آرشیو دروس خارج اصول آیت الله سید علیرضا حائری32-31

اشارة

سرشناسه:حائری، علیرضا

عنوان و نام پدیدآور:آرشیو دروس خارج اصول آیت الله سید علیرضا حائری32-31 /علیرضا حائری.

به همراه صوت دروس

منبع الکترونیکی : سایت مدرسه فقاهت

مشخصات نشر دیجیتالی:اصفهان:مرکز تحقیقات رایانه ای قائمیه اصفهان، 1396.

مشخصات ظاهری:نرم افزار تلفن همراه و رایانه

موضوع: خارج اصول

التنبیه السادس: هل تدل أسماء الشرط کحروفه علی المفهوم؟ بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه السادس: هل تدل أسماء الشرط کحروفه علی المفهوم؟

التنبیه السادس

هل أن أسماء الشرط کحروفه تدل علی المفهوم؟

إن أداة الشرط تارةً تکون حرفاً متمحّضاً فی النسبة وربط جملة الجزاء بجملة الشرط، مثل «إن»، وهذا القسم لا إشکال فی ثبوت المفهوم له کما تقدم. وأخری تکون اسماً وتقع بنفسها موضوعاً للحکم فی الجزاء وبموجبها تصبح القضیة کأنها متوسطة بین الشرطیة والوصفیة، مثل: «مَن» و«ما». کما إذا قال: «مَن عامل الناس فلم یظلمهم وواعدهم فلم یُخلفهم حرمت غیبته». أو قال: «ما أسکر کثیره فقلیله حرام»؛ فإن کلمة «مَن» فی الجملة الأولی وکلمة «ما» فی الثانیة رغم کونهما من أدوات الشرط قد رجع إلیهما الضمیر الموجود فی جملة الجزاء، فهل یدل هذا القسم أیضاً علی المفهوم؟

الصحیح أنه لا یدل علی المفهوم؛ لأن الاسم لیس متمحضاً فی ربط الجزاء بالشرط، بل هو بنفسه مرتبط بالجزاء وإلیه یرجع الضمیر الموجود فی الجزاء، فهو بمثابة «زید» فی قولنا: «إن جاء زید فأکرمه». فتوجد بینه وبین الجزاء نسبة ناقصة، والنسبة الناقصة تجعل الکلمتین ککلمة واحدة؛ فالنسبة الموجودة بین کلمة «من» وکلمة «غیبة» فی المثال الأول نسبة ناقصة تجعل الکلمتین کلمة واحدة تقع طرفاً للنسبة التامة الموجودة بین الغیبة والحرمة؛ فالحکم فی الجزاء ینصبُّ علی موضوع متقیّدٍ بأداة الشرط؛ فلا یکون حینئذ حکماً قابلاً للبقاء عند انتفاء الشرط؛ فحرمة الغیبة فی المثال طرفها هو «من عامل الناس...إلخ» فإذا انتفی تزول الحرمة لا محالة، فکأنه قال: «غیبة مَن عامل الناس فلم یظلمهم وواعدهم فلم یُخلفهم محرّمة، وهکذا فی المثال الثانی.

ص: 1

والحاصل: أن القضیة الشرطیة فی هذا القسم الثانی تکون مسوقة للتحقّق الموضوع وبیانه؛ لأن أداة الشرط فیها هی موضوع الحکم، فبانتفاء الشرط ینتفی موضوع الحکم فی الجزاء، فتکون القضیة حال انتفاء الشرط سالبة بانتفاء الموضوع؛ لأن الملّق علی الشرط إنما هو الحکم المقید بموضوعه، لا طبیعی الحکم. ومن الواضح أن انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه أمر عقلی ثابت فی الجمل الحملیة أیضاً، ولیس هذا الانتفاء من المفهوم کما تقدم تفصیله فی التنبیه الأول.

وقد عثرتُ - فی بعض کتاباتی القدیمة - علی نقل کلامٍ عن المحقق العراقی ره حاصله:

أنه فی أمثال هذه القضایا یتعارض ظهوران: أحدهما ظهور القضیة فی المفهوم باعتبار اشتمالها علی أداة الشرط الظاهرة فی أن الجزاء مجرّد عن الشرط ومستقلّ وغیر متقیّد به وقابل للبقاء عند انتفائه، وثانیهما: ظهورها فی عدم المفهوم، باعتبار أن أداة الشرط فیها وصف، وظاهر الوصف تقید الجزاء به وعدم تجرّده عن الشرط وعدم قابلیّته للبقاء عند انتفائه.

ولا یحضرنی الآن من کلمات المحقق العراقی ره مصدر یمکننی مراجعته للتأکّد من صحة هذا النقل، لکن کیفما کان فإن هذا الکلام بظاهره غریب، ووجه الغرابة فیه هو أن أداة الشرط لیست موضوعة للمفهوم، وإنما تدل علی المفهوم بنکتة دلالتها علی التوقف - أی: توقف الحکم الثابت فی الجزاء لموضوعه علی الشرط - وهذا یستلزم أن یکون الجزاء قابلاً للبقاء وعدمه عند انتفاء الشرط، بینما هذه القابلیة مفقودة فی أمثال هذه القضایا، لما عرفته من أن انتفاء الشرط فیها یساوق انتفاء موضوع الحکم فی الجزاء، وبانتفاء الموضوع لا یعقل بقاء الحکم؛ فلا دلالة فی أمثال هذه القضایا علی المفهوم أصلا، وبالتالی فلا یوجد فیها ظهوران متعارضان کما هو واضح.

ص: 2

وعلی کل حال فقد اتضح مما قلناه وجه عدم ثبوت المفهوم لأدوات الشرط التی هی أسماء مثل «من» و«ما» و«أی» و«أیان» و«إذا» واتضح الفرق بینها وبین أدوات الشرط التی هی حروف مثل «إن».

وقد وجدتُ فی بعض کتاباتی أن سیدنا الأستاذ الشهید رضوان الله علیه أفاد أن «إذا» تدل علی المفهوم، حیث فَرَّق بین قولنا: «أکرم زیداً عند مجیئه» وقولنا: «أکرم زیداً إذا جاءک»، فقال إنه بالرغم من أن کلاً من «عند» و«إذا» اسم وظرف لکن الفرق بینهما کبیر، فالأول لا مفهوم له بخلاف الثانی؛ لأن «عند» ظرف متعلق ب_«أکرم» علی أساس نسبة ناقصة، وهی شأنها التحصیص، وأما «إذا» فهی وإن کانت ظرفاً، لکنها أداة شرط، وتعقد نسبة تامة بین جملتین، وتعلّق الجزاء علی الشرط، فلها مفهوم(3) (4) .

إلا أنه قد یناقش هذا الکلام بأن «إذا» تشبه «من» و«ما» لأنها اسم ولیست حرفاً متمحضاً فی النسبة وربط الجزاء بالشرط، بل هی مرتبطة بالشرط ارتباط الإضافة، وبالجزاء ارتباط الظرفیة. فقوله: «إذا جاء زید فأکرمه» یرجع إلی قوله: «زمان مجیء زید یجب إکرامه»؛ فلا توجد هناک جملتان تعقد «إذا» نسبة تامة بینهما، بل إن الشرط مفرد - وهو مجیء زید - وقد أضیفت «إذا» إلی هذا المفرد، وبین المضاف والمضاف إلیه نسبة ناقصة حصّصت النسبة التامة التی تدل علیها جملة «أکرمه». فیدل الکلام بمجموعه علی حصة خاصة من وجوب إکرام زید، وبانتفاء القید المحصِّص تنتفی هذه الحصة من الوجوب، ولا لدلالة للکلام علی المفهوم وانتفاء طبیعی الوجوب، فلا فرق بین «إذا» و«عند». فما قلناه فی التنبیه السابق من عدم توفر الرکن الثانی من رکنی المفهوم فی مثل قوله: «صل عند الزوال» یأتی فی مثل قوله: «إذا زالت الشمس فصلّ»، بالرغم من دلالة أداة الشرط فیه علی التوقف، لکنه توقف شخص الوجوب لا طبیعیه، وهذا بخلاف ما إذا قال: «إن زالت الشمس فصلّ».

ص: 3

التنبیه السابع: تعدد قیود موضوع الجزاءمفهوم الشرط بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه السابع: تعدد قیود موضوع الجزاء

التنبیه السابع

إذا تعددت قیود موضوع الجزاء

إذا کان موضوع الحکم الثابت فی الجزاء مقیداً بقیود عدیدة، کما إذا قال: «إن جاء زید فأکرم العالم الهاشمی العادل» فلا یدل الکلام علی المفهوم وانتفاء الحکم بانتفاء الشرط فی فرض انتفاء قید من قیود موضوع الحکم، بل ینحصر المفهوم فی فرض ثبوت جمیع قیود الموضوع، فالمثال المذکور لا یدل بالمفهوم علی أنه إن لم یجیء زید فلا یجب إکرام العالم غیر الهاشمی، أو العالم الفاسق، وإنما یدل بالمفهوم علی أنه إن لم یجیء زید فلا یجب إکرام العالم الهاشمی العادل. والنکتة فی ذلک ما سبق فی التنبیه الأول وکذلک فی التنبیه السابق من أن کل قید من قیود الموضوع ینتسب إلی الموضوع بنسبة ناقصة، وأداة الشرط تربط بین النسبة التامة فی جملة الشرط والنسبة التامة فی جملة الجزاء وتعلّق الثانیة علی الأولی، وهذه النسبة الناقصة الثابتة بین الموضوع وقیده - کالنسبة الناقصة الموجودة فی المثال بین «العالم» و«الهاشمی»، أو بین «العالم» و«العادل» لیست فی عرض النسبة التامة الثابتة فی جملة الجزاء، والتی هی معلقة علی الشرط، کی یقال: «إنه یمکن انخفاظ النسبة التامة فی جملة الجزاء حتی مع انتفاء هذه النسبة الناقصة أی: انتفاء قید الموضوع، وبالتالی فیمکن اقتناص المفهوم؛ لأن المعلَّق علی الشرط إنما هو النسبة التامة فی جملة الجزاء، والنسبة الناقصة لیست جزؤها، بل هی فی عرضها، فینتفی المعلّق بانتفاء الشرط حتی فی فرض انتفاء النسبة الناقصة وانتفاء قید الموضوع»، بل إن النسبة الناقصة هی جزء من النسبة التامة ومندکّة فیها وفی ربتة سابقة علیها؛ لأنها توحّد المتعدّد ویصبح ذاک الواحد ظرفاً للنسبة التامّة الثابتة فی جملة الجزاء، بدلیل أن الکلام تامّ یصحّ السکوت علیه، بینما لو کانت النسبة الناقصة فی عرض النسبة التامة الثابتة فی جملة الجزاء لبقی الکلام ناقصاً وبحاجة إلی مکمِّل، وهو واضح البطلان.

ص: 4

إذن، فانتفاء النسبة الناقصة بانتفاء أی قید من قیود موضوع الجزاء معناه انتفاء موضوع الحکم فی الجزاء، ومن الواضح أنه فی فرض انتفاء الموضوع ینتفی الحکم عقلاً بانتفاء موضوعه، ولکن هذا الانتفاء لیس من المفهوم، وإنما المفهوم هو انتفاء الحکم بانتفاء الشرط فی فرض بقاء الموضوع بکل قیوده، فلا یدل الکلام المذکور - فی المثال - بمفهومه إلا علی عدم وجوب إکرام العالم الهاشمی العادل عند انتفاء مجیء زید. وأما عدم وجوب إکرام العالم غیر الهاشمی، أو العالم الفاسق، فهو خارج عن المفهوم کما هو واضح؛ لأنه وإن کانت قضیة صحیحة ومستفادة من الکلام ولکنه لیس من المفهوم المصطلح، بل صحت القضیة باعتبار أن الموضوع قد انتفی، وإذا انتفی الموضوع (الذی کان عبارة عن إکرام العالم الهاشمی أساساً، لکن أنتم افترضتم أن العالم لیس هاشمیاً، أو أنه لیس عادلاً، فحینئذ) ینتفی الحکم، أی: هی من قبیل السالبة بانتفاء الموضوع ولیس لها علاقة بالمفهوم.

هذا تمام الکلام فی التنبیه السابع. وبعد ذلک ننتقل إلی التنبه الثامن وهو تنبیه مهم من تنبیهات مفهوم الشرط.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

التنبیه الثامن

إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فی دلیلین

ذکرنا فی التنبیه الثالث حکمَ ما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فی قضیة شرطیة واحدة، ونرید الآن أن نبین فی هذا التنبیه حکم ما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فی قضیتین شرطیتین منفصلتین، بأن عُلِّق الحکم فی إحداهما علی شرط، وعُلق نفس الحکم فی الأخری علی شرط آخر، فهل یکون السبب الحقیقی وتمام الموضوع للحکم عبارة عن کل من الشرطین مستقلاً، أم یکون عبارة عم مجموع الشرطین؟

ص: 5

والمثال المعروف لذلک ما إذا ورد فی دلیل: «إن خفی الأذان فقصّر» وفی دلیل آخر: «إن خفی الجدار فقصّر»، وإن لم یرد هذا المضمون بعینه فی الروایات.

فبناء علی ثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة یقع التعارض والتنافی بین إطلاق منطوق کل منهما وإطلاق ومفهوم الأخری، حیث إن مفهوم کل من القضیتین یقتضی انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط المذکور فی منطوقها مطلقاً حتی وإن کان الشرط الآخر المذکور فی القضیة الأخری ثابتاً وهذا معناه أن السبب الحقیقی للجزاء هو مجموع الشرطین. بینما منطوق القضیة الشرطیة الأخری دالّ علی ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط الآخر مطلقاً حتی وإن کان الشرط الأول منتفیاً، وهذا معناه أن السبب الحقیقی للجزاء هو کل من الشرطین مستقلاً، وأما بناء علی عدم ثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة فلا تعارض بین إطلاق منطوق کل منهما وإطلاق منطوق الأخری؛ لأن مقتضی إطلاق کل منهما هو أن الشرط المذکور فی کل منهما علة مستقلة وتمام الموضوع للجزاء، وهذا لا یوجب أی تعارض کما هو واضح، فالتعارض فی المقام إنما ینشأ من القول بالمفهوم حیث أن مقتضی المفهومین کون السبب الحقیقی للجزاء وتمام الموضوع للحکم عبارة عن مجموع الشرطین المذکورین فی الدلیلین بینما مقتضی المنطوقین کون السبب الحقیقی للجزاء وتمام الموضوع للحکم کل واحد من الشرطین مستقلاً.

وبعد تحدید نقطة التعارض والتنافی یقع الکلام فی کیفیة الجمیع بینهما، فهل یقدم أحد الطرفین المتعارضین علی الآخر أم یقال بالتساقط فلا یثبت کون سبب الجزاء وموضوع الحکم هو المجموع ولا کونه هو کل واحد من الشرطین مستقلا؟

وقبل البدء بذلک لا بأس بالإشارة إلی أن القضیتین إذا لم تکونا شرطیتین بل کانت إحداهما شرطیة والأخری وصفیة، کما إذا قال: «إن خفی الأذان فقصّر» وقال: «عند خفاء الجدار فقصر» فسوف یکون التعارض والتنافی من طرف واحد، بمعنی أن إطلاق مفهوم القضیة الشرطیة یعارض منطوق القضیة الوصفیة، وإذا کانت کلتاهما وصفیتین، کما إذا قال: «عند خفاء الجدار فقصر» وقال: «عند خفاء الأذان فقصّر» فلا تعارض بینهما أصلاً؛ إذ لا مفهوم فی البین کما هو واضح، وتوجد محاولة لإسراء التعارض إلی الفرضین المذکورین أیضاً. وذلک بنکتة أن قوله مثلا: «عند خفاء الجدار فقصّر» ظاهر فی حدوث وجوب القصر عند حدوث خفاء الجدار، وحینئذ فیقع التعارض من الطرفین باعتبار أن الحدوث عند الحدوث فی کلیهما مستحیل فیما إذا سبق أحد الحادثین الآخر؛ لأنه إذا خفی الأذان أولاً فسوف یحدث وجوب القصر، وبعد ذلک إذا خفی الجدار فلا یحدث وجوب القصر؛ لأنه قد حدث قبل ذلک عند حدوث خفاء الأذان.

ص: 6

وعلیه فظهور الجملة الشرطیة القائلة: «إن خفی الأذان فقصّر» فی المفهوم الدال علی عدم وجوب القصر إذا لم یخفَ الأذان مطلقاً وإن خفی الجدار، یعارض منطوق الجملة الوصفیة القائلة: «عند خفاء الجدار فقصر». کما أن ظهور هذه الجملة الوصفیة فی الحدوث عند الحدوث یعارض منطوق الجملة الشرطیة الدال علی وجوب القصر عند خفاء الأذان مطلقاً، حتی وإن لم یحدث خفاء الجدار.

هذا إذا کانت إحدی القضیتین وصفیة. وکذلک یقع التعارض من الطرفین إذا کانت کلتاهما وصفیتین؛ فإن ظهور کل منهما فی الحدوث عند الحدوث یعارض ظهور الأخری فی الحدوث عند الحدوث کما هو واضح.

وبالإمکان الجواب عن هذه المحاولة التی ترید إیقاع التعارض من الطرفین فی الفرضین المذکورین بأن القضیة ظاهرة فی الحدوث عند الحدوث بحدّ ذاته وبقطع النظر عن تقدم سبب آخر وعدمه. فقوله مثلا: «عند خفاء الجدار فقصّر» ظاهر فی أن حدوث خفاء الجدار بحد ذاته سبب لحدوث وجوب القصر بقطع النظر عن تقدم سبب آخر لحدوث وجوب القصر وعدمه.

إذن، فظهور هذه الجملة الوصفیة فی الحدوث عند الحدوث - فی الفرض الأول من الفرضین المذکورین - لا یعارض منطوق الجملة الشرطیة - القائلة: «إن خفی الأذان فقصّر» - الدال علی وجوب القصر عند خفاء الأذان مطلقاً حتی وإن لم یحدث خفاء الجدار؛ وذلک لأن فرض تقدم سبب آخر لحدوث وجوب القصر - وهو خفاء الأذان - علی خفاء الجدار خارج عن مفاد الجملة الوصفیة المذکورة ومسکوت عنه فیها، کما أن ظهور هذه الجملة الوصفیة فی الحدوث عند الحدوث - فی الفرض الثانی من الفرضین المذکورین - لا یعارض ظهور الجملة الوصفیة الأخری القائلة: «عند خفاء الأذان فقصر»؛ لأن کلا من الجملتین إنما هو ظاهر فی أن حدوث السبب المذکور فیه هو بحد ذاته سبب لحدوث وجوب القصر بقطع النظر عن تقدم السبب الآخر وعدمه.

ص: 7

إذن، فلا تعارض من الطرفین فی شیء من الفرضین المذکورین، وإنما یبقی لدینا التعارض والتنافی من طرف واحد فی خصوص الفرض الأول، أعنی ما إذا کانت إحدی الجملتین شرطیة والأخری وصفیة، حیث قلنا إن إطلاق مفهوم القضیة الشرطیة یعارض منطوق القضیة الوصفیة کما تقدم.

وعلی کل حال فإن رضینا بهذا الجواب فهو، وإلا فحال الفرضین المذکورین حال الفرض الذی عقدنا هذا التنبیه من أجله، وهو فرض ورود قضیتین شرطیتین منفصلتین شرطهما مختلف والجزاء واحد، حیث قلنا إنه یقع التعارض والتنافی بین إطلاق منطوق کل منهما وإطلاق مفهوم الأخری. فلنصرف عنان الکلام إلی هذا الفرض فنقول:

إن التعارض والتنافی هنا ما دام ناشئاً من القول بثبوت المفهوم للقضیة الشرطیة - کما تقدم - وعلیه فلا بد من ملاحظة دلیل القول بمفهوم الشرط، ولما کانت الأدلة مختلفة کما تقدم. إذن، فرفع هذا التنافی والتعارض یختلف باختلاف الأدلة والمبانی فی إثبات مفهوم الشرط، ونحن لا نطیل المقام باستعراض کل تلک الأدلة والمبانی ومعالجة التعارض والتنافی علی ضوء کل واحد منها(1) (2) ، بل نقتصر علی ذکر أربعة من تلک المبانی ونعالج التعارض علی ضوء کل واحد منها:

المبنی الأول: ما تقدم - فی التقریب السابع وهو الأخیر من تقریبات إثبات مفهوم الشرط - عن المحقق النائینی ره بصدد إثبات مفهوم الشرط، وکان حاصله عبارة عن إثبات أصل علیة الشرط للجزاء من خلال تفریع الجزاء علی الشرط، وإثبات کون الشرط علة تامة للجزاء لا جزء علة، من خلال الإطلاق الواوی وهو الإطلاق المقابل للتقیید والعطف ب_«الواو»، وإثبات کون الشرط علة منحصرة للجزاء لا عِدل لها، من خلال الإطلاق الأوی وهو الإطلاق المقابل للتقیید والعطف ب_«أو». وعلیه فإذا ثبت أن الشرط علة تامة منحصرة للجزاء یثبت المفهوم.

ص: 8

وبناء علی مبناه ره هذا فی إثبات مفهوم الشرط أفاد فی المقام أن التعارض هنا یرجع إلی التعارض بین إطلاقین لکل من المنطوقین، وأما المفهوم فهو مدلول التزامی یرجع التصرف فیه إلی التصرف فی المنطوق، فالمعارضة فی الحقیقة بین نفس المنطوقین.

توضیحه: أن لکل من القضیتین الشرطیتین إطلاقین - کما تقدم آنفاً - أحدهما الإطلاق الواوی الذی یُثبت التمامیة، وثانیهما الإطلاق الأوی الذی یثبت الانحصار، وبالتالی یثبت المفهوم. ولا یمکن التحفظ علی کل من الإطلاقین فی کلتا الجملتین، للزوم التعارض کما عرفت، حیث أن کون خفاء الأذان علة تامة منحصرة لوجوب القصر یتنافی مع کون خفاء الجدار علة تامة منحصرة لوجوب القصر، فنحن نعلم إذاً أن الشرط فی کل من الجملتین قد قُیّد وعطف علیه بالشرط الآخر المذکور فی الجملة الأخری، إما بالواو وإما بأو، فقد تقید أحد الإطلاقین حتماً. فإما أن یکون قد تقید إطلاق المنطوق، أی: الإطلاق الواوی، فیکون الشرط لوجوب القصر فی الواقع مجموع الشرطین، وکل منهما جزء علة لوجوب القصر، لا علة تامة، وإما أن یکون قد تقید إطلاق المفهوم، أی: الإطلاق الأوی، فیکون الشرط لوجوب القصر أحد الشرطین، فلیس شیء منها علة منحصرة لوجوب القصر. إذن، لا بد من رفع الید عن أحد الإطلاقین وإبقاء الإطلاق الآخر علی حاله. فإما أن نرفع الید عن إطلاق المنطوق، أی: الإطلاق الواوی ونقیّد الشرط المذکور فی کل من الجملتین بالواو، ونُبقی إطلاق المفهوم، أی: الإطلاق الأوی علی حاله، فتکون النتیجة حینئذ أنه إذا خفی الأذان والجدار یجب القصر. فیکون المجموع علة واحدة تامة منحصرة لوجوب القصر. فإذا انتفی أحدهما ینتفی وجوب القصر؛ لأنه لا یثبت إلا بثبوت مجموعهما. وإما أن نرفع الید عن إطلاق المفهوم، أی: الإطلاق الأوی ونقیّد الشرط المذکور فی کل من الجملتین ب_«أو»، ونبقی إطلاق الواوی علی حاله، فتکون النتیجة حینئذ أنه إذا خفی الأذان أو الجدار یجب القصر. فیکون کل منهما علة تامة مستقلة لوجوب القصر. فإذا انتفی أحدهما وثبت الآخر لا ینتفی وجوب القصر، ومع رفع الید عن أحد الإطلاقین وإبقاء الآخر علی حاله ترتفع المعارضة، وحیث أن کلاً من هذین الإطلاقین مستند إلی مقدمات الحکمة، فلا مرجّح لأحدهما علی الآخر، فلا مبرّر لإبقاء الإطلاق الواوی علی حاله وتقیید الإطلاق الأوی، ولا مبرر أیضاً لإبقاء الإطلاق الأوی علی حاله وتقیید الإطلاق الواوی، وحینئذ لابد من الالتزام بتساقط الإطلاقین والرجوع إلی الأصل العملی. فماذا یقتضی الأصل العملی؟! هذا ما سیأتی فی الدرس القادم إن شاء الله تعالی.

ص: 9

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

قلنا بناء علی مبنی النائینی ره لإثبات مفهوم الشرط والذی تقدم موجز عنه بالأمس، بناء علیه ذکر فی المقام فی مثل ما إذا ورد قوله: «إن خفی الأذان فقصر» وورد أیضاً قوله: «إن خفی الجدار فقصر» قال: هنا المعارضة الحقیقیة بین منطوقین ویسری بالطبع إلی المفهومین، لکن مرکز المعارضة هو المنطوقین لما یحتویان علی الإطلاقین الواوی والأوی. الإطلاق الواوی یثبت أن الشرط علة تامة ولیس جزء علة، والإطلاق الأوی یثبت أن الشرط علة منحصرة. ولا یمکن أن نتحفظ علی کلا الإطلاقین فی الدلیل الأول تکون النتیجة أن خفاء الأذان علة تامة منحصرة لوجوب القصر، ومع التحفظ علی کلا الإطلاقین فی الدلیل الثانی سوف تکون النتیجة أن خفاء الجدار علة تامة منحصرة لوجوب القصر. ولا یمکن أن یکون کل من خفاء الأذان وخفاء الجدار علة تامة منحصرة لوجوب القصر. فلا یمکن الجمع بین کلا الإطلاقین فی کلا الدلیلین. وهذا معناه أننا نعلم بأن أحد الإطلاقین کاذب وساقط. وإذا دار الأمر بین أن یکون إما الإطلاق الواوی فی الدلیلین ساقطاً أو الإطلاق الأوی فی الدلیلین ساقطاً، فلا مرجح لأحدهما علی الآخر، ومستند هذه الإطلاقات کلها مقدمات الحکمة، ونسبة مقدمات الحکمة إلی الإطلاقین الأویین وإلی الإطلاقین الواویین علی حد واحد. والنتیجة أن الإطلاقات متکافئة ولا یوجد مرجح، وحینئذ تتساقط الأطراف کلها ویصل الدور إلی الأصل العملی.

مقتضی الأصل العملی: والأصل العملی فی المقام یقتضی عدم وجوب القصر إلا إذا اجتمع الشرطان معاً؛ لأنه إذا تحقق أحدهما دون الآخر - کما إذا خفی الأذان ولم یخفَ الجدار - یشک حینئذ فی وجوب القصر، والأصل یقتضی عدم وجوبه، فنتیجة الأصل العملی دائماً فی صالح تقیید إطلاق المنطوق، أی: الإطلاق الواوی ورفع الید عنه، الذی ینتج أن شرط وجوب القصر عبارة عن مجموع الأمرین؛ إذ فی فرض اجتماعهما یُقطع بوجوب القصر، وأما فی فرض وجود أحدهما فیشک فی وجوب القصر، والأصل عدمه.

ص: 10

فإن قیل: إن الإطلاقین وإن کانا مستندین إلی مقدمات الحکمة، إلا أن هناک مرجحاً للإطلاق الواوی الذی هو إطلاق المنطوق علی الإطلاق الأوی الذی هو إطلاق المفهوم؛ فإن الأول مقدم علی الثانی، فلابد من إبقاء الأول علی حاله، وتقیید الثانی ورفع الید عنه، والمرجح هو تقدم الأول علی الثانی، من حیث الرتبة؛ فإن الثانی فی طول الأول ومتأخر عنه رتبةً؛ إذ یجب أولا إجراء الإطلاق الذی یثبت أن الشرط علة تامة ولیس جزء علة - وهذا هو إطلاق المنطوق، أی: الإطلاق الواوی - ثم فی طول ذلک یجری الإطلاق الذی یثبت أن الشرط علة منحصرة لأعدل له - وهذا هو إطلاق المفهوم، أی: الإطلاق الأوی - فالانحصار فی العلة التامة هو فرع أصل العلیة التامة، فإذا کان الإطلاق الواوی متقدماً رتبةً فهذا هو الذی یرجحه علی الإطلاق الأوی، فیتعین إطلاق المنطوق، أی: الإطلاق الواوی ویسقط إطلاق المفهوم، أی: الإطلاق الأوی. وهذا معناه أن یتقیّد الشرط المذکور فی کل من الجملتین ب_«أو» فتکون النتیجة حینئذ أنه إذا خفی الأذان أو الجدار یجب القصر، فیکون کل منهما علة تامة مستقلة لوجوب القصر، وبذلک یرتفع التعارض ولا تصل النوبة إلی التساقط والرجوع إلی الأصل العملی کی یقال إنه فی صالح تقیید الإطلاق الواوی الذی هو إطلاق المنطوق.

فالجواب علی ذلک هو أن الطولیة بین الإطلاقین وإن کانت صحیحة إلا أنها لا توجب الجزم بسقوط الإطلاق الأوی الذی هو إطلاق المفهوم وتقدیم الإطلاق الواوی الذی هو إطلاق المنطوق علیه؛ لأن الموجب لتعارض الإطلاقین هو العلم الإجمالی بکذب أحدهما، حیث أننا نعلم إجمالاً بأن الشرط المذکور فی کل من الجملتین إما أنه لیس علة تامة لوجوب القصر بل هو جزء علة له والمجموع هو العلة التامة - وهذا معناه کذب إطلاق المنطوق، أی: الإطلاق الواوی وتقیّده - وإما أنه لیس علة منحصرة لوجوب القصر بل هناک عدل له وکل منهما علة تامة مستقلة لوجوب القصر - وهذا معناه کذب إطلاق المفهوم أی الإطلاق الأوی وتقیّده -.

ص: 11

إذن، فالموجب للتقیید هو العلم الإجمالی بکذب أحد الإطلاقین، ومن الواضح أن نسبة العلم الإجمالی إلی کل من الإطلاقین علی حد سواء؛ فلیس العلم الإجمالی بالکذب أقرب إلی الإطلاق الأوی منه إلی الإطلاق الواوی، فلا بد من تساقطهما حتی وإن کان أحدهما متأخراً رتبةً عن الآخر(1) (2) .

هذا ما أفاده المحقق النائینی ره فی المقام.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

کان الکلام حول ما أفاده المحقق النائینی ره فی المقام فی مثل تعارض جملتین شرطیتین مختلفتین من حیث الشرط ومتحدتین من حیث الجزاء، حیث قلنا إنه یوجد تعارض بین مفهوم کل منهما مع منطوق الآخر. فاتجه المحقق النائینی ره إلی حل المشکلة، بناء علی مبناه فی إثبات مفهوم الشرط الذی تقدم تفصیله فی العام الدراسی السابق فقال: إن مرکز المعارضة الحقیقیة عبارة عن الإطلاق الواوی والإطلاق الأوی فی کل واحد من الدلیلین، وحیث لا مرجح لأحد الإطلاقین علی الآخر، فیتساقطان، وبعدهما نرجع إلی الأصول العملیة، والأصل العملی دائماً یکون فی صالح تقیید الإطلاق الواوی. هذا خلاصة ما قاله المرزا وقد تقدم شرحه.

وقد أفاد سیدنا الأستاذ الشهید ره أن هذا الکلام یحتوی علی مقاطع ثلاثة نتکلم فی کل منها مستقلاً:

1)- المقطع الأول: هو ما أفاده ره من لزوم الرجوع إلی الأصل العملی - بعد تساقط الإطلاقین - وهو یقتضی التقیید بالواو ورفع الید عن إطلاق المنطوق فی کل من الجملتین؛ فإن هذا الکلام تارةً یُقصد به بیان أن مقتضی القاعدة هو ذلک فی خصوص ما إذا کانت الجملتان الشرطیتان المتعارضتان من قبیل المثال الذی ذکرناه - وهو قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» وقوله: «إن خفی الجدار فقصّر» - وأخری یُقصد به بیان أن مقتضی القاعدة هو ذلک فی جمیع موارد التعارض بین جملتین شرطیتین من هذا القبیل کقاعدة کلیةٍ.

ص: 12

فإن أرید به الأول ففیه:

أولاً: أن مقتضی القاعدة فی خصوص المثال الذی نحن بصدده لیس عبارة عن الرجوع إلی الأصل العملی بعد تساقط الإطلاقین؛ فإن الرجوع إلی الأصول العملیة بعد تساقط الإطلاقین إنما یتم عند فقد الأصول اللفظیة وعدم وجود عموماتٍ أو إطلاقات فوقانیة، بینما یوجد فی هذا المثال أصل لفظی وإطلاق فوقانی یمکن الرجوع إلیه، وهذا المطلق الفوقانی عبارة عما دل علی وجوب القصر علی المسافر، أی: من قَصَد السفر، أی: المسافة الشرعیة وشَرَع فی السفر؛ فإن مقتضی هذا الدلیل وجوب القصر بمجرد القصد والشروع فی السفر مطلقاً، سواء خفی الأذان أم لا، وسواء خفی الجدار أم لا.

غایة الأمر، أنه ورد ما یقیّد إطلاق هذا الدلیل وهو عبارة عن مفهومی الجملتین الشرطیتین - أی قوله: «إذا خفی الأذان فقصّر»، وقوله: ««إذا خفی الجدار فقصّر» - إلا أن هذین المفهومین قد سقطا عن الحجیة، لمعارضة کل منهما مع منطوق الجملة الأخری کما عرفنا، ومورد المعارضة هو خفاء أحدهما وعدم خفاء الآخر، حیث أن المنطوق یدل علی وجوب القصر ومفهوم الأخری یدل علی عدم وجوبه، وبعد سقوط المفهومین عن الحجیة نتیجة تعارضهما مع المنطوقین، نشک - فی مورد خفاء أحدهما وعدم خفاء الآخر - فی تقیید المطلق الفوقانی وعدم تقییده، فنتمسک بإطلاقه ونحکم بوجوب القصر بمجرد خفاء أحدهما، ویکون القدر المتیقن من مورد عدم وجوب القصر علی المسافر هو مورد عدم خفائهما؛ لأنه هو القدر المتیقن من المقیِّد الذی هو عبارة عن المفهومین.

إذن، فنتیجة التمسک بالمطلق الفوقانی المذکور أصبحت فی صالح تقیید إطلاق المفهوم، أی: الإطلاق الأوی ورفع الید عنه، علی العکس مما استنتجه المحقق النائینی ره.

ص: 13

فإن قیل: إن التمسک بالمطلق الفوقانی المذکور فی مورد خفاء أحدهما دون الآخر غیر تامّ، للشک فی صدق عنوان «المسافر» المأخوذ فیه علی من قصد المسافة وشرع فی السفر وخفی علیه أحدهما ولم یخف علیه الآخر وحینئذ فلا یکون مشمولاً للمطلق الفوقانی المذکور، للشک فی صدق مفهوم السفر.

قلنا: أولاً إن هذا التشکیک فی غیر محله، لصدق عنوان المسافر ومفهوم السفر قطعاً فیما إذا قصد المسافة وشرع فی السفر وخفی علیه الأذان وحده، أو الجدار وحده، بل إن هذا العنوان والمفهوم صادق علیه قبل خفاء شیء منهما أیضاً، غایة الأمر أننا نعلم بخروج هذا المورد - أی: مورد عدم خفاء شیء منهما - عن المطلق الفوقانی؛ لأنه القدر المتیقن من المقیِّد کما تقدم آنفاً.

أما مورد خفاء أحدهما فلا علم لنا بخروجه عنه فیتمسک بإطلاقه فیه، لصدق عنوان المسافر ومفهوم السفر قطعاً.

وعلی أی حال لا نستنتج ما قاله المرزا، وهذا ما سیأتی شرحه غداً.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

کان الکلام فی المقطع الأخیر من کلام المحقق النائینی ره الذی قال فیه: إننا فی المقام بعد تساقط الإطلاقین یجب أن نرجع إلی الأصل العملی الذی نتیجته تقیید الإطلاق الواوی. فقلنا إنه إن قصد به بیان أن هذا هو مقتضی القاعدة فی خصوص مثال: «إن خفی الأذان فقصر» و«إن خفی الجدار فقصر»، وأنه فی خصوص هذا المثال یقتضی الأصل العملی تقیید الإطلاق الواوی، فهذا یرد علیه إشکالان:

الإشکال الأول: فی خصوص هذا المثال بعد تساقط الإطلاقین لا نرجع إلی الأصل العملی، وذلک:

ص: 14

أولاً: لأن لدینا مطلقاً فوقانیاً یجب أن نرجع إلیه، ولا یصل الدور إلی الأصل العملی، والمطلق الفوقی هو أن المسافر یجب علیه القصر، ولا یشکک فی صدق عنوان المسافر علیه؛ لأنه فی غیر محله کما تقدم.

وثانیاً: إنه حتی لو فرض الشک فی صدق عنوان المسافر ومفهوم السفر فی مورد خفاء أحدهما، لا یتم ما استنتجه المحقق النائینی ره، إذ غایة ما هناک عدم جواز التمسک حینئذ بالمطلق الفوقانی المذکور الدال علی وجوب القصر علی المسافر، وحینئذ فلابد من الرجوع إلی دلیل أعم وهو دلیل وجوب التمام إن فرض وجود إطلاق من هذا القبیل یدل علی وجوب الصلاة تماماً، کقوله: {أقیموا الصلاة}، وأما إن لم یوجد إطلاق من هذا القبیل فتصل النوبة حینئذ إلی الأصل العملی، وهو یقتضی الاحتیاط والجمع بین القصر والتمام، للعلم الإجمالی بوجوب أحدهما.

الإشکال الثانی: حتی لو تنزّلنا عما ذکرناه أولا وفرضنا عدم وجود مطلق فوقانی نرجع إلیه بعد تساقط الإطلاقین وتعیّن علینا الرجوع إلی الأصل العملی، لا یتم ما ذکره ره من أن الأصل العملی فی صالح تقیید المنطوقین، أی الإطلاقین الواویین ورفع الید عنهما، بحیث یکون مقتضی الأصل عدم وجوب القصر عند خفاء أحدهما وعدم خفاء الآخر؛ وذلک لأنه إن أراد ره بالأصل البراءة عن وجوب القصر، فمن الواضح عدم جریانها؛ لأن وجوب القصر أحد طرفی العلم الإجمالی، حیث یعلم المکلف فی هذه الحالة بوجوب القصر أو التمام علیه، فالبراءة عن وجوب القصر تعارضها البراءة عن وجوب التمام، وتتساقطان ویکون العلم الإجمالی منجزاً لوجوب الاحتیاط والجمع بین القصر والتمام کما عرفت.

وإن أراد ره بالأصل استصحاب وجوب التمام وعدم وجوب القصر فیرد علیه أن هذا الاستصحاب تعلیقی فی بعض الموارد أو فی کثیر منها، کما إذا شرع فی السفر قبل دخول وقت الصلاة وخفی علیه أحدهما ودخل الوقت؛ فإنه فی هذه الحالة لم یکن التمام واجباً علیه حینما کان فی البلد قبل السفر کی یستصحبه الآن؛ إذ لم یکن الوقت داخلاً آنذاک، فلا معنی لاستصحاب وجوب التمام بنحو الاستصحاب التنجیزی.

ص: 15

نعم، یتم الاستصحاب حینئذ بنحو التعلیق، بأن یقال: إنه لو کان قد دخل الوقت وهو فی البلد لوجب علیه التمام، والآن أیضاً یستصحب ذلک، إلا أن المحقق النائینی ره لا یقول بالاستصحاب التعلیقی.

هذا کله لو کان نظر المحقق النائینی ره إلی خصوص المثال الذی نحن بصدده.

وأما إن أرید به الثانی بأن کان نظره ره إلی قاعدة کلیة وبیان ضابط کلی فی الموارد التی تتعارض فیها جملتان شرطیتان من هذا القبیل ولا توجد فیها أصول لفظیة، وأنه فی فرض اجتماع الشرطین المذکورین فی الجملتین یحصل القطع بثبوت الجزاء المترتب علیهما، وأما فی فرض وجود أحدهما دون الآخر یشک فی ثبوت الجزاء وعدمه، ومقتضی الأصل العملی عدم ثبوته فیکون الأصل العملی فی صالح تقیید المنطوقین، فهذا أیضاً غیر صحیح وذلک لأن الحکم المذکور فی الجزاء لیس حکماً إلزامیاً دائماً، کی یقال إنه إذا وجد أحد الشرطین دون الآخر یشک فی ثبوته، والأصل عدمه، فیکون موافقاً لتقیید المنطوقین بالواو، بل قد یکون حکماً ترخیصیاً إباحیاً، کما إذا قال: «إن کان الإنسان هاشمیاً لم یجب تقدیم العلوی علیه»، وقال فی قضیة أخری: «إن کان الإنسان عالماً لم یجب تقدیم العلوی علیه» حیث أن التعارض ثابت هنا أیضاً بین إطلاق منطوق کل منهما مع إطلاق مفهوم الجملة الأخری، فمقتضی إطلاق منطوق الجملة الأولی هو عدم وجوب تقدیم العلوی علی الإنسان الهاشمی غیر العالم، بینما مقتضی إطلاق مفهوم الجملة الثانیة هو وجوب تقدیم العلوی علیه، کما أن مقتضی إطلاق منطوق الجملة الثانیة هو عدم وجوب تقدیم العلوی علی الإنسان العالم غیر الهاشمی، بینما مقتضی إطلاق مفهوم الجملة الأولی هو وجوب تقدیم العلوی علیه، وحینئذ ففی فرض اجتماع الشرطین المذکورین فی الجملتین - بأن کان الإنسان هاشمیاً عالماً - وإن کنا نقطع بثبوت الجزاء وعدم وجوب الجزاء وعدم وجوب تقدیم العلوی علیه، لکن فی فرض وجود أحد الشرطین دون الآخر - بأن کان الإنسان هاشمیاً غیر عالم، أو کان عالماً غیر هاشمی - نشک فی ثبوت الجزاء وعدمه ثبوته، أی: نشک فی وجوب تقدیم العلوی علیه، ومقتضی الأصل العملی عدم الوجوب، فیکون مقتضی الأصل حینئذ هو ثبوت الجزاء لا عدم ثبوته وبالتالی فیکون الأصل العملی فی صالح تقیید الإطلاقین الأویین الذی ینتجان المفهومین ولیس فی صالح تقیید الإطلاقین الواویین فی المنطوقین، علی العکس مما أفاده المحقق النائینی ره.

ص: 16

إذن، لا یوجد هناک ضابط عام وکلی للأصل العملی الجاری بعد تساقط الأصول اللفظیة فی موارد تعارض جملتین شرطیتین شرطهما متعدد وجزاؤهما واحد، بل یختلف الحال من مسألة إلی أخری، فلا بد من ملاحظة کل مورد بخصوصه.

هذا تمام الکلام فی هذا المقطع من کلام المحقق النائینی ره وحاصل ما قلناه حول هذا المقطع هو أن المحقق النائینی ره إن کان ناظراً إلی خصوص المثال فیما نحن فیه فیرد علیه أن المرجع بعد تساقط الإطلاقین لیس هو الأصل العملی، بل هو المطلق الفوقانی الدال علی وجوب القصر علی المسافر، ولو شک فی صدق عنوان المسافر فالمرجع هو المطلق الذی هو فوقه الدال علی وجوب التمام إن کان، وإلا فالمرجع هو الأصل العملی، وهو استصحاب وجوب التمام إن شرع فی السفر بعد دخول الوقت، وأما إن شرع فیه قبل دخول الوقت فالمرجع أیضاً هو استصحاب وجوب التمام بناءًا علی القول بالاستصحاب التعلیقی، وأما بناءًا علی عدم جریان الاستصحاب التعلیقی فمقتضی الأصل العملی هو الاحتیاط ووجوب الجمع بین القصر والتمام، للعلم الإجمالی بوجوب أحدهما.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

وأما إن کان کلام المحقق النائینی ناظراً فی المقطع الأول من کلامه إلی بیان ضابط کلی فی الموارد التی تتعارض فیها جملتان شرطیتان من هذا القبیل - أی: شرطهما متعدد وجزاؤهما واحد - وتتساقط الأصول اللفظیة، فیرد علیه أن الأصل العملی لا یقتضی دائماً عدم ثبوت الجزاء عند وجود أحد الشرطین دون الآخر، بل قد یقتضی عدم ثبوته وذلک فیما إذا کان الجزاء حکماً إلزامیاً، وقد یقتضی ثبوته وذلک فیما إذا کان حکماً ترخیصیاً. هذا تمام الکلام فی المقطع الأول.

ص: 17

2)- المقطع الثانی: هو الإشکال الذی أورده المحقق النائینی ره علی نفسه وأجاب عنه بما تقدّم، وکان حاصل الإشکال وجود مرجّح للإطلاق الواوی وهو تقدمه علی الإطلاق الأوی رتبةً، فیتعیّن بقاؤه، ویسقط الإطلاق الأوی ویتقیّد الشرط المذکور فی کل من الجملتین ب_«أو» وتکون النتیجة أن کلاً من الشرطین علّة تامة مستقلة لوجوب القصر، وکان حاصل جوابه ره عنه هو أن الإطلاق الواوی وإن کان متقدماً رتبةً لکنه لیس مرجّحاً له ولا یوجب تعیّنه للبقاء وتعیّن الإطلاق الأوی للسقوط؛ لأن الموجب لتعارضهما هو العلم الإجمالی بکذب أحدهما، ونسبة هذا العلم إلی کل منهما علی حد سواء، فلابد من تساقطهما رغم الطولیة بینهما فی الرتبة.

ونحن بالنسبة إلی هذا المقطع من کلامه ره نرید أن نعرف:

أولاً: أن الإشکال المذکور هل هو تام فی نفسه وبقطع النظر عن جواب المحقق النائینی ره؟ بمعنی أن الطولیة فی الرتبة هل هی ثابتة حقاً بین الإطلاقین؟ وثانیاً أن جواب المحقق النائینی ره عن الإشکال المذکور هل هو تام؟ بمعنی أنه علی تقدیر التسلیم بالطولیة فی الرتبة بین الإطلاقین هل یبقی العلم الإجمالی بکذب أحدهما علی حاله وتکون نسبته إلی کل منهما علی حد سواء أم أن هذا العلم الإجمالی ینحلّ حینئذ؟

أما بالنسبة إلی السؤال الأول فقد یقال: إن الإشکال المذکور غیر تامّ فی نفسه وبقطع النظر عن جواب المحقق النائینی ره، ولا موضوع ولا أساس له أصلاً، ومعه فلا یکون جواب المحقق النائینی ره وارداً أبداً؛ فإن الإطلاقین الطولیین لا تعارض بینهما، والإطلاقان المعارضان لا طولیة بینهما. فالإشکال یستبطن الخلط بین مورد الطولیة ومورد التعارض، بینما أحدهما غیر الآخر.

توضیحه: أن الإطلاقین الطولیین إنما هما الإطلاق الواوی والإطلاق الأوی فی داخل جملة شرطیة واحدة. فمثلاً فی جملة: «إن خفی الأذان فقصّر» توجد طولیة بین إطلاقها الواوی الذی یُثبت التمامیة وإطلاقها الأوی الذی یثبت الانحصار، ضرورةَ أن إثبات انحصار علة وجوب القصر فی خفاء الأذان إنما هو فی طول إثبات العلیة التامة لخفاء الأذان، بالنسبة إلی وجوب القصر، فکون شیء علة منحصرة هو فرع کونه علة تامة لا جزء علة؛ فنحن إذا لاحظنا جملة شرطیة واحدة لرأینا الطولیة بین إطلاقها الواوی - أی: إطلاق منطوقها - وبین إطلاقها الأوی الذی یثبت المفهوم لها، ومن الواضح أن هذین الإطلاقین الطولیین لا تعارض بینهما أبداً؛ إذ أی تعارض وتنافٍ بین کون خفاء الأذان علة تامة لا جزء علة وبین کونه علة منحصرة؟! بل إن طولیتهما بالمعنی المتقدم تنفی تعارضهما کما هو واضح، وإنما التعارض بین الإطلاق الواوی لکل جملة وبین الإطلاق الأوی للجملة الأخری.

ص: 18

فالإطلاق الواوی لجملة «إن خفی الأذان فقصّر» أی: إطلاق منطوقها الذی یثبت کون خفاء الأذان علة تامة لوجوب القصر یعارض الإطلاق الأوی لجملة: «إن خفی الجدار فقصّر» الذی یُثبت الانحصار والمفهوم لها ویدل علی أنه إن لم یخف الجدار لا یجب القصر وإن خفی الأذان، وکذلک العکس. ومن الواضح أن هذین الإطلاقین المتعارضین لا طولیة بینهما أبداً؛ فإن کون خفاء الجدار علة منحصرة لیس فی طول کون خفاء الأذان علة تامة کما هو واضح.

إذن، فالإشکال فَرَض التعارضَ بین الإطلاق الواوی للقضیة وإطلاقها الأوی؛ لأن هذین الإطلاقین هما الطولیان، بینهما التعارض لیس بین هذین، بل بین الإطلاق الواوی للقضیة والإطلاق الأوی للقضیة الأخری، وهذان لا طولیة بینهما.

وعلیه، فلا یبقی للإشکال موضوع، ولا یکون جواب المحقق النائینی ره عنه موجَّهاً؛ فإن ما فیه التعارض لیس فیه الطولیة، وما فیه الطولیة لیس فیه التعارض. هذا ما قد یقال، ولکنه غیر تام؛ لما سنذکره غداً إن شاء الله.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

کنا نتحدث فی المقطع الثانی من کلام المحقق النائینی ره حول الإشکال الذی أورده علی نفسه ثم أجاب عنه، وکان الإشکال یقول بأن الإطلاق الواوی والإطلاق الأوی طولیان، ولطالما أنهما طولیان فحق التقدم للإطلاق الواوی، فیکون هو المرجح علی الإطلاق الأوی. فقلنا: إن کلامنا حول هذا المقطع من یتلخص فی الإجابة عن سؤالین:

الأول: هل هناک حقاً طولیة بین هذین الإطلاقین؟ فقد یقال بأنه: لا طولیة بین الإطلاقین المتعارضین، بل توجد طولیة بین إطلاقین ویوجد تعارض بین إطلاقین، لکن مورد المعارضة غیر مورد الطولیة. الإطلاقان الطولیان غیر متعارضین والإطلاقان المتعارضان غیر طولیین کما شرحنا بالأمس.

ص: 19

الرد: هذا ما قد یقال، ولکنه غیر تام؛ لأن التعارض وإن کان بین الإطلاق الواوی لکل قضیة والإطلاق الأوی للقضیة الأخری، إلا أن هذا التعارض قد سَری إلی أحشاء کلٍّ من القضیتین بین إطلاقها الواوی والأوی أیضاً، بمعنی أن الإطلاق الواوی فی کل قضیةٍ أصبح یعارض إطلاقها الأوی، والنکتة فی هذا السریان عبارة عن العلم بالتلازم بین الإطلاق الواوی فی کل قضیة والإطلاق الواوی فی القضیة الأخری ثبوتاً وسقوطاً. بمعنی أن ثبوت الإطلاق الواوی فی جملة «إن خفی الأذان فقصّر» یلازم ثبوت الإطلاق الواوی فی جملة «إن خفی الجدار فقصّر»، وسقوط الإطلاق الواوی فی الأولی یلازم سقوط الإطلاق الواوی فی الثانیة، فصدق الإطلاق الواوی فی کل قضیة ملازم لصدق الإطلاق الواوی فی الأخری، وکذبه فی کل قضیة ملازم لکذبه فی الأخری، ضرورةَ أنه إذا کان خفاء الأذان علة تامة لوجوب القصر لا جزء علة، فهذا یستلزم أن یکون خفاء الجدار أیضاً علة تامة لوجوب القصر لا جزء علة، کما أنه إذا کان خفاء الأذان جزء العلة فهذا یستلزم أن یکون خفاء الجدار أیضاً جزء علة.

والنکتة فی تلازم الإطلاقین الواویین ثبوتاً وسقوطاً عبارةٌ عن عدم معقولیة فرض کون أحد الشرطین علة تامة والشرط الآخر جزء علة؛ إذ تکون شرطیة الشرط الآخر حینئذ لغواً؛ لأن ضم ما هو جزء علة إلی ما هو علة تامة من قبیل ضم الحجر إلی الإنسان. فإذا کان خفاء الأذان مثلاً علة تامة لوجوب القصر، فلا یعقل حینئذ أن یکون خفاء الجدار جزء العلة وشرطاً لوجوب القصر، لأن هذه الشرطیة حینئذ لغو، فالشرطان المذکوران فی الجملتین متلازمان فی التمامیة والجزئیة فی عالم الثبوت والواقع، فإما أن یکون کل منهما علة تامة لوجوب القصر، وهذا یعنی تلازم الإطلاقین الواویین ثبوتاً وصدقاً، وإما أن یکون کل منهما جزء علة لوجوب القصر، وهذا یعنی تلازم الإطلاقین الواویین سقوطاً وکذباً، والنکتة فی هذا التلازم هی أنه لا یُعقل أن یجعل الشارع أحدهما جزء الموضوع لوجوب القصر والآخر موضوعاً مستقلاً له. فإذا تم الإطلاق الواوی فی إحدی الجملتین فلا بد من أن یتم هذا الإطلاق أیضاً فی الجملة الأخری. وإذا تقید الإطلاق الواوی فی إحدی الجملتین فلابد من أن یتقید هذا الإطلاق أیضاً فی الجملة الأخری، فتقیید أحد المنطوقین بالواو یستلزم لا محالة تقیید المنطوق الآخر أیضاً بالواو، وهذا یعنی أن ما یعارض أحد الإطلاقین الواویین یعارض الآخر أیضاً لا محالة، وحیث قد فرضنا أن الإطلاق الأوی فی کل جملة یعارض الإطلاق الواوی فی الجملة الأخری، إذاً فهو یعارض الإطلاق الواوی فی نفس الجملة الأولی أیضاً، لما عرفت من أن ملازم المعارض معارضٌ.

ص: 20

فإذا کان الإطلاق الواوی فی جملة «إن خفی الأذان فقصّر» یعارضه الإطلاق الأوی فی جملة «إن خفی الجدار فقصّر» کما هو المفروض، وکان الإطلاق الواوی فی الجملة الأولی ملازماً للإطلاق الواوی فی الجملة الثانیة، بحیث یکون ما یعارض الأول یعارض الثانی أیضاً - کما عرفت - إذاً، فالنتیجة هی أن الإطلاق الأوی فی الجملة الثانیة یعارض الإطلاق الواوی فی نفس هذه الجملة، وهذا هو ما قصدناه من سریان التعارض إلی أحشاء کل جملة بین إطلاقها الواوی وإطلاقها الأوی، وحیث أن الطولیة ثابتة فی داخل کل جملة بین إطلاقها الواوی وإطلاقها الأوی کما تقدم، إذن فقد أمکن فرض التعارض بین الإطلاقین الطولیین، فیکون الإشکال الذی أورده المحقق النائینی ره علی نفسه وجیهاً ولیس مما لا موضوع ولا أساس له، ومعه یکون جوابه ره عنه وارداً.

والصحیح فی مقام الجواب عن إشکال الطولیة هذا، هو إنکار الطولیة رأساً بین الإطلاق الواوی والإطلاق الأوی، فلا طولیة أبداً لا بین مدلولی الإطلاقین ولا بین نفس الإطلاقین.

أما عدم الطولیة بین مدلولیهما، فلأن مدلول الإطلاق الواوی عبارة عن تمامیة العلیة ومدلول الإطلاق الأوی عبارة عن انحصار العلیة، وکون الانحصار فی طول التمامیة مبنیّ علی دخالة التمامیة فی نکتة اقتناص المفهوم وهی الانحصار، لکننا عرفنا سابقاً أن التمامیة لیست دخیلة فی ذلک، وأن کون العلة منحصرة کما یتلائم مع کونها علة تامة، کذلک یتلائم مع کونها جزء علة، فیکفی فی اقتناص المفهوم ثبوت کون العلیة منحصرة فی الشرط، بمعنی عدم قیام شیء آخر مقامه فی ما له من تأثیر، سواء کان ما له من مقدار التأثیر هو التأثیر الناقص أم التام؛ فالإطلاق الأوی إنما یثبت أن ما وقع شرطاً لا عِدل له بحیث إذا انتفی ینتفی الجزاء سواء کان علة تامة أم جزء علة، فإنه علی کل حال ینتفی المعلول بانتفائه، ولا حاجة إلی ثبوت کون المراد من الانحصار خصوص انحصار العلیة التامة کی تکون التمامیة مأخوذة فی موضوع الانحصار، وبالتالی یکون الانحصار فی طول التمامیة. فما نرید أن نثبته بالإطلاق الأوی لا یتوقف علی ثبوت مدلول الإطلاق الواوی ومفاده، کی تتحقق الطولیة بینهما.

ص: 21

وأما عدم الطولیة بین نفس الإطلاقین - فلأننا حتی لو فرضنا الطولیة بین مفادیهما ومدلولیهما، أی: بین التمامیة والانحصار، بأن کان ما یثبت المفهوم خصوص انحصار العلیة التامة - فإنه مع ذلک لا موجب لفرض کون الإطلاق الذی یُثبت الانحصار - والذی هو عبارة عن السکوت عن «أو» فی طول الإطلاق الذی یثبت التمامیة والذی هو عبارة عن السکوت عن «الواو»؛ فإن الطولیة بین مدلولین لا توجب الطولیة بین الدالین علیهما کما هو واضح.

هذا کله بالنسبة إلی السؤال الأول، وهو أنه هل توجد طولیة بین الإطلاقین أو لا؟ فتبین أنه لا طولیة بینهما، وبعد ذلک ننتقل إلی السؤال الثانی، بأنه علی تقدیر التسلیم بالطولیة هل أن جواب المحقق النائینی عن الإشکال صحیح أو لا؟ .

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

وأما بالنسبة إلی السؤال الثانی - وهو أنه علی تقدیر تمامیة الإشکال الذی طرحه المحقق النائینی علی نفسه والتسلیم بالطولیة فی الرتبة بین الإطلاقین وکون الإطلاق الأوی فی طول الإطلاق الواوی ومتأخراً عنه رتبةً ومتوقفاً علیه، فهل أن جواب المحقق النائینی ره عن الإشکال المذکور تامّ ام لا؟ - فالصحیح هو أن جوابه ره عن الإشکال حینئذ غیر تام، فقد کان حاصل جوابه ره عنه هو أن الطولیة لا توجب تقدیم الإطلاق الواوی المتقدم رتبةً علی الإطلاق الأوی المتأخر رتبةً؛ لأن منشأ تعارض الإطلاقین هو العلم الإجمالی بکذب أحدهما، ونسبته إلیهما علی حد سواء، بینما هذا الجواب غیر تام؛ إذ لو سُلّمت الطولیة بین مدلولی الإطلاقین ومفادیهما، بمعنی أنه کان مفاد الإطلاق الأوی عبارة عن انحصار خصوص العلة التامة، وهذا الانحصار متوقف علی مفاد الإطلاق الأوی عبارة عن انحصار خصوص العلة التامة، وهذا الانحصار متوقف علی مفاد الإطلاق الواوی الذی هو عبارة عن العلیة التامة، فلا محالة تکون هذه الطولیة موجبة لتقدیم الإطلاق الواوی، إذ ینحل العلم الإجمالی الذی ذکره ره إلی العلم التفصیلی بکذب الإطلاق الأوی والشک البدوی فی کذب الإطلاق الواوی؛ لأن مفاد الإطلاق الأوی إذا کان عبارة عن کون الشرط علة تامة منحصرة - کما هو مفروض الطولیة - فهذا یعنی أننا نعلم تفصیلاً بکذب هذا الإطلاق وعدم مطابقته للواقع؛ لأننا نعلم بأن الشرط المذکور فی کل جملة قد عطف علیه شرط آخر مذکور فی الجملة الأخری، إما بواسطة «الواو» - وهذا معناه أن الشرط لیس علة تامة بل هو جزء علة - وإما بواسطة «أو» - وهذا معناه أن الشرط لیس منحصراً - فالانحصار المتضمّن للعلیة التامة یُعلم تفصیلاً بعدم مطابقته للواقع. فالإطلاق الأوی یُعلم تفصیلاً بسقوطه؛ إذ نعلم وجداناً حینئذ بعدم کون الشرط علة تامة منحصرة، إما لعدم کونه علة تامة، أو لعدم کونه منحصراً.

ص: 22

وبعبارة أخری: حیث أن المفروض هو أن مفاد الإطلاق الأوی عبارة عن الانحصار المتوقف علی التمامیة، فلا محالة نعلم بکذب هذا الإطلاق؛ لأنه إما أن الانحصار غیر ثابت وإن ثبتت التمامیة، وإما أن التمامیة غیر ثابتة ومع فرض عدم التمامیة لا یعقل ثبوت الانحصار المتوقف علی التمامیة، فالانحصار المتوقف علی التمامیة معلوم العدم علی کل حال.

وعلیه، فإذا سقط الإطلاق الأوی للعلم التفصیلی بکذبه انحل العلم الإجمالی الذی ذکره ره وجرت أصالة الإطلاق الواوی بلا معارض، وتکون النتیجة حینئذ أن کلا من الشرطین علة تامة مستقلة لوجوب القصر، لا جزء علة، وذلک تمسکاً بالإطلاق الواوی وأصالة عدم التقیید والعطف ب_«الواو» کما هو واضح.

إذن، فعلی تقدیر التسلیم بالإشکال والإیمان بالطولیة لا یتم جواب المحقق النائینی ره.

فالصحیح فی مقام الجواب عن الإشکال هو إنکار الطولیة کما عرفت، وحینئذ فنبقی نحن والإطلاقین الذین نعلم إجمالاً بکذب أحدهما، فیتعارضان.

هذا تمام الکلام فی المقطع الثانی من کلام المحقق النائینی ره.

3) المقطع الثالث: هو ما أفاده ره من أن الإطلاقین المتعارضین - أعنی الواوی والأوی - متکافئان ومتساویان ولا مرجح لأحدهما علی الآخر؛ لأن کلاً منهما ظهور إطلاقی مستند إلی مقدمات الحکمة، وکما یرتفع التعارض بتقیید الإطلاق الأوی الموجود فی کل من الجملتین الشرطیتین - وهذا یعنی تقیید مفهوم کل من الجملتین بمنطوق الأخری - کذلک یرتفع التعارض بتقیید الإطلاق الواوی الموجود فیهما - وهذا یعنی تقیید منطوق کل من الجملتین بمنطوق الأخری - وحیث لا مرجح لأحد الإطلاقین علی الآخر فلابد من الالتزام بتساقطهما.

وهذا المقطع من کلامه ره فنی صناعی لا غبار علیه.

ص: 23

إلا أن السید الأستاذ الخوئی ره اعترض علی کلام أستاذه هذا قائلاً:

الظاهر أنه لابد فی محل الکلام من رفع الید عن خصوص الإطلاق الأوی لکل من الجملتین وإبقاء الإطلاق الواوی لکل منهما علی حاله، والسر فی ذلک هو أن الموجب لوقوع التعارض بین الدلیلین فی المقام إنما هو ظهور کل منهما فی المفهوم وثبوت الآخر فی ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط المذکور فیه بقطع النظر عن دلالته علی المفهوم وعدم دلالته علیه، ولذا نری أن التعارض ثابت حتی وإن لم تکن القضیة فی الدلیل الآخر شرطیة، کما إذا ورد فی دلیل: «إن خفی الأذان فقصّر» وورد فی دلیل آخر: «یجب القصر عند خفاء الجدار»؛ فإن ظهور الدلیل الأول فی المفهوم یتعارض لا محالة مع ظهور الدلیل الثانی فی ثبوت وجوب القصر عند خفاء الجدار.

وعلیه فالمعارضة فی محل الکلام إنما هی بین مفهوم کل من الدلیلین ومنطوق الآخر الدال علی ثبوت الجزاء عند تحقق شرطه. وبما أن نسبة کل من المنطوقین إلی مفهوم القضیة الأخری نسبة الخاص إلی العام، لابد من رفع الید عن عموم المفهوم فی مورد المعارضة، وبما أنه یستحیل التصرف فی المفهوم نفسه لأنه مدلول تبعی ولازم عقلی للمنطوق، لابد من رفع الید عن ملزوم المفهوم بمقدار یرتفع به التعارض، ولا یکون ذلک إلا بتقیید المنطوق ورفع الید عن إطلاقه الأوی، وأما رفع الید عن الإطلاق الواوی لتکون نتیجة ذلک اشتراط الجزاء بمجموع الشرطین فهو وإن کان موجباً لارتفاع المعارضة بین الدلیلین، إلا أنه بلا موجب؛ ضرورةَ أنه لا مقتضی لرفع الید عن ظهور دلیلٍ مع عدم کونه طرفاً للمعارضة ولو ارتفع بذلک أیضاً التعارض بین الدلیلین اتفاقاً، ونظیر ذلک ما إذا ورد الأمر بإکرام العلماء الظاهر فی وجوب إکرامهم جمیعاً، ثم ورد فی دلیل آخر أنه لا یجب إکرام زید العالم، فإنه وإن کان یرتفع التعارض بینهما برفع الید عن ظهور الأمر فی الوجوب وحمله علی الاستحباب، فإنه حینئذ یزول التعارض بین الدلیلین، إلا أن هذا بلا موجب یقتضیه؛ إذ ما هو الموجب للتعارض بینهما إنما هو ظهور الدلیل الأول فی العموم، لا ظهور الأمر فی الوجوب، فلابد من رفع الید عنه وتخصیصه بالدلیل الثانی وإبقاء ظهور الأمر فی الوجوب علی حاله، مع أن ظهور العام فی العموم أقوی من ظهور الأمر فی الوجوب؛ لأن ذاک بالوضع وهذا بالإطلاق، وهذا هو المیزان فی جمیع موارد تعارض الظهورات(1) (2) .

ص: 24

وحاصل هذا الاعتراض هو أنه لا مبرر لإسقاط إطلاق المنطوقین بعد أن کان طرفاً للمعارضة هما منطوق کلٍ مع مفهوم الآخر، بل المتعین إسقاط إطلاق المفهومین وتقییدهما؛ لأن نسبة کل منطوق إلی مفهوم القضیة الأخری نسبة الخاص إلی العام فمفهوم قوله مثلا: «إن خفی الأذان فقصّر» هو عدم وجوب القصر إن لم یَخفَ الأذان سواء خفی الجدار أم لا، وهذا أعم من منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر».

إذن، فیتقدم المنطوق علی المفهوم بالأخصیة، إذن فیجب تقیید الإطلاق الأوی لکلتا القضیتین، وأما تقیید الإطلاق الواوی الثابت فیهما کما صنعه المحقق النائینی ره فهو وإن کان موجباً لحل التعارض، إلا أنه لا موجب له، إذ لا مقتضی لرفع الید عن ظهور دلیل مع عدم معارضته لظهور دلیل آخر، بل یجب العمل بظهور کل دلیل ما لم یکن له معارض مساوٍ له أو أقوی، ومجرد کون رفع الید عنه موجباً لرفع التعارض بین دلیلین آخرین لا یعارضانه لا یبرر رفع الید عنه، بل لا بد من العمل به وإن کان موجباً لبقاء التعارض بین ذینک الدلیلین، فإنه حینئذ یُرجع فیهما إلی قوانین باب التعارض، ویُعامَلان معاملة المتعارضین.

أما ما هی نتیجة التقیید فهی ما ستأتی فی بحث الغد إن شاء الله تعالی. .

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء

کان الکلام فی هذا المقطع من کلام المحقق النائینی ره الذی قال فیه: إن الإطلاق الواوی فی کل من الجملتین مع الإطلاق الأوی فی کل من الجملتین متکافئان، کما یمکن أن نرفع التعارض من خلال تقیید الإطلاق الأوی فی کل من الجملتین، کذلک یمکن رفع التعارض من خلال تقیید الإطلاق الواوی فی کل من الجملتین. وحیث لا مرجح للأول علی الثانی ولا للثانی علی الأول، فلا بد من الالتزام بتساقط هذه الإطلاقات جمیعاً وبعد ذلک نرجع إلی الأصل العملی الذی نحن ناقشنا المحقق النائینی فی الرجوع إلیه. المهم الآن هذا المقطع من کلامه.

ص: 25

الاعتراض: ولکن السید الأستاذ الخوئی ره اعترض علی هذا المقطع، وکان حاصل هذا الاعتراض هو أن الإطلاق الواوی فی کل من الجملتین لا مبرر لإسقاطهما، فهما لم یکونا طرفی المعارضة، وإن طرفا المعارضة منطوق کل من الجملتین مع مفهوم الجملة الأخری.

وعلیه ففی المقام أیضاً نقول: إن تقیید الإطلاق الواوی فی الجملتین ورفع الید عنه وإن کان أیضاً یرفع التعارض الموجود بین منطوق کل منهما ومفهوم الأخری - حیث یُصبح کل من المنطوقین حینئذ بعد تقیید إطلاق الواوی عن وجوب القصر عند خفاء الأذان والجدار معاً ویُصبح کل من المفهومین حینئذ عبارة عن عدم وجوب القصر عند عدم خفائهما، فیزول التعارض بین منطوق کل ومفهوم الأخری - إلا أنه لیس کل ما یرفع التعارض یجب العمل علی طبقه، بل لابد من ملاحظة نفس المتعارضین، أی: منطوق کل مع مفهوم الأخری بالأخصیة کما تقدم.

هذا هو ما اعترض به السید الأستاذ الخوئی ره علی کلام المحقق النائینی ره.

الجواب عن الاعتراض: وأورد سیدنا الأستاذ الشهید رضوان الله علیه علی هذا الاعتراض بأمور:

الأول: أن ما ذکره السید الأستاذ الخوئی ره من الضابط الکلی والقانون العام الذی لابد من مراعاته فی باب التعارض - (وهو أنه متی ما وجد لدینا ظهوران متعارضان، وکان هناک ظهور ثالث خارج عن دائرة التعارض ولیس طرفاً للمعارضة بمعنی أن التعارض ثنائی لا ثلاثی، لکن رفع الید عن هذا الظهور الثالث یوجب رفع التعارض الثنائی بین الظهورین الأولین، ففی مثل ذلک لا مبرر لرفع الید عن الظهور الثالث ولا موجب لذلک، بل یتعین العمل به؛ لأنه لیس طرفاً للمعارضة، ویُتعامل مع الظهورین الأولین معاملة المتعارضین وتُطبّق علیهما قوانین باب التعارض) - صحیح کبرویاً لکن لا بالمعنی الذی تصوره رحمه الله، فإنه حینما طَبَّق هذا القانون علی المثال الذی ذکره - وهو ما إذا ورد الأمر بإکرام العلماء، وورد فی دلیل آخر أنه لا یجب إکرام زید العالِم - اتضح أنه رحمه الله لم یفسر القانون المذکور تفسیراً صحیحاً، ولم یطبّقه علی مصداقه؛ إذ التعارض فی هذا المثال لیس ثنائیاً، بل هو ثلاثی، فإن ظهور الأمر فی الوجوب فی هذا المثال داخل فی دائرة التعارض ولیس خارجاً عنها، وتوضیح ذلک یأتی غداً إن شاء الله تعالی.

ص: 26

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

قلنا إن ما أفاده السید الأستاذ الخوئی ره فی الاعتراض علی المحقق النائینی ره، أورد علیه سیدنا الأستاذ الشهید ره بأمور:

الأمر الأول: هو أن هذا القانون العام الذی ذکره ره صحیح کبرویاً، لکن لا بالمعنی الذی ذکره ره، حیث طبق هذا القانون علی المثال الذی ذکره، وهذا المثال کان عبارة عن أنه ورد فی دلیل الأمر بإکرام العلماء، وورد فی دلیل آخر أنه لا یجب إکرام زید العالم، فهو ره طبق هذا القانون علی هذا المثال، بینما هذا التطبیق غیر صحیح، وهذا المثال لیس مصداقاً حقیقیاً من موارد هذا القانون؛ لأن شرط هذا القانون هو أن یکون التعارض والتکاذب ثنائیاً، بینما فی هذا المثال الذی ذکره ره التکاذب والتعارض ثلاثی. ظهور الأمر فی الوجوب طرف، وظهور العلماء فی العموم والشمول لزید طرف ثان، وظهور الخاص «لا یجب إکرام زید العالم» فی مفاده. هذه أطراف ثلاثة.

فلو أراد رحمه الله بالقانون المذکور ما طبّقه علی مثل هذا المثال، فیجب أن نقول فی جوابه أن هذا القانون بهذا المعنی غیر معقول فی نفسه ویستحیل وقوعه خارجاً، بمعنی أنه لا یمکن وجود ظهورین متعارضین ووجود ظهور ثالث لو رُفع الید عنه انحلّ التعارض بین ذینک الظهورین ومع ذلک لا یکون الظهور الثالث داخلاً فی دائرة التعارض وطرفاً للمعارضة، وذلک لأنه إذا فرض وجود ظهور ثالث یکون رفع الید عنه مستوجباً لارتفاع التعارض بین الدلیلین المتعارضین وانحلاله، فلا محالة یکون التعارض ثلاثیاً؛ لأن المتعارضین بمجموعهما ینفیان ذلک الظهور، وصدقهما یتنافی مع صدقه، فالظهور الثالث یکذب مجموع الظهورین، وهما أیضاً بمجموعهما یکذبانه، أی: یحصل لدینا علم إجمالی بکذب الظهور الثالث أو کذب مجموع الظهورین، وبموجب هذا العلم الإجمالی تتولّد دلالة التزامیة للظهور الثالث علی کذب مجموع الظهورین - وتتولد أیضاً دلالة التزامیة بمجموع الظهورین علی کذب الظهور الثالث طرف للمعارضة قطعاً.

ص: 27

وبتعبیر آخر: إما أن یُفرض فی هذه الحالة إمکان صدق الظهورین المتعارضین مطلقا، وإما أن یُفرض عدم إمکان صدقهما مطلقاً، وإما أن یفرض إمکان صدقهما علی تقدیر کذب الظهور الثالث وعدم إمکان صدقهما علی تقدیر صدق الظهور الثالث:

فأما الفرض الأول فهو خلف فرض التعارض بین الظهورین؛ إذ کیف یمکن صدقهما معاً وهما متعارضان؟ فالتعارض بینهما معناه عدم إمکان صدقهما کما هو واضح.

وأما الفرض الثانی فهو خلف فرض کون رفع الید عن الظهور الثالث موجباً لارتفاع التعارض بینهما، فإن هذا معناه إمکان صدقهما لولا الظهور الثالث، أی إمکان صدقهما علی تقدیر کذب الثالث.

إذن، فیتعین الفرض الثالث، وهو ینتج وقوع التعارض بینهما وبینه، أی: یدلاّن بمجموعهما علی کذبه، ویدل هو علی کذب أحدهما علی الأقل، وبالتالی یکون کل اثنین من هذه الثلاثة یکذب الثالث لا محالة.

وعلیه فلا معنی للقول بأن ظهور الأمر فی الوجوب - فی المثال الذی ذکره ره - خارج عن دائرة التعارض، فإن هذا الظهور الذی هو الدلیل الثالث طرف للمعارضة قطعاً؛ لأنه یتنافی صدقه مع صدق مجموع الظهورین الأولین وهما ظهور العام فی العموم مع ظهور الخاص، وذلک بالبرهان المتقدم آنفاً، فإن صدق مجموع (الأمر بإکرام جمیع العلماء وعدم وجوب إکرام زید العالم) یتنافی مع صدق کون الأمر للوجوب کما هو واضح.

وأما ما نراه - فی هذا المثال ونظائره - من أنهم یتصرفون فی ظهور العام فی العموم ولا یتصرفون فی ظهور الأمر فی الوجوب، فلیس ذلک ناشئاً مما تصوره رحمه الله وافترضه من عدم کون ظهور الأمر فی الوجوب طرفاً للمعارضة، بل لنکتة أخری راجعة إلی تشخیص القرینیة بین طرفی التعارض أو أطرافه، إذ یجب أن یلاحَظ عند التعارض ما اهو مرکز القرینیة، فإن الظهورات المتعارضة إن کانت متساویة - بحیث لم یکن أحدها قرینة عرفاً - فتتساقط، إلا إذا کان أحدها أقوی، فیتقدم بناءاً علی تقدیم الأقوی، وأما إذا لم تکن متساویة، بل کان أحدها قرینة عرفاً، فیتقدم علی ما هو قرینة علیه، وفی المثال المذکور رأوا أن الخاص قرینة عرفاً علی العام، ولیس قرینة علی ظهور الأمر فی الوجوب، فقوله: «لا یجب إکرام زید العالم» قرینة عرفاً علی أن المراد بالعلماء فی قوله: «أکرم العلماء» لیس عبارة عن جمیعهم، ولیس قرینة عرفاً علی أن المراد بالأمر لیس هو الوجوب، والشاهد علی ذلک أنه لو فرض الکلامان متصلین، بأن قال فی جملة واحدة: «أکرم العلماء ولا یجب إکرام زید العالم» فسوف لا یفهم العرف أن الأمر لیس للوجوب، بل یفهم أن ذیل الجملة تخصیص للعام المذکور فی صدرها، فإذا کانت القرینة العرفیة فی فرض الاتصال عبارة عن قرینیة ذیل الجملة - أی: الخاص - علی العام لا علی ظهور الأمر فی الوجوب فکذلک فی فرض الانفصال تکون القرینیة العرفیة عبارة عن قرینیة الخاص علی العام لا علی ظهور الأمر فی الوجوب.

ص: 28

إذن، فالمثال الذی ذکره ره لیس مصداقاً للقانون العام المذکور القائل بأنه متی ما وجد ظهوران متعارضان وأمکن حل التعارض بینهما برفع الید عن ظهور ثالث، لا موجب لرفع الید عنه؛ فإن القانون المذکور شرطه - کما تقدم - هو أن یکون التعارض ثنائیاً حقاً ویکون الظهور الثالث خارجاً عن دائرة التعارض، بینما التعارض فی المثال الذی ذکره ره ثلاثی بالبرهان المتقدم، ومعه فلا ینطبق القانون علیه.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

اتضح مما سبق أن المثال الذی السید الأستاذ الخوئی ره لیس مصداقاً حقیقیاً للقانون العام الذی ذکره، والذی نحن أیضاً نقبل به کبرویاً، وهو القانون القائل بأنه متی ما وجد ظهوران متعارضان ووجد إلی جنبهما ظهور ثالث، وکان هذا الظهور الثالث بنحو لو رفعت الید عنه انحل التعارض بین الظهورین الأولین، هنا القانون یقول: لا موجب لرفع الید عن هذا الظهور الثالث، بل یؤخذ به، وبالتالی یبقی التعارض بین الظهورین الأولین.

شرط القاعدة: وإنما لهذا القانون المذکور شرط - کما تقدم - وهو أن یکون التعارض ثنائیاً حقاً ویکون الظهور الثالث خارجاً عن دائرة التعارض، بینما التعارض فی المثال الذی ذکره ره ثلاثی بالبرهان المتقدم، ومعه فلا ینطبق القانون علیه.

وإنما المصداق الخارجی لهذا القانون هو ما إذا کانت الدلالة الالتزامیة لمجموع الظهورین المتعارضین علی کذب الظهور الثالث غیر حجة، فإنه حینئذ لا یکون التعارض ثلاثیاً، بل یخرج الظهور الثالث عن دائرة التعارض، رغم أنه لو رفع الید عنه انحل التعارض الثنائی، ورغم العلم الإجمالی بکذبه أو کذب مجموع الظهورین، ورغم الدلالة الالتزامیة لمجموع الظهورین علی کذبه، ورغم الدلالة الالتزامیة له علی کذب مجموع الظهورین.

ص: 29

ومثاله ما إذا قال: «یجب إکرام کل عالم» وقال: «لا تکرم زیداً»، وقال: «زید عالم». فإن الثالث یحقق التعارض بین الأولین ولولاه لما کانا متعارضین، فبالإمکان حل التعارض برفع الید عنه، فیوجد علم إجمالی بکذبه أو کذب مجموع الأولین، وبموجب هذا العلم الإجمالی تتولد دلالة التزامیة لمجموع الأولین علی کذبه کما أن له دلالة التزامیة علی کذب مجموعهما؛ فإن اللازم العقلی لوجوب إکرام کل عالم وحرمة إکرام زید هو أن زیداً لیس عالماً، ولکن لا حجیة لهذا اللازم العقلی؛ لأن معناه هو أن خروج زید عن الدلیل الأول خروج تخصصی لا تخصیصی، بینما قد تقرر فی محله عدم ثبوت التخصص فی مقابل التخصیص عند دوران الأمر بینهما، نظراً إلی عدم حجیة أصالة عدم التخصیص لإثبات التخصص.

وإن شئت قلت: إن الأمر فی الحقیقة دائر هنا بین التخصیص والتخصص، فإما أن زیداً خارج عن وجوب إکرام کل عالم خروجاً تخصیصیاً - وهذا هو مقتضی الدلیل الثالث - وإما أنه خارج عنه تخصصاً - وهذا هو مقتضی اللازم العقلی لمجموع الدلیلین الأولین - والمشهور المقرر فی محله هو أنه عند دوران الأمر بین التخصیص والتخصص لا یمکن إثبات التخصص ونفی التخصیص، وذلک لأن الأصل وإن کان هو العموم وعدم التخصیص، إلا أن أصالة العموم وعدم التخصیص هذه مرجعها إلی أصالة الحقیقة - أی: أن الأصل هو أن یکون المراد من العام معناه الحقیقی وهو العموم - وأصالة الحقیقة إنما تجری وتکون حجة عند العرف والعقلاء فیما إذا کان الشک فی المراد، لا ما إذا کان الشک فی الاستناد. یعنی أن المعنی الحقیقی للفظ إذا کان معلوماً لدینا ولکن شککنا فی أن المتکلم هل أراد باللفظ هذا المعنی الحقیقی أم أراد غیره؟ فهنا تجری أصالة الحقیقة لتثبت أن مراده منه هو المعنی الحقیقی، أما إذا لم یکن المعنی الحقیقی معلوماً لدینا، ولکن علمنا بأن المتکلم أراد باللفظ المعنی الفلانی، وشککنا فی أنه هل أراده استناداً إلی الوضع والحقیقة أم أراده استناداً إلی القرینة والمجاز؟ وشرحه یأتی فی یوم غد إن شاء الله تعالی.

ص: 30

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

قلنا إن المصداق الصحیح لهذا القانون الذی ذکره السید الأستاذ الخوئی ره والذی هو صحیح کبرویاً، لیس ما ذکره ره، بل ما إذا کان یوجد ظهوران متعارضان، ویوجد ظهور ثالث لو رفعنا الید عنه وأسقطناه ینحل التعارض الموجود بین الظهورین الأولین، رغم أن هذا الظهور الثالث یکذب مجموعَ الظهورین الأولین، ورغم أن الظهورین الأولین یکذب هذا الظهور الثالث. أی: لدینا علم إجمالی بکذب إما مجموع الظهورین الأولین وإما الظهور الثالث. ولکن لم یکن ظهورهما فی کذب الظهور الثالث حجةً. هناک ینطبق هذا القانون الذی ذکره ره.

ومثاله ما إذا قال: «یجب إکرام کل عالم» وقال: «لا تکرم زیداً»، وقال: «زید عالم». فإن الثالث یحقق التعارض بین الأولین ولولاه لما کانا متعارضین، فبالإمکان حل التعارض برفع الید عنه، فیوجد علم إجمالی بکذبه أو کذب مجموع الأولین، وبموجب هذا العلم الإجمالی تتولد دلالة التزامیة لمجموع الأولین علی کذبه کما أن له دلالة التزامیة علی کذب مجموعهما؛ فإن اللازم العقلی لوجوب إکرام کل عالم وحرمة إکرام زید هو أن زیداً لیس عالماً، ولکن لا حجیة لهذا اللازم العقلی؛ لأن معناه هو أن خروج زید عن الدلیل الأول خروج تخصصی لا تخصیصی، بینما قد تقرر فی محله عدم ثبوت التخصص فی مقابل التخصیص عند دوران الأمر بینهما، نظراً إلی عدم حجیة أصالة عدم التخصیص لإثبات التخصص.

فهنا لا تجری أصالة الحقیقة لتثبت أن هذا المعنی الذی أراده هو المعنی الحقیقی، وعلیه ففی المثال المذکور لو کنا نعلم بأن زیداً عالم وأن المعنی الحقیقی للعام هو العموم والشمول لزید، ولکن کنا نشک فی أن المتکلم هل أراد بالعام هذا العموم والشمول لزید أم أنه استثنی زیداً وأخرجه علی العام بالتخصیص؟ فهنا کانت تجری أصالة العموم وعدم التخصیص لتثبت أن مراده من العام هو الشمول لزید، لکننا فی المثال المذکور لا نعلم بأن زیداً هل هو عالم أم لا؟ وبالتالی فلا نعلم أن المعنی الحقیقی للعام هل هو الشمول لزید أم لا؟ ولکن نعلم بأن مراد المتکلم من العام لیس هو الشمول لزید؛ لأن الدلیل الثانی قد دل علی حرمة إکرام زید، فالمراد معلوم وهو عدم شمول العام لزید و إنما نشک فی الاستناد حیث لا ندری أن حرمة إکرامه وعدم شمول العام له هو لأجل أنه لیس عالماً أصلاً، وهذا یعنی أن المتکلم أراد عدم الشمول له استناداً إلی الوضع والحقیقة أم لأجل خروجه بالتخصیص، وهذا یعنی أنه أراد ذلک استناداً إلی القرینة والمجاز؟

ص: 31

وعلیه فلا تجری حینئذ أصالة العموم وعدم التخصیص فی مجموع الدلیلین الأولین لتثبت اللازم العقلی وهو أن زیداً لیس عالماً، فإذا لم یکن اللازم العقلی لمجموع الدلیلین الأولین حجة، فسوف لا یکون التعارض ثلاثیاً، بل یخرج الدلیل الثالث عن دائرة التعارض ویکون التعارض ثنائیاً حقاً، وحینئذ ینطبق علیه القانون العام المذکور القائل بأنه لا موجب لرفع الید عن الدلیل الثالث بالرغم من أنه لو رفعت الید انحل التعارض الثنائی الموجود بین الدلیلین الأولین، وذلک لأنه لیس طرفاً للتعارض حقاً، فإن هذا الدلیل الثالث علی الرغم من أنه هو الذی حقق التعارض بین الدلیلین الأولین وأوقع المعارضة بینهما بنحو العموم والخصوص المطلق نظراً إلی أن الأول یوجب إکرام کل عالم, والثانی یحرم إکرام زید، فإذا صدقنا بالدلیل الثالث القائل بأن زیداً عالم أصبح الأولان متعارضین بنحو العام والخاص، ولولا هذا الدلیل الثالث والتصدیق به لما تعارض الأولان؛ لأن الأول یوجب إکرام کل عالم، والثانی یحرم إکرام زید، وهذان المطلبان لا تنافی بینهما أبداً، فالتصدیق بالدلیل الثالث هو الموجب لتعارض الأولین، بحیث لو رفعنا الید عنه ارتفع تعارضهما، إلا أنه بالرغم من ذلک کله لیس الدلیل الثالث طرفاً للتعارض، بمعنی أنه وإن کان یُثبت أن زیداً عالم وبالتالی فهو یدل التزاماً علی کذب مجموع الدلیلین الأولین، إلا أن مجموع الدلیلین الأولین لیس حجة فی نفی کون زید عالماً؛ لأن حجته متوقفة علی حجیة أصالة العموم وعدم التخصیص لإثبات التخصص عند دوران الأمر بینهما، وقد عرفت أن هذا خلاف ما علیه المشهور والمقرر فی محله.

إذن، فالدلیلان الأولان لا یقدران علی نفی الدلیل الثالث، وهذا هو معنی خروج الدلیل الثالث عن دائرة التعارض وعدم کونه طرفاً للمعارضة، فالتعارض ثنائی رغم أنه لو رفعت الید عن الدلیل الثالث انحل التعارض، فهذا هو مورد القانون العام ومصداقه الحقیقی الخارجی، فإنه حینئذ لا موجب لرفع الید عن الدلیل الثالث، بل یُؤخذ به، وبالتالی یقع التعارض بین الأولین بنحو العام والخاص، ویُرجع فیهما حینئذ إلی قواعد باب التعارض التی تقتضی الجمع العرفی هنا وحمل العام علی الخاص.

ص: 32

هذا تمام الکلام فی الأمر الأول الذی أورده سیدنا الأستاذ الشهید ره علی کلام السید الأستاذ الخوئی ره.

الثانی: إننا حتی لو قطعنا النظر عما ذکرناه فی الأمر الأول حول الضابط الکلی والقانون العام الذی أفاده ره، وافترضنا صحة المعنی الذی تصوره ره لهذا القانون فإنه مع ذلک لا یتم کلامه؛ لأن تطبیق القانون المذکور علی الجملتین الشرطیتین فی المقام غیر صحیح، فلا یوجد عندنا فی المقام ظهوران متعارضان وظهور ثالث أجنبی عنهما لو رفعت الید عنه ارتفع التعارض، وذلک لأن کل واحد من منطوقی الجملتین معارض لمفهوم الجملة الأخری، فهناک تعارضان:

أحدهما: تعارض منطوق قوله: «إن خفی الأذان فقصّر»، مع مفهوم قوله: «إن خفی الجدار فقصّر»؛ فإن عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الجدار وإن خفی الأذان یتنافی مع وجوب عند خفاء الأذان، وکأن السید الأستاذ الخوئی ره افترض أن الظهور الثالث الخارج عن دائرة هذا التعارض بالرغم من أن رفع الید عنه یوجب ارتفاع التعارض عبارة عن منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر»؛ فإن وجوب القصر عنه خفاء الجدار لا یتنافی لا مع وجوبه عند خفاء الأذان ولا مع عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدار بالرغم من أنه لو رفعت الید عنه وحمل علی أنه جزء العلة لوجوب القصر یرتفع التعارض بین المتعارضین المذکورین.

ویأتی التعارض الثانی فی یوم السبت إن شاء الله تعالی. .

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

کان الکلام فی الأمور التی أوردها سیدنا الأستاذ الشهید علی کلام السید الأستاذ الخوئی ره، فوصلنا إلی الإیراد الثانی. وقسمنا الإیراد الثانی إلی تعارضین، ذکرنا التعارض الأول بالأمس، وبقی التعارض الثانی نذکره فی العنوان التالی:

ص: 33

ثانیهما: تعارض منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» مع مفهوم قوله: «إن خفی الأذان فقصّر»، فإن عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان وإن خفی الجدار یتنافی مع وجوبه عند خفاء الجدار، وکأنه ره افترض أن الظهور الثالث الخارج عن دائرة هذا التعارض رغم أن رفع الید عنه یرفع التعارض عبارة عن منطوق قوله: «إن خفی الأذان فقصّر»، فإن وجوب القصر عند خفاء الأذان لا یتنافی لا مع وجوبه عند خفاء الجدار ولا مع عدم وجوبه عند عدم خفاء الأذان، بالرغم من أنه لو رفع الید عنه وحمل علی أنه جزء العلة لوجوب القصر یرتفع التعارض بین المتعارضین المذکورین. هذا ما یفترضه السید الأستاذ الخوئی ره.

وحینئذ نقول فی مقام التعلیق علیه: إن تطبیق القانون العام المذکور علی هاتین الجملتین الشرطیتین فی المقام غیر صحیح، وذلک:

أولاً: لعدم وجود ظهور ثالث خارج عن دائرة التعارض فیما نحن فیه وذلک لأننا قلنا - عندما کنا نتحدث فی المقطع الثانی من کلام المحقق النائینی ره - إن التعارض بالأصالة وإن کان بین منطوق کل من الجملتین ومفهوم الجملة الأخری، أی: بین الإطلاق الواوی لکل جملة والإطلاق الأوی للجملة الأخری، إلا أن هذا التعارض یسری إلی أحشاء کل من الجملتین بین إطلاقها الواوی والأوی أیضاً، للتلازم بین الشرطین المذکورین فی الجملتین من حیث التمامیة والجزئیة کما تقدم مفصلاً، وعلیه فإذا لاحظنا التعارض الأول من التعارضین المتقدمین آنفاً رأینا أن ما افترضه السید الأستاذ الخوئی ره خارجاً عن دائرة هذا التعارض - وهو منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» - داخل فی هذا التعارض ولیس خارجاً عنه، لسرایة التعارض إلیه من مفهومه المعارض مع منطوق قوله: «إن خفی الأذان فقصّر»؛ لأن مفهومه الدال علی عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الجدار یقتضی کون خفاء الأذان جزء علة، ومن الواضح أن هذا یلازم کون خفاء الجدار أیضاً جزء علة، وإلا لغت شرطیة خفاء الأذان - کما تقدم - وهذا یعنی أن ما یعارض منطوق قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» یعارض منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» أیضاً.

ص: 34

إذن، أصبح ما افترضه ره خارجاً عن التعارض داخلاً فیه. کما أننا إذا لاحظنا التعارض الثانی من التعارضین المتقدمین آنفاً رأینا أن ما افترضه ره خارجاً عن دائرة هذا التعارض - وهو منطوق قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» - داخل فی هذا التعارض ولیس خارجاً عنه، لسرایة التعارض إلیه من مفهومه المعارض مع منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر»؛ لأن مفهومه الدال علی عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان یقتضی کون خفاء الجدار جزء علة، وهذا یلازم کون خفاء الأذان أیضاً جزء علة، وإلا لغت شرطیة خفاء الجدار، وهذا یعنی أن ما یعارض منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» یعارض منطوق قوله «إن خفی الأذان فقصّر» أیضاً. إذن، أصبح ما افترضه ره خارجاً عن التعارض داخلاً فیه.

وثانیاً: لعدم کون رفع الید عن هذا الظهور الثالث موجباً لارتفاع التعارض وذلک لأننا حتی لو قطعنا النظر عما قلناه من سرایة التعارض إلی داخل کل جملة بین منطوقها ومفهومها، أی: بین إطلاقها الواوی وإطلاقها الأوی، وبالتالی افترضنا مع السید الأستاذ الخوئی ره وجود ظهور ثالث فی المقام خارجٍ عن دائرة التعارض وأجنبی عنهما، فإنه مع ذلک لا یتم ما أفاده ره من أننا لو رفعنا الید عن هذا الظهور الثالث ارتفع التعارض، بل رفع الید عنه لا یؤثر فی رفع المعارضة.

توضیحه: أن الظهور الثالث الذی افترضه ره خارجاً عن دائرة التعارض الأول هو منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر»، ونحن حتی لو رفعنا الید عن إطلاق هذا المنطوق وقیّدناه ب_«الواو» وحملناه علی أن خفاء الجدار جزء العلة لوجوب القصر، فسوف لا یؤثر ذلک فی رفع التعارض بین منطوق قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» ومفهوم قوله: «إن خفی الجدار فقصّر»؛ لأن حمله علی أن خفاء الجدار جزء العلة لوجوب القصر لا یستلزم أن یکون خفاء الأذان أیضاً جزء العلة؛ لأن المفروض أننا قطعنا النظر عن التلازم بین الشرطین من حیث التمامیة والجزئیة - وإلا لثبتت السرایة ورجعنا إلی الجواب الأول - وعلیه فسوف یبقی التعارض المذکور؛ لأن قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» یدل علی أن خفاء الأذان علة تامة لوجوب القصر، ومفهوم قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» یدل علی عدم تحقق علة وجوب القصر عند عدم خفاء الجدار، فیتعارضان رغم أننا قد رفعنا الید عن إطلاق هذا المنطوق الذی افترضه السید الأستاذ الخوئی ره خارجاً عن دائرة التعارض، فحتی لو فرض أنه لا إطلاق فیه لکان التعارض المذکور باقیاً کما هو واضح.

ص: 35

هذا بالنسبة إلی التعارض الأول، وکذلک الأمر بالنسبة إلی التعارض الثانی؛ فإن الظهور الثالث الذی افترضه السید الأستاذ الخوئی ره خارجاً عن دائرة هذا التعارض هو منطوق قوله: «إن خفی الأذان فقصّر»، ونحن حتی لو رفعنا الید عن إطلاق هذا المنطوق وقیدناه ب_«الواو» وحملناه علی أن خفاء الأذان جزء العلة لوجوب القصر، فسوف لا یؤثر ذلک فی رفع التعارض بین منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر»، ومفهوم قوله: «إن خفی الأذان فقصّر»؛ لأن حمله علی أن خفاء الأذان جزء العلة لوجوب القصر لا یستلزم أن یکون خفاء الجدار أیضاً جزء العلة، إذ المفروض عدم التلازم. وعلیه فسوف یبقی التعارض المذکور؛ لأن قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» یدل علی أن خفاء الجدار علة تامة لوجوب القصر، ومفهوم قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» یدل علی عدم تحقق علة وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان، فیتعارضان رغم رفع الید عن إطلاق المنطوق الذی افترضه ره خارجاً عن التعارض، فحتی لو لم یکن فیه إطلاق لکان التعارض المذکور باقیاً.

هذا تمام الکلام فی الأمر الثانی الذی أورده سیدنا الأستاذ الشهید رضوان الله علیه علی کلام السید الأستاذ الخوئی ره.

الثالث: أن ما أفاده ره من تقدم منطوق کل من الجملتین علی مفهوم الجملة الأخری بنکتة الأخصیة بیان مستقل فی حد نفسه بلا حاجة إلی ذاک القانون العام والضابط الکلی الذی ذکره.

ولکن هذا البیان المستقل أیضاً غیر صحیح فی المقام حتی لو غضضنا النظر عن کل ما تقدم؛ لأن النسبة بین منطوق کل منهما ومفهوم الأخری لیست عبارة عما قاله ره من نسبة الخاص إلی العام، فلیست النسبة هی العموم والخصوص المطلق، بل النسبة هی العموم والخصوص من وجه، وهذا ما نشرحه إن شاء الله غداً.

ص: 36

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

الإشکال الثالث الذی أورده سیدنا الأستاذ الشهید علی کلام السید الأستاذ الخوئی ره هو أن ما أفاده الأخیر (من أن منطوق کل من الجملتین یقدم علی مفهوم الجملة الأخری، ووجه التقدیم عبارة عن الأخصیة. أی: منطوق هذه الجملة أخص من مفهوم تلک الجملة، وبالعکس: مفهوم هذه الجملة أخص من منطوق تلک الجملة) بیان مستقل فی حد نفسه، ولم یکن بحاجة إلی أن یضم إلیه الخوئی ذاک القانون العام. ثانیاً إن هذا الکلام فی نفسه غیر صحیح؛ وذلک لأن ما قاله الخوئی ره لو تمَّ إنما یتم لو کانت العلیة التامة للشرط بالنسبة إلی الجزاء فی الجملة الشرطیة مستفادة من الوضع، لا من الإطلاق ومقدمات الحکمة، فإنه بناء علی ذلک یکون منطوق کل من الشرطیتین دالاً علی أن الشرط المذکور فیها علة تامة للجزاء، وحینئذ فیکون هذا المنطوق أخص من مفهوم الجملة الأخری، فمنطوق قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» یدل علی أن خفاء الأذان وحده علة تامة لوجوب القصر بینما مفهوم قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» یدل علی أنه إن لم یخفَ الجدار فلا یجب القصر، سواء خفی الأذان أم لا، وکذلک العکس، فإن منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» یدل علی أن خفاء الجدار وحده علة تامة لوجوب القصر، بینما مفهوم قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» یدل علی أنه إن لم یخف الأذان فلا یجب القصر، سواء خفی الجدار أم لا.

الجواب عن الإشکال: إلا أن هذا التصور غریب جداً؛ فإن الصحیح وفاقاً للسید الأستاذ الخوئی نفسه والمحقق النائینی ره والمشهور بین المحققین هو أن الجملة الشرطیة لا تدل بالوضع علی أن الشرط علة تامة للجزاء، وإنما تدل کل جملة شرطیة بالوضع علی أصل ترتب الجزاء علی الشرط، وهذا لا ینافی مفهوم الجملة الشرطیة الأخری، وأما العلیة التامة فهی مستفادة من إطلاق الترتب فی الجملة الشرطیة، هذا الإطلاق الذی یسمیه المحقق النائینی ره بالإطلاق الواوی المقابل للتقیید ب_«الواو».

ص: 37

وعلیه فإذا کان المنطوق دالاً بالإطلاق الواوی علی العلیة التامة للشرط بالنسبة إلی الجزاء فلابد من ملاحظة النسبة حینئذ بین هذا الإطلاق وبین الإطلاق الموجود فی المفهوم. ولدی ملاحظة النسبة بینهما نری أنها لیست هی العموم والخصوص المطلق، بل العموم والخصوص من وجه؛ لتعارض هذین الإطلاقین فی مورد، وافتراق کل منهما بمورد لا یعارضه فیه الآخر:

فمورد اجتماعهما وتعارضهما هو ما إذا تحقق أحد الشرطین دون الآخر؛ فإن تحقق مثلاً خفاء الأذان وحده، فمقتضی الإطلاق الواوی فی منطوق قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» هو وجوب القصر، بینما مقتضی الإطلاق الموجود فی مفهوم قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» هو عدم الوجوب، فیتعارضان. وإن تحقق خفاء الجدار وحده فأیضاً یتعارض الإطلاق الواوی فی منطوق قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» الدال علی وجوب القصر مع الإطلاق الموجود فی مفهوم قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» الدال علی عدم الوجوب.

ومورد افتراق الإطلاق الواوی فی المنطوق هو ما إذا تحقق الشرطان معاً وخفی الأذان والجدار، فإن منطوق کل منهما یدل علی وجوب القصر، ومفهوم الآخر لا ینفی وجوب القصر فلا یعارض المنطوق.

ومورد افتراق الإطلاق الموجود فی المفهوم هو ما إذا لم یتحقق شیء من الشرطین أصلاً، فلم یخفَ الأذان ولا الجدار؛ فإن مفهوم کل منهما یدل علی عدم وجوب القصر ومنطوق الآخر لا یُثبت وجوب القصر، فلا یعارض المفهوم کما هو واضح.

إذن، فإذا کانت النسبة بین منطوق کل من الجملتین ومفهوم الأخری هی العموم والخصوص من وجه، فلا وجه لتقدیم المنطوق علی المفهوم فی مورد التعارض - وهو خفاء أحدهما دون الآخر - لعدم المرجّح، إذ کما أن المنطوق أخص من المفهوم من وجه، کذلک المفهوم أخص من المنطوق من وجه - کما عرفت - فمقتضی الفن والصناعة هو ما أفاده المحقق النائینی ره من التساقط وعدم الاکتفاء بخفاء أحدهما خلافاً لما أفاده السید الأستاذ الخوئی ره.

ص: 38

هذا تمام الکلام فی الأمر الثالث الذی أورده سیدنا الأستاذ الشهید رضوان الله علیه علی کلام السید الأستاذ الخوئی ره، فاعتراضه ره علی کلام أستاذه ره غیر وارد.

إذن، فقد اتضح إلی الآن أن ما أفاده المحقق النائینی ره من تکافؤ الإطلاقین المتعارضین فی المقام - أعنی الإطلاق الواوی والإطلاق الأوی - وتساویهما وعدم وجود مرجح لأحدهما علی الآخر، فلا بد من الالتزام بتساقطهما، کلام صحیح وفنی.

بقیت فی المقام نقطة تجب الإشارة إلیها وهی أن مورد کلامنا إنما هو عبارة عما إذا کان الحکم المرتب علی الشرطین فی الجملتین الشرطیتین حکماً واحداً، کما هو کذلک فی مسألة وجوب القصر، حیث أن الحکم واحد واقعاً؛ فإن وجوب القصر المعلَّق علی خفاء الأذان هو بعینه الوجوب المعلَّق علی خفاء الجدار، ففی مثله تکون النتیجة هی أنه بناءًا علی مبنی المحقق النائینی ره فی إثبات مفهوم الشرط یتعارض الإطلاق الواوی والإطلاق الأوی ویتساقطان کما تقدم.

وأما إذا احتملنا تعدّد الحکم بتعدد الشرط، بأن احتملنا أن یکون وجوب القصر المعلق علی خفاء الأذان غیر الوجوب المعلق علی خفاء الجدار، بحیث أنه إذا حصل الشرطان علی خفاء الأذان غیر الوجوب المعلق علی خفاء الجدار، بحیث أنه إذا حصل الشرطان یثبت وجوبان للقصر، ففی مثل ذلک سوف تکون لدینا إطلاقات ثلاثة متعارضة: الإطلاق الواوی، والإطلاق الأوی، والإطلاق فی المعلق. وإنما یکون التعارض ثلاثی الأطراف حینئذ بنکتة أن رفعه فی هذا الفرض - وهو فرض احتمال تعدد الحکم - لا یتوقف علی رفع الید عن أحد الإطلاقین الأولین - أی الواوی والأوی - بل إذا رفعنا الید عن الإطلاق الثالث وهو إطلاق المعلَّق یرتفع التعارض أیضاً، وهذا ما یأتی شرحه غداً إن شاء الله تعالی.

ص: 39

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

قلنا إنه بقی فی المقام نقطة واحدة، وهی أن مورد کلامنا عبارة عما إذا کان الحکم المرتب علی الشرطین المذکورین فی الجملتین الشرطیتین حکماً واحداً کما هو کذلک فی مسألة وجوب القصر، وقد علق هذا الحکم الواحد علی شرط فی جملة «إن خفی الأذان فقصر» وهذا الحکم الواحد نفسه علّق علی شرط آخر فی جملة «إن خفی الجدار فقصر». أما إذا لم نحرز وحدة الحکم، واحتملنا تعدد الحکم فالمسألة نوعاً یختلف شکلها حینئذ عما مضی؛ فإن التعارض - فیما مضی - کان ثنائیاً، لکن الآن فسوف یصبح التعارض ثلاثیاً: الإطلاق الواوی والإطلاق الأوی وإطلاق المعلق.

مقتضی الإطلاق: وإن مقتضی الإطلاق فی المعلَّق هو أن الجزاء المعلق علی الشرط فی کل من الجملتین هو طبیعی الحکم، فلو رفعنا الید عن هذا الإطلاق فی کل من الجملتین وبنینا علی أن المعلق علی خفاء الأذان إنما هو شخص من الحکم، وأن المعلق علی خفاء الجدار شخص آخر من الحکم، ففی مثل ذلک یرتفع التعارض حتی مع حفظ الإطلاقین الأولین؛ لأن مقتضاهما معاً هو کون کل من خفاء الأذان وخفاء الجدار علة تامة منحصرة، وهذا لا محذور فیه ما دام المعلول لأحدهما غیر المعلول للآخر، فخفاء الأذان علة تامة منحصرة لشخصٍ من الحکم، وخفاء الجدار علة تامة منحصرة لشخص آخر من الحکم، فالإطلاق الثالث وهو إطلاق المعلق داخل فی المعارضة، ولذا کان رفع الید عنه موجباً لرفع المعارضة، وبهذا تکون الإطلاقات المتعارضة ثلاثة، وحیث أنه لا مرجح لأحدها، فالنتیجة نفس النتیجة، وهی عبارة عن تعارض ظهورات إطلاقیة مستندة إلی مقدمات الحکمة، فتتساقط جمیعاً، وبالتالی فلا تعدد الحکم یثبت؛ لأنه خلاف إطلاق المعلَّق الذی یثبت کون المعلق فی کلتا الجملتین واحداً وهو طبیعی الحکم الذی هو سنخ واحد غیر متعدد، ولا وحدة الحکم مع کون کل من الشرطین علة تامة له، لأنه خلاف الإطلاق الأوی الذی یثبت الانحصار وعدم تعدد العلة، ولا وحدة الحکم مع کون مجموع الشرطین علة تامة منحصرة له؛ لأنه خلاف الإطلاق الواوی الذی یثبت کون کل من الشرطین علة تامة له، وحینئذ بعد تساقط هذه الإطلاقات الثلاثة، یثبت علی الأقل وجوب واحد للقصر فی فرض اجتماع الشرطین وخفاء الأذان والجدار معاً؛ لأنه القدر المتیقن، وأما فی غیر هذا الفرض - کفرض خفاء أحدهما دون الآخر، وکفرض عدم خفاء شیء منهما - فلا یثبت بهذین الدلیلین شیء أصلاً ولا یمکن نفی الثالث أیضاً بهما فالمرجع الأصول اللفظیة والإطلاقات الفوقانیة إن کانت، وإلا فالأصول العملیة وهی تختلف باختلاف الموارد.

ص: 40

هذا تمام الکلام فی معالجة التعارض فی المقام بناءًا علی المبنی الأول من المبانی العدیدة لإثبات مفهوم الشرط، وهو مبنی المحقق النائینی ره فی إثبات مفهوم الشرط.

بعد ذلک ننتقل إلی المبنی الثانی، وهو المبنی المختار والصحیح فی إثبات مفهوم الشرط، وهذا ما سوف نقوم به بعد عودتنا من الحج إن شاء الله إلی ما بعد العاشر، أی: یوم الاثنین الرابع عشر من محرم الحرام سنة ألف وأربعمائة واثنین وثلاثین.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

کان الکلام فی التنبیه الثامن من تنبیهات المفهوم الشرط، حیث طرحنا فی هذا التنبیه المسألة أنه إذا وردت لدینا قضیتان شرطیتان فی دلیلین مستقلین وکان شرطهما مختلفاً ومتعدداً والجزاء واحداً، ومثلنا لذلک بهذا المثال المعروف، بأنه لو ورد فی دلیل: «إن خفی الأذان فقصّر» وورد فی دلیل آخر: «إن خفی الجدار فقصّر»، وحینئذ ماذا یکون الموقف؟ هل نستظهر من هاتین القضیتین الشرطیتین أن خفاء الأذان وخفاء الجدار بمجموعهما موضوع لوجوب القصر؟ بحیث إذا خفی أحدهما فقط ولم یختف الآخر لا یجب القصر؟ أم أننا نستظهر منهما أن کلاً من خفاء الأذان وخفاء الجدار موضوع برأسه لوجوب القصر.

قلنا: لا شک فی أنه إذا لم یثبت لدینا مفهوم الشرط فلا مفهوم لهاتین القضیتین الشرطیتین ولا ظهور لهما فی المفهوم، فنبقی نحن ومنطوقیهما، ومنطوق کل منهما لا یعارض منطوق الأخری.

أما إذا قلنا بأن لهما مفهوم، فیحصل التعارض بین إطلاق المنطوق فی کل من القضیتین مع إطلاق المفهوم فی الأخری. وکذلک العکس، أی یکون التعارض بینهما علی شکل حرف أکس الإنجلیزیة «X». وإذا أخذنا بإطلاقی المفهومین وأسقطنا إطلاقی المنطوقین، فتکون النتیجة أن خفاء الأذان وخفاء الجدار بمجموعهما معاً یشکلان وجوب القصر؛ لأن المفهومین ینفیان وجوب القصر عند انتفاء خفاء الأذان أو خفاء الجدار.

ص: 41

ونحن قد ذکرنا سابقاً سبعة تقریبات لإثبات مفهوم الشرط، فیختلف الجواب باختلاف تلک المبانی، ولکننا لا نرید استعراض کل تلک المبانی، وإنما نقتصر علی ذکر أربعة مبانی من تلک المبانی. وقد درسنا - قبل عطلة الحج - المبنی الأول الذی هو للمحقق النائینی ره، وانتهینا إلی نتیجة أنه علی مبناه فی مفهوم الشرط یتساقط الطرفان، ولا یثبت من خلال هاتین القضیتین الشرطیتین أن خفاء الأذان وخفاء الجدار کل منهما موضوع مستقل لوجوب القصر، ولا یثبت أنهما بمجموعهما موضوع لوجوب القصر، ویتساقطان، فلابد من الرجوع إلی العام الفوقانی وإذا لا یوجد عام فوقانی نرجع إلی الأصول العملیة.

المبنی الثانی: هو المبنی المختار - الذی تقدم تفصیله سابقاً بعد التقریبات السبعة - لإثبات مفهوم الشرط وکان حاصله أن الجملة الشرطیة تدل بالوضع علی ربط الجزاء بالشرط ربطاً توقفیاً التصاقیاً مساوقاً لعدم الانفکاک عرفاً، إلا أن هذه الدلالة الوضعیة وحدها لا تکفی لاقتناص المفهوم من الجملة الشرطیة، بل لا بد فی مقام اقتناص المفهوم منها من دلالتین أخریتین:

إحداهما: دلالة الإطلاق فی المتوقِف والملتصِق - بالکسر - علی طبیعی الحکم وسنخه لا شخصه.

وثانیتهما: دلالة الإطلاق الأحوالی فی التوقف والالتصاق علی ثبوت هذا التوقف والالتصاق فی جمیع الحالات وعدم اختصا النسبة التوقفیة الالتصاقیة الثابتة بین الشرط وطبیعی الحکم فی الجزاء بحالة دون أخری، وما لم تتوفر فی الجملة الشرطیة الظهورات الثلاثة - التی ثبت الأول منها بالوضع، والآخران بالإطلاق ومقدمات الحکمة - ولم تجتمع فیها هذه الدلالات الثلاث لا یمکن اقتناص المفهوم منها.

وبناءًا علی هذا المبنی سوف نصل فی المقام إلی نفس النتیجة التی وصل إلیها المحقق النائینی ره وهی عبارة عن تساقط الإطلاقین المذکورین آنفاً عند عدم وجود مرجح لأحدهما والرجوع بعد ذلک إلی المراجع والأصول الأخری اللفظیة أو العملیة، ولکن دون انثلام الدلالة الوضعیة الثابتة للجملة الشرطیة علی أصل ربط الجزاء والتصاقه بالشرط وتوقفه علیه، وقد شرحنا هذا المطلب عند ما کنا نبحث عن التوفیق بین الوجدان الأول والوجدان الرابع من الوجدانات الخمسة المتقدمة فی بیان الرأی المختار فی مفهوم الشرط، وطبقناه علی نفس المثال الذی نبحث عنه الآن، وهو ورود دلیل یقول: «إن خفی الأذان فقصّر»، ودلیل آخر یقول: «إن خفی الجدار فقصّر»، حیث قلنا هناک: إن ثبوت عدل آخر للشرط فی قضیة أخری یعنی فی الحقیقة تقیید أحد الإطلاقین المذکورین - أی: إطلاق المتوقِف والملتصِق، وإطلاق التوقف والالتصاق - لکن من دون أن ینثلم أصل توقف الجزاء علی الشرط والتصاقه به، ومن دون أن تنتفی النسبة التوقفیة الالتصاقیة بینهما، بل یبقی الجزاء متوقفاً علی الشرط وملتصقاً به، ومن دون أن تنتفی النسبة التوقفیة الالتصاقیة بینهما، بل یبقی الجزاء متوقفاً علی الشرط وملتصقاً به، غایة الأمر هی إما تقیید المتوقِف والملتصِق - أی الجزاء والحکم - بغیر الحصة المتوقِفة علی العِدل والملتصقة به، فتدل القضیة علی أن سائر حصص الحکم - غیر تلک الحصة - متوقفة علی الشرط وملتصقة به، وإما تقیید التوقف والالتصاق بحالة وجود العدل، فتدل القضیة علی أن کل حصص الحکم متوقفة علی الشرط وملتصقة به فی حالة وجود العِدل، فإذا ورد فی دلیل: «إن خفی الأذان فقصّر» کان له ظهور وضعی فی توقف وجوب القصر علی خفاء الأذان والتصاقه به، وکان له ظهور إطلاقی حَکَمی فی أن المتوقِف علی خفاء الأذان والملتصِق به کل حصص وجوب القصر، وکان له ظهور إطلاقی حَکَمی آخر فی أن توقف کل حصص وجوب القصر علی خفاء الأذان والتصاقه به ثابت فی جمیع الحالات، فإذا ورد فی دلیل آخر: «إن خفی الجدار فقصّر»، فسوف لا یکون هذا موجباً لانثلام الظهور الوضعی للدلیل الأول فی توقف وجوب القصر علی خفاء الأذان والتصاقه به، بل یبقی هذا الظهور علی حاله، کما أن الدلیل الثانی أیضاً له نفس هذه الظهورات الثلاثة الثابتة للدلیل الأول، فیبقی الظهور الوضعی لکل من الدلیلین فی أصل الالتصاق وتوقف الجزاء المذکور فی کل منهما علی الشرط المذکور فی کل منهما علی حاله، غایة الأمر هی أن کلاً من الدلیلین یحاول أن یقیّد أحد الظهورین الإطلاقییّن الموجودین فی الدلیل الآخر؛ لأن کل واحد من الدلیلین یدل علی وجود عِدل للشرط المذکور فی الآخر، فالدلیل الأول فی المثال المذکور یدل علی وجود عِدل لخفاء الجدار، والدلیل الثانی یدل علی وجود عِدل لخفاء الأذان.

ص: 42

إذن، فنحن نعلم إجمالاً بأن الجزاء إما هو ملتصق بمجموع الأمرین أو هو ملتصق بکل واحد منهما مستقلاً.

وبعبارة أخری إما أن مجموع الشرط وعدله موضوع لوجوب القصر، وإما أن کلا منهما موضوع مستقل لوجوب القصر، والأول معناه أن إطلاق التوقف والالتصاق فی کل من الدلیلین قد تقیَّد، والثانی معناه أن إطلاق المتوقِف والملتصِق فی کل منهما قد تقیَّد، وذلک لأن خفاء الأذان وخفاء الجدار إذا کانا بمجموعهما موضوعاً واحداً لوجوب القصر، فهذا معناه أن إطلاق الالتصاق والتوقف الأحوالی لکل من الدلیلین قد تقیَّد بحالة وجود العِدل، وتکون النتیجة أن وجوب القصر متوقف علی مجموع الشرط وعدله وملتصق بهذا المجموع، وبانتفاء المجموع ینتفی وجوب القصر وإن تحقق أحدهما.

وأما إذا کان کل من الشرط وعدله موضوعاً مستقلاً لوجوب القصر، فهذا معناه أن إطلاق الملتصِق والمتوقِف - أی الحکم الثابت فی الجزاء - فی کل من الدلیلین قد تقیّد بغیر تلک الحصة من الحکم المتوقِفة علی وجود العِدل والملتصقة به، وتکون النتیجة أن وجوب القصر متوقف علی أحدهما وملتصق به، وبانتفائهما جمیعاً ینتفی وجوب القصر. وبتحقق أحدهما یثبت وجوب القصر.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

کنا نتحدث عن معالجة التعارض بین إطلاق المنطوق فی کل من الدلیلین الواردین، بناء علی مبنانا المختار فی مفهوم الشرط، والذی تقدمت الإشارة إلیه بالأمس. فبناء علی هذا المبنی وهذا الرأی یبقی الظهور الوضعی لکل من الدلیلین علی أصل التوقف محفوظاً، وسوف یفیدنا هذا الظهور فی بعض الموارد، ولا مبرر لانثلامه. ولکن یتظاهر الإطلاقان الآخران: «إطلاق التوقف» و«إطلاق المتوقف» کما شرحنا بالأمس. ویتم التعارض فی فرض خفاء أحدهما دون الآخر. أما فی فرض خفائهما معاً فلا تعارض ولا مشکلة؛ لأن هذا (خفاء کلا الأمرین) هو القدر المتقین من المنطوقین.

ص: 43

والنتیجة التی وصلنا إلیها بناءًا علی الرأی المختار فی مفهوم الشرط هو بقاء الظهور الوضعی لکل من الدلیلین فی المقام علی أصل التوقف والالتصاق محفوظاً، وبهذا الظهور یُنفی وجود عدل آخر، أی: یُنفی الثالث ولکن یتعارض الإطلاقان المذکوران - أی: إطلاق التوقف والالتصاق وإطلاق المتوقِف والملتصِق - فی فرض خفاء أحدهما - أی الأذان أو الجدار - دون الآخر؛ إذ فی فرض خفائهما معاً لا ریب فی وجوب القصر، لأنه القدر المتیقن من المنطوقین، وفی فرض عدم خفاء شیء منهما لا ریب فی عدم وجوب القصر؛ لأنه القدر المتقین من المفهومین، وأما فی فرض خفاء أحدهما دون الآخر فیشک فی وجوب القصر وعدمه؛ إذ علی تقدیر أن یکون إطلاق التوقف والالتصاق قد تقیَّد، لا یجب القصر، وعلی تقدیر أن یکون إطلاق المتوقِف والملتصِق قد تقیَّد یجب القصر، وحیث أننا نعلم إجمالاً من مجموع الدلیلین بأن أحد التقییدین قد حصل قطعاً - کما تقدم - فیقع التعارض لا محالة بین إطلاق التوقف والالتصاق فی کل من الدلیلین وإطلاق الملتصِق والمتوقِف فی الدلیل الآخر، وفیه یسری التعارض أیضاً إلی داخل کل دلیل بین إطلاق التوقف فیه وإطلاق المتوقف فیه وذلک بنفس نکتة السریان التی ذکرناها عند الکلام حول المقطع الثانی من کلام المحقق النائینی ره وهی عبارة عن التلازم بین الإطلاقین، فإطلاق التوقف فی کل دلیل یلازم إطلاق التوقف فی الدلیل الآخر ثبوتاً وسقوطاً وذلک لعدم معقولیة أن یکون أحد التوقفین مطلقاً وثابتاً فی جمیع الحالات ویکون التوقف والالتصاق الآخر مختصاً بحالة خاصة؛ إذ یلزم لغویة التوقف والالتصاق الآخر وعلیه فما یعارض أحدهما یعارض الآخر، فإطلاق المتوقِف فی هذا الدلیل إذا کان معارضاً لإطلاق التوقف فی ذاک الدلیل، إذن فهو معارض أیضاً لإطلاق التوقف فی نفس هذا الدلیل، وذلک لأن ملازم المعارض معارض.

ص: 44

وعلیه فإذا خفی الأذان مثلاً دون الجدار یقع التعارض بین إطلاق التوقف والالتصاق فی قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» وإطلاق المتوقِف والملتصِق فی قوله: «إن خفی الجدار فقصّر»، فمقتضی الأول وجوب القصر؛ لأنه یدل علی أن توقف وجوب القصر علی خفاء الأذان والتصاقه به ثابت فی جمیع الحالات حتی فی حالة عدم خفاء الجدار، بینما مقتضی الثانی عدم وجوب القصر، لأنه یدل علی أن جمیع حصص وجوب القصر متوقِفة علی خفاء الجدار وملتصقة به، فبانتفاء خفاء الجدار ینتفی وجوب القصر نهائیاً، وإذا انعکس الأمر بأن اختفی الجدار دون الأذان یقع التعارض بین إطلاق التوقف والالتصاق فی قوله: «إن خفی الجدار فقصّر» وإطلاق المتوقِف والملتصق فی قوله: «إن خفی الأذان فقصّر»، فمقتضی الأول وجوب القصر، لأنه یدل علی أن توقف وجوب القصر علی خفاء الجدار والتصاقه به ثابت فی جمیع الحالات حتی فی حالة عدم خفاء الأذان، بینما مقتضی الثانی عدم وجوب القصر؛ لأنه یدل علی أن جمیع حصص وجوب القصر متوقفة علی خفاء الأذان وملتصقة به، فبانتفاء خفاء الأذان ینتفی وجوب القصر نهائیاً.

إذن، یقع التعارض بین الإطلاقین بالنحو المذکور ومنه یسری التعارض إلی داخل کل دلیل - کما عرفت - ومع عدم المرجح لأحد الإطلاقین علی الآخر یتساقطان، ونرجع - فی مورد التعارض والتساقط (وهو فرض خفاء أحدهما دون الآخر) - إلی سائر المراجع والأصول اللفظیة - إن کانت - أو العملیة إن لم تکن، وأما مع وجود المرجح لأحد الإطلاقین علی الآخر فیقدَّم ما فیه المرجِّح ویُؤخذ به ویُقیَّد الآخر، کما إذا فهم العرف بحسب ذوقه العرفی ومناسبات الحکم والموضوع المرکوزة فی ذهنه أن کلاً من الشرطین المذکورین فی الدلیلین علة تامة مستقلة للجزاء، وموضوع برأسه للحکم، فإنه حینئذ یقدّم المنطوق علی المفهوم، أی: یقدّم إطلاق التوقف والالتصاق علی إطلاق المتوقِف والملتصِق؛ إذ یری العرف حینئذ بفهمه العرفی أن الإطلاق الثانی غیر مراد وبذلک ینحل العلم الإجمالی بکذب أحد الإطلاقین، من قبیل ما إذا ورد فی دلیل: «الماء إن بلغ قد کرّ لا ینجسه شیء» وورد فی دلیل آخر: «الماء إن کانت له مادّة لا ینجّسه شیء»؛ فإن مقتضی المنطوق وإطلاق التوقف والالتصاق فی کل من الدلیلین هو أن التصاق الجزاء بالشرط وتوقفه علیه ثابت فی جمیع الحالات حتی فی حالة عدم وجود الشرط الآخر، وهذا معناه أن کلاً من الشرطین علة تامة مستقلة للجزاء، وموضوع برأسه للحکم، ولیس مجموع الشرطین علة للجزاء وموضوعاً للحکم، بینما مقتضی المفهوم وإطلاق المتوقِف والملتصِق فی کل من الدلیلین هو أن جمیع حصص الحکم المذکور فی الجزاء ملتصِقة بالشرط ومتوقِفة علیه حتی تلک الحصة الملتصقة بالشرط الآخر والمتوقفة علیه، وهذا معناه أن کلاً من الشرطین جزء العلة للجزاء، ومجموعهما علة تامة له وموضوع للحکم.

ص: 45

ففی مثل هذا المورد یوجد مرجح للمنطوق علی المفهوم، أی: هناک مرجح لإطلاق التوقف والالتصاق علی إطلاق المتوقِف والملتصِق، وهذا المرجح هو الفهم العرفی، حیث أن العرف یفهم بحسب ذوقه العرفی ومناسبات الحکم والموضوع المرکوزة فی ذهنه أن کلاً من کریة الماء وثبوت المادة له علة تامة مستقلة لاعتصامه وعدم تنجسه بملاقاة النجس أو المتنجس؛ فإن العرف یستظهر من الدلیل الأول أن نفس کثرة الماء - فی الماء الکر - هو الموجب للحکم باعتصامه من قبل الشارع وإن لم تکن له مادّة، کما أنه یستظهر أیضاً من الدلیل الثانی أن نفس وجود المادة للماء هو الموجب لحکم الشارع باعتصامه وإن لم یکن کراً، وهذا معناه أن العرف بفهمه العرفی یقدم المنطوق علی المفهوم فی مثل هذا المورد ویری أن کلاً من الأمرین - الکریة وثبوت المادة - علة، أی: یقدّم إطلاق التوقف والالتصاق علی إطلاق المتوقِف والملتصِق.

إذن، فلا ینتهی الأمر بنا فی مثل هذا المورد إلی تساقط الإطلاقین والرجوع إلی سائر المراجع والأصول اللفظیة أو العملیة، وهذا بخلاف المورد والمثال الذی کنا نتحدث عنه فی هذا التنبیه - وهو ورود مثل قوله: «إن خفی الأذان فقصّر»، وقوله: «إن خفی الجدار فقصّر» - فإنه هناک لم یکن یوجد مثل هذا المرجح والفهم العرفی الذی یقدّم إطلاق التوقف والالتصاق علی إطلاق المتوقِف والملتصِق.

وبهذا یتم الکلام فی معالجة التعارض فی المقام بناءًا علی المبنی الثانی من مبانی القول بمفهوم الشرط، وهو المبنی المختار.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

ص: 46

انتهینا إلی المبنی الثالث، فنرید معالجة التعارض الموجود بین إطلاق المنطوق فی کل من الدلیلین وإطلاق المفهوم فی الدلیل الآخر، علی أساس مبنی آخر من المبانی المتقدمة، حیث ذکرناه ضمن التقریب الثانی من تقریبات القوم فی إثبات مفهوم الشرط.

المبنی الثالث: ما تقدم من دعوی انصراف إطلاق الجملة الشرطیة الدالة وضعاً علی اللزوم إلی أکمل أفراد اللزوم وأجلاها وهو اللزوم العِلّی الانحصاری، فإطلاق الشرط منصرف إلی الفرد الأکمل من أفراد العلة وهو عبارة عن العلة التامة المنحصرة، فتدل الجملة حینئذ علی انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط لانتفاء علّته المنحصرة ویثبت المفهوم. وقد مضی منّا سابقاًَ - عند بیان هذا التقریب - وجهان لبیان الانصراف:

أحدهما أن یقال: إن غیر الأکمل محدود بحدّ عدمی وهو عدم الکمال، فحدّه لیس داخلاً فی حقیقته، بخلاف الأکمل فإنه محدود بحد وجودی وهو الکمال، فحدّه داخل فی حقیقته ومن سنخ نفس الطبیعة، نظیر النور الضعیف والنور القوی.

وعلیه فلو کان المراد بالشرط الفرد الأکمل من أفراد العلة - وهو العلة التامة المنحصرة - فحیث أن کماله داخل فی حقیقته فهو بتمامه علة. إذن، فقد انطبق ما فی عالم الإثبات - وهو العلة - علی تمام المراد فی عالم الثبوت.

وأما لو کان المراد به غیر الأکمل - وهو العلة غیر التامة وغیر المنحصرة - فحیث أنه ناقص ونقصه لیس داخلاً فی حقیقته فهو بتمامه لیس علة. إذن، فلم ینطبق ما فی عالم الإثبات علی تمام المراد فی عالم الثبوت؛ إذ لم یُبیَّن فی عالم الإثبات إلا ذات العلة، لا تخصصها بخصوصیة خارجة عن حقیقتها وتحددها بحدّ عدمی، ومن الواضح أن أصالة التطابق بین عالم الإثبات وعالم الثبوت تقتضی الأول، أی: أن إطلاق العلة یقتضی کون المراد خصوص الفرد الأکمل وینصرف إلیه خاصة؛ إذ الحدّ العدمی شیء زائد وبحاجة إلی بیان إضافی ومؤونة زائدة، فلو کان المقصود بالشرط العلة بضمیمة هذا الأمر العدمی لاحتاج إلی بیان زائد.

ص: 47

ثانیهما أن یقال رأساً - بغض النظر عن البیان الفلسفی السابق الذی لا یلتفت إلیه العرف بفهمه العرفی -: إن اللفظ الموضوع للجامع والطبیعی عادة ینصرف عرفاً فی أذهان الناس عند إطلاقه إلی أکمل الأفراد، فأداة الشرط أو الجملة الشرطیة الموضوعة للربط اللزومی تنصرف عرفاً عند إطلاقها إلی أکمل أفراده وهو الربط اللزومی العلی الانحصاری.

فعلی الوجه الأول قد یقال فی المقام بوقوع التعارض بین هذا الإطلاق المنصرف إلی الفرد الأکمل وبین الإطلاق الأحوالی - الإطلاق الواوی - الدال علی أن الشرط علة تامة؛ فإن الإطلاق الأحوالی فی کل من الدلیلین یقتضی أن الشرط وحده کاف فی ثبوت الحکم، بینما إطلاق الشرط فی الدلیل الآخر ینصرف إلی الأکمل ویدل علی أن الشرط الآخر المذکور فی ذاک الدلیل علة تامة منحصرة للحکم وبالتالی یدل علی انتفاء الحکم بانتفائه وإن کان الشرط الأول موجوداً، فیتعارضان ویتساقطان.

لکن الصحیح هو أنه بناءًا علی هذا المبنی یتعین الأخذ بالمنطوقین فی الدلیلین، أی: الإطلاق الأحوالی - الواوی - فی کل منهما، ورفع الید عن المفهومین فیهما، أی: إطلاق الشرط المنصرف إلی الفرد الأکمل فیهما، فإن هذا الإطلاق ساقط فی المقام؛ لأن الانصراف إلی الفرد الأکمل فی کل واحد من الدلیلین معناه الانصراف إلی العلة التامة المنحصرة، بینما نعلم جزماً ویقیناً بالعلم التفصیلی - بعد ورود الدلیلین - ببطلان هذا الانصراف وکذبه وعدم کون الشرط المذکور فی کل منهما علة تامة منحصرة علی کل حال، للعلم إجمالاً بأن الشرط المذکور فی کل واحد منهما إما أنه جزء علة للجزاء ولیس علة تامة له، وإما أنه لیس علة منحصرة وإن کان علة تامة، فأکمل الأفراد - وهو العلة التامة المنحصرة - لیس هو المراد فی کل من الدلیلین قطعاً، فیبقی إطلاق المنطوق فی کل من الدلیلین - أی: الإطلاق الأحوالی المقابل للواو، والدال علی أن الشرط علة تامة للجزاء - علی حاله، ویسقط الإطلاق الدال علی المفهوم وهو إطلاق الشرط المنصرف إلی الفرد الأکمل، وإذا سقط المفهوم لکل من الدلیلین فهو یسقط نهائیاً ورأساً ولا یبقی فی أی من الدلیلین ما یدل حتی علی نفی العدل الثالث - غیر الشرطین المذکورین فی الدلیلین - لأن الدال علی المفهوم بناءًا علی هذا المبنی هو الانصراف إلی الفرد الأکمل، فإذا علمنا بکذب هذا الانصراف إلی الفرد الأکمل، فإذا علمنا بکذب هذا الانصراف وبطلانه وعدم إرادته ینتفی المفهوم نهائیاً؛ إذ أن أکمل الأفراد وهو العلة التامة المنحصرة فی شیء واحد فقط غیر مراد جزماً کما تقدم، وما هو أقل منه ویتلوه فی الکمال وهو العلة التامة المنحصرة فی شیئین فقط لا معیّن له، فلا یمکن نفی الثالث أیضاً بمفهومی الدلیلین، لسقوط الدال علی المفهومین رأساً.

ص: 48

وبعبارة أخری: لا یتبعض المفهوم ولا یثبت حتی بشکل جزئی لنفی الثالث بل ینتفی نهائیاً. وهذا بخلاف ما انتهینا إلیه بناء علی المبنیین الأولین - أی مبنی المحقق النائینی ره والمبنی المختار - حیث أن المفهوم لم یکن ینتفِ نهائیاً بناءًا علیهما بعد سقوطه بالتعارض، بل کان یتبعض ویثبت بشکل جزئی لنفی الثالث، والنکتة فی ذلک هی أن الدال علی المفهوم بناءًا علی ذینک المبنیین کان عبارة عن الإطلاق - أی الإطلاق الأوی بناء علی مبنی المحقق النائینی ره، وإطلاق التوقف والمتوقِف بناءًا علی المبنی المختار - ومن الواضح أن الإطلاق قابل للتقیید والتبعیض، فیکون المفهوم قابلاً للتجزئة والتبعیض، فینفی بالمفهومین - فی مثل ما نحن فیه، أی: فی قوله: «إن خفی الأذان فقصّر» وقوله: «إن خفی الجدار فقصّر»، وجود علة ثالثة لوجوب القصر غیرهما ویبقی الدلیلان یدلان بمفهومیهما علی عدم وجوب القصر عند انتفاء الخفائین. ولا مبرر لانهدام المفهوم رأساً وانکساره نهائیاً وبالمرة؛ إذ بثبوت عدل آخر للشرط رفعنا الید عن الإطلاق الدال علی المفهوم بمقدار العدل فقط لا أکثر، لأن الإطلاق معناه عدم ذکر القید، فلا یرفع الید عن الإطلاق إلا بمقدار القید المذکور وهو العدل الآخر للشرط، فإن ثبوت قید فی مورد لا یهدم إلا الإطلاق المقابل لهذا القید خاصة دون الإطلاقات الأخری المقابلة لسائر القیود المتصوَّرة غیر المذکورة من قبل المتکلم کما هو واضح. وهذا بخلاف الأمر بناء علی هذا المبنی، فإن الدال علی المفهوم بناء علی هذا المبنی هو الانصراف إلی أکمل الأفراد - وهو العلة ا لتامة المنحصرة وذلک بالوجه الأول المتقدم آنفاً لبیان الانصراف - فإذا علمنا ببطلان هذا الانصراف وکذبه جزماً وأن المراد من الشرط فی کل من الدلیلین لیس هو العلة التامة المنحصرة - کما تقدم - إذن، فسوق یسقط المفهوم نهائیاً ولا یثبت حتی بشکل جزئی ولا یکون قابلاً للتجزئیة والتبعیض، وبالتالی فلا یمکن أن یُنفی بالمفهومین فیما نحن فیه وجود علة ثالثة لوجوب القصر غیر خفاء الأذان وخفاء الجدار، ولا یدل الدلیلان بمفهومیهما علی عدم وجوب القصر عند انتفاء الخفائین؛ إذ لا دال علی المفهوم أصلاً بعد سقوط الانصراف المذکور وبطلانه کما هو واضح.

ص: 49

إذن، فالمتعین - بناء علی هذا المبنی - الأخذ بالمنطوقین ورفع الید عن المفهومین.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء

قلنا: بناء علی إثبات مفهوم الشرط (من خلال القول بأن القضیة الشرطیة ینصرف إطلاقُها إلی الفرد الأکمل، وهو العلة التامة المنحصرة) حینئذ فی المقام عند ما یرد دلیلان أحدهما یقول: «إن خفی الأذان فقصر» والآخر یقول: «إن خفی الجدار فقصر» هنا سوف یکون لکل من الدلیلین إطلاقان. إطلاق ینصرف إلی العلة التامة المنحصرة، مثلاً قوله: «إن خفی الأذان فقصر» إطلاقه ینصرف إلی أن خفاء الأذان علة تامة منحصرة لوجوب القصر، وکذلک قوله: «إن خفی الجدار فقصر»؛ فإن إطلاقه ینصرف إلی أنه علة تامة منحصرة لوجوب القصر.

وهناک إطلاق آخر فی کل من الدلیلین، وهو الإطلاق الأحوالی الذی کنا نسمیه سابقاً بالإطلاق الواوی (حسب مصطلح النائینی)، حیث أنه لم یعطف بالواو شیئاً آخر علی خفاء الأذان، هذا الإطلاق فی مقابل العطف بالواو، یدل علی أن خفاء الأذان وحده علة لوجوب القصر، علة تامة لا یحتاج إلی انضمام شیء آخر إلیه.

فحینئذ سوف یتعارض الإطلاق الأول فی الدلیل الأول، مع الإطلاق الثانی فی الدلیل الثانی، کما یتعارض الإطلاق الثانی فی الدلیل الأول مع الإطلاق الأول فی الدلیل الأول. والإطلاقان اللذان یثبتان المفهوم فی الدلیلین (أی: اللذان یثبتان المفهوم وانحصاریة العلة)، أی: الإطلاقان اللذان یثبتان أن الشرط علة تامة. وإذا تعارض هذا الإطلاقان مع هذین الإطلاقین، فلا تکون النتیجة هی التساقط، بل یتعین الأخذ بالإطلاقین فی المنطوقین، أی: نرفع الید عن المفهوم فی کل من الدلیلین ونأخذ بالمنطوق فیهما.

ص: 50

وذلک لأننا نتکلم علی المبنی القائل بأن مفهوم الشرط یثبت من خلالِ وبنکتةِ أن القضیة الشرطیة تنصرف إلی الفرد الأکمل، وإلی العلة المنحصرة، ونحن نعلم أن هذا الأساس قد سقط وتبین کذبه. أی: الانصراف إلی الفرد الأکمل، لم یعد موجوداً. أی: نحن نعلم جزماً وتفصیلاً أن هذا الانصراف باطل وکاذب وأن الشرط المذکور فی کل من الدلیلین لیس علة تامة منحصرة قطعاً. کیف یکون خفاء الأذان علة تامة منحصرة لوجوب القصر وأن یکون خفاء الجدار علة تامة منحصرة لوجوب القصر أیضاً.

فهذا الانصراف سقط عن الاعتبار هنا قطعاً؛ فنحن نعلم إجمالاً أن الشرط المذکور إما هو جزء علة والمجموع علة تامة منحصرة، أو أن الشرط المذکور فی کل من الدلیلین لیس جزء علة، لکنه لیس منحصراً. وهناک علتان غیر منحصرتین. أی: لا خفاءُ الأذان أصبح علةً تامةً منحصرةً ولا خفاءُ الجدار.

فأکمل الأفراد لیس هو المراد الجدی للمولی فی کل من الدلیلین. وهذا ما نقطع به. فیبقی إطلاق المنطوق فی کل من الدلیلین. أی: ذاک الإطلاق الأحوالی والواوی الدال علی أن الشرط فی کل من الدلیلین علة تامة. فیسقط هذا الإطلاق الدال علی المفهوم.

فإن المفهوم إذا سقط فی کل من الدلیلین یسقط نهائیاً، فلا یبقی ما یدل علی المفهوم (أی: لا یبقی عِدلٌ ثالث غیر خفاء الأذان وغیر خفاء الجدار) حتی بنحو جزئی. أی: لا یمکننا أن نتمسک - بعد السقوط - بالمفهوم ونقول: لا یجب القصر إن لم یختف الأذان وإن لم یختف الجدار أیضاً لا یجب القصر. فلا یمکننا أن ننفی وجود تلک العلة الثالثة بهذین الدلیلین. لماذا؟ لأن الدال علی المفهوم أساساً بناء علی هذا المبنی کان عبارة عن الانصراف إلی الفرد الأکمل. باعتبار أن الکلام ینصرف إلی أکمل أفراد اللزوم، الذی هو اللزوم العلیّ الانحصاری. ونحن الآن علمنا بکذب هذا الأساس (بعد مجیء هذین الدلیلین) وأن مراد المولی الجدی لیس هذا، وهذا ما نعلم به قطعاً. إذن أکمل الأفراد وهو العلة التامة المنحصرة، إما فی شیء واحد فهو غیر مراد قطعاً، وما یتلوه فی الکمال وهو العلة التامة المنحصرة فی شیئین ولیس فی شیء واحد، أی: أن یکون علة وجوب القصر منحصرة فی شیئین (خفاء الأذان وخفاء الجدار)، بأی شیء نعینه؟ فلا یوجد انصراف هنا إلی أکمل الأفراد ولا إلی الفرد الثانی بعد الفرد الأکمل.

ص: 51

إذن فلا یمکن نفی الثالث بمفهومی الدلیلین؛ لأن الدال علی المفهوم سقط رأساً ونهائیاً ولم یعد یتبعّض. وهذا بخلاف ما انتهینا إلیه وَفقاً للمبنیین من النتیجة، مبنی المرزا الذی ذکرناه قبل العطلة، ومبنانا المختار الذی شرحناه فی هذه الأیام؛ فإن المفهوم لا یسقط نهائیاً بناء علی هذین المبنیین، بل یتبعض ویثبت المفهوم بشکل جزئی، لنفی وجود عدل ثالث لخفاء الجدار وخفاء الأذان. فنثبت المفهوم بأنه إذا لم یخف شیء من الجدار والأذان معاً فلا یجب علیه القصر. وهذا کان یمکن إثباته بناء علی ذینک المبنیین.

والنکتة فی الفرق هی أن الدال علی المفهوم بناء علی مبنی المحقق النائینی وبناء علی مبنانا المختار، لیس عبارة عن دعوی الانصراف إلی الفرد الأکمل، وإنما بنی النائینی مفهومَ الشرط علی الإطلاق الأوی (أی: لم یعطف علی خفاء الأذان شیئاً آخر ب_«أو») هذا یدل علی أن خفاء الأذان وحده علة تامة منحصرة. وأما نحن فأساس ذهابنا إلی مفهوم الشرط کان عبارة عن إطلاق التوقف وإطلاق المتوقف. فبالمآل نحن والمرزا نبنی مفهوم الشرط علی الإطلاق، لا علی الانصراف. وبینهما (دعوی الانصراف والإطلاق) بون شاسع. والفرق هو أن الإطلاق إذا سقط لا یسقط نهائیاً، فهو قابل للتضعیف، فیکون المفهوم قابلاً للتجزئة. فیمکننا أن ننفی بالمفهومین وجود علة ثالثة کخفاء أهل البلد، أی: خفاء أهل البلد لیس علة لوجوب القصر.

بعبارة أوضح: عندما یقول المولی «إن خفی الأذان فقصر»، ثم قال فی دلیل آخر: «إن خفی الجدار فقصر»، یعنی: أثبت عدلاً. وبثبوت الدلیل الثانی أصبح لدینا قید علی الدلیل الأول، والقید بمقداره. فخفاء الجدار قید لخفاء الأذان. لکن یبقی إطلاق قوله: إن خفی الأذان علی حاله فی مقابل القیود الأخری، القیود التی لم تذکر من قبل المولی فی أی دلیل.

ص: 52

مثال: القانون الکلی هو هذا، أی: الإطلاق ینهدم بالمقدار الذی یثبته القید. فلو قال: «أکرم العالم» فلم یقل: أکرم العالم الفاسق، أو أکرم العالم بالفیزیاء. فلو أتی وذکر: «أکرم العالم العادل»، فهذا القید لا یهدّم کل الإطلاق، فلا یشمل العالم الفقهی أو النحوی؟ لا، أی: یبقی الإطلاق یشمل کل من هو عادل. ویخرج العلماء الذین یفتقدون إلی العدالة. وکذلک فی ما نحن فیه.

فالمفهوم بناء علی هذین المبنیین باعتباره قائماً علی أساس الإطلاق (هذه نقطة) وباعتباره قابلاً للتجزئة والتبعیض والتضعیف، فیکون المفهوم قابلاً للتجزئة. فإذا سقط المفهوم فی مورد لا یسقط المفهوم فی جمیع الموارد. وهذا بخلاف انصراف المفهوم إلی الفرد الأکمل.

بناء علی هذا الأساس، نحن بعد مجیء هذین الدلیلین علمنا قطعاً بأن هذا الانصراف باطل؛ لأنه لا یمکن الجمع بین علتین تامتین منحصرتین، وإذا سقط المفهوم، سقط هنا نهائیاً، أی: لا یمکننا أن نقول: إذا لم یخف الأذان ولم یخف الجدار، لا یجب القصر؛ لأنه یمکن أن یکون هناک علة ثالثة مثل خفاء الأهل. فأساس المفهوم لم یکن عندنا عبارة عن الانصراف، والإطلاق لا یسقط نهائیاً علی المبنیین ویسقط بناء علی المبنی الثالث. فیتعین علی المبنی الثالث رفع الید عن المفهومین، والأخذ بالمنطوقین.

طبعاً هذا کله بقطع النظر عن إطلاق الجزاء؛ إذ هناک إطلاق آخر للجزاء وهو الإطلاق فی سنخ الحکم، ولیس شخص الحکم. ومقصودنا من «غض النظر عن إطلاق الجزاء» عدم دخوله فی المعارضة. فکنا نفترض المعارضة بین الإطلاق الأحوالی وإطلاق الانصراف.

وهذا یکون فیما إذا کان الحکم المرتب علی الشرط فی کل من الدلیلین حکماً واحداً، کما هو کذلک فی مثالنا «(إن خفی الأذان فقصر» و«إن خفی الجدار فقصر») فإن الحکم فیهما واحد لوجوب القصر. فلا یمکن إدخال إطلاق الجزاء إلی المعارضة. لکن مع الالتفات إلی إطلاق الجزاء، وذلک فیما إذا احتملنا مثلاً أن یکون وجوب القصر المعلق علی خفاء الأذان، غیر الوجوب المعلق علی خفاء الجدار. بحیث إذا اختفی الأذان واختفی الجدار یثبت وجوبین (طبعاً لا نحتمل فی هذا المثال، لکن کلامنا لیس خاصاً بهذا المثال، بل هو عام).

ص: 53

أی: لا یحصل فی ذاک الفرض قطعٌ بسقوط هذا الانصراف وکذبه نهائیاً؛ فلعل انصرافه إلی أکمل الأفراد صادق فی «إن خفی الأذان فقصر»، ومنصرف إطلاقه إلی أکمل أفراد اللزوم. لکن الجزاء لیس عبارة عن سنخ وطبیعی الحکم، وإنما هو عبارة عن شخص الحکم. أی: لعل الإطلاق فی الجزاء لا یجری. لعل شخص الحکم متوقف. وشخص وجوب للقصر یکون متوقفاً علی خفاء الأذان، بحیث یکون خفاء الأذان علة تامة منحصرة لشخص وجوب القصر، وفی نفس الوقت یکون خفاء الجدار علة تامة منحصرة لشخص آخر لوجوب القصر. فیحصل التنافی حینئذ. وتتمة البحث تأتی غداً.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

تقدم أنه بناء علی هذا المبنی الذی یثبت مفهوم الشرط علی أساس أن الشرط ینصرف إلی أکمل الأفراد (وهو العلة التامة المنحصرة) إذا جاء عندنا دلیلان أحدهما یقول: ((إن خفی الأذان فقصر)) والآخر یقول: ((إن خفی الجدار فقصر)) فسوف یتعارض هذا المبنی الذی ذکرناه (أی: إطلاق الشرط إلی العلة المنحصرة) یتعارض مع إطلاق آخر موجودٍ فی الشرط أیضاً وهو الإطلاق الأحوالی المتقدم ذکره، وبعد التعارض لا یتساقطان بل یسقط إطلاق الشرط المنصرف إلی العلة المنحصرة، أی: یسقط الإطلاق الذی کان یثبت المفهوم؛ وذلک لأننا نقطع بکذبه، ویتعین الأخذ بإطلاق المنطوق کما شرحنا.

طبعاً هذا کله بقطع النظر عن إطلاق الجزاء الدال علی أن المعلَّق علی الشرط سنخ الحکم وطبیعیه، أما مع الالتفات إلی هذا الإطلاق (إطلاق الجزاء) فلا یحصل لنا قطع بسقوط ذاک الإطلاق الذی ینصرف إلی العلة المنحصرة. لا یحصل لنا قطع بکذبه وسقوطه، بل نحتمل أن یکون الشرط فی کل من الدلیلین منصرفاً إلی العلة المنحصرة. خفاء الأذان علة منحصرة کما أن خفاء الجدار علة منحصرة. فکل من الإطلاقین تام وصادق، لکن الجزاء المتوقف علی هذا الشرط لیس عبارة عن سنخ الحکم، أی: طبیعی وجوب القصر. فخفاء الأذان علة منحصرة لکن لیس لکلی وجوب القصر، وکذلک خفاء الجدار علة منحصرة لکن لیس لکلی وجوب القصر، بل لحصة من الحکم الذی هو وجوب القصر.

ص: 54

فالجزاء فی کل واحد من الدلیلین عبارة عن شخص الحکم لا طبیعی الحکم. وهذا الاحتمال یبقی موجوداً عندنا بعد مجیء هذین الدلیلین، فلا نقطع بکذب الإطلاق الذی یقول إن الشرط علة منحصرة. وحینئذ فی مثل هذا الفرض یتعارض ویتنافی الإطلاق الذی یقول إن الشرط علة منحصرة والإطلاق الجاری فی الجزاء الذی یقول إن الجزاء سنخ الحکم ولیس شخصه. یتعارض هذان الإطلاقان ولا یمکن أن یصدق هذان الإطلاقان معاً. أی: لا یمکن أن یکون الشرطان المذکوران علة منحصرة لسنخ الحکم (وهو وجوب القصر). فإن سنخ الحکم لا یمکن أن یکون کل من الشرطین المذکورین فی الدلیلین علة منحصرة لسنخ الحکم، هذا معناه أنه لا یمکن أن نأخذ بکلا الإطلاقین.

إما أن الإطلاق الأول کاذب، أی: الشرط لیس علة منحصرة (أی: خفاء الأذان لیس علة منحصرة لسنخ الحکم)، وأیضاً خفاء الجدار لیس علة منحصرة، وکل منهما علة مستقلة لسنخ الحکم، فلا یمکن صدق کلیهما، فیتعارض هذان الإطلاقان وأی منهما إذا سقط، یسقط المفهومُ بسقوطه، سواء سقط الإطلاق الأول المنصرف إلی العلة المنحصرة، أو الإطلاق الثانی القائل بأن الجزاء مطلق الحکم وسنخه. فهذا معناه أن المفهوم قد سقط؛ لأن المفهوم متوقف علی أن یکون الشرط علة منحصرة، وأن یکون الجزاء سنخ الحکم. مجموع الأمرین یثبت المفهوم.

فإذا انتفی أحدهما (سواء الأول أو الثانی) فیسقط المفهوم بسقوطه. لکن ینبغی أن نلتف إلی أن لو سقط الإطلاق الذی یقول إن الشرط منصرف إلی العلة المنحصرة (الأول)، أو سقط هو وذاک بالتساقط (باعتبار عدم وجود مرجح لأحدهما علی الآخر)، حینئذ سوف یسقط المفهوم نهائیاً. أی: لا یبقی فی کل من الدلیلین ما یدل علی نفی شرط ثالث؛ وذلک لأن المفهوم کان قائماً علی أساس هذا الإطلاق الأول. لأننا نتکلم علی مبنی من یقول بأن المفهوم إنما یثبت بسبب هذا الإنصراف إلی العلة المنحصرة. فإذا سقط لوحده أو سقطا معاً، فلا یبقی أساس للمفهوم. فحینئذ هذا المسافر إذا کان موجوداً فی البلد بعدُ، ولم یختف علیه الأذان ولا الجدار، هل یجب علیه القصر؟

ص: 55

لا یبقی فی هذین الدلیلین ما یدل علی أنه لا یجب علیه القصر؛ لأن هذین الدلیلین إنما کانا یدلان علی انتفاء وجوب القصر عند انتفاء خفاء الجدار وخفاء الأذان، علی أساس انصراف الدلیلین إلی العلة المنحصرة. والآن اتضح أن الشرط لیس علة منحصرة. إذا لم یکن خفاء الأذان علة منحصرة لوجوب القصر ولا خفاء الجدار، من قال: لیس هناک علة ثالثة؟!! فلعل خفاء أهل البلد أیضاً علة. فلا یبقی ما یدل علی نفی عدل ثالث غیر خفاء الأذان وخفاء الجدار.

هذا إذا افترضنا أن الساقط هو الإطلاق الأول، أو کلا الإطلاقین الأول والثانی.

أما لو افترضنا أن الإطلاق الثانی سقط دون الأول، أی: سقط إطلاق الجزاء (الذی کان یقول بسنخ الحکم) فلا یسقط المفهوم نهائیاً، لأن هذا الإطلاق إطلاق حکمی ثبت بمقدمات الحکمة، والإطلاق الحکمی قابل للتبعیض والتضعیف. فیبقی الدلیلان یدلان علی نفی عدل ثالث.

أی: إطلاق الجزاء فی کل من الدلیلین الذی یدل علی أن المعلق علی الشرط سنخ الحکم، تقید هذا الإطلاق، فإن الإطلاق لا یسقط نهائیاً بل یسقط بمقدار القید الذی قیده. مثلاً: إن خفی الأذان فقصر، إطلاق الجزاء بعد التقیید الذی ذکرناه، إطلاق الجزاء یکون دالا علی أن کل حصص وجوب القصر متوقفة ومعلقة علی خفاء الأذان، إلا تلک الحصة من وجوب القصر المتوقفة علی خفاء الأذان. وکذلک فی قوله ((إن خفی الجدار فقصر))، إطلاق الجزاء بعد هذا التقیید یکون دالا علی أن کل حصص وجوب القصر متوقفة علی خفاء الجدار إلا الحصة الدالة علی خفاء الأذان. فیبقی الدلیلان یدلان بمفهومیهما علی انتفاء وجوب القصر عند انتفاء الخفائین معاً. وهذا فرق کبیر.

بینما لاحظنا فی الفرق السابق أنه لا یبقی فی الدلیلین ما یدل علی عدم وجوب القصر فیما لو لم یختف الجدار ولا الأذان.

ص: 56

هذا فرق بین الفرض الأول (الساقط هو إطلاق الشرط المنصرف إلی العلة المنحصرة) وبین الفرض الثانی (الساقط عبارة عن إطلاق الجزاء). فإذن المفهوم لا یسقط نهائیاً.

وعلی کل حال، الصحیح هو أن الطرفین لا یتساقطان، وإنما إطلاق الجزاء هو الذی یتعین للسقوط؛ لأننا نعلم ونقطع بسقوطه علی کل تقدیر؛ وذلک لأنه إما أن یکون إطلاق الشرط المنصرف إلی العلة المنحصرة موجوداً وباقیاً وغیر ساقط، فعلیه فمن الواضح أن إطلاق الجزاء یسقط، لأنهما متعارضان، ولا یمکن أن یسقطان معاً. فإذا کان الأول صادقا فإذن الثانی ساقط. وإذا کان الأول (الشرط علة منحصرة للجزاء) ساقطاً فلا أثر ولا قیمة للثانی. وحینئذ إطلاق الجزاء الذی یقول: إن المعلق سنخ الحکم، لا أثر له؛ لأن معنی سقوط الإطلاق الأول هو أن خفاء الأذان لیس علة منحصرة لوجوب القصر، وخفاء الجدار لیس علة منحصرة لوجوب القصر. یعنی یمکن أن تقوم علة أخری غیر خفاء الأذان تقوم مقام خفاء الأذان، وکذلک یمکن أن تکون هناک علة أخری تقوم مقام خفاء الجدار. ولطالما انتفی الانحصار فلا أثر لإثبات أن المعلق علی الشرط سنخ الحکم.

فالإطلاق الثانی علی کل تقدیر ساقط. إما أن الإطلاق الأول ثابت وصادق فالثانی کاذب. وإما أن الأول سقط فیسقط الإطلاق الثانی أیضاً، لأنه یصبح لغواً فی حال سقوط الإطلاق الأول.

فإذا کان لدینا إطلاقان أحدهما علی کل تقدیر ساقط، والآخر لیس علی کل تقدیر ساقط، فیتعین أن نأخذ بالإطلاق الذی هو علی کل تقدیر ساقط. وهذا بخلاف إطلاق الجزاء الذی یثبت أن الجزاء سنخ الحکم ومطلقه، فلا یکون الإطلاق الأول لغواً، فإن انصراف الشرط إلی العلة المنحصرة یبقی ثابتاً.

فیتبعض الإطلاق، لأنه إطلاق حَکَمِیّ. فالنتیجة المتحصلة من مجموع ما قلنا لحد الآن هی أنه بناء علی هذا المبنی القائل بأن مفهوم الشرط إنما یثبت بدلیل أن الشرط ینصرف إلی أکمل الأفراد بالبیان الفلسفی المتقدم، وأکمل الأفراد هو العلة المنحصرة، ومن الواضح إذا انتفت العلة المنحصرة ینتفی الجزاء، وهذا هو المفهوم. فیتعین علینا فی المقام أن نأخذ بالدلیلین، أی: نأخذ بالإطلاق الأحوالی الواوی فی کل من الدلیلین، وأما الإطلاق الذی یثبت المفهوم (انصراف إطلاق الشرط إلی الفرد الأکمل یتعین للسقوط لأننا نقطع بکذبه بعد ورود دلیلین، انتفی الانحصار وانثلم).

ص: 57

هذا بقطع النظر عن إطلاق الجزاء، أما مع الالتفات إلی إطلاق الجزاء فقلنا إن المتعین للسقوط هو إطلاق الجزاء.

وبالتالی یثبت لدینا من خلال مجموع الدلیلین هذا المقدار من المفهوم وهو إن لم یختف الجدار ولم یختف الأذان فلا یجب القصر، حتی إن خفی الأهل أو لم یختف الأهل.

هذا کله بناء علی الوجه الأول لدعوی الانصراف.

أما علی الوجه الثانی لدعوی الانصراف (وکان علی أساس ادعاء أن العرف ینصرف ذهنه هکذا، عندما یطلق اللفظ الموضوع للجامع وللکلی، وتحته مصادیق وأفراد کثیرة، ینصرف هذا اللفظ فی أذهان الناس عادة إلی أکمل أفراد الجامع والکلی). فإن لفظ الإنسان إذا أطلق بصورة مطلقة، یقال بأنه ینصرف إلی أکمل أفراد الإنسان. هنا أیضاً الشرط فی القضیة الشرطیة، أداة الشرط الدالة علی اللزوم بالدلالة الوضعیة، فإن اللزوم له أفراد کثیرة. اللزوم العلی، واللزوم غیر العلی، واللزوم العلی الانحصاری، واللزوم العلی غیر الانحصاری. وأکمل أفراد اللزوم هو اللزوم العلی الانحصاری. هذا وجه آخر.

والکلام علی هذا الوجه هو نفس الکلام المتقدم فی الوجه الأول، لکن مع فارق واحد بینهما وهو أنه متی قلنا بسقوط المفهوم نهائیاً (علی الوجه الأول)، قد لا نقول بسقوط المفهوم علی هذا الوجه الثانی. وذلک لأن النکتة فی انصراف الشرط إلی الفرد الأکمل بناء علی الوجه السابق الفلسفی کانت عبارة فی الوجه الأول الفلسفی أن هذا الفرد الناقص له حد عدمی، فإذا ثبت هذا الحد العدمی بدلیل، وعلمنا من خلال ذاک الدلیل أن المراد الجدی للمولی من الشرط هو الفرد غیر الأکمل، کما هو الحال فی ((إن خفی الأذان فقصر))، فهذا إن لم یکن یرافقه الدلیل الثانی (إن خفی الجدار فقصر) ، فکان إطلاقه ینصرف إلی الفرد الأکمل، أی: مراد المولی من ((إن خفی الأذان فقصر)) هو أن خفاء الأذان أکمل أفراد اللزوم، وهو علة منحصرة، لیس مراده من اللزوم هنا الفرد غیر الأکمل (أی العلة غیر المنحصرة) لأن هذا الفرد له حد عدمی، وهذا الحد لم یبین من قبل المولی.

ص: 58

لکن بعد أن أتی الدلیل الثانی (قد ذکر الدلیل الثانی القیدَ)، فخفاء الأذان ثبت أنه لیس علة منحصرة ولیس هو الفرد الأکمل. فإذا بین هذا الحد العدمی بدلیل، فقد انتفی إطلاق الشرط وانصرافه إلی الفرد الأکمل، فینتفی المفهوم ویسقط نهائیاً. هذا بناء علی الوجه الأول.

أما بناء علی الوجه الثانی الذی یدعی انصراف الشرط عرفاً إلی أکمل الأفراد (ولیس بالبیان الفلسفی القائل بأن له حد عدمی حتی یأتی ما قلناه)، فقد یدعی مدع حینئذ أن اللفظ الموضوع للجامع والطبیعی ینصرف فی أذان الناس عند إطلاقه إلی الأکمل فالأکمل من الأفراد. فهنا نحن غیر مقیدین بذاک البیان الفلسفی. لطالما أن القضیة عرفیة فقد یدعی مدع أن العرف هکذا یفهم. وإذا لم ینصرف اللفظ إلی أکمل الأفراد لعذر ومانع، فینصرف اللفظ إلی (فالأکمل، أی: إلی) الفرد الثانی الذی یتلوه فی الکمال. وإذا لم ینصرف اللفظ إلی الفرد الثانی فینصرف إلی الفرد الثالث، وهکذا فلا ینتفی الانصراف بالمرة.

حینئذ هنا سوف لا ینتفی إطلاق الشرط بالمرة، بل یبقی. وهذا ما سنبینه بمزید توضیح فی الغد.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین

قلنا إنه بناء علی الوجه الثانی لانصراف الشرط إلی الفرد الأکمل وهو الوجه الذی کان یقول إن هذا الانصراف أمر عرفی، والعرف یفهم دائماً من اللفظ الذی وضع للکلی (والذی له مصادیق عدیدة) أکمل الأفراد. وبناء علی هذا الوجه فی الانصراف قد یدعی صاحب هذا الوجه أن هذا الانصراف الذی یحصل فی أذهان العرف، انصراف إلی الأکمل فالأکمل، مثل مسألة التقلید. وحینئذ یمکنه أن یقول إن خفاء الأذان شرط وعلة لوجوب القصر وهو أکمل أفراد العلة، أی: هو علة تامة منحصرة، لکن بعد مجیء الدلیل الثانی ینصرف اللفظ إلی الأکمل من الدرجة الثانیة. وهنا الشرط فی کل من الدلیلین بعد أن لم یمکن أن یراد منه العلة المنحصرة فی شیء واحد، فلینصرف هذا الشرط إلی علة منحصرة فی شیئین، بحیث تکون علة وجوب قصر الصلاة فی شیئین: فی خفاء الأذان وفی خفاء الجدار، أی: لا توجد علة ثالثة لوجوب القصر، وبالتالی یثبت لهذین الدلیلین المفهوم بالمقدار الجزئی. أی: إذا لم یختف الأذان ولم یختف الجدار لا یجب القصر؛ لأن کل من الدلیلین دل علی أن علة وجوب القصر منحصرة فی هذین الشیئین؛ لأن انحصار العلة فی هذین الشیئین هو الأکمل من الدرجة الثانیة. فلا یسقط المفهوم نهائیاً.

ص: 59

هذا تمام الکلام بناء علی هذا المبنی القائل بانصراف اللفظ إلی العلة التامة المنحصرة علی نحو الأکمل فالأکمل. وقد عرفنا أن النتیجة (وهی سقوط المفهومین والأخذ بالمنطوقین) علی هذا المبنی تختلف عن مبنی المحقق النائینی وعن مبنانا. أجل، لو فرض أن مراد هذا المبنی من الفرد الأکمل الذی ینصرف الشرط إلیه - عند الإطلاق - هو العلة المنحصرة وإن لم تکن علة تامة. أی: جزء علة منحصرة، فسوف تختلف النتیجة عما قلناه لحد الآن؛ فلا یتعین المفهومان للسقوط ولا یتعین الأخذ بالمنطوقین.

والنکتة فی ذلک أننا حینئذ لا یحصل لدینا العلم والقطع بأن المتکلم لم یرد الفرد الأکمل - الأکمل بمعنی الانحصار - فقد یکون مراده فی کل من الدلیلین هو الفرد الأکمل بمعنی أنه لا عدل له، ولابد منه فی وجوب القصر، ولو بنحو یکون جزءاً لعلة منحصرة. ومعنی ذلک أن الأکمل (وهو جزء العلة المنحصرة) هنا هو أمر لا عِدل ولا بدیل له. وهذا الانصراف لا نعلم بکذبه، فقد یکون هذا الانصراف موجوداً فی کلا الدلیلین. أی: کل من خفاء الأذان وخفاء الجدار جزء من العلة المنحصرة والمجموع علة تامة منحصرة. وهذا معناه أن النتیجة وَفق هذا المبنی تکون کالنتیجة فی مبنی المحقق النائینی؛ لأن إطلاق الشرط وانصرافه إلی الفرد الأکمل بهذا المعنی الذی ذکرناه الآن، یکون حاله حال الإطلاق الأوی عند المحقق النائینی، فحیث أن الإطلاق الأوی عند المرزا کان یثبت أن الشرط منحصر ولا عدل له - کما تقدم - کذلک هنا إطلاق الشرط المنصرف إلی الفرد الأکمل بهذا المعنی الأخیر، یثبت أن الشرط لا عِدل له.

وحینئذ کما کان الإطلاق الأوی عند المرزا یتعارض مع الإطلاق الواوی - کما تقدم تفصیله - کذلک هنا إطلاق الشرط المنصرف إلی الفرد الأکمل (بهذا المعنی) یتعارض مع الإطلاق الأحوالی الذی یثبت أن الشرط لیس جزء علة؛ لأنه بعد ورد هذین الدلیلین یستحیل أن یکون کل من الشرطین علة تامة منحصرة. أی: بعد ورود دلیلین إما أن یکون الشرطان جزأین لعلة تامة منحصرة لوجوب القصر (وهذا معناه أن الإطلاق الأحوالی أو قل: الإطلاق الواوی للمنطوقین کاذبان؛ لأن المنطوق کان یقول: إن کل من خفاء الأذان وخفاء الجدار علة تامة مستقلة لوجوب القصر).

ص: 60

وإما أن کلا من الشرطین علة تامة مستقلة لوجوب القصر، وهذا معناه أن المفهومین کاذبان. فإننا أثبتنا المفهوم - وفق هذا المبنی - بالانصراف إلی الفرد الأکمل (أی: الانصراف إلی الانحصار) ولکنه کاذب. فإنه إما لا یوجد لدینا الانحصار وإما لا توجد لدینا التمامیة، ویستحیل جمع الانحصار مع التمامیة (أی: إما کل منهما جزء علة منحصرة ولیستا تامتین، وإما کل منهما علة تامة مستقلة ولا انحصار لهما فی شیء واحد). والمفهوم کان یثبت الانحصار فإما أن إطلاق المفهوم ساقط (أی: لا یوجد انحصار) وإما أن المنطوق ساقط (وهو کان یثبت التمامیة). فیتعارض الإطلاقان ویتساقطان.

هذا تمام الکلام بناء علی هذا المبنی الثالث.

المبنی الرابع: وهو الأخیر من المبانی الأربعة التی وعدنا بالکلام علی ضوءها. وهو عبارة عن المبنی الذی تقدم سابقاً فی التقریب الثالث من تقریبات إثبات مفهوم الشرط (فی العام الماضی). وهو یثبت مفهوم الشرط من خلال القول بأن الجملة الشرطیة تدل وضعاً علی أن الشرط علة تامة للجزاء (هذا بالنسبة للتمامیة). وهناک إطلاق أحوالی للشرط یدل علی أن هذه العلیة التامة ثابتة للشرط فی کل حالات الشرط. أی: سواء یکون الشرط وحیداً أم یرافقه شیء آخر. أی: حتی فی حالة اجتماع الشرط مع غیره یکون الشرط هو العلة التامة للجزاء، لا غیر. هذا الإطلاق الأحوالی یثبت لنا المفهوم. أی: إذا کان الشرط فی کل حالاته علة تامة للجزاء حتی لو اجتمع مع غیره، معنی ذلک أن علة الجزاء منحصرة بهذا الشرط؛ إذ لو لم یکن علة منحصرة (أی: کان هناک شیء آخر غیر الشرط علة للجزاء أیضاً ففی فرض اجتماع ذاک الشیء الآخر مع هذا الشرط سوف یتحول کل منهما إلی جزء علة) لکان هذا خلاف الإطلاق الأحوالی المتقدم. إذن، إذا دلت الجملة علی أن الشرط علة منحصرة للجزاء تدل علی المفهوم وأن الجزاء ینتفی بانتفاء علته المنحصرة.

ص: 61

هذا طریق وتقریب کان قد طرح سابقاً لإثبات مفهوم الشرط، وقد ناقشناه فیما سبق ولا نرید الآن مناقشته. بل نرید أن نری أنه بناء علی هذا التقریب لإثبات مفهوم الشرط ما هی النتیجة؟

الجواب: بناء علی هذا المبنی تکون النتیجة تعین الأخذ بالمنطوقین فی الدلیلین ورفع الید عن إطلاق المفهومین فی الدلیلین (کالنتیجة التی وصلنا إلیها بناء علی المبنی السابق) وذلک لأننا نعلم قطعاً بأن المفهوم (علی کل تقدیر) ساقط فی کل من الدلیلین؛ لأنه بعد أن ورد هذان الدلیلان نعلم جزماً بأن کلا من الشرطین المذکورین فی هذین الدلیلین لا یکون فی حال اجتماعه مع الشرط الآخر علة تامة لوجوب القصر. یعنی: إذا اجتمع خفاء الأذان مع خفاء الجدار (أی: بَعُد المسافر عن بلده بمقدار اختفی عنه أذان البلد وجداره) فنحن نعلم قطعاً أن خفاء الأذان لیس علة تامة لوجوب القصر کما أن خفاء الجدار أیضاً لیس علة تامة للوجوب؛ لاستحالة اجتماع علیتین تامتین علی معلول واحد. إذن، فتکون العلة مرکبة منهما. فإما أن خفاء الأذان أساساً وبالکلیة جزء علة، وإما لأنه فی خصوص حال اجتماعه مع خفاء الأذان أصبح جزء علة. فعلی أی حال فهو فی حال اجتماعه مع خفاء الجدار جزء علة. فسقط الإطلاق الأحوالی الذی کان یثبت المفهوم ویقول: إن الشرط علة تامة فی کل الحالات؛ فقد رأینا أنه لیس علة تامة فی هذه الحالة. وهذا معناه أن خفاء أحد الدلیلین کاف لوجوب القصر.

وإن شئتم قلتم: إن إطلاق المنطوق فی المقام یثبت العلیة التامة، وإطلاق المفهوم (الأحوالی) یثبت أن هذه العلیة التامة موجودة فی جمیع الحالات، فإطلاق المنطوق یحقق موضوع الإطلاق فی المفهوم. فإذا علمنا إجمالاً أن أحد الدلیلین کاذب (لاستحالة اجتماع علتین تامتین علی معلول واحد) فمعناه أننا علمنا تفصیلاً بأن إطلاق المفهوم ساقط؛ لأنه إما أن إطلاق المفهوم کاذب من أساسه، وإما أنه لیس کاذباً ولکن موضوعه هو إطلاق المنطوق وموضوعه کاذب. فإما هو کاذب وإما موضوعه کاذب، فبالنتیجة هو کاذب.

ص: 62

فإذن، انحل العلم الإجمالی إلی علم تفصیلی بأن المفهوم ساقط وعندنا شک بدوی فی إطلاق المنطوق فنتمسک بأصالة الإطلاق ونثبت إطلاق المفهوم فی کل من الدلیلین. والنتیجة أن کلاً من الشرطین علة تامة فی حد ذاته، لکن عند اجتماعه مع الشرط الآخر یصبح جزء علة.

التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء/ التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه الثامن: تعدد الشرط واتحاد الجزاء/ التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

قلنا إنه بناء علی المبنی الرابع المتقدم أمس یتعین فی المقام القول بأن المفهومین یسقطان ونأخذ بالمنطوقین، کما شرحنا ذلک بالأمس.

النقطة التی یجب التذکیر بها الیوم هی أن المفهوم فی کل من الدلیلین وإن رفعنا الید عن إطلاقه ولکن المفهوم لا ینتهی نهائیاً بناء علی هذا المبنی، وإنما ینتفی بمقدار الشرط الآخر المذکور فی الدلیل الآخر؛ وذلک لأن المفهوم علی هذا المبنی الرابع لم یثبت بالوضع وإنما ثبت بالإطلاق الأحوالی - کما شرحنا بالأمس -. فإن الإطلاق الأحوالی یسقط (أی: یتقیّد هذا الإطلاق بمقدار وجود مقیِّد) بعد أن تعارض الإطلاقان فی ما إذا ورد دلیلان أحدهما یقول: «إن خفی الأذان فقصر» والآخر یقول: «إن خفی الجدار فقصر»، فإن الإطلاق الأحوالی فی الدلیل الأول (الأذان) یتقیّد بمقدار وجود المقیِّد، وهو الشرط المذکور فی الدلیل الثانی. وکذلک بالعکس.

فیصبح مفاد کل من الدلیلین بعد سقوط إطلاقه الأحوالی وبعد تقیّده هو أن الشرط المذکور فی هذا الدلیل علة تامة لوجوب القصر فی کل الأحوال إلا حالة واحدة وهی حالة وجود الشرط الآخر.

ص: 63

وأیضاً یجب أن ننتبه إلی أنه بناء علی هذا المبنی لا تختلف النتیجة بین فرض قطع النظر عن إطلاق الجزاء (والذی یدل علی أن المعلَّق سنخ الحکم، لا شخصه. أی: لا یتعدد الحکم بتعدد الشرط) وبین ما إذا أخذناه بعین الاعتبار، وذلک فیما إذا تعدد الحکم بتعدد الشرط، وإن لا ینطبق هذا علی مثال القصر، بل ینطبق علی ما إذا احتملنا تعدد الوجوب بتعدد الشرط، کما لو کان یجب علی المکلف وجوب واحد للقصر بخفاء الأذان وکان یثبت علیه أیضاً وجوبان للقصر فیما إذا اختفی الجدار مع خفاء الأذان.

والخلاصة أن النتیجة هی رفع الید عن الإطلاق (الأحوالی) الذی یثبت المفهوم مع التحفّظ علی إطلاق المنطوق (الدال علی أن الشرط علة تامة للجزاء)؛ لأنه حتی بعد أخذ إطلاق الجزاء بعین الاعتبار سوف یکون التعارض بین الإطلاق الأحوالی الذی یثبت المفهوم وبین إطلاق الجزاء. وأما إطلاق المنطوق فهو خارج عن المعارضة؛ لأن الأمر وإن کان یدور بدواً حول رفع الید عن أحد هذه الإطلاقات الثلاثة:

رفع الید عن إطلاق المنطوق (الذی یثبت موضوع الإطلاق الأحوالی). رفع الید عن الإطلاق الأحوالی (الذی یثبت المفهوم). رفع الید عن إطلاق الجزاء (الدال علی أن المعلق علی الشرط سنخ الحکم).

وإذا کان دور الإطلاق الأحوالی بعد إطلاق المنطوق، فلا داعی لرفع الید عن إطلاق المنطوق، ویکفی أن نرفع الید عن الإطلاق الأحوالی؛ لأن الأخیر ساقط علی کل حال، حیث أنه إما موضوعه منتف (أی: انتفاء إطلاق المنطوق) وإما هو غیر موجود.

إذن، یمکننا أن نتحفظ علی إطلاق المنطوق فی کل من الدلیلین ونقول: کل من الشرطین علة تامة للجزاء؛ لأننا لا نعلم بکذب هذا الإطلاق. ولکن نعلم إجمالاً بأن کلاً من الشرطین إما أن علیته التامة لیست ثابتة له فی کل الحالات حتی فی حالة اجتماعه مع الشرط الآخر، ومعنی ذلک کذب الإطلاق الأحوالی الذی کان یقول بأن العلیة التامة ثابتة فی کل الحالات. وإما أن علیته التامة للجزاء ثابتة فی کل الحالات لکن الجزاء المعلَّق علی هذه العلة لیس سنخ الحکم، بل شخص الحکم، وهذا معناه أن إطلاق الجزاء کاذب.

ص: 64

وبعبارة أخری أننا نحتمل أن یکون الحکم متعدداً کما نحتمل أن یکون الحکم واحداً. إذن، إما أن الحکم واحد (وجوب قصر واحد) وهذا معناه عدم ثبوت علیة خفاء الأذان لوجوب القصر فی کل الحالات حتی فی حال اجتماعه مع خفاء الجدار؛ لأنه یتحول حینئذ إلی جزء علة (لاستحالة اجتماع علتین تامتین علی معلول واحد)، وعدم ثبوت العلیة التامة تکذیب للإطلاق الأحوالی. إذن، فلم یکن الإطلاق الأحوالی کاذباً وإنما تقیَّدَ. وإما أن الحکم متعدد ولدینا وجوبان للقصر، وهذا معناه أن الجزاء المعلَّق علی الشرط لیس عبارة عن سنخ الحکم وکلی الوجوب، وإنما عبارة عن حصة من وجوب القصر.

إذن، فإما الإطلاق الأحوالی کاذب وإما الإطلاق فی الجزاء کاذب، فیتعارضان فنقیّدهما بمقدار هذا الشرط، لا أکثر. أی: لا یُتوهم أن رفع الید عن إطلاق الجزاء ینتج أن المعلَّق علی الشرط شخص الحکم، بل سنخ الحکم إلا الحکم الناشئ من الشرط الآخر.

هذا تمام الکلام فی هذا التنبیه الثامن.

التنبیه التاسع

إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فی دلیلین واجتمع فیهما الشرطان من حیث اقتضائهما تداخل الجعل وعدمه وتداخل الامتثال وعدمه

إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فی دلیلین منفصلین (أو أکثر من دلیلین)، واجتمع هذان الشرطان فی مورد واحد. مثلا قال فی دلیل: «إن جاء زید فأکرمه» وقال فی دلیل آخر: «إن قرأ زید القرآن فأکرمه»، وفرضنا أن الشرطین تحققا معا، بأن جاء زید وقرأ القرآن. فهذان الدلیلان یختلف الشرط فیهما، فإن الشرط فی الأول مجیء زید وفی الثانی قراءته للقرآن، لکن الجزاء واحد. فهل یثبت علی المکلف وجوبان؟ وجوب إکرام زید لمجیئه، ووجوب آخر لإکرامه حیث قرأ القرآن، وعلیه فهل أنهما یمتثلان بامتثال واحد أو أن کل منهما یمتثلان بامتثال واحد؟ أم یثبت حکم واحد للإکرام؟

ص: 65

وهذا یتصور علی نحوین:

النحو الأول: ما یسمی بتداخل الأسباب وکان سیدنا الأستاذ الشهید یستحسن أن یسمیه بالتداخل فی الجعل. وهو أن نفترض أن کلاً من الشرطین (المجیء والقراءة) سبب مستقل للجزاء (لوجوب الإکرام)، لکن هذین السببین إذا اجتمعا معاً فهما یحققان حکماً واحداً ویولّدان وجوباً واحداً.

النحو الثانی: ما یسمی بتداخل المسببات وکان سیدنا الأستاذ الشهید رضوان الله علیه یستحسن أن یسمیه بالتداخل فی الامتثال. وهو أن نفترض أن کلاًّ من الشرطین سبب مستقل للحکم، لکن یکفی فی امتثالهما الإتیانُ بفرد واحد من الطبیعة.

سؤال: وهو أنه ما هو الفرق بین هذا البحث وبین بحثنا السابق؟ فإننا درسنا فی التنبیه السابق تعدد الشرط واتحاد الجزاء فی دلیلین منفصلین!

الجواب: البحثان متشابهان فإن البحث یدور فی کلیهما حول ما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء، لکن الفرق بینهما واضح، حیث کنا نبحث - فی التنبیه السابق - عن موضوع وجوب القصر، أی: ما هو السبب الحقیقی للجزاء؟ هل هو کل من خفاء الأذان وخفاء الجدار مستقلاً (أی: یکفی أحدهما لثبوت الحکم) أو لابد من اجتماعهما (فإن إطلاق المنطوق کان یقتضی أن یکون کل واحد منهما مستقلاً هو السبب الحقیقی للحکم، بینما إطلاق المفهوم فی کل منهما کان یقتضی أن یکون مجموعهما هو السبب الحقیقی للحکم). ولکن فی المقام یدور البحث عن تداخل الشرطین بعد الفراغ عن أن کلاًّ منهما سبب مستقل.

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

ص: 66

بعد أن بیّنّا الفرق بین التنبیه الثامن والتاسع، حیث قلنا إن الأول کان یدور حول أن کلًّ من الشرطین هل هو سبب مستقل للحکم المذکور فی الجزاء أو أن مجموعهما سبب للحکم. إطلاق المنطوق کان یقول بأن کلا منهما سبب مستقل وإطلاق المفهوم کان یقول بأن مجموعهما سبب مستقل، فکانا یتعارضان بالشرح المتقدم. أما البحث الحالی فی هذا التنبیه یدور حول ما إذا کان هذان الشرطان بعد الفراق عن أن کلاً منهما سبب مستقل للحکم وثبوت أن کلاًّ من الشرطین سبب مستقل للحکم یدور البحث هنا حول تداخل هذین السببین وعدم تداخلهما.

أما صورة التعارض فی التنبیه الحالی فهی علی شکلین:

1- الصورة البدائیة للتعارض، وهی التی سنطرحها الآن.

2- الصورة المعمقة للتعارض، وهی التی سوف تظهر من خلال البحث.

أما الصورة البدائیة فهی عبارة عن تعارض ظهور الشرط مع ظهور الجزاء. فإن الشرط ظاهر فی أن له تأثیراً مستقلاً فی الجزاء. فعندما نقول: «إن جاء زید فأکرمه» ظاهر فی أن الشرط (المجیء) مؤثر مستقل فی وجوب إکرام زید، وهذا ظهور ثابت للشرط فی کل من الدلیلین (المجیء والقراءة). فلو لاحظنا هذا الظهور الثابت فی کل من الدلیلین فهو یقتضی عدم التداخل. والجزاء (أکرمه) فی کل من الدلیلین ظاهر فی إطلاق المادة، أی: طبیعی الإکرام، لا حصة خاصة من الإکرام. وهذا الظهور یقتضی التداخل فی تولید وجوب واحد للإکرام؛ لأن الإکرام مطلق ولا یجتمع علیه وجوبان؛ لاستحالة اجتماع المثلین. وسنصل بالتدریج إلی الصورة الأعمق للتعارض.

وقد ذکر المحقق الخراسانی(1) (2) (3) (4) (5) (6) (7) (8)

(10) فی المقام کلاماً قال فیه: إن البحث الحالی مبتنٍ علی أن نختار فی البحث السابق أن کلاًّ من الشرطین سبب مستقل للحکم، وحینئذ یأتی السؤال بأنهما هل یولدان حکماً واحداً أم یولدان حکمین؟ أما لو اخترنا فی ذاک البحث السابق العکسَ، أی: اخترنا أن کلاً من الشرطین جزء علة ولیس علة تامة، فینتفی موضوع البحث الحالی؛ لأنه لا یوجد لدینا شرطان کی نبحث عن تداخلهما أو عدم تداخلهما؛ لأننا افترضنا أن کل من الشرطین جزء علة، فلدینا سبب واحد وهو عبارة عن مجموع الشرطین، ولا کلام فی السبب الواحد، فالسبب الواحد یولّد حکماً واحداً، لا غیر.

ص: 67

وهذا الکلام صحیح إلا أنه ربما یفهم منه الطولیة بین البحثین. أی: یجب أن یدرس الدارس ذاک البحث ثم یأتی إلی هذا البحث. وإنما یرید أن یقول بأن علی الباحث لهذا البحث أن یختار ذاک المبنی فی البحث السابق. أما أن هذا البحث فی طول ذاک البحث فلیس کلامه ظاهراً فی الطولیة.

ولکی یتضح لنا عدم الطولیة بینهما بمعنی أنه لابد للأصولی من أن یدرس ذاک البحث أولاً ثم بعد ذلک یدرس هذا البحث، ینبغی أن نلتف إلی نکتتین:

النکتة الأولی: هی أن النسبة بین هذا البحث والبحث السابق هی العموم والخصوص من وجه. فعندنا مادة الافتراق ومادة الاجتماع، ندرسهما کالتالی:

أما مادة افتراق البحث الحالی فنذکرها فی أربعة موارد:

المورد الأول: ما لو أنکرنا مفهوم الشرط أساساً فلا یبقی موضوع للبحث السابق، حیث أنه کان مبتنیاً علی القول بمفهوم الشرط(11) (12)

) کی یتعارض إطلاق المفهوم مع إطلاق المنطوق.

المورد الثانی: ما إن اعترفنا بمفهوم الشرط مبدئیاً لکن لم تتم شروط مفهوم الشرط فی موردٍ مَّا؛ فمن شروط المفهوم أن لا تکون للکلام قرینة تدل علی أن المتکلم لم یقصد المفهوم.

المورد الثالث: ما إن علمنا خارجاً (لا من خلال قرینة فی الکلام) بأن هذا الکلام لا مفهوم له والمتکلم لم یقصد المفهوم. کما إذا قال: «إن نمت فتوضأ» وقال فی دلیل آخر: «إن بلت فتوضأ»، فإننا نقطع بأنه لا مفهوم لکل من الکلامین، لا لأن الشرط لا مفهوم له کلیةً، لکن فی خصوص هذا الکلام عندنا ضرورة فقهیة قائمة علی أن موجبات الوضوء غیر منحصرة بالبول والنوم.

ص: 68

المورد الرابع: ما إن کانت القضیتان الواردتان فی هذین الدلیلین المنفصلین من القضایا الحملیة، لا الشرطیة. مثلاً ورد دلیل یقول: «ارتماس الصائم فی الماء یوجب الکفارة» وورد دلیل آخر یقول: «جماع الصائم یوجب الکفارة». فلا مجال للبحث السابق فی مثل هذا المورد، فإن البحث السابق کان یدور رحاه حول القضیة الشرطیة التی لها مفهوم، وهنا لا قضیة شرطیة حتی یثبت لها مفهوم.

أما مادة افتراق البحث السابق وهی عبارة الموارد التی لا یعقل فیها تعدد الحکم فیکون مجالها البحث السابق، لا البحث الحالی. فالبحث الحالی لیس له مجال فی مثل خفاء الأذان والجدار؛ لأن التداخل واضح فیه؛ إذ من الواضح أنه إن اجتمعا علی المسافر معاً لا یوجب علیه وجوبان لتقصیر تلک الصلاة التی کان یصلیها تامةً، ولا تتکرر مرتین. بینما له مجال فی البحث السابق کما بحثناه، بأنه هل کل منهما سبب مستقل لوجوب القصر أو مجموعهما سبب له.

وأما مادة اجتماع البحثین (أی: المورد الذی فیه مجال لکلا البحثین) عبارة عما إذا قلنا بمفهوم الشرط وکان للدلیلین مفهوم وأمکن تعدد الحکم. ومثاله ما تقدم فی بدایة بحث الیوم (المجیء والقراءة). فالبحث السابق له مجال لأنه یدرس بأن موضوع وجوب الإکرام هل هو عبارة عن کل من الشرطین مستقلاً؟ أو أن مجموعهما سبب وکل منهما جزء علة؟ المفهوم یثبت الأول والمنطوق یثبت الثانی. فیتعارضان فیکون للبحث السابق مجال. والبحث الحالی له مجال لأنه إن ثبت أن کلا من الشرطین سبب مستقل فهل أن هذین السببین إن اجتمعا علی المکلف یولِّدان وجوباً واحداً للإکرام - أی: یتداخلان - أو لا یولِّدان وجوبین؟

هذا تمام الکلام فی النکتة الأولی.

ص: 69

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

قلنا إن البحث الحالی یختلف عن البحث السابق وبینا هذا الاختلاف والفرق وذکرنا أیضاً أنه لا طولیة بین البحثین وقلنا إنه لکی یتضح عدم الطولیة ینبغی الالتفات إلی نکتتین:

النکتة الأولی ما ذکرناه فی الدرس السابق، وهو أن النسبة بین البحثین العموم والخصوص من وجه، وقد شرحنا ذلک.

والنکتة الثانیة هی أنه فی مادة الاجتماع، عندما یجتمع البحثان فی مورد، وقد ذکرنا هذا المورد فی الدرس السابق، حینئذ لا یکون البحث الحالی فی طول البحث السابق، بل أن الطولیة بمعنی أن أحد البحثین مبنی علی بعض المبانی فی البحث الآخر، الطولیة بهذا المعنی ثابتة من کلا الطرفین، ولیست من طرف واحد. یعنی: البحث الحالی مبتن علی بعض مبانی البحث السابق، وکذلک البحث السابق مبتن علی بعض مبانی البحث الحالی، کما ینتفی البحث الحالی فی هذا التنبیه إذا بنینا علی بعض المبانی فی البحث السابق، کذلک العکس، ینتفی البحث السابق إذا بنینا علی بعض المبانی فی بحثنا الحالی.

مثلا لو اخترنا فی البحث السابق أن کلا من الشرطین جزء العلة للحکم، أی: قدمنا إطلاق المفهومین وقیدنا إطلاق المنطوقین، فإن الأخیر کان یقتضی أن کل من الشرطین سبب مستقل وعلة تامة، فإذا بنینا فی البحث السابق علی هذا المبنی واخترنا هذا الطریق فسوف ینتفی هذا البحث فی هذا التنبیه الحالی. فإذا کان هناک سبب آخر للحکم مرکب من جزئین، فلا معنی للسبب الواحد أن نبحث عن أنه هل یتداخل أو لا یتداخل؟ فلا معنی للتداخل أساساً.

ص: 70

فالبحث الحالی مبتن علی أن نقدم إطلاق المنطوقین، وبالعکس. أی: لو اخترنا فی البحث الحالی حیث قلنا إنه یتعارض ظهور الشرط مع ظهور الجزاء، ظهور الشرط یقتضی عدم التداخل، وظهور الجزاء یقتضی التداخل. لو رفعنا الید عن إطلاق المادة فی الجزاء وقیدنا هذا الإطلاق، فسوف ینتفی البحث السابق، فهذا التعارض سوف لا یبقی له مجال (إذا قیدنا إطلاق المادة فی الجزاء)، فمعنی ذلک أن حصة خاصة من المادة (إکرام) تجب بسبب هذا الشرط (مجیء زید)، فحصة خاصة من الإکرام تثبت بمجیء زید، وحصة خاصة من الإکرام تثبت وتجب بقراءة زید القرآن، هکذا یصبح منطوق الدلیلین، ولیس طبیعی الإکرام، بل حصة من الإکرام. والمفهوم هو انتفاء هذه الحصة بانتفاء هذا الشرط، وتنتفی تلک الحصة بانتفاء قراءة القرآن. فلا تعارض أساساً بین المفهوم والمنطوق. المفهوم یقول: بانتفاء المجیء تنتفی حصة خاصة من الإکرام، ومنطوق ذاک یقول: بانتفاء قراءة القرآن تنتفی الحصة الأخری من الإکرام. فلا یبقی مجال للبحث السابق.

إذن اتضح أن الطولیة ثابتة من کلا الطرفین. ومن هنا ینفتح باب للبحث وهو هل الفقیه علیه أن یبدأ بالبحث السابق؟ أم یجب علیه أن یبدأ بهذا البحث الحالی؟ فإن النتیجة قد تختلف إذا بدأ بذاک البحث عما إذا فتح بهذا البحث.

مثلا إذا بدنا بذاک البحث فقد یختار الفقیه أن کلا من الشرطین جزء العلة للحکم، ومجموعهما سبب واحد، وحینئذ حینما یصل إلی هذا البحث فی هذا التنبیه لا یجد مجالاً لهذا البحث. لأنه لا یجد سببین مستقلین للحکم هنا حتی یبحث عن تداخلهما أو عدم تداخلهما، بل یجد سببا واحداً. والعلة الواحدة تولِّد حکماً واحداً. وبالتالی یفتی هذا الفقیه بأنه لا یثبت علی هذا المکلف إلا حکم ووجوب واحد. هذا إن بدنا بذاک البحث.

ص: 71

لکن إذا بدأ الفقیه بهذا البحث فقد یختار فی هذا البحث (التعارض فیه بین ظهور الشرط وظهور الجزاء) رفع الید عن إطلاق الجزاء (تقیید المادة)، وهذا معناه أنه تجب بسبب کل من الشرطین حصةٌ خاصة من طبیعی الإکرام. غیر الحصة التی تجب بسبب قراءة القرآن. وحینئذ إذا اختار هذا، فحینما یصل إلی ذاک البحث لا یجد مجالاً له؛ لأن البناء هناک کان علی تعارض المفهوم والمنطوق، ولا تعارض بینهما (فإن منطوق «إن جاء زید فأکرمه» هو ثبوت وجوب الإکرام عند مجیء زید، ومفهوم «إن قرأ زید القرآن فأکرمه» هو انتفاء وجوب حصة من الإکرام). فلا تعارض بین ثبوت وجوب حصة من الإکرام بالمجیء وانتفاء وجوب حصة من الإکرام بانتفاء قراءة القرآن. فیفتی الفقیه بأن إذا اجتمع المجیء مع قراءة القرآن یثبت علی المکلف وجوبان. فرأینا أن النتیجة تختلف فیما إذا بدأ بذاک البحث عما إذا بدأ بهذا البحث. فماذا یصنع؟ فهل یمارس الفقیه البحثین فی عرض واحد معاً؟ أم یقدم أحدهما علی الآخر؟ أو یخیّر فی البدء بأیهما شاء؟ أو یقال رأساً بعدم وجود بحثین وإنما عندنا بحث واحد یتطرق له الفقیه؟ کل هذا لا سبیل إلیه وذلک کالتالی:

أما الأول: أن نقول یمارس البحثین معاً فی عرض واحد، فقد قلنا إن البحثین فی طول الآخر ولیس فی عرض الآخر. أی: حل کل من التعارضین یؤثر علی حل التعارض الآخر.

وأما الثانی: أنه یبدأ بأحدهما معیناً دون الآخر، فهذا ترجیح بلا مرجح.

وأما الثالث: وهو أن یکون مخیَّراً، فغیر معقول أیضاً؛ لما قلنا بأن النتیجة تختلف إذا بدأ بهذا دون ذاک.

وأما الرابع: بأن نقول إن البحثین - أساساً - بحث واحد، وإن التعارضین متحدان فی تعارض واحد رباعی الأطراف، فلا یوجد عندنا تعارضان حتی یقال بأیهما یبدأ الفقیه؟ بل هناک تعارض واحد بین أربعة أطراف هی: إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم وظهور الشرط وظهور الجزاء. وهذا الکلام أیضاً غیر صحیح، وذلک لأنه لیس عندنا تعارض واحد ذو أربعة أطراف؛ لأن آیة وحدة التعارض وعلامتها هی أنه إذا رفعنا الید عن أحد هذه الأمور یسلم الباقی.

ص: 72

هنا إذا رفعنا الید عن إطلاق المنطوق (الذی کان یقتضی بأن کل من الشرطین علة تامة مستقلة) فیرتفع التعارض بین ظهور الشرط (یقتضی عدم التداخل) وظهور الجزاء (یقتضی التداخل)، ولکن السبب الواحد لا قابلیة فیه للتداخل وعدم التداخل.

فالتعارض بین ظهور الشرط وظهور الجزاء وإن کان یرتفع برفع الید عن إطلاق المنطوق، لکن هذا التعارض لا یرتفع برفع الید عن إطلاق المفهوم، أی: قدمنا إطلاق المنطوق (هذا الشرط سبب مستقل وذاک الشرط أیضاً سبب مستقل) علی إطلاق المفهوم وقلنا بأن کل الشرطین سبب مستقل، حینئذ نری أن التعارض بین ظهور الشرط وظهور الجزاء باق.

أو مثلاً أنکرنا المفهوم، ولم نقدم إطلاق المفهوم علی إطلاق المفهوم، وأساساً کنا من منکری مفهوم الشرط، فلا یرتفع التعارض بین ظهور الشرط وظهور الجزاء کما قلنا سابقاً، مع ذلک الشرط ظاهر فی أنه مؤثِّر مستقل یولِّد حکماً مستقلاً والجزاء ظاهر فی أن الطبیعی هو المعلق علی الشرط، والطبیعی لا یمکن أن یکون له مولدان. فیبقی التعارض بین ظهور الشرط وظهور الجزاء، حتی لو رفعنا الید عن إطلاق المفهوم وقدمنا إطلاق المنطوق.

هذا معناه إذن، لیس التعارض تعارضاً واحداً، فلو کان التعارض واحداً فبرفع الید عن أحد هذه الأربعة ینحل التعارض. بینما لیس هکذا فقد رأینا أنه حتی لو رفعنا الید مثلا عن إطلاق المفهوم وقدمنا إطلاق المنطوق سوف نجد أن التعارض بین ظهور الشرط وظهور الجزاء باق. وهذا معناه أنه یوجد تعارض بین ظهور الشرط وظهور الجزاء وأیضاً یوجد تعارض آخر بین المنطوق والمفهوم. أی: تعارضین ولیس تعارضاً واحداً.

کذلک العکس، یعنی: التعارض بین إطلاق المنطوق (الذی یقتضی کون کل من الشرطین سبباً مستقلاً) مع إطلاق المفهوم (الذی یقتضی کون کل من الشرطین جزء السبب)، وإن کان یرتفع هذا التعارض فیما إذا رفعنا الید عن ظهور الجزاء (الذی یقتضی التداخل) وقیدنا إطلاق المادة وقلنا: إن حصة من الإکرام تجب بسبب المجیء وحصة أخری من الإکرام تجب بسبب قراءة القرآن، أی: رفعنا الید عن ظهور الجزاء، فحینئذ لا یبقی تعارض بین إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم، لأن المنطوق یصبح عبارة عن أنه یجب حصة من الإکرام بالمجیء وینتفی وجوبها بانتفاء المجیء، وتجب حصة أخری من الإکرام بقراءة القرآن وینتفی وجوبها بانتفاء قراءة القرآن. فلا تعارض بین المفهوم والمنطوق.

ص: 73

لکن هذا التعارض بین إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم لا یرتفع إذا رفعنا الید عن ظهور الشرط (دون ظهور الجزاء) ولیس ظهور الجزاء (أی: المادة مطلقة فی الجزاء، والإکرام یعنی طبیعی الإکرام ولیس حصة منه) وقلنا بأن السببین یتداخلان عند ما یجتمعان ویولِّدان وجوباً واحداً علی المکلف، لکن ما دام متعلق هذا الوجوب الواحد عبارة عن طبیعی الإکرام (لأننا افترضنا أن وجوب الإکرام باق) یبقی التعارض بین إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم؛ لأن المنطوق یقول: الشرطان کل منهما سبب مستقل لوجوب طبیعی الإکرام، بینما المفهوم یقول: الشرطان کل منهما جزء سبب لوجوب طبیعی الإکرام. فیبقی التعارض علی حاله.

إذن لا یوجد لدینا تعارض واحد رباعی الأطراف. وعلیه فالسؤال الذی طرحناه ما زال باقیاً. فإن النتیجة قد تختلف عما إذا بدأ بهذا أو بدأ بذاک.

الجواب: هو أن النتیجة وإن کانت تختلف إذا بدأ بهذا عما إذا بدأ بذاک، إلا أنه مع ذلک لا محذور فی البدء بأیهما، ولا یجب أن یبدأ بالبحث السابق قبل هذا البحث، أو العکس. إذ لا طولیة من طرف واحد بین البحثین بل الطولیة من الطرفین، أی: البحثان بحسب طبیعتهما فی عرض واحد؛ لأن کل واحد منهما یعالج تعارضاً غیر التعارض الذی یعالجه البحث الآخر. أی: عندنا تعارضان ولیس تعارض واحد رباعی الأطراف. لکن کل من التعارضین ثلاثی الأطراف. ولا طولیة بین التعارضین أبداً.

البحث السابق (فی التنبیه المتقدم) یعالج تعارضاً ثلاثی الأطراف وهو تعارض بین إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم وظهور الجزاء فی کون الواجب هو الطبیعی. وإنما نقول: التعارض الذی یتکفل ذاک البحث بعلاجه ثلاثی الأطراف، لأن العلامة التی ذکرناها لوحدة التعارض موجودة، فإن التعارض یرتفع بأکمله بسبب رفع الید عن أحد هذه الأطراف الثلاثة. فمثلاً لو رفعنا الید عن إطلاق المنطوق، أی: قلنا بأن کل من الشرطین جزء السبب، فلا یبقی التعارض بین إطلاق المفهوم وبین ظهور الجزاء. مادام أصبح کل من الشرطین جزء السبب (أی: مجموع الشرطین سبب واحد لوجوب الطبیعی) وظهور الجزاء محفوظ، وبانتفاء هذا السبب ینتفی وجوب الطبیعی. وکذلک إذا رفعنا الید عن إطلاق المفهوم، وکذلک إذا رفعنا الید عن الجزاء. وتکملة البحث إن شاء الله غداً.

ص: 74

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

قلنا: إنه لا محذور فی أن یبدأ الفقیه والباحث بأی من البحثین، لا یجب علیه أن یبدأ بالبحث السابق قبل البحث الحالی. وذلک لأنه لا توجد طولیة بینهما بحیث یکون بحثنا الحالی فی طول ذاک البحث. لأننا عرفنا أن الطولیة ثابتة من کلا الطرفین بالمعنی الذی ذکرناه بالأمس، وهو أنه کل من البحثین مبنی علی بعض مبانی البحث الآخر. فالبحثان فی عرض بعضهما البعض. والتعارضان عرضیان، وکل من هذین التعارضین ثلاثی الأطراف ولا توجد طولیة بین هذین التعارضین.

وتوضیح ذلک أن البحث السابق فی التنبیه المتقدم یعالج تعارضاً ثلاثی الأطراف، وهو تعارض إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم، وظهور الجزاء فی أن الواجب هو الطبیعی لا الحصة. هذا التعارض تعارض واحد بین هذه الأطراف الثلاثة، وهو التعارض الذی یتکفل البحث السابق لعلاجه وحله، وعلامة کون هذا التعارض ثلاثی الأطراف هو أنه لو رفعنا الید عن أحد هذه الأطراف الثلاثة - أیاً کان - یرتفع التعارض.

فلو رفعنا الید عن إطلاق المنطوق (المقتضی بأن کل من الشرطین سبب تام وعلة تامة) وقلنا بأن کل من الشرطین جزء علة، فحینئذ لا یبقی تعارض بین الطرفین الآخرین (إطلاق المفهوم وظهور الجزاء فی الطبیعی)، فیمکننا الأخذ بهما معاً (إطلاق المفهوم وظهور الجزاء). والنتیجة هی أنه یکون مجموع الشرطین سبباً تاماً لوجوب الطبیعی. مثلاً مجموع مجیء زید وقراءة القرآن یکون سبباً تاماً لوجوب طبیعی الإکرام. فکل من الشرطین إذا انتفی ینتفی وجوب طبیعی الإکرام (وهذا هو إطلاق المفهوم).

ص: 75

ولو رفعنا الید عن إطلاق المفهوم المقتضی أن کلاً من الشرطین جزء العلة، فبانتفاء کل منهما ینتفی الحکم، وهذا هو إطلاق المفهوم. فلو رفعنا الید عن هذا الإطلاق وقلنا بأن کل من الشرطین سبب مستقل للجزاء فسوف لا یبقی تعارض بین الطرفین الآخرین من الأطراف الثلاث. (أی: لا یبقی تعارض بین إطلاق المنطوق وظهور الجزاء فی أن الواجب هو الطبیعی). بل تکون النتیجة أن کلاً من الشرطین (قراءة القرآن ومجیء زید) سبب مستقل لوجوب طبیعی الإکرام. وبانتفائهما معاً ینتفی وجوب الطبیعی، ولکن بانتفاء أحدهما لا تنتفی الطبیعی. فیرتفع التعارض بینهما.

ولو رفعنا الید عن ظهور الجزاء فی کون الواجب هو الطبیعی (وقلنا بأن الجزاء وجوب حصة خاصة من الإکرام)، أیضاً سوف نری أنه لا یبقی تعارض بین إطلاقی المفهوم والمنطوق، بل یمکننا أن نأخذ بهما معاً، نأخذ بإطلاق المنطوق أی نقول: کل من مجیء زید وقراءته للقرآن سبب مستقل للوجوب، لکن لوجوب حصة من الإکرام، فاحتفظنا بإطلاق المنطوق. وکذلک احتفظنا بإطلاق المفهوم الذی مفاده: إذا انتفی کل من الشرطین ینتفی وجوب تلک الحصة من الإکرام، فإذا انتفی المجیء ینتفی وجوب تلک الحصة من الإکرام التی کان وجوبها مشروطاً بالمجیء، وإذا انتفت قراءة القرآن أیضاً ینتفی وجوب تلک الحصة من الإکرام المشروطة بقراءة القرآن.

إذن، البحث السابق کان یعالج تعارضاً واحداً بین ظهورات ثلاثة، وهذه الظهورات الثلاثة کانت تتعارض فی تعارض واحد، وعلامة وحدة التعارض هی أنه إن رفعنا الید عن أحد هذه الظهورات الثلاثة سوف لا یبقی تعارض بین الآخرین. وهذا معناه أن التعارض ثلاثی الأطراف. هذا ما کان یعالجه بحثنا السابق.

البحث الحالی أیضاً یعالج تعارضاً واحداً ثلاثی الأطراف، لکن هذا التعارض غیر ذاک التعارض، وأطرافه غیر تلک الأطراف، وإنما البحث الحالی یعالج تعارضاً بین ظهورات ثلاثة:

ص: 76

1- ظهور الشرط.

2- ظهور الجزاء.

3- إطلاق المنطوق.

فلو ورد: «إن جاء زید فأکرمه» ودلیل آخر یقول: «إن قرأ زید القرآن فأکرمه»، فنحن نرید فی البحث الحالی أن نعرف لو اجتمع الشرطان معاً فهل یحصل التداخل بین الشرطین؟ أی المجیء والقراءة یتداخلان ویولدان وجوباً واحداً؟ أو یولدان وجوبین اثنین؟

فنحن فی هذا البحث نعالج تعارضاً واحداً. ظهور الشرط (وقد تقدم فی أول هذا التنبیه أن الشرط له ظهور فی أنه هو المؤثر مستقلاً، أی: مجیء زید هو المؤثر فی وجوب إکرامه) وکذلک الشرط الثانی ظاهر فی أنه مؤثر مستقل. فکل من الدلیلین شرطه ظاهر فی أنه مؤثر مستقل. ومعنی ذلک أنه إذا اجتمع الشرطان یولدان وجوباً واحداً علی طبیعی الإکرام.

والجزاء ظاهر فی أن الواجب هو طبیعی الإکرام. وهذا الظهور یقتضی عکس الظهور الأول الذی کان یقتضی عدم التداخل، هذا الظهور یقتضی التداخل. إذ من الواضح أن طبیعی الإکرام لا یتعلق به وجوبان، لأنه یصبح من اجتماع المثلین وهو مستحیل.

والطرف الثالث فی هذا التعارض هو إطلاق المنطوق القائل بأن کل من الشرطین سبب تام ولیس جزء علة (مجیء زید علة تامة لوجوب إکرامه وکذلک قراءة القرآن علة تامة لوجوب إکرامه) وإطلاق المنطوق یقتضی أنه إذا اجتمع المجیء مع قراءة القرآن، فلا یمکن اجتماع علتین تامتین، فلا بد وأن یصبح کل منهما جزء علة، وإذا أصبح جزء علة فمجموعهما علة واحدة، والعلة الواحدة تولد معلولاً واحداً، أی: یوجد تداخل.

فهناک تعارض واحد ثلاثی الأطراف بین ظهور الشرط الذی یقتضی عدم التداخل، وظهور الجزاء الذی یقتضی التداخل، وظهور المنطوق (وإطلاقه) الذی یقتضی عدم التداخل.

ص: 77

فلو رفعنا الید عن ظهور الشرط وقلنا بأن الشرطین (المجیء وقراءة القرآن) إذا اجتمعا یتداخلان ویوجدان وجوباً واحداً، فلا یبقی تعارض بین الطرفین الآخرین. ظهور الجزاء محفوظ یعنی طبیعی الجزاء. وإطلاق المنطوق أیضاً محفوظ (وهو کان یقتضی أن یکون کل من الشرطین علة تامة لوجوب طبیعی الإکرام). لکن إذا اجتمعا یولدان وجوباً واحداً. (فانکسر ظهور الشرط فی عدم التداخل).

ولو رفعنا الید عن ظهور الجزاء (والجزاء کان ظاهراً فی أن الواجب هو طبیعی الإکرام لا الحصة) وقلنا: الواجب حصة من الإکرام ولیس طبیعی الإکرام، فلا یبقی تعارض بین ظهور الشرط وبین إطلاق المنطوق. بل تکون النتیجة عبارة عن أن کلا من الشرطین (المجیء وقراءة القرآن) اللذین هما سبب مستقل للوجوب، کل منهما یکون مؤثراً علی نحو الاستقلال - إذا اجتمعا معاً - فی إیجاد وجوب متعلق بحصة من الإکرام. المجیء وقراءة القرآن إذا اجتمعا المجیء یولد مستقلاً لحصة من الإکرام وکذلک قراءة القرآن تولد حصة مستقلة من وجوب الإکرام. فلا تعارض بین ظهور الشرط وبین إطلاق المنطوق.

والمجیء حتی عند اجتماعه مع قراءة القرآن مؤثر مستقل. فإن کل منهما یوجب وجوباً وکل وجوب متعلق بحصة من الإکرام. فلا یبقی تعارض.

وکذلک لو رفعنا الید عن إطلاق المنطوق (الذی کان یقتضی أن یکون کل من الشرطین علة تامة، لا جزء علة) وقلنا بأن کلا منهما جزء علة، ومجموعهما علة تامة للحکم، حینئذ لا یبقی تعارض بین ظهور الشرط وظهور الجزاء. فإن ظهور الشرط کان یقتضی عدم التداخل، وظهور الجزاء کان یقتضی التداخل. وحیث لا یوجد لدینا سببان للحکم فلا موضوع للتداخل، فإن التداخل فرع أن یکون لدینا سببان حتی بعد ذلک نبحث هل یتداخلان أو لا؟ فهذا من السالبة بانتفاء الموضوع. وإنما یوجد سبب واحد لوجوب واحد وهذا الوجوب متعلق بالطبیعی.إذن فالبحث الحالی أیضاً یعالج تعارضاً ثلاثیاً.

ص: 78

فالحاصل أن البحث یقتصر فی ثلاث نقاط:

النقطة الأولی: کل بحث یعالج تعارضاً غیر التعارض الذی یبحث عنه البحث الآخر.

النقطة الثانیة: التعارض ثلاثی الأطراف.

النقطة الثالثة: لا طولیة بین التعارضین.

ولندخل فی صلب البحث ونفرض الکلام فی مورد لا إشکال فی أن الأسباب متعددة، أی: کل من الشرطین المذکورین فی هذین الدلیلین سبب مستقل للجزاء (وللحکم). بحیث أن قراءة القرآن سبب مستقل لوجوب إکرام زید، وکذلک مجیء زید سبب مستقل لوجوب إکرامه. فهل نقول بالتداخل وتولید وجوب واحد أم لا؟

یجب البحث عن جهات عدیدة:

الجهة الأولی: مقتضی الأصل العملی (بالنسبة إلی الأسباب وأیضاً بالنسبة إلی المسببات).

هنا تارة نفترض أن الحکم المذکور فی الجزاء حکم وضعی، لا تکلیفی. من قبیل ما إذا ورد فی دلیل: «إن بلت فتوضأ» وورد فی دلیل آخر: «إن نمت فتوضأ» وهذا المکلف اجتمع علیه کلا الأمرین. نام وبال. فنرید أن نعرف یتداخلان أو لا؟

والجزاء هناء حکم وضعی، أی: کون النوم والبول ناقضین للوضوء، هذا حکم وضعی. وکذلک هذا الوجوب وجوب شرطی ووضعی، أی: لکی تصح صلاتک یجب علیک الوضوء. وإلا فلیس الوضوء حکماً تکلیفیاً بحیث أنه لو ترک الوضوء عصی.

فإن کان الشک فی تداخل الأسباب، بمعنی أننا نشک فی أن النوم والبول لو اجتمعا معاً فهل یوجبان حکماً وضعیاً واحداً (أی: یتداخلان) أو لا یتداخلان، بل کل منهما یوجب حکماً وضعیاً مستقلاً، أی: تداخل المسببات.

الجواب: الأصل العملی یقتضی التداخل، وذلک لأن الأصل العملی هنا عبارة عن الاستصحاب. فإنه بعد أن نام ثبت علیه حکم وضعی واحد، ثم بعد ذلک بال، فنشک بعد أن بال هل ثبت علیه حکم وضعی ثان؟ فنجری الاستصحاب بأنه لا یوجد حکم وضعی آخر بسبب البول. وهذا معناه أن مقتضی الأصل العملی وهو الاستصحاب هو التداخل. هذا بالنسبة إلی تداخل الأسباب.

ص: 79

أما إذا شککنا فی تداخل المسببات بعد العلم بعدم تداخل الأسباب، مثلاً: ورد فی دلیل یقول: «إن اجنبت فاغتسل» وورد فی دلیل آخر: «إن مسست المیت فاغتسل» وهذا المکلف أجنب وأیضاً مس المیت. فهنا من ناحیة الأسباب لا شک لدینا، فإن الأسباب لم تتداخل، فإن مس المیت حدث مستقل یوجب الغسل کما أن الجنابة حدث مستقل یوجب الغسل. فهناک حدثان اجتمعا علی هذا المکلف، ولیس حدیثاً واحداً، وهذا ما نعلم به. وإنما نشک فی أن هذین الحدثین هل یرتفعان بحدث واحد، أی: بغسل واحد؟ أو لا یکتفی الاکتفاء بغسل واحد؟

الجواب: الأمر هنا ینعکس، الأصل العملی یقتضی عدم التداخل. وذلک بنفس الأصل العملی الذی هو الاستصحاب. فلو اغتسل مرة یشک فی أن الحدث الثانی أیضاً ارتفع بهذا الغسل أو لا؟ أی: الحکم الوضعی الثانی سقط بهذا الغسل الواحد أو لا؟ قبلاً لم یکن ساقطاً والآن یشک، ومقتضی الاستصحاب عدم سقوط الحدث بهذا الغسل الواحد. وهذا معناه عدم تداخل المسببات.

هذا کله إذا افترضنا أن الحکم وضعی، وأما لو افترضنا أن الحکم تکلیفی فیأتی غداً.

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

قلنا إن البحث فی التداخل وعدم التداخل یقع فی جهات ثلاث:

الجهة الأولی: فیما یقتضیه الأصل العملی.

الجهة الثانیة: فی تحریر محل النزاع وتحقیق ما هو داخل فی محل النزاع وما هو خارج منه.

الجهة الثالثة: بیان واقع الحال فی المسألة، هل نقول بالتداخل أو نقول بعدم التداخل.

ص: 80

أما الکلام فی الجهة الأولی: قلنا بالأمس تارة نفترض أن الحکم المفروض فی الجزاء حکم وضعی من قبیل الحدث ومن قبیل وجوب الوضوء الذی هو وجوب شرطی ولیس وجوباً تکلیفیاً، إذا ورد فی دلیل قوله: «إن نمت فتوضأ» وفی دلیل آخر: «إن بلت فتوضأ». فهنا إذا نام وبال معاً هل یتداخل هذان ویوجدان حدثاً واحداً؟ أم لا یتداخلان، بل کل منهما یوجد حدثاً مستقلاً؟ هذا تداخل الأسباب.

وکذلک إذا أوجدا حدثین فهل أن الحدثین یسقطان بوضوء واحد أم أن کل منهما یحتاج إلی وضوء مستقل (هذا تداخل فی المسببات). فبینا بالأمس مقتضی الأصل العملی عند الشک فی تداخل السببین. وکذلک بینا مقتضی الأصل العملی فی تداخل المسببین.

الآن نفترض أن الحکم المذکور فی الجزاء حکم تکلیفی، من قبیل المثال الذی ذکرناه فی بدایة التنبیه: «إن جاء زید فأکرمه» وفی دلیل آخر: «إن قرأ زید القرآن فأکرمه» ونحن نفترض أنه تحقق منه کلا الأمرین، جاء وقرأ القرآن. فیقع البحث فی تداخل الأسباب وعدم تداخلها وتداخل المسببات وعدم تداخلها. فهنا فی هذه الجهة الأولی نرید معرفة الأصل العملی. علی فرض عدم استفادة شیء من الأصل اللفظی (الذی سندرسه فی الجهة الثالثة).

الأصل العملی فی صالح التداخل، یعنی: هذان السببان إذا اجتمعا علی المکلف لا یولدان أکثر من تکلیف واحد. وذلک لأن التکلیف الثانی مشکوک - حسب الفرض -، فإن زید إذا جاءنی وقرأ القرآن، فالوجوب الأول مقطوع به، والشک فی التکلیف الثانی یوجب البراءة عن التکلیف الثانی.

نعم إذا بنینا علی أحد أمرین فی الأصول، قد یمکننا أن نقول بأن الأصل العملی فی صالح عدم التداخل:

الأمر الأول: أن نبنی علی حجیة الاستصحاب التعلیقی (الذی لا یؤمن به المرزا ولا نحن فی المقام).

ص: 81

ومعنی الاستصحاب التعلیقی هو استصحاب قضیة شرطیة وتعلیقیة. مثل الزبیب الذی هو العنب الیابس، إذا علی یحرم أو لا؟ هذا هو الأمر المشکوک. العنب نفسه إذا غلی یحرم، أم الزبیب هل یمکن استخدامه فی الطبخ أو فی المرق أم لا؟

فلنفرض عدم وجود نص وروایة، فلجأنا إلی الأصل العملی. فیقال: مقتضی الاستصحاب التعلیقی حرمة الزبیب. والحرمة لیست فعلیة بل تعلیقیة. أی: هذا الزبیب عندما کان رطباً وعنباً لو کان یغلی کان یحرم، فالآن أیضاً لو یغلی فنستصحب القضیة الشرطیة. فهل هذا الاستصحاب حجة أو لا؟ هذا بحث یأتی فی محله.

قراءة القرآن لو تحققت قبل المجیء هل کانت تولد وجوباً أو لا؟ وحیث إنها کانت تولد وجوباً لو تحققت قبل المجیء، فالآن أیضاً تولد وجوباً بعد المجیء. ولکننا لا نبنی علی الاستصحاب التعلیقی فی مورد من هذا القبیل.

والأمر الثانی: أن نقول بجریان الاستصحاب فی القسم الثانی من أقسام الکلی. حیث جری بحث فی إمکانیة جریان الاستصحاب فی الکلی. والقسم الثانی منه هو أن نستصحب الکلی فیما إذا کان الکلی موجوداً ضمن فرد من أفراده، والآن قطعنا بارتفاع ذاک الفرد، لکن نحتمل متزامناً مع ارتفاع ذاک الفرد، وُجد فرد ثان من الکلی، فالکلی ما زال موجوداً ضمن الفرد الثانی.

مثلاً: کلی الإنسان کان موجوداً صباحاً فی المسجد، باعتبار أن زیداً کان فی المسجد. والآن نعرف أن زید خارج المسجد، لکن نحتمل أن عمرو دخل المسجد متزامناً مع خروج زید من المسجد. فکلی الإنسان متیقن صباحاً ومشکوک مساءً، وهذا یختلف عن استصحاب الفرد. وهذا أیضاً بحث لا نرید الدخول فیه الآن. لکن نقول: لو قلنا بجریان هذا النوع من الاستصحاب، ینفعنا فیما نحن فیه.

ص: 82

لأن کلی الوجوب تحقق وثبت فی ذمة هذا المکلف قطعاً، فی ضمن فرد من أفراده وهو الوجوب الناشئ من مجیء زید. هذا الوجوب امتثله المکلف، أکرم زیداً. لکن هل ما زال کلی الوجوب ثابتاً فی ذمته؟ نحتمل ثبوته فی ذمته، فیکون الاستصحاب فی صالح عدم التداخل، أی: استقرار تکلیف واحد فی ذمة المکلف. ولکن لا نبنی علی شیء من المبنیین.

ولذلک نرجع إلی ما قلناه فی البدایة وهو أن الأصل العملی فی صالح التداخل، لأن الأصل الجاری فی المقام هو البراءة عن التکلیف.

أما الکلام عن مقتضی الأصل العملی عند الشک فی تداخل المسببین وعدم تداخلهما بعد العلم بتداخل السببین، أو بعبارة أخری: هذا المورد من موارد جریان أی أصل من الأصول العملیة؟

هنا المحقق النائینی ره وکذلک تلمیذه البارز السید الأستاذ الخوئی ره ذکرا معاً وقالا: الأصل العملی یقتضی عدم التداخل، أی: لا یسقط التکلیفان بامتثال واحد، بل لا بد من امتثالین. وذلک لأن الشک هنا لیس فی ثبوت التکلیف، مثل ما کان فی المسألة الأولی (فی تداخل الأسباب) حتی نجری البراءة، وإنما الشک فی سقوطه، بل تجری أصالة الاشتغال(1) (2) .

واعترض علی هذا الکلام سیدنا الأستاذ الشهید رض قال: صحیح أن الشک هنا فی سقوط التکلیف، لکن الشک فی السقوط فی المقام یتصور علی نحوین:

النحو الأول: أن نشک فی السقوط بمعنی أننا نحتمل أن یکون هذا الإکرام الواحد والفعل الواحد مسقطاً شرعیاً وتعبدیاً لکلا التکلیفین. أی: أن یقبل المولی هذا الفعل الواحد بمنزلة فعلین. کأنه أکرم مرتین. و من هذا المنطلق نحتمل سقوط التکلیف. أی: الشک فی السقوط شک فی المسقطیة التعبدیة هذا الفعل والامتثال.

ص: 83

وفی هذا الفرض لو کان الشک فی السقوط بهذا المعنی، قد یتم کلام العلمین (المرزا والسید الأستاذ الخوئی) باعتبار أنه شک فی سقوط التکلیف فتجری أصالة الاشتغال، علی أننا نتحفظ علی کلامهما حتی فی هذا الفرض. یعنی لا نتکلم بالضبط والدقة بما قالا به، فإنهما ذکرا أصالة الاشتغال، والظاهر أن مقصودهما من أصالة الاشتغال هو أصالة الاشتغال العقلیة، یعنی: الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی؛ لأنه لا یوجد غیره، فإن الأصولیین لا یقبلون أصالة الاشتغال غیر العقلیة حیث یختلفون مع الأخباریین القائلین بأصالة الاحتیاط وأصالة الاشتغال الشرعیة. لکن أصالة الاشتغال العقلیة لیست مجراها هنا بالدقة؛ لأن الشک فی سقوط التکلیف هنا لیس عقلیاً، فإن فرضنا هو أننا نشک فی مسقطیة الفعل الواحد لکلا التکلیفین مسقطیةً شرعیة، لا مسقطیة شرعیة. فإن أصالة الاشتغال العقلیة (الاشتغال الیقینی یستدعی الفراغ الیقینی) تجری فیما إذا کنا نشک فی السقوط العقلی للتکلیف، لا فی السقوط الشرعی. مثلا: بعد الزوال بثلاث ساعات أشک بأننی هل صلیت أم لا، فهنا تجری: أصالة الاشتغال وأقول: الامتثال الیقینی یستلزم الفراغ الیقینی. فالشک فی السقوط وعدم السقوط لدی العقل، فهنا مجری أصالة الاشتغال العقلیة. وهنا یجب أن نجری أصلاً عملیاً شرعیاً. قبل أن نکرمه لم یکن التکلیف الثانی قد سقطاً قطعاً، وبعد الإکرام نشک فی أن التکلیف الثانی سقط بهذا التکلیف الواحد أم لا؟ مقتضی الاستصحاب عدم سقوطه.

فإذن، فی هذا الفرض الأول (فیما إذا کان الشک فی السقوط، شکاً فی سقوط التکلیفین شرعاً) النتتیجة کما قال العلمان عدم التداخل، غایة الأمر هما تمسکا بأصالة الاشتغال العقلیة، ونحن تمسکنا بالاستصحاب لإثبات عدم سقوط التکلیف وبالتالی عدم التداخل.

النحو الثانی: نحتمل أن یکون هذا الفعل مسقطاً لکلا التکلیفین عقلاً، باعتبار أن کلا من التکلیفین (وجوبی الإکرام) تعلق بطبیعی الإکرام ولم یتعلق بحصة خاصة من الإکرام، الکلی الطبیعی یوجد فی الخارج بوجود فرد من الإکرام، فنحن نحتمل أن هذا الفرد من الإکرام إیجاد للکلی الطبیعی الذی تعلق به الوجوب الأول، وأیضاً الکلی الطبیعی الذی تعلق به الوجوب الثانی. فالمکلف امتثل کلا التکلیفین. هذا شک فی المسقطیة العقلیة. وهذا نحو ثان من المسقطیة.

ص: 84

فی هذا الفرض قطعاً لا یتم کلام العلمین (المرزا والسید الأستاذ الخوئی)؛ لأن الشک فی سقوط التکلیف وعدم سقوط التکلیف راجع إلی الشک فی أن دائرة الواجب هل هی واسعة أو ضیقة؟ أی: الشک فی التعیین والتخییر (وهو من أقسام الأقل والأکثر). فتجری البراءة عن التعیین.

وهذا ما سوف نوضحه غداً.

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

کان الکلام فی مقتضی الأصل العملی فی فرض الشک فی تداخل المسببات بعد العلم بعدم تداخل الأسباب، فقلنا: إن المحقق النائینی ره والسید الأستاذ الخوئی رض أفادا أن مقتضی الأصل العملی فی هذا الفرض عدم التداخل، أی: کل من الوجوبین یحتاج إلی امتثال یخصه، فیمتثل المکلف مرتین؛ لأن الشک هنا شک فی سقوط التکلیف ولیس شکاً فی ثبوت التکلیف. فلو کان الشک شکاً فی ثبوت التکلیف لکان مجری للبراءة. فإن أصل ثبوت التکلیف معلوم. والمکلف یعلم بأنه اتجه إلیه وجوبان لإکرام زید، وجوب بسبب مجیء زید ووجوب آخر بسبب قراءة القرآن من قبل زید. إنما یشک المکلف فی أن التکلیفین هل یسقطان بامتثال واحد، والشک فی السقوط مجری لأصالة الاشتغال.

وأورد السید الأستاذ الشهید قده اعتراضاً علی هذا الکلام حیث قال: إن الشک فی السقوط یتصور علی نحوین:

النحو الأول ما تقدم ذکره وشرحه بالأمس، وهو ما یکون الشک فی السقوط شکاً فی المسقطیة الشرعیة لهذا الإکرام الواحد. ولنفرض (وذکرنا النکتة فی الافتراض) أن کلامهما ره تام فی هذا النحو.

ص: 85

النحو الثانی من الشک فی السقوط هو أن یکون الشک شکاً فی المسقطیة العقلیة لهذا الفعل. بمعنی أن المکلف یحتمل أن هذا الفعل الواحد عقلاً مسقط لکلا التکلیفین.

أی: أمامه احتمالان: احتمال أن یکون هذا الفعل الواحد عقلاً مسقطاً لکلا التکلیفین. واحتمال ثان: لا یکون مسقطاً عقلاً لکلا التکلیفین؛ لأنه إن کان کل من التکلیفین والوجوبین قد تعلق بطبیعی الإکرام، فالطبیعی عقلاً یوجد بوجود فرد واحد، فالفرد الواحد مسقط عقلاً للطبیعی. ولکن هذا نصف القضیة، واحتمال من الاحتمالین. والاحتمال الآخر یقول: لعل کل من الوجوبین لم یتعلق بطبیعی الإکرام، بل تعلق الوجوب بحصة من الإکرام والوجوب الآخر (بسبب قراءة القرآن) تعلق بحصة أخری من الإکرام. فالشک هنا فی المسقطیة العقلیة، وهذا النوع من الشک فی واقعه راجع إلی ضیق وسعة دائرة الواجب (الإکرام). أی: یدور أمر الواجب بین التعیین والتخییر. مثلما إذا علمنا بوجوب إکرام العالم، لکن هل یجب إکرام مطلق العالم؟ أو یجب إکرام خصوص العالم العادل؟ فدائرة الواجب مرددة عندی بین السعة والضیق!

ففی موارد الدوران تجری البراءة عن التعیین. کما حققناها فی محله ویأتی فی بحث البراءة والاشتغال. أی: من جملة موارد الأقل والأکثر دوران أمر الواجب بین التعیین والتخییر. وهو مثل جمیع موارد الدوران، فمثلاً التوسعة الجدیدة فی المسعی فی الصفا والمروة. نجری البراءة عن الأکثر الذی هو التقید بخصوص المسعی القدیم. وکذلک فی علو الجبلین، کما تقدم سابقاً.

هذا تمام الکلام فی الجهة الأولی.

أما الجهة الثانیة: وهی عبارة عن البحث عن محل النزاع. التداخل أو عدم التداخل فی أی مورد؟ فإنه لیس فی مطلق الموارد، وإنما لمحل النزاع معیار ومقیاس، والمعیار فی دخول شیء فی محل نزاعنا الحالی أو عدم دخوله هو کون الحکم المذکور فی الجزاء قابلاً للتعدد. کل مورد کان الحکم فیه قابلاً للتعدد یأتی هذا النزاع. أما إذا لم یکن الحکم فی نفسه قابلاً للتعدد فهکذا مورد خارج عن محل النزاع، ولیس له معنی أن نبحث عن التداخل أو عدم التداخل، إذا لم یثبت حکمان. لکن هذا یحتاج إلی توضیح:

ص: 86

توضیح ذلک: أن الحکم تارة یکون قابلاً للتعدد من ناحیة متعلقه، یعنی: باعتبار أن متعلقه قابل للتعدد فیکون الحکم قابلاً للتعدد. کهذا المثال «إن جاء زید فأکرمه» و«إن قرأ زید القرآن فأکرمه». فهذا الوجوب قابل للتعدد، أی: ممکن عقلاً أن یکون هناک وجوبین علی المکلف؛ لأن متعلق الوجوب وهو الإکرام قابل للتعدد والتکرر.

وأخری لا یکون الحکم قابلاً للتعدد من ناحیة متعلقه، وإنما قابل للتعدد والتکرر لسبب آخر.

القسم الثالث: أن لا یکون الحکم قابلاً للتعدد لا من ناحیة متعلقه ولا من ناحیة أخری.

أما القسم الأول: وهو الحکم القابل للتعدد من ناحیة متعلقه، هذا القسم لا شک فی دخوله فی محل النزاع. أی: اجتمع علی المکلف کلا الشرطین، بما أن زیداً جاء وقرأ القرآن أیضاً، والإکرام قابل للتعدد. فنبحث عن تداخل السببین وعدم تداخلهما وأیضاً نبحث عن تداخل المسببین وعدم تداخلهما.

أما القسم الثانی: وهو ما لو لم یکن الحکم قابلاً للتعدد والتکرر بلحاظ متعلقه، وإنما کان قابلاً للتعدد والتکرر بلحاظ غیر متعلقه. ومثاله ما لو کان الحکم قابلاً للتعدد بلحاظ الفاعل، أی: بلحاظ الشخص الذی یخاطَب لهذا الحکم. أی: الفاعل للمتعلَّق، أی: الشخص الذی یصدر منه هذا المتعلَّق.

مثلاً ورد فی دلیل: «إن قتل شخص أباک جاز لک قتله» وورد فی دلیل آخر یقول: «إن قتل شخص ابنک جاز لک قتله» وهذان دلیلان، الشرط فیهما متخلف ولکن الجزاء واحد. هنا الحکم المذکور فی الجزاء جواز القتل، وهذا الجواز متعلق بالقتل. والحکم وهو الجواز غیر قابل بلحاظ متعلقه، لأن القتل لا یتکرر، وکل إنسان لا یقتل إلا مرة واحدة. لکن مع ذلک الحکم (الجواز) قابل للتعدد بلحاظ الفاعل، أی: الفاعل الذی یجوز له القتل. فلو فرضنا أن زید قتل أبا عمرو وقتل ابن بکر. وقتل زید لیس قابلاً للتعدد لکن الذی یقتل زیداً متعدد. أی: المخاطب بالجواز فی الدلیل الأول غیر المخاطب بالجواز فی الدلیل الثانی. یعنی: یمکن عقلاً أن ثبت هنا جوازان لقتل زید. وإن کان نفس قتل زید غیر قابل للتعدد.

ص: 87

مثال آخر لنفس هذا القسم، هو ما إذا کان الحکم قابلاً للتعدد باعتبار أن هناک میزة وخصوصیة ترفع وتدفع إشکال اللغویة فیما إذا تعدد الحکم، یعنی: لا یستلزم تعدد الحکم اللغویة (فإن الجواز فی المثال السابق کان جوازاً حکمیاً ولکن الجواز فی المثال الذی نذکره حقی). مثل ما لو قتل زیدٌ أبی وابنی. فیجوز لی أن أقتل زیداً لأنه قتل أبی، ویجوز لی قتله لأنه قتل ابنی. وهذا الجواز جواز حقی قابل للإسقاط ولیس حکماً شرعیاً غیر قابل للإسقاط. فإذا ثبت لی حقان، لا یلزم منه اللغویة، بل فیه فائدة، وهو کونی صاحب دمین، یختلف عن صاحب دم واحد. فقد أتنازل عن دم واحد ولا أتنازل عن الدم الثانی. أی: بإسقاط أحد الحقین لا یسقط الحق الآخر. فالجوازان الحقیان یختلف أمرهما عن الجوازین الحکمیین؛ فإن الأول یستلزم اللغویة فی مثالنا، ولکن الثانی لا یستلزم اللغویة.

وهذا مثل حقان فی الفسخ، حق بسبب الغبن وحق بسبب العیب؛ فإن الفسخ نفسه غیر قابل للتعدد والتکرر، والفاعل (صاحب الحق) واحد أیضاً. کما إذا افترضنا ورد دلیل یقول: «إن کانت المبیع معیباً فللمشتری الفسخ» ویقول دلیل آخر: «إن کان المشتری مغبوناً فله حقا لفسخ» واتفق أن فی المعاملة الواحدة کان المبیع معیباً والمشتری مغبوناً، فیثبت حقان للمشتری، رغم أن صاحب الحق واحد والحق لا یتکرر، فلا تلزم اللغویة من ثبوت هذین الحقین له.

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

کان الکلام فی تداخل الأسباب والمسببات وعدم تداخلها، وقلنا إن محل النزاع هو ما إذا کان الجزاءُ (المذکور فی کل من القضیتین الشرطیتین الواردتین فی الدلیلین) قابلاً للتعدد، ولا معنی للبحث عن التداخل وعدم التداخل فیما إذا لم یکن الجزاء قابلاً للتعدد. وفی مقام التوضیح قلنا: إن الجزاء باعتبار تعددیة وعدم تعددیة یقسم إلی ثلاثة أقسام:

ص: 88

القسم الأول: أن یکون قابلاً للتعدد من ناحیة متعلقه، وهو داخل فی محل النزاع.

القسم الثانی: وهو تارة یکون قابلاً للتعدد من ناحیة فاعل الجزاء وفاعل المتعلق فیما إذا لم یکن الجزاء نفسه قابلاً للتعدد، وأخری یکون قابلاً للتعدد من ناحیة خصوصیة تدفع إشکال اللغویة فیما إذا تعدد الحکم. وهذا القسم داخل فی محل النزاع.

القسم الثالث: فیما إذا لم یکن الجزاء قابلاً للتعدد أبداً، وهو خارج عن محل النزاع. ومثاله ما إذا ورد: «إن ترک شخص الصلاة جاز للحاکم قتله»، ودلیل آخر: «إن ترک شخص صیام شهر رمضان جاز للحاکم قتله»، وافترضنا أن شخصاً جلبوه إلی الحاکم وهو قد ترک الصلاة والصیام معاً. فإن الحکم فی القضیتین هو جواز قتله من قبل الحاکم. فلا یعقل أن یتعدد الجزاء من ناحیة المتعلق، أی: أن یقتل هذا الشخص مرتین، ولا یعقل أن یتعدد الجزاء من ناحیة فاعل الجزاء الذی هو الحاکم، ولا من ناحیة وجود میزة وخصوصیة ترفع محذور اللغویة الذی یلزم من تعدد الحکم (فیما إذا أثبتنا جوازین فی قتل هذا الإنسان، بعد الفراغ عن إمکانیة توکید الحکمین ولیس ثبوت جوازین لقتله).

مثال آخر: «من ارتد یجب قتله» و«من سب النبی وجب قلته»، واتفق والعیاذ بالله أن شخصاً ارتد وسب. فهنا أیضاً الجزاء غیر قابل للتعدد لا من ناحیة المتعلق لأن قتله لا یتعدد ولا من ناحیة الفاعل (الذی هو الحاکم) ولا من ناحیة وجود خصوصیة ترفع اللغویة.

بقیت هنا نکتة وهی أن ما ذکرناه من أنه کلما کان الحکم قابلاً للتعدد فیدخل فی محل النزاع، هذا له شرط وهو أن لا یکون تعدد الحکم هو المتعین والحتمی والقطعی. فلا مجال هنا للبحث عن التداخل أو عدم التداخل.

ص: 89

مثلما إذا کان الجزاء قابلاً للتعدد من ناحیة الفاعل (فی القسم الثانی) فهنا جواز قتل زید، قابل للتعدد باعتبار أن الشخص الذی یرید أن یقتل زیداً متعدد. نرید أن نقول إن هذا المثال خارج عن محل النزاع، فی خصوص مثل هذا المورد وأمثاله، لأن الحکم وإن کان قابلاً للتعدد لکن تعدده قطعی، أی: یوجد جوازان لقتل زید: جواز لقتل زید للإنسان الذی قتل زید أباه، وجواز آخر للذی قتل زید ابنه. فالحکم لا محالة متعلق بحصة خاصة من قتل زید. فلا معنی للبحث عن تداخل الأسباب ولا البحث عن تداخل المسببات.

أما الأول (لا معنی للبحث عن تداخل الأسباب) فلأنه لا شک بأنهما وَلَّدا جوازین لقتل زید، لأن ولی الدم متعدد، ومن المقطوع أن السببین غیر متداخلین، وکل سبب وَلَّد حکماً. وأما الثانی (وهو أنه لا معنی للبحث عن تداخل المسببات) لأن المخاطَب بالحکمین متعدد، فالمخاطب بالحکم الأول هو ولی الدم الأول، والمخاطَب بالحکم الثانی هو ولی الدم الثانی. فهناک تکلیفان أحدهما متوجه لممتثل والتکلیف الآخر متوجه إلی ممتثل آخر.

هذا تمام الکلام فی الجهة الثانیة من جهات البحث. بعد ذلک ننتقل إلی الجهة الثالثة التی هی جوهر البحث، وهی البحث عن مقتضی الأصل اللفظی، أی: ماذا نستظهر من الدلیلین؟! فما هو الدلیل علی التداخل وما هو الدلیل علی عدم التداخل؟! وهذا ما یأتی فی الجلسة القادمة.

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

إن بحثنا حول التداخل وعدم التداخل إنما هو بعد الفراغ عن سببیة کل واحد من الشروط؛ وإنما نذکر هذه النکتة لأن هناک کلاماً منقولاً عن المحقق النائینی ره علی ما فی تقریرات بحثه فی مقام إثبات عدم تداخل الأسباب، والکلام هو أن مقتضی القاعدة عدم تداخل الأسباب، مثلاً إن قال: «إن نمت فتوضأ» فیقول المرزا مقتضی القاعدة أنه کلما تعدد النوم یتعدد وجوب الوضوء؛ لأن قوله: «إن نمت فتوضأ» الجزاء فیه عبارة عن «فتوضأ» وهذه الکلمة مشتملة علی مادة وهیئة. المادة هی الوضوء، وهی تدل علی طبیعی الوضوء. وهیئتها تدل علی الوجوب. لکن هذه الهیئة لا دلالة فیها علی أن الوجوب واحد أو متعدد (لا تفید وجوباً واحداً ولا وجوباً متعددا) بل وحدة الحکم (وهو الوجوب هنا) أو تعدده تابع لموضوع الوجوب.

ص: 90

وموضوع الوجوب یعنی شرطه، وشرطه هو قوله: «إن نمت»، فالنوم هنا مطلق لا قید فیه، وإطلاقه إطلاق شمولی، یعنی: کل نوم شرط وسبب للوضوء. فبعدد أفراد الموضوع یتعدد الحکم. کما هو الحال فی سائر الأمور الحقیقیة. مثل: «أکرم العالم»، فإن وجد عالم واحد فیجب وجوب واحد، وإذا کان هناک عالمان فینحل الوجوب إلی وجوبین، وإذا أکثر فأکثر. بنفس النکتة وهی أن الحکم یتبع موضوعه فی تعدده وعدم تعدده. فمقتضی القاعدة هو تعدد وجوب الوضوء بتعدد النوم.

هذا الکلام إنما ذکرنا المطلب لکی نبین الثغرة الموجودة فیه، والثغرة هی أن تعدد السبب مما یجب الفراغ عنه فی المقام، کما أشرنا إلیه فی أول البحث، لکی یعقل النزاع حول التداخل وعدم التداخل. أی: السبب متعدد فی المقام حتی یعقل النزاع. وإلا لو فرضنا أنه فی نفس مثال المرزا أن موضوع وسبب وجوب الوضوء هو النوم بنحو المطلق البدلی، أی: نوماً مّا، فإن نوماً ما یتحقق بالنوم الأول. فسبب وجوب الوضوء واحد، وهذا خارج عن محل النزاع. یعنی: سبب وجوب الوضوء إذا کان عبارة عن النوم الأول فلا إشکال فی عدم تعدد الوجوب، لا من جهة أن الأسباب قد تداخلت، بل من جهة أنه لم یکن فی البین إلا سبب واحد للوجوب وهو النوم الأول (علی فرض أن الإطلاق بدلی). وإنما نبحث عن التداخل أو عدم التداخل بعد إثبات أن السبب متعدد، فلا بد من فرض الإطلاق الشمولی (أی: أن کل نوم سبب لوجوب الوضوء) حتی یدخل فی محل النزاع، لکی نبحث أنه إذا تکرر السبب هل یتکرر الوجوب (وهو التداخل) أو یتداخل السببان ویولّدان وجوباً واحداً (وهو عدم التداخل).

الآن ننتقل إلی تحقیق المطلب فنقول: إن فی المقام بحوث ثلاثة:

ص: 91

البحث الأول: هل یوجد فی المقام ظهور فی الکلام یقتضی عدم التداخل. بعبارة أخری هل یوجد أصل لفظی یثبت عدم التداخل.

البحث الثانی: هل یوجد فی المقام ظهور فی الکلام یقتضی التداخل؟ أی: هل یوجد أصل لفظی ینتج التداخل؟

البحث الثالث: بعد تسلیم هذین الظهورین والقبول بأنه یوجد فی الکلام ظهور یقتضی عدم التداخل، ویوجد أیضاً فی الکلام ظهور یقتضی التداخل، وتعارضهما حینئذ ما هو علاج هذا التعارض وما هو حله؟

البحث الأول

أما البحث الأول بالإمکان تقریب ما یدل علی عدم التداخل بأحد نحوین:

التقریب الأول: ما هو المعروف والمتداول، حیث یقال بأن منطوق کل جملة شرطیة یحتوی علی ظهورین بمجموعهما یدلان علی عدم التداخل.

الظهور الأول: هو ظهور المنطوق فی أن الشرط (المذکور فی الجملة) علة تامة مستقلة للحکم المذکور فی الجزاء.

الظهور الثانی: ظهور الکلام فی أن معلول هذه العلة التامة عبارة عن أصل الحکم المذکور فی الجزاء، لا تأکد الحکم وشدته.

أما الظهور الأول، فقد فرغنا عنه فی التنبیه السابق، ولذلک وقع التعارض والتنافی بین إطلاق المنطوق (الذی کان یدل علی أن خفاء الأذان علة تامة مستقلة لوجوب القصر) وإطلاق المفهوم (إن لم یخف الجدار لا یجب القصر حتی لو خفی الأذان) فی تلک الجملتین، وکذلک العکس.

وأما الظهور الثانی: أن ظاهر فتوضأ أنه بیان للوجوب ولیس بیاناً لتأکد الوجوب (الهامش: لعل الأولی الاقتصار علی الظهور الأول، ولکن ذکرنا هذا الظهور باعتبار أنهم یذکرونه، والمهم هو الظهور الأول).

ونتیجة هذین الظهورین عبارة عن عدم تداخل السببین عند اجتماعهما؛ لاستحالة اجتماع علتین تامتین مستقلتین علی معلول واحد. أی: فلا بد من تعدد الوجوب.

ص: 92

إذن، فالظهور الذی یقتضی عدم التداخل فی القضیة الشرطیة هو هذا.

هذا التقریب المشهور لإثبات أن مقتضی الأصل اللفظی (وإن شئت قلت: مقتضی أصالة الظهور).

ویرد علی هذا التقریب: أن هذا الظهور الأول غیر مسلَّم وغیر مقبول؛ فنحن لا نسلم بأن منطوق الجملة الشرطیة تدل علی العلیة التامة، ولا نقبل بأن الشرط علة تامة للجزاء؛ لأن استفادة العلیة التامة لم تکن من ناحیة الوضع، بأن یقال: إن أداة الشرط أو الجملة الشرطیة وضعت فی اللغة لإفادة أن الشرط علة تامة للجزاء، والذی یقول بأن الجملة الشرطیة تدل علی أن الشرط علة تامة للجزاء، هذا القائل یعترف بأن هذه الدلالة لیست وضعیة، فاستفادة العلیة التامة لم تکن من ناحیة الوضع. وإنما کانت الاستفادة من ناحیة الإطلاق (حیث تقدم شرحه فی بحث مفهوم الشرط، وهو الإطلاق الواوی حسب مصطلح النائینی أو الإطلاق الأحوالی) الذی کان یدل علی أن الجزاء مترتب علی الشرط فی جمیع الحالات، سواء اقترن الشرط مع شیء آخر أو انفرد. یعنی: الجزاء مترتب علی الشرط فی کل الحالات، سواء انفرد الشرط أو اجتمع مع شیء آخر. هذا الإطلاق فی مقابل التقیید بالعطف بالواو، یدل علی أن وجوب الإکرام مترتب علی مجیء زید فی کل الحالات، سواء اقترن المجیء مع قراءة القرآن أو لم یقترن. فالقائل بالعلیة التامة استفاد من هذا الإطلاق أن الشرط علة تامة للجزاء. فلو کان الشرط جزء علة لما کان یترتب علیه الجزاء. فالعلیة التامة استفیدت من الإطلاق الواوی أو الأحوالی (باختلاف الاصطلاح). والنقطة المقابلة لهذا الإطلاق (وهو قد اقتضی أن الشرط علة تامة للجزاء حتی فی حالة انفراده) هو أن لا یکون الشرط فی حال انفراده علة للجزاء. أی: أن لا یترتب الجزاء علی الشرط فی حال انفراده. ونحن أیضاً لا نرید أن نقول شیئاً یخالف هذا الکلام، وإنما بحثنا فی حالة اجتماع الشرط مع شیء آخر.

ص: 93

فإذا قلنا بالتداخل (إذا الشرط اجتمع مع شیء آخر کان مجموعهما سبباً للتداخل) هذا لا ینافی الإطلاق الأحوالی (الذی کان یقول بأن الجزاء مترتب علی الشرط فی کل الحالات، فی حال انفراده الشرط علة تامة للجزاء، وفی حال اجتماع الشرط مع شیء آخر یکون الجزاء مترتباً علی الشرط لکن ترتب المعلول علی جزء علته). إما ترتب المعلول علی علته التامة وإما ترتب المعلول علی مجموع علتین.

ویأتی مزید توضیح فی الغد.

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

کان الکلام فی تداخل الأسباب وعدم تداخلها، حیث طرحنا بحوثاً ثلاثةً وذکرنا عناوینها بالأمس. والبحث الأول الذی دخلنا فیه هو عبارة عن البحث عن الظهور الذی یقتضی عدم التداخل. فقلنا إن هذا له أحد تقریبین، أولهما هو تقریب المشهور والذی ذکرناه بالأمس. وهو عبارة عن ظهور منطوق الجملة الشرطیة فی أن الشرط علة تامة للجزاء. وهذا الظهور موجود فی کل من القضیتین الشرطیتین. فإذا قال: «إن نمت فتوضأ» وقال: «إن بلت فتوضأ» فالقضیة الأولی ظاهرة فی أن النوم سبب تام وعلة تامة لوجوب الوضوء. وکذلک القضیة الثانیة. وهذا معناه أنه إذا اجتمع السببان عند المکلف فیکون قد اجتمع سببان لوجوبین. وهذا معناه عدم التداخل.

رد التقریب: وقلنا إنه یرد علی هذا التقریب أن هذا الظهور الذی ادعی فی هذا التقریب لا نسلم به، والقضیة الشرطیة لیس لها ظهور وضعی فی العلیة التامة للشرط بالنسبة للجزاء. وإنما العلیة التامة للشرط بالنسبة للجزاء نستفیدها من الإطلاق الأحوالی أو الواوی القائل بأنه بما أن الجزاء مترتب علی الشرط فإطلاق هذا الترتب لکل الحالات یستفاد منه أن الشرط علة تامة للجزاء. والمقصود من کل الحالات هو إطلاق الترتب حتی لحالة انفراد الشرط وعدم انضمام شیء آخر إلیه. أی: حتی لو کان الشرط وحیداً مع ذلک الجزاء مترتب علی الشرط.

ص: 94

فیستفاد من هذا الإطلاق أن الشرط علة تامة؛ إذ لو لم یکن الشرط علة تامة (وکان جزء علة) فکان الشرط یحتاج إلی انضمام شیء آخر إلیه، بینما نحن فرضنا أنه حتی لو لم ینضم إلیه شیء آخر الجزاءُ مترتب علی الشرط. فتثبت العلیة التامة من خلال إطلاق ترتب الجزاء علی الشرط.

وحینئذ نقول: فلیکن الشرط منفرداً، فإننا لا نتحدث الآن عن حالة انفراد الشرط، وإنما نتحدث فی هذا التنبیه عما إذا اجتمع شرطان علی المکلف، ففی هذه الحالة لا یدل إطلاق الترتب علی أن النوم علة تامة؛ لاستحالة اجتماع علیتین تامتین. مع ذلک إطلاق الترتب محفوظ. أی: ترتب الجزاء علی جزء العلة ترتبٌ أیضاً، حتی لو اجتمع النوم مع البول وأصبح کل منهما جزء علة وأصبح وجوب الوضوء علیهما معاً، مع ذلک یصدق أن یکون وجوب الوضوء مترتباً علی النوم، من باب ترتب المعلول علی جزء علته.

وعلی أی حال فإن الجزاء مترتب علی هذا الشرط (والذی هو جزء علته).

وبعبارة أخری: کون الشرط علة تامة إنما ثبت فی حالة انفراد الشرط، أما فی فرض اجتماع النوم مع البول لم یثبت أن النوم علة تامة. فلیکن جزء علة، وإذا کان جزء علة فهذا لا ینافی الترتب. فالتمامیة الثابتة لا تجدی فی هذا البحث، نعم إنها تفید فی التنبیه السابق، حیث کنا نعالج التعارض القائم بین إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم فی قوله «إن خفی الأذان فقصر» وقوله: «إن خفی الجدار فقصر»، حیث کان موضوع ذاک البحث هو حالة انفراد الشرط (أی: فیما إذا خفی الأذان وحده دون الجدار)، فقلنا إن إطلاق منطوق إن خفی الأذان یقول بوجوب القصر، لکن مفهوم الدلیل الثانی کان یقول عکس ذلک، یعنی کان یقول: إن لم یخف الجدار لا یجب القصر حتی لو خفی الأذان.

ص: 95

أما هنا فی بحثنا الحالی فلا نبحث عن حالة انفراد الشرط، بل نبحث عما إذا اجتمع السببان معاً. فالعلیة التامة فی هذا البحث لا تجدی شیئاً، فإن الإطلاق الأحوالی علی حیاد عما نریده، فإنه یثبت أن الجزاء مترتب علی الشرط، وهو محفوظ فی المقام، سواء افترضنا أن النوم علة تامة أو افترضناه جزء علة.

هذا التقریب الأول مع إشکاله.

التقریب الثانی: لإثبات أن ظاهر الکلام عبارة عن عدم التداخل، وهو ما أفاده المحقق الخراسانی ره حیث قال: إن منطوق الجملة الشرطیة یشتمل علی ظهورین بمجموعهما یقتضیان عدم التداخل.

الظهور الأول: هو الظهور فی حدوث الحکم المذکور فی الجزاء عند حدوث الشرط. نلخصه فی قولنا: «الظهور فی الحدوث عند الحدوث». أی: إذا حدث المجیء یحدث وجوب الإکرام. المهم یرید أن یقول أنه لیس القضیة الشرطیة دالة علی أن مجرد ثبوت الجزاء عند حدوث الشرط، وإنما ظاهرة فی أن...

الظهور الثانی: کما ذکرناه بالأمس فی التقریب الأول، وهو ظهور الکلام فی أن الذی یحدث هو أصل الحکم وأصل الوجوب ولیس تأکده وشدته وتقّویه هو الذی یحدث، وإنما أصل الحکم یحدث. ونکتة هذا الظهور نفس النکتة التی ذکرناها بالأمس.

أما الظهور الأول - وهو المحور والمهم - کأن المحقق الخراسانی استبدل به الظهور الأول الذی کان فی تقریب المشهور. والسبب فی هذا العدول إما للإشکال الذی أوردناه علی العلیة التامة بالأمس (وهو أن الکلام لیس له ظهور فی العلیة التامة وإنما الکلام له ظهور فی ترتب الجزاء علی الشرط فی کل الحالات..) أو باعتبار أن المحقق الخراسانی لا یقبل أصل دلالة القضیة الشرطیة علی علیة الشرط للجزاء، فضلاً عن العلیة التامة.

ص: 96

أی: مجموع الظهورین: أصل الجزاء یثبت إذا ثبت الشرط. فهذا یقتضی عدم التداخل. أی: إذا نام ثم بال ثبت علیه وجوبان للوضوء؛ لأن بمقتضی الظهور ثبت أصل وجوب وضوء. وکذلک بمقتضی الظهور الثانی ثبت أصل وجوب آخر، ولیس وجوباً مؤکِّداً للوجوب الأول. هذا کلام الآخوند الخراسانی.

والتحقیق: أن هذا التقریب مقبول فی الجملة، لکنه بحاجة إلی ترمیم وتعدیل.

توضیح ذلک: هذا التقریب یحتاج إلی افتراضات وشروط ثلاثة، یتم التقریب فی حال توفرها وهی کالتالی:

الشرط الأول: أن یکون الجزاء فی القضیة الشرطیة عبارة عن جملة فعلیة، ولیست جملة اسمیة، مثل أمثلة النوم والبول ومجیء زید. والسبب فی اشتراط هذا الشرط هو لأن الجزاء إذا کانت جملة فعلیة فسوف یکون لها دلالة علی ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، لأن الجزاء إذا کان فعلاً من الأفعال فالفعل یدل علی الحدوث، سواء کان فعل أمر أو ماض أو مضارع.

وعلی ضوئه لا یتم التقریب الذی ذکره المحقق الخراسانی ره فی فرضین:

الفرض الأول: إذا کان الجزاء جملة اسمیة، مثلاً قال: «إذا جاء زید فإکرامه واجب»، وقال فی جملة أخری: «إن قرأ زید القرآن فإکرامه واجب». فالجزاء فی کلتا القضیتین جملة اسمیة. فلا یوجد هنا ظهور فی الکلام یدل علی حدوث الجزاء عند حدوث الشرط؛ لأن الجزاء هنا جملة اسمیة والجملة الاسمیة لا تدل علی الحدوث؛ فإن «إکرامه واجب» لا یدل علی حدوث الوجوب، وإنما یدل علی مجرد ثبوت الوجوب؛ لأنه لیس فعلاً حتی یدل علی الحدوث. ومجرد الثبوت لا ینفع. فإن الثبوت الفعلی أعم من الحدوث الآنَ، فقد یکون مما حدث سابقاً وبقی مستمراً إلی الآن، فهو ثابت الآن. أی: ثبوت شیء الآن أعم من أن یکون قد حدث الآن أو حدث سابقاً واستمر. فإن الحدوث أخص من الثبوت.

ص: 97

فإن الفعل الماضی یدل علی حدوث الإخبار، بمعنی أن الإخبار حدث الآن، وقبل الآن لم یکن یوجد إخبار، وسواء فی ذلک أن یکون الخبر ماضیاً أو مستقبلاً وکذلک فعل الأمر الدال علی الإنشاء. أی: هذا الإنشاء أو الإیجاب أو الاستفهام حصل الآن. فالفعل أیاً کان یدل علی الحدوث خلافاً للاسم حیث لا یدل علی الحدوث.

والنتیجة أن ثبوت الوجوب لا یفید لأنه لا ینافی التداخل. مثلاً إذا قال: «إن نمت فالوضوء واجب» وقال فی کلام آخر: «إن بلت فالوضوء واجب»، فکل من الکلامین ظاهر فی أن وجوب الوضوء ثابت عند حدوث النوم ووجوب الوضوء ثابت عند حدوث البول. وهذا لا ینافی التداخل. فلو فرضنا أن السببین تداخلا وأوجدا وجوباً واحداً للوضوء یصدق حینئذ أن وجوب الوضوء ثابت عند ثبوت النوم ووجوب الوضوء ثابت عند ثبوت البول.

فلا یتم کلام المحقق الخراسانی علی أساس هذا الشرط الأول الذی ذکرناه، فی هذا الفرض الأول الذی یکون الجزاء فیه جملة اسمیة.

وکذلک لا یتم کلامه علی أساس فرض ثان، وهو فیما إذا کان الجزاء جملة فعلیة، لکنها ملحقة بالجملة الاسمیة - لنکتةٍ ولسببٍ - کما فی مثال الأذان، فإن الجزاء «فقصر» وإن کانت جملة فعلیة، لکن هذا الجزاء فی الحقیقة لا یدل علی حدوث وجوب القصر؛ لأنه قوله «إن خفی الأذان فقصر» لیس من أدلة تشریع وإیجاب الصلاة، أی: هذا الکلام لا یدل علی إیجاب مستقل للقصر وراء إیجاب الصلاة. وإنما هی إرشاد إلی أن صلاتک قصر. فکأنه یرید أن یقول: «إن خفی الأذان فصلاتک قصر»، مثلما یقال: «إن جاء زید إکرامه واجب». فهذا القول وإن کان فیه فعل، ولکنه فعل ملحق بالاسم، أی: یدل علی ثبوت وجوب القصر، ولا یدل علی أن بخفاء الأذان حدث وجوب مستقل، بل نفس الوجوب السابق، ولکن الواجب اختلفت ترکیبته. فلا یکون الکلام هنا دالاً علی الحدوث عند الحدوث وإنما یدل علی مجرد ثبوت الجزاء عند حدوث الشرط. وعلیه فهذا لا ینافی التداخل کما هو واضح.

ص: 98

أی: لم یحدث وجوب جدید بموجب قوله «إن خفی الأذان فقصر».أی: «قصر» وإن کان فعل أمر ولکن هنا بالخصوص لا یدل علی حدوث وجوب. أی: الظهور الذی یریده الآخوند لیس موجوداً هنا. وهو الظهور فی حدوث الجزاء عند حدوث الشرط. فلا یتم کلامه، رغم أن الجزاء فعل، لکنه فعل ملحق بالاسم.

وعلیه فالکلام لا ینافی التداخل کما هو واضح، وللکلام تتمة تأتی إن شاء الله تعالی.

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

کان الکلام فی التقریب الثانی لإثبات عدم التداخل فی الأسباب وهو التقریب الذی ذکره المحقق الخراسانی ره وکان حاصله أن الکلام له ظهور فی حدوث الجزاء عند حدوث الشرط. وهذا یقتضی عدم التداخل کما شرحناه بالأمس. وقلنا فی مقامِ التعلیق علی هذا التقریب إنه تام لکن بشرط أن تتوفر فیه أمور ثلاثة:

الشرط الأول: ما ذکرناه بالأمس وهو أن یکون الجزاء فی القضیة الشرطیة فعلاً من الأفعال، فإن الفعل یدل علی الحدوث، أما لو لم یکن الجزاء فعلاً بل کان اسماً أو ملحقاً بالاسم، فلا دلالة فیه حینئذ علی الحدوث (کما لو قال: «إن جاء زید فإکرامه واجب») وإنما له ظهور فی ثبوت وجوب الإکرام عند المجیء، فهذان الوجوبان ینسجمان معاً ولا یتعارضان. فالتداخل لا یتنافی مع هذا الظهور. ولذا قلنا بالأمس أنه علی أساس هذا الشرط الأول لا یتم کلام المحقق الخراسانی فیما إذا کان الجزاء اسماً، وکذلک لا یتم فیما إذا کان الجزاء فعلاً ولکنه ملحق بالاسم («إن خفی الأذان فقصر» لکننا نعرف أن المقصود لیس إیجاباً وبعثاً جدیداً وحادثاً، فکأنه یقول: «إن خفی الأذان فصلاتک قصر»).

ص: 99

فإن قلت: نحن نسلم بأن الکلام لا یدل علی الحدوث فیما إذا کان الجزاء اسماً (لأنه لیس جملة فعلیة) لکن لا نسلم بعدم دلالة الکلام علی الحدوث فی الفرض الثانی فیما إذا کان الجزاء فعلاً ملحقاً بالاسم کما فی مثال «فقصّر»، فإن هذا الأمر یعتبر فعلاً من الأفعال ولا یعتبر اسماً، والفعل یدل علی الحدوث. إذن فظهور الکلام فی الدلالة علی الحدوث عند الحدوث محفوظ فی الفرض الثانی.

قلت: أی نوع من الحدوث تفترضون أنه یدل علیه الفعل فی هذا الفرض (فی مثل «فقصر»)؟ حدوث الإخبار أو حدوث الإنشاء؟ أما حدوث الإخبار فمن الواضح أن «فقصر» لا یدل علیه. وأما حدوث الإنشاء والبعث والتحریک فمن الواضح أن قوله «فقصر» فی هذا المثال لم یصدر من المتکلم بداعی البعث والتحریک وإیجاب القصر إیجاباً حادثاً. أی: المولی لم یبعث بعثاً جدیداً. إذن فأی حدوث یدل علیه؟ نعم هذا الفعل بظاهره فعل، ولکنه لا یدل علی الحدوث لا من قریب ولا من بعید، وإنما یدل علی الثبوت مثل الاسم. فهذا هو الشرط الأول من الشروط الثلاثة.

الشرط الثانی: هو أن یتعاقب الشرطان أو السببان حدوثاً، یعنی: نحن نتکلم عن المکلف الذی اجتمع عنده الشرطان المذکوران فی الجملتین الشرطیتین فی قوله مثلاً: «إن نمت فتوضأ» و«إن بلت فتوضأ»، أی: حدث أحدهما ثم حدث الآخر. یعنی: نام أولاً ثم بال. لا أنهما تقارنا فی الحدوث. فرض الاقتران واضح فی مثال: «إن بلت فتوضأ» و«إن خرج الریح فتوضأ» فإن هذا المثال أوضح فی الاقتران؛ وذلک لأن الظهور الذی ادعاه المحقق الخراسانی ره وهو ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث، إنما یقتضی عدم التداخل فی فرض التعاقب (فیما إذا بال ثم خرج منه الریح). أما إذا لم یتعاقبا بأن خرجا معاً فظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث لا یقتضی عدم التداخل. یعنی: ینسجم مع التداخل أیضاً. فحینئذ تدل کل من القضیتین علی الحدوث عند الحدوث (حدوث وجوب الوضوء عند حدوث البول وحدوث وجوب الوضوء عند حدوث الریح)، فإذا حدث البول والریح فی آن واحد فیصدق حدوث وجوب الوضوء عند حدوث کل منهما. فنکون قد احتفظنا بالحدوث عند الحدوث، رغم أنه حدث وجوب واحد. أی: رغم أننا نقول بالتداخل مع ذلک القول بالتداخل لا یتنافی مع ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث، فهذا الظهور محفوظ. وبالمآل لا یقتضی الظهور الذی ادعاه عدمَ التداخل، بل ینسجم مع التداخل أیضاً، فقد حدث وجوب واحد لدی المکلف.

ص: 100

الشرط الثانی: أن تدل کل من القضیتین تدل علی أن الحکم الذی حدث بسبب حدوث الشرط الأول مستمر وباق إلی زمان حدوث الشرط الثانی. مثلا لو افترضنا أنه بال أولاً، ثم خرج منه الریح. فالشرط الثالث لصحة کلامه هو أن الدلیل الأول یدل علی أن هذا الوجوب الذی یحدث بسبب حدوث البول یبقی مستمراً إلی زمان حدوث الریح. ولا ینتهی أمد هذا الوجوب الأول بمجیء الشرط الثانی. فالکلام الأول یجب أن یدل علی الاستمرار، أی: المحقق الخراسانی بحاجة إلی أن یفترض أن فی الکلام دلالةً (وتحصیل هذه الدلالة مشکلة المحقق الخراسانی فهو الذی علیه أن یحصله) علی أن الحکم الذی حدث بسبب حدوث الشرط الأول موجود وباق ومستمر إلی زمان حدوث الشرط الثانی، کی یتحقق عند المکلف مقتضیان وموجبان لحکمین. وحینئذ یتم کلامه بأن القضیة تدل علی عدم التداخل.

أما لو افترضنا بأن القضیة الشرطیة التی تحقق شرطها أولاً (مثال البول) لا تدل علی أن هذا الوجوب الأول باق ومستمر إلی زمان خروج الریح، فحینئذ یکون مقتضی الظهور الذی ادعاه المحقق الخراسانی فی هذا التقریب (وهو الحدوث عند الحدوث) التداخل، ولا یکون عبارة عن عدم التداخل، فالآن یوجد حکم واحد ولا معنی للتداخل وعدم التداخل؛ فإن المقصود من عدم التداخل فی بحثنا هو ثبوت حکمین فی آن واحد، نتیجة ثبوت الشرطین واجتماعهما علی المکلف، وهذا یحصل فیما إذا افترضنا أن الحکم الأول یبقی مستمراً إلی زمان حدوث الشرط الثانی وبحدوث الشرط الثانی یحدث وجوب ثان، فالحکمان یثبتان فی آن واحد علی المکلف. وهذا هو المقصود بعدم التداخل.

ومن هنا یقال(1) (2) فی هذا الفرض (أی: عدم وجود ظهور للکلام - الظهور الثانی - فی أن الحکم الذی حدث بسبب الشرط الأول مستمر إلی زمان حدوث الشرط الثانی، أی: لم یکن للقضیة الشرطیة إطلاق أزمانی یدل علی بقاء الوجوب إلی زمان حدوث الشرط الثانی) لا یتم ما تقدم منا فی الجهة الأولی عند ما کنا نبحث عن مقتضی الأصل العملی عند الشک فی تداخل الأسباب وعدم تداخلها هو البراءة، فإن الوجوب الأول مسلم به وأما الوجوب الآخر فمشکوک فتجری بحقه أصالة البراءة، وأنه لیس علی المکلف غیر تکلیف واحد. فقد یقال إنه لو افترضنا أن القضیة الشرطیة لیس لها إطلاق أزمانی ولیس لها ظهور لفظی فی أن الحکم یستمر إلی زمان الشرط الثانی فلا یکون الأصل العملی فی صالح التداخل. والأصل العملی هنا هو استصحاب بقاء الوجوب الأول إلی زمان حدوث الشرط الثانی وحینما یأتی الشرط الثانی یحدث وجوب آخر، فبالنتیجة مقتضی الأصل العملی یکون فی صالح عدم التداخل. فتغیرت النتیجة عما قلناه سابقاً بأن الأصل العملی عند الشک فی تداخل الأسباب هو البراءة عن الوجوب الثانی وبالتالی الأصل العملی فی صالح التداخل، الآن تبین أن مقتضی الأصل العملی عند الشک هو الاستصحاب.

ص: 101

وسندرسه غداً إن شاء الله تعالی.

التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

قلنا إن کلام المحقق الخراسانی ره حول الظهور الذی یقتضی عدم التداخل مشروط بشروط ثلاثة:

أولاً: أن یکون الجزاء جملة فعلیة.

وثانیاً: أن یکون الشرطان متعاقبین.

وثالثاً: أن تدل القضیة علی أن الحکم الحادث بحدوث الشرط الأول مستمر إلی زمان حدوث الشرط الثانی؛ لأن المقصود من عدم التداخل هو ثبوت حکمین فی آن واحد. فإذا افترضنا أن القضیة الشرطیة المتحققة شرطها أولاً (مثل قوله: «إن نمت فتوضأ» فیما إذا نام المکلف أولاً) تدل بإطلاقها الأزمانی علی بقاء الحکم الأول إلی زمان حصول الشرط الثانی (البول فی قوله: «إن بلت فتوضأ») فحینئذ یکون مقتضی الظهور الذی ادعاه الآخوند (ظهور القضیة فی حدوث الحکم عند حدوث الشرط) هو عدم التداخل. أی: مقتضاه ثبوت حکمین فی زمان واحد لاجتماع شرطین. هذا فیما إذا افترضنا أن القضیة الأولی تدل بإطلاقها الأزمانی علی بقاء الحکم الأول إلی زمان حصول الشرط الثانی.

أما لو فرض أن الوجوب الذی حدث بسبب الشرط الأول انتهی أمده ولا تدل علی بقائه إلی زمان الشرط الثانی، فمن المعلوم حینئذ أن لا موضوع للتداخل وعدم التداخل، لأن زمان أحد الحکمین غیر زمان الآخر. فبحدوث الشرط الأول حدث حکم للوضوء وانتهی أمده قبل حدوث الشرط الثانی وبحدوث الشرط الثانی حدث حکم آخر. فلم یثبت حکمان فی زمان واحد.

إذن، فمجرد الظهور الذی ادعاه المحقق الخراسانی لا یکفی من دون ظهور القضیة فی دوام هذا الحکم إلی زمان حصول الشرط الثانی. فهذا هو الشرط الثالث الذی یجب ضمه إلی الشرطین الأولین لیتم کلام الآخوند.

ص: 102

ومن هنا قد یقال إنه: فی فرض عدم وجود هذا الظهور (الإطلاق الأزمانی) الثانی لا یتم ما قلناه سابقاً من أنه عند الشک فی تداخل الأسباب الأصلُ العملی - وهو البراءة - فی صالح التداخل، فنبقی نشک فی أن الحکم الأول بقی مستمراً إلی زمان حدوث الشرط الثانی؛ وحیث لا یوجد لدینا أصل لفظی من ظهور أو إطلاق یعین لنا التکلیف فنرجع إلی الأصل العملی، ومقتضی الأصل العملی هو الاستصحاب فی المقام؛ لأن بحدوث النوم حدث الوجوب قطعاً وبعد حدوث البول نشک فی أن الحکم الأول هل بقی إلی هذا الزمان أم لا؟ فمقتضی الاستصحاب أن الحکم الأول ما زال موجوداً، وحینئذ بحدوث الشرط الثانی (البول) حدث حکم آخر؛ لأن القضیة الشرطیة الثانیة ظاهرة فی الحدوث عند الحدوث أیضاً، فیکون هناک حکمان فی زمان واحد وحینئذ یقتضی الأصل العملی عدم التداخل وهذا خلاف ما قلناه سابقاً من البراءة.

وقد یتمَّم هذا الإشکال(1) (2) بأن فی المقام فرضین:

الفرض الأول: هو أن ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث باق ومحفوظ؛ لأنه أقوی من الإطلاق ولیس بحاجة إلی مقدمات الحکمة.

الفرض الثانی: هذا الظهور أیضاً علیه علامة الاستفهام.

أما سبب افتراضنا هذین الفرضین هو أن فی المقام لدینا ثلاثة ظهورات:

الظهور الأول: (الذی قاله الآخوند) ظهور کل من القضیتین فی حدوث الجزاء عند حدوث الشرط.

الظهور الثانی: ظهور المادة فی الجزاء - ولیس الهیئة - (والجزاء هو « توضأ» فی کلتا القضیتین) فی طبیعی الوضوء، لا حصة خاصة من الوضوء. نعبّر عن هذا الظهور بإطلاق المادة فی الجزاء.

الظهور الثالث: الإطلاق الأزمانی وهو أن قوله «إن نمت فتوضأ» ظاهر فی أن الوجوب الذی یحدث بسبب النوم یبقی مستمراً فی کل الأزمان إلی زمان حصول البول وحدوث الشرط الثانی.

ص: 103

إن الظهورین الثانی والثالث من هذه الظهورات إطلاقی، أما الظهور الأول فیفترض فیه فرضان:

الفرض الأول: أن تعتبرونه أیضاً من نوع الإطلاق، أی یحتاج إلی مقدمات الحکمة لکی تدل القضیة الشرطیة علی الحدوث عند الحدوث.

الفرض الثانی: أن تفترضون بأنه أقوی من الإطلاق وهو ظهور یستند إلی الوضع؟

أما الافتراض الأول (أن یکون الظهور الأول من نوع الإطلاق) فیحصل التعارض الثلاثی بین إطلاقات ثلاثة؛ لأننا نعلم إجمالاً بکذب أحدها.

إما أن الظهور والإطلاق الأول کاذب وهو القائل بأن الجزاء یحدث عند حدوث الشرط. فقوله: «إن بلت فتوضأ» لیس ظاهراً فی حدوث وجوب بحدوث البول، بل وجوب واحد (علی طبیعی الوضوء) مستمر إلی أن یحصل النوم.

وإما أن الظهور الثانی (وهو إطلاق المادة فی الجزاء) کاذب، فإن المراد من مادة الجزاء فی مثل قوله: «إن بلت فتوضأ» لیس طبیعی الوضوء بل حصة منه. لکن الظهور الأول والثالث محفوظان.

وإما أن الظهور الثالث والإطلاق الأزمانی کاذب فی القضیة الأولی وهی «إن نمت فتوضأ»، فلا یبقی الوجوب مستمراً إلی زمان البول. فعندنا علم إجمالی بکذب أحد هذه الإطلاقات.

بعبارة أخری نعلم أنه:

إما لم یحدث حکم ثان عند حدوث الشرط الثانی، ومعناه کذب الظهور الأول (الحدوث عند الحدوث) الذی قال به الآخوند. وإما أنه حدث حکم ثان لکنه تعلق بحصة من الوضوء ولیس بطبیعیّه؛ لاستحالة تعلق حکمین بطبیعی الوضوء فهذا معناه اجتماع وجوبین علی شیء واحد وهو اجتماع مثلین وهو مستحیل، فإذا حدث حکم بسبب الشرط الثانی فیکون قد تعلق بحصة من الطبیعی، وهذا معناه کذب إطلاق مادة الجزاء والظهور الثانی. وإما أن الحکم الأول انتهی أمده ولم یستمر إلی زمان حدوث الشرط الثانی، وإلا فیوجد لدینا حکمان فی زمان واحد علی طبیعی الوضوء وهو محال نتیجة استحالة اجتماع حکمین ووجوبین علی طبیعی الوضوء.

ص: 104

فنعلم إجمالاً إما أن الظهور الأول کاذب (وما حدث حکم ثان) وإما أن الظهور الثانی کاذب (وهو عدم تعلق الحکم الثانی بالطبیعی) وإما أن الظهور الثالث کاذب (وهو عدم استمرار الحکم الأول).

فنعلم إجمالاً بتعارض هذه الأطراف الثلاثة وکلها تتعارض وتتساقط، ومعنی التساقط أن لا أصل لفظی فی البین، فنرجع إلی الأصل العملی الذی هو أصل البراءة الذی ذکرناه سابقاً. فلا یتم الإشکال الذی ذکره السید محمدٌ الباقر الحکیم رضوان الله علیه.

والخلاصة أن هذا الفرض الأول (أی: فیما إذا افترضنا أن الظهور الأول وهو الحدوث عند الحدوث) إذا کان من نوع الإطلاق فیدخل فی التعارض لأنه إطلاقی أیضاً کالظهور الثانی والثالث، ولا میزة لهذا الإطلاق علی ذینک الإطلاقین الثانی والثالث. فیقع التعارض الثلاثی بین هذه الإطلاقات الثلاثة وتتساقط والنتیجة الرجوع إلی البراءة، فلا یتم الإشکال الذی ذکره السید الحکیم، فلأجل أن یتم الإشکال ذکر سیدنا الأستاذ الشهید متمماً بافتراض أننا نحتفظ بالظهور الأول ولا ندخله فی المعارضة الثلاثیة، وذلک بالقول بأنه ظهور وضعی ولا یحتاج إلی مقدمات الحکمة وحینئذ یکون التعارض ثنائیاً بین الثانی والثالث.

فإما أن الإطلاق الأزمانی للقضیة الشرطیة الأولی باطل أو إطلاق مادة الجزاء فی القضیة الثانیة غیر صحیح، فیقع التعارض بینهما. وأما ظهور القضیة فی حدوث أصل الحکم عند حدوث الشرط محفوظ ولم یدخل فی التعارض (لما تقدم من کونه أقوی من الإطلاق). وحینئذ

إشکال السید الحکیم لا یصح فی فرض التعارض الثلاثی، لتساقط الأطراف والرجوع إلی الاستصحاب، لأن حدوث الأول متیقن والثانی مشکوک فنجری البراءة. ویصح فی فرض التعارض الثنائی.

فیتم إشکال السید الحکیم بهذا التتمیم، حیث یأتی الاستصحاب لأننا نشک فی أنه هل ذاک الحکم الأول الذی حدث بالنوم باق إلی الآن أو لا؟ فعندنا یقین سابق وشک لاحق فنجری الاستصحاب. فهذا نثبته بالاستصحاب وذاک الثانی نثبته بالحدوث عند الحدوث. فیجتمع علی المکلف الآن وجوبان. أی: یقوم الاستصحاب مقام الإطلاق الأزمانی ویؤدی دوره؛ لأن الإطلاق الأزمانی سقط فی التعارض، فالنتیجة عدم التداخل. هذا تتمیم من قبل السید الأستاذ الشهید.

ص: 105

وسیأتی الجواب عن هذا الإشکال فی الدرس القادم فی یوم السبت إن شاء الله تعالی.

مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

الجلسة ال_37

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

کان الکلام فی الظهور الذی ادعاه المحقق الخراسانی ره للقضیة الشرطیة حیث قال: إن هذا الظهور (الحدوث عند الحدوث) یقتضی عدم التداخل فی الأسباب، أی: ثبوت وجوبین للوضوء. وقلنا: إن هذا الظهور إنما یُثبت عدمَ التداخل بشروط ثلاثة:

1- أن یکون الجزاء جملةً فعلیة.

2- أن یتعاقب السببان (النوم والبول).

3- أن یکون للقضیة ظهور آخر (الإطلاق الأزمانی:) فی أن الوجوب الحادث بسبب الأول استمر إلی زمان حدوث السبب الثانی.

فإذا افترضنا وجود الظهور الأول (الحدوث عند الحدوث) دون الثانی (الإطلاق الأزمانی) فلا یکون للقضیة ظهورٌ فی أن الحکم الأول مستمر وباق إلی زمان حدوث السبب الثانی، فیحتمل أن یکون أمدُ الوجوبِ الأولِ قد انتهی قبل حدوث السبب الثانی (لأنه افترضنا أن لا إطلاق أزمانی)، وحینئذ مجرد الظهور الأول الذی قاله الآخوند لا یکفی لإثبات عدم التداخل، حیث لم یعد هناک موضوع للتداخل وعدم التداخل.

ثم جاء إشکال یقول: لطالما لیس للقضیة إطلاق أزمانی فبالإمکان إثبات الحکم الأول باستصحابه إلی زمان حدوث السبب الثانی (أی: قام هذا الاستصحاب مقام الإطلاق الأزمانی)، کما یمکن إثبات الحکم الثانی بظهور القضیة الشرطیة فی الحدوث عند الحدوث وهو ما قاله الآخوند. فعلیه فإن مقتضی الأصل العملی عند الشک فی التداخل وعدم التداخل هو عدم التداخل. وهذا خلاف ما ذکرتموه من أن مقتضی الأصل العملی عبارة عن البراءة، والذی ختمتموه بالتتمة التی ذکرها السید الأستاذ الشهید.

ص: 106

الجواب: وقد أفاد سیدنا الأستاذ الشهید فی الجواب عنه أن مقتضی الأصل العملی حتی فی هذا الفرض فی صالح التداخل، وهذا الإشکال غیر تام، وذلک لعدم قیام هذا الاستصحاب مقام الإطلاق الأزمانی، لکی تخرجوا بحکمین، وتکون النتیجة عدم التداخل؛ وذلک لأنه لا أثر لجریان هذا الاستصحاب ولا تترتب علیه فائدة؛ فإن الفائدة المتوخاة من هذا الاستصحاب هو إثبات حکمین علی المکلف (أی: عدم التداخل)، وهذا الأثر متوقف علی أن یکون الحکمُ الثانی (الذی حدث بالنوم) متعلقاً بحصة خاصة من الوضوء (غیر الحصة التی یمتثل بها الوجوب الأول) دون طبیعیِّه؛ فإنه لا یمکن أن یتعلق کل من الوجوب الأول والثانی بطبیعی الوضوء لاستحالة اجتماع المثلین.

والأثر الذی نریده من الاستصحاب هو ثبوت حکمین علی المکلف وهو متوقف علی أن یکون الحکم الثانی متعلقاً بالحصة، وتعلقه بالحصة متوقف علی بقاء الحکم الأول إلی زمان الحکم الثانی، فبالاستصحاب تریدون إثبات بقاء الحکم الأول إلی زمان الحکم الثانی. ولکن لا یثبت هذا الاستصحاب أن الحکم الثانی قد تعلق بالحصة، وإنما لازمه العقلی یثبت أن الحکم الثانی قد تعلق بالحصة، والقول باللازم العقلی للاستصحاب هو القول بحجیة الأصل المثبت وهو باطل. فإذا لم یجر الاستصحاب فلا یثبت لدینا حکمان کی تکون النتیجة عدم التداخل.

فلو أرید إجراء هذا الاستصحاب لتنجیز وجوب طبیعی الوضوء فهذا منجز علی المکلف علی کل حال (أی: یستحق العقاب لو ترک الوضوء أبداً) من دون حاجة إلی الاستصحاب، ولو أرید أجراء هذا الاستصحاب لتنجیز وجوب حصة خاصة من الوضوء (أی: إثبات استحقاق العقاب لترک وجوب آخر للوضوء، فهذا یکون تأویلاً علی الأصل المثبت). فمن ترک الطبیعی یکون تارکاً للحصة أیضاً ومن ترک الحصة قد ارتکب مخالفةً قطعیة للوجوب الثانی.

ص: 107

إذن، فبسقوط هذا الاستصحاب یبقی العلم بالحکم الثانی (بناء علی ظهور الحدوث عند الحدوث، ولم یبق لدینا شیء آخر کالاستصحاب والإطلاق الأزمانی للقضیة الشرطیة الأولی) ولا ندری هل تعلق هذا الوجوب الثانی بطبیعی الوضوء أو بحصة خاصة منه؟ فتعلقه بجامع الوضوء معلومٌ وتعلقه بحصة خاصة مشکوک، فیکون من موارد دوران الواجب بین الأقل والأکثر، فنجری البراءة عن الأکثر، والأکثر هنا هو التقید بحصة خاصة، فتکون النتیجة فی صالح التداخل. فهذا الاستصحاب ما أفادنا بشیء، فمازال کلامنا السابق تاماً وهو أن مقتضی الأصل العملی هو البراءة، أی: الأصل فی مقتضی التداخل حتی فی هذا الفرض.

إشکال علی الجواب(1) : ما المقصود من عدم ترتب فائدة وأثر علی هذا الاستصحاب؟

إن کان المقصود منه أن الاستصحاب باعتباره جعلاً شرعیاً (تنزیل شرعی من قبل الشارع، حیث یُنَزِّل الشارعُ المشکوکَ منزلةَ المتیقن) إنما ینال الآثار والأحکام الشرعیة ولا تمتد ید التشریع إلی اللوازم العقلیة (أی: یجب أن یکون المستصحب ذا أثر شرعی کی یتم جریان الاستصحاب) وفی المقام لیس للمستصحب أثر شرعی کما قلتم.

فیرد علیه أن المستصحب هنا بنفسه أثر شرعی وحکم شرعی، فإننا نستصحب الحکم الأول والوجوب الأول للوضوء.

وإن کان المقصود من عدم إمکانیة جریان الاستصحاب هو لَغویة جریانه.

فیرد علیه بأنه لیس لغواً وفائدته إثبات حکمین شرعیین بإجراء الاستصحاب فی الحکم الأول إلی زمان البول وبمعونة القضیة الشرطیة الثانیة (حدوث الحکم الثانی عند حدوث البول)، وحینئذ حیث أننا نقطع بأن الحکم الثانی متعلق بغیر ما یتعلق به الحکم الأول؛ لاستحالة تعلق حکمین بشیء واحد، فالحکم الثانی قطعاً متعلق بغیر الوضوء الذی یُمتثل به الحکمُ الأول، فبالتالی نقطع بأن الوضوء الأول لیس امتثالاً لکلا الحکمین، وإنما لا بد من وضوء ثان. ففائدته أنه یلزم علیه وضوءان، فلا یکون الاستصحاب لغواً.

ص: 108


1- (1) - قائل هذا الإشکال هو السید کاظم الحائری علی ما نقله الأستاذ من دفاتره القدیمة فی الأصول.

الجواب عن هذا الإشکال(1) : وإن کنا نقطع بأنه لو کان الثابت بحسب الواقع هو وجوبین وحکمین، فالوجوب الثانی قطعاً متعلق بغیر ما یمتثل به الوجوبُ الأول وإلا یلزم منه اجتماع المثلین، فالوضوء الأول لا یعتبر امتثالاً لکلا الوجوبین (إذا کان فی الواقع وجوبان) لکن کلاً من الوجوبین بمقدار تنجزِهِ علینا یُمتَثل بالوضوء الأول.

أما الوجوب الأول فواضح لأنه متعلق بطبیعی الوضوء والطبیعی یحصل خارجاً بامتثال الوضوء الأول.

وأما الوجوب الثانی فالوضوء الأول امتثال له أیضاً، لأننا شککنا - حسب الفرض - فی أنه هل تعلق بالطبیعی أم بحصة خاصة؟ فإذا بقی الأول فالثانی لم یتعلق بالطبیعة، وإذا لم یبق الأول فهذا متعلق بالطبیعة. والبراءة توافق الأول، أنه متعلق بالطبیعی، وتجری البراءة عن التعیین لتکون النتیجة التخییر. تجری البراءة عن التعیین، ونتیجة البراءة أن الوجوب الثانی متعلق بالطبیعی وهو ینطبق علی الوضوء الأول. کما أن الاستصحاب لم یقدر إثبات أن الوجوب الثانی متعلق بالحصة، لأنه أصل مثبت.

والخلاصة أنه وإن صح ما قلتموه من أنه لو کان فی الواقع یوجد حکمان فالحکم الثانی متعلق بغیر ما یُمتثل به الحکم الأول، لکن بالمقدار الذی تنجز (کل واحد من الحکمین) علی المکلف یکون الوضوء الأول امتثالاً له، فالنتیجة أیضاً فی صالح التداخل.

هذا تمام الکلام فی هذا البحث الأول من البحوث الثلاثة فی تداخل الأسباب:

البحث الأول: البحث عن الظهور الذی یقتضی عدم التداخل

البحث الثانی: البحث عن الظهور الذی یقتضی التداخل.

البحث الثالث: البحث عن العلاج.

ص: 109


1- (2) - الجواب من السید الشهید الصدر علی ما نقله الأستاذ عنه فی دفاتره القدیمة فی الأصول.

فتبین أن الظهور الذی ذکره الآخوند وقال إنه یقتضی عدم التداخل تام عندنا فی الجملة، یعنی القضیة الشرطیة لها ظهور یقتضی عدم التداخل وهو الظهور فی الحدوث عند الحدوث لکن فیما إذا اجتمعت شروط ثلاثة: 1- أن یکون الجزاء جملة فعلیة 2- أن یتعاقب الشرطان 3- أن یدوم الحکم الأول إلی زمان حصول الشرط الثانی. ومن دون توفر هذه الشروط الثلاثة لا یکون للقضیة ظهور یقتضی عدم التداخل. هذا تمام الکلام فی البحث الأول، وسوف ننتقل إلی البحث الثانی غداً إن شاء الله تعالی.

مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

الجلسة ال_38

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

انتهینا من البحث الأول وهو البحث عما یقتضی الدلالةَ علی عدم تداخل الأسباب.

وأما البحث الثانی وهو البحث عما یقتضی الدلالةَ علی تداخل الأسباب، فالمشهور أنه عبارة عن إطلاق المادة فی الجزاء، فإن «فتوضأ» جَزاءٌ فی جملة «إذا نمت فتوضأ»، وله مادة وهیئة. والهیئة هی صیغة «افعل»، والمادة هی الوضوء، وهی مطلقة یقتضی إطلاقها أن یکون متعلق الأمر (متعلق الوجوب) قد تعلق بمطلق الوضوء وطبیعیه، لا بفرد خاص منه، هذا فی القضیة الشرطیة الأولی. وکذلک القضیة الشرطیة الثانیة، حیث یقتضی إطلاق المادة فی جزائها أن یکون متعلق الأمر هو الطبیعی.

وحینئذ إما نفترض أن کل واحد من هذین الوجوبین یسبب وجوباً مستقلاً للوضوء وهو محال لاستحالة اجتماع المثلین. وإما نفترض أن کل واحد منهما قد تعلق بحصة خاصة من الوضوء، وهو خلف إطلاق المادة فی الجزاء. وإما نفترض أنهما یسببان وجوباً واحداً متعلقاً بطبیعی الوضوء وهو التداخل. هذا هو المشهور.

ص: 110

وقد اعترف المحققُ الخراسانی بهذا الظهور (إطلاق المادة فی الجزاء المقتضی للتداخل)، وإن قدَّم (ره) الظهورَ الأول (وهو الحدوث عند الحدوث) الذی کان یقتضی عدم التداخل، والذی بحثنا عنه فی البحث الأول. وسنذکره عند ما ندخل فی البحث الثالث، ولکنه اعترف بهذا الظهور الثانی أیضاً.

أما المحقق النائینی ره فقد أنکر أساساً أن یکون فی الکلام ظهورٌ (= إطلاق المادة) یدل علی التداخل، ویمکن تقریبه فنیاً بإنکار ما اشتهر - فی المقام - من أن الإطلاق إما شمولی (= مطلق الوجود) أو بدلی (= صرف الوجود)؛ لأن الإطلاق فی متعلق الأمر لا یدل إلا علی أن المولی أمر بأصل الطبیعة، وغایة الأمر أنه فی طول تعلق الأمر المولوی بأصل الطبیعة. أی: لطالما أن المولی أمر بالطبیعة فیحصل الامتثال من خلال الإتیان بصرف وجود الوضوء (= الإتیان بصرف الوجود هو الذی یقتضیه الأمرُ بعد أن تعلق بأصل الطبیعة)، وصرف الوجود لم یؤخذ فی متعلق الأمر فی رتبة سابقة علی أصل الطبیعة. یعنی:

توضیح ذلک: أن عنوان «صرف الوجود» لدی المشهور والمحقق النائینی، لا ینطبق إلا علی الفرد الأول من الوضوء، فلا تدل علیه لا الهیئة ولا المادة. أما الهیئة فلأنها تدل علی الطلب (أو بتعبیر أدق: تدل علی النسبة الطلبیة، کما تقدم تفصیلاً فی بحث الحروف والهیئات)، وأما المادة فتدل علی طبیعة الوضوء. ولطالما أن الطبیعی لابد وأن تحصل خارجاً بالفرد الأول من الوضوء فیکفی فی مقام امتثال أمر المولی (المتعلق بطبیعة الوضوء) الإتیانُ بالفرد الأول.

إذن، لم یتعلق الوجوبان فی الشرطیتین (النوم والبول) بصرف الوجود أبداً، حتی یقال: إنه یلزم من ذلک اجتماع وجوبین ومثلین، وبما أن هذا محال فدفعاً لمحذور اجتماع المثلین لابد وأن نلتزم بأن کلا من الوجوبین تعلق بالحصة (بوضوء غیر الوضوء الذی تعلق به الوجوب الآخر) وهذا یتنافی مع إطلاق المادة، لننتهی إلی أن إطلاق المادة یقتضی التداخل وثبوت وجوب واحد متعلق بطبیعی الوضوء.

ص: 111

فهذا لیس صحیحاً؛ إذ أن الوجوبین لم یتعلقا بشیء واحد حتی یأتی هذا النمط من التسلسل فی التفکیر، بل تعلقا بالطبیعة، وهذا یقتضی وجوب حصتین من الطبیعة ووضوءین، لکن هذا التحصیص والتعدد فی الوضوء لیس فی رتبة سابقة علی الوجوب کی یکون منافیاً لإطلاق المادة، بل هو فی مرتبة متأخرة عن الوجوب؛ لأن الفعل الصادر من المکلف (وهو الوضوء) معلول للوجوب، والمعلول لا یتحصص ولا یتعدد بعلته فی الرتبة السابقة علی العلة، بل یتحصص فی الرتبة المتأخرة عن العلة، کما هو الحال فی تعدد العلل التکوینیة.

مثلاً إذا کانت العلة هو تعدد اصطکاک حجر بحجر، فیتعدد المعلول ویحدث صوتان، ولکن لا یکون هذا التعدد فی جانب المعلول فی رتبة سابقة علی العلة، فلا یکون کل من الاصطکاکین علةً مقتضیة لحصة خاصة من الصوت، بل إن کلاً من الاصطکاکین یقتضی الصوت، لا أنه یقتضی حصة خاصة منه. لکن کل من هذین الصوتین (التعدد فی الصوت) لم یکن فی الرتبة السابقة علی العلة، بحیث العلة (الاصطکاک) جاء وأصبح علة لحصة خاصة من الصوت، وإنما الاصطکاک علة لطبیعی الصوت، لا أنه یقتضی حصةً من الصوت غیر الصوت الذی یحدثه الاصطکاک الآخر. ولکن بالمآل یحصل لکل من الاصطکاکین صوتٌ خاص، فهذا التحصیص فی طول مجیء العلة، وإلا فإن قبل مجیء العلة لم یکن المعلول محصصاً ومتعدداً، فهو کان طبیعی الصوت.

کذلک فیما نحن فیه، فإن کلاً من الوجوبین (فی النوم والبول) لم یتعلق بحصة من الوضوء کی تقولوا بوجوبین وعدم التداخل، فإن إطلاق مادة الجزاء لا یقتضی التداخل، لأنه منافی لإطلاق مادة الجزاء. ولم یتعلق الوجوبان بحصة خاصة من الوضوء أساساً، بل یمکن القول بحدوث وجوبین ولکن من دون القول بأنهما قد تعلقا بحصة خاصة من الوضوء، ولیس التحصیص فی الرتبة السابقة علی الوجوب، فلم یأت الوجوب لیتعلق بوضوء متحصص، بل کل من الوجوبین متعلق بذات الطبیعة، لکن یحصل التحصیص فی الوضوء فی طول تعلق الوجوب بطبیعیه (ولا یتعدد الطبیعی).

ص: 112

وخلاصة کلام المرزا هو أن ما توهمه القائلون بهذا الظهور الثانی من أن القول بعدم التداخل ووجود وجوبین فی المقام یتنافی مع إطلاق المادة، غیر صحیح؛ لأننا نقول بعدم التداخل رغم احتفاظنا بإطلاق المادة فی الجزاء، فإن معنی إطلاق المادة فی الجزاء هو أن الأمر قد تعلق بالجزاء فی کل من الشرطیتین، فلا یقتضی إطلاق المادة التداخل. هذا ما أفاده ره مع توضیح منا.

ویرد علیه أن نسبة الوجوب إلی الفعل الصادر من المکلف - أیّا کان وهو الوضوء فی المقام - لیس نسبة العلة إلی المعلول، وقیاس باب الوجوب بباب العلل والأسباب التکوینیة قیاس مع الفارق.

فإذا فرضنا أن الوجوبین قد تعلقا بحصتین فیلزم الإتیان بحصتین، أما إذا فرضنا أن الوجوبین قد تعلقا بطبیعی الوضوء فلا یلزم الإتیان بوضوءین وبحصتین. فلو فرضنا أن کلا من الوجوبین قد تعلق بذات الطبیعة - کما افترض المرزا - وأن الوجوب بنفسه لیس علة للامتثال(1) ، والعقل الذی یحکم لزوم الامتثال ویدرکه (وینقدح الداعی فی نفس المکلف لیقوم ویصلی أو یتوضأ)، یدرکُ أیضاً وجوب تطبیق متعلق أمر المولی علی مصداقه فی الخارج. ومن الواضح أن کِلا المتعلقین ذات الطبیعة، فینطبقان علی الوضوء الأول، فیتحقق امتثال کلا الأمرین بهذا الوضوء الأول. وهذا معناه أن الوجوبین کلیهما یدعوان المکلف إلی هذا الشیء الواحد، فیلزم اجتماع مثلین علی شیء واحد وهو محال. فلا یمکن أن نفترض أن الوجوبین قد تعلقا بذات الطبیعة، ومع ذلک لا یحصل التداخل.

ص: 113


1- (1) - الوجوب خلق الإرادة لکن بمعونة حکم العقل، وإلا فلو لم یکن العقل یحکم بوجوب امتثال أمر المولی فالوجوب لم یکن یحرکُ عامة الناس (إلا القلیلون الذین یحرکون نحو الامتثال حبا بالمولی)، فلا یرتبط البحث بالسلطنة والجبر والإرادة الذی تقدم سابقاً.

فتحصّل أن الحق مع الآخوند، وهو الاعتراف بوجود ظهور - إطلاق المادة فی الجزاء - یقتضی التداخل ولا یمکن التحفظ علی إطلاق المادة فی الجزاء رغم القول بعدم التداخل، فإنه یلزم منه محذور اجتماع المثلین. هذا تمام الکلام فی هذا البحث الثانی.

مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

الجلسة ال_39

العنوان: مفهوم الشرط / تنبیهات مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

البحث الثالث

حل التعارض القائم بین الظهورین المتقدمین فی البحثین السابقین.

وأما البحث الثالث وهو البحث عن کیفیة حل التعارض القائم بین الظهورین المتقدمین (أی: الظهور المقتضی لعدم التداخل، والظهور المقتضی للتداخل) فی البحثین السابقین.

ولمعالجة هذا التعارض ذُکر وجهانِ یُقدَّم فیهما الظهور الأول علی الظهور الثانی:

الوجه الأول: ما أفاده المحقق الخراسانی فی متن الکفایة، وهو القول بأن الظهور الأول یرفع موضوع الظهور الثانی؛ وذلک لأن الظهور الثانی وهو إطلاق المادة فی الجزاء ظهور إطلاقی، ومن جملة مقدمات الحکمة عدم البیان، (کما یأتی إن شاء الله فی بحث الإطلاق بأن من شروط مقدمات الحکمة أن لا یذکر المتکلم القیدَ مع أنه فی مقام البیان).

بینما الظهور الأول الذی یقتضی عدم التداخل (الحدوث عند الحدوث)، لیس ظهوراً إطلاقیاً ثابتاً من خلال مقدمات الحکمة، بل هو ظهور وضعی أو عرفی، ثابت بالوضع. فیکون هذا الظهور العرفی بیاناً للقید، فیرتفع موضوع الظهور الثانی وشرطه تکویناً.

أقول: بناء علی التقریب الأول (وهو التقریب المشهور - والذی ناقشناه - القائل بأن للقضیة الشرطیة ظهورٌ فی أن الشرط علة تامة للجزاء) من البحث الأول (الظهور المقتضی لعدم التداخل) لا یتم کلام المحقق الخراسانی فی المقام، أی: لا یکون الظهور المقتضی لعدم التداخل رافعاً لموضوع الظهور المقتضی للتداخل؛ لأنه بناء علی هذا التقریب سوف یکون الظهوران متساویین، أی: یکون کلاهما ظهوراً إطلاقیاً ثابتاً بمقدمات الحکمة، لا بالوضع. والسبب فی ذلک ما تقدم هناک من أن ظهور القضیة الشرطیة فی کون الشرط علةً تامةً غیر مستفادٍ من الوضع اللغوی، ولا مستفاد من العرف، وإنما هو مستفاد من الإطلاق الأحوالی (الإطلاق الواوی لدی المرزا)، فهذا الإطلاق یدل علی أن الجزاء مترتب علی الشرط فی جمیع الحالات، سواء انضم إلیه شیء آخر، أم لا.

ص: 114

أما علی التقریب الثانی للظهور المقتضی لعدم التداخل - وهو ما ذکره الآخوند - حیث کانت القضیة الشرطیة ظاهرة فی حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، (ولیس مسألة العلیة) وقد استفاد الآخوند من هذا الظهور عدم التداخل هناک.

لکن هذا الظهور وإن لم یکن فی نفسه ظهوراً إطلاقیاً مستفاداً من مقدمات الحکمة، بل وضعیاً أو عرفیاً، لکنه وحده لا یکفی لإثبات عدم التداخل؛ لما تقدم منا فی ذاک البحث بأن ثبوت عدم التداخل بهذا الظهور متوقف علی شروط ثلاثة:

1- أن یکون الجزاء فعلاً من الأفعال.

2- أن یتعاقب الشرطان.

3- وعلی أن یکون الحکم الأول باقیاً ومستمراً إلی زمان حدوث الشرط الثانی.

وبهذه الشروط الثلاثة قبلنا أن ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث ظهورٌ تام یدل علی عدم التداخل. فلا یکفی هذا الظهور وحده لإثبات عدم التداخل من دون هذه الشروط.

وحینئذ نقول: إما نفترض إثبات بقاء الحکم الأول إلی زمان حصول الشرط الثانی بالإطلاق الأزمانی للقضیة الشرطیة الأولی، فیصبح الظهور المقتضی لعدم التداخل محتاجاً إلی مقدمات الحکمة والإطلاق أیضاً. فلا یتم کلام الخراسانی أیضاً؛ لأن الظهورین أصبحا إطلاقیین فهما متساویان، فلا یصبح الأول رافعاً لموضوع الثانی. ولا وجه لتقدیمه علی الثانی.

وأما إن لم یکن هذا البقاء ثابتاً من خلال الإطلاق الأزمانی (بل کان أمراً معلوماً لنا من الخارج بأن الوجوب الذی أحدثه النوم یبقی مستمراً إلی زمان البول، من دون حاجة إلی الإطلاق الأزمانی)، فیتم کلام المحقق الخراسانی صغرویاً! أی: یکون الظهور المقتضی لعدم التداخل فی هذا البحث، ظهوراً وضعیاً، بینما الظهور المقتضی للتداخل ظهور إطلاقی. فتتم هذه الصغری القائلة بأن الظهور الموجب لعدم التداخل، ظهور ثابت بالوضع، أما الظهور الموجب للتداخل، ثابت بالإطلاق.

ص: 115

وأما کبری کلام المحقق الخراسانی هی أنه کلما کان کذلک فالظهور الثابت بالوضع مقدَّم علی الظهور الثابت بالإطلاق ورافع لموضوعه.

فنقول: إن أراد ره به أن الظهور الوضعی مقدم علی الظهور الإطلاقی ورافع لموضوعه، حتی وإن کان منفصلاً عنه، کما ذهب إلیه الشیخ الأنصاری رض(1)

(2) .

فیرد علیه ما أورده هو فی المقام (فی حاشیته علی الکفایة)، حیث قال: إننا لا نقبل رأی الشیخ الأنصاری، بل مختارنا هو أن المقیِّد المنفصل لا یصلح لأن یکون بیاناً حتی یهدم مقدماتِ الحکمة ویبطلها ویکسرها ورافعاً لشروط الإطلاق وموضوعه. بل من جملة مقدمات الحکمة هو عدم البیان المتصل، وهذا هو الحق کما یأتی إن شاء الله فی بحث الإطلاق. نعم المقید المنفصل یهدم حجیة الإطلاق، لکن الظهور یبقی موجوداً. فإذا کان المتکلم فی مقام بیان مراده ولم یذکر قیداً متصلاً بهذا الکلام، حینئذ تتم مقدمات الحکمة وینعقد له الإطلاق، فلا یخرب هذا الإطلاق شیء.

ص: 116


1- (1) - حیث ذهب إلی أن المقید المنفصل یرفع الإطلاق ولا یبقی للکلام ظهور فی الإطلاق، ولیس أنه یرفع حجیّته فحسب، فلو قال أکرم العالم فی دلیل، وقال فی دلیل منفصل: لا تکرم العالم الفاسق، فهذا المقیِّد المنفصل یهدّم ظهور الأول فی الإطلاق، ولا یُبقی له ظهوراً إطلاقیاً، ویرفع موضوع الإطلاق).
2- (2) فهل یقصد الآخوند أن الظهور الوضعی الذی یقتضی عدم التداخل یرفع موضوع الظهور الذی یقتضی التداخل، ویهدم هذا الإطلاق المقتضی للتداخل، حتی وإن کان منفصلاً عنه. بحیث یرفع قولُهُ «إن بلتَ فتوضأ» (باعتبارها ظاهرة - ظهوراً وضعیاً - فی حدوث الوجوب عند حدوث البول) موضوعَ الظهور الإطلاقی الموجود فی القضیة الأولی القائلة بأنه «إن نمت فتوضأ»، حیث لها إطلاق المادة (الوضوء) فی الجزاء، فهذا الإطلاق یقتضی أن یکون الوجوب متعلقاً بطبیعی الوضوء. وهذا معناه التداخل، لأن الطبیعی لا یجتمع علیه وجوبان. فذاک الإطلاق یقتضی التداخل، بینما هذا الظهور الوضعی فی القضیة الثانیة (الحدوث عند الحدوث) یقتضی عدم التداخل. أی: هذا الظهور الوضعی بیان للقید، فالمادة فی الجزاء لیست مطلقة بل مقیدة، أی: وضوء آخر ولیس طبیعی الوضوء.

وهذا إیراد صحیحٌ وَفقاً لمبناه ومبنانا القائلین بأن من مقدمات الحکمة هو عدم البیان المتصل، ولیس المنفصل أیضاً.

أما إن أراد المحقق الخراسانی ره أن الظهور الوضعی المعارض مع الظهور الإطلاقی متصل به ولیس منفصلاً عنه، بدعوی أن التعارض هنا واقع بین ظهوری کل واحد من الجملتین، لها ظهوران. مثلاً الجملة الأولی لها ظهوران: ظهور یقتضی عدم التداخل، وهو الظهور الوضعی (الحدوث عند الحدوث) ولها ظهور ثان یقتضی التداخل، وهو الظهور الإطلاقی (أی: إطلاق مادة الوضوء فی الجزاء). وکذلک الجملة الشرطیة الثانیة تملک هذین الظهورین.

وبعبارة أخری: لطالما یوجد ظهوران فی کل قضیة، فالظهور الوضعی یرفع موضوع الظهور الإطلاقی. فلا یأتی الإشکال السابق؛ لأن الظهور الوضعی المقتضی لعدم التداخل فی جملة واحدة ومتصل بذاک الظهور الإطلاقی الذی یقتضی التداخل. فمادام متصلاً فیصبح کالمقیِّد المتصل، ولا شک فی أن المقید المتصل یرفع الظهور من أساسه. فهو من قبیل أن یقول: «أکرم العالم العادل»، فی جملة واحدة. فلا شک بأن المقید المتصل یرفع أصل الظهور الإطلاقی.

فهذا الظهور الذی یقتضی عدم التداخل موجود فی نفس الجملة، لکونها وضعیاً لا یحتاج إلی مقدمات الحکمة، فیصلح أن یکون بَیاناً لتقیید إطلاق المادة فی الجزاء، فلا یبقی لها إطلاق. فیقول: حصة من الوضوء، ولیس طبیعی الوضوء.

إذن، لو کان مقصود الآخوند هذا، فیسلم من إشکال الانفصال! لکن یا تُری هل یتم کلامه؟ هذا ما سیأتی شرحه غداً.

مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

الجلسة ال_40

کنا نتحدث عن الوجه الذی ذکره المحقق الخراسانی لتقدیم الظهور المقتضی لعدم التداخل (= الأول) علی الظهور المقتضی للتداخل (= الثانی)، حیث أفاد أن وجه التقدیم هو أن الأول بیان للقید فیرفع موضوع الثانی الذی هو عدم البیان. فإن الظهور الأول وضعی لا یحتاج إلی مقدمات الحکمة بینما الثانی بحاجة إلیها. ومن جملة مقدمات الحکمة عدم بیان القید، والظهور الأول بیان للقید. فکنا بصدد دراسة محتملات هذا الکلام، وانتهینا بالأمس إلی احتمال أن یکون مقصود الآخوند هو أن أحد الظهورین متصل بالآخر، والتعارض واقع بین ظهورین داخلَ جملةٍ واحدة. فمثلاً إن جملة «إن نمت فتوضأ» لها ظهوران:

ص: 117

الظهور الأول: هو الظهور الوضعی فی الحدوث عند الحدوث، وهو یقتضی عدم التداخل.

الظهور الثانی: هو الظهور الإطلاقی (إطلاق مادة الجزاء وهو الوضوء) وهذا یقتضی التداخل. فیقدم الأول علی الثانی؛ لأن الأول بیان بالنسبة إلی الثانی، ورافع لموضوعه.

الملاحظة: إن کان هذا هو مقصوده فیرد علیه بأن البیان لیس متصلاً فی المقام، بلا فرق بین فرض حدوث الشرطین فی زمان واحد مقترنین (حدوث النوم والبول) وبین فرض حدوثهما فی زمانین متعاقبین.

أما الأول (المقترنان) فالمعارض للظهور الثانی لیس عبارة عن خصوص الظهور الأول، کی یقول الآخوند: فالمعارض متصل؛ لأن من الممکن أن یکون کلا هذین الظهورین فی جملة «إن نمت فتوضأ» صادقَیْنِ فیما إذا کان أحد ظهوری الجملة الأخری کاذباً؛ لأن لدینا جملة أخری مستقلة وهی جملة «إن بلت فتوضأ». أی: یحدث وجوبٌ للوضوء عند حدوث النوم (وهذا هو الظهور الأول وهو الحدوث عند الحدوث). وأیضاً یمکن صدق الظهور الثانی، فإن هذا الوجوب الحادث عند حدوث النوم وجوبٌ لطبیعی الوضوء. فمثلاً إذا فرضنا أن الجملة الثانیة فاقدة للظهور الأول (= الحدوث عند الحدوث) أی: لا یحدث وجوب للوضوء عند حدوث البول، أو یحدث وجوبٌ لکن ظهورها الثانی کاذب، أی: لا یتعلق بطبیعی الوضوء. وإنما هذا الوجوب یتعلق بالوضوء بقید کونه وضوءاً آخر وحصة أخری غیرَ الوضوء الذی به یُمتثل الوجوب الأول. فمع کذب أحد ظهوری الجملة الثانیة لا یکون الظهوران فی الجملة الأولی متعارضین، بل یمکن أن یصدقا معاً.

والحاصل أنه لا محذور أبداً فی أن نفترض بأن بحدوث النوم یحدث وجوب ویتعلق بطبیعی الوضوء، لکن عند حدوث البول إما لا یحدث أصلاً وجوب أو إذا یحدث یتعلق بحصة خاصة من الوضوء. إنما المحذور فیما إذا حدث الوجوب عند حدوث النوم ویتعلق بطبیعی الوضوء وکذلک یحدث وجوب عند حدوث البول ویتعلق أیضاً بطبیعی الوضوء، لاستحالة اجتماع المثلین.

ص: 118

فلیس معارضُ الظهورِ الثانی فی الجملة الأولی، الظهورُ الأول فی الجملة الأولی فحسب، بل معارضه مجموعُ الظهور الأول فی الجملة الأولی والظهورین الآخرین فی الجملة الثانیة. لأننا رأینا أنه إن کان أحد ظهوری الجملة الثانیة کاذباً، یرتفع التعارض بین ظهوری الجملة الأولی. فالمعارض للظهور الثانی فی الجملة الأولی عبارة عن الظهور الأول فی تلک الجملة مع ظهوری الجملة الثانیة المنفصلة.

فالمعارض مرکب من متصل ومنفصلین. ومن الواضح والمعلوم أن المرکب من متصل ومنفصلین منفصلٌ. إذن فالظهور الإطلاقی الثانی لیس مبتلی بمعارض یکون عبارة عن ظهور الجملة الأولی نفسها فی الحدوث عند الحدوث، کی تقولوا: إن معارضه متصل به وهو بیان، والبیان متصل، فیرتفع موضوع الإطلاق. بل معارضه مجموع ذاک وظهورین آخرین منفصلین.

هذا فی الفرض الأول، أی: فی فرض اقتران الحدثین فی آن واحد. فلم یتم کلام الخراسانی فی هذا الفرض.

أما الفرض الثانی: وهو فرض تعاقب الحدثین، حدث النوم تحقق أولاً ثم بعد ذلک حدث البول، هنا بما أننا لا نحتمل فقهیاً أبداً أن لا یحدث وجوب للوضوء عند حدوث النوم (الحدث الأول) قطعاً، وکذلک لا نحتمل فقهیاً بأن هذا الوجوب الحادث بسبب النوم لم یتعلق بطبیعی الوضوء، فمن المقطوع أن هذا الوجوب تعلق بطبیعی الوضوء. فإننا نقطع بکِلا ظهوری جملة «إن نمت فتوضأ»، ونقطع بأن هذا الوجوب متعلق بطبیعی الوضوء. فنقطع فقهیاً بحدوث الوجوب لطبیعی الوضوء عند حدوث النوم، وهذا یعنی أن ظهوری (الظهور فی الحدوث عند الحدوث، وأیضاً الظهور فی أن مادة الجزاء مطلقة) الجملة الشرطیة الأولی التی تحقق شرطها أولاً، صادقان. وهذا معناه أن کلیهما خارجان عن التعارض للقطع بصدقهما معاً من الناحیة الفقهیة. فیکون التعارض بین ظهوری الجملة الثانیة لا محالة، الجملة التی تحقق شرطها ثانیاً فی زمن لاحق. فسوف یقع التعارض بین ظهوریها: ظهورها فی حدوث الوجوب عند حدوث البول، وظهورها فی أن المادة مطلقة (أی: الوجوب متعلق بطبیعی الوضوء). لأن ظهورها الأول یقتضی عدم التداخل، إذا حقا یحدث وجوب عند حدوث البول ویکون هذا الوجوب متعلقاً بطبیعی الوضوء، فهذا یلزم منه اجتماع المثلین؛ لأننا نقطع بأنه عندما نام حدث وجوب وتعلق بطبیعی الوضوء، والآن بعد ما یبول، یحدث وجوب وکذلک یتعلق بطبیعی الوضوء؟! هذا لیس صحیحاً.

ص: 119

إذن، عندما یبول، إما لا یحدث الوجوب الأول عند ما یبول، وهذا معناه کذب الظهور الأول، وإما لا یتعلق بطبیعی الوضوء بل بوضوء آخر غیر الوضوء الذی یُمتثل به الوضوء الأول، أی الحصة. وهذا معناه أن مادة الجزاء لیست مطلقة.

هنا قد یتوهم أن کلام المحقق الخراسانی یصح، باعتبار أن المعارض (ظهور القضیة للحدوث عند الحدوث معارض لإطلاق مادة الجزاء) متصل، فهو لیس منفصلاً کما أنه لیس مرکباً من متصل ومنفصل. وکلا الظهورین فی جملة واحدة (فی جملة البول وهی الثانیة)، فقد یتوهم أنه لطالما أنهما متصلین فالأول یرفع موضوع الثانی، حیث أن موضوع الثانی (الإطلاق) هو عدم البیان وموضوع الأول البیان.

لکننا نقول: لا یتم کلام الخراسانی ره حتی فی هذا الفرض؛ وذلک لأن البیان الذی یقیّد إطلاق المادة فی الجزاء فی القضیة الثانیة، لیس هذا البیان عبارةً عن الظهور الأول (الحدوث عند الحدوث) فی تلک القضیة فحسب، کی یقول الآخوند هذا الظهور متصل، فهو بیان متصل یرفع موضوع الإطلاق. وإنما البیان الذی یقیِّد إطلاقَ المادة فی الجزاء فی القضیة الثانیة عبارة عن المجموع المرکب من هذا الظهور المتصل فی داخل هذه القضیة الشرطیة الثانیة ومن ظهوری القضیة الشرطیة الأولی التی تحقق شرطها قبلاً. أی: «إن نمت فتوضأ». بدلیل أننا لو فرضنا أن أحد الظهورین فی القضیة الشرطیة الأولی منتف لم یتم البیان الذی یقیّد إطلاق مادة الجزاء فی القضیة الشرطیة الثانیة.

مثلا: لو لم تکن للقضیة الشرطیة الأولی «إن نمت فتوضأ» الظهورُ الأول (الحدوث عند الحدوث) فلا یوجد لدینا بیان تام لتقیید إطلاق مادة الجزاء فی القضیة الثانیة «إن بلت فتوضأ»؛ لأن ما هو موجود عندنا حینئذ لیس إلا ظهور القضیة الثانیة فی حدوث الوجوب عند حدوث البول.

ص: 120

ومن الواضح أن هذا الظهور (حدوث الوجوب عند حدوث البول) وحده لیس بیاناً تاماً لتقیید مادة الجزاء فی القضیة الثانیة؛ لأنه لا تعارض بینهما؛ لأنه ما دام لا یوجد دال علی حدوث الوجوب عند حدوث النوم کما هو المفروض. إذن لا محذور فی أن یحدث الوجوب عند حدوث البول، ویکون هذا الوجوب متعلقاً بطبیعی الوضوء. وهذا معناه أنه إذا لم یکن الظهور الأول فی القضیة الأولی موجوداً لم یکن لدینا بیان لتقیید إطلاق المادة فی الجزاء فی القضیة الثانیة. هذا بالنسبة إلی فرض ما إذا لم یکن للقضیة الأولی ظهورها الأول.

وکذلک فیما إذا کان للقضیة الأولی الظهور الأول (الحدوث عند الحدوث) لکن ظهورها الثانی (إطلاق مادة الجزاء) لم یکن موجوداً (أی: لم تکن ظاهرة فی أن الوجوب تعلق بطبیعی الوضوء). أی: لا یوجد بیان لتقیید إطلاق مادة الجزاء. وذلک لأن الموجود عندنا حینئذ لیس إلا شیئان:

الأول: ظهور القضیة الأولی فی حدوث الوجوب عند حدوث النوم.

الثانی: ظهور القضیة الثانیة فی حدوث الوجوب عند حدوث البول.

ومن الواضح أن هذین الظهورین وحدهما لا یشکلان معاً بیاناً تاماً لتقیید إطلاق المادة فی الجزاء فی القضیة الثانیة. وذلک لعدم التعارض والتنافی بین هذین الظهورین وبین هذا الإطلاق. ولطالما لا یوجد ما یدل علی أن الوجوب الحادث بحدوث النوم أولاً متعلقٌ بطبیعی الوضوء، فلا مانع أبداً ولا محذور فی أن یکون الوجوب الذی الحادث ثانیاً عند حدوث البول متعلقاً بطبیعی الوضوء.

فالحاصل: أن البیان الذی یمکن ادعاء تقیید إطلاق مادة الجزاء فی القضیة الثانیة به، هذا البیان لیس هو خصوص ظهور نفس تلک القضیة فی الحدوث عند الحدوث. بل البیان هو مجموع هذا الظهور المتصل وظهوری القضیة الأولی المنفصلین. فعلیه فأصبح البیان مرکباً من متصل ومنفصلین أیضاً، ومن الواضح أن المرکب من متصل ومنفصلین منفصلٌ. وقد قلنا إن من مقدمات الحکمة عدم البیان المتصل، ولیس عدم البیان المطلق ولو منفصلاً. فلم یتم کلام المحقق الخراسانی حتی فی هذا الفرض. وهو أن الظهور الأول یرفع موضوع الظهور الثانی، بنکتة أنه بیان.

ص: 121

هذا تمام الکلام فی الوجه الأول لتقدیم الظهور المقتضی لعدم التداخل علی الظهور المقتضی للتداخل. فقد قلنا قبل یوم أن الخراسانی ذکر وجهین للتقدیم. فکان هذا هو الوجه الأول الذی ذکره فی متن الکفایة. وهو أن الظهور الأول یقدم علی الثانی لأنه یرفع موضوعه ولأنه بیان. هذا الوجه الأول تبین أنه غیر تام. وبعد ذلک یجب أن نذکر الوجه الثانی لتقدیم الظهور الأول علی الثانی. وهذا ما سوف یأتی إن شاء الله غداً.

مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

الوجه الثانی: للتقدیم هو أقوائیة الظهور الأول (المقتضی لعدم التداخل) علی الثانی (المقتضی للتداخل)، وهو کلام فی غایة المتانة وقد أفاده المحقق الخراسانی أیضاً، ولکن فی هامش الکفایة(1) .

توضیحه: تارة یدّعی - کما ادعاه المشهور - أن الظهور الأول ظهورٌ للقضیة الشرطیة فی کونه علةً تامة مستقلة للجزاء (= الحکم)، کی یقتضی عدمَ التداخل وهو ظهور إطلاقی ثابت بمقدمات الحکمة ولیس وضعیاً؛ لِما تقدم من أن العلیة التامة للشرط مستفادَةٌ من الإطلاق الأحوالی (أو الواوی حسب مصطلح المرزا) للشرط، حیث یدل علی أن الجزاء مترتب علی الشرط فی کل حالاته، سواء کان الشرط منفرداً أم کان منضماً إلی شیء آخر، وهذا ما ذکرناه فی البحث الأول وناقشناه، فلا نعید النقاش ولکن ما یهمنا الآن هو أنه أصبح لدینا ظهوران إطلاقیان متعارضان:

أحدهما: ظهور إطلاقی فی جانب الشرط وهو الإطلاق الذی یقتضی أن الشرط علةٌ تامةٌ للجزاء، وبالتالی یقتضی عدم التداخل (فی فرضنا وهو اجتماع النوم والبول)، فیقتضی أن یکون النومُ علةً تامة للوجوب فی القضیة الأولی کما یقتضی الإطلاق فی القضیة الثانیة أن یکون البول علة تامة للوجوب. فهناک معلولان (أی: وجوبان) أحدهما وجوب ومعلول للعلة الأولی وثانیهما وجوب ومعلول للعلّة الثانیة.

ص: 122


1- (1) - کفایة الأصول: ص 204، آل البیت.

وثانیهما: ظهور إطلاقی فی جانب مادة الجزاء (الوضوء) فهی مطلقة أیضاً ویدل إطلاق المادة علی أن الواجب هو طبیعی الوضوء. هذا الإطلاق بعکس الإطلاق الأول یقتضی التداخل. ولا معنی لوجوبین متعلقین بأمر واحد وهو طبیعی الوضوء، لأنه من اجتماع المثلین. فکلاهما یحتاج إلی مقدمات الحکمة، ولا میزة للظهور الأول علی الثانی، ولا أقوائیة فی البین. أی: النکتة التی ذکرها الآخوند لتقدیم الظهور الأول علی الثانی لا تأتی فی المقام.

أجل، یمکن أن یدعی بحسب الذوق العرفی بأن ذاک الإطلاق الأول فی جانب الشرط مقدم علی هذا الإطلاق الثانی فی جانب الجزاء، باعتبار أن ذاک إطلاق للشرط، والشرط فی عالم الثبوت والواقع مقدم علی الجزاء، إذن یجب أن یکون تابعاً له إثباتاً (عالم الکلام والدلالة) لأصالة التطابق بین عالمی الثبوت والإثبات. فإطلاق الجزاء فی طول إطلاق الشرط، والأخیر له الید العلیا علی إطلاق الجزاء.

لکن هذا البیان صرف دعوی وإن کان من المحتمل أن یکون عرفیاً وذوقیاً لکنه لیس بیاناً فنیاً صناعیاً لتقدیم إطلاق علی إطلاق ولیس من معاییر الترجیح فی باب التعارض، والتی هی عرفیة أیضاً. لکن علی کل حال، لا یهمنا ذلک، لأنه لا نحن نعتبر أن الظهور الإطلاقی الأحوالی الذی تمسک به المشهور إطلاقٌ لا یقتضی عدم التداخل بل ینسجم مع التداخل أیضاً (لما ذکرناه فی البحث الأول)، ولا الآخوند، ولذلک عدل عن کلام المشهور إلی الحدوث عند الحدوث، حیث هو الظهور الذی یقتضی عدم التداخل، وهو من إفاداته.

أما إذا ادعی أن الظهور الذی یقتضی عدم التداخل هو الظهور الذی قاله الآخوند وهو ظهور القضیة الشرطیة فی حدوث الجزاء (وجوب للوضوء) عند حدوث الشرط (النوم أو البول)، وهذا الظهور هو الذی تمسک به الآخوند وقال إنه یقتضی عدم التداخل (لأن لدینا وجوبان، وجوب للنوم ووجوب للبول). وهذا الظهور (الحدوث عند الحدوث) قد قبلنا به لکن ضمن شروط ثلاثة ذکرناها سابقاً.

ص: 123

وفی ضوء ذلک نقول فی المقام: هذا الظهور المقتضی لعدم التداخل وضعی ولا یحتاج إلی مقدمات الحکمة، لأننا اشترطنا أن یکون الجزاء فعلاً من الأفعال، وللفعل هذه الدلالة علی الحدوث بالوضع اللغوی والعرفی، فمن الضروری أن یکون هذا الظهور الأول أقوی (لأنه وضعی) من ذاک الظهور الثانی الذی کان یقتضی التداخل. والأقوائیة هی من المرجحات العرفیة فی باب التعارض. أی: هذه نکتة فنیة وصناعیة فی التقدیم، مثل تقدیم الخاص علی العام، فإن إحدی وجوه تقدیم الخاص علی العام هو الأقوائیة، أو مثل تقدیم المقید علی المطلق أو الأظهر علی الظاهر أو النص علی الظاهر بنکتة الأقوائیة.

طبعاً لا نقصد بهذا الکلام أن نقول إن الظهور الوضعی دائماً أقوی من الظهور الإطلاقی فی جمیع الموارد، فقد یتفق أن تکون لدینا نکتة خاصة تعکس القضیةَ. وفی ما نحن فیه لا توجد نکتة للتساوی أو للتعاکس، فنبقی نحن وهذان الظهوران، فنقدم الظهورَ الذی یقتضی عدم التداخل علی الظهور الذی یقتضی التداخل بهذه النکتة التی ذکرها الآخوند وهی نکتة الأقوائیة.

وعلی هذا نلتزم فی مثالنا (إن نام ثم بال) بأنه یحدث وجوب عند حدوث النوم وکذلک یحدث وجوب عند حدوث البول (طبعاً هذا مجرد مثال لا متعلَّق له فی الفقه)، غایة الأمر لکی لا یلزم محذور اجتماع المثلین قیدنا إطلاق المادة فی الجزاء. عندما یقول: «إن نمت فتوضأ» یعنی توضأ بوضوء غیر الوضوء الذی تمثل به الوجوب الأول.

ولا یخفی أن ما نذکره هنا بشأن وجوب الوضوء عند حدوث النوم، ووجوبه أیضاً عند حدوث البول إنما هو من باب المثال طبعاً، أی: من باب افتراض أن وجوب الوضوء بنفسه حکم ووجوب تکلیفی عند حدوث النوم والبول، وإلا فبحسب الحقیقة الموجودة فی الفقه، لیس مثال الوضوء من الأمثلة الدالة علی الحدوث عند الحدوث. فهذا المثال یمکن مناقشته لأن توضأ وإن کان فعلَ أمرٍ، لکنه ملحق بالاسم فی عدم الدلالة علی الحدوث، فتوضأ لا یدل علی حدوث وتحریک وبعث مولوی نحو وضوء، بل «فتوضأ» إرشاد إلی أنه إذا نمت فهذا معناه أنک محدث، وأنت تعیش حالة الحدَث ولا تصح منک الصلاة والأعمال المشروطة بالوضوء. مثل ما یقول: إذا أصاب ثوبک نجس فاغسله، فإن ترک لباسه لسنین ولم یغسله لیس آثماً ولا مذنباً. وکذلک «فقصر» إرشاد وإخبار إلی أن تلک الصلاة التی کنت تصلیها تامةً أصبحت الآن قصراً، فکأنه قال: إن خفی الأذان فصلاتک قصر. وهذه جملة اسمیه. فهذه نکتة وهی أنه هذا کان من باب المثال، وإلا بالدقة هذا المثال لا یصلح فیما نحن فیه.

ص: 124

فإن قلت: إن هذا الوجه الثانی إنما یتم فیما إذا تقارن الشرطان - لو آمنا بأنه فی فرض التداخل یوجد ظهور یقتضی عدم التداخل، وهذا ما أنکرناه فی مقامه - أما إذا فرضنا تعاقب الشرطین فلا توجد أقوائیة للأول علی الثانی؛ لأن الأول الذی یقتضی عدم التداخل لیس عبارة عن مجرد ظهور القضیة الشرطیة فی الحدوث عند الحدوث، وذلک لأن مجرد ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث لا یدل علی عدم التداخل، وإنما لابد من أن ینضم إلیه شیء آخر وهو الشرط الثالث (هو الإطلاق الأزمانی) لإثبات عدم انتهاء أمد هذا الوجوب الحادث بالنوم قبل حدوث البول بل استمر الوجوب إلی أن بال. ویثبت هذا الثانی (أن الحکم الذی حدث بالنوم أولاً بقی مستمراً إلی أن حدث البول) بالإطلاق الأزمانی ولیس بالوضع، وبالتالی أثبتنا عدم التداخل، أی: اجتمع علی المکلف وجوبان.

فالظهور المقتضی لعدم التداخل فی فرض تعاقب الشرطین لیس عبارة فقط عن ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث، بل أصبح ما یدل علی التداخل مرکباً من أمرین: هذا الظهور الوضعی فی الحدوث عند الحدوث والإطلاق الأزمانی. والنتیجة تابعة لأخس المقدمات. فیکون فی حکم الإطلاق. فما یدل علی عدم التداخل یصبح مساویاً مع ما یدل علی التداخل فلا توجد نکتة باسم الأقوائیة. هذا إشکال سوف یأتی الجواب عنه إن شاء الله تعالی فی الدرس القادم.

مفهوم الشرط / التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

قلنا إن الظهور (الأول) الذی یدل علی عدم التداخل مقدم علی الظهور (الثانی) الذی یدل علی التداخل، بنکتة أقوائیة الظهور الأول لکونه ظهوراً وضعیاً بخلاف الثانی الذی هو ظهور إطلاقی، والوضعی بحد ذاته أقوی من الظهور الإطلاقی.

ص: 125

ثم طرحنا إشکالاً بقی جوابه، وکان حاصل الإشکال أن الظهور الأول لیس عبارة عن ظهور القضیة فی الحدوث عن الحدوث، فإن هذا لا یکفی وحده لإثبات عدم التداخل، بل لا بد وأن ینضم إلیه الإطلاق الأزمانی الدالُّ علی بقاء الحکم الأول إلی زمان حدوث الشرط الثانی، وهذا الإطلاق الأزمانی لیس وضعیاً، فیحصل التعارض مرة أخری بین ظهورین إطلاقیین، حیث لا أقوی فی بین الإطلاق الأزمانی وإطلاق مادة الجزاء.

الجواب عن الإشکال:

أولاً: صحیحٌ أن ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث قد لا یکفی وحده لإثبات عدم التداخل، بل یحتاج إلی الإطلاق الأزمانی - کما قلنا - لکننا لا نحتاج إلی إثبات بقاء الحکم الأول إلی زمان حدوث الحدث الثانی بالإطلاق الأزمانی فی خصوص القضایا التی هی محل ابتلائنا فی الفقه، کی یقال إن التعارض حصل بین إطلاقین ولا أقوی فی البین، وإنما نقطع - فی تلک القضایا - عادةً ببقاء الحکم الذی حدث بالشرط الأول (النوم) إلی زمان حدوث الحدث الثانی (البول)، ولا نحتمل ولا واحداً بالمائة بأن ذاک الوجوب الذی حدث بسبب النوم قد حان أجلُه، بل نقطع بأنه باق، فلا نحتاج إلی الإطلاق الأزمانی کی یثبت لنا هذا البقاء والاستمرار. علی أن النزاع بین الفریقین (القائل بالتداخل والقائل بعدم التداخل) إنما هو فی توجه حکم واحدٍ أو حکمین للوضوء بعد حدوث الشرط الثانی (البول)؟ القائل بالتداخل یقول بالثانی، والقائل بعدم التداخل یقول بالأول.

فالفریقان متفقان - حتی القائل بالتداخل - علی إمکان امتثال الحکم الأول الحکم الأول (الحادث بالنوم) بعد حصول الشرط الثانی (البول)! وإنما یتنازعان فی حدوث حکم ثان بحدوث الشرط الثانی (البول)، فیرفض القائل بالتداخل حدوث حکم ثان بعد حصول الشرط الثانی ویقول: إن السببین (النوم والبول) قد تداخلا وأوجدا وجوباً واحداً، فأصبح کل منهما جزء من العلة.

ص: 126

مثلاً إذا أحدث مکلفٌ الجنابةَ ومسَّ المیتَ، فلا إشکال عند الفریقین (القائل بالتداخل والقائل بعدم التداخل) فی أنه یصح منه غسلُ الجنابة حتی بعد مسه للمیت، وإنما الخلاف بینهما فی ثبوت وجوب آخر للغسل بعد مس المیت، لأجل مس المیت؟ وهل أن مقتضی القاعدة هو عدم التداخل أو أن مقتضاها هو التداخل وعدم حدوث وجوب آخر؟

وهذا شاهدٌ علی أن بقاء الحکم الأول إلی زمان حصول الشرط الثانی أمر مفروغ عنه. ومن هنا لا یناقشه أحد فی احتمال انتهاء أمد غسل الجنابة قبل مس المیت. فیعتبر هذا الغسل امتثالاً لذاک الوجوب، فلا نحتاج إلی الإطلاق الأزمانی، وإلا لو لم یکن باقیاً لم یُعقل امتثالُه.

وخلاصة الجواب: أن لا حاجة إلی الإطلاق الأزمانی عادة، للقطع - وهو أقوی من الإطلاق الأزمانی - ببقاء الحکم الأول إلی زمان حدوث الشرط الثانی. فیکون الظهور المقتضی لعدم التداخل هو ظهور وضعی (وهو الحدوث عند الحدوث)، بینما الظهور المقتضی للتداخل إطلاقی (إطلاق مادة الجزاء)، فیأتی الوجه الذی ذکرناه وهو التقدیم بنکتة الأقوائیة.

وثانیاً: لو سلمنا أننا بحاجة إلی الإطلاق الأزمانی (الذی ینتج عدم التداخل) لیقع التعارض بینه وبین إطلاق مادة الجزاء (الذی ینتج التداخل)، لکننا لا نسلم بتقدیم الإطلاق الأزمانی علی إطلاق مادة الجزاء؛ وذلک بنکتة الأقوائیة العرفیة بین الإطلاقین، فلقائل أن یقول: إن ظهور الکلام فی الإطلاق الأزمانی أقوی من ظهور مادة الجزاء فی الإطلاق وإرادة الطبیعی؛ فإن مادة الوضوء (فتوضأ) وإن کانت ظاهرة فی الطبیعی، ولکن الإطلاق الأزمانی یدل علی أن الحکم موجود فی کل الأزمان، وهذا الإطلاق الأزمانی أقوی من إطلاق مادة الجزاء؛ لأن الطبیعی کثیراً ما یتقید بقیدٍ، فلا یُراد من الوضوء مطلقُ الوضوء بل حصة منه، وهذا لیس نادراً، خلافاً للإطلاق الأزمانی حیث من النادر أن لا یریده المتکلم.

ص: 127

فمثلاً حینما یقول: «عند ما تنام یحدث وجوب للوضوء» (والذی هو ترجمة للحدوث عند الحدوث) وإن کنا نحتاج إلی إطلاق أزمانی إلی جانب هذا الظهور لإثبات بقاء هذا الوجوب فی أزمنة متأخرة، ولکن هذا الإطلاق الأزمانی أقوی، لأن من النادر جداً أن لا یرید المتکلم هذا الإطلاق الأزمانی، وإنما یکون مقصوده حدوث الوجوب بحدوث النوم ولکن ینتهی أمده بعد قلیل. إن هذا نادر. فندرةُ عدم إرادة الإطلاق الأزمانی تقوی عرفاً الإطلاقَ الأزمانی فی مقابل إطلاق مادة الجزاء. ولکن لیس من النادر أن یرید بالوضوء حصةً منه ولیس طبیعیه. أی: تقیید الطبیعی لیس نادراً لکن تقیید الإطلاق الأزمانی نادر.

إشکال آخر: وهو تقدم إطلاق مادة الجزاء (الذی یقتضی التداخل) دائماً علی ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث (الذی یقتضی عدم التداخل) بنکتة الورود؛ لأن مادة الجزاء الذی یقتضی التداخل واردٌ - ولیس حاکماً - علی ذاک الظهور الثانی؛ ومعلومٌ أن معنی الورود هو نفی الموضوع حقیقةً، وهذا الإطلاق یرفع موضوع ذاک الظهور حقیقةً؛ لأن موضوع الظهور المقتضی لعدم التداخل وشرطه هو أن یکون تعدد الحکم ممکناً کما شرحنا هذا فی الجهة الثانیة من جهات البحث، أما إذا لم یمکن تعدد الحکم فی مورد فهو خارج عن محل النزاع - کما قلنا -، فلا تدل القضیة علی الحدوث عند الحدوث، کما نری وجداناً فی المورد الذی نقطع فیه بعدم تعدد الحکم. مثل مسألة الوضوء، حیث نقطع فقهیاً بأن من نام ثم بال لم یجتمع علیه وجوبان، فقوله «إن بلت فتوضأ» لیس له دلالة علی حدوث حکم آخر بسبب البول.

فموضوع الظهور المقتضی لعدم التداخل هو إمکان تعدد الحکم، بینما مادة الجزاء الدال علی أن الوجوب متعلق بطبیعی الوضوء - إذا کانت المادة مطلقة - یرفع هذا الموضوع (وهو إمکان تعدد الحکم) تکویناً، حیث لا یمکن تعدد وجوبین علی طبیعی الوضوء، لاستحالة اجتماع المثلین. فیقدم علیه بالورود، یعنی انقلبت الآیة حیث أردنا تقدیم الظهور المقتضی لعدم التداخل علی هذا، فتبین أن هذا مقدم علی ذاک.

ص: 128

الجواب عن هذا الإشکال: هو أنه لو فرضنا ثبوتَ عدم إمکان تعدد الحکم، فتارة یثبت هذا بالقطع والیقین - ولیس بالإطلاق - فلیس للکلام حینئذ ظهور فی الحدوث عند الحدوث - کما قلنا - لأننا نقطع بعدم إمکان تعدد الحکم.

أما لو فرض أن التعدد کان ممکناً فی نفسه ولا نقطع بخلافه، وإنما اقتضی إطلاقُ مادة الجزاء استحالةَ اجتماع وجوبین علی طبیعی الوضوء، فیستحیل تعدد الحکم. فظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث ثابت (وهو یقتضی حدوث حکمین) یتعارض مع إطلاق مادة الجزاء (وهو یقول باستحالة حکمین علی الطبیعی)، وحینئذ نرجع إلی الوجه الذی ذکرناه من تقدیم الأقوی وهو ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث لأنه وضعی ذکرنا أنه بحد ذاته أقوی من الإطلاق.

هذا تمام الکلام فی هذا المقام الأول، وهو البحث عن تداخل الأسباب. وقد تحصل من جمیع ما ذکرناه أننا نوافق الرأی المشهور - ومن جملتهم الآخوند، وإن ذکر وجهاً غیر الوجه الذی ذکره المشهور - القائل بأن مقتضی القاعدة عدمُ تداخل الأسباب، ونقول: بأنه کلما وجد الظهورُ المقتضی لعدم التداخل قُدِّم علی الظهور المقتضی للتداخل، لکننا نخالفهم فی ما ذهبوا إلیه من أن هذا الظهور المقتضی لعدم التداخل موجود دائماً فی کل قضیة شرطیة وفی جمیع الموارد، بل نری أن هذا الظهور إنما هو موجود فی قضیة شرطیة تتوفر فیها شروط ثلاثة - کما أکّدنا ذلک - :

أن یکون الجزاء فعلاً من الأفعال. أن یکون الشرطان متعاقبین حدوثاً ولا مقترنین زمانین. أن یکون الحکم الحادث بالسبب الأول باقیاً ومستمراً إلی زمان حدوث الشرط الثانی.

طبعاً قلنا إن الشرط الثالث موجود عادةً، فما ادعاه المشهور من أن مقتضی القاعدة عدم التداخل مطلقاً غیر صحیح، کما أن ما ادعاه غیر المشهور من أن مقتضی القاعدة هو التداخل مطلقاً هذا غیر صحیح أیضاً. بل نحن نفصل بین فرض تعاقب الشرطین وکون الجزاء فعلاً من الأفعال وبین غیره من الفروض. فإن فی هذا الفرض مقتضی القاعدة عدم التداخل، وفی غیره من الفروض مقتضی القاعدة التداخل.

ص: 129

طبعاً هذا کله بحسب القاعدة، وأما إذا فرض قیام دلیل خاص علی التداخل، أو فرض قیام دلیل خاص علی عدم التداخل، فهذا مطلب آخر خارج عن محل الکلام، فلا شک أننا نتبع ذاک الدلیل الخاص.

ومثال ما إذا قام دلیل خاص علی التداخل هو ما إذا قام الدلیل - کما قام الدلیل فعلاً - علی أن من اجتمع لدیه الحدث الأصغر والحدث الأکبر، وکان الحدث الأکبر عبارة عن الجنابة، فاجتمع علیه سبب الوضوء وسبب غسل الجنابة، فیجزی الغسل عن الوضوء. فهذان یتداخلان ویوجدان وجوباً واحداً للغسل.

ومثال ما إذا قام الدلیل الخاص علی عدم التداخل أیضاً موجود فی الفقه وهو قیام الدلیل علی من اجتمع علیه سبب کفارة التظلیل فی حال الإحرام وأیضاً سبب کفارة التقبیل فی حال الإحرام، فعلیه کفارتان، فإن الدلیل الخاص دل علی عدم التداخل. فلا شک أننا نأخذ بهذا الدلیل ولا نتکلم عن مقتضی القاعدة الأولیة. وهذا کله واضح.

هذا تمام الکلام فی المقام الأول وهو تداخل الأسباب وعدم تداخلها.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الشرط/تنبیهات مفهوم الشرط/التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الشرط/تنبیهات مفهوم الشرط/التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

المقام الثانی: فی تداخل المسببَّبات وعدم تداخلها، (أو التداخل فی عالم الامتثال). فقد أثبتنا فی المقام الأول أن مقتضی القاعدة (بمعزل عن الدلیل الخاص) هو التفصیل بین التداخل فی بعض الموارد وعدم التداخل فی موارد أخری، فلم نقبل القول بالتداخل علی الإطلاق کما لم نقبل القول بعدم التداخل علی الإطلاق.

ص: 130

فإذا افترضنا القولَ بعدم تداخل الأسباب، فإما نقول بتداخل المسبَّبات، وهو القول بأن کلاًّ من النوم والبول یُحدث وجوباً للوضوء، فیجتمع علی المکلف وجوبان. فیا تری هل یتداخل هذان الوجوبان فی عالم الامتثال؟! أی: هل یُمتثلان بالإتیان بوضوء واحد؟! وإما نقول بعدم تداخل المسبَّبات، أی: أنهما لا یتداخلان فی عالم الامتثال بل لابد من أن یتوضأ المکلف وضوءین، لیکون کل منهما امتثالاً لأحد الوجوبین. ولکل من هذین القولین وجهٌ، فیجب أن نطرح هذین الوجهین ثم ندرسهما تباعاً:

الوجه الأول: القائل بأن مقتضی القاعدة (بغض النظر عن الدلیل الخاص) هو عدم التداخل؛ لأننا فرضنا توجه وجوبین - ولیس وجوباً واحداً - إلی المکلف، والوجوبان مثلانِ یستحیل اجتماعهما علی شیء واحدٍ هو طبیعی الوضوء (فلا یمکن أن یکون هذان الوجوبان منصَبَّین علی الطبیعی)، أی: لا یمکن التمسک بإطلاق المادة (= الوضوء) فی الجزاء (= فتوضأ) فی قوله: «إن نمت فتوضأ»، وفی قوله: «إن بلت فتوضأ»، فإن مقتضی إطلاقها تعلقُ الوجوبِ والأمرِ بطبیعی الوضوء فی کل من الدلیلین (النوم والبول)، بل لابد من تقیید وتحصیص إطلاق المادة فی الجزاء بقید «الآخَر»، والالتزام بأن متعلق الوجوب إما فی کلا الدلیلین أو بالحد الأدنی فی أحدهما عبارةٌ عن الوضوء الآخر. أی: متعلق الوجوب فی «إن نمت فتوضأ»، عبارة عن وضوء آخر غیر الذی یُمتثل به الوجوبُ الآخر. وذلک لدفع محذور اجتماع المثلین علی شیء واحد.

وحینئذ - مع هذا التقیید لإطلاق المادة فی الجزاء - سوف یکون من الواضح عدمُ تداخل المسببین، أی: عدم إمکان امتثال کلا الوجوبین من خلال وضوء واحد؛ لأننا حسب الفرض قد قیدنا قوله: «إن نمت فتوضأ»، بقید: «فتوضأ وضوءاً غیرَ الوضوء الذی به یُمتثل الوجوبُ الآخر». فکیف یکون المکلف ممتثلاً لکلا الوجوبین بوضوء واحد؟ فلا یمکن أن یکون هذا الوضوء هو هو، ویکون هو غیره أیضاً (فإن من المستحیل أن یکون الشیءُ غیرَ نفسه). فیسقط - إجمالاً - أحد الحکمین بالإتیان بهذا الفرد من الوضوء؛ لأن أحد غرضی المولی تحقق علی نحو الإجمال. هذا لو قُید کلا الحکمین.

ص: 131

ولو قُید أحد الحکمین بهذا القید (فقد قلنا یجب - بالحد الأدنی - تقییدُ أحدهما)، مثلما إذا قُیِّد متعلقُ الوجوب الثانی (الذی سببه البول) بوضوء غیر الوضوء الذی یُمتثل به الوجوبُ الأول والذی بقی علی إطلاقه ولم یُقیّد، فحینئذ لو أتی المکلف بوضوء واحد فقد امتثل الوجوب الأول، لانطباق متعلقه علی هذا الفرد من الوضوء، غیر أنه لا یمکن أن یکون امتثالاً للوضوء الثانی أیضاً (أی: هذا الوضوء الواحد الذی یمتثل به الوجوب الأول لا یمکن أن یتعلق بالوضوء الثانی)، فمن الواضح استحالة تداخل المسببین.

الوجه الثانی: القائل بتداخل المسببین، والذی یعتبر أن مشکلة اجتماع المثلین لا ینحصر دفعها فی المقام بما ذکرتموه فی الوجه الأول من ضرورة تقیید إطلاق مادة الجزاء، وأن متعلق الحکمین أو أحدهما - علی أقل تقدیر - متعلق بقید «الآخر»، فبإمکاننا إنقاذکم من غائلة اجتماع المثلین من دون أن نتصرف فی إطلاق المادة فی الجزاء، ومن دون أن نقید الإطلاق بهذا القید. وذلک بأن نفترض أن کلا من الوجوبین قد تعلق بعنوان غیر العنوان الذی تعلق به الوجوب الآخر، (فنحن کنا نفترض - إلی الآن - أن کلا من الوجوبین تعلق بعنوان الوضوء، وبما أن العنوان واحد کنا نواجه مشکلة اجتماع المثلین. تماماً مثل ما نقوله فی بحث اجتماع الأمر والنهی بأن اجتماعهما علی عنوان واحد مستحیل، فلا یمکن أن یجتمع وجوبان علی عنوان واحد لاستحالة اجتماع المثلین کما لا یمکن اجتماع وجوب وحرمة علی عنوان واحد لاستحالة اجتماع الضدین. ولکن هذا الوجه یغیّر المسار ویفترض أن کلا من الوجوبین تعلق بعنوان غیر العنوان الذی تعلق به الآخر. فلا یوجد لدینا عنوان واحد - وهو عنوان الوضوء - تعلق به الوجوبین معاً، وإنما هناک عنوانان بالرغم من اتحادهما فی الوجود الخارجی، وبالرغم من أن مصداقیهما فی الخارج شیء واحد، لکنهما متعددان فی لوح الاعتبار کما أنهما متعددان أیضاً فی لوح الواقع، الذی هو لوح بین الاعتبار وبین الوجود الخارجی. ومعلوم أن الألواح والعوالم أربعة کالتالی:

ص: 132

لوح الوجود الخارجی. لوح الاعتبار: هو أن یکون للشیء واقعٌ بلحاظ اعتبار المعتبِر، ولیس بغض النظر عن اعتباره. وبما أن نفس الاعتبار أمرٌ واقعی، بخلاف المعتبَر الذی هو رهینُ الاعتبار ولیس أمراً واقعیاً، کالوجوب نفسه، لا مفهوم الوجوب؛ فإن مفهوم الوجوب صورة ذهنیة، ولیس له وجود خارجی، فهو مفهوم ذهنی کأحد المفاهیم، بینما الوجوبُ نفسُهُ ثابتٌ فی لوح الاعتبار. لوح الوجود الذهنی. لوح الواقع: له واقع لیس بغض النظر عن الاعتبار.

فیقول صاحب الوجه إننا نفترض - فی المقام - وجود عنوانین فی عالم الاعتبار یحظیان بالتعدد فی عالم الواقع أیضاً، وإن کانا متحدین فی الخارج. إذن، فقد تعلق کل من الوجوبین بأحد العنوانین. فالوجوب الأول الذی سببه النوم قد تعلق بعنوان لیس هو عبارة عن الوضوء، بل عنوان آخر سوف نذکره، کما أن الوجوب الثانی الذی سببه البول قد تعلق بعنوان آخر غیر ذاک العنوان. والمقصود من «غیر ذاک العنوان» هو غیرُه فی عالم الاعتبار وفی عالم الواقع.

ویمکن أن نمثل بالعنوانین بما إذا افترضنا أن الوجوب الأول تعلق بعنوان: «ما یرفع الحالة النفسانیة الخاصة التی حصلت بسبب النوم»، والوجوب الثانی تعلق بعنوان: «ما یرفع الحالة الخاصة الحاصلة بسبب النوم». فیصبح مثل: «صل» و«لا تغصب» فی اجتماع الأمر والنهی، حیث نقول بأن اجتماع الأمر والنهی وإن کانا متحدین فی الخارج لکن لطالما العنوانان متعددین فیجوز اجتماعهما. فإن الأحکام تتعلق بالعناوین ولا تتعلق بالوجودات الخارجیة. فلم یجتمع حکمان علی عنوان واحد، بل لدینا عنوانان. فتخلصنا من غائلة اجتماع المثلین وفی الوقت نفسه قلنا بالتداخل وأن لا داعی لتقیید إطلاق المادة فی الجزاء. أی: هذا الوضوء الواحد یمکن أن یکون امتثالاً لکلا الوجوبین والحکمین؛ لأن هذا الوضوء الخارجی هو مصداق لکلا العنوانین، حیث قلنا إن العنوانین متحدان فی الوجود الخارجی. هذا هو الوجه الثانی الذی یقول بتداخل المسببین.

ص: 133

دراسة الوجه الثانی: إن دراسته إنما تتم من خلال مقامین: أ- مقام الثبوت والإمکان العقلی ب- مقام الإثبات ومدی الصحة بعد فرض إمکانه ثبوتاً.

أما المقام الأول: فإمکانه ثبوتاً وعقلاً متوقف علی القول بإمکان اجتماع حکمین بمجرد تعدد العنوان (کما نقول به فی بحث اجتماع الأمر والنهی؛ إذ من الممکن أن یجتمع کل من حکمین علی عنوانٍ من العنوانین، ویکون العنوانان متعددین فی لوح الواقع رغم تصادقهما فی لوح الوجود الخارجی علی فرد واحد، ولکن بما أنهما عنوانان فلا محذور من أن یتعلق أحد الحکمین بهذا العنوان والحکم الآخر بعنوان آخر)، أی: إذا قلنا بأن تعدد العنوان کاف لدفع غائلة اجتماع المثلین، فیکون هذا الوجه الثانی ممکناً ثبوتاً.

ومن هنا یمکن استطراد القول بأن لا وجه لما ذکره السید الهاشمی حفظه الله فی المقام قائلاً: إن هذا الوجه مستحیل حتی بناء علی هذا القول (=بإمکان اجتماع حکمین بمجرد تعدد عنوانین رغم تعدد الْمُعَنْوَن)(1) .

أقول: لا وجه للاستحالة فیما إذا قبلنا بإمکان اجتماع حکمین بمجرد تعدد العنوان رغم تعدد المعنون، فإن المقام فرد من أفراد هذه القاعدة الکلیة أیضاً. أما بناء علی عدم إمکان ذلک، بل الرضوخ إلی أن تعدد العنوان لا یکفی لدفع غائلة اجتماع المثلین أو الضدین، بل لابد من تعدد المعنون، وبما أن المعنون غیر متعدد - حسب الفرض - فالغائلة لا ترتفع، فحینئذ یستحیل الوجه الثانی ثبوتاً، ویتعین الوجه الأول.

اللهم إلا أن نلتزم بما ذهب إلیه المحقق النائینی فی بحث اجتماع الأمر والنهی وهذا ما سوف نذکره غداً إن شاء الله.

ص: 134


1- (1) - السید محمود الهاشمی، بحوث فی علم الأصول: ج3، ص198.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الشرط/تنبیهات مفهوم الشرط/التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الشرط/تنبیهات مفهوم الشرط/التنبیه التاسع: تعدد الشرط واتحاد الجزاء من حیث تداخل الأسباب والمسببات

کان الکلام فی أن مقتضی القاعدة فی باب المسبَّبات هل هو التداخل أو عدم التداخل؟ فذکرنا وجهاً لعدم التداخل ووجهاً للتداخل، وقلنا تارة نتکلم - فی الوجه الثانی - عن إمکانه ثبوتاً وأخری عن مدی صحته إثباتاً. أما الأول فقد قلنا بأن إمکانه متوقف علی القول بإمکان اجتماع حکمین علی عنوانین رغم وحدة المعنون خارجاً، کما یقول به بعض الأصولیین القائلین بإمکان اجتماع الأمر والنهی. وأما الثانی فیکون ممتنعاً ومستحیلاً وذلک بناء علی القول باستحالة اجتماع الأمر والنهی، لنکتة أن تعدد العنوان لوحده لا یکفی لدفع محذور اجتماع الحکمین المتضادین، فلا یمکن اجتماع وجوبین متماثلین بمجرد تعدد العنوان (فإن الموجود فی المقام هو المثلان والموجود فی الأمر والنهی هو الضدان).

اللهم إلا أن یُلتزم بما ذکره النائینی ره فی بحث اجتماع الأمر والنهی من التضاد بین النهی (الشمولی عن جمیع أفراد العمل الخارجی الذی هو تصرف فی مال الغیر) من جهة والترخیص فی التطبیق - المستَفَادِ من الأمر - من جهة أخری (فالمستفاد من الأمر بالصلاة هو سماح المولی للمکلف أن یقیم الصلاة فی أی فرد من أفراد الصلاة المتصورة مثل الصلاة فی المکان المغصوب والبیت والمسجد وبثوب کذا)، لا أن یکون المحذور التضاد بین نفس الحکمین. فالمحذور هو تضاد بین ذاک النهی وبین هذا الترخیص.

فإن کان المحذور هذا (=محذور التضاد بین النهی وبین الترخیص فی التطبیق) فهو غیر موجود فی المقام؛ إذ لا یوجد نهی فی المقام، بل لدینا وجوبان، تعلق أحدهما بعنوان رفع الحالة النفسانیة الحاصلة بسبب النوم وتعلق الآخر بعنوان رفع الحالة النفسانیة الحاصلة بسبب البول. فلا مانع من وجود ترخیص فی تطبیق کلا الوجوبین. الوجوب الأول یرخصنی فی أن أطبّق «رفعَ الحالة الحاصلة بسبب النوم» علی هذا الوضوء، وکذلک الوجوب الثانی یرخصنی فی أن أطبّق «رفعَ الحالة الحاصلة بسبب البول» علی هذا الوضوء. فلا مانع من اجتماع هذین الحکمین ولا مانع من أن یتداخلا فی مقام الامتثال بحیث یکون وضوء واحد تطبیقاً وامتثالاً لکلا الوجوبین. فیتم الوجه الثانی ثبوتاً وعقلاً، بناء علی أن المحذور عندنا هو المحذور المرزائی.

ص: 135

أما بحسب عالم الإثبات فالوجه الأول (وهو تقیید إطلاق مادة الجزاء) مرجَّحٌ ونلتزم به؛ وذلک لأن الوجه الثانی وإن کان یمتاز عن الوجه الأول بعدم الالتزام بالتقیید لإطلاق مادة الجزاء - کما قلنا بالأمس - لکنه خلاف الظاهر فی نفسه، فإن ظاهر قوله «فتوضأ» هو أن الوجوب متعلق بنفس عنوان «الوضوء»، بینما الوجه الثانی یفترض أن الوجوب لیس متعلقاً بعنوان «الوضوء»، بل هو متعلق بعنوان «رفع الحالة النفسانیة الحاصلة بسبب النوم»، لأنه ظاهر «فتوضأ» هو الوضوء، بینما الوجه الثانی یفترض أن «فتوضأ» لیس هو متعلق الوجوب، بل «الوضوء» مصداقٌ لمتعلق الوجوب، ومتعلق الوجوب شیء آخر هو «رفع الحالة النفسانیة الحاصلة بسبب النوم». وهذا خلاف لظاهر الکلام فی أن متعلق الوجوب هو نفس عنوان «الوضوء»، فإن مقتضی أصالة التطابق بین عالم الإثبات وعالم الثبوت هو أن ما هو مذکور فی عالم الإثبات والکلام هو المراد الجدی فی عالم الثبوت والواقع، والمولی ذکر عنوان الوضوء ولم یذکر عنوان رفع الحالة النفسانیة الحاصلة بسبب النوم. فمقتضی التطابق بین العالمین هو الوجه الأول الذی لا یخالف هذا الظهور.

ففی الحقیقة یقع التعارض فی المقام بین هذا الظهور المقتضی لتعلق الوجوب بنفس عنوان «الوضوء» وبین ظهور المادة فی الإطلاق؛ لأنه إما أن الوجوبین متعلقان بنفس عنوان الوضوء (عنوان واحد) وهذا ما یقتضیه هذا الظهور الذی ذکرناه، إذن لابد من أن نلتزم بالتقیید ونرفع الید عن إطلاق المادة؛ لأن الوضوء من دون قید یعنی شیء واحد، والشیء الواحد لا یجتمع علیه وجوبان. فلطالما افترضنا شیئاً واحداً فلابد من أن نقیّد هذا العنوان بقید (الآخر). وکذلک العکس، الوجوب الذی یحدث بسبب البول یتعلق بالوضوء غیر الوضوء الذی یمتثل به الوجوب الأول.

ص: 136

وإما أن متعلق الوجوبین مطلق لاقتضاء إطلاق المادة، فلا بد من أن نلتزم بوجود عنوانین غیر عنوان «الوضوء»، کما افترضه الوجه الثانی. عنوان تعلق به الوجوب الأول، وعنوان تعلق به الوجوب الثانی، وهذا معناه رفع الید عن ظاهر الکلام فی أن الوجوب متعلق بنفس عنوان «الوضوء». فالظهوران متعارضان ولابد من رفع الید عن أحدهما.

قد یقال بأنهما متساویان لأن کلیهما مستفَادَین من أصالة التطابق. أما الظهور الأول (ظهور الکلام فی أن الوجوب متعلق بنفس عنوان الوضوء لا بعنوان آخر، یکون الوضوء مصداق له) فبما أن المولی ذکر عنوان الوضوء فی الکلام فمقتضی التطابق أن مراده واقعاً هو الوضوء أیضاً، ولیس مراده ذاک الشیء الذی ذکره صاحب الوجه الثانی من رفع الحالة النفسانیة الحاصلة بسبب النوم. وأما الظهور الثانی فمستفاد من أصالة التطابق أیضاً (وهو ظهور مادة الجزاء فی الإطلاق، فإن الإطلاق فرع من فروع أصالة التطابق بین مقامی الإثبات والثبوت. فعندما نقول: (أحل الله البیع)(1) نجری - فی الواقع - أصالةَ التطابق بین العالَمَین الإثبات والثبوت، بأن المولی لطالما لم یذکر قیداً فی عالم الإثبات، فلم یرد قیداً معیناً فی عالم الثبوت). فکلا الظهورین علی حد سواء.

إلا أن الصحیح هو تقدم الظهور الأول علی الثانی رغم استفادة من أصالة التطابق بین عالمی الإثبات والثبوت؛ لأن الظهور الأول مستفاد من أصالة التطابق بین الإثبات والثبوت بمعنی أن ما هو موجود فی عالم الإثبات ومذکور فی الکلام، موجودٌ فی عالم الثبوت، أی: مرادٌ للمولی جداً، أی: تطابق الوجود الإثباتی مع الوجود الثبوتی. أی: ما قاله أراده. وأما الظهور الثانی فمستفاد من أصالة التطابق بمعنی تطابق عدم الإثبات مع عدم الثبوت؛ لأن الظهور الثانی إطلاق وهو مستفاد دائماً من التطابق بین العالَمَین. أی: عدم ذکر القید مطابق إثباتاً مع عدم الإرادة الجدیة ثبوتاً.

ص: 137


1- (1) - سورة البقرة (2): الآیة 275.

بعبارة أخری: الظهور الأول مستفاد من أصالة (أن ما قاله أراده) والظهور الثانی مستفاد من أصالة (ما لم یقله لم یرده). وحینئذ یقال بأن الأصل الأول (أصالة تطابق الوجود الإثباتی مع الوجود الثبوتی) أقوی من الأصل الثانی (أصالة تطابق العدم الإثباتی مع العدم الثبوتی) عرفاً کما أنه أقوی لدی الفقهاء أیضاً.

والشاهد علی هذه الأقوائیة أننا نری أن العرف والعقلاء عموماً وکذلک الفقهاء والخواص خصوصاً، یقدمون المقیِّد علی المطلق. فلا یقولون بالتعارض ثم التساقط، ولا یقدمون المطلق علی المقید بل یقدمون المقید علی المطلق(1) ، وهذا معنی الجمع العرفی.

فإننا نواجه تطابقین فی باب المطلق (=أکرم العالم) والمقید (=لا تکرم العالم الفاسق): 1- المطلق: ظهوره مستفاد من أصالة التطابق فی الإثبات مع الثبوت فی الوجود 2- المقید: ظهوره مستفاد من أصالة التطابق فی العدم. فالمقید یقتضی أن ما ذکره فی عالم الإثبات یریده فی عالم الثبوت، بینما مقتضی المطلق هو تطابق الإثبات مع الثبوت فی جانب العدم، أی: لم یذکر قید العدالة فی عالم الکلام فلم یرده فی عالم الثبوت. والعقلاء یقدمون المقید علی المطلق. فتکون النتیجة هی عدم تداخل المسببات لأن هذا هو ما یقتضیه الظهور الأول الذی قدمناه علی الظهور الثانی.

هذا تمام الکلام فی المقام الثانی (مقام تداخل المسببات وعدم تداخلها) وقد عرفنا أن مقتضی القاعدة - بمعزل عن الدلیل الخاص - هو عدم تداخل المسببات.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الشرط/تنبیهات مفهوم الشرط/التنبیه التاسع/ والتنبیه الثامن: حجیة المفهوم فی غیر مورد التقیید بحث الاصول

ص: 138


1- (2) - ولا یمکن ذکر العام والخاص کضد لهذا الشاهد؛ لأن العام والخاص دلالتیهما علی العموم والخصوص وضعیة ونحن فی المقام نتحدث عن الدلالة الحکمیة ومقدمات الحکمة.

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الشرط/تنبیهات مفهوم الشرط/التنبیه التاسع/ والتنبیه الثامن: حجیة المفهوم فی غیر مورد التقیید

بقیت فی ختام هذا التنبیه نکتة واحدة تجدر الإشارة إلیها وهی أننا لاحظنا فی المقام الأول (= تداخل الأسباب) وجود ظهورین متعارضین، یقتضی أحدهما (الحدوث عند الحدوث) عدمَ التداخل، وثانیهما (إطلاق مادة الجزاء) یقتضی التداخلَ، کما لاحظنا فی المقام الثانی (= تداخل المسببات) أیضاً وجود ظهورین متعارضین: أحدهما یقتضی عدمَ التداخل (= ظهور القضیة فی کون عنوان الوضوء - مثلاً - هو متعلق الوجوب، لا عنوان آخر ینطبق علی الوضوء)، وثانیهما (= ظهور مادة الجزاء فی الإطلاق) یقتضی تداخلَ المسببات.

والآن نرید أن نقول بأن هذین التعارضین فی کل من المقامین تعارضٌ واحدٌ ذو أطراف ثلاثة:

1- ظهور القضیة فی الحدوث عند الحدوث.

2- ظهور القضیة فی تعلق الوجوب بنفس عنوان الوضوء.

3- ظهور القضیة فی إطلاق مادة الجزاء.

فإن رفعنا الید عن الظهور الأول ثبت تداخلُ الأسباب، وإن رفعنا الید عن الثانی ثبتَ تداخلُ المسبَّبات، وإن رفعنا الید عن الثالث لم یثبت التداخلُ لا فی الأسبابِ ولا فی المسبَّبات.

وقد ظهر مما مضی أن الظهور الثانی والثالث ثابتان دائماً وفی جمیع الموارد فی حد أنفسهما وبقطع النظر عن تعارضهما (أی: ظهور القضیة بتعلق عنوان الوجوب بنفس عنوان الوضوء وکذلک إطلاق مادة الجزاء «فتوضأ»). أما الظهور الأول (= الحدوث عند الحدوث) فلیس ثابتاً فی حد نفسه فی بعض الموارد، أی: بمعزل عن المعارض؛ وفقد ذکرنا هذه الموارد الثلاثة (فعلیة جملة الجزاء وتعاقب الشرطین ودوام الحکم الأول إلی حدوث الشرط الثانی) سابقاً، فلا یکون للقضیة ظهور فی الحدوث عند الحدوث من دون هذه الشروط الثلاثة. وحینئذ یبقی ما یقتضی تداخل الأسباب بلا معارض؛ لأنه فی المقام الأول فی بحث تداخل الأسباب کان یوجد ظهور (= الحدوث عند الحدوث) یقتضی عدم التداخل، وکان یوجد ظهور (= إطلاق مادة الجزاء) یقتضی التداخل. فالآن تبین أن الظهور الأول غیر موجود، فیبقی الظهور الثانی بلا معارض. فیثبت التداخل فی الأسباب. هذا فی الموارد التی لا یکون الظهور الأول ثابتاً فیها.

ص: 139

أما فی الموارد التی یکون الظهور الأول ثابتاً فیها فی حد نفسه، فحینئذ نرفع الید عن الظهور الثالث (= ظهور المادة فی الإطلاق) والذی کان یقتضی التداخل فی الأسباب وکذلک فی المسببات، فنأخذ بالظهورین الأولین وذلک بنکتة الأقوائیة فی کل من الظهورین الأول والثانی:

أما الأقوائیة فی الظهور الأول (الحدوث عند الحدوث) علی الظهور الثالث، فلأنه وضعی والثالث حَکَمی وإطلاقی.

وأما الأقوائیة للظهور الثانی علی الثالث فهی قوة أصالة تطابق الإثبات مع الثبوت بمعنی الوجود (ما قاله أراده) فی الثانی؛ إذ لم یقل: إن نمت فارفع الحالةَ النفسانیة الحاصلة بسبب النوم، بل قال: إن نمت فتوضأ، فإن کان یقصده کان یذکره. أما الظهور الثالث (إطلاق مادة الجزاء) فهو ظهور مستفاد من أصالة التطابق بین عالم الثبوت وعالم الإثبات أیضاً ولکنه عدمی. أی: لطالما لم یذکر المولی هذا القید فلم یرده. وهذا الثالث کان یقتضی التداخل فی الأسباب والمسببات، فإن رفعنا الید عن الثالث (المقتضی للتداخل) فیبقی الظهور المقتضی لعدم التداخل فی المسببات بلا معارض، ویبقی ما یقتضی عدمَ التداخل فی المسببات بلا معارض أیضاً؛ لأن المعارض الذی کان یصر علی التداخل هو الظهور الثالث، وقد رفعنا الید عنه فی المقام الأول فیثبت عدم التداخل فی الأسباب، وفی المقام الثانی رفعنا الید عنه فیثبت عدم التداخل فی المسببات.

هذا تمام الکلام فی هذا التنبیه التاسع من تنبیهات مفهوم الشرط.

التنبیه العاشر

حجیة المفهوم فی غیر مورد التقیید

إذا علمنا بتقیید المفهوم من الخارج، مثلما إذا قال: «إن جاء زید فأکرمه» فمفهومه: «إن لم یجئ زید فلا یجب إکرامه» وعرفنا من الخارج بأنه «إن لم یأت زید وکان مریضاً یجب إکرامه أیضاً»، لکن إذا لم یجئ زید ولم یکن مریضاً فهل یجب إکرامه أیضاً أو لا؟ أی: مع تقیید المفهوم بقید هل یسقط المفهوم عن الحجیة رأساً ولا یؤخذ بمفهومه حتی فی غیر مورد القید؟ أو یبقی المفهوم حجة فی غیر مورد التقیید، کما هو الحال فی المنطوقات؟

ص: 140

التحقیق هو أن هذا یختلف باختلاف المبانی والمسالک فی إثبات مفهوم الشرط، ولیست النتیجة واحدة علی کل الأذواق والمسالک. فإن بَنَیْنَا فی إثبات مفهوم الشرط علی مبنی یجعلنا - فی مقام اقتناص المفهوم وإثباته - بحاجة إلی:

أولاً

: إثبات أن المعلَّق علی الشرط هو سنخ الحکم وکلیه، لا شخصه (= إثبات إطلاق الجزاء، أی: الحکم فی الجزاء طبیعی الحکم، وهذا هو المعلق علی الشرط، بحیث إذا لا یثبت الإطلاق لا یثبت المفهوم).

ثانیاً

: استفادةُ الإطلاقِ من مقدمات الحکمة، لا من الوضع.

کما أن مبنانا کان فیه هاتان النقطتان (أی: احتجنا إلی أن المعلق علی الشرط طبیعی الحکم، وأن الإطلاق استفدناه من مقدمات الحکمة).

فبناء علی مثل مَبْنَانَا الذی یشترط فی إثبات مفهوم الشرط أن یکون الکلام دالاً علی أن المعلق علی الشرط مطلقُ الحکم، ویثبت هذا الإطلاق بمقدمات الحکمة - لا بالوضع - فمن الواضح أن مفهوم الشرط قائم علی أساس إطلاقٍ، والإطلاق قابل للتقیید، وإذا قُیِّد الإطلاقُ فیسقط بمقدار تقییده عن الحجیة. أما فی غیر مورد التقیید فیبقی المفهوم علی حاله.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الشرط/تنبیهات مفهوم الشرط/التنبیه الثامن: حجیة المفهوم فی غیر مورد التقیید بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الشرط/تنبیهات مفهوم الشرط/التنبیه الثامن: حجیة المفهوم فی غیر مورد التقیید

کان الکلام فی أن المفهوم إذا قید بمقید خارجی فهل یسقط عن الحجیة نهائیاً فلا یؤخذ به فی غیر مورد التقیید أم أنه یبقی علی حجیته فی غیر مورد التقیید. فقلنا إن جوابه یختلف باختلاف المسالک فی إثبات مفهوم الشرط.

ص: 141

فعلی مسلک مثل مسلکنا الذی یری أن إثبات مفهوم الشرط بحاجة إلی إجراء الإطلاق فی الجزاء، لإثبات أن الجزاءَ المعلَّق علی الشرط هو مطلقُ الحکم، فالصحیح هو أن المفهوم لا یسقط عن الحجیة نهائیاً فیما نحن فیه.

ولو بنینا علی المسلک الذی یغنینا عن الإطلاق فی الجزاء(1) فلا یسقط المفهوم عن الحجیة نهائیاً، أو بینینا علی المسلک الذی یجعلنا بحاجة إلی إثبات أن المعلق علی الشرط مطلقُ الحکم بالوضع، لا بالإطلاق (أی: القضیة الشرطیة تدل وضعاً علی أن مطلق الحکم وکل حصص وجوب إکرام زید متوقف ومعلق علی مجیئه)، فبناء علی هذین المبنیین لابد من معرفة الدال علی أن الشرط علة منحصرة للجزاء؛ لأن من المعلوم - وقد تقدم سابقاً مفصلاً - أن المشهور لإثبات مفهوم الشرط جعلوا الضابط عبارة عن رکنین: 1- أن یکون الشرط علة منحصرة للجزاء. 2- إثبات أن المعلق علی الشرط مطلق الحکم (الإطلاق فی الجزاء).

فنحن انتهینا من إثبات الضابط الثانی بشکل وآخر (بلا حاجة إلی الإطلاق)، ویبقی الضابط الأول وهو أن الشرط علة منحصرة للجزاء، فما هو الدال علیه؟

ص: 142


1- (1) - حیث کان یقول بعدم جریان الإطلاق فی الجزاء لتدل القضیة الشرطیة علی أن المعلق علی الشرط شخص هذا الحکم المذکور فی الکلام، لا مطلق الحکم وطبیعیه؛ لأنه لو کان هناک وجوب آخر للإکرام بسبب آخر غیر المجیء مثل المرض، فهذا معناه صدور الواحد بالنوع (=وجوب الإکرام) من الکثیر بالنوع (=المجیء والمرض) وهو محال بناء علی استحالة صدور الواحد بالنوع من الکثیر بالنوع (فقد سبق کلام من هذا القبیل). فلا یبقی لا شخص هذا الإکرام (لأنه قد علّق علی المجیء) ولا نوعه (أی: إکرام آخر) وهذا هو المفهوم؛ فإن المفهوم هو أنه إذا لم یجئ زید ینتفی طبیعی الإکرام (انتفاء کل إکرام لزید).

فإن قلنا: إن الدال علی العلیة الانحصاریة عبارة عن ظهور واحد بسیط (أی: ظهور إذا سقط لا یقوم مقامه ظهور آخر یدل علی العلیة الانحصاریة)، کما هو الحال علی المبنی الذی کان یقول بأن العلیة الانحصاریة نستفیدها من الوضع، والدال علی العلیة الانحصاریة عبارة عن القضیة الشرطیة بالدلالة الوضعیة، والقضیة الشرطیة وضعت للدلالة علی أن الشرط علة منحصرة للجزاء.

فإذا قید المفهوم بقید - بناء علی هذا المبنی - یسقط عن الحجیة نهائیاً ولا یبقی للقضیة الشرطیة مفهوم، حتی فی غیر مورد التقیید؛ لأن المفروض أن المفهوم إنما یثبت فیما إذا کان الکلام دالاً علی العلیة الانحصاریة، والعلیة الانحصاریة یدل علیها الکلام بالوضع، وقد تبین أن هذا الشرط لیس علة منحصرة للجزاء؛ لأننا علمنا من الخارج بأنه حتی لو لم یجئ زید وکان مریضاً یجب إکرامه، فتبین أن السبب الوحید لإکرامه لیس هو المجیء بل هناک علة أخری وهی المرض مثلاً، فسقطت العلیة الانحصاریة.

ولا ظهور آخر یقوم مقامه (لیدل علی العلیّة الانحصاریة)، فلا یبقی لدینا فی هذه الجملة ما یکون حجة لإثبات المفهوم.

وکذلک الحال لو بنینا علی أن الدال علی العلیة الانحصاریة ظهورٌ واحدٌ بسیط لا یقوم مقامه لا ما یدل علی العلیة الانحصاریة کما فرضنا فی الفرض السابق ولا ما یدل علی ما یستلزم العلیة الانحصاریة؛ فقد کان بعض المبانی (وقد تقدمت مناقشتها أیضاً) یقول بإمکانیة إثبات المفهوم (من خلال ظهور آخر یدل علی أن الشرط یستلزم العلیة الانحصاریة، وإن لم یکن هو علة منحصرة) حتی لو لم یکن للکلام ظهور فی أن الشرط علة منحصرة للجزاء، من قبیل ظهور القضیة فی أن الشرط بعنوانه دخیل فی الحکم، لا بوصفه مصداقاً لعنوان آخر جامع وأعم.

ص: 143

وعلیه یسقط المفهوم عن الحجیة نهائیاً ولا یمکن الأخذ به حتی فی غیر مورد التقیید؛ لأنه بحسب هذا المقید الخارجی سقط ظهور الکلام الدال علی أن المجیء علة منحصرة للجزاء، ولم یَخْلِفْه ظهور آخر یدل علی ما یستلزم العلیة الانحصاریة، (أی: لم یخلفه ظهور یدل علی أن المجیء بعنوانه هو العلة والدخیل للحکم)؛ لأن هذا الظهور (ظهور الکلام فی أن المجیء بعنوانه دخیل فی الحکم) سقط عن الحجیة وعلمنا من المقید الخارجی أن الحکم یثبت من دون المجیء أیضاً). ولا یکون حجة فی إثبات أن الشرط علّة منحصرة للجزاء ولا ما یکون حجة فی إثبات ما یستلزم العلیة الانحصاریة. فسقط الرکن الأول (الانحصاریة) من رکنی المفهوم، فیسقط المفهوم نهائیاً بسقوط رکن من رکنیه.

أما لو قلنا إن الدال علی العلیة الانحصاریة لیس ظهوراً واحداً بسیطاً بل هو عبارة عن ظهورات عدیدة مجتمعة ومتراکمة، کل واحد منها فی مقابل کل واحد مما یحتمل کونه بدیلاً للشرط.

مثلاً فی نفس مثالنا: «إن جاء زید فأکرمه» نحتمل أن تکون هناک بدائل عدیدة للمجیء، مثل المرض والفقر والعلم و... فیوجد ظهور فی مقابل کل واحد من هذه البدائل، بأنه لیس المرض ولا الفقر ولا... علّة وجوب إکرامه. فالدال علی العلیة الانحصاریة ظهورات عدیدة مجتمعة کل واحد منها ظهور فی مقابل بدیل من بدائل الشرط المحتملة.

نظیر ما نقوله فی مقدمات الحکمة التی هی مقدمتان (أن یکون المتکلم فی مقام البیان وأن لا یذکر القید) ولکننا نقول مقدمات الحکمة.

فإن الله تعالی حینما یقول: أحل الله البیع، فیحتمل غیر الإطلاق أن یکون أحل الله البیع بالصیغة العربیة، البیع من البالغ، البیع من القاصر، فبمقدار هذه القیود توجد بدائل محتملة، بأن هذا القید لیس هو المراد، وأن شرط الإسلام لیس مقصوداً، وأن شرط البلوغ لیس مراداً، وهکذا.

ص: 144

فبناء علی هذا المبنی فالنتیجة أنه إذا ورد تقیید علی المفهوم فلا یسقط المفهوم عن الحجیة نهائیاً وإنما یسقط عن الحجیة فی مورد التقیید فحسب.

وکذلک الحال إن قلنا: إن الدال علی العلیة الانحصاریة ظهور واحد ولیس ظهورات عدیدة، لکن بعد سقوط هذا الظهور الواحد وانتفائه یقوم مقامه ظهور آخر بالنسبة إلی باقی البدائل المحتملة (هذا الکلام أیضاً کان موجوداً ضمن المبانی التی سبق ذکرها - قبل فترة لیست طویلة - لإثبات مفهوم الشرط من خلال القول بأن القضیة الشرطیة تدل علی أن الشرط أکمل أفراد العلة، وأکمل أفراد العلیة هو العلة المنحصرة، فهنا الدال علی العلیة الانحصاریة ظهور واحد، لکن هذا الظهور الواحد عبارة عن ظهور الکلام وانصراف الکلام إلی أکمل أفراده. حینئذ لو قال صاحب هذا المبنی: إن للکلام ظهور فی الأکمل فالأکمل - مثل ما یقال فی باب التقلید من الأعلم فالأعلم -، وقلنا هذا الظهور إذا سقط یخلفه ظهور آخر فی الأکملیة فی الدرجة الثانیة. أی: المجیء أکمل الأفراد بالدرجة الأولی (أی: علّة منحصرة)، لکن إذا سقط هذا الظهور عن الحجیة فی مورد - کما فیما نحن فیه لأننا علمنا سقوطه من القرینة الخارجیة - یخلفه ظهور آخر - طولیّ = المرض فی طول المجیء - یقول بالأکمل فالأکمل، یعنی: العلّة المنحصرة فی هذین هو علّة وجوب الإکرام، ولا علّة أخری غیرهما. فلم یسقط المفهوم نهائیاً بل أخذ به فی غیر مورد التقیید.

هذا تمام الکلام فی التنبیه العاشر من تنبیهات مفهوم الشرط، فتلک عشرة کاملة. وبذلک نکون قد انتهینا ولله الحمد عن البحث الثامن عشر من بحوث دلالات الدلیل الشرعی اللفظی وهو بحث مفهوم الشرط، وبعد ذلک یتلوه بعون الله البحث التاسع عشر وهو بحث دلالة الوصف علی المفهوم وهذا ما سوف نقوم به إن شاء الله تعالی فی یوم الاثنین.

ص: 145

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

البحث التاسع عشر

مفهوم الوصف

البحث التاسع عشر من بحوث دلالات الدلیل الشرعی اللفظی هو البحث عن مفهوم الوصف، أی: البحث عن أن القضیة المشتملة علی الوصف هل تدل علی المفهوم، علی انتفاء طبیعی الحکم عند انتفاء الوصف، أم لا تدل؟

إذا کانت الجملة مشتملة علی وصف سواء کان هذا الوصف وصفاً لمتعلق الحکم (کما إذا قال مثلاً: «أکرم زیداً بإطعامه» فالإطعام هنا وصف للإکرام والإکرام متعلق الحکم)، أم کان وصفاً لموضوع الحکم (کما إذا قال: «أکرم الفقیر العادل» لتکون العدالة وصفاً للفقیر الذی هو موضوع الحکم ومتعلق المتعلق ولیس متعلق الحکم). فهل یدل هذا الکلام علی المفهوم (أی: أنه إذا لم یکن الفقیر عادلاً فلا یجب إکرامه).

قبل البدء بالبحث لابد من بیان المراد من کل من الوصف والمفهوم فی البحث الأصولی. أما الوصف فلیس المراد منه هنا خصوص الوصف عند النحاة (أی: النعت الذی هو من التوابع)، فهو وصف یدخل فی بحثنا لکن بحثنا أعمّ من النعت النحوی ومن غیره.

فمثلاً بحثنا الأصولی هنا یشمل الحال النحوی (کما إذا قال: «أکرم الفقیر عادلاً»، ف_«عادلاً» حال ولیس نعتاً نحویاً لکنه یعتبر وصفاً) و الجار والمجرور (مثل «صل فی المسجد»، فإن «فی المسجد» جار ومجرور ولیس نعتاً ولا وصفاً نحویاً لکنه وصف أصولی) وکلَّ ما هو قید لمتعلق الحکم أو لموضوع الحکم، غیر القیود التی تُذکر فی بحث المفاهیم بالخصوص من قبیل «اللقب» و«العدد» و«الاستثناء» و«الحصر» التی سوف نبحث عنها مستقلاً.

فالبحث عام یشمل الأسماء المشتقة الجاریة علی الذوات (مثل «اسم الفاعل» و«اسم المفعول» و«الصفة المشبهة» و«الصیغة المبالغة» و«اسم الزمان والمکان» و«اسم الآلة») والأسماء المنسوبة (مثل «حجازی» فی «أکرم الفقیر الحجازی») والأسماء الجامدة الجاریة علی الذوات بلحاظ اتّصاف الذوات إما بعَرَض أو بعَرَضی (مثل «الأبیض» و«الأسود» و«الأحمر» و«الأصفر»، التی تجری علی الذوات باعتبار أن الذّات متصف بهذا العَرَض. واتصاف الذّات بالعَرَضی من قبیل الزوج)، کما أن بحثنا یشمل الوصفَ الضمنی الذی قد یُعبَّر عنه بالوصف المقدَّر أو الوصف غیر الصریح، وهو ما یکون کنایة عن الوصف (کالنبوی - صلی الله علیه وآله وسلم - المعروف: «لئن یمتلأ بطن الرجل قیحاً خیر من أن یمتلأ شعراً»، فإن معنی امتلاء البطن من الشعر کنایة عن الشعر الکثیف وعن کثرة الشعر، فکأنه قال: «الشعر الکثیر مذموم» ولکن وصف الکثرة مقدَّر ومکنی، فلو قلنا بالمفهوم فیدل هذا الحدیث علی أن المذموم شرعاً هو الشعر الکثیف دون الشعر القلیل).

ص: 146

الحاصل: أن مراد الأصولیین من کلمة الوصف هو کل هذه الدائرة الواسعة العریضة الشاملة، وکل قید غیر القیود المذکورة بالخصوص فی بحث المفاهیم.

أما ماذا یُقصد بالمفهوم؟

المراد بالمفهوم - کما تعلمون - هو انتفاء طبیعی الحکم عند انتفاء الوصف. فعندما نقول: الشرط له مفهوم أو لا؟ یعنی: هل یدل الشرط علی أن طبیعی الجزاء ینتفی إذا انتفی الشرط أو لا؟ وکذلک المقصود من المفهوم فی الوصف هو انتفاء طبیعی الحکم وکل حصص وجوب إکرام الفقیر الفاسق عند انتفاء الوصف (مثلاً لو قال: «أکرم الفقیر العادل»، فمقصودنا بالمفهوم هو انتفاء طبیعی وجوب إکرام الفقیر عند انتفاء العدالة، بحیث الفقیر غیر العادل لا یجب إکرامُه أبداً بأی وجوب، سواء هذا الوجوب المذکور فی هذا الخطاب أو أی وجوب آخر للإکرام. فهل یدل الکلام علی عدم وجوب إکرام الفقیر غیر العادل، بحیث لو قلنا بدلالته علی ذلک، فسوف یدل الکلام علی مطلبین: أولاً فی المنطوق: یجب إکرام الفقیر العادل. وثانیاً فی المفهوم: لا یجب إکرام الفقیر غیر العادل. إذن، فلو قال دلیل آخر إن هذا الفقیر لا یجب إکرامه، فیعتبر ذاک الدلیل مخصصاً لهذا المفهوم)، وإلا فانتفاء شخص هذا الحکم عند انتفاء العدالة یثبت بقاعدة احترازیة القیود(1)

(2) .

ص: 147


1- (1) - فالأصل فی جمیع القیود الاحترازیة، فإنه حینما یذکر قید العدالة لابد وأنه یرید أن یحترز به عن غیر العادل ویثبت أن هذا الوجوب یخص العادل، فینتفی هذا الوجوب بانتفاء العدالة، وهذا واضح لا یحتاج إلی المفهوم.
2- (2) بعبارة أخری یوجد لدینا أمران: 1- قاعدة احترازیة القیود: وهی تقتضی أن کل ما ذُکر فی الکلام یکون احترازیاً إلا إذا قامت قرینة علی أن القید توضیحی. وأساس هذه القاعدة عبارة عن أصل عقلائی هو «ما قاله أراده» (وقد تقدم فی ضابط المفهوم). وهو قد ذکر العدالة فهو یریدها، والقدر المتیقن أن العدالة مأخوذة فی شخص هذا الوجوب، وهذا معنی احترازیة القیود، ولا دخل له بالمفهوم الأصولی فهو مسلَّم به حتی لدی المنکرین للمفهوم. 2- المفاهیم.

وبالجملة لا إشکال فی دلالة القضیة الوصفیة علی انتفاء شخص الحکم عند انتفاء الوصف؛ وذلک لأصالة التطابق بین عالم الإثبات (عالم المدلول التصوری للکلام) وعالم الثبوت (عالم المدلول التصدیقی الجدی للمتکلم).

وبعبارة أخری: کما أن الخطاب مقیَّد بالعدالة ولا إطلاق فیه بغیر العادل، کذلک الجعل ثبوتاً (الجعل الذی أُبرز بهذا الخطاب) مقیَّد بالعدالة. فهذا الکلام بمقتضی هذا الأصل العقلائی (أصالة التطابق) یدل علی أن هذا الجعل الواحد، قد أخذ فیه قید العدالة بلا إشکال. أما انتفاء جعل آخر لوجوب إکرام الفقیر الفاسق بملاک آخر غیر ملاک العدالة فهو محل البحث والکلام. فالقائل بمفهوم الوصف یقول بانتفاء کل وجوبات الإکرام عند انتفاء الوصف.

فلا إشکال فی دلالة القضیة الوصفیة علی انتفاء شخص الحکم بانتفاء الوصف، إلا أنه لا ینفع لإثبات المفهوم. إلا إذا علمنا من الخارج بوحدة الجعل ثبوتاً، فحینئذ یکون انتفاءُ شخص الحکم بانتفاء الوصف ملازماً لانتفاء طبیعی الحکم. لا من باب أن الوصف أصبح له مفهوم، بل من باب أننا أحرزنا أن الحکم واحد، ومن الواضح أن الحکم الواحد لا یمکن أن یکون له موضوعان مختلفان متغایران.

وعلی هذا الأساس یُحمل المطلقُ علی المقید (کما إذا قال: «اعتق رقبة»، وجاء فی دلیل أخر: «اعتق رقبة مؤمنة». أی: لا یجب عتق الرقبة غیر المؤمنة. أی: انتفاء الوجوب عن عتق الرقبة عند انتفاء الإیمان، ولکن لیس لأن لقید الإیمان ووصفه مفهومٌ - فإنهم ینکرون الوصف - بل لأنهم أحرزوا أن الحکم واحد، أی: لم یجعل من قبل المولی وجوبان للعتق، أحدهما موضوعه الرقبة، والآخر موضوعه: الرقبة المؤمنة.

ومن هنا لا یمکن أن نجعل تسالم الأصحاب علی حمل المطلق علی المقید نقضاً علی من ینکر مفهوم الوصف، کما قد یتوهم فی بعض الکلمات.

ص: 148

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

بعد أن اتضح المقصود من الوصف والمفهوم فی هذا البحث علینا الدخول فی صلب البحث عن مفهوم الوصف، وبهذا الصدد علینا أن نستذکر ما قلناه فی بحث ضابط المفهوم من اقتناص المفهوم من الکلام (أی کلام یبحث عنه فی الأصول، سواء الکلام المشتمل علی الوصف أو الشرط أو اللقب...) له طریقان وأسلوبان:

الأسلوب الأول: اقتناص المفهوم علی مستوی الدلالة التصوریة للکلام. وهذا النهج له نظام معین.

الأسلوب الثانی: اقتناصه علی مستوی الدلالة التصدیقیة للکلام. أی: نثبت أن الجملة الشرطة مثلاً تدل بالدلالة التصدیقیة علی مطلبٍ یُثبتُ أن الشرطَ علّة منحصرة لطبیعی الجزاء. کبعض المبانی فی مفهوم الشرط - کمبنی المرزا - کانوا یثبتون المفهوم من خلال الإطلاق والإطلاق من الدلالة التصدیقیة ولیس من الدلالة التصوریة. أی: کانوا یثبتون بالإطلاق أن الشرط علّة منحصرة لطبیعی الجزاء، ولازمه إذا انتفی الشرط ینتفی الجزاء.

حینئذٍ فلا بد من دراسة الجملة الوصفیة لمعرفة أنه هل یستفاد منها المفهومَ فی ضوء الأسلوب الأول أم لا؟ ثم هل یمکن استفادة المفهوم من الجملة الوصفیة بالأسلوب الثانی. أی: لابد من ملاحظة مدی انطباق هذین الأسلوبین علی الجملة الوصفیة. فنقول:

أما الأسلوب الأول فالصحیح عدم صحة سلوکه وانتهاجه فی الجملة الوصفیة خلافاً للجملة الشرطیة (حیث أثبتناه حسب المختار علی أساس الأسلوب الأول)؛ وذلک لأن هذا الأسلوب من اقتناص المفهوم، أی: دلالة الجملة الوصفیة دلالة تصوریةً علی المفهوم هذا متوقف علی شرطین تقدما سابقاً، متی توفرا معاً تتم دلالة الکلام - أی کلام کان - علی المفهوم بحسب الدلالة التصوریة. وإلیک الشرطین:

ص: 149

الشرط الأول: أن تدل الجملة علی الربط التوقفی بین طرفی الکلام ( مثل توقف الجزاء علی الشرط فی الجملة الشرطیة) حیث ینتج عنه المفهوم علی مستوی الدلالة التصوریة.

الشرط الثانی: أن تدل الجملة أیضاً علی أن المتوقِّف هو الطبیعی لا الشخص (مثلاً أن تدل الجملة الشرطیة علی أن المتوقف علی الشرط هو طبیعی الجزاء ووجوب الإکرام).

ولکن لا یتوفر شیء من هذین الشرطین فی الجملة الوصفیة.

أما الشرط الأول مثل أن یذکر وصف العدالة فی الکلام قائلاً: «أکرم الفقیر العادل». فیجب أن یتوفر فیه شرطان: التوقف وإطلاق المتوقف، وشیء منهما لیس موجوداً.

أما التوقف فلیس موجوداً لأنه أولاً یشهد الوجدان اللغوی والعرفی الموجود لدی کل أبناء اللغة بأن الجملة الوصفیة لا دلالة لها علی التوقف (توقف وجوب الإکرام علی العدالة) أو قل: النسبة التوقفیة بین الحکم وبین الوصف، وإنما یدل الکلام علی وجوب ٍ لإکرام فقیر عادل، أما أن هذا الوجوب وکل وجوب الإکرام متوقف علی العدالة مما لا یدل علیه هذا الکلام. وهذا بخلاف الجملة الشرطیة حیث کانت أداة الشرط فیها تدل وضعاً علی الربط التوقفی.

وثانیاً: لأننا لا نجد - بقطع النظر عن الوجدان - فی الجملة الوصفیة ما یمکن أن یکون دالاً علی التوقف، لا بالمعنی الاسمی للتوقف ولا بالمعنی الحرفی (النسبة التوقفیة). أما المعنی الاسمی فواضح لأننا لا نجد فی هذه الجملة کلمة «التوقف» أو «المتوقف» أو «موقوف». وأما المعنی الحرفی للتوقف (النسبة التوقفیة) فأیضاً غیر موجود فی الکلام؛ لأن ما یدل علی النسبة دائماً هو الحروف والهیئات - کما تقدّم سابقاً -، فنحن لا نجد فی الجملة الوصفیة إلا ثلاث هیئات (غیر المعانی الاسمیة مثل الإکرام والفقیر والعادل):

ص: 150

الهیئة الأولی: هیئة «اِفعل». والهیئة الثانیة: هیئة الموصوف والصفة. والهیئة الثالثة: هیئة الجملة الترکیبیة.

أما الأولی فمن الواضح أن معناها ومدلولها اللغوی هو النسبة الإرسالیة بین المرسَل (المخاطب) والمرسَل إلیه (الإکرام).

أما الثانیة فإن هیئة «الصفة والموصوف» هیئة لجملة ناقصةٍ تدل علی نسبة ناقصة تقییدیة وهی تجعل الکلمتین بحکم کلمة واحدة کالمضاف والمضاف إلیه، ولیس فیه ما یدل علی توقف الوجوب علی العدالة.

أما الثالثة فلعدم دلالة مجموع الکلام علی هذه النسبة أیضاً؛ لأنه لو أرید استفادة النسبة التوقفیة من هذه الهیئة فلا یخلو المراد من أحد الأمرین:

الأمر الأول: أن یکون المراد هو أن هذه الهیئة المجموعیة تدل علی النسبة التوقفیة بین شخص هذا الحکم المذکور فی الکلام (= شخص هذا الوجوب) وبین العدالة.

فیرد علیه أن توقف شخص هذا الحکم المذکور فی الکلام علی العدالة قد استفدناه من هیئة الوصف والموصوف، وإذا انتفت العدالة ینتفی شخص هذا الوجوب (الشخص الذی تعلّق بإکرام فقیر عادل) وَفقاً لقاعدة احترازیة القیود. وهذا ما استفدناه من هیئة الصفة والموصوف وهیئة التقیید نفسه، وإلا فلو لم یکن شخص هذا الوجوب متوقفاً علی العدالة أیضاً فلماذا ذکر العدالة؟ فإن الأصل فی المتکلم أن لا یکون لاغیاً.

الأمر الثانی: أن یکون المراد هو استفادة توقف طبیعی الحکم وسنخه علی العدالة، بحیث لا یوجد وجوب إکرام للفقیر من دون قید «العدالة».

فیرد علیه أنه لیس فی الکلام ما یدل علی سنخ الحکم وطبیعیه؛ فإن الموجود فی الکلام هو شخص وجوب الإکرام ولیس طبیعیه.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

ص: 151

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

قلنا إن الطریق الأول لاقتناص المفهوم من الکلام هو اقتناصه بحسب الدلالة التصوریة للکلام، وهذا متوقف علی أمرین:

أن یدل الکلام علی التوقف. أن یدل الکلام علی أن المتوقف هو الطبیعی.

وهذان الشرطان غیر متوفرین فی الجملة الوصفیة (فی مثل أکرم الفقیر العادل). أما الشرط الأول غیر متوفر فلأن هذا الکلام لا دلالة فیه علی التوقف (أی: توقف وجوب الإکرام علی قید العدالة). وذکرنا دلیلین بهذا الصدد:

أولاً: شهادة الوجدان بعدم دلالة هذه الجملة علی التوقف.

وثانیاً: عدم اشتمال هذه الجملة علی ما یدل علی هذا التوقف؛ لأن کلمة «التوقف» أو «المتوقِّف» أو ما أشبههما مما یدل علی التوقف بالمعنی الاسمی غیر موجود فی هذه الجملة. وأما ما یدل علی النسبة التوقفیة (أی: المعنی الحرفی للتوقف) فیجب البحث عنه فی الهیئات الموجودة فی الجملة، ولا یوجد فی هذه الجملة إلا ثلاث هیئات قد لاحظنا بالأمس أن شیئاً منها لا یدل علی النسبة التوقفیة. بقی الدلیل الثالث وهو کالتالی:

وثالثاً: أن هذه النسبة التوقفیة التی قد یُتوهم دلالةُ هیئةٍ من الهیئات - أیاً کانت - الموجودة فی هذه الجملة علیها - بغض النظر عما قلناه فی الدلیل الثانی - إما تامة أو ناقصة؛ لأن النسب علی قسمین لا ثالث لهما.

فعلی الفرض الأول - وهو أن تکون النسبة التوقفیة ناقصة - فلا تنفع النسبة الناقصة فی اقتناص المفهوم؛ وذلک لأن النسبة التوقفیة وحدها غیر کافیة فی اقتناص المفهوم؛ لما تقدم فی بحث مفهوم الشرط حیث قلنا - لدی إثبات مفهوم الشرط حسب الرأی المختار -: إن دلالةَ الجملة علی التوقف (أو بتعبیر آخر علی الالتصاق المساوق لعدم الانفکاک) غیر کافیة - وحدها - لإثبات المفهوم واقتناصه من الکلام. فلنفرض أن کلاماً ما دل بنحو أو آخر علی أن «ب» متوقف علی «أ»، لکن هذا لا یکفی لإثبات أن هذا الکلام یدل بالمفهوم علی أنه إذا انتفی «أ» ینتفی «ب»! بل لا بُدَّ من دلالة الکلام علی أن هذا التوقف مطلقٌ (أی: لا بُدَّ من إثبات الإطلاق فی التوقف وهو غیر الإطلاق فی المتوقِّف الذی سوف یأتی فی الشرط الثانی، أی: التوقف فی کل الحالات). کما تقدم فی الجملة الشرطیة أن (فی مثل «إن کان الفقیر عادلاً فأکرمه») لا یکفی - لاستفادة المفهوم - أن یکون الکلام دالاً علی أن الجزاء متوقف علی الشرط، بل لا بُدَّ بالإضافة إلی الدلالة علی أصل التوقف من أن یدل الکلام علی أن هذا التوقف مطلق (أی: توقف وجوب الإکرام علی عدالة الفقیر توقّفٌ ثابتٌ فی کل الحالات، غیر مختص بحالة دون أخری).

ص: 152

مثالٌ فقهیٌّ: إن ورد فی دلیل «إن بلغ الماءُ قدرَ کُرٍّ لا ینجسه شیء»، وأردنا إثبات دلالة هذا الکلام علی المفهوم (= إن لم یکن الماء کُرّاً ینجّسه کلُّ شیء من النجس والمتنجس) فنحتاج إلی إثبات أن بانتفاء الشرط (أی: إن کان الماء قلیلاً) ینتفی الاعتصام وینفعل الماء. وهذا المفهوم إنما یمکننا اقتناصه من هذه الجملة فیما إذا کان الاعتصام متوقفاً علی الکریة وکان هذا التوقف مطلقاً. أی: انفعال الماء متوقف علی کریته مطلقاً وفی کل الحالات، سواء کان الماء مثلاً له مادّة (مثل ماء البئر والنبع والعین) أو لم یکن له مادّة (مثل ماء الحوض والماء القلیل)، فإذا کان هکذا فیدل بالمفهوم علی أن الماء إن لم یکن کرّاً فهو غیر معتصم حتی لو کان له مادّة.

والحاصل أنه لا بد من دلالة الکلام علی التوقف، ولکن هذا التوقف وحده لا یکفی ولابد من أن یدل الکلام علی أن التوقف مطلق أیضاً. وحینئذٍ یدل الکلام علی أن الماء القلیل ینفعل. وهذا مطلب شرحناه سابقاً.

إذن، فنرید أن نقول الآن: إنه لو فرضتم أن النسبة التوقفیة التی نفهمها من قوله: «أکرم الفقیر العادل» نسبةٌ ناقصة، فلا تکفی لاقتناص المفهوم؛ لأن النسبة التوقفیة تدل علی توقف وجوب الإکرام علی العدالة، ولکن صرفُ التوقف لا یکفی، بل لا بُدَّ من إجراء الإطلاق فی التوقف. وفی المقام لا یمکن إجراء الإطلاق فی هذه النسبة التوقفیة؛ لأن إجراء الإطلاق فی هذه النسبة التوقفیة متوقفٌ علی أن تکون هذه النسبة التوقفیة هی المراد الجدیُّ للمتکلم؛ إذ من المعلوم أن الإطلاق من شؤون المدلول التصدیقی الجدی للکلام (أی: نجری الإطلاق لإثبات أن المتکلم أراد المطلقَ من کلامه ولیس المقید.)، ولیس من شؤون المدلول التصوری والذی یؤخذ من الوضع.

ص: 153

فکما أثبتنا فی الجملة الشرطیة أن المراد الجدی من قوله: «إن کان الفقیر عادلاً فأکرمه» هو بیان أن وجوب الإکرام متوقف علی العدالة، کذلک یتوقف وجوب الإکرام علی عدالة الفقیر.

وحینئذٍ نقول: لا یمکن أن یکون المراد الجدی للمتکلم من هذه الجملة هو النسبة التوقفیة (بین وجوب الإکرام وبین العدالة)؛ لأننا افترضنا أن هذه النسبة التوقفیة ناقصةٌ (فقد قلنا فی البدایة: إما نفترض أنها تامة أو ناقصة، ولا ثالث لهما، ونحن الآن نتحدث فی الفرض الأول وهو نقصان النسبة التوقفیة)؛ لأن النسبة الناقصة ناقصةٌ لا یمکن السکوت علیها، بینما المراد الجدی للمتکلم من جملة «أکرم الفقیر العادل» تامة یصح السکوتُ علیها. ولا یشک عربی فی تمامیة هذه الجملة.

وعلی الفرض الثانی (= تمامیة النسبة التوقفیة) لا یأتی المحذور الأول؛ لأنه خاصّ بالنسب الناقصة، لکن یرد علیه إشکال أسوأ وهو وجود نسبتان تامتان فی الجملة الواحدة وهو محال؛ وذلک لأننا نحصل علی نسبة تامة فی جملة «أکرم» (حیث تدل علی نسبة إرسالیة وهی نسبة تامة) ونسبة تامة أخری هی نسبة الجملة. والنسبة التامة تمثل المراد الجدی والنهائی للمتکلم ولا یمکن تعدد المراد النهائی من الجملة.

فافتراض أن تدل الجملة علی نسبة توقفیة تامة یستبطنُ تجریدَ النسبة الإرسالیة التی نفهمها من «أکرم« عن کونها نسبة تامة وجعلها طرفاً من طرفی النسبة التوقفیة؛ وذلک لأن هذا هو معنی التوقف، فإن التوقف هو «توقف وجوب الإکرام - أی: توقف النسبة الإرسالیة لوجوب الإکرام - علی العدالة». فوجوب الإکرام أصبح طرفاً من طرفی نسبةٍ کبری ولا یمکن لطرف النسبة أن یصبح نسبةً تامةً. إذن، انسلخ وجوب الإکرام عن کونه نسبة تامة وأصبح نسبة ناقصة (طرفاً من طرفی النسبة الکبری).

ص: 154

ومن الواضح بطلانه؛ فإنه خلاف الوجدان الواضح والبدیهی الذی یحکم بأن النسبة الإرسالیة والبعثیة والتحریکیة التی تدل علیها هیئة «أکرم» فی قولنا: «أکرم الفقیر العادل» هی النسبةُ التامةُ فی هذه الجملة. بینما علی فرضکم یجب أن نلتزم بأن هذه النسبة انسخلت عن کونها تامة، کما هو الحال فی الجملة الشرطیة حیث انسلخت فیها النسبةُ الإرسالیة التی تدل علیها «أکرم» عن کونها تامة فی قوله: «إن کان الفقیر عادلاً فأکرمه»؛ فإن «أکرمه» الموجودة ضمن الجملة الشرطیة (بخلاف الموجودة خارج الجملة الشرطیة) لا تدل علی نسبة تامة، وإنما تدل علی طرف من طرفی النسبة التوقفیة التی تدل علیها الجملة الشرطیة الکبری والتی تدل علی توقف وجوب الإکرام علی کون الفقیر عادلاً. فوجوب الإکرام طرف من هذه النسبة التوقفیة وکون الفقیر عادلاً طرف آخر والجملة الشرطیة (هیئتها أو أداة الشرط) وضعت فی اللغة لدلالة علی هذه النسبة التوقفیة.

وبهذا اتضح أن الشرط الأول من شرطی دلالة الجملة دلالةً تصوریة علی المفهوم (وهو أن تدل الجملة علی الربط التوقفی أو الالتصاقی) غیر موجود فی الجملة الوصفیة.

أما الشرط الثانی: - وهو دلالة الکلام علی أن المتوقف هو الطبیعی فغیر موجود فی الجملة الوصفیة أیضاً؛ لأن هذا الشرط إنما یتم من خلال إجراء الإطلاق فی المتوقِّف حتی یثبت أن المتوقف هو الطبیعی. وقد ذکرنا فی التنبیه الخامس من تنبیهات مفهوم الشرط أن إجراء الإطلاق فی المتوقف إنما یصح فیما إذا کان تقیید الحکم بهذا القید - أیاً کان القید - من خلال نسبة تامة، کما هو الحال فی الجملة الشرطیة (حیث قُیِّد فیها الحکمُ - وهو وجوب الصلاة - بزوال الشمس من خلال نسبةٍ تامةٍ دلّت علیها جملةُ «زالت الشمس» والتی تدل علی نسبة تامة، فیتم إجراء الإطلاق فی المتوقف لإثبات أن طبیعی وجوب الصلاة متوقف علی زوال الشمس. أما إن قال «صل عند الزوال» فیکون الحکم مقیداً بزوال الشمس أیضاً لکن قُیّد بالزوال من خلال نسبة ناقصة؛ لأن «عند» ظرف و«الزوال» مضاف إلیه، وجملة مضاف ومضاف إلیه جملة ناقصة).

ص: 155

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

کان الکلام فی مفهوم الوصف فقلنا إن هناک طریقین لاستفادة المفهوم من أی کلام.

الطریق الأول: استفادة المفهوم من الدلالة التصوریة للکلام وهذا الطریق مشروط بشرطین:

الشرط الأول: دلالة الکلام علی الربط التوقفی الالتصاقی وثانیهما دلالة الکلام علی أن المتوقِّف هو طبیعی الحکم ونوعه. وقلنا إن هذین الشرطین غیر متوفرین فی الجملة الشرطیة، وقد تقدم شرح عدم توفر الشرط الأول فی الجملة الوصفیة.

الشرط الثانی: فهو منتف أیضاً لعدم دلالة الکلام علی أن المتوقف هو طبیعی الحکم؛ لأن هذه الدلالة إنما تتم فیما إذا جری الإطلاق (لأن الإطلاق هو الذی یثبت الطبیعی) وإجراء الإطلاق متوقف علی أن تکون النسبة بین الحکم وبین القید (أیا کان القید کالشرط فی الجملة الشرطیة والوصف فی الجملة الوصفیة واللقب والعدد وهکذا باقی القیود التی یبحث عنها فی علم الأصول) نسبةً تامة(1)

). فمتی ما کان الدال علی القید نسبة تامة (نظیر «إن زالت الشمس فصل») فیمکن إجراء الإطلاق فی المتوقف (أی: فی «صل»). أما إذا کان الدال علی القید نسبة ناقصة (نظیر «صل عند الزوال») ولا یمکن السکوت علی النسبة الناقصة، فلا یمکن إجراء الإطلاق فی المتوقف (أی: فی «صل»). والفرق بینهما هو أنه لطالما أن الدال علی القید دال علی النسبة الناقصة (وهو قوله: «صل عند الزوال») فلابد أن تکون النسبة الناقصةُ مندکّةً فی تلک النسبة التامة (التی یدل علیها «صل»). والمقصود من «مندکة» أنها أصبحت طرفاً من طرفی النسبة التامة؛ فإنه لو لم نقل بالاندماج والاندکاک فمعنی ذلک بقاؤه (أی: جملة «صل عند الزوال») علی النقصان وحاجته إلی مکمِّل (وهو اتصاله بالماء الکر)، ومن الواضح والبدیهی والوجدانی أن هذا الکلام لا یحتاج إلی مکمل، فلا یشک عربی فی أن «صل عند الزوال» یحتاج إلی مکمل. وهذا معناه أن هذه النسبة الناقصة لم تبق لحالها، أی: بما هی ناقصة، بل اندمجت واندکت فی النسبة التامة التی تدل علیها هیئة «صل» وأصبحت طرفاً من طرفی (فإن النسبة الإرسالیة التی تدل علیها هیئة «صل» لها طرفان: 1- المرسَل والمخاطَب، 2- الفعل وهو «الصلاة عند الزوال»، فأصبح «عند الزوال» طرفاً لهذه) النسبة التامة. أی: أصبح هذا الکلام یدل علی حصة خاصة من «وجوب الصلاة» وهو وجوب الصلاة عند الزوال) لا أکثر. ولا معنی لإجراء الإطلاق فی الحصة الخاصة والوجوب الخاص (وهو هذا الوجوب من الصلاة)؛ لأن الإطلاق یجری لإثبات مطلق الوجوب.

ص: 156


1- (1) - وهذا ما شرحناه سابقاً فی التنبیه الخامس من تنبیهات مفهوم الشرط حیث عقدنا ذاک التنبیه أساساً للفرق بین النسبة التامة فی مثل قوله «إن زالت الشمس فصل» وبین النسبة الناقصة فی مثل: «صل عند الزوال»، فذکرنا هناک فرقین بینهما أحدهما یرتبط ببحث الیوم وهو ثبوت المفهوم فیما إذا جری الإطلاق فی المتوقف وهو وجوب الصلاة، أی: مطلق وجوب الصلاة متوقِّف علی الزوال، وإجراء الإطلاق فی المتوقِّف منوط بأن تکون النسبة بین وجوب الصلاة وبین هذا القید - وهو الزوال - نسبةً تامة.

وما نحن بصدده من «أکرم الفقیر العادل» نظیر قوله: «صل عند الزوال». أی: هنا أیضاً نفرق بین لسان الشرط مثل قوله: «إن کان الفقیر عادلاً فأکرمه»(1)

) مثلما کان یقول هناک: «إن زالت الشمس فصلّ» وبین لا بلسان الشرط «أکرم الفقیر العادل».

إذن، تبین عدم إمکانیة سلوک الطریق الأول (بالدلالة التصوریة) فی الجملة الوصفیة لاقتناص المفهوم، لأن هذا الطریق الأول مشروط بشرطین هما منتفیان فی الجملة الوصفیة.

وأما الطریق الثانی: هو القول بأن للکلام دلالة تصدیقیة علی مطلب هو یثبت أن الوصف علّة منحصرة لطبیعی الحکم، بأن یکون وصف العدالة علّة منحصرة لطبیعی وجوب الإکرام (مثل الجملة الشرطیة أن الشرط علّة منحصرة للجزاء)، وحینئذٍ من الواضح أن بانتفاء العلّة المنحصرة ینتفی المعلول.

ولکن الصحیح هو عدم إمکان سلوک هذا الطریق أیضاً فی الجمل الوصفیة؛ وذلک لأن الجملة الوصفیة لا تدل علی ما یبرهن ویثبت انحصار علّة الحکم فی الوصف؛ فمن الممکن أن یکون إکرام الفقیر واجباً حتی لو لم یکن عادلاً وذلک بملاک آخر غیر ملاک العدالة. فهذا الکلام لا یدل علی المفهوم الذی هو انتفاء مطلق الوجوب؛ لأن هذا الکلام لا یدل علی أن العدالة علّة منحصرة لوجوب الإکرام.

ص: 157


1- (2) - »إن» تدل علی توقف الجزاء علی الشرط، ولکن الدال علی القید والشرط نفسه هو »کان الفقیر عادلاً». سواء قلنا أداة الشرط وضعت فی لغة العرب للدلالة علی التوقف، أو قلنا هیئة الجملة الشرطیة بکاملها (بأداتها وشرطها وجزائها) وضعت للدلالة علی التوقف. وما یهمنا هنا هو أن الدال علی القید عبارة عن شیء دالٍ علی النسبة التامة (»کان الفقیر عادلا» و»زالت الشمس»).

وبعبارة أخری: الجملة الوصفیة لیس لها مفهوم بنحو السالبة الکلیة، ومعنی السالبة الکلیة هو أن یدل قوله »أکرم الفقیر العادل» علی أن کل فقیر غیر عادل لا یجب إکرامه أیاً کان هذا الفقیر سواء کان عالماً أو هاشمیاً أم لم یکن. نعم لها دلالة علی المفهوم بنحو السالبة الجزئیة وهذا لیس مفهوماً حسب المصطلح الأصولی. أی: معنی قوله: »أکرم الفقیر العادل» هو »بعض الفقیر الفاسق لا یجب إکرامه»؛ فإنه لو لم یکن یدل علی هذا المقدار أیضاً فکان معناه: «وجوب إکرام کل فقیر عادل» و«وجوب إکرام کل فقیر فاسق»؛ فلماذا قیّد الکلام فکان علیه أن یقول: «أکرم الفقیر» مطلقاً سواء العادل أم الفاسق. وهذه تدخل تحت قاعدة احترازیة القیود، أی: إن المتکلم یرید أن یحترز بقید العدالة عن الفسق.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

تقدم إمکانیة إثبات المفهوم بنحو السالبة الجزئیة للوصف، ونقصد بالسالبة الجزئیة عدم ثبوت المفهوم فی بعض موارد انتفاء الوصف (أی: لا یجب إکرام کل فقیر غیر عادل). وهناک تقریبان لإثبات هذا المعنی:

التقریب الأول (الاستعانة بأصالة التطابق): ما هو المشهور والمعروف من أن قوله «أکرم الفقیر العادل» مثلاً یدل علی أن وجوب الإکرام لیس ثابتاً لذات الفقیر (الموصوف) بلا دخل لقید العدالة (الوصف)، وإلا لما کان یذکر قید العدالة، فإنه خلاف أصالة التطابق بین الإثبات والثبوت، فإن هذا الأصل یحکم بأن ما ذکره المتکلم فی کلامه یکون مراداً جدیاً له، وهو من الأصول العقلائیة.

إذن، فذکر الوصف فی الخطاب یدل بموجب أصالة التطابق بین الإثبات والثبوت علی أنه لیس کل فقیر یجب إکرامه، بل بعض الفقیر غیر العادل لا یجب إکرامه قطعاً. وهذا المقدار الذی نفهمه من الجملة الوصفیة هو المفهوم بنحو السالبة الجزئیة.

ص: 158

الجواب عنه: إن کلامکم ینفی وجودَ جعلٍ واحد کلی ثابت لذات الفقیر (أی: لو کان هناک وجوب ثابت لکل فقیر فلماذا ذکر المتکلمُ قیدَ العدالة، فإنه خلاف أصالة التطابق)، لکنه لا ینفی احتمال وجود جعلین ثبوتاً وواقعاً: جعلٌ لثبوت إکرام الفقیر العادل، وجعل آخر لوجوب الإکرام لفقیر غیر العادل. ولکل من الجعلین ملاک، فإن ملاک الأول العدالة، وملاک الجعل الثانی مستقل عن ملاک الجعل الآخر. فلا یکون هذا خلاف ظهور الخطاب فی دخل الوصف. فلا یمکن نفی هذا الاحتمال (جعل آخر لوجوب إکرام کل فقیر فاسق) بأصالة التطابق.

التقریب الثانی (قرینة عرفیة): وهو إثبات المفهوم الجزئی بنفی تعدد الجعل وذلک لاستلزامه اللغویةَ عرفاً، وذلک بأن نقول إن المشرِّع العرفی عادةً فی مقام التشریع حینما یواجه حالةً من هذا القبیل (مثل وجود صنفین من الفقیر العادل وغیر العادل، وکل منهما فیه ملاک لوجوب إکرامه) یکتفی بجعل واحد (ویقول: أکرم الفقیر) ولا یقوم بجعلین (بأن یقول: أکرم الفقیر العادل، ویقول: أکرم الفقیر غیر العادل). فإذا کان یرید إکرام کل فقیر، یجعل جعلاً واحداً لإکرامه.

فدفعاً لمحذور اللغویة (أی: استناداً إلی هذه القرینة العرفیة) نثبت المفهوم بنحو السالبة الجزئیة؛ إذ المفروض أن المشرع لدیه مرادان: 1- إکرام کل فقیر عادل. 2- إکرام کل فقیر فاسق. فلا یمکنه أن یعدد الجعل، بل علیه أن یکتفی بجعل واحد قائلاً: أکرم الفقیر.

إذن، سوف تکون الجملة الوصفیة دالة علی أن وجوب الإکرام لیس ثابتاً لکل فقیر بنحو الموجبة الکلیة؛ وإلا فإما هو من خلال جعلین، أو جعل واحد. وعلی الأول یستلزم اللغویة عرفاً. والثانی هو المطلوب. فنقبل المفهوم بنحو السالبة الجزئیة، أی: تدل الجملة الوصفیة بالحد الأدنی علی أن بعض الفقراء الفساق لا یجب إکرامهم.

ص: 159

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

کان الکلام فی التقریب الثانی فتقدم أنه بناء علی هذا التقریب أن المولی العرفی حینما یبتلی بتشریع من هذا القبیل (بحیث یری أن کل واحد من صنفی الفقیر - أعنی: صنف العادل وصنف غیر العادل - له ملاک خاصّ لجعل وجوب الإکرام له) فسوف لا یجعل جعلین، بل یکتفی بجعل واحد علی نهج القضیة الکلّیّة ویقول: «أکرم الفقیر»؛ لأن الجعل المتعدد لغو حینئذٍ عرفاً، فدفعاً لمحذور اللغویة العرفیة یکتفی بجعل واحد کلی؛ لأنه سوف یصل بذلک إلی نفس النتیجة العملیة التی یتوخاها من الجعل المتعدد.

إذن، فباعتبار هذه القرینة العرفی یُنفی احتمال ثبوت الحکم علی ذات الفقیر بنحو الموجبة الکلّیّة، وتکون الجملة الوصفیة القائلة «أکرم الفقیر العادل» دالةً بالدلالة التصدیقة علی عدم کون وجوب الإکرام ثابتاً بنحو الموجبة الکلّیّة لذات الفقیر، وبالتالی (تقریر وإعداد: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه) دالة علی المفهوم بنحو السالبة الجزئیة. أی: علی أن بعض الفقیر غیر العادل لا یجب إکرامه.

والنکتة فی کون وجوب الإکرام ثابتاً لکل فقیر بنحو الموجبة الجزئیة هی أن هذا الوجوب:

إما أن یکون بنحو الجعل المتعدّد (بأن یُجعل وجوبٌ لإکرام الفقیر العادل، ویُجعل وجوب آخر لإکرام الفقیر غیر العادل) فیلزم محذور اللغویة العرفیة التی ذکرناها.

وإما أن یکون بنحو الجعل الواحد الذی أُبرز بالخطاب من خلال الجملة الوصفیة القائلة: «أکرم الفقیر العادل». فیلزم محذور مخالفة ظهور الخطاب من خلال الجملة الوصفیة القائلة: «أکرم الفقیر العادل»، فیلزم محذور مخالفة ظهور الخطاب فی دخل الوصف المذکور إثباتاً فی الجعل المبرَز به ثبوتاً.

ص: 160

فدفعاً لکلا المحذورین وبقرینة أن المتکلم لا یلغو وبقرینة تطابق کلامه إثباتاً مع مراده ثبوتاً، تدل الجملة الوصفیة علی عدم کون وجوب الإکرام ثابتاً بنحو الموجبة الکلّیّة، وبالتالی تدل علی المفهوم بنحو السالبة الجزئیة، کما هو واضح.

إذن، فالمفهوم بنحو السالبة الجزئیة یمکن إثباته للوصف علی مستوی المدلول التصدیقی.

وأما المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة، أی: عدم ثبوت الحکم فی جمیع موارد انتفاء الوصف بحیث یدل قولنا: «أکرم الفقیر العادل» علی أن کل فقیر غیر عادل لا یجب إکرامه - وهو المفهوم المطلوب فی هذا البحث - فلا یمکن إثباته للوصف علی مستوی الدلالة التصدیقیة أیضاً، کما لم یمکن إثباته علی مستولی الدلالة التصوریة کما رأینا؛ وذلک لأنه لا یلزم من ثبوت الحکم فی بعض موارد انتفاء الوصف أی محذور، لا محذور اللغویة العرفیة، ولا محذور مخالفة ظهور الخطاب فی دخل الوصف المذکور إثباتاً فی الجعل ثبوتاً، ففی مثالنا المتقدم لو فرضنا أن وجوب الإکرام (تقریر وإعداد: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه) ثابت أیضاً لبعض الفقراء غیر العدول، بأن نفترض أن هناک جعلین:

أحدهما: جعل وجوب الإکرام للفقیر العادل، وهو الجعل المبرَز بالجملة الوصفیة القائلة: «أکرم الفقیر العادل».

ثانیهما: جعل وجوب الإکرام للفقیر الهاشمی غیر العادل.

فسوف لا یلزم من ذلک لا محذور لغویة هذا الجعل المتعدد؛ لوضوح أن کل جعل له ملاک خاصّ، فملاک الأول العدالة، وملاک الثانی السیادة. ولا یمکن للمولی أن یتوصّل من خلال جعل واحد إلی نفس النتیجة العملیة التی یتوخاها من هذین الجعلین، ولا محذور مخالفة ظهور الخطاب فی دخل الوصف المذکور إثباتاً - وهو وصف العدالة فی الجملة الوصفیة المذکورة - فی الجعل ثبوتاً، لفرض تعدد الجعل.

ص: 161

فالجعل الذی أُبرز بالخطاب بالجملة الوصفیة یکون وصف العدالة دخیلاً فیه ثبوتاً وفقاً لأصالة التطابق بین الإثبات والثبوت، والجعل الآخر الذی لم یُبرَز هنا یکون وصف السیادة دخیلاً فیه.

إذن، فما دام لا یلزم من ثبوت الحکم فی بعض موارد انتفاء الوصف شیء من المحذورین، فلا توجد قرینة تدل بموجبها الجملة الوصفیة علی عدم ثبوت الحکم فی جمیع موارد انتفاء الوصف، وهذا یعنی أن الجملة لا تدل علی المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة.

وهکذا نعرف أن الطریق الثانی لاقتناص المفهوم واستفادته - وهو أن یقال بدلالة الکلام دلالةً تصدیقیة علی ما یستلزم المفهوم - أیضاً لا یمکن سلوکه فی الجملة الوصفیة کما رأینا.

ومما ذکرناه نعرف أن ما قد یقال من أنه لو لم یکن للوصف مفهوم فذِکر الوصف یصبح لغواً، فقد اتضح جواب هذا التوهّم بأن قید العدالة لیس لغواً فقد ذکره المتکلم لبیان مطلب لو لم یذکره لما کان المطلب واضحاً، لکن دفع محذور اللغویة لا ینحصر فی أن نقول بأن الکلام یدل علی المفهوم؛ لأنه یکفی أن یکون بعض الفقیر غیر العادل لا یجب إکرامه، وهو الفقیر الفاسق غیر الهاشمی؛ ولذلک قال: «أکرم الفقیر العادل». فذکر هذا القید (العدالة) لیس لغواً وفی نفس الوقت لا مفهوم له ولا یجب أن نقول: لا یجب إکرام کل فقیر غیر العادل.

إذن، اتضح أن البیان الصحیح والمختار عندنا لإثبات أن الوصف لا مفهوم له هو هذا البیان الذی ذکرناه خلال هذه الأیام التی خلت. (تقریر وإعداد: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه) وکان یتلخص فی أن الجملة الوصفیة لا هی دالة بالدلالة التصوریة علی الربط التوقفی الذی ینتج المفهوم، ولا هی دالة بالدلالة التصدیقیة علی أن الوصف علّة منحصرة للحکم. إذن، فلا دلالة للوصف علی المفهوم.

ص: 162

هذا تمام الکلام فی البیان الصحیح عندنا لإثبات عدم دلالة الوصف علی المفهوم.

وأما الأصحاب فکل واحد منهم ذکر وجهاً لإثبات عدم المفهوم للوصف، نذکر فی المقام أهمها:

الوجه الأول: ما جاء فی کلمات المحقق العراقی ره من أن الجزاء والحکم فی القضیة الشرطیة مطلق عند العرف، بمعنی أن مطلق وجوب إکرام الفقیر مثلاً فی قولنا «إن کان الفقیر عادلاً فأکرمه» معلّق علی الشرط (أی: العدالة)، فبانتفاء الشرط ینتفی مطلق الحکم، وهذا هو المفهوم.

وأما فی القضیة الوصفیة فلیس الجزاء والحکم مطلقاً ولا مقیّداً، بل هو فی نظر العرف مهمل، بمعنی أن ذات وجوب إکرام الفقیر مثلاً - فی قولنا: «أکرم الفقیر العادل» - علی إهماله مرتبط ومقیّد بالعدالة، ولا یوجد إطلاق یدل علی أن مطلق وجوب إکرام الفقیر مرتبط ومقیّد بالعدالة کی ینتفی مطلق الحکم بانتفاء الوصف.

والنکتة فی کون الحکم - فی القضیة الوصفیة - مهملاً وفی القضیة الشرطیة مطلقاً هی أن الحکم إذا لوحظ بالقیاس إلی موضوعه (أی: متعلّقه) فهو لا یُلحَظ عند العرف وأبناء اللغة مطلقاً، ولا یُلحظ عندهم مقیَّداً، بل یُلحظ - بحسب البناء العرفی واللغوی مهملاً علی نهج القضیة المهملة، ولذا فلا یجری الإطلاق فی الحکم بلحاظ متعلّقه؛ لأنه بلحاظ متعلّقه مهمل لا مطلق ولا مقیّد، وهذا هو السر فی عدم ثبوت المفهوم للجملة اللّقبیّة، کقولنا: «أکرم زیداً» وقولنا: «إکرام زید واجب»؛ فإن مقدمات الحکمة لا تجری فی الوجوب (فی هذه الجملة) بلحاظ متعلّقه (وهو إکرام زید) ولا تدل علی أن مطلق الوجوب وکلّ حصصه ثابتة لإکرام زید، ولذلک لا تدل علی المفهوم (أی: علی انتفاء سنخ الوجوب عن غیر إکرام زید وعن إکرام غیر زید). فلا تدل الجملة المذکورة علی أن غیر الإکرام لیس بواجب ولا علی أن إکرام غیر زید لیس بواجب، مع أن من الواضح أنه لو کانت تجری مقدمات الحکمة فی الوجوب بلحاظ متعلّقه وکانت تدل علی أن مطلق الوجوب ثابت لإکرام زید، لکان للجملة مفهوم بلا إشکال، وکانت حینئذٍ بمثابة قولنا: «إکرام زید کل الواجب».

ص: 163

إذن، فالبناء العرفی واللغوی قائم علی لحاظ الحکم والمحمول بالقیاس إلی الموضوع مهملاً، وهذا البناء هو الذی دعی أرسطو واضع علم المنطق إلی عدم تقسیم القضیة بلحاظ محمولها إلی کلّیة وجزئیة؛ وذلک تأثّراً بالوضع اللغوی والعرفی، وخلطاً بین اللغة والعرف وبین المنطق.

وفی ضوء ذلک فإذا لاحظنا الحکم (= الوجوب) فی القضیة الوصفیة فی المثال المتقدم (= أکرم الفقیر العادل) بالقیاس إلی الموضوع (وهو إکرام الفقیر) نری أنه مهمل عرفاً، فلا یجری فیه الإطلاق، کما لا یجری فی القضیة اللّقبیّة، فلا دلالة فیها علی أن مطلق الوجوب مرتبط ومقیّد بالعدالة کی ینتفی مطلق الوجوب بانتفائها ویثبت المفهوم.

وأما النکتة فی کون الحکم فی القضیة الشرطیة مطلقاً، فهی أن الحکم إذا لوحظ بالقیاس إلی غیر موضوعه ومتعلّقه، کالشرط مثلاً فلا یوجد بناء نوعی عرفی ولغوی علی لحاظه مهملاً، وبالتالی فلا مانع من إجراء مقدمات الحکمة فیه بلحاظ الشرط. فیقال: إن سنخ الحکم معلّق علی الشرط؛ لأنه یوجد فی الحقیقة فی الجملة الشرطیة - کقولنا: إذا کان الفقیر عادلاً فأکرمه - نسبتان:

إحداهما: نسبة الحکم (وهو الوجوب) إلی موضوعه (وهو الفقیر الواجب إکرامه).

والأخری: نسبة الحکم إلی شرطه (وهو العدالة) وذاک البناء النوعی العرفی واللغوی الذی ذکرناه إنما کان یقتضی إهمال الحکم فی النسبة الأولی، ولا یقتضی إهماله فی النسبة الثانیة.

فیحکم بأن مطلق وجوب إکرام الفقیر معلّق علی الشرط، فینتفی بانتفائه، ویثبت المفهوم.

وهذا بخلاف الجملة الوصفیة (= أکرم الفقیر العادل) فإنه لیس فیها بحسب النظر العرفی سوی نسبة واحدة وهی نسبة الحکم إلی موضوعه المقیّد بالعدالة.

وقد قلنا إنّه لا یمکن إجراء الإطلاق فی الحکم بلحاظ موضوعه؛ لکونه مهملاً من هذه الناحیة، وهذا هو السر فی عدم ثبوت المفهوم للوصف(1)

ص: 164


1- (1) - مقالات الأصول: ج1، ص142-143.

).

وسندرس مدی صحة هذا الکلام غداً إن شاء الله تعالی.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

کان الکلام فی الوجوه التی ذکرت من قِبَل الأصحاب لإثبات أن الوصف لا مفهوم له. وکان الوجه الأول عبارة عمّا أفاده المحقّق العراقی ره وکان حاصله هو أن الجملة الوصفیة تختلف عن الجملة الشرطیة حیث أن الحکم مطلق (عند العرف) فی الجملة الشرطیة (فی مثل «إن کان الفقیر عادلاً فأکرمه، حیث یفهم العرف أن مطلق وجوب إکرام الفقیر معلّق علی الشرط وهو العدالة، وحینئِذٍ من الطبیعی أن بانتفاء هذا الشرط ینتفی مطلق وجوب إکرام الفقیر وهذا هو المفهوم) بخلاف الجملة الوصفیة حیث أن الحکم لیس فیها مطلقاً ولا مقیداً بل هو مهمل (فی مثل «أکرم الفقیر العادل» حیث لا یفهم العرف أن مطلق وجوب إکرام الفقیر معلّق علی العدالة، بل یفهم أن ذات وجوب الإکرام علی إهماله مرتبط ومقیّد بالعدالة).

وذلک لنکتة أن الحکم فی القضیة الشرطیة یُلحظ بالقیاس إلی غیر متعلّقه وموضوعه (أی: یلحظ وجوب إکرام الفقیر بالقیاس إلی العدالة وهی شرط ولیست موضوعاً ومتعلَّقاً لوجوب الإکرام)، وحینئِذٍ یکون هذا الحکم مطلقاً. أما فی الجملة الوصفیة فیلحظ الحکم بالقیاس إلی موضوعه ومتعلّقه (یعنی وجوب الإکرام یُلحظ بالقیاس إلی الفقیر العادل الذی هو موضوع الحکم) فلا یُلحظ حینئذٍ لدی أبناء اللغة بنحو - إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه - الإطلاق ولا بنحو التقیید، بل یُلحظ مهملاً؛ فلا یجری الإطلاق فی الحکم بلحاظ متعلّقه؛ لأن الحکم بلحاظ متعلّقه مهمل.

ومن هنا یقول المحقّق العراقی ره: هذا هو السر فی أن الجملة الوصفیة لا مفهوم لها.

ص: 165

هذا حاصل ما قاله المحقّق العراقی وقد شرحناه بالأمس أیضاً.

وفیه: المنع ممّا ذکره من أن الحکم إذا لوحظ بالقیاس إلی الموضوع یکون مهملاً لا مطلقاً ولا مقیّداً، بل هو بالقیاس إلیه مطلق فی بعض القضایا ومقیّد فی البعض الآخر.

توضیحه: إن الإهمال إنما هو فی قبال الإطلاق، فلا بد من تشخیص الإطلاق لنلاحظ أن الإهمال الذی ذکره المحقّق العراقی ره ماذا یقصد منه؟ فإن الإطلاق فی الحکم یمکن أن یراد به أحد معان ثلاثة:

الأول: أن یراد به کل حصص الحکم بنحو الاستغراق، بأن تُلحظ الطبیعة بما هی فانیة فی وجوداتها الخارجیة المتکثرة ومنطبقة علیها.

الثانی: أن یراد به صرف وجوده الناقض للعدم الکلّی والمنطبق علی الوجود الأول بأن تُلحظ الطبیعة بما هی فانیة فی أول وجودها ومنطبقة علیه.

الثالث: أن یراد به الطبیعة بما هی هی من دون أخذ شیء آخر معها، فلا یُلحظ فناؤها فی الوجودات الخارجیة الکثیرة، ولا یُلحظ فناؤها فی أول وجودها؛ فإن کل ذلک شؤون زائدة علی ملاحظة ذات الطبیعة بما هی هی، ولذا قلنا مراراً إن ملاحظة کون الطبیعة بنحو صرف الوجود - کما فی متعلق الأمر - أو بنحو مطلق الوجود والاستغراق - کما فی متعلق النهی - إنما یکون بنکتة زائدة علی أصل الإطلاق.

وعلیه فإن أراد المحقّق العراقی ره من إهمال الحکم إذا لوحظ بالقیسا إلی الموضوع الإهمال المقابل للإطلاق بأحد المعنیین الأوّلین، بحیث یکون المقصود أن الحکم إذا لوحظ بالقیاس إلی الموضوع فهو لا مطلق بالمعنی الأول ولا هو مطلق بالمعنی الثانی.

فهذا صحیح، فقد تقدّم مراراً أن الإطلاق بهذین المعنیین مؤونة زائدة لا تقتضیها مقدمات الحکمة، بل لابد من اقتناص ذلک فی کل مورد بحسب القرائن الخاصّة. - إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه - لکن عدم کون الحکم مطلقاً بهذین المعنیین لا یعنی کونه مهملاً کما أفاده ره، لما سیتّضح قریباً.

ص: 166

وإن أراد ره منه ما یقابل الإطلاق بالمعنی الثالث الذی هو مقتضی مقدمات الحکمة.

فیرد علیه: أن الإهمال بهذا المعنی غیر ثابت فی الحکم، لا فی القضایا الخبریة، ولا فی القضایا الإنشائیة، بل هو فی الأولی مطلق، وفی الثانیة مقیّد؛ فإن الثابت فی محمول الجملة الخبریة - مثل قولنا: «إکرام زید واجب» هو الإطلاق بالمعنی الثالث، أی: أن المستفاد من هذه القضیة هو حمل ذات طبیعة المفهوم علی الموضوع وإثبات طبیعی الوجوب بما هو هو له، لا إثبات کل حصص الوجوب، ولا إثبات صرف وجوده الناقض للعدم، ولهذا السبب - أی: لأجل أنه لا یُفهم من الجملة الخبریة المذکورة إثبات کل حصص الوجوب لإکرام زید - لا یکون للجملة مفهوم یدل علی انتفاء سنخ الوجوب وکل حصصه عند انتفاء الموضوع؛ فإن المنطوق لم یکن دالاً علی إثبات کل حصص الوجوب للموضوع، کی تدل الجملة بمفهومها علی انتفاء کل الحصص عن غیر الموضوع.

وقد تقدّم فی بحث دلالة الأمر علی القضاء أن قولنا: «الرّمان حامض» لا یدل عرفاً علی إثبات کل درجات الحموضة للرمان، وأن قولنا: «المصباح منیر» لا یدل علی إثبات کل درجات الإنارة للمصباح، وقولنا: «النار حارة» لا یدل علی إثبات کل درجات الحرارة للنار، وهکذا فی سائر الجمل الخبریة.

وأما فی الجملة الإنشائیة - مثل قولنا: «أکرم الفقیر» فباعتبار أن الحکم والمحمول فیها لیس عبارة عن مفهوم اسمی بل هو عبارة عن نسبة إرسالیة تامّة أحد طرفیها هو الإکرام المقیّد بموضوعه وهو الفقیر؛ فلذا یکون الحکم الثابت لا محالة عبارة عن نسبة إرسالیة مقیِّدة لا مطلقة. أو بعبارة أخری: حکم قید لا مطلق، ویستحیل إجراء الإطلاق فی الحکم والمحمول هنا بلحاظ موضوعه، أی: متعلّقه وقید متعلّقه؛ فإن النسبة متقوِّمة بطرفها؛ فإذا فرض أن طرفها مقیّد، کما برهنا علی ذلک فی البیان الصحیح الذی ذکرناه لعدم دلالة الوصف علی المفهوم، إذن فلا معنی لإجراء الإطلاق فیها بلحاظ طرفها، فیتعیّن کون الحکم فی الجملة الإنشائیة هو المقیّد بالموضوع لا المطلق ولا المهمل.

ص: 167

وأما فی الجملة الشرطیة کقولنا: «إن کان الفقیر عادلاً فأکرمه» فالحکم عبارة عن نسبة ربطیة تعلیقیة تامّة، وأحد طرفیها وإن کان عبارة عن هذه النسبة الإرسالیة المقیَّدة التی ذکرناها آنفاً، لکن هناک لا یُراد إجراء الإطلاق فی هذه النسبة الإرسالیة بلحاظ طرفها - وهو إکرام الفقیر - وإثبات أن کل الواجب هو إکرام الفقیر - فی مقابل احتمال کون شیء آخر غیر إکرامه واجباً، واحتمال کون إکرام غیر الفقیر واجباً - کی یقال: ألستم قلتم آنفاً بعدم إمکان إجراء الإطلاق فی هذه النسبة الإرسالیة بلحاظ طرفها؟

وإنما یُراد هناک إجراء الإطلاق فی هذه النسبة الإرسالیة بلحاظ شیء آخر غیر طرفها وهو الشرط، أی: یُراد إثبات أن کل الواجب معلّق علی الشرط، ومن الواضح أنه لا مانع من إجراء الإطلاق فی النسبة بلحاظ شیء آخر غیر طرفها المقیَّد.

هذا وفی کلامه ره مواقع أخری للنظر بَیَّنها سیدنا الأستاذ الشهید ره لا نطیل المقام بذکرها، ورغم ذلک فکلامه ره من أجود الکلام فی المقام کما قال سیدنا الأستاذ الشهید ره.

هذا تمام الکلام فی الوجه الأول، بعد ذلک ننتقل إلی البیان أو الوجه الثانی.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

کان الکلام فی البیانات والوجوه المذکورة من قبل الأصحاب لإثبات أن لا مفهوم للوصف. فکان البیان الأول هو ما ذکره المحقّق العراقی فاستعرضناه مفصلاً وأوردنا علیه ما یخطر بالبال تجاهه.

البیان الثانی: ما جاء فی کلمات المحقّق النائینی ره علی ما فی تقریرات بحثه المضطربة التی یظهر من صدرها مطلب، ومن ذیلها مطلب آخر، بحیث یُفهم من مجموع ذلک وجود ضابطین لإثبات المفهوم للوصف، إن تمَّ أحدهما ثبت المفهوم، وإلا فلا.

ص: 168

فأمّا المطلب الأول الذی استَهَلَّ به کلامه، فحاصله هو أن ثبوت المفهوم للوصف منوط بتحقیق أن الوصف فی الجملة الوصفیة - مثل قولنا: أکرم الفقیر العادل هل أُخِذ قیداً للحکم نفسه مباشرةً، أم أُخِذ قیداً لموضوعه ومتعلّقه؟

فعلی الثانی لا مفهوم للوصف؛ إذ معنی کون الوصف قیداً للموضوع والمتعلق هو أن الحکم قد طرأ علی المقیَّد بما هو مقیَّد. أی: هذه الحصة الخاصّة من الإکرام - وهی عبارة عن إکرام الفقیر العادل - وقعت موضوعاً ومتعلَّقاً للحکم. ومن الواضح أن ثبوت الحکم لموضوعٍ لا یدل علی انتفاء الحکم عن غیر الموضوع، فیکون الوصف نظیر اللقب الذی لا یدل علی أکثر من ثبوت الحکم له، فغایة ما تدل علیه الجملة الوصفیة ثبوت الحکم لهذا المقیَّد بالوصف، وهذا لا یعنی انتفاء الحکم عن غیره.

وعلی الأول - بناءًا علی إمکان تقیید الحکم ومفاد الهیئة کما حُقِّق فی محلّه - یثبت المفهوم للوصف؛ لأن الحکم إذا قُیِّد بالوصف انتفی بانتفائه؛ لأن المقیَّد ینتفی إذا انتفی قیده، وهذا هو المفهوم.

وحیث أن الظاهر عرفاً من القضایا الوصفیة هو الثانی، أی: رجوع الوصف إلی الموضوع وکونه قیداً لمتعلق الحکم، لا لنفس الحکم، فلا مجال حینئذٍ لتوهّم ثبوت المفهوم فیها(1)

).

هذا هو الضابط الأول - لمفهوم الوصف - الذی یفهم من صدر کلامه ره وهو أن یکون الوصف قیداً لنفس الحکم.

وقد یناقش فیه بعدم إمکان رجوع القید إلی الحکم؛ إذ لابد من تناسب القید والمقیَّد، ووصف العدالة مثلاً فی المثال المتقدم لا یناسب أن یکون قیداً للوجوب، وإنما یناسب أن یکون قیداً لموضوع الوجوب ومتعلّقه.

ص: 169


1- (1) - أجود التقریرات: ج1، ص433-435.

لکن بالإمکان الجواب عن ذلک بأنه ممکن ولو بنوعٍ من التأویل، بأن یکون الحکم مقیّداً بکونه فی زمان تحقق العدالة. نعم هو خلاف الظاهر عرفاً کما قال رحمه الله.

إلا أن أصل ما ذکره ره من أن الوصف إذا کان قیداً للحکم دل علی المفهوم غیر تام، وقد ظهرت المناقشة فیه مما ذکرناه فی البیان الصحیح الذی قدّمناه لعدم دلالة المفهوم علی الوصف، - إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه - وأیضاً فی ما ذکرناه سابقاً عند بیان ضابط المفهوم، وکذلک فی بحث مفهوم الشرط - فی التنبیه الأول وفی التنبیه الخامس - فقد قلنا سابقاً: إن مجرّد کون القید قیداً للحکم لا یکفی وحده لإثبات المفهوم ما لم نُثبت أن المقیَّد هو طبیعی الحکم وسنخه، وإلا فتقیید شخص الحکم بقید لا یحقق المفهوم کما هو واضح.

وإثبات کون المقیّد هو طبیعی الحکم متوقف علی إجراء مقدمات الحکمة، وإجراؤها متوقف علی أن یکون تقیید الحکم بالقید من خلال نسبة تامّة لا ناقصة، بینما النسبة هنا نسبة ناقصة دلّت علیها هیئة الجملة الناقصة التی هی جملة الوصف والموصوف - کما وضّحناه فی البیان الصحیح الذی قدّمناه - ولا توجد هنا فی الجملة الوصفیة نسبة تامّة سوی نسبة واحدة محصَّصة ومقیِّدة، وهی النسبة القائمة بین المرسَل (أی: المخاطب) والمرسَل إلیه (وهو إکرام الفقیر العادل)، والإطلاق لا یجری فی الحصة الخاصّة، فکیف نثبت أن المقیَّد بالوصف طبیعی الحکم وسخنه؟ وبالتالی فکیف نثبت المفهوم؟

إذن، فکون الوصف قیداً راجعاً إلی الحکم لا یکفی وحده لاقتناص المفهوم؛ ولهذا قلنا فی بحث مفهوم الشرط - فی التنبیه الخامس -: إن القید المذکور للحکم بغیر لسان الشرط - کقولنا: صل عند الزوال - لا مفهوم له رغم أن القید - وهو قولنا: عند الزوال - راجع إلی الحکم کما هو واضح. فما أفاده المحقّق النائینی ره من أن الوصف لو کان قیداً للحکم لدلّ علی المفهوم غیر صحیح؛ إذ یوجد فرق کبیر بین القید الذی أصبح قیداً للحکم لنسبة تامة بینه - إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه - وبین الحکم کما فی القضیة الشرطیة، وبین القید الذی أصبح قیداً للحکم لنسبة ناقصة بینه وبین الحکم، کما فی القید المذکور بغیر لسان الشرط وکما فی القضیة الوصفیة.

ص: 170

ففی الأول یکون مقتضی الإطلاق أن الحکم علی إطلاقه مقیَّد، فینتفی سنخ الحکم بانتفاء القید، وهذا هو المفهوم.

وأما فی الثانی کالقضیة الوصفیة فحتی لو کانت ظاهرة عرفاً فی رجوع القید إلی الحکم - کما إذا قال: أکرم الفقیر عند عدالته فإنه مع ذلک لا یکون لها مفهوم؛ لأن النسبة الناقصة بین الوصف والحکم تحصّص الحکم، فبانتفاء الوصف تنتفی هذه الحصة الخاصّة من الحکم، فلا یوجد ما یدل علی انتفاء سنخ الحکم بانتفاء الوصف کی یثبت المفهوم.

فلیست النکتة فی عدم دلالة الوصف علی المفهوم ما أفاده ره من عدم کون الوصف قیداً راجعاً إلی الحکم؛ إذ لو کان راجعاً إلی الحکم أیضاً لما کان له مفهوم، لما شرحناه.

إذن، فهذا البیان لعدم دلالة الوصف علی المفهوم غیر تام.

وأما المطلب الثانی الذی ذکره ره فی ذیل کلامه والذی یُفهم منه وجود ضابط آخر لإثبات مفهوم الوصف، فهو أن ثبوت المفهوم للوصف منوط بکون الوصف علةً للحکم، فلو کان علّةً له دلّ علی المفهوم؛ لانتفاء المعلول بانتفاء علّته، والوصف وإن کان مشعِراً بالعلیة، إلا أنه لا ظهور له فیها إلا بقرینة، فلو قامت قرینة علی أن الوصف علّة للحکم ثبت المفهوم.

ولم یذکر ره الانحصار هنا، مع أنه فی بحث مفهوم الشرط قَیَّد العلّة بکونها منحصرة کی یثبت المفهوم للشرط، فمقتضی إطلاق کلامه ره هنا هو أن الوصف إذا کان علّةً للحکم یثبت المفهوم له حتی وإن لم یکن علّة منحصرة؛ ولذا عَلَّق علیه السید الأستاذ الخوئی ره هنا قائلاً: إن کون الوصف علّةً لثبوت الحکم وإن کان أمراً ممکناً فی نفسه وقابلاً لقیام القرینة علیه من الخارج، إلا أن مجرّد ذلک لا یکفی فی دلالة القضیة علی المفهوم ما لم تقم قرینة علی کونه علّة منحصرة(1)

ص: 171


1- (2) - المصدر نفسه، الهامش.

).

فلا بد من دراسة هذا البیان الثانی لنعرف مدی صحته، وهذا ما یأتی إن شاء الله تعالی غداً.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

کان الکلام فی الوجه الثانی من الوجوه التی ذکرها الأصحاب لإثبات أن الوصف لا مفهوم له، وکان هذا الوجه الثانی عبارة عن ما أفاده المحقّق النائینی ره، وقلنا بالأمس إن کلامه یستفاد منه مطلبان، ذکرنا المطلب الأول وناقشناه. وذکرنا أیضاً المطلب الثانی وکان حاصله هو أن الوصف إذا کان علّة للحکم فیثبت له المفهوم؛ لأن المفهوم ینتفی بانتفاء العلّة. ثم یقول هو ره إن الجملة الوصفیة لا ظهور لها عرفاً فی أن الوصف علّة للحکم. فإن الوصف مشعِر بالعلیة ولیس ظاهراً فی العلیّة إلا بقرینة. -إعداد وتقریر الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه- وهذا بیان آخر له ره، وکما تقدّم بالأمس لا یذکر ره مسألة الانحصار ولا یقول: یجب أن یکون الوصف علّة منحصرة حتی یثبت المفهوم، بل یذکر العلیّة فقط، بینما هو فی مفهوم الشرط وکذلک فی الضابط العام للمفهوم ذهب إلی ما ذهب إلیه المشهور القائلین بأن ضابط المفهوم هو أن یکون مثلاً الشرط فی الجملة الشرطیة علّة منحصرة للجزاء، ولکنه لم یذکر الانحصار فی الجملة الوصفیة، ولذلک قلنا إن السید الخوئی ره علّق علی کلام أستاذه فی الهامش بأن العلیّة لوحدها لا تکفی ما لم یثبت أن الوصف علّة منحصرة للجزاء.

وهذا البیان أیضاً غیر تامّ کسابقه حتی مع أخذ الاستدراک الذی ذکره السید الأستاذ الخوئی ره بعین الاعتبار، فلا کلام الأستاذ تام ولا کلام تلمیذه رهما وقبل أن نذکر تعلیقنا علی هذا البیان ومستدرکه لا بأس بالتعلیق علی ما أفاده ره من أن الوصف وإن کان مشعراً بالعلیة إلا أنه لا ظهور له فیها إلا بقرینة؛ -إعداد وتقریر الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه- فإن هذا الکلام غیر صحیح؛ لأن الوصف ظاهر فی العلیّة فی باب الأحکام الشرعیة بالمعنی المقصود من العلیّة فی هذا الباب وهذا بخلاف باب الإخبار؛ فإن الوصف فی الجملة الخبریة یشعر بالعلیة ولیس ظاهراً فیها.

ص: 172

فلو قال: «أکرمتُ الفقیر العادل» لم یکن لکلامه ظهور فی أن علّة الإکرام هی العدالة. نعم، کلامه مشعر بذلک لا أکثر.

وأما فی باب الأحکام والقضایا الشرعیة فحیث أن العلیّة لا تعنی معناها الحقیقی (أی: التأثیر والإیجاد)؛ لأن المؤثِّر والموجِد للحکم الشرعی هو المولی الحاکم والجاعل لا الموضوع وقیوده وأوصافه، فعلّیّة الوصف للحکم لیس المقصود منها تأثیره وإیجاده للحکم کما هو واضح، بل العلیّة هنا تعنی الموضوعیة وکون شیء موضوعاً للحکم.

ومن الواضح أن الوصف ظاهر فی العلیّة بهذا المعنی، أی: هو ظاهر فی کونه جزء الموضوع ودخیلاً فی الحکم، لا أنه مشعِر بذلک.

وکیف کان فتعلیقنا علی بیان المحقّق النائینی ره ومستدرکه الذی أفاده السید الأستاذ الخوئی ره هو أن مجرّد إثبات کون الوصف علّة منحصرة للحکم لا یکفی وحده لاقتناص المفهوم ما لم یثبت أن المعلول هو طبیعی الحکم وسنخه، کی ینتفی بانتفاء علته ویثبت المفهوم.

وقد قلنا مراراً أن إثبات ذلک متوقف علی إجراء مقدمات الحکمة فی مفاد الهیئة الذی هو عبارة عن النسبة الإرسالیة - أی: هیئة «أکرم» مثلاً فی قولنا: «أکرم الفقیر العادل» - وقد عرفت أن إجراءها فیها متعذر؛ لأن هذه النسبة متقوّمة بطرفین:

أحدهما: مادّة الفعل، أی: الإکرام فی المثال، الذی هو المرسَل إلیه.

وثانیهما: فاعل الفعل، وهو المخاطب المرسَل، والمادّة متحصّصة بالمفعول الذی هو أیضاً متحصّص بدوره بالوصف.

وعلیه فهذه النسبة - إذن - بحسب تکوّنها الذاتی متقیّدة ومتحصّصة، لتقیّد أحد طرفیها، ومعه یستحیل إجراء مقدمات الحکمة فیها لإثبات الإطلاق کما شرحنا لک فیما مضی.

وعلیه فلا مفهوم للوصف حتی ولو کان الوصف علّة منحصرةً للحکم؛ لأن الوصف حیث أنه وصف للموضوع فهو یحصّص الموضوع، والموضوع بدوره یحصّص الحکم، فلا تدل الجملة الوصفیة علی أکثر من حصّة خاصّة من الحکم، فبانتفاء الوصف تنتفی هذه الحصة الخاصّة، ویبقی احتمال ثبوت حصة أخری من الحکم رغم انتفاء الوصف، فلا یثبت المفهوم کما هو واضح.

ص: 173

إذن، فهذا البیان أیضاً غیر تام لإثبات عدم دلالة الوصف علی المفهوم.

البیان الثالث: ما جاء فی کلمات المحقّق الإصفهانی ره فی المقام التی لا تخلو أیضاً عن قلق، إلا أن بإمکاننا عَرَض کلامه وتوضیح نظره ومرامه من خلال بیانین:

الأول: دعوی أنه کلما أمکن استفادة کون الوصف علّة للحکم من الجملة الوصفیة ولو بمساعدة قرینة خاصّة، أمکن حینئذٍ استفادة انحصارها بنحو یُفید المفهوم؛ وذلک لأن فرض عدم الانحصار معناه فرض وجود علّة أخری للحکم أیضاً غیر الوصف.

ففی مثالنا المتقدم «أکرم الفقیر العادل» یکون فرض عدم الانحصار مساوقاً لفرض وجود علّة أخری لوجوب إکرام الفقیر غیر العدالة من قبیل کونه هاشمیاً مثلاً.

وهذا یلزم منه إما محذور ثبوتی أو محذور إثباتی؛ لأنه إما أن یُفترض حینئذٍ أن الجامع بین «الوصف» (أی: العدالة مثلاً) و«تلک العلّة الأخری» أی: کونه هاشمیاً مثلاً هو علّة الحکم، وإما أن یُفترض أن کلاً من «الوصف» و«العلّة الأخری» بخصوصه وبعنوانه علّة للحکم.

والأول یلزم منه محذور إثباتی؛ لأنه خلاف ظهور الجملة الوصفیة فی کون «الوصف» بخصوصه وبعنوانه دخیلاً فی الحکم، لا بما هو فرد من الجامع.

فالشق الأول خلاف أصالة التطابق بین مقام الإثبات والثبوت؛ فإن الوصف بعنوانه مذکور إثباتاً، فهو بعنوانه دخیل ثبوتاً.

وأما الشق الثانی فیلزم منه محذور ثبوتی، وهو صدور الواحد بالنوع - أی: طبیعی الحکم والوجوب فی المثال - من الکثیر بالنوع - أی: «الوصف» و«العلّة الأخری»؛ فإن العدالة والهاشمیة نوعان، وهو مستحیل.

ثم نبَّه ره علی عدم موافقته علی تعمیم قاعدة «الواحد لا یصدر من الکثیر» للواحد بالنوع(1) .

ص: 174


1- (1) - نهایة الدرایة: ج2، ص175.

إذن، بیانه الأول مرکب من أمرین:

أحدهما: أن الوصف علّة لطبیعی الحکم.

وثانیهما: أنه لا توجد علّة أخری.

والأمر الأول یُفترض قیام قرینة علیه فی الجملة الوصفیة، والأمر الثانی یثبت بدلیل عام یدل علی أن وجود علّة أخری یستلزم المحذور.

فأما الأمر الأول فلا معنی لمناقشته؛ إذ یُفترض قیام قرینة خاصّة علیه فی الجملة الوصفیة، فیبقی الأمر الثانی، فنقول فی مناقشته: إن الدلیل الذی ذکره ره لإثباته - وهو أن وجود علّة أخری لطبیعی الحکم یستلزم محذوراً إثباتیاً أو ثبوتیاً - غیر تامّ، وقد سبقت مناقشة ذلک فی بحث مفهوم الشرط - فی التقریب الرابع لإثبات مفهوم الشرط - وها نحن نکرّر تلک المناقشة هنا ونقول:

إن بالإمکان اختیار الشق الثانی وهو أن یکون کل من «الوصف» و«العلّة الأخری» علةً لطبیعی الحکم، من دون أن یلزم من ذلک أی محذور ثبوتی حتی علی القول بعموم قاعدة «الواحد لا یصدر من الکثیر» للواحد والکثیر بالنوع، وذلک لعدم صحَّة تطبیق هذه القاعدة علی ما نحن فیه، سواء أرید تطبیقها علی ذات الحکم، أم أرید تطبیقها علی روح الحکم ومبدئه، أی: الملاک؛ وذلک لأن هذه القاعدة إنما تقول بأن الوجود الفلسفی الحقیقی الواحد لا یمکن أن یکون معلولاً لوجودات فلسفیة حقیقیة متعدّدة.

انتهی وقتنا وستأتی تتمة الکلام غداً إن شاء الله تعالی.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

کنا نناقش البیان الأول للمحقق الإصفهانی ره، حیث تقدّم بالأمس أن المفهوم یثبت للوصف فیما إذا توفر أمران: الأول أن تقوم قرینة خاصّة علی أن الوصف علّة لطبیعی الحکم. والثانی: نحن نثبته بالدلیل والبرهان. والبرهان هو أن هذه العلّة علّة منحصرة ولا توجد علّة أخری للحکم؛ لأنه لو کان هناک علّة أخری لطبیعی الحکم غیر هذه العلّة المذکورة فی الکلام (وهو الوصف) فیلزم منه إما محذور إثباتی وإما محذور ثبوتی.

ص: 175

مثلاً عندما یقول: «المطلقة الیائسة بائن» فهنا لو استفدنا من هذا الکلام أن الوصف (وهو الیأس من الحیض) علّة لطبیعی الحکم (= البینونة) فنثبت الانحصار ونثبت أن هذه العلّة علّة منحصرة لطبیعی البینونة، ولا توجد علّة أخری للبینونة؛ إذ لو وُجدت علّة أخری غیر الیأس (مثل کون المرأة غیر مدخول بها) لصیرورتها بائناً (أی: إن طُلِّقت فطلاقها بائن ولیس رجعیاً). فهذان إما الجامع بینهما هو العلّة للبینونة وهذا خلاف ظاهر الخطاب الذی یقول «المطلقة الیائسة بائن»، أی: البینونة معلولة للیأس بعنوانه وبما هو یأس، لا بما هو جامع کلی یکون الیأس أحد عنوانیه. فإن هذا خلاف ظاهر الکلام.

وإن فرضنا أن کلا من الیأس (=الوصف) وعدم الدخول (=العلة الأخری) علةٌ مستقلة للبینونة، فهذا فیه محذور ثبوتی، وهو صدور الواحد بالنوع (=الحکم بالبینونة) من الکثیر بالنوع (=الیأس وعدم الدخول)، بینما الواحد لا یصدر من الکثیر.

قلنا: إن هذا الدلیل غیر تام، لأن بالإمکان اختیار الشق الثانی القول بأن کل منهما علّة ومع ذلک لا یلزم محذور ثبوتی حتی لو عمّمنا هذه القاعدة إلی الواحد بالنوع والکثیر بالنوع. وما أفاده ره من أن هذا خلاف قانون الواحد لا یصدر إلا من الواحد؛ فإن تطبیق هذه القاعدة علی ما نحن فیه غیر تام؛ وذلک لأن هذه القاعدة من القواعد الفلسفیة المرتبطة بباب العلّیّة، والعلّیّة بالمعنی الفلسفی هو الإیجاد والتأثیر، فهذه القاعدة تقول: إن الوجود الحقیقی الواحد یستحیل أن یکون سببُ وجوده عبارة عن وجودات حقیقیة متعددة. -إعداد وتقریر الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه- وحیث عمّمنا هذا القانون للواحد بالنوع فیستحیل أن یکون سبب النوع الواحد الواحد، ولکن ما علاقة هذا الکلام بما نحن فیه؟

ص: 176

هل تریدون تطبیق هذا القانون علی الحکم (= بینونة المرأة) بأن هذا الحکم واحد والواحد لا یصدر من الاثنین؟ أو علی ملاک الحکم ومبدئه وروحه؟ فلا یوجد لدینا شیء ثالث.

وعلی الأول، نسأل ماذا تقصدون بالحکم؟ الجعل أم المجعول؟ (فإن الجعل فی وجوب الصلاة هو ما تحقق قبل خمسة عشر قرناً عندما نزلت آیة الصلاة، وهناک شیء آخر هو المجعول، وهو عبارة عن فعلیّة الجعل بزوال الشمس وقت الظهر).

وحینئِذٍ فإن أرید تطبیقها علی ذات الحکم وأرید بالحکم الجعل، بأن یقال: إن الجعل - أی: جعل وجوب الإکرام [أو جعل البینونة للمرأة] مثلاً فی المثال - واحد، ویستحیل أن یکون معلولاً للکثیر - أی: العدالة والهاشمیة - فی المثال - ففیه أن الجعل لیس معلولاً لشیء منهما ولیس صادراً عن شیء منهما، بل هو معلول للجاعل وصادر منه، وعلّیة الوصف أو أی شیء آخر للحکم لا تعنی سوی کونه موضوعاً للجعل بمعنی ارتباط الجعل وتحصّصه به.

ومن الواضح أن الموضوع لیس علّةً للجعل بالمعنی الفلسفی للعلّیّة الذی هو المقصود فی قاعدة «الواحد لا یصدر من الکثیر» التی هی من قوانین العلیّة.

وإن أرید تطبیقها علی الحکم وأرید بالحکم المجعول الفعلی، بأن یقال: إن الوجوب الفعلی للإکرام واحد ویستحیل أن یکون معلولاً للکثیر، أی: العدالة والهاشمیة. ففیه أن المجعول الفعلی أمر تصوّری ولیس وجوداً فلسفیاً حقیقیاً کی یخضع للنظر والقانون الفلسفی.

وأما إن أرید تطبیقها علی روح الحکم ومبدئه، أی: الملاک، بأن یقال: إن ملاک وجوب الإکرام واحد ویستحیل أن یکون معلولاً للکثیر (أی: العدالة والهاشمیة) ففیه أننا لا نعلم الغیب کی نعرف أن الملاک من سنخ واحد، بل یمکن أن یکون هناک سنخان ونوعان من الملاک مطلوبان لزومیان للمولی: -إعداد وتقریر الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه- أحدهما معلول للعدالة، والآخر معلول للهاشمیة، رغم اشتراکهما واتحادهما فی عنوان انتزاعی عام کعنوان «الملاک»؛ فإن هذا اتّحاد فی الجامع الانتزاعی، وهو لا یوجب استحالة صدورهما من علّتین مختلفتین من حیث النوع؛ لأ،هل هو حقیقة فی خصوص المتلبّس لا یصیّرهما وجوداً فلسفیاً حقیقیاً واحداً کی یخضع للقانون الفلسفی القائل بأن الواحد لا یصدر من الکثیر کما هو واضح.

ص: 177

إذن، فعلی کل التقادیر لا یلزم من اختیار الشق الثانی أی محذور ثبوتی.

فإن قلت: إن بإمکان المحقّق الأصفهانی ره تطبیق القاعدة المذکورة علی مبادئ الحکم، أی: الملاک والإرادة المولویة ببیان آخر، وهو أن یقال: إن ملاک وجوب الإکرام فی المثال إما هو من سنخ واحد، أو من سنخین ونوعین، فإن کان من سنخ واحد لزم صدور الواحد بالنوع (وهو الملاک) من الکثیر بالنوع (وهو العدالة والهاشمیة)، وهو مستحیل، وإن کان من سنخین ونوعین لزم أیضاً صدور الواحد بالنوع (وهو الحبّ والإرادة المولویة) من الکثیر بالنوع (وهو الملاکان المتباینان سنخاً ونوعاً) وهو مستحیل.

قلت: الواقع هو أنه بعد فرض قبول شمول القاعدة للواحد والکثیر بالنوع وعدم اختصاصها بالواحد والکثیر بالشخص، وبعد قبول دلالة القضیة الوصفیة علی علیة الوصف لطبیعی الحکم لقیام القرینة علی ذلک (کما هو المفروض) فسوف یکون الجواب عن هذا الکلام هو:

أن بالإمکان أن نفترض أن الملاک (أی: ملاک وجوب الإکرام فی المثال) من سنخ ونوع واحد، ونفترض صدوره من الواحد بالنوع وهو الجامع بین «العدالة» و«الهاشمیة»، وهذا لا ینافی جعل کل من «العدالة» و«الهاشمیة» بعنوانه الخاص دخیلاً فی الوجوب ومصبّاً وموضوعا لمسؤولیة المکلف، ولو بنکتة عدم عرفیة ذاک الجامع وبالتالی عدم إمکان جعله موضوعاً للحکم، وقد تقدّم هذا فی بحث مفهوم الشرط أیضاً فی التقریب الرابع فراجع. فلا یلزم أیّ محذور ثبوتی أو إثباتی کما هو واضح.

هذا هو البیان الأول لکلام المحقّق الإصفهانی ره وقد عرفت عدم صحّته. بعد ذلک ننتقل إلی البیان الثانی غداً إن شاء الله تعالی.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

ص: 178

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

الثانی: دعوی وجود ظهورات ثلاثة فی الجملة الوصفیة تتمّ بمجموعها الدلالة علی المفهوم:

الأول: الظهور العرفی للوصف فی کونه علّة للحکم، وذلک لأن الوصف قید والأصل فی القیود أن تکون احترازیة؛ لأنه مأخوذ فی موضوع الحکم إثباتاً، فلا بد من أن یکون مأخوذاً فیه ثبوتاً أیضاً؛ لأصالة التطابق بین الإثبات والثبوت، فحیث أن قید العدالة قد أخذ فی طرف النسبة الإرسالیة إثباتاً وفی مرحلة المدلول التصوری للکلام، فالأصل أن یکون مأخوذاً فیه ثبوتاً وفی مرحلة المدلول التصدیقی، أی: فی مرحلة الجعل والوجوب أیضاً، وبهذا یثبت أنه قید احترازی، وتثبت علیته للحکم؛ إذ لا یُراد بالعلیة أکثر من کونه مأخوذاً فی موضوع الحکم، وقد ثبت ذلک بهذه القرینة العامّة المستفادة من الظهور العرفی القائلة بأن الأصل فی القید الاحتراز باعتبار أن الأصل هو تطابق الإثبات والثبوت.

الثانی: الظهور العرفی للوصف فی کونه بخصوصه وبعنوانه علّة للحکم، لا بما هو فرد من الجامع المنطبق علیه وعلی غیره.

الثالث: ظهور المعلول فی کونه عبارة عن طبیعی الحکم وسنخه، لا شخص الحکم.

وهذان الظهوران الأخیران بمجموعهما یُثبتان الانحصار وکون الوصف علّة منحصرة لطبیعی الحکم بعد ثبوت أصل العلیّة بالظهور الأول.

وحینئِذٍ تتم بذلک دلالة الوصف علی المفهوم؛ وذلک لأن افتراض وجود علّة أخری للحکم غیر الوصف لا یخلو عن إحدی حالات:

فإمّا أن یُفترض أنهما - أی: الوصف کالعدالة وتلک العلّة الأخری کالهاشمیة - علّتان وموضوعان لشخص الحکم، وبعبارة أخری: لجعل واحد. ومن الواضح أن هذا مستحیل؛ لأن الجعل الواحد وشخص الحکم لا یتحمّل أکثر من موضوع واحد.

ص: 179

وإما أن یفترض أنهما موضوعان لطبیعی الحکم، بأن تفرض حصّتان من طبیعی الحکم وجعلان وشخصان لوجوب الإکرام:

أحدهما: موضوعه الوصف، أی: العدالة.

والآخر: موضوعه الهاشمیة مثلاً.

وهذا الفرض وإن لم یکن مستحیلاً، لکنه خلاف الظهور الأخیر وهو ظهور المعلول فی کونه طبیعی الحکم لا شخصه؛ لأن هذا الظهور مفاده أن المعلول للوصف - أی: العدالة - هو طبیعی الحکم وسنخ وجوب الإکرام، بینما الفرض المذکور هو أن المعلول له حصّة من الطبیعی وشخص وجوب الإکرام.

وإما أن یفترض أن الجامع بینهما موضوع لطبیعی الحکم، وهذا الفرض أیضاً وإن لم یکن مستحیلاً، لکنه خلاف الظهور الثانی من الظهورات الثلاثة؛ لأن ذاک الظهور مفاده هو أن الوصف بخصوصه وبعنوانه موضوع وعلة للحکم، لا بما هو فرد ومصداق للجامع المنطبق علیه وعلی غیره.

إذن، فأی حصة تُفترض للحکم لابد من أن تکون علّته منحصرة فی الوصف المأخوذ فی الکلام، فیثبت المطلوب، وتتمّ الدلالة علی المفهوم(1) .

هذا هو بیانه الثانی ره، وکأنه أراد فی هذا البیان أن یعوّض عن القرینة الخاصّة التی افترض ره فی البیان الأول قیامها علی کون الوصف علّة بالقرینة العامة المستندة إلی احترازیة القید وتطابق الإثبات والثبوت والتی تُعطی الظهور الأول من الظهورات الثلاثة، وأراد هنا أن یعوّض عن القاعدة الفلسفیة التی ذکرها فی البیان الأول القائلة بأن الواحد لا یصدر من الکثیر والتی کانت تُثبت الانحصار بالظهورین الأخیرین من الظهورات الثلاثة الذَیْن یُثبتان الانحصار کما تقدّم.

وعلی کل حال

فهذا البیان الثانی أیضاً غیر تام کسابقه؛ إذ یرد علیه:

ص: 180


1- (1) - نهایة الدرایة: ج2، ص177.

أولاً: أن الجمع بین إثبات العلّیة للوصف بمقتضی الظهور الأول من الظهورات الثلاثة - وهو ظهور القید فی کونه احترازیاً - وبین إثبات کون المعلول عبارة عن طبیعی الحکم بمقتضی الظهور الثالث من تلک الظهورات یستبطن التهافت؛ لأن الظهور الأول ظهور تصدیقی لا تصوّری، فإن اکتشاف کون الوصف علةً وموضوعاً للحکم ثبوتاً لم یتم من خلال الدلالة التصوریة للکلام کما هو واضح، -إعداد وتقریر الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه- وإنما دل الکلام علی ذلک دلالةً تصدیقیةً بمعنی أننا فهمنا من خلال ذکر الوصف إثباتاً أن الوصف دخیل ثبوتاً وموضوع وعلة للمدلول التصدیقی والمراد الجدی للمولی.

ومن الواضح أن المدلول التصدیقی والمراد الجدی جزئی؛ لأنه عبارة عن جعلٍ لشخص الحکم قائم فی نفس المولی، وهذا الجعل موجود جزئی. وحینئِذٍ فلا معنی لإجراء الإطلاق فیه وإثبات أن المعلول للوصف هو طبیعی الحکم.

نعم، لو کان الظهور الأول تصوریاً وکانت العلیّة مستفادة من الدلالة التصوریة لم یکن هناک تهافت بینه وبین الظهور الثالث، ولأمکن حینئذٍ أن یقال: إن الأمر یدل دلالةً تصوریةً علی طبیعی الطلب، والوصف یدل دلالة تصوریة أیضاً علی أنه موضوع وعلة لطبیعی الطلب، فلا تهافت بینهما، ولکن الأمر لیس کذلک کما هو واضح.

والحاصل: أننا تارة

ننظر إلی قوله مثلاً: «أکرم الفقیر العادل» فی مرحلة دلالته التصوریة، وحینئِذٍ یکون المدلول التصوری لقوله: «أکرم» عبارة عن طبیعی الطلب - بالمعنی الحرفی، أی: النسبة الإرسالیة - إلا أنه لا یُفهم فی هذه المرحلة من الدلالة علیة العدالة لطبیعی الطلب؛-إعداد وتقریر الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه- لأن العلیّة إنما تثبت بأصالة التطابق کما عرفنا، ومن الواضح أن أصالة التطابق تعیّن المدلول التصدیقی والمراد الجدی؛ إذ تقول: إن کل ما أخذ تصوراً فهو مراد تصدیقاً وجداً. إذن، فإثبات العلیّة إنما کان فی مرحلة الدلالة التصدیقیة لا التصوریة.

ص: 181

وأخری ننظر إلیه

فی مرحلة دلالته التصدیقیة، وحینئِذٍ یکون المدلول التصدیقی للوصف المذکور فی الکلام عبارة عن کونه علةً وموضوعاً للمدلول التصدیقی والمراد الجدی، إلا أن المدلول التصدیقی والمراد الجدی لیس عبارة عن طبیعی الحکم، بل هو شخص الحکم الذی هو جزئی لا معنی لإجراء الإطلاق فیه.

والخلاصة

أنه فی مرحلة الدلالة التصوریة یستفاد طبیعی الحکم، لکنه لا تستفاد علیة الوصف، وفی مرحلة الدلالة التصدیقیة تستفاد العلیّة، لکنه لا یستفاد طبیعی الحکم، فکلامه ره متهافت.

هذا أولاً وبقیة المطلب تأتی غداً إن شاء الله.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم الوصف

کنا ندرس البیان الثانی من المحقّق الإصفهانی ره حول الضابط فی دلالة الوصف علی المفهوم وکان هذا البیان یتلخص فی الظهورات الثلاثة التی ذکرها وشرحناها بالأمس.

قلنا إن هذا البیان لا یمکن قبوله کالبیان الأول، وذلک أولا لما ذکرناه بالأمس بأن الظهور الأول الذی یفترضه المحقّق الأصفهانی ره لإثبات کون الوصف علّة للحکم، هو ظهور تصدیقی ولیس تصوریاً، بمعنی أن هذا الظهور کان یقول بأن الوصف بما أنه مذکور ودخیل فی موضوع الحکم إثباتاً وفی عالم الکلام، إذن بمقتضی أصالة التطابق بین الإثبات والثبوت یکون هذا الوصف دخیلاً وعلة وموضوعاً فی المراد الجدی للمتکلم فی عالم الثبوت.

ومن المعلوم أن المراد الجدی للمتکلم عبارة عن أمر جزئی وهو شخص ذاک الحکم والاعتبار النفسانی الموجود فی نفس المتکلم. فالظهور الأول إنما یثبت أن الوصف علّة لشخص الحکم. وحینئِذٍ کیف ینسجم هذا مع الظهور الثالث الذی افترض المحقّق الأصفهانی ره أن الوصف علّة لطبیعی الحکم؟! هذا أولاً.

ص: 182

وثانیاً: إن الإطلاق الذی ینتج المفهوم فی ما إذا کان الوصف علّة للحکم - بالمعنی المتقدم للعلیة، أی: بمعنی کون الوصف مأخوذاً فی موضوع الحکم ثبوتاً - إنما هو الإطلاق بمعنی کل حصص طبیعی الحکم بنحو الاستغراق، کی یثبت أن أی حصة تفترض للحکم فعلّتها الوصف المأخوذ فی الکلام، إعداد وتقریر الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه، وإلا فإن الإطلاق بمعنی ذات الطبیعة بما هی هی فهو لا ینتج المفهوم فیما إذا کان الوصف علّة للحکم؛ إذ لا تنافی بین أن یکون الوصف علّةً للطبیعی، ویکون شیء آخر أیضاً علّة للطبیعی، فبعض حصصه معلول للوصف، وبعضها معلول للشیء الآخر، فلا یثبت المفهوم.

إذن، فالإطلاق الذی یُجدی المحقّق الإصفهانی فی المقام ویثبت المفهوم بعد فرض کون الوصف علةً إنما هو الإطلاق بمعنی کون کل حصص الحکم معلولةً للوصف بنحو الاستغراق، لا الإطلاق بمعنی ذات طبیعة الحکم بما هی هی.

بینما قد تقدّم منا فی مناقشة بیان المحقّق العراقی ره هنا، وکذلک فی غیره من الموارد أن الإطلاق بمعنی کل حصص الطبیعیة، بأن تُلحظ الطبیعة بما هی فانیة فی وجوداتها الخارجیة، المتکثرة ومنطبقة علیها لیس هو الذی تقتضیه مقدمات الحکمة وتثبته، بل الإطلاق الذی تثبته مقدمات الحکمة وتقتضیه عبارة عن ذات الطبیعة بما هی هی من دون أخذ شیء آخر معها، فلحاظ فنائها فی الوجودات الخارجیة المتکثرة شأن زائد ومؤونة إضافیة لا تدل علیها مقدمات الحکمة، بل الذی تدل علیه إنما هو عبارة عن لحاظ ذات الطبیعة بما هی هی.

وقد عرفت آنفاً أن الإطلاق بهذا المعنی (الذی هو المعنی الصحیح للإطلاق) لا یُنتج المفهوم فی فرضنا وهو فرض کون الوصف علةً للحکم.

ص: 183

إذن، فالإطلاق الذی یُجدی المحقّق الإصفهانی فی المقام ویُنتج المفهوم لا تقتضیه مقدمات الحکمة، والإطلاق الذی تقتضیه مقدمات الحکمة لا یُجدیه ولا یُنتج المفهوم.

وثالثاً: إننا حتی لو تنزّلنا عن جمیع ما قلناه وفرضنا أن علیة الوصف مستفادة من الدلالة التصوریة للکلام کما أن الأمر یدل بالدلالة التصوریة أیضاً علی طبیعی الطلب، وفرضنا أن الإطلاق الذی تدل علیه مقدمات الحکمة لو جرت عبارة عن أن طبیعی الطلب بمعنی کل حصصه معلول للوصف، لا یتم مع ذلک کلام المحقّق الإصفهانی ره؛ وذلک لتعذّر إجراء مقدمات الحکمة فی المقام، إعداد وتقریر الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه، لما قلناه فی مناقشة بیان المحقّق النائینی ره، وأیضاً فی بیاننا المختار لإثبات عدم دلالة الوصف علی المفهوم وفی غیرهما من الموارد مراراً من أن إجراء مقدمات الحکمة متوقف علی تمامیة النسبة القائمة بین الحکم والقید، بینما نسبة العلیّة القائمة هنا بین الوصف والحکم لیست تامة ، بل هی ناقصة؛ لأن موطنها الأصلی هو العالم الخارج عن الذهن والتصوّر، بداهة أن العلاقة بین الموضوع والحکم علاقة خارجیة موطنها خارج عن عالم الذهن والتصوّر.

وعلیه فلا یعقل إجراء مقدمات الحکمة فیها لإثبات أن المعلول للوصف طبیعی الحکم والطلب، وبالتالی فلا یمکن إثبات المفهوم للوصف حتی لو فرضنا أن الوصف علّة وفرضنا أن مقدمات الحکمة لو جرت لأَثبَتَت الإطلاق بمعنی کل الحصص، لکنها لا تجری فی المقام لهذه النکتة.

هذا تمام الکلام فی البیان الثالث من بیانات الأصحاب، وهو بیان المحقّق الإصفهانی وقد عرفت عدم تمامیّته أیضاً کسابقیه.

وبهذا المقدار من ذکر بیانات الأصحاب نکتفی فی المقام، وقد عرفت أن الصحیح إنما هو البیان الذی قدمناه لإثبات عدم دلالة الوصف علی المفهوم، وبذلک ننهی بحث مفهوم الوصف. وقد عرفنا أن الوصف لا مفهوم له، لکن بیاننا لإثبات مفهوم الوصف کان یختلف عن بیانات الأصحاب رضوان الله علیهم. هذا تمام الکلام فی البحث التاسع عشر من بحوث الدلالات اللغویة للدلیل الشرعی اللفظی وهو بحث مفهوم الوصف، وبعد ذلک ندخل فی البحث العشرین من هذه البحوث وهو بحث اللقب والعدد.

ص: 184

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم اللقب والوصف بحث الأصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم اللقب والوصف

البحث العشرون

البحث عن مفهوم اللقب والوصف

البحث العشرون من بحوث دلالات الدلیل الشرعی اللفظی هو البحث عن دلالة اللقب والعدد علی المفهوم. فهل أن القضیة المشتملة علی اللقب من قبیل: «الطلاق بید من أخذ بالساق» أو «بید الزوج» تدلّ علی المفهوم؟ وتدلّ علی أنَّه لا طلاق أبداً بید غیر الزوج؟ أی: هل تدلّ علی انتفاء سنخ الحکم وکلیه وطبیعیه بانتفاء اللقب والزوج. أی: لا یصح طلاق غیر الزوج بتاتاً.

وکذلک القضیة المشتملة علی العدد، فی مثل: «أطعم ستین مسکیناً»، فهل تدلّ هذه القضیة علی انتفاء وجوب الإطعام عند انتفاء هذا العدد؟ أی: فی غیر عدد الستین. هل تدلّ علی أنَّه لا یجب إطعام عدد آخر من المساکین غیر عدد الستین أو لا؟

وقبل أن نبدأ ونشرع فی صلب البحث لا بأس بتوضیح المراد من اللقب وکذلک المراد من العدد فی هذا البحث الأصولی:

أما اللقب: فله معنی مصطلح وهو عبارة عن العَلَم الذی فیه مدحٌ أو ذمٌّ. مثل «المحمود» فهو علم فیه المدح، أو مثل «البطة» فهو عَلَم فیه ذمّ. فاللقب هو کل عَلَم فیه المدح أو الذم؛ لأن العَلَم علی ثلاثة أقسام:

الکُنیة: وهی العَلَم المُصَدَّر بأب أو أم أو ابن، مثل أبی ذر وابن أبی عمیر وأم کلثوم. اللَّقب: فهو العَلَم الذی لا یُصَدَّرُ بالأب أو الأم أو الابن، ولکن فیه مدح أو ذمّ. عَلَم محض: هو الذی لا یکون کُنیة ولا لقباً کالحسن والحسین وزید وعمرو.

ص: 185

إلا أن المراد من اللقب فی هذا البحث الأصول لیس خصوص هذا المعنی المصطلح الضیّق، بل المراد منه أعمّ من اللّقب المصطلح، فهو مطلق ما یُعبَّر به عن الذّات أو الشَّیْء ویقابل الوصف فهو اللّقب، سواء کان اسم جنس (مثل الرجل والمرأة) أم کان عَلَماً محضاً (کأسماء الأعلام الشخصیة مثل الحسن والحسین وزید وعمر) أم کان کنیةً (مثل أبی الحسن وأم الحسن) أم کان لقباً اصطلاحیاً (مثل المحمود والبطة) وسواء کان العَلَم المحض اسماً جامداً (مثل زید وعمرو) أم کان اسماً مشتقاً لکنه أصبح حالیاً علماً لا یُراد منه معناه الوصفی والاشتقاقی (مثل الباقر والصادق). فکل هذه الأسماء تدخل فی دائرة اللقب فی المصطلح الأصولی.

وأمّا العدد فله معنی مصطلح أیضاً، وهو ما قیل من أنَّه: نِصفُ مجموعِ حاشیته وطرفَیْهِ (مثل الثلاثة، فإن طرفیها الاثنان والأربعة، وبمجموعهما یشکلان الستةَ التی تکون الثلاثة نصفها.

ولکننا لا نتقید فی هذا البحث الأصولی بهذا التعریف؛ فإن المراد من العدد فی المقام لیس خصوص هذا المعنی المصطلح، بل المراد منه ما یعمّ حتی الواحد، وإن لم ینطبق علیه هذا التعریف((1) ).

إذن، فهل تدلّ جملة «الطلاق بید الزوج» علی المفهوم، أی: انتفاء سنخ الحکم (سنخ صحَّة الطلاق) بسبب انتفاء الزوج، أی: هل یدلّ علی بطلان أی طلاق من قبل غیر الزوج؟

فلو أتی دلیل آخر ودل علی صحَّة طلاق الحاکم الشرعی یتعارضان فیکون الدلیل الآخر مخصِّصاً للدلیل الأوّل (= المفهوم) أو أساساً لیس له مفهوم فلا یتعارضان.

ص: 186


1- (1) - والصفر وما دونه (مثل ناقص واحد = «1-») لیس عدداً وإنَّما هو ترکیب، وأمّا درجات الحرارة فالصفر یمثّل درجة الانجماد وما دون الصفر درجات عُبّر فیها عما دون الانجماد بناقص واحد وناقص اثنین وهکذا..

وکذلک بالنسبة للعدد، فإن «أطعم ستین مسکیناً» هل یدل علی عدم وجوب إکرام أعداد أخری غیر الستین، مثل 59 أو 61.

فلو دلَّ دلیل آخر علی إطعام عشرة مساکین مثلاً فیکون معارضاً للدلیل الأوّل (=المفهوم) أو لیس له مفهوم یدلّ علی انتفاء سنخ الحکم عند انتفاء هذا العدد المعیّن.

الجواب هو النفی، فإنه لا شیء من اللقب ولا من العدد یدل علی المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة. نعم هما یدلان علی المفهوم بنحو السالبة الجزئیة. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فعندما یقول: «الطلاق بید الزوج» یدل علی المفهوم بنحو السالبة الجزئیة، أی: یدلّ علی عدم صحَّة الطلاق من قِبَل بعض الأفراد الآخرین من غیر الزوج قطعاً. ولکن لا یدلّ علی المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة، أی: کل غیر الزوج لا یصح طلاقه بحیث حتی یشمل الحاکم الشرعی. فهذا المفهوم الکلّی مرفوض.

وکذلک العدد حیث یدلّ علی المفهوم بنحو السالبة الجزئیة، أی: یدلّ علی أن بعض الأفراد الأخری غیر الستین لا یجب إطعامهم، ولکن لا یدلّ علی المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة بأن یکون مفاده: کل عدد غیر الستین لا یجب إکرامه. فحال العدد واللقب حال الوصف تماماً. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فکما قلنا فی الوصف أنَّه لا یدلّ علی المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة وکذلک نقول بذلک فی الجملة اللّقبیّة والعددیة.

والنکتة فی عدم الدلالة علی المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة وکذلک النُّکتة فی الدلالة علی المفهوم بنحو السالبة الجزئیة هو النُّکتة نفسها التی ذکرناها فی باب الوصف، فکل ما قلناه فی الوصف یجری هنا حرفاً بحرف.

ولأجل التوضیح ولکن بالاختصار نقول:

ص: 187

تقدّم فی بحث مفهوم الشَّرْط وکذلک فی بحث مفهوم الوصف أن اقتناص المفهوم له أحد طریقین:

الطریق الأوّل: اقتناص المفهوم بنحو الدلالة التصوریة.

الطریق الثَّانی: اقتناص المفهوم بنحو الدلالة التصدیقیة.

وقلنا إن لکل من الطَّریقَین والأسلوبین مقدمات وشروطاً، وعلیه فلا بُدّ من ملاحظة الجملة المشتملة علی العدد أو اللقب، کی نری مدی انطباق تلک المقدمات علیها.

هل یمکن أن نسلک الطریق الأوّل لاقتناص المفهوم هنا فی باب اللقب والعدد؟

ثم هل یمکن أن نسلک الطریق الثَّانی لاقتناص المفهوم هنا أم لا؟

الجواب هو عدم إمکان سلوک أی من الطَّریقَین هنا، وذلک:

أما الطریق الأوّل (أخذ المفهوم من الدلالة التصوریة للکلام) فالسَّبب هو أن دلالة الجملة تصوّراً علی المفهوم متوقف علی شرطین کما تقدّم:

أولاً: أن تدل الجملة علی الربط التوقفی بین الحکم من جهة وبین شیء آخر (مثل الشَّرْط أو الوصف أو اللقب أو العدد) غیر الربط التوقفی الثابت بین الحکم وموضوعه. وإلا فإن الربط بین الحکم والموضوع لا ینتج الموضوع کما تقدّم مراراً. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه طبعاً علاقة الحکم بالموضوع سنخ علاقة إذا انتفی الموضوع ینتفی الحکم، لکن انتفاء الحکم بسبب انتفاء موضوعه لیس مفهوماً اصطلاحیاً فی علم الأصول، کما قلنا فی القضایا الشَّرْطِیَّة المصوغة لبیان الموضوع مثل «إن رُزقت ولداً فاختنه» فقد تقدّم أن هذه القضیة لا تدلّ علی المفهوم الأصولی المصطلح (= انتفاء الحکم عن الموضوع بسبب انتفاء شیء آخر)، وإن کانت تدلّ علی أنَّه إن لم ترزق ولداً لا یجب الخِتان، لکن لا یجب الختان حینئذٍ من باب أنَّه لا موضوع لوجوب الختان؛ فإن الموضوع إذا انتفی ینتفی حکمه قهراً وعقلاً.

ص: 188

فلا بُدّ من أن تدل الجملة تصوّراً علی ربط توقفی بین الحکم وبین شیء آخر غیر الربط التوقفی الثابت بین الحکم وموضوعه. هذا هو الشَّرْط الأوّل.

وثانیاً: أن تدل الجملة علی أن المتوقِّف علی ذاک الشَّیْء الآخر طبیعیُّ الحکم وسنخه لا شخصه.

فهذان الشرطان ذکرناهما سابقاً لکی نقتنص المفهوم من الجملة علی نحو الدلالة التصوریة.

فهل هذان الشرطان متوفران فی المقام؟

الجواب: کلا. لیس شیء منهما متوفراً، وذلک:

أما الشَّرْط الأوّل (الدلالة التصوریة علی الربط التوقفی) فغیر موجود وذلک:

أولاً: لشهادة الوجدان العرفی واللغوی الموجود لدی أی ابن لغة بأن قوله: «الطلاق بید الزوج» لا یدل تصوّراً (عندما یسمعه السامعُ) علی ربط توقفی بین الحکم (صحَّة الطلاق) وبین الزوجیة، غیر الربط التوقفی الموجود بین الحکم والموضوع.

وکذلک فی قوله: «أطعم ستین مسکیناً» لا نفهم منها إلا الربط القائم بین الحکم (الوجوب) من جهة وبین موضوع الوجوب (إطعام ستین مسکیناً)، ولا یوجد ربط آخر غیر هذا الربط الموجود بین الحکم وموضوعه.

وثانیاً: حتی لو قطعنا النظر عن الوجدان فلا نجد فی الجملة اللّقبیّة ولا فی الجملة العددیة ما یدل أو ما یمکن أن یدل علی التوقف. فکل ما یکرر النظر ویرجع البصر لا یری فی هذه الجملة ما یمکن أن یدلّ علی التوقف لا بمفهومه الاسمی ولا بمفهومه الحرفی.

أما المفهوم الاسمی فمن الواضح أنَّه لا یوجد مفهوم اسمی فی هذه الجملة یدل علی التوقف مثل التوقف أو المتوقف.

وأمّا المفهوم الحرفی (النسبة التوقفیة) فلأن ما یدل علی النسبة عبارة عن الحرف أو الهیئة، فإن «الطلاق بید الزوج» لا توجد فیها ما یمکن أن یکون دالاً علی النسبة التوقفیة، فالموجود فیها هو هیئة الجملة الکاملة، وهیئة الجملة الناقصة التی هی داخل الجملة التَّامَّة، وهی هیئة المضاف والمضاف إلیه وهی «ید الزوج». فالهیئة بین الید وبین الزوج نسبة ناقصة وقد تقدّم مراراً أن النسبة الناقصة تجعل الکلمتین کلمة واحدةً، وأمّا هیئة مجموع الجملة فتدل علی نسبة تامة، لکن نسبة تامة بین طرفین. بین الحکم وهو عبارة عن الصّحّة والنفوذ والامضاء والطرف الآخر عبارة عن طلاق الزوج.

ص: 189

نعم، هذه النسبة التَّامَّة نسبة توقفیة، لکنها لیست نسبة تامة زائدةً علی توقف الحکم علی الموضوع. فهذا لیس هو المطلوب.

وکذلک فی الجملة العددیة، فعندنا نقول: «أطعم ستین مسکیناً» فلا توجد فیها ما یدل علی التوقف بمعناه الاسمی وهو واضح. ولا ما یدل علی التوقف بمعناه الحرفی، لأن ما یدل علی التوقف بالمعنی الحرفی عبارة عن الهیئة. هیئة «أطعم» أو هیئة مجموع« أطعم ستین مسکیناً»؟ هیئة مجموع الجملة تدل علی نسبة إرسالیة تامّة ولکن بین المرسَل (المکلف والمخاطَب) والمرسَل إلیه (إطعام مُحَصَّص) وهو إطعام ستین مسکیناً (کل هذا طرف من النسبة).

فالجملة تدلّ علی نسبة تامة مُحَصَّصَة ومقیدة بهذا اللّقب أو هذا العدد. فلا تدلّ الجملة علی نسبة توقفیة بین الحکم (= الوجوب) وبین الموضوع (إطعام ستین مسکیناً) زائداً علی توقف الحکم علی موضوعه. بل هو عین توقف الحکم علی موضوعه. فإذا انتفی عدد الستین فقد انتفی الموضوع وإذا انتفی الموضوع فقد انتفی الحکم قهراً وعقلاً. فلا دلالة فی هذه الجملة علی النسبة التوقفیة التی نحتاجها لإثبات المفهوم.

فالشرط الأوّل (أن تدل الجملة علی التوقف بین الحکم وبین شیء آخر زائداً علی توقف الحکم علی موضوعه) منتفٍ فی المقام.

وأمّا الشَّرْط الثَّانی (أن تدل الجملة علی أن المتوقِّف عبارة عن طبیعی الحکم وسنخه) فهو أیضاً غیر متوفر فی الجملة اللّقبیّة وکذلک فی الجملة العددیة؛ لأن هذا الشَّرْط إنّما یتم من خلال إجراء الإطلاق فی المتوقِّف وقد تقدّم فی التنبیه الخامس من تنبیهات المفهوم الشَّرْط أن إجراء الإطلاق فی المتوقِّف إنّما یتمّ فیما إذا کانت النسبة بین الحکم والقید نسبة تامةً، إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه کما فی الجملة الشَّرْطِیَّة. وأمّا إذا کانت ناقصة فلا یجری الإطلاق، لأن النسبة الناقصة مندکة فی النسبة التَّامَّة ومأخوذة طرفاً فی النسبة التَّامَّة التَّامَّة، فهی محصصة للنسبة التَّامَّة، فیدل الکلام بمجموعه علی نسبة تامة محصَّصة. فإن جملة «الطلاق بید الزوج» بأکملها تدلّ علی نسبة تامة محصصة، أی: حصّة من الحکم الشرعی، وحصة من الصّحّة ثابتة لطلاق الزوج. وإذا انتفی الزوجیة (أی: شخص آخر أراد أن یطلِّق) فتنتفی هذه الحِصَّة من الطلاق، ولکن قد تثبت حصّة أخری لصحة الطلاق، مثل طلاق الحاکم الشرعی.

ص: 190

إذن، فلا یمکن إجراء الإطلاق فی المتوقف حتی لو أثبتنا أن الجملة تدلّ علی التوقف؛ لأن الکلام لا یدل إلا علی حصّة من الصّحّة والإطلاق لا یجری فی الحِصَّة.

وکذلک الجملة العددیة. وللکلام تتمة تأتی غداً إن شاء الله - تعالی -.

الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم اللقب والوصف بحث الاصول

العنوان: الأدلة المحرزة/الدلیل الشرعی/الدلیل الشرعی اللفظی/دلالة الدلیل/المفاهیم/مفهوم اللقب والوصف

کان الکلام فی مفهوم اللّقب والعدد فذکرنا أن حال اللّقب والعدد حال الوصف، وأنه کما قلنا فی الوصف أنَّه لا دلالة له علی المفهوم کذلک نقول فی اللّقب والعدد لا دلالة لهما علی المفهوم، والنکتة فی عدم الدِّلالة علی المفهوم هنا هی نفس النُّکتة التی ذکرناها فی الوصف.

والحاصل إذا کان الحکم قد بُیِّن (فی الجملة اللّقبیّة والعددیة) من خلالِ معنیً حرفیٍ (مثل صیغة «افعل») فحینئذٍ لا دلالة للکلام علی المفهوم، کما أنَّه لا دلالة له علی المفهوم فیما إذا کان الحکم (=الوجوب) قد بُیِّنَ واستُفید من خلال معنیً اسمی (مثل «إطعام ستین مسکیناً واجب»)، ولیس من خلال الهیئة والصیغة الدَّالَّة علی المعنی الحرفی. فهنا أیضاً لا یمکن إجراء الإطلاق فی کلمة «واجب»؛ وذلک أیضاً لما قلناه فی مفهوم الوصف (وفی غیر بحث مفهوم الوصف) من أن الإطلاق لا یجری فی المحمول.

فإن قال: «الرّمّان حامض» یمکن إجراء الإطلاق فی الموضوع بأن هذا الکلام یشمل کل رمّانٍ، لکن إجراء الإطلاق فی المحمول لیس له معنی، إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه بأن تکون کل درجاتِ الحموضة ثابتةٌ للرمّان، فإن هذا لیس مقبولاً عرفاً. أو مثل: «المصباح منیر» فلا إطلاق فیها علی أن کل درجات النور والإنارة ثابتة للمصباح. ومثل «الصَّلاة واجبة» لا یرید إثبات کل حصص الوجوب للصَّلاَة بحیث أن غیر الصَّلاة لیس واجباً.

ص: 191

إذن، فالشرط الثَّانی من شرطی استفادة المفهوم من الکلام علی مستوی الدِّلالة التصوریة منتفٍ أیضاً فی المقام.

وبهذا عرفنا أن الطریق الأول لاقتناص المفهوم من الکلام وهو أخذ المفهوم من الدِّلالة التصوریة للکلام کان مشروطاً بشرطین، کلاهما غیر متوفرین فی الجملة اللّقبیّة وفی الجملة العددیة. أی: لا الدِّلالة علی التوقف موجودة فی الکلام ولا الدِّلالة علی أن المتوقِّف طبیعی الحکم.

أما الطریق الثَّانی (=اقتناص المفهوم من الدلالة التصدیقیة للکلام)، فقد تقدّم شرحه سابقاً، بأنّه لو تمکّن شخص من أن یثبت أن جملةً (سواء الوصفیة أم الشَّرْطِیَّة أم اللّقبیّة أم أیةِ جملةٍ) تدلّ بالدلالة التصدیقیة علی أن علّة الحکم المذکور فیها منحصرة بالقید المذکور فیها (کقید الشَّرْط فی الجملة الشَّرْطِیَّة، وقید الوصف فی الجملة الوصفیة، واللقب فی الجملة اللّقبیّة وهکذا..) فمن الطبیعی حینئذٍ أن تدلّ الجملة علی المفهوم. أی: تدلّ علی أنَّه إذا انتفی القید أو الوصف ینتفی الحکم؛ لأن القید أو الوصف علّة منحصرة.

والسؤال هو أنَّه هل یمکن أن نسلک هذا الطریق فی اللّقب والعدد لإثبات المفهوم؟

والجواب: کلا، فهذا الطریق أیضاً مسدود وهذا الباب موصد أمامنا فی باب اللّقب والعدد؛ وذلک لأن الجملة اللّقبیّة وکذلک العددیّة لا دلالة لهما علی أن علّة الحکم منحصرة باللقب أو العدد.

فإن قوله «الطلاق بید الزوج» مثلاً، لا دلالة له علی أن الطلاق منحصر بالزوجیة، وکذلک قوله «أکرم ستین مسکیناً» لا دلالة له علی العلیّة الانحصاریة (أی: الدِّلالة علی أنه لا یجب إکرام غیر ستین مسکیناً من الأعداد الأخری).

فبالتالی لا یثبت المفهوم للقب وللعدد بنحو السالبة الکلّیّة؛ لأننا لم نفهم من الکلام أن هذا القید علّة منحصرة، فلعل هناک علّة أخری لصحة الطلاق غیر الزوجیة وهی حکومة الحاکم الشرعی، کما یحتمل وجود علّة أخری لوجوب الإطعام.

ص: 192

أجل، إن المفهوم یثبت لهما بنحو السالبة الجزئیة، کما کنا نقول به فی الوصف. أی: قوله: «الطلاق بید الزوج» یدلّ علی المفهوم بنحو السالبة الجزئیة، أی: یدلّ علی أن بعض مصادیق طلاق غیر الزوج باطل، ولیس کل مصادیقه. کذلک العدد، فإن قوله: «اطعم ستین مسکیناً» یدلّ علی أن بعض الأعداد الأخری غیر الستین لا یجب إطعامهم.

والنکتةُ فی کلا المطلبین (فی دلالة اللّقب والعدد علی المفهوم الجزئی، وأیضاً فی عدم دلالتها علی المفهوم الکلّی) هی النُّکتةُ نفسها التی ذکرناها فی الوصف.

فذلکة الکلام: أننا نقبل المفهوم بنحو السالبة الجزئیة، أی: لم تُجعل صحَّة الطلاق بنحو الموجبة الکلّیّة لکل أحد، إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه بحیث یمکن للجمیع أن یطلقوا هذه المرأة المسکینة، بل بعض هؤلاء الأفراد غیر الزوج لا یصح منهم أن یطلقوا هذه المرأة؛ وذلک لنفس النُّکتة التی ذکرناها فی الوصف (فی التقریب الثَّانی - القرینة العرفیة - حیث ذکرنا تقریبین وناقشنا التقریب الأول(1) واعتمدنا التقریب الثَّانی) من أن هذه الجملة اللّقبیّة «الطلاق بید الزوج» أو «الطلاق بید من أخذ بالسَّاق» تدلّ بالدلالة التصدیقیة علی أن صحَّة الطلاق لیست ثابتة لکل شخص، بنحو الموجبة الکلّیّة، بنکتة أنَّه لو کان الشارع قد جعل صحَّة الطلاق لکل شخص فإما أن یکون ذلک بنحو الجعل المتعدّد، أو یکون بنحو الجعل الواحد، فإن افترضتم أنَّه قام بالجعل من خلال جعلین: 1- صحَّة الطلاق للزوج 2- صحَّة الطلاق لغیر الزوج، فهذا یلزم منه محذور اللغویة العرفیة؛ فإن المولی لو کان یرید جعل صحَّة الطلاق لکل شخص فلماذا یجعل جعولاً عدیدةً، إذ کان بإمکانه أن یجعل جعلاً واحداً یذکر فیه أن هذا الطلاق یصح من کل شخص. لأنه سوف یصل من خلال هذا الجعل الواحد إلی النتیجة المطلوبة لدیه والتی تفترضون أنَّه یصبو إلیه من جعل جعول عدیدة.

ص: 193


1- (1) - راجع الدرس الحادی والخمسین (الأحد 16/03/1432).

وإذا کان بنحو جعل واحد (هذا الجعل المبرَز من خلال هذا الخطاب) فهذا أیضاً یلزم منه مخالفة ظهور هذا الخطاب، فإن هذا الخطاب ظاهر فی أن القید المذکور فی هذا الخطاب کما أنه دخیلٌ إثباتاً دخیلٌ ثبوتاً أیضاً؛ لحکم أصالة التطابق بین مقام الإثبات والثُّبوت.

فلو کان مراده جعل صحَّة الطلاق من قِبَل أیّ شخص کان، لم یکن یجعل الطلاق بید الزوج ویذکره؟ فإن ذکره سوف یکون لغواً، وهذا خلاف ظاهر الخطاب.

إذن، بهذا الدلیل ودفعاً لمحذور اللغویة نقول بأن مقصود المتکلم من «الطلاق بید الزوج» لیس هو جعل الطلاق بنحو الموجبة الکلّیّة لکل شخص، وإذا لم یکن هذا هو مقصوده فمعنی ذلک أن بعض غیر الزوج طلاقه باطل، وهذا هو المفهوم بنحو السالبة الجزئیة.

وکذلک العدد.

إذن، فالمفهوم بنحو السالبة الجزئیة یمکن إثباته للعدد واللقب معاً بهذا البیان الذی ذکرناه، أمّا المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة (بأن یدلّ المفهوم علی أن هذا الحکم غیر ثابت فی جمیع موارد انتفاء اللّقب أو العدد، أی: إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه بطلان طلاق غیر الزوج فی جمیع الموارد) فلم یثبت؛ وذلک لأن النُّکتة فی عدم الدِّلالة علی المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة هی نفس النُّکتة فی عدم دلالة الجملة الوصفیة علی انتفاء الحکم بانتفاء الوصف بنحو السالبة الکلیة، والنکتة هی أنَّه لا یلزم أی محذور لو التزمنا بأن هذا الحکم المذکور فی الکلام ثابت لبعض موارد انتفاء اللّقب.

أما محذور اللغویة فلیس لغواً أن یجعل المولی جعلین: أن یجعل صحَّة الطلاق من الزوج بملاک أنَّه زوجها. وأیضاً یجعل صحَّة الطلاق لشخص آخر کالحاکم الشرعی ولکن بملاک آخر وهو ملاک الحکومة. فکیف للمولی أن یتوصل إلی صحَّة طلاقها من قبل شخصین أو ثلاثة أشخاص إلا من خلال جعلین أو ثلاثة جعول.

ص: 194

وکذلک محذور مخالفة ظاهر الخطاب، فإننا نلتزم بظاهر الخطاب، فإننا نحتفظ بأن هذا الجعل بملاک الزوجیة محفوظ کما أن هناک جعل آخر محفوظ بخطاب آخر وهو خطاب الحکومة.

فلا نکتة تساعدنا علی الالتزام بأن الجملة تدلّ علی المفهوم بنحو السالبة الکلّیّة.

هذا تمام الکلام فی هذا المطلب وقد اتضح أن الجملة اللّقبیّة والعددیة لا طریق لإثبات المفهوم لهما، لا الطریق الأوّل ولا الطریق الثَّانی.

نعم فی العدد یوجد مطلب سوف نتعرض له غداً وهو أن المولی لو کان فی مقام التحدید فقد یکون هذا التحدید قرینة خارجیة علی المفهوم، ولا علاقة لها باللقب بما هو لقب أو العدد بما هو عدد. مثل تحدید عدد أیام الحیض فی جانب الحیض أن لا یکون أقل من 3 أو فی جانب الکثرة أن لا یکون أکثر من 10. وهذا ما سندرسه غداً إن شاء الله تعالی.

مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

انتهی الحدیث عن مفهوم اللّقب والعدد، وبقیت نقطة تتعلّق بالعدد وهی عبارة عن أنَّه إذا استظهرنا من الدلیل أن العدد المذکور فی الخطاب إنّما ذکره المولی من أجل التحدید وبیان الحدّ، حینئِذٍ سیکون هذا قرینة علی المفهوم، ولکن لا علاقة له بمفهوم العدد بما هو عدد، وإنَّما استُفید من القرینة الدَّالَّة علی التحدید.

ویتصور التحدید علی ثلاثة أقسام:

أن یکون التحدید تحدیداً من طرف الزیادة والنقیصة معاً. أن یکون التحدید تحدیداً من طرف النقیصة. أن یکون التحدید تحدیداً من طرف الزیادة.

أما القسم الأوّل بأن یکون التحدید من کلا الطرفین، أی: أن یکون المولی فی مقام بیان الحدّ الأدنی والحد الأقصی معاً، مثل أن نستظهر من الدلیل الدال علی استحباب تسبیح الزهراء سلام الله علیها بأن المولی کان فی مقام تحدید کلا الطرفین عندما ذکر التکبیر لأربع وثلاثین مرّةً والتحمید لثلاث وثلاثین مرّةً والتسبیح ثلاث وثلاثین مرّةً. فهذا یکون قرینة علی أن الحکم ینتفی بانتفاء هذا العدد. أی: إذا لم یکن التکبیر 34 مرّةً فینتفی الاستحباب. ومثله عدد تسبیحات صلاة الجعفر الطیار سلام الله علیه.

ص: 195

أما القسم الثَّانی بأن یکون التحدید من طرف النقیصة، من قبیل عدد العشرة فی إقامة المسافر، فإنه إذا نوی عشرة أیام، فهو تحدید ولکنه تحدید من طرف النقیصة، أی: بیان للحد الأدنی من الإقامة، ولیس بیاناً للأحد الأعلی فإن الحدّ الأعلی لا بشرط، أی: لا یکون أقل من عشرة أیام. أو مثل عدد الثلاثة فی الحیض تحدید من جانب النَّقیصة. أو عدد الوزن فی الکُرّ أو عدد المساحة؛ فإن للکر تحدیدان، تحدید وزنی وتحدید مساحتی.

أما القسم الثالث: بأن یکون التحدید من طرف الزیادة، من قبیل عدد العشرة فی الحیض بأن أکثر الحیض عشرة. أو عدد أیام شهر رمضان لا یکون أکثر من ثلاثین یوماً.

فهذه التحدیدات تکون قرینة علی انتفاء الحکم إذا زاد علی هذا العدد أو نقص منه. علی کل حال کانت هذه نقطةً متعلقة بالعدد.

وبهذا انتهی الکلام عن مفهوم اللّقب والعدد. وبعد ذلک ندخل فی البحث الحادی والعشرین من دلالات الدلیل الشرعی اللفظی وهو مفهوم الغایة.

البحث الحادی والعشرون

مفهوم الغایة

إذا کان فی الکلام ما یدلّ علی الغایة من قبیل «حتی» و«إلی» کقوله تعالی: «فاغسلوا وجوهکم وأیدیکم إلی المرافق وامسحوا برؤوسکم وأرجلکم إلی الکعبین» أو قوله تعالی «وأتموا الصیام إلی اللیل» أو إذا قال: « صم حتی تصبح شیخاً»، أو قوله تعالی: «کلوا واشربوا حتی یتبیّن لکم الخیط الأبیض من الخیط الأسود من الفجر»، أو إذا قال: «صم من أول الشهر إلی الیوم العاشر». فهذه کلها کلمات وجمل مشتملة علی غایة. وحینئِذٍ یوجد بشأن هذه الجمل بحثان:

البحث الأوّل: حول مفهوم هذه الجملة، حیث یُبحث هل تدلّ هذه الجملة المفهوم، أی: هل تدلّ علی انتفاء سنخ الحکم عندما تتحقّق الغایة؟ البحث الثَّانی: حول منطوق هذه الجملة، حیث یُبحث هل أن منطوق هذه الجملة واسع أم ضیّق؟ وهذا هو البحث المعروف الدائرُ حول أن الغایة هل هی داخلة فی المغیَّا من حیث الحکم أم هی خارجة عن المغیَّا؟ فهل یجب الصوم فی الیوم العاشر إن قال المولی: «صم من أول الشهر إلی الیوم العاشر» أم لا یجب.

ص: 196

والبحث الأوّل حول المفهوم یتحدّد فی طول البحث الثَّانی حول المنطوق. أی: إن دلَّ المنطوق علی أن الغایةَ داخلةٌ فی المغیَّا (أی: إذا کان المفهوم واسعاً)، فیکون المفهوم (علی أن یکون للغایة مفهومٌ) عبارة عن انتفاء سنخ الحکم عمّا بعد الیوم العاشر، وهو الیوم الحادی عشر. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه وإذا کان المنطوق ضیّقاً (أی: الغایة غیر داخلة فی المغیَّا، أی: عدم دخول العاشر) فالمفهوم یتّسع ویکون عبارة عن انتفاء سنخ الحکم عن الغایة وما بعدها.

أما البحث الأوّل: وهو البحث عن المفهوم، فنقول: إن الغایة علی أربعة أقسام کالتالی:

القسم الأوّل: أن تکون الغایة غایةً لموضوع الحکم (بمعناه المرزائی والضیق والذی هو عبارة عن متعلق متعلّق الحکم) کما فی الآیة الشریفة «فاغسلوا وجوهکم وأیدیکم إلی المرافق وامسحوا برؤوسکم وأرجلکم إلی الکعبین» فإن «إلی الکعبین» غایة للأرجل، فإن الأرجلَ موضوع (= متعلق المتعلّق)؛ فإن الأرجل متعلق الغَسل والغَسل متعلق الوجوب (وجوب غَسل الأرجل).

والسبب فی أننا لم نذکر القسمَ الأوّل من الآیة أی: «وأیدیکم إلی المرافق» هو أَنَّه «إلی المرافق» غایةٌ للمتعلق (للغسل) ولیس غایة للموضوع (للأیدی)، کما یحتمل أنَّه ما تقوله روایاتُنا، أی: لا یجب غَسل ما فوق المرافق، أی: الآیة تُبیّن حدَّ الغسل ولا تبین حدّ الید حتی تدلّ علی ما یصنعه العامة من غسل الید من الأصابع نحو المرافق، فهی لا ترید بیان حدّ المغسول. وهذا بخلاف «الأرجل» فإنها واضحة فی أنها غایةٌ للموضوع ومتعلق المتعلّق.

القسم الثَّانی: أن تکون الغایة غایةً لمتعلق الحکم، کما ذکرناه فی هذه الآیة بالنسبة إلی المرافق أو کما فی الآیة الأخری: «أتموا الصیام إلی اللیل» فإن «إلی اللیل» غایة للصیام، أی: الإمساک إلی اللیل، والصیام متعلق الحکم والوجوب.

ص: 197

القسم الثَّالث: أن تکون الغایة غایةً لا للموضوع ولا للمتعلق بل تکون غایةً لنفس الحکم الشرعی، فإن «إلی اللیل» غایةٌ للوجوب الذی هو قوله «واجبٌ». ولکن نفترض فی هذا القسم أن یکون الحکم قد بُیِّن من خلال معنیً اسمیٍّ مثل کلمة «واجب».

القسم الرابع: کالقسم الثالث ولکن الحکم مبیَّن فیه بالمعنی الحرفی. أی: من خلال صیغة الأمر مثل «صم حتی تصبح شیخاً»؛ فإن الشیخوخة غایةٌ للحکم ولوجوب الصیام (أی: وجوب الصیام علی الإنسان غایته إلی أن یصبح شیخاً) ولیست غایةً للصیام (حتی یجب علیه الصیامُ متصلاً ولسنین متلاحقة إلی أن یصبح الإنسان شیخاً).

فهذه أقسام أربعة وسوف یتضح السَّببُ فی تقسیم الغایة إلی هذه الأقسام الأربعة.

یبدو من المحقِّق العراقی ره أن الغایة إذا کان غایة للحکم (أی: القسم الثالث والرابع) وکان هذا الحکم مطلقاً عرفاً، فحینئذٍ تدلّ الغایة علی المفهوم؛ لأنَّ الکلام حینئذٍ یدلّ عرفاً علی أن مطلق الحکم مُغَیّاً بهذه الغایة، فإذا تحققت الغایة ینتفی مطلق الحکم؛ لأننا فرضنا أن الغایة هی نهایة الحکم، فإذا تحققت الغایة یکون الحکم قد انتهی، وهذا هو المفهوم.

أما إذا کانت الغایة غایةً للحکم ولکن لم یکن الحکم عرفاً مطلقاً بل کان مهملاً (أی: ارتبط الوجوب علی إهماله بغایةٍ) فیقول العراقی لا تدلّ الغایة علی المفهوم؛ لأن المفهوم عبارة عن انتفاء مطلق الحکم، بینما لا یوجد إطلاق فی الحکم، لأننا فرضنا أن الحکم مهمل.

وقد تقدّم نقل نظیر هذا الکلام منه فی بحث مفهوم الوصف((1) )، حیث قال: إذا لُوحظ الحکمُ بالقیاس إلی موضوعه وما یرتبط بالموضوع مثل الوصف فهو مهملٌ فی نظر العرف، فلا یمکن إجراء الإطلاق فی الحکم لإثبات أن مطلق الحکم مرتبط بهذا الموضوع أو هذا الوصف. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه وذکر ره عدم ثبوت المفهوم للّقبِ شاهداً علی أن الحکم بالقیاس إلی موضوعه مهملٌ (لأن مطلق الحکم لم یتقیّد بهذا اللّقب حتی ینتفی مطلق الحکم بانتفاء اللّقب، بل أصل الحکم وذات الحکم علی إهماله تعلّق بهذا اللقب).

ص: 198


1- (1) - راجع الدرس الثانی والخمسین (الثلاثاء 18/03/1432).

أما إذا لُوحظ الحکمُ بالقیاس إلی شیء آخر غیرِ الموضوع (من قبیل الشَّرْط فی الجملة الشَّرْطِیَّة، أو) من قبیل الغایة هنا فیما إذا کانت الغایة راجعة إلی الحکم (أی: القسم الثالث والرابع) فیقول العراقی ره: هذا مطلق عرفاً وذلک علی القاعدة التی أثبتها وتقدم الکلام عنها فی بحث مفهوم الوصف أن الحکم بالقیاس إلی شیء آخر غیر الموضوع والمتعلق مطلق عرفاً، فیدل علی المفهوم.

ولکن تقدّم النقاش فی هذا الکلام مفصلاً فی بحث مفهوم الوصف((1) ) فلا نعید کلامه؛ إذ لا یحتوی علی مطلب جدید أکثر مِمَّا ذکره هناک؛ وکان فذلکة النقاش أن للإطلاق ثلاثة معانی نرفض المعنی الأوّل والثانی منها ونختار المعنی الثالث وهو أن یکون الإطلاق بمعنی لحاظ ذات الطَّبیعة من دون لحاظ شیء زائد.

فالحکم إذا لوحظ بالقیاس إلی موضوعه أو إلی متعلّقه فإما هو مطلق بهذا المعنی الصحیح أو مقیّد، ولا یوجد لدینا مهمل فی البین ولا معنی للمهمل (إما أن یلحظ ذات طبیعة الحکم وإما یلحظها مقیدةً) علی تفصیل تقدّم بأن فی بعض القضایا تکون مطلقة وفی بعض القضایا تکون مقیدة.

أما المحقّق النائینی ره فالمیزان والمقیاس عنده لثبوت المفهوم للغایة (علی ما هو ظاهر من کلامه) هو أن تکون الغایة غایةً للحکم بشرط أن یکون الحکم مقیداً بالمعنی الحرفی (=القسم الرابع) لا بالمعنی الاسمی. ومتی ما کانت الغایة غایةً للموضوع (کالقسم الأوّل) أو للمتعلق (کالقسم الثَّانی) أو کانت غایة للحکم ولکن لم یذکر الحکم من خلال الحرف والهیئة، بل ذُکر الحکمُ من خلال الاسم (کالقسم الثالث) فالمفهوم غیر ثابت.

وهذا معناه عدم ثبوت المفهوم فی الأقسام الثلاثة الأولی عند المرزا؛ وذلک لأن الغایة فی هذه الأقسام الثلاثة ترجع إلی معنی اسمی، وذاک المعنی الاسمی إما هو الموضوع کالأرجل فی الآیة الشریفة (=فی القسم الأوّل، فإن «إلی الکعبین» غایةٌ للأرجل، والأرجل معنیً اسمی)، وإما هو المتعلّق مثل «أتموا الصیام إلی اللیل» (= فی القسم الثَّانی) وإما هو الوجوب ولکن الوجوب مبین بالمعنی الاسمی، مثل: «الصیام واجب إلی اللیل»، فإن «واجب» غایة ل_«إلی اللیل» وهو معنی اسمی (فی القسم الثالث).

ص: 199


1- (2) - راجع هذه المناقشة فی الدرس الثالث والخمسین (الأربعاء 19/03/1432).

فحیث أن الغایة فی کل هذه الأقسام الثلاثة غایةٌ للمعنی الاسمی فالغایةُ تُحَصِّصُ هذا المعنی الاسمی، أی: حصّة من هذا المفهوم الاسمی (أی: یجب مسح حصّة من الأرجل وهی الأرجل إلی الکعبین، وتجب حصّة من الوجوب للصیام وهی الصیام إلی اللیل)، فلا یدلّ الکلام علی أکثر من حکمٍ تعلّق بحصةٍ معینةٍ، وهذا لا مفهوم له (فإذا تعلّق الحکم بحِصَّةٍ معینة فلا یعنی أن بانتفاء الحِصَّة ینتفی مطلق الحکم)((1) ).

أما السید الأستاذ الخوئی ره فقد جعل المیزان فی ثبوت المفهوم فی باب الغایة أن تکون الغایةُ غایةً للحکم نفسه، سواء کان الحکمُ مبیَّناً بالمعنی الحرفی کالقسم الرابع أو مبیَّناً بالمعنی الاسمی کالقسم الثالث، فإن المهم أن تکون الغایةُ غایةً للحکم ذاتِهِ لیثبت المفهومُ، أمّا إذا کانت الغایة غایة لموضوع الحکم (کما فی القسم الأوّل) أو لمتعلق الحکم (کما فی القسم الثَّانی) فلا یثبت المفهوم((2) ).

إذن، هناک خلاف علی ما هو الظاهر بین الأستاذ (= النائینی) وتلمیذه (= السید الأستاذ الخوئی ره) بالنسبة للقسم الثالث، حیث لا مفهوم له عند المرزا بینما له مفهوم عند السید الخوئی ره، وذلک بعد اتفاقهما علی أن المفهوم إنّما یثبت إذا کانت الغایة غایة لنفس الحکم، ولا یثبت إذا لم تکن الغایة غایةً للحکم نفسه.

فلا بُدّ لنا من قراءة دلیل المرزا ومدرسته علی هذا المُدَّعی وهذا ما یأتی غداً إن شاء الله. (إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه).

مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الاصول

العنوان: مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

ص: 200


1- (3) - راجع «أجود التقریرات»: ج1، ص436 وما بعدها و«دراسات فی علم الأصول»: ج2، 223-225.
2- (4) - المصدران.

کان الکلام فی مفهوم الغایة حیث قسمناها إلی أربعة أقسام، فقد تکون الغایة غایةً لموضوع الحکمِ وقد تکون غایةً لمتعلق الحکم وقد تکون غایةً للحکم، وفی الأخیر قد یکون الحکم مذکوراً بنحو المعنی الاسمی، وقد یکون مذکوراً بنحو المعنی الحرفی.

وقلنا إن مدرسة المحقّق النائینی ره ذهبت إلی ثبوت المفهوم للغایة فیما إذا کانت الغایة غایة للحکم، وأمّا إذا لم تکن غایةً للحکم (کالقسمین الأولین) فلا یثبت لها المفهوم، علی خلافٍ بین المرزا والسّیّد الأستاذ الخوئی ره بالنسبة إلی القسم الثالث.

واستدلت مدرسة المرزا علیه بأن معنی الغایة هو النِّهایة وغایة الشَّیْء علّة لانعدامه، أی: أن الحکم سوف ینعدم وینتهی بتحقق الغایة، وهذا هو المفهوم؛ إذ لا نرید من المفهوم أکثر من انتهاء الحکم.

أما إذا لم تکن الغایة غایة للحکم بل کانت غایة لموضوع الحکم (کالقسم الأوّل) أو لمتعلق الحکم (کالقسم الثَّانی)، فحینئذٍ لا تدلّ هذه الغایة إلا علی تحدید دائرة الموضوع أو المتعلّق قبل طُرُوِّ الحکم علی هذا الموضوع أو المتعلّق؛ فإن المولی فی الرتبة السابقة علی جعل الحکم یتصوّر الموضوعَ والمتعلق. فیکون حال الغایة حال الوصف أو حال أی قید من قیود الموضوع أو قیود المتعلّق، وقد تقدّم أنَّه لا یثبت المفهوم لقیود الموضوع أو لقیود المتعلّق (أی: ثبوت هذا الحکم لهذا الموضوع المقیّد بهذا القید فهذا لا یدلّ أبداً علی أن حکماً آخر من سنخ هذا الحکم غیر ثابت لموضوع آخر أو لمتعلق آخر).

أقول: هذا کلام لا یمکننا أن نقبله وذلک لما تقدّم فی البحث عن ضابط المفهوم حیث نحن والمشهور قلنا معاً: إن ثبوت المفهوم متوقف علی رکنین هما:

ص: 201

الرکن الأوّل: إثبات العلیّة الانحصاریة للقید، مثل أن یثبت أن الشَّرْط علّة منحصرة للجزاء، أو الوصف أو الغایة أو أی شیء آخر نرید إثبات المفهوم له. الرکن الثَّانی: إثبات أن المقیَّد بهذا القید هو طبیعی الحکم، لا شخصه.

وحینئِذٍ نأتی إلی الجملة الغایة فنری أن الرکن الأوّل متوفر فیها (لِمَا قاله النائینی من أن معنی الغایة هو النهایة، أی: الغایة تؤدّی الدورَ نفسَه الَّذی تؤدّیه العلّةُ المنحصرةُ، أی: وجود الغایة یعدم الحکمَ کما أن وجود الشَّرْط یوجِد الحکم).

إلا أن الرکن الثَّانی (وهو إثبات أن مطلق الحکمِ وطبیعیُّهُ مقیّدٌ ومُغَیّاً بهذا القید وبهذه الغایة) غیر موجودٍ ولا یمکن إثباته فی الجملة الغائیة؛ لأن طریق إثباته هو إجراء الإطلاق ومقدمات الحکمة فی الحکم، بینما لا یجری هذا الإطلاق فی المقام کما لم یجر فی الوصف، حیث کنا نقول: إن الوصف یرتبط بالحکم من خلال نسبة ناقصة وشأن النِّسبة الناقصة تحصیصُ الحکم، فالکلامُ المشتمل علی الوصف یدلّ علی حصّة خاصّة من الحکم ومن الطبیعی أن بانتفاء الوصف تنتفی هذه الحِصَّة الخاصّة من الحکم، فلا دلالة للکلام علی المفهوم، وکذلک نقول فی الغایة أنَّها ترتبط بالحکم من خلال نسبة ناقصة (أی: النِّسبة الغائیة الَّتی هی مفاد أداة الغایة مثل «حتی» و«إلی»)، وقد عرفنا سابقاً أن الإطلاق لا یجری فی النِّسبة الناقصة.

إذن، لدینا فی المقام صغری وکبری. الصغری هی أن النِّسبة الغائیة نسبة ناقصة. والکبری هی أنه کلما کانت النِّسبة ناقصةً لا یجری فیها الإطلاق.

أما الصغری

فیمکن إثباتها عن طریقین:

أحدهما: عن طریق اللِّم وهو الاستدلال بالعلة لإثبات المعلول.

وثانیهما: عن طریق الإنّ وهو الاستدلال بالمعلول لإثبات العلّة.

ص: 202

أما الطریق الأوّل (= طریق اللِّمّ) وذلک من خلال معرفة علّة صیرورة بعض النِّسب ناقصةً، وهذا ما تقدّم مفصلاً فی بحث معانی الحروف والهیئات بأن المیزان هو أن کل نسبة یکون موطنها ووعاؤها الأصلی العالَمُ الخارج عن عالم الذهن واللحاظ والتصوّر (حتی إن کان فی عالم النفس، فإن عالم النفس من عوالم الواقع وهو خارج عن عالم التصوّر) أی: تکون النِّسبة قائمة بین شیئین هما واقعان (شیئین فی عالم الواقع) فهی نسبة ناقصة، وفی مقابله کلُّ نسبة موطنها الأصلی عالم اللحاظ (= نسبة بین مفهومین) وعالم الذهن فهی نسبة تامَّة. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فالنسبة الخارجیة نسبةٌ ناقصة. مثل ما تدلّ علیه کلمة «فی» من النسبة الظرفیة الَّتی هی نسبةٌ خارجیة (لأنها نسبة واقعیة قائمة بین الظرف والمظروف)، فتأتی إلی الذهن ناقصةً. ومثل النِّسبة الموجودة بین المضاف والمضاف إلیه ک_«علمُ زیدٍ» فإنها نسبة خارجیة قائمة بین العلم وزید.

فهذه النِّسبة عندما یستوردُها الذهنُ من الخارج إلی الذهن تصبح ناقصةً، وقد أقمنا هناک برهاناً علمیاً کان له شقوق علی سبب تحول هذه النِّسبة فی الذهن إلی نسبة ناقصة.

وأمّا النِّسبة التَّامَّة فهی عبارة عن النِّسبة بین مفهومین فی عالم اللحاظ کالنسبة الموجودة فی الجملة التَّامَّة، مثل «زیدٌ عالمٌ» فهذه النِّسبة توجد بینهما فی عالم المفاهیم، وإلا فلا نسبة بین زید والعالم فی الخارج؛ لأن النِّسبة قوامها بطرفین، ولا یوجد طرفان فی العالم الخارجی ولا توجد اثنینیةٌ بین زیدٍ وعالم، وإنما یوجد بینهما اتحاد فی الوجود الواقعی الخارجی. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه نعم فی الخارج توجد نسبةٌ بین زید والعلم، ولا توجد نسبة بین زید والعالم (علمُ زیدٍ نسبة خارجیة وناقصة، ولکن زیدٌ عالمٌ نسبتها ذهنیة وتامة) وهذه النِّسبة التَّامَّة سمیناها بالنسبة التصادقیة، أی: هذان المفهومان متصادقان علی شیء واحد.

ص: 203

هذا هو الضّابط الکلّی الَّذی ذکرناه هناک، ومن الطبیعی أننا عندما نأتی إلی الجملة الغائیة نری أن هذا الضّابط ینطبق علیها، لأن الجملة الغائیة فیها نسبة ناقصة بین الغایة والمغیّا؛ لأن معنی الغایة هو النهایة، فهناک نسبة بین المغیَّا وغایته. أی: نسبة تحکی عن واقع خارجی وواقع النفس الأمری وهو الأمر الَّذی نعبر عنه بانتهاء هذا الشَّیْء عند انتهاء الغایة.

هذا هو الطریق الأوّل لإثبات أن النِّسبة الغائیة نسبة ناقصة، من خلال علّة نقصان النِّسب وهی عبارة عن کونها خارجیة وقد رأینا أن هذه النِّسبة الخارجیة موجودة فی النِّسب الغائیة. فنکتشف من خلال ذلک أنَّها نسبة ناقصة.

وأمّا الطریق الثَّانی (= طریق الإنّ): فهو طریق معاکس للطریق الأول، حیث نثبت نقصانَ العلّة من خلال معلول النقصان، ومعلول النقصان عبارة عن تلک الآثار والنتائج الَّتی تترتب علی نقصان النِّسبة، ومن تلک الآثار هو عدم صحَّة السُّکوت علیها، وهذا الأثر نجده موجوداً فی الجملة الغائیة حیث لا یصحّ السُّکوت علیها، فلا یصحّ من المتکلِّم أن یقول: «الصوم إلی اللیل» ویسکت.

فهذا منبِّه فی المقام علی کون النِّسبة الغائیة ناقصة.

إذن هذان طریقان لإثبات الصغری وهی عبارة عن أن النِّسبة الغائیة ناقصة.

أما الکبری (=

کلما کانت النِّسبة ناقصة فلا یجری الإطلاق)

فیمکن إثباتها عن طریقین أیضاً:

طریق اللِّمّ: وذلک من خلال الرجوع إلی السَّبب فی عدم جریان الإطلاق والسبب هو أن النِّسبة إذا کانت ناقصةً فسوف تکون محصِّصة للکلمتین وتُرجِعُهما إلی کلمة واحدةٍ ذاتِ مفهوم واحد، أی: لا یوجد حینئذٍ مفهومان. مثلاً نسبة المضاف والمضاف إلیه (مثل «علمُ زیدٍ») نسبة ناقصة تُرجع هاتین الکلمتین إلی کلمة واحدةٍ ومفهوم واحد. فلا تتضمن النِّسبة الناقصة ربطاً حقیقیاً بین مفهومین قائمین فی الذهن، بخلاف النِّسبة التَّامَّة حیث یوجد فیها ربط حقیقی بین مفهومین قائمین فی الذهن. بینما یشترط فی الإطلاق أن یکون هناک مفهوم قائم حتی یُلحظ ویجری الإطلاق فیه. وهذا ما نفتقده فی النِّسبة الناقصة.

ص: 204

وسیأتی مزید توضیح لهذا المطلب غداً إن شاء الله تعالی.

مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الاصول

العنوان: مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کان الکلام فی مفهوم الغایة وقلنا إن الغایة لا مفهوم لها حتی إذا کانت غایةً للحکم نفسه (فی القسم الثالث والرابع)، خلافاً للمحقق النائینی ره وخلافاً للسید الأستاذ الخوئی ره حیث قالا: إن الغایة إن کانت غایةً للحکم نفسِه فیثبت لها المفهوم؛ وذلک لأن الضابط فی المفهوم أمران:

أن تکون الغایة علّة منحصرة. أن یکون الحکم المغیَّا بالغایة عبارة عن مطلق الحکم وسنخه ونوعه.

وقد تقدّم أن الشرط الأوّل متوفر دون الشَّرْط الثَّانی، حیث لا یمکن إثبات أن المغیَّا طبیعی الحکم؛ لأن إثبات ذلک متوقف علی إجراء الإطلاق وهو بدوره متوقف علی أن یکون الحکم مرتبطاً بالغایة بنسبةٍ تامَّة (لا بنسبة ناقصة)، والحال أن الحکمَ المرتبطَ بالغایة مرتبطٌ بها بنسبة ناقصةٍ، وکلما کانت النِّسبة ناقصةً لا یجری الإطلاق.

ثم أردفنا الحدیثَ بمطلبین یمثِّلان الصغری والکبری لاستدلالنا، وکانت الصغری عبارة عن نقصان النِّسبة، وقد أثبتناها بدلیلین لِمّیٍّ وإِنِّیٍّ. ریثما کانت الکبری عبارة عن عدم جریان الإطلاق فی کل مورد کانت النِّسبة فیه ناقصةً، وهذا ما یمکن إثباته عن طریقین نقدمهما إلیک کالتالی:

الطریق الأوّل (= طریق اللِّمِّ): هو أن السَّبب فی عدم جریان الإطلاق فی النِّسبة الناقصة عدمُ وجود مفهومین قائمین فی ذهن المتکلِّم حتی یجری الإطلاق فی أحدهما بالقیاس إلی الآخر. أی: الرجوع إلی سبب عدم جریان الإطلاق، والسبب (کما أکدنا علیه مراراً وتَکراراً) هو أن النِّسبة الناقصة تُدمج الکلمتینِ فی کلمةٍ واحدة، وتجعل المفهومینِ مفهوماً واحداً، وهذا (أی: عدم وجود ربط حقیقی بین مفهومین قائمین فی الذهن) ما یمنعنا عن إجراء الإطلاق؛ إذ الإطلاق عبارة عن أن المتکلِّم لاحظ هذا المفهوم القائم فی ذهنه بما هو هو، من دون لحاظ شیء زائد علیه.

ص: 205

فیجب أن یکون هناک مفهومان فی ذهن المتکلِّم یلاحظهما المتکلِّم بما هما مفهومان ثم ینتقل إلی أحد المفهومین لیُجری فیه الإطلاق ویقول: إن المتکلِّم لاحظ هذا المفهومَ بما هو هو. وذلک مثل: «الربا حرام» أو «البیع حلال» أو «البیع نافذ وصحیح»، فإن الإطلاق إنّما یجری فی «الربا» لیُشمل کلَّ مصادیق الربا؛ وذلک باعتبار وجود مفهومین قائمین فی ذهن صاحب هذا الکلام، فبما أنَّه لاحظ مفهومَ الربا ولم یأت بقیدٍ (أی: لم یقل «الربا الفلانی») فالأصل فیه هو أنَّه لاحظ هذا المفهوم بما هو هو، ومن دون مؤونة زائدة.

ولکن الأمر هذا غیر متوفرٍ فی النِّسب الناقصة؛ لأنَّه لا یوجد هناک مفهومان فی ذهن المتکلِّم ولا یوجد ربط حقیقی ذهنی بین مفهومین، فلا یأتی الإطلاق فی المقام کما لا یأتی التقیید أیضاً؛ إذ الإطلاق والتقیید کلیهما من شؤون النِّسبة التَّامَّة الَّتی تدلّ علیها الجملُ التَّامَّة، وأمّا النِّسب الناقصة الَّتی تدلّ علیها الجمل الناقصة فلا معنی للإطلاق والتقیید فیها؛ إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه لأنه یوجد فی مواردها مفهومان قائمان فی ذهن المتکلِّم، بل القائم فی ذهنه هو مفهوم واحد یفهمه من «غلامُ زیدٍ» أو «عِلمُ علِیٍّ»؛ لأن النِّسب الناقصة تحصص المفهوم فی مفهوم واحد وتکون النتیجة عبارة عن حصّةٍ من هذا المفهوم. فلا یوجد لدینا نسبة تامَّة یصحّ السُّکوت علیه حتی نقول إن مقصود المتکلِّم هو الإطلاق أو هو التقیید.

الطریق الثَّانی (= طریق الإِنِّ): ویتم هذا الطریق من خلال الرجوع إلی النتائج والآثار الَّتی تترتب علی عدم جریان الإطلاق فیما موارد النِّسب الناقصة، فإن عدمُ ثبوت المفهوم أثر من تلک الآثار، فإن من آثار عدم جریان الإطلاق فیما نحن فیه (من النِّسبة الغائیة) عدمُ ثبوت المفهوم لهذه النِّسبة، بخلاف ما إذا کانت النِّسبة تامَّة، حیث یثبت المفهوم لجواز جریان الإطلاق.

ص: 206

والشاهد علی ذلک إحساسُنا الوجدانی والعرفی الواضحُ بالفارق بین قولنا: «وجوب الصوم مُغَیّاً باللیل» وبین قولنا «وجوبُ الصومِ المغیَّا باللیلِ مجعولٌ»؛ فإن من الممکن إجراء الإطلاق فی الوجوب فی الجملة الأولی؛ لأن مفهوم الوجوب أصبح طرفاً لمفهومٍ آخرَ وهو مفهوم المغیَّا (فهی جملة تامَّة متکوّنة من مبتدأ وخبر). فإن المتکلم قد لاحظ مفهوم الوجوب، إلا أننا شککنا فی أن لاحظه کان مقیداً بقید أم لا؟ فنجری الإطلاق ونقول: إن الأصل فی المتکلِّم هو أنَّه «إن أراد شیئاً یقوله وما لم یقله لم یرده»، وحیث أنه لم یقل: «الوجوبُ الخاصُّ والحکمُ الفلانی مُغَیّاً»، فمقتضی کلامه أنَّ مطلقَ وجوب الصوم مُغَیّاً بالغایة. فإذا جاء اللیل وتحققت الغایة ینتفی مطلق وجوب الصوم.

ونظیره ما کنا نقوله فی القضیة الشَّرْطِیَّة (= إن جاء زید فأکرمه) بأن وجوب إکرام زید موقوف علی مجیئه، فیجری الإطلاق فی وجوب إکرام زید، أی: مطلقُ وجوب إکرام زید وطبیعیُّه متوقف علی مجیئه.

هنا أیضاً لو قال القائل: «وجوب الصوم مُغَیّاً باللیل» فیجری الإطلاق. أما إن قال «وجوب الصوم المغیَّا باللیل مجعولٌ وثابت من قِبَل الشارع» فهنا لا یمکن إجراء الإطلاق فی الوجوب؛ لأن الوجوبَ هذا قد ارتبط بالغایة من خلال نسبة ناقصة (فإن الوجوب أضیف إلی الصوم ووُصِف الوجوب بالمغیا. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فمن خلال نسبة الصفة والموصوف الناقصة - وجوب الصوم المغیَّا باللیل -) وهی الحِصَّةُ المغیَّاةُ بالوجوب، فیدل الکلام علی أن هذه الحصة مجعولة فی الشّریعة، فإذا جاء اللیل تنفی هذه الحِصَّة المجعولة الخاصّة. أمّا مطلق وجوب الصوم فلا ینتفی بحلول اللیل ولا یکون الکلام دالاً علی أن کل وجوب صومٍ مُغَیّاً باللیل. ومن هنا فلا یدلّ علی المفهوم (= لا یدلّ علی انتفاء سنخ الوجوب عند تحقّق الغایة).

ص: 207

فالصحیح لا مفهوم للغایة فی کل الأقسام الأربعة الَّتی ذکرناها (بما فیها القسمین الثالث والرابع حیث کانت الغایة فیها غایةً للحکم) سواء بالمعنی الاسمی (= القسم الثالث) أو بالمعنی الحرفی (= القسم الرابع).

بقی فی المقام أمران نستعرضهما فیما یلی:

الأمر الأوّل: وهو أن قاعدة احترازیة القیود (الَّتی هی قاعدة عرفیة عقلائیة قائمة علی أساس أصالة التطابق بین عالمی الإثبات والثُّبوت) تقول بأن ما قاله المتکلِّم قد أراده، والغایة قید ذکره المتکلم إثباتاً فلا بد أن یکون مراده ثبوتاً، ومعنی هذا أن یکون القید المذکور فی هذا الخطاب مقیَّد بهذه الغایة. فانتفاء شخص الحکم المذکور فی الخطاب عند حصول الغایة مسلم وثابت ولا کلام لنا فیه؛ لأنه ثابت علی أساس قاعدة احترازیة القیود، حیث کنا نقول فیها بانتفاء شخص الوجوب عند انتفاء الوصف.

الأمر الثَّانی: وهو أن للجملة الغائیة مفهوم بمقدار السالبة الجزئیة (أی: نفی الموجبة الکلّیّة)، کالجملة الوصفیة واللقبیة والعددیة الَّتی تقدّم الحدیث عنها سابقاً. فعندما نقول: «صم حتی تصبح شیخاً» یدلّ الکلام علی أن وجوبَ الصوم لیس ثابتاً علی کل إنسان بنحو الموجبة الکلّیّة بحیث یجب الصوم علی کل إنسان سواء کان شیخاً أو غیر شیخ، بل یدلّ علی أن بعض الشیوخ لا یجب علیهم الصوم.

والنکتة فی دلالة الکلام علی المفهوم بنحو السالبة الجزئیة هی النُّکتة نفسها الَّتی ذکرناها فی باب الوصف واللقب وغیرهما، بأَنَّهُ المفهوم لو کان ثابتاً بنحو السالبة الکلّیّة فإما أن یُفرض أن هذا الوجوب المجعول بنحو الموجبة الکلّیّة قد جُعل من خلال جعلین، أو جُعل من خلال جعل واحد.

أما فرض الجعلین (الجعل الأوّل: جعلٌ لوجوب الصوم لغیر الشیخ فی «حتی تصبح شیخا». الجعل الثَّانی: جعلٌ لوجوب الصوم للشیخ) فیلزم منه محذورُ اللغویة؛ فإن من اللغو أن یجعل المولی جعلین فیما إذا یرید جعلَ الصوم لکل إنسان؛ إذ بإمکانه أن یقول للإنسان رأساً: «صم» لیصل بذلک (بالجعل الواحد) إلی الموجبة الکلّیّة الَّتی یریدها. واللغو مستحیل علی المولی الحکیم.

ص: 208

أما فرض جعل واحد (وهو هذا الجعل والخطاب: «صم حتی تصبح شیخاً»، فإنه یرید إثبات الصوم لکل إنسان شیخاً أو غیر شیخ) فیلزم منه محذورُ مخالفة ظاهر الخطاب؛ لأن الخطاب ظاهر (علی أساس أصالة التطابق بین عالم الإثبات والثُّبوت) فی أن هذه الغایةَ (=الشیخوخةَ) الَّتی ذُکرت فی الکلامِ مرادٌ جدیٌّ للمتکلِّم. أی: عدم الشیخوخة دخیلة فی هذا الجعل، لأنه قال: «حتی تصبح شیخاً».

فیلزم من کل من الفرضین محذور، وبالتالی نجزم بأَنَّهُ لا توجد موجبةٌ کلیة فی المقام مفادها وجوب الصوم علی کل إنسان، وهذا معناه أن «صم حتی تصبح شیخاً» یدلّ علی أن بعض الشیوخ لا یجب علیهم الصوم قطعاً، وهذا معناه ثبوت المفهوم بنحو الموجبة الجزئیة.

هذا تمام الکلام فی البحث الأوّل وهو البحث عن مفهوم الجملة الغائیة، بأنها هل تدلّ علی انتفاء سنخ الحکم عندما تتحقّق الغایة أم لا.

أما البحث الثَّانی: وهو البحث عن منطوق هذه الجملة، وأَنَّ هذا المنطوق هل هو واسع أم ضیّق؟ وهذا البحث مختص بما إذا کانت الغایة غایةً لمتعلق الحکم (أی: القسم الثَّانی) أو إذا کانت الغایة غایة لموضوع الحکم (أی: القسم الأوّل).

مثلاً فی قوله «صم إلی اللیل» فإن اللیل الَّذی جُعل غایة للمتعلق (للصوم) - ولیس غایة لوجوب الصوم - نبحث عن أنَّ اللیل (وهو الغایة) هل هو داخل فی المغیَّا من حیث الحکم (أی: هل یجب صوم اللیل أیضاً کما یجب صوم النهار؟ هل حکم اللیل هو حُکم ما قبل النهار؟ وهذا معناه أن الغایة داخلة فی المغیَّا، أو أنَّه خارجة عنه حکماً کما أنَّها خارجة عنه حقیقة) أم لا. طبعاً بعد وضوح أنَّه لیس داخلاً فی المغیَّا حقیقة؛ فإن حقیقةَ الصوم غیرُ حقیقة اللیل.

ص: 209

وکذلک بالنسبة إلی غایة الموضوع (أی: متعلق المتعلّق، وهو القسم الأول) کما فی قوله تعالی: «فاغسلوا وجوهکم وأیدیکم إلی المرافق وامسحوا برؤوسکم وأرجلکم إلی الکعبین» حیث قلنا إن «إلی الکعبین» غایة للأرجل، والأرجل موضوع (متعلق المتعلّق)، فإن الأرجل متعلقُ الغَسل، والغسلُ متعلق الوجوب. فیأتی النزاع هنا أیضاً بأن الغایة (الکعب مثلاً) هل هی داخلة فی المغیَّا (=الأرجل) فیجب مسح الکعبین أیضاً أو خارجة. وهذا ما نبحثه إن شاء الله یوم السبت.

مفهوم الاستثناء/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الاصول

العنوان: مفهوم الاستثناء/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

البحث الثَّانی: وهو البحث الدائر حول سعة وضیق منطوق هذه الجملة. فهل تدلّ الجملة الغائیة علی أن الحکم المذکور فیها یشمل الغایة أیضاً بحیث أن الغایة تکون داخلة فی المغیَّا بحسب الحکم أم لا یشمل ولا تکون الغایة داخلة فی المغیَّا بحسب الحکم.

وقد قلنا: إن هذا البحث مختص بما إذا کانت الغایة غایةً لموضوع الحکم (أی: القسم الأوّل) أو إذا کانت الغایة غایةً لمتعلق الحکم (أی: القسم الثَّانی).

ومثال القسم الأوّل (= غایة الموضوع) الآیة الشریفة: «فاغسلوا وجوهکم وأیدیکم إلی المرافق»(1) ، فإن « إلی المرافق» غایة للأیدی، والأیدی موضوع لوجوب الغسل. وکذلک فی الجملة الأخری فی الآیة «وامسحوا برؤوسکم وأرجلکم إلی الکعبین» فإن «إلی الکعبین» غایة للأرجل الَّتی هی موضوع الحکم.

ومثال القسم الثَّانی (= غایة للمتعلق) الآیة الشریفة: «أتموا الصیام إلی اللیل»(2) فقد جُعل اللیلُ غایةً للصیام الَّذی هو متعلق الحکم والوجوب.

فیُعقل البحث فی هذین القسمین عن دخول الغایة فی المغیَّا أو لا، فإن فی القسم الأوّل یعقل أن نتحدث حول أن المرافق (= الغایة) هل هی داخلة فی الأیدی من حیث الحکم، لیکون غَسله واجباً کوجوب غسل الأیدی أو لا. أو الکعبین الَّذی هو غایة للأرجل فهل هی داخلة فی الأرجل حکماً (طبعاً الکعبان داخلان فی الأرجل حقیقیةً وإنَّما الکلام فی دخولهما حکماً).

ص: 210


1- (1) - سورة المائدة (5): الآیة 6.
2- (2) - سورة البقرة (2):الآیة 187.

وکذلک بالنسبة إلی القسم الثَّانی فإن فی «أتموا الصیام إلی اللیل» یُعقل الکلام عن أن اللیل هل هو داخل فی الصوم حکماً ولیس حقیقةً؛ فإن من البدیهی عدم دخول اللیل (الَّذی هو أمر تکوینی) فی الصوم (الَّذی هو فِعْل المکلَّف) حقیقةً. لکن السؤال هو: هل أن حکمَ اللیلِ حکمُ الصیام، وأن وجوب الصیام هل هو ثابت فی اللیل أیضاً أم لا؟

أمّا فی القسمین الأخیرین، أی: فیما إذا کانت الغایة غایةً لنفس الحکم (لا لموضوعه ولا لمتعلقه)، سواء بُیّن الحکم بنحو المعنی الاسمی (وهو القسم الثالث) کما إذا قال: «الصیام واجب إلی اللیل» أو بُیّن الحکم بنحو المعنی الحرفی (وهو القسم الرابع) کما إذا قال: «صم حتی تصبح شیخاً»، حیث أن الغایة هنا غایة للحکم نفسه؛ فلا معنی للبحث عن أنَّ الغایة داخلة فی المغیَّا أو لا؛ فإن المغیَّا هو الوجوب والحکم والغایة هو اللیل أو الشیخوخة، فلا معنی للبحث عن دخول (لا حکماً ولا حقیقةً) هکذا غایة فی المغیَّا وعدم دخولها فیه.

بل قد یستحیل دخول الغایة فی المغیَّا إذا کانت الغایة غایةً لنفس الحکم؛ لأنه قد یلزم منه اجتماع الضدین. مثلاً فی قوله علیه الصَّلاة والسلام: «کل شیء لک طاهر حتی تعلم أنَّه قذر»، فإن الغایة فی الحدیث هو «حتی تعلم أنَّه قذر» وحالة العلم بالنجاسة، والمغیَّا هو «کل شیء لک طاهر» والحکم بالطهارة. فالحکم بالطهارة فی هذا الحدیث مُغَیّاً بالعلم بالنجاسة. فلا یُعقل هنا دخول الغایة فی المغیَّا، لأنه مستحیل (أی: حالة العلم بالنجاسة داخلة فی المغیَّا الَّذی هو الطهارة)؛ إذ سیکون معناه «حتی مع العلم بالنجاسة سیکون هذا الشَّیْء محکوماً بالطهارة. فلا یعقل جریان النزاع فیما إذا کانت الغایة غایة للحکم، وعلی کل حال فإن هذا البحث یختصّ بالقسمین الأولین.

ص: 211

وحینئِذٍ نأتی إلی محلّ البحث، هناک من یقول بدخول الغایة فی المغیَّا مطلقاً وهناک من یقول بعدم دخول الغایة فی المغیَّا مطلقاً (کما یظهر من صاحب الکفایة ره تبعاً للنحوی المعروف نجم الأئمة).

وهناک قول ثالث یُفَصِّل بینما إذا کانت أداة الغایة من قبیل کلمة «إلی» وبین ما إذا کانت أداة الغایة من قبیل کلمة «حتی» (کما اختاره الزمخشری علی ما نُسب إلیه وبعض النحاة ادعی الإجماع علی أنَّه إذا کانت أداة الغایة من قبیل «حتی» فالغایة داخلة فی المغیَّا إجماعاً)؛ لأن «حتی» تُستعمل لبیان أخفی أفراد المغیَّا من حیث الحکم المذکور فی المغیَّا، کقولنا: «مات النَّاس حتی الأنبیاء»، فإن الأنبیاء أخفی أفراد البشر من حیث شمول الحکم له، فقد یتصوّر شخص بأن هذا نبی وهو أقوی النَّاس مقاومة أمام الموت فلا یجب أن یموت، ولذلک یقول القرآن الکریم: «إنک مَیِّت»(1) ، فقطعاً ما بعد «حتی» داخل فی المغیَّا.

أما إذا کانت أداة الغایة من قبیل «إلی» فیقول صاحب هذا القول بعدم دخول الغایة فی المغیَّا.

أقول: أما أصل التفصیل ففیه ما لا یخفی؛ لأن کلمة «حتی» الَّتی استعملت لبیان الفرد الخفی خرجت عن کونها أداة الغایة وجارةٍ وخافضة، بل أصبحت حرف عطف، ولذلک نقول: «مات النَّاس حتی الأنبیاءُ» بالرفع عطفاً علی «النَّاس» ولذلک لم تَجُرّ «حتی» مدخولها. فالواقع أن هذا التفصیل خلطٌ بین «حتی» الجارة والخافضة وبین «حتی» العاطفة. هذا إن کان کلامنا عن «حتی» الغائیة، وإلا فهی خارجة عن البحث. هذا بالنسبة إلی القول الثالث فلا وجه له أصلاً.

أما القولین الأولین: فالصحیح أنَّه لا یوجد ضابطٌ کلی لدخول الغایة فی المغیَّا ولا قاعدة لخروجها منه، وإنَّما الأمر یختلف باختلاف الموارد والقرائن الخاصّة، فإن وجدت قرینة فی مورد علی أن الغایة داخلة فی المغیَّا فیؤخذ بها، وإن لم توجد قرینة (لا علی دخول الغایة فی المغیَّا ولا علی عدم دخولها) أصبح الکلام مجملاً من هذه الناحیة، فلا یدلّ الکلام علی أن الغایة محکومة بحکم المغیَّا أم لیست محکومة بحکم المغیَّا. وبهذا السَّبب نفسه لا یُدری حینئذٍ أن للغایة مفهوم أم لیس لها مفهوم؛ لأن المنطوق إن کان مجملاً (فهل هو موسع یشمل الغایة أو هو ضیق فلا یشمل الغایة، وعلیه) فسوف یصبح المفهوم مجملاً أیضاً، فإن المنطوق إذا کان مجملاً من حیث السّعة والضیق فیکون مفهوم الجملة أیضاً مجملاً؛ لأنه علی تقدیر دخول الغایة فی المغیَّا یکون للغایة حکم المنطوق فلیس لها حکم المفهوم، وعلی تقدیر عدم دخول الغایة فی المغیَّا لا یکون للغایة حکم المنطوق فلها حکم المفهوم.

ص: 212


1- (3) - سورة الزمر (39):الآیة 30.

وحیث أننا لا ندری بأن الغایة داخلة فی المغیَّا أو غیر داخلة فیها (حسب الفرض)، وبالتالی فلا علم لنا بأن الغایة محکومة بحکم المنطوق ولا علم لنا بأنها محکومة بحکم المفهوم. فالکلام مجمل من حیث الغایة مفهوماً ومنطوقاً. وحینئِذٍ یجب الرجوع إلی أدلة أخری لمعرفة حکم الغایة، إن کانت توجد هناک أدلّة، وإلا فالمرجع حینئذٍ هو الأصول العملیة.

فإن لم تقم قرینة فی مثل قوله تعالی: «وامسحوا برؤوسکم وأرجلکم إلی الکعبین» علی أن الکعبین (قُبّة القدم) داخلان فی الأرجل (=دخول الغایة فی المغیَّا) ولم تقم قرینة علی أن الکعبین خارجان عن الأرجل (=عدم دخول الغایة فی المغیَّا)، فحینئذٍ تصبح الآیة مجملاً من حیث حکم الکعبین بأَنَّهُ هل یجب مسحهما أو لا، فنرجع إلی الأصول العملیة، فنجری أصالة البراءة عن الوجوب.

وأمّا صاحب الکفایة ره فقد استدل علی قوله بأن الغایة حدُّ الشَّیْء والحدُّ خارج عن المحدود، فالغایة خارجة عن المغیَّا.

وجواب هذا الاستدلال واضح؛ لأنه:

أوَّلاً: أن تفسیر الغایة بالحد تفسیرٌ للمجمل بالمجمل، فما مقصودکم من قولکم «الغایة حدّ الشَّیْء»؟ فهل المقصود من الحد هو أوَّلُ جزء من أجزاء ما یجاور الشَّیْء ویلاصقه، أو آخر جزء من أجزاء الشَّیْء نفسه؟! مثل حدّ بیتکم عبارة عن أوَّل جزء من أجزاء بیت جارکم، أو آخر جزء من أجزاء بیتکم هو حدّ بیتکم.

فإن کان الحد عبارة عن الأوّل (أوَّل جزء من أجزاء ما یجاور الشَّیْء) فسوف یکون حدّ الشیء خارجاً عن الشَّیْء، ولکن إن کان الحدّ بالمعنی الثَّانی (آخر جزء من أجزاء الشَّیْء نفسه)، فحینئذٍ لیس هذا خارجاً عن المغیَّا. ومن قال أن معنی الحدّ هو المعنی الأوّل؟

ص: 213

وثانیاً: أساساً لیس کلامنا هنا فی الخروج والدخول الحقیقیین، حتی یأتی صاحب الکفایة ویقول إن حدّ الشَّیْء خارج عن الشَّیْء حقیقة ولیس داخلاً فیه، فإنه لیس کلامنا عن خروج الغایة عن المغیَّا حقیقةً، بل عن خروج الغایة عن المغیَّا حکماً، وإن کانت خارجة عن المغیَّا حقیقة. مثل مثال «اللیل والصوم» المتقدم، حیث قلنا إن اللیل خارج عن الصوم حقیقةً، لکن یعقل النزاع فی الدخول والخروج الحکمیین بأن اللیل هل هو داخل فی حکم الصوم أو لا. إذن فهذا الاستدلال غیر تام. والنتیجة أنَّ فی بحث دخول الغایة فی المغیَّا وعدم دخولها یکون الأمر کما قلناه من اتباع القرائن إذا وجدت وإلا فنرجع إلی الأصول العملیة.

هذا تمام الکلام فی هذا البحث الحادی والعشرین من بحوث دلالات الدلیل الشرعی اللفظی وهو بحث مفهوم الغایة، وبعد ذلک ندخل فی البحث الثَّانی والعشرین وهو بحث دلالة الاستثناء علی المفهوم ونأمل أن نکملهما خلال هذا الأسبوع، حتی ندخل فی العامّ بعد العطلة.

البحث الثَّانی والعشرون

مفهوم الاستثناء

طبعاً لا یخفی أن المقصود من الاستثناء واضح، وهو إخراج واقتطاع شیء من شیء. فهل لهذا مفهوم أو لا؟

تارة یکون الاستثناء استثناءً من السلب والنفی کما إذا قال: «لا یجب تصدیقُ المخبِر إلا الثقة»، وأخری یکون الاستثناء من الإثبات والإیجاب، کما إذا قال: «أکرم العلماءَ إلا فسّاقَهم» فإنه استثناء من الإیجاب. فهذان نحوان من الاستثناء ینبغی البحث عنهما.

أما النحو الأوّل فلا إشکال فی ثبوت المفهوم للاستثناء من السلب، أی: یدلّ علی انتفاء حکم المستثنی منه عن المستثنی. فمثلاً فی مثال «لا یجب تصدیقُ المخبِر إلا الثقة» یکون الحکم المذکور للمستثنی منه هو عدم الوجوب (= لا یجب تصدیق المخبر)، وبعد ذلک استثنی الثقة من عدم الوجوب، فلا شک فی أن هذا الاستثناء له مفهوم. أی: یدلّ علی انتفاء ذاک الحکم وهو عدم وجوب التَّصدیق إلا الثقة، ومن المعلوم أن نفی (= المفهوم) النفی إثبات، فثبت المفهوم.

ص: 214

وهذا واضح، بل نری أنَّه أوضح من أن یُستدلّ علیه بدلیل ولا یحتاج إلی إقامة دلیل علی أن هذا النحو من الاستثناء له مفهوم وإن کان صاحب الفصول ره حاول أن یستدلّ علیه (علی أن الاستثناء من النفی إثبات وهو المفهوم) أیضاً، إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فقد حاول أن یستدلّ علی ذلک بدلیل: إن رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم کان یقبل إسلام من کان یقول: «لا إله إلا الله». فإن من یقول «لا إله إلا الله» یکون قد استثنی (إلا الله) من النفی (= لا إله). فلو لا أن الاستثناء من النفی إثبات، إذن من قال «لا إله إلا الله» لیس یثبت وجود الله فلا یکون مسلماً، وهذا یدلّ علی أن الاستثناء من النفی إثبات. أی: یثبت وجود الله. ولذا یعبر عن هذه الجملة بکلمة التوحید.

أقول: لا حاجة إلی الاستدلال وأمثاله وواضح أن الاستثناء من النفی إثبات. فبالنسبة إلی هذا القسم لا أظن وجودَ مشکلة.

وإن کان قد خالف (وإن لم یکن من دأبی أن أذکر أمثال هؤلاء الذین یتمیزون باستدلالات سطحیة وقشریة، والذی سُمّوا - وللأسف - بأئمة الفقه ومنهم) أبو حنیفة حیث قال: إن الاستثناء من النفی لا یفید الإثبات (علی ما هو المحکی عنه)، واحتج واستدل علی ذلک بقول رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم: «لا صلاة إلا بطهور» فقال: لو کان الاستثناء من النفی یفید الإثبات فلا صلاة إلا بطهور، حیث نفی صدقَ الصَّلاة ثم استثنی الطهور، ولو کان الاستثناء دالاًّ علی الطهور کان هذا الکلام یدلّ علی صدق الصَّلاة بمجرّد الطهور، أی: بمجرّد أن یتوضأ الإنسان تصدق علیه أنَّه صلی وإن کان فاقداً لسائر الأجزاء والشرائط.

ص: 215

والعیب والخلل واضح فی هذا الکلام؛ فإن المستثنی منه فی هذا الحدیث الشریف وأمثاله الکثیرة الواردة علی هذا السیاق (ک_ «لا صلاة إلا بفاتحة الکتاب» و«لا صلاة إلا إلی القبلة» و«لا صلاة إلا بالطهور»)، فإن المستثنی منه فی هذه التعابیر عبارة عن الفعل التام الجامع للشرائط والأجزاء غیر هذا المذکور. مثلاً قوله «لا صلاة إلا بطهور» یعنی أن المستثنی منه عبارة عن الصَّلاة الواجدة لسائر الأجزاء والشرائط. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه وواضح أن الصَّلاة لا تصدق علیه، لأننا (فی بحث الصحیح والأعمّ) إما من القائلین بأن ألفاظ العبادات موضوعة للصحیح فالصحیح هو الواجب والصلاة الفاقدة للطهور لیست صلاةً أساساً، وإما أن نقول أن الألفاظ موضوعة للأعمّ فالصلاة الفاقدة للطهور لیست صلاة صحیحة.

إذن المفهوم هو أنَّه الصَّلاة الواجدة لجمیع الأجزاء والشروط حتی الطهور صلاة وصحیحة کذلک.

فالمنطوق فی هذا الحدیث الَّذی ذکره عبارة عن نفی الصلاتیة عمَّا هو واجد لجمیع ما یُعتبر فی الصَّلاة إلا الطهور. هذا هو المفهوم. والمفهوم عبارة عن إثبات الصلاتیة لواجد الأجزاء والشروط حتی الطهور. فالحکم بعدم الصلاتیة هنا مختص بالمستثنی منه، ومنفی عن المستثنی، فدلالة هذا الحدیث علی ما قلناه من انتفاء حکم المستثنی منه عن المستثنی واضحة وظاهرة.

بعد ذلک نأتی إلی النحو الثَّانی من الاستثناء وهو الَّذی یقع البحث فیه وهو الاستثناء من الإیجاب، وهذا ما یأتی غدا إن شاء الله.

مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الاصول

العنوان: مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن الاستثناء قد یکون استثناء من النفی فهذا یدلّ علی المفهوم بلا إشکال، فإن الاستثناء من النفی إثبات. وقد یکون الاستثناء استثناء من الإیجاب، کما إذا قال: «أکرم العلماء إلا فُسَّاقَهم»، فهل یکون هذا الاستثناء (الاستثناء من الإثبات) نفیاً کی یثبت المفهوم ویدلّ الکلام علی عدم وجوب إکرام فساق العلماء، أم لا یدلّ علی ذلک ولا یثبت المفهوم.

ص: 216

قد یقال: إن المستثنی منه لو کان یدلّ علی ثبوت طبیعی وجوب الإکرام للعلماء، لکان الاستثناء من هذا الإثبات دالاًّ علی إخراج فساق العلماء عن کونهم موضوعاً لطبیعی وجوب الإکرام. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فیثبت المفهوم ویثبت انتفاء طبیعی الوجوب عن فساق العلماء. لکن لا ظهور للمستثنی منه فی ثبوت طبیعی وجوب الإکرام؛ إذ قد یدلّ علی ثبوت حصّةٍ من الوجوب، فالاستثناء یدلّ حینئذٍ علی إخراج فساق العلماء عن کونهم موضوعاً لتلک الحِصَّة من الوجوب، فلا یثبت المفهوم، إذ لعلّ لفساق العلماء حصّة أخری من وجوب الإکرام، غیر هذا الوجوب، وهذه الحِصَّة.

إلا أن التحقیق هو أن الاستثناء من الإثبات (= النحو الثَّانی من الاستثناء) أیضاً له مفهوم. وبیان ذلک فی ضوء الضوابط والموازین الَّتی ذکرناها سابقاً لإثبات المفهوم هو أن ثبوت المفهوم متوقف علی رکنین کما تقدّم مراراً:

الأوّل: إثبات العلیّة الانحصاریة.

والثانی: إثبات أن المعلول سنخ الحکم وطبیعیه.

وکلا الرکنین متوفر فی المقام.

أما الأمر الأوّل وهو إثبات العلیّة الانحصاریة، فمتوفر باعتبار أن الاستثناء معناه الاقتطاع والإخراج، أی: «أداة الاستثناء» تخرج المستثنی عن کونه موضوعاً للحکم المذکور للمستثنی منه.

ففی مثالنا «أکرم العلماء إلا فساقهم»، تُخرج أداةُ الاستثناء (وهی «إلا») فساقَ العلماء عن کونهم موضوعاً لوجوب الإکرام، والموضوع هو العلّة، فقد تقدّم أکثر من مرّةً أن العلیّة فی باب الأحکام الشرعیة لا تعنی العلیّة بمعناها الحقیقی الفلسفی العقلی, بل علّة الحکم تعنی موضوع الحکم.

فأداة الاستثناء تدلّ علی أن موضوع الحکم (أو بعبارة أخری علّة ومناط وجوب الإکرام) عبارة عن العلماء المُقتَطَع عنهم الفساق، والعلماء الخارج عنهم الفساق. أی: تدلّ أداة الاستثناء علی أن العلّة المنحصرة (أو قل: الموضوع المنحصر) عبارة عن العلماء العدول، فتثبت العلیّة الانحصاریة (طبعاً العلیّة بمعناها المتصور فی باب الأحکام الشرعیة وهو الموضوعیة).

ص: 217

وأمّا الرکن الثَّانی فثابت فی المقام أیضاً؛ وذلک لأن النِّسبة الاستثنائیة الَّتی تدلّ علیها أداةُ الاستثناء فی المقام نسبةٌ تامَّة قائمةٌ بین المستنی منه والمستثنی فی الذهن والتصوّر واللحاظ، لا فی عالم الخارج عن الذهن؛ فإنه لا وجود للاستثناء والاقتطاع وإخراج شیء من شیء فی عالم الخارج، فلا معنی للاستثناء فی العالم الخارجی. فإن الملاحظ خارجاً هو أن هؤلاء العدول یجب إکرامهم وأولئک الفاسقون لا یجب إکرامهم، ولا نلاحظ إخراج شیء من شیء فی عالم الخارج.

فالاستثناء فی الواقع من شؤون النِّسبة التَّامَّة الحقیقیَّة القائمة فی الذهن بین مفهوم المستثنی منه ومفهوم المستثنی (بین مفهوم العلماء ومفهوم فساق العلماء). إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فالموطن الأصلی لهذه هو الذهن. ونحن قلنا مرارا (فی بحث معانی الحروف والهیئات وفی کثیر من المناسبات) إنَّه کلما کان الموطن الأصلی للنسبة الذهن فالنسبة نسبة تامَّة، وإذا کان الموطن الأصلی للنسبة خارج الذهن فالنسبة ناقصة کنسبة الظرفیة لأن الموطن الأصلی لهذه النِّسبة خارج عالم الذهن، وهی العلاقة القائمة خارج عالم الذهن بین الظرف والمظروف. بخلاف النِّسبة التَّامَّة فی مثل «زید قائم»، حیث أن النِّسبة قائمة بین مفهومین (زید وعالم) متباینین فی عالم الذهن، وهذه النِّسبة عبارة عن نسبة التصادق، أی: ما یصدق علیه المفهوم الأوّل یصدق علیه المفهوم الثَّانی وکذلک العکس، وهذه النِّسبة هی الَّتی سمیناها بالنسبة التصادقیة.

فإذا کان المیزان کون النِّسبة نسبة تامَّة هو أن یکون الموطن الأصلی للنسبة عالم الذهن، فنقول: إن من الواضح أن موطن النِّسبة الاستثنائیة (= النِّسبة الموجودة بین المستثنی منه والمستثنی) لیس هو الخارج؛ لأن الاستثناء هو الاقتطاع ولا یوجد فی عالم الخارج عن الذهن اقتطاع وإخراج شیء من شیء. إنّما الاقتطاع من شأن المفاهیم الذهنیة. یعنی: مفهوم العلماء المقتطع منهم فساقُهم. فهذه النِّسبة الاقتطاعیة الإخراجیة نسبة تامَّة موجودة فی الذهن بین هذین المفهومین.

ص: 218

وإذا کانت النِّسبة تامَّة فیعقل إجراء مقدمات الحکمة فی طرف هذه النِّسبة الاستثنائیة وهو الحکم ووجوب الإکرام. أی: فساق العلماء اقتُطِعوا من العلماء بلحاظ وجوب الإکرام. أی: اقتطاع فساق العلماء من العلماء فی وجوب الإکرام وبلحاظ وجوب الإکرام. فنجری الإطلاق فی هذا الطرف ونقول: مقتضی الإطلاق هو أن طبیعی هذا الوجوب (وجوب الإکرام) هو طرف لهذه النِّسبة. کما کنا نجری الإطلاق فی الجملة الشَّرْطِیَّة حیث کنا نقول: إن الجملة الشَّرْطِیَّة تدلّ علی أن وجوب إکرام زید معلّق ومتوقف علی مجیئه، فنجری الإطلاق فی وجوب الإکرام ونقول: إن مقتضی الإطلاق هو أن طبیعی وجوب إکرام زید متوقف علی مجیئه، لا شخص هذا الوجوب.

فکما کنا نجری الإطلاق هناک لإثبات أن طبیعی الحکم موقوف ومعلق علی الشَّرْط، کذلک هنا نجری الإطلاق فی الحکم ونثبت أن طبیعی وجوب الإکرام اقتُطِع الفساق من العلماء بلحاظ طبیعی وجوب الإکرام، لا بلحاظ شخص هذا الوجوب. وهذا معناه أن فساق العلماء لیس لهم أیة حصّة من وجوب الإکرام؛ لأن کل حصص وجوب الإکرام فیه اقتطاع فساق العلماء من العلماء. فلا توجد حصّة من إکرام العلماء لم یقتطع منها الفساق بلحاظ تلک الحِصَّة، وهذا هو المفهوم.

فإن قلت: کیف تقولون إن النِّسبة الاستثنائیة نسبة تامَّة والحال أننا نری أن الجملة المشتملة علی المستثنی منه والمستثنی جملة ناقصة. مثل: «العلماء إلا الفساق»، فإن هذه الجملة ناقصة لا یصحّ السُّکوت علیها بشهادة الوجدان. فإذا کان میزانکم المتقدم عبارة عن کلما کانت النِّسبة ناقصة فهی تُوَحِّدُ الکلمةَ وتدمج إحداهما فی الأخری وتصیرهما مفهوماً واحداً، فقولنا «أکرم العلماء إلا فساقهم» یدلّ علی حصّة من العلماء، وحینئِذٍ لا معنی لإجراء الإطلاق فی هذه الحِصَّة. فالرکن الثَّانی للمفهوم غیر تام.

ص: 219

قلنا: إننا ما زلنا نقول إن النِّسبةَ الاسثنائیة تامَّة، إلا أنکم أخطأتم فی تصورکم أن هذه النِّسبة الاستثنائیة لها طرفین، بل هی قائمة بثلاثة أطراف هی:

الطرف الأوّل: هو المستثنی منه، أی: العلماء.

الطرف الثَّانی: المسثتنی، أی:فساق العلماء.

الطرف الثالث: المستثنی بلحاظه، فإن فساق العلماء اُقتُطِعوا من العلماء بلحاظ وجوب الإکرام. ولا بُدّ من طرف ثالث للاستثناء، ولا بُدّ من وجود قضیة (وهو الحکم) حتی یخرج العلماء منهم بلحاظه.

متی ما کان هذا الطرف الثالث موجوداً کانت الجملة تامَّة، لان النِّسبة الاستثنائیة استکملت الکلام، ومتی ما لم یکن هذا الطرف الثالث موجوداً کان الکلام ناقصاً؛ لأن النِّسبة الاستثنائیة لم تستکمل أطرافها.

إذن، فقوله «العلماء إلا الفساق» کلام ناقص، ولکن لیس لأن النِّسبة الاستثنائیة ناقصةٌ، بل لعدم اکتمال الأطراف الثلاثة للنِّسبة الاستثنائیة. فلم یُذکر فی الکلام من أی شیء خُرِج واقتطع فساق العلماء.

والخلاصة أن قوام النِّسبة الاستثنائیة وتقرّرها الماهوی بهذه الأطراف الثلاثة ولا تتعقل من دون هذه الأطراف الثلاثة، بخلاف النِّسبة الظرفیة الَّتی قوامها بطرفین هما الظرف والمظروف؛ لأن الاستثناء معناه الاقتطاع واقتطاع شیءٍ من شیءٍ فرعُ وجودِ حکمٍ فی ذاک الحکمِ یُقتطع هذا من ذاک، وإلا فلا یکون للاقتطاع معنی من الأساس، فیدل هذا الکلام علی المفهوم.

مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الاصول

العنوان: مفهوم الغایة/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن الاستثناء من الإثبات یدلّ علی المفهوم أیضاً؛ وذلک لتوفره شرطی المفهوم ورکنیه:

أمّا الشَّرْط الأوّل (العلیّة الانحصاریة) فهو متوفر فی المقام کما شرحنا بالأمس.

ص: 220

وأمّا الشَّرْط الثَّانی (= أن یکون المعلول طبیعی الحکم) فمتوفر فی المقام أیضاً؛ وذلک من خلال الإطلاق الدَّالّ علی أن مطلق الحکم وطبیعیه هو المعلول لهذه العلّة؛ لأن الحکم قد وقع طرفاً من أطراف هذه النِّسبة الاستثنائیة؛ فإنها لیست ثنائی الطرف کما تُوهِّم وذکرنا بالأمس هذا التوهّم من خلال الإشکال الَّذی کان یقول إن الجملة المشتملة علی المستثنی والمستثنی منه ناقصة لا یصحّ السُّکوت علیها، فهذا التوهّم غیر صحیح؛ إذ لا تکتمل النِّسبة الاستثنائیة إلا بأطراف ثلاثة، والطرف الثالث هو الحکم (أی: المستثنی بلحاظه). فقد اُقتُطِع فساق العلماء من العلماء بلحاظ بما أن هؤلاء وقعوا موضوعاً لحکم؛ إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه إذ لا یرید القائل أن یقول: إن فساق العلماء لیسوا من العلماء، وإلا لکان معنی ذلک أنَّه استعمل کلمة العلماء فی المقام مجازاً، فإن العلماء فی اللغة لم تُوضَع لخصوص العدول، والحال أن التَّجوُّز خلاف الأصل والظاهر (= اقتطاع فساق العلماء من العلماء کان اقتطاعاً من العلماء بما أنهم وقعوا موضوعاً لحکم معین وهو وجوب الإکرام)، ولا یحس أی عربی هنا بالتجوز أیضاً. فما لم یذکر الحکم فی المقام لا تکون النِّسبة الاستثنائیة مستوفیةً لأطرافها بل تکون حینئذٍ ناقصة. فالجملة المشتملة علی المستثنی والمستثنی منه یجب أن تحتوی علی ثلاثة أطراف.

والحاصل: أن النِّسبة الاستثنائیة إذا کانت ذاتَ أطراف ثلاثة أحدها الحکمُ فیمکن إجراء الإطلاق فی الحکم، لأنه طرف فی النِّسبة التَّامَّة، کما کنا نجری الإطلاق فی الحکم فی القضیة الشَّرْطِیَّة، حیث کانت تدلّ علی نسبة تامَّة وهی نسبة التوقف بین الجزاء والشرط. الجزاء هو الحکم والشرط هو موضوعه. فباعتبار أن الجزاء الَّذی هو الحکم کان طرفاً لتلک النِّسبة التَّامَّة کان یمکن إجراء الإطلاق فی ذاک الطرف، ونقول: إن مطلق الحکم متوقف علی الشَّرْط وإذا انتفی الشَّرْط ینتفی مطلق الحکم، وهذا هو المفهوم.

ص: 221

هنا أیضاً الحکم طرف للنسبة الاستثنائیة التَّامَّة، فنقول: قد اُقْتُطِع فساق العلماء من العلماء بلحاظ مطلق وجوب الإکرام، لا بلحاظ شخص هذا الوجوب الخاص المذکور فی هذا الخطاب، ومعنی ذلک انتفاءُ مطلق وجوب الإکرام بالنسبة إلی فساق العلماء، وهو المفهوم.

وإن شئت قلت: إن مجرّد تمامیة النِّسبة لا یکفی لإجراء الإطلاق ومقدمات الحکمة وإثبات هذا الرکن الثَّانی للمفهوم، بل لابد من إثبات أن هذه النِّسبة التَّامَّة ذاتُ مدلولٍ تصدیقی؛ لأن الإطلاق الَّذی تنتجه مقدمات الحکمة مرجعُه إلی أصالة التطابق بین المدلول التَّصوُّریّ والمدلول التَّصدیقیّ.

فمعنی قولنا: الأصل أن یکون البیع فی «أحل الله البیع»(1) مطلقاً، هو أنَّه بما أن لکلام المتکلِّم مدلول تصوری (وهو أن طبیعی البیع حلال)، یبقی سؤال: هل هذا هو مراده الجدی؟ أم أن مراده بیع خاصّ کبیع البالغ مثلاً؟ فنقول: بما أن المدلول التَّصوُّریّ لکلامه کان عبارة عن الحِلِّیَّةِ لطبیعی البیع، فمراده الجدی حِلِّیَّةُ طبیعی البیع أیضاً؛ إذ ما لم یذکره لم یرده. فأصالة التطابق بین ما ذکره وبین مراده (أی: بین المدلول التَّصوُّریّ والمدلول التَّصدیقیّ) هو مرجع الإطلاق.

إذن، لابد حینما نرید إجراء الإطلاق فی مورد لابد أن نثبت أن هنا مدلولاً تصدیقیّاً ومراداً جدیاً للمتکلم، ولا یکفی مجرّد أن تکون هذه النِّسبة تامَّة، وإنَّما لابد أن تکون هذه النِّسبة تامَّة أوَّلاً وثانیاً أن تکون هذه النِّسبة ذات مدلول تصدیقی.

وحینئذٍ ننتقل إلی الجملة الاستثنائیة الَّتی نحن بصددها الآن، لنری هل أن فیها مدلول تصدیقی لهذه النِّسبة التَّامَّة الاستثنائیة الَّتی تحدثنا عنها؟ نحن نرید أن نقول نعم، یوجد بإزاء هذه النِّسبة التَّامَّة الاستثنائیة مدلول تصدیقی ویوجد مدلول تصدیقی أیضاً بإزاء النِّسبة التَّامَّة الَّتی تدلّ علیها هیئةُ جملة المستثنی منه. أی: هناک مدلولان تصدیقیان فی الجمل الاستثنائیة.

ص: 222


1- (1) - سورة البقرة (2): الآیة 275.

توضیح ذلک: افرضوا الجملة الاستثنائیة الَّتی کنا نمثّل بها وهی: «أکرم العلماء إلا فساقهم»، فإن فیها نسبة حکمیة إرسالیة والتی تدلّ علیها هیئة «أکرم» (وهو الوجوب بمعناه الحرفی، أی: النسبی)، إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه وهذه النِّسبة متقوِّمة بأطراف ثلاثة: المرسِل (المتکلِّم) والمرسَل (المخاطب) والمرسل إلیه (الإکرام). وهناک نسبة تامَّة أخری فی هذه الجملة وهی النِّسبة الاستثنائیة الَّتی تدلّ علیها أداة الاستثناء «إلا» (أی: الاقتطاع والإخراج بالمعنی الحرفی، لا بالمعنی الاسمی)، فإن لهذه النِّسبة أطراف ثلاثة - کما تقدّم - أحد أطرافها المستثنی (فُسّاق العلماء) الطرف الثَّانی المستثنی منه (العلماء) الطرف الثالث الحکم (وجوب الإکرام).

إذن النِّسبة الأولی الَّتی کانت عبارة عن الوجوب أصبحت طرفاً فی النِّسبة الثَّانیة؛ لأن هذا الوجوب أصبح طرفاً فی هذه النِّسبة الاقتطاعیة والإخراجیة (ففی کل اقتطاع وإخراج یوجد مُقتَطَعٌ ویوجد مقتطع منه ویوجد ما بلحاظه الاقتطاع وهو الحکم). فهل هذه الجملة بکاملها «أکرم العلماء إلا فساقهم» لها مدلول تصدیقی جدی؟ أی: هل یوجد مراد جدی للمتکلم وراء هذه الجملة؟ قطعاً له مدلول تصدیقی.

وحینئِذٍ هل مراده الجدی عبارة عن النِّسبة الأولی وهی عبارة عن «وجوب إکرام العلماء» الَّذی هو مفاد «أکرم»؟ فلیس للنسبة الثَّانیة مدلول تصدیقی، أو أن مراده الجدی هو العکس. أی: المدلول التَّصدیقیّ لهذه الجملة واقع بإزاء النِّسبة الثَّانیة (=النِّسبة الاقتطاعیة)، بمعنی أن المراد الجدی للمتکلم فی هذه الجملة عبارة عن إخراج فساق العلماء عن وجوب الإکرام، فالنِّسبة الأولی (نفس وجوب إکرام العلماء) لیس مراده الجدی؟! هذا هو الفرض الثَّانی.

الفرض الثالث: أن یکون المراد الجدی للمتکلم عبارة عن کلتا الجملتین معاً، فعندنا مرادان جدیان ومدلولان تصدیقیان للجملة، أحدهما واقع بإزاء النِّسبة الأولی وهو عبارة عن وجوب إکرام العلماء، والمراد الجدی الآخر واقع بإزاء النِّسبة الثَّانیة، وهو عبارة عن إخراج واقتطاع فساق العلماء عن وجوب الإکرام.

ص: 223

فأی هذه ا لفروض الثلاثة هو الصحیح؟

من الواضح أن الصحیح هو الفرض الثالث (= ثبوت مدلولین تصدیقیین للجملة الاستثنائیة)، ویشهد بذلک الوجدانُ الَّذی یقضی ویحکم بأن المتکلِّم إذا خالف الواقع فی المستثنی منه وخالف الواقع فی المستثنی، یکون قد کَذِبَ کذبتین ولیس کذبة واحدة. فلو قال قائل: «کل إنسان أسود إلا الزنجی» یکون قد خالف الواقع فی المستثنی منه (أی: عندما قال «کل إنسان أسود») فإنه لیس کل إنسان أسود، وأیضاً خالف الواقع فی المستثنی (عندما قال: «لیس کل زنجی أسود»). فتعدد الکذب یدلّ علی تعدّد المراد الجدی وتعدد المدلول التَّصدیقیّ للمتکلم.

فیوجد بإزاء النِّسبة التَّامَّة الاستثنائیة مدلول تصدیقی، فَیَصِحُّ أن یکون أحد مرادی المتکلم إخراجُ فساق العلماء عن وجوب الإکرام. فإذا کان هذا مراداً له فکأنه یرید أن یقول: «وجوب إکرام العلماء خرج عنه فساقُهم»، فنجری الإطلاق فی «وجوب إکرام العلماء»، أی: مطلق وجوب إکرام العلماء خرج عنه فساق العلماء. کما کنا نقول فی الشَّرْطِیَّة إن مطلق وجوب الإکرام متوقف علی الشَّرْط.

وبعبارة أخری لا تخلوا عن فائدة أیضاً، یمکن أن نقول: إن هناک فرقاً بین ما إذا نظرنا إلی الحکم بما هو حکم ثابت علی موضوعه (وهو العلماء) وبین ما إذا نظرنا إلی هذا الحکم بما هو موضوع للاستثناء؛ لأن هذا الحکم فی الوقت نفسه حکم ثابت علی الموضوع (وهو العلماء) وفی الوقت نفسه هو موضوع لشیء آخر وهو الاستثناء؛ فإن هذا الحکم (وجوب الإکرام) له حصص عدیدة (إذ تُتَصَوَّر حصّة بملاک کونهم علماء، وحصة أخری بملاک کونهم عدول، وحصة ثالثة بملاک تهجدهم فی اللیل، وحصة رابعة بملاک کونهم حافظین للقرآن وهکذا) وحینئِذٍ یدلّ هذا الکلام (= «أکرم العلماء إلا فساقهم») علی حصّة من الوجوب (= وجوب ثابت بملاک خاصّ وهو ملاک العدالة)، ولیس الکلام ناظراً إلی العلماء بالملاک الموجود فی العلماء الحافظین للقرآن، أو إلی الملاک الموجود فی العلماء الحافظین للقرآن، إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه وحینئِذٍ لو نظرنا إلی هذا الوجوب الَّذی یدلّ علیه هذا الکلام بما هو حکم ثابت للعلماء، فسوف لا یکون للحکم إطلاق یشمل کل الحصص؛ لأن بهذه النظرة سیکون هذا الحکم ثابتاً علی موضوعه بملاک معیّن وهو ملاک العدالة (لأنه قال: «أکرم العلماء إلا فساقهم»)، فلا یمکن إجراء الإطلاق فی الحکم؛ لأن بهذه النظرة لا یبقی للحکم إطلاق یشمل جمیع الحصص، وإنَّما یدلّ علی حصّة من الوجوب بملاک معیّن. أمّا إذا نظرنا إلی الحکم بالنظرة الثَّانیة، أی: بما هو موضوع للاستثناء والاقتطاع (أی: بالنظرة الَّتی نری بها الکلام بمثابة قوله: «وجوب إکرام العموم قد اُستُثنی منه فساقهم») فالوجوب بهذه النظرة لا یتحصص بحِصَّةٍ معینة؛ إذ لا معنی هنا لأن یکون موضوع الاستثناء عبارة عن حصّة من الوجوب، وإلا تصبح القضیة بشرط المحمول، أی: حصّة من وجوب إکرام العلماء قد استثنی منها فساقهم، فکأنه قال: وجوب إکرام العلماء غیر الفساق قد استثنی منه فساقهم، فأصبحت هذه القضیة بشرط المحمول مثل «زیدٌ الکاتبُ کاتبٌ».

ص: 224

فیکون المقصود مطلق الوجوب وطبیعیه وقد استثنی منه فساقهم، فیجری الإطلاق فیه.

والحاصل أن الرکن الثَّانی من رکنی المفهوم وهو إثبات أن مطلق الحکم معلول لهذه النِّسبة المنحصرة متوفر فی المقام من خلال إجراء الإطلاق فی الحکم لإثبات أن مطلق الحکم قد استثنی منه المستثنی، فیدل علی أن مطلق الحکم منتفٍ عن المستثنی وهذا هو المفهوم.

وتَحَصَّل مِمَّا ذکرنا أن الاستثناء بکلا نحویه (الاستثناء من النفی إثبات، والاستثناء من الإثبات نفی أیضاً) له مفهوم. غایة الأمر ثبوت المفهوم فی النحو الأوّل أوضح منه فی النحو الثَّانی. والسر فی الأوضحیة هو أن إثبات المفهوم فی النحو الأوّل لا یحتاج إلی الرکن الثَّانی (أی: إجراء الإطلاق ومقدمات الحکمة لإثبات أن الحکم الَّذی أُخرج عنه المستثنی هو طبیعی الحکم)؛ فإن المفهوم یثبت فی النحو الأوّل حتی إذا لم یجری الإطلاق مع ذلک یثبت المفهوم.

هذا ما یخطر بالبال وهذا هو ما أفاده سیدنا الأستاذ الشَّهید ره فی مجلس درسه الشریف، لکنکم تجدون فی الحلقة الثالثة خلافَ هذا، حیث لا یؤمن بمفهوم الاستثناء هناک. ولم أعرف وجهَه، وهو لم یذکر وجه ذلک فی الحلقة الثالثة أیضاً، مع أن الحلقة الثالثة متأخرة، وعلی أی حال هذا رأینا، وهو أن للاستثناء مفهوم

مفهوم الحصر/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الاصول

العنوان: مفهوم الحصر/المفاهیم/دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

بقیت نقطة تتعلّق بمفهوم الاستثناء وهی أنَّه بناء علی ما قلناه من ثبوت المفهوم للاستثناء حینئذٍ إذا ورد دلیلان أحدهما یقول مثلاً: «أکرم العلماء إلا الفساق»، والآخر یقول: «إذا زارک العالم الفاسق فأکرمه»، فهنا سوف یقع التعارض بین مفهوم الاستثناء فی الدلیل الأوّل وبین منطوق الدلیل الثَّانی، وذلک فی مورد العالم الفاسق؛ فإن مفهوم الدلیل الأوّل یدلّ علی عدم وجوب إکرام العالم الفاسق، بینما منطوق الدلیل الثَّانی یدلّ علی وجوب إکرام العالم الفاسق إذا زارک. فلابد حینئذٍ من إعمال قواعد باب التعارض.

ص: 225

أما إذا ورد دلیلان أحدهما یقول: «أکرم العلماء إلا الفساق» والآخر یقول: «أکرم الفقیر الفاسق»، وفرضنا أن هناک عالماً فقیراً فاسقاً، فلا یقع التعارض فی مثله بین الدلیلین، والوجه فیه واضح، لأن الدلیل الأوّل وإن کان یدلّ بمفهومه علی انتفاء طبیعی وجوب الإکرام، لکن طبیعی وجوب الإکرام الَّذی نفیناه عن الفساق بالدلیل الأوّل (بمقتضی المفهوم) إنّما هو طبیعی وجوب الإکرام الثابت لعنوان العالم، هذا ما نفیناه عن العالم الفاسق.

أما وجوب الإکرام الَّذی لیس لعنوان العلم ولا عنوان العالم دخلٌ فیه، وإنَّما هو وجوب إکرام ثابت لعنوان آخر غیر عنوان العالم، وهو عنوان الفقیر، هذا لم ینف بالمفهوم؛ فإن الدلیل الثَّانی یثبت وجوب الإکرام لعنوان آخر وهو عنوان الفقیر (= أکرم الفقیر الفاسق)، واتفق أن هناک عالماً فقیراً فاسقاً. فلا ینفی المفهوم الأوّل وجوب إکرام هذا الشخص بل ینفی وجوب الإکرام الثابت لعنوان العالم، ولا ینفی وجوب الإکرام الثابت لعنوان الفقیر. فلا یقع تعارض بین الدلیلین فی مورد العالم الفقیر الفاسق، وإنَّما یؤخذ بالدلیلین معاً: یجب إکرام العالم العادل ولا یجب إکرام العالم الفاسق بعنوان أنَّه عالم، ولکن یجب إکرام الفقیر بعنوان أنَّه فقیر.

وبعبارة أخری: المفهوم المدعی فی الاستثناء إنّما هو انتفاء طبیعی الحکم الثابت لعنوان المستثنی منه (وهو عنوان العالم فی مثالنا) عن المستثنی، فلا یُنافی ثبوتَ حکم آخر للمسثتنی لعنوان آخر کالفقیر فی مثالنا.

وهذا بخلاف الفرض الأوّل، حیث کنا نفترض وجود دلیلین أحدهما یقول: «أکرم العلماء إلا الفساق»، فمفهوم الاستثناء یدلّ علی عدم وجوب إکرام العالم الفاسق، والدلیل الثَّانی کان یقول: «إذا جاءک العالم الفاسق فأکرمه»، فعنوان العالم موجود فی کلا الدلیلین، ولذلک قلنا إنّه یقع التعارض بین الدلیلین: بین مفهوم الأوّل ومنطوق الثَّانی؛ لأنهما واردان علی عنوان واحد وهو عنوان العالم.

ص: 226

هذه هی النقطة الَّتی کانت قد بقیت فیما یتعلّق بمفهوم الاستثناء. وبهذا تَمَّ الکلام عن هذا المفهوم.

وبعد ذلک ننتقل إلی مفهوم الحصر وهو آخر المفاهیم وهو البحث الثالث والعشرون من بحوث دلالات الدلیل اللفظی الشرعی.

البحث الثالث والعشرون

بحث دلالة الحصر علی المفهوم

إذا کان الکلام دالاًّ علی حصر الحکم بموضوع معیَّن، إما من خلال أداةٍ من أدوات الحصر من قبیل «إنّما»، أو من خلال صیغة من صیغ الحصر، کما سوف یأتی إن شاء الله تعالی. مثلاً إن قال: «إنّما تجب الصَّلاة» یکون قد حصر الوجوبَ بالصلاة. أو إذا قال: «إنّما الصدقات للفقراء والمساکین والعاملین علیها والمؤلفة قلوبهم وفی الرقاب والغارمین وفی سبیل الله وابن السبیل»(1) فیکون قد حصر مصرف الصدقة فی هذه الأصناف الثمانیة. أو إذا قال: «یا أیها الَّذین آمنوا إنّما الخمر والمیسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشیطان فاجتنبوه لعلکم تفلحون»(2) .

وقد یکون الحصر من خلال صیغة من صیغ الحصر مثل تقدیم ما حقه التأخیر، کقوله تعالی: «إیاک نعبد وإیاک نستعین»(3) ، فإن «إیاک» مفعول یجب أن یکون مؤخراً ولکنه قُدِّم علی الفعل والفاعل.

وعلی أی حال فهل حصر حکمٍ بموضوع یدلّ علی المفهوم؟ أی: یدلّ علی انتفاء ذاک الحکم عن غیر ذاک الموضوع، مثلاً: «إنّما تجب الصَّلاة» هل تدلّ علی أن الوجوب لیس فی غیر الصَّلاة حیث حصر الوجوب بالصلاة؟

الجواب: نعم، یدلّ الحصر علی المفهوم، بل مفهوم الحصر من أقوی المفاهیم، حتی أقوی من مفهوم الشَّرْط، کما ستتضح نکتة الأقوائیة.

ص: 227


1- (1) - سورة التوبة (9): الآیة 60.
2- (2) - سورة المائدة (5): الآیة 90.
3- (3) - سورة الفاتحة (1): الآیة 4.

والوجه فی ذلک هو أن شرطی المفهوم متوفران:

الرکن الأوّل: وهو أن یکون الکلام دالاً علی العلیّة (= الموضوعیة) الانحصاریة، وهذا الرکن متوفر، فإن مدلول أداة الحصر من قبیل «إنّما» أو صیغة الحصر هو أنَّه الموضوع الوحید للوجوب هو الصَّلاة وذلک حینما یحصر الوجوب بالصلاة فی «إنّما تجب الصَّلاة»، فمعنی ذلک عدم وجود وجوب آخر لغیر الصَّلاة. وکذلک مثال الزکاة وصرفها فی مواردها الثمانیة. فلو کان هناک موضوع آخر لصرف الزکاة لما حصر ولما قال: «إنّما الصدقات للفقراء».

إذن فالرکن الأوّل ثابت بلا إشکال وهذا هو معنی الحصر أساساً. فالحصر بدلالته التصوریة ومن دون حاجة إلی الدِّلالة التَّصدیقیَّة یدلّ علی العلیّة الانحصاریة.

الرکن الثَّانی: وهو أن یکون الکلام دالاًّ علی أن المعلول هو طبیعی الحکم لا شخص حکم هذا الموضوع، وهذا الشَّرْط أیضاً ثابت لأنه مِمَّا تدلّ علیه جملة الحصر بالظهور التَّصوُّریّ من دون حاجة إلی مقدمات الحکمة، وهذا بخلاف الموارد السابقة حیث کنا نثبت الرکن الثَّانی بالإطلاق؛ وذلک بظهورین موجودین فی جملة الحصر:

الظهور الأول: ظهور الکلام فی التأسیس؛ فإن التأکید خلاف الظاهر. إذن عندما حصر المتکلِّم الوجوب بالصلاة وقال: «إنّما تجب الصَّلاة» هل حصر شخص هذا الوجوب بالصلاة أو مطلق الوجوب؟ فلو کان مقصوده حصر شخص هذا الوجوب بالصلاة لم یکن یحتاج إلی «إنّما» فإن من الواضح أن شخص کل حکم محصور بموضوعه (فإنه لا یتصوّر حکم من دون موضوع، فهذا علی) وَفق القاعدة ولا یحتاج إلی ذکر الحصر.

فحمل الأداة علی التأسیس الَّذی هو الظاهر الأوّلی یقتضی أن نقول: إن أداة الحصر تدلّ علی حصر مطلق الوجوب بالصلاة.

ص: 228

الظهور الثَّانی: ظهور الکلام فی عدم اللغویة، فهنا لو کان هنا یرید أن یحصر شخص هذا الوجوب بالصلاة، لا مطلق الوجوب، فهذا معناه أنَّه یوجد هناک فرد آخر من الوجوب لغیر الصَّلاة (فهذا لغو ولیس حصراً أساساً). فهناک وجوب لغیر الصَّلاة. فإذا کان هکذا فحصر الوجوب بالصلاة لغو. لأنه سواء حصر الوجوب بالصلاة أم لم یحصره فیها هناک وجوب آخر للصَّلاَة. فبهذین الظهورین نثبت أن الرکن الثَّانی للمفهوم ثابت أیضاً.

ومن هنا اتضح وجه أقوائیة مفهوم الحصر من باقی المفاهیم. وذلک باعتبار أن رکنی المفهوم ثابتان فی جملة الحصر بالظهور التَّصوُّریّ.

إذن ثبوت المفهوم للحصر مِمَّا لا إشکال فیه، إنّما الکلام فی أدوات الحصر، ومن جملة أدوات الحصر: «إنّما» ولا مرادف لها فی اللغة الفارسیة، وإن الموجود فی الفارسیة هو جملة «این است و جز این نیست» وهذا سبب عمق اللغة العربیة وقدرتها واستیعابها للمعانی بأسالیب مختلفة(1) . والظاهر أنَّه لا یوجد خلاف عند أهل اللسان وعلماء اللغة فی دلالة «إنّما» علی الحصر، حیث یذعن جمیعهم علی أن «إنّما» للحصر، والدلیل علی حصرها هو التبادر العرفی لدی أهل اللغة، مضافاً دلیل ثان هو تصریح أهل اللغة العربیة، إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه حتی علماء المعانی والبیان والبدیع (البلاغة) أذعنوا بأن «إنّما» تفید الحصر، إلا أنهم عبروا عن الحصر بالقصر(2) .

ص: 229


1- (4) - أقول: من البدیهیات فی علم «فقه اللغة» أن دلالة الکلمة الواحدة علی مفهوم واسع (کما إذا أفادت کلمة فی اللغة العربیة معنی جملة فی اللغة الفارسیة أو بالعکس کما هو الملاحَظ فی اللغتین، بل فی کثیرٍ من اللغات إن لم نقل کل اللغات) لا تدلّ علی عمق لغة أو فصاحتها وبلاغتها، ومن جملة هذه الأفکار الخاطئة ما اشتهر بین مَن درس النحو ولم یدرس فقه اللغة أن «فضل اللغة العربیة علی باقی اللغات هو کثرة الموادّ الاشتقاقیة للغة العربیة والتی تفوق مائة ألف مادّة، حیث تصل تلک الموادّ بمشتقاتها إلی ما یقارب عشرة ملایین کلمة»؛ فإن هذه فکرة غیر سدیدة وقد تَمَّت مناقشتها فی مکانها وأقل ما یمکن أن یذکر فی المقام الآن هو أن العرب قد ترکت جل هذه الموادّ اللغویة أولاً وثانیاً أن لمعرفة اللغات معاییر صوتیة وبلاغیة فنیة أخری لا یسعنا التطرق لها الآن، وقد وصلنا فی تلک الأبحاث إلی نتیجة علمیة قویمة وهی أنَّه: «عبقریة اللغات أسطورة، ولا سبیل لتفضیل لغة علی لغةٍ» فراجع معلوماتک النحویة وفقه اللغة وتدبر جیداً (الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه).
2- (5) - أقول: من أدوات الحصر «قط» و«فقط» و«حسب» و«فحسب» وما شابه ذلک (الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه).

والمخالف لذلک هو «فخر الرازی» فی التفسیر الکبیر، وأنا أستحی أن أطلق لفظ الإمام علی مثل هؤلآء. حیث یقول فی تفسیر آیة: «إنّما ولیکم الله ورسوله والذین آمنوا الَّذین یقیمون الصَّلاة ویؤتون الزکاة وهم راکعون»(1) بعد اعترافه بأن الآیة نزل فی شأن الإمام علی علیه السلام یُشَکِّکُ فی دلالة الآیة علی الحصر، ویستشهد بآیتین من القرآن الکریم:

الآیة الأولی: «إنّما مثل الحیاة الدنیا کماء أنزلناه من السَّماء»(2) ، فإنه لو کانت «إنّما» للحصر لکانت الآیة تدلّ علی أن مَثَلَ الحیاة الدنیا منحصرة فی ماء المطر، بینما هذا واضح الفساد والبطلان، فکما یمکن تمثیل الدنیا بالمطر یمکن تمثیلها بکثیر من الأشیاء غیر القارّة مثل نوم الإنسان.

والآیة الثَّانیة: «إنّما الحیاة الدنیا لهو ولعب»(3) ، فإن کانت إنّما تدلّ علی الحصر کانت حیاة الدنیا منحصرة فی اللهو واللعب، بینما هذا واضح البطلان فإن بالإمکان صرف الحیاة الدنیا فی الجهاد والعبادة. فهذا شاهد آخر علی أن «إنّما» لا تفید الحصر.

أقول: ماذا یقول جنابه فی قوله تعالی: «وما الحیاة الدنیا إلا متاع الغرور»(4) ، حیث توجد فیها «ما» النافیة ومن ثم «إلا»، حیث یؤمن حتی الفخر الرازی بأَنَّهُ یدلّ علی الحصر. وقد تقدّم منا أن الاستثناء من النفی إثبات بلا إشکال. فکل ما تقوله هناک فی حصر الحیاة الدنیا بمتاع بالغرور قُلْهُ هنا فی هذه الآیة.

أما الآیتان فلا تدلان علی مقصودک:

أمّا الآیة الأولی ففیها کاف التشبیه، فلو لم تکن الکاف موجودة ولم یکن «الماء» مدخولاً للکاف بل کان: «إنّما مثل الحیاة الدنیا ماء أنزلناه من السماء»، إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه وکان یحصر تمثیل الحیاة الدنیا بالمطر لکان إشکال الرازی وارداً، لکن الآیة لم تحصر تمثیلَ الحیاة الدنیا بالماء، وإنَّما حصرت مثل الحیاة الدنیا بما یُشبه الماء، وما یشبه الماء هو کل الأمور غیر القارة من ماء المطر والماء الجاری وغیر الماء من الأشیاء غیر القارة.

ص: 230


1- (6) - سورة المائدة (5): الآیة 55.
2- (7) - سورة یونس (10): الآیة 24.
3- (8) - سورة محمد (47): الآیة 36.
4- (9) - سورة آل عمران (3): الآیة 185 وسورة الحدید (57): الآیة 20.

وأمّا الآیة الثَّانیة فلیس استشهاده بها تاماً؛ وذلک لأنَّ «الحیاة الدنیا» صفة وموصوف، ولیس مضافاً ومضاف إلیه، فإن کانت «حیاة الدنیا» مضافاً ومضاف إلیه کان کلام الرازی صحیحاً، فمن الطبیعی أن الحیاة النازلة منحصرة باللهو واللعب لأنها هی الحیاة الحیوانیة.

إذن الحصر ثابت فی هاتین الآیتین ولا محذور فیه، وعلیه فإن «إنّما» للحصر وآیة الولایة لا شک أنَّها تدل علی حصر الولایة بالله وبرسوله وبمن نزلت الآیة فی شأنه حتی باعتراف الفخر الرازی.

فلا شک أن «إنّما» من أدوات الحصر.

ومن جملة صیغة الحصر وأسالیبه جعل العام أو المطلق موضوعاً ومعرفةً وجعل الخاص محمولاً. فلو قال: «العلماء هم الفقهاء» فیکون «العلماءُ» عاماً و«الفقهاءُ» خاصاً، أو مثل: ابنک هو محمد. فهذه الصیغة أیضاً تدلّ علی الحصر، أی: حصر الموضوع بالمحمول.

وأیضاً من جملة صیغ الحصر تقدیمُ ما حقه التأخیر کما قلنا فی: «إیاک نعبد وإیاک نستعین».

هذا تمام الکلام فی مفهوم الحصر وبهذا تَمَّ الکلام عن المفاهیم. وبعد ذلک بعد العطلة نبدأ ببحث دلالة العام.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الاصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

البحث 24: دلالة العامّ

البحث الرَّابع والعشرون من بحوث دلالات الدلیل الشرعی اللفظی هو بحث دلالة العام، وهذا هو البحث المعنون فی کلمات الأصحاب ببحث «العام والخاص»، وإنَّما عدلنا عن ذاک العنوان إلی هذا العنوان باعتبار أننا سوف لن نبحث هنا عن الخاص والتخصیص، بخلافهم حیث بحثوا هنا عن شیئین (العموم والتخصیص)، أمّا المباحث الراجعة إلی الخاص والتخصیص فهی فی رأینا لیست مرتبطة ببحثنا الفعلی من الناحیة الفنیة والمنطقیة، فإن بحثنا عن ظهورات الدلیل الشرعی اللفظی ودلالاته، أمّا البحث عن حجیة دلالات الدلیل الشرعی (حجیة الظهور) فهو بحث سوف نصل إلیه بعد إکمال البحث عن أصل الدلالات ثم إکمال البحث عن إثبات الصدور من الشارع، ثم بعد ذلک ندخل فی بحث حجیة الدلالات والظهور. فموقع بحثنا عبارة عن البحث عن أصل الدِّلالة، بأَنَّهُ هل للأمر والشَّرْط والوصف والعامّ وغیرها ظهور فی الوجوب أو لا؟ فهذه بحوث ترتبط ببحثنا، أمّا المباحث الأخری الَّتی ذکروها فالأکثریة الساحقة منها مرتبطةٌ ببحث حجیة الظهور، مثل البحث عن أن العامّ هل هو حجّة بعد التخصیص أو لا؟ أو هل أن العامّ حجة إذا کان المخصِّص مجملاً أو لا؟ وهکذا سائر العناوین. وبعضها مرتبطة ببحث تعارض الدلیلین، مثل البحث عن وجه تقدیم الخاصّ علی العامّ.

ص: 231

فالقسم الأکثر من بحوث العامّ والخاص مرتبط ببحث الحجیة وقسم منها مرتبط ببحث التعارض، وکلاهما خارج عمَّا نحن فیه،ولذا غیّرت عنوان البحث.

علی أی حال إن لهذا البحث جهات ثلاث لا بُدَّ من دراستها تباعاً:

الجهة الأولی: فی تعریف العامّ والعموم.

الجهة الثَّانیة: فی أقسام العامّ.

الجهة الثَّالثة: فی ألفاظ العموم وأدواته.

أما الجهة الأولی: فی تعریف العموم، فتوجد تعاریفُ کثیرةٌ فی هذا المجال مذکورةٌ فی الکتب الأصولیة المشروحة والمطوّلة، فلا نطیل الکلام بذکر کلِّها ومناقشتها، وإنَّما نقتصر علی ذکر التَّعریف الَّذی ذکره المُحَقِّق الخراسانی فی الکفایة، فإِنَّه حینما أصبح بصدد بیان أقسام العموم وأن هذا التَّقسیم لیس بلحاظ نفس العموم حیث لیس للعموم أقسام، بل له قسم واحد دائماً، بل هذا التقسیم بلحاظ کیفیة تعلّق الحکم بالعامّ، فعَرَّف العامّ بهذا التعریف: «شمول المفهوم لجمیع ما یصلح لأَنْ ینطبق علیه».

ولنا ملاحظتان علی هذا التعریف:

الملاحظة الأولی: أن هذا التعریف لیس مانعاً عن دخول الأغیار؛ وذلک لأَنَّ من جملة الأغیار المطلق الشمولی فهو لیس عامّاً، مع ذلک هذا التعریف یشمله. مثل «أکرم العالم» فإن مفهوم «العالم» هنا مفهومٌ یشمل لجمیع الأفراد الَّتی یصلح هذا المفهوم لأَنْ ینطبق علیها. ف_«العالم» هنا مطلق ولیس عامّاً؛ لأَنَّ «العالم» مفرد معرَّف باللاَّم والمشهور أَنَّهُ مطلق ولیس من أدوات العموم فی المصطلح الأصولی، بینما تعریف الآخوند یشمله.

فلیس مجرّد شمول المفهوم واستیعابه لجمیع ما یصلح لأَنْ ینطبق علیه یعتبر عموماً فی المصطلح الأصولی، بل لا بُدَّ من أن نقیِّد هذا الشمول والاستیعاب بقید ونقول: الشمول الَّذی یفیده اللفظُ والکلامُ؛ وذلک لأَنَّ الشمول والاستیعاب تارةً یکون مدلولاً للفظ والکلام، کما فی قولنا: «أکرم کل عالم» علی أن یکون «کل» موضوعاً فی اللغة للاستیعاب والشمول کما هو الصحیح علی ما یأتی فی أدوات العموم)، وقد لا یکون الشمول والاستیعاب مدلولاً للکلام وللَّفظ، کما فی «أکرم العالم»، فإن «العالم» لا یدلّ بالدلالة اللغویة الوضعیَّة علی الشمول والاستیعاب، وإنَّما یدلّ علی طبیعة العالم؛ لأَنَّهُ اسم الجنس واسم الجنس وضع فی اللغة للدِّلالة علی الطَّبیعة.

ص: 232

غایة الأمر نلاحظ وجود الشمول والاستیعاب لهذا الحکم فی مرحلة التطبیق والفعلیّة خارجاً، أی: نلاحظ أن الحکم ینطبق فی کل مورد یوجد فیه خارجاً «عالِم». فالشمولیة هنا من شؤون عالم المجعول وعالم التطبیق وعالم الفعلیّة، لا من شؤون عالم الجعل. فقوله: «أکرم العالم» لا یدلّ إلا علی جعلٍ واحد بوجوب واحد علی موضوعٍ عبارة عن «إکرام طبیعی العالم»، ولیس الکلام دالاًّ علی جعول عدیدة. لکن العقل یحکم بأَنَّهُ کلما تحقّق هذا الموضوع (أی: طبیعی العالم) خارجاً یصبح الحکم فعلیّاً؛ لأَنَّ قوله «أکرم العالم» یرجع بالحقیقة إلی قضیة شرطیة، أی: «إن وجد عالم فأکرمه». أی: إن وجد عالم أوّل فأکرمه، وإن وجد عالم ثانٍ فأکرمه وهکذا.. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فلکما تعددت فِعْلِیَّات الموضوع تعدّدت فعلیات الحکم، ولیس الجعل فإِنَّه یتعدّد الجعل نفسه. إذن فلا توجد شمولیة واستیعاب فی هذا الکلام، لأَنَّ النظر (من الناحیة اللغویة والوضعیة) لیس فیه إلی الأفراد بل النظر فیه إلی الطَّبیعة. نعم هذا الحکم تتعدّد فِعْلِیَّاتُه بعدد أفراد العالم، وهذا تعدّد فی عالم الفعلیّة، ونحن لا دخل لنا بعالم الفعلیّة؛ فإن کلام المولی ناظر إلی عالم الجعل دون الفعلیّة.

إذن، الشمولیة الَّتی تستفاد من قوله: «أکرم العالم» إنّما تستفاد من مرحلة الفعلیّة ولیست مستفادة من الکلام واللفظ، وهذا بخلاف العامّ، فإن الشمولیة فی العامّ تستفاد من اللفظ فی مثل: «أکرم کل عالم» فإن کلمة «کل» تدلّ علی الشمول واستیعاب الألفاظ.

فتعریف المُحَقِّق الخراسانی لیس تعریفاً مانعاً عن دخول المطلق الشمولی.

الملاحظة الثَّانیة: هی أن هذا التعریف فی أحسن الفروض والتَّقادیر لیس جامعا لکل استیعابٍ مدلولٍ للفظ والکلام.

توضیح ذلک: الاستیعاب الَّذی یدلّ علیه اللَّفظ بالدِّلالة اللَّفظیَّة علی قسمین:

ص: 233

القسم الأوّل: الاستیعاب الَّذی یستفاد من اللفظ بنحو المعنی الاسمی، من قبیل الاستیعاب الَّذی یدلّ علیه ألفاظ «کل» و«جمیع» و«عموم» و«کافة» و«قاطبة» وأمثالها من الألفاظ الَّتی هی موضوعة فی اللُّغَة للدِّلالة علی نفس المعنی الاسمی الَّذی یدلّ علیه لفظ «الاستیعاب» ولفظ «الشمول». فیُتعامل مع هذه الألفاظ معاملة الاسم، فتجری علیها أحکام الاسم من إمکان وقوعها مبتدأً، خلافاً للحرف والفعل حیث لا یقعان مبتدأ.

فالاستیعاب الَّذی یدلّ علیها قولنا: «أکرم کل عالم» أو قولنا: «احترم جمیع من فی البیت» و«زرت عموم من رجع من الحج» هو استیعاب مدلول علیه باللَّفظ بالدِّلالة الوضعیَّة بنحو المعنی الاسمی. هذا شکل من الاستیعاب الَّذی یدلّ علیه اللفظ.

القسم الثَّانی: هو الاستیعاب الَّذی یدلّ علیه اللَّفظ بنحو المعنی الحرفی، من قبیل الاستیعاب الَّذی تدلّ علیه هیئة من الهیئات أو حرف من الحروف. مثلاً الاستیعاب الَّذی یدلّ علیه الجمعُ المعرَّف باللام کالعلماء، علی أن تکون هذه الهیئة (الجمع المعرف باللام) موضوعة لغةً للاستیعاب، فهی تدلّ علی العموم والشمول بنحو المعنی الحرفی، أی: تدلّ علی النِّسبة الاستیعابیة الَّتی هی معنی حرفی غیر مستقلّ.

وحینئِذٍ فی مقام تطبیق التعریف الَّذی ذکره صاحب الکفایة قد یقال بأننا (فی النحو الأوّل أی: الاستیعاب المستفاد بنحو المعنی الاسمی) نستفید استیعابَ مفهوم العالم لجمیع ما یصلح للانطباق علیه من دلالة «کل» فی «أکرم کل عالم»، فالتعریف ینطبق علی القسم الأوّل.

وأیضاً نأتی إلی القسم الثَّانی ونحاول أن نطبق تعریف صاحب الکفایة علیه، فنقول فی هیئة الجمع الْمُحَلَّی باللام الَّتی تدلّ علی العموم بنحو المعنی الحرفی إننا نستفید استیعاب کلمة «العلماء» (أی:) لجمیع ما یصلح للانطباق علیه من خلال دلالة اللام أو هیئة الجمع المحلی باللام.

ص: 234

فتعریف صاحب الکفایة قابل للانطباق علی کلا النحوین (سواء المستفاد بنحو المعنی الاسمی أو المستفاد بنحو المعنی الحرفی).

لکن هذا الکلام غیر تامّ فلا یمکن أن نقول: إن التعریف الَّذی أفاده صاحب الکفایة ینطبق علی کلا القسمین؛ وذلک لأَنَّ هذا التعریف یحتمل فیه أحد وجهین:

الوجه الأوّل: أن یکون مقصود الآخوند من قوله: «شمول المفهوم لجمیع ما یصلح لأَنْ ینطبق علیه» هو أن یُلحظ المفهومُ الواحد مرآةً لجمیع ما یصلح للانطباق علیه. مثلاً مفهوم «العالم» فی قولنا: «أکرم العالم» یُلحظ مرآة لجمیع المصادیق، أو مفهوم «العلماء» فی قولنا: «أکرم العلماء» یُلحظ مرآةً لجمیع الأفراد والمصادیق الَّتی یصلح هذا المفهوم للانطباق علیها.

لکن هذا الوجه مستحیل أساساً وغیر معقول؛ وذلک لنکتةٍ تقدّمت بصورة مشروحة فی بحث الوضع (فی بحث الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ) حیث قلنا: إن کل مفهوم منتزَعٍ من طبیعةٍ من الطبائع لا یعقل أن یکون هذا المفهوم مرآةً للحیثیات الفردیة الخاصّة بالأفراد، وإنَّما یکون مرآة للحیثیات المشترکة بین الأفراد (ما به الاشتراک)، والتی هی عبارة عن ذات الطَّبیعة (فذات الطَّبیعة هی الحیثیة المشترکة بین الأفراد). أما نفس الأفراد بما هی أفراد وبخصوصیاتها الفردیة الممیزة لها بعضها عن بعض، فلا یعقل أن یکون العنوان والمفهوم فانیاً فیها ومنطبقاً علیها، وحاکیاً عنها. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فمثلاً مفهوم «العالم» لا یُری به إلا ذاتُ العالم وذات الطَّبیعة المشترکة، کما هو شأن أیِّ جامع کلی آخر. کل عنوان یستحیل أن ینطبق علی هذا الفرد بما هو فرد؛ لأَنَّ هذا المفهوم فی الواقع جزءٌ تحلیلی لهذا الفرد، فإن الفرد یترکب من هذا القاسم المشترک ومن المشخصات الفردیة، فهذا المفهوم لا یمکنه أن یحکی عن الفرد بمشخصاته الفردیة، وإنَّما هذا المفهوم یحکی عن جانبٍ من هذا الفرد وجزء تحلیلی منه وهو ما به الاشتراک (وطبیعیه).

ص: 235

وعلی هذا الأساس واجَهَ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ مشکلةً ثبوتیّةً کانت تقول بأن تصوّر واستحضار مفهوم عامّ مِن قِبَلِ الواضع لا یکفی ولا یبرّر له أن یضع اللَّفظَ لأفراد هذا المفهوم العامّ الَّذی استحضره فی ذهنه؛ لأَنَّه حینما استحضر هذا المفهوم العامّ فی ذهنه لم یستحضر الأفراد بما هی أفراد؛ لأَنَّ هذا المفهوم لا تُری الأفراد بما هی أفراد؛ لأَنَّ المفهومَ کلیٌّ وجامعٌ، ومعنی کونه جامعاً وکلّیّاً هو إلغاء الخصوصیّات الفردیة وإلا فلا یکون جامعاً. فهو رأی جزءاً تحلیلیاً من الأفراد.

ومن هنا افتقرنا واحتجنا لمعالجة هذه المشکلة الثُّبوتیّة إلی جامعٍ ومفهوم عَرَضِی یُرِی الأفراد بما هی أفراد، علی ما هی علیه من الخصوصیّات، من قبیل جامع «الفرد» و«الخاصّ» و«المصداق». فهذه الجوامع الانتزاعیة هی الَّتی تُری الأفرادَ بما هی أفراد وبخصوصیاتها الفردیة.

إذن هذا الوجه الأوّل وهو أن یکون مقصود الآخوند أن المفهوم یحکی ویُری أفرادَه غیر معقول ومستحیل، فهذا الاحتمال غیر وارد. فیبقی الاحتمال والوجه الثَّانی. وهذا ما سوف نتحدث عنه غداً إن شاء الله تعالی.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الاصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی النَّظَرِیَّةِ الأولی حول أقسام العموم وهی نظریَّة المُحَقِّق الخراسانی، وَالَّتِی تَقَدَّمَ بَیَانُهَا بالأمس. وَکَانَ حَاصِلُهَا أن هذه الأقسام الثَّلاثة (الاستغراقی وَالْبَدَلِیّ وَالْمَجْمُوعِیّ) المذکورة للعامِّ لیست فی الواقع أقساماً للعامّ بما هو عامّ؛ فإنَّ نفسَ العموم لیس له إلاَّ معنیً واحداً فی جمیع هذه الأقسام الثَّلاثة. وإنَّما تختلف کیفیَّةُ تعلّق الحکم بالعامّ، الاختلاف الَّذی تتمخَّض عنه هذه الأقسام.

أقول: یُحتمل أن یکون مقصود المُحَقِّق الخُراسانیّ من هذا الکلام التَّنبیه علی نکتةٍ هی أَنَّهُ لا مجال للبحث عن أن الکلمةَ الفُلانیّة والأداةَ الفُلانیّة الَّتی هی من أدوات العموم هل تدلّ علی ذات العموم أم تدلّ (مضافاً إلی ذلک) علی الاستغراقیّة أو البدلیّة أو المجموعیّة؛ لأَنَّ العموم فی الحقیقةِ قسمٌ واحد، وهذه الأقسام الثَّلاثة لیست لأجل وجود مائز فی ماهیَّة العموم بین هذه الأقسام الثَّلاثة. فلا یوجد عندنا عموم استغراقیّ وعموم بدلیّ وعموم مجموعیّ، بحیث تنقسم ماهیَّة العموم إلی ثلاثة أقسام، وإنَّما هذه الأقسام بلحاظ تعلّق الحکم بالعامّ؛ لأَنَّ هذا الحکم إن کان مُتِکَثِّراً بتَکَثُّرِ الأفراد فهو العامّ الاستغراقیّ، وإن کان الحکم واحداً واکتُفی فی مقام الامتثال بفرد من الأفراد فهو العامّ الْبَدَلِیّ، وإن کان الحکم واحداً ولم یُکتف فی مقام الامتثال بفردٍ من الأفراد فهو العامّ الْمَجْمُوعِیّ.

ص: 236

علی أی حال، فقد یکون مقصوده التَّنبیه علی هذه النُّکتة.

فإن کان مقصوده هذا، فیرد علی کلامه بأن هذا غیر صحیح؛ وذلک لأَنَّهُ بعد الفراغ من أن للعموم فی الخارج ثلاثة أنحاء، فمن الممکن أن توضعَ أداةٌ خاصّة وکلمةٌ خاصّة فی اللُّغَة بإزاء نحوٍ خاصٍّ من هذه الأنحاء الثَّلاثة، سواء کان المائز بین هذه الأقسام الثَّلاثة ذاتیّاً وناشئاً من ذات العموم (کما لعلّه هو المشهور) أو کان المائز شیئاً خارجاً عن حقیقة العموم (کما یقوله الآخوند) أی: کان المائز عبارة عن تعلّق الحکم بالعامّ. وعلی أی حال من الممکن أن یضع الواضعُ فی اللُّغَة کلمةً معینةً بإزاء العموم الاستغراقیّ أو یضع أداة وکلمة بإزاء العموم الْبَدَلِیّ، أو الْمَجْمُوعِیّ.

ومثاله المسند والمسند إلیه، فإذا کان المسند متأخّراً عن المسند إلیه یعطی معنیً غیر المعنی الَّذی یعطیه فیما إذا کان المسند مقدّماً. إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه فإِنَّه لا یُفهم الحصرُ من قولنا: «الإمامُ علیه السلام معصومٌ» بأن غیر الإمام علیه السلام لیس معصوماً؛ لأَنَّ إثبات الشَّیْء لا ینفی ما عداه، علی عکس ما یُفهم من قولنا: «المعصومُ علیه السلام هو الإمامُ» فإِنَّ الجملة الأخیرة تفید الحصر. أی: أن هیئةَ تقدُّمِ الحکم علی الموضوع وُضعت فی لغة العرب علی أن الحکم محصورٌ فی هذا الموضوع، مع أن الموضوع واحد ذاتاً. فلا فرقَ ذاتیَّ بین الموضوع الَّذی حُصر فیه الحکم وبین الموضوع الَّذی لم یُحصر فیه الحکم، فلا یمنع من أن یأتی الواضع ویضع تلک الهیئة للحصر.

وعلی أیِّ حالٍ فإِنَّ هذه النَّظریّةَ من المُحَقِّق الخراسانی غیرُ تامَّةٍ؛ وذلک لأَنَّ هذه النَّظریّة تَعتبر أن هذه الخُصُوصِیّاتِ الثَّلاثَ (وهی خصوصیّة الاستغراقیّة والْبَدَلِیَّة وَالْمَجْمُوعِیَّة إنّما هی من شؤون طُروّ الحکم ووروده علی العامّ، ومن شؤون تعلّق الحکم بالعامّ. أی: هذه الخُصُوصِیّات لیست خُصُوصِیّاتٍ لنفس العموم وإنَّما هی خُصُوصِیّات لمرحلة لاحقة علی العموم وهی مرحلة عروض الحکم علی العموم، مع أَنَّهُ غیر صحیح؛ لأَنَّ انقسام العموم إلی هذه الأقسام الثَّلاثةِ یمکن افتراضه بقطع النَّظَرِ عن تعلّق الحکم بالعامّ؛ وذلک لأَنَّنَا (ومعنا کل ابن لغة) نشعر بالوجدان بأَنَّ هناک فرقاً بین التَّصَوُّر الَّذی تُعطیه مثلاً کلمةُ «کلٍ عالمٍ» و«جمیعِ العلماء»، بِقَطْعِ النَّظَرِ عن الحکم، أی: الجملة الناقصة بِقَطْعِ النَّظَرِ عن الوجوب. قبل أن یأتی بالحکم، فهناک صورةٌ ذهنیة تتکوَّن فی الذهن تختلف عن الصُّورَة الذِّهْنِیَّة ل_«أحد العلماء»، وهل هَاتَانِ الصُّورَتَانِ هی صورة «مجموع العلماء» نفسها، أو أن هناک صور ثلاث.

ص: 237

فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الصُّورَة الَّتی تتکَوَّن فی الذِّهْن من «جمیع العلماء» هی صورة استغراقیّة، أی: صورة الأفراد العدیدین بما هم عدیدون، وهی تختلف عن الصُّورَة الذِّهْنِیَّة الَّتی تأتی إلی الذِّهْن عند سماع «أحد العلماء» فهی صورة فردٍ واحد من هؤلاء الأفراد العدیدین، کما أن الصُّورَة الثَّالثة الَّتی تتکَوَّن فی الذِّهْن عند سماع «مجموع العلماء» عبارة عن صورة المجموع المرکب من هذه الأفراد.

فالاستغراقیّة والبدلیّة والمجموعیّة تعبِّر عن صُوَرٍ ذهنیةٍ ثلاثٍ للعموم ینسجها ذهن المتکلِّم وَفقاً لغرضه، وتمهیداً لجعل الحکم المناسب علیها. إذن هی حالاتٌ مختلفة للعموم فی مرحلة سابقة علی طُروّ الحکم وقبل أن یُحکم بحکم کما إذا کان الکلام خالیاً من الحکم أساساً. فالعموم نفسه له ثلاثة أنحاء وذلک قبل تعلّق الحکم به (فی مرحلة المدلول التَّصوُّریّ).

النَّظریّة الثَّانیة: وهی عبارة عمَّا ذکره المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رحمه الله حیث فصَّل بین الفارق الموجود بین العمومِ الْبَدَلِیّ وبین قَسِیمَیْهِ، وبین الفارق الموجود بین العموم الْمَجْمُوعِیّ والعموم الاستغراقیّ، فإِنَّه رحمه الله بعد أن وافَقَ علی کلام أستاذه المُحَقِّق الخُراسانیّ فی القول بأن الفرق والمائز بین هذه الأقسام خارج عن العموم نفسه. ثم بعد ذلک حاول أن یفرّق بین العموم الْبَدَلِیّ وقسیمیه (الْمَجْمُوعِیّ والاستغراقیّ) قائلاً: إن هذا الفرق ناشئ من خصوصیّةٍ فی مدخول أداة العموم. وذلک بأَنَّ مدخول أداة العموم إن کان نکرةً ومُنَوَّناً بتنوین التَّنْکیر فلا محالة یکون العمومُ بَدَلِیّاً؛ لأَنَّ النَّکِرَةَ یستحیل انطباقها علی أفرادها واستیعابها لأفرادها فی عَرض واحد؛ فَإِنَّهَا لا تقبل الاستیعاب العَرضیّ، بینما العموم الْمَجْمُوعِیّ استیعاب عَرضِیّ، وکذلک العموم الاستغراقیّ. وهذا لا یناسب النَّکِرَة؛ إعداد وتقریر: الشیخ محسن الطهرانی عفی عنه وذلک لأَنَّهَا مُنَوَّنَة بتنوین التَّنْکِیر وهو یفید قید الوحدة علی البدل. فمتی ما کان مدخول أداة العموم نکرة منوناً بتنوین التَّنْکِیر فحیث هذا التَّنْوِین یفید الوحدة، فهذه النَّکِرَة لا یمکن تستوعب کل أفرادها فی عَرض واحد، بل تستوعب جمیع أفرادها علی البدل.

ص: 238

أما إذا کان مدخول أداة العموم اسم جنس ولم یکن نکرةً بل کان مُنَوَّناً بتنوین التَّمْکِین، فالعموم لیس بَدَلِیّاً (أمّا أَنَّهُ مجموعیّ أو استغراقیّ فهذا سیأتی، والمُهِمّ أَنَّهُ لیس بَدَلِیّاً)؛ وذلک لأَنَّ انطباق اسم الجنس علی أفراده واستیعابه لأفراده استیعابٌ عَرضِیّ ولیس علی سبیل البدل؛ لأَنَّهُ لا یوجد فیه قید الوحدة؛ وذلک لأَنَّهُ لا یوجد فیه تنوین التَّنْکِیر.

وحینئِذٍ تارةً یکون الحکم الَّذی تعلّق بهذا العامّ حکماً واحداً ثابتاً للمجموع فیکون العامّ مجموعیّاً وأخری یکون الحکم عبارة عن أحکام متعدّدة بعدد الأفراد فیکون العامّ استغراقیّاً.

فتحصل أَنَّهُ من وجهة نظر الْعِرَاقِیّ رحمه الله یکون الفرق بین العموم الْبَدَلِیّ وبین قسیمیه هو من ناحیة مدخول أداة العموم.

وحینئِذٍ إذا کان اسم الجنس ولم یکن بَدَلِیّاً فهنا لأجل معرفة أَنَّهُ مجموعیّ أو استغراقیّ علینا أن ننظر إلی کیفیة تعلّق الحکم بالعامّ، وهی المسألة الَّتی ذکرها الآخوند، أما فی مقام التَّفْرِقَة بین العموم الْبَدَلِیّ وغیر الْبَدَلِیّ لا یقبل الْعِرَاقِیّ ما قاله الآخوند من أن کیفیَّة تعلّق الحکم بالعامّ یُنتج الْبَدَلِیَّة أو غیر الْبَدَلِیَّة.

وقبل البَدء بمناقشة هذه النَّظریّة نُؤَکِّد هنا أیضاً علی ما أکّدنا علیه عند دراستنا لِلنَّظَرِیَّة السَّابِقَة، وهو أن هذه الخصوصیة الَّتی یقول بها المُحَقِّق العراقی رحمه الله وهی خصوصیّة أن مدخول أداة العموم نکرة أو اسم الجنس؟ والخصوصیة الَّتی کان یقول بها الآخوند وهی خصوصیّة تعلّق الحکم بالعام، والخصوصیة الَّتی یقول بها المشهور (لعلّه المشهور) بأَنَّهُ نفس العموم، کل هذه الأمور لا یهمنا هنا. أی: سواء کان المائز بین هذه الأقسام الثَّلاثة کان کامناً فی نفس العموم (کما لعلّه المشهور) أو کان هذا المائز کامناً فی خصوصیّة فی مدخول أداة العموم (کما یقول الْعِرَاقِیّ رحمه الله بالنسبة إلی الْبَدَلِیّ وغیر الْبَدَلِیّ) أو کان هذا المائز ناشئاً من خصوصیّة فی تعلّق الحکم بالعامّ (کما یقوله الخُراسانیّ)، علی أی حال لطالما لدینا ثلاثة أنحاء من العموم فی الخارج، إذن من حَقِنا أن نبحث عن أنَّ الکلمة الفُلانیّة أو الأداة الفُلانیّة هل تدلّ فی لغة العرب علی هذا القسم أو ذاک القسم أو القسم الثَّالث.

ص: 239

فمثلاً إن هیئة تقدّم الحکم علی الموضوع وُضعت لغةً لإفادة الحصر (لإفادة أن هذا الحکم محصور بهذا الموضوع)، مع أَنَّهُ لا فرق ذاتیّ بین هذا الموضوع الَّذی انحصر الحکم فیه وبین أی موضوع آخر لم یُحصر فیه الحکم. کما لا فرق ذاتیّ بین «المسند إلیه» الَّذی تقدّم علیه «المسند» وبین «المسند إلیه» الَّذی تأخر عنه «المسند». ولکن مع ذلک یمکن أن توضع فی اللُّغَة کلمة أو هیئة خاصّة (تقدّم ما حقّه التأخیر) لإفادة حصر الحکم بهذا الموضوع. فلتکن أدوات العموم هکذا أیضاً. أی: نقول انقسام العموم إلی بدلیّ وغیر بدلیّ حتی لو افترضناه کما افترضه العراقی رحمه الله بأن هذا الانقسام لیس ذاتیّاً، بل هو ناشئ من کون مدخول أداة العموم نکرةً أو اسم جنس، ولکن یبقی السؤال بأَنَّهُ کیف نمیّز بین اسم الجنس والنکرة؟ فإن «رجلاً» النَّکِرَة لا تختلف عن «رجلاً» الَّتی تنوینها لاسم الجنس، فإن کلاهما «رجلٌ»

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

انتهینا إلی مناقشة النَّظریّة الَّتی أفادها المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ وَالَّتِی تقدّم توضیحها. وتقع دراستنا لهذه النَّظریّة فی مقامین:

المقام الأوّل: فی أن الفارق الَّذی ذکره المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ للعموم الْبَدَلِیّ والعموم غیر الْبَدَلِیّ هل هو صحیح أم لا؟

المقام الثَّانِی: فی أن الفارق الَّذی ذکره بین العموم الاستغراقیّ والعموم الْمَجْمُوعِیّ هل هو صحیح أم لا؟

أما المقام الأوّل فهو أن الفارق والمائز بین العموم الْبَدَلِیّ والعموم العَرضی (أی: غیر الْبَدَلِیّ) هل هو ناشئ من خُصُوصِیَّة فی العموم نفسه، أو هو ناشئ من خُصُوصِیَّة فی شیء آخر؟ فقد عرفنا أن المُحَقِّقَیْنِ الخُراسانیّ والعراقیّ اتّفقا علی أن الفرق ناشئ من خُصُوصِیَّة فی شیء آخر (لیس من العموم نفسه)، غایة الأمر المُحَقِّق الخُراسانیّ ذهب إلی أنّ هذا الفرق ناشئ من خُصُوصِیَّة فی کیفیَّة تعلّق الحکم بالعامّ، حیث قال: إن تعلّق الحکم بالعامّ قد یُنتج العمومَ الْبَدَلِیّ وقد ینتج العموم غیر الْبَدَلِیّ، بینما المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ ذهب إلی أن الفرق ناشئ من خُصُوصِیَّة فی مدخول أداة العموم (کما تقدّم توضیحه)، فإن کان مدخولها نکرة فالعموم عموم بدلیّ، وإن کان اسم جنس فالعموم عموم عَرضِیّ.

ص: 240

أما کلام المُحَقِّق الخُراسانیّ فقد عرفنا بأَنَّهُ غیر تامّ؛ لما تقدّم فی مناقشة نظریَّته بأن الاستیعاب نفسه بِقَطْعِ النَّظَرِ عن طروّ أی حکم علیه، تارةً یُتصوّر بنحوٍ بدلیّ، وأخری یتصوّر بنحو عَرضِیّ. أی: نحن نری وجداناً الفرقَ بین مفهوم «کل الأشیاء» أو «جمیع الأشیاء»، وبین مفهوم «أحد الأشیاء»، مع أَنَّهُ لا حکم فی البین.

فالوجدان یری بأن الاستیعاب الْبَدَلِیّ والاستیعاب العَرضیّ نحوان من الاستیعاب، وهما متباینان بما هما استیعابانِ، وبغض النَّظَر عن طروّ الحکم. فالفرق بین الْبَدَلِیّ والعرضی لیس ناشئاً من کیفیَّة تعلّق الحکم بالعامّ.

وأمّا کلام المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رحمه الله فأیضاً لا یمکن المساعدة علیه؛ وذلک لأَنَّهُ أفاده رحمه الله بأنَّ علینا أن نعرف مدخول الأداة، فإن کان نکرةً فالعمومُ عموم بدلیٌّ؛ لأَنَّ التَّنْوِین فی النَّکِرَة المُنَوَّنة بتنوین التَّنْکِیر یدلّ علی الوحدة، فتکون هذه النَّکِرَة مقیَّدةً بقید الوحدة، فلا یمکنها أن تستوعب أفرادها استیعاباً عرضیّاً (وفی عَرض واحد)؛ لأَنَّهُ خلاف قید الوحدة، فلا بُدَّ من أن یکون استیعابها لأفرادها استیعاباً بَدَلِیّاً، أی: أحد الأفراد. أما إذا کان مدخول الأداة اسم الجنس فیمکنه أن یستوعب أفرادَه استیعاباً عرضیّاً؛ لأَنَّهُ لیس منوَّناً بتنوین التَّنْکِیر الدَّالّ علی الوحدة.

وهذا الکلام مِمَّا لا یمکن المساعدة علیه لا فی جانب النَّکِرَة ولا فی جانب الاسم الجنس، أمّا فی جانب النَّکِرَة فمن الممکن أن نفترض أن مدخول الأداة نکرة وَمُنَوَّنَة بتنوین التَّنْکِیر وأن یکون تنوین التَّنْکِیر دالاًّ علی الوحدة أیضاً، لکن مع ذلک یکون الاستیعاب عرضیّاً ولیس بَدَلِیّاً، فلیس دائماً إذا کان المدخول نکرة فلا بُدَّ وأن یکون العموم بَدَلِیّاً؛ إذ یمکن افتراض أن العموم بدلیّ مع أن المدخول مُنَوَّن بتنوین التَّنْکِیر الدَّالّ علی الوحدة؛ وذلک لا کما تخیّله المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ بحیث یکون المستوعِب للأفراد النکرةُ نفسها (نعم إذا أردنا أن تکون النَّکِرَة نفسها مستوعِبة لأفرادها فکلامه صحیح؛ إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه لأَنَّ النَّکِرَة المنونة بتنوین التَّنْکِیر الدَّالّ علی الوحدة لا یمکن أن تستوعِب أفرادها استیعاباً عرضیّاً) بل بشکل آخر وهو أن یکون المستوعِب لأفراد النَّکِرَة استیعاباً عرضیّاً عبارةً عن مفهومٍ آخر (ولیس مفهوم النَّکِرَة نفسها) من قبیل مفهوم «الکلّ». فلو فرضنا أن کلمة «رجل» فی قول القائل: «أکرم کلَّ رجلٍ» نکرة ولم تکن اسم جنس، أی: کان التَّنْوِین تنوین التَّنْکِیر ولیس تنوین التمکّن، لأن کون التَّنْوِین للتَّنکیر لا یمنع من أن یکون الاستیعاب والعموم الَّذی نفهمه من هذه الجملة استیعاباً عرضیّاً؛ لأَنَّ المستوعِب لیس هو کلمة «رجل» حتّی یقول الْعِرَاقِیّ: إِنَّهُ نکرة ودالّ علی الوحدة، فلا یمکن أن یستوعب استیعاباً عرضیّاً، وإنَّما المستوعب کلمة «کلّ» حیث تستوعب أفرادَ الرجل استیعاباً عرضیّاً. أی: مفهوم کلمة «کلّ» یستوعب أفرادَ مفهوم «رجل»، ولا استحالة فی هذا، ولا استحالة فی أن تکون کلمةٌ مقیَّدة بقید الوحدة، لکن تأتی کلمة أخری تستوعب أفراد هذه الکلمة الأولی فی عَرض واحد، فهذا لیس محالاً. فَإِنَّ المحال هو أن تکون النَّکِرَة نفسها مستوعبة لأفرادها استیعاباً عرضیّاً؛ لأَنَّهُ خلف قید الوحدة، ولکن نحن نقول: إنّ هناک کلمة أخری وهی کلمة «کلّ» وهی اسم لها مفهوم اسمی، ومفهومها یستوعب أفرادَ المدخول (=النَّکِرَة).

ص: 241

فاستیعاب کلمةٍ لأفراد کلمة أخری استیعاباً عرضیّاً لیس محالاً، ولو کانت الکلمة الأخری نکرة، وهذا لا استحالة فیه وممکن بل واقع فی النَّکِرَة الواقعة فی سیاق النهی أو سیاق النَّفْی (بناءًا علی إفادتها العمومَ) فهی تفید العموم العَرضیّ مع أنها نکرة. فلو قال مثلاً: «لا تکرم عالماً» فإنَّ «عالماً» نکرة ولکن وقوعها (= هذه الهیئة) فی سیاق النَّهْی (بناءًا علی أن النکرة فی سیاق النَّهْی وَالنَّفْی) یفید العموم، ولکن لیس المستوعِب النکرةُ نفسها. فهذه الصیغة تخرّب مفعول تنوین التَّنْکِیر؛ فهی کأداة العموم مثل «کل»، فکما أن «کل» تدلّ علی العموم فکذلک قالوا إن النَّکِرَة فی سیاق النَّهْی أو النَّفْی تفید العموم. وهذا ما سنبحث عنه فی بحث ألفاظ العموم إن شاء الله تعالی.

فکأنّ الْعِرَاقِیّ افترض أن النَّکِرَة نفسها هی الَّتی تستوعب أفرادها، فقال: لا یمکن أن یکون الاستیعاب عرضیّاً، بل لا بُدَّ وأن یکون بَدَلِیّاً؛ ولکنّنا نفترض مفهوماً آخر یستوعب مفهومَ النَّکِرَة. هذا بالنسبة إلی النَّکِرَة.

وأمّا الجانب الآخر وهو أن یکون المدخول اسم جنس، لیکون الاستیعاب عَرضِیّاً ولیس بَدَلِیّاً. فهذا مِمَّا لا نقبله؛ إذ من الممکن أن یکون المدخول اسم جنس ومع ذلک یکون الاستیعاب عرضیّاً؛ وذلک:

أوَّلاً: لأَنَّ اسم الجنس لا یجب أن یکون الاستیعاب فیه عرضیّاً، بحیث لا یصحّ أن یکون بَدَلِیّاً؛ فإن اسم الجنس لیس «بشرط لا». وإن فرق اسم الجنس عن النَّکِرَة هو أن النَّکِرَة لا یمکن فیها الاستیعاب العَرضیّ لأَنَّهَا مقیَّدة بقید الوحدة، وأمّا اسم الجنس فلأنه لیس مقیّداً بقید الوحدة فیجوز أن یکون الاستیعاب فیه عرضیّاً، لا أن یکون الاستیعاب العَرضیّ واجباً فیه.

ثانیاً: لو سَلَّمنا بأن اسم الجنس یجب أن یکون الاستیعاب فیه عَرضاً ولا یجوز أن یکون بَدَلِیّاً، لکن مع ذلک من الممکن أن نفترض أن المستوعِب مفهومٌ آخر. أی: نفترض أن الواضع وضع أداةً تفید مفهوماً اسمیّاً یستوعب أفراد مدخول هذه الأداة استیعاباً بَدَلِیّاً. مثلاً کما نقول فی «أیّ عالم» إذا افترضنا أن «عالمٍ» فی هذه الجملة الناقصة اسم جنسٍ والتَّنْوِین فیه تنوین تمکّن، فهنا المفهوم المستوعِب لعالمٍ هو مفهوم «أیّ» وقد وضع الواضعُ هذا اللَّفظَ للدِّلالة علی أن هذه الکلمة تستوعب أفراد مدخولها استیعاباً بَدَلِیّاً، مع أن مدخولها لیس نکرةً.

ص: 242

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ العموم (کما قلنا فی تعریف العموم) لیس عبارة عن استیعاب مفهومٍ لأفراد نفسه (فقد ناقشنا هذه الفکرةَ خلافاً للخراسانیّ حیث کان یقول: العموم هو شمول المفهوم لجمیع ما یصلح لأن ینطبق علیه، فقد ناقشناه بأنّ هذا الشمول إن قصدتم به بأن المفهوم مرآة لجمیع ما یصلح لأَنْ ینطبق علیه فهذا غیر معقول أصلاً، فإن المفهوم لا یحکی عن الأفراد بما هی أفراد، بل یحکی المفهومُ عن القاسم المشترک بین الأفراد) حتّی یَتُمّ کلام المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رحمه الله من أن استیعاب النَّکِرَة لأفرادها بدلیّ، ولکننا قلنا: إن العموم عندنا عبارة عن استیعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر، سواء کان استیعاباً بَدَلِیّاً أو عرضیّاً، وسواء کان المدخول اسم جنس أو النَّکِرَة.

فکون «المأخوذ قد أُخِذ فیه قید الوحدة أو لم یؤخذ فیه قید الوحدة» لا ینافی استیعاب الأداة لتمام أفراد المدخول إما عرضیّاً أو علی نحو البدل؛ لأنَّ ما یراد کونه مستوعِباً إنّما هو مفهوم الأداة، لا مفهوم المدخول، إذن فانقسام العموم إلی الْبَدَلِیّ والعرضی انقسامٌ فی العموم نفسه بما هو عموم، أی: العموم عبارة عن الاستیعاب والتّطبیقات العدیدة بعدد الأفراد. وهذه التطبیقات العدیدة تارةً تُفترض فی عَرضٍ واحد وهذا هو الاستیعاب العَرضیّ، وأخری تفترض علی سبیل البدل وهو الاستیعاب الْبَدَلِیّ.

إذن، المائز الَّذی ذکره الْعِرَاقِیّ لتمییز الْبَدَلِیّ من العَرضیّ غیر مقبول.

المقام الثَّانِی: وهو الکلام فی الفارق الَّذی ذکره رحمه الله بین العموم الاستغراقیّ والعموم الْمَجْمُوعِیّ حیث رأینا أن المُحَقِّقَیْن اتفقا علی أن الفرق بین العموم الاستغراقیّ والعموم الْمَجْمُوعِیّ ناشئ من خُصُوصِیَّةٍ فی شیء آخرَ وهو عبارة عن کیفیَّة تعلّق الحکم بالعامّ، بمعنی أن انقسام العموم إلی هذین القسمین إنّما هو باعتبار تعلّق الحکم، ولیس باعتبار نفس العموم، فالحکم إذا کان واحداً فهذا هو العامّ الْمَجْمُوعِیّ، وإذا کان الحکم متعدّداً بعدد الأفراد فهذا هو العامّ الاستغراقیّ.

ص: 243

فهذا الکلام أیضاً مِمَّا لا نقبله، وذلک لأَنَّنَا نتساءل ماذا تقصدون من وحدة الحکم وتعدده فی قولکم: «إن الحکم إذا کان واحداً فالعامّ مجموعیّ وإذا کان متعدّداً فالعامّ استغراقیّ» هل المراد وحدةُ الجعل وتعدُّده؟ أم المراد وحدة المجعول (أی: وحدة الحکم الفعلیّ)؟

فإن کان المراد الأوّل فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الحکمَ فی عالم الجعل واحد دائماً، حتّی فی العامّ الاستغراقیّ، فلیس الحکم فی العامّ الاستغراقیّ متعدّداً (فی عالم الجعل) وواحداً فی العامّ الْمَجْمُوعِیّ، بل الحکم واحدٌ فی کلیهما فی عالم الجعل؛ فَإِنَّ الخطاب واحد فی کلیهما والخطاب الواحد لا یکشف (دائماً) إلاَّ عن جعل واحد. ونظرُ المولی فی کلیهما إلی الأفراد.

غایة الأمر فی العامّ الْمَجْمُوعِیّ نظرَ المولی إلی الأفراد بنظرةٍ وحدویّة، بحیث کان کل فرد جزءًا من المرکب الواحد، فلذا لا یَنْحَلُّ هذا الجعل الواحد إلی أحکامٍ عدیدة بعدد الأفراد.

أمّا فی العامّ الاستغراقیّ فباعتبار أن النَّظرَ المولویّ کان نظراً تجزیئیّاً ونظرة تعدّدیّة، أی: النَّظَر إلی الأفراد بما هو عدیدون ومتکثرون وأفراد، لا بما هم أجزاء لمرکب واحد، فلذا یَنْحَلُّ الجعل الواحد هنا عقلاً إلی أحکام عدیدة بعدد الأفراد. وعلی أیِّ حالٍ فإِنَّ الجعل واحد فی کلیهما.

أما إن قصدتم بهذا الکلام وحدة المجعول وتعدُّد المجعول، فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المجعول وحدته أو تعدده تابع لوحدة موضوع الحکم وتعدّده؛ إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه لأَنَّ المجعول تابعٌ للموضوع؛ فإن الحکم یصبح فعلیّاً عندما یصبح موضوع الحکم فعلیّاً. إذا کان موضوع الحکم واحداً بالنّوع (ولیس واحداً بالشخص، أی: کان الموضوع کلّیّاً، مثل «أکرم العالم» فإن «العالم» کلیّ وواحد بالنوع، أی: یضم أفرادَه، فالجعل هنا واحد ولکن المجعول یتعدّد بعدد الأفراد، فإذا وُجد عالم واحد فیوجد وجوبٌ فعلیٌّ واحد، وإذا وجد عالمان فی الخارج فوجوبان فعلیّان، وهکذا..) ومنحّلاً إلی أفراد عدیدة، فیتعدد المجعول بعدد الأفراد (ولا یتعدّد الجعل فإِنَّه واحد دائماً).

ص: 244

وإذا کان موضوع الحکم واحداً بالشخص (أی: لوحظ الأفراد کمرکّبٍ واحد، ونُظر إلی الأفراد بما هی جزء من هذا المرکب، فالموضوع واحد بالشخص) فالمجعول واحد أیضاً.

فالوحدة والتعدد تابع لکیفیة موضوع الحکم، فإن کان موضوع الحکم عبارة عن مجموع الأفراد کمرکب واحد فیکون المجعول واحداً، وإذا کان موضوع الحکم الأفرادُ کأفرادٍ (لا کأجزاء لمرکبٍ واحد) فیتعدد المجعول بتعدُّد الأفراد. إذن لا بُدَّ من فرض فَرقٍ بین موضوع الحکم فی العامّ الْمَجْمُوعِیّ وموضوع الحکم فی العامّ الاستغراقیّ فی المرحلة السَّابِقَة علی تعلّق الحکم. أی: یجب أن یکون هناک فارق ومائز بین هذا الموضوع وذاک الموضوع. فالموضوع الَّذی یتعلّق به الحکم فی العامّ الْمَجْمُوعِیّ یختلف عن الموضوع الَّذی یتعلّق به الحکم فی العامّ الاستغراقیّ

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی الفارق الَّذی ذکره المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ (ره) وکذلک المحقِّق الخُراسانیّ قبله، بین العامّ الْمَجْمُوعِیّ والعامّ الاستغراقیّ، حیث قال العَلَمَانِ بأن الفارق إنّما هو فی کیفیَّة تعلّق الحکم بالعامّ، وقلنا: ما هو المقصود من الحکم فی هذا الکلام (حینما تقولون إن الحکم إذا کان واحداً فالعامّ مجموعیّ، وإذا کان متعدّداً فالعامّ استغراقیّ)؟

إن قصدتم به الجعلَ فالجعلُ واحد فی کلا العامّین (الْمَجْمُوعِیّ والاستغراقیّ)؛ لأنَّ الخطاب الدَّالّ علی الجعل واحد، ولیس الجعل فی العامّ الاستغراقیّ متعدّداً، بل هو جعل واحد، فهذا لا یسبب فرقاً بین العامّین؛ إذ أن وحدة الجعل موجودة فیهما معاً، فإنّ کل خطاب لا یکشف إلاَّ عن جعل واحد.

وإن کان المقصود من الحکم المجعول (أی: الحکم الفعلیّ)، إذن فالعامّ مجموعیّ، وإذا کان الحکم الفعلیّ متعدّداً فالعامّ استغراقیّ. وحدة الحکم الفعلی تحوّل العامّ إلی عامّ مجموعیّ، وتعدُّد المجعول (أی: تعدّد الحکم الفعلی) تحوّل العامّ إلی عامّ استغراقیّ، فنحن نقول: متی فعلیّة الحکم فعلیّةً واحدة، ومتی تکون فعلیّةً متعدّدة؟ الجواب واضح، فإنّ فعلیّة الحکم تابعة لفعلیّة موضوعه کما تقدّم. والموضوع هو العامّ (العلماء). فإذا کان موضوع الحکم واحداً (أی: کانت هناک فعلیّة واحدة للعلماء وفعلیّة واحدة لموضوع الحکم) إذن فهناک فعلیّة واحدة لوجوب الإکرام، وإذا کان موضوع الحکم متعدداً أی: کان العلماء متعدّدین (أی: فعلیات عدیدة للموضوع)، فنکون قد رجعنا إلی العامّ نفسه (= العلماء)، إذا کان العلماء واحداً فعندنا موضوع واحد وفعلیّة واحدة، فیکون عندنا حکم واحد (أی: العامّ الْمَجْمُوعِیّ). وإذا کان العلماء متعددین، فعندنا فعلیّات عدیدة للموضوع، وبالتَّالی توجد لدینا فعلیّات عدیدة للحکم.

ص: 245

والعلماء یکون واحداً فیما إذا نظر المولی إلی «العلماء» بنظرة وحدویّة، أی: فرضهم أجزاءَ لمرکّب واحدٍ، أی: فرض مجموع العلماء کشخص واحدٍ، فالفرق فی العامّ نفسه (= العلماء) ولیس فی کیفیَّة تعلّق الحکم بالعامّ؛ لأَنَّنا افترضنا أن مقصودکم من الحکمِ المجعول، والمجعول (= فعلیّة الحکم) تابع للموضوع.

فإذا نظر المولی إلی العامّ (العلماء، وهو الموضوع) بنظرة وحدویّة (أی: قبل طروّ الحکم) وافترضهم مرکّباً واحداً، فباعتبار أن فعلیّة الموضوع واحدة ففعلیّة الحکم واحدة (أی: مجعول واحد)، تبعاً لوحدة موضوعه. أی: یتّحد المجعول فیما إذا اتّحد الموضوع والعامّ. فرجعنا مرّةً ثانیة إلی الموضوع وإلی العامّ. فالفرق بین الْمَجْمُوعِیّ والاستغراقیّ کامن فی العامّ نفسه قبل طروّ الحکم.

فکلام العلمین غیر صحیح، فهذه النَّظریّة الثَّانیة غیر تامَّة.

النَّظریّة الثَّالثة: وهی الصّحیحة والمُتَعَیَّنة عندنا وهی الَّتی تبنّاها سیدنا الأستاذ الشَّهید (ره) وحاصلها أن هذه الأقسام الثَّلاثة (أی: العموم الْبَدَلِیّ والعموم الاستغراقیّ والعموم الْمَجْمُوعِیّ) هی ثبوتاً متصوَّرة للعموم بما هی عموم، أی: الفارق بین هذه الأقسام الثَّلاثة کامنٌ فی العامّ نفسه، بغضّ النَّظَر عن طروّ شیء آخر علیه، وقبل طروّ شیء آخر علیه، وتقسیم العامّ إلی هذه الأقسام الثَّلاثة إنّما هو بلحاظ العامّ نفسه؛ فإن هذه الخُصُوصِیّات إنّما هی خُصُوصِیّات للاستیعاب نفسه؛ فإنّ الاستیعاب والشُّمول علی أقسام ثلاثة:

1). تارةً یکون الاستیعاب استیعاباً للأفراد علی نحو البدل، وهذا هو العامّ الْبَدَلِیّ.

2). وأخری یکون الاستیعاب استیعاباً للأفراد فی عَرضٍ واحدٍ.

3). والاستیعاب العَرضیّ ینقسم إلی قسمین، فتارةً یکون النَّظَر إلی هذه الأفراد نظراً وحدویّة، أی: کأنّ هناک مرکباً واحداً له أجزاء عدیدة، فیکون العامّ مجموعیّاً.

ص: 246

4). وأخری یکون النَّظَر إلی الأفراد نظراً تعدّدیّة، أی: النَّظَر إلی الأفراد بما هی مستقلّة، فیکون العامّ استغراقیّاً.

کیفیَّة التمییز بین هذه الأقسام: ونمیز هذه الأقسام الثَّلاثة بعضها من بعضٍ بأدوات العموم؛ فلطالما یُتصوَّر العموم والاستیعاب فی مقام الثبوت علی أقسام ثلاثة، فنحتاج فی مقام الإثبات إلی دالّ یدلّ علی کل واحدة من هذه الخُصُوصِیّات، والدّال عبارة عن أداة العموم.

وأمّا بحسب مقام الإثبات:

فهناک ألفاظ فی لغة العرب من الواضح أنَّها ظاهرة فی الدِّلالة علی العموم الاستغراقیّ، مثل کلمة «الکلّ» وکلمة «الجمیع» و«اللاّم» الداخلة علی الجمع (بناءًا علی أن الجمع المحلی باللام من أدوات العموم)، سواء کانت هذه الأدوات من الأسماء ککلمة «کل» أو کانت من الحروف مثل «اللام». وهناک بعض الأدوات یظهر منها العمومُ الْبَدَلِیّ: مثل کلمة «أیّ». وبعض أدوات العموم ظاهرة فی العموم الْمَجْمُوعِیّ مثل کلمة «المجموع».

هذا تمام الکلام فی الجهة الثَّانیة من جهات البحث، وهی عبارة عن البحث عن أقسام العموم.

الجهة الثَّالثة وهی البحث عن ألفاظ العموم وأدواته. ونقصد بالألفاظ والأدوات الأعمّ مِمَّا إذا کانت الأداة عبارة عن اللَّفظ، سواء کان اللَّفظ اسماً أو کان حرفاً، ومِمَّا إذا کانت الأداة عبارة عن هیئةٍ معینة کهیئة وقوع النَّکِرَة فی سیاق النَّفْی أو النَّهْی، أو هیئة الجمع المحلی باللام، بخلاف حرف اللام، علی ما یأتی إن شاء الله تعالی.

إن ألفاظ العموم وأدواته عدیدةٌ نتکلّم عن کل واحد منها تباعاً:

الأولی: لفظة «کل» وعندنا فی هذه اللفظة جهات من البحث:

الجهة الأولی: فی أصل دلالتها علی العموم والاستیعاب. فلا ینبغی الإشکال فی أن هذه اللفظة تدلّ علی العموم والاستیعاب، خلافاً لبعض قدماء الأصولیین ممن أثار الشَّکّ فی إفادتها العمومَ، سواء من العامة مثل السَّرْخَسِی والغزالی والآمدی والبصری، أو من الخاصّة مثل صاحب المرزا القمی وقبله صاحب المعالم وغیرهما، علی الرغم من وجود شکّ من هذا النوع عند العلماء الأصولیین فی إفادة مثل هذه اللفظة للعموم ولکن فی رأینا لا ینبغی الإشکال والتشکیک والشک فی إفادتها العموم.

ص: 247

بل قد هناک من صعد أکثر من الشَّکّ وذهب إلی أن هذه اللفظة حقیقةٌ فی الخصوص، فمثلاً یقول صاحب الفصول: «حجّة من جعلها حقیقةً فی الخصوص أمران:

الأوّل: أنّ إرادة الخصوص ولو فی ضمن العموم معلومة بخلاف العموم لاحتمال أن یکون المراد به الخصوص فقط، وجعل اللفظ حقیقة فی المعنی المتیقّن أولی من جعله حقیقة فی المشکوک أولی من جعله حقیقة فی المعنی المحتمل.

الثَّانِی: إنّه قد اشتهر التخصیص وشاع حتّی قیل: (ما من عام إلاّ وقد خصّ) إلحاقاً للقلیل بالعدم مبالغة، والظاهر یقتضی کون اللفظ حقیقة فی الأشهر الأغلب تقلیلاً للمجاز».

فکأنّه فی الدَّلِیل الأول یرید أن یُرجِّح وضعَ اللَّفظ للخصوص بمرجح هو أَنَّنَا علی یقین من أن الخصوص مرادٌ قطعاً، إما فی ضمن العموم أو هو المراد. فکأنّ کون الخصوص هو القَدْر المتیَقَّن المراد، مرجِّح.

کما أَنَّهُ یرید فی الدَّلِیل الثَّانِی أن یقول بأن اللَّفظ وُضع للخصوص وذلک تقلیلاً للمجاز؛ لأننا إذا قلنا بأن اللَّفظ وضع للخصوص لا یلزم منه محذور کثرةِ المجازات، بخلاف ما إذا قلنا إن اللَّفظ وضع للعموم فیلزم منه محذور کثرة المجازات. فالمرجح فی الدَّلِیل الثَّانِی عبارة عن تقلیل المجاز.

ویرد علی هذا الکلام ما أورد علیه الخُراسانیّ فی الکفایة من أَنَّهُ:

أوَّلاً: من الضّروری والبدیهی الَّذی لا یقبل الإنکار والشک هو أن هذه اللفظة «کل» وما یرادفها فی سائر اللغات (مثل کلمة «هر» فی اللُّغَة الفارسیة) لا من ألفاظ الخصوص ولا من الألفاظ المشترکة بین الخصوص والعموم. ومع وجود هذه الضَّرورة والبداهة الَّتی هی قائمة علی أنّ اللَّفظ وضع للعموم، مع القطع بذلک لا یُصغی إلی هذین الوجهین المذکورین فی کلام صاحب الفصول؛ لأَنَّ هذین الوجهین إنّما یصحّان لمن یشکّ، ونحن لا نشک بل نقطع بخلافه. مضافاً إلی أن الدَّلِیلَیْنِ علیلان وذلک کالتّالی:

ص: 248

أما الدَّلِیل الأوّل فهو لا یوجب اختصاص الوضع، فلو کنا علی یقین بأن الخصوص هو المراد، ولکن هذا لا یعنی أن اللَّفظ وُضع للخصوص، فهذا مجرّد استحسان ولا عبرة للوجوه الاستحسانیة الَّتی لا تفید أکثر من الظن، وهذا لیس دَلِیلاً علی الوضع. فکون هذا المعنی هو القَدْر المتیَقَّن المراد لیس دَلِیلاً علی الوضع. ونحن إنّما نتیقن بأن اللَّفظ أرید منه الخاصّ (والخاصّ مراد قطعاً) هل هو من أجل استعمال اللَّفظ فی الخصوص؟ لا، لأَنَّ الاستعمال أعمّ من الحقیقة؛ فَإِنَّ استعمال لفظٍ فی معنیً لا یدلّ علی أن اللَّفظ وضع لهذا المعنی؛ فقد قالوا قدیماً وقلنا إن الاستعمال أعمّ من الحقیقة. وإن کان هذا الیقین من باب أَنَّهُ بعض العامّ، فهذا أصبح دَلِیلاً ضدکم؛ لأَنَّ معنی ذلک أن اللَّفظ وُضع للعامّ، وباعتبار أن الخاصّ فی ضمن العامّ فنحن نتیقّن بأن الخاصّ مراد.

أما الدَّلِیل الثَّانِی (مسألة اشتهار التَّخصیص) فمردود؛ لأَنَّ اشتهار التّخصیص لا یوجب کثرة المجاز؛ لما سوف نعرفه من أن تخصیص العامّ لا یحوّل العامّ مجازاً، بل هو یهدم حجیة العامّ، ویبقی العامّ حقیقة فی العموم وظاهراً فی العموم، فهذا تعارض فی الحجیّة. (وإن کانت فکرة أنّ المُخَصِّص المنفصل یهدم ظهور العامّ، موجوداً من القدیم، ولکننا نقول بأن المخصص المنفصل یهدم حجیة العامّ فی العموم وفاقاً للمشهور بل السائد).

والخلاصة: أَنَّهُ لا أن اشتهار التخصیص یوجب کثرة المجاز ولا أن کثرة المجاز من المحاذیر؛ فإننا لا نخاف من کثرة المجاز. فالمجاز مع القرینة لا مشکلة فیه، وما أکثر المجازات الَّتی تستعمل مع القرینة.

هذا ما أفاده صاحب الکفایة (ره) وهو تامّ.

أقول: بالإضافة إلی کلّ هذا، لا معنی لهذا الکلام أساساً؛ فإنَّنا نتساءل ما هو الخصوص؟ فإن العموم له سقف واضح، وهو المائة مثلاً إن قیل «أکرم العلماء» وکان العلماء مائةً. أما الخصوص فما هو؟ هل هو التاسع والتسعون؟ أو هو الثامن والتسعون؟ أو هو الخمسون؟ أو هو الأربعون؟ فاللفظ وضع لأی منها؟ فإن العموم له تعیّن، ولکن الخصوص لیس له تعیّن ولیس له حدّ خاصّ، کی یمکن الالتزام بوضع اللَّفظ له، فله معانی عدیدة. فلفظ «کل» مشترک لَفْظِیّ (کلفظ «عین») فی لغة العرب، أحد معانیها «المائة» وأحد معانیها «تسعة وتسعون من العلماء» وأحد معانیها «ثمانیة وتسعون من العلماء» وهکذا..

ص: 249

والخلاصة: فإما أن تقولوا بأن لفظ «کل» وُضع لأحد هذه الأفراد، فهذا ترجیح بلا مرجِّح. وإن قیل إن اللَّفظ وضع لجمیعها بنحو الاشتراک اللَّفظیّ فهو خلاف الوجدان اللغویّ، حیث أن من الواضح فی اللُّغَة أن الکل لیست من الألفاظ المشترکة، ولم یذکر ذلک أحد من علماء اللُّغَة. بالإضافة إلی أن مرادفها فی اللغات الأخری لیست مشترکة. وإما أن تلتزموا بأَنَّهُ مشترک معنوی (أی: هناک جامع لهذه المعانی وقد وُضع اللَّفظ لذاک الجامع) فهذا أیضاً واضح البطلان، لأَنَّهُ لا جامع بین 1 و40 و50 و60.

علی کل حال، فنحن لا نشک فی أن «کلّ» تدلّ علی العموم والاستیعاب ولا نشک فی أنَّها موضوعة فی اللُّغَة للعموم والاستیعاب، ودلیلنا علی هذا المُدَّعی هو التّبادر عند أبناء اللُّغَة کما هو واضح.

هذا تمام الکلام فی الجهة الأولی، أی: أصل دلالة الکل علی العموم

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الجهة الثَّانیة من جهات البحث حول کلمة «کلّ». بعد أن فرغنا فی الجهة الأولی عن أصل دلالتها علی الاستیعاب والشمول، فهنا فی هذه الجهة الثَّانیة نرید أن نبحث عن أن هذه الکلمة الدَّالَّة علی الاستیعاب هل تدلّ علی استیعاب الأجزاء؟ أم تدلّ علی استیعاب الأفراد؟ أم تدلّ علی کلا النحوین من الاستیعاب؟

توضیح ذلک: أن الاستیعاب والعموم الَّذی تدلّ علیه کلمة «کلّ» علی قسمین:

القسم الأوّل: هو العموم والاستیعاب الأفرادیّ، أی: أن تکون کلمة «کلّ» مستوعِبة وشاملة لأفراد المفهوم الَّذی دخلت علیه. کما فی قولنا: «کلّ عالم»، «کلّ کتاب»، «کلّ آیة» و«کلّ سورة» وهکذا..

ص: 250

القسم الثَّانِی: العموم والاستیعاب الأجزائیّ، لا الأفرادی، أی: أن تکون کلمة «کلّ» دالَّة علی أجزاء مفهوم آخَرَ دخلت علیه کلمة «کلّ». کما فی قولنا: «قرأت کلَّ الکتاب» فإن «کلّ» هنا تدلّ علی استیعاب أجزاء الکتاب، أی: الصفحة الأولی والثانیة والثالثة ووسط الکتاب وآخِره.

فهذان نحوان من الاستیعاب الَّذی تدلّ علیهما کلمة «کلّ». ولا شکّ من وجود کل من النّحوین فی اللُّغَة وفی الاستعمالات اللُّغَوِیَّة. ولا یوجد هناک إحساس بِالتَّجَوُّزِ لا فی الأوّل ولا فی الثَّانِی. فلا یحس العربی بِالتَّجَوُّزِ عندما یقال: «کل کتاب» ویفهم منه استیعاب الأفراد، کما لا یحس بِالتَّجَوُّزِ عندما یقال: «کل الکتاب» ویفهم منه استیعاب الأجزاء. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه فیکشف عدمُ الإحساس بالتَّجَوُّز فی المقامین عن أن کلمة «کلّ» لم توضع لخصوص الاستیعاب الأفرادی (القسم الأوّل) دون الثَّانِی، ولا العکس (أی: لم توضع لخصوص الاستیعاب الأَجْزَائِیّ دون الأفرادی).

والمُهِمّ أنّ کلمة «کلّ» وضعت لاستیعاب مدخولها، ولمّا کان مدخولها عبارة عن الطَّبیعة (العالم: طبیعی العالم) وکلمة «کلّ» وضعت لاستیعاب تمام الطَّبیعة وتمام المدخول، ومعنی استیعاب الطَّبیعة أن الطبع الأوّلیّ لکلمة «کلّ» أن تکون کلمة «کلّ» دالَّة علی الاستیعاب الأَجْزَائِیّ (دون الأفرادی)؛ لأَنَّ الطَّبیعة عبارة عن العناصر والأجزاء المکوِّنة للطبیعة؛ فإِنَّ الطَّبیعة واجدة ذاتاً لأجزائها، وهذا بخلاف الأفراد؛ إذ الطَّبیعة لیست واجدة ذاتاً لأفرادها وإن کانت تُری أفرادها وتنطبق علی أفرادها، وأفرادها مصادیق لها، ووجدانها لأفرادها بحاجة إلی نظر، وهذا بخلاف أجزائها، فإن أجزاءها مقومات لها. ولکن من دون الأفراد تکون الطَّبیعة قائمة بذاتها، فهناک بعض أنواع الطبیعی له فرد واحد، کما أن هناک بعض أنواع الطبیعی لیس له أفراد.

فإذا کان المدخول هو الطَّبیعة، إذن مقتضی الطبع الأوّلی فی کلمة «کلّ» هو أن تکون دالَّة علی استیعاب أجزاء الطَّبیعة. فإذا أرید صرف هذا الاستیعاب إلی الاستیعاب الأفرادی فهذا یحتاج إلی قرینة، وإلا فلو بقینا نحن ومقتضی الطبع الأولی لکلمة «کلّ»، فالمفروض أن تدلّ علی استیعاب أجزاء المدخول.

ص: 251

ومما یؤید ذلک ما یقابل کلمة «کلّ»، وهی کلمة «بعض»؛ فَإِنَّ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ کلمة «بعض» واضحة فی التبعیض الأَجْزَائِیّ، کما فی «بعض عالم»، أی: بعض أجزاء العالم، ولیس البعض هنا بلحاظ الأفراد. وهذا یؤید أن ما یقابل کلمة «کلّ» وهو کلمة «بعض» تدلّ علی تجزئة الأجزاء، بینما کلمة «کلّ» تدلّ علی استیعاب الأجزاء.

إذن، هذا هو الأصل الأولی لکلمة «کلّ»، ولکن هذا الَّذی قلناه لا یعنی أَنَّنَا نرید أن نقول إن کلمة «کلّ» موضوعة فی اللُّغَة لخصوص الاستیعاب الأَجْزَائِیّ، فإنَّ کلمة «کُلّ» کما قلنا قبل قلیل موضوعة فی اللُّغَة لاستیعاب مفهوم آخر، لا لخصوص الاستیعاب الأَجْزَائِیّ، أمّا خُصُوصِیَّة کون الاستیعاب استیعاباً بلحاظ الأجزاء (= أَجْزَائِیّاً) لیست مستفادة من الوضع (بأن تکون کلمة «کُلّ» موضوعةً للاستیعاب الأَجْزَائِیّ) مستفادة من مدخول «کلّ» نفسه، باعتبار أن مدخول «کلّ» عبارة عن الطَّبیعة، والطبیعة ذاتاً واجدة لأجزائها ولیست واجدة لشیء آخر غیر أجزائها، فهذه الْخُصُوصِیَّة مستفادة من نفس المدخول بهذه النُّکتة، أمّا خُصُوصِیَّة کون الاستیعاب استیعاباً أَفْرَادِیّاً فهذا یحتاج إلی القرینة.

ومن هنا فإن کلمة «کُلّ» موضوعة لذات الاستیعاب، لکن استیعاب المدخول، أمّا خُصُوصِیَّة کون الاستیعاب استیعاباً للأجزاء فهذا ما نستفیده من المدخول نفسه، باعتبار أن المدخول طبیعة والطبیعة تدلّ علی أجزائها. هذا هو مقتضی الطبع الأوّلی لکلمة «کُلّ».

إلاَّ أن هناک ظاهرة واضحة وملحوظة فی اللُّغَة فی موارد استعمال کلمة «کلّ» لا یمکن إنکارها وهی أن هذه الکلمة «کلّ» إذا دخلت علی المعرفة أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ، وإذا دخلت علی النَّکِرَة أفادت الاستیعاب الأفرادی.

فلو قلنا: «قرأت کل الکتاب» أو «حفظت کل القرآن» فهذا استیعاب أجزائی. أما إذا دخلت علی النَّکِرَة «اقرأ کل کتاب نحو» فیدل علی الاستیعاب الأفرادی.

ص: 252

وهذا الظهور مِمَّا لا إشکال فیه، إنّما الکلام فی تخریج هذه الظاهرة، مع أَنَّنَا قلنا إن کلمة «کلّ» لم توضع لخصوص الاستیعاب الأَجْزَائِیّ کما لم توضع لخصوص الاستیعاب الأفرادی، وإنَّما وضعت لاستیعاب الطَّبیعة، والطَّبیعة لا تختلف من معرفةٍ إلی نکرة، فکلاهما طبیعة، فلماذا حینما تدخل کلمة «کلّ» علی النَّکِرَة (= کلّ عالم) أفادت الاستیعاب الأفرادی، وإذا دخلت علی المعرفة (= کل العالم) أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ؟ فما هو السر فی ذلک؟!

أفاد المُحَقِّق الْعِرَاقِیّ رحمه الله فی المقام وذکر تفسیرا عُرْفِیّاً لهذه الظاهرة وظاهر هذا التفسیر، حیث قال: إن الأصل فی اللام أن تکون للعهد فهذا هو المرتکز من اللام فی الأذهان، فإذا قیل مثلاً: «قرأت کل الکتاب»، فیتبادر إلی الذِّهْن کتابٌ معهود، والعهد هو التّشخُّص والفردیّة، أی: فرد من الکتاب. فبما أن اللام للعهد والعهد یعنی التشخص المساوق للفردیة، إذن لا یمکن الاستیعاب الأفرادی، فیتعیَّن الحمل علی الاستیعاب الأَجْزَائِیّ. وهذا هو السرّ.

أما إذا لم توجد اللام فی مدخول «کلّ»، وقال: «اقرأ کل کتاب» فهنا المانع الَّذی کان یمنع فی الفرض الأوّل عن الاستیعاب الأفرادی عبارة عن اللام، وهذا المانع غیر موجود هنا، فلا مانع من توجه الاستیعاب إلی الأفراد. أی: یرید الْعِرَاقِیّ أن یُخَرِّجَ هذه الظاهرة الملحوظة من خلال اللام.

فالحاصل: أن الحمل علی الاستیعاب الأَجْزَائِیّ إنّما یَتُمّ فی موارد دخول «کلّ» علی المعرفة بموجب هذه القرینة العامّة (وهی لام العهد)، وإذا لم تکن هذه القرینة موجودة کموارد النَّکِرَة فیکون الکلام دالاًّ علی الاستیعاب الأفرادی(1) .

ظاهر هذا الکلام وهو أن الاستیعاب الأفرادی هو الأصل فی کلمة «کلّ»، ولذا قال: تکون الکلمة ظاهرة فی الاستیعاب الأفرادیّ عند عدم وجود اللام فی المدخول، وإنَّما یصرف الکلام إلی الاستیعاب الأَجْزَائِیّ بسبب وجود اللام فی موارد المعرفة، واللاّم هی المانعة عن الاستیعاب الأفرادی.

ص: 253


1- (1) - مقالات الأصول: ج1، 146-147

وحینئِذٍ یرد علیه: من أَنَّ هذه الظاهرة الَّتی نحن بصدد تخریجها وتفسیرها لا تدور مدار وجود اللام، بل تدور هذه الظاهرة مدار المعرفة والنّکرة، وهذا أعمّ من وجود اللام وعدم وجود اللام؛ فقد لا یکون مدخول «کلّ» ذا لامٍ، ومع ذلک معرفة، بأن یکون مدخول «کلّ» مضافاً، مثل: «اقرأ کلَّ کتابِ زیدٍ»، فهنا أیضاً نلاحظ أَنَّهُ نستفید منه الاستیعاب الأَجْزَائِیّ، مع أَنَّهُ لا توجد لام فی البین.

أی: الملحوظ فی موارد استعمال کلمة «کلّ» هو أن هذه الکلمة کلما دخلت علی المعرفة - سواء کانت المعرفة معرفةً باللام أو معرفة بالإضافة - أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ، حتّی وإن لم یکن المدخول محلی باللام. فلو کانت عهدیّةُ اللاَّم هی المانعة عن الاستیعاب الأفرادی، إذن لاختصت إفادة الاستیعاب الأَجْزَائِیّ بالمعرَّف باللام، أمّا المعرَّف بالإضافة فالمفروض أن تفید الاستیعاب الأفرادی، بینما نحن نری أَنَّهُ حتّی فی المعرف بالإضافة نستفید الاستیعاب الأَجْزَائِیّ. فالمعنی الَّذی ذکره الْعِرَاقِیّ رحمه الله غیر موجود، فعهدیّةُ اللاَّم لا تصلح لتخریج وتفسیر هذه الظاهرة.

طبعاً هذا إذا کان مقصوده من العهدیّةِ ما هو الظَّاهِر من العهدیَّةِ، فإن الظَّاهِر منها هو الشَّیْء المشخص والمشار إلیه، فهذه الْعَهْدِیَّة تتنافی مع الاستیعاب الأفرادی (کما قلنا)، وتتنافی مع تعدّد الأفراد، لأَنَّ هذه الْعَهْدِیَّة تساوق الفردیة.

أما إذا کان مقصوده رحمه الله من الْعَهْدِیَّة معنی آخر وإن کان هذا خلاف الظَّاهِر، وهو أن یکون المقصود منها مطلق التّعیّن (ولیس إشارة إلی فرد مُعَیَّن)، أی: مطلق المعرفة، وکان اللام من باب المثال، فهو محفوظ فی جمیع موارد المعرفة، سواء المعرف باللام أو المعرف بالإضافة. فالْعَهْدِیَّةُ بهذا المعنی لا تتنافی مع الاستیعاب الأفرادی؛ لأَنَّ الَّذی یتنافی مع الاستیعاب الأفرادی (کما قلنا) إنّما هو الْعَهْدِیَّة بالمعنی الأوّل، أی: الإشارة إلی فردٍ خاصّ. وهذا إنّما هو موجود فی لام العهد بالخصوص، فلام العهد هی المنافیة للاستیعاب الأفرادی بالخصوص؛ لأَنَّ لام العهد دالَّة علی الفرد المعهود، وأمّا غیر موارد لام العهد مثل لام الجنس، فَإِنَّهَا معرفة ولکنها حیث لا تدلّ علی العهد فلا تدلّ علی الاستیعاب الأفرادی.

ص: 254

فهذا التخریج الَّذی ذکره الْعِرَاقِیّ رحمه الله غیر تامّ. یبقی أن نری ما هو التعلیل الصَّحِیح لهذه الظاهرة وهذا ما یأتی إن شاء الله غداً

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی تخریج هذه الظاهرة الملحوظة الَّتی ذکرناها بالأَمْسِ وهی أن کلمة «کلّ» إذا دخلت علی المعرفة أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ وإذا دخلت علی النَّکِرَة أفادت الاستیعاب الأفرادی، فما هو تفسیرها؟

قلنا إن الْعِرَاقِیّ رحمه الله ذکر تفسیراً عُرْفِیّاً لهذه الظَّاهِرَة، لکِنَّنَا لاحظنا أنّ هذا التَّفْسِیر قابل للمناقشة کما تقدّم بالأَمْسِ، فلا بُدَّ من تفسیر وتخریج آخر لهذه الظَّاهِرَة.

الصَّحِیح فی مقام تخریج هذه الظَّاهِرَة هو أن یقال إنَّ مقتضی الأصل والطبع الأولی فی کلمة «کلّ» (کما تقدّم سابقاً) هو الاستیعاب الأَجْزَائِیّ، أی: استیعاب أجزاء المفهوم الآخر الَّذی دخلت علیه کلمة «کلّ»، سواء کان مدخولها مُفْرداً کقولنا: «أکرم کُلَّ عالم» و«اقرأ کُلَّ کتابٍ» أو کان مثنی أو جمعاً (کما سوف نوضّح)، وهذا المفهوم الآخر إنّما یکون طبیعةً ومفهوماً بأجزائها الذَّاتیَّة (أی: الطَّبیعة واجدةٌ لأجزائها بالذّات، وطبیعةٌ بأجزائها وبعناصرها المقوِّمة لها).

فالاستیعاب الأَجْزَائِیّ الَّذی نفهمه فی موارد دخول کلمة «کلّ» علی المعرفة أمرٌ علی القاعدة ولا یحتاج إلی تخریج، فعندما یقول: «اقرأ کلَّ الکتاب» «صمتُ کلَّ النهار» فَتَدُلُّ کلمة «کُلٍّ» علی استیعاب مفهومِ الکلمة الَّتی دخلت علیه کلمة «کُلٍّ» وهو مفهوم الکتاب، ومفهوم الکتاب واجد لأجزائه؛ فَإِنَّ الکتاب بأجزائه یکون کتاباً، وکذلک الصیام.

وإنَّما الَّذی یحتاج إلی التَّفْسِیر والتخریج هو استفادة الاستیعاب الأفرادی فی موارد دخول الکل علی النَّکِرَة. أی: لماذا نفهم الاستیعاب الأَفْرَادِیّ عندما یقال: «أکرم کل عالم» أو «اقرأ کل الکتاب» ولا نفهم الاستیعاب الأَجْزَائِیّ؟ أی: ما یحتاج إلی القرینة وَالتَّفْسِیر وَالتَّخْرِیج هو صرف الاستیعاب إلی الأفراد، وحینئِذٍ نقول فی مقام تخریج دلالة کلمة «کُلٍّ» علی الاستیعاب الأَفْرَادِیّ عند دخولها علی النَّکِرَة: إِنَّنّا لو حذفنا أداةَ العموم (وهی کلمة «کلّ») ولم نقل: «قرأت کلَّ سورة» بل قلنا «قرأت سورةً»، فسوف نفهم الإطلاق الْبَدَلِیّ من کلمة «سورةً»، باعتبار أنَّها نکرة وَمُنَوَّنَة بتنوین التَّنْکِیر، ومعنی الإطلاق الْبَدَلِیّ هو أن هناک ملاحظة للأفراد، أی: الْمُتِکَلِّم لاحظ الأفرادَ وأشار إلیها ولٰکِنَّهُ أرادَ أحدها علی سبیل البدل. هذا فیما إذا لم تأت کلمة «کلّ».

ص: 255

أما إذا دخلت کلمة «کُلٍّ» (وهی موضوعة لغةً للاستیعاب) فی هذا الجو الَّذی کان وَاضِحاً فیه أن النَّظَر إلی الأفراد (لکن أحدها علی سبیل البدل)، أفادت استیعاب الأفراد لا علی سبیل البدل. فالمقصود أن الأفراد استفدناها قبل دخول کلمة «کلّ» (أی: عند حذف کلمة «کلّ» کُنَّا نفهم أن النَّظَر إلی الأفراد)؛ بدلیل أَنَّنَا کُنَّا نفهم الإطلاق الْبَدَلِیّ. والإطلاق الْبَدَلِیّ معناه أن المطلوب هو أحد الأفراد.

وعلیه فإنَّ الأفراد هی الملحوظة ولیست الأجزاء، ولکن عندنا تأتی کلمة «کلّ» وهی موضوعة فی اللُّغَة للاستیعاب فسوف تدلّ علی استیعاب الأفراد، دون الأجزاء.

وهذا هو سرّ استفادة الاستیعاب الأفرادی عند دخول کلمة «کلّ» علی النَّکِرَة.

وبعبارة أخری: التَّکَثُّر الملحوظ الَّذی یراد إفادة الاستیعاب بلحاظه (ببرکة أداة العموم وببرکة الکلّ) إنّما هو الأفراد، لا الأجزاء، فقد استفدنا هذا التَّکَثُّر بغض النَّظَر عن کلمة «کلّ»، حیث کُنَّا نفهم الإطلاق الْبَدَلِیّ هناک، فبعد أن حضرت کلمة «کُلٍّ» الموضوعة للاستیعاب، فَتَدُلُّ علی استیعاب هذا التَّکَثُّر استیعاباً أَجْزَائِیّاً.

إذن، فاستیعاب الأفراد ملازم دائماً لهذه النُّکتة، وهی أَنَّهُ لولا أداة العموم (= کلمة «کلّ») لکان الإطلاق بَدَلِیّاً، أی: لکان المفهوم المدخول لکلمة «کلّ» شاملاً للأفراد علی نحو الشمول الْبَدَلِیّ. وحیث أن الأداة دخلت علی المفهوم، وهی موضوعة للعموم، فکما تصلح الأداةُ للاستیعاب الأفرادی تصلح للاستیعاب الأَجْزَائِیّ؛ إذن تدلّ هنا علی الاستیعاب الأَفْرَادِیّ.

فحاصل ما نرید أن نقوله فی المقام هو أن الَّذی یظهر من ملاحظة الظهورات هو أن کلمة «کُلٍّ» دائماً تکون معاندة لِبَدَلِیَّة مدخولها. فکُلَّما کان مدخول کلمة «کُلٍّ» بَدَلِیّاً (فیما إذا کان المدخول نکرةً)، تقضی کلمة «کُلٍّ» علیها وتستخلفها باستیعاب أَفْرَادِیّ وتفید بأنَّ الْمُتِکَلِّم لاحظ الأفراد علی سبیل الاستیعاب الأفرادی.

ص: 256

أما إذا کان مدخول کلمة «کلّ» معرفةً، فکلمة «کلّ» تدلّ علی الاستیعاب الأَجْزَائِیّ؛ لأَنَّ المعرفة فی نفسها لا تقتضی الْبَدَلِیَّة بخلاف النَّکِرَة، وإنَّما المعرفة (کأی مفهوم آخر) تدلّ علی أجزاء نفسها بمقتضی طبعها الأولی وإطلاقها الأولی. فاستفادة الاستیعاب الأَجْزَائِیّ فی المعرفة أمر ثابت علی القاعدة.

ولا یرد النقض علی ما ذکرناه بالآیة الشریفة «کل الطّعام کان حِلاً لبنی إسرائیل» بدعوی أن کلمة «کلّ» فی هذه الآیة المبارکة تدلّ علی الاستیعاب الأَفْرَادِیّ (أی: کل أفراد الطّعام)، رغم أن الطّعام هنا معرفة تدلّ علی الاستیعاب الأفرادی، بینما قلتم بأنَّ ال_«کُلَّ» إذا دخلت علی المعرفة أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ.

هذا النقض غیر وارد؛ لأَنَّ مفهوم الطّعام سِنخ مفهومٍ یمکن عَدُّ أفراده أجزاءً له، بخلاف مفهوم الإنسان؛ فإن مفهوم الإنسان لا یمکن عَدّ أفراده أجزاءً له؛ ولذا فی مقام الاستیعاب الأَفْرَادِیّ لا یصحّ أن یقال: «کل الإنسان حیوان ناطق» ویُقصد به استیعاب الأفراد، بینما یصحّ القول: «کلّ إنسان حیوان ناطق»؛ لأَنَّ أفراد الإنسان لا یمکن عَدُّها أجزاءً للإنسان، بخلاف مثل مفهوم الطّعام أو مفهوم الماء؛ إذ یمکن عد أفراده أجزاءً له.

فالاستیعاب الأفرادی فی هذه الآیة (کما قلنا) فی الواقع استیعابٌ أجزائی ومطابق للقاعدة، فلم نخرج من القاعدة الَّتی أسسناها وهی أن کلمة «کلّ» إذا دخلت علی المعرفة أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ، لکن یمکن عَدّ أفراد الطّعام فی هذه الآیة أجزاء للطعام. مثل الماء، فإنَّ من الممکن أن یکون أفراد الماء أجزاء له، فَیَصِحُّ أن نقول: «کل الماء یحلّ شربه». فالاستیعاب فی هذه الآیة لیس أمراً شَاذّاً، ولیس أمراً یمکن أن ینقض به علی ما قلناه.

ومما ذکرناه یَتَّضِح حال ما إذا دخلت کلمة «کلّ» علی الجمع، مثل «قرأت کل الکتب» أو ما هو بحکم الجمع مثل اسم الجمع ک_«النَّاس» و«القوم» فی «رأیت کل النَّاس» أو «رأیت کُلَّ القوم». فهنا العموم والاستیعاب الَّذی نفهمه من أمثال هذه الجمل له وجهان وتخریجان تَامَّانِ:

ص: 257

الأوّل: أن یکون العموم عموماً أَجْزَائِیّاً. فیمکن أن نفهم من جملة «قرأت کلَّ الکتب» استیعاباً أَجْزَائِیّاً (أی: أجزاء تلک الکتب). فکلمة «کُلٍّ» تستوعب جمیع أجزاء مدخولها، ومدخولها هو الجمع، وأجزاء الجمع بما هو جمع أفراده. فیمکن اعتبار کل واحد من آحاد الجمع جزءاً من أجزاء الجمع. فیمکن اعتبار الاستیعاب استیعاباً أَجْزَائِیّاً فیما إذا دخلت کلمة «کُلٍّ» علی الجمع. وهذا ممکن وصحیح.

کما یمکن أیضاً أن یکون الاستیعاب استیعاباً أَفْرَادِیّاً، أی: استوعبت کلمة «کلّ» تمامَ أفراد المدخول هنا؛ لأَنَّ المدخول عبارة عن الجمع (=الکتب) وأفراد الکتب عبارة عن کل واحدٍ واحدٍ من الکتب. فکلاهما ممکن فی حق الجمع (أی: إذا دخلت کلمة «کُلٍّ» علی الجمع یمکن أن نقول: إن الاستیعاب أجزائی - لأَنَّ کل کتاب جزء من الجمع -، کما یمکن أن نقول: إن الاستیعاب أفرادی- لأَنَّ کل کتاب هو فرد من أفراد الکتب-).

لکن لا یبعد عندی أن یکون الأظهر فیه هو الأوّل (= الاستیعاب الأَجْزَائِیّ)، کما هو الحال فی دخول کلمة «کُلٍّ» علی اسم العدد المعرَّف، مثل «العَشَرَة»، فی قولنا: «کُلّ العشرة»؛ فَإِنَّ الاستیعاب الَّذی نفهمه من کلمة «کُلٍّ» فی «کُلّ العشرة» استیعابٌ أجزائی (أی: استیعاب ناظر إلی أجزاء العشرة)، و«أجزاء العشرة» تعنی «آحاد العشرة» (= کل واحد من أجزاء العشرة هی آحاد العشرة)، والعشرة مرکبة من عشرة أجزاء. أما أفراد العشرة فهی العشرات العدیدة الَّتی یکون کل واحدة منها فرداً من أفراد العشرة (أفرادها مثلاً عشرة أشخاص، وعشرة تفاحات، وعشرة کتب وهکذا..)(1) . فإن الآحاد المنضویة تحت کل عددٍ أجزاء له ولیس أفرادا له؛ فَإِنَّ الأعداد المنضویة تحت عدد «الخمسة» لیست مصادیق وأفراد للخمسة وإنَّما هی أجزاء للخمسة.

ص: 258


1- (1) - لا ننسی أن الکلام هنا حول «العشرة» الَّتی هی اسم العدد، أی: العشرة فی مقابل أحد عشر واثنا عشر و..، أما «العشرة» الجنس فهی الَّتی تحتوی تحتها أفراد العشرة، کما لا نتحدث فی المقام عن أفراد «العشرة» الجمع، ولا عن «العشرات» الجمع (هذا ما أفاده الأستاذ - حفظه الله - جواباً عن أسئلة عدّة من التلامیذ).

فالاستیعاب إنّما هو استیعاب بالنظر إلی کل واحد واحدٍ من آحاد العشرة، فی قبال قولنا: «رأیتُ کل العشرة إلاَّ واحداً منهم» فنکون قد استثنینا جزءاً من مفهوم العشرة، أی: التسعة.

فالحاصل: أَنَّنَا نرید أن نقول فلیکن اسم الجمع أو الجمع مثل اسم العدد المعرَّف، أی: الاستیعاب الموجود فی الجمع مثل الاستیعاب الموجود فی اسم العدد، فإذا دخلت کلمة «کلّ» علی الجمع أفادت نفس الاستیعاب الَّذی تفیده هذه الکلمة إذا دخلت علی اسم العدد المعرَّف.

فالاستیعاب فی «کل الکتب» ناظر إلی الأجزاء أیضاً، أی: أجزاء الکتب بما هی کتب عبارة عن هذا الکتاب وذاک الکتاب و..؛ لأَنَّ الکتب جمع وأجزاء الکتب عبارة عمَّا یترکّب منه الجمع. فیفید الاستیعاب الأَجْزَائِیّ.

هذا تمام الکلام بالنسبة إلی دخول «کُلّ» علی المعرفة وعلی النَّکِرَة، وعلی الجمع.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا إن کلمة «کُلّ» إذا دخلت علی النَّکِرَة أفادت الاستیعاب الأفرادی وذکرنا النُّکْتَة وَالتَّفْسِیر لهذه الإفادة، وإذا دخلت علی المعرفة أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ علی القاعدة؛ لأَنَّ مدخولها عبارة عن المفهوم الَّذی هو عبارة عن الطَّبیعة، والطبیعة تَتِمّ بأجزائها، فکلمة «کُلّ» تدلّ علی استیعاب أجزاء هذه الطَّبیعة.

هذا واضح فیما إذا کان مدخول المعرفة مفرداً، من قبیل «کلّ الکتاب» «کلّ الدرس» «کلّ الیوم»، وأمّا إذا کان مدخول المعرفة جمعاً، من قبیل «کلّ الکتب» أو دخلت علی ما هو بحکم الجمع من قبیل اسم الجمع مثل «کلّ القوم» و«کلّ النَّاس»، فهل تفید الاستیعاب الأَجْزَائِیّ أو الاستیعاب الأفرادی؟ هنا قلنا: إن الاستیعاب و العموم الَّذی نفهمه من أمثال هذه الجملة یمکن تخریجه بکلا النحوین:

ص: 259

یمکن أن یکون استیعاباً أَجْزَائِیّاً، بمعنی أن تکون «کُلّ» مستوعبة لتمام أجزاء هذا المدخول، والمدخولُ هو الجمع، بحیث یکون کل واحد من وحدات الجمع (کل کتاب من الکتب أو کل واحد من القوم) جزءاً لهذا الجمع المدخول، وتکون کلمة «کُلّ» دالَّة علی استیعاب هذه الأجزاء.

ویمکن أیضاً أن یکون استیعاباً أَفْرَادِیّاً، بمعنی أن تکون «کُلّ» مستوعبة لتمام أفراد المدخول، بحیث یکون کل واحد من وحدات الجمع (کل کتاب من الکتب أو کل واحد من القوم) فرداً لهذا الجمع المدخول (أی: أن یکون «کُلّ» جمعاً مُرَکَّباً من أجزاء)، وحینئِذٍ تدلّ کلمة «کُلّ» علی الاستیعاب الأَجْزَائِیّ. وإذا اعتبرنا کل واحد من وحدات الجمع فرداً للجمع، أی: لم نعتبر الجمع کُلاًّ مُرَکَّباً من أجزاء، فحینئذٍ یکون الاستیعاب أَفْرَادِیّاً.

فکلا التخریجین ممکن إلاَّ أَنَّنَا قلنا بالأَمْسِ أن الأظهر (فی موارد دخول «کُلّ» علی الجمع) هو الأوّل، أی: أن یکون الاستیعاب أَجْزَائِیّاً لا أَفْرَادِیّاً.

وکذلک الأمر فی موارد دخول کلمة «کُلّ» علی اسم العدد المعرَّف، من قبیل «العشرة» و«الخمسة» و«الأربعة» وأی اسم من أسماء الأعداد فیما إذا کان معرَّفاً ودخلت علیها «کُلّ» (أی: «کُلُّ العشرة»)، فالاستیعاب المستَفادُ من کلمة «کُلّ» فی مثل هذه الموارد إنّما هو استیعاب أجزائی (أی: استیعاب ناظر إلی أجزاء العشرة)، وأجزاء العشرة هی آحاد العشرة. إذن، هو استیعاب بِالنَّظَرِ إلی کل واحدٍ واحد من آحاد العشرة. فقولنا مثلاً: «کل العشرة» فی قِبَال قولنا «کل العشرة إلاَّ واحداً منها». أی: إلاَّ واحداً من آحاد العشرة، فنکون قد استثنینا أحداً من آحاد العشرة، الآحاد الَّتی هی أجزاء للعشرة. وآحادها إنّما هی أجزاؤها، فنکون قد استثنینا جزءاً من أجزاء تلک العشرة. فإذا لم یکن یوجد هناک استثناء (حیث أن الاستثناء یقابل الکلّ) فکلمة «کُلّ» تفید استیعاب هذه الأجزاء، ولیس النَّظَر هنا إلی استیعاب أجزاء کل واحد من آحاد العشرة وإنَّما النَّظَر إلی استیعاب آحاد العشرة الَّتی هی أجزاء للعشرة.

ص: 260

فإن قلتم: إن کلمة «کُلّ» إذا دخلت علی اسم العدد المعرَّف من قبیل «کل العشرة» تفید الاسْتِیعَاب الأفرادی لا الأَجْزَائِیّ؛ بدلیل أَنَّهُ لو استثنینا الجزءَ فیکون هذا الاستثناء غیر صحیح، فلو قال: «کل العشرة إلاَّ هذا الجزء من الکتاب» فإنَّ هذا الاستثناء غیر صحیح ومستهجن، بخلاف ما إذا استثنینا فرداً من العشرة وقلنا: «کل العشرة إلاَّ واحداً» فهذا الاستثناء لیس مستهجناً، فهذا یکشف عن أن الاستیعاب استیعاب أفرادی ولذا یصحّ أن نستثنی فرداً، ولیس أَجْزَائِیّاً ولذا لا یصحّ أن نستثنی جزءاً.

قلنا: إن الاستیعاب - کما قلنا - أجزائی ولیس أَفْرَادِیّاً، وإنَّ کلمة «کُلّ» تدلّ علی استیعاب تمام العشرة، لکن أجزاء العشرة لیست إلاَّ آحادها، ولیست أجزاء لآحادها. أی: المفروض أن کلمة «کُلّ» داخلة علی العشرة بما هی عشرة، والعشرة إنّما تکون عشرة فیما إذا کانت واجدة لأجزائها. فکلمة «کُلّ» تدلّ علی استیعاب هذه الأجزاء، أی: استیعاب هذه الآحاد، ومن هنا یصحّ أن نستثنی أحد هذه الآحاد، أو اثنین من آحادها.

فحاصله ما نرید قوله هو أَنَّهُ کما أن الحال فی اسم العدد المعرَّف المدخول لکلمة «کُلّ» یکون الاستیعاب الْمُسْتَفَاد منها استیعاباً أَجْزَائِیّاً، فلیکن الجمع واسم الجمع مثل اسم العدد أیضاً، فإذا دخلت کلمة «کُلّ» علی الجمع أو علی اسم الجمع یکون الاستیعاب استیعاباً أَجْزَائِیّاً وَنَاظِراً إلی أجزاء المدخول؛ لأَنَّ المدخول هو الجمع، والجمع بما هو جمع بأجزائه، وأجزاؤه عبارة عن آحاده. فأجزاء الکتب (فی الجمع بما هو جمع) آحاد الکتب، یعنی: هذا الکتاب وذاک الکتاب وذلک الکتاب. فهذه أجزاء الکتب ولیست آحاد للکتب، ولذلک یصحّ أن نستثنی أحد هذه الأجزاء ونقول: قرأت کل الکتب إلاَّ هذا الکتاب، ولا یصحّ أن نستثنی جزءاً من أحد هذه الکتب ونقول: «قرأت کل الکتب إلاَّ هذا الجزء من هذا الکتاب» فهذا استثناء غیر عُرْفِیّ ومستهجن وغیر مقبول.

ص: 261

فیقال کما قلنا فی اسم العدد، یقال بأن الاستیعاب هنا استیعاب أجزائی، والأجزاء عبارة عن الآحاد.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ کلمة «کُلّ» إذا دخلت علی المفرد المعرَّف أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ علی القاعدة (لأَنَّنَا قلنا: إن «کُلّ» تدلّ علی استیعاب مفهوم مدخولها، ومفهوم مدخولها هنا الطَّبیعة، فإن الکتاب یعنی طبیعة الکتاب، وطبیعة الکتاب إنّما هی بأجزائها کالغلاف والأوراق)، وإذا دخلت علی الجمع أو اسم الجمع أمکن کلا النحوین من الاستیعاب (أی: یمکن الاستیعاب الأَجْزَائِیّ بأن نعتبر الجمعَ کُلاًّ مُرَکَّباً من أجزاء، وکل واحد من وحداته جزء له، کما یمکن أن یکون الاستیعاب أَفْرَادِیّاً إذا لم نعبر الجمع کلاًّ مُرَکَّباً من أجزاء)، لکن قلنا: إنّ الأظهر هو الأوّل؛ لأَنَّ أجزاء الجمع هی آحادها (= أجزاء الکتب آحَاد الکتب، وأجزاء القوم آحاد القوم)، کما هو الحال فی اسم العدد ک_«العشرة» و«الخمسة». هذا بالنسبة إلی المفرد والجمع واسم الجمع واسم العدد المعرَّف.

أما إذا دخلت «کُلّ» علی المثنی، کقولنا: «قرأت کل الکتابین» أو «کتبتُ کلَّ الدرسین»، أو «طالعتُ کُلَّ المجلدین» وهکذا.. فنرید أن نقول: إن الاستیعاب هنا أجزائی أیضاً (أی: بِالنَّظَرِ إلی أجزاء کل واحد من الکتابین)، ولا یمکن فیه الاستیعاب الأَفْرَادِیّ؛ لأَنَّ المدخول هنا تثنیة، والاثنان الَّذی هو المدخول لا یناسب التَّکَثُّر و الاسْتِیعَاب الأَفْرَادِیّ، ف_«عدم صلاحیة وعدم مناسبة المدخول هنا لِلتَّکَثُّر والاستیعاب الأَفْرَادِیّ» بنفسه تکون قرینة علی أن النَّظَر إلی أجزاء کل من الکتابین، أی: قولنا «قرأت کل الکتابین» لیس فی قِبَال قولنا: «قرأت الکتابین إلاَّ واحداً منهما»، فمَن أراد أن یُفهِم ذاک المعنی یقول: «قرأتُ واحداً منهما»، فإنَّنی لا أری الاستثناء فی «قرأت الکتابین إلاَّ واحداً منهما» استثناءً عُرْفِیّاً بل هو استثناء مرفوض وغیر صحیح؛ لأَنَّهُ لا یصحّ استثناء الواحد من الاثنین حتّی نؤکّد عدم الاستثناء بکلمة «کُلٍّ»، وإنَّما قولنا «قرأت کلَّ الکتابین» فی قِبَال قولنا: «قرأت الکتابین إلاَّ بعضاً من أحدهما». أی: فی مقابل استثناء جزءٍ من أجزاء أحد الکتابین، لا فی مقابل استثناء «أحد الکتابین».

ص: 262

فالحاصل: أن کلمة «کُلٍّ» الداخلة علی المعرَّف تدلّ علی الاسْتِیعَاب الأَجْزَائِیّ، یعنی: استیعاب أجزاء المدخول، بلا فرق بین أن یکون المدخول المعرَّف عبارة عن المفرد أو أن یکون عبارة عن الجمع أو أن یکون عبارة عن اسم الجمع أو أن یکون عبارة عن اسم العدد المعرَّف أو أن یکون عبارة عن المثنی، فلم نَشُذّ عن القاعدة الَّتی أسسناها (وهی أن الکلّ إذا دخلت علی المعرَّف أفادت الاستیعاب الأَجْزَائِیّ) فی کل هذه الموارد، غایة الأمر أن أجزاء الجمع عبارة عن آحَاده، وکذلک أجزاء العدد عبارة عن آحاده، أما فی المثنی فإن أجزاء المثنی عبارة عن أجزاء کل واحد من الفردین، فأجزاء الکتابین عبارة عن صفحات الکتابین، ولیس عبارةً عن الفردین؛ لأَنَّهُ تثنیة ولیس تَکَثُراً، ولا تَکَثُرَ فی الآحاد کما لا تَکَثُّر فی التَّثْنِیَة، فلا معنی للاستیعاب الأَجْزَائِیّ فیه.

هذا تمام الکلام فی هذه الجهة الثَّانیة من جهات البحث عن کلمة «کُلّ»، فقد استوعبنا أن لحد الآن أن کلمة «کُلّ» تدلّ علی استیعاب مدخولها، وبعد ذلک یجب أن ندخل فی الجهة الثَّالثة، وهی جهة تخریج دلالة کلمة «کُلّ» علی الاستیعاب.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الجهة الثَّالثة: فِی البحث عن تخریج الدِّلاَلَة اللُّغَوِیَّة الَّتی أثبتناها فِی الجهة الأولی لکلمة «کُلّ»، وهی دلالتها علی العموم والاستیعاب، فهل نحتاج نحن فِی فهم العموم والاستیعاب من هذه الکلمة إلی إجراء مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ فِی مدخولها، بحیث یتوقَّف إسراء الحکم إلی تمام أفراد العالم (فِی قولنا: «أَکْرِم کُلَّ عالم») علی إجراء الإِطْلاَق وقرینة الحِکْمَة فِی کلمة «العالم»؟ أم لا نحتاج إلی ذلک، بل إن دخول کلمة «کُلّ» علی کلمة «العالم» یغنی کلمةَ «العالم» عن قرینة الحِکْمَة. أی: تتولی کلمةُ «کُلّ» دورَ قرینة الحِکْمَة. هذا هو الخلاف الواقع بین الأعلام وَالَّذِی نرید أن ندرسه فِی هذه الجهة، ولکل من القولین أتباع.

ص: 263

وطبعاً لا یختصّ هذا الخلاف بکلمة «کُلّ»، بل یجری ویسری إلی کل لفظ وأداة (بالقیاس إلی مدخولها) من ألفاظ العموم.

وَالظَّاهِر من کلام الْمُحَقِّق الخُراسانیّ فِی الکفایة أنَّ کلا الوجهین ممکن من الناحیة الثُّبوتیّة والنَّظریّة. أی: یمکن وضع کلمة «کُلّ» ثبوتاً لیلائم القولَ الأوّل ولیلائم القول الثَّانِی أیضاً. بمعنی أَنَّهُ من الممکن أن یضع الواضعُ کلمة «کُلّ» بنحو نحتاج إلی قرینة الحِکْمَة فِی مدخولها، ومن الممکن ثبوتاً أن یضع الواضع کلمة «کُلّ» بنحو لا نحتاج إلی قرینة الحِکْمَة فِی مدخولها.

توضیح ذلک: أن اسم الجنس الَّذی هو مدخول «کُلّ» (أی: العالم، والإنسان فِی «کُلّ عالم« و«کُلّ إنسان») مَوْضُوع لِلطَّبِیعَةِ المهملة (أی: الجامع بین المطلق والْمُقَیَّد)، فإن أرید منها المقیِّد تحتاج إلی قرینة کما إن أرید منها المطلق تحتاج إلی قرینة. فإن أرید منها المقیَّد فلا بُدَّ من الإتیان بقرینة تَدُلّ علی القید، وإن أرید به المطلق فأیضاً لا بُدَّ من الإتیان بقرینة تَدُلّ علی الإِطْلاَق، سواء کانت قرینة خاصّة (بأن: یصرح الْمُتِکَلِّم بأن مقصودی هو المطلق) أو قرینة عامة وهی قرینة الحِکْمَة.

فعلی أی حال، یحتاج مدخول «کل» إلی قرینة بأَنَّهُ ماذا أرید من هذا المدخول، هل أرید منه الطَّبِیعَة المطلقة أو أرید منه الطَّبِیعَة المقیَّدة. وأمّا نفس الکلمة فالمفروض أنَّها لا تَدُلّ علی ما أرید منها (أی: لا تَدُلّ علی المطلق ولا علی المقیِّد)، لأَنَّهَا موضوعة للجامع بین المطلق والْمُقَیَّد. هذا شأن المدخول.

وحینئِذٍ نأتی إلی أداة العموم ککلمة «کل» مثلاً، فیقول صاحب الکفایة: إنَّ من الممکن أن یضع الواضع کلمة «کل» لاستیعاب ما أرید من مدخولها، کما أنَّ من الممکن أن یضع الواضع کلمة «کل» لاستیعاب ما یصلح المدخول للانطباق علیه.

ص: 264

فإن وضعها علی النَّحْو الأوّل (أی: أَنْ تَکُونَ کلمة «کُلٍّ» موضوعة لاستیعاب المراد من المدخول) إذن فلا محالة نحتاج إلی إجراء قرینة الحِکْمَة فِی المدخول؛ لأَنَّ المفروض أنَّ الأداة قد وضعت للدِّلالة علی استیعاب المراد من مدخولها، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ مدخولها إِنَّمَا هو اسم جنس، واسم الجنس لا یَدُلّ بنفسه إلاَّ علی الطَّبِیعَة المهملة، ولا یَدُلّ علی أَنَّهُ ماذا أرید منه؟! فلا یُعرف المراد من المدخول من خلال الأداة؛ لأَنَّ الأداة وضعت لاستیعاب المراد من المدخول. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. ولا یُعرف من المدخول نفسه، لأَنَّ المدخول نفسه وضع لِلطَّبِیعَةِ المهمة، فلا بُدَّ من تعیین أن المراد من المدخول هو المطلق من خلال قرینة الحِکْمَة (أی: لا بُدَّ من إجراء قرینة الحِکْمَة لکی نثبت بها أن المراد من المدخول هو "الطَّبِیعَة المطلقة"، ثم تأتی کلمة «کُلٍّ» وتدلّ علی استیعاب جمیع أفراد هذه الطَّبِیعَة المهملة). هذا إذا وضعها الواضع بالنحو الأوّل. فبناء علی هذا سوف یکون العموم دائماً بحاجة إلی الإِطْلاَق.

وإن وضعها الواضع بالنحو الثَّانِی (أی: وضع کلمة «کُلٍّ» لا لاستیعاب المراد من المدخول، بل لاستیعاب ما ینطبق علیه المدخول) فلا حاجة بنا إلی إجراء قرینة الحِکْمَة فِی المدخول، لأَنَّ الأداة بنفسها تَدُلّ علی استیعاب تمام الأفراد الَّتی یصلح المدخول ذاتاً للانطباق علیها. فإن مفهوم المدخول إذا کان صَالِحاً ذاتاً للانطباق علی تمام الأفراد وتم تطبیقه علیها فعلاً (بتوسط الأداة مباشرة) فلم تعد هناک حاجة إلی إجراء قرینة الحِکْمَة کما هو واضح.

فَالنَّتِیجَةُ أَنَّهُ بحسب مقام الثُّبوت یمکن کلا الأَمْرَیْنِ:

أما بحسب مقام الثُّبوت:

الأمر الأوّل: لازمه توقّف العموم علی تَمَامِیَّة الإِطْلاَق فِی المدخول، لتحدید المراد من المدخول، ثم استیعاب أفراد هذا المراد بتوسط أداة العموم.

ص: 265

الأمر الثَّانِی: یعنی استغناء العموم عن إطلاق الْمَفْهُوم؛ لأَنَّهُ یفترض فِی الأداة أنَّها بنفسها تَدُلّ علی استیعاب تمام الأفراد الَّتی یصلح المدخول للانطباق علیها. هذا بحسب مقام الثُّبوت.

وبحسب مقام الإثبات:

یستظهر المُحَقِّق الخُراسانیّ الثَّانِی (أی: یقول: الظَّاهِر أن کلمة «کُلٍّ» وضعت لاستیعاب ما یصلح المدخول للانطباق علیه)، فلا نحتاج فِی استفادة العموم من أداة العموم ومن کلمة «کُلٍّ» إلی إطلاق ومقدّمات الحِکْمَة فِی المدخول؛ إذ تَدُلّ الأداة رأساً علی استیعاب تمام الأفراد الَّتِی ینطبق علیها المدخول.

ولا یبعد أن یکون هذا هو الْمَشْهُور بین الأُصُولِیِّینَ واختاره جمع من المتأَخِّرین کالمحقق الإِصْفِهَانِیّ رَحِمَهُ اللَهُ والسّیّد الأستاذ الخوئی رَحِمَهُ اللَهُ، بل أنهما ذهبا إلی أن الأوّل غیر ممکن ثبوتاً.

بینما اختار جملة مِنَ الأُصُولِیِّینَ الأوّل، ومن بینهم النائینی حیث ذهب إلی أَنَّهُ لا بُدَّ من إجراء قرینة الحِکْمَة فِی المدخول، وأن استفادة الاستیعاب والعموم من أدوات العموم متوقّفة علی إجراء الإِطْلاَق فِی مدخولها، بحیث لولا إجراء الإِطْلاَق فِی المدخول لا یستفاد ولا یفهم العموم من أیة أداة من أدوات العموم.

فالمسألة ذات قولین:

القول الأول: العموم إِنَّمَا هو فِی طول الإِطْلاَق. أی: أداة العموم موضوعة لاستیعاب ما یراد من مدخولها، وتعیین ما یُراد إِنَّمَا یکون من خلال مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ والإطلاق. وهذا ما اختاره النائینی. فلا یمکن استفادة العموم من خلال الأداة وحدها ومن دون الاستعانة بأدوات العموم.

القول الثَّانِی: هو أن العموم لَیْسَ فِی طول الإِطْلاَق، ولیس مفتقراً وَمُحْتَاجاً إلی الإِطْلاَق، بل أداة العموم موضوعة لاستیعاب ما ینطبق علیه مدخولها، فإفادة العموم والاستیعاب من خلال الأداة وحدها أمر ممکن بل هو المتعیَّن والواقع، وهذا ما اختاره الإِصْفِهَانِیّ والسّیّد الأستاذ الخوئی رَحِمَهُ اللَهُ وَقَدْ یَکُونُ له قائل غیرهما أیضاً.

ص: 266

فلندرسهما بتفصیل:

أما القول الأوّل: فحاصل ما یمکن جعله دَلِیلاً فَنِّیّاً علی هذا القول هو أن یقال: إن الأداة إِنَّمَا تَدُلّ علی استیعاب المدخول، ولا تَدُلّ علی تعیین المدخول، ولذا لا مانع من ناحیة الأداة من دخولها علی أی مدخول، تدخل علی الْمَفْهُوم المقیَّد وتدلّ علی الْمَفْهُوم المطلق. فلا فرق من ناحیة کلمة «کل» بین قولنا: «أکرم کل إنسان» (الإنسان مطلق) وبین أن نقول: «أکرم کل إنسان عالم» (الْمَفْهُوم هنا مقیَّد بقید واحد) وبین أن نقول: «أکرم کل إنسان عالم عادل» (الْمَفْهُوم هنا مقیَّد بقیدین). فکلمة «کل» لا تأبی عن تقیید مدخولها وتحصیص مدخولها إلی أی درجة شئنا. هذا من ناحیة الأداة.

أما من ناحیة مدخول الأداة، فیقول المرزا إن مدخولها اسم جنس، واسم الجنس مَوْضُوع لِلطَّبِیعَةِ المهملة، وهذه الطَّبِیعَة المهملة یسمیها النائینی بالماهیة اللابشرط الْمَقْسَمِیّ، وَالَّتِی هی جامعة لثلاثة أفراد:

الأوّل: الْمَاهِیَّة الملحوظة بشرط اللابشرط الْقِسْمِیّ (الْمَاهِیَّة المطلقة).

الثَّانِی: الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو بشرط شیء (الْمَاهِیَّة أو الطَّبِیعَة المقیّدة).

الثَّالث: الْمَاهِیَّة الملحوظة بشرط لا (الْمَاهِیَّة المجرّدة عن الخُصُوصِیّات الخارجیة)، وهی الْمَاهِیَّة الَّتی تقع مَوْضُوعاً فِی قولنا: «الإنسان نوع»؛ فإن ماهیَّة الإنسان لوحظت هنا بشرط التجرد عن الخُصُوصِیّات الخارجیة، وإلا فمع الخُصُوصِیّات الخارجیة لا یکون «نَوْعاً»، أو عندما نقول: «الناطق فصل» وأمثالهما، نکون قد لاحظنا الْمَاهِیَّة بهذا اللِّحَاظ الثَّالث.

إذن، اسم الجنس مَوْضُوع لِلطَّبِیعَةِ المهملة الجامعة بین هذه الأقسام الثَّلاثة، وَالطَّبِیعَة بهذا المعنی (أی: لا بشرط الْمَقْسَمِیّ الَّذی هو مقسم لهذه الأقسام الثَّلاثة) یستحیل أن تنطبق علی الأفراد الخارجیّة؛ لأَنَّ المفروض أنَّها جامعة بین ما یقبل الانطباق وبین ما لا یقبل الانطباق علی الأفراد الخارجیّة، والجامع بین ما یقبل الانطباق وما لا یقبل الانطباق، لا یقبل الانطباق.

ص: 267

إذن، مدخول الأداة غیر قابل للصدق علی الأفراد الخارجیة، بینما أداة العموم (ککلمة «کلّ») لا یمکن أن تَدُلّ علی العموم إلاَّ إذا کان مدخولها مِمَّا یقبل الانطباق علی تمام الأفراد الخارجیة. فما هو الحل؟!

فیقال علی هذا الأساس أن فِی المقام أربع احتمالات لا بُدَّ من تمحیصها:

الاحتمال الأوَّل: أن یفرض أن الأداة تَدُلّ علی استیعاب أفراد المعنی الَّذی وضع له مدخولها.

ولکن هذا الاحتمال ساقط، لأَنَّ وضع الأداة بهذا النَّحْو مستحیل، بِأَنْ تکون کلمة «کل» مثلاً موضوعة لاستیعاب أفراد المعنی الَّذی وضع له المدخول؛ لأَنَّ المدخول اسم جنس، واسم الجنس وضع لِلطَّبِیعَةِ المهملة، وَالطَّبِیعَة المهملة هی الْمَاهِیَّة الملحوظة بنحو اللابشرط الْمَقْسَمِیّ، ولا یعقل انطباق هذه الْمَاهِیَّة علی الأفراد الخارجیة، فکیف یمکن وضع الأداة لاستیعاب تمام أفراد معنیً ذاک المعنی غیر قابل أساساً للانطباق علی الأفراد الخارجیّة، بل لا بُدَّ من تحول المعنی المدخول من الطَّبِیعَة المهملة إلی الطَّبِیعَة المطلقة (أی: إلی اللابشرط الْقِسْمِیّ)، حتّی یمکن جریان الاستیعاب علی معنی المدخول.

الاحتمال الثانی: أن یفرض أن الأداة تَدُلّ فقط علی أن مَدْخُولهَا عبارة عن الطَّبِیعَة المطلقة، ولا دلالة لها علی استیعاب أفراد هذه الطَّبِیعَة، إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه وإنَّما تقوم الأداة بدور تحویل المعنی المدخول من الطَّبِیعَة المهملة إلی الطَّبِیعَة المطلقة (من اللابشرط الْمَقْسَمِیّ إلی اللابشرط الْقِسْمِیّ)، فلا تَدُلّ کلمة «کُلٍّ» علی الاستیعاب.

هذا الاحتمال ساقط أیضاً، لأَنَّهُ خلاف الوجدان الَّذی یحکم ویقضی بأن الأداة تفید الاستیعاب والعموم، بدلیل التَّبَادُر الْعُرْفِیّ والانسباق إلی ذهن أبناء اللُّغَة، کما تقدّم فِی الجهة الأولی، حیث أثبتنا هذا الأساس بأن کلمة «کل» وضعت لعموم واستیعاب مدخولها.

ص: 268

الاحتمال الثَّالث: أن یُفرض أن الأَدَاة تَدُلّ علی کلا المطلبین: أوَّلاً تَدُلّ علی أن مدخولها هو المطلق (هو اللابشرط الْقِسْمِیّ)، وتدلّ أیضاً علی استیعاب أفراد هذا المطلق (أی: تَدُلّ علی معنیین معاً). فبالنتیجة تَدُلّ الأداة علی استیعاب أفراد مَدْخُولهَا، بعد تحویل معنی المدخول من المطلق إلی المهمل (أی: الأداة تقوم بعملین معاً، أوَّلاً یوسع دائرة المدخول ویثبت بأَنَّ معنی المدخول هو اللابشرط الْقِسْمِیّ والمطلق، وثانیاً تستوعِب أفراد هذا المدخول).

هذا الاحتمال أیضاً وَاضِح الْبُطْلاَنِ والسقوط؛ لأَنَّ معنی ذلک أن الأداة لها معنیان طُولِیَّانِ فِی استعمال واحد، أحدهما: إطلاق المدخول، وثانیهما: استیعاب أفراد هذا المطلق، بینما مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ کل کلمة لها معنی واحد ولا یمکن أن یکون لها معنیان، کغیرها من الکلمات.

الاحتمال الرَّابع: وهو أن یفرض أن الأداة تَدُلّ علی استیعاب أفراد المدخول، بعد تحویل المعنی المدخول من الطَّبِیعَة المهملة إلی الطَّبِیعَة المطلقة ببرکة قرینة الحِکْمَة، لا بالأداة نفسها. أی: أوَّلاً نحوِّل المعنی المدخول من اللابشرط الْمَقْسَمِیّ إلی اللابشرط الْقِسْمِیّ ببرکة قرینة الحکمة، بعد ذلک تأتی الأداة وتدلّ علی استیعاب تمام أفراد هذا المدخول.

وهذا الاحتمال هو المتعیَّن، بعد أن سقطت الاحتمالات السَّابِقَة.

إذن، إفادة العموم دائماً فِی طول إفادة الإِطْلاَق. أی: نفهم العموم من کلمة «کُلٍّ» فیما إذا فهمنا من المدخول أَنَّهُ مطلق. أما إذا لم نفهم أن المدخول مطلق أو مهمل، فلا یمکن للکل أن تستوعب شیئاً، لأَنَّ «کل» وضعت لاستیعاب ما یُراد من مدخولها، فما المراد من مدخولها؟! لا بُدَّ من قیام قرینة علی أن المراد من المدخول ما هو؟ وهذه القرینة هی القرینة العامة وهی قرینة الحِکْمَة.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الأداة تَدُلّ علی استیعاب أفراد المدخول، ولا تعیِّن أن المدخول هو المطلق، فلا بُدَّ من إثبات أن المراد من المدخول هو المطلق بقرینة الحِکْمَة، کی تَدُلّ الأداة علی استیعاب تمام أفراد هذا المطلق.

ص: 269

هذا ما یمکن أن یقال فَنِّیّاً فِی توجیه القول الأوّل.

وما ذُکر أو یمکن أن یذکر فِی مقام الاعتراض علی هذا القول والبرهنة علی إبطاله ونفیه عدّة وجوه تأتی فِی البحث المقبل، إن شاء الله تعالی.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

وقد اعترض علی البیان المتقدّم فِی الوجه الأوّل وهو القول بأن العموم متوقّف علی الإِطْلاَق بعِدَّة اعتراضات نردفها فِیما یلی:

الاعتراض الأوّل: ما ذکره السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله من لزوم اللَّغْوِیَّة فِی وضع الأداة وکذلک فِی استعمال الأداة؛ لأَنَّ الأداة لو کانت موضوعة لاستیعاب مراد مدخولها (کما یقول صاحب هذا القول)لکانت دلالةُ الأداة علی العموم متوقّفةً علی إجراء قرینة الحِکْمَة فِی مدخولها، ولو کان الأمر هکذا فلا تَدُلّ الأداةُ علی العمومِ من دون إجراء قرینة الحِکْمَة، ومع إجراء قرینة الحِکْمَة تکون نفس القرینة کافیةً وحدها فِی إثبات العموم، وفی استیعاب الحکم لتمام الأفراد. فلا حاجة حینئذٍ إلی وضع الأداة للعموم مِن قِبَلِ الواضع، کما لا حاجة إلی استعمال الأداة مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم فِی العموم (لا وَضْعاً ولا استعمالاً)؛ لانتفاء الفائدة، فإنَّه إن جری الإِطْلاَق فِی مدخول الأداة لم نکن بحاجة إلی العموم أصلاً کی توضع الأداة للعموم أو تُستعمل فِی العموم؛ لأَنَّ مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ الجاریة فِی المدخول دلَّت علی ما نریده وهو استیعاب الحکم لتمام الأفراد، وإن لم یجری الإِطْلاَق فِی المدخول، فلا یکون دخول الأداة نافعاً ومجدیاً أصلاً، ولم یکن وَضْع الأداة للعموم ذا فائدة، ولا مفیدة للتأکید. بمعنی أن الأداة لا تصلح لأَنْ تکون مؤکِّدة أیضاً؛ لأَنَّ التأکید إِنَّمَا یصحّ فِی المورد الَّذی تکون دلالة المؤکِّد فِی عَرْض دلالة المؤکَّد. مثلاً حینما نقول: «جاء الطلاب کلهم»، تکون کلمة «کُلّهم» تأکیداً للطلاب؛ لأَنَّ دلالة کلمة «کلهم» علی الاستیعاب والشمول فِی عَرض دلالة کلمة «الطلاب» علی الاستیعاب والشمول. فإن کلمة «الطلاب» وحدها تَدُلّ علی الاستیعاب حتّی مِنْ دُونِ کلمة «کلهم» وکلمة کلهم تَدُلّ علی الاستیعاب حتّی مِنْ دُونِ کلمة «الطلاب». أی: دلالة کل من الکلمتین علی الاستیعاب تامَّة ومستقلّة مِنْ دُونِ الحاجة إلی الکلمة الأخری. فَیَصِحُّ التأکید فِی مثل هذا المورد.

ص: 270

أما فیما نحن فیه (بناءًا علی القول الأوّل الَّذی ذهب إلیه المرزا وَالَّذِی شرحناه بالأَمْسِ) فیقول السَّیِّد الْخُوئِیّ: لا تترتّب أیة فائدة لوضع الأداة واستعمالها وذلک بناء علی القول الأول؛ لأَنَّهُ إن جری الإِطْلاَق فِی المدخول فیکفی نفس الإِطْلاَق فِی المدخول للدِّلالة علی الاستیعاب والشمول، وإذا ما جری الإِطْلاَق فِی المدخول فَسَوْفَ لا تکون الأداة دالَّة علی العموم؛ لأَنَّ دلالتها علی العموم کانت فِی طول دلالة المدخول علی الإِطْلاَق، بحیث لو لا الإِطْلاَق ولولا قرینة الحِکْمَة، لا دلالة أساساً علی العموم، فکیف یَدُلّ علی التأکید؟ فلا یصحّ التأکید أیضاً(1) .

أقول: هذا الاعتراض لا یمکن قبوله، لأَنَّهُ یرد علیه:

أوَّلاً: أن العموم والإطلاق لیسا شیئاً واحداً مفهوماً وتصوراً؛ فإن مفاد العموم غیر مفاد الإِطْلاَق بحسب عالم المفهوم، وهذا مطلب ذکرناه فِی بدایة البحث عن العموم، عندما کُنَّا نعرّف العموم، حیث قلنا: إن العموم لَیْسَ عبارة عن مطلق الاستیعاب، بل هو عبارة عن الاستیعاب الَّذی یَدُلّ علیه الکلام (الْمَدْلُول علیه بالکلام وبالخطاب). فالاستیعاب الَّذی لا یَدُلّ علیه اللَّفظ وإنَّما تَدُلّ علیه قرینةٌ من القرائن کقرینة الحکمة، یُعدُّ استیعاباً ولٰکِنَّهُ لا یُعَدُّ عموماً بل هو إطلاق؛ فإنَّ مفاد الأداة هو العموم والاستیعاب وإرائة الکثرة (إما الأفرادیة فِی الاستیعاب الأَفْرَادِیّ، وإما الأجزائیة فِی الاستیعاب الأَجْزَائِیّ) فِی مرحلة مدلول الکلام، أما قرینة الحِکْمَة فمفادها لَیْسَ عبارة عن الاستیعاب وإرائة الکثرة فِی مرحلة مدلول الکلام والخطاب، وإنَّما هی قرینة تفید نفی الخُصُوصِیّات الزائدة علی ذات الطَّبِیعَة، وتدلّ علی أن الطَّبِیعَة لوحظت مجردةً عن الخُصُوصِیّات.

إذن، فالملحوظ فی باب العموم عبارة عن الکثرة، أمّا فِی باب الإِطْلاَق فلیس الملحوظ عبارة عن الکثرة، بل هو عبارة عن ذات الطَّبِیعَة مجرّدةً عن الْخُصُوصِیَّات. فالإطلاق والعموم شیئان. وهذا وحده کافٍ لِتَصْحِیح الوضع ولتصحیح الاستعمال.

ص: 271


1- (1) - هامش أجود التقریرات: ج1، ص441.

أما الوضع فَلأَنَّ الفائدة المترقبة من الوضع عبارة عن إفادة المعانی المختلفة والمتنوعة، وهذان معنیان مستقلان، فهناک استیعاب یَدُلّ علیه اللَّفظ والکلام، وهناک استیعاب لا یَدُلّ علیه الکلام. فلیس من اللَّغْو أن یأتی الواضع ویضع لفظاً کلفظ «کل» لهذا الاستیعاب الأوّل، وإن کان یوجد شیء آخر فِی العالم یَدُلّ علی الاستیعاب وهو الإِطْلاَق، لکن ذاک الاستیعاب الَّذی یفیده الإِطْلاَق غیر الاستیعاب الَّذی یریده الواضع عند وضع کلمة «کل».

ولا لغویّة أیضاً فِی الاستعمال، لأَنَّ الْمُتِکَلِّم قد یَتَعَلَّقُ غرضه بأن یفید الاستیعابَ والکثرة (الأَفْرَادِیّة أو الأَجْزَائِیّة) بکلامه وفی مرحلة مدلول الکلام والخطاب، ولا یرید تحویل السَّامِع إلی قرینة الحِکْمَة.

النَّتِیجَة: لا لغویّة فِی وضع الأداة للعموم ولا فِی استعمال الْمُتِکَلِّم الأداة فِی العموم، حتّی لَوْ لَمْ یَکُنْ یؤدی إلی نتیجة عملیة بِالنِّسْبَةِ للحکم الشَّرْعِیّ.

لکن لنفرض الآنَ مجاراةً مع السَّیِّد الْخُوئِیّ رحمه الله بأَنَّهُ لا فرق بین وضع الأداة للعموم وعدم وضع الأداة للعموم من حیث النَّتِیجَة (وإن لم نکن نقبل به ونناقشه)، لکن القضایا لیست منحصرة بالحکم الشَّرْعِیّ، فَإِنَّنَا فِی الجهة الأولی عند البحث عن تعریف العموم قلنا: إن العموم عبارة عن الاستیعاب الَّذی یکون مدلولاً للکلام والخطاب. إذن کل من أداة العموم (مثل کلمة «کل») وإطلاق المدخول، کل منهما یعطی صورةً متمیزةً عن الصُّورَة الَّتی یعطیها الآخر، فلا لغویّة فِی المقام؛ إذ لَیْسَ الغرض من وضع الأداة للعموم بیان الأحکام الشَّرعیَّة، کی یقال: إن استیعاب الحکم الشَّرْعِیّ (= وُجُوب الإِکْرَامِ) لتمام أفراد العالم حاصل من الإِطْلاَق، فلا حاجة إلی کلمة «کل»، لا حاجة إلی وضعها ولا حاجة إلی استعمالها؛ فَإِنَّ هذا الکلام غیر صحیح؛ لأَنَّهُ لَیْسَ غرض الواضح من وضع أداة العموم بیان الحکم الشَّرْعِیّ، بل غرضه تنویع الصُّوَر الذِّهْنِیَّة فِی مقام المحاورة وإخطار المعانی إلی ذهن السَّامِع، حتّی لو فرضنا أَنَّهُ لا یوجد فرق بین الصورتین من حیث الحکم الشَّرْعِیّ.

ص: 272

إذن، فلنفرض أَنَّهُ حتّی إذا لم توضع الأداة للعموم والاستیعاب فِی اللُّغَة، ولم یستعملها الْمُتِکَلِّم فِی کلامه، لکنَّا نفهم استیعاب الحکم لتمام الأفراد، من خلال إجراء الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة، لکنَّ هذا لا یعنی لغویّة الوضع ولغویة وضع الأداة للعموم فِی اللُّغَة ولا لغویّة استعمال الأداة فِی العموم مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم؛ لأَنَّ الاستیعاب الَّذی کُنَّا نفهمه من خلال قرینة الحِکْمَة ومن دون الأداة لَیْسَ استیعاباً مدلولاً علیه باللَّفظ، لا وَضْعاً ولا استعمالاً:

أمّا وضعاً، فمن الواضح أن الواضع یرید أن یضع لفظاً دالاًّ علی الاستیعاب.

أما استعمالا، فالمستعمل قد یَتَعَلَّقُ غرضه بأن یستعمل لفظاً دالاًّ علی الاستیعاب أیضاً، فلا توجد لغویّة أبداً.

هذا، مضافاً إلی أَنَّهُ حتّی لو فرضنا أنَّ الواضع اللغوی وکذلک الْمُتِکَلِّم المستعمِل من أبناء اللُّغَة ناظران إلی خصوص الأحکام الشَّرعیَّة، مع ذلک لا لغویّةَ فِی المقام، لا فِی وضع الأداة للعموم مِن قِبَلِ الواضع، ولا فِی استعمالها مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم من أبناء اللُّغَة، وذلک لإمکان أن نفترض أن غرض الواضع تعلّق بتوفیر أداةٍ ولفظٍ تَدُلّ هذه الأداة ویدلّ هذا اللَّفظ علی أن ملاک الحکم الشَّرْعِیّ قائم بالأفراد بما هی أفراد، یعنی: یَدُلّ هذا اللَّفظ وتدلّ هذه الأداة علی أن مرکز الحکم الشَّرْعِیّ وَمَوْضُوع الحکم الشَّرْعِیّ إِنَّمَا هو الفرد بما هو فرد، لا الطَّبِیعَة.

ولا یُؤمَّن هذا الغرض للواضع ولا یحصل علیه من طریق مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، لما قلنا من أنَّ الإِطْلاَق لا یَدُلّ علی أن مَوْضُوع الحکم ومصب الحکم عبارة عن الأفراد بما هی أفراد، وأنَّ الإطلاق لا یُری الکثرة الأفرادیة وإنَّما غایة ما یَدُلّ علیه الإطلاق هو أن مَوْضُوع الحکم عبارة عن ذات الطَّبِیعَة بلا قید. فإذا کان غرض الواضع ذاک فذاک الغرض لا یحصل من خلال الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة، فیتعین علی الواضع أن یضع أداة العموم (لفظ «کل» مثلاً) لهذا الغرض (لإفادة هذا المطلب وهو أن المولی عندما یقول: «أکرم کل عالم»، یستفید السَّامِع أن مَوْضُوع الحکم ومصبّ وُجُوب الإِکْرَامِ هو الفرد ولیس مَوْضُوع الحکم ذات الطَّبِیعَة، وهذا بخلاف الإِطْلاَق حیث لا یستفید السَّامِع أن مَوْضُوع الحکم عبارة عن الأفراد فِی قولنا: «أکرم العالم»، بل یستفید أن مَوْضُوع الحکم عبارة عن ذات الطَّبِیعَة وهو «العالم»). هذا بِالنِّسْبَةِ إلی الوضع.

ص: 273

کذلک بِالنِّسْبَةِ إلی الاستعمال، أی: بالإمکان أن نفترض أن غرض المتکلم من أبناء اللُّغَة مُتَعَلَّق بأن یفید هذا المعنی للسامع، أی: أن ملاک الحکم وَمَوْضُوع الحکم مُتَعَلَّق بالأفراد بما هی أفراد، لا بذات الطبیعة. أی: لکی یعطی الْمُتِکَلِّم للسامع هذا المطلب (وهو أن ملاک الحکم وملاک وُجُوب الإِکْرَامِ متقوّم بأفراد العالم، لا بطبیعة العالم) یتعیَّن علیه أن یستعمل کلمة «کل»؛ لأَنَّ الإِطْلاَق فِی «العالم» لا یحصِّل هذا الغرض ولا یعطی هذا المعنی للسامع.

فالحاصل أَنَّهُ لا توجد لغویّة لا فِی وضع الأداة فِی العموم ولا فِی استعمال الأداة فِی العموم، حتّی لو قلنا بقول المرزا (أی: حتّی لو قلنا بأن العموم متوقّف علی الإِطْلاَق، وأن دلالة لفظة «کل» علی العموم منوطة بإجراء الإِطْلاَق فِی مدخولها)، مع ذلک لا یلزم المحذور الَّذی قاله السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله، وهو اللّغوِیَّة فِی وضع الأداة أو اللّغوِیَّة فِی استعمالها. هذا هو الاعتراض الأوّل.

وثانیاً: أَنَّنَا حتّی لو غضضنا النَّظَر وقبضنا الطَّرْف عن الاعتراض الأوّل، مع ذلک لا نسلّم بلزوم اللَّغْویّة فِی وضع الأداة وفی استعمالها بناءًا علی کلام المرزا؛ وذلک لأَنَّ مَحْذُور اللّغوِیَّة إِنَّمَا یرد فیما لو کانت الأداة موضوعةً لمطلق العموم والاستیعاب (أی: الاستیعاب البسیط والساذج)، فحینئذٍ یقال - تنزّلاً وبغض النَّظَر عن الإشکال الأوّل -: إن الإِطْلاَق (إطلاق المدخول وعدم تَقَیُّده بقید) یتکفَّل بهذا الاستیعابِ الساذج، فلا حاجة إلی الأداة، لطالما فرضنا الطُّولِیَّة بین دلالة الأداة علی العموم ودلالة الإِطْلاَق، وما دام الإِطْلاَق یتکفَّل بنفسه الدِّلاَلَة علی الاستیعاب، فمعنی ذلک أَنَّنَا أحرزنا الاستیعاب من خلال الإِطْلاَق، ومن ثَمَّ فتلغو الأداة وَضْعاً واستعمالاً، ولا یَتُمّ التأکید أیضاً، کما أفاد السید الخوئی.

ص: 274

لکن لَیْسَ الأمر کذلک؛ فإن الأداة سواء قلنا بالقول الأوّل المرزائی (وهو أن الأداة موضوعة لاستیعاب المراد من المدخول) أم قلنا بالقول الثَّانِی الَّذی یقول به جمع ومنهم السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رحمه الله (وهو أن الأداة موضوعة لاستیعاب ما ینطبق علیه الْمَفْهُوم) لَیْسَتِ الأداة موضوعة لمطلق العموم ومطلق الاستیعاب (أی: الاستیعاب الساذج)، بل هو مَوْضُوع لحصة خاصّة من العموم والاستیعاب، وهذه الحِصَّة عبارة عن العموم الاستغراقیّ والاستیعاب الشُّمُولِیّ. فکلمة «کل» موضوعة للاستیعاب الشُّمُولِیّ، ولیست موضوعة للاستیعاب، فلا تَدُلّ کلمة «کلّ» علی الاستیعاب الْبَدَلِیّ ولا علی الْمَجْمُوعِیّ، وبالتَّالی لا یَتُمّ إِشْکَال السید الخوئی علی المرزا، لأَنَّ کلمة «کل» تَدُلّ علی حصّة خاصّة من الاستیعاب، وهو الاستیعاب الشُّمُولِیّ الاستغراقیّ.

وحینئِذٍ الإِطْلاَق أیضاً قد یفید الاستیعاب الشُّمُولِیّ وهو ما یُسَمَّی عادة بالإطلاق الشُّمُولِیّ، إلاَّ أن دلالة الأداة علی الشُّمُولِیَّة والاستغراقیّة لیست فِی طول دلالة الإِطْلاَق علی الشُّمُولِیَّة بل هی فِی عَرْضها، وحینئِذٍ تصلح الأداة لأَنَّ تکون مؤکِّدة للإطلاق. وهذا ما سوف نوضحه إن شاء الله غداً.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا بصدد دراسة القول الأول فِی المسألة، وهو القول بأن العموم فِی طول الإِطْلاَق ومتوقف علی الإِطْلاَق، وأنَّ أداة العموم موضوعة لاستیعاب المراد من مدخولها، فلا بُدَّ أوَّلاً من تحدید وتعیین المراد من المدخول، ثم بعد ذلک تَدُلّ الأداة علی استیعاب أفراد هذا المراد والمدخول. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ تعیین المراد من المدخول إِنَّمَا یَتُمّ من خلال الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة.

هذا القول قلنا إِنَّه أصبح مورداً لعدة اعتراضات، الاعتراض الأوّل ما ذکره السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ (ره) وقد تقدّم بیان هذا الاعتراض، وَکَانَ حَاصِلُهُ أَنَّهُ یلزم بناءًا علی هذا القول اللّغوِیَّة، فالأداة لغو وضعها مِن قِبَلِ الواضع کما أن استعمالها لغو مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم أیضاً، بالشرح المتقدّم.

ص: 275

قلنا: إن هذا الاعتراض غیر وارد وذلک:

أوَّلاً لا لغویّة لا فِی الوضع ولا فِی الاستعمال، کما تقدّم شرحه.

وثانیاً: حتّی لو سَلَّمنا بلزوم اللّغوِیَّة وغضضنا النَّظَر عن الإشکال الأوّل، مع ذلک لا نسلم باللغویة من جهة أخری وهی أَنَّهُ إِنَّمَا تلزم اللّغوِیَّة لو کانت الأداة موضوعة لمطلق العموم، حینئذٍ افرضوا تنزّلاً أن الأداة وَضْعاً واستعمالا لغو، لأَنَّه هذا العموم والشمول والاستیعاب نفهمه من الإِطْلاَق فلا حاجة إلی الأداة. لکن لَیْسَ الأمر کذلک، لأَنَّ الأداة لیست موضوعة لمطلق العموم والاستیعاب، بل الأداة (کلمة کل مثلاً) موضوعة للعموم الاستغراقیّ وَالشُّمُولِیّ، فلا تدل الأداة علی العموم الْبَدَلِیّ ولا الْمَجْمُوعِیّ.

وحینئِذٍ لطالما الأداة کذلک، فلا یصحّ کلام السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ (ره) الَّذی قال بأن الأداة لا فائدة فیها أبداً (بناءًا علی القول الأوّل) حتی أَنَّهُ نفی فائدة التأکید کما شرحنا بالأَمْسِ.

أقول: هذا الکلام غیر تامّ، وفائدة التأکید موجودة فِی الأداة، لأَنَّ الأداة تَدُلّ علی الشُّمُولِیَّة والإطلاق أیضاً یَدُلّ علی الشُّمُول (هذا الَّذی یُسَمَّی بالإطلاق الشُّمُولِیّ) لکن مع ذلک (رغم أن الأداة تَدُلّ علی الشُّمُولِیَّة وکذلک الإِطْلاَق شُمُولِیّ) لیست الأداة لغواً، بل فیها فائدة التأکید؛ لأَنَّ دلالة الأداة علی الشُّمُولِیَّة لیست فِی طول دلالة الإِطْلاَق علی الشُّمُولِیَّة، بل فِی عرضها، والسّیّد الأستاذ الخوئی (ره) قبل أَنَّهُ لو کان فِی عرضه فَیَکُونُ التأکید صحیحاً (وقد تقدّم شرحه ومثاله کان الطلاب جاؤوا کلهم). ففی هذا الفرض (کون الدِّلاَلَتَیْنِ عرضیتین) تَتُمّ الفائدة التأکیدیة. فنحن نرید أن نَقُول: إِنَّ الفائدة التأکیدیة موجودة فِی المقام.

صحیح أن کلمة کل تَدُلّ علی الشُّمُولِیَّة، وکذلک کلمة الطلاب ببرکة الإِطْلاَق تَدُلّ علی الشُّمُولِیَّة، لکن الدِّلاَلَتَیْنِ عرضیّتان، دلالة الأداة علی الشُّمُولِیَّة فِی عَرض دلالة المدخول (أی: کلمة العالم) علی الشُّمُولِیَّة، فتصلح الأداة لأَنْ تَکُونَ مؤکِّدةً، وإذا کانت الفائدة التأکیدیة موجودة فلیست الأداة لغواً. هذا مجمل ما نرید أن نقوله.

ص: 276

توضیح ذلک: أن مقدّمات الحکمة إذا جرت فِی المدخول تُثبت أصل الإِطْلاَق، أی: تثبت أن المراد من کلمة العالم هو طَبِیعِیّ العالم، بلا قید. هذا هو الإِطْلاَق الَّذی تثبته مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ. أما هذا الإطلاق هل هو شُمُولِیّ أو بدلیّ؟ هذا مطلب لا تجیب عنه مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، فَإِنَّهَا لا تُشَخِّص أنَّ الإِطْلاَق بدلیّ أو شُمُولِیّ، فإن الإِطْلاَق فِی کُلّ الموارد شیء واحد، وهو کون الْمَوْضُوع أو الْمُتَعَلَّق عبارة عن أن الْمُتَعَلَّق شُمُولِیّ. أی: أصل الإِطْلاَق.

أما خُصُوصِیَّة أن الإِطْلاَق شُمُولِیّ أو بدلیّ، فبحاجة إلی دالّ آخر، وقرینة أخری غیر مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، ونحن ذکرنا هذا المطلب بتفصیل فِی بحث دلالة الأمر علی المرَّة والتَّکرار، وکذلک فِی بحث دلالة النَّهْی علی الاِنْحِلاَل، حیث أعطینا المقیاس فِی کلا البحثین مفصَّلاً، وحاصله هو أن الشُّمُولِیَّة (خُصُوصِیَّة کون الإِطْلاَق شُمُولِیّاً) تَثبت من خلال قرینة أخری غیر مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، والقرینة کانت فِی ذینک البحثین: مثلاً قرینة وقوع هذا الطَّبِیعِیّ (الَّذی دلت علیه مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ) مَوْضُوعاً للحکم (أی: متعلّقاً لِلْمُتَعَلَّقِ) مثل کلمة عالم فِی قولنا: أکرم العالم، فإن العالم مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق، لأَنَّ العالم تعلّقَ بالإکرام والإکرام مُتَعَلَّق للوجوب. فالعالم مَوْضُوع (بحسب اصطلاح المرزا، أی: مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق) فقلنا هنا: إِنَّه إذا حسبنا حساب الْمَوْضُوع (مُتَعَلَّق الْمُتَعَلَّق) فإطلاق الحکم بلحاظ الْمَوْضُوع إطلاقٌ شُمُولِیّ، أی: إطلاق أکرم العالم لکل فرد فردٍ من أفراد العالم إطلاق شُمُولِیّ، أی: یَنْحَلُّ الحکم (فِی مقام الفعلیّة والتطبیق لا فِی مقام الجعل) بعدد أفراد هذا الْمَوْضُوع، وهذا بسبب وجود نکتة خاصّة فِی الْمَوْضُوع وهذه النُّکتة غیر موجودة فِی الْمُتَعَلَّق، والنُّکتة تقدّمت هناک وهی أن أَکْرِمِ الْعَالِمَ، ترجع بحسب حقیقتها إلی جملة شرْطِیَّة، أی: کُلَّمَا وجد عالم فأکرمه. فإذا وُجد عالم واحد فأکرمه (أی: وجد وجوب واحد) وإذا وُجد عالمان فأکرمهما (أی: وُجد وجوبان) وهکذا..

ص: 277

ولذا قلنا هناک: إن الأصل العامّ بلحاظ الْمَوْضُوع هو أن یکون الإِطْلاَق شُمُولِیّاً، وطبعاً کان له استثناء حیث قلنا: إلاَّ إذا کان مُنَوَّناً بتنوین التَّنْکِیر الدَّالّ علی الوحدة مثل أکرم عالماً.

إذن، فخصوصیة الشُّمُولِیَّة تستفاد من قرینة أخری غیر قرینة مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ. هذا بِالنِّسْبَةِ إلی الشُّمُولِیَّة فِی مقابل الْبَدَلِیَّة.

وبالعکس، خُصُوصِیَّة الْبَدَلِیَّة فِی قِبَال الشُّمُولِیَّة أیضاً تحتاج إلی قرینة أخری غیر قرینة الحِکْمَة، وتلک القرینة أیضاً ذکرناها فِی ذینک البحثین، مثلاً وقوع الطَّبِیعِیّ متعلّقاً للحکم (لا مَوْضُوعاً)، أی: الإکرام یقع متعلّقاً للوجوب فِی أَکْرِمِ الْعَالِمَ، فَحَیْثُ لم یُعَیِّن نَوْعاً خاصّاً من الإِکْرَام، فالإکرام طَبِیعِیّ هنا أیضاً، ومقدّمات الحِکْمَة تُثبت أن المراد هذا الطَّبِیعِیّ بلا قید، أمّا وقوع هذا الطَّبِیعِیّ متعلّقاً للحکم، نفس هذا قرینةٌ علی أن إطلاق الوجوب بلحاظ الإکرام إطلاق بدلیّ (أی: یجب إکرام مَّا) ویجب نوع واحد من أنواع الإکرام، فلا یجب إکرام العالم بجمیع أنواع الإکرام. فلا یَنْحَلُّ وُجُوب الإِکْرَامِ إلی وجوبات عدیدة بعدد مصادیق الإکرام.

فخصوصیة الْبَدَلِیَّة أیضاً تحتاج إلی دالّ وقرینة أخری غیر مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، وهی قرینة وقوع الطَّبِیعِیّ متعلّقاً للحکم. ولذا قلنا فِی ذینک البحثین إن الأصل الأولی والأصل العامّ فِی إطلاق الحکم بِلِحَاظِ الْمُتَعَلَّقِ أن یکون الإِطْلاَق بَدَلِیّاً، إلاَّ (کان عندنا استثناء هناک أیضاً) إذا کان الحکم عبارة عن النَّهْی (حیث یصبح الإِطْلاَق شُمُولِیّاً)؛ لأَنَّ الحکم الْحُرْمَة وَالنَّهْی یکون ظاهراً (باعتبار أَنَّهُ ناشئ من المفسدة، والمفسدة عادة اِنْحِلاَلِیَّة، والمفسدة عادة موجودة فِی کُلّ مصادیق الکذب) فِی الشُّمُولِیَّة. هذا تَکرار لما تقدّم هناک للاستذکار.

أقول: المُهِمّ أَنَّ قرینة الحِکْمَة ومقدماتها لا تُثبت إلاَّ أصلَ الإِطْلاَق (أی: أصل وقوع الطَّبِیعِیّ مَوْضُوعاً أو متعلّقاً للحکم)، أمّا أنَّ إطلاق الحکم بِالنِّسْبَةِ إلی هذا الطَّبِیعِیّ بدلیّ أو شُمُولِیّ، فهذا أمر لا تَدُلّ علیه قرینة الحِکْمَة، وإنَّما لا بُدَّ من تحدیده وتعیینه من خلال قرینة أخری، وقد حدّدنا القرینة الأخری فِی الأبحاث السَّابِقَة کما أشرنا الآنَ.

ص: 278

إذن، قرینتی الشُّمُولِیَّة والْبَدَلِیَّة فِی الإِطْلاَق تستفادان من نکتتین وقرینتین أُخریَیْنِ غیر الإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة. ففی جمیع الإطلاقات یوجد لدینا دَالاَّنِ:

1- دالّ یَدُلّ علی أصل الإِطْلاَق، أی: یَدُلّ علی أن المراد هو الطَّبِیعِیّ بلا قید، وهو قرینة الحِکْمَة.

2- ودالّ یَدُلّ علی الشُّمُولِیَّة، أو یَدُلّ علی أن الإِطْلاَق بدلیّ. وهذا الدَّالّ عبارة عن قرینة أخری غیر مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، وهی القرینة الَّتی أشرنا إلیها إجمالاً.

وحینئِذٍ نأتی إلی ما نحن فیه ونقول: إنَّ أداة العموم (مثل کلمة کل) وضعت لخصوص العموم الشُّمُولِیّ (لا لکل عموم)، إذن فلنفرض (بناءًا علی هذا القول الَّذی ندرسه وهو قول المرزا) أنَّ دلالة الأداة علی أصل العموم والاستیعاب متوقِّفة علی جریان الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة فِی مدخول الأداة (لتکون دلالة الأداة علی الاستیعاب فِی طول دلالة مقدّمات الحِکْمَة علی الاستیعاب، کما یقول المرزا)، لکن هذا لا یَسْتَلْزِم المحذور الَّذی ذکره السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ (ره)، وهو أن یکون وضع الأداة للاستیعاب الشُّمُولِیّ مِن قِبَلِ الواضع وکذلک استعمال الأداة مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم فِی الاستیعاب الشُّمُولِیّ، لغواً ولا فائدة فیه أصلاً، لا تلزم اللّغوِیَّة؛ وذلک لأَنَّ دلالةَ الأداة علی أصل العموم والاستیعاب وإن کانت فِی طول مقدّمات الحِکْمَة، إلاَّ أنَّ دلالة الأداة علی أن العموم شُمُولِیّ أو بدلیّ، لیست (هذه الدِّلاَلَة) فِی طول مقدّمات الحِکْمَة، لما عرفتم من أنَّ مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ لا تثبت إلاَّ أصل الإِطْلاَق فلا تثبت خُصُوصِیَّة الشُّمُولِیَّة أو الْبَدَلِیَّة؛ إذ الدَّالّ علیه قرینة أخری من قبیل کون الطَّبِیعِیّ مَوْضُوعاً للحکم.

إذن، فیوجد هناک دالان علی خُصُوصِیَّة الشُّمُولِیَّة:

الدال الأول: الأداة (کلمة کل)، حیث تَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ الوضعیَّة علی الشُّمُولِیَّة والاستغراقیّة.

ص: 279

الدال الثَّانِی: تلک القرینة الأخری الَّتی ذکرناها، وهی کون الطَّبِیعِیّ مَوْضُوعاً للحکم، فهذا أیضاً یَدُلّ علی الشُّمُولِیَّة.

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّه لا طولیّةَ بین دلالة هذین الدالین، ودلالتهما عَرَضِیَّة. أی: دلالة الأداة علی الشُّمُولِیَّة لیست فِی طول دلالة الدَّالّ الثَّانِی علی الشُّمُولِیَّة. فَتَدُلُّ الأداة علی العموم الشُّمُولِیّ، سواء وقع العالم مَوْضُوعاً للحکم أو لم یقع مَوْضُوعاً للحکم. فدلالة الأداة علی معناها غیر متوقّفة علی دلالة تلک القرینة الأخری الَّتی حدّدناها علی الشُّمُولِیَّة. بل هما فِی عَرض واحد، حتّی علی قول المرزا.

إذن، تصلح الأداة (حتّی علی قول المرزا) أَنْ تَکُونَ مؤکِّدة لِلشُّمُولِیَّةِ الَّتی نسمعها من تلک القرینة الأخری. أی: نحن عندما نسمع أکرم کل عالم نفهم الشُّمُولِیَّة من دَالَّیْنِ، کما عندما نسمع أکرم الطلاب کلهم نفهم الشُّمُولِیَّة من دَالَّیْنِ: أحدهما الطلاب، والآخر کلمة کلهم.

هذا هو الاعتراض الثَّانِی علی کلامه (ره).

وثالثاً: أَنَّنَا حتّی غضضنا النَّظَر عن الاعتراض الثَّانِی (کما غضضنا النَّظَر عن الأوّل) مع ذلک لا نُسلِّم بلزوم اللّغوِیَّة (وَضْعاً واستعمالا) بناءًا علی قول المرزا؛ وذلک لأَنَّ اللّغوِیَّةَ إِنَّمَا تلزم وترد فیما لو کان مقصود المرزا (أو أی شخص یقول بقول المرزا) هو أنَّ العموم متوقّف علی إجراء الإِطْلاَق بلحاظ الحکم (إجراء الإِطْلاَق فِی المدخول بلحاظ الحکم، أی: بلحاظ کون المدخول مَوْضُوعاً للحکم)، بحیث یجب أوَّلاً أن نُعیِّن أنَّ المراد من المدخول (المراد من العالم فِی قولنا أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ مثلاً) بما هو معروض للوجوب وللحکم (أی: بما هو موضوع للحکم) ما هو؟ هل طَبِیعِیّ العالم، أو عالم مقیِّد بقید خاصّ؟! وهذا التّعیین والتحدید (للمراد من المدخول الواقع مَوْضُوعاً للوجوب) إِنَّمَا یَتُمّ من خلال مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ والإطلاق، ثم بعد ذلک تأتی الأداة وتدلّ علی استیعاب أفراد هذا المراد.

ص: 280

مثلاً فِی أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ، یجب أوَّلاً تعیین أَنَّ المراد من العالم الَّذی هو مَوْضُوع للوجوب هو طَبِیعِیّ العالم وذلک بِمُقَدِّمَاتِ الْحِکْمَةِ، ثم بعد ذلک تَدُلّ کلمة کل علی استیعاب أفراد هذا العالم والطبیعی الَّذی وقع مَوْضُوعاً لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ. فلو کان المقصود هذا فلنفرض (تنزّلاً) أَنَّهُ یرد إشکال السید الخوئی، وهو لزوم اللّغوِیَّة؛ لأَنَّه لا فائدة حینئذٍ للأداة لا وَضْعاً ولا استعمالاً، لأَنَّ المفروض أَنَّنَا أوَّلاً أحرزنا أن المراد من العالم الَّذی هو مَوْضُوع وُجُوب الإِکْرَامِ هو الطَّبِیعِیّ بلا قید، فمعنی ذلک أَنَّنَا أحرزنا الشُّمُولَ، فلا حاجة إلی الأداة ککلمة کل، لا وَضْعاً لأَنَّهُ لغو، ولا استعمالاً لأَنَّهُ لاغٍ أیضاً، حیث أَنَّنَا وصلنا إلی المقصود بأقصر طریق.

فلو غضضنا النَّظَر عن إشکالاتنا السَّابِقَة إنما نسلم بها فیما لو کان مقصود المرزا أن العموم متوقّف علی أن نُحدِّدَ المراد من المدخول بوصفه معروضا للحکم لتکون هذه الطُّولِیَّة موجباً للّغوِیَّة.

أما لو کان مقصود المرزا وکل من یقول بهذا القول هو أن العموم متوقّف علی إجراء الإِطْلاَق فِی المدخول لا إجراء الإِطْلاَق فِی المدخول بوصفه مَوْضُوعاً للوجوب، بل بوصفه مَعْرُوضاً وموضوعاً للعموم، لا للحکم. أی: لو کان مقصود المرزا هو أَنَّنَا یجب أوَّلاً أن نُعیِّن المراد من عالم بوصفه مَوْضُوعاً للعموم والاستیعاب لا المراد من عالم بوصفه مَوْضُوعاً لِوُجُوبِ الإِکْرَامِ کما کان فِی الفرض الأوّل، بل یجب أن نحدد أن المراد من العالم الَّذی هو مَوْضُوع للعموم والاستیعاب بالإطلاق، فنثبت بالإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة أن العالم الْمَوْضُوع للاستیعاب هو طَبِیعِیّ العالم، ثم بعد ذلک تأتی الأداة وتدلّ علی استیعاب أفراد هذا الطَّبِیعِیّ.

مثلاً فِی مثالنا أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ لو أراد المرزا أن یقول: یجب أوَّلاً أن نُعیِّنَ المراد من العالم بما هو معروض للعموم، (ما المراد العالم الَّذی عَرض علیه العالم؟) فهذا نحدده بالإطلاق، بأن المراد من الإِطْلاَق الَّذی طرأ علیه العموم هو الطَّبِیعِیّ والمطلق، ثم بعد ذلک تأتی الأداة وتدلّ علی استیعاب أفراد هذا الطَّبِیعِیّ. ثم یعرض الوجوب علی هذا الاستیعاب. فحینئذٍ لا یرد إِشْکَال اللّغوِیَّة؛ لأَنَّهُ بإجراء الإِطْلاَق فِی المدخول لا نصل إلی هذه النَّتِیجَة الَّتی وصلنا إلیها الآنَ وهی أنَّ الحکم عارضٌ للعموم، باعتبار أن الوقت انتهی تأتی تتمة البحث إن شاء الله غداً.

ص: 281

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا ندرس الاعتراض الأوَّل الْمُوَجَّه إلی قول المرزا القائل بأن العموم فِی طول الإِطْلاَق، وکان هذا الاعتراض یذکر مَحْذُور اللّغوِیَّة فِی وضع الأداة وفی استعمالها. فرفضنا لزومَ هذا المحذور فی جهتین، وانتهینا إلی الجهة الثَّالثة حیث بَیّنَّا شطراً منها، بأننا حتّی لو سَلَّمنا بمحذور اللّغوِیَّة فإنما نسلِّم به فیما لو کان المقصود أنَّ العموم متوقّف علی إجراء الإِطْلاَق فِی المدخول بوصف المدخول مَوْضُوعاً ومعروضاً للحکم (أی: بلحاظ کون المدخول مَوْضُوعاً للحکم)، لا بوصفه مَوْضُوعاً ومعروضاً للعموم، بحیث یرید أن یَقُولُ: إِنَّهُ یجب أوَّلاً أن نُعَیِّنَ المرادَ من المدخول (الَّذی هو معروض للعموم) بالإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة، لتأتی الأداة بعد ذلک وتدلّ علی استیعاب أفراد المراد، وبعد ذلک یعرض الحکم علی هذا الاستیعاب.

فکأن المرزا یرید أن یقول فِی «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» (وهو المثال السَّابِق): إنَّه لا بُدَّ من إجراء الإِطْلاَق فِی کلمة «العالم» أوَّلاً، لکی نُعیِّنَ أنَّ المرادَ من «العالمَ» الَّذی هو معروض للاستیعاب والعموم هو طبیعة «العالم» المطلقة، ثم بعد إجراء هذا الإِطْلاَق یصل الدّور إلی الأداة لتَدُلَّ علی استیعاب أفراد «العالم الواقع مَعْرُوضاً للعموم» ثانیاً، ثم یعرض وُجُوب الإِکْرَامِ علی هذا الاستیعاب وهذا العموم فِی المرحلة الأخیرة.

فإن کان هذا مقصوده، فلا یرد مَحْذُور اللّغوِیَّة؛ لأَنَّنَا مِنْ خلال إجراء الإِطْلاَق فِی المدخول بوصفه مَعْرُوضاً للعمومِ (وإثبات أن «العالم الَّذی هو معروض للعموم» مطلق) من دُونِ الاستعانة بأداة العموم لا نصل إلی المقصود الَّذی کُنَّا نبغیه وهو أن هذا العموم العارض علی هذا المطلق مَوْضُوع ومعروض للحکم.

ص: 282

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّورَةَ الذِّهْنِیَّةَ الَّتی یعطیها مثل «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» تختلف عن الصُّورَة الذِّهْنِیَّة الَّتی یعطیها مثل قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ»، رغم أن نتیجتهما واحدة، وهی عبارة عَنْ وُجُوبِ إِکْرَامِ کُلِّ عَالِمٍ، لکن هناک صورتان ذهنیتان:

الصُّورَة الَّتی تأتی إلی الذِّهْن عند سَمَاع قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ» وهی صورةُ حکمٍ عارضٍ علی المطلق (أی: وجوب إکرام عارضٍ علی المطلق). أما الصُّورَة الَّتی تأتی إلی الذِّهْن عند سَمَاع قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» تختلف، وهی صورة الحکم العارض علی العموم العارض علی المطلق. أی: صورة وجوب إکرام ثابت للاستیعاب والعموم الدَّاخِل علی المطلق، وإن کانت هذه الصُّورَة الثَّانیة أطول مسافة من الصُّورَة الأولی. فَمَوْضُوعُ الوجوب فِی الصُّورَة الثَّانیة هو العموم والاستیعاب بعد ملاحظة الإِطْلاَق فِی مدخول هذا الاستیعاب، بینما مَوْضُوع الحکم فِی الصُّورَة الأولی عبارة عن المطلق.

إذن، هذه الطُّولِیَّة (بین الإطلاق فِی ذلک المدخول، وبین العموم والاستیعاب) لا توجب لغویّة وضع الأداة للعموم، ولا لغویّة استعمالها فِی العموم؛ إذ قد یعترض غرض الواضع بأن یوفر فِی اللُّغَة أداةً لإعطاء الصُّورَة الذِّهْنِیَّة الثَّانیة، فلا یکون الوضع لغواً، کما أَنَّهُ قد یَتَعَلَّقُ غرض الْمُتِکَلِّم والمستعمِل بالصورة الذِّهْنِیَّة الثَّانیة، فأیضاً لَیْسَ الاستعمال لغواً.

هذا ما تبقی من الاعتراض الثَّالث علی إیراد السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ (ره).

إذن، فَالاِعْتِرَاضُ الأوّل من الاعتراضات الواردة علی کلام المرزا لم یکن وارداً ولا تامّاً.

الاعتراض الثَّانِی: الَّذی أورد علی قول المرزا وکل من یقول بهذا القول، هو ما ذکره المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ (ره)، حیث قال: لو کان الأمر کما یقول أصحاب هذا القول وکانت الأداة موضوعة لاسْتِیعَاب المراد من المدخول، وبالتَّالی کانت دلالة الأداة علی العموم منوطة بإجراء الإِطْلاَق فِی مدخولها، لزم اجتماع اِسْتِیعَابَیْنِ علی شیء واحد.

ص: 283

وبعبارة أخری: لزم دخول الاستیعاب علی المستوعِب.

وبعبارة ثالثة: لزم أن یکون المستوعِب مرّةً ثانیة مستوعِباً.

وهذا مستحیل، فإن من المستحیل أن یجتمع استیعابان علی شیء واحد؛ لاستلزامه اجتماع المثلین علی شیء واحد، واستلزامه قبول الشَّیْءِ لمماثله، کما یستحیل قبول الشَّیْء لمعانده.

فلو أجرینا الإِطْلاَق أوَّلاً فِی کلمة «العالم» فِی الرُّتْبَة السَّابِقَة علی الأداة، وأثبتنا أن العالم مطلق، فأصبحت کلمة «العالم» مستوعِبةً لأفراده ببرکة الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة، حینئذٍ الأداة ترید مرّةً ثانیة أن تصنع ماذا؟ ترید أیضاً أن تصیِّرَ مفهومَ عالم مستوعباً لأفراده، بینما مفهوم «العالم» استوعب أفرادَه بالإطلاق، والمستوعِب لا یستوعِب أفراده مرةً ثانیة، کما یستحیل أن یکون المستوعِب غیرَ مستوعبٍ (وأن یقبل معانده)(1) .

ویرد علی هذا الکلام بأَنَّهُ غیر وجیه أیضاً؛ وذلک:

أوَّلاً: لأَنَّ الاِسْتِیعَابَیْنِ مختلفان سنخاً ولیسا من سنخ واحد، وبالتَّالی لیسا مثلین، کی یلزم من اجتماعهما اجتماع المثلین، وقبول المماثل لمماثله؛ وذلک لما قلناه أکثر من مرّةً من أن الإطلاق علی ما هو الصَّحِیح لَیْسَ عبارة عن الاستیعاب، ویختلف عن العموم حتّی یقال: إن مفهوم العالم إذا جری الإِطْلاَق فیه أصبح مستوعِباً، فیستحیل مرّةً ثانیة أن یکون مستوعباً.

لکِنَّنَا نجیب عن الاعتراض الأوّل بنفس ما قلناه فِی الجواب عن السید الخوئی، وهو أن الاستیعاب الَّذی نفهمه من إجراء الإِطْلاَق فِی المدخول غیر الاستیعاب الَّذی نستفیده من دخول الأداة علی المدخول، لما قلناه من أن الإِطْلاَق لَیْسَ استیعاباً أصلاً، بل هو عبارة عن تعریة الطَّبِیعَة عن الخُصُوصِیّات الفردیة، أی: یُلغی التَّکَثُّر فِی باب الإِطْلاَق، ولکن التَّکَثُّر یُلحظ فِی باب العموم مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم، حیث یری الْمُتِکَلِّم جمیع الأفراد من حیث أنَّها جمیع الأفراد. بینما النَّظَر فِی الإِطْلاَق إلی ذات الطَّبِیعَة والنَّظَر فیه إلی ذات الطَّبِیعَة، وفرق کبیر بین الأمرین.

ص: 284


1- (1) - الإِصْفِهَانِیّ، نهایة الدرایة: ج2، ص 183-184.

وعلیه فَالَّذِی تفیده مقدّمات الحِکْمَة عند جریانها فِی المدخول لَیْسَ إلاَّ عبارة عن أن مَوْضُوع الحکم ذات الطَّبِیعَة بلا قید، أمّا الَّذی تفیده الأداة (أداة العموم) فهی عبارة عن استیعاب الأفراد وإرائة الأفراد فِی مرحلة الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للکلام، إذن مفاد الأداة مَفْهُوماً وتصورا لَیْسَ من سنخ مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، أی: لیس مفاد مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ استیعاباً، أمّا الأداة فمفادها الاستیعاب.

ففی مرحلة الْمَدْلُول التَّصوُّریّ للکلام لم یجتمع استیعابان متماثلان. فإن کلمة «کل» فِی قولنا: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» تَدُلّ تصوُّراً علی استیعاب أفراد العالم، وکلمة «العالم» لا تَدُلّ تصوُّراً علی استیعاب أفرادها، وإنَّما تَدُلّ علی ذات الطَّبِیعَة. فأین الاستیعابان المتماثلان؟ ومتی أصبح المستوعِب مستوعِباً؟ فلا یوجد فِی مرحلة الْمَدْلُول التَّصوّری للکلام إلاَّ استیعاب واحد (وهو الاستیعاب الَّذی تَدُلّ علیه الأداة)، ولا نجد استیعابین حتّی یکونا مماثلین.

وثانیاً: لو سَلَّمنا بأن الاِسْتِیعَابَیْنِ من سنخ واحد، لکن مع ذلک لا یلزم من اجتماعهما اجتماع المثلین، لکن هذین الاِسْتِیعَابَیْنِ مرکزهما مختلف، مرکز أحدهما غیر مرکز الآخر. مرکز استیعاب «العالم» هو استیعاب العالم لأفراده (واستیعاب الطَّبِیعَة لأفرادها)، بینما استیعاب الثَّابِت للأداة هو استیعاب مَفْهُوم اسمیّ لأفراد مفهوم اسمی آخر (استیعاب مفهوم کل لأفراد العالم). فَیَکُونُ قولنا: «أکرم کل عالم» نظیر قولنا: «أکرم کل العلماء» (علی أن یکون الجمع المحلی بِاللاَّم مفیدا للعموم فِی نفسه ومستقلاًّ عن کلمة «کل»). فلا یلزم اجتماع استیعابین علی مفهوم واحد؛ لأَنَّ المرکز مختلف، وإنَّما هناک استیعابان کل منهما قائم بمفهوم، أحدهما قائم بمفهوم «کل» والآخر قائم بمفهوم «العلماء»، فلا یوجد لدینا مفهوم واحد طرأ علیه استیعابان، حتّی یلزم طروّ مثلین علی شیء واحد واجتماع مثلین علی شیء واحد.

أو من قبیل قولنا: «قرأتُ کل الکتاب» فماذا یقول الإِصْفِهَانِیّ هنا؟! هناک أیضاً لا یلزم اجتماع اِسْتِیعَابَیْنِ علی شیء واحد، بل هناک استیعاب قائم بمفهوم کل (استیعاب «کل» لأجزاء مفهوم آخر وهو «أجزاء الکتاب»)، ومفهوم «الکتاب» أیضاً مستوعِب لأجزائه.

ص: 285

والحاصل: أَنَّنَا نقول فِی هذا الاعتراض الثَّانِی بأننا حتّی لو سَلَّمنا بأن الإِطْلاَق استیعاب مثل العموم، لکِنَّنَا نقول بأن المستوعِب الأوّل فِی الرُّتْبَة السَّابِقَة علی الأداة هو ذات المدخول (أی: مفهوم «العالم» مستوعِب لأفراده)، والمستوعِب الثَّانِی هو مفهوم «کل» لأَنَّ «کل» اسم وله مفهوم اسمی، هذا الْمَفْهُوم الاسمیّ مستوعب لأفراد مفهوم «العالم». فلم یصبح المستوعِب مستوعِباً ثانیةً.

وثالثاً: حتّی لو غضضنا النَّظَر عمَّا قلناه أوَّلاً (وفرضنا أن الإِطْلاَق یَدُلّ علی الاستیعاب) وغضضنا النَّظَر عمَّا قلناه ثانیاً (بأن مرکز الاِسْتِیعَابَیْنِ مختلف ولیس واحداً) لکن مع ذلک نَقُول: إِنَّ لهذا الاستیعاب مدلولان طُولِیَّانِ، أحدهما الأداة والآخر الأداة. لأَنَّ الطُّولِیَّة إِنَّمَا هی بین دالّین. الأداة تَدُلّ علی الاستیعاب فِی طول دلالة الإِطْلاَق علی الاستیعاب. أما الْمَدْلُول واحد، فلا یوجد مدلولان، بل یوجد مدلول واحد وهو الاستیعاب، فلا تعدّد ولا اثنینیة فِی الاستیعاب حتّی یلزم مَحْذُور اجتماع اِسْتِیعَابَیْنِ علی شیء واحد.

حاصل الاعتراضات الثَّلاثة:

الاعتراض الأوّل: إِنَّمَا یلزم اجتماع المثلین فیما إذا کان هناک دلالتان تصوریتان علی استیعابین طولیین مختلفین فِی مستوعِب واحد (فلو کان هکذا لکان اعتراض الإِصْفِهَانِیّ (ره) وارداً)، بینما اتَّضَحَ فِی الاعتراض الأوّل أَنَّهُ لا توجد لدینا دلالتانِ تصوریتان علی الاستیعاب، وإنَّما توجد دلالة تَصَوُّرِیَّة واحدة علی الاستیعاب وهی دلالة الأداة، أما الإِطْلاَق فدلالته تصوُّراً لیست علی الاستیعاب بل علی ذات الطَّبِیعَة لا أکثر.

الاعتراض الثَّانِی: اتضح فیه أَنَّهُ لا یوجد لدینا (حتّی لو کانت عندنا دلالتان تصوریتان علی الاستیعاب) مستوعِب واحد، بل هناک مفهومانِ مستوعبانِ، أحدهما الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ للأداة، والآخر الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ للمدخول. إذن فلم یصحّ وجود دلالتان تصوریتان للاستیعاب علی مفهوم واحد.

الاعتراض الثَّالث: واتضح فِیه عدمُ وجود استیعابین طولیین، بل یوجد دالان طُولِیَّانِ علی هذا الاستیعاب. وبالتَّالی لم یلزم اجتماع استیعابین متماثلین فِی مستوعِب واحد، فلم یلزم صیروة المستوعِب مستوعِباً مرّةً ثانیة لاستیعاب المماثل، کی یکون من قبیل قبول المماثل لمماثله، وبالتَّالی یکون من قبیل اجتماع المثلین.

ص: 286

إذن، فالاعتراض الثَّانِی الَّذی أورده المُحَقِّق الإِصْفِهَانِیّ (ره) علی القول الأوّل فِی المسألة غیر تامّ.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الاعتراض الثَّالث: (الَّذی أُورِد علی ما قاله النائینی من أن العموم فِی طول الإطلاق) ما أورده السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ أیضاً، وهو أَنَّهُ یَسْتَلْزِم من قول المیزرا باطلٌ، وهو عدم إمکان التصریح بالعموم أصلاً؛ لأَنَّ العموم دائماً فِی طول الإِطْلاَق ومُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، فلو أُنِیطَتْ دلالة الأداة علی العموم بإجراء مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ فِی مدخولها (کما هو المفروض بناءًا علی هذا القول)، لزم من ذلک أَنْ لاَّ یَکُونَ الْمُتِکَلِّم قادراً علی التصریح بالعموم، مهما استعمل من الألفاظ (حَتَّی لو قال: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ قاطبةً» وجاء بمختلف الألفاظ) فلا یکون کلامه صریحا فِی العموم؛ إذ أنَّ غایة ما تفیده هذه الألفاظ والأدوات إِنَّمَا هو استیعاب ما یُراد من مدخولها، أمّا تعیین أَنَّهُ ماذا یُراد من مدخولها فهذا علی عاتق مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ لکی یتعیَّنَ أنَّ المراد من مدخول هذه الألفاظ هو المطلق، لتأتی الأداة بعد ذلک وتدلّ علی استیعاب أفراد هذا المطلق. بینما مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا اللاَّزِم (أی: عدم إمکان التصریح بالعموم) باطل بالوجدان الْعُرْفِیّ؛ فإِنَّهُ یحکم بأن بإمکان الْمُتِکَلِّم أن یصرح بالعموم بحیث یستغنی من مُقَدِّمَات الحِکْمَةِ رأساً(1) .

هذا الاعتراض أیضاً لا یمکن قبوله وذلک یُحتمل أن یکون مراده أحد هذه المحتملات الثَّلاثة:

المحتمل الأوّل: أَنْ یَکُونَ مقصود السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ من هذا الکلام أنَّ الْمُتِکَلِّم لا یتمکن من أن یجعل کلامَه صریحاً فِی العموم من خلال أداة العموم؛ لأَنَّ المیرزا یقول بأن دلالة الأداة علی العموم متوقّفة علی إجراء الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة فِی المدخول؛ إِذْ أَنَّ الإِطْلاَق ظهور ولیس صَرِیحاً فِی العموم، فلا یمکن لِلْمُتِکَلِّمِ أن یجعل کلامه صَرِیحاً فِی العموم من خلال أداة العموم ومدخولها. هل هذا ما یرید السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ أن یقوله؟

ص: 287


1- (1) - هامش أجود التقریرات: ج1، ص 440 وما بعدها.

إذا کان هذا ما أراده السَّیِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِیّ رَحِمَهُ اللَهُ، فهذا اللاَّزِم مِمَّا لا ینکره أصحاب هذا القول ولا یأبون منه، بل هذا مُدَّعَاهُم، وهذا لَیْسَ إِشْکَالاً علی المیرزا ومن یقول بمقولته.

المحتَمَل الثَّانِی: أَنْ یکون مقصوده رَحِمَهُ اللَهُ من هذا الکلام هو أنَّه یَسْتَلْزِم من قول المیرزا أن لا یتمکن الْمُتِکَلِّم من التصریح بالعموم واستیعاب جمیع أفراد مدخول الأَدَاة أصلاً، وبأی وجه من الوجوه، ولو بواسطة ألفاظ أخری غیر أداة العموم.

وهذا لَیْسَ صحیحاً؛ لأَنَّ من البدیهی أن من الممکن التصریح بالعموم فِی اللُّغَة الْعَرَبِیَّة من خلال ألفاظ أخری کما إذا قال: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ بلا قید ولا استثناء»، فَیَکُونُ الکلام صَرِیحاً ولا یحتاج إلی مقدّمات الحکمة؛ لأَنَّ غایة ما تُثبته مُقَدِّمَاتُ الْحِکْمَةِ هو أن السُّکوت وعدم ذکر القید یَدُلّ علی الإِطْلاَق (ویدلّ علی عدم التَّقْیِید)، بینما المفروض أن الْمُتِکَلِّم صَرَّحَ هنا بعدم القید (حیث قال: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ بلا قید ولا استثناء»)، لا أَنَّهُ سکت عن ذکر القید. فتکون الدِّلاَلَة علی عدم القید دلالة لفظیة صریحة ولیست دلالة سُکُوتِیَّة حَکَمِیَّة ومعه فلا حاجة إلی إجراء مُقَدَِّمَات الْحِکْمَةِ لإِثْبَاتِ عدم القید. إذن، إمکان التصریح بالعموم بهذا النَّحْو لَیْسَ مِمَّا یَسْتَلْزِم قول المیرزا عدمَه؛ إِذْ أَنَّ المرزا یقول: لا یمکن التصریح بالعموم من خلال الأداة ولیس من خلال شیء آخر غیر الأداة.

المحتمل الثَّالث: هو أن یکون مقصوده رَحِمَهُ اللَهُ مجرّد هذه الدَّعْوَیٰ وهی أن أداة العموم صریحة فِی العموم، بخلاف الإِطْلاَق، فیلزم من کلام المیرزا إنکار هذا الأمر الواضح (أی: إنکار صراحة الأداة فِی العموم، أی: أنَّ المرزا سلب من الأداة صراحتَها وقَیَّدها بالظهور الَّذی هو لَیْسَ صَرِیحاً).

ص: 288

ولعلّ هذا الاحتمال هو مقصوده، وهذا ما سنتعرض له قَرِیباً - إن شاء الله - وإن کانت عبارة الکتاب لا تساعد علی إرادة هذا المعنی.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ هذا الاعتراض لا یمکن مساعدته، کالاعتراضین السابقین.

الاعتراض الرَّابع: علی کلام المیرزا هو ما أفاده سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ وهو الوجه الصَّحِیح المختار من وجوه الاعتراض علی قول المیرزا، وهو أَنَّهُ ما هو المقصود من قولکم: «إنَّ الأداة وضعت لاستیعاب المراد من المدخول»؟ إذ یحتمل فیه أربعة احتمالات وسوف نری أن کُلّهَا غیر تامَّة، وبالتَّالی لا یَتُمّ أصل هذا الکلام (وهو أنَّ الأداة وضعت لاستیعاب المراد من المدخول).

الاحتمال الأوّل: أَنْ یَکُونَ المقصود هو استیعابُ المرادِ الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ من المدخول.

الاحتمال الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ المقصود هو استیعابُ المراد الاستعمالی لِلْمُتِکَلِّمِ من المدخول.

الاحتمال الثَّالث: أَنْ یَکُونَ المقصود هو استیعابُ ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من المراد الاستعمالیّ.

الاحتمال الرَّابع: أَنْ یَکُونَ المقصود هو استیعابُ المدخول، تماماً کما یقوله أصحاب القول الآخر فِی المسألة (أی: قول صاحب الکفایة حیث کان یقول بأنَّ الأداة وضعت لاستیعاب ما یصلح المدخول للانطباق علیه)، غایة الأمر تریدون أن تقولوا: إن استفادة العموم من الأداة بنحو الاستفادة التصدیقیة (أی: أَنْ یَکُونَ الحکم فِی عالم الثُّبُوت والمراد الْجِدِّیّ مستوعِباً لتمام الأفراد، هذه الاستفادة تابعة لجریان الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة. وفیما یلی نوضح هذه المحتملات وندرسها:

أما الاحتمال الأوّل (القائل بأن الأداة موضوعة لاستیعاب أفراد المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ من المدخول، ونُعَیِّنُ المرادَ الْجِدِّیَّ لِلْمُتِکَلِّمِ ونحدِّدُه بالإطلاق أوَّلاً، ثم تأتی الأداة وتَدُلّ علی استیعاب أفراد هذا المطلق. فَیَکُونُ العموم فِی طول الإِطْلاَق، وبحاجة إلی جریان الإطلاق فِی مدخول الأداة) فیرد علیه بأَنَّهُ احتمال باطل، لأَنَّهُ یَسْتَلْزِم منه ثلاثة محاذیر:

ص: 289

المحذور الأوّل: هو أَنَّهُ یلزم من هذا الکلام أَنْ لاَّ یَکُونَ للأداة معنیً ومدلولاً ولا یُفهم منها العموم فِی الموارد الَّتی لا یوجد فیها مراد جدی لِلْمُتَکَلِّمِ، کما فِی حالة الهزل. فإن قال الْمُتِکَلِّم هازلاً: «أکرم کلَّ بنی أمیةَ»، یجب أَنْ لاَّ یَکُونَ للأداة معنیً ومدلولاً تصوُّریّاً؛ لأَنَّ مدلولها التَّصوُّریّ الحقیقیّ (الَّذی وضعت له الأداةُ) مرتبطٌ بالمراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ (حسب الفرض)؛ ففی المورد الَّذی لا یوجد مراد جدی لِلْمُتِکَلِّمِ تصبح الأداة بلا معنی. فیلزم منه أن لا تکون الأداة ذات معنی ولا یفهم منها العموم.

بینما من الواضح أنَّ للأداة معنی تصوری حقیقی یأتی إلی الذِّهْن قَطْعاً، وأَنَّ العموم یحضر فی ذهن العرف حتّی فِی حالات الهزل هذه.

المحذور الثَّانِی: هو لزوم تفکّک الجملة المتضمّنة للأداة فِی مرحلة مدلولها التَّصوُّریّ والاستعمالیّ، وعدم وجود أیّ ترابط بین مفرداتها من حیث الدِّلاَلَة التَّصوُّریّة والاستعمالیّة. أی: أن المحذور الثَّانِی الَّذی یلزم من هذا الکلام هو أَنَّهُ لا یتحصل معنیً جَمْعی "تصوری واستعمالی" للجملة، سَوَاءٌ أکَانَ هناک مراد جدّی لِلْمُتَکَلِّمِ أو لم یکن.

فنحن لا نرید أن نطرح مَحْذُور الهزل هنا، بل نرید أن نقول: حتّی فِی حالة ثبوت المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ یلزم مَحْذُور آخر من کلام المیرزا (لو کان مراده هذا الاحتمال الَّذی طرحناه، وهو أَنَّهُ لطالما فرضتم أن الأداة وضعت لاستیعاب المراد الْجِدِّیّ لأفراد مَدْخُولهَا) وهو أنَّ الأداة فِی دلالتها متَّجِهة إلی المراد الْجِدِّیّ مباشرة، فلا دلالة لها فِی مرحلة التَّصَوُّر والاستعمال، وإذا لم یکن للأداة معنیً فِی مرحلة التَّصَوُّر والاستعمال، إذن سوف لن یکون هناک ربط بین أطراف الجملة المتضمنة للأداة. أی: سوف لن یتحصل للجملة معنیً جمعی وتصوری؛ لأَنَّ المعنی الجمعی التَّصوُّریّ للجملة بما هی جملة متقوّم بوجود الرَّبْط بین مفردات الجملة وأطرافها، وهذا الرَّبْط قوامه المعنی التَّصوُّریّ والاستعمالی لکل واحد من ألفاظ الجملة.

ص: 290

فإن فرضتم أن واحداً من ألفاظ الجملة (وهو الأداة) لا معنی تصوری واستعمالی له، فلا ربط بین المفردات، وبالتَّالی لا یبقی للجملة بما هی جملة معنی فِی مرحلة التَّصَوُّر والاستعمال؛ لأنکم فرضتم أن الأداة فِی دلالتها متجهة إلی المدخول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ مباشرة، إذن فِی مرحلة التَّصَوُّر لا معنی للأداة، وإذا لم یکن للأداة معنی فتفکّکت الجملة (لأَنَّ الأداة من عناصر الجملة)، وهذا واضح البطلان، ضرورةَ أن الجملة بما هی جملة لها معنی تصوری بِغَضِّ النَّظَرِ عن المعنی التَّصدیقیّ والمراد الْجِدِّیّ.

المحذور الثَّالث: أَنَّهُ یلزم من هذا الکلام التَّهافت والتناقض فِی لحاظ السَّامِع للمدلول التَّصدیقیّ للکلام. أی: أنَّ السَّامِع فِی لحاظه وتصوره للمراد الْجِدِّیّ من مَجْمُوع الْجُمْلَةِ یبتلی بالتضادّ والتناقض؛ وذلک لأَنَّ المفروض بحسب هذا القول هُوَ أَنَّ الأَدَاةَ وضعتْ لاستیعاب أفراد المراد الْجِدِّیّ من المدخول، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المدخول وحده لا مدلولَ جدّی له، وإنَّما یُتصور له مدلول ومراد جدّی فِی ضمن المراد والمدلول الْجِدِّیّ لمجموع الکلام (أی: فِی ضمن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ للکلام)، وإلاَّ فإنَّه لیس للأداة وحدها مدلول تصدیقی ومراد جدّی (بل فِی ضمن الْمَدْلُول التَّصدیقیّ الْجِدِّیّ للکلام)، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْمَدْلُول التَّصدیقیّ لکلامٍ لَیْسَ متعدّداً بعدد مفردات الکلام (أی: لا یقتنص ولا یقتبس المرادُ الْجِدِّیّ من کل کلمةٍ کلمةٍ، وإنَّما یقتبس من مجموع الکلام).

إذن، المدلول الْجِدِّیّ لمدخول الأداة هو الْمَدْلُول الْجِدِّیّ نفسه لمجموع الکلام، ولا یُتصور إلاَّ فِی ضمن الْمَدْلُول الْجِدِّیّ للکلام. فلو کانت الأداة موضوعة لاستیعاب أفراد المدلول الْجِدِّیّ لمدخولها (کما یقول أصحاب هذا القول) یلزم منه حصولُ التهافت والتناقض فِی اللِّحَاظ والتصوّر فِی ذهن السَّامِع؛ لأَنَّهُ الأداة موضوعة لاستیعاب المراد الْجِدِّیّ من المدخول، فلا بُدَّ للسَّامِع أن یتصوّر الْمَدْلُول الْجِدِّیّ للکلام فِی المرحلة السَّابقة، (قبل تصوّر معنی الأداة علیه أن یتصوّر الْمَدْلُول الْجِدِّیّ للکلام؛ لأَنَّهُ قلنا لا یتصوّر لِلْمَدْخُولِ مراد جدّی إلاَّ فِی ضمن المراد الْجِدِّیّ للکلام ککل، فَیَکُونُ تصوّر معنی الأداة فِی طول تصوّر المراد الْجِدِّیّ من مجموع الکلام). هذا من جهة.

ص: 291

ومن جهة أخری یُقتبس المرادُ الْجِدِّیّ للکلام من مجموع الکلمات، ومن جملة هذا المجموع الأداة نفسها (أی: یَدُلّ مجموع الکلام دلالة تَصْدِیقِیَّة جدیة علی نسبةٍ تامَّةٍ یکون أحد طرفیها مدخول الأداة نفسها.

مثلاً قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» یَدُلّ علی نسبة إرسالیة مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم للسامع نحو «إکرام کل عالم». إذن، یجب أن یتصوّر السَّامِعُ معنی الأداةِ ومدخولها فِی الرُّتْبَةِ السَّابِقَة علی تصوّره للمراد الْجِدِّیّ للکلام؛ لأَنَّ معنی الأداة ومدخولها طرف لهذه النِّسْبَة، فیجب أن یتصوّر معنی الأداة ومدخولها حتّی یمکن أن یتصوّر النسبةَ. فَیَکُونُ تصوّر الْمَدْلُول الْجِدِّیّ للکلام فِی طول تصوّر معنی الأداة، وقبل ذلک فرضنا أن تصوّر معنی الأداة فِی طول تصوّر المراد الْجِدِّیّ (أی: فِی ذهن السَّامِع هذا متوقّف علی ذاک وذاک متوقّف علی هذا، أی: ستکون النَّتِیجَة فِی ذهنه توقّف الشَّیْء علی نفسه).

وَالنَّتِیجَة أَنَّهُ یَسْتَلْزِم تهافت وتناقض فِی تصوّر السَّامِع فِی ذهنه ولحاظه، وهذا (التهافت والتناقض فِی اللِّحَاظ والتصوّر فِی آن واحد بِالنِّسْبَةِ إلی شیء واحد) محال.

فیبطل الاحتمال الأوّل لوجود هذه المحاذیر الثَّلاثة، ویبقی أن ندرس الاحتمالات الأخری، وهذا ما سیأتی إن شاء الله.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا ندرس الاعتراض الَّذی أورده السید الأستاذ الشهید علی المُحَقِّق النائینی وغیره من القائلین بأن العموم فِی طول الإِطْلاَق، وَأَنَّ الأَدَاةَ موضوعة لاستیعاب المراد من المدخول، ولذا لا بُدَّ من تَحْدِید الْمُرَادِ من خلال الإِطْلاَق أوَّلاً، ثم تَدُلّ الأداة علی استیعاب أفراد هذا المراد.

الاعتراض الَّذی وَجَّهَهُ سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ إلی هذا القول هو أنَّ المحتملات فیه أربعة لا بُدَّ من دراستها:

ص: 292

الاحتمال الأوّل: ما ذکرناه بالأَمْسِ، وهو أن یکون المقصودُ کون الأداة موضوعة لاستیعاب المراد الْجِدِّیّ من المدخول. وقد أبطلناه من خلال القول بأَنَّهُ یَسْتَلْزِم محاذیر ثلاثة ذکرناها بالأَمْسِ.

الاحتمال الثَّانِی: أن یکون المقصود هو أن الأداة موضوعة لاستیعاب المراد الاستعمالیّ من المدخول، لا المراد الْجِدِّیّ، فإن قال: «أَکْرِمْ کُلَّ رجلٍ» یکون المراد الاستعمالی من کلمة «رجل» (أی: المعنی المستعمل فیه) عبارة عن الإنسان المُذَکَّر، فیقال حینئذٍ إن کلمة «کُلٍّ» وضعت وتدلّ علی استیعاب أفراد الإنسان المذکر. هذا هو الاحتمال الثَّانِی فِی مقصود القائلین بهذا القول.

وهو احتمال معقول؛ إذ من الممکن أَنْ تَکُونَ الأداة موضوعة لاستیعاب أفراد المعنی الَّذی استعمل فیه المدخول، لکنَّ هذا الاحتمال بِالرَّغْمِ من أَنَّهُ معقول لا یُحَقِّق غرضَ النائینی وغیره من القائلین بهذا القول، فإن غرضهم هو کون العموم فِی طول الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة فِی المدخول، وغرضهم أنَّ دلالة الأداة علی العموم متوقّفة علی أن نَنْفِیَ إرادةَ القید بالإطلاق وبمقدمات الحِکْمَة. أما بناءًا علی هذا الاحتمال لا یکون العموم فِی طول الإِطْلاَق (أی: لا تکون دلالةُ الأداة علی الاستیعاب بحاجة إلی الإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة فِی المدخول)، وإنَّما یکون العموم فِی طول تعیین المراد الاستعمالیّ للمدخول (أی: دلالة الأداة علی استیعاب تکون بحاجة إلی ما یُعَیِّنُ المرادَ الاستعمالیّ للمدخول).

وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ تعیین المراد الاستعمالیّ لا یحتاج إلی الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة ولا یَتَحَدَّدُ عن هذا الطَّرِیق، بل یتحدَّد ویتعیَّن المرادُ الاستعمالی دائماً بأصالة الحقیقة وَالَّتِی هی أصل عُقَلاَئِیّ یعیِّن لنا دائماً أن اللَّفظ قد استُعمل فِی معناه الحقیقی، وهو الَّذی یُحَدِّدُ ویُعَیِّنُ لنا أنَّ المراد الاستعمالی لِلْمُتِکَلِّمِ من المدخول هو المعنی الحقیقی الَّذی وضع له. فمقتضی أصالة الحقیقة فِی المدخول هو أن هذا المدخول قد استعمل استعمالاً حقیقیّاً وأنَّ المراد الاستعمالی منه هو المعنی الحقیقیّ، فَتَدُلُّ الأداة حینئذٍ علی استیعاب أفراد هذا المعنی الحقیقیّ، مِنْ دُونِ أی حاجة إلی الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة.

ص: 293

مثلاً فِی مثالنا المتقدم عندما یقول: «أَکْرِمْ کُلَّ رَجُلٍ» (بناءًا علی الاحتمال الثَّانِی وهو أن الأداة وضعت لاستیعاب المراد الاستعمالیّ من الْمَدْخُول) یکون المراد الاستعمالیّ لکلمة «رجل» (بعد إجراء أصالة الحقیقة وأصالة عدم المجاز) عبارة عن الإنسان المذکر مِنْ دُونِ أخذ أیّ قید آخر فِی معنی الرَّجُل مثل قید «العدالة».

فنثبت بأصالة الحقیقة أن المراد من «الرَّجُل» هو «الإنسان المذکر» لا «الإنسان المذکر العادل»، بلا حاجة إلی إجراء الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة لإِثْبَاتِ عدم القید؛ لأَنَّنَا نفحص عن المراد الاستعمالیّ ولا نبحث عن المراد الْجِدِّیّ حتّی نحتاج إلی مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، فإن الأخیرة طریق لإِثْبَاتِ المراد الْجِدِّیّ، أمّا هنا فلا نحتاج إلی المراد الْجِدِّیّ (بناءًا علی هذا الاحتمال الثَّانِی)؛ لأَنَّنَا فرضنا فِی هذا الاحتمال أنَّ الأداة موضوعة لاستیعاب المراد الاستعمالیّ من المدخول، ولیس المراد الْجِدِّیّ. فنفحص عن المراد الاستعمالی للمدخول، وفی مقام الفحص عنه لا نحتاج إلی الإِطْلاَق، بل نحتاج هنا إلی أصالة الحقیقة الَّتی تُثبت لنا أنَّ لفظ «رجل» مثلاً لم یُستعمل فِی إنسان خاصّ وهو الإنسان المذکر العادل؛ إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن قاسم الطهرانی عفی عنه. إذ لو کان کذلک لکان المراد الاستعمالیّ لِلَّفْظِ معنی مَجَازِیّاً، ولکن أصالة الحقیقی تنفی هذا المطلب وتُعَیِّنُ أنَّ اللَّفظَ قد استُعْمِلَ فِی نفس المعنی الحقیقی الَّذی وضع له. وهو ذات الطَّبِیعَة (أی: طبیعة الإنسان المذکر). فإذا کان المراد الاستعمالیّ للمدخول عبارة عن ذات الطَّبِیعَة دلت الأداة علی استیعاب أفراد هذه الطَّبِیعَة.

هذه هی النَّتِیجَة الَّتی نصل إلیها بناءًا علی الاحتمال الثَّانِی، فلا یتحقّق غرضُ النائینی وهو أن یصبح العموم فِی طول الإِطْلاَق؛ إذ لا دور للإطلاق بناءًا علی هذا الاحتمال، بل یصبح العموم فِی طول أصالة الحقیقة، وتقول أصالة الحقیقة: إنَّ المعنی المستعمل فیه هو المعنی الموضوع له والمعنی الحقیقی (أی: یرجع الکلام إلی القول الآخر وهو قول الآخوند) وهو أنَّ کلمة «رجل» تصلح للانطباق علی کل إنسان مذکر. وأصالة الحقیقة تقول: إن کلمة «رجل» استعملت فِی هذا المعنی (أی: فِی ذات الطبیعة الصالحة للانطباق) فوصلنا إلی ما یقوله الآخوند الَّذی هو مخالف لقول المیرزا، فهذا الاحتمال الثَّانِی خلف ما یریده المیرزا. فلا یمکن القول بأن هذا الاحتمال هو مقصود المیرزا، بل تکون نتیجته ضدّ ما یریده المیرزا.

ص: 294

الاحتمال الثَّالث: أن یکون مقصود المیرزا لا الأوّل (الأداة وضعت لاستیعاب المراد الْجِدِّیّ) ولا الثَّانِی (الأداة وُضعت لاستیعاب المراد الاستعمالی)، بل مقصوده أن الأداة وضعت لاستیعاب ما فِی ذهن المتکلم من المراد الاستعمالیّ.

فَإِنَّنَا عندما نسمع «أَکْرِمْ کُلَّ رجلٍ» فِی المثال المتقدّم، نحتمل أن یکون ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من المراد الاستعمالیّ لکلمة «رجل»، عبارة عن نفس المعنی الْمَوْضُوع له، یعنی «الإنسان المذکّر»، کما أَنَّنَا نحتمل احتمالاً آخر أیضاً وهو أن یکون ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من المراد الاستعمالیّ لکلمة «رجل» (أی: ما یتصوره الْمُتِکَلِّم من کلمة «رجل» فِی مقام الاستعمال) عبارة عن الإنسان المذکّر العادل. أی: نحتمل أن یکون قید «العدالة» موجوداً فِی ذهن الْمُتِکَلِّم، وأنه أراد أن یستعمل کلمة «رجل عادل» وأن یقول «رجل عادل» ولٰکِنَّهُ حذف کلمة «العادل» فِی الکلام. فهذا احتمال موجود أیضاً.

إذن ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من المراد الاستعمالی للمدخول مُرَدَّد بین الإنسان الْمُذَکَّر (أی: المعنی الموضوع له) وبین الإنسان المذکر العادل. فیقال حینئذٍ: إن الأداة (أی: کلمة «کُلٍّ») وضعتْ لاستیعاب أفراد ما فِی ذهن المتکلم.

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَی: إِن المدخول (کلمة «رجل» مثلاً فِی مثالنا) هو اسم جنس، واسم الجنس مَوْضُوع لطبیعة مهملةٍ (أی: ذات المعنی وذات الْمَاهِیَّة)، لکن الموجود فِی ذهن الْمُتِکَلِّم وَالَّذِی یتصوره الْمُتِکَلِّم دائماً لا یمکن أن یکون هذه الطبیعة المهملة؛ فإنَّ ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم وما یتصوره دائماً شیء أزید من هذا المعنی الْمَوْضُوع له؛ إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن قاسم الطهرانی عفی عنه. لأَنَّ هذا المعنی الْمَوْضُوع له عبارة عن الطَّبِیعَة المهملة، وَالطَّبِیعَة الْمُهْمَلَةُ علی إهمالها لا تلحظ، فإن الطبیعة عندما تلحظ وتُتصور فإما أن تُلحظ مطلقة أو أن تُلحظ مقیَّدة. أمّا أن تلحظ مهملة فلا یمکن؛ لأَنَّ معنی ذلک ارتفاع النقیضین. وارتفاع النقیضین محال فِی أیّ عالَم من العوالم، سواء فِی عالم الوجود الخارجیّ أو فِی عالم الوجود الذهنی. فلا یمکن أن یکون الموجود فِی ذهن الْمُتِکَلِّم عبارة عن الطَّبِیعَة المهملة الَّتی لا هی مطلقة ولا هی مقیَّدة، فإن هذا من ارتفاع النقیضین.

ص: 295

إذن، فالموجود فِی ذهن الْمُتِکَلِّم دائماً إما هو الطَّبِیعَة المقیَّدة (یعنی الإنسان المذکر العادل فِی مثالنا) أو الطَّبِیعَة المطلقة (أی: الإنسان المذکر).

فیقال: إن أداة العموم وضعت لاستیعاب تمام أفراد ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من المراد الاستعمالی، وَالَّذِی لا ندری هل هو الطَّبِیعَة المطلقة أو الطَّبِیعَة المقیَّدة، باعتبار أَنَّنَا نحتمل احتمالین کما ذکرنا.

فلذا نحتاج إلی مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ والإطلاق، لکی یُثبت لنا الإِطْلاَقُ أنَّ ما فِی ذهنه وما تصوّره إِنَّمَا هو الطَّبِیعَة المطلقة، فَیَکُونُ العموم فِی طول الإِطْلاَق ومتوقف علی إجراء مقدّمات الحکمة فِی المدخول فِی الرُّتْبَة السَّابِقَة، لکی نحرز أنَّ الْمُتَکَلِّم لم یتصوّر الطَّبِیعَةَ المقیَّدة، بل ما تصوّره من المدخول فِی مقام الاستعمال هو الطَّبِیعَة المطلقة. هذا ما نثبته بالإِطْلاَق، ثم نأتی إلی الرُّتْبَة الثَّانِیة لإِثْبَاتِ أفراد هذا الَّذی تصوّره الْمُتِکَلِّم. هذا شرح الاحتمال الثَّالث.

یقول سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رَحِمَهُ اللَهُ: إنَّ هذا الاحتمال أیضاً باطل؛ لأَنَّهُ یرد علیه:

أوَّلاً: أَنَّهُ یلزم منه أخذ مفهومٍ غریب عن معنی الأداةِ فِی معنی الأداة ومدلولها؛ لأَنَّهُ یوجد فِی المقام ثلاثة دوالّ:

الدَّالّ الأوّل: الأداة وهی کلمة «کل» فِی المثال.

الدَّالّ الثَّانِی: مدخول الأداة وهی کلمة «رجل» فِی المثال.

الدَّالّ الثَّالث: هیئة إضافة الأداة إلی مدخولها وهی هیئة إضافة «کلّ» إلی «رجل» فِی المثال.

ومِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الدَّالّ الثَّانِی یَدُلّ علی الطَّبِیعَة المهملة (اللابشرط الْمَقْسَمِیّ)؛ لأَنَّ المدخول اسم جنس واسم الجنس مَوْضُوع لذات الطَّبِیعَة.

أما الدَّالّ الثَّالث: فمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّها هیئة جملة ناقصة وهی تَدُلّ عَلَی النِّسْبَةِ الناقصة بین طرفین، أحدهما معنی «کل» وهو الاستیعاب، وَالثَّانِی: معنی «رجل» وهو ذات الطَّبِیعَة.

ص: 296

إذن، فلا بُدَّ من أن نفترض أنَّ الدَّالّ علی هذا العنصر الَّذی ذُکر فِی هذا الاحتمال الثَّالث (وهو عنصر ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من کلمة «رجل» فِی مقام الاستعمال) هو عبارة عن الأداة، بأن یقال: إن الأداة موضوعة للاستیعاب ولتحدید ما یتصوره الْمُتِکَلِّم من کلمة «رجل»، وهذا معناه أَنَّنَا أخذنا معنی ومفهوماً غریباً فِی کلمة «کل»، وهذا واضح البطلان.

ویأتی توضیح أکثر لهذا المطلب غداً إن شاء الله تعالی.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کان الکلام فِی نقد القول القائل بأنَّ العموم فِی طول الإِطْلاَق، وأنه متوقّف علی إجراء الإِطْلاَق فِی مدخول أداة العموم. ذکرنا أن سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه الله اعترض علی هذا القول بأن قولکم: إن الأداة موضوعة لاستیعاب المراد من المدخول، ماذا تقصدون منه؟ ذکرنا أن هناک محتملات أربعة:

الاحتمال الأوّل: أن المراد هو أن الأداة موضوعة لاستیعاب المراد الْجِدِّیّ، فهذا الاحتمال أبطلناه بالمحاذیر الثَّلاثة المتقدّمة.

الاحتمال الثَّانِی: أَنْ یَکُونَ المقصود هو أنَّ المقصود أنَّ الأداة موضوعة لاستیعاب المراد الاستعمالیّ من المدخول. هذا أیضاً أبطلناه بالبیان المتقدّم.

الاحتمال الثَّالث: أَنْ یَکُونَ المقصود هو أن الأداة موضوعة لاستیعاب ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم وما فِی تصوّر الْمُتِکَلِّم من المراد الاستعمالیّ، بالبیان الَّذی شرحناه بالأَمْسِ.

هذا الاحتمال أیضاً باطل؛ لأَنَّهُ یرد علیه:

أوَّلاً: أن هذا یلزم منه أن یکون هناک مفهوم غریب داخلاً فِی معنی أداة العموم، وإلیک مزید من الشرح والتوضیح:

إنَّ مدخول «کل» فِی قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ رَجُلٍ» هو کلمة «کل رجل»، وهی جملة ناقصة متکونة من مضاف ومضاف إلیه، ونسبة ناقصة قائمة بطرفین:

ص: 297

أحد الطرفین: الاستیعاب الَّذی یَدُلّ علیه «کل».

الطَّرَف الثَّانِی (أی: المستوعَب الَّذی هو مصبّ الاستیعاب): هو کلمة «رجل» أو «عالم». فإن فرضتم أن کلمة «عالم» تَدُلّ علی المعنی (والمدلول) الوضعیّ نفسه الَّذی وضعت له کلمة «عالم»، أی: ذات الطَّبِیعَة باعتبار أن کلمة «عالم» اسم جنس والمعنی الوضعیّ لاسم الجنس هو ذات الطَّبِیعَة، وحینئِذٍ لا مَحْذُور ولا إِشْکَال أبداً.

أما إن فرضتم أن هذا الطَّرَف الثَّانِی لَیْسَ عبارة عن ذات الطَّبِیعَة صرفاً، بل أکثر من ذات الطَّبِیعَة (کما هو المفروض فِی هذا الاحتمال الثَّالث حیث فرضنا أن الأداة تَدُلّ علی استیعاب ما یتصوره الْمُتِکَلِّم من کلمة «عالم»، لا أن الأداة وضعت لاستیعاب ذات الطَّبِیعَة، فالمستوعَب "أی: طرف الاستیعاب" لَیْسَ عبارة عن ذات الطَّبِیعَة فحسب، بل هو عبارة عمَّا فِی ذهن الْمُتِکَلِّم وما فِی تصوّر الْمُتِکَلِّم من کلمة «عالم») فلا بُدَّ من وجود دالّ فی الجملة یَدُلّ علی هذه الزیادة، وذلک لوضوح أَنَّنَا نتکلّم علی مستوی الدِّلاَلَة اللَّفظیَّة للکلام؛ لأَنَّنَا نرید أن نری أن الْمَدْلُول التَّصوُّریّ من الکلام ما هو؟ ولا یمکن أن نفهم معنی فِی مرحلة الدِّلاَلَة التَّصوُّریَّة ما لم یکن هناک دالّ علیه ، فما هو الدَّالّ بِالدِّلاَلَةِ اللَّفظیَّة التَّصوُّریَّة علی هذا الطَّرَف الثَّانِی لِلنِّسْبَةِ الناقصة (أی: الطَّبِیعَة مع هذه الزیادة)؟!

فإن کان الدَّالّ علی هذه الزیادة عبارة عن مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ فهذا خلف فرضنا؛ لأَنَّ الفرض هو أَنَّنَا نرید أن نحدد الْمَدْلُول التَّصوُّریّ، لا الْمَدْلُول التَّصدیقیّ والمراد الْجِدِّیّ، ومقدّمات الحِکْمَة لا تجدی ولا تنفع لتحدید الْمَدْلُول والمعنی التَّصوُّریّ لِلَّفْظِ؛ فإن مفاد مقدّمات الحِکْمَة المراد الْجِدِّیّ للکلام، ولا تجری مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ فِی مرحلة تعیین المعنی التَّصوُّریّ اللَّفظیّ للکلام. فإذا فرضتم أن الدَّالّ علی هذه الزیادة فهذا یلزم منه الخلف. أی: یلزم منه أن تکون الأداة فِی معناها التَّصوُّریّ محتاجة إلی مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ الَّتی لا تنفع الأداة فِی هذه المرحلة.

ص: 298

وإن کان الدَّالّ علی هذه الزیادة عبارة عن المدخول (أی: کلمة «رجل» فِی مثالنا)، فهذا باطل أیضاً ویلزم منه التَّجوُّز فِی کلمة «رجل»؛ لأَنَّ معناه أن کلمة «رجل» استعملت هنا فِی الطَّبِیعَة مع الزیادة، والحال أن هذا لَیْسَ هو المعنی الحقیقی لکلمة «رجل». فیلزم من هذا الفرض أن یکون الاستعمال مَجَازِیّاً.

وإن کان الدَّالّ علی هذه الزیادة عبارة عن الأداة، فهذا غیر معقول؛ لأَنَّ للأداة معنی وهو الاستیعاب، وإلا فمعنی ذلک أَنْ تَکُونَ الأداة مستعملة فِی معنیین: أحدهما الاستیعاب، وثانیهما المستوعَب (ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من الطَّبِیعَة)، وهو غیر معقول. هذا هو الإشکال الأوّل الَّذی یرد علی هذا الاحتمال الثَّالث.

وثانیاً: سَلَّمْنَا أنَّ الأداة موضوعة لاستیعاب ما یتصوره الْمُتِکَلِّم من المدخول فِی مقام الاستعمال، حتّی وإن لَمْ یَکُنْ هناک دالّ علی هذه الزیادة فِی مقام الکلام، مع ذلک نسلِّم بوجود هذا المعنی الغیبی الَّذی لا دالّ علیه فِی الکلام، وسلَّمنا أن هیئة الجملة الناقصة تَدُلّ علی نسبة ناقصة بین معنی الأداة (الاستیعاب) وبین هذا المعنی الغیبی وهو ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من معنی کلمة «رجل» مثلاً. أی: قوله: «کل رجل» یرجع إلی قوله: «کل من ینطبق علیه المعنی الَّذی أنا أتصوره من لفظ "رجل"». أی: استیعاب کل من ینطبق علیه ما یتصوره الْمُتِکَلِّم من کلمة «رجل».

فإذا بنینا علی هذا، فَسَوْفَ یبقی معنی هذا الکلام مُجْمَلاً إلی یوم القیامة، فلا یفید العموم فِی یوم من الأیام؛ وذلک لأَنَّه إذا کان قوله «کل رجل» دالاًّ علی «کل من ینطبق علیه المعنی الَّذی قصده الْمُتِکَلِّم من کلمة "رجل"»، فلن نعرف مقصود المتکلم؛ إذ لا یوجد أصل عُقَلاَئِیّ یُحَدِّدُ وَیُعَیِّنُ لنا أَنَّهُ ماذا تصوّر الْمُتِکَلِّم فِی مقام الاستعمال من کلمة «رجل»؛ وذلک لأَنَّ الموجود عندنا هو عبارة إما عن «أصالة الحقیقة» أو «أصالة الإِطْلاَق» أو «أصالة التَّطَابُق بین الإثبات والثُّبوت».

ص: 299

أما أصالة الحقیقة فإنَّ مفادها هو أن الْمُتِکَلِّم قصد المعنی الَّذی وضع له اللَّفظ (أی: المعنی الحقیقی)، فقد أراد الحیوان المفترس من کلمة «الأسد» مثلاً حین استعمالها، فلا تَدُلّ أصالة الحقیقة علی أَنَّهُ أراد شیئاً زائداً علی الْمَوْضُوع له، بخلاف المقام حیث فرضنا شیئاً زائداً، أی: قوله «کل رجل» یَدُلّ علی استیعاب ما ینطبق علیه ما یتصوره المتکلم من کلمة «رجل»، فهذا مطلق لا تثبته أصالة الحقیقة.

وأمّا أصالة الإِطْلاَق فلا تُثبت غیرَ المراد الْجِدِّیّ، وهذا معناه أن مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ إِنَّمَا تجری فیما إذا لم یکن هناک إجمال وغموض فِی المعنی التَّصوُّریّ للکلام، فإذا کان المعنی المتصوَّر للکلام وَاضِحاً فَمُقَدِّمَاتُ الْحِکْمَةِ تجری لکی تثبت أن نفس هذا المعنی التَّصوُّریّ مراد جِدّاً لِلْمُتِکَلِّمِ، أمّا إذا لم یکن المعنی التَّصوُّریّ وَاضِحاً، بل کان مُجْمَلاً، فلا تجری مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ.

والمفروض هنا أن المعنی التَّصوُّریّ غیر واضح؛ لأَنَّنَا فرضنا أن الأداة تَدُلّ علی استیعاب ذاک الَّذی یتصوره الْمُتِکَلِّم من کلمة «رجل»، وذاک غیر معلوم، فکیف نثبت بمقدمات الحِکْمَة أنَّ الْمُتِکَلِّم تصوّر المطلقَ، ثم بعد ذلک اثبتوا بِمُقَدِّمَاتِ الْحِکْمَةِ أَنَّهُ أراد هذا المطلق.

وإن شئتم قلتم: لا یثبت العموم (بناءًا علی هذا الاحتمال) أصلاً وأبداً حتّی بِمُقَدِّمَاتِ الْحِکْمَةِ؛ إذ لا یمکننا حین سَمَاع «أَکْرِمْ کُلَّ رَجُلٍ» أن نثبت - حتّی بالإطلاق - أن ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من مدخول الأداة هو الإنسان المذکر، لأَنَّ هناک أصولا عُقَلاَئِیّاً ثلاثة:

أحدها أصالة الحقیقة، وغایة ما تُثبته هی أن قید «العادل» و«العالم» غیر مأخوذ وغیر ملحوظ فِی الْمَدْلُول الاستعمالی لکلمة «رجل»، أی: کلمة رجل لم تستعمل مجازاً فِی الإنسان المذکر العادل، بل استعملت استعمالا حقیقیّاً، أی: استعملت فِی الإنسان المذکر. فلا تنفی أصالة الحقیقة وجود قید العادل فِی ذهن الْمُتِکَلِّم.

ص: 300

وثانیهما أصالة الإِطْلاَق وغایة ما تثبته مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ وأصالة الإِطْلاَق هی أن کل ما هو موجود ثبوتاً فهو موجود إثباتاً، وما هو غیر موجود إثباتاً فهو غیر موجود ثبوتاً، أی: ما لم یقله لم یرده، وهذه المقدّمات إِنَّمَا تجری فِی المراد الْجِدِّیّ، أی: مراده الْجِدِّیّ لَیْسَ أکثر من کلامه. فأصالة الإِطْلاَق تجری فِی المراد الْجِدِّیّ ولا تجری فِی المراد الاستعمالیّ. بینما نحن بناءًا علی الاحتمال الثَّالث الَّذی ندرسه کان یقول أن الأداة موضوعة لاستیعاب ما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم وما فِی تصوّر الْمُتِکَلِّم من المراد الاستعمالیّ لا المراد الْجِدِّیّ.

وثالثهما أصالة التَّطَابُق بین عالم الإثبات وعالم الثبوت: وهی تَدُلّ علی أنَّ ما هو موجود إثباتاً موجود ثبوتاً(1) ، وهو غیر نافع فِی المقام أیضاً؛ إذ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هذا الأصل لا ینفی وجود شیء إضافی فِی عالم الثُّبوت، أما أَنَّهُ لعلّه هناک شیء موجود ثبوتاً ولٰکِنَّهُ غیر موجود إثباتاً، فهذا ما لا ینفیه هذا الأصل؛ إذ من المحتمل أن یکون الْمُتِکَلِّم قد قصد استعمال اللَّفظ فِی «الرَّجُل العالم» ولم یأت بقید «العالم» فِی عالم الإثبات.

فعلی أی حال اتَّضَحَ أن هذا الاحتمال الثَّالث باطل. فتصل النوبة إلی الاحتمال الرَّابع وهذا ما سندرسه غداً إن شاء الله تعالی.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

ذکرنا احتمالات ثلاثة فِی مقصود المیرزا ومن یقول بقول المیرزا فِی المسألة (أی: من یقول بأن العموم فِی طول الإِطْلاَق، وأنَّ الأداة موضوعة لاستیعاب المراد من المدخول)، وأبطلنا هذه الاحتمالات بالبیانات السَّابِقَة.

ص: 301


1- (1) - وهی قاعدة احترازیة القیود (الطهرانی).

وهذه الاحتمالات المتقدّمة مشترکةٌ فِی جهة وهی أنْ یکون المقصود عبارةً عن أن أداة العموم أخذت خُصُوصِیَّة (فِی مدلولها التَّصوّری الوضعیّ) زائدةٌ علی أصل الاستیعاب ومفهومه، غایة الأمر لاحظنا أن هذه الاحتمالات الثَّلاثة تختلف فِی تحدید تلک الْخُصُوصِیَّة وتشخیصها علی احتمالات کان الأوّل منها یُحَدِّدُ هذه الْخُصُوصِیَّة بالمراد الْجِدِّیّ (حیث کان یقول: إن الأداة وضعت لاستیعاب المراد الْجِدِّیّ)، وثانیها کان یُحَدِّدُ هذه الْخُصُوصِیَّةَ بالمراد الاستعمالیّ من المدخول، وثالثها کان یحدد هذه الْخُصُوصِیَّة بما یتصوَّره الْمُتِکَلِّم وما فِی ذهن الْمُتِکَلِّم من المدخول فِی مقام الاستعمال.

فهذه الاحتمالات الثَّلاثة کُلّهَا لا تتجاوز مرحلةَ الْمَدْلُول الوضعیّ التَّصوُّریّ للأداة، فإن کُلّهَا تقول: إن الْمَدْلُول التَّصوُّریّ الوضعیّ للأداة عبارة عن الاستیعاب مع زیادة خُصُوصِیَّة.

الاحتمال الرَّابع: یباین هذه الاحتمالات الثَّلاثة فِی اشتراکها فِی تلک الجهة، أی: لا یفترض أخذ خُصُوصِیَّة زائدة فِی المدلول الوضعیّ والاستعمالی للأداة علی مفهوم الاستیعاب. بل یقال: إن المُحَقِّق النائینی ومن یسلک مسلکه لا یختلف مع المُحَقِّق الخُراسانیّ (صاحب القول الآخر فِی المسألة)، فالکل یقولون بأن الأَدَاة موضوعة لاستیعاب تمام أفراد ذاک المعنی الَّذی وضع له المدخول، مِنْ دُونِ أی تصوّر فِی الْمَدْلُول الوضعیّ والاستعمالی للأداة، أی: أن المدلول الوضعیّ والاستعمالی للأداة واضح عندهم بلا حاجة إلی إجراء مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، وهی عبارة عن استیعاب تمام طبیعة المدخول (= العالم)، کما یقول الآخوند.

فما الفرق بینهم وبین الآخوند؟ إِنَّمَا اختلافهم فِی نقطة أخری (ولیس فِی أَنَّهُ ما هو المعنی التَّصوُّریّ والاستعمالی للأداة؛ لأَنَّ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المعنی التَّصوُّریّ للأداة هو استیعاب أفراد طبیعة المدخول) وهی تحدید المراد الْجِدِّیّ للخطاب ککل المشتمل علی الأداة.

یقول النائینی ومن یسلک مسلکه: إِنَّنّا لو أردنا أن نستفید العموم والاستیعاب من قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» استفادةً تَصْدِیقِیَّة، أی: لو أردنا أن نقتنع بأن حکم المولی فِی عالم الثبوت وعالم المراد الْجِدِّیّ حکمٌ عامّ ومستوعِب لتمام أفراد طبیعة العالم، فهذا لا یمکن إلاَّ بعد جریان الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة فِی مدخول الأداة.

ص: 302

فلیس الخلاف فِی فهم المعنی التَّصوُّریّ للأداة، فإن مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الأداة موضوعة لاستیعاب تمام أفراد المدخول، وإنَّما الخلاف فِی استفادة العموم بنحو الاستفادة التصدیقیة، أی: أن یکشف الکلام عن أن الحکم الموجود فِی نفس المولی (وهو الوجوب) منصبّ علی استیعاب أفراد ذات الطَّبِیعَة، أو منصب علی استیعاب أفراد الطَّبِیعَة المطلقة؟ وحیث أن الأوّل غیر ممکن، وَالثَّانِی هو المتعین، فلا بُدَّ أن نعیِّنَ مسبقاً أنَّ المدخول یَدُلّ علی الطَّبِیعَة المطلقة من خلال الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة فِی المرحلة السَّابِقَة، حتّی یمکن للأداة أن تَدُلّ علی استیعاب أفراد الطَّبِیعَة المطلقة.

هذا هو الاحتمال الرَّابع، ولکن قبل أن نبطله یجب علینا أن نتدبر أوَّلاً فِی مثال: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ»، إذ لهذا الکلام مدلولان:

أحدهما: مدلول تصوری، أی: مدلول یأتی إلی الذِّهن تصوُّراً عندما نسمع هذا الکلام، وهو عبارة عن نفس المعنی الَّذی وضعت له ألفاظ وهیئات هذه الجملة، وهو عبارة عن النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة القائمة بین الْمُتِکَلِّم والمخاطب وإکرام طبیعة العالم. ففی مرحلة الْمَدْلُول التَّصوُّریّ نجد أن هذه النسبة الإِرْسَالِیَّة موضوعها عبارة عن المعنی التَّصوُّریّ لکلمة «عالم»، وهو طبیعة العالم. أی: نکتفی فِی هذه المرحلة بِأَنْ یَّکُونَ الموضوع مَهمَلاً، بلا حاجة إلی إطلاقه أو تقییده، لأَنَّ هذه المرحلة مرحلة ما یأتی إلی الذِّهْن تصوُّراً عند سَمَاع الکلام.

ثانیهما: المعنی والمدلول التَّصدیقیّ والمراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ، أی: ما فِی نفسه وما فِی مراده الْجِدِّیّ عندما قال هذا الکلام وهو عبارة عن الوجوب (الحکم المجعول من قبله، القائم بنفس المتکلم) الَّذی له مَوْضُوع، وهذا الْمَوْضُوع واقع بإزاء کلمة «العالم». فلا یکفی أن نَقُول: إِنَّ مَوْضُوع هذا الحکم مهمل (إذ لا معنی للإهمال عند الحاکم فِی مقام الثُّبوت). أما أن نقول إِنَّ الحاکم حکم بوجوب إکرام الطَّبِیعَة المهملة، فهذا کلام لَیْسَ له معنی.

ص: 303

حینئذٍ یأتی هنا دور مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ لکی تُحَدِّدَ لنا أن الْمَوْضُوع مطلق، أی: لتحدید مَوْضُوع المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتَکَلِّمِ وتقول: إن الأصل فِی مَوْضُوع هذا الحکم أَنْ لاَّ یَکُونَ أزید من الْمَوْضُوع فِی الْمَدْلُول التَّصَوُّرِیّ حیث کان الْمَوْضُوع عبارة عن الطَّبِیعَة. فتقول مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ: إن الأصل فِی هذا المراد الْجِدِّیّ هو أن یکون موضوعه نفس ذاک الْمَوْضُوع.أی: لو کان قید «الفقیه» مأخوذاً فِی مراده الْجِدِّیّ بحیث کان مراده الْجِدِّیّ عبارة عن «وجوب إکرام العالم الفقیه»، لکان مَوْضُوع الحکم وَالْمُرَاد الْجِدِّیّ أزید من الْمَوْضُوع فِی مرحلة التَّصَوُّر؛ لأَنَّ الْمَوْضُوع فِی مرحلة التَّصَوُّر «طبیعة العالم» و«طبیعی العالم»، بینما فرض الْمَوْضُوع هنا أَنَّهُ عبارة عن «العالم الفقیه»، ولیس «العالم الفیزیائی»، فیصبح الْمَوْضُوع أزید من ذاک. وهذا خلاف أصالة التَّطَابُق بین مرحلة الْمَدْلُول التَّصدیقیّ ومرحلة الْمَدْلُول التَّصَوُّرِیّ، فإن أصالة التَّطَابُق تقتضی أن یکون مَوْضُوع الحکم المجعول فِی نفس المولی جِدّاً هو مطلق العالم. هذا ما نصنعه فِی مثل قوله: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ».

وبالانتقال إلی ما نحن فیه (أدوات العموم) من «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» فنجد أن له مدلولان کسائر الکلمات:

أحدهما: مدلول تصوُّریّ، وهو ما یأتی إلی الذِّهْن عند سَمَاع هذه الجملة، وهو عبارة عن معانی هذه الألفاظ والهیئات (وهی «أکرم» "الدَّالَّة عَلَی النِّسْبَةِ الإِرْسَالِیَّة" و«کل» "الدَّالَّة علی الاستیعاب" و«عالم» الدَّالَّة علی الطبیعة) الَّتی وضعت لها. فالمعنی التَّصوُّریّ لهذه الجملة هو الوجوب (بالمعنی الْحَرْفِیّ، أی: النِّسْبَة الإِرْسَالِیَّة) الْمُتَعَلَّق بنحو الاستیعاب بطبیعی العالم.

لکن هذا کُلّه لا یکفی لاستفادة العموم واستنباط العموم استفادة تَصْدِیقِیَّة، أی: لا یکفی لکی نقتنع بأن مقصود المولی هذا. یأتی إلی الذِّهْن ولکن مجرّد التَّصَوُّر الذهنی لا یکفی لکی نقتنع تصدیقاً بأن المراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ هو هذا؛ لأَنَّ هذا مدلول تصوری بحت یکفی فیه لأن یکون الْمَفْهُوم مهملاً.

ص: 304

ثانیهما: المعنی التَّصدیقیّ، وهذا الْمَدْلُول تتطابق أجزاؤه مع أجزاء الْمَدْلُول التَّصوُّریّ. أی: هذا الْمَدْلُول التَّصدیقیّ عبارة عن «الوجوب المجعول فِی نفس المولی، وهذا الوجوب مُتَعَلَّق بنحو الاستیعاب بتمام أفراد طبیعة العالم»، ولکن فِی هذه المرحلة لا یمکن أن یکون موضع الاستیعاب ومصبّه عبارة عن الطَّبِیعَة المهملة، بل إما هو الطَّبِیعَة المهملة أو الطَّبِیعَة المقیّدة؛ لأَنَّ المراد الْجِدِّیّ للمولی إما هذا أو ذاک، بحیث لو سئل المولی نفسه: ما هو مرادک عندما حکمت بوجوب الإکرام؟ هل حکمت بوجوب إکرام مطلق العالم أو إکرام خاصّ؟ أن یجب المولی: لا هذا ولا ذاک، بل الطَّبِیعَة المهملة. فإن هذا غیر ممکن.

وهذا معنی قولنا: «یستحیل الإهمال فِی مقام الثُّبوت».

وعلیه، فلا بُدَّ من دلیل یَدُلّ هنا علی أن المراد والموجود فِی نفس الْمُتِکَلِّم هنا ما هو؟ هل هو الطَّبِیعَة المطلقة أم الطَّبِیعَة المقیّدة؟! وهذا الدَّلِیل عبارة عن مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، فهی الَّتی تعیِّن أن المراد من المدخول الَّذی انصب علیه الاستیعاب (أی: کلمة «عالم» الَّتی انصب علیها کلمة «کل») عبارة عن المطلق (أی: الطَّبِیعَة المطلقة للعالم).

إذن، استفادة العموم من الخطاب استفادة تَصْدِیقِیَّة جدیة تابعة لجریان الإِطْلاَق فِی المدخول.

والخلاصة أَنَّهُ إذا کان مقصود المیرزا هذا الاحتمال فلا یرید المرزا أن یتصرف فِی الْمَدْلُول التَّصوُّریّ أو الوضعیّ للأداة، فهو کالآخوند یسلّم بأن الْمَدْلُول الوضعیّ التَّصوُّریّ والاستعمالیّ للأداة عبارة عن الاستیعاب مِنْ دُونِ أخذ خُصُوصِیَّة أخری، وما یرید أن یقوله هو أنَّ الخطاب المشتمل علی الأداة وعلی مدخول الأداة، لا یستفاد منه (استفادة تَصْدِیقِیَّة) العمومُ، إلاَّ بعد إجراء الإِطْلاَق فِی المدخول.

هذا توضیح للاحتمال الرَّابع، وبه قد حان حین دراسة ما أفاده والجواب عنه فیما یلی:

ص: 305

الجواب: هو أَنَّ هذا الاحتمال أیضاً غیر تامّ کالاحتمالات السَّابِقَة، فإن استفادة العموم (أی: استفادة استیعاب الحکم لتمام أفراد الطَّبِیعَة استفادة تَصْدِیقِیَّة وجدیة) لیست تابعة لجریان الإطلاق ومقدّمات الحکمة فِی مدخول الأداة، ولیست مفتقرة إلی الإطلاق أبداً، بل تکفی لهذه الاستفادة «أصالةُ الجد» الَّتی هی أقوی من «أصالة الإِطْلاَق ومُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ». فهناک أصل عُقَلاَئِیّ نسمیه بأصالة الجد، وهذا الأصل یُشَکِّلُ ظُهُوراً قویّاً للکلام، هنا وفی سائر موارد الدِّلاَلَات الوضعیَّة اللَّفظیَّة.

ونکتة هذا الأصل الْعُقَلاَئِیّ عبارة عن أن ظاهر حال الْمُتِکَلِّم أَنَّهُ یرید ما یقوله. أی: أَنَّهُ لا یقول ما لا یریده.

توضیحه أَنَّنَا فرضنا فِی هذا الاحتمال الرَّابع أَنَّ الْمَدْلُول الوضعیّ اللَّفظیّ التَّصوُّریّ لقوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» هو تصوّر «وجوب مجعول بنحو الاستیعاب مُتَعَلَّق بتمام أفراد طبیعة العالم» عندما نسمع قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ»، ومعنی هذا هو أن الْمُتِکَلِّم قال فِی کلامه ما یَدُلّ علی استیعاب الوجوب لتمام أفراد طبیعة العالم؛ لأَنَّنَا فرضنا أن هذا هو المعنی التَّصوُّریّ الوضعیّ لکلامه (إذن هذا شیء قاله)، حیث قال: «إن الحکم مستوعِب لتمام أفراد طبیعة العالم». حینئذٍ نأتی إلی المراد الْجِدِّیّ ونقول: لو کان مراده الْجِدِّیّ غیر هذا (أی: لَوْ لَمْ یَکُنْ یرید استیعاب وُجُوب الإِکْرَامِ لکل أفراد العالم، بل کان یرید إکرام البعض، لکان معنی ذلک أَنَّهُ قال ما لا یریده، لأَنَّهُ ذکر الاستیعاب ولٰکِنَّهُ لا یرید الاستیعاب. فقال ما لا یریده، وهذا خلاف أصالة الجد. إذن، لا حاجة إلی إجراء الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة.

فمقامنا من قبیل ما لو قال: «أکرم زَیْداً» حیث نستفید وجوب إکرام زید استفادة تَصْدِیقِیَّة وجدیة فلا نحتاج إلی الإِطْلاَق، وذلک بنکتة أصالة الجد، حیث نقول رأساً: معنی کلامه تصوُّراً هو وجوب إکرام زید، إذن هو قال بوجوب إکرام زید، إذن أراد جِدّاً وجوب إکرام زید. أَمَّا أن یکون ما قاله: «وجوب إکرام زید»، ولکن ما أراده شیء آخر، هذا خلاف أصالة الجد. ومعناه أَنَّهُ قال شیئاً لا یریده.

ص: 306

والفارق بین أصالة الجد ومُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ هو أن الأخیرة عکس أصالة الجد، أی: مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ أصالة فِی جانب العدم وعدم ذکر القید، ولکن أصالة الجد فِی جانب شیء ذکره. وما ذکره أقوی عمَّا لم یذکره.

وفی المقام لا حاجة بناءًا إلی الإِطْلاَق، ولَیْسَ العموم مفتقراً إلی الإِطْلاَق ولیس فِی طوله، ونُلزم الْمُتِکَلِّم بأصالة الجد (بأنک قلت بأن الحکم مستوعب لأفراد العالم) مِنْ دُونِ الإِطْلاَق.

وسیأتی مزید توضیح غداً إن شاء الله تعالی..

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

اتَّضَحَ مِمَّا تقدّم أنَّ الدَّلِیل المذکور لإِثْبَاتِ قول النائینی غیر تامّ، کما اتَّضَحَ أَنَّنَا لا نحتاج إلی الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة للوصول إلی ما نریده فِی باب العموم (وهو استیعاب الحکم لتمام أفراد الطَّبِیعَة). أی: اتَّضَحَ أَنَّهُ وإن کان المدخول عبارة عن اسم الجنس واسم الجنس یَدُلّ علی الطَّبِیعَة المهملة، ولا نحتاج فیها إلی الإِطْلاَق، ولکن الطَّبِیعَة المهملة مطلقةٌ بالحمل الشائع، وإن لم یکن الإِطْلاَق داخلاً فِی مدلولها، وحیث لم یلحظ معها قید فتکون مطلقة، إذ لا یراد بالمطلقة إلاَّ أن تتصور الطَّبِیعَة ولا یتصوّر معها قید، لا أَنَّهُ یتصوّر معها عدم القید، فتکون قابلة للانطباق علی تمام الأفراد، وحینئِذٍ یطرأ الاستیعاب علیها.

وهذا المطلب یحصل من نفس إطلاق اسم الجنس مِنْ دُونِ قید، بعد إحراز عدم استعمال اسم الجنس فِی المقیَّد، بموجب أصالة الحقیقة. وبهذا یکون مدخول الأداة قابلاً للانطباق علی الأفراد بذاته، بلا حاجة إلی مقدّمات الحِکْمَة، فیمکن للأداة حینئذٍ أن تَدُلّ علی استیعاب تمام أفراد هذا المدخول.

إذن، نحن فِی نفس الوقت الَّذی نوافق فیه المُحَقِّق النائینی رحمه الله فِی أصل مُدَّعَاهُ القائل بأن الطَّبِیعَة لا بُدَّ من أن تَتَعَیَّنَ فِی الطَّبِیعَة المطلقة قبل طروّ الاستیعاب علیها، حتّی بعد ذلک تَدُلّ الأداة علی استیعابها، فِی نفس الوقت الَّذی نوافقه علی هذا المطلب، لکِنَّنَا نخالفه فِی الطَّرِیق إلی هذا المطلب، فهو رحمه الله ذهب إلی أن الطَّرِیق لتعیین الطَّبِیعَة فِی الطَّبِیعَة المطلقة هو الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة، ولکننا لا نوافقه علی هذا الطَّرِیق، وإن کُنَّا نقول بأَنَّهُ لا بُدَّ من أن تتحدد الطَّبِیعَة فِی الطَّبِیعَة المطلقة حتّی یمکن أن یطرأ الاستیعاب علیها، لکن الطَّرِیق عندنا هو أصالة الحقیقة، بالبیان المتقدّم أمس وَالَّذِی أشرنا إلیه الیوم.

ص: 307

إِشْکَال وهنا قد یُطرح إِشْکَال علی أصل کلام المُحَقِّق النائینی (وأصل المُدَّعی الَّذی وافقناه فیه وهو أن الطَّبِیعَة لا بُدَّ وأن تتعین وتتحدد فِی الطَّبِیعَة المطلقة قبل أن یطرأ الاستیعاب والعموم علیها، فیقال): إن ذات الطَّبِیعَة الَّتی وُضع اللَّفظ (لفظ «العالم» مثلاً) لها، هو اسم جنس، وقد وضع اسم الجنس لذات الطَّبِیعَة وَالَّتِی یُعبَّر عنها بالطبیعة المهملة، وهذه الطَّبِیعَة هی المعنی الَّذی استُعمل فیه اللَّفظ، وهی الجامعة بین المطلقة وغیر المطلقة. والمطلقة منطبقة علی تمام الأفراد. إذن، فالطبیعة المهملة أیضاً منطبقة علی الأفراد؛ لأَنَّ الطَّبِیعَة المهملة جامعة بین المطلقة والمقیَّدة. والجامع موجود دائماً فِی ضمن فرده، وقد فرضنا أن أحد فردی الجامع هو الطَّبِیعَة المهملة.

فإذا کان الفرد قابلاً للانطباق علی الأفراد فالجامع الموجود فِی الفرد أیضاً قابل للانطباق علی الأفراد؛ لأَنَّ الجامع بین ما یقبل الانطباق علی الأفراد وما لا ینطبق علی الأفراد لا بُدَّ وأن یکون منطبقاً علی الأفراد، إذن هذا الجامع موجود فیما یقبل الانطباق. إذن، فالطبیعة المهملة موجودة ضمن الأفراد لأَنَّ أحد فردی هذه الطَّبِیعَة هو الطَّبِیعَة المطلقة والمطلقة منطبقة علی الأفراد (أی: عکس ما ذکرناه کدلیل فنی لکلام المیرزا).

وإذا کانت المطلقة تنطبق علی جمیع الأفراد فالطبیعة المهملة الَّتی هی محصورة فِی الطَّبِیعَة المطلقة أیضاً منطبقة علی الأفراد، فَتَدُلُّ أداة العموم (کلمة «کُلٍّ») الداخلة علی هذه الطَّبِیعَة المهملة (اسم الجنس) علی استیعاب تمام أفراد المدخول، بلا حاجة إلی تحدید الطَّبِیعَة فِی الطَّبِیعَة المطلقة لکی یطرأ الاستیعاب والعموم فِی رتبة لاحقة،

ویردف صاحب الإشکال کلامه قائلاً: وإلا لو کُنَّا نحتاج إلی تحدید الطَّبِیعَة فِی الطَّبِیعَة المطلقة أوَّلاً کی یمکن بعد ذلک طروّ الاستیعاب علیها، لورد علیکم النقض بالوضع (باب وَضْع الألفاظ للمعانی)، فإن الوضع أیضاً حکم یُصدره الواضع علی کل من اللَّفظ والمعنی، حیث یضع لفظ الأسد قِبَال هذا المعنی المعیَّن، فإن الواضع یضع لفظ الإنسان فِی مقابل الطَّبِیعَة المهملة. ونحن نجد أن هذا الحکم بمجرّد صدوره من الواضع یسری إلی کل أفراد هذه الطَّبِیعَة المهملة، وکل حصص هذه الطَّبِیعَة المهملة. فإن الإنسان الأسود إنسان والإنسان الطویل إنسان و.. وهذا الحکم بذاته یسری إلی تمام حصص الطَّبِیعَة وأفرادها، بدلیل صحَّة استعمال لفظ الإنسان فِی کُلّ واحدة من أفراد الإنسان.

ص: 308

فهذا شاهد ودلیل علی أن الحکم یسری إلی تمام أفراد هذه الطَّبِیعَة المهملة، وإلا لما صَحَّ استعمال لفظ الإنسان فِی حصّة خاصّة کالإنسان الأسود.

فلو کان الأمر کما یقول النائینی من أَنَّهُ لا بُدَّ من أن تتعین الطَّبِیعَة فِی الطَّبِیعَة المطلقة أوَّلاً لکی تثبت صحَّةُ السریان، لکان لازمه أن لا یسری الوضع فِی باب الوضع إلی تمام الحصص؛ لأَنَّ الواضع لم یُحدِّد الطَّبِیعَة فِی الطَّبِیعَة المطلقة ثم وضع اللَّفظ، بل وضع الحکم قبل طروّ الوضع وسری هذا الحکم إلی الحصص.

فلیکن مقامنا من هذا القبیل؛ فإن الحکم فِی مقامنا عبارة عن الاستیعاب. ومدخول الأداة عبارة عن اسم الجنس، ومعنی اسم الجنس هو الطَّبِیعَة المهملة، فإذا دخلت الأداة علی هذا المدخول کان معناه أن الاستیعاب حکم طرأ علی الطَّبِیعَة المهملة، فیسری الحکم إلی تمام الأفراد، بلا حاجة إلی ما أفاده النائینی.

هذا الإشکال فِی الواقع یَتُمّ الجوابُ عنه بالنحو الَّذی تتضح به حقیقة المقصود فِی المقام بتوضیح هذه المصطلحات الثَّلاثة: «الطَّبِیعَة المطلقة» و«الطَّبِیعَة المقیّدة» وَ«الطَّبِیعَة المهملة» وتوضیح نسبة «الطَّبِیعَة المهملة» إلی «الطَّبِیعَة المطلقة» وَ«الطَّبِیعَة المقیَّدة». وتفصیل هذا البحث موکول إلی بحث المطلق والْمُقَیَّد، ولکن إیجازا وإجمالا نقول:

إذا لاحظنا جملة «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ»، فمن جهة نجد إطلاقاً وسریاناً لهذا الحکم إلی تمام أفراد العامّ، ومن جهة أخری الْمَوْضُوع هو «العالم» و«العالم» لفظ وضع فِی اللُّغَة لطبیعة العالم، ولیس مَوْضُوعاً لطبیعة العالم المطلقة. وهذا معناه عکس ما رأیناه أوَّلاً. أی: الإِطْلاَق لَیْسَ دخیلاً فِی الْمَوْضُوع؛ لأَنَّ الْمَوْضُوع هو العالم والعالم عبارة عن الطَّبِیعِیّ ولیس عبارة عن الطَّبِیعَة المطلقة. فمعنی ذلک أن الإِطْلاَق لَیْسَ مأخوذاً ودخیلا فِی الطَّبِیعَة، وإلا لما وجدنا خارجاً طبیعةً مطلقة حتّی یجب علینا إکرامه.

ص: 309

فما هو تفسیر هذا التناقض؟!

الجواب عن ذلک هو أَنَّهُ یوجد فِی الذِّهْن مَرئیّ وملحوظ (وهو ذات الطَّبِیعَة، طبیعة العالم فِی مثالنا) وتوجد مرآتان کیفیتان (إحداهما: الرؤیة الإطلاقیة، وثانیهما الرؤیة التقییدیة) للحاظ هذا المرئی والملحوظ.

أَمَّا الرؤیة الإطلاقیة فهی مکوَّنة من عنصرین:

أحدهما: لحاظ ذات الطَّبِیعَة (أی: تصوّر ذات الطَّبِیعَة، أی: تصوّر طبیعة العالم مثلاً).

ثانیهما: عدم لحاظ خُصُوصِیَّة وعدم رؤیة قید ووصف مع هذه الطَّبِیعَة.

وهذا الثَّانِی من خصائص الرؤیة، ومن قیود الرؤیة، ولیس من خصائص المرئی. أی: هذا لا یزید فِی المرئی شیئاً علی ذات الطَّبِیعَة. فالمقصود من عدم لحاظ القید هو واقع عدم لحاظ القید، لا مفهومُ عدم لحاظ القید. أی: أمر تصدیقی ولیس أمراً تصوُّریّاً. أی: لَیْسَ المقصود تصوّر عدم لحاظ القید. وهذا یعنی أن الإِطْلاَق خُصُوصِیَّة فِی اللِّحَاظ والرؤیة الذِّهْنِیَّة لذات الطَّبِیعَة ولیس الإِطْلاَق خُصُوصِیَّة فِی ذات المرئیّ والملحوظ.

هذا معنی ما قلناه من أن الإطلاق لَیْسَ دخیلاً فِی الْمَوْضُوع، وهذا معنی قولنا: «الإِطْلاَق لَیْسَ دخیلاً فِی العالم». أی: الْمَوْضُوع عبارة عن ذات الطَّبِیعَة والإطلاق خُصُوصِیَّة من خُصُوصِیّات رؤیة ذات الطَّبِیعَة، ولیس الإِطْلاَق خُصُوصِیَّة من خُصُوصِیّات نفس ذات الطَّبِیعَة (نفس المرئی)، وإنَّما من خُصُوصِیّات الرؤیة والنظارة والمنظار. فَکَمَا أَنَّ المنظار لَیْسَ داخلاً فِی المنظور والمرئی (کالفرش والبساط مثلاً)، لا الفرش المنظور إلیه بالمنظار، فالإطلاق لَیْسَ داخلاً فیه کمرئی. هذه هی الرؤیة الإطلاقیة.

أَمَّا الرؤیة التقییدیة فهی أیضاً مکونة من عنصرین:

أحدهما: رؤیة وتصوّر ولحاظ ذات الطَّبِیعَة.

ثانیهما: لحاظ خُصُوصِیَّة معها، أی: رؤیة قید ووصف زائد علی ذات الطَّبِیعَة.

ص: 310

هذا العنصر الثَّانِی وإن کان کالعنصر الثَّانِی فِی الرؤیة الإطلاقیة (أی: العنصر هنا من خصائص الرؤیة، أی: لحاظ القید خُصُوصِیَّة واقعیة مثل عدم لحاظ القید) لکن هذا العنصر له ملحوظ ومرئی؛ لأَنَّهُ لحاظ ورؤیة ولیس عدم لحاظ، فإذا کان لحاظاً ورؤیة فله ملحوظ ومرئی وهو القید.

وهاتان الرؤیتان متباینتان (أی: الرؤیة الإطلاقیة مع الرؤیة التقییدیة) فِی العنصر الثانی، وإن کانا مشترکتین فِی العنصر الأوّل وهو ذات لحاظ الطَّبِیعَة؛ فَإِنَّ العنصر الثَّانِی فِی الرؤیة الإطلاقیة کان عبارة عن عدم لحاظ القید، بینما العنصر الثَّانِی فِی الرؤیة التقییدیة عبارة عن لحاظ القید. وهذا العنصر (التقییدی) أصبح سبباً وعلة لأَنَّ یکون المرئی بهذه الرؤیة الإطلاقیة موسَّعاً ومنطبقاً علی تمام الأفراد، وإن لم یکن داخلاً فِی المرئی واللحاظ، لٰکِنَّهُ فِی نفس الوقت یُحَدِّدُ مدی سعة المرئی.

فالإطلاق خُصُوصِیَّة فِی الرؤیة الذِّهْنِیَّة تشکِّل الحیثیة التعلیلیة لسعة انطباق المرئی. أی: تصبح علّة وحیثیة تعلیلیة لسعة انطباق المرئی والملحوظ. أی: یؤدی إلی أن یکون الملحوظ من خلال هذه النظارة منطبقاً علی تمام الأفراد، وهذا هو معنی ما قلنا من أَنَّهُ علی الرغم من أن الإِطْلاَق لَیْسَ دخیلاً فِی العالم، ولکننا مع ذلک نشاهد سریان الحکم إلی تمام أفراد الْمَوْضُوع؛ لأَنَّ الْمَوْضُوع ذات الطَّبِیعَة المهملة، والمرئی ذات الطَّبِیعَة، ولکن إذا رؤی هذا المرئی بالنظارة الإطلاقیة فهذه النظارة له عنصر ثان (= عدم لحاظ القید) یسبب أن یکون المرئی من خلال هذه النظارة قابلاً للانطباق علی الأفراد.

فنوافقکم علی أن المرئی هو ذات الطَّبِیعَة ولکن هذا المرئی عندما رُئی من خلال هذه النظارة الإطلاقیة وهذه النظارة الإطلاقیة کان فیها عنصر عبارة عن عدم لحاظ القید، هذا العنصر سَبَّبَ أن یکون هذا المرئی واسعاً وقابلاً للانطباق علی جمیع الأفراد. وهذا هو السَّبَب فِی مشاهدتنا السریان. وللبحث تتمة تأتی غداً إن شاء الله تعالی. .

ص: 311

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

«الوجوب»

الأمر الرَّابع: أنَّ الطَّبِیعَة المهملة وإن کانت هی عین الطَّبِیعَة المطلقة (کما تقدّم فِی الأمر الأوّل) إلاَّ أن هذا لا یعنی أنَّها تنطبق علی الأفراد کالطبیعة المطلقة؛ فقد یُتَوَهَّم من قولنا «الطَّبِیعَة المهملة هی عین الطَّبِیعَة المطلقة»، أنَّها کالمطلقة تنطبق علی الأفراد، ولکن بالالتفات إلی ما تقدّم من أن الطَّبِیعَة المهملة هی عین الطَّبِیعَة المطلقة ولکن بِقَطْعِ النَّظَرِ عن الرُّؤْیَة وکیفیة الرُّؤْیَة (أی: الطَّبِیعَة المهملة فاقدة لأی رؤیة وأی نظرة، حتّی النظرة الإطلاقیة) فَسَوْفَ لا تقبل الطَّبِیعَة المهملة أن تتسع للانطباق علی الأفراد؛ لأَنَّ السَّبَب والعلة الموجبة لسعة الطَّبِیعَة وانطباقها علی کل الأفراد هو الرُّؤْیَة الإطلاقیة، وقد عرفنا من خلال ما تقدّم أن خُصُوصِیَّة الرُّؤْیَة الإطلاقیة هی الحیثیة التعلیلیة الموجبة لسعة الطَّبِیعَة، وهی السبب لاتساع الطَّبِیعَة وانطباقها علی الأفراد، وحینئِذٍ فبفقدان هذه الرُّؤْیَة الإطلاقیة سوف لا تکون الطَّبِیعَة واسعة ومنطبقة علی الأفراد.

هذا هو السَّبَب فِی أن الطَّبِیعَة المهملة علی الرغم من أنَّها عین الطَّبِیعَة المطلقة وعلی الرغم من أن الطَّبِیعَة المطلقة منطبقة علی الأفراد ولکن الطَّبِیعَة المهملة غیر منطبقة علی الأفراد.

الأمر الخامس: فِی ضوء ما تقدّم یَتَّضِح عدم تَمَامِیَّة البرهان المتقدّم فِی الإشکال الَّذی طرحناه، حیث کان یقول: إن الْمَدْلُول الوضعیّ والاستعمالی لمدخول الأداة (الَّذی هو اسم الجنس) لمَّا کان عبارة عن ذات الطَّبِیعَة المعبَّر عنها بالطَّبِیعَة المهملة وذات الطَّبِیعَة جامعة بین الطَّبِیعَة المطلقة وَالطَّبِیعَة المقیَّدة، وَالطَّبِیعَة المطلقة منطبقة علی تمام الأفراد، فتنطبق الطَّبِیعَة المهملة علی الأفراد أیضاً؛ وذلک ببرهان أن الجامع موجود فِی ضمن فرده، فإذا کان الفرد منطبقاً فِی مورد کان الجامع منطبقاً أیضاً. هذا البرهان المتقدّم مِن قِبَلِ صاحب الإشکال الَّذی أشکل علینا وعلی المیرزا أیضاً.

ص: 312

فقد اتَّضَحَ مِمَّا تقدّم أن هذا البرهان غیر تامّ؛ وذلک بعد أن عرفنا أن الطَّبِیعَة المهملة عین الطَّبِیعَة المطلقة، لا أنَّها جامعة بین الطَّبِیعَة المطلقة وَالطَّبِیعَة المقیّدة. فهناک فرق بین العینیّة وبین الجامعیّة (کما وضحنا بالأَمْسِ)، فالجامعیة نظیر جامعیة الکلّی لأفراده أو جامعیة الإنسان لزید وبکر وعمر، فَیَصِحُّ هناک أن نَقُول: إِنَّ الإنسان کلی وجامع بین هذه الأفراد، وفی مثله یأتی هذا الکلام (وهو أن الکلّی موجود ضمن فرده)، لکن فیما نحن فیه اتَّضَحَ أنَّ الطَّبِیعَة المهملة لیست جامعة بین الطَّبِیعَة المطلقة وَالطَّبِیعَة المقیّدة، بل هی عین الطَّبِیعَة المطلقة ولکن مِنْ دُونِ الرُّؤْیَة، وهی عین الطَّبِیعَة المقیّدة ولکن مِنْ دُونِ الرُّؤْیَة. فهی عینهما لا أنَّها جامعة بین هذه وتلک. فإذا لم تکن جامعةً (علی حدّ جامعیة الکلّی لأفراده) فلا یأتی فیها هذا البرهان (الَّذی طرحه صاحب الإشکال، حیث قال: بما أن الکلّی موجود ضمن فرده الطَّبِیعَة المهملة موجودة ضمن فردها - أی: ضمن الطَّبِیعَة المطلقة - فإذا انطبقت الطَّبِیعَة المطلقة علی الأفراد فالطَّبِیعَة المهملة تنطبق علی الأفراد).

وسِرُّ عدم انطباقها علی الأفراد ما قلناه فِی الأمر الرَّابع، وهو أَنَّ الطَّبِیعَة المهملة فاقدة لعلة الانطباق والاتساع (وهی الرُّؤْیَة الإطلاقیة)، وهذه الحیثیة التعلیلیة مفقودة فِی الطَّبِیعَة المهملة.

الأمر السادس: اتَّضَحَ الجواب فِی ضوء ما تقدّم عن النقض المتقدّم مِن قِبَلِ صاحب الإشکال وَالَّذِی بیَّنَّاه قبل یوم أو یومین، وهو النقض بعملیة الوضع؛ فَإِنَّ الوضع حاله حال أی حکم آخر علی الطَّبِیعَة، فقد قلنا فِی الأمر الثَّالث من هذه الأُمُور أنَّ الحکم علی الطَّبِیعَة نظراً إلی أَنَّهُ متوقّف علی تصوّر الطَّبِیعَة، والرؤیة لا تکون إلاَّ من خلال إحدی الرؤیتین إما الإطلاقیة وإما التقییدیة، إذن عندما یرید الواضع أن یضع العُلقةَ الوضعیَّة فلا بُدَّ له أن یتصوّر ذاتَ الطَّبِیعَة (طبیعة «العالم» مثلاً)، فهذا الوضع هو حکم یُصدره الواضع علی الوضع وعلی المعنی. أی: یضع هذا بإزاء ذاک. حکم یصدره بإزاء کل من اللَّفظ والمعنی، فلا بُدَّ له من أن یتصوّر اللَّفظ وأیضاً أن یتصوّر المعنی حتّی یضع اللَّفظ بإزاء المعنی. والمعنی هو ذات الطَّبِیعَة الَّتی لا بُدَّ وأن یتصورها، وعندما یتصوّر ذات الطَّبِیعَة ویلاحظها لا یلحظ معها قیداً وهذا معناه أَنَّهُ رأی الطَّبِیعَة بالرؤیة الإطلاقیة، وعدم لحاظ القید هو العنصر الممیز للرؤیة الإطلاقیة. إذن رأی الطَّبِیعَة بالرؤیة الإطلاقیة ووضع اللَّفظ للمرئی (أی: لذات الطَّبِیعَة) لا لمجموع المرئی والرؤیة(1) .

ص: 313


1- (1) - لا علی مسلک التَّعَهُّد لأَنَّ الدِّلاَلَة عنده تَصْدِیقِیَّة لا تَصَوُّرِیَّة، وصاحب النقض کان یرید أن ینتقض علی مسلک الْمَشْهُور لا علی مسلک التَّعَهُّد.

فالمقصود هو أَنَّهُ حینما تصوّر الطَّبِیعَة المهملة خرجت الأخیرةُ عن کونها طبیعة مهملة وأصبحت طبیعة مطلقة، فالوضع انصبَّ علی الطَّبِیعَة المطلقة، وهذا هو السَّبَب فِی أن الوضع یسری إلی کل الحصص؛ لأَنَّ الوضع انصب علی الطَّبِیعَة المطلقة، ولم ینصبّ علی الطَّبِیعَة المهملة؛ لأَنَّ الوضع جاء بعد التَّصَوُّر وبمجرد تصوّر الطَّبِیعَة المهملة تخرج الطَّبِیعَة المهملة عن کونها مهملة وتصبح مطلقة والمطلقة قابلة للانطباق علی کل الأفراد.

هذا هو السَّبَب والسر فِی أَنَّنَا نری أن الحکم یسری إلی جمیع الحصص والأفراد، علی الرغم من أن خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق غیر دخیلة فِی ذات المعنی وذات الطَّبِیعَة.

إذن فالوضع لم ینصب رأساً علی الطَّبِیعَة المهملة کما توهّم فِی الإشکال، ولا یمکن ذلک؛ لما قلناه من أن الطَّبِیعَة المهملة لا یمکن الحکم علیها بأی حکم (وَضْعِیّ أو غیر وَضْعِیّ)؛ لأَنَّ کل حکم من الأحکام متوقّف علی التَّصَوُّر والطَّبِیعَة المهملة شرطها أَنْ لاَّ یَکُونَ هناک تصوّر، وبمجرد أن تُتَصَوَّر تخرج عن کونها طَبِیعَة مهملة، وبمجرد أن تتصور وترد إلی الذِّهْن تکون مطلقة بالحمل الشائع، وإطلاق هذا هو السر فِی أن الوضع یسری إلی کل الحصص والأفراد.

الأمر السَّابِع: هو أَنَّهُ فِی ضوء ما قلناه اتَّضَحَ الحال فیما نحن فیه من أداة العموم (الکل مع مدخولها) فإن دخول الأداة (والَّتی وضعت فِی اللُّغَة للاستیعاب) علی اسم الجنس (الْمَوْضُوع لغة لذات الطَّبِیعَة) لَیْسَ معناه ما تُوُهِّم فِی الإشکال من أن الاستیعاب حینئذٍ منصبّ علی الطَّبِیعَة المهملة (کما تصوّره صاحب الإشکال)، والاستیعاب حکمٌ یصدره المتکلم، وهذا الحکم انصب علی الطَّبِیعَة المهملة فیسری إلی تمام الأفراد بلا حاجة إلی ما یقولوه المیرزا وبلا حاجة إلی ما تقولونه أنتم من أَنَّهُ یجب أن نحدد الطَّبِیعَة المهملة فِی الطَّبِیعَة المطلقة حتّی یصحّ السریان، فقد اتَّضَحَ الجواب عن هذا الکلام بأن الاستیعاب لم ینصب علی الطَّبِیعَة المهملة، بل الاستیعاب والوضع وأی حکم آخر لم ینصبّ ولا یمکن أن ینصبّ رأساً علی الطَّبِیعَة المهملة، بل ینصب علی الطَّبِیعَة المطلقة، أی: الطَّبِیعَة المرئیة بالرؤیة الإطلاقیة. فینصبّ الحکم (أیّاً کان) علی الطَّبِیعَة المطلقة، أی: المرئیة بالرؤیة الإطلاقیة، لکن لا ینصبّ علی الطَّبِیعَة المطلقة بما هی مطلقة (أی: خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق وحیثیة الإِطْلاَق لیست جزءاً من معنی المدخول ومن معنی اسم الجنس و«العالم»؛ لأَنَّ خُصُوصِیَّة الإِطْلاَق لیست من شؤون العالم والمرئی والمنظور إلیه، وإنَّما هی من شؤون النظارة والرؤیة الذهنیة)، وأمّا المحکوم علیه بالاستیعاب فهو ذات الطَّبِیعَة المرئیة الواردة إلی الذِّهْن، وقد قلنا إنَّ ذات الطَّبِیعَة المرئیة الواردة إلی الذِّهْن هی مطلقة بالحمل الشائع، وهذا الإِطْلاَق یکون حَیْثِیّة تعلیلیة لسریان الحکم والاستیعاب إلی تمام الأفراد.

ص: 314

وهکذا یَتَّضِح لنا أَنَّهُ لا معنی لدلالة الأداة علی استیعاب مدخولها وهو اسم الجنس الدَّالّ علی الطَّبِیعَة إلاَّ بِأَنْ یَّکُونَ الملحوظ لِلْمُتِکَلِّمِ عبارة عن الطَّبِیعَة المطلقة بالحمل الشائع، أی: الطَّبِیعَة المرئیة بالرؤیة الإطلاقیة؛ إذا مِنْ دُونِ هذه الرُّؤْیَة لا یمکن لِلْمُتِکَلِّمِ أن یحکم بالاستیعاب علی ذات الطَّبِیعَة، وأمّا الطَّبِیعَة بما هی هی ومجردةً عن أیّة رؤیة (الَّتی نسمیها بالطَّبِیعَة المهملة) فلیست مرئیا لکی یُعقل أن یقع مَوْضُوعاً للحکم وللاستیعاب، کما هی لیست مرئیةً للواضع لکی یعقل أن یقع مَوْضُوعاً للوضع، وکما هی لیست مرئیةً لأی حاکم آخر یرید أن یحکم علیها بحکم آخر. فأی طبیعة یُفترض رؤیتها لیست إلاَّ عبارة عن الطَّبِیعَة المطلقة بالحمل الشائع، أو بالطبیعة المقیّدة. أَمَّا لا هذا ولا ذاک فیلزم منه ارتفاع النقیضین المحال.

إذن، فالإشکال المتقدّم غیر واردٍ لا علینا ولا علی المیرزا؛ فإن الطَّبِیعَة لا بُدَّ وأن یَتَعَیَّنُ فِی الطَّبِیعَة المطلقة قبل طروّ الاستیعاب علیها، لکی یصحّ السریان وهذا مطلق قاله المیرزا وأکّدنا علیه. فلا بُدَّ من أن تتحدد المهملة فِی المطلقة حتّی تَدُلّ الأداة علی استیعاب أفرادها.

فما قاله المیرزا متین جِدّاً، إِنَّمَا الإشکال الَّذی وجهناه إلی المیرزا (فیما مضی) هو أَنَّهُ وإن صَحَّ أنَّ أصل الطَّبِیعَة لا بُدَّ وأن تتعین فِی المطلقة حتّی یَتُمّ استیعاب أفرادها، ولکن الطَّرِیق إلی هذا التّعیین والتحدید ما هو؟ قال المیرزا: الطَّرِیق هو مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، ولکننا قلنا بأن الطَّرِیق إلی هذا التّعیین لَیْسَ هو مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، بل یکفی نفس أن الْمُتِکَلِّم ذکر اسم الجنس ولم یذکر قیداً، فإذا ضممنا إلی ذلک مدلول الأداة وهو الاستیعاب، تَتُمّ الدِّلاَلَة اللَّفظیَّة التَّصوُّریَّة للکلام علی استیعاب تمام الأفراد الَّتی تنطبق علیها الطَّبِیعَة.

ص: 315

أی: إذا لم یکن الْمُتِکَلِّم یرید الاستیعاب یکون قد خالف ظهورَ حاله؛ لأَنَّ ظاهر حال المتکلم هو أن ما یقولوه یریده (أصالة الجد)، وهو قال الاستیعاب (من خلال کلمة «کل»، أی: استیعاب ذات الطَّبِیعَة، أی: استیعاب الطَّبِیعَة المطلقة بالحمل الشائع) فهو أراده، وإن لم یرده یکون قد خالف هذا الظُّهُور الإثباتیّ الَّذی نرجع إلیه دائماً فِی جمیع الدلالات الوضعیَّة.

فهنا لا نحتاج إلی الظُّهُور الْحَالِیّ السلبی والْحَکَمِیّ وهو الإِطْلاَق والقائم علی أساس السُّکوت، وَالَّذِی رجع إلیه المیرزا. بل ما عندنا هو أقوی من هذا الظُّهُور، وهو الظُّهُور الإیجابی والکلام الَّذی ذکره الْمُتِکَلِّم، فما ذکره أراده بأصالة الجد، بلا حاجة إلی الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة.

بقیت تتمة مختصرة نذکرها غداً إن شاء الله تعالی. .

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

تلخص مِمَّا ذکرناه أن العموم والاستیعاب الَّذی یستفاد من أداة العموم مثل کلمة «کُلٍّ»، غیر محتاج إلی الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة فِی مدخول هذه الأداة. فلو قال مثلاً: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» نستفید منه استیعابَ الحکم لتمام أفراد طبیعة العالم، خلافاً لما قاله المُحَقِّق النائینی.

وبیَّنَّا أنَّ السِّرَّ فِی ذلک هُوَ أَنَّ أصالة الجد هی المرجع فِی مثل هذا المقام، وهی أقوی من أصالة الإِطْلاَق؛ فإن الإِطْلاَق ظهور حالی سلبی وسکوتی لِلْمُتِکَلِّمِ (معناه أن ما سکت عنه الْمُتِکَلِّم ولم یذکره لم یرده) بینما فِی المقام نحن نتمسک بأصالة الجد الَّتی هی قائمة علی أساس ظهور حالی إیجابی وکلامی لِلْمُتِکَلِّمِ، فنقول: بما أن الْمُتِکَلِّم استعمل أداةً وضعت للاستیعاب لغةً، وهذا الاستیعاب دخل علی اسم جنس (کلمة «العالم») واسم الجنس موضوع لِلطَّبِیعَةِ المهملة، لکن بعد دخول الاستیعاب علی هذه الطَّبِیعَة، سیکون معناه أنَّ هذه الطَّبِیعَة رُئِیَتْ مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم.

ص: 316

وَقُلْنَا: إِنَّ الحکم علی الطَّبِیعَة متوقّف علی تصوّر الطَّبِیعَة، وبمجرد أن تُتَصَوَّر الطَّبِیعَةُ المهملة تخرج عن کونها مهملةً وتصبح طبیعة مرئیة بکونها إطلاقیة (إذا لم یُلحظ مع الطَّبِیعَة قیداً)؛ فهو ذکر فِی کلامه استیعاب طبیعة العالم، وما ذکره أراده، فَیَکُونُ قد أراد استیعاب تمام أفراد طبیعة العالم، فلا نحتاج إلی إجراء الإِطْلاَق فِی کلمة العالم حتّی نستفید العموم. هذا ظهور لَفْظِیّ ووَضْعِیّ وهو أقوی من الإِطْلاَق الَّذی هو ظهور حالی حَکَمِیّ.

فصحیح أنَّ الْمُتِکَلِّم لو کان قد قیّد مدخول الأداة بقید من القیود، أی: لو کان قد قال: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ عادلٍ» لم یکن استعماله هناک للأداة استعمالا مَجَازِیّاً بل کان استعمالاً حقیقیّاً؛ لأَنَّهُ استعمل الأداةَ فِی معناها الْمَوْضُوع له وهو الاستیعاب، لکنَّ هذا لَیْسَ معناه أَنَّهُ إذا لم یقیِّد مدخول الأداة بقیدٍ فدلالةُ الکلام هنا علی عموم واستیعاب أفراد طبیعة «العالم» دلالة إطلاقیة ومحتاجة إلی مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ کما یقول النائینی (فقد ذکرنا هکذا فِی البیان الفنّیّ الَّذی ذکرناه لصالح النائینی). وهذا معناه أن الأداة موضوعة لاستیعاب ما یراد من المدخول؛ إذ تارة یراد من المدخول طبیعة العالم فیقول: «أَکْرِمِ الْعَالِمَ»، وتارة یراد من المدخول خصوص العالم العادل فَتَدُلُّ الأداة أیضاً علی استیعاب أفراد العالم العادل.

إذن، کأنَّ النائینی اعتبر عدم التَّجوُّز فِی موارد التَّقْیِید شَاهِداً وقرینةً علی أنّ الأداة علی حیاد وأنَّها تَدُلّ علی استیعاب المراد من المدخول، ویبقی أن نری ما هو المدخول؟ هل المدخول هو «العالم» أو المدخول هو «العالم العادل»؟ إِذْ أَنَّ کلیهما ینسجم مع الأداة. فلو أردنا أن نستفید من الأداةِ استیعاب تمام أفراد طبیعة العالم یجب علینا أن نتمسک بالإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة ونقول: بما أن الْمُتِکَلِّم قال: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» ولم یذکر قیداً (وهو قید «العالم»)، إذن فمقتضی الإطلاق ومقدّمات الحِکْمَة هو أَنَّهُ أراد استیعاب تمام أفراد طبیعة العالم.

ص: 317

فهذا الکلام غیر تامّ وقد اتَّضَحَ عدم تَمَامِیَّة؛ وذلک لأَنَّ مدخول الأداة إذا لم یُقیَّد بقید فهنا نفس الکلام یکون دالاًّ علی استیعاب تمام أفراد طبیعة العالم، أی: نفس الکلام سوف یَدُلّ بِالدِّلاَلَةِ اللَّفظیَّة الوضعیَّة علی استیعاب تمام أفراد طبیعة العالم. أی: تأتی أصالة الجد وتقول: هذا الْمُتِکَلِّم (کما شرحنا فِی بدایة بحث الیوم) ذکر فِی کلامه أداةً وضعت فِی اللُّغَة لاستیعاب مدخولها، ومدخولها اسم جنس، واسم الجنس مَوْضُوع لذات الطَّبِیعَة (طبیعة العالم) لکن بما أن الاستیعاب دخل علی اسم الجنس وعلی هذه الطَّبِیعَة، والاستیعاب نوع من الحکم یصدره الْمُتِکَلِّم، فیقتضی أَنْ تَکُونَ طبیعة العالم قد رُئیت ولوحظت مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم، وبمجرد أن تتصور طبیعة العالم تخرج عن کونها طبیعة مهملة وتصبح طبیعةً مطلقة. فذکر فِی کلامه استیعاب تمام أفراد طبیعة العالم، والأصل فیه أن یکون ما ذکره أراده جِدّاً.

فلا نحتاج إلی الإِطْلاَق ومقدّمات الحِکْمَة، ولو کُنَّا نحتاج إلی الإِطْلاَق ومقدّمات الحکمة فقولوا فِی کُلّ مورد دلالة الکلام علی الاستیعاب وعدم القید، دلالةٌ إطلاقیة مفتقرة إلی مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ حتّی لو صَرَّحَ الْمُتِکَلِّم بالإطلاق (مثلما إذا قال: «أکرم مطلق العلماء» أو «أکرم عموم العلماء»)؛ لأَنَّ نفس البیان الَّذی ذکرتموه لکلمة «کل» تجری فِی المقام.

فقولوا فِی المقام أن «أکرم مطلق العلماء» إن الاستعمال حقیقی هنا، کما أن «أکرم مطلق العلماء العدول» استعمال حقیقی أیضاً. فاعتبروا عدم التَّجوُّز وکون الاستعمال حقیقیّاً فیما لو قال «أکرم مطلق العلماء العدول» شَاهِداً وقرینةً علی أَنَّهُ عندما یقول: «أکرم مطلق العلماء» تفتقر الدِّلاَلَة علی الاستیعاب إلی مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، بینما مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ المیرزا لا یقول بذلک، أی: لا إِشْکَال فِی أن دلالة «أکرم مطلق العلماء» علی الاستیعاب وعلی عدم القید لیست مفتقرة إلی مُقَدِّمَات الْحِکْمَةِ، وإنَّما هی دلالة لفظیة وضعیَّة تَصَوُّرِیَّة کما هو واضح. وکذلک الأمر هنا فِی قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ».

ص: 318

ولعلّ الالتباس فِی هذه النُّقْطَة هی الَّتی سببت أن یتجه ذهن النائینی إلی ما قاله. وعلی کل حال بهذا ننتهی من الکلام فِی الجهة الثَّالثة من الجهات الَّتی وعدنا بالبحث عنها حول کلمة «کُلٍّ».

الجهة الرَّابعة: من جهات البحث حول کلمة «کل»، ونرید أن نری فِی هذه الجهة أن سِنْخ العموم والاستیعاب الْمُسْتَفَاد من کلمة «کُلٍّ» ما هو؟ فقد درسنا أن الاستیعاب والعموم یتصوّر علی أقسام ثلاثة: العموم البدلیّ والعموم الاستغراقی والعموم المجموعی.

لا إِشْکَال فِی کلمة «کُلٍّ» لا تَدُلّ علی العموم الْبَدَلِیّ؛ لأَنَّهَا لم توضع لهذا النوع من الاستیعاب.

یبقی أن نری هل یستفاد من کلمة «کُلٍّ» العموم الاستغراقیّ (وجوب إکرام کل واحد واحدٍ من العلماء «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ») أو یستفاد منها العموم الْمَجْمُوعِیّ أی: مجموع العلماء موضوع واحد لحکم واحد، ولا توجد أحکام عدیدة لموضوعات عدیدة. فلو لم یأتی بالجمیع لا یکون ممتثلاً.

قد یقال: إن مقتضی الأصل هو العموم الاستغراقیّ الشُّمُولِیّ (والمقصود من الأصل هو أصالة الإِطْلاَق). أی: لوحظ الأفراد بحیث کان کل فرد منهم موضوع مستقلّ؛ لأَنَّ العموم الْمَجْمُوعِیّ بحاجة إلی عنایة زائدة وبحاجة إلی بیان زائد وإضافی، کما فِی کُلّ إطلاق (أحل الله البیع کان علیه أن یأتی ببیان زائد إن کان یرید شیئاً آخر کبیع خاصّ).

فِإن فِی العموم الْمَجْمُوعِیّ أصبحت الأفراد نتیجة تقیید بعضهم ببعض أجزاء لمرکب واحد، بحیث یکون الامتثال لهذا العامّ الْمَجْمُوعِیّ بالإتیان بجمیع الأفراد، وعصیانه بترک هذا المجموع، ولو بترک فرد واحد. فإذا کان فِی الکلام ما یَدُلّ علی هذه العنایة فنحمل الکلام علی هذه العنایة الخاصّة، لکن المفروض لا یوجد فِی الکلام لفظ یَدُلّ علی هذه العنایة الَّتی یحتاجها العموم الْمَجْمُوعِیّ. فَیَکُونُ الْمُتِکَلِّم ساکتاً عن إفادة العموم الْمَجْمُوعِیّ، وسکوته یَدُلّ علی أَنَّهُ لم یرد العموم الْمَجْمُوعِیّ. وهذا معناه أن مقتضی الإِطْلاَق وسکوت الْمُتِکَلِّم عن العنایة الزائدة أن العموم هو العموم الاستغراقیّ.

ص: 319

وقد یقال: بعکس هذا الکلام، وهو أن مقتضی الأصل عبارة عن العموم الْمَجْمُوعِیّ؛ لأَنَّ هذا العموم الْمَجْمُوعِیّ هو المُفاد والمدلول الأوّلیّ للأداة؛ باعتبار أن الْمَجْمُوعِیَّة وإن کانت بحاجة إلی عنایة زائدة، لکن هذه العنایة موجودة وأُعمِلت مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم فعلاً، أی: هذه العنایة داخلة فِی المراد الاستعمالیّ لمراد الْمُتِکَلِّم؛ لأَنَّ أداة العموم تَدُلّ علی استیعاب مدخولها (کما تقدّم فِی أوَّل البحث عن کلمة «کُلٍّ») فلا بُدَّ من أن یکون مفهوم الأداة مفهوماً واحداً ولا یمکن أن یکون لها مفاهیم عدیدة (موضوعة له بما هی کثیرة)، أَمَّا أَنْ تَکُونَ الأفراد الْمُتِکَثِّرَة بما هی مُتِکَثِّرَة فیستحیل أَنْ تَکُونَ مَدْخُولاً لأداة العموم؛ لأَنَّ الأفراد الْمُتِکَثِّرَة بما هی مُتِکَثِّرَة عبارة عن معانٍ ومفاهیم عدیدة. أی: لهذا «العالم» معنی یختلف عن معنی «العالم» الآخر، وکذلک «العالم» الثالث یختلف معنیً عنهما وعن معانی الأفراد الأخری للعالم. فإذا کان المراد الاستعمالیّ (فِی مقام الإثبات) هو هذا المعنی الواحد فمقتضی أصالة التَّطَابُق بین مقام الإثبات ومقام الثُّبوت هو أَنْ تَکُونَ هذه العنایة موجودة فِی مقام الثُّبوت، أی: مُرادَة لِلْمُتِکَلِّمِ، أی: الْمُتِکَلِّم افترض کل العلماء المائة عالماً واحداً حتّی یمکنه أن یدخل الأداة علیها، وإلا فکیف یمکنه أن یدخل الأداة علی المعانی العدیدة بما هی عدیدة فإن إدخال الأداة علی المعانی العدیدة بما هی عدیدة مستحیل؛ إذ لَیْسَ لمفهوم الأداة إلاَّ معنی واحداً.

فإذا کان المراد والمدلول الاستعمالیّ فِی مقام الإثبات (= کلام الْمُتِکَلِّم) عبارة عن معنی واحد، فمقتضی أصالة التَّطَابُق بین مقام الإثبات ومقام الثُّبوت هو أَنْ تَکُونَ هذه العنایة موجودة فِی مقام الثُّبوت (أی: أَنْ تَکُونَ مرادةً لِلْمُتَکَلِّمِ، أی: افترض المتکلم جمیع العلماء المائة عالماً واحداً، لکی یُدخل علیها الأداة، وإلا فیستحیل إدخال الأداة علی المعانی العدیدة بما هی عدیدة.

ص: 320

إذن، ففی مقام الإثبات الْمُتِکَلِّم لاحظ مجموعَ المائة، لأَنَّهُ فِی مقام الإثبات استعمل لفظ «العالم» وکل من یستعمل لفظ «العالم» لا بُدَّ وأن یکون مستعملا لهذا اللَّفظ فِی معنی واحد، فالمتکلم فِی مقام الإثبات لاحظ المجموع، لأنَّ المجموع معنی واحد. فَحَیْثُ أَنَّهُ لاحظ المجموع إثباتاً فَیَکُونُ قد لاحظ المجموع ثبوتاً بمقتضی أصالة التَّطَابُق بین مقام الإثبات ومقام الثُّبوت.

إذن فنحن أمام کلامین متقابلین.

التَّحْقِیق أن یقال تبعاً لسیِّدنا الأستاذ الشَّهید رضوان الله علیه: إن هذه العنایة (عنایة توحید الأفراد الْمُتِکَثِّرَة) لا شکّ أَنَّهُ مِمَّا لا بُدَّ منها (وهی ضروریة فِی مقام الاستعمال) أی: أنَّها أخذت مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم فِی مقام الاستعمال، بنفس النُّکتة الَّتی ذکر فِی المقام الثَّانِی، فإنَّ اللَّفظ الواحد لا یستعمل إلاَّ فِی معنی واحد. فلا بُدَّ أن یکون المراد الاستعمالیّ لِلْمُتَکَلِّمِ من مدخول الأداة (من کلمة «العالم») عبارة عن مفهوم واحد توحدت فیه المتکثرات، کی یمکن استعمالُ اللَّفظ فِی ذاک المعنی الواحد. فأصل هذه العنایة أمر لا بُدَّ منه فِی مقام الاستعمال. إلاَّ أن هذه العنایة علی نحوین سوف نشرحهما إن شاء الله فِی البحث القادم. .

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کانَ الکلامُ فی أن العموم الْمُسْتَفَاد من کلمة «کُلٍّ» هل هو عموم استغراقیّ أم هو عموم مجموعیّ، بعد أن أقصینا عن حسابنا العموم الْبَدَلِیّ بلا إِشْکَال. فقلنا:

قد یقال بأن مقتضی الأصل هو الأوّل (أی: أن العموم استغراقیّ) لأَنَّ العموم الْمَجْمُوعِیّ بحاجة إلی عنایة إضافیة وهی عنایة توحید الکثیر وترکیب المتکثرات فِی مرکب واحد اسمه المجموع، فهذه عنایة إضافیة یقتضی الإِطْلاَق عدمها.

ص: 321

وقد یقال بالعکس: بأن مقتضی الأصل هو العموم الْمَجْمُوعِیّ، بأنَّ هذه العنایة (عنایة توحید الکثیر) أمر لا بُدَّ منه فِی مقام الاستعمال، فإِنَّهُ لا بُدَّ لِلْمُتِکَلِّمِ من أن یستعمل اللَّفظ فِی مفهوم واحد، ولا یمکنه أن یستعمل اللَّفظ فِی مفاهیم عدیدة ومعانی عدیدة، والأفراد الْمُتِکَثِّرَة بما هی مُتِکَثِّرَة هی فِی الواقع معانٍ عدیدة، فلا یمکن استعمال اللَّفظ الواحد فیها معاً، فلا بُدَّ من إعطاء هذه المتکثرات نوعاً من الوحدة کی یصحّ هذا الاستعمال. فالعنایة عنایة مأخوذة فِی مقام الاستعمال وفی مقام الإثبات ومقتضی التَّطَابُق بین الإثبات والثُّبوت هو أن هذه العنایة مُرادةٌ جِدّاً لِلْمُتِکَلِّمِ. أی: العموم مجموعیّ.هذان کَلاَمان.

وقد تقدّم أَنَّهُ لا بُدَّ من أصل هذه العنایة، أی: لا بُدَّ لِلْمُتِکَلِّمِ فِی مقام الاستعمال من توحید المتکثران وإضفاء نوع من الوحدة وإلباسها نَوْعاً من الوحدة لکی یصحّ استعماله لِلَّفْظِ فِی ذاک الْمَفْهُوم الوحدانی. فعنایة توحید الکثیر أمر لا بُدَّ منه إلاَّ أن هذه العنایة تُتَصَوَّر علی نحوین:

النَّحْو الأوّل: أَنْ یَکُونَ توحید الکثیر أمراً أخذ فِی مقام الإثبات ومقام الاستعمال لضرورة الاستعمال فقط وفقط ولا أکثر. أی: الْمُتِکَلِّم فِی مقام الاستعمال باعتبار أَنَّهُ لا یمکنه أن یستعمل اللَّفظ فِی الْمُتَکثّرَات بوصفها متکثرات، فکان مضطراً إلی أن یعتبر هذه المتکثرات أمراً واحداً ویُلبسها ثوبَ الوحدة ویعتبر لها لوناً من الوحدة ویتصور فیها نَوْعاً من الوحدة فیها لکی یتمکن من أن یستعمل اللَّفظ فیها؛ باعتبار أن الأفراد مشترکة فِی صفة واحدة کصفة العلم، وهو یرید أن یعبر عنهم جمیعاً بلفظ واحد وهو لفظ «کل»، فلم یکن له خیار غیر أن یُلبس هذه الأفراد المتکثرات ثوب الوحدة ویجعلها شیئاً واحداً ویستعمل اللَّفظ فیه.

ص: 322

إذن هذه عنایة، ولکنها من شؤون الاستعمال ومن شؤون إراءة المعنی، ولیس لها محکی وراء ذلک فِی الخارج؛ لأَنَّ هذه الصفة المشترکة (= العلم) فِی الأفراد الْمُتِکَثِّرَة لیست قائمة فِی الخارج بمجموع الأفراد، بل هی قائمة بالجمیع؛ فَإِنَّ «صفة العلم» قائمة بکل فرد فردٍ بما هو هو ومستقلاً. أی: هذا عالم سَوَاءٌ کَانَ الآخرون علماء أم لا، وذاک عالم أیضاً سَوَاءٌ کَانَ هذا وآخرون علماء أم لا. فصفة العلم لیست قائمة فِی الخارج بمجموع هؤلاء المائة (إذا افترضنا أن مجموعهم مائة عالم)، بحیث إذا کان 99 منهم عَالِماً ولم یکن الأخیر عَالِماً یسقط المجموع عن کونها عَالِماً، لا هذا لَیْسَ صحیحاً؛ لأَنَّ صفة العلم قائمة بالجمیع لا بالمجموع. فلم تُعطی هذه الصفة توحّداً للأفراد فِی الخارج، بحیث یصیّرهم مرکّباً واحداً، وإنَّما توحید هؤلاء أمر اعتباری اعتبره المستعمِل لضرورة الاستعمال، بعد أن کان مکتوف الید ولم یکن بإمکانه أن یستعمِل اللَّفظ فِی المتکثرات بما هی مُتِکَثِّرَة.

فعنایة توحید الکثیر هنا ضرورة اِسْتِعْمَالِیَّة لا أکثر، وإلا فلا یوجد وراء هذه الضَّرورة محکیٌّ فِی الخارج (فقد قلنا بأَنَّهُ لا یوجد توحد خارجی بین العلماء، فکل فرد مَوْضُوع مستقلّ). أی: لم تقم صفة العلم بمجموع المائة من العلماء بل قامت بکل واحد واحدٍ من المائة، أی: بالجمیع.

وإذا کانت عنایةُ توحید الکثیر بهذا النَّحْو فالحق مع القول الأوّل، وهو القول بأن مقتضی الأصل هو کون العموم الْمُسْتَفَاد من لفظة «کل» عموماً اِسْتِغْرَاقِیّاً. أی: کل فرد فردٍ مَوْضُوع مستقلّ، ولیست هذه العنایة مأخوذةً فِی المُراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ فِی مقام الثُّبوت. نعم هی مأخوذة فِی مقام الإثبات والاستعمال.

لا یقال: إن هذا خلاف أصالة التَّطَابُق بین مقامی الإثبات والثُّبوت.

ص: 323

إذ یقال: بأنَّها أصل عُقَلاَئِیّ یجریه العقلاء عندما کان المأخوذ لا لضرورة الاستعمال وَالتَّعْبِیر، بل أخذ فِی مقام الإثبات لأَنَّ له محکیاً فِی الخارج وله ما بإزاء فِی الخارج وراء الاستعمال. أَمَّا فیما نحن فیه أخذ فِی مقام الإثبات والاستعمال عنایة التوحید لکن لأجل ضرورة التَّعْبِیر فقط. فلا تنطبق أصالة التَّطَابُق المذکور هنا ولا یُشَکِّل أفراد العالم (فِی هذا المثال) مُرَکَّباً واحداً فِی الخارج، نعم وَحَّدَهُم المستعمِلُ اعتباراً لکی یتسنی لهم أن یستعمل کلمة «کُلٍّ» فیهم ویمکنه التَّعْبِیر بلفظ واحد. أی: ضرورة تعبیریة وبیانیة واستعمالیة، وإلا فهم لیسوا واحداً فِی الخارج.

إذن هذا الترکب والتوحد أمر اعتباری محض لضرورة الاستعمال لَیْسَ أکثر، ومثل هذا (أی: التَّطَابُق بین الإثبات وَالثُّبُوت) لا یقتضی حفظَه فِی مقام الثُّبوت والمراد الْجِدِّیّ لِلْمُتِکَلِّمِ. فالحق مع العموم الاستغراقیّ فِی مثل هذا المورد.

النَّحْو الثَّانِی: أَنْ تَکُونَ هذه العنایة (عنایة توحید المتکثرات وترکیبها) مأخوذة فِی الْمَدْلُول الاستعمالیّ بمعنی أنَّ هذا الترکیب والتوحید أمر واقعی فِی الخارج، أی: له ما بإزاء خارجاً ولیس أمراً اعتباریّاً بَحْتاً مِن قِبَلِ المستعمِل، بل هو أمر واقعی فِی الخارج وراء شؤون الاستعمال وبقطع النَّظَر عن اعتبار المستعمِل وبمعزلٍ عن طروّ الأداة واستعمالها مِن قِبَلِ الْمُتَکَلِّم ولها ما بإزاء خارجاً؛ باعتبار أنَّ الأفراد الْمُتَکَثِّرَة مشترکة فِی صفة واحدة، هذه الصفة قائمة بمجموع الأفراد خارجاً، لا بالجمیع. أی: الأفراد الْمُتِکَثِّرَة تشترک فِی عنوان واحد أعطاها نَوْعاً من التوحد والترکب، فأصبحت الأفراد بمجموعها (لا بجمیعها) مرکزاً لهذا العنوان والصفة، وذلک من قبیل عنوان «الجیش» و«العسکر»، فهذا العنوان قائم بمجموع الجنود والعساکر، والجندی الواحد لَیْسَ جیشاً، بخلاف العالم الواحد فإِنَّهُ عالم والعنوانُ محفوظ فیه. فهذا العنوان فِی الخارج قائم بمجموع الأفراد، أی: قائم فلیس قَائِماً بکل فرد فردٍ مستقلاًّ.

ص: 324

ففرق کبیر بین عنوان العالم وبین عنوان الجیش والعسکر؛ حیث لم یعط عنوانُ «العالم» توحّداً وترکّباً لأفراد العالم، بینما العنوان الأخیر (الجیش أو العسکر) وحّد الأفراد توحیداً حقیقیّاً، فلیس توحیده لضرورة التَّعْبِیر وإنَّما هو فِی مرحلة أسبق من التَّعْبِیر، حیث یوجد توحد حقیقی وواقعی بین الأفراد.

فإذا کانت العنایة من هذا القبیل، عندما یقول: «أکرم کل الجیش» أو «أکرم کل العسکر» تفید کلمة «کُلٍّ» العموم الْمَجْمُوعِیّ، فلا یوجد ألف وجوب بعدد الجنود (وهم ألف فرد)، بل الوجوب مجموعیّ.

فالحاصل: أَنَّنَا نفرق بین قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» وبین قوله: «أکرم کل العسکر» أو «کل الجیش»؛ فإن مقتضی الإِطْلاَق فِی الأوّل هو أن العموم عموم استغراقیّ؛ وذلک لما قاله صاحب القول الأوّل من أنَّ الْمَجْمُوعِیَّة عنایة إضافیة وتحتاج إلی بیان زائد ولا یوجد فِی المقام بیان زائد. أی: تحتاجُ عنایةُ توحید الکثیر فِی مرحلة المراد الْجِدِّیّ إلی قرینة ولا قرینة فِی المقام. بینما فِی الثَّانِی «أکرم کل الجیش» مقتضی الأصل هو أن یکون العموم مجموعیّاً؛ لأَنَّ ترکب الکثیر وتوحّده هناک له محکی خارجاً وراء عالم الاستعمال.

وفی ضوء ما ذکرناه نستطیع أن نفسر وجهَ الفرق بین دخول «کلٍّ» علی المفرد المنکر وبین دخولها علی المفرد المُعَرَّف باللام. فهناک فرق بین أن یقول: «اقرأ کل کتاب» وبین أن یقول: «اقرأ کل الکتاب»؛ ففی حالة الأولی تفید کلمة «کل» العموم الاستغراقیّ، أی: تکون هذه الکلمة ظاهرة فِی أن کل کتاب مَوْضُوع مستقلّ للحکم؛ لأَنَّ الوحدة (وحدة الکتب) لیست إلاَّ حَیْثِیّة اعتباریة محضة خلقها المستعمِل فِی مرحلة الاستعمال لیصح استعمالُه، وإلا فهذه الوحدة لَیْسَ لها ما بإزاء فِی الخارج. أی: لَیْسَ لمجموع الکتب وحدة واقعیة فِی مرحلة سابقة علی الاستعمال وفی مرحلة سابقة علی دخول الأداة علیها، ولذا فلو قرأ کتاباً ولم یقرأ کتاباً آخر یکون ممتثلاً لحکم وعاص لحکم آخر.

ص: 325

بینما فِی الحالة الثَّانیة عندما یقول: «اقرأ کل الکتاب» تفید کلمة «کُلٍّ» العمومَ الْمَجْمُوعِیّ بلحاظ الأجزاء، أی: کل صفحات هذا الکتاب. أی: یوجد حکم واحد موضوعه مجموع صفحات هذا الکتاب، ولیس هناک أحکاما عدیدة بعدد أجزاء وصفحات الکتاب، بحیث إذا قرأ 99 صفحة من مجموع 100 صفحة، لا یکون ممتثلاً، لا لَیْسَ کذلک؛ لأَنَّهُ لم یکن هناک إلاَّ حکم واحد تعلّق بقراءة مجموع هذه المائة، فلو لم یقرأ المجموع لم یمتثل هذا الحکم.

فالعموم هنا مجموعیّ؛ لأَنَّ هذا المجموع له وحدة حقیقة وبقطع النَّظَر عن اعتبار المستعمِل ودخول الأداة، لأَنَّ هذه الصفحات المائة أعطت الکتاب توحداً فهو کتاب واحد رغم أَنَّهُ مائة صفحة.

هذا فرق نجده وهذا الفرق نفسره بما قلناه. ومنشأ هذا الفهم وهذا الظُّهُور فِی هَاتَیْنِ الحالتین هو قلناه من أنَّ حَیْثِیّة اجتماع الأفراد فِی الحالة الأولی (اقرأ کل کتاب) اعتباریة محضة نشأت من ضرورة عالَم الاستعمال، أی: المستعمِل أعطی وحدةً لهذه الکتب، وإلا فهی لیست لها وحدة. ولذا فأصالة التَّطَابُق لا تقتضی أَنْ تَکُونَ هذه مُرادة جِدّاً لِلْمُتِکَلِّمِ. وهذا بخلاف الحالة الثَّانیة، حیث أن الحیثیة الوَحْدَوِیّة فیها لیست اعتباریة، بل هی تشکل أجزاء لمرکب واحد، فالعنایة موجودة هنا بِقَطْعِ النَّظَرِ عن لحاظ المستعمل، ولذا تقتضی أصالة التَّطَابُق أَنْ تَکُونَ مُرادة جِدّاً.

إذن، فالأصل فِی کلمة «کُلٍّ» حینما تأتی لإفادة العموم الأَفْرَادِیّ الاستغراقیةُ، کما فِی «اقرأ کل کتاب» و«أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ»، وحینما تأتی لإفادة العموم الأَجْزَائِیّ فالأصل فیها الْمَجْمُوعِیَّةُ مثل «اکتب کل الدرس» أو «اقرأ کل الکتاب».

ومما لعلّه یؤید هذا التمییز الَّذی ذکرناه بین مدلولی «کلٍّ» ویشهد له، ما ذکره النُّحَاة واتفق علیه علماء الْعَرَبِیَّة من أن «کلّ» بلحاظ اللَّفظ مفرد مذکر، أَمَّا بلحاظ المعنی (أی: بلحاظ المدخول) فیختلف الأمر من حیث التذکیر والتأنیث ویختلف أیضاً من حیث الإفراد والتثنیة والجمع، فذکروا أنّ لفظة «کلٍِّ» إذا دخلت علی النَّکِرَة کانت تابعة لمدخولها من حیث الإفراد أو الجمع، ومن حیث التذکیر أو التأنیث، ولا تتبع نفسَها. کقوله تعالی: «کل نفس بما کسبت رهینة»(1) فلو کان یراعی لفظ کل کان یقول: «کل نفس بما کسبت رهین»، وکقوله: «لکل امرئ منهم یومئذ شأن یغنیه»(2) ، وکقوله: «وهَمَّتْ کل أمة برسولهم لیأخذوه»(3) باعتبار أن الأمّة جاءت جمعاً، وإلا فلو کانت بلحاظ نفس کلمة «کل» کان المفروض أن یقول: «وهمت کل أمة برسولهم لیأخذه»، وکالآیات التالیة: «قد علم کل أناس مشربهم»(4) ، «ثم توفی کل نفس ما کسبت وهم لا یُظلمون»(5) «یوم تجد کل نفس ما عملت من خیر محضَراً»(6) ، «وإن یروا کل آیة لا یؤمنوا بها»(7) ، «کذلک زینا لکل أمة عملهم ثم إلی ربهم مرجعهم»(8) ، «وکذلک جعلنا فِی کُلّ قرینة أکابر مجرمیها لیمکروا فیها»(9) ، «ولا تکسب کل نفس إلاَّ علیها»(10) ، «لکل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا یستأخرون ساعة»(11) ، «وکل إنسان ألزمنا طائره فِی عنقه»(12) ، «یوم ندعو کل أناس بإمامهم»(13) ، «ثم لننزعنّ من کل شیعة أیهم أشد علی الرحمان عتیاً»(14) ، «یوم ترونها تذهل کل مرضعة عمَّا أرضعت، وتضع کل ذات حمل حملَها»(15) ، «کل حزب بما لدیهم فرحون»(16) . هذا إذا دخلت کلمة «کُلٍّ» علی النَّکِرَة.

ص: 326


1- (1) - سورة المدثر (74): الآیة 38.
2- (2) - سورة عبس (80): الآیة 37.
3- (3) - سورة غافر (40): الآیة 5.
4- (4) - سورة البقرة (2): الآیة 60 وسورة الأعراف (7): الآیة 160.
5- (5) - سورة البقرة (2): الآیة 281، وسورة آل عمران (3): الآیة 161، ووردت «کل نفس ما کسبت» فِی موضعین آخرین أیضاً هما: سورة آل عمران (3): الآیة 25، وسورة إبراهیم علیه السلام (14): الآیة 51.
6- (6) - سورة آل عمران (3): الآیة 30.
7- (7) - سورة الأنعام (6): الآیة 25 وسورة الأعراف (7): الآیة 146.
8- (8) - سورة الأنعام (6): الآیة 108.
9- (9) - سورة الأنعام (6): الآیة 123.
10- (10) - سورة الأنعام (6): الآیة 164.
11- (11) - سورة الأعراف (7): الآیة 34 وسورة یونس علیه السلام (49): الآیة 49.
12- (12) - سورة الإسراء (17): الآیة 13.
13- (13) - سورة الإسراء (17): الآیة 71.
14- (14) - سورة مریم علیها السلام (19): الآیة 69.
15- (15) - سورة الْحَجّ (22): الآیة 2.
16- (16) - سورة المؤمنین (23): الآیة 53 وسورة روم (30): الآیة 32.

أَمَّا إذا دخلت علی المعرفة فجاز فیها الوجهان، أی: یجوز أن نراعی لفظَ «کلٍّ»، أی: یُتعامل معه کفرد مذکر، ویجوز أن نلاحظ معناه (أی: مدخوله). فبلحاظ لفظه یجوز الإفراد والتذکیر للضمیر الَّذی یرجع إلی «کلٍّ»، رغم أن معناه ومدلوله جمع مثلاً أو مؤنث. فمثلاً یجوز أن نقول: «کل الأمّة یؤمن بالله» (أی: نراعی لفظَ «کلٍّ)، کما یجوز أن نراعی المعنی ونقول: «کل الأمّة تؤمن بالله»، بینما فِی الفرض الأوّل لا یوجد إلاَّ وجه واحد. وأیضاً یمکننا أن نقول: «کل الأمّة یؤمنون بالله» (بلحاظ معنی «کلٍّ» ومدخوله).

هذا ما قاله النُّحَاة وعلماء الْعَرَبِیَّة وهذا مؤیِّد لما قلناه من التمییز بین ظهور «کُلٍّ» فِی الحالة الأولی (وهی حالة دخوله علی النَّکِرَة) وظهور «کُلٍّ» فِی الحالة الثَّانیة، حیث قلنا إن دخول «کُلٍّ» فِی الأولی (علی النَّکِرَة) ظاهر فِی العموم الاستغراقیّ للأفراد وَالَّذِی لا یُلحظ فیه توحّد الأفراد الْمُتِکَثِّرَة إلاَّ فِی مرحلة الاستعمال وَالتَّعْبِیر فحسب، کما أن دخول «کُلٍّ» فِی الثَّانیة (علی المعرفة) یجعله ظاهراً فِی العموم الْمَجْمُوعِیّ وَالَّذِی یُلحظ فیه توحّد المتکثرات وانصباب الحکم علی مَوْضُوع واحد وهو المجموع، ولذلک لا تکون «کُلٍّ» تابعة لمدخولها، وإنَّما یجوز لحاظ لفظها فِی المفرد المذکر حتّی وإن لم یکن مدخولها مُفْرداً مذکراً کما قلنا، مثلاً یجوز له أن یقول: «کل الأمّة یؤمن بالله تعالی».

هذا تمام الکلام فِی الجهة الرَّابعة من جهات البحث عن کلمة «کُلٍّ»، وبهذا تَمَّ الکلام عن هذه اللفظة وهی الأداة الأولی من أدوات العموم وألفاظها، وبعد ذلک ننتقل إن شاء اللٰه تعالی إلی الأداة الثَّانیة من أدوات العموم وهی «الجمع المحلی بِاللاَّم». إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه.

ص: 327

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الثَّانیة من أدوات العموم وألفاظه هو «الْجَمْعُ الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ»، مثل الفقراء والعلماء و«المساکین» وهکذا سائر الجموع المعرَّفة بِاللاَّم، وحول هذه اللفظة توجد ثلاث جهات لا بُدَّ من البحث فیها:

الجهة الأولی: کیفیَّة دلالتها علی العموم ثبوتاً وتصوّراً.

الجهة الثَّانیة: فِی تحقیق أصل دلالة هذه اللفظة علی العموم إثباتاً، فهل تَدُلّ فعلاً علی العموم.

الجهة الثَّالثة: فِی البحث عن أن العموم الْمُسْتَفَاد من هذه اللفظة من أی نوع من أنواع العموم؟ مجموعیّ أو استغراقیّ؟

أَمَّا الجهة الأولی: فالکلام فیها یقع:

تارةً بناءًا علی التَّعْرِیف المتقدّم من المُحَقِّق الخُراسانیّ للعموم وَالَّذِی تقدّمت دراسته فِی بدایة بحثنا عندما کُنَّا نبحث عن تعریف العموم، حیث فسر العموم بهذا التَّعْرِیف: «العموم هو شمول الْمَفْهُوم لجمیع ما یصلح لأَن ینطبق علیه». إذن، العموم عنده عبارة عن استیعاب مفهومٍ لأفرادِ نفسه.

وأخری نتکلّم بناءًا علی التَّعْرِیف المختار حیث عرفنا العموم بأَنَّهُ عبارة عن «استیعاب [وَضْعاً] مفهوم لأفرادِ مفهوم آخر» (لا استیعاب مفهوم لأفراد نفسه)، إما ذاتاً وإما بدالٍّ آخر، کما تقدّم توضیح ذلک کُلّه.

أَمَّا علی تَفْسِیر الخراسانی للعموم فنحتاج إلی مفهومٍ اسمی واحدٍ یکون مستوعِباً لأفراد نفسه (حتّی یکون هو العامّ). إذن، نحن بحاجة أوَّلاً إلی ما یَدُلّ علی هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ، وثانیاً بحاجة إلی ما یَدُلّ علی استیعاب هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ لأفراد نفسه.

فإذا أتینا إلی «الْجَمْعِ الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ» مثل «العلماء» وحللنا هذه اللفظة رأینا أنَّها مشتملة علی ثلاثة دوال: مادّة الجمع وهیئة الجمع وَاللاَّم. أَمَّا الْمَادَّة فلا إِشْکَال ولا کلام فِی أنَّها تَدُلّ علی مفهومٍ اسمی وهو عبارة عن «طَبِیعِیّ العالم». وأمّا «اللاَّم» فأیضاً لا إِشْکَال فِی أنَّها (باعتبارها حرفا) تَدُلّ علی معنیً حرفی، طبعاً علینا أن نحدّد هذا المعنی الْحَرْفِیّ، ولکن بالمآل طبیعة المعنی معنی حرفی. وأمّا «هیئة الجمع» فهی محط الجدل والبحث الدائر لدی الأُصُولِیِّینَ.

ص: 328

یوجد هنا فرضان:

الفرض الأوّل: أن نفترض أن مدلول هذا الدَّالّ عبارة عن مفهوم اسمی، وإن شئتم عبروا عنه ب_«المتعدد من أفراد مدلول الْمَادَّة [أی: من أفراد طَبِیعِیّ العالم]» أو إن شئتم عبروا ب_«ما لا یقلّ عن ثلاثة من أفراد مدخول الْمَادَّة» أو عبروا عن هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ الَّذی تَدُلّ علیه هیئة الجمع ب_«الجمع من أفراد الْمَادَّة» أی: «الجمع من أفراد طَبِیعِیّ الْمَادَّة».

والمُهِمّ فِی هذا الفرض الأول أن تُفترض لهیئة الجمع معنیً اسمیّاً.

والفرض الثَّانِی: أن نفترض أن مدلول هذا الدَّالّ عبارة عن مفهوم حرفی. فهاتان فرضیتان.

فإذا أردنا أن نتکلّم وَفقاً لتعریف الخُراسانیّ (کما هو المفروض الآنَ) فتارة نتکلّم بناءًا علی الفرض الأوّل وأخری بناءًا علی الفرض الثَّانِی:

أَمَّا بناءًا علی الفرض الأوّل وهو أَنْ تَکُونَ هیئةُ الجمع دالَّة علی معنی اسمی وَالَّذِی نعبر عنه ب_«الجمع من أفراد مدلول الْمَادَّة» أو «الجمع من أفراد طَبِیعِیّ الْمَادَّة»، فَسَوْفَ یکون هذا المعنی الاِسْمِیّ هو العامّ الَّذی یستوعِب تمامَ أفراد نفسه. یبقی هذا السُّؤَال الأساسی وهو أَنَّهُ کیف یستوعب هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ تمامَ أفراد نفسه؟ وکیف نصوِّر استیعاب هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ لأفراد نفسه؟!

فقد یجاب عنه بأن تصویره یَتُمّ بأحد وجوه:

الوجه الأوّل: أن یقال بأن هذا المفهوم الاِسْمِیّ وهو مفهوم «الجمع من أفراد مدلول الْمَادَّة (= أفراد العالم)» یستوعِب کل فرد فردٍ من أفراد العالم؛ وذلک باعتبار أن کل فرد من العلماء هو فرد من الجمع (من هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ) لأَنَّ کل فرد من الجمع مندرج تحت الجمع.

وهذا التَّصْوِیر باطل؛ وذلک لأَنَّه بحسب الفرض (تعریف الآخوند) یکون العموم عبارة عن استیعاب أفراد نفسه، والمفروض أن الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ الَّذی تَدُلّ علیه هیئة الجمع افترضناه عبارة عن الجمع، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ کل فردٍ من الأفراد لَیْسَ من مصادیق الجمع، بل الفرد من مصادیق الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ لکلمة «الفرد». الفرد لا من مصادیق الجمع ولا من مصادیق الْمُثَنَّی، بل هو من مصادیق «المفرد» فِی مقابل الجمع وفی مقابل الْمُثَنَّی. وهذا بخلاف الثَّلاثة والأربعة والخمسة و.. فهی من مصادیق الجمع ومراتبه. فلا یقتضی استیعاب الجمع لتمام مصادیق نفسه استیعابَ کل فرد؛ لأَنَّ المفرد لَیْسَ من مصادیق الجمع، فلا ینطبق تعریف الخُراسانیّ فِی المقام.

ص: 329

الوجه الثَّانِی: أن یقال إن هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ (وهو الجمع) یستوعب کل ثلاثة ثلاثةٍ من أفراد العالم؛ لأَنَّ کل ثلاثة هی مصداق للجمع، فهذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ یستوعب کل ثلاثة ثلاثةٍ من العلماء، وبالتَّالی فهذا الْمَفْهُوم یستوعب کل فرد باعتباره جزءاً من ثلاثة، فَیَکُونُ مندرجاً تحته.

هذا أیضاً غیر تامّ؛ لأَنَّهُ یرد علیه أن الثَّلاثة هی إحدی مراتب الجمع، وهی من مصادیق الجمع، وهناک أفراد ومصادیق أخری للجمع غیر الثَّلاثة، فالأربعة والخمسة والعشرون و.. أیضاً مصادیق أخری للجمع؛ فإن هیئة الجمع لم تُوضع للثلاثة بشرط عدم الزیادة. فمقتضی العموم هو استیعاب جمیع مصادیق الجمع، ومن مصادیق الجمع کل ثلاثة ثلاثةٍ من العلماء، کما أن من مصادیقه کل أربعة أربعةٍ وکذا کل خمسة خمسةٍ وهکذا إلی آخر حلقات ومصادیق الجمع إن کان للجمع نهایة.

الوجه الثَّالث: أن یقال إن هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ الَّذی وضعت له هیئةُ الجمع مفهومٌ مرِن نعبر عنه بهذا التَّعْبِیر: «الجمع الَّذی لا یقل عن ثلاثة» وهذا له مصادیق عدیدة. وهذا الْمَفْهُوم یستوعب کل هذه المصادیق والمراتب من الجمع، واستیعاب تمامها یتمثل خارجاً فِی المرتبة العلیا من مراتب الجمع، وهی المرتبة المشتملة علی جمیع الأفراد. فمثلاً إذا کان العلماء 100 خارجاً فالمرتبة العلیا من مراتب الجمع هی مرتبة المائة المشتملة علی جمیع الأفراد. وحینئِذٍ یکون هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ مستوعباً للمرتبة العلیا، والمرتبة العلیا مستوعبة للمراتب النازلة.

إلاَّ أَنَّهُ یرد علی هذا الوجه أنَّ هذا بحسب الدِّقَّة لَیْسَ عموماً بالمعنی الدقیق، بل أصبح نتیجة العموم؛ لأَنَّ هذا لَیْسَ استیعاباً لتمام مصادیق الجمع؛ لأَنَّ المرتبة العلیا من الجمع هی فِی الواقع أحد مصادیق الجمع، ولیست جمیع مصادیق الجمع. لکن تُجعل اللاَّم (الَّتی هی فِی اللُّغَة للتعیین) قرینةً علی أنّ الْمُتِکَلِّم أراد هذه المرتبة العلیا، باعتبار دخول سائر المراتب تحت هذه المرتبة، فلذلک یُری کأن هذه المرتبة جمیع تلک المراتب، وإلا فإن المائة لیست جمیع تلک المراتب بل هی مرتبة فِی عَرض تلک المراتب.

ص: 330

معنی العموم أن تَدُلّ اللاَّم مع مدخولها علی استیعاب تمام أفراد نفسه، أی: استیعاب تمام الجموع، أی: استیعابُ الثلاثات واستیعاب الأربعات والخمسات والستات وهکذا، بینما «اللاَّم» دَلَّتْ فِی المقام علی أن مدلولها متعین فِی المرتبة العلیا (أی: المائة)، والمائة لیست مستوعِبة للمراتب الأخری من الجمع. وامتیاز المائة (الَّتی هی فِی المرتبة العلیا) هو أنَّ سائر الموارد داخلة تحتها، لا أنَّها جمیع تلک المراتب. إعداد وتقریر: الشَّیْخ محسن الطهرانی عفی عنه. فکأنها تُری بأنها جمیع تلک المراتب.

هذه وجوه ثلاثة لتصویر کیفیَّة استیعاب هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ (الَّذی افترضناه أَنَّهُ هو مدلول هیئة الجمع) لأفراد نفسه. هذا کُلّه بناءًا علی الفرض الأول.

أَمَّا بناءًا علی الفرض الثَّانی: وهو أَنْ تَکُونَ هیئة الجمع دالَّة علی معنی حرفیٍّ وعلی نسبة بحتة، وهذا المعنی النِّسْبِیّ قائم بمدلول الْمَادَّة (= طَبِیعِیّ العالم) وبأفراد هذا الطَّبِیعِیّ. وما هو هذا المعنی النِّسْبِیّ الْحَرْفِیّ البحت؟ هو عبارة عن تعدّد هذه الأفراد، ولکن تعدّد کنسبة وربط، لا کمعنی اسمی. أی: النِّسْبَة التعددیة، کما فِی سائر الهیئات.

فَیَکُونُ الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ المستوعِب لأفراد نفسه (وَفقاً لتعریف الخُراسانیّ) شیئاً آخر؛ لأَنَّ مدلول الهیئة أصبح معنی حرفیّاً، فلا یمکن أن یکون هو العامّ؛ لأَنَّ العامّ عبارة عن مَفْهُومٍ اِسْمِیّ مستوعِب لأفراد نفسه (بناءًا علی تعریف الآخوند)، فلا یمکن أن یکون هو العامّ المستوعِب لأفراد نفسه، وإنَّما الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ المستوعِب لأفراد نفسه سوف یکون هنا عبارة عن مدلول الْمَادَّة (أی: الطَّبِیعِیّ)، وتکون هیئة الجمع دالَّة علی استیعاب هذا الْمَفْهُوم لأفراده. فالدال علی أصل هذا الْمَفْهُوم هو الْمَادَّة، والدّال علی استیعاب هذا الْمَفْهُوم لأفراده هو الهیئة.

فالهیئة دالَّة علی معنیً حرفی، وَاللاَّم حرف یَدُلّ علی معنی حرفی کسائر الحروف. إذن، اجتمع لدینا معنیان حرفیان (معنی اللاَّم ومعنی هیئة الجمع) علی هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ (أی: مدلول الْمَادَّة). وحینئِذٍ نواجه مسألةً وهی أَنَّهُ کیف یَتُمّ تصویر استیعاب هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ (مدلول الْمَادَّة، طَبِیعِیّ العالم) لأفراد نفسه؟! .

ص: 331

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

کُنَّا نتحدث عن کیفیَّة دلالة الْجَمْعِ الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ علی العموم ثبوتاً، وذکرنا أَنَّنَا تارةً نتکلّم بناءًا علی تعریف الخُراسانیّ للعموم، وأخری بناءًا علی التَّعْرِیف المختار. أَمَّا بناءًا علی تعریف الخُراسانیّ المتقدّم فذکرنا فرضین تقدّم أولهما (وهو أن نفترض أن هیئة الجمع تَدُلّ علی معنیً اسمی ویکون هو العامّ المستوعب لأفراد نفسه)، ووصلنا إلی الفرض الثَّانِی: وهو أَنْ تَکُونَ هیئة الجمع دالَّة علی معنی حرفی ونسبی قائم بمدلول مادّة الجمع (وهی طَبِیعِیّ العالم) وبأفراد هذا الْمَدْلُول. وهو عبارة عن تعدّد تلک الأفراد تعدّداً نسبیاً وَرَبْطِیّاً کسائر الهیئات.

وعلیه، فَسَوْفَ یکون الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ المستوعِب لأفراد نفسه عبارة عن مدلول الْمَادَّة (وهو طَبِیعِیّ العالم)، فهذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ المستوعب یکون هو العامّ والمستوعِب، وتکون هیئة الجمع دالَّة علی تعدّد أفراد هذا الْمَفْهُوم تعددا نِسْبِیّاً وَرَبْطِیّاً. وبما أن اللاَّم حرف یَدُلّ علی معنی حرفی کسائر الحروف، فیلزم فِی المقام اجتماع معنیین حرفیین علی هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ الْمَدْلُول لِلْمَادَّة. وحینئِذٍ کیف نتصور استیعاب هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ لأفراد نفسه مع وجود هذین الحرفین «الهیئة» و«اللاَّم». ویمکن تصویره بعِدَّة أنحاء:

النَّحْو الأوّل: أن یقال بأن لکل منهما معنیً حرفیّاً خاصّاً به فِی قِبَال الآخر، وکلا المعنیین الحرفیین طارئ علی هذا المعنی الاِسْمِیّ ویدلّ کل من الهیئة وَاللاَّم علی استیعاب (بنحو المعنی الْحَرْفِیّ) هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ لأفراد نفسه. غَایَة الأَمْرِ أَنَّ الهیئة تَدُلّ علی استیعاب هذا الْمَفْهُوم (= مدلول الْمَادَّة) ثلاثةً فصاعداً من أفراد نفسه مِنْ دُونِ تعیین. فالاستیعاب الْمُسْتَفَاد من الهیئة استیعاب ناقص، أَمَّا اللاَّم فَتَدُلُّ علی استیعابِ هذا الْمَفْهُوم لأفراد نفسه استیعاباً مع تعیین، والتعیین لا یکون ولا یَتُمّ إلاَّ بالمرتبة الَّتی تندرج تحتها کل المراتب، وهذه المرتبة هی المرتبة العلیا والأخیرة من مراتب الجمع. فلو أرید من العلماء تسعین فلیس التسعین مُعَیَّناً، فیتصور فیه عدّة تسعینات، ولکن المائة لا تکون مردّدة، فلا توجد فِی المائة إلاَّ مائة واحدة.

ص: 332

ویرد علیه أَنَّهُ لو کان الأمر کذلک فالاستیعاب الأوّل زائد فِی الصُّورَة الذِّهْنِیَّة عند سَمَاع الجمع المُحَلَّی بِاللاَّم؛ لأَنَّهُ استیعاب ناقص، فنحن لا نفهم إلاَّ استیعاباً واحداً وافتراض أن هذه الکلمة تَدُلّ علی استیعاب کامل وعلی استیعاب ناقص ما لا نتعقّله، بعد أن افترضنا أنّ اللاَّم تَدُلّ علی استیعاب کامل.

النَّحْو الثَّانِی: أن یفترض أن اللاَّم والهیئة بمجموعهما یَدُلاَّنِ علی استیعاب هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ (أی: مدلول الْمَادَّة) لأفراد نفسه (طبعاً استیعاباً بنحو المعنی الْحَرْفِیّ)، فلا یُفترض فِی هذا النَّحْو وجود اِسْتِیعَابَیْنِ (یُستفاد أحدهما من الهیئة والآخر من اللاَّم، کما کُنَّا نفترض فِی الفرض الأوّل) وإنَّما یُفترض فِی هذا النَّحْو أن هناک استیعاباً واحداً بنحو المعنی الْحَرْفِیّ وهذا الاستیعاب مستفاد من مجموع الهیئة وَاللاَّم معاً، فلا یأتی إِشْکَال وجود شیء زائد.

ویرد علیه بأَنَّهُ یَسْتَلْزِم تعدّد الوضع فِی هیئة الجمع، أی: یلزم منه أن نقول: «هیئة الجمع» وضعت مرتین: مرّةً وضعت للمساهمة مع اللاَّم فِی إفادة هذا الاستیعاب الَّذی قلتموه، کما أنَّها وضعت (فِی اللُّغَة الْعَرَبِیَّة) مرّةً أخری هیئة الجمع مِنْ دُونِ اللاَّم (علماء مِنْ دُونِ العلماء) لمعنیً آخر، وهذا یعنی أن مدلول هیئة الجمع فِی موارد دخول اللاَّم علیها (أی: فِی موارد الجمع المُحَلَّی بِاللاَّم) یختلف وَضْعاً عن موارد هیئة الجمع مِنْ دُونِ اللاَّم، یعنی یختلف معنی هیئة الجمع فِی «العلماء» عن معنی هیئة الجمع فی «علماء». بینما معنی «العلماء» فِی الجمع المحلی بِاللاَّم ومعنی «علماء» فِی الجمع غیر المحلی بِاللاَّم واحد، وَالتَّغَایُر فِی معنییهما خلاف المرتکز الْعُرْفِیّ؛ لأَنَّ العرف یفهم أن الهیئة الموجودة فِی «العلماء» هی نفس الهیئة الموجودة فِی «علماء».

النَّحْو الثَّالث: أن یقال إن لکل من الهیئة وَاللاَّم معنیً حرفیّاً یختصّ به فِی قِبَال الآخر، وکلا المعنیین طارئ علی هذا المعنی الاِسْمِیّ (أی: مدلول الْمَادَّة) - کالنحو الأوّل - لکن طرآ علی الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ لا فِی عَرض واحد، بل وردا (أی: هذین المعنیین الحرفیین) علی المعنی الاِسْمِیّ بنحو الطُّولِیَّة؛ کما أن نفس الحرفین (الهیئة وَاللاَّم) طُولِیَّانِ أیضاً بحسب التنسیق الحرفی، باعتبار أن الهیئة طرأت علی الْمَادَّة أوَّلاً وفی طول ذلک وردت اللاَّم علی الهیئة. وذلک بأن نَقُول: إِنَّ الهیئة دَلَّتْ علی معنیً حرفی وهو عبارة ما لا یقل عن ثلاثة من أفراد العالم. وفی طول هذا المعنی دَلَّتْ اللاَّم علی معنیً حرفی هو استیعاب الْمَادَّة الَّتی لا یقل أفرادها عن ثلاثة استیعابها لتمام الأفراد. أی: هناک نسبة استیعابیّة لا تقل عن کونها ثلاثیة بین الْمَادَّة والأفراد دَلَّتْ الهیئة علی هذه النِّسْبَة. وهناک نسبة استیعابیة بین هذه الْمَادَّة بهذا الوصف (الَّذی ذکرناه الَّتی تستوعب استیعاباً لا یقل عن ثلاثة) وبین تمام أفراد الْمَادَّة، وهی نسبة استیعابیّة تَدُلّ علیها اللاَّم. فهذا تصویر ثالث لکیفیة استیعاب مدلول الْمَادَّة من خلال هذین الحرفین.

ص: 333

یبقی أَنَّهُ کیف تَدُلّ اللاَّم الداخلة علی الهیئة علی استیعاب هذه الْمَادَّة الَّتی لا یقل أفرادها عن ثلاثة استیعاباً لتمام الأفراد؟!

الجواب: یمکن أن یکون بأحد الأنحاء المتقدّمة فِی الفرض السَّابِقَ (أَنْ تَکُونَ هیئة الجمع دالَّة علی معنی اسمی رأساً) بالأَمْسِ؛ لأَنَّ الْمَادَّة بعد أن تدخل علیها هیئة الجمع تأخذ معنی الهیئة وتمتصّه، فَیَکُونُ معنی الْمَادَّة معنیً مطعّماً بالجمع، وَالَّذِی عبرنا عنه بالأَمْسِ بعِدَّة تعابیر مثل عنوان «ما لا یقل عن ثلاثة» ثم تدخل اللاَّم فتأتی تلک الوجوه الَّتی تقدمت بالأَمْسِ لکیفیة دلالة اللاَّم علی استیعاب هذا الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ المطعَّم بالجمع لتمام أفراد نفسه.

وبهذا تَمَّ الکلام بناءًا علی تعریف الخُراسانیّ للعموم. وعلی کل حال إذا أمکن تصویر دلالة الْجَمْع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ علی العموم ثبوتاً بناءًا علی تعریف الآخوند أو لم یمکن، فالخَطْب هیّن لأَنَّنا أنکرنا أصل تعریف الآخوند للعموم ولم نرتضه، فَیَکُونُ المبنی غیر تامّ.

نأتی إلی الکلام بناءًا علی التَّعْرِیف الصَّحِیح المختار للعموم حیث عرّفنا العموم خلافاً للآخوند الَّذی عرفه بأَنَّهُ «شمول الْمَفْهُوم لمصادیق نفسه» حیث عرّفناه بأَنَّهُ «استیعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر، إما ذاتاً أو عن طریق دالّ من الدوال»، وذکرنا لکل مثالاً. هذا هو التَّعْرِیف الصَّحِیح للعموم وقد تقدّم شرحه هناک.

فبناءًا علی هذا التَّعْرِیف نأتی إلی الجمع المحلی بِاللاَّم فنکون بحاجة إلی مفهومین اسمیین یکون أحدهما مستوعِباً ویکون الآخر مستوعَباً؛ لأَنَّ العموم عندنا عبارة عن استیعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر. فلا بُدَّ من وجود دالّ لکل من الْمَفْهُوم الاِسْمِیّ المستوعِب والمفهوم الاِسْمِیّ المستوعَب ولا بُدَّ من وجود دالّ ثالث یَدُلّ عَلَی النِّسْبَةِ الاستیعابیة بین هذین المفهومین.

الجواب: یمکن أن نصور وجود هذه الدوال الثَّلاث فِی الجمع المحلی بِاللاَّم. فالدال الأوّل (المستوعِب) هو هیئة الجمع حیث أنَّها تَدُلّ علی معنی اسمی وهذا المعنی الاِسْمِیّ عبارة عن مرتبة من العدد لا تقل عن ثلاثة من أفراد الْمَادَّة، وذلک بناءًا علی ما اخترناه فِی بحث المشتقّ حیث قلنا هناک إن هیئة المشتقّ مع أنَّها هیئة لٰکِنَّهَٰا تَدُلّ علی معنیً اسمی (هیئة «العالم») وهذا المعنی الاِسْمِیّ عبارة عن «ذات لها العلم» (ذات لها المبدأ)، لأَنَّ المشتقّ یمتاز علی غیره (کما شرحنا هناک مفصَّلاً) بحمله علی الذّات (ویقال: «زید عالم»)، والشرط الأساسی للحمل هو الاِتِّحَاد فِی الوجود، فلا بُدَّ من أن یکون مدلول هیئة المشتقّ مُطَعَّمة بالذّات؟ وإلا إذا لم یؤخذ عنصر الذّات فِی مفهوم المشتقّ کیف یتحد العالم مع زید؟!

ص: 334

هذا ما تقدّم مفصَّلاً علی أن کانت النَّتِیجَة هی أن هیئة المشتقّ تَدُلّ علی معنی اسمی؛ لأَنَّهَا تحمل علی الذّات، بخلاف سائر الهیئات حیث لا تُحمل مدالیلُها علی الذّات.

فبناءًا علی هذا المبنی تکون هیئة العلماء دالَّة علی ذوات لا تقلّ عن ثلاثة لها العلم. کما أن هیئة «العالم» تَدُلّ علی «ذات لها العلم» تَدُلّ هیئة «العلماء» علی «ذوات لا تقل عن ثلاثة لها العلم».

فالدال الأوّل الَّذی یَدُلّ علی مفهوم المستوعِب عبارة عن هیئة الجمع.

والدّال الثَّانِی الذی یَدُلّ علی مفهوم المستوعَب عبارة عن مادّة الجمع (العالم).

یبقی الدَّالّ الثَّالث الَّذی یَدُلّ علی استیعاب هذا الْمَفْهُوم الأوّل لأفراد الْمَفْهُوم الثَّانِی، وهذا الدَّالّ الثَّالث هو «اللاَّم» طبعاً استیعاب بنحو المعنی الْحَرْفِیّ. أی: نسبة استیعابیة بین تلک المرتبة الَّتی لا تقل عن ثلاثة من أفراد العالم وبین جمیع أفراد العالم.

بعبارة أخری: اللاَّم تَدُلّ علی تعیین المرتبة فِی المرتبة العلیا من العدد (أی: المائة مثلاً)، فالاستیعاب فِی المقام فِی الجمع المحلی بِاللاَّم بحاجة إلی دوال ثلاثة:

1- دالّ یَدُلّ علی مفهوم المستوعِب.

2- دالّ یَدُلّ علی مفهوم المستوعَب.

3- دالّ یَدُلّ علی الاستیعاب.

وبهذا یختلف الْجَمْع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ عن کلمة «کُلٍّ»، حیث لم یکن الاستیعاب فِی کلمة «کُلٍّ» بحاجة إلی دوال ثلاثة، بل کان بحاجة إلی دَالَّیْنِ هما الأداة (وهی کلمة «کُلٍّ») والآخر مدخول الأداة (وهو «العالم»). فکانت کلمة «کُلٍّ» تَدُلّ علی معنیً اسمی مستوعِب باعتبارها من الأسماء، والمدخول کان هو المستوعَب. فکلمة «کلٍّ» هناک کانت تَدُلّ ذاتاً علی الاستیعاب. وهذا معنی قولنا: «استیعاب مفهوم لأفراد مفهوم آخر، إما ذاتاً أو عن طریق دالّ من الدوال». ذاتاً کما فِی کلمة «کُلٍّ» وبدال آخر مثل هیئة الجمع حیث لا تَدُلّ ذاتاً علی استیعاب کل الأفراد؛ لأَنَّ اللاَّم للتعیین، والمرتبة الوحیدة المعیَّنة هی المرتبة الأخیرة (أی: المائة)، فَیَکُونُ الاستیعاب من خلال دالّ وهو اللاَّم.

ص: 335

هذا تمام الکلام فِی الجهة الأولی من جهات البحث فِی الجمع المحلی بِاللاَّم، وهو البحث عن تصویر دلالة الجمع المحلی بِاللاَّم علی العموم، وقد عرفنا بأَنَّهُ یمکن تصویر دلالة الجمع المحلی بِاللاَّم علی العموم ثبوتاً (بأن تَدُلّ هیئة الجمع علی المفهوم المستوعِب وتدلّ مادّة الجمع علی الْمَفْهُوم المستوعَب وتدلّ اللاَّم علی استیعاب ذاک الأوّل لتمام أفراد هذا الثانی).

أَمَّا إثباتاً فهذا ما سیأتی فِی البحث الثَّانِی إن شاء اللٰه تعالی.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

الجهة الثَّانیة من جهات البحث حول الْجَمْعِ الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ هو البحث الإثباتیّ بعد الفراغ من البحث الثُّبوتیّ (فِی الجهة الأولی) والانتهاء إلی إمکان دلالة الْجَمْع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ علی العموم ثبوتاً، وصوَّرنا هذه الدِّلاَلَة بما یتلخص فِی أن اللاَّم تَدُلّ علی استیعاب مدلول الهیئة (وهو الجمع الَّذی لا یقل عن ثلاثة) بمدلول الْمَادَّة (وهو طَبِیعِیّ العالم)، لتَدُلّ اللاَّم علی استیعاب الأوّل لأفراد الثَّانِی.

فبعد الفراغ عن هذا المطلب الثُّبوتیّ آن الأوان للبحث إثباتیّاً عن إمکانیة إثبات هذه الدِّلاَلَة؟ وما هو الدَّلِیل علی أنَّ الْجَمْعَ الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ یَدُلّ علی العموم بهذا النَّحْو من الدِّلاَلَة الَّتی صورناها ثبوتاً؟ فکیف نخرّج هذه الدِّلاَلَة إثباتاً؟ کیف نثبت دلالة اللاَّم (الداخلة علی الجمع) علی العموم والاستیعاب؟!

هذا هو البحث فِی هذه الجهة الثَّانیة. وهنا یوجد مسلکان:

المسلک الأوّل: یقول إن اللاَّم وضعت فِی اللُّغَة فِی العموم (بهذا النَّحْو الَّذی صورناه فِی الجهة الأولی)، وله أدلّته التی تأتی إن شاء اللٰه.

فلا محالة یفترض هذا المسلک أنَّ هناک وضعین للاَّم فِی اللُّغَة الْعَرَبِیَّة؛ لأَنَّنَا نجد الفرق بین اللاَّم الداخلة علی الجمع مثل «العلماء» وَاللاَّم الداخلة علی المفرد مثل «العالم»؛ فَإِنَّ اللاَّم الأخیرة لا تَدُلّ علی العموم بلا إِشْکَال. فالْجَمْع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ من أدوات العموم ومن ألفاظه وَضْعاً، أَمَّا المفرد الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ فلا یَدُلّ علی العموم وَضْعاً، فإن دلَّ «العالم» علی الاستیعاب إِنَّمَا یَدُلّ علیه لا بالوضع، بل بِمُقَدِّمَاتِ الْحِکْمَةِ.

ص: 336

المسلک الثانی: یقول اللاَّم مطلقاً (سواء الداخلة علی الجمع أو المفرد) وُضِعَتْ لغةً لمعنی واحد وهو عبارة عن تعیّن مدخولها وتمیّزه وتشخّصه، غَایَة الأَمْرِ أَنَّ مدخولها إذا کان مُفْرداً مثل «العالم» فهنا یکفی فِی التعیّن الَّذی تتطلبه اللاَّم وتدلّ علیه اللاَّم تعیُّنُ الجنس، باعتبار أن «العالم» اسم جنس والجنس له نحوُ تعیّن وتمیّز ذهنی فِی الذِّهْن؛ فإن الطَّبِیعَة (أیا کانت کالنار والماء والهواء) لها تمیّز وتشخّص فِی الذِّهْن عن سائر الطَّبَائِع، فإن طبیعة «الماء» فِی الذِّهْن غیر طبیعة «التُّرَاب» وغیر طبیعة «الهواء» وهکذا. فیوجد انطباع مُعَیَّن فی ذهن الإنسان لکل جنس من الأجناس، یشکل هذا الانطباعُ نوعاً من الاستئناس الذهنی لِلْمَفْهُومِ.

فاللام الداخلة علی اسم الجنس تَدُلّ علی تعیّن الجنس، فکلمة «النار» تختلف عن کلمة «نار»، فإن کلمة «نار» تَدُلّ علی ذات الْمَفْهُوم، بینما کلمة «النار» تَدُلّ علی ذاک الْمَفْهُوم الَّذی یأنس به الذِّهْن وله انطباع عنه، أی: حصیلة ذاک الانطباع العامّ.

أَمَّا إذا دخلت اللاَّم علی الجمع، فاللام تکون للتعیّن أیضاً، لکن التعیّن هنا یجب أن یکون عبارة عن تعیّن الجمع بما هو جمع، فَتَدُلُّ علی أن هذا الجمع بما هو جمع متعیّن ومتمیّز. یعنی لا یکفی ذاک التّعیّن الجنسی والتمیز الذهنی لِلطَّبِیعَةِ الَّذی شهدناه فِی المفرد؛ لأَنَّ ذاک تعیّن لِلطَّبِیعَةِ بما هی طبیعة، ولکن اللاَّم هنا لأَنَّهَا دخلت علی الجمع (أی: دخلت علی هیئة «العلماء» ولیس علی الْمَادَّة، وإلا لکان «عالم»)، فلا بُدَّ أن تَدُلّ علی تعیّن الجمع بما هو جمع، لا تعیّن الطَّبِیعَة بما هی طبیعة. ویا تُرَیٰ کیف یحصل التمیز للجمع؟

للإجابة عن هذا السُّؤَال یقول صاحب المسلک الثَّانِی: إنَّ تعیّن الجمع بما هو جمع إِنَّمَا یحصل من خلال تحدید الأفراد الداخلة فِی الجمع وتمیّزها عن الأفراد الخارجة عن الجمع؛ وذلک فیما إذا تَحَدَّدَ وتَشَخَّصَ أَنَّهُ أی فرد داخل فِی الجمع وأی فرد خارج عن الجمع. أَمَّا إذا بقی مُرَدَّداً (بأَنَّهُ لا یعرف بأن هذا الفرد داخل فِی الجمع أو خارج عنه) فالجمع غیر متعین. وهذا التَّشَخُّص لا یحصل إلاَّ من خلال إرادة المرتبة العلیا والأخیرة من الجمع (أی: تلک المرتبة المساوقة للعموم والاستیعاب)؛ لأَنَّهَا هی المرتبة الَّتی تتمیز فیها الأفراد الداخلة فِی الجمع. أَمَّا لو أرید مرتبة أخری من الجمع غیر تلک المرتبة الأخیرة لما تعیّن الجمع.

ص: 337

مثلاً فِی نفس مثال «أَکْرِم العلماء» إذا افترضنا أنّ کل العلماء خارجاً مائة. فاللام وضعت لتعین مدخولها، ومدخولها هو الجمع، فلا بُدَّ أن یکون هذا الجمع مُتعیّناً، ولا بُدَّ لإشباع تعیّن اللاَّم أن نفترض أن الجمع متعین، ویحصل التّعیّن للجمع هنا بأن نقول إن مراد الْمُتِکَلِّم من «العلماء» کلّ المائةِ، أی: المرتبة العلیا والأخیرة، أی: العموم والاستیعاب. فالمرتبة الأخیرة المتعیّنة والمتمیزة عبارة عن المائة. أَمَّا لو أراد الْمُتِکَلِّم من «العلماء» التسعین من المائة، فَحَیْثُ أَنَّ التسعین من المائة جمع ولٰکِنَّهُ جمع غیر متعیّن؛ لأَنَّ هناک تسعینات عدیدة تُتَصَوَّر داخل المائة. فهذا الفرد داخل فِی التسعین أو خارج عن التسعین؟ أی: إذا وضعنا یدنا علی کل فرد من هؤلاء المائة نجده مُرَدَّداً بین کونه داخلاً فِی التسعین أو خارجاً عنه؛ لأَنَّنَا نتصور عدّةَ تسعینات.

إذن، فالجمع غیر متعیّن. فأی مرتبة من مراتب الجمع غیر المرتبة الأخیرة (الَّتی هی العموم والاستیعاب، وهی کل المائة) هی فِی الواقع مرددة وغیر مُعَیَّنَة. فاللام الداخلة علی الجمع تَدُلّ علی تعیّن مدخولها وتعینه لا یکون إلاَّ بالمرتبة العلیا المستوعِبة لجمیع الأفراد.

فهذان مسلکان لإِثْبَاتِ دلالة الْجَمْع الْمُحَلَّیٰ بِاللاَّمِ علی العموم (مسلک الوضع ومسلک التّعیّن). وقبل دراسة هذین المسلکین واستعراض المناقشات الَّتی یمکن توجیهها إلی کل من هذین المسلکین، لا بأس أن نشیر إلی الفوارق بین هذین المسلکین، وهی کما یلی:

الفارق الأوّل: هو أن یقال إن الفارق بین المسلکین هو أَنَّهُ:

بناءًا علی المسلک الأوّل تکون دلالة اللاَّم علی العموم والاستیعاب دلالةً وضعیَّة ثابتة بمقتضی أصالة الحقیقة فِی استعمال الْمُتِکَلِّم للاَّم (باعتبار أن اللاَّم وضعت للعموم والاستیعاب). فإذا استعمل المتکلم اللاَّم تقول أصالة الحقیقة: إن الأصل أن یکون مراد الْمُتِکَلِّم من اللاَّم هو المعنی الحقیقی (أی: العموم) وأقل من العموم مجاز وأصالة الحقیقة تنفی المجاز. فإذا شککنا فِی مورد أَنَّهُ هل أراد الْمُتِکَلِّم من «العلماء» العمومَ والاستیعاب أم أراد جمعاً أقل من العموم؟ ففی الواقع یرجع شکنا هنا إلی أن الْمُتِکَلِّم هل أراد المعنی الحقیقی للاَّم أو أراد المعنی المجازی؟ هذا بناءًا علی المسلک الأوَّل.

ص: 338

أَمَّا بناءًا علی المسلک الثَّانِی، فدلالة اللاَّم علی العموم لیست وضعیَّة بل تَدُلّ وَضْعاً علی تعین مدخولها، وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ تعیَّن مدخولها یحصل بطریقین:

أحدهما: أن یُراد المرتبة العلیا والأخیرة (کما قلنا) المساوقة للعموم.

وثانیهما: أن یُراد جمعاً معهوداً، أی: أن لا یرید بقوله: «أکرم العلماء» کل المائة، بل یرید مجموعة خاصّة من العلماء، والعهد نوع من التّعیّن (ولیست المرتبة الأخیر من الجمع هی المتعیّنة فقط، وإنَّما العهد أیضاً نوع من التّعیّن). فإذا شککنا بأن الْمُتِکَلِّم أراد العموم بقوله: «أکرم العلماء» أو أراد جماعة معلومة وخاصة من العلماء، فکیف ندرأ الاحتمال الثَّانِی؟ هل ندرؤه بأصالة الحقیقة؟! من الواضح أَنَّهُ لا یمکن ردّه بأصالة الحقیقة لأَنَّ اللَّفظ مستعمل فِی معناه الحقیقی (وهو التّعیّن) علی کل حال (أی: سواء أراد العموم أو أراد جماعةً معهودة).

فإذا أردنا أن ننفی العهد نحتاج إلی قرینة إضافیة تَدُلّ عَلَی أَنَّ العموم یَدُلّ علی المرتبة الأخیرة، فإذا کانت هذه القرینة موجودة فبها، وإلا فمع عدم وجود القرینة علی العموم تصبح اللاَّم هنا مجملة لا دلالة لها لا علی العموم ولا علی العهد، وتبقی مُرَدَّداً؛ لأَنَّ کلیهما مُرَدَّد ومعنی کلیهما حقیقی. فبناءًا علی المسلک الثَّانِی لا تنفع أصالةُ الحقیقة شیئاً؛ لأَنَّهَا لا تقتضی غیر أن مدخولها متعیّن، وتعیّن المدخول أعمّ من العموم، فلعلّ مدخولها متعین فِی جماعة معهودة من العلماء.

هذا الفارق الأوّل الَّذی قد یُذکر بین المسلکین. وحاصله أَنَّهُ علی المسلک الأوّل لا نبتلی بالإجمال (عندما نشک بأن المراد هل هو العموم أو غیر العموم؟) بل تنفعها أصالة الحقیقة فِی أن المراد هو المعنی الحقیقی وهو العموم، بینما علی المسلک الثَّانِی نواجه مشکلة الإجمال (إذا لم تکن هناک قرینةٌ ترفع الإشکال وبقینا نحن وَاللاَّم الداخلة علی الجمع)، حیث تقول أصالة الحقیقة: الأصل أن یکون المراد معناها الحقیقی، والمعنی الحقیقی عبارة عن تعیّن المدخول، وتعین المدخول له نحوان وشکلان. أیهما المراد؟ لا یُعرف.

ص: 339

إلاَّ أن سَیِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِید رحمه اللٰه ناقش تَمَامِیَّةَ هذا الفرق؛ وذلک لأَنَّ هذا الفرق إِنَّمَا یَتُمّ لو کان المسلک الأول القائل بالوضع (للعموم) یدعی أنَّ اللاَّم الداخلة علی الجمع وُضعت فِی اللُّغَة للعموم فقط، ولم تُوضع لشیء آخر (کتعیّن مدخولها) لغةً، فحینئذٍ کان یَتُمّ الفرق الَّذی ذُکر؛ لأَنَّهُ بناءًا علی هذا سوف یکون استعمال اللاَّم فِی العهد مجازاً؛ لأَنَّ العهدَ لَیْسَ عموماً (والمفروض أن اللاَّم لَیْسَ للعهد بل للعموم فقط) والمجاز یُنفی بأصالة الحقیقة، وبالتَّالی لا تکون اللاَّم مجملة (أی: لا نبتلی بالإجمال علی المسلک الأوّل بخلاف المسلک الثَّانِی الَّذی نبتلی فیه بالإجمال) فیکون الفرق المذکور بین المسلکین تامّاً، لکن بشرط أن یکون أصحاب المسک الأوّل یدّعون هذا المُدَّعی.

أَمَّا إذا ادعوا أنّ اللاَّم موضوعة فِی اللُّغَة بنحو الاشتراک اللَّفظیّ لمعنیین (مثل لفظ «عین» الَّذی له معانٍ عدیدة) بنحو الاشتراک اللَّفظیّ، أحدهما هو العموم، والمعنی الثَّانِی هو تعیّن المدخول. وحینئِذٍ یکون کل واحد من المعنیین مَوْضُوع له (معنی حقیقی). فلا استعمالُ اللاَّم فِی العهد مجاز ولا استعمال اللاَّم فِی العموم مجاز.

وعلیه ففی موارد احتمال إرادة العهد لا یمکن نفی هذا الاحتمال بأصالة الحقیقة؛ لأَنَّ الاستعمال حقیقی علی کل حال، سَوَاءٌ کَانَ مراد الْمُتِکَلِّم العموم، أم کان مراده جماعة خاصّة من العلماء، فلا بُدَّ من قرینة تَدُلّ علی العموم، فإذا لم تکن هذه القرینة موجودة وبقینا نحن وقوله: «أکرم العلماء» یکون هذا الکلام مُجْمَلاً، لا دلالة له لا علی العموم ولا علی العهد، فنبتنی بالإجمال علی کلا المبنیین حتّی المسلک الأوّل منهما، فلا فرق بین المسلکین، والإجمال موجود فِی کلیهما.

وقد یُقال فِی قِبَال هذا الکلام: بأن المسلکین لا یتفقان فِی الإجمال، بل لا نبتنی بالإجمال علی المسلک الثَّانِی خلافاً للمسلک الأوّل حیث نبتنی فیه بالإجمال (أی: الفارق موجود بین المسلکین، لکن علی عکس الفارق الَّذی ذُکر من أَنَّهُ لا إجمال علی المسلک الأوّل بینما یوجد إجمال علی المسلک الثَّانِی)؛ لأَنَّ اللاَّم علی المسلک الثَّانِی (القائل بأن اللاَّم وضعت فِی اللُّغَة لتعیّن المدخول، وتعین المدخول جامع کلی وضعت له اللاَّم، ف_)تکون اللاَّم مشترکاً معنویاً لا لفظیّاً، وهذا المشترک المعنویّ له مصداقان:

ص: 340

1)- التّعیّن من خلال العموم (أی: إرادة المرتبة العلیا والأخیرة المساوقة للعموم).

2)- التّعیّن العهدیّ (أی: أَنْ یَکُونَ المراد جماعة خاصّة معهودة من العلماء).

فاللام وضعت لمعنی کلی له مصداقان، أی: مشترک معنوی. فلا بُدَّ أن نثبت أن أیا من التَّعَیُّنَیْنِ هو المراد؟ وهذا إِنَّمَا یَتُمّ من خلال دالّ آخر، لأَنَّ اللاَّم لا یَدُلّ علی ذلک، بل یَدُلّ علی ذاک الجامع الکلّی الَّذی وضعت اللاَّمُ له وهو تعیّن المدخول.

وحیث أن التّعیّن العهدیّ بحاجة إلی مؤونة زائدة (أی: لو أراد الْمُتِکَلِّم من قوله: «أکرم العلماء» جماعةً خاصّة معهودة، فهذه الإرادة تحتاج إلی بیان إضافی وزائد)، وهذا بخلاف إرادة العموم (فیما إذا کان یرید بقوله «أکرم العلماء» التّعیّن العمومی والجمعی) فذاک لا یحتاج إلی بیان زائد، فإنَّ نفسَ قوله: «أکرم العلماء» باعتبار أن اللاَّم دخل علی الجمع، والجمع المتعین ذاتاً هو المائة، فلا یحتاج إلی بیان إضافی.

فأحد التَّعَیُّنَیْنِ بحاجة إلی بیان إضافی، والآخر لا یحتاج إلی بیان إضافی، فمقتضی الإِطْلاَق هو الثَّانِی، شأن الإِطْلاَق فِی سائر الموارد حیث نقول بأن القید یحتاج إلی بیان إضافی وحیث أَنَّهُ لا یوجد بیان إضافی فعدم البیان علی القید دلیل علی عدم إرادة القید، فکذلک الحال هنا؛ إذ التّعیّن العهدیّ بحاجة إلی بیان زائد وعدم وجود هذا البیان الزَّائِد إثباتاً یَدُلّ علی أَنَّهُ لَیْسَ التّعیّن العهدیّ مراداً ثبوتاً، فیتعیّن الأمر فِی التّعیّن العمومیّ، فلا نبتلی بالإجمال؛ إذ التّعیّن العمومی یکون هو المراد لِلْمُتِکَلِّمِ (أی: تصبح الدِّلاَلَة علی العموم دلالة إطلاقیة)، وبالتَّالی لا یوجد إجمال.

وهذا بخلاف المسلک الأوّل حیث نبتلی فیه بالإجمال؛ لأَنَّ علی المسلک الأوّل تکون اللاَّم من المشترک اللَّفظیّ لا المعنویّ (کما تقدّم)، أی: صاحب المسلک الأوّل یقول: إن للاَّمِ وضعان لغةً، وضعت للعموم ووضعت لتعیّن المدخول. فلها معنیان حقیقیان وهو مشترک لَفْظِیّ. ومن الواضح أَنَّ فِی موارد استعمال المشترک اللَّفظیّ مِنْ دُونِ قرینةٍ معیِّنةٍ لأحد المعنیین فِی قِبَال الآخر، یصبح اللَّفظ مُجْمَلاً. مثل لفظ «العین» إذا استعملت مِنْ دُونِ قرینة تعیّن أَنَّهُ أی معنی من معانی «العین» أُرِیدَ، وهذا ما یدّعیه علماءُ السنة بأَنَّهُ «من کنت مولاه فهذا عِلِّیّ مولاه»، بأن لفظ «المولی» مشترک لَفْظِیّ له معان عدیدة، من معانیه: «المُحِبّ» و«الناصر» و«الولی»، وحیث لا توجد قرینة علی إرادة الولایة الخاصّة فلا طریق لإِثْبَاتِ العموم حتّی بِمُقَدِّمَاتِ الْحِکْمَةِ.

ص: 341

وللبحث تتمة تأتی إن شاء اللٰه تعالی.

العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول بحث الأصول

العنوان: العامّ /دلالة الدلیل/الدلیل الشرعی اللفظی/الدلیل الشرعی/الأدلة المحرزة/علم الأصول

قلنا یوجد فِی دلالة الجمع المحلی بِاللاَّم علی العموم مسلکان:

المسلک الأوّل: القائل بأن اللاَّم الداخلة علی الجمع موضوعة للعموم.

المسلک الثَّانِی: القائل بأن اللاَّم مطلقاً موضوعة لتعیّن مدخولها، وهذا التّعیّن فِی الجمع ملازم للعموم (المرتبة الأخیرة).

وقلنا قبل دراسة المسلکین لا بأس بذکر الفوارق بینهما وکان أوَّل فارق هو ما ذکرناه بالأَمْسِ، من أَنَّهُ قد یُقال علی المسلک الأوّل لا نبتلی بالإجمال فِی الموارد الَّتی نحتمل إرادة غیر العموم؛ وذلک لأَنَّ بإمکاننا أن ننفی هذا الاحتمال بأصالة الحقیقة، أَمَّا علی المسلک الثَّانِی فَسَوْفَ نبتلی بالإجمال إذا احتملنا إرادة غیر العموم، وذلک لأَنَّ هذا الاحتمال لا یمکن نفیه بأصالة الحقیقة؛ لأَنَّ هذا الأصل لا یقتضی سوی أنَّ المدخول متعیّن وهذا أعمّ من العموم، فقد یکون المراد جماعة معهودة خاصّة، والجماعة المعهودة متعیّنة أیضاً.

وهذا الفرق ناقشناه بالأَمْسِ حیث قلنا: إِنَّه علی کلا المسلکین نبتلی بالإجمال؛ لأَنَّ علی المسلک الثَّانِی کما تقدّم الآنَ، وعلی المسلک الأوّل لأَنَّهُ علی المسلک الأوّل تکون اللاَّم مشترک لَفْظِیّ بین العموم وبین تعیّن المدخول، واستعمالها فِی کُلّ منهما حقیقی، فلا یُنفی احتمال العهد بأصالة الحقیقة.

وقد یقال فِی مقابل هذا الکلام إن المسلکین لا یتفقان بالإجمال، بل نبتلی بالإجمال علی المسلک الأوّل لما قلناه الآنَ من أن اللاَّم مشترک لَفْظِیّ، وأمّا علی المسلک الثَّانِی فلا نبتلی بالإجمال لأَنَّ اللاَّم علی الثَّانِی مشترک معنوی مَوْضُوع لتعیّن مدخولها، والتعین له مصداقان أحدهما «العموم» والآخر «العهد»، و«العهد» بحاجة إلی بیان زائد بخلاف العموم، فیُنفی الزَّائِد بالإطلاق، فلا نبتلی بالإجمال.

ص: 342

إلاَّ أن یقال فِی دفع هذا الکلام بأَنَّهُ حتّی علی المسلک الأوّل لا نبتلی بالإجمال أیضاً؛ لأَنَّ اللاَّم علی هذا المسلک وإن کانت مشترکاً لفظیّاً له معنیان أحدهما العموم والآخر تعیّن المدخول، لکن بالإمکان أن نثبت العموم فِی مقابل العهد، وذلک من خلال القول بأنَّ عدم وجود ما یَدُلّ علی العهد بنفسه قرینة علی إرادة المعنی الآخر وهو العموم؛ فإِنَّهُ إذا کان المشترک اللَّفظیّ مشترکاً بین معنیین فقط، فقد یکون الأمر من هذا القبیل (أی: عدم وجود ما یَدُلّ علی ذاک المعنی بنفسه قرینة علی أن المراد من هذا المعنی الآخر)، فهنا أیضاً یقال: صحیح أنَّ للاَّمِ معنیان علی المسلک الأوّل (= العموم وتعین المدخول)، فإذا احتملنا أن مراد الْمُتِکَلِّم من قوله: «أکرم العلماء» العموم، واحتملنا أن مراده جماعة معهودة خاصّة من العلماء، لا عموم العلماء، فقد یقال هنا بأَنَّهُ باعتبار أن الْمُتِکَلِّم لم یذکر فِی کلامه ما یَدُلّ علی العهد (= ما یَدُلّ علی إرادة جماعة معهودة خاصّة) هذا بنفسه قرینة علی أن المراد هو المعنی الآخر وهو العموم. فالمسلکان اتفقا علی عدم الابتلاء بالإجمال. وعلی أی حال فهذا الفارق الأوّل باطل. هذا بِالنِّسْبَةِ إلی هذا الفارق الأوّل.

الفارق الثَّانِی: الَّذی قد یُذکر بین المسلکین هو أن یُقال: إن الفرق بینهما هو أَنَّهُ بناءًا علی المسلک الأوّل تکون «اللاَّم» هی الَّتی تُحَدِّد لنا نوعیّةَ العموم (من حیث کونه اِسْتِغْرَاقِیّاً أو مجموعیّاً)؛ لأنَّ هذا المسلک یقول بوضع «اللاَّم» ابتداءً للعموم ولاستیعاب الأفراد، فبالإمکان أن نتصور أنَّ «اللاَّم» عندما دخلت علی الجمع باعتبار أنَّها موضوعة للعموم فهی موضوعة للعموم بهذا النَّحْو (أی: بنحو الاستغراق وبنحو إفناء الطَّبِیعَة فِی کُلّ فرد فرد)، فَیَکُونُ العموم اِسْتِغْرَاقِیّاً. هذا المطلب یمکن أن نقوله (العموم الاستغراقیّ) بناءًا علی المسلک الأوّل، فَیَکُونُ العموم عموماً اِسْتِغْرَاقِیّاً لا مجموعیّاً.

ص: 343

أَمَّا بناءًا علی المسلک الثَّانِی القائل بأن اللاَّم لم توضع للعموم ابتداءً وَرَأْساً، وإنَّما وُضعت لتعیّن مدخولها ومدخولها هو الجمع، فَتَدُلُّ «اللاَّم» علی أنَّ المراد من الجمع هو الجمع المتعیَّن، والجمع المتعیَّن مُتَمثِّل فِی المرتبة العلیا والأخیرة من الجمع (أی: إذا کان عدد العلماء مائة فالعدد المتعین هو المائة، لأَنَّ غیره من المراتب النازلة غیر متعین، علی شرح تقدّم بالأَمْسِ). فاللام تُعَیِّنُ مرتبةَ الجمع، وتُعَیِّن أنَّ المقصود من العلماء فِی قوله: «أکرم العلماء» المائةُ، لا أقل.

أَمَّا أنَّ هذه المائة هل أریدت بنحو العموم الْمَجْمُوعِیّ، (أی: یجب إکرام مجموع المائة بحیث لو أکرم 99 منهم لم یکن ممتثلاً) أو أنَّها أُرِیدَتْ بنحو العموم الاستغراقیّ؟ فهذا المطلب لا دلالة للاَّم علیه أبداً، وإنَّما تَدُلّ «اللاَّم» علی أن المدخول وهو الجمع متعیّن، أی: مائة، أَمَّا أن المائة أرید بنحو الاستغراق أو بنحو المجموع فهو خارج عن مفاد اللاَّم.

فلا بُدَّ حینئذٍ من الرجوع (لفهم أن العموم هل هو استغراقیّ أو مجموعیّ) إلی نفس الجمع وملاحظة ما تقتضیه طبیعةُ الجمع بِقَطْعِ النَّظَرِ عن «اللاَّم»، أی: یجب أن نری هل أنَّ «الجمع» وهو «العلماء» ظاهر فِی الاستغراق أو هو ظاهر فِی المجموع أو هو مجمل؟

فإذا بینینا (کما هو الأقرب علی ما یأتی شرحه قَرِیباً) علی أنَّ الجمع ظاهر فِی الْمَجْمُوعِیَّة، إذن فبعد دخول «اللاَّم» الدَّالَّة علی المرتبة العلیا والأخیرة من الجمع المتمثّلة فِی العموم، یبقی ظهور الجمع فِی الْمَجْمُوعِیَّة علی حاله. فَیَکُونُ العموم والاستیعاب مجموعیّاً، کما کان قبل دخول «اللاَّم» (أی: کما أنَّ «علماء» ظاهر فِی الْمَجْمُوعِیَّة یکون «العلماء» ظاهراً فِی الْمَجْمُوعِیَّة أیضاً) ولا فرق من هذه الناحیة.

ص: 344

غایة الأمر قبل دخول «اللاَّم» کان یَتَرَدَّدُ السَّامِع بین مراتب الجمع بأَنَّهُ هل المقصود ثلاثة منهم أو عشرة أو عِشْرِینَ منهم؟! أیّ مرتبة هی المقصودة وهی المُرادة لِلْمُتِکَلِّمِ؟ هذا فِی «علماء». أَمَّا بعد دخول اللاَّم فقامت اللاَّم بتعیین الجمع وإخراج الجمع من التردید وعیّنت أن المراد هو خصوص المرتبة الأخیرة من الجمع، فحاصل هذا الفارق الثَّانِی هو أَنَّهُ بناءًا علی المسلک الأوّل یمکن أن نقول بأن اللاَّم ما دامت قد وضعت للعموم، فهی عندما تدخل علی الجمع تُلبِس الجمع ثوباً جدیداً ویخرجه عن ظهوره السَّابِق قبل دخول «اللاَّم»، ویخرجه عن الْمَجْمُوعِیَّة، أی: وضعت «اللاَّم» للعموم بنحو یقلب دلالة الجمع من الْمَجْمُوعِیَّة إلی الاستغراقیّة. هذا ما یمکن أن نقوله ونتصوّره بناءًا علی المسلک الأوّل.

وأمّا علی المسلک الثَّانِی القائل بأن «اللاَّم» وضعت لتعیّن المدخول، فلا یمکننا أن نقول بأن «اللاَّم» قَلَبَتْ ظهورَ الجمع من الْمَجْمُوعِیَّة إلی الاستغراقیّة؛ لأَنَّهُ بناءًا علی المسلک الثَّانِی تکون مهمّة اللاَّم وواجبها تعیینُ مرتبةِ الجمع؛ لأَنَّ المسلک الثَّانِی یقول بأن «اللاَّم» وضعت للتعیین، فتکون مهمّتها تعیین مدخولها وتشخیصه وتحدیده.

إذن، فَتَدُلُّ «اللاَّم» علی أن المراد من «العلماء» کل المائة لا أقلّ، أَمَّا أن المراد کل المائة بنحو المجموع أو بنحو الاستغراق فهذا لَیْسَ من واجبات «اللاَّم»، ویبقی نحن أمامنا الظُّهُور السَّابِق للجمع، وهو الظُّهُور فِی الْمَجْمُوعِیَّة، فَیَکُونُ العموم مجموعیّاً بناءًا علی المسلک الثَّانِی.

ولمزید من الإیضاح أقول: إنَّ طبیعة الجمع بِقَطْعِ النَّظَرِ عن «اللاَّم» وقبل دخول «اللاَّم» تقتضی الْمَجْمُوعِیَّة لا الاستغراقیّة؛ لأَنَّ حال الجمع حال العدد، أی: الجمع یَدُلّ علی معنیً اسمی واحد، کما أنَّ العدد یَدُلّ علی معنی اسمی واحد، فهو کقوله: «أکرم ثلاثةً» أو «أکرم تسعةً» الظاهر فِی الْمَجْمُوعِیَّة (أی: حکم واحد منصبّ علی مَوْضُوع واحد وهو «مجموع الثَّلاثة»، بحیث إذا أکرم ثمانیة من أصل تسعةٍ لم یکن ممتثلاً أصلاً، لا أَنَّهُ امتثل ثمانیة ولم یمتثل التسعة. فحیثیّة الاجتماع فِی الثَّلاثة أو التسعة لها ما بإزائها، أی: یوجد لها مَحکیّ خارجاً بمعزل عن اعتبار المستعمِل. أی: معنی لفظ ثلاثة أو أی عدد آخر معنی وحدانی.

ص: 345

سواء قلنا إن هذا المعنی الوحدانی حقیقةٌ من الحقائق، أمر حقیقی مقولیّ من المقولات الواقعیّة، کما یقوله الفلاسفة حیث یرون أنَّ العدد من مقولة الکمّ الواحد المنفصل (أی: المقولات العشر أمور حقیقیَّة ولیست اعتباریة، أحدها الجوهر وتسعة منها الأعراض القائمة بالجوهر، فالأعراض أمور حقیقیَّة أیضاً، غایة الأمر أنَّها قائمة بالجوهر ولیس لها وجود مستقلّ عن الجوهر)، سواء قلنا هکذا أو لم نقبل کلامهم وقلنا بأنَّ العدد وإن کان أمراً وحدانیّاً ولٰکِنَّهُ لَیْسَ أمراً حقیقیّاً مقولیّاً وإنَّما هو أمر اعتباریّ حتّی بناءًا علی هذا أیضاً لا إِشْکَال فِی أنَّ هذه الوحدانیّة الاعتباریّة أمر یطابق المرتکز الْعُرْفِیّ والعقلائی، بمعنی أن هذا الأمر الاعتباری یُعتبر فِی مرتکز العقلاء شیئاً ثابتاً فِی الخارج، علی حدّ ثبوت الأُمُور الحقیقیَّة. أی: یری العقلاء أنَّ له واقعاً موضوعیاً، وأنَّ العدد یقع مَوْضُوعاً للآثار والأحکام، کما أنَّ الأُمُور الواقعیة تقع مَوْضُوعاً للأحکام والآثار.

هذا حال العدد، سواء قبلنا الرَّأْی الْفَلْسَفِیّ أو لم نقبله، فعلی أی حال فإن العدد له معنی وحدانی. ثلاثة یعنی: مجموع هذه الثَّلاثة، وأربعة یعنی مجموع هذه الأربعة.

أرید أن أقول: کَمَا أَنَّ هَذَا حال العدد فکذلک الجمع؛ فإن مرجع الجمع إلی العدد أیضاً، غایة الأمر لا بشرط من حیث الزیادة. کلمة «ثلاثة» أو «تسعة» بشرط لا عن الزیادة، ولکن کلمة «علماء» یعنی ثلاثة لا بشرط عن الزیادة. فالجمع کالعدد یَدُلّ علی معنی وحدانی ثابت فِی الخارج ولو لم یکن ثابتاً فِی الواقع الموضوعی، وکان ثابتاً علی أقل تقدیر فِی المرتکز الْعُرْفِیّ (إن لم نقل أنَّ له واقعاً مَوْضُوعِیّاً حقیقیّاً فلا أقل من أَنَّ له واقع موضوعی فِی المرتکز الْعُرْفِیّ والعقلائیّ) ویقع مَوْضُوعاً للأحکام والآثار، أی: لَیْسَت من الأُمُور الاعتباریة الذِّهْنِیَّة البحتة الَّتی هی من شؤون الاستعمال، فلیس مثل «کل عالم» لما تقدّم من أَنَّهُ وإن کان یوجد توحّد وترکّب فِی مثل «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» لٰکِنَّهُ لَیْسَ إلاَّ اعتباراً مِن قِبَلِ الْمُتِکَلِّم والمستعمِل لکی یتسنی له استعمال هذا اللَّفظ فِی معانٍ مُتِکَثِّرَة، وإلا فلیست صفةُ العلم (الَّتی یشترک فیها أفراد العالم) قائمة بمجموعهم فِی الخارج، بل هی قائمة بجمیعهم (هذا عالمٌ سَوَاءٌ کَانَ الآخر عَالِماً أو لا). وقد فرَّقنا بین قوله: «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» وبین قوله: «أکرم کل الجیش» أو «أکرم کل العسر»، حیث قلنا إن للجیش توحّد حقیقی وترکّب واقعی فِی الخارج، فلیس الجندی الواحد جیشاً، ولیس الجندیان جیشاً، وهذا بخلاف العالم، فإن عَالِماً عالمٌ، والعالمین عالمان بمعزل عن أن یکون الآخر عَالِماً أو لم یکن. فقلنا هناک: إنَّ التّوحّد فِی قوله «أَکْرِمْ کُلَّ عَالِمٍ» مجرّد أمر اعتباری لا أکثر.

ص: 346

أَمَّا فِی ما نحن فیه فلیس هکذا، والجمع مثل العدد له توحّد وترکّب (أی: معنی وحدانی، له واضع موضوعی علی الأقل فِی ارتکاز العرف والعقلاء) والشَّاهد علی ذلک فهمُ الفقهاء فِی الأبواب الفقهیّة المختلفة، حیث أنهم یفهمون وحدةَ الحکم المجعول علی العدد.

مثلاً إذا ورد فِی دلیل أَنَّهُ یستحب الذکر الفلانی مائة مرّةً، أو الدعاء الفلانی مائة مرّةً أو عشرة مرات، أو التسبیح الفلانی ألف مرّةً، أو تُستحب الصَّلاة عشر رکعات، فإذا ذُکر حکم مجعول علی العدد یفهم الفقهاء أنَّ هناک حکماً واحداً مجعولاً علی المجموع (أی: مجموع العدد، مجموع المائة)، بنحو العموم الْمَجْمُوعِیّ، لا بنحو العموم الاستغراقیّ (بحیث إذا صَلَّیٰ رکعتین یُثاب بمقدار رکعتین، وإذا صَلَّیٰ أربع رکعات یُثاب بمقدار أربع رکعات، فلا توجد هناک استحبابات عدیدة لکل رکعة رکعةٍ من الرکعات العشر، بل هناک استحباب واحد لمجموع الرکعات العشر).

ففهم الفقهاء هو أنهم یفهمون من الحکم المجعول علی العدد الْمَجْمُوعِیَّة والوحدة، أی: یفهمون حکماً واحداً منصبّاً علی المجموع.

وعلیه، فبناءًا علی المسلک الثَّانِی لا یقتضی دخول «اللاَّم» علی الجمع الظَّاهِر فِی الْمَجْمُوعِیَّة سوی تعیین مرتبة الجمع فِی المرتبة الأخیرة (فِی المائة)، أَمَّا الظُّهُور فِی الْمَجْمُوعِیَّة فباق علی حاله؛ لأَنَّ ما قلناه فِی العدد نقوله فِی الجمع أیضاً. فقولنا «علماء» فِی قوّة قولنا «ثلاثة» إلاَّ أن «علماء» لا بشرط، و«ثلاثة» بشرط لا عن الزیادة. فکلام الْمُتِکَلِّم (وهو الجمع) یَدُلّ علی الْمَجْمُوعِیَّة، فمقتضی الأصل أَنَّهُ مراده الْجِدِّیّ. هذا فارق آخر قد یُذکر بین المسلکین.

إلاَّ أن الصَّحِیح أن هذا الفارق أیضاً غیر تامّ؛ وذلک لأَنَّ العموم فِی «العلماء» مثلاً یمکن أن یکون اِسْتِغْرَاقِیّاً علی کلا المسلکین، مِنْ دُونِ فارق بینهما من هذه الناحیة. وذلک أَمَّا علی المسلک الأوّل فواضح فیمکن أن یکون العموم اِسْتِغْرَاقِیّاً بالشرح المتقدّم.

ص: 347

وأمّا علی المسلک الثَّانِی فأیضاً یمکن أن یکون العموم اِسْتِغْرَاقِیّاً، وذلک لأَنَّ المسلک الثَّانِی وإن کان یعترف بأنَّ الجمع والعدد له اعتبار ثابت فِی نفسه، إلاَّ أنَّ «اللاَّم» الداخلة علی الجمع ما دامت قد دَلَّتْ علی التّعیّن وهذا التّعیّن تجسّدَ وتمثّلَ فِی المرتبة الأخیرة والعلیا من مراتب الجمع (أی: مرتبة العموم والاستیعاب لکل المائة، باعتبار أن هذه المائة هی المتعیّنة فِی الصدق الخارجیّ، ولا توجد مائة أخری)، فهذا معناه أنَّ حَیْثِیّة الوحدة المأخوذة فِی الجمع لیست عبارة عن حَیْثِیّة العدد، وإنَّما هی حَیْثِیّة اعتباریة محضة، فقولنا: «أکرم عشرة» یختلف عن قولنا «أکرم العلماء»؛ لأَنَّ الأوّل ظاهر فِی الْمَجْمُوعِیَّة؛ لأَنَّ «عشرة» عدد وحیثیة العدد یوجد ما بإزائها فِی الخارج، أَمَّا قولنا «أکرم العلماء» فهنا یکون النَّظَر إلی خُصُوصِیَّة الاستیعاب والتکثّر، والخصوصیة العددیة ذهبت مهب الریاح، وجاءت «اللاَّم» بخُصُوصِیَّة التَّکَثُّر والاستیعاب عندما دخلت علی الجمع، ولذلک نری أنَّ صدق العلماء یزداد وینقص، بخلاف صدق «عشرة» حیث لا یزداد مصداقه ولا ینقص. أَمَّا «العلماء» قد یکون مصداقه مائة وذلک فیما إذا کان العلماء مائة، وَقَدْ یَکُونُ مصداقه خمسین وذلک فیما إذا کان عدد العلماء خارجاً خمسین وهکذا. أی: التّعیّن الَّذی أفادته «اللاَّم» وإن کان یقضی ویستلزم إفادة المرتبة العلیا والأخیرة، إلاَّ أن هذه المرحلة غیر متعیّنة من حیث الکمّ، وتختلف باختلاف الموارد (أی: إذا کان العلماء خارجاً مائة فالمرتبة العلیا عبارة عن المائة، وإذا کان العلماء خارجاً تسعون فالمرتبة العلیا عبارة عن التسعین). فلا محالة یُری بهذا الاعتبار کأنه ألغِیَت خُصُوصِیَّةُ الکم والعدد، ولوحظت خُصُوصِیَّة الاستیعاب والکثرة.

إذن فخصوصیة الاستیعاب وعموم جمیع الأفراد لم تُؤخذ فیها مقولة الکمّ المنفصل، وإنَّما الملحوظُ عبارة عن واقع الأفراد الخارجیة المتعیّنة بشرط أَنْ لاَّ یَکُونَ أقل من ثلاثة. فبالإمکان أن یکون العموم عموماً اِسْتِغْرَاقِیّاً، حتّی بناءًا علی المسلک الثَّانِی، کما هو علی المسلک الأوّل.

ص: 348

فلم یظهر فرق بین المسلکین من هذه الناحیة أیضاً. هذا بِالنِّسْبَةِ إلی الفارق الثَّانِی.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.