبعید جِدّاً، وَإِنَّمَا طریقتنا فِی الإجماع هی أن نکتشف من خلاله (فِی حالة عدم وجود دلیل لَفْظِیّ محدَّد للمُجمعین) ارتکازاً ووضوحاً فِی الروایة متلقّی من الطبقات السابقة عَلَیٰ أولئک الفقهاء المتقدمین، أَیْ: أَن الإجماع یکشف عن أن هذا الحکم المجمع علیه کان أمراً مرکوزاً فِی ذهن أصحاب الأئمة ^ وواضحاً لدیهم، والفقهاء لَمَسوا هذا الارتکاز والوضوح فیهم وأخذوه منهم؛ لأَنَّ أخذ هذا الارتکاز والوضوح وتلقّیه هو الَّذِی یفسّر حِینَئِذٍ إجماع فقهاء عصر الغیبة المتقدمین عَلَیٰ الرغم من عدم وجود مستند لَفْظِیّ مشخَّص بأیدیهم.

ونفس هذا الاستغراب الَّذِی ذکره المحقق الإِصْفِهَانِیّ (وهو أَنَّهُ لماذا لا نری أثراً لتلک الروایة فِی کتبهم؟) دلیلٌ عَلَیٰ أن مدرک المُجمعین لم تکن روایةً، بل کان ارتکازاً، وهذا الارتکاز والوضوح لدی تلک الطبقات المشتملة عَلَیٰ الرواة وحملة الحدیث من معاصری الأئمة ^ یکشف عادةً عن وجود مُبَرِّرَات کافیة فِی مجموع السُّنة الَّتِی عاصروها من قول وفعل وتقریر أوحت إلیهم بذلک الوضوح والارتکاز.

ص: 455

فإجماع الفقهاء یکشف عن ارتکاز الرواة، وهذا الارتکاز یکشف إجمالاً عن جامع السُّنة، فالإجماع کاشف عن السُّنة بالواسطة، وبهذا یزول الاستغراب المذکور القائل إنهم کیف لم یذکروا هذه الروایة؟ إذ لم نفترض أن المُجمعین من فقهاء عصر الغیبة قد تلقّوا روایة محدَّدة ولم یشیروا إلیها فِی کتبهم، بل نفترض أنهم تلقّوا ما هو أقوی من الروایة، أی: تلقّوا جَوّاً عَامّاً من الاقتناع والارتکاز (لدی الرواة) الکاشف عن جامع السنة کشفاً تَکْوِینِیّاً قَطْعِیّاً بِالنَّحْوِ المتقدم شرحه، فمن الطبیعی أن لا تُذکر فِی کتبهم روایة بعینها.

وفی هذا الضوء یتضح الجواب عَلَیٰ النُّقْطَة الأولی من الإشکال أَیْضاً؛ لأَنَّ الَّذِی نرید اکتشافه من خلال الإجماع لَیْسَ عبارة عن روایة اعتیادیة، کی یُعترض عَلَیٰ ذلک بأن من المحتمل عدم تَمَامِیَّة تلک الروایة عندنا سنداً أو دلالةً، بل نرید أن نکتشف بالإجماع هذا الجوّ الْعَامّ من الاقتناع والارتکاز الَّذِی یکشف بدوره عن الدَّلِیل الشَّرْعِیّ.

الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

وجوهر النکتة فِی المقام هو افتراض الوسیط بین إجماع أهل النَّظَر والفتوی من فقهاء عصر الغیبة وبین الدَّلِیل الشَّرْعِیّ المباشر من الْمَعْصُوم ×، وهذا الوسیط عبارة عن الارتکاز لدی الطبقات السابقة عَلَیٰ الفقهاء من حملة الحدیث وأمثالهم من معاصری الأئمة ^، وهذا الاِرْتِکَاز هو الکاشف الحقیقی عَنِ الدَّلِیلِ الشَّرْعِیِّ.

ومن هنا نری أن أیّ بدیل للإجماع یُثْبِتُ لنا هذا الوسیط ویکشف عنه فَإِنَّهُ سوف یؤدی نفس الدور الَّذِی یؤدیه الإجماع، فإذا أمکن مثلاً أن نستکشف بقرائن مختلفة أن سیرة الْمُتَشَرِّعَة المعاصرین للأئمة × والمخالطین لهم، واقتناعاتهم ومرتکزاتهم کانت منعقدة عَلَیٰ الالتزام بحکم مُعَیَّن، کفی ذلک فِی إثبات هذا الحکم.

ص: 456

وقد ثبت فِی بحث السِّیرَة عند الْکَلاَم عن طرق إثبات السِّیرَة ما ینفع فِی مجال تشخیص بعض هذه القرائن من قبیل النقل التَّأْرِیخِیّ الْعَامّ، أو النقل الخاص فِی نطاق الروایات الفقهیة الَّتِی تعکس ضِمْناً جوانب من حیاة الرواة وَالْمُتَشَرِّعَة.

ومن قبیل أَنْ یَکُونَ عدم انعقاد السِّیرَة عَلَیٰ هذا الحکم مستلزماً لأمرٍ هو منتفٍ وجداناً، کالسیرة عَلَیٰ الاجتزاء بالمسح ببعض الْکَفّ فِی الوضوء وعدم الالتزام بالمسح بِتَمَامِ الْکَفِّ؛ فَإِنَّ عدم انعقاد هذه السِّیرَة معناه قیام السِّیرَة لدی الْمُتَشَرِّعَة عَلَیٰ الْمَسْح بِتَمَامِ الْکَفِّ, وَحَیْثُ أَنَّ هذا الْفِعْل بنفسه لا یکفی لإثبات الوجوب، فَلاَ بُدَّ من وجود استعلامٍ عَنِ الْحُکْمِ بین الرواة؛ لأَنَّ المسألة محل ابتلاء، وَالْمَسْح بِتَمَامِ الْکَفِّ فیه عِنَایَةٌ فائقة، فَلاَ بُدَّ من افتراض کثرة الاستعلام عَلَیٰ حکمه، وحیث لا داعی عَلَیٰ الإخفاء فَلاَ بُدَّ من افتراض وصول بعض الأسئلة والاستعلامات إلینا، بینما لم یصلنا وجداناً شیء معتدّ به فِی الروایات، إذن فَلاَ بُدَّ من افتراض قیام السِّیرَة عَلَیٰ الاجتزاء بِالْمَسْحِ بِتَمَامِ الْکَفِّ.

الإشکال الرَّابِع: هو النقاش الکبروی أَیْضاً فِی حُجِّیَّة الإجماع بعد الفراغ عن تحصیله، وهو الاعتراض الَّذِی وجّهه بعض علمائنا الأخباریین الذین حصروا الدَّلِیل الشَّرْعِیّ فِی الکتاب والسنة بدعوی استفادة هذا الحصر من الروایات الدالة عَلَیٰ حصر المرجعیة بالقرآن والسنة، والإجماع خارج عن هذا الحصر.

وهذا الإشکال أَیْضاً ظهر جوابه مِمَّا قررّناه فِی وجه حُجِّیَّة الإجماع؛ فَإِنَّ الحصر المذکور سوف یأتی الْکَلاَم عنه بالتفصیل فِی بحث حُجِّیَّة الدَّلِیل العقلی - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَی -، فهناک یقع الْکَلاَم فِی صِحَّة کبری حصر الدَّلِیل والمرجع بالقرآن والسنة، أَمَّا هنا فنقول بعد فرض تسلیم الحصر وصحته کبرویاً: إِنَّنَا لا نجعل الإجماع فِی عرض الکتاب والسنة، بل نراه کاشفاً (بواسطة الاِرْتِکَاز الَّذِی وضّحناه) عن السنة، والسنة هی الحجة وهی المرجع وَالدَّلِیل.

ص: 457

فالإشکال المذکور بعدم تسلیم الحصر إِنَّمَا یمنع عن حُجِّیَّة الإجماع لو بنینا حُجِّیَّتُه عَلَیٰ المبانی الأخری غیر المبنی الَّذِی سلکناه فِی حُجِّیَّتُه (کالمبنی الأَوَّل الَّذِی بنی حُجِّیَّة الإجماع عَلَیٰ قاعدة اللطف الْعَقْلِیَّة فأصبح الإجماع دَلِیلاً عَقْلِیّاً عَلَیٰ الحکم الشَّرْعِیّ، وکالمبنی الثَّانِی الَّذِی بَنی حُجِّیَّة الإجماع عَلَیٰ أساس التعبد الشَّرْعِیّ فأصبح الإجماع دَلِیلاً شَرْعِیّاً وحجة شرعیة عَلَیٰ الْحُکْمِ الشَّرْعِیِّ بینما هو لا الکتاب ولا سنة.

فَحِینَئِذٍ بإمکان صاحب الإشکال أن ینفی الْحُجِّیَّة الشَّرْعِیَّة عن الإجماع بروایات الحصر ویناقش فِی دلیلیة العقل فِی مجال الاستنباط وَإِنَّمَا نحن بنینا حُجِّیَّة الإجماع عَلَیٰ أساس الکشف القطعی (عَلَیٰ حَدّ کاشفیة التَّوَاتُر) عن السنة، بل عن سنة قویة قطعیة واصلة بِالتَّوَاتُرِ لٰکِنَّهَا سنة إِجْمَالیة بِالنَّحْوِ الَّذِی عرفت ولٰکِنَّهَا عَلَیٰ أیّ حال حجة، فلم نخرج عن الحصر وعن الکتاب والسُّنة.

هذه هی الإشکالات المهمة الَّتِی أوردت عَلَیٰ التَّمَسُّک بالإجماع، وقد عرفنا الجواب علیها، وعرفنا أن جوهر النکتة فِی الجواب علیها عبارة عن افتراض ذاک الوسیط بین الإجماع وبین الدَّلِیل الشَّرْعِیّ المباشر من الْمَعْصُوم ×، وهو الاِرْتِکَاز والوضوح المتلقّی من جیل الرُّواة.

وعلی هذا الأساس الَّذِی بنینا علیه مبدأ کاشفیة الإجماع فِی تطبیقه الأقوی والصحیح، یمکننا أن نذکر الشروط والتحفظات الأساسیة الَّتِی وعدنا سَابِقاً بذکرها وَالَّتِی یجب أخذها بنظر الاعتبار لتتمّ کاشفیة الإجماع حسب حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ وهی العناصر والخصوصیات الَّتِی لاَ بُدَّ من توفرها فِی الإجماع کی یکون کَاشِفاً عَنِ الدَّلِیلِ الشَّرْعِیِّ بالطریقة الَّتِی ذکرناها (أی: یکون کَاشِفاً عن الاِرْتِکَاز الکاشف عن السنة) وهذه العناصر یمکن تلخیصها فِی أربعة أمور:

الأَوَّل: أَنْ یَکُونَ الإجماع مُشْتَمِلاً عَلَیٰ فتاوی الأقدمین من فقهاء الإمامیة وهم فقهاء عصر الغیبة الصغری وبُعیدها الَّذِینَ یتّصل عهدهم بعهد الرواة وحملة الحدیث والمتشرعین المعاصرین للمعصومین ^؛ لأَنَّ هؤلاء هم الَّذِینَ یمکن أن یکشفوا لنا عن وجود ارتکاز عَامّ وجوٍّ من الاقتناع والوضوح لدی طبقة الرواة والمعاصرین للأئمة ×، وَأَمَّا الفقهاء المتأخرون عن هؤلاء فلیس لفتاواهم هذا الأثر الَّذِی نتوخّاه ونطلبه، ولا یکشف عن ذلک الاِرْتِکَاز لعدم اتصال عهدهم بعهد المعاصرین للأئمة ×، فإذا لم تکن المسألة إِجْمَاعِیَّة عند أولئک الأقدمین فلا یفیدنا مجرد إجماع الفقهاء الَّذِین تأخروا عنهم؛ لأَنَّ التطبیق الصَّحِیح والأقوی لمبدأ کاشفیة الإجماع کان قَائِماً عَلَیٰ أساس ذاک الاِرْتِکَاز الَّذِی لا یکشف عنه مجرد إجماع المتأخرین.

ص: 458

الثَّانِی: أن لا یکون الإجماع مَدْرَکِیّاً ولا محتمل المدرکیة، بمعنی أن لا یکون المجمِعون أو جملة معتدّ بها منهم قد صرَّحوا بمدرکٍ محدّدٍ لهم من آیة أو روایة أو غیرهما واستندوا إلیه فِی کلماتهم، ولا یکون هناک مدرک معیّن من المحتمل استناد المُجمِعین إلیه اِحْتِمَالاً معتدّاً به، وَإلاَّ کان المهم تقییم ذلک المدرک وتمحیص الإجماع من خلال تمحیصه.

نعم، فِی هذه الحالة قد یشکّل استناد الْمُجْمِعِینَ إلی المدرک الْمُعَیَّن قوةً فیه ویکمّل ما یبدو من نقصه.

ومثال ذلک أن یثبت فهم معنی مُعَیَّن للروایة مِنْ قِبَلِ کُلّ الفقهاء المتقدمین القریبین من عصر تلک الروایة والمتاخمین لها؛ فَإِنَّ ذلک قد یقضی عَلَیٰ تشکیکنا نحن فِی ظهورها فِی ذاک المعنی، ویورثنا الوثوق بذاک الظُّهُور، نظراً إلی قرب أولئک من عصر النص وإحاطتهم بکثیر من الظروف المحجوبة عنّا.

إذن، فالإجماع فِی مثل هذه الحالة یعزّز ذاک المدرک، فإذا کنّا نَشُکُّ فِی صِحَّة المدرک وفساده فقد ینفعنا حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ لإثبات صِحَّة المدرک الَّذِی تمسّکوا به جَمِیعاً، وقد تَقَدَّمَ ذکر هذا المطلب عند الْکَلاَم عن الإجماع المدرکی.

الثَّالِث: أن لا توجد قرائن مزاحمة لکاشفیة الإجماع وشواهد عکسیة تَدُلُّ عَلَیٰ أَنَّهُ فِی عصر الرواة وَالْمُتَشَرِّعَة المعاصرین للأئمة × لم یکن یوجد ذلک الاِرْتِکَاز والوضوح فِی الرؤیة الَّذِی یُرَاد اکتشافه من خلال إجماع الفقهاء المتقدمین.

والوجه فِی هذا الشَّرْط واضح بعد أن عرفنا کَیْفِیَّة کشف الإجماع عَنِ الدَّلِیلِ الشَّرْعِیّ ودور الوسیط (وهو الاِرْتِکَاز) الَّذِی تقدّم ذکره فِی هذا الکشف؛ فَإِنَّهُ مع وجود قرائن تنفی وجود الاِرْتِکَاز فِی الطبقة المعاصرة للمعصوم × سوف تکون القرائن معارضة لکشف الإجماع ومانعة عن إنتاج قوانین حِسَاب الاِحْتِمَال.

ص: 459

ومن أمثلة ذلک ما ذکره سَیِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِیدُ فِی بحث طهارة الکتابی ونجاسته حیث استند إلی قرائن عدیدة تنفی وجود ارتکاز لدی الطبقة المعاصرة للمعصومین ^ الَّتِی ورثها الفقهاء الأقدمون بشأن نجاسة الکتابی ذَاتاً، ومن جملة هذه القرائن نفس روایات الباب الَّتِی جعلها القائلون بالنجاسة أحد أدلّتهم، حیث استَنتج رحمه الله من طرز الأسئلة الواردة فِی تلک الروایات عَلَیٰ ألسنة الرواة ومن صیاغتها أن النجاسة الذَّاتِیَّة للکتابی لم تکن مرکوزة عند السائل، من قبیل السؤال عن جواز الأکل مع الکتابی مع العلم بأنه یشرب الخمر ویأکل المیتة؛ فَإِنَّ هذه الصیاغة من السؤال قرینة عَلَیٰ أن النجاسة الذَّاتِیَّة للکتابی لم تکن مرکوزة عند السائل، وَإلاَّ لم یکن السائل بحاجة إلی افتراض العلم بأن الکتابی یشرب الخمر ویأکل المیتة، کما یُعرف هذا من روایة الحمیری وغیرها( (1) ).

وعلیه فإذا أجمع الفقهاء الأقدمون عَلَیٰ النجاسة الذَّاتِیَّة لم یکن إجماعهم کَاشِفاً عن الاِرْتِکَاز الکاشف عن السُّنة الدَّالَّة عَلَیٰ النجاسة؛ وذلک لوجود القرائن المعارضة لکاشفیة الإجماع هذه.

الرَّابِع: أَنْ تَکُونَ المسألة من المسائل الَّتِی لا مجال لتلقّی حکمها عَادَةً إلا مِنْ قِبَلِ الشَّارِع، أی: لا یُترقّب حلّها إلا ببیان من الشَّارِع کنجاسة الثعلب مثلاً، وَأَمَّا إذا کانت من المسائل الَّتِی یترقّب حلّها بغیر تصدّی الشَّارِع، کما إذا کانت المسألة مِمَّا یمکن تلقی حکمه من قاعدة عَقْلِیَّة أو عُقَلاَئِیَّة مثلاً، أو کانت مسألة تفریعیة یمکن استفادة حکمها من عموم دلیل أو إطلاق أو کانت مسألة تطبیقیة لقاعدة أولیة واضحة ومسلّمة، فلا یَتُِمّ اکتشاف الاِرْتِکَاز من خلال الإجماع؛ إذ من المحتمل اعتماد الْمُجْمِعِینَ عَلَیٰ غیر الاِرْتِکَاز، وهذا الشَّرْط بالإمکان إرجاعه إلی الشَّرْط الثَّانِی تحت جامع واحد.

ص: 460


1- (1) - راجع: العاملی، وسائل الشیعة: ج1، ص165، الباب 3 من أبواب نجاسة أسئار أصناف الکفار، وأیضا الوسائل: ج2، ص1018-1020، الباب 14 من أبواب نجاسة الکافر.

هذه هی أهم الشروط المساعدة عَلَیٰ کشف الإجماع.

والآن بعد أن عرفنا المبنی الصَّحِیح فِی حُجِّیَّة الإجماع وکشفه عَنِ الدَّلِیلِ الشَّرْعِیِّ وأنه وَالتَّوَاتُر قائمان عَلَیٰ أساس واحد وهو حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ رغم الفوارق الَّتِی ذکرناها، وعرفنا أن کشفه عَنِ الدَّلِیلِ الشَّرْعِیِّ إِنَّمَا هو بتوسط الارتکاز المتلقّی من الجیل المعاصر للأئمة ×، وعرفنا الجواب عَلَیٰ الإشکالات الواردة عَلَیٰ الإجماع، وعرفنا الشروط المساعدة عَلَیٰ کشف الإجماع، بعد هذا کله تبقی نقطة واحدة ینبغی ذکرها فِی ختام هذا البحث وهی عبارة عن مقدار دلالة الإجماع، أَیْ: أَن الإجماع حینما ینعقد عَلَیٰ شیء وتتم فیه الأمور الَّتِی ذکرناها وتتوفر الخصوصیات اللازمة فَسَوْفَ یکون لمقعده قدر متیقن ویکون له أَیْضاً إطلاق یشمل ما زاد عَلَیٰ الْقَدْر الْمُتَیَقَّن.

الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

فَمَثَلاً فِی الجاهل بالحکم قام الإجماع عَلَیٰ أَنَّهُ معذور فِی الجهر والإخفات والقدر المتیقن من معقده القراءة فِی الرکعتین الأولیین، وما زاد عَلَیٰ القراءة فِی الرکعتین الأولیین یشمله المعقد بإطلاقه.

وأیضا الْقَدْر الْمُتَیَقَّن من معقده هو الجهل الخالص، وما زاد علیه وهو الجهل المقترن بالعلم الإجمالی بوجوب الجهر فِی بعض الفرائض والإخفات فِی البعض الآخر مِنْ دُونِ معرفتهما تفصیلاً یشمله المعقد بإطلاقه.

ومثال آخر: قیام الإجماع عَلَیٰ ثبوت الخُمس فِی أرباح المکاسب، والقدر المتیقَّن من معقده إِنَّمَا هو بعد المؤونة واستثنائها، وما زاد علیه وهو ما قبل استثناء المؤونة یشمله المعقد بإطلاقه، وهکذا فِی سائر الأمثلة، فهل المقدار الَّذِی یثبت بالإجماع خصوص الْقَدْر الْمُتَیَقَّن أم یشمل ما زاد علیه أَیْضاً؟

ص: 461

والجواب أن کشف الإجماع لما کان قَائِماً عَلَیٰ أساس تجمّع أنظار أهل الفتوی عَلَیٰ قَضِیَّة واحدة، فلذا یختص هذا الکشف بالقدر المتیقن والمتفق علیه فلا یَتُِمّ الإجماع إلا بِالنِّسْبَةِ لذاک المقدار، والنکتة هی أن کاشفة الإجماع عن الْقَدْر الْمُتَیَقَّن لمعقده أقوی من کَاشِفِیَّته عن إطلاق المعقد رغم کون الإجماع قَائِماً عَلَیٰ المطلق؛ فَإِنَّ کشف الإجماع عن أصل الحکم بنحو الْقَضِیَّة المهملة أقوی دَائِماً من کشفه عن الإطلاقات التفصیلیة للحکم؛ وذلک لما عرفناه سابقاً من أن کشف الإجماع یعتمد عَلَیٰ ما یشیر إلیه من الاِرْتِکَاز فِی طبقة الرواة وأمثالهم.

وحینما نلاحظ الاِرْتِکَاز المکتشَف بالإجماع نجد أن احتمال وقوع الخطأ فِی تشخیص حدود هذا الاِرْتِکَاز وامتداداته مِنْ قِبَلِ الْمُجْمِعِینَ أقوی نسبیا من احتمال خطئهم فِی أصل إدراک ذاک الاِرْتِکَاز وتشخیصه؛ فَإِنَّ الاِرْتِکَاز أمر معنوی غیر منصبّ فِی ألفاظ محددَّة؛ فقد یکتنف الغموض بعض امتداداته وإطلاقاته، وهذا بخلاف أصله؛ فَإِنَّهُ واضح مشخَّص غیر غامض.

هذا تمام الْکَلاَم فِی الجهة الأولی من جهات البحث الثلاث، أی: البحث عن الإجماع المحصَّل البسیط، وقد عرفت أَنَّهُ حجة فِی الجملة.

الجهة الثَّانیة: الإجماع المرکَّب

وَأَمَّا الجهة الثَّانیة (أی: البحث عن الإجماع المحصَّل الْمُرَکَّب) کما إذا تتّبع الفقیه بنفسه أقوال الفقهاء فِی مسألة صلاة الجمعة فِی عصر الغیبة، فوجدهم منقسمین إلی قولین فقط، فهناک مَن یقول منهم بالوجوب، وهناک مَن یقول منهم بالاستصحاب، ولا یوجد قول ثالث فِی المسألة (کالقول بالحرمة مثلاً) فهذا معناه أن کلا الطرفین متفق عَلَیٰ نفی القول الثَّالِث، أی: عَلَیٰ عدم الْحُرْمَة. فالإجماع عَلَیٰ نفی القول الثَّالِث وعدم الْحُرْمَة مرکب من القائلین بالوجوب والقائلین بالاستصحاب، فهل هذا الإجماع حجة لدی الفقیه الَّذِی استحصله لنفی القول الثَّالِث ولإثبات عدم الْحُرْمَة بحیث یصلح له أن یستند إلی رأی مجموع الفقهاء المختلفین حول الوجوب والاستصحاب ویُفتی بعدم الْحُرْمَة نَظَراً إلی أَنَّهُ لم یقل بها أحد منهم، أم لا؟ هنا صورتان:

ص: 462

الأولی: أن نفترض أن کلاًّ من القائلین بالوجوب والقائلین بالاستصحاب ینفی القول الثَّالِث (أعنی القول بالحرمة بقطع النَّظَر عن قوله)، أی بصورة مستقلة عن تبیّنه لرأیه، بحیث حتَّی لو شَکّ فِی رأیه الَّذِی اختاره وتبنّاه لا یشک فِی نفی القول الثَّالِث، فکل واحد من هؤلاء الفقهاء الْمُجْمِعِینَ عَلَیٰ عدم الْحُرْمَة یبنی عَلَیٰ عدم الْحُرْمَة حتَّی لو کان خاطئاً فِی اختیاریه الوجوب أو الاستصحاب.

الثَّانیة: أن نفترض أن کُلّ واحد منهم إِنَّمَا ینفی القول الثَّالِث بلحاظ أَنَّهُ قد تبنّی القول بالوجوب أو القول بالاستصحاب، فنفیه للقول الثَّالِث مرتبط بإثبات ما تبنّاه من رأی، بحیث لو شَکّ فِی رأیه الَّذِی اختاره فلم یعلم القائل بالوجوب أن الوجوب صحیح أم لا لَشَکَّ حتَّی فِی نفی القول الثَّالِث ولاحتمَلَ الْحُرْمَةَ، وکذلک لو لم یعلم القائل بالاستصحاب أن الاستصحاب صحیح أم لا لشکّ فِی نفی الْحُرْمَة ولاحتمَلَ الْحُرْمَةَ؛ لأَنَّ نفی کُلّ واحد للقول الثَّالِث (أی: الْحُرْمَة) کان فِی طول اختیاره الوجوب أو اختیاره الاستحباب من باب استلزام القول بالوجوب أو بالاستحباب نفی الْحُرْمَة، فهو لا یبنی عَلَیٰ عدم الْحُرْمَة مُطْلَقاً حتَّی لو کان خاطئاً فِی اختیاره الوجوب أو الاستحباب، بل یبنی عَلَیٰ ذلک لأنه یریٰ نفسه مصیباً فِی اختیاره الوجوب أو الاستحباب.

الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول بحث الأصول

العنوان: الإجماع الْمُرَکَّب/ وسائل الیقین الْمَوْضُوعِیّ الاستقرائی/إثبات الصدور/الأدلة المحرزة/علم الأُصُول

أَمَّا فِی الصُّورَة الأولی فالإجماع حجة فِی نفی القول الثَّالِث عَلَیٰ جمیع المبانی المتقدمة فِی حُجِّیَّة الإجماع؛ لأَنَّهُ فِی الحقیقیة یرجع إلی الإجماع البسیط عَلَیٰ نفی القول الثَّالِث وعدم الْحُرْمَة فِی المثال ما دام کُلّ واحد من الفقهاء بانیاً عَلَیٰ عدم الْحُرْمَة حتَّی لو کان خاطئاً فِی القول الَّذِی اختاره فِی المسألة، فتنطبق المبانی کُلّهَا کما هو واضح.

ص: 463

وَأَمَّا فِی الصُّورَة الثَّانیة فَلاَ بُدَّ من التفصیل بین المبانی المتقدمة لحجیة الإجماع:

1)- فبناءً عَلَیٰ المبنی الأَوَّل القائل بِحُجِّیَّة الإجماع من باب قاعدة اللُّطْف القائلة بأن من لطف الله تعالی عَلَیٰ عباده أن لا یجعلهم یجمعون عَلَیٰ الخطأ وأن یُوجِد قولاً بالواقع.

إذن، فالإجماع الْمُرَکَّب هنا حجة فِی نفی القول الثَّالِث (أی: نفی الْحُرْمَة فِی المثال) إذ لو کان کلا القولین (القول بالوجوب والقول بالاستحباب فِی المثال) خطأً وکان القول الصَّحِیح فِی الواقع هو القول الثَّالِث (أی: القول بالحرمة)، فحیث أن هذا لا قائل به حسب الفرض، إذن فیکون ذلک منافیاً للطف الله تعالی بعباده، فالعقل الْعَمَلِیّ یدرک أن القول الثَّالِث لَیْسَ صحیحاً واقعاً وَإلاَّ لأَوْجَدَ اللهُ تعالی مَن یقول به، وهذا معناه أن الإجماع الْمُرَکَّب حجة فِی الکشف عن عدم صِحَّة القول الثَّالِث.

2)- وکذلک الحال لو بنینا عَلَیٰ ما تَقَدَّمَ (فِی البحث عن حُجِّیَّة الإجماع بقاعدة اللطف) من تطویر تلک الفکرة وتطبیقها عَلَیٰ الإمام × بدعوی أن علیه إیصال الحق والواقع إلی النَّاس ولو بإلقاء الخلاف بِالنَّحْوِ الَّذِی لا ینافی التستّر، فإذا لم یکن هناک خلاف فَسَوْفَ نستکشف دخوله × فِی الْمُجْمِعِینَ؛ فَإِنَّهُ بناءً عَلَیٰ هذا المبنی أَیْضاً یکون الإجماع الْمُرَکَّب هنا حجة فِی نفی القول الثَّالِث؛ إذ لو کان کلا القولین خطأً وکان الصَّحِیح هو القول الثَّالِث لکان عَلَیٰ الإمام × إیصاله إلی النَّاس. وحیث لم یکن هناک خلاف فِی نفی القول الثَّالِث فَسَوْفَ نستکشف دخوله × فِی أحد القولین، فیکون أحدهما حَقّاً وحجةً فینتفی القول الثَّالِث به.

3)- وکذلک الحال لو بنینا عَلَیٰ المبنی الثَّانِی القائل بِحُجِّیَّة الإجماع عَلَیٰ أساس التعبد الشَّرْعِیّ استناداً إلی الحدیث المروی لا تجتمع أمتی عَلَیٰ الضلالة؛ فَإِنَّهُ یکون الإجماع الْمُرَکَّب هنا حجة فِی نفی القول الثَّالِث؛ إذ قد اجتمعت الأمة عَلَیٰ قولین فقط ونَفَت القول الثَّالِث، فیکون نفیها حجةً تعبّداً.

ص: 464

4)- وَأَمَّا بناءً عَلَیٰ المبنی الثَّالِث القائل بِحُجِّیَّة الإجماع بحکم العقل النَّظَرِیّ، فإن بنینا عَلَیٰ ما تَقَدَّمَ من قولهم بأن الإجماع یکشف عن صِحَّة معقده عَلَیٰ أساس الملازمة بینهما لاستحالة خطأ الجمیع، فَمَن یؤمن بالاستحالة یجب أن یُری أَنَّهُ ل یؤمن بها فِی خصوص الإجماع البسیط، أم یؤمن بها حتَّی فِی الإجماع الْمُرَکَّب؟ فعلی الثَّانِی یُلتزم بنفی القول الثَّالِث فِی المقام، بخلافه عَلَیٰ الأَوَّل.

5)- وَأَمَّا إن بنینا عَلَیٰ ما هو الصَّحِیح من أن کشف الإجماع عن صِحَّة معقده قائم عَلَیٰ أساس حِسَاب الاِحْتِمَالاَتِ وتعاضد القرائن الناقصة بعضها بالبعض، فهذا لا یأتی فِی الإجماع الْمُرَکَّب؛ لأَنَّنَا قد أحرزنا خطأ أحد القولین؛ فقد خسرنا إذن قسماً من القرائن الناقصة الدخیلة حسب الفرض فِی تَمَامِیَّة کاشفیة الإجماع، والمفروض أنهم لم یتفقوا عَلَیٰ نفی القول الثَّالِث بِغَضِّ النَّظَرِ عمّا اختاروه کی یبقی الکشف عن نفی القول الثَّالِث ثابتاً رغم الخطأ فِی أحد القولین.

إذن، فعلی مبنانا لا یکون الإجماع الْمُرَکَّب حجة فِی نفی القول الثَّالِث فِی هذه الصُّورَة؛ لأَنَّ حُجِّیَّة الإجماع إِنَّمَا هی باعتبار کشفه الناشئ من تجمّع الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لعدم الخطأ، وفی المقام نعلم بالخطأ عند أحد الفریقین المتنازعین، وهذا یعنی أننا نعلم أن الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة الموجودة فِی مجموع الفتاوی لنفی القول الثَّالِث قسم منها غیر مصیب للواقع جزماً، للعلم بکذبه نتیجة التنازع الموجود، وهذا لا یؤدی إلی تقلیل الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة للإجماع الْمُرَکَّب عن الإجماع البسیط کمّاً فقط، بل وکیفاً أَیْضاً؛ وذلک للتعارض وکون کُلّ قیمة احتمالیة لأحد القولین منفیا بالقیمة الاِحْتِمَالِیَّة للقول الآخر المخالف له، وکذلک تکون الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لنفی القول الثَّالِث؛ فَإِنَّ الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لنفی القول الثَّالِث اللازمة لأحد القولین منفیة بالقیمة الاِحْتِمَالِیَّة للقول المخالف.

ص: 465

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة لِکُلّ من القولین مع لازمه (وهو نفی القول الثَّالِث) منفیة بالقیمة الاِحْتِمَالِیَّة للقول الآخر.

إذن، فلا یمکن أن تدخل الْقِیمَة الاِحْتِمَالِیَّة کُلّهَا فِی تکوین الکشف للإجماع الْمُرَکَّب، بسبب التعارض الموجود بینها کما هو واضح.

هذا تمام الْکَلاَم فِی الجهة الثَّانیة من جهات البحث الثلاث، أی: البحث عن الإجماع المحصّل الْمُرَکَّب، وقد عرفت أَنَّهُ لَیْسَ حجّة عَلَیٰ مبنانا فِی نفی القول الثَّالِث ولیس کَاشِفاً عنه.

بعد ذلک ننتقل - إِنْ شَاءَ اللَهُ تَعَالَی - إلی الجهة الثَّالثة وهی البحث عن الإجماع المنقول.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.