ص:2

تاریخ العقیدة الشیعیّة و فِرقها

تألیف: شیخ الإسلام الزنجانیّ

( 1302 - 1373 ه.ق. )

تقدیم و تحقیق و تعلیق

غلام علی غلام علیپور (الیعقوبیّ)

ص:4

حیاته العلمیّة··· 52

ملامح من سیرته··· 53

إجازاته··· 54

مؤلّفاته··· 56

الکتاب الحاضر··· 57

منهجنا فی تحقیق الکتاب··· 59

]مقدّمة الکتاب[ ··· 61

الباب الأوّل : الشیعة و فرقها··· 65

الفصل الأوّل: ]الشیعة و الإمامیّة فی اللّغة و الاصطلاح[ ··· 66

الفصل الثانی: اختلاف فرق الشیعة : علله و أسبابه··· 69

]حذر الأئمّة من النصّ علی اسم الإمام[ ··· 73

]منشأ ظهور بعض فرق الشیعة و انقراضها[ ··· 75

]إلماح إلی دعوات شیعیّة غیر إمامیّة[ ··· 79

أمّا الإسماعیلیّة··· 79

]و أمّا الکیسانیّة[ ··· 80

]إلماح إلی دعوة الزیدیّة[ ··· 84

]دعوة الفطحیّة و الواقفیّة بالإجمال[ ··· 85

الفصل الثالث: ذکر فرق الشیعة تفصیلاً··· 86

]1[ الکیسانیّة··· 86

]2[ الزیدیّة ]فِرَقها و أئمّتها[ ··· 87

الإسماعیلیّة ]فِرَقها و منشأها[ ··· 91

الفطحیّة ]ظهورها و انقراضها[ ··· 92

الواقفیّة أو الواقفة ]و السبب الأصلیّ لنشوئها و انقراضها[ ··· 93

الباب الثانی: الغلاة··· 97

ص:6

الفصل الأوّل: منشأ فرق الغلاة··· 98

]أصناف الغلاة و أسماؤهم[ ··· 103

]مغیرة بن سعید[ ··· 103

]أبو منصور العجلیّ[ ··· 105

]ابن کرب الضریر[ ··· 106

]أبو الخطّاب الأسدیّ[ ··· 106

]محمّد بن بشیر[ ··· 108

]أبو محمّد الشریعیّ[ ··· 109

]محمّد بن نصیر النمیریّ[ ··· 110

]الشلمغانیّ[ ··· 110

الفصل الثانی: مقالات الغلاة··· 113

]القول بالتناسخ و الحلول[ ··· 114

]القول بالأشباح و الأظلّة[ ··· 116

]إنّ الدین طاعة رجل[ ··· 117

الفصل الثالث: تبرُّؤ الأئمّة : من مقالات الغالیة··· 119

]دعوی النیابة و البابیّة من قِبَل الغلاة[ ··· 120

الفصل الرابع: الغلاة و رواة الشیعة··· 122

]اختلاط الغلاة برواة الحدیث[ ··· 124

الباب الثالث : عقائد الشیعة الإمامیّة··· 127

الفصل الأوّل: خلاصة إجمالیّة لعقائد الإمامیّة فی أصول الدین··· 129

]توحید اللّه تعالی[ ··· 129

]صفاته تعالی[ ··· 130

]النبوّة[ ··· 131

]الإمامة[ ··· 131

ص:7

]المعاد[ ··· 132

الفصل الثانی: جملة معتقدات للشیعة یخالفهم فیها أهل السنّة··· 133

مسألة الإمامة··· 133

]قصّة السقیفة[ ··· 134

]نظرات حول الإمامة و فروعها[ ··· 135

]الإمامة عند الشیعة[ ··· 136

النصّ الجلیّ ]و الخفیّ[ ··· 137

]أسباب الخلاف فی مسألة الإمامة[ ··· 140

]مسألة[ الغَیبة··· 144

]تواتر الروایات حول المهدیّ 7 و غیبته[ ··· 146

الفصل الثالث: جملة أمور نُسبت إلی الشیعة الإمامیّة··· 150

رمی قدماء الإمامیّة بالقول بالجبر و التشبیه··· 150

]نسبة الضلالات إلی الشیعة[ ··· 151

]مسألة[ البداء··· 153

]موقف العامّة عند مسألة البداء[ ··· 155

]مسألة[ تحریف القرآن و النقصان فیه··· 156

]نصّ مشایخ الإمامیّة علی عدم تحریف القرآن[ ··· 157

]مسألة[ الرجعة··· 158

]الرجعة عند الغلاة و تبرّؤ الشیعة عنها[ ··· 159

الفصل الرابع: تفصیل مقالات نُسبت إلی بعض متکلّمی الشیعة··· 160

هشام بن الحکم و ما رُمی به من القول بالتشبیه و التجسیم و غیره··· 160

]المقالات المنسوبة إلی هشام و الجواب عنها[ ··· 161

محمّد بن علیّ بن النعمان أبو جعفر الطاقیّ··· 165

زرارة بن أعین الشیبانیّ··· 166

ص:8

یونس بن عبد الرحمن القمّیّ مولی آل یقطین··· 167

أبو عیسی محمّد بن هارون الورّاق··· 167

]أوّل المصنّفات فی الفِرَق و المقالات[ ··· 169

]منشأ آخر للأقاویل المنسوبة إلی شیوخ الشیعة[ ··· 172

الباب الرابع : الشیعة و فروع الدین··· 175

]مقدّمة[ ··· 177

الفصل الأوّل: الأئمّة : و بیان الأحکام و الواقعیّات··· 178

]دور أمیر المؤمنین 7 فی بیان الأحکام[ ··· 179

]المِحَن التی منعت الإمام عن تغییر البدع[ ··· 180

]دور الصادقَین 8 فی بیان الأحکام[ ··· 184

]شدّة الأمر علی الشیعة بعد الصادقَین 8[ ··· 188

]التقیّة و تأثیرها فی اختلاف الأخبار[ ··· 190

]حصیلة البحث[ ··· 191

]علل اختلاف الحدیث[ ··· 196

الفصل الثانی: مدارک الأحکام الشرعیّة عند الشیعة··· 199

الکتاب الکریم··· 199

]آیات الأحکام[ ··· 201

السنّة··· 201

]الخبر المتواتر و الواحد[ ··· 202

]أسباب الوضع و التدلیس و ضرورة نقد الحدیث[ ··· 204

الإجماع··· 208

]حجّیّة الإجماع عند الشیعة[ ··· 209

دلیل العقل··· 211

الفصل الثالث: أدلّة غیر معتبرة عند الشیعة··· 214

ص:9

]العمل بالرأی عند الصحابة[ ··· 218

منها القیاس··· 221

]القیاس عند أئمّة الشیعة[ ··· 222

]القیاس عند أئمّة أهل السنّة[ ··· 224

الاستحسان··· 226

المصالح المرسلة··· 227

مذهب الصحابیّ··· 228

الفصل الرابع: طریقة الإمامیّة فی العمل بالأحکام الشرعیّة··· 230

]الحاجة إلی علوم الحدیث و علم أصول الفقه[ ··· 232

]الاجتهاد المطلق و المتجزّئ[ ··· 234

فهارس ··· 235

فهرس الآیات··· 237

فهرس الأحادیث و الأقوال··· 239

المصطلحات··· 242

فهرس الفرق و المذاهب و الأقوام··· 253

الکتب المذکورة فی الکتاب··· 259

فهرس الأعلام··· 263

مصادر التحقیق··· 279

ص:10

رَءُوفٌ رَحیمٌ»(1)، فنراه صلوات اللّه علیه أ نّه أمر المسلمین بالتمسّک بالثقلین، و قال: «إنّی تارک

فیکم الثقلین کتاب اللّه و عترتی، ما إن تمسّکتم بهما لن تضلّوا بعدی أبداً»(2). و قال فی حجّة الوداع، تحذیراً من الشقاق و النفاق : «لا ترجعوا بعدی کفّاراً یضرب بعضکم رقاب

بعض»(3).

نعم کان النبیّ صلی الله علیه و آله حریصاً علی المؤمنین و وحدتهم، و مشفقاً من تفرّقهم، و لأجل هذا کان أوّل ما فعل بعد هجرته إلی المدینة بناء المسجد الذی یجمعهم، ثمّ المؤاخاة بین

المهاجرین و الأنصار(4).

و لکن حدث ما کان یخاف منه و هو افتراق الأمّة إلی فرق متعدّدة تکاد تتطابق مع إخباره : «افترقت الیهود علی إحدی و سبعین فرقة فواحدة فی الجنّة و سبعون فی النار،

و افترقت النصاری علی اثنتین و سبعین فرقة فإحدی و سبعون فی النار و واحدة فی الجنّة. و الذی نفس محمّد بیده لتفترق أمّتی علی ثلاث و سبعین فرقة ؛ واحدة فی الجنّة

و اثنتان و سبعون فی النار»(5).

و یستحیل لو بقی المسلمون علی هذا الحال و هذه التفرّقات أن تقوم لهم قائمة أو تجتمع لهم کلمة، و هیهات أن یسعدوا ما لم یتّحدوا، و هیهات أن یتّحدوا ما لم

ص:12

یتساعدوا. فلنعم ما قیل : الاستئثار یوجب الحسد، و الحسد یوجب البغضاء، و البغضاء

توجب الاختلاف، و الاختلاف یوجب الفرقة، و الفرقة توجب الضعف، و الضعف یوجب الذلّ، و الذلّ یوجب زوال الدولة و زوال النعمة، و هما هلاک الأمّة(1).

و قد کُتبت حول افتراق الأمّة الإسلامیّة تآلیف و تصانیف، و لکنّها کما حکی الأشعریّ : و رأیت الناس فی حکایة ما یحکون من ذکر المقالات و یصنّفون فی النحل و الدیانات من بین مقصّرٍ فیما یحکیه، و غالطٍ فیما یذکره من قول مخالفیه، و من بین

متعمّدٍ للکذب فی الحکایة إرادةَ التشنیع علی مَن یخالفه، و من بین تارکٍ للتقصّی فی

روایته لما یرویه من اختلاف المختلفین، و من بین مَن یضیف إلی قول مخالفیه ما یظنّ أنّ

الحجّة تلزمهم به. و لیس هذا سبیل الربّانیّین، و لا سبیل الفطناء الممیّزین...(2)

إنّ هذا الکلام و إن کان یکشف عن حال المؤلَّفات و المؤلِّفین القدامی، لکنّه یصدق فی کلّ عصر ؛ ما یأتی منه و ما غبر. و لأجل هذا قام أحد علماء الشیعة ، مؤلّف الکتاب

الحاضر، بتعریف الشیعة و فرقها و عقائدها و أئمّتها و أعلامها، و الدفاع عمّا نُسب بالباطل

إلیها.

و کان الکتاب مخطوطاً بخطّ المؤلّف، یتطلّب التحقیق و التعلیق بما یلیق بشأنه. و لمّا التزمت من جانب الأساتذة فی «لجنة تقییم الدراسات الحوزویّة فی خراسان» بتنظیم رسالة تحقیقیّة لمرحلة شهادة الدکتوراه و وافقوا بإنجاز العمل فی هذا المجال

علی تحقیق ذاک الکتاب القیّم، شرعت بعون اللّه سبحانه قبل سنوات، و أتممته فی خاتمة

هذه السنة (1424 ه )، و قبل الشروع فی الکتاب رأیت ضرورة تقدیم هذه المقدّمة فی فصول ؛ للتعرّف علی وضع العرب و المجتمع الإسلامیّ فی عصر الرسالة، ثمّ موقف المسلمین و أعدائهم تجاه الکتاب و السنّة، ثمّ حدوث الفرق الأساسیّة و نشوء مسائل علم الکلام، ثمّ البحث عن الشیعة و تاریخها و حرکتها العلمیّة، مع الإشارة إلی موقف

مؤلّفی الفرق حولَ الشیعة الإمامیّة. و نختم المقدّمة بتعریف الکتاب و مؤلّفه الفقید مع

ص:13

إلماح إلی منهجیّتنا فی التحقیق، فنضعها فی فصول سبعة :

بعض بلاد الیمن(1).

و المتتبّع لحالة العرب یقف علی حیاة الأوهام و الخرافات عندهم فی الجاهلیّة، و قد اشتهر بینهم کهّان کثیرون، یرون أنّ لهم صلة بالجنّ یأخذون عنهم.

و لکن یظهر أنّ العرب قبل الإسلام کانوا فی آخر هذه المرحلة، فإنّا نری کثیرین آنئذٍ قد دخلوا فی طور الشکّ ؛ الشکّ فی ما علیه قومهم من خرافات و أوهام، و کان بینهم أناس مستنیرون فطنوا إلی سوء حالتهم الدینیّة، و حاولوا الارتقاء من الوثنیّة إلی اعتقادات أرقی منها، و ذلک لاختلاطهم بالیهود و النصاری، و یقال لأصحاب هذه النزعة :

الحُنَفاء(2).

و منهم فئة قلیلة تؤمن باللّه و الیوم الآخر، و تنتظر النبوّة، و کانوا أصحاب ورع و تحرّج عن الآثام ؛ منهم عبد المطّلب، و ابنه أبو طالب، و قسّ بن ساعدة حکیم العرب(3).

ثمّ جاء الإسلام فجمع العرب تحت لوائه، یدعو إلی إله واحد، و قضی علی ما کان لهم من خرافات و عبادة أصنام، فاعتنقوا الإسلام فی حماسة و قوّة، فکان المسلمون أمّة

واحدة تؤمن برسالتها و لا تختلف فی شیء من شؤونها ؛ لأنّ فیهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله و هو مبلّغ الوحی و معلّم القرآن، و العالم بتأویله و تنزیله، فهو المرجع الوحید فیهم،

و مبیّن الشریعة لهم.

و لم یعرف المسلمون الاختلاف العمیق بینهم فی الأحکام و العقیدة، کما لم تکن هناک آراء و اجتهادات وراء قول النبیّ صلی الله علیه و آلهو سیرته، فعاشوا فی عهده فی ظلّ وحدة فکریّة و تشریعیّة. و کان القرآن یرشدهم و یوجّههم إلی ذلک کلّما طرأ بینهم اختلاف فی

الرأی، أو حیرة و بلبلة فی الحیاة.

ص:15

یقول أحد المستشرقین : و قد جَمَعَت فکرةُ الدین المشترک تحت زعامة واحدة

شتّی القبائل فی نظام سیاسیّ واحد ؛ ذلک النظام الذی سَرَت مزایاه فی سرعة تبعث علی الإعجاب. نعم، هذه الفکرة الواحدة و إن حقّقت هذه النتیجة إلاّ أ نّها لم تَقضِ علی النظام القبلیّ فیهم نهائیّاً ؛ إذ کان ذلک مستحیلاً، و لکن کان شیئاً ثانویّاً بالنسبة إلی الشعور بالوحدة الدینیّة التی مهّدت لهم السبیل إلی هذا الائتلاف(1).

غلبة المسلمین و علوّ کلمتهم ما لا یمکنهم معه المنازعة من طریق القهر و السطوة، و لا

من طریق الجدل و المناظرة.

قال ابن عساکر : کان عدّة من أحبار الیهود و رهبان النصاری و مَوابِذة المجوس أظهروا الإسلام فی عهد الراشدین، ثمّ أخذوا بعده فی بثّ ما عندهم من الأساطیر بین مَن

لم یتهذّب بالعلم مِن أعراب الرواة و بسطاء موالیهم...(1).

و قال الشهرستانیّ عن المُشبِّهة: و زادوا فی الأخبار أکاذیب وضعوها و نسبوها إلی النبیّ صلی الله علیه و آله، و أکثرها مقتبسة من الیهود(2).

و ممّا لا یُرتاب فی صحّته ما حکاه المؤرّخون و العلماء من أنّ ابن أبی العوجاء لمّا أیقن أ نّه مقتول قال : أما واللّه لئن قتلتمونی لقد وضعتُ أربعة آلاف حدیث ؛ أحرّم فیها الحلال و أحلّل بها الحرام، و لقد فطّرتکم فی یوم صومکم، و صوّمتکم فی یوم فطرکم(3).

کتاب اللّه حبلٌ ممدود مِن السماء إلی الأرض و عترتی أهل بیتی، و إنّ اللطیف الخبیر

أخبرنی أ نّهما لن یفترقا حتّی یَرِدا علَیّ الحوض»(1).

و لمّا هاجر الرسول صلی الله علیه و آله إلی المدینة حثّ المسلمین علی تعلّم الکتابة فتبادروا إلیها، کما حثّهم علی کتابة القرآن و حفظه، فتسابقوا إلیهما. فلمّا أن توفّاه اللّه کان فی المدینة عشرات الصحابة ممّن حفظ جمیع القرآن، و جماعة منهم کتبوا جمیع القرآن، إلاّ أ نّه لم

یکن کتاباً مدوّناً کما هو علیه الیوم، فبادر الإمام علیّ علیه السلام إلی تدوین القرآن فی کتاب واحد، و لمّا طلبوه للبیعة، قال:«آلَیتُ ألاّ آخذ علیّ ردائی إلاّ لصلاة جمعة حتّی أجمع

القرآن»(2).

و أمر أبو بکر عدداً من الصحابة بتدوینه ککتاب، ثمّ أودعه أمّ المؤمنین حفصة، حتّی إذ جاء عهد عثمان أمر باستنساخ عدّة نسخ علی النسخة المحفوظة لدی حفصة(3)، و وزّعها علی بلاد المسلمین، و کُتِبت نسخ أخری علی تلک النسخ، و تداولها المسلمون جیلاً بعد جیل إلی یومنا الحاضر، و أجمع المسلمون علی عدم وجود زیادة أو نقصان فی هذا المتداول(4).

و یشهد لقدر جهود المسلمین فی حفظ القرآن من محاولات الزیادة و النقصان، موقف الصحابیّ أُبیّ بن کعب من عثمان حینما أراد أن یکتب المصاحف، فإنّهم أرادوا أن

یُلغوا الواو التی فی «براءة» : «وَ الَّذینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ...»(5)فقال لهم أُبیّ رضی الله عنه : لَتُلحِقُنّها أو لأضَعَنّ سیفی علی عاتقی(6)، فألحقوها.

أمّا موقف المسلمین من السنّة النبویّة فالحقّ أنّ القرآن غیر متکفّل ببیان تفاصیل

ص:18

الأحکام فی شتّی شؤون الحیاة، و إنّما السنّة هی القائمة ببیان تلک التفاصیل و الخصوصیّات. و قد کان النبیّ صلی الله علیه و آلهبنفسه یقوم ببیانها و أداء ما أمره اللّه تعالی، فی مثل

هذه الآیة : «وَ أَنْزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ»(1). هذا مع وجود تصریحات فی کلام النبیّ صلی الله علیه و آلهبلزوم کتابة ما یُسمَع منه، کما فی روایة عبد اللّه بن عمرو بن العاص، و عمرو بن شبیب، و غیرهما(2).

و إذا کان الأمر کما ذکر، فکیف ینهی أبو بکر عن کتابة الحدیث و نقله ؟ و کیف یحرق خمسمائة حدیث بروایة عائشة ؟ و کیف یتأسّی به عمر و یحبس الصحابة کی لا یَروون الحدیث للناس ؟!(3)

و کیف یعلن عثمان علی المنبر - تبعاً للشیخین - أنّه لا یحلّ لأحد یروی حدیثاً لم یسمع به فی عهد أبی بکر و لا فی عهد عمر؟!(4).

و کیف حَرَموا المسلمین من تلقّی الحدیث و سنّة رسول اللّه صلی الله علیه و آلهأکثر من مائة سنة، و بقی هذا الحرمان إلی أن ولی الأمر عمر بن عبد العزیز، فرفع المنع؟!(5).

حکی عن ابن القیّم أ نّه قال : و نحن نجزم بأ نّنا نَسِینا و أضَعنا من حدیث نبیّنا صلی الله علیه و آله حظّاً عظیماً، لعدم کتابة علماء الصحابة کلّ ما سمعوه(6).

و کان للنهی عن کتابة الحدیث بعد وفاة الرسول سابقة فی أُخرَیات حیاته، أسِی علیه عبد اللّه بن عبّاس، فقال کلمته الذائعة : إنّ الرزیئة کلّ الرزیئة یوم الخمیس.

و هی بروایة البخاریّ هکذا : عن عبید اللّه بن عبد اللّه بن عبّاس قال : لمّا اشتدّ

بالنبیّ صلی الله علیه و آلهوَجَعه قال : «ائتونی بکتاب أکتب لکم کتاباً لا تضلّوا بعده». قال عمر : إنّ

ص:19

النبیّ صلی الله علیه و آله غلبه الوجع و عندنا کتاب اللّه حسبُنا، فاختلفوا و کثر اللغط. قال : «قوموا عنّی، و لا ینبغی عندی التنازع». فخرج ابن عبّاس یقول : إنّ الرزیئة کلّ الرزیئة ما حال بین

رسول اللّه صلی الله علیه و آلهو بین کتابه(1).

قال الذهبیّ فی حوادث سنة 143 ه : شرع علماء الإسلام فی هذا العصر فی تدوین الحدیث و الفقه و التفسیر...(2)

و لمّا أُمروا بتدوین الحدیث لم یستجیبوا للأمر إلاّ مُکرَهین ؛ ذلک بأ نّهم کانوا یتحرّجون من کتابته بعد أن استمرّت سُنّةُ مَن کان قبلهم من الصحابة علی منع تدوینه .

و المرحلة الثانیة تبدأ بخلافة عثمان و تنتهی بموته و خلافة علیّ علیه السلام، وقد تمیّزت ببروز شیعة علیّ و شیعة عثمان، و بروز الناکثین و القاسطین و المارقین.

و المرحلة الثالثة تبدأ باستشهاد علیّ علیه السلام و بروز انشقاقات کثیرة فی کیان الخوارج و ظهور المرجئة و بدء تشکیلات المعتزلة. و ظلّ الأمر هکذا فی العصر الأمویّ. أمّا العصر

العبّاسیّ فیعتبر عصر کثرة الفرق الإسلامیّة أو المحسوبة علی الإسلام.

قال الأشعریّ القمّیّ : جمیع أصول الفرق کلّها الجامعة لها أربع فرق : الشیعة، و المرجئة و المعتزلة، و الخوارج(1).

و قسّم أبو الحسن الأشعریّ أمّهات الفرق إلی عشرة أصناف، و عدّ منها بعد الشیعة و الخوارج و المرجئة و المعتزلة: الجَهمیّة و الضِّراریّة و الحسینیّة و البکریّة و العامّة و أصحاب الحدیث و الکُلاّبیّة(2).

و هی عند البغدادیّ عشرة أیضاً(3)، و بعض المؤلّفین فی الفرق و المقالات جعل أصول الفرق تلک الأربعة الأساسیّة، مع الحشویّة و الجبریّة، و المشبّهة، و العامّة(4).

و یظهر من تلک الروایات و النصوص أنّ الفرق الأساسیّة التی تکوّنت بذورها فی الصدر الأوّل لا تخرج عن الشیعة و الخوارج و المعتزلة و المرجئة و عامّة أهل السنّة.

أمّا الجبریّة فهو اسم آخر للعامّة، و القدریّة اسم آخر للمعتزلة أو العامّة، علی اختلافٍ سیأتی بیانه فی موضعه. و لا بدّ هنا من بحث هذه الفرق من خلال دراسة موجزة.

علی أمر فهُم شیعة، و کلّ قوم یَتبَع بعضُهم رأی بعض فهم شِیَع(1).

و لها فی الاصطلاح إطلاقات عدیدة بالملاکات التالیة :

1 - الشیعة مَن أحبّ علیّاً و أولاده باعتبارهم أهل البیت. و الشیعة بهذا المعنی تعمّ

کلّ المسلمین إلاّ النواصب. و هذا إمام الشافعیّة یقول :

قالوا : تَرَفّضتَ! قلتُ : کلاّ

ما الرفضُ دِینی و لا اعتقادی

لکنْ تَوَلّیتُ غیرَ شکٍّ

خیرَ إمامٍ و خیرَ هادی

إن کان حُبُّ الوصیّ رفضاً

فإنّنی أرفَضُ العِبادِ(2)

2 - الشیعة مَن فضّل علیّاً علی غیره مع اعتقاد أ نّه رابع الخلفاء، و علی ذاک معتزلة بغداد و جمع من أهل الحدیث، و لذلک رُمی الحاکم النیسابوریّ و النسائیّ بالتشیّع، و کذلک معتزلة بغداد(3). و من هذا نُسب واصل بن عطاء إلی التشیّع، لمّا کان یقدّم علیّاً علی عثمان، کما فی بعض کتب المعتزلة(4).

3 - الشیعة مَن یشایع علیّاً و أولاده باعتبار أ نّهم خلفاء الرسول و أئمّة الناس بعده.

قال الشیخ المفید : کما یستحقّ اسم التشیّع و یغلب علیه مَن دان بإمامة أمیر المؤمنین علیه السلامعلی حسب ما قدّمنا(5).

و قال الشهرستانیّ : الشیعة هم الذین شایعوا علیّاً علی الخصوص و قالوا بإمامته و خلافته نصّاً و وصیّة، إمّا جلیّاً أو خفیّاً، و اعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج من أولاده(6).

و قال ابن حزم : و مَن وافق الشیعة فی أنّ علیّاً أفضل الناس بعد رسول اللّه و أحقّهم

بالإمامة، و وُلده من بعده، فهو شیعیّ، و إن خالفهم فی ما عدا ذلک ممّا اختلف فیه

ص:22

المسلمون. و إن خالفهم فی ما ذکرنا فلیس شیعیّاً

فانتشرت بین موالی علیّ علیه السلام(1).

و الأحادیث الدالّة علی ظهور التشیّع فی عهد الرسول صلی الله علیه و آله کثیرة ، رواها علماء التفسیر و الحدیث و أرباب المقالات(2).

و یظهر من هذه الأحادیث و أمثالها أنّ لفظ الشیعة استعمله صاحب الشریعة فیمن تولّی علیّاً و عترته الطاهرة. و یحقّ لنا أن نقول : إنّ الدعوة إلی التشیّع ابتدأت من الیوم الذی هتف فیه النبیّ صلی الله علیه و آله صارخاً بکلمة لا إله إلاّاللّه فی شعاب مکّة و جبالها. و نزول آیة

الإنذار و حدیث یوم الدار فی شأنها شاهد علی ذلک(3).

و قد کفانا مؤنة التدلیل علی ذلک محمّد کرد علیّ فی کتابه خطط الشام، فإنّه قال فیه : عُرف جماعة من کبار الصحابة بموالاة علیّ فی عصر رسول اللّه صلی الله علیه و آله ؛ مثل سلمان الفارسیّ القائل : «بایَعْنا رسولَ اللّه علی النصح للمسلمین، و الایتمام بعلیّ بن أبی طالب و الموالاة له»، و مثل أبی سعید الخدریّ الذی قال : «أُمِر الناس بخمس، فعملوا بأربع

و ترکوا واحدة». و لمّا سئل عن الأربع قال : «الصلاة و الزکاة و صوم شهر رمضان و الحجّ». قیل : و ما الواحدة التی ترکوها ؟ قال : «ولایة علیّ بن أبی طالب». قیل له : و إنّها لَمفروضة معهنّ ؟ قال : «نعم، هی مفروضة معهنّ»(4).

من هنا یمکننا أن نقول : إنّ فرقة الشیعة من أقدم الفرق الأساسیّة فی الإسلام، کما صرّح بذلک الأستاذ أبو زهرة، فإنّه قال : الشیعة أقدم المذاهب السیاسیّة الإسلامیّة، و قد ذکرنا أ نّهم ظهروا بمذهبهم فی أواخر عصر عثمان، و نما هذا المذهب و ترعرع فی عهد علیّ علیه السلام...(5).

ص:24

و قال الجاحظ : إنّه کان فی الصدر الأوّل لا یسمّی شیعیّاً إلاّ مَن قدّم علیّاً علی عثمان، و لذلک قیل : شیعیّ و عثمانیّ ؛ فالشیعیّ من قدّم علیّاً علی عثمان، و العثمانیّ من قدّم عثمان علی علیّ. و کان واصل یُنسب إلی التشیّع فی ذلک الزمان(1).

الانتصار، فکیف لهم أن یقتنعوا بوقف القتال بحجّة رفع المصاحف إلاّ أن یکون وراء هذا

تدبیر ؟ فلنا أن نستریب فی هذه الفرقة و فی دوافعها ؛ فهی أوّلاً دَعَت إلی وقف القتال،

و تحمّست ثانیا لاختیار أبی موسی الأشعریّ ممثّلاً لعلیّ علیه السلام، و تراجعت ثالثا عن هذا کلّه و ناصبت قائدها العَداء، حتّی وصل الأمر إلی قتاله و تحریض الناس علیه.

یروی لنا نصر بن مزاحم أنّ علیّاً کان لا یعدل بربیعة أحداً، و کانت هذه القبیلة أهمّ عنصر فی جیشه علیه السلام، فشقّ ذلک علی مضر و تمیم- و رؤساء الخوارج تمیمیّون - فکانت

هذه الفئات یتربّص بعضها ببعض و یعزّ علیها أن تکون الصدارة لبعضها دون بعض.

و قد قیل هناک شیء آخر، هو أنّ زعماء الخوارج أو بعضاً منهم علی الأقلّ کان یجمعهم المعارضة لولایة عثمان، و اشترکوا جمیعاً فی مسؤولیّة قتله، و فاخروا به، کما

یظهر من قول الأشعث لعلیّ عند طلبه وقف القتال : «و إلاّ نفعل بک ما فعلنا بعثمان»(1)! و قیل فی خیانة الأشعث و رؤساء الخوارج غیر ذلک(2).

بعمل هؤلاء(1).

و ربّما یقال : إنّ المرجئة ظهرت فرقة ذات منهج فکریّ فی عصر الأمویّین، کما حکی الأشعریّ القمّیّ أ نّه بعد استشهاد الإمام علیّ علیه السلام و تسلّم الأمویّین مقالید الأمور قام جمهور الناس الذی یعرف بالسواد الأعظم بتشکیل فرقة واحدة تُدعی المرجئة ؛ لأ نّهم تولّوا المختلفین جمیعاً ، فزعموا أنّ أهل القبلة کلّهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر

بالإیمان وَ رَجَوا لهم جمیعاً المغفرة(2).

و یستفاد من قصّة اعتزال واصل بن عطاء حلقةَ الحسن البصریّ، تقدّم المرجئة علی الاعتزال و تکوّنهم فی زمن تکوّن وعیدیّة الخوارج.

و قد ذکر ابن المرتضی أنّ رجلاً دخل علی الحسن البصریّ، فقال : یا إمام الدین، لقد ظهر فی زماننا جماعة یکفّرون أصحاب الکبائر، و الکبیرة عندهم یُخرَج بها عن الملّة، و هم وعیدیّة الخوارج، و جماعة یرجئون أصحاب الکبائر، و الکبیرة عندهم لا تضرّ مع الإیمان، بل العمل عندهم لیس من الإیمان رکناً، و لا یضرّ مع الإیمان معصیة کما لا ینفع

مع الکفر طاعة، و هم مرجئة الأمّة، فکیف تحکم أنت لنا فی ذلک اعتقاداً ؟

فتفکّر الحسن فی ذلک، و قبل أن یجیب، قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول : إنّ صاحب الکبیرة مؤمن مطلقاً و لا کافر مطلقاً، بل هو فی منزلة بین المنزلتین(3).

مِن هذا النصّ یستفاد تقدّم المرجئة علی المعتزلة نشأة و تکتّلاً. و یستفاد أیضاً أ نّه

لم یکن یومئذٍ بین المسلمین فی هذه المسألة إلاّ ثلاثة أقاویل :

أحدها : قول الخوارج فی إکفار مرتکب الکبیرة.

ثانیها : قول المرجئة فی إیمان مرتکب الکبیرة.

ثالثها : قول الحسن، و هو ممثّل جمهور المسلمین، فی کون مرتکب الکبیرة مؤمناً

ص:27

منافقاً. فالمسلمون مجتمعون علی فساد قول مَن زعم أنّ مذنبی الموحّدین لم یکونوا لا

مؤمنین و لا کافرین کما یقوله واصل بن عطاء رأس المعتزلة، فیبدو أ نّهم نُسبوا إلی الاعتزال لأجل خروجهم عن إجماع المسلمین فی تلک المسألة(1).

و لقد کانت النتیجة لموقف المرجئة أ نّهم أرجأوا الحکم فی بنی أمیّة و لم یحکموا علیهم بالکفر ، کما حکم الخوارج. و من أجل هذا استطاعت المرجئة أن تضمن رضا الحکّام عنهم، أو عدم التعرّض لهم علی الأقلّ. نعم، إنّهم ربّما خاصموهم و لکنّ

مخاصمتهم کانت فی رفق و لین. و إلیه یشیر کلام المأمون فیهم : «الإرجاء دین الملوک»(2). و لذلک لم نَرَ الأمویّین اضطهدوا مرجئاً لإرجائه کما کانوا یضطهدون المعتزلة لاعتزالهم و الخوارج لخارجیّتهم و الشیعة لتشیّعهم. بل تراهم ربّما یستعملون مَن عُرف بالإرجاء فی أعمالهم ، کما اتّفق لثابت بن قُطنة - و هو شاعر المرجئة -، فإنّه وُلّی عملاً من أعمال الثغور(3).

لقد أعلن أهل البیت علیهم السلام عن خطر المرجئة و أنّ إشاعة فکرتهم ستُرجِع الناس إلی الجاهلیّة، فقاموا بتحذیر الشیعة منهم، و قالوا : «بادروا أولادکم بالحدیث قبل أن یسبقکم

إلیهم المرجئة»(4)، و قالوا : «لَعَن اللّه القدریّة، و لعنَ اللّه ُ الخوارج، و لعن اللّه المرجئة، لعن اللّه المرجئة»، فلمّا سُئل : لعنتَ هؤلاء مرّة مرّة، و لعنتَ هؤلاء مرّتین ؟ قال : إنّ هؤلاء یقولون : إنّ قتَلَتنا مؤمنون، فدماؤنا متلطّخة بثیابهم إلی یوم القیامة(5)!

و اختُلف فی أوّل من تکلّم فی الإرجاء ؛ قیل : إنّه أبو سلت السمّان (ت 152 ه )، و قیل : هو الحسن بن بلال بن حارث المزنیّ. و لکنّ المشهور أنّ أوّل مَن وضع الإرجاء

هو أبو محمّد الحسن بن محمّد بن الحنفیّة (ت 95 ه )، فإنّه کان یکتب إلی الأمصار

ص:28

و یدعو الناس إلی الإرجاء(1).

و یقال إنّه کان یتوقّف فی عثمان و طلحة و الزبیر فلا یتولاّهم و لا یذمّهم، فلمّا بلغ

ذلک أباه ضربه و شجّه و قال : ویحک! ألا تتولّی أباک علیّاً ؟! و یقال : إنّه ندم علی کتابة رسالته فی الإرجاء(2).

و لا یخفی أنّ فکرة الجبر و إن کانت موجودة فی المجتمع الإسلامیّ منذ الصدر

الأوّل(3)، إلاّ أ نّها صارت متکاملة فی العصر الأمویّ، و کانت السلطة الأمویّة ترتضیها کما ترتضی فکرة الإرجاء.

قال القاضی عبد الجبّار : إنّ أوّل مَن قال بالجبر و أظهره معاویة، و إ نّه أظهر أنّ ما

یأتیه فإنّما هو بقضاء اللّه و مِن خلقه، لیجعله عذراً فیما یأتیه، و یوهم أ نّه مصیب فیه، و أنّ اللّه جعله إماماً و ولاّه الأمر. و فشا ذلک فی ملوک بنی أمیّة(4).

و حکی أیضاً أنّ معاویة قال فی بعض خطبه : «لو لَم یَرَنی ربّی أهلاً لهذا الأمر ما ترکنی و إیّاه، و لو کره اللّه أمرَنا لغیّره»، فأنکره علیه عُبادة بن الصامت و أبو ذرّ الغفاریّ (5).

و فی موضع آخر قال للناس : قال اللّه : «وَ إِنْ مِنْ شَیْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ(6)»فعلَی مَ تلوموننی إذا قصّرتُ فی إعطائکم ؟ فقال الأحنف : إنّا واللّه ِ ما نلومک علی ما فی خزائن

اللّه، و لکن علی ما أنزله لنا من خزائنه فجعلتَه فی خزائنک، و حُلتَ بیننا و بینه(7)!

ص:29

فلا غرو أن یُحکی عن عثمان أ نّه أعلن بصراحة علی الملأ : لو کانت بیدی مفاتیح الجنّة لأعطیتها بنی أمیّة(1).

و ممّا سردنا علیک من موقف الأمویّین تجاه فکرة الإرجاء و الجبر یمکننا أن نقول : إنّ المرجئة و المجبّرة ولیدتان للحکومة الأمویّة تبرّران سلطتهم و مظالمهم.

و یشهد علی ذلک ما قیل إنّه کان فی دمشق دعاة یدعون المسلمین إلی الخضوع للحکّام الأمویّین، بحجّة أنّ الحاکم منهم مفروض علیهم بقضاء اللّه و قدره، و أنّ التمرّد

علیه تمرّد علی قضاء اللّه (2).

فی حیال هذه الظروف نهض رجال ذوو بصیرة لا یستسیغون فکرة الجبر هذه، بل یرونها من حبائل بنی أمیّة ألقوها لاصطیاد المستضعفین ، و القضاء علی الثائرین علیهم،

فأمعنوا فیهم قتلاً و صلباً و إبادة، بعد الحکم علیهم بالتکفیر من جانب قضاة البلاط

المرتزقة، و لقّبوهم بالقدریّة التی لعنها النبیّ صلی الله علیه و آله ،بزعمهم أنّ القدریّة الملعونة هم القائلون بقدرة العبد و سلب تقدیر اللّه فی فعله و عمله.

و قد سُئل زید بن علیّ بن الحسین عمّا یذهب إلیه، فقال : أبرأ من القدریّة الذین حملوا ذنوبهم علی اللّه، و من المرجئة الذین أطمعوا الفسّاق فی عفو اللّه (3).

قال المجلسیّ (ره) : و یطلق القدریّة علی المجبّرة و علی المفوّضة المنکرین لقضاء اللّه و قدره، و الظاهر أنّ المراد هنا الثانی(4).

و لا یخفی أنّ دور الأمویّین الذین یَرَون استمرار حیاتهم و سلطتهم فی الاعتقاد بالجبر قد لعب بهذه الکلمة، فطبّقوها علی أمثال معبد الجهنیّ و غیلان الدمشقیّ، و حکموا

علیهم بأ نّهم من مجوس هذه الأمّة فقضوا علیهم، مع أنّ أرباب التراجم و الرجال وثّقوهم

و اعترفوا لهم بالصدق و الأمانة(5).

ص:30

قال الکراجکیّ : و لم نجد من أسماء الفرق ما ینکره أصحابه و یتبرّأون منه سوی «القدریّة» ؛ فأهل العدل یقولون لأهل الجبر : أنتم القدریّة، و أهل الجبر یقولون لأهل

العدل : أنتم القدریّة. و إنّما تبرّأ الجمیع من ذلک، لِما رَوَوا عن النبیّ صلی الله علیه و آله أ نّه لعن القدریّة، و قال: «إنّهم مجوس هذه الأمّة»(1).

خلافة الولید بن عبد الملک ألف نفر، و حتّی مال ابن الخلیفة إلیهم، فجمع المعتزلة إلیه،

و قتلو الخلیفة، و جعلوا الولد فی مقام أبیه، و کان أحدهم آنذاک عمرو بن عُبید المعتزلیّ(1).

کان لواصل بن عطاء الفضل الأکبر فی تأسیس الاعتزال علی أسس علمیّة، و وضع الخطط فی نشره، بإرسال الدعاة فی الآفاق یبشّرون به و یلفّون الناس حوله. قال بعض أصحابه : لیس أحد أعلم بکلام غالیة الشیعة و مارقة الخوارج و کلام الزنادقة و الدهریّة

و المرجئة و سائر المخالفین و الردّ علیهم، منه(2).

و من المعروف کما هو صریح کلام المسعودیّ أیضاً أنّ الأصول التی یجتمع حولها المعتزلة، و التی لا یوصف المتکلّم بأ نّه معتزلیّ إلاّ إذا قال بها و اعتنقها، هی الخمسة

المعروفة : التوحید، و العدل، و الوعد و الوعید، و المنزلة بین المنزلتین، و الأمر بالمعروف

و النهی عن المنکر(3).

و ممّا یلفت النظر فی باب المعتزلة تعیین ما هو أوّل الأصول الخمسة عندهم ، فیبدو أنّ «المنزلة بین المنزلتین» هی رأس فکرة الاعتزال و الأصل الذی تدور حوله سائر الأصول ؛ لأ نّها تبحث فی قضیّة الإیمان و الکفر، و هذه لحمة الدین و مغزاه، و قد نزلت الشریعة لهدایة الکفّار إلی الإیمان، فینبغی أن یُعدّ الأصل الثانی و هو التوحید فرعاً من ذلک الأصل.

و الحقّ أنّ الکلام فی القَدَر و حریّة الإنسان کان یُذکَر أحیانا منذ أیّام الرسول

صلی الله علیه و آله، و کان المسلمون بعد رحیله صلی الله علیه و آله فی شغل عن الجدال فی الدین بالفتوحات الکبری، فلمّا انتهی غزو فارس و الشام و مصر و استقرّت الفتوحات، أخذ المسلمون - مع الفراغ من هذه الجهة، و مع التطلّعات السیاسیّة من جهة أخری - ینظرون فی دقائق أصول الدین

ص:32

و بدأوا بالتفکیر فی الإنسان ؛ أحُرّ هو فی أفعاله أم مُجبَر علیها(1)؟ و معلوم أنّ مسألة الوعد و الوعید من فروع مسألة العدل و القدر ؛ لأنّ الحکم بکون الإنسان حرّاً فی أفعاله

و مسؤولاً عنها، یقتضی کونه مستحقّاً للوعد و الوعید ، أی الثواب و العقاب.

و من هذه المسألة نشأت مسألة الوعد و الوعید، لیکون العبد مثاباً أو معاقباً علی أفعاله. و علی هذا یمکن القول: إنّ مباحث القدر کانت أسبق عند المعتزلة حتّی من مسألة

التوحید أیضاً ؛ لأنّ من المعروف تاریخیّاً أنّ واصل بن عطاء أخذ القول بالقدر من غیلان

الدمشقیّ (2)، و هذا یدلّ علی أنّ مباحث القدر کانت هی سائدة معروفة فی القرن الأوّل.

إلی البیعة بعد بیعة بعض المهاجرین، فقضی الأمر(1)، و لکن ظهر أثر هذا الخلاف فی قصّة

قتل عثمان، و نکث طلحة و الزبیر، و خروج الخوارج و غیرها، و ما حدث بین الفرق من الخصومة و العداء بمثل ما حدث فی أمر الخلافة و الإمامة.

و من أسباب الاختلاف ورود ثقافات غیر إسلامیّة فی المجتمع الإسلامیّ من ناحیة أمم الأدیان السابقة علی الإسلام. ثمّ دخل مِن تابعی تلک المذاهب عدد لا یحصی فی الإسلام ؛ إمّا طوعاً و رغبة، و إمّا خوفاً و رهبة من سطوة الإسلام، و إمّا نفاقاً و فتنة و من هؤلاء أبو شاکر الدَّیصانیّ و ابن المقفّع و غیرهما، فوردت أفکارهم من التشبیه و التجسیم

و غیرهما إلی المسلمین.

أضف إلی ذلک وجود آیات متشابهات فی القرآن الکریم تدلّ بظاهرها علی

التجسیم و الرؤیة و غیر ذلک، فتشکّلت جوانب من الاختلاف لدی هذه الأمم(2).

و فی جانب هذه الأسباب للاختلاف ظهر القصص فی عهد عثمان بعد ما أحدثه کعب الأحبار و تمیم الداریّ فی عهد عمر، کما ثبت فی محلّه(3).

و کان هناک سبب آخر للاختلاف هو أصل الأصول لخلافات أُخر ؛ یتعلّق بالعقل و النقل؛ لأیّهما التقدّم و الرجحان عند التعارض ؟ فالمعتزلة یرجّحون العقل علی النقل

دائماً و یؤوّلون النصوص الشرعیّة عند مخالفة العقل إیّاها ، کما فی مسألة الرؤیة و الصفات الزائدة مثل الید و الوجه للّه تعالی. و الأشاعرة یعملون بظاهر النصّ و لا یعبأون بغیره و لا یقولون بالحسن و القبح العقلیّین(4).

و کثیراً مّا یکون الاختلاف لا لغموض الموضوع فی ذاته، بل لأنّ کلا المختلفَین لم

ص:34

یعرف وجهة نظر الآخر، و اختلف نظرهما فی الموضوع الواحد، و لذا قال علیّ علیه السلام : «لو سکت الجاهل ما اختلف الناس»(1). و قال سقراط : إذا عرف موضع النزاع بطل کلّ نزاع(2).

و کیف کان فقد افترقت الأمّة الإسلامیّة فی أمور کثیرة، منها سیاسیّة مثل ما وقع فی

السقیفة فی أمر الخلافة ، ثمّ حدثت منها الفرق الشیعیّة و السنّیّة فی أصولها و فروعها.

و منها : اعتقادیّة، مثل ما حدث فی قصّة الخوارج فی مسألة إکفار مرتکب الکبیرة ، فقالوا بکفر علیّ و أصحابه لأجل التحکیم ؛ لأ نّه لا حُکم إلاّ للّه (بزعمهم). و اتّصل هذا بجانب من السیاسة أیضاً فیما یتعلّق بأمر الخلافة و الإمامة.

و مثل ما حدث فی قصّة اعتزال واصل بن عطاء مجلسَ الحسن لأجل مسألة الإیمان ؛ أهو قول و اعتقاد أم قول و عمل ؟ و فی ضوء هذا یختلف المرجئة و الخوارج و المعتزلة، و من هنا تکوّنت فِرق المعتزلة أصولها و فروعها.

و مثل مسألة العدل، و خلق القرآن التی آلت إلی اعتزال أبی الحسن الأشعریّ حلقةَ شیخه الجبّائیّ بعد ما کان معتزلیّاً، و أبدع بعدَها مذهبه و مقالته الأشعریّة(3).

ص:35

و مثل مسألة القضاء و القدر التی اختلفت فیها المجبّرة و القدریّة و المفوّضة(1).

و مثل مسألة التوحید و نفی الصفات أو إثباتها التی صارت معرکة للآراء بین الفرق الإسلامیّة، و فی ظلّها تکوّنت الفرق المجسّمة و المشبّهة و أهل التوحید و العدل.

و منها فرق فرعیّة و عملیّة ، مثل الحنفیّة و المالکیّة و الشافعیّة و الحنبلیّة و الجعفریّة

و غیرها.

قال مؤلّف «تاریخ علم کلام» : إنّ الأمویّین و إن کان من مصلحتهم السیاسیّة المیل إلی الجبر و القول بالقضاء و القدر، إلاّ أنّ الحرکة العلمیّة و النهضة الثقافیّة التی وجدت فی خلافة یزید بن الولید، رجّحت کفّة المعتزلة علی مخالفیهم، فصار أکثر آرائهم - من القول

بخلق القرآن و التنزیه و نفی الصفات - مطروحا فی الحلقات العلمیّة آنذاک(2)، فتضاربت آراء الفرق الموجودة من الخوارج و الشیعة و المرجئة و أهل الحدیث و المعتزلة بعضها مع

بعض.

و عمدة اختلافاتهم فی مسألتین :

إحداهما : نفی الصفات الوجودیّة مثل الید و الوجه للّه تعالی و إثباتها و قِدم صفات الباری تعالی و حدوثها. و من هذه المسألة حدثت قصّة محنة خلق القرآن لعلماء الحدیث فی زمن المأمون.

و أُخراهما : مسألة أفعال العباد، أهی مخلوقة للعباد أم مخلوقة للّه تعالی ؟ و کانت هذه المسألة معرکة آراء المعتزلة و الجبریّة.

و یبدو أنّ دَور الشیعة فی هذا المضمار لم یکن بأقلّ من غیرهم، و أ نّهم کانوا سابقین

علی المعتزلة کما یظهر من ملاحظة کتب أصحاب علیّ علیه السلام، و أصحاب الصادقَین علیهماالسلام مثل هشام بن الحکم، و مؤمن الطاق، و أمثال : أبی سهل النوبختیّ، و سعد بن عبد اللّه

الأشعریّ، و أبی محمّد النوبختیّ و المسعودیّ و غیرهم(3).

ص:36

من صاحب الرسالة تمشی جَنباً إلی جنب مع الدعوة إلی الشهادتین.

و کانت بیعة الغدیر آخر ما مهّده رسول الحکمة و الرحمة لخلافة علیّ بعده. و نزل فیه قوله تعالی : «اَلْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دینَکُمْ و أَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتی وَ رَضیتُ لَکُمُ الاْءِ سلاَمَ دینَاً»(1)، فکان بإمامة علیّ علیه السلام إکمال الدین و إتمام النعمة، فلو کان الأمر بعد الرسول لعلیّ علیهما و آلهما السلام لکان الناس کلّهم شیعة علیّ بعد هذه البیعة، و کان المسلمون

عند ذاک مائة ألف أو یزیدون(2).

و معنی هذا أنّ صاحب الشریعة نفسه صلی الله علیه و آله هو الذی وضع بذرة التشیّع فی حقل الإسلام، و لم یزل یتعاهدها بالسقی و العنایة حتی نمت فی حیاته و أشتهرت بعد وفاته. و لا شکّ أنّ عددا من أصحابه لیسوا بالقلیل اختصّوا فی حیاته صلی الله علیه و آله بعلیّ و لازموه، و اتّخذوه شارحا لتعالیمه و مفسّرا لأسرار حکمه، و صاروا یُعرَفون بأ نّهم شیعة علیّ علیه السلام

کعَلَم خاصّ لهم، کما نصّ علی ذلک صاحب النهایة و لسان العرب و غیرهما(3).

ثمّ لمّا ارتحل الرسول صلی الله علیه و آله من هذه الدار إلی دار القرار، و رأی جمعٌ من الصحابة أن لا تکون الخلافة لعلیّ علیه السلام : إمّا لصغر سنّه، أو لأنّ قریشاً کرهت أن تجتمع النبوّة و الخلافة لبنی هاشم، أو لأمور أخری، امتنع الإمام أوّلاً عن البیعة لأبی بکر، و ورد فی صحیح البخاریّ أ نّه لم یُبایع إلاّ بعد ستّة أشهر(4)، و تبعه علی ذلک جماعة من الصحابة.

ثمّ لمّا ثبّت موقفه المعارض لسلطة الخلافة رأی أنّ استمرار تخلّفه یوجب فتقاً فی الإسلام لا یُرتَق و کسراً لا یُجبَر، فبایَع و سالَم، خاصّة بعد أن رأی أنّ أبا بکر و عمر و جماعة من الصحابة حاولوا قسراً إجباره علی أخذ البیعة و التنازلِ عن موقفه، حتّی وصل الأمر بهم إلی التهدید بإحراق بیته، مع کون بضعة الرسول صلی الله علیه و آله و ثلّة من الصحابة

ص:38

فیها(1).

و من هنا أغضی الإمام علی علیه السلام عمّایراه حقّاً له ؛ محافظة علی الإسلام أن تتفرّق وحدته و یعود الناس إلی جاهلیّتهم الأولی(2)، فآثر علیه السلام ترک المواجهة السیاسیّة و مال إلی العزلة طول أیّام حکم أبی بکر و عمر، حفظاً لوحدة المسلمین. و هو القائل : واللّه ِ

لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمین(3).

و بقی شیعته منضوین تحت جناحه و مستنیرین بمصباحه، و لم یکن للشیعة و التشیّع یومئذٍ مجال للظهور، و من ثمّ لم تفسح السلطات إلی أوائل عهد عثمان بانتشاره ؛ لأنّ السلطة کانت تخشی ظهور التشیّع و قوّته.

ثمّ شغلت الدنیا عثمانَ و بنی أمیّة عن الحیلولة دون ظهور التشیّع، فوجد أنصاره فسحةً للدعوة إلیه و تذکیر الناس بیوم الغدیر و فضائل أهل البیت.

و کان جابر بن عبد اللّه الأنصاریّ یدور فی سکک المدینة و مجالسها صائحاً : أدِّبوا أولادکم علی حبّ علیّ بن أبی طالب(4).

و فی روایة أخری : إنّ أبا ذرّ کان یطوف علی بیوت المدینة معلناً ولاء المرتضی و صائحاً : أدّبوا أولادکم علی حبّ علیّ بن أبی طالب، و من أبی فانظروا فی شأن أمّه(5).

و یبدو أنّ الواقعة التی کانت بینه و بین رقیب له من ناحیة الخلیفة، ترتبط بهذا المجال. روی البخاریّ و الدارمیّ، و اللفظ للدارمیّ: إنّ أبا ذرّ کان جالساً عند الجمرة

الوسطی، قد اجتمع الناس یستفتونه، فأتاه رجل فوقف علیه، ثمّ قال : ألم تُنه عن الفتیا ؟ فرفع رأسه إلیه فقال : أرقیب أنت علَیّ ؟ لو وضعتم الصمصامة علی هذه - و أشار إلی قفاه

ص:39

- ثمّ ظننتُ أ نّی أنفذ کلمة سمعتها من رسول اللّه صلی الله علیه و آله قبل أن تجیزوا علیّ لأنفذتها(1).

و بعد إحداثات عثمان فی الدین أنکر الناس علیه و حرّضت علیه عائشة، و لم یکفّ عنه طلحة و الزبیر و عدد من شیعة الإمام علیّ علیه السلام. لکنّ عثمان لم یرضخ لما طلب منه الناس، فاجترأوا علی قتله، ثمّ طلبوا أمیر المؤمنین علیه السلام للبیعة، فامتنع علیهم قائلاً لهم : دعونی و التمسوا غیری... و أنا لکم وزیراً خیر لکم منّی أمیراً(2).

و بعد اندفاع الأمّة بالبیعة للإمام، و إجماع الصحابة و الأقطار الإسلامیّة علی ذلک -

ما عدا معاویة و أهل الشام - تمیّزت شیعتان ، هما شیعة علیّ و شیعة عثمان(3)، أو شیعة آل البیت و شیعة بنی أمیّة. و کثر استعمال هذه اللفظة فی أتباع علیّ علیه السلام، حتّی تبادر من إطلاقه مَن یُوالی علیّاً و یتابعه(4).

و لمّا تمّ الأمر للمرتضی علیه السلام نکثت طائفة و قَسَطت أخری و مَرَقت ثالثة. و سار الإمام بالمهاجرین و الأنصار و أهل الکوفة إلی الناکثین فی حرب الجمل، و إلی القاسطین

فی حرب صفّین. و قتل معه من عظماء الصحابة ما یقرب من ثمانین رجلاً أمثال خزیمة، و عمّار، و أبی الهیثم، و هاشم المِرقال و غیرهم(5).

و بعد استشهاد علیّ علیه السلام استمرّ التشیّع کحزب عقائدیّ سیاسیّ حول الحسن بن علیّ علیهماالسلامفبایعه المسلمون، غیر أنّ الظروف السیاسیّة اضطرّت الإمام إلی مصالحة معاویة و التنازل عن الخلافة له علی شروط، و علی أن تکون له الخلافة من بعده.

غیر أنّ معاویة لم یَفِ بذلک، و عانت الشیعة أشدّ المعاناة بما ضجّ به التاریخ ؛ فقد قَتَل عدداً کبیراً من شیعة علیّ علیه السلام کانوا من أفضل الصحابة و التابعین، أمثال حجر بن

ص:40

عدیّ و أصحابه، و عمرو بن الحمق الخزاعیّ، و عبد اللّه بن یحیی الحضرمیّ، و رُشید الهَجَریّ و کثیر غیرهم.

یقول المدائنیّ کما رواه ابن أبی الحدید : و کان أشدّ الناس بلاء أهل الکوفة ؛ لکثرة مَن فیها من شیعة علیّ علیه السلام، فاستعمل علیهم زیاد بن أبیه و ضمّ إلیه البصرة، فکان یتّبع الشیعة و هو بهم عارف ؛ لأ نّه کان منهم أیّام علیّ علیه السلام، فقتلهم تحت کّل حجر و مدر. و أخافهم و قطع الأیدی و الأرجل، و سَمَل العیون، و صَلَبهم علی جذوع النخل، و طردهم

و شرّدهم عن العراق فلم یَبقَ بها معروف منهم(1).

فلم یزل الأمر کذلک حتّی مات الحسن بن علیّ علیهماالسلام، فازداد البلاء و الفتنة، فلم یَبقَ أحد من هذا القبیل إلاّ و هو خائف علی دمه، أو طرید فی الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسین علیه السلام، و ولیّ عبد الملک بن مروان، فاشتدّ علی الشیعة، و ولّی علیهم الحجّاج بن یوسف، فتقرّب إلیه أهل النُّسُک و الصلاح و الدین ببغض

علیّ علیه السلامو موالاة أعدائه، و موالاة مَن یُدّعی من الناس أ نّهم أیضاً أعداؤه، فأکثروا الروایة

فی فضل الخلفاء و سوابقهم و مناقبهم، و أکثروا من الغضّ من علیّ علیه السلام و عیبه و الطعن فیه...

و باستقراء وقائع الکفاح السیاسیّ و الفکریّ فی تاریخ الشیعة - طیلة حیاة الإمام علیّ علیه السلامو ولدیه الحسن و الحسین علیهماالسلام - نلاحظ أنّ دعوتهم علیهم السلام ترکّزت حول متابعة أهل البیت و المطالبة بالعمل بکتاب اللّه و سنّة نبیّه، کما صرّح به فی اشتراط الحسن بن علیّ علیهماالسلامعلی معاویة فی کتاب الصلح بینهما(2).

و بعد مقتل الإمام الحسین علیه السلام انسحب الإمام زین العابدین علیه السلامفی تلک الفترة من المواجهة المکشوفة ؛ لعدم توفّر الظروف المناسبة لذلک، فواصَلَ مهامَّه الفکریّة فی حفظ قیادته بصورة سرّیّة. و فی تلک المرحلة نشأت تکتّلات و فِرق شیعیّة ذات أهداف سیاسیّة فی میدان الصراع ضدّ الحکم الأمویّ، منهم جماعة التوّابین، و أتباع المختار بن

ص:41

أبی عبید، ثمّ أتباع زید بن علیّ الذین سُمُّوا بالزیدیّة(1).

و فی فترة حیاة الإمامین الصادقین علیهماالسلام بدأت تظهر الخلافات الفکریّة و السیاسیّة حول الإمامة و فهمِ معناها، و بدأ الانحراف و الضلال فی فِرق منتسبة إلی التشیّع کالمغیریّة

و الخطّابیّة و غیرهما. و قد تبرّأ منهم أئمّة أهل البیت علیهم السلام و لعنوهم(2). و استمرّ الکفاح من ناحیة أئمّة أهل البیت من أجل النقاء و الأصالة الإسلامیّة حتّی انتهت مسیرة التشیّع إلی قیادة الإمام المهدیّ عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف.

إنّ الحدیث عن التشیّع فی هذه المرحلة هو حدیث عن خطّ أهل البیت و مذهبهم بنقائه و أصالته القرآنیّة، و ربّما کان یسمّی بمذهب الشیعة الإمامیّة، و ربّما یسمّی

بالمذهب الجعفریّ نسبةً إلی الإمام جعفر الصادق علیه السلام لِما أظهر من الفقه و العلم، کما نُسبت المذاهب الفقهیّة الأخَر إلی أصحابها. و ذلک أ نّه عاش فی الفترة بین دولتی بنی أمیّة و بنی العبّاس، فاتّسع المجال للصادق علیه السلام، و ار تفع نوعا ما کابوس الظلم و حجاب التقیّة،

فتوسّع فی بثّ الأحکام الشرعیّة، و نشر الأحادیث النبویّة التی استقاها من عین صافیة من أبیه، عن جدّه، عن أمیر المؤمنین، عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله.

و ظهر الشیعة ذلک العصر ظهوراً لم یسبق له نظیر فیما غبر من الأیّام، و بلغوا من الکثرة ما یفوق حدّ الإحصاء، حتّی أنّ الحسن بن الوشّاء قال لبعض أهل الکوفة : أدرکتُ

فی هذا المسجد (یعنی مسجد الکوفة) تسع مائة شیخ من أهل الورع و الدین، کلّ یقول : حدّثنی جعفر بن محمّد(3).

و کانت نشأته نشأة خشونة و ملاقاة مصائب من ولاة أضاعوا الحقّ و ظلموا الأمّة. و فی أیّامه کان خروج زید بن علیّ و قتله بالکوفة، و ذلک فی حکم هشام بن عبد الملک الذی أظهر العداء لآل أبی طالب بصورة إرهابیّة، و أمر عمّاله بالتضییق علیهم، و أن تُمحی

أسماؤهم من دیوان العطاء، و ملأ منهم السجون. و هو الذی أمر بقطع لسان الکُمیت و یده ؛

ص:42

لأ نّه رثی زیداً، کما منع العطاء عن أهل المدینة لاتّهامه إیّاهم بالمیل إلی زید، و ألزم آل أبی طالب البراءة من زید، إلی آخر ما هنالک من فجائع و أمور کانت تحوط بالإمام(1).

و لکن عنایة اللّه قضت بأن یزداد شعور الناس تعاطفاً نحو آل محمّد صلی الله علیه و آله، فکانت هناک اجتماعات سرّیّة سعیاً إلی انقلاب عامّ یزیل دولة الأمویّین، بغیة تحویلها لآل

محمّد.

و دار الزمان علی بنی أمیّة، و قامت ضدّهم ثورات عنیفة إلی أن قضت علی آخر ملوکهم، و ولّی الأمرَ العبّاسیّون، فکانت فی بدئها فترة سعیدة ؛ إذ کانت بیت الإمام

الصادق علیه السلامفی تلک الفترة کالجامعة یرتاده علی الدوام العلماء الکبار فی الحدیث و التفسیر و الحکمة و الکلام.

و أخذ منه العلمَ جماعة من الأئمّة و أعلامهم ، مثل یحیی بن سعید، و ابن جریج، و مالک بن أنس، و الثوریّ، و ابن عیینة، و أبی حنیفة، و أیّوب السختیانیّ و غیرهم.

و أحسن أیّام مرّت علی الشیعة فی عصره، هی الفترة التی امتزجت من أخریّات

دولة بنی مروان و أولیات دولة بنی العبّاس، بسبب اشتغال أولئک بقتل بعضهم لبعض و بانتقاض البلاد علیهم، و هؤلاء بالحرب مع المروانیّین بتطهیر البلاد منهم مرّة و استتاب الأمن أخری.

و انتهز الشیعة هذه الفرصة - و الوقت فُرَص - للارتواء من مناهل علم الإمام و عرفانه. و قد أحصی جمع من العلماء مَن روی عنه من الشیعة و من غیرهم، فکانوا أربعة

آلاف. و کان أکثر الأصول الأربع مائة مرویّة عنه، و هذه الأصول هی الأساس لکتب الحدیث الأربعة(2).

لقد بذل الشیعة فی غضون هذه الفترة کلّ ما فی وسعهم لنصرة أهل البیت و نشر

ص:43

مذهبهم، و الجهر بولاء آل محمّد صلوات اللّه علیهم، و ربا عددهم فی مختلف البقاع علی

مئات الألوف.

قال السیّد حسین بحر العلوم فی هامش تلخیص الشافی للشیخ الطوسیّ : إنّ فکرة التشیّع ککلّ فکرة غیرها مرّت بمرحلتین : بدائیّة، و لیس فیها إلاّ غرس الاصطلاح بشکل بسیط جدّاً(1). و ثانویّة و هی مرحلة النضج و إعطاء الأُکُل علی صعید التفلسف و التعمّق و التمحیص. ثمّ قال : و هکذا أخذت هذه الفکرة تشرق علی أفق الحیاة السیاسیّة و الدینیّة و الاجتماعیّة منذ وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله حتّی بعد مقتل الحسین علیه السلامو أخذت تتبلور و تنضج مفاهیمها العمیقة، فأشغلت التاریخ الإسلامیّ - و لا تزال - بآرائها الفکریّة

و محتویاتها السیاسیّة رغم أنف الحواجز و الأهواء. و أ نّها ربّما تشعّبت بعد عصر النبیّ صلی الله علیه و آله إلی عدّة فرق... و أنهی النوبختیّ و الشهرستانیّ - و غیرهما من علماء الفرق - فرق الشیعة إلی أکثر من ثلاثین، لا أحسبها إلاّ متفرّعة عن أربعة أو خمسة منها فحسب،

هی :

الإمامیّة : و هم القائلون بإمامة علیّ بن أبی طالب علیه السلامو الأئمّة من ولده - مُرتَّبین - إلی الحجّة القائم عجّل اللّه تعالی فرجه.

الکیسانیّة : و هم القائلون بإمامة محمّد بن الحنفیّة بعد أخوَیه الإمامین الحسن و الحسین علیهماالسلام.

الزیدیّة : و هم القائلون بإمامة زید بن علیّ بن الحسین علیهماالسلام بعد أبیه.

الإسماعیلیّة : و هم القائلون بإمامة إسماعیل بن الإمام جعفر الصادق علیه السلام بعد أبیه.

الأفطحیّة : أتباع عبد اللّه الأفطح ابن الإمام الصادق علیه السلام.

و هناک فِرق تُذکَر ربّما کانت تقوم بشخص واحد،- أو فئة قلیلة- تموت بموته، کالجارودیّة و السلیمانیّة و البیانیّة و الصالحیّة و البتریّة، و غیرها. و بعد التمحیص نجدها

ص:44

متقاربة الآراء یستقی بعضها من بعض، فلا تستحقّ أن نسمّیها فرقاً قائمة(1).

و فی ضوء هذا نقول :

1 - الشیعة لقب یختصّ بمن والی علیّاً و أبناءه الأحد عشر، و هم الإمامیّة الاثنا عشریّة الذین یؤلّفون الأکثریّة الساحقة منهم، و إلیهم ینصرف الذهن عند إطلاق هذه الکلمة. فلا ینبغی أن تطلق علی المنحرفین الذین خالفوا أئمّة زمانهم، و لا سیّما الغلاة

الذین تبرّأ الأئمّة منهم و لعنوهم(2).

2 - اتّفق أصحاب المصنّفات فی الفرق و المقالات علی إخراج فرق الغلاة من الإسلام أصلاً ، مثل الحلولیّة و التناسخیّة و أتباع أبی الخطّاب و المغیرة و غیرهم، و کذلک الذین أنکروا شیئاً من أصول الإسلام و أرکانه مثل أصحاب الإباحة و البابکیّة و الباطنیّة

و بعض الصوفیّة. و علی هذا لا ینبغی أن یعدّ هؤلاء من فرق الإسلام و لا فرق الشیعة(3).

3 - قال الشیخ المفید : «فأوّل مَن شذّ عن الحقّ مِن فرق الإمامیّة : الکیسانیّة، و هم

أصحاب المختار...». و بعد أن ردّ دعاویَهم بحجج قویّة، قال : «مع أ نّه لا بقیّة للکیسانیّة

جملة، و قد انقرضوا حتّی لا یُعرف منهم فی هذا الزمان أحد إلاّ ما یُحکی و لا یعرف صحّته»(4). و مثل هذا الکلام قاله أیضاً بعد الردّ علی الناووسیّة(5)، و الشمیطیّة(6) و غیرهما(7).

بعد هذه النصوص المصرّحة بانقراض أکثر الفرق المضافة إلی الشیعة، لا مجال للمطّلع علی کتب الفرق و المقالات - و خاصّة کتب الفرق الشیعیّة - أن یحسب أنّ

ص:45

النزعات الأهوائیّة المذکورة هناک کانت کلّها ممّا تدین به الشیعة الإمامیّة، أو یظنّ أنّ تلک الفرق المنسوبة إلی الشیعة لها کیان ثابت بین ظهرانَیها ؛ بل إنّ المنقّب فی التاریخ

و الباحث عن شؤون الأمم و الدیانات یتردّد فیها، لما کانت هناک غایات و أغراض سیاسیّة أو شخصیّته انحدرت بالنفوس الضئیلة إلی هذه البدع و الأهواء.

و یبدو أنّ أکثر المعتنقین لها کانوا أفراداً من ساقة الناس و ممّن لم یُقِم المجتمع الدینیّ لهم وزناً. و کان مآلهم جمیعا أن طوتهم الأیّام و طحنهم الجدیدان، فعادوا کحدیث أمس الدابر ، کما أنّ غیر یسیر منها مفتعل علی أناس لم یثبت لها کیان أو دعامة(1).

و لذلک قال العلاّمة الحلّیّ : و اعلم أنّ هذه الاختلافات منقولة عن الشیعة، و أکثرها

لم توجد، بل وجدت فی کتب منقولة لا اعتبار لها(2).

بعض الخطّابیّة(1).

و مثل القول بنبوّة علیّ و أولاده الأحد عشر، أو القول بنبوّة محمّد بن إسماعیل بن جعفر، أو القول بنبوّة المغیرة بن سعید، أو نبوّة بنان بن سمعان، أو نبوّة أبی منصور

العجلیّ(2)، و مثل القول بالتناسخ و التجسیم، و تحریف القرآن(3)، و مثل افتراءات علی الشیعة و أصحاب الأئمّة أمثال هشام بن الحکم و هشام بن سالم و مؤمن الطاق ، من القول

بأنّ اللّه تعالی جسم، و هو سبعة أشبار بشبرِ نفسه، و القول بحدوث علمه(4).

و من أشهر مؤلّفی الملل و النحل : البغدادیّ و الشهرستانیّ و ابن حزم. أمّا البغدادیّ و الشهرستانیّ فقد قال فیهما فخر الدین الرازیّ : «فقلت : و ما تلک الکتب ؟ فذکر کثیراً

منها، إلی أن ذکر کتاب الملل و النحل للشهرستانیّ، فقلت : نعم، إنّه کتاب حکی فیه مذاهب أهل العالَم بزعمه، إلاّ أ نّه غیر مُعتمَد علیه ؛ لأ نّه نقل المذاهب الإسلامیّة من الکتاب المسمّی ب- «الفَرق بین الفِرق» من تصانیف الأستاذ أبی منصور البغدادیّ. و هذا

الأستاذ کان شدید التعصّب علی المخالفین، و لا یکاد ینقل مذهبهم علی الوجه الصحیح». ثمّ إنّ الشهرستانیّ نقل مذاهب الفرق الإسلامیّة من ذلک الکتاب، فلهذا السبب

وقع الخلل فی نقل هذه المذاهب(5).

أمّا ابن حزم فقد قال عنه ابن خلّکان فی وفیاته : کان کثیر الوقوع فی العلماء المتقدّمین، لا یکاد أحد یسلم من لسانه. قال ابن العریف : «کان لسان ابن حزم و سیف الحجّاج شقیقَین». قاله لکثرة وقوعه فی الأئمّة، فنفرت منه القلوب، و استهدف فقهاء وقته، فتمالأوا علی بغضه، و ردّوا قوله، و اجتمعوا علی تضلیله، و شنّعوا علیه، وحذّروا

سلاطینهم من فتنته، و نَهَوا عوامّهم من الدنوّ إلیه(6).

ص:47

أمّا الکتّاب المتأخّرون فکنّا نأمل أن یدرسوا الشیعة و نشأتها و فرقها بصورة علمیّة واقعیّة بعیدة عن التعصّب و ما إلیه، و لکنّ الواقع غیر ذلک !!

راجع : کتب أحمد أمین المصریّ و الدکتور علیّ سامیّ النشّار و غیرهما تجدها تتضمّن افتراءات و أکاذیب حولَ الشیعة أخذوها عن نظریّات بعض المستشرقین.

متواطئین مع الروس لتقسیم هذه البلاد هجموا علی مدینة زنجان، فخرج المترجم مع زرافات من أهلها للدفاع عنها، فالتقت الفئتان و احتدم القتال، و انجلت الغبرة عن مصرع

هذا القائد الکریم ؛ فهو شهید الحمیّة علی الدین و شهید الغیرة علی المسلمین، و شهید

الوطنیّة و الشهامة، و شهید النبل و الزعامة(1).

حکی آغا بزرگ الطهرانیّ أنّ للمولی علیّ الشهید أرجوزة فی الکلام، و نظم تهذیب المنطق، فرغ من نظمه سنة 1120 ه ، و نظم الباب الحادی عشر. و نُسَخ هذه الکتب موجودة لدی أحفاده المعروفین بلقب شیخ الإسلام. و قد أرّخ وفاته أستاذُه المیر قوام

الدین بقوله فی آخر رثائه له : «با شهید کربلا محشور باد»(2).

و من رجال هذا الأسرة المولی محمّد بن علیّ بن محمّد حسین الزنجانیّ

( - 1220 ه ) الذی، کان من أفاضل عصره، عالماً بالأصولَین ماهراً فی الفقه و الکلام

و الرجال ناظماً. تتلمذ علی أساتذة قزوین - و کانت إذ ذاک مجمعاً للأفاضل من أهل العلم - و رجع إلی بلده، ثمّ سافر إلی العراق و لقی فیها السیّد محمّد مهدیّ بحر العلوم

الطباطبائیّ (1155 - 1212 ه ) و الفقیه المجاهد الشیخ جعفر کاشف الغطاء ( - 1228 ه )

و ابنه الشیخ موسی و غیرهم، ثمّ عاد إلی زنجان متقلّداً الزعامة و المرجعیّة حتّی توفّی فی

حدود 1220 ه .

و له مصنّفات، منها : منظومة فی علم الکلام، و شرحُها المسمّی بتحفة الأنام، و رسالة کبیرة فی الإمامة سمّاها بالدلائل، و قد وجد علی ظهر نسخة الأصل بخطّ السیّد بحر العلوم تقریظ له بألفاظ تشعر بمکانة علمیّة عالیة للمؤلّف. و ذکر آغا بزرگ الطهرانیّ أنّ هذه النسخة موجودة فی مکتبة المیرزا فضل اللّه شیخ الإسلام بزنجان(3).

و منهم العلاّمة الحاج میرزا لطف اللّه بن نصر اللّه بن محمّد بن المولی علیّ الشهید

ص:49

الزنجانیّ (1233 - 1307 ه ) صاحب المقام الشامخ فی العلم و الأدب. ولد فی زنجان و قرأ المقدّمات هناک و هاجر إلی العراق شابّاً و أقام فی کربلاء فی أخریات أیّام العلاّمة

الکبیر السیّد إبراهیم القزوینیّ المعروف بصاحب الضوابط فی الأصول ( - 1264 ه ). و قد جدّ فی تحصیله حتّی حضر أبحاث الأکابر، ثمّ غادرها من جرّاء القلاقل، فورد قزوین حیث واصل دراسته العلمیّة علی علمائها قریباً من ثلاثة أعوام، ثمّ رجع إلی النجف بلد

الاجتهاد، و أقام فیها سنین، و حضر الأبحاث العالیة، و تتلمذ علی صاحب الجواهر (1206 - 1266 ه )، و الشیخ محمّد بن الشیخ علیّ آل کاشف الغطاء ( - 1268 ه )، و علی أخیه الشیخ مهدیّ ( - 1289 ه )، و کتب دروسه الفقهیّة و الأصولیّة.

و بعد وفاة صاحب الجواهر قفل إلی زنجان عالِماً محقّقاً مجتهداً، و صار مرجعاً للتقلید فی تلک الناحیة. و تولّی الأمور الحسبیّة، فکانت تُجبی إلیه الحقوق الشرعیّة،

و أسّس حوزة علمیّة فی زنجان، و کان مبسوط الید. و له إجازات من أستاذه کاشف الغطاء و من سائر شیوخه الأجلاّء. و له تصانیف فی الفقه و الأصول(1).

و منهم أبو المؤلّف شیخ الإسلام میرزا نصر اللّه بن الحاج میرزا عبد الرحیم بن نصر اللّه بن محمّد الزنجانیّ (ق 13 - 14 ه ). کان أحد الرؤساء الروحیّین بزنجان، و هو ابن أخی الحاج میرزا لطف اللّه بن نصر اللّه السابق ذکره. و خَلَفه من هذه الأسرة رجال، غیر أنّ

أبرزهم رجلان، شیخ الإسلام میرزا فضل اللّه، و شقیقه الأصغر میرزا أبو عبد اللّه (2).

أمّا أخو المؤلّف الحاج میرزا أبو عبداللّه بن نصر اللّه بن الحاج میرزا عبد الرحیم بن نصر اللّه... الزنجانیّ (1309 - 1360 ه ) فقد تلقّی الآلیّات و أوّلیّات الفقه و أصوله فی زنجان، و تخرّج فی الفلسفة و الکلام و الریاضیّات علی العلاّمة میرزا إبراهیم

الفلکیّ الحکیم الریاضیّ. و درس فی طهران نبذاً من العلوم، ثمّ یمّم وجهه تلقاء النجف

ص:50

الأشرف هو و شقیقه الأکبر الشیخ فضل اللّه شیخ الإسلام، و تخرّجا علی السیّد کاظم الیزدیّ (1247 - 1337 ه )، و شیخ الشریعة الإصفهانیّ ( - 1318 ه ) و غیرهما. و بعد

ثمانی سنین رجعا مشفوعَین بالشهادات العلمیّة، و لهما إجازة الحدیث عن السیّد صدر الدین الکاظمیّ و السیّد محمود الآلوسیّ و غیرهما.

و بعد أوبته إلی زنجان حجّ بیت اللّه الحرام، و زار مدینة الرسول صلی الله علیه و آله و ساح فی سوریة و فلسطین و القدس و القاهرة، و اجتمع برجالاتها فی العلم و الأدب، و انتُخب عضواً مُراسِلاً بالمجمع العلمیّ العربیّ بدمشق.

له کتب و رسائل تربو علی عشرة ؛ هی : تاریخ القرآن، علوم القرآن الاجتماعیّة، کتاب الأفکار (اجتماعیّ فلسفیّ)، دین الفطرة، سرّ انتشار الإسلام. شرح رسالة بقاء النفس للطوسیّ، قاعدة الواحد لا یصدر منه إلاّ واحد، رسالة فی أهل الکتاب، رسالة فی

فلسفة الحجاب، حیاة الفیلسوف الفارسیّ صدر الدین الشیرازیّ، أصول الفلسفة، ترجمة کتاب الأبطال للفیلسوف الإنجلیزیّ کارلایل. انتقل فی أواخر عمره من زنجان إلی طهران، و اشتغل بتدریس المعقول و المنقول و التفسیر فی مدرسة سپهسالار المعروفة ب- «دانشکده معقول و منقول»، ثمّ رجع إلی زنجان و توفّی بها فی جمادَی الآخرة عام 1360 ه (1).

و کانت فی هذه الأسرة امرأة فاضلة محسنة، و هی أمّ المؤلّف و حفیدة المجتهد الأکبر فی هذه الأسرة میرزا لطف اللّه الزنجانیّ. فمن مبرّتها أ نّها کانت تکفل زهاء ثلاثین امرأة مسکینة فی دارها، و تقوم بشؤونهنّ طولَ اللیل و النهار، و تصبر علی أذی بعضهنّ

قربة إلی اللّه. و من فضلها أ نّها قالت لولدها میرزا فضل اللّه حین ما کان یبحث مع زمیل له حول موضوع فقهیّ و روائیّ : کفّوا عن الکلام و دعوا الجدال، و علیکم مراجعة کتاب

ص:51

الإقبال للسیّد ابن طاووس ؛ فإنّ الروایة التی تبحثون عنها موجودة فیه، فکان کما أخبرت(1).

أیّام حیاته، فألّف فی أوان تحصیله فی زنجان عدّة رسائل مستقلّة فی الکلام، و کتب فی

النجف (بعد سنة 1331 ه ) حواشی علی بعض کتب العلماء المتقدّمین(1). و بعد رجوعه إلی زنجان (1339 ه ) ألّف مقالات فی تاریخ علم الکلام، و تاریخ التشیّع(2) و غیرها.

و یبدو جلیّاً بُعد المؤلّف عن التطرّف فی الفلسفة الصدرائیّة، کما یظهر من بعض آثاره فی الردّ علی الملاّ صدرا فی القول بالقِدم الزمانیّ و الحدوث الذاتیّ، و الردّ علی قاعدة : الواحد لا یصدر عنه إلاّ واحد.

اهتمّ شیخ الإسلام بجمع المخطوطات و نفائسها، و قد انتقل أربع مائة مجلّد منها بعد وفاته إلی مکتبة مجلس الشوری بطهران(3).

و کان من سیرته علاقته الأبویّة بأعضاء أسرته، لا سیّما بأولاد أخیه العلاّمة أبو

عبد اللّه الزنجانیّ. و قد ظلّت هذه العلاقة علی قوّتها بعد وفاة هذا الأخ، و لا سیّما العلاقة بابنه الفاضل المسمّی ب- «آقا صادق ضیائیّ»(1). و من هذا المنطلق کان ینزل علیه فی مدینة طهران کثیراً، و کان هو أنیسه المرافق له فی أخریّات عمره. و بالطبع کان هو أعرف بسیرة

عمّه من بین سائر أعضاء الأسرة، بحیث کانوا یرجعون إلی آقا صادق ضیائیّ للحصول علی أجوبة الأسئلة التی دُفنت معلوماتها مع شیخ الإسلام. و کان ما یقول عن عمّه الفقید

یعتبرونه حجّة لا تقبل النقاش(2).

1339 ه :

... و بعد فإنّ فضل الإسناد أظهر من أن یقام علیه دلیل، و لذا تری العلماء قد ضربوا له آباط الإبل و أکباد الجیاد جیلاً بعد جیل. و قد أخبرنی مَن أثق به أنّ حضرة العالم

الفاضل و الکامل الواصل حضرة شیخ الإسلام و علم الأعلام الشیخ فضل اللّه الزنجانیّ - لا زال مرتویاً بفیض الفضل الربّانیّ - کان قد هاجر إلی النجف فی طلب العلوم و تلقّی

المنطوق منها و المفهوم، و حضر علی الأساتذة و قرأ علی الجهابذة، و صمّم رأیه فی هذه

الأیّام علی العود إلی وطنه، و قد نال من إجازات المشایخ ما تستوجبه مسلّمات فطنه، و أحبّ نیل الإجازة من طرقنا و تلقّی أسانیدنا، و طلب منّی - لعلمه بفضل الإسناد - الإجازة بما تجوز لی روایته و صحّت لدیّ درایته... فلمّا لم یقبل الاعتذار و أصرّ علی ما أراد کلّ الإصرار أجزتُه بالعلوم النقلیّة و العقلیّة، و الفنون الفرعیّة و الأصلیّة کما أجازنی والدی... و أرجو من المجاز أیّده اللّه تعالی أن یدعو لی و لسائر المسلمین بنصرهم علی

أعداء الدین، لا سیّما فی الأوقات الشریفة و الأماکن المقدّسة المنیفة. و جُلّ المقصد و المرام الدعاء بالعافیة و حسن الختام(1).

ص:55

14 - تراجم علماء زنجان، أو تاریخ زنجان و رجالها (إلی القرن التاسع).

15 - شرح منظومة الحکیم السبزواریّ.

16 - مصنّفات الشیعة فی العلوم الإسلامیّة.

17 - التشیّع فی التاریخ (أو تاریخ الشیعة الدینیّ و السیاسیّ و الأدبیّ)، و هذا هو الکتاب الحاضر.

18 - متفرّقات مختصرة و مطوّلة و تعالیق غیر مدوّنة(1).

تحدّث المؤلّف فی مجموع القسم الأوّل من کتابه - المبوّب علی أربعة أبواب - عن ذکر فرق الشیعة إجمالاً ثمّ بَحَثها بحثاً تفصیلاً، ثمّ تعرّض لذکر غلاة الشیعة و منشأ الفرق الغالیة و موقف الأئمّة منها، فجعل لهذین العنوانین الباب الأوّل و الثانی.

و اختصّ الباب الثالث ببیان عقائد الشیعة الإمامیّة، و ذکر مجموعة ممّا تختلف فیه مع أهل السنّة، و ردّ مقالات نُسبت إلی الشیعة بغیر حقّ ، من الجبر و التشبیه و تحریف

القرآن و غیر ذلک.

و فی الباب الرابع تحدّث عن مصادر الأحکام عند الشیعة، و أتبعها بذکر أدلّة غیر معتبرة عندهم، من القیاس و الاستحسان و غیرهما، و کان البحث حول الاجتهاد و التقلید عند الشیعة آخر ما ذکره فی القسم الأوّل من الکتاب و جعله خاتمة الباب الرابع.

و یمکن أن نلخّص محتوی الکتاب کما أشار إلیه فی دیباجته فیما یلی :

1 - تعریف التشیّع و نشأته، و الإشارة إلی ما جری علی الشیعة من المصاعب و المصائب عبر التاریخ.

2 - ذکر الفرق الشیعیّة، ما انقرض منها و ما بقی، و الکلام حول الإمامة.

3 - ذکر الفرق الغالیة و سبب نشوئها و إثبات تبرّو الشیعة و أئمّتهم علیهم السلام من الغلاة.

4 - بیان عقائد الشیعة الحقّة المستمدّة من الکتاب و السنّة و العقل، ثمّ الکلام حول مسألة الغَیبة و الرجعة و البَداء و غیرها من العقائد التی تختصّ بالشیعة.

5 - ذکر مقالات نُسبت إلی الشیعة بغیر حقّ، و بیان ردّها، أو تأویلها بوجه صحیح.

6 - الکلام حول أقاویل نُسبت إلی بعض متکلّمی الشیعة، و الجواب عنها.

7 - حصر مصادر الأحکام الشرعیّة عند الشیعة فی أربعة: (الکتاب و السنّة و العقل و الإجماع)، ثمّ التعرّض لغیرها من المصادر المتداولة عند أهل السنّة ، من القیاس

و الاستحسان و الرأی و المصالح المرسلة.

و ممّا هو جدیر بالذکر أنّ للمؤلّف منهجیّة فی البحث لیست بعیدة عن المناهج المعاصرة ، و هی ذکر المسائل و توثیقها بالمصادر المعتبرة بالتصریح بها فی المتن تارة،

ص:58

و بذکرها فی الهامش تارة أخری، إضافةً إلی کونه رحمه الله ذا إحاطة کاملة بسرد المسائل الأساسیّة فی عناوین مبوّبة، و ذکر فروعها فی فصول خاصّة.

و یشهد للمؤلّف علی سلوکه منهج البحث المعاصر أ نّه وضع فهرساً عامّاً لمسائل الکتاب غیر عناوین الفصول و الأبواب، و خصّ فهرساً آخر بالأعلام.

و علی الرغم من ذکر المؤلّف مصادر الأقوال و الأقاویل فی المتن (و هو الأقلّ) و فی الهامش (و هو الأکثر)، إلاّ أنّ ثمّة موارد أخَر لم تسنح للمؤلّف فیها فرصة لذکر المصادر،

و إنّما اکتفی فیها بذکر أرقام الهوامش بلا إشارة إلی المصادر، لأجل إکمالها فی وقت

لاحق.

6 - تصدیر الکتاب بمقدّمة مبسوطة للتعریف بالمجری التاریخیّ لأوضاع العرب قبل الإسلام، ثمّ بیان التغییر الذی أحدثه الإسلام، و الحدیث عن موقف الأعداء، و نشوء

مسائل الکلام من هذا المنطلق، ثمّ القیام بدراسة تحلیلیّة حول الفرق الأساسیّة، و تخصیص الشیعة بدراسة أوسع.

7 - ترجمة وافیة عن المؤلّف و أسرته و حیاته العلمیّة و آثاره و تعریف الکتاب، و ترسیم منهجیّة المؤلّف بصورة مبسّطة.

غلام علیّ الیعقوبیّ

مشهد المقدّسة - محرّم الحرام 1426 ه

ص:60

بسم اللّه الرحمن الرحیم

و رجال الحرب و السیاسة و أشخاص الفنّ و الصناعة ما لایحصیه العدّ، و یضیق عن الإحاطة به نطاق البیان(1).

و قد تداولت ذکر عقائد هذه الفرقة و شرح آرائها و تاریخها و حالاتها أیادی أغراض شخصیّة و محاولات التعصّب الدینیّ و العنف المذهبیّ السائد فی العقول و الأفکار أثناء القرون الإسلامیّة المتطاولة، حینما کانت الفِرَق أحزابا و شِیَعا یتناول

بعضهم بعضا بأنواع التضلیل و التبدیع و التکفیر. و لعبت بها من جهة أخری عوامل السیاسة طبقا لأهوائها و مقاصدها. و تلقّاها بهذه الحالة أشخاص لم یکن لهم فی سَبر الحوادث و تمحیصها و تمییز صحیحها من سقیمها قَدمٌ راسخة، فنقلوا من ذلک کلَّ ما قرع

مسامعهم بدون تَروٍّ و تدقیق أو نظر و انتقاد صحیح، فوقعت بسبب ذلک أوهام و اشتباهات لغالب متأخّری أرباب السِّیَر و أصحاب التاریخ و مؤلّفی المقالات و الآراء

علی ما ستطّلع علی شیء منه(2).

و لم أرَ مَن تصدّی لرأب هذا الصدع و رتق هذا الفتق و کشف الستار عن حقائق حالات هاتیک الفرقة و تمحیص تاریخها تمحیصا خالیا من التأثّر بعوامل العصبیّة و التحزّب للفِرَق علی ما یوجبه البحث العلمیّ و یقتضیه النقد التاریخیّ، فحدانی ذلک إلی

ص:62

تألیف مختصر یشتمل علی ذکر مذهب الشیعة و نشأة طریقتهم و أساس عقائدهم

المطابقة لأصول المبادئ المتلقّاة عن صاحب الدیانة الإسلامیّة علی صادعها الصلاة و السلام، و بیان ما یختصّون به من الآراء، و یتمیّزون بسببه عن سائر الفِرَق من الأقوال، و ذکر ما نسبه إلیهم مخالفوهم من الآراء الفاسدة و الأقاویل الزائغة التی هم منها بُرآء

و عن الالتزام بها بمعزل، مع ذکر الأغراض و الأسباب التی حملت هؤلاء علی رمی الشیعة بأمثالها و نسبتها إلیهم و التشنیع بها علیهم، مع الإشارة إلی شیء من تاریخها

السیاسیّ و العلمیّ علی نمط من الإیجاز و الاختصار، خدمة للحقیقة و إظهارا لتلک المبادئ التی حُرّفت کلمتها عن مواضعها، و ما رُوعیت حقّ رعایتها.

و رأیت بعد أن شرعتُ فی ذلک أن أقسّم الموضوع - لتسهیل تناول مباحثه - إلی أقسام ثلاثة:

یشتمل القسم الأوّل علی تاریخ العقیدة الشیعیّة الدینیّة و نشوئها و ما اعتَوَرها من الحالات، و تداولها من الآراء و الأفکار، و مَن شذّ عن مقالتها و عن نظام القول فی الإمامة

من فِرَقها، و مبادئ هؤلاء و علل نشوئها و الأسباب الداعیة لهم إلی ذلک، و تفاصیل مقالات نسبوها إلی الشیعة الإمامیّة، و أقاویل أسندوها إلی جماعة منهم، و إیضاح جلیّة

الحال فیها، مع الإشارة إلی أصولهم الاعتقادیّة و طریقتهم فی العمل بالأحکام الشرعیّة

و مدارکها المعتبرة عندهم، و کیفیّة أخذهم للفرعیّات منها و سائر ما یتعلّق بذلک.

و یختصّ القسم الثانی بکلّیّات من تاریخها السیاسیّ و الحوادث الواقعة فی أثناء نشأتها، و ما صادفته من الاضطهاد و التشدید من مخالفیها و معارضیها.

و یکون القسم الثالث مقصورا علی تاریخها العلمیّ و الأدبیّ و آثارها الخالدة فی مختلف العلوم الإسلامیّة.

و مع الاعتراف بأنّ القیام بهذه المهمّة، مع خطورتها و أداء واجب الحقّ فی مختلف أبحاثها،ممّا لا تسعه أمثال هذه المختصرات، فإنّ غرضی هو تمهید طریق البحث لأهل البصیرة و الاطّلاع، حتّی تتجلّی نواصع الحقائق من وراء ظلام تلک الشبهات و الأستار

التی أسدلتها الأغراض المتنوّعة و الأهواء علی معتقدات هذه الفرقة و آرائها المذهبیّة،

ص:63

و إظهار ما هم علیه من اتّباع طریق الحقّ و سلوک الطریقة المستقیمة.

و من اللّه استمدّ و أسأل إلهام الحقّ و الصواب، و أشرع فی القسم الأوّل من الکتاب الموضوع لتاریخ العقیدة الشیعیّة و حرکتها المذهبیّة فی ضمن أبواب و فصول.

ص:64

المؤمنین علیّ علیه السلامالمعتقدین بإمامته، علی معنی تجیء الإشارة إلیه، حتّی صار ذلک معهودا فی عُرف الکافّة و متعارف إطلاقهم فی المخاطبات، یعرف کلّ منهم مراد مَن یخاطبه فی تعیین هذه الفرقة دون غیرها(1). و صار کلفظ «الإسلام» الذی صار علما لأمّة محمّد صلی الله علیه و آله خاصّة، و إن کان موضوعا فی أصل اللّغة لکلّ مستسلم لغیره، لکنّه خرج غیر أمّته صلی الله علیه و آله عن استحقاق التسمیة به حین صار علما لهم و تخصّص بهم(2).

و المعنی الذی یخصّص هذه السمة بأتباع أمیر المؤمنین علیه السلام هو قولهم بخلافته و اعتقاد إمامته بلا فصل بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله بالنصّ(3) و الوصیّة، و أنّ النبیّ صلی الله علیه و آلهعیّنه و قلّده أمر الإمامة و زعامة الأمّة، و أعلمهم ذلک الأمر، و نفی الإمامة بهذا المعنی عمّن تقدّمه، و جعله متبوعا لهم غیر تابع لواحد منهم علی سبیل الاقتداء(4).

فیدخل فی معنی ما ذکرنا: الإمامیّة، و الجارودیّة من الشیعة الزیدیّة و کلّ من یشابههما فی القول بذلک، لحصول موجب هذا المعنی فیهم(5)؛ فکلّ من اعتقد منهم ما ذکرناه استحقّ إطلاق لفظة الشیعة علیه، و إن ضمّ إلی ذلک اعتقادات أُخَر لایوافقه علیها

أکثرهم.

و أمّا[لفظ] الإمامیّة فهو [یُطلق علی کلّ] من قال بوجوب الإمامة و لزوم وجود الإمام فی کلّ زمان و عصر، و إثبات العصمة له و إیجاب النصّ الجلیّ فیه(6)، ثمّ حصر

ص:67

الإمامة فی وُلد الحسین بن علیّ بن أبیطالب بعد الحسن و الحسین علیهم السلام، و سوقها بعد الرضا علیّ بن موسی علیهماالسلام[حتّی تصل] إلی الإمام المنتظر علیه السلام(1).

فوصفُ الإمامیّة أیضا و إن کان عامّا بحسب أصله لمن دان بوجوب الإمامة علی ما ذکرناه، إلاّ أنّه قد انتقل فی العرف الخاصّ مِن العلماء إلی مَن ذکرناه دون سائر مَن اتّفق معهم فی الأصول التی تقدّمت. و علّة ذلک أنّه حدث لمن سوی هذه الفرقة الخاصّة من الشیعة ألقاب و أسماء غلبت علیهم فی الاستعمال؛ لأجل أقاویل أحدَثوها. و اختصّ وصف الإمامیّة بهذه الفرقة و صار علما لها، و خرج غیرهم عن استحقاق الاتّسام بسمتها

علی سیاقة ما أسلفناه(2).

ص:68

القوم إلیه الاضطرار عند الحَیرة(1).

و قال جمهور الإمامیّة بعد الحسین علیه السلام بإمامة ابنه سیّد الساجدین علیّ بن الحسین، ثمّ بإمامة الباقر محمّد بن علیّ، و إمامة ابنه الصادق جعفر بن محمّد علیهم السلام بعده، إلی أن افترقت کلمتهم بعد وفاة الصادق علیه السلام(2):

فقالت فرقة منهم بحیاته و أنّه القائم المهدیّ المُبشَّر به فی الأخبار، و یُسمَّون بالناووسیّة؛ لداعیة لهم فی مقالتهم یقال له: عبد اللّه بن ناووس من أهل البصرة(3).

و ادّعت فرقة أخری وفاته و نصَّه علی ابنه إسماعیل المتوفّی فی أیّام حیاة أبیه، و أنکرت هذه الفرقة وفاة إسماعیل و ادّعوا علی الصادق علیه السلام أنّه غیّب شخصه خوفا علیه(4).

و فرقة أخری صحّحت وفاته، غیر أنّهم قالوا: إنّ إسماعیل نصّ علی ابنه محمّد بن إسماعیل. و قال فریق من هؤلاء: إنّ الذی نصّ علی محمّد هو الصادق علیه السلام دون إسماعیل(5). و هؤلاء الفرق الثلاث هم الإسماعیلیّة.

و قالت فرقة أخری بإمامة عبد اللّه بن جعفر، و هم الفطحیّة.

و فرقة أخری بإمامة محمّد بن جعفر، و هو الذی خرج فی زمن المأمون بالحجاز و ادّعی الخلافة، ثمّ عثر علیه و أتی به إلی المأمون فأکرمه. و کان مقیما معه فی خراسان

ص:70

حتّی توفّی. و هؤلاء یقال لهم: السمطیّة(1)، لرئیس لهم یسمّی بیحیی بن أبی السمط. و لم

یلبثوا إلاّ قلیلاً حتّی انقرضوا(2).

و جری جمهور الإمامیّة علی القول بإمامة موسی بن جعفر علیهماالسلام، و رجع معظم القائلین بإمامة عبداللّه إلی القول بإمامة موسی بن جعفر علیهماالسلام إلاّ شُذّاذا منهم ظلّوا علی القول بإمامته ثمّ إمامة موسی من بعده، و انقرضوا بعد قلیل(3).

و لم تَزَل الإمامیّة بعد ذلک علی سَنَن القول بالإمامة حتّی قُبض موسی بن جعفر علیهماالسلام، فافترقوا بعد وفاته؛ فقال جمهورهم بإمامة ابنه أبی الحسن الرضا علیه السلامو أثبتوا النصّ علیه(4).

و قال جماعة منهم بالوقف علی موسی علیه السلام و ادّعوا حیاته. و قال فریق آخر منهم: إنّه قد مات و سیُبعَث، و هو القائم(5).

و استمرّت الإمامیّة علی القول بنظام الإمامة طول أیّام الرضا علیه السلام، فلمّا توفّی و خلّف ابنه محمّدا أبا جعفر، تفرّقوا ثلاث فرق:

فرقة دانت بإمامة أبی جعفر علیه السلام و نقلت النصّ علیه من أبیه، و هم الجمهور من الشیعة.

و فرقة ارتدّت إلی قول الواقفة، و رجعوا عمّا کانوا علیه من إمامة الرضا علیه السلام.

و فرقة قالت بإمامة أحمد بن موسی، و زعموا أنّ النصّ وقع علیه بعد الرضا علیه السلام.

ص:71

و کان سبب شذوذ هاتین الفرقتین : الشبهة الحاصلة لهم من جهة صِغَر سنّ أبی جعفر عند مُضیّ أبیه علیهماالسلام(1).

و ثبت الإمامیّة القائلون بإمامة أبی جعفر بأسرها علی القول بإمامة ابنه أبی الحسن علیّ بن محمّد علیهماالسلام، فلمّا توفّی قال جمهورهم بإمامة أبی محمّد الحسن بن علیّ، و اتّبعوا الوصیّة علی المنهاج الأوّل، و نقلوا النصّ علیه و أثبتوه(2).

و شذّت فرقة أخری قلیلة إلی إمامة محمّد بن علیّ المتوفّی فی أیّام حیاة أبیه، فدفعت هذه الفرقة وفاته، و زعموا أنّه حیّ و أنّ أباه غیَّبه خوفا علیه.

و شذّت فرقة أخری إلی إمامة جعفر بن علیّ(3).

و لمّا توفّی الإمام أبو محمّد الحسن بن علیّ علیهماالسلام افترق أصحابه فِرَقا عدیدة(4)، ما لبثت إلاّ یسیرا حتّی اضمحلّت و لم یَبقَ منها إلاّ الإمامیّة، و هم الجمهور من الشیعة

القائلون بإمامة ابن الحسن المنتظر القائم علیه السلام، و أثبتوا ولادته و صحّحوا النصّ علیه، و قالوا: إنّه المهدیّ المنتظر و المُبشَّر به و صاحب الغَیبة التی ما زالت الشیعة تتوقّعها من زمن آبائه الأئمّة علیهم السلام، لِما کان لدیهم من الأخبار بوقوعها و الدلائل و الأعلام بصحّتها(5).

و هذا هو سبیل الإمامة و منهاجها الواضح الذی لم تزل الشیعة الإمامیّة الصحیحة التشیّع جاریة علیه مِن زمن أمیر المؤمنین و مَن بعده مِن الأئمّة من عترته.

هذا هو اختلاف الشیعة فی أمر الإمامة سردناه علیک علی سیاقة ما أورده المؤلّفون

ص:72

فی المقالات، لئلاّ یشذّ عن المُطالِع شیء ممّا ذکروه. و ستعرف فی ما یأتی بعد ذلک جلیّة

الأمر فی ذلک التفرّق و علل هذا الاختلاف.

الدعوة أوّلاً باسم الرضا من آل محمّد صلی الله علیه و آله، فکان أوّل ما یظهره الدعاة فضل أمیر المؤمنین

علیّ بن أبی طالب و وُلده و ما لحقهم من القتل و الخوف و التشرید. فإذا استتبّ(1) لهم الأمر جاهروا بالعداء لآل محمّد صلی الله علیه و آله(2).

و إذ کان الرأی العامّ الشیعیّ یؤثر العلویّین و یتولاّهم، کانت الدولة العبّاسیّة - لأجل حفظ مرکزها و تثبیت سلطانها و مخافة رغبة الناس إلی العلویّین - فی ترصّد مستمرّ

ص:74

و تطّلع دائم إلیهم و إلی شیعتهم فکان آل أمیر المؤمنین تحت القصد و الأذی و الترقّب بین

طرید و شرید و مقتول، و خائف یترقّب، و مفقود لم یُعثَر له علی خبر، کما ستأتی إلیها الإشارة فی محلّ آخر بنوع من البسط، إلاّ فی أزمنة یسیرة و فترات قلیلة ستعرفها مع عللها و أسبابها(1).

بهذه الأمور و أمثالها - ممّا یعثر علیها المراجع - لم یکن الأئمّة علیهم السلام متمکّنین من تعیین الشخص و التنصیص الصریح و رفع الإشکال، مخافةَ الإذاعة و الانتشار و الأخذ برقبة القائم بأمر الإمامة(2).

و قد کان لبعض الخلفاء فی بعض الأحیان فی المدینة جواسیس ینظرون، علی مَن یقع اتّفاق الشیعة بعد وفاة الإمام حتّی یقبضوا علیه(3).

و نراهم مع ذلک لم یهملوا مسألة تعیین الإمام و الخَلَف القائم بأمر الإمامة بالکلّیّة؛ إذ ألقوا إلی الشیعة أصولاً کلّیّة فی هذا الباب: مِن نعت الإمام و ما یجب أن یکون علیه من الصفات و یتحلّی به من الخلال(4)، فکانوا یعرفون الإمام منها. و لم یکن یقع التنصیص الصریح إلاّ لأفراد قلائل من خالصی التشیّع ممّن یُرکن إلیه و یُطمئنّ من جانبه(5).

و منشؤه فی الغالب من جهة اختلاف الأنظار فی تطبیق الأوصاف الکلّیّة الثابتة للإمام

بالآثار الصحیحة الثابتة لدیهم و بآراء و اجتهادات تقع لبعضهم فی معانیها، فتظهر فی بدو الأمر بصورة مقالة لفرقة، ثمّ لا تلبث یسیرا حتّی ینجلی الأمر و یر تفع الخلاف و یرجع أمرها إلی النظام و الاتّساق، و یذعن الجمهور لإمامة مَن تجتمع فیه خلال الإمامة

و خصائصها(1).

و هذه الاختلافات الناشئة بین الشیعة کانت تنتشر بین الناس و تتناقلها الألسنة و الأفواه و تأخذها المسامع و ینقلها رواة السِّیَر و الأخبار کأنّها مقالة لفرقة ذات شخصیّة فی الخارج، لها أتباع کثیرون و معتقدون منتشرون.

و المتتبّع فی شتات الآثار و ما ورد فی ذلک من مختلف الأخبار یجد الحقیقة فی أمر تلک الفِرَق المنتسبة إلی الشیعة أنّها کانت مجرّد أراجیف و افتراءات، ربّما کانت إلی أن تصل إلی الروایة أو التدوین فی کتب السِّیَر و الأخبار، و قد انقرض قائلوها و بقیت الحکایة عنها و الإرجاف بها(2).

و هذا شیء لم یکن منحصرا بالشیعة و خاصّا بفِرقها، بل نجده سنّة جاریة فی غیرها أیضا، حیث نری فی کتب المقالات الإشارة إلی فِرَق، و ذکر مقالات منسوبة إلیها یظهر بعد التأمّل أنّ أصحابها کانوا من القلّة بمکان، و قد انقرضوا منذ أزمان. و مع ذلک بقیت

المقالات و الآراء منسوبة إلیهم کأنّها موجودة باقیة(3)!

ص:76

و بالجملة، هذه الفرق المنتمیة إلی التشیّع لم یوجد أغلبها کفرقة خاصّة ذات شخصیّة و نحلة و رأی. و ما کان وجد منها فی زمان، قد انقرض منذ مدّة طویلة تقرب من ألف سنة تقریبا، و لم یَبقَ منها إلاّ الزیدیّة والإسماعیلیّة و الإمامیّة.

و نحن نزیدک تثبیتا فی المقام بنقل تصریحات من نقّاد أهل النظر:

یقول الشیخ المفید محمّد بن محمّد بن النعمان فی کتابه الموسوم ب «العیون و المحاسن» بعد نقله اختلافات الشیعة بعد الإمام الحادی عشر علی أربعة عشر فِرقة، حاکیا ذلک عن أبی محمّد الحسن بن موسی النوبختیّ: و «لیس من هذه الفِرَق التی ذکرناها فِرقة موجودة فی زماننا هذا - و هو من سنة ثلاث و سبعین و ثلاث مائة - إلاّ

الإمامیّة الاثنا عشریّة القائلة بإمامة ابن الحسن المسمّی باسم رسول اللّه صلی الله علیه و آلهالقاطعة علی حیاته و بقائه إلی وقت قیامه بالسیف حسب ما شرحناه فیما تقدّم عنهم، و هم أکثر فرق الشیعة(1) عددا و علماء، فیهم متکلّمون و نظّار و صالحون و عبّاد و متفقّهة و أصحاب حدیث و أدباء و شعراء، و هم وجه الإمامیّة و رؤساء جماعتهم، و المعتمد علیهم فی الدیانة. و من سواهم منقرضون لا نعلم أحدا ممّا قدّمنا ذکرها ظاهرا بمقالة، و لا موجودا

علی الوصف من دیانته، و إنّما الحاصل منهم حکایة عمّن سلف، و أراجیف بوجود قوم منهم لا تثبت»(2).

و قال الشریف المرتضی فی ضمن کلام له فی سقوط خلاف الفِرَق الشاذّة فی الغیبة: إنّ جمیع مَن ذُکر من الفرق قد سقط خلافه بعدم عینه و خلوّ الزمان من قائل بمذهبه. أمّا

الکیسانیّة فما رأینا قطّ منهم أحدا، و لا عین لهذا القول و لا أثر، و کذلک الناووسیّة. و أمّا الواقفة فقد رأینا منهم نفرا شُذّاذا جهّالاً لایعدّ مثلهم خلافا. ثمّ انتهی الأمر فی زماننا هذا إلی الفقد الکلّیّ حتّی لایوجد هذا المذهب - إن وجد - إلاّ فی اثنین أو ثلاثة علی صفةٍ من قلّة الفطنة یقطع بها فی الخروج عن التکلیف فضلاً أن یجعل قولهم خلافا یعارض به

ص:77

الإمامیّة الذین طبّقوا البرّ و البحر و السهل و الجبل فی أقطار الأرض و أکنافها. و یوجد

فیهم من العلماء و المصنّفین الألوف الکثیرة(1).

و نصّ الشیخ أبو جعفر الطوسیّ فی مواضع کثیرة من کتبه بانقراض الفرق المذکورة. و قال فی کتاب «الغیبة» بعد ردّ أقاویل تلک الفرق: علی أنّ هذه کلّها انقرضت بحمد اللّه

تعالی، و لم یَبقَ قائل یقول بقولها(2).

و قد نصّ فی ضمن مقال له علی أ نّه لم تحدث فرقة أخری بعد مقالة الوقف بخلافٍ حادث إلی أیّام الإمام الحسن بن علیّ علیهماالسلام(3).

و أورد المحقّق نصیر الدین الطوسیّ فی تعلیق له علی کلام الرازیّ فی «المحصّل» عندما نقل هذه الحکایات عن الشیعة، فقال: هذه اختلافات رویت عن الشیعة القائلین بإمامة علیّ علیه السلام،و أکثرها ممّا لم یوجد له أثر غیر المکتوب فی کتب غیر معتمد علیها(4).

و فی هذا القدر کفایة ممّا أردنا بیانه، و من أراد الاستزادة فلیراجع کتب الشیخ الطوسیّ و العلاّمة الحلّیّ و ابن حزم الظاهریّ و غیرهم(5).

و من هذا یظهر أنّ الکیسانیّة کانت قد انقرضت بالکلّیّة أثناء المائة الثالثة أو قبل ذلک، إذ لم نعثر بما یستظهر منه وجود قائل بتلک المقالة بعد الزمن الذی ذکرناه، حتّی أنّ الدعوة العبّاسیّة المتحدّرة من الدعوة الکیسانیّة قد ألجأتها عوامل السیاسة و ضرورة

الحال إلی رفع الید عن الانتساب إلیها و نبذ فکرة التشیّع لها(6).

ص:78

أمّا مقالة الناووسیّة و الفطحیّة فلم یکن بین مبتدئها و منتهاها زمان یُعتدّ به، و قد

انقرضتا بعد مدّة یسیرة(1).

و الواقفة علی الإمام موسی بن جعفر علیهماالسلام کانوا منقرضین فی أوائل المائة الرابعة(2). و لم یَبقَ من فرق الشیعة إلاّ الزیدیّة [و الإسماعیلیّة ]و الإمامیّة الاثنا عشریّة.

و بالتأمّل فی سَیر هذه الفرق من حیث نشؤها نجد الحالات مختلفة أیضا.

الملک العضوض و الغلبة و الاستبداد - کانت مکروهة ثقیلة الوطأة، مذمومة عندهم. و هم علی انتظار لزوالها و إبدالها بدولة عادلة تعید إلیهم سیرة الراشدین، لاسیّما و قد قرع

أسماعهم من الآثار المرویّة البشارة بظهور دولة هاشمیّة تعید إلیهم العدل و الإحسان(1).

و کان محمّد بن علیّ المعروف بابن الحنفیّة هو الذی شخصت إلیه الأبصار بعد أخوَیه الحسن و الحسین علیهماالسلام، إذ کان حینئذٍ أکبر أولاد أمیر المؤمنین بعدهما، و کان کثیر العلم مع غزازة المعرفة و إصابة الخاطر فی العواقب. و کان کما وصفه الجاحظ: قد أقرّ الصادرُ و الوارد و الحاضر و البادی أنّه کان واحد دهره و رجل عصره، و کان أتمّ الناس

تماما و کمالاً(2).

فکان ذلک سببا لالتفاف مَن یمقت الأمویّین و یکره حکمهم و یرید القیام علیهم حوله، لاسیّما بعد ما ظهر منهم من المنکرات و الاستهتار بالمعاصی و القبائح و انتهاک

حرمات اللّه و رسوله و آل رسوله ما کان له أسوأ الأثر فی العالم الإسلامیّ، فقامت الثورة

علیهم من مختلف الجهات تکوّنا و عملیّا.

و تولّی المُلک فی أثناء ذلک عبد الملک بن مروان المعروف بشدّته و دهائه، فأطفأ نیران الثورة من الناحیة العملیّة، و قضی علی فتنة ابن الزبیر و أخضع الأقالیم الإسلامیّة

لطاعته، فرأی ابن الحنفیّة نفسه مقهورا علی مطاوعته فبایع له. و مع ذلک بقی له من الناس

من یراه أحقّ بالخلافة و أنّه مغلوب علی أمره. و لمّا مات و لم یقع ما کان یترقّبه أتباعه،

غلا فیه بعض شیعته فأنکروا موته(3).

و قد استغلّ الدعوة المذکورة عدّة أشخاص و أحزاب، نشیر إلیها بإجمال:

1 - المختار بن أبی عُبید الثقفیّ الذی خرج بالکوفة طالبا لأخذ الثار و الانتقام مِن قتلة الحسین بن علیّ علیهماالسلام، و قام بذلک أحسن قیام. و تفاصیل حاله و سیرته معروفة

ص:81

مذکورة فی التواریخ(1)، إلاّ أنّه لایزال علی ما ذکر فی سیرته نوع من الغموض و الإبهام. و سبب ذلک أنّ المتعرّض لذکر حاله بین شخصین:

إمّا مخالف یرمیه بکلّ سوء و یقول: إنّه کان خارجیّا، ثمّ صار زبیریّا، فکیسانیّا، و إنّه کان صاحب مخاریق و حِیَل(2)، و إنّه تکهّن و ادّعی النبوّة و خَدَعَته السبأیّة الغلاة، و قال بالبداء حین لم یحصل ما وعد به أصحابه من النصر(3). و أعدلُ هؤلاء من یقول فی حقّه: إنّه کان یرید بذلک الریاسة و یجعل لنفسه مرکزا فیما استولی علیه من العراق(4).

و إمّا شیعیّ یحبّه و یتعصّب له لأجل قیامه بطلب الثار و تتبُّعه قتلَةَ الحسین سلام اللّه

علیه، و الانتقام منهم(5) .

و نحن نظنّ أنّ أکثر ما نُسب إلیه فی کتب الخصوم ممّا ینبغی أن یؤخذ بالتحفّظ البالغ و التثبّت التامّ. و علی أیّ حال، لاریب فی کونه شخصا ذکیّا بارزا ذا دهاء و مواهب سامیة.

2 - أصحاب عبد اللّه بن معاویة بن عبد اللّه بن جعفر بن أبی طالب الذی خرج بالکوفة أواخر عصر الأمویّین، ثمّ غلب علی کور الجبال و إصفهان و غیرها(6).

و ملاحظة سیرته تکشف أنّ قیامه لم یکن لأجل الدین، و لم یکن همّه إلاّ طلب الملک و التغلّب. و لم یکن أیضا ممّن تُرضی سیرته، إلاّ أنّ القیام ضدّ ولاة الجور- مهما کانت أغراض القائمین به فی ذلک الوقت - لم یکن ینحج إلاّ بشیء من الدعایة الدینیّة، فلذلک انتحل تلک الدعوة و ادّعی أصحابه أنّ أبا هاشم عبد اللّه بن محمّد بن الحنفیّة

أوصی إلیه. و حصل بینهم و بین أصحاب محمّد بن علیّ بن عبد اللّه بن العبّاس خصام،

ص:82

فرضوا برجل منهم یکنّی أبا ریاح کان من رؤوسهم و علمائهم، فشهد أنّ أبا هاشم أوصی إلی محمّد بن علیّ، فرجع جُلّ أصحاب عبد اللّه بن معاویة إلی القول بإمامة محمّد بن

علیّ(1).

3 - محمّد بن علیّ بن عبد اللّه بن العبّاس صاحب الدعوة العبّاسیّة، فإنّه کان قد فارق

الحجاز و أقام بالحُمیمة من أعمال البَلْقاء بالشام(2)، و کان الذی أنزله بها الولید بن عبد الملک. و المظنون أنّ الأمویّین کانوا أحسّوا بشیء من خطر الدعوة الشیعیّة فأنزلوه و أهله علی مقربة من حاضرتهم، لیتیسّر لهم تتبّع حرکات الشیعة، و یُحصوا أنفاسهم. و کان أبو

هاشم بن محمّد قصد فی أثناء ذلک دمشق، وافدا علی هشام بن عبد الملک، أو أخیه سلیمان، فرأوا فیه من المهابة و الوقار و الفصاحة ما یؤهّله للأمر و یقرّبه من قلوب الناس، فدسّوا إلیه مَن سمّه فی طریقه. فلمّا أحسّ بذلک عدل إلی بنی عمّه الساکنین بالحُمیمة،

و أوصی إلی محمّد بن علیّ، و کان بصحبته جماعة من الشیعة، فسلّمهم إلیه و أوصاه بهم(3).

فکانت الدعوة العباسیّة بذلک متسلسلة عن الدعوة الکیسانیّة. و منذ ذلک الآن جدَّ بنو العبّاس فی طلب الخلافة، و شرعوا فی بثّ الدعاة فی الأقطار. و کان شعار الدعوة فی

ابتداء الأمر: الدعوة إلی الرضا من آل محمّد صلی الله علیه و آله. و المقصود من ذلک إقامة شخص من

أهل بیت رسول اللّه مرضیّ یرضی به جمهور الأمّة فی مقام الخلافة. ثمّ بعد ما ثبّتوا الأمر و مهّدوا طریقهم صرّحوا باسم صاحب الدعوة من العبّاسیّین(4).

فأنت تری، ممّا أشرنا إلیه، أنّ قیام الفرقة الکیسانیّة کان لأمور سیاسیّة، لا لا عتبارات دینیّة. و إن وجد بین أغمارها من یتّخذها دینا، فلا اعتداد به حیث لم یصدر

ص:83

عمّن له حظّ من النظر و البصیرة(1).

الدینیّة غالبة فی دعواهم و لاتزال.

و ممّا ذکرناه أیضا تعرف سرّ عدم نجاحهم فی المواقف التی وقعت بینهم و بین

خصومهم من العبّاسیّین؛ لتمسّکهم بالمبادئ الدینیّة، و مقابلة خصومهم لها بالخطط السیاسیّة و المقتضیات الحربیّة. فکان ذلک مقابلة لأحکام الدین بأمور الدنیا، و ما قابل

أحدهما الآخر إلاّ و کان الفوز للأخیرة(1). فتراهم قد فوّتوا علی أنفسهم جملة مواقف مهمّة، لو کانوا آخذین فیها بأسالیب خصومهم لترجّحت کفّة النصر لهم، و لکن للّه تعالی

أمر هو بالغه.

المعروف بالسیّد، ممّن یری هذا الرأی، و کان له فی ذلک أشعار معروفة. ثمّ رجع عن ذلک الاعتقاد و بَرِئ منه و دان بالحقّ بعد ما لقی الصادق جعفر بن محمّد سلام اللّه علیه، و رأی منه علامات الإمامة و شاهد فیه دلالات الوصیّة، فأذعن لإمامته. و له فی رجوعه إلی الحقّ و مفارقته رأی الکیسانیّة أشعار معروفة أیضا(1).

و قد أکثر المؤلّفون فی المقالات من ذکر أقاویلهم، و لا نطیل ذکرها(2). و الشیعة تُبرّئ السیّد محمّد بن الحنفیّة عن تلک الأقاویل، و تری أنّه رحمه الله کان من المعتقدین بالحقّ و بإمامة الأئمّة علیهم السلام(3).

یکون ذا رأی و تدبیر، متّصفا بالشجاعة و العدالة، و أن یکون ذا نسب قرشیّ فاطمیّ ؛ فکلّ من اتّصف بهذه الأوصاف و دعا إلی نفسه و إلی تجرید السیف لقتال الظلمة فهو إمام

یجب طاعته(1).

قال أحمد بن یحیی المهدیّ جامع مقالتهم: یجمع مذهبهم تفضیل علیّ علیه السلام و أولویّته فی الإمامة و قَصْرها فی البطنَین، و استحقاقها بالفضل و الطلب لا بالوراثة،

و وجوب الخروج علی الجائرین، و القول بالعدل و التوحید و الوعد و الوعید؛ فهذه الأمور لایختلفون فیها.

ثمّ افترقوا فی غیرها؛ فالجارودیّة أثبتوا النصّ علی علیّ علیه السلام بالوصف دون التسمیة، و کفّروا من خالف ذلک النصّ، و أثبتوا الإمامة فی البطنَین بالدعوة مع العلم و الفضل(2).

و الصالحیّة ذهبوا إلی أنّ الإمامة شوری تصحّ بالعقد و فی المفضول، و یقولون بإمامة الشیخین مع أولویّة علیّ علیه السلامعندهم(3) .

و خالف متأخّروهم هاتین الفرقتین حیث أثبتوا إمامة علیّ علیه السلام بالنصّ الخفیّ، و خطّأوا المشایخ لمخالفته(4).

و افترقت الزیدیّة فیما بینهم. و قد حکی عن أبی القاسم البلخیّ فی مقالاته أنّه قال: إنّ الزیدیّة مفترقون فی مذاهبهم إلی فِرَق، و معظمهم خمس فرق(5).

و أنهی أبو الحسن علیّ بن الحسین المسعودیّ عدد فرقهم إلی ثمانی فرق(6). و ذکر أحمد ابن یحیی أنّ متأخّری الجارودیّة افترقوا إلی مطرفیّة، و حسینیّة، و مخترعة. و أنّ

ص:88

المطرفیّة أصحاب مطرف بن شهاب فارقوا الزیدیّة بمقالات فی أصول الدین کفّرهم بها کثیر من الزیدیّة(1).

و المظنون أنّ هذه الأقاویل سَرَت إلیهم من طریق القرامطة و الباطنیّة، و کانوا ظهروا

مدّةً ببلاد الیمن(2).

و لبعض أئمّة الزیدیّة القائمین بالیمن، مثل الناصر أبی الفتح الدیلمیّ، و المتوکّل أحمد بن سلیمان، ردود و مؤلّفات فی هذه الفرقة(3).

و متأخّرو الزیدیّة تسمّوا بالقاسمیّة و الناصریّة(4) و غیرهما، نسبة إلی القاسم بن إبراهیم الرسّیّ من أئمّتهم القائمین بالیمن، و إلی الناصر الأُطروش الخارج بالدیلم. و کان بین فِرَقهم تخطئة و تضلیل، حتّی ألقی المهدیّ أبو عبد اللّه الداعی إلیهم مسألة التصویب

فی الاجتهاد(5).

ص:89

و صادفت دعوة الزیدیّة نجاحا عظیما و قبولاً من جهة أهل الدین و الفقه و الورع فی بدو أمرها حین قیام الأوّلین من أئمّة الزیدیّة؛ إذ کان قیامهم علی أساس الإنکار علی الظلمة و ولاة الجور المنابذین لأحکام الدین، فکان یوافق رغائب هؤلاء و أمثالهم من أهل الدیانة.

و قد أفاض أبو الفرج الإصبهانیّ فی ذکر أخبار مَن خرج من أهل العلم و الفتوی و نقلة السنن و الآثار منهم، و مَن رأی الخروج معهم و أفتی الناس به و دعا الناس إلیهم،

و ذَکَر ما أصاب جملة من هؤلاء من العبّاسیّین من الاضطهاد(1).

و کان غالب مشایخ المعتزلة أیضا من المائلین إلی القول بإمامتهم، إذ مناط صحّة الإمامة علی طریقتهم - و هو العقد و الاختیار - کان موجودا فیهم(2).

و لاتّصال المعتزلة بالزیدیّة سبب تاریخیّ آخر أیضا، هو أنّ زید بن علیّ علیه السلام کان معاصرا لواصل بن عطاء شیخ المعتزلة الممهّد طریقة الاعتزال، فاقتبس منه بعض آرائه و وافقه فیها، فکان ذلک من الأسباب الداعیة لتقریب الزیدیّة من المعتزلة و أهل العدل،

و صار غالب الزیدیّة علی طریقة المعتزلة فی الأصول. و أمّا الفروع فهم یوافقون الحنفیّة

فی غالبها، و یوافقون الشافعیّة فی أُخَر منها، و لهم بعض آراء یعملون فیها بآرائهم

و اجتهاداتهم(3).

و من تصفّح کتب أئمّة الزیدیّة و علمائهم فی الکلام یجدها غالبا کلمات شیوخ

ص:90

المعتزلة کالجبائیّین و أبی رشید النیشابوریّ و أبی الحسین البصریّ و أمثالهم، و هم

أنفسهم یصرّحون بذلک(1). و الکلام المبسوط فی تاریخ هذه الفرقة و آرائها ممّا لایحتمله المقام.

ثمّ رأی بعض هؤلاء أنّ ذلک لایجدی، إذ لم یستقرّ أمر الإمامة فیه حتّی یقع التنصیص منه علی غیره، فعدلوا عن ذلک و قالوا: إنّ الذی نصّ علی محمّد هو الصادق علیه السلام

دون إسماعیل(1). و هولاء الفرق الثلاث هم الإسماعیلیّة المعدودون من الفِرَق الشاذّة عن نظام الإمامة.

هذه الفقرات المنقولة توضح أنّ إسماعیل - إذ کان أکبر أولاد الصادق علیه السلام- کان یظنّون الناس انتقال الإمامة إلیه بعد أبیه، فلمّا مات وَلَّد الموالون له القولَ بوجود النصّ علیه أو علی أولاده. و لعلّ فیما أسلفنا ذکره من صنیع الصادق علیه السلامعند موت إسماعیل ما یکشف عن أنّه علیه السلامکان بلغه أغراض هؤلاء الأشخاص، و انکشف له ما یریدون من إلقاء الشبهة علی الشیعة و تفتینهم عن الحقّ و سبیله، فکان فیما صنعه تثبیت أمر وفاته و التأکید علی رفع الشبهة عن عامّة الشیعة(2).

و قد انتحل أقاویل هذه الفرقة بعد ذلک أقوام من القرامطة و الباطنیّة، و مزجوها بأقاویل الملاحدة و آراء الفلاسفة ممّا لایناسب التطویل بها فی المقام(3).

أکثرهم بعد ذلک إلی القول بإمامة موسی بن جعفر علیهماالسلام، بعد ما تبیّن لهم ضعف دعوی عبد اللّه و قوّة أمر أخیه و صریح نصوص إمامته(1). و کان قد تمایل إلی إمامة عبد اللّه جمع من

مشایخ الشیعة، فمات بعد وفاة الصادق علیه السلامبسبعین یوما، فرجع أصحابه عن القول بإمامته إلی القول بإمامة موسی بن جعفر علیه السلام سوی نفر یسیر منهم ثبتوا علی إمامته، ثمّ إمامة موسی علیه السلام من بعده، و هم عبد اللّه بن بکیر بن أعین و عمّار بن موسی الساباطیّ و جماعة أخری(2). لم تلبث مقالة الفطحیّة إلاّ یسیرا حتّی اضمحلّت(3).

و قد أشرنا سابقا إلی أنّ منشأ تمایل هؤلاء إلی عبد اللّه و القول بإمامته کان من أجل

الشبهة الحاصلة لهم من ثبوت الإمامة فی أکبر أولاد الإمام. أمّا وجوه أصحاب الصادق أبی عبد اللّه علیه السلامو أهل العلم و أصحاب النظر و الفقه منهم فما زالوا علی القول بإمامة موسی علیه السلام من أوّل الأمر، و أنکروا إمامة عبد اللّه و خطّأوه فی ادّعائه لذلک(4).

المنتظر، و أنّ ذلک الاستتار فی الحبس هو الغَیبة الموعودة المترقّبة. و انضاف إلی ذلک أنّه کان سُئل الصادق علیه السلامعمّن یقوم بأمر الإمامة بعده، فأشار إلی موسی علیه السلام و أنّه القائم بعده(1). و کانت العادة جاریة لسؤال الشیعةِ الأئمّةَ فی ذلک، و کان کلّ إمام قائما بأمر الإمامة و صاحب الأمر فی عصره(2) ، فأخذت الواقفة هذه الأخبار و أوّلوها إلی ما یوافق آراءهم.

و الآخر - و هو السبب الأصیل و المنشأ المهمّ لظهور هذه المقالة - أنّ موسی علیه السلام لمّا حبسه الرشید کان اجتمع عند جماعة من وکلائه و قوّامه مالٌ کثیر، فکان عند علیّ بن أبی

حمزة البطائنیّ - و هو أوّل من أظهر هذا الاعتقاد - ثلاثون ألف دینار، و عند زیاد بن

مروان القندیّ سبعون ألف دینار، و عند عثمان بن عیسی الرواسیّ ثلاثون ألف دینار و خمس جَوارٍ. فلمّا طالبهم الرضا علیه السلام بعد وفاة موسی علیه السلام بتلک الأموال أنکروا موته و جحدوا إمامته علیه السلام(3). مع أنّ بعض هؤلاء أنفسهم کانوا ممّن سمعوا النصّ علی إمامته علیه السلاممن أبیه و نقلوه إلی سائر الشیعة، لکن حرصهم و رغبتهم فی حطام الدنیا دعتهم إلی إنکار ما سمعوه و إلی جحده(4).

ثمّ إنّهم بعد إظهار هذه المقالة استمالوا قوما آخرین من الشیعة و بذلوا لهم شیئا من تلک الأموال التی اختانوها(5)، فأجابوهم إلی ذلک، و بذلوا لجماعة أخری من شیوخ الشیعة أموالاً جزیلة لأجل الدخول فی مقالتهم، فامتنعوا و ثبتوا علی ما کانوا علیه،

فأضمرت الواقفة لهم العداوة. و قد أوقعوا بذلک جماعة من الشیعة - ممّن لم یکن لهم بصیرة فی تمییز الحقّ عن الباطل- فی الشبهة و الضلال؛ إذ رَوَوا بعد ذلک أخبارا موضوعة

و أوّلوا جملة أخری من الأخبار - لها معانٍ و محامل صحیحة - إلی ما یوافق أغراضهم،

ص:94

فکان سببا لضلال من ذکرناهم(1).

و رجع جماعة من القول بالوقف، بعد ما شاهدوا من أعلام الرضا علیه السلام الدالّة علی

صحّة إمامته ما لزمتهم به الحجّة، و فیهم جماعة من أصحاب أبیه و جماعة غیرهم ممّن کان فی عصره(2).

و قد ذکروا أنّ بعض هؤلاء الذین کان عندهم الأموال کانوا اشتروا بما عندهم منها الدُّورَ و العقارات و الغلاّت، ثمّ أوصَوا عند موتهم بدفع کلّ ذلک إلی ورثة موسی بن جعفر

علیه السلام، فاستبانت بذلک جلیّة الحال، و عُلم أنّ ذلک کان حرصا منهم علی الأموال و بقائها فی أیدیهم(3).

و قد سمّیت الواقفة بالمَمطورة أیضا. و کان سبب ذلک أنّ علیّ بن إسماعیل المیثمیّ و یونس بن عبد الرحمن - و هما من متکلّمی الإمامیّة - ناظرا بعض هؤلاء الواقفة، فقال

علیّ بن إسماعیل له عند اشتداد الکلام بینهما: «ما أنتم إلاّ کلاب ممطورة»، فلزمهم هذا

اللقب و صاروا بعد ذلک یُعرفون به(4).

انقرضت هذه الفرقة حوالَی القرن الرابع، و لم یَبقَ من ینتحل مقالتهم(5). و کان منهم مؤلّفون ألّفوا فی مذهبهم کتبا أوردوا فیها الأخبار التی أسلفنا الإشارة إلیها، و جُلّ رواتها ممّن طُعن فیهم و لا یوثق بأقوالهم(6).

و من مؤلّفی کتبهم علیّ بن أحمد الموسویّ، له کتاب فی نصرة الواقفة نقل منه الشیخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسیّ أخبارا تعلّقوا بها، و أظهر عللها(7).

و قد صنّف فی الردّ علیهم جماعة من قدماء الإمامیّة و متأخّریهم، و مصنّفاتهم

ص:95

مذکورة فی کتب الإمامیّة و فهارس رجالهم و کتبهم(1).

هذه هی الفرق التی ثبت وجودها و تحقّق من شواهد الآثار أقاویلها و أشخاصها. أمّا

ما سواها ممّن ذکرت فی کتب المقالات أسماؤها و نسب إلیها من الأقاویل المختلفة، فمجرّد حکایات و انتسابات إلی أقوام لایعرف لها نصیب من الصحّة. و قد عرفت انقراض بعض من کان موجودا من فِرقها و اضمحلال أقاویلها، و بقاء جملة منها مع تطوّر فی آرائها.

ص:96

و جعل یهتف بهم ویناشدهم لیرجعوا عن مقالهم فأبوا، فأمر بالحطب و النار فأُلقی إلیهم

فأُحرقوا، فلم یبرح علیه السلام حتّی صاروا حِمَما(1).

و قد ذکر جماعة کثیرة من أهل السِّیَر أنّ مبدأ ظهور هذه المقالة إنّما کان من عبد اللّه

بن سبأ، و ذکروا أنّه کان من یهود صنعاء نزل البصرة بعد أن أسلم، ثمّ أُخرج منها إلی

الکوفة، ثمّ ارتحل إلی مصر. و نسبوا إلیه أنّه کان من أکبر الذین ألّبوا الناس علی عثمان(2).

و نجد من جهة أخری - محکیّا عن جماعة من أصحاب علیّ علیه السلام - أنّ عبد اللّه بن سبأ کان یهودیّا فأسلم و والی علیّا، و کان یقول بهذه المقالة - و هو علی یهودیّته - فی یوشع بن نون بعد موسی،و فی إسلامه ثمّ قال بهذه المقالة فی علیّ علیه السلام بعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله(3) کذلک. و کان ممّن أظهر الطعن علی الصحابة و تبرّأ منهم و قال :إنّ علیّا أمره بذلک ! فأخذه علیّ فسأله عن قوله هذا، فأقّر به فأمر بقتله. فصاح الناس إلیه: یا أمیر

المؤمنین، أتقتل رجلاً یدعو إلی حبّکم أهل البیت و إلی ولایتکم ؟! فسیّره إلی المدائن(4).

و ذکر البغدادیّ أنّ ابن عبّاس نهاه عن قتله، و قال له :إن قتلته اختلف علیک أصحابک وأنت عازم علی العود إلی قتال أهل الشام وتحتاج إلی مداراة أصحابک، فلمّا خشی من قتله الفتنة نفاه إلی المدائن، فافتتن به رعاع الناس بعد قتل علیّ علیه السلام(5).

و روی ابن أبی الحدید عن أبی العبّاس أحمد بن عبید اللّه بن عمّار الثقفیّ أنّه قال: ثمّ إنّ جماعة من أصحابه علیه السلام منهم عبد اللّه بن العبّاس شفعوا فی عبد اللّه بن سبأ خاصّة، و قالوا: إنّه قد تاب. فأطلقه بعد أن اشترط علیه أن لایقیم بالکوفة، فنفاه إلی المدائن، فلمّا قُتل أمیر المؤمنین علیه السلام أظهر مقالته، فصارت له طائفة وفرقة یصدّقونه ویتّبعونه(6). و ذَکر

ص:99

أنّه قال لمّا بلغه قتل علیّ علیه السلام : واللّهِ لو جئتمونا بدماغه فی سبعین مرّة لعلمنا أنّه لم یَمُت

و لا یموت حتّی یسوق العرب بعصاه(1). و قد ذکر ما یقرب من ذلک أشخاص آخرون من أهل السِّیَر و الأخبار(2).

و أنت بعد الجمع بین هذه المتفرّقات المبثوثة فی مختلف المواضع تقدر علی کشف الحقیقة و استخلاص خلاصة الواقع من أثنائها، و أنّ عبد اللّه بن سبأ - المنعوت فی بعض

الألسنة بابن السوداء، و المنتسب فی نشأته إلی الیهودیّة(3)، و الذی کان یقول فی یهودیّته بمثل ذلک المقال فی وصیّ موسی - هو الذی بثّ هذه الدعایة بین رعاع الناس الذین لم یکن من الهیّن لهم تعرّف هواجس الأفکار المشوبة بأنواع الخداع و الاستدراج

و إدراک کوامن النفوس الملقاة من تحت أستار وأسدال مموّهة. و تقدر علی معرفة شخصیّة ذاک الرجل أیضا و أنّه کان ممّن یعمل فی مکایدة الدیانة الإسلامیّة و هدم مبانیها، و أنّ إظهاره الإسلام لم یکن إلاّ لنیل أغراضه و مآربه.

و ذکروا أنّ هذه المقالة استترت سنةً أو نحوها، فلمّا قُتل علیّ علیه السلام أظهر ابن سبأ مقالته، و اجتمع علیه بالمدائن جماعة علی هذا القول، منهم عبد اللّه بن سبرة الهمدانیّ،

و عبد اللّه بن عمر بن حرب الکِندیّ و آخرون غیرهما. و تفاقم أمرهم و شاع بین الناس

قولهم، و صارت لهم دعوة یدعون بها و شبهة یرجعون إلیها(4).

و ممّا صار سببا لانبعاث هذه الفکرة هو ما کان من إخباره علیه السلام ببعض أشیاء من المغیّبات وقعت علی ما أخبر به، فتوهّموا أنّ ذلک لا یمکن إلاّ من اللّه تعالی أو ممّن حلّت ذات الإله فی جسده، تعالی عن ذلک.

و انضمّ إلی ذلک بعض عوامل قویّة، منها أنّ جماعة من هؤلاء ممّن کانوا مسبوقین بالتدیّن بالیهودیّة و النصرانیّة و الدیانة المجوسیّة - و فیها أمثال هذه المعتقدات السخیفة،

ص:100

من الحلول و تجسّد الذات و أشباههما - أخذوا فی مزج ما ورثوه من دیاناتهم بأمثالها من

التعالیم الإسلامیّة و التوفیق بینه و بینها.

و لقد کان کثیر من هؤلاء ممّن تستّروا بالإسلام و إظهار کلمته حقنا لدمائهم، و هم علی دیاناتهم الموروثة فی الباطن، و یکیدون للإسلام کلّما سنحت لهم فرصة، فکان لهم من إلقاء الشُّبَه و بثّ هذه الأقاویل وسیلة ناجعة لما یرومونه من ذلک(1).

و قد یرد علی الأذهان أنّه : لماذا غلا الناسُ فی أمیر المؤمنین علیه السلام لأجل إخباره بالمغیّبات و لم یَغلُوا فی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و هو کان أولی بذلک، و هو الأصل فی ذلک،

و کانوا قد سمعوا منه صلی الله علیه و آلهأیضا الإخبار بمثل هذه الأمور الواقعة، مضافا إلی ما شاهدوه من معجزاته الظاهرة؟!

و لعلّ ملاحظة الحالة النفسیّة لعرب الحجاز المصاحبین للرسول الأکرم صلی الله علیه و آله و الشاهدین لآیات نبوّته و أخباره الصادقة، و ما أوجدته الدعوة الإسلامیّة فی نفوسهم

من الیقین و الإیمان الصادق،و مقایسة ذلک بحال أهل العراق و سکنتها المؤلّفة من مختلف الطوائف العربیّة و من سواهم، و ضعف الیقین الحاصل لهم من جهة التفرّق و التشتّت فی الأهواء بسبب الاختلاف الحاصل بین العناصر الغریبة علی العنصر العربیّ

بعد الفتح الإسلامیّ، ممّا یسهّل لنا سبیل الجواب عن هذا السؤال.

و نری من جهة أخری أثر طبیعة الإقلیم و المناخ أیضا فی تکوین العقائد و الأهواء(2)، فما زالت طینة العراق منبت النِّحَل المختلفة و مَثار الأهواء العجیبة، و نری أهلها أهل بصر وتدقیق و شُبَه معترضة فی المذاهب(3). و قد کان ظهر بینهم قبل ذلک

ص:101

الزمان أمثال مانی، و دَیصان، و مُزدک من مؤسّسی المقالات الفاسدة(1)، و کانت أثر تعالیمهم باقیة فی ما بینهم عالقة بأذهانهم.

و بعکس ذلک نشاهد الحال فی سکّان البادیة، و خاصّة بدو أهل الحجاز؛ فکان مِن أثَر مناخهم غلبة الجفاء و الخشونة علی أذهانهم. و ساکنوا المدن منهم لایختلفون عنهم

کثیرا، و تقرب طباعهم من البدو، و لذا لم یذکر ظهور فیلسوف أو مبتدع نِحلة،أو مُورد

شبهة بینهم قبل الإسلام،ولو وجد أثر ضعیف فإنّما هو طارئ علیهم ممّن حولهم.

و یذکر المؤرّخون فی قضیّة أبی ذرّ و ما جری بینه و بین عثمان حین منعه من الخروج إلی العراق أنّ عثمان قال له: إنّک تقدم إلی أهل شُبَه وطعن فی الأئمّة(2).

و یذکر بعض أهل السِّیَر أدیان العرب فی الجاهلیّة و أنّه کان فیهم یهودیّة و نصرانیّة

و مجوسیّة، و یذکر وجود الزندقة فی قریش و أنّها سَرَت إلیهم من الحیرة(3). و الشواهد

علی ذلک کثیرة یجدها المراجع فی خلال کتب الآثار(4).

ص:102

و قد ذکر صاحب دعائم الإسلام [أ نّه کان من أصحاب أبی جعفر محمّد بن علیّ

علیهماالسلام، و دعاته، فاستزلّه الشیطان فکفر و ادّعی النبوّة، و زعم أنّه یحیی الموتی، و أنّ أبا جعفر علیه السلامإله...(1)].

ذکر ابن أبی الحدید أنّ المغیرة غلا و قال:لو شاء علیّ لأحیا عادا وثمود و قرونا بین ذلک کثیرا(2).

و روی أیضا عن علیّ بن محمّد النوفلیّ، قال:جاء المغیرة بن سعید فاستأذن علی أبی جعفر محمّد بن علیّ بن الحسین علیهم السلام، و قال: «أخبِر الناسَ أنّی أعلم الغیب و أنا أطعمک العراق»، فزجره أبو جعفر زجرا شدیدا و أسمعه ما کره، فأتی أبا هاشم عبد اللّه بن محمّد بن الحنفیّة فقال له مثل ذلک، و کان أبو هاشم أیِّدا، فوثب علیه فضربه ضربا شدیدا

أشفی به علی الموت، فتعالج ثمّ برئ. ثمّ أتی محمّد بن عبد اللّه بن الحسن و کان محمّد

سِکِّیتا، فقال له کما قال لهما، فسکت محمّد فلم یجبه، فخرج و قد طمع فیه بسکوته، و قال : أشهد أنّ هذا هو المهدیّ الذی بشّر به رسول اللّه و أنّه قائم أهل البیت! و ادّعی أنّ علیّ بن الحسین علیه السلام أوصی إلی محمّد بن عبد اللّه بن الحسن.

ثمّ قدم المغیرة الکوفة و کان مشعبذا، فدعی الناس إلی قوله و استهواهم و استغواهم، فاتّبعه خلق کثیر. و ادّعی علی محمّد بن عبد اللّه أنّه أذن له فی خنق الناس و إسقائهم

السموم، و بثّ أصحابه یفعلون ذلک فی الناس فقالوا له: إنّا نخنق من لا نعرفه. فقال: لا علیکم؛ إن کان من أصحابکم عجّلتموه إلی الجنّة و إن کان من عدوّکم عجّلتموه إلی النار(3)!

و خرج المغیرة مع بیان بن سمعان النهدیّ و آخرین بظهر الکوفة، فی ولایة خالد بن عبد اللّه القَسریّ علی العراق، فأخذهم خالد فشدّهم فی أطنان القصب وصبّ علیهم

ص:104

النفط و أحرقهم فی مسجد الکوفة(1).

و من ملاحظة حاله و أعماله یُعلم أنّه کان غرضه استهواء الناس و استغلال هذه المقالة فی سبیل ما یؤیّده من الریاسة و سائر الأغراض.

و نقل ابن حزم عن کتاب المیزان لهشام بن الحکم أنّ الکَسْفیّة خاصّة یَقتلون من کان منهم و ممّن خالفهم، ویقولون: نعجّل المؤمن إلی الجنّة و الکافر إلی النار(1)!

و یقول أبو محمّد النوبختیّ: إنّ أبا منصور کان یأمر أصحابه بخنق مَن خالفهم و قتلهم بالاغتیال، و یقول: من خالفکم فهو مشرک ؛ فإنّ هذا جهادٌ خفیّ(2)! و قد عرفت نسبة مثل ذلک إلی المغیرة بن سعید و أصحابه أیضا(3).

و یلزمون الأساطین یراؤون الناس أنّهم لزموها للعبادة(1).

فبلغ عیسی بن موسی عنهم أنّهم أظهروا الإباحات، ودَعَوا إلی نبوّة أبی الخطّاب، و أنّهم مجتمعون فی المسجد، فبعث إلیهم، فامتنعوا علیه و حاربوه محاربة شدیدة بالقصب و الحجارة و السکاکین،و کان بعضهم جعلوا القصب مکان الرماح. و کان أبو الخطّاب وَعَدَهم بأنّ رماح القوم و سیوفهم لا تعمل فیهم، و أنّ قصبهم یعمل فیهم عمل

الرماح، فقدّمهم عشرةً عشرةً للمحاربة. فلمّا قُتل منهم نحو ثلاثین رجلاً، قالوا له: أما تری ما یحلّ بنا من القوم ؟! فذکر لهم ما رواه العامّة : «إن کان قد بدا للّه فیکم، فما ذنبی»؟! و ما رواه الشیعة : «یا قوم، قد بُلیتم و امتُحنتم و أُذن فی قتلکم، فقاتِلوا علی دینکم و أحسابکم، و لا تُعطوا بأیدیکم فتَذِلّوا». فقاتَلوا حتّی قُتلوا عن آخرهم. و أُسر أبو الخطّاب، فأُتی به عیسی بن موسی فقتله فی دار الرزق علی شاطئ الفرات، و صلبه مع جماعة منهم. ثمّ أمر بإحراقهم، و بعث برؤوسهم إلی المنصور، فصلبها علی باب مدینة بغداد ثلاثة أیّام، ثمّ أُحرقت(2).

و لم یُفلِت منهم إلاّ رجل واحد أصابته جراحات، فعُدّ فی القتلی فتخلّص، واسمه أبو سلمة سالم بن مکرّم الجمّال، و کان یزعم أنّه مات فرجع(3).

و ذکر ابن حزم أنّ الخطّابیّة أعلنت ذلک نهارا بالکوفة، فخرجوا صدر النهار فی جموع عظیمة فی أُزُر، و أردِیة مُحرِمین، ینادون بأعلی أصواتهم:«لبّیک جعفر لبّیک».قال

ابن عیّاش: و کأنّی أُنظر إلیهم یومئذٍ، فخرج إلیهم عیسی بن موسی فقاتلوه فقتلهم و صلبهم(4).

و یظهر من مراجعة الروایات و قرائن أُخری أنّ هذه القضیّة وقعت قبل سنة ثمانٍ و ثلاثین و مائة بقلیل(5).

ص:107

و أفترقت الخطّابیّة بعد أبی الخطّاب عدّة فرق، کلّ منهم یدعو إلی شخص،و أظهروا مقالات فاسدة قد ذکرها أرباب المقالات، و لا غرض لنا فی ذکرها(1).

عندهم واجبة فی کلّ ما ملکوه من مال أو خراج أو غیر ذلک. و مذاهبهم فی التفویض مذاهب الغالیة المفوّضة(1).

و الذی یتحصّل من ملاحظة هذه المذکورات من حالاتهم و مقالاتهم أنّ هؤلاء کانوا یستأکلون الناس بتلک الأمور و یأخذون منهم الوجوه و الأموال.

و من هؤلاء مَن کان له وراء ذلک أغراض مخصوصة من الریاسة و غیرها، و کان أمثال هذه الأقاویل وسیلة لهم إلی استدراج العوامّ و ضعفاء العقول.

و جماعة من هؤلاء اتّخذوا الدعوة إلی ألوهیّة الأئمّة طریقا إلی نَیل مقاصدهم و مقدّمة إلی بلوغ أغراضهم، فکانوا یبثّون هذه المقالات السخیفة فی بُسَطاء العقول، ثمّ یتدرّجون بعد ذلک إلی دعوی الحلول و الاتّحاد و ادّعاء الألوهیّة لأنفسهم، و یَدْعون بعد ذلک إلی أنواع الإباحات و التعطیل(2).

و منهم محمّد بن نصیر النمیریّ الفِهریّ، کان من أصحاب أبی محمّد الحسن بن علیّ

علیه السلام، فلمّا توفّی علیه السلام ادّعی مقامَ أبی جعفر محمّد بن عثمان و أنّه النائب عن الإمام، ففضحه

اللّه بما ظهر منه من الإلحاد و الجهل، فلعنه أبو جعفر [محمّد بن عثمان رضی الله عنه(1)] و تبرّأ منه.

فقصد أبا جعفر لیعتذر إلیه، فحَجَبه وردّه خائبا.

و کان یقول بالتناسخ و الغلوّ فی أبی الحسن علیّ بن محمّد علیه السلام، و یقول فیه بالربوبیّة، و یقول بالإباحات.و کان محمّد بن موسی بن الحسین بن الفرات یقوّی أسبابه

و یعضده(2). فلمّا اعتلّ محمّد بن نصیر بالعلّة التی مات فیها قیل له و هو مُثقَل اللِّسان:لِمَن هذا الأمر بعدک؟ فقال بلسانٍ ضعیف متلجلج:«أحمد»، فلم یدروا مَن هو؟

فافترقوا بعده ثلاث فرق، قالت فرقة: إنّه أحمد ابنه، و فرقة قالت: هو أحمد بن محمّد بن موسی بن الفرات، و فرقة قالت: إنّه أحمد بن أبی الحسین بن بشیر بن زید. فتفرّقوا فلا

یرجعون إلی شیء(3).

و حکی عنه أنّه ادّعی یوماً أنّ الإله حلّ فیه(4).

و وجهائهم - أنّ روح رسول اللّه صلی الله علیه و آله انتقلت إلی أبی جعفر محمّد بن عثمان العمریّ، و روح أمیر المؤمنین علیه السلامانتقلت إلی بدن الحسین بن روح، و روح فاطمة علیهاالسلام إلی بدن بنت أبی جعفر العمریّ. فانکشف ذلک لأبی القاسم بن روح، فأنکره و أعظمه و نهی الناس

عنه، و کتب إلی بنی بسطام بلعنه و البراءة منه، و أظهر ذلک للشیعة و نهاهم عن معاشرته و کاتَبهم بالبراءة منه، و أظهر کفر هذا القول، و أنّ هذا الشخص إنّما یحکّم هذه المقالة فی قلوب هؤلاء لیجعله طریقا إلی أن یقول لهم بأنّ اللّه تعالی اتّحد به و حلّ فیه، کما یقول النصاری فی المسیح علیه السلام، و یعدو إلی قول الحلاّج. ثمّ خرج التوقیع بلعنه و البراءة منه و ممّن تابعه و شایعه و رضی بقوله و أقام علی تولّیه بعد المعرفة بهذا التوقیع(1).

خرج هذا التوقیع و أبوالقاسم حسین بن روح فی الحبس فی دار المقتدر، فأنفذ نسخة التوقیع إلی الشیخ أبی علیّ بن همام من مشایخ الشیعة الأجلاّء فی ذی الحجّة سنة

اثنتی عشرة و ثلاث مائة، فأخذ أبو علیّ هذا التوقیع و لم یَدَعْ أحدا من الشیوخ إلاّ و أقرأه إیّاه، و کوتب مَن بَعُد منهم بنسخته فی سائر الأمصار، فاشتهر ذلک فی الطائفة، فاجتمعت

علی لعنه و البراءة منه(2).

و ذکر ابن الأثیر قتله فی حوادث سنة 322ه ، و قال: و سبب ذلک أنّه قد أحدث مذهباغالیا فی التشیّع و التناسخ و حلول الإلهیّة فیه، إلی غیر ذلک ممّا یحکیه. و أظهر

ذلک من فعله أبوالقاسم الحسین بن روح الذی تُسمّیه الإمامیّة: «الباب»، منذ أوّل وزارة

حامد بن العبّاس.

قال: ثمّ اتّصل الشلمغانیّ بالمحسّن بن أبی الحسن بن الفرات فی وزارة أبیه الثالثة، ثمّ إنّه طُلب فی وزارة الخاقانیّ فاستتر و هرب إلی الموصل، فبقی سنین عند ناصر الدولة

الحسن بن عبد اللّه بن حمدان، ثمّ انحدر إلی بغداد و استتر، و ظهر عنه ببغداد أنّه یدّعی

لنفسه الربوبیّة.

و قیل: إنّه اتّبعه علی ذلک الحسینُ بن القاسم بن عبد اللّه بن سلیمان بن وهب الذی

ص:111

وَزَر للمقتدر باللّه، و أبوجعفر و أبو علیّ ابنا بسطام، و جماعة ذُکرت أسماؤهم؛ کانوا

یعتقدون ذلک فیه و ظهر ذلک عنهم. و طُلبوا أیّام وزارة ابن مُقلة فلم یوجدوا.

و لمّا کان شوّال سنة 322 ه ظهر الشلمغانیّ، فقبض علیه الوزیر ابن مقلة و سجنه،

و کبس داره فوجد فیها رِقاعا و کتباممّن یدّعی علیه أنّه علی مذهبه، یخاطبونه بما لایخاطِب به البشر بعضهم بعضا.

و بعد أن جرت أمور أفتی الفقهاء بإباحة دمه، فصُلب مع صاحبٍ له یُسمّی بابن أبی عون، و أُحرقا بالنار(1).

و قد ذکر شیئا من مذهبه الشیخ الطوسیّ و البغدادیّ و ابن الأثیر و غیرهم، یراجعها المستزید(2).

و ذکر البغدادیّ أنّه وضع لأتباعه کتابا سمّاه: الحاسّة السادسة، صرّح فیه برفع الشریعة(3).

ص:112

إذ یری من نفسه ما یری من خلقه، فلم یجز أن یتراءی لهم إلاّ فی مثل ما یعرفونه لکی یکونوا آنَس به و لما یدعوهم إلیه أسرع.

و المقالة الثانیة أنّهم قالوا:إنّه فی ذاته و کیفیّته، روح القدس ساکن فی مسکون فیه،

و المسکون حجابه، و لایوجد أبدا إلاّ بصفته و صفته غیره، غیر أنّه فی وقت احتجابه عن

خلقه لم یجد بدّا من أن یتغیّر عن ذاته و هیئته بآلة معروفة جسدانیّة. و الدلیل علی ذلک أنّه لا معروف معقول إلاّ بجسد معروف، فمَن أدرک اللّه بغیره فقد أدرکه. و اعتلّوا فی ذلک بأن قالوا: هو ظاهر من باطن، کما وصف نفسه أنّه الظاهر و الباطن ؛ فروح القدس باطنه،

و الظاهر: الجسم المضاف إلیه المستعمل الذی هو نعت له فی وقت حاجة الخلق إلیه؛ لأنّه

سبب و لایدرک لطیفه إلاّ بسبب معروف. و من السبب یکون التسبّب، فسبب الولد من التسبّب أی من البدن، لا من الروح ؛ فروح القدس ساکن باطن. و الظاهر: الجسم المضاف إلیه، فالذی یلهو و یأکل و یشرب و ینام و یسقم و یألم هو الجسم. و روح القدس لا یلهو

و لا یألم و لا یلد و لایولد.تعالی اللّه عزّ وجلّ عن ذلک و عمّا یصفون علوّا کبیرا(1).

و النشور و الثواب و العقاب و غیرها.

یقول أبو محمّد النوبختیّ عند ذکر فِرَقهم: «و منهم (الکیسانیّة و العبّاسیّة و الحارثیّة)

کان بدء الغلوّ... و هم الذین تکلّموا فی الأظلّة و فی التناسخ فی الأرواح، و هم أهل القول بالدَّور فی هذه الدار و إبطال القیامة و البعث و الحساب. و زعموا أن لا دار إلاّ الدنیا، و أنّ القیامة هی خروج الروح و دخوله فی بدن آخر؛ إن خیرا فخیر و إن شرّا فشرّ، و أنّهم مسرورون فی هذه الأبدان و معذّبون فیها و هی الجنّات و هی النار، و أنّهم یتنعّمون فی

الأجسام الحسنة الإنسیّة، و یُعذّبون فی الأجسام الردیئة المُشوَّهة، محوّلین من بدنٍ إلی بدن علی قدر أعمالهم و ذنوبهم و إنکارهم لأئمّتهم و معصیتهم لهم. و إنّما تفسد الأبدان

و تخرب إذ هی مساکنهم فتتلاشی وتفنی، و ترجع إلی قالب آخر مُنعَّم أو مُعذَّب.

قال: و یزعمون أنهم یتعارفون فی انتقالهم فی کلّ جسد صاروا فیه علی ما کانوا علیه، إلی غیر ذلک ممّا أورده من مقالاتهم و سخافاتهم(1).

و قد تأوّلوا بعض الآیات و الروایات الواردة فی تلک الأقاویل، فأوّلوا مثلاً قول اللّه

تعالی: «فی اَیِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَکَّبَکَ»(2) الوارد فی مقام المِنّة علی العباد، بأن قالوا: جمیع الطیر و الدوابّ و أمثالهما کانوا أناسا حَلَّت فیهم أقدار من اللّه عزّ و جلّ ؛ فمن کان صالحا جعل روحه - بعد خراب قالبه و هدم مسکنه - إلی بدن صالح فأکرمه و نعّمه،و من کان منهم کافرا عاصیا نقل روحه إلی بدن خبیث مُشوّه، و فی أقبح صورة یُعذّب(3).

و تأوّلوا الحدیث المرویّ: «الأرواح جنود مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، و ما تناکر منها اختلف»علی تعارفهم فی انتقالهم فی الأجساد(4).

ص:115

و ذکر بعض المؤلّفین أنّهم أصحاب أبی الخطّاب، و أنّهم زعموا أنّ اللّه عزّ وجلّ هو

محمّد، و أنّه ظهر فی خمسة أشباح و خمسة صور مختلفة؛ ظهر فی صورة محمّد و علیّ و فاطمة و الحسن و الحسین، تعالی اللّه عن ذلک(1).

ویظهر أنّ هذه الفرقة بهذه السمة کانت موجودة و متستّرة فی ضواحی بغداد و البصرة و أطراف بلاد العراق حوالی القرن الخامس و بعده. فیاقوت الحمویّ یذکر فی ترجمة القاسم بن علیّ الکرخیّ المنسوب إلی کرخ البصرة و ولدیه: أنّهم کانوا یدینون بذلک(2).

و الشیخ عند ذکره بعض المذمومین مِن مدّعی النیابة فی عصر الغیبة یقول: إنّ أبا دُلَف محمّد ابن المظفّر الکاتب کان فی ابتداء أمره مُخمّسا مشهورا بذلک؛ لأنّه کان من تربیة الکرخیّین و تلمیذهم، و کان الکرخیّون مُخمّسة لایشکّ فی ذلک أحد من الشیعة، و قد کان یعترف بذلک(3).

خَفِّفَ عَنْکُمْ»(1)، و قالوا: خفّف عنّا بأبی الخطّاب و وضع عنّا الأغلال، یعنون الصلاة

و الحجّ و سائر الفرائض،و أنّ من عرف النبیّ و الإمام فله أن یصنع ما أحبّ(2).

و منشأ هذا القول أنّ هؤلاء کان قَرَع أسماعهم أنّ معرفة الرسل هو أصل معرفة أحکام الدین، و هی فروع له. و معنی ذلک کما هو ظاهر أنّ معرفة أحکام الدین و الشریعة

لا تتیسّر إلاّ بعد معرفة الرسول و ثبوت نبوّته، و أنّه هل هو صادق فی دعواه أم لا؟ و هذا کما تراه عین مایعبّر عنه المتکلّمون فی کتبهم أنّ التکلیف لایصحّ إلاّ بالرسل، و أنّ العقل لاینفکّ عن سمع(3).

فأوّلوا هذا و أمثاله إلی ما یوافق أغراضهم، ثمّ فرّعوا علیه ما یریدونه من الإباحات و إسقاط التکالیف، و أنّ معرفة النبیّ و الإمام تغنی عن سائر التکالیف و تسقطها عنهم(4).

ذکرنا ذلک لنبیّن للناظر تمویههم و سوء طریقتهم فی تأویل النصوص و الآثار و حملها علی غیر محاملها. و فی هذا القدر کفایة فی الإشارة إلی أنموذج معتقداتهم و آرائهم، و لا نطیل بأزید من ذلک.

ص:118

و دعائه علیه بأن یذیقه اللّه حرّ الحدید و إهداره دمه. و أمره لمن ظفر به أن یقتله. و قد ظهرت استجابة دعائه، فقُتل شرّ قتلة بعد أن عذّب بألوان العذاب.

و کان محمّد بن الفرات یکذب علی الرضا علیه السلام و یدّعی أنّه نبیّ و یدّعی البابیّة لنفسه، فقتله إبراهیم بن المهدیّ(1).

و کان من هؤلاء الکذّابین فارس بن حاتم القزوینیّ، و کان فتّانا یفتن الناس و یدعوهم إلی البدعة، فلعنه الإمام أبو الحسن العسکریّ علیه السلام و أهدر دمه، فقتله رجل من الشیعة من أصحابه اسمه جُنید(2).

و ممّن خرج التوقیع بلعنه من هؤلاء : الشریعیّ، و محمّد بن نصیر النمیریّ، و أحمد بن هلال الکرخیّ، و الشلمغانیّ، و غیرهم.

و قد کان أمثال هؤلاء الأشخاص یظهرون أنفسهم عند الشیعة بالولاء للأئمّة و الاختصاص بهم، و یدّعون مقام النیابة و الوکالة عنهم؛ إذ کان للأئمّة فی بعض الأوقات

وکلاء منصوبون کانت الشیعة ترجع إلیهم فی أمورهم و سؤالاتهم للأئمّة، و یصدر الجواب

علی أیدیهم(3). و کان ذلک فی أوقات و أزمنة مخصوصة عند اشتداد أمر التقیّة و الخوف من ظهور رجوع الناس إلیهم، و تطّلع الخلفاء المعاصرین إلی الشیعة و حرکاتها، کما سنبسطه فی محلّ مناسب.

و کان عَظُم أمر الشیعة فی ذلک الأوان حتّی أنّه کان بین رجال الدولة و بطانتها من الوزراء و أعیان الناس و وجوههم جماعة منهم، فکان بعض من یدّعی المقالات لنفسه یتقرّبون منهم و یظهرون عندهم الاختصاص و الاطّلاع علی الأسرار و العلوم، و یُحکِمون أقاویلهم فی قلوبهم و یجرّونهم إلی الضلال و آراء أهل التعطیل، من الإباحة

و القول بالحلول و نظائرهما(1).

و قد ادّعت الغلاة النیابة و البابیّة(2) لجماعة من رجالهم و رؤسائهم، و وضعوا أخبارا فی مدح هؤلاء الأشخاص و إثبات المقامات العظیمة لهم. و ذلک فی مقابلة ما کان

یصدر من اللَّعن و البراءة منهم و من أمثالهم. و کانوا یموّهون للعوامّ بأنّ تلک البراءة

و اللّعن لهؤلاء لها جهات أخری، و أنّ ظواهرها غیر بواطنها. و کانوا یموّهون أیضا أنّ

الوکلاء المنصوبین الذین کانت الشیعة تعترف بشأنهم و جلالة أقدارهم إنّما هم وکلاء الأموال و منصوبون لأخذ الحقوق الواجبة من الناس، فکانوا یوقعون الشبهة فی أذهان العوامّ لأجل هذه التشکیکات(3).

ص:121

جابر بن یزید الجعفیّ، فخدعهم بذلک حتّی ردعهم عن جمیع الفرائض و الشرائع و السنن. و ادّعی أنّ هذا مذهب الجابرَین؛ و هما قد کانا بریئَین من ذلک(1).

و من هنا یُعرف سرّ ما یُری من أنّ أغلب الأخبار المُشعرة بالغلوّ و الارتفاع منسوبة إلی جابر الجعفیّ، و مُنهیة إسنادها إلیه(2).

و ممّا زاد فی تفاقم الأمر أنّ بعض هؤلاء الأشخاص کان لهم حال استقامة رووا فیها شیئا من الأحادیث، ثمّ خلّطوا و ظهر منهم الغلوّ. و بعضهم ممّن تثق الشیعة بدیانته و تطمئنّ إلی أقواله، کالشلمغانیّ الذی کان فی بدو أمره مستقیم الطریقة متقدّما فیهم، ثمّ

ص:123

حمله الحسد لأبی القاسم الحسین بن روح النوبختیّ علی ترک الطریقة المستقیمة و الدخول فی المذاهب الردیّة، کما سبقت الإشارة إلیه(1).

و من هذا الصنف من الأشخاص علیّ بن أحمد أبو القاسم الکوفیّ، فقد کان إمامیّا مستقیم الطریقة، ثمّ خلّط و أظهر مذهب المُخمِّسة، و صنّف کتبا فی الغلوّ و التخلیط.

و ذکروا أنّ له مقالة تُنسَب إلیه، و الغلاة تدّعی له منازل عظیمة(2).

و إخراج أحمد بن محمّد بن عیسی إیّاه عن قمّ، ثمّ إعادته له و اعتذاره عنه، معروفة(1). و لأجل هذا التشدید و الإنکار من القمّیّین نَسَب جمعٌ آخر من العلماء مشایخَ القمّیّین

إلی التقصیر المضادّ للغلوّ(2).

و تصانیف علماء الشیعة من لدن عصر الأئمّة علیهم السلام إلی الأعصار المتأخّرة فی الردّ علی الغالیة و الکشف عن فساد أقاویلهم و تزییف آرائهم، ممّا لایحصی. یجدها المراجع لفهارس کتب الرجال و مصنّفاتهم(3).

ص:125

ص:126

ص:128

و إرادته تعالی لأفعاله هی نفس أفعاله و إرادته لأفعال خلقه إنّما هی أمره بها(1).

و رغّب فیها و أعان علیها، و نهی عن المعصیة و سَخِطها و زَجَر عنها(1).

ذلک ظاهرة مذکورة فی کتبهم الکلامیّة و غیرها(1).

و لقد کانت مسألة الإمامة أعظم مشکلة واجهها المسلمون بعد وفاة النبیّ صلی الله علیه و آله. و علی النظر و البتّ فیها کان یتوقّف نجاحهم فی مصائر أمورهم، فأحسّ المسلمون بخطورة الموقف و لزوم تعیین من یتعهّد أمورهم و یرشدهم إلی طریق الصلاح و الهدایة فی أمور الدین والدنیا، و لکن وقع الاختلاف فی تعیین ذاک القائم فی مقامه:

ففر قة شایعت أمیر المؤمنین علیه السلام و قالوا: إنّ الخلافة له علیه السلام؛ لفضله و سابقته فی الإسلام، و مواقفه الخطیرة المشهورة فی تأییده، و لفضائله المعروفة التی اختصّ بها و لم یشارکه أحد فیها.

و قالوا: إنّ هذا الأمر ثابت له بأمر من اللّه عزّ وجلّ لنبیّه صلی الله علیه و آله بنصبه خلیفة من بعده، و إنّه صلی الله علیه و آلهنصّ علیه و قلّده الأمر و عرّف الأمّة إمامته و أعلمهم بنصبه لذلک المقام، فلا یستحقّه أحد سواه(1). و کان القائلون بهذه المقالة جماعة من کبار الصحابة و أجلاّء بنی هاشم و غیرهم(2).

و افترقت فرقة أخری ادّعَوا أنّ أمر الخلافة یجب أن یکون لهم، و هی فرقة الأنصار؛ لما لهم من الفضل فی تأیید الدین و تقویة الإسلام و نصرتهم لرسول اللّه صلی الله علیه و آله، و المنع له و لأصحابه، و الإعزاز لدینه و الجهاد لأعدائه، حتّی توفّی و هو عنهم راضٍ و بهم قریر

العین(3).

فأسرعت الأنصار بعد وفاته صلی الله علیه و آله إلی عقد اجتماع فی محلّ لهم یعرف بسقیفة بنی ساعدة، فتداولوا الکلام فی أمر الخلافة و مالوا إلی البیعة لسعد بن أبی عُبادة الخزرجیّ سیّد

الخزرج. و اتّصل الخبر إلی جمع من المهاجرین فأسرعوا إلی السقیفة، و وقع بینهم و بین

الأنصار کلام و حوار طویل، حتّی قال قائلهم: «منّا أمیر و منکم أمیر»، فاحتجّ أبو بکر من المهاجرین علیهم بحدیث رواه عن رسول اللّه صلی الله علیه و آلهو أنّه قال: «الأئمّة من قریش»،

فأذعنت الأنصار فی آخر الأمر إلی رأی المهاجرین إثر تخاذلٍ وقع بینهم یرجع أصله إلی

العصبیّة القبیلیّة، لأجل منافسة معروفة کانت واقعة بین الأوس و الخزرج قبل الإسلام من النزعات الجاهلیّة التی کانت محاها الإسلام و لم یذهب أثَرُها من نفوسهم (1).

بایع جمهور الناس بعد تلک الحادثة أبا بکر بن أبی قحافة التیمیّ القرشیّ، و تمّ الأمر له ظاهرا. و مع ما اتّفق له من الفوز و النجاح و تجمهر الناس حوله و إخضاعهم لمن تأبّی

عن البیعة ظاهرا، فإنّ اختلافات الأنظار و حزازات النفوس لم تعدم و لم تفقد من البین،

بل بقیت علی حالها و صارت منشأَ نظریّات تولّد منها الاختلافُ العظیم الموجود أثَرُه إلی الآن بین المسلمین.

طریق وجوبه، و هل هو العقل أو الشرع أو کلیهما؟ و فی أنّ وجوب نصبه یعمّ الأوقات

و الأزمان کلّها أم یختصّ بوقت خاصّ؟ و هل الإمامة لطائفة و قبیلة خاصّة أو تصلح فی أفناء الناس کلّهم؟

و کذا وقع الخلاف فی طریق ثبوتها : هل هو النصّ أو الاختیار أو الإرث؟ و فی وجود النصّ و عدم وجوده؟ و هل هو نصّ جلیّ أو خفیّ؟ و فی المنصوص علیه مَن هو حینئذٍ؟

و لسنا بصدد الإفاضة فی هذه المناحی المختلفة من هذه المسائل؛ فإنّ لها مواضع معروفة من کتب الکلام و المصنّفات فی مسألة الإمامة(1). و إنّما نرید الإشارة إلی مذهب

الشیعة فی هذه المسألة و متفرّعاتها و ما یخالفون فیها سائر الفرق.

و امتدّت سلسلة التکالیف(1).

و یقولون : إنّ الإمامة لا تصلح إلاّ فی قریش و خاصّة فی بنی هاشم منهم، و إنّها بعد

رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی أمیر المؤمنین علیّ علیه السلام، ثمّ فی الأئمّة المعروفین من ولده(2).

و قالوا: إنّ الإمامة لیست من الأمور التی تُفوَّض إلی نظر الأمّة حتّی یتعیّن القائم

بالأمر باختیار منهم و بآرائهم، بل هی من تمام الدین، و لایجوز للنبیّ صلی الله علیه و آله إغفالها و تفویضها إلی آراء الناس، و إنّه صلی الله علیه و آله لم یَمضِ و لم یفارق الدنیا حتّی بیّن للأمّة من یقوم مقامه، کما بیّن معالم الدین کلّها و أوضح لهم مناهجه و دلّهم علی سبیل الرشد، و إنّه علیه السلام هو الإمام الذی عیّنه النبیّ صلی الله علیه و آله بعده بنصوص معروفة جلیّة و خفیّة(3).

و قالوا: إنّ الإمامة مستمرّة فی عقبه فی الإمامَین الحسن و الحسین علیهماالسلام بنصّ من النبیّ صلی الله علیه و آلهو نصّ أمیر المؤمنین علیه السلام، ثمّ بعد الحسین علیه السلام فی الأئمّة من ولده، بنصّ کلّ سابق منهم علی لاحقه، و اجتماع أوصاف الإمامة فیهم من العلم و الکمال و الفضل و سائر الأوصاف التی یجب وجودها فی الإمام و عدم ثبوتها فی مَن سواهم، علی ما تقتضیه أدلّة العقل و النقل(4).

معنیً آخر، هو القول المنبئ علی سبیل الإظهار فی المَقول فیه. و إن شئت التعبیر بأوضح

من تلک العبارة قلت: هو اللفظ الدالّ علی معنی غیر محتمل النقیض.

و ینقسم النصّ بحسب الاصطلاح الخاصّ بأهل العلم فی هذا المقام إلی جلیّ

و خفیّ.

فالجلیّ هو القول الذی ظاهر لفظه ثبوت الإمامة و الخلافة، و الذی یَعلم مَن سمعه من النبیّ صلی الله علیه و آله مراده منه بالعلم الضروریّ الذی لایقبل الشکّ و الارتیاب و یقطع بذلک.

و النصّ الخفیّ هو ما لا یُقطع فیه بأنّ سامعیه قد علموا و فهموا منه هذا المعنی بالضرورة(1).

فالإمامیّة یثبتون وجود النصّ بکلا قسمَیه فی حقّه علیه السلام، و یقولون: إنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله نصّ علی إمامته و خلافته علی الأمّة من بعده، و عقد له الأمر و عرّف الأمّة ذلک علی وجه غیر قابل للارتیاب، کما أنّهم یُثبتون له کثیرا من النصوص الداخلة بحسب الاصطلاح فی

القسم الأخیر.

و هم یصحّحون ما یدّعونه من ثبوت النصّ الجلیّ بأنّ الشیعة مع کثرتهم و اختلاف طبقاتهم و تباعد أمکنتهم ینقلون ذلک عن أسلافهم نقلاً متواترا قاطعا للعذر، و هم علی

مثل حالهم و صفاتهم ینقلون ذلک طبقة عن طبقة إلی أن یتّصل النقل بالنبیّ صلی الله علیه و آله و أنّه نصّ علی إمامته و استخلافه إیّاه علی أمّته بألفاظ صریحة فی ذلک المعنی، مثل قوله صلی الله علیه و آله: «سَلِّموا علیه بإمرة المؤمنین»(2)، و قوله صلی الله علیه و آله مشیرا إلیه و آخذا بیده: «هذا خلیفتی من بعدی، فاسَمعوا له و أطیعوا»(3).

و قالوا: لایمکن أن یکون مثل هذا النقل المتواتر ممّا یتّفق صدفةً و اتّفاقا، و لا أن

ص:138

یکون مستندا إلی تواطؤ و تعاقد من جماعة مخصوصین، و لا لشبهة حاصلة خَفِی وجهها لکلّ أحد؛ فإنّ کلّ ذلک ممّا تُبطله العادات. مع أنّه لو فُرض حصول شیء ممّا ذکرنا، لظهر الحال فیه بعد ذلک، لاسیّما فی مثل هذا الخبر ؛ لکثرة الدواعی الموجبة لظهور الحال

و انتشار جلیّة الواقع من جهة ما کان بین الشیعة و مخالفیهم من الخصام، و ما کان مِن جِدّ

هؤلاء فی الطعن علی دعوی الشیعة و الثلم لها و تطلّب ما یدحضها و یدفعها ؛ إذ کلّ ذلک

من أوکد الأسباب لظهور حال الخبر و انجلاء الواقع فیه.

و فی انتفاء کلّ ذلک و وصول هذا النصّ و خبره إلینا علی الحال الذی عرفناه دلیل علی صحّة ما تنقله هذه الجماعات الوفیرة خَلَفا عن سلف و طبقةً عن طبقة.

و فی الحقیقة، إذا لوحظ حال هذا التواتر الحاصل فی هذا الخبر مع ملاحظة حال الشیعة من لدن العصر الأوّل، و ما ابتُلیت به من الاضطهاد و التعب و حال التقیّة التی کانت مقرونة [بها] فی غالب الأعصار، و عصبیّة العامّة و تحاملهم علی الشیعة و ظهور کلمة مخالفیهم، ثمّ قِیس ذلک إلی سائر الأخبار التی ادُّعِی تواترها و صارت مقبولة بهذه الصفة عند الناس؛ ظهر أنّ ذلک أوجب للعلم من تلک الأخبار.

و بعض متأخّری المتکلّمین من المعتزلة حیث لم یجدوا مناصا عن لزوم ما تحتجّ به الشیعة فی ذلک الباب، راموا القدح فی ذلک و إخراجه عن حریم التواتر، فادّعوا أنّ دعوی

النصّ الجلیّ و القول به لم تکن موجودة عند الشیعة، و لم تکن دائرة علی ألسنتهم قبل

زمان ابن الراوندیّ و أبی عیسی الورّاق، و من قبلهما هشام بن الحکم(1).

و لکن مَن راجع الأخبار و الآثار و مقالات الشیعة المأثورة قبل زمان المذکورین، و ما دار علی ألسنتهم من الکلام و الشعر و الاحتجاج فی هذا المعنی ینکشف له ضعف هذه الدعوی و سقوطها. و هل التشیّع و التدیّن بمذهب الشیعة إلاّ عبارة عن هذا المعنی

و القول به؟ فیلزم إنکار وجود مذهب الشیعة و طریقة التشیّع قبل زمن هؤلاء!!

و الحقّ أنّ دعوی الشیعة لذلک المعنی مقارن لأوّل ظهور التشیّع(2)، و لکن هذه

ص:139

العبارات و الألفاظ کتقسیم النصّ إلی جلیّ و خفیّ و نظائرها، اصطلاحات حادثة بعد تدوین علم الکلام و تکوّن مسائله، و احتدام المجادلات المذهبیّة بین مختلف فرق المسلمین.

فأصل وجود الدعوی و تدیّن الشیعة بها ممّا لایقبل الإنکار إلاّ مِن غافل أو مُکابر. و منشأ توهّم هؤلاء أنّهم لم یجدوا للشیعة کلاما مجموعا فی إثبات النصّ و تهذیب طریق

المناظرة فیه متقدّما علی زمان المذکورین، فحسبوا أنّ ابتداء القول به کان منهم، و غیر

متقدّم علی زمانهم. و قد بیّنّا فساد هذا الزعم، و فی مراجعة الآثار المرویّة کفایة. و کم له من نظائر فی أقاویل الفرق المختلفة؛ کأقاویل المجبّرة و المرجئة و الخوارج و غیرهم ممّن تقدّم ظهور مقالاتهم بأزمنة بعیدة علی ظهور المصنّفات و تهذیب طرق الجدال فیها. و هذا أمر یغنیه وضوحه و ظهوره عن الإطالة فیه(1).

و المحلّ الذی وضعوها فیه، فلعلّه ینکشف لدیک شیء من الحقائق و الأوضاع، و تعرف من خلالها الأسباب المختلفة التی کانت علّة لاتّفاقهم علی صرف الأمر عن أمیر المؤمنین علیه السلام و إجماعهم علی بیعة أبی بکر(1). و تعرف أیضا أنّ الأمر لم یکن شیئا

مفاجئاً جرت علیه أنظار القوم فی الحال، بل کان نتیجة أمور و أفکار و مواضعات سابقة، و ولیدة أغراض متنوّعة انجرّ الأمر بسببها إلی ما جری. و ستقف علی شیء من التفصیل حینما نسرد علیک أخبار السقیفة و قضایاها، و ما جری علی الشیعة من الاضطهاد فی موضعه اللائق به.

و تقف أیضا علی أنّ الصحابة الموجودین آنذاک لم یکونوا بأجمعهم دافعین للنصّ الواقع بحضرتهم و بمرأیً و مسمع منهم، و إنّما ساعد القومَ علی ما فعلوه مسارعةُ الأنصار

و مبادرتهم لنیل أمر الخلافة، و هم أهل القوّة و العدّة - و الناس فی ظلالهم و أفنائهم - إلی ادّعاء الأمر، و عقد اجتماعهم المعروف فی السقیفة.

و من الغریب أن یکون من الأسباب الداعیة لهم إلی المسارعة فی ذلک علمُهم و اطّلاعهم علی نوایا آخرین فی ذلک و الاستبداد بأمر الخلافة، فأسرعو إلی السقیفة و تداولوا الکلام، و اختلفت الکلمة بینهم و اتّصل الخبر إلی بعض المهاجرین، فحضروها

و نازعوا القوم و جادلوهم و قَوَوا علیهم بسبب التخاذل و التحاسد الواقع بین الأنصار

أنفسهم(2). و انضاف إلی ذلک تشاغل أمیر المؤمنین علیه السلامو سائر بنی هاشم بأمر وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آلهو عکوفهم علی تجهیزه، فسنحت فرصة تمّ الأمر فیها لأبی بکر، و جری الأمر علی الحال الذی یعرفه التاریخ(3).

ص:141

وقعت هذه الواقعة، و ساد المجتمع الإسلامیّ إثر هذه الفتنة المفاجئة حال اندهاش و سکوت. فأمسک المتغلّبون مجاری الأمور بأیدیهم، و أداروها علی ما شاءوا و شاءت لهم الظروف و الأحوال. و سکت أناس آخرون خوفا أو رجاء، و دخلت الشبهة فی ذلک علی جماعة حیث ظنّوا أنّهم إنّما فعلوا ذلک لعذر یسوغ لهم معه ما فعلوه. و تکلّم منهم

بعض من عرفوا الحقّ بما هو معروف من کلامهم(1). و لمّا رأوا أنّه لایسعهم إلاّ التسلیم کفّوا عن منازعة القوم و مجاراتهم فی الظاهر، و لم یتمکّنوا إلاّ مِن نقل ما علموه إلی مَن یثقون به و یأمنون جانبه(2).

و إنّا لو سبرنا آراء الناس و نزعات الأهواء و خلجات النفوس حینذاک لوجدناها علی أنواع: فمنهم المبغض له علیه السلامالشانئ له، فکان ما وقع موافقا لرغائبه.

و منهم فئة الرؤساء العاقدین للأمر و المسبّبین له، فاحتجّوا علی الناس فی تصحیح ما فعلوه مخافة وقوع الفتنة، و تأوّلوا أمر النصّ بنحو من الرأی زاعمین أنّه یمکن أن یترک لأجل مصلحة راجحة، و برّروا فعلهم فی ذلک بزعم أنّ العرب کانوا لایطیعونه إذا صار الأمر إلیه(3).

و منهم من اشتبه علیه الأمر لأجل ما صنعوه حیث رأوا هؤلاء القومَ، و هم من زعماء الصحابة وقادة الأمّة، قد اتّفقوا علی ذلک، فزعموا أنّهم فعلوا ما فعلوه لأجل نصٍّ سمعوه

من النبیّ صلی الله علیه و آله. ناسخ لما سمعوه من النصّ الصریح فی أمیر المؤمنین علیه السلام، لا سیّما أنّ ما رواه أبو بکر من حدیث: «الأئمّة من قریش»؛ فإنّ کثیرا من الناس توهّموا أنّه ناسخ للنصّ

السابق(4)، و أنّ لهم أن یقیموا إماما من أیّ بطن من بطون قریش أرادوا نصبه، فأحسنوا الظنّ بعاقِدی البیعة لأبی بکر و قالوا: هم أعرف بغرض رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فلذلک أمسکوا

ص:142

و کفّوا عن الإنکار.

و من هنا ثبتت العقائد علی موالاة القوم و تصویب أعمالهم، و جری الأمر فی مجاریها و استأنس بها الناس، لاسیّما أنّهم کانوا لایخرجون فی أفعالهم و أعمالهم عن

طریق الدیانة، و یقیمون شعائرها.

و اشتغل المسلمون بعد ذلک بالفتوح و الغزوات، و جاءتهم الغنائم و الأموال، و ملکوا البلاد،و تمتّعوا بکنوز الأکاسرة و القیاصرة و أملاکهم، و تبدّلت الأحوال و المعائش، فمالت إلیهم القلوب و حسنت بهم الظنون، و اتّخذت سیرة القوم مثلاً أعلی لأفاعیل الناس یجرون علیها و ینکرون علی من یحید عنها و یخالفها. فتمادی الزمان علی تلک الحال، و آل أمر النصّ إلی خفاء و هجران و طیّ و نسیان عند الجمهور و السواد

من الناس، و هم أتباع مَن غلب، فاستحکمت الشبهة فی النفوس، و لم یکن فی وسع العارفین به إلاّ نقل ذلک إلی من یثقون به حیث تواتر الخبر منهم إلی أخلافهم(1).

و من أقوی الأسباب التی ساعدت القوم علی ما فعلوه هو کفّ أمیر المؤمنین علیه السلام عن منازعتهم و معارضتهم فی أمر الخلافة، حیاطةً علی الدین و إشفاقا علی الإسلام، و خوفا

من ارتداد الناس - و هم حدیثو عهد بالدیانة - و من رجوعهم إلی الجاهلیّة الأولی(2). ثمّ

مضت خلافة السابقین علی أمیر المؤمنین علیه السلام و نشأت الأجیال الآتیة علی ذلک حتّی اتّخذت ذلک عقیدة ثابتة لایعدلون عنها و ینصبون العداوة لمن خالفها، و اشتدّت الحالة

بعد أن آلت الدولة بعد عصر الراشدین إلی الأمویّین الناصبین العداء لأهل البیت النبویّ

و لشیعتهم و موالیهم(3).

ص:143

هذا کلّه فی النصّ الجلیّ الذی تدّعیه الشیعة، و قد عرفت الحال فیه و مساعدة الآثار علی صحّته.

و أمّا النصوص الخفیّة الأخری فهی أیضا کثیرة تکفّلت مؤلّفاتهم فی الحدیث و الکلام و الإمامة بإثباتها، و لایسع المقام للتعرّض لها(1).

مُلئت ظلما و جورا(1).

و مسألة الغیبة ممّا طال الحِجاج و الخصام فیها بین الشیعة و مخالفیهم من لَدُن عصر الغیبة إلی الآن، و مخالفوهم یستبعدون ذلک و یحیلونه، و یرونه خلاف ما هو المعهود من

أحکام العادات و الطبائع(2).

و الغیبة التی تدّعیها الإمامیّة للإمام الثانی عشر فرع لأصول ؛ إنّ صحّت تلک الأصول و تقرّرت حججها و وضحت براهینها من العقل، فإنّ الأمر ینساق إلی القول بالغیبة سَوقا ضروریّا لایقع فیه ارتیاب.

فهم یقولون [بمقدّمتین] :

[الأولی]: إنّ أدلّة العقل دلّت علی وجوب الإمامة، و هذا ممّا تسلّمه أکثر أهل القبلة و تلقّته جماهیر علماء الأمّة بالقبول، و لم ینازع فیه إلاّ شُذّاد من الخوارج لا اعتداد

بخلافهم(3)؛ لاحتیاج الناس کلّهم إلی سلطان یکونون بوجوده أقرب إلی الصلاح و أبعد من الفساد، و لحاجة الکلّ إلی شخص یقوم بالسیاسات؛ من تأدیب الجُناة و تقویم العُصاة، و تعلیم الجهّال، و إقامة الحدود، و تنفیذ الأحکام، و فصل الخصومات، و سدّ

الثغور، و نصب الولاة، و الذبّ عن الدیانة، و حفظ بیضة الإسلام، إلی غیر ذلک من المصالح العامّة(4).

[المقدّمة الثانیة] : یدّعون بعد ثبوت ذلک أنّ هذا الإمام الذی ثبت وجوب وجوده فی کلّ زمان من أزمنة التکلیف، یجب أن یکون معصوما من الخطأ مأمونا منه کلّ زلل، غنیّا عن سائر الناس فی کافّة ما یحتاج إلیه من العلوم و الأحکام. و هذه المقدّمة

هی التی ینازعهم فیها سائر من یخالفهم من فرق الأمّة. و قد تکفّلت کتب الکلام و المؤلّفات الخاصّة بمسألة الإمامة، ببیان ما لهم فی إثبات هذه المقدّمة من حجج العقل و أدلّة

ص:145

النقل(1).

و بعد ثبوت هاتین المقدّمتین لامجال إلاّ للمصیر إلی إمامة من یقولون بإمامته؛ إذ الصفات التی دلّ العقل علی وجودها فی إمام کلّ زمان ممّا یتعرّی عنه غیره، حیث إنّ من

یدّعی الإمامة أو یُدّعی له ذلک، لا قطع بعصمتهم، و لا هم یدّعون تلک لأنفسهم، و لایدّعیها لهم أشیاعهم و متابعوهم(2).

فمن یذهب إلی خلاف مقال الإمامیّة هو بین مَن ینفی وجوب العصمة للإمام رأسا، أو یثبت الإمامة لمن یعترف بنفی تلک الصفة فیه. و قد ثبت اعتبارها بحجج العقول، فلم

یَبقَ فی أقوال المختلفین فی باب الإمامة ما ینطبق علی ما یقتضیه الدلیل العقلیّ إلاّ قول الإمامیّة فیجب الالتزام به، و إلاّ لزم خروج الحقّ عمّا علیه الأمّة. و هذا الأصل لایحتاج

معه فی باب الإمامة إلی شیء آخر من النصوص و غیرها ؛ لقیامه بنفسه فی قضیّة العقول،

و صحّته بثابت الاستدلال(3). لکنّهم یثبتون إمامته عجّل اللّه تعالی فرجه و إمامة سائر الأئمّة بنصوص خاصّة، عن طرق قاطعة للعذر مُبیَّنة فی محالّها(4).

و قد استفاضت روایات کثیرة أخری من طرق هذین الفریقین المختلفین، مشعرةً بأنّ النبیّ صلی الله علیه و آله نصّ علی أنّ الأئمّة بعده اثنا عشر إماما(1). فکلّ من قال بذلک یقطع بالأئمّة

الاثنی عشر الذین تقول الإمامیّة بإمامتهم، إذ مَن یخالفهم فی ذلک لایقصر الإمامة علی هذا العدد، بل یثبتها لغیرهم و یجوّز الزیادة علیه(2).

و إذا ثبت بالأخبار القاطعة للأعذار، هذا العدد المخصوص فی تعیین أشخاص الأئمّة، و ثبت بمقتضی البرهان وجوب الإمامة و عدم جواز خلوّ الزمان من إمام معصوم لایجوز علیه الخطأ و الزلل؛ ثبت قولهم فی ذلک.

و قولهم بغیبة إمام هذا الزمان عجّل اللّه تعالی فرجه الشریف فرع لهذه الأصول التی ذکرناها، فإنّه متی تحقّق وجود إمام معصوم بعینه و رأیناه غائبا غیر ظاهر فلا بدّ أن تکون غیبته و فقدُ تصرُّفِه - مع تعیّن فرض الإمامة علیه - بسببٍ اقتضی ذلک، و حالٍ أوجبه،

ص:147

و مصلحة استدعته، و حِکَم استأثر اللّه تعالی بعلمها(1).

و الأئمّة من لدن زمن أمیر المؤمنین علیّ بن أبی طالب إلی زمن الإمام الحادی عشر أبی محمّد العسکریّ سلام اللّه علیهم نَصَّ کلُّ واحد منهم علی الإمام القائم بعده. و هم کما نصّوا علی ذلک أخبروا خاصّة شیعتهم و الثقات من أصحابهم بأنّ الإمام الثانی عشر تکون

له غَیبة طویلة یرجع فیها أکثر مَن یقول بإمامته لطول الغیبة، و أنّه هو الإمام المنتظر

لإظهار العدل و قمع الظلم و إصلاح الفاسد من الأمور(2).

فکان الخبر بغیبته ثابتا قبل وجوده، و الآثار بذلک متناصرة عمّن تقدّمه من أئمّة آل محمّد صلی الله علیه و آله قبل وقوعها بعصر طویل، و رواها عنهم الثقات الأثبات، و أُثِر ذلک عن الصادقین فی المقال و المتحرّزین عن الإفک و الکذب، و لم یکن لهم فی روایة تلک الآثار غرض سوی حفظها و ضبطها(3).

و قد حفظوها فی أصولهم و دوّنوها فی مصنّفاتهم، من قبل أن تقع الغیبة بأزمنة طویلة تقرب من مأتی سنة. و قد بقی بعض هذه الکتب المؤلّفة إلی زماننا، و ضاع کثیر منها فیما ضاع من الآثار، و بقیت عن بعضها منقولات فی کتب قد تُلقّیت عن مؤلّفیها بطریق الروایة و الإسناد الصحیح. و قد علم صدق مضامین هذه الأخبار المرویّة و صحّتها - عند زمان الغیبة و وقوعها - علی ما أخبروا به(4).

فکانت الشیعة من قدیم الزمان و من عصر الأئمّة السابقین یتوقّعون وقوع هذه الغیبة و یتوخّونها، و أنفسهم منبعثة منتظرة لها مترقّبة لها، لِما یرجون بعد ذلک من ظهور العدل

ص:148

بقیامه(1). و کان الخلفاء المعاصرون لهم یتحقّقون ذلک من حال الشیعة و عقیدتهم و انتظارهم لحصولها. و هو الذی کان یبعثهم علی المراقبة للدعوة الشیعیّة و التطلّع إلی

حرکتها و السعی الحثیث وراءها(2).

و لو أنّک أخذت بمجاری التاریخ لاطّلعتَ علی مبلغ المخافة الحاصلة لهم من تلک الجهة. و لذلک کانوا لایکتر ثون بخروج مَن یخرج علیهم من سائر الطالبیّین و العلویّین

القائمین بغیر هذه الدعوة؛ لعلمهم بعدم تمایل الرأی العامّ إلیهم، و قلّة من یأوی إلی

جانبهم. فکان سبیلهم فی ذلک سبیل من یخرج علی الملوک و ینازعهم فی طرف من سلطانهم و ملکهم، فکان یسهل لهم رتق الفتق و تلافی الخطر من ناحیتهم. و إنّما الذی کانوا یؤرّقهم هو الدعوة الشیعیّة التی ما زالت تقلق أفکارهم، و أمر هذه الغیبة التی کانت الأخبار بها شائعة ذائعة بین الشیعة تنتظرها و تترقّب وقوعها علی الکثرة الحاصلة فیهم،

و تفرّقهم فی البلاد و الأمصار، و تمایل جمع کثیر من أولیاء الأمور و قادة الأفکار إلیها

و تدیّنهم باطنا بها.

ص:149

سیمرّ علیک فی القسم الخاصّ بتاریخ العلوم الإسلامیّة عند الشیعة(1) أنّ رواة

الآثار و السنن من الشیعة کانت لهم أصول و مصنّفات جمعوا فیها الروایات التی کانوا سمعوها من الأئمّة علیهم السلام فی أبواب الحلال و الحرام و أصول العقائد، أو سمعها مَن سواهم و وصلت إلیهم بطرق الروایة(2).

و یسندها إلی أبی، ثمّ یدفعها إلی أصحابه، ثمّ یأمرهم أن یبثّوها فی الشیعة؛ فکلّ ما کان فی کتب أصحاب أبی من الغلوّ فذاک ممّا دسّه المغیرة بن سعید فی کتبهم»(1).

و ذکر البغدادیّ و غیره أنّ ابن أبی العوجاء کان وضع أحادیث کثیرة بأسانید یغترّ بها من لا معرفة له بالجرح و التعدیل. و تلک الأحادیث التی وضعها کلّها ضلالات فی التشبیه

و التعطیل، و فی بعضها تغییر أحکام الشریعة(2).

و بالجملة، الإمامیّة الخالصة لم یَقُل أحد منهم بأمثال هذه الأقاویل. و کیف یتفوّهون

بذلک و کلماتُ أئمّتهم و خطبهم مشحونة بالتنزیه و إثبات العدل؟ و هم یضلّلون القائل

بالجبر و تشبیه الخالق بمخلوقاته، تعالی عن ذلک(3). و إنّما أتی البلاء من جهة أمثال هذه الأخبار المدسوسة التی صارت سببا للشبهة علی بعض الأغمار من الشیعة حتّی حسبوها أخبارا صحیحة واردة عن الصادقین.

و هذه التهمة و رمی أوائل الإمامیّة بالتشبیه إنّما وقع من طائفتین: المعتزلة و مشبّهة

العامّة.

و کان غرض المعتزلة من ذلک التشنیع علی الإمامیّة، و أنّهم لم یکونوا یعلمون بطلان التشبیه حتّی عرفوه من أصول المعتزلة(4).

و أمّا المشبّهة فکانوا یریدون من ذلک إظهار موافقة الإمامیّة لهم، و فات ذلک علی بعض من لم یتعاطَ النظر من أصحاب الحدیث من الشیعة حتّی وافقوهم علی ذلک(5). و لم یکن فی سلف الإمامیّة من یدین بالتشبیه من طریق، و إنّما نُسب إلی هشام بن

ص:152

الحکم إطلاق القول بأنّه تعالی جسم لا کالأجسام(1)، و سیجیء أنّه لم یقصد بذلک التشبیه.

و مثل ذلک القول بالجبر و القول بالرؤیة؛ فإنّه ما دان بذلک أحد منهم إلاّ أن یکون عامّیّا لایعرف تأویل الأخبار. و الروایات - فی العدل و نفی التشبیه و الرؤیة - عن أئمّة

آل محمّد صلی الله علیه و آلهأکثر من أن تحصی(2).

و من المراجعة إلی مظانّها تعرف أنّ هذا البلاء لم یکن تختصّ به الشیعة، بل شارکهم فیه فِرق أهل السنّة أیضا. فکم مِن کذّابین دسّوا أنفسهم فی رواة تلک الفِرق و دلّسوا فی الکتب من الأخبار الضعیفة و الآثار الواهیة ما لایخفی حاله علی أهل البصیرة. و نقّاد

الحدیث و الروایات من الفریقین بسطوا الکلام علی علل وضع الحدیث و أغراض واضعیها المختلفة بما لامزید علیه(3).

قول اللّه تعالی: «وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللّه ِ مَا لَمْ یَکُونُوا یَحْتَسِبُونَ»(1)، یعنی ظهر لهم من أفعال اللّه تعالی ما لم یکن فی حسبانهم و تقدیرهم.

و الوصف بالبَداء إنّما هو فیما لم یکن الظنّ بوقوعه غالبا، و أمّا ما عُلم وقوعه و غلب

علی الظنّ حصوله فلا تُستعمل فیه هذه اللفظة. و الذی دعا إلی إطلاق القول بذلک هو الأخبار الواردة فی ذلک من طرقهم، کما ورد نظائرها من طرق أهل السنّة أیضا(2). فالمجوّز لهم لإطلاق لفظ البَداء هو السمع، کما ورد فی إثبات الرضا و الغضب و التعجّب

و أمثالها له تعالی. و لولا ورودها عن طریق النقل و الأدلّة السمعیّة لما جاز إطلاقها فی حقّه سبحانه(3).

و الذی یتحصّل من تدقیق النظر فی الأخبار المذکورة، أنّها صدرت لأجل ما کان انتشر بین الناس من آراء الفلاسفة و نظریّات القائلین بالطبائع من القول بالإیجاب(4)، و أنّ صدور الأشیاء عن اللّه تعالی إنّما هو بنحو الضرورة، و بسبب نوامیس طبیعیّة و سنن جاریة فی الخلقة لاتختلف و لاتتخلّف عن مقتضاها، و لایتیسّر تغییرها عمّا هی علیه، و ما کان تولّد عن ذلک من المقالات الأُخَر ممّا کانت مخالفة للأصول الإسلامیّة و إثباتِ

الاختیار له تعالی، و ما کان من قول الیهود من الفراغ عن الخلقة(5) علی ما هو معروف.

فهذه الأخبار إنّما وردت لنفی أمثال تلک الأقاویل، و إظهار أنّه تعالی لیس معزولاً عن التصرّف فی ملکه، و أنّ بیده الخلق و الأمر، و الإحداث و الإعدام دائما، و أنّ له فی کلّ آنٍ و وقتٍ قضاءً مجدّدا بحسب المصالح؛ یقدّم ما یشاء و یؤخّر ما یشاء من الآجال

و الأرزاق و المنایا و البلایا و أمثالها(6). و من هنا تعرف أیضا سرّ ذاک التأکید و المبالغة

ص:154

الواقعة فی بعض الأخبار الواردة فی ذلک(1).

و لنسبة الإمامیّة بذلک منشأ آخر، هو أنّ بعض الشیعة فی زمان حیاة الصادق جعفر بن محمّد علیهماالسلام کانوا یزعمون أنّ الإمامة بعده تصیر فی ابنه إسماعیل، کما سبقت الإشارة إلی ذلک. فلمّا توفّی إسماعیل رووا فی ذلک أنّ الصادق قال: ما بَدا للّه فی شیء کما بَدا له فی إسماعیل (1). و الخبر - إن صحّ طریق روایته - محمول علی نظائر ذلک ممّا

ورد فی القرآن علی ما سبق ذکره، فیکون المعنی أنّه ظهر للّه فی أمر إسماعیل شیء لم یکن فی حسبان الناس حیث کانوا یظنّون أنّ الإمامة صائرة إلیه، فظهر خلافه. و المخالفون یحملونه علی أنّ النصّ بالإمامة کان وقع فی حقّ إسماعیل، فقبضه اللّه و جعل الإمامة فی غیره، و هو البَداء المستحیل فی حقّه تعالی(2).

و قد سبق أنّ نصّ الصادق فی حقّ إسماعیل شیء ادّعاه القائلون بإمامة أولاد إسماعیل، و لیس فی ذلک أثر یعرفه أحد من رواة الآثار من الشیعة، و لاروی ذلک فی الآثار و هو لامعروف من الأخبار(3).

فنسبة القول بتحریف القرآن إلی جمهور الإمامیّة خطأ و اشتباه، إذ عرفت أنّ أجلاّء علماء الإمامیّة و مَن تعتدّ بأقاویلهم و آرائهم یصرّحون بخلافه. و من قال بذلک من أهل

الحدیث و الأخبار اعتمَدَ فیها علی ظواهر بعض الروایات التی طریقها الآحاد. و قد عرفت ورود نظائرها عن طرق الجمهور من أهل السنّة أیضا(1).

و ستجیء، فی الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالی، الإشارة إلی اختلاف ترتیب المصاحف، و أنّه کان ذلک الترتیب اجتهادا من الصحابة(2).

ذلک(1).

الآخر(1).

و إن شئت قلت: إنّه کان یری رأی الاعتزال، ثمّ إنّه اتّصل بالإمام أبی عبد اللّه جعفر

بن محمّد علیهماالسلام، فرجع عن طریقته إلی القول بالإمامة، و نقض بعد ذلک کثیرا من آراء المعتزلة بما کان فیه من المهارة فی صناعة الکلام. و کان لَسِنا نظّارا، مجادلاً حاضر

الجواب؛ یناظر متکلّمی المعتزلة و غیرهم، و کان منقطعا إلی یحیی بن خالد البرمکیّ، قیّما بمجالس کلامه و نظره و یعضّهم جداله(2).

فقد ذکر المسعودیّ تفصیل مناظرته لأبی الهُذیل العلاّف و قطعه إیّاه، و خبر مناظرته لعمرو بن عبید(3). و ذکروا أیضا أنّه ناظر النظّام و غلب علیه(4).

یقول الشهرستانیّ فی حقّه: و هذا هشام بن الحکم صاحبُ غَورٍ فی الأصول، لا یجوز أن یُغفَل عن إلزاماته علی المعتزلة(5). و جملة من مجالسه فی الإمامة و مناظراته لمتکلّمی الفرق محفوظة فی کتب الشیعة و غیرهم(6).

عنه أنّه قال: بین اللّه و بین الأجسام المحسوسة تشابه من بعض الوجوه، و لولا ذلک ما

دلّت علیه(1). ثمّ حکی الشهرستانیّ عن الکعبیّ أنّه قال: هو جسم ذو أبعاض له قدر من الأقدار، و لکن لایشبه شیئا من المخلوقات و لایشبهه شیء(2).

و حکی عن أبی عیسی الورّاق أنّه قال: إنّ اللّه تعالی مماسّ لعرشه و لایفضل منه شیء من العرش و لایفضل عن العرش شیء منه(3).

و تهافتُ هذه الأقاویل التی نقلوها عنه ممّا یوهن فی أصل النسبة، و عمدة ما اشتهر عنه فی التشبیه هو ما حکوه عنه أنّه قال:« هو سبعة أشبار بشبرِ نفسِه»، تعالی عن ذلک.

و ثبوت هذه الحکایة عنه مورد شکّ، و لم تثبت بطریق یُطمئَنّ به فی صدق النسبة ؛ فإنّ أقدم ما وصل إلینا فی هذا الباب هو ما أورده أبو محمّد النوبختیّ فی کتاب «الآراء

و الدیانات» علی ما حکاه عنه ابن الجوزیّ عن الجاحظ عن النظّام: أنّ هشام بن الحکم قال فی التشبیه فی سنة واحدة خمسة أقاویل؛ قطع فی آخره بأنّ معبوده بشبرِ نفسِه سبعة

أشبار(4)!

و قد نصّ الشریف المرتضی علیّ بن الحسین الموسویّ قدس سره صریحا علی أنّ هذا القول لا یُعرف إلاّ من جهة النظّام بحکایة الجاحظ ذلک عنه(5).

و أنت، بعد ملاحظة ما تقدّم، تعرف قیمة حکایة الجاحظ عن النظّام ذلک القولَ عنه و نصیبه من الصحّة و الاعتبار ؛ فما منهما إلاّ مَن هو متّهم علیه و غیر موثوق بقوله فی مثله.

و ما هو الظاهر فی الحکایة عنه - و یمکن تأیید صدوره منه من قرائن الآثار - هو القول بأنّه جسم لا کالأجسام. و هو شیء لایفید التشبیه صریحا، و إنّما أطلقه فی مکان

«شیء لا کالأشیاء»(6). و أقصی ما یمکن القول فیه هو السؤال عن صحّة إطلاق هذه

ص:162

اللّفظة عند إرادة المعنی المذکور منه و عدمه، فالمرجع حین ذاک إلی اللّغة و أهلها. و أمّا

استفادة القول بالتجسیم من مجرّد ذلک فلا موضع له، بل یدلّ بعض القرائن و النصوص علی خلاف ما نسبوه إلیه(1).

و إن شئت زیادة بیان فی ذلک و فی الغرض الذی دعاه إلی ذلک، فاعلم أنّه کان قد رسخ فی أذهان العامّة و الحشویّة من أهل الأثر - حینما کانوا یرون تأویل المعتزلة و من یحذو حذوهم لبعض آیات الصفات و غیرها - أنّ غرض المأوّلین من ذلک هو نفی أسماء اللّه و صفاته. فما کان یقصده المأوّلون من تأویلها [هو] التنزیه، بحجّة أنّ ظاهرها یماثل

ما یفهم من صفات المخلوقین، و أنّه یجب صرفها عن ظواهرها إلی ما دلّ علی تنزیه ذاته

تعالی عن مماثلة المخلوقین و صفاتهم من العقل و السمع. ممّا کان یحمله هؤلاء الأثریّة(2) المتمسّکون بألفاظ السنن و المقتصرون علی ما یفهم من ظواهرها علی التعطیل، و یتخیّلون أنّ ما یثبته هؤلاء فإنّما هو لدفع الشنعة بذلک عن أنفسهم ، و غرضهم

إنّما هو الإبطال(3). فکأنّ من أطلق القول بأنّه جسم لا کالأجسام إنّما أطلقه مخافة إیهام النفی و التعطیل.

و ممّا یدلّ صریحا علی أنّ غرض هشام أیضا من ذلک التعبیر هو الإثبات فی مقابلة النفی، هو الخبر الذی رواه الکشّیّ بسنده عن عبد الملک بن هشام الخیّاط حین سأل أبا الحسن الرضا علیه السلام، و فیه: أنّه قلت: و زعم یونس مولی آل یقطین و هشام بن الحکم أنّ اللّه شیء لا کالأشیاء، و أنّ الأشیاء بائنة منه، و أنّه بائن من الأشیاء. و زعما أنّ إثبات الشیء أن یقال: هو جسم لا کالأجسام و شیء لا کالأشیاء، ثابت موجود، غیر مفقود، خارج عن الحدّین: حدّ الإبطال و حدّ التشبیه(4).

و أصرح من ذلک خبر آخر مرویّ عن الصادق علیه السلام فی جواب الزندیق حین «سأله

ص:163

عن اللّه تعالی، ما هو؟ قال: هو شیء بخلاف الأشیاء؛ ارجع بقولی: «شیء»، إلی إثبات معنی، و أنّه شیء بحقیقة الشیئیّة» الخبر(1).

و نجد الشهرستانیّ یذکر خبر مناظرة بینه و بین أبی الهذیل، و فیه أنّ هشاما قال له: إنّک تقول: إنّ البارئ تعالی عالم بعلم، و علمُه ذاته. فیشارک المُحدَثات فی أنّه عالم بعلم، و یباینها فی أنّ علمه ذاته، فیکون عالما لا کالعالِمین. فلِمَ لاتقول: هو جسم لا کالأجسام و صورة لا کالصور و له قدر لا کالأقدار(2)؟ إلی غیر ذلک، فمع صرف النظر عمّا ذکرناه سابقا من أنّه أطلق هذه اللّفظة مکان قول: «شیء لا کالأشیاء» یقوی فی الظنّ کون أصل

هذه النسبة ناشئة عن هذه المناظرة التی أورد فیها هذا فی معرض الجدال و الإلزام لمناظره، فنسبوا إلیه هذا القول الصادر عنه فی مقام الحجاج. و کانت أمثال هذه النِّسَب

و التُّهَم شائعة، و الأقاویل تنسب إلی الأشخاص بأدون من هذا.

علی أنّه ذُکِر ترکه لهذا القول من إطلاق هذه اللفظة، و رجوعه عنه لمّا ظهر له أنّ الصادق علیه السلامأنکر علیه هذا، کما ذکره الکراجکیّ(3).

و قد نسبوا إلی هشام مقالة أخری فی کیفیّة علم اللّه تعالی، و أنّه یعلم الأشیاء المتجدّدة بعلم متجدّد(4). و هذه النسبة أیضا مشابهة لما سبق. و الإمامیّة و المعروفون من نضّال الشیعة ینکرون قوله بذلک إذ لم یجدوا ذلک بطریق یُعتمد علیه فی تلک النسبة إلیه.

قال المفید: و لسنا نعرف ما حکاه المعتزلة عن هشام بن الحکم فی ذلک. و عندنا أنّه تخرّصٌ منهم علیه و غلط ممّن قلّدهم فیه، فحکاه بعض الشیعة عنه، و لم نجد به کتابا مصنّفا و لامجلسا ثابتا. و کلامه فی أصول الإمامة و مجالس الامتحان یدلّ علی ضدّ ما

حکاه الخصوم عنه(5).

و بمثل ذلک صرّح الشریف المرتضی و قال: إنّه من حکایاتهم المختلقة، و ما نعرف

ص:164

للرجل فیه کتابا و لاحکاه عنه ثقة(1).

و کذا نسبوا إلیه القول بالجبر و تکلیف ما لایطاق، کما نقله السید المرتضی عن القاضی عبد الجبّار بن أحمد الرازیّ(2)، و لکن لم نقف علی مستند صحیح فی ذلک.

کان هشام رحمه الله متکلّما لَسِنا حاضر الجواب مؤلّفا، ذکر النجاشیّ له ثلاثین کتابا فی التوحید و الإمامة، و الردّ علی أصحاب الطبائع و أصحاب الاثنین، و الردّ علی الزنادقة

و الردّ علی مخالفیه من المعتزلة و غیرهم، و فی مختلف الأبحاث الکلامیّة(3).

الطاق، لأجل ذلک(1).

و له کتب ذکروا من أسمائها: کتاب الاحتجاج فی إمامة أمیر المؤمنین علیه السلام، و کتاب

کلامه علی الخوارج، و کتاب مجالسه مع أبی حنیفة و المرجئة(2). و فی کلام الشهرستانیّ أنّه صنّف کتبا جمّة للشیعة منها: افعل لِمَ فعلت، و منها: افعل لا تفعل(3).

و من کان بهذه المثابة من النظر و البداهة فی إلزام الخصوم لایستبعد رمیه بأمثال الأقاویل المذکورة تشنیعا علیه.

و نستفید ممّا أورده النجاشیّ فی ترجمته أنّ بعض المتأخّرین أدخلوا فی کتابه المعنون ب- «افعل لا تفعل» أحادیث تدلّ علی فساد أقاویل الصحابة، ممّا یکشف أنّ ید

الدسّ و التحریف قد أصابت بعض کتبه لأجل الشنعة و الطعن علیه. و صرّح النجاشیّ أیضا بأنّه نسب إلیه أشیاء و لم تثبت عندنا(4).

و قد حمل أهلُ النقد الأخبارَ المُشعرة بالذمّ علی التقیّة، إذ کان زرارة من معروفی رجال الشیعة و أصحاب الأئمّة، و کان لأجل ذلک فی معرض التعرّض و المحنة، فکان ورود القدح و الطعن فیه لئلاّ یظهر شدّة اختصاصه بهم(1). و علی کلّ حالٍ، فالمقالات المنسوبة

إلیه من حدوث العلم و القدرة و سائر الصفات و غیر ذلک ممّا لم نقف له علی مستند صحیح یوجب الاعتماد علیه، سوی کتب المقالات(2).

بینهما(1). و قد نسبوا إلیه کتبا فی ذلک.

و الشیء الذی تعلّقوا به فی رمیه بالقول بالتثنیة هو إطنابه فی ذکر مقالة الثنویّة و ذکر

شُبَههم فی کتابه المعروف بالمقالات، ممّا لایصحّ التعلّق بمثله. و قد صنع مثل ذلک غیره ممّن ذکر مقالات الفرق و ذکر شُبَهَهم و تأکیدَ مقالاتهم کالجاحظ و غیره ممّن ألّفوا الکتب فی مقالات الفرق المبطلة و أکّدوا شبههم و هذّبوا طرق الحجاج فیها(2). و قد وقع مثل هذه الوقیعة للمبرّد و رمیه بمقالات الخوارج(3) لأجل إطنابه فی ذکر حالاتهم و أخبارهم، و لغیره أیضا.

و قد أسندوا إلی الورّاق کتاب «الغریب المشرقیّ» و کتاب «النَّوح علی البهائم». و قد قال الشریف المرتضی: إنّهما مدفوعان عنه، و ما یبعد أن یکون بعض الثنویّة عملهما علی

لسانه، لأنّ من شأن بعض مَن یُعرف ببعض المذاهب أن یضاف إلیه ما یدخل فی نصرتها الکثیر(4).

و کان الورّاق من أوّل المتکلّمین فی تهذیب طرق الجدال فی دعوی الشیعة بثبوت النصّ الجلیّ لإمامة أمیر المؤمنین علیه السلام. و ذکروا من کتبه کتاب الإمامة، و کذا صنّف کتابا خاصّا بقضیّة السقیفة، لم یَترک لغیره زیادة علیه فیما یوضح فساد قول مخالفی الشیعة(5). و المظنون أنّ العمدة فی رمیه بتلک المقالات إنّما هی هذه و مبالغته فی نصرة القول بالنصّ

و فساد الاختیار و نقض ما تعلّق به فی صحّته.

و یظهر من کلام المرتضی رحمه الله أنّ متکلّمی الإمامیّة ممّن تأخّروا عن زمانه کانوا یعتمدون علی أکثر ما ذکره، و سلکوا فی نصرة أصول الإمامة مسلکه(6).

ص:168

هذه جملة ممّا نسبوه إلی جماعة من رجال الشیعة بقصد الطعن علیهم و التشنیع فیهم. و قد عرفت حقیقة الحال ممّا أشرنا إلیه و أنّ غالبها ممّا تفرّد به خصومهم أو ممّا رموهم به لعداوة أو عصبیّة أو شبهة، فنقَلَها عنهم مَن غفل عن حقیقة الحال.

و حیث إنّ المصدر لنسبة غالب هذه الأقاویل إلی الشیعة هو الکتب المخصوصة بذکر آراء الفرق و مقالات الملل و أصحاب الأهواء و ما نسب فی طیّها إلی الفرق و أصحابها، نری من المناسب فی هذا المقام التنبیه علی عدم صحّة الاعتماد علی ما فی أمثال هذه الکتب فی البحث العلمیّ النزیه الخالص عن شائبة التعصّب و التحزّب للآراء

و الأهواء.

ابتُدئ فی هذا النوع من التألیف و ذکر آراء الفرق، من صدر الدولة العبّاسیّة و من حین ظهور مقالات الفرق الإسلامیّة المختلفة من جهة، و ظهور أقاویل المانویّة و الدیصانیّة و الزنادقة و سائر الطوائف الخارجة عن الملّة و انتشارها بین المسلمین من أجل نقل کتبهم، من جهة أخری(1)؛ إذ نجد الخلیفة العبّاسیّ المهدیّ یتتبّع آثار من یشکّ فی دیانته، و یمعن فی قتل الزنادقة و المداهنین من الدین و یأمر الجدلیّین و أصحاب الکلام بتصنیف الکتب فی الردّ علی الملحدین(2).

المصنّفات فی هذا الباب.

ثمّ تتابعت التآلیف من مختلف الناس فی ذلک، و فیها المبسوط و المختصر، و من مؤلّف فی الآراء و الدیانات عامّةً، و مقتصرٍ للإسلامیّین من بینهم، أو لفرق الشیعة خاصّة،

مع تفاوت طرق أبحاثهم و تنوّع أسالیب کلماتهم و کتبهم، من الاکتفاء بنقل مجرّد الأقاویل أو ذکر ما احتجّ به کلّ فریق لمذهبه، أو الردّ علی ما ذکروه، إلی غیر ذلک ممّا

لایسع المقام لاستقصاء البحث فیه(1).

و قد ذهب معظم هذه الکتب و المصنّفات من البین، و لم یَبقَ منها إلاّ القلیل و النزر الیسیر. و هذا القلیل الباقی أیضا لم یَخلُ غالبه من الخلل فی النقل و التحزّب للمذاهب

و عدم تجرّد مؤلّفیها للبحث المبنیّ علی بیان الحقائق و کشف صریح الواقع، فنسبوا إلی

مخالفیها أقوالاً و آراء لا حقیقة لها، أو نقلوا مذاهبهم علی غیر الوجه الذی یعتقدونه.

و من مراجعة کتاب الملل و النحل لأبی الفتح محمّد بن عبد الکریم الشهرستانیّ - و هو أشهر کتب المتأخّرین فی هذا الموضوع، و عوّل علیه کلّ مَن تأخّر عن زمانه من

الباحثین فی العقائد و الآراء - یتّضح لک سرّ ما أشرنا إلیه ؛ فقد نقل غالبَ ما أورده فیه من مقالات الفرق الإسلامیّة عن کتاب أبی منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادیّ(2). و نفس مراجعة کتاب البغدادیّ تغنینا عن التعرّض لمسلکه و أسلوب بحثه، فتراه ینتقل کثیرا عند

ذکر أقاویل مخالفیه عن النقل المجرّد- الذی علیه بنی وضع کتابه - إلی الاحتجاج علیهم،

بل التسفیه و التقریع و الاستهزاء(3).

و قد اطّلع علی سوء طریقته فی البحث من قبلُ، الإمامُ الرازیّ فخر الدین بن الخطیب و قال: «هذا الأستاذ [البغدادیّ] کان شدید التعصّب علی المخالفین، فلا یکاد

ص:170

ینقل مذهبهم علی الوجه [الصحیح]»(1).

و نقل [الشهرستانیّ] مذاهب الشیعة عن بعض من تصدّی لذلک، مع تحریف و خلل

فی النقل یظهر عند المراجعة(2).

کما أنّه اعتمد فی منقولاته عن آراء الفلاسفة الیونانیّین علی کتاب صاعد بن أحمد الأندلسیّ مع تغییر واضح و خلل فیما نقله عنه کثیر؛ لغرض تطبیق آرائهم علی ظواهر المبانی الدینیّة الإسلامیّة، و وقع له من الخلل غیر ما ذکرناه ما لایخفی علی أهل البصیرة(3).

و إذا تأمّلنا فی کتاب أبی محمّد بن حزم الظاهریّ - و هو أبسط الکتب المتداولة - وجدناه من التباغض و التحامل و تکفیر مخالفیه و تضلیلهم علی طرف من الإفراط عظیم(4). و علی ذلک أیضا یقاس سائر کتب هذا الموضوع، و فلا یصحّ الاعتماد علی جملة محتویاتها و السکون إلی مسطوراتها و منقولاتها عن هذا الفرق المختلفة و أقاویلها

المنسوبة إلیها.

و لقد عثرت بعد ذلک علی کلام محکیّ عن أبی الحسن الأشعریّ عن کتابه المعروف ب «مقالات الإسلامیّین» یکشف عن تفطّنه لهذا، حیث یقول فی أوّله: «و رأیت الناس فی

حکایة ما یحکون عن ذکر المقالات و یصنّفون فی النحل و الدیانات بین مقصّرٍ فیما یحکیه، و غالطٍ فیما یذکره من قول مخالفیه، و من بین معتمدٍ للکذب و الحکایة، إرادةَ التشنیع علی مَن یخالفه، و من بین تارکٍ للتفصّی فی روایته لما یرویه من اختلاف المختلفین، و مِن بین مَن یضیف إلی قول مخالفیه ما یظنّ أنّ الحجّة تلز مهم به»(5).

ص:171

و فی هذا الکلام کفایة فی ما نحن بصدد إظهاره. و مع ما نقلنا عنه فقد أوقع نفسه أیضا فی معرض الانتقاد و التعریض، فقد نقل ابن تیمیّة أنّه جاء بعده مِن أتباعه مَن لم یعجبه ما نقله عن مذهب أهل السنّة و الحدیث، فنقص من ذلک و زاد. و ذکر أیضا أنّه لکون خبر ته بالکلام أکثر من خبر ته بالحدیث و مقالات السلف فقد ذکر فی غیر موضع

أقوالاً فی النفی و الإثبات لاتنقل عن أحد منهم أصلاً(1).

- کهشام بن الحکم و هشام بن سالم و محمّد بن أبی عمیر و یونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان و أمثالهم - یطّلع علی مبلغ التنافر و التنابذ الحاصل بینهم و بین آخرین من معاصریهم و غیرهم، مع أنّ هؤلاء المعدودین کانوا من أهل الفضل و الجلالة و العلم،

و کان یختصّ بکلّ منهم جماعة یتلقّون منهم الفقه و الروایات و أحکام الدین(1).

و قد سبق أیضا أنّ بعض ما کان یظهر منهم فی مقام الجدال و المعارضة و إلزام الخصوم و التبکیت لهم، کانوا یسندونها إلیهم لأجل التشنیع، و یتّخذون لازم الکلام الصادر منهم مذهبا و نحلة لهم(2).

و من الأسباب القویّة أیضا : أنّ بعض الرواة الذین رَوَوا شیئا من الأخبار کانوا ممّن

ینتحلون مذاهب فاسدة، ثمّ ظهر لهم فساد ما یعتقدونه و رجعوا إلی الحقّ و القول بالإمامة، لکنّ کتبهم و مرویّاتهم بقیت فی أیدی الناس، و فیها تلک المقالات الزائغة(3).

هذه جملة من علل انتساب تلک الأقاویل إلی الشیعة و أهلها. و قد کانت تشتهر و تُتَداول بین الناس بسبب انتشار الروایة، و کثرة الرحلة إلی أطراف البلاد لأخذ الآثار

و الأخبار. ثمّ وصلت هذه کلّها بعد مضیّ الزمن و اختفاء القرائن و الخصوصیّات بتقادم

العهد إلی جمع من الأخباریّین و جمّاع السِّیَر الذین کان همّهم مجرّد جمع الروایات

و کثرة المرویّات و المسموعات - و لو کان عن الضعفاء أو المجاهیل - و کتابتها و تقییدها، بدون اعتناء بنقدها و تمحیصها و استخلاص صوابها من باطلها. و من هؤلاء و أمثال هؤلاء تلقّاها المؤلّفون فی المقالات و حکایة آراء الفرق و أهلها، و هم علی ما ألمَمنا بطرف منه فیما مضی، فجاء المتأخّرون منهم، فرأوا تلک الکتب و تلک المسطورات

فی طیّاتها، فزعموها انتسابات صحیحة، لها قسطها من الصحّة و نصیبها من الواقع.

ص:173

ص:174

ص:176

الأحکام علی واقعیّاتها و عدمه، حتّی ننتقل من ذلک إلی علل اختلاف الأخبار المأثورة عنهم علیهم السلام، ثمّ إلی أنّ اختلاف الإمامیّة فی باب الفروع و أحکام الدین هل هو ناشئ من ذلک و منحصر فی هذه الجهة، أو له وراء ذلک علل و أسباب معقولة، حتّی یتّضح صریح الحقیقة من ثنا یاها ؟

و أذواقه. و جرت الأمور فی مجاریها و اعتاد الناس علیها(1).

انقضی ذلک الزمان بانقضاء عصر مَن تقدّمه من الخلفاء، و قام بالأمر و تحمّل أعباء الخلافة بعد تعلّل منه و امتناع(2)، و ذلک لِما کان یراه من صعوبة القیام بذلک الأمر من جهة إقبال الفتن و انفتاح أبوابها، فلم یکن من الأمر الهیّن حین ذلک تغییر تلک الأمور

و حمل الناس علی ترک ما نشأوا علیه و اعتادوه، لاسیّما أنّ ذلک التغییر و نقض أحکام

السابقین کان متضمّنا لنوع تضلیل لهم و تخطئة لآرائهم. و جمهور الناس ممّن أذعنوا بخلافته و دانوا ببیعته کانوا یرون لهم من السوابق الحسنة و فضیلة الصحبة و التقدّم فی الإسلام ما یرونه، و یعتقدون أنّ سنّتهم الجاریة و طریقتهم المسلوکة هی الطریقة المثلی

و المنهاج الذی ینبغی أن تجری الأمور علیه، و أنّ الغایة لمن یأتی بعدهم هو اتّباع سننهم

و الاقتفاء لآثارهم.

عن الصلاة جماعة فی نافلة شهر رمضان. و هذا کان ممّا نهی عنه رسول اللّه صلی الله علیه و آله أیضا فی زمانه، إذ قام علی المنبر خطیبا و نصّ علی ملأ من الناس أنّها بدعة و ضلالة، فترکها الناس فی زمانه صلی الله علیه و آلهو زمان أبی بکر و برهة من زمن عمر، و لکنّ عمر أذِن فی ذلک لرأی رآه. فلمّا أراد أمیر المؤمنین علیه السلام أن یغیّرها و یردّ الأمر إلی ما کان علیه فی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله و یحمل الناس علی ترکها، لم یقبلوا منه و امتنعوا عن ذلک(1). و أراد عزل شُریح عن القضاء، فامتنع علیه أهل الکوفة و قالوا: لاتعزله؛ لأنّه منصوب من قِبَل عمر(2)، مع أنّ ذلک (نصب القضاة) مرجوع إلیه، و کان فی زمانه و کان له التصرّف فیه بما یراه مصلحة کما کان ذلک لمن قبله.

و قال علی المنبر فی خصوص أُمّهات الأولاد : «کان رأیی و رأی عمر أن لایُبَعنَ، و أنا أری الآن بیعهنّ»، فقام إلیه عبیدة السلمانیّ فقال له: «رأیک مع الجماعة أحبّ إلینا من رأیک وحده»، فما أعاد علیه حرفا(3) . إلی نظائر من ذلک من أمور نحن فی غنیً عن الإطالة بذکرها، و یجدها المراجع فی محالّها.

ثمّ إنّه علیه السلام فی أیّام خلافته تلک القلیلة صار مُمتحَنا بأمور عظام؛ کلّ واحد منها کان کافیا لأن یشغله عن التفرّغ لإظهار الحقّ؛ منها مباینة عائشة بنت أبی بکر له، و لها عند الجمهور مکانتها المعلومة؛ إذ کانت من أمّهات المؤمنین بل أفضل أزواج النبیّ صلی الله علیه و آله عندهم، و قد تحمّلوا عنها کثیرا من السنن النبویّة(4).

و منها مباینة طلحة و الزبیر، و هما عندهم نظیراه فی الجلالة، و من الشخصیّات المحفوفة بالسوابق الحسنة و جلائل الأعمال فی الإسلام، و اجتماع الثلاثة علی حربه، و ما کانوا یبذلونه من الجهد فی نقض أمره و التماس الحِیَل فی تفریق جمعه(5).

ص:181

و زاد فی شدّة الأمر من تلک الجهة مَهابةُ الناس دِینا من قتالهم و استعظامهم لقتال أهل القبلة ممّن یصلّی کصلاتهم و یؤذّن کأذانهم و یقیم أحکام الدین و شعائره مثلهم. و لو لا اجتراؤه علی سلّ السیف علیهم ما کان یقدم علی ذلک أحد، و قد أشار علیه السلام إلی ذلک فی بعض کلماته المأثورة(1).

و مُنی بعد ذلک بمعاویة بن أبی سفیان و مَن کان فی حیّزه من الصحابة و مَن اجتمع حوله من وجوه الناس و قیامهم ضدّه، فکان الابتلاء بهم أشدّ و أعظم من الابتلاء بمن سبقهم، إذ کانت سیرته فی کلّ ناحیة من نواحی الأمور مخالفة لسیرته علیه السلام الدینیّة العادلة، کما یظهر من مقایسة السیرتین. فکان هو یدسّ الدسائس و یستعمل المکائد حلالها و حرامها، و یستعمل خلاف الکتاب و السنّة، و یسیر بسیرة جبابرة الملوک. و هو الذی قال فیه عمر لجلسائه: تذکرون کسری و قیصر و دهاءهما، و عندکم معاویة(2)؟!

فکان - فی سبیل الوصول إلی أغراضه - لا یأبی بتضحیة کلّ ما یقدر علیه، و لو کان من أعظم أصول الدیانة، و یتساهل فی إقامة الحدود الدینیّة مهما شاء حتّی یتمّ له غرضه

الدنیویّ(3)، و أمیر المؤمنین علیه السلام لایعمل فی مقابل تلک السیرة إلاّ بما یقتضیه الدین، و یوجبه العدل و التقوی و الورع. یبالغ فی التدقیق فی محاسبة العمّال و یتجنّب أسالیب

الخداع و المکر.لایعطی و لایمنع إلاّ بالحقّ، و لایضع و لایرفع إلاّ بالکتاب و السنّة،

و یسیر بسیرة رسول اللّه فی کلّ أعماله، فکان مقابلةً لأحکام الدین بمصالح الدنیا. و إن شئت قل: کان جهادا بین الخلافة الإسلامیّة و الملک الدنیویّ(4).

ص:182

ثمّ انتهت هذه الواقعة بقضیّة التحکیم المعروفة فی التاریخ، التی صارت سببا لانشقاق فرقة الخوارج و قیامهم علیه بکلمة حقّ یراد بها باطل، و ما تعقّبته من نشوب

وقعة النهروان الهائلة علی التفصیل المعروف من الآثار(1).

کلّ هذه الحوادث و الفتن المتّصلة التی کانت کسلسلة مربوطة الحلقات لم یُبقِ له علیه السلاممجالاً لأن یستقرّ به الدار و یتفرّغ لإظهار الحقّ و یحمل الناس علی متابعته.

و کیف یَسَعه تتبّع أحکام القوم بالنقض و الإبطال، و معظم العاقدین له الأمر و المسلّمین له ذلک هم أولیاء القوم و أودّاؤهم؟ و یرون إمامته متفرّعةً عن إمامتهم،

و الطریق إلیها من جهتهم، إذ یزعمون أنّ عقد الإمامة له وقع باختیار منهم، کما وقع للسابقین.

و کیف کان، فبعد التجاهر بخلاف المتقدّمین، و معاویةُ - و هو مَن أشرنا إلی إجمال سیرته - یبثّ الرجال لیشیعوا بین الجمهور ممّن حوله من الموالین للقوم المتدیّنین بصحّة

إمامتهم و صواب طریقتهم، أنّه یتبرّأ منهم و یضلّلهم و یخطّئهم، و هو یقذفه بدم عثمان

الخلیفة المقتول عندهم ظلما و غدرا... أنّی له ذلک مع هذه الأهواء المتشتّتة و الأغراض

المختلفة؟ فکان یری علیه السلاممن السیاسة، بل من السداد و الحکمة، السکوت علی کلّ ذلک حتّی لا تنفصم عُری الوحدة الإسلامیّة و یکون الناس علی وفاق و جماعة(2).

و تبوّأ بعده علیه السلام معاویة أریکة المُلک، فاستبدّ بأمر الأمّة، و صیّر الخلافة الإسلامیّة مُلکا عضوضا، فاتّخذ فی إطفاء الدعوة الشیعیّة و اجتثات أصلها و إفناء جرثومتها، ما

کان یقدر علیه من الوسائل الفعّالة، فتتّبع هو و ولاته و الدُّهاة من عمّاله و بِطانته - الذین عملوا علی توطید أساس المُلک له و مَشَوا علی خطواته - آثارَ الشیعة و قتلوهم تحت کلّ

حجر و مدر و قطّعوا الأیدی و الأرجل، و صلّبوا علی جذوع النخل، و شرّدوهم عن

ص:183

الدیار و الأوطان، و أخذوا الناس بالظنون و التُّهَم؛ حتّی أنّ الرجل من شیعة أمیر المؤمنین

علیه السلاملَیأتیه مَن یثق به فلایحدّثه حتّی یأخذ علیه الأیمان المغلّظة بالکتمان(1).

و لم یَزَل الأمر علی ذلک حتّی استشهد الحسن علیه السلام فازداد البلاء و الفتنة. ثمّ تفاقم الأمر بعد الحسین علیه السلام، و دام الأمر علی ذلک طول مدّة الحکومة الأمویّة - و الشیعة فی خمول و خفاء، و خوف و بلاء - حتّی باد مُلکهم و انقضت أیّامهم علی ید العبّاسیّین. و سنلمّ فی الموضع المناسب بشیء ممّا اتّخذه معاویة و خلفاؤه من ذلک، و مَن وقع تحت

اضطهادهم، و قسوتهم علی الشیعة.

السکوت. فأطلقت الألسن التی کان أخرسها الخوف أو الرجاء و غیر ذلک ممّا لو ألمَمنا

بطرف منه لخرجنا عن الموضوع(1).

و کانت تلک الأوضاع و الأحوال سببا لاشتغال ولاة الأمور بأنفسهم و الدفاع عن حوزتهم. ثمّ إنّ تحوّل الرأی العامّ و مراقبة العامّة لسیر الحوادث الجاریة و الکفّ عن التعرّض لمن یخالفهم فی الآراء المذهبیّة و النزعات السیاسیّة أیضا، صار سببا لحصول

نوع من الحرّیّة فی الآراء و الأفکار و خوض الناس فی مسائل الأصول و الفروع.

و من الأسباب القویّة التی أوجبت انتشار جملة من الآثار و العلوم و الروایات عن الباقر علیه السلامهو اشتهار أمر التفقّه فی الدین و کثرة أهل الفقه و العلم فی عصره، و توفّر رغبات کثیر منهم - حتّی من لایعتقد إمامته - فی الرجوع إلیه؛ فقد روی الناس عنه أمر المبتدأ

و أخبار الأنبیاء، و کتبوا عنه تفسیر القرآن و أثروا عنه السنن، و اعتمدوا علیه فی مناسک

الحجّ التی رواها عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله، و ناظر مَن کان یَرِد علیه من أهل الأهواء و الآراء، و حفظوا عنه کثیرا من علم الکلام(2).

روی الشریف أبو محمّد الحسن بن محمّد العلویّ بسند له عن عبد اللّه بن عطاء المکّیّ قال: «ما رأیت العلماء عند أحد قطّ أصغر منهم عند أبی جعفر محمّد بن علیّ بن

الحسین علیهم السلام. و لقد رأیت الحکم بن عُتَیبة مع جلالته فی القوم کأنّه صبیّ بین یَدَی

ص:185

معلّمه»، و الأخبار فی هذا المعنی کثیرة(1).

و بالجملة قد ظهر عنه علیه السلام من معالم الدین و مسائل الأصول و الأحکام شیء کثیر، و قَوِی أمر الشیعة فی عصره و کَثُر منهم العلماء و الفقهاء، حتّی أنّ الشیعة قبل عصره کانوا لا یَعرفون غالب ما یحتاجون إلیه من أحکام الفروع، و یعملون فی کثیر منها بما فی أیدی

العامّة من أقوال قضاتهم و فقهائهم، فصاروا یعلّمون الناس بعد ما کانوا یتعلّمون، و یُحتاج إلیهم بعد ما کانوا محتاجین(2).

و زاد أمر الشیعة قوّة فی عصر ابنه الإمام أبی عبد اللّه جعفر بن محمّد علیهماالسلام، و انتشر عنه العلم و کثرت من جهته الروایات(3). و ممّا کان من أسباب ذلک هو قیام الفتنة الشدیدة بین الأمویّین و العبّاسیّین، و تحوّلُ الدولة و انتقالها إلی بنی العبّاس، و ما کان من جرّاء ذلک من ذهاب عالَم لایحصی تحت السیف فی الأمصار الإسلامیّة ممّا تکفّلت کتب التاریخ بشرحه تفصیلاً(4). ثمّ ما کان من ظهور حاله علی معاصریه من خلفاء بنی العبّاس، و أمنِهم من طرفه عن وقوع خلل فی أرکان سلطانهم من جهته، و قد سُعِی به إلی

ص:186

المنصور غیر مرّة و فی کلّ ذلک تظهر براءته ممّا نسب إلیه(1).

و قد ذکر أصحاب التواریخ ما کان من کتاب أبی سَلَمة الخَلاّل - أحد کبار الدعاة للعبّاسیّین - إلیه، یدعوه إلی الخلافة و أن یصرف أمر الدعوة إلیه، و ما کان من ردّه لسؤاله و امتناعه منه(2).

قال الشهرستانیّ :« إنّه قد أقام بالمدینة مدّة یفید الشیعة المنتمین إلیه و یفیض علی الموالین له أسرار العلوم، ثمّ دخل العراق و أقام بها مدّة، ما تعرّض للإمامة قطّ، و لا نازع أحدا فی الخلافة»(3).

و قد کثر اختلاف الناس إلیه فی أخذ العلوم و معالم الدین، فنقلوا عنه من العلم و الفتوی ما انتشر ذکره فی البلدان، و لم یُنقَل عن أحد من أهل بیته العلماء ما نقل عنه، و روی عنه جماعة من أعیان الأمّة مثل یحیی بن سعید، و ابن جریج، و مالک بن أنس، و الثوریّ، و سفیان بن عُیینة، و شعبة بن الحجّاج، و أبی أیّوب السختیانیّ و أبی عمرو بن العلاء، و غیر هؤلاء من التابعین و غیرهم(4).

نقل عن مالک أنّه قال: ما رأت عینی و لا سمعت أذنی و لا خطر علی قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً و علما و عبادةً و ورعا(5).

و عن أبی حنیفة أنّه قال: «لو لا جعفر بن محمّد ما علم الناس مناسک حجّهم»(6). و کان أبو حنیفة کثیر الاختلاف إلیه علیه السلام، و له و لغیره من فقهاء العامّة و قضاتهم فی الرجوع إلیه و إلی أصحابه الآخذین عنه، حکایات کثیرة مذکورة فی محلّها(7).

ص:187

و مع ما أشرنا إلیه من انتشار العلم من الصادقَین علیهماالسلام فقد کان لهما أیضا موانع جمّة

و عوائق عن إظهار کثیر من الأحکام، مثل التقیّة و الخوف عن الإفتاء فی بعض ما کان یعلمون أنّه یصیر سببا لمحنة الشیعة، و غیر ذلک ممّا نؤجّل الکلام فیها إلی مقام آخر(1).

فیها فی المقام - تمایلٌ إلی التشیّع و إکرام العلویّین(1)، لکنّه لم یکن إلاّ برهة قصیرة و فترة من الزمن عادت الأوضاع بعدها إلی ما کانت علیه قبله، و عادوا إلی ما یوجبونه

من الخوف و الترصّد للشیعة و حرکاتها(2). فأشخص المعتصم الذی استخلف بعد

المأمون، الإمامَ محمّد الجواد علیه السلامإلی بغداد، فبقی بها إلی أن قُبض بعد نحو عشرة أشهر(3).

ثمّ أشخص المتوکّل ابنَه الإمامَ علیّا الهادی علیه السلام من المدینة إلی سامرّاء. و کان المتولّی لإشخاصه یحیی بن هَرثَمة فی سنة ثلاث و ثلاثین و مأتین، و بقی هناک إلی آخر

أیّامه مکرما فی ظاهر الحال، و هم یجتهدون فی إیقاع حیلة یؤاخذونه بها فلا

یتمکّنون من ذلک(4).

و کذلک کان الحال لابنه الإمام الحسن بن علیّ علیهماالسلام، و کان معاصرا فی أیّامه القلیلة لثلاثة من خلفاء بنی العبّاس(5)، و جرت له معهم خطوب و حوادث من التهدید و الحبس و إرادة القتل له. و ما جری له علیه السلامو الشیعة من صالح بن وصیف من حبسه له و لأهل بیته، و طلبُ شیعته و ما نالهم منه من الأذی، معروف(6).

و تسمیة هذا الإمام و أبیه علیهماالسلام بالعسکریّین إنّما کان لأجل ما وقع لهما من الإقامة الطویلة و المکث المدید بسامرّاء، تحت الترقّب و إشراف النظر. و کانت سامرّاء معروفة

ص:189

حین ذاک بالعسکر ؛ لأنّ تأسیسها کان لأجل أن تکون معسکرا و محلاًّ للجیش، ثمّ انتقل إلیها الخلفاء و اتّخذوها عاصمة للملک، و بقیت علی ذلک مدّة مدیدة(1).

هذا مجمل من حال الأئمّة علیهم السلام فی بیان الأحکام و إظهارها علی ما کان عندهم؛

یظهر من تضاعیفه أنّه لم یسنح لهم ما یتمکّنون فیه من بیان الواقعیّات و إذاعتها غالبا، و إن کانت الحالات فی ذلک أیضا متفاوتة بحسب الأزمان و الأشخاص، و بحسب اشتداد أمر التقیّة و غلبة الخوف و غیر ذلک، فلم یظهر لذلک و لم ینتشر من الأحکام - علی ما یقتضیه مذهب الشیعة - إلاّ النزر القلیل ممّا سمح به الحال و اقتضته الظروف

و الأوضاع، ممّا کان لایورث إظهارُها و إذاعتها وحشةً، علی ما عرفته.

و سألوهم عن سبب ذلک الاختلاف قالوا : إنّما أجَبنا بهذا للتقیّة(1).

و عند التأمّل یظهر لک فساد هذا القول و بطلان ما زعموه؛ إذ الأئمّة علیهم السلام هم أنفسهم کانوا یأمرون الشیعة بصیانة تلک الروایات و أجوبة (مسائل الشیعة) الصادرة عنهم،

و بحفظها من الضیاع و التحریف، و بثّها و نشرها بین سائر الشیعة، و یصرّحون بأنّ تلک الأخبار و الآثار المرویّة ستکون مداراً لعمل الشیعة علیها بعد زمانهم(2)، فکیف یتصوّر هذا الاهتمام و التأکید منهم فی حفظها مع ما ذکروه و قصدوا التشنیع به علیهم ؟

و لیس ینحصر سبب اختلاف أخبار الأئمّة علیهم السلام فی التقیّة، بل له أسباب و علل أخری علی ما تأتی الإشارة إلیه(3).

وأمّا الأحکام و الروایات الصادرة فیها تقیّة فسنقصّ علیک شیئاً من العلل الباعثة لصدورها(4)، لیتّضح فساد ما تخیّلوه من ذلک.

معرض الإشاعة و الانتشار.

و قد کان غالب ما یصدر من الفتاوی و الآراء من فقهاء القوم و أرباب الرأی منهم مبتنیا علی المقاییس و الاستحسانات و البناء فی الحوادث الجاریة علی المعانی المستنبطة بأنظارهم واجتهاداتهم، بخلاف مذهب الشیعة و طریقتهم التی کانوا یعتمدون

فیها علی النصوص و الآثار المرویّة عنهم علیهم السلام، من غیرتعویل علی الآراء و رکون إلی الظنون و نظائرها.

وکانت السیاسة معاضدة لآراء أولئک الأشخاص المشهورین بالفتوی والرأی الموالین للخلفاء و ولاة الأمور، مناصرة لها عاملة فی حمل الناس علی اتّباعها والجری

علیها؛ حتّی ذکر أنّ المنصور أراد أن یبعث بکتب مالک بن أنس الفقیه المعروف إلی الأمصار، و أن یأخذ الناس بالعمل علیها و عدم التعدّی إلی غیرها، فمنعه مالک من هذا،

و قال : لا تفعل هذا، فإنّ الناس قد سبقت إلیهم أقاویلُ و سمعوا أحادیث و رَوَوا روایات،

و أخذ کلّ قوم بما سبق إلیهم و دانوا به، فدَع الناس و ما اختار أهل کلّ بلد منهم لأنفسهم(1).

و من هنا فالأئمّة لم یکونوا یجاهرون بآرائهم و فتاویهم فی غالب الأوقات إلاّ لمن کانوا یثقون به، و یطمئنّون بصراحة تشیّعه و عدم وقوع ضرر من جهة ذلک علیهم، أو علی

الشیعة. و لم یکن یخرج منهم إلی مَن یراجعهم من سائر الناس إلاّ ما یوافق فتاوی القوم

و آراءهم؛ حفظا لأنفسهم و لشیعتهم عن الوقوع فی الخطر و المحنة(2).

و لعین هذه العلّة کانوا یأمرون أصحابهم فی بعض الموارد بالإمساک عن إظهار الحقّ و المظاهرة للعامّة بما یزیل الریب عنهم فی خلافهم(3).

و فی بعض الأحیان کانوا یترکون الفتوی أو یؤخّرون جواب المسألة، إذا أحسّوا من

ص:192

ذلک تعرّضا لهم. و لقد کان الخلفاء فی بعض الأوقات یبثّون أشخاصا لیسألوهم عن مسائل یعلمون فیها مخالفة الشیعة لآراء العامّة، حتّی إذا أجابوا عنها اتّخذوها حجّة

للتعرّض(1).

و بالجملة لم یَصفُ الجوّ و لم تساعد الأزمان فی غالب الأحیان للشیعة و للأئمّة علیهم السلام، بحیث یتمکّنون کاملاً من بیان أحکام الدین علی واقعیّاتها(2).

قال السیّد المرتضی: لم یُمْنَ أهلُ فرقة و لا بُلی أهل مذهب بما بُلیت به الشیعة من التتبّع و القصد و ظهور کلمة أهل الخلاف؛ حتّی أنّا لا نکاد نعرف زمانا سلمت فیه الشیعة

من الخمول و لزوم التقیّة، و لا حالاً عَرِیَت فیها من قصد السلطان و عصبیّته و میله

و انحرافه(3).

و الشیعة لا یجوّزون التقیّة فی کلّ مورد، بل لها موارد مخصوصة معیّنة؛ فلایجوز فی قتل المؤمن مثلاً و لا فی شیء یوجب فسادا فی الدین، فلا وجه لنسبتها إلیهم علی الإطلاق.

و إجمال القول: إنّها ممّا تختلف أحکامها بحسب الموارد؛ فقد تجوز فی حال دون حال؛ لخوف أو لضروب من الاستصلاح و المداراة، و قد تجب أحیانا و تکون فرضا، و تجوز أحیانا من غیر وجوب، و تکون فی وقت أفضل من ترکها، و یکون فی وقت آخر ترکها أفضل و إن کان فاعلها معذورا(4).

و قد صرّح فقهاؤهم بانقسامها حسب الأحکام الخمسة المعروفة، و عدّوا موارد وجوبها و ما هو جائز منها أو غیر جائز، و أنّ الواجب منها ما کان لدفع الضرر الواجب، کما

ص:193

إذا علم بالضرورة أو قَوِی فی الظنّ أنّه یُعقِب ضررا دینیّا أو دنیویّا. کما أنّ المستحبّ منها ما کان للتحرّز عن حصول الضرر، کترک المعاشرة و المداراة التی تنجرّ غالبا إلی تضرّر.

و المکروه ما کان ترکه و تحمّل الضرر الناشئ منه أولی من فعله. و المحرّم منها ما کان فی قتل المؤمنین أو فیما علم أو غلب علی الظنّ بأنّه ینجرّ إلی فساد فی الدین و أصوله و أرکانه(1).

و علی کلٍّ، لیست التقیّة و القول بها ممّا یتفرّد به الشیعة(2)، و لا کلّ شیء مورد للتقیّة عندهم، و لا کلّ خبر مخالف لخبر آخر یحملونه علی التقیّة ؛ فإنّ للأخبار المختلفة

الصادرة عن الأئمّة علیهم السلام عللاً غیر ذلک، سنشیر إلی شیء منها فیما یأتی.

و ممّا یتفرّع علی ذلک هو الاختلاف الواقع فی بعض الأخبار فی جواب بعض مسائل سألهم علیهم السلام عنها الشیعة فأجابوا فیها باختلاف؛ حیث توافق أجوبتُهم فی بعضها مذاهبَ القوم و تخالفها فی بعض آخر، فکان الاختلاف ناشئا من طرفهم، حتّی أنّه وقع فی

بعض الأخبار التصریح بذلک(3).

و فی بعضها فی جواب من سأل عن سبب هذا الاختلاف: «إنّ هذا خیر لنا و أبقی لنا و لکم. و لو اجتمعتم علی شیء واحد لصدّقکم الناس علینا و لکان أقلّ لبقائنا و بقائکم»(4).

و فی آخَر، فی جواب من قال: إنّه لیس أشدّ علیّ من اختلاف أصحابنا، أنّ الإمام علیه السلام أجاب و قال: «ذلک من قِبَلی»(5).

ص:194

و سبب ذلک أنّ ولاة الأمر من الخلفاء و غیرهم من المعاصرین للأئمّة علیهم السلام- لأجل کسب تمایل الرأی العامّ أو لأسباب سیاسیّة أخری - کانوا یناصرون الفقهاء المعروفین فی

ذلک العصر بالرجوع إلیهم فی الفقه و الفتوی(1).

و قد أشرنا سابقا إلی أنّ المنصور عرض علی ما لک أخذ الناس بفتاویه و العمل علیها، فمنعه مالک عن هذا(2). و کان غرضه من ذلک هو أن یجعل لفتاویه - و هو من

فقهاء المدینة دار الهجرة و له عند الناس مکانة و منزلة - صبغة قانونیّة رسمیّة، حتّی لا یتجاوزها الناس و لایتعدّوها؛ کما هو الشأن فی القوانین الدولیّة فی زماننا هذا.

و بالجملة، کانت السیاسة عاملة علی معاضدة هؤلاء الفقهاء الموالین لهم و الموافقین لأغراضهم، مجدّة فی حمل الناس علی اتّباع آرائهم، بل معاقبة من یخالفهم

فی شیء منها. فکان استقرار المذهب من طریقة الإمامیّة - و هم فی موضع ارتیاب و تهمة من الحکومة، و حرکاتهم تحت إشراف و مراقبة - علی أمر یخالف آراء هؤلاء الفقهاء أو القضاة المنصوبین من قِبَلهم للإفتاء أو القضاء، ممّا له مسیس بالسیاسة، و له أثره

الطبیعیّ فی وقوع الشیعة تحت التضییق و التشدید.

و لهذا السبب کانت الجوابات الصادرة عنهم علیه السلامو فتاویهم - فیما یتمایز فیه مذهب الشیعة و طریقهم عن آراء القوم - تصدر علی اختلاف، حتّی لایحصل لمذهب الشیعة بسبب ذلک طابع خاصّ متمایز فی الظاهر، یتّخذه خصومهم وسیلة إلی اضطهادهم. فعمدة الغرض من إیقاع الاختلاف فی أمثال ذلک أن لایحصل لمذهب الشیعة ما یعیّنه و یشخّصه فی مقابل مذهب الحکومة و طریقتهم الرسمیّة. و الشواهد علی ذلک من الآثار کثیرة وافرة(3).

و لنذکرها هنا شیئا من أسباب اختلاف الأخبار المرویّة عن الأئمّة علیهم السلام، لیعلم أنّ

ص:195

ذلک لیس منحصرا فی التقیّة، بل لاختلافها علل وراء ذلک.

و قد قدّمنا الإشارة إلی ما کان من طعن مخالفی الشیعة من هذه الجهة، و قولهم: إنّ شیوخ الإمامیّة یطعنون علی مخالفیهم بالاختلاف الذی یدینون به، و یشنّعون علیهم بافتراق کلمتهم فی الفروع، و یذکرون أنّ هذا ممّا لایجوز أن یتعبّد اللّه الخلق به؛ مع أنّا نجدهم أشدّ اختلافا ممّن یطعنون علیهم و أشدّ تباینا من مباینتهم، حتّی لایکاد یتّفق خبر إلاّ و بإزائه ما یضادّه، و لایسلم حدیث إلاّ و فی مقابله ما ینافیه(1).

و قد صار هذا الاختلاف سببا لدخول الشبهة علی بعض مَن لیس لهم قوّة فی العلم و لا بصیرة بوجوه النظر و معانی الکلام، حتّی أنّ الشیخ الطوسیّ قال: سمعت شیخنا أبا

عبد اللّه یذکر أنّ أبا الحسین الهارونیّ العلَویّ کان یعتقد الحقّ و یدین بالإمامة، فرجع عنها لمّا التبس علیه الأمر فی اختلاف الأحادیث، و تَرَک المذهب و دان بغیره لمّا لم یتبیّن له وجوه المعانی فیها(2).

2 - صدور الأحکام علی طبق مذاهب العامّة تقیّة، کی لا یُعرف مذهب الشیعة و یتمیّز بعینه، علی تفصیل أُشیرَ إلیه فیما سبق(1).

3 - اختلاف جوابات المسائل الناشئ منهم علیهم السلام، و قد مرّ ذکر العلّة فی ذلک أیضا(2).

و کان فی بعض الأوقات یصدر عنهم جواب بعض مسائل الشیعة بألفاظ متشابهة تُحمَل علی وجوه(3)، و کانت الشیعة تعرف الواقع منها بقرائن الحال و المقام.

4 - الخلط بین الأخبار المرویّة عنهم علیهم السلام و روایات العامّة؛ فإنّ من الشیعة مَن کان یروی عن مشایخ أهل الحدیث من العامّة أیضا، فبتمادی الزمان و وقوع الاشتباه نقلوا أحادیث کلّ من الفریقین عن الآخر، کما اتّفق نظیر ذلک فی أخبار أهل السنّة أیضا، فذکروا أنّ أبا هریرة کان یروی أخبارا عن النبیّ صلی الله علیه و آله، و کعب الأحبار یروی من أخبار الیهود و الإسرائیلیّات الموجودة فی التلمود(4) و غیره من کتبهم. ثمّ اختلط علی الناس، فرَوَوا ما سمعوه عن کعب علی أنّه أخبار مرویّة عن النبیّ صلی الله علیه و آلهبطریق أبی هریرة(5).

و قد امتنع لأجل هذه العلّة محمّد بن أبی عُمَیر - من أجلاّء مشایخ الشیعة - عن روایة مسموعاته عن العامّة. ذکروا أنّه قالوا له: إنّک قد لقیت مشایخ العامّة، فکیف لم

تسمع منهم؟ فقال: قد سمعت منهم، غیر أنّی رأیت کثیرا من أصحابنا قد سمعوا علم الخاصّة و علم العامّة، فاختلط علیهم حتّی کانوا یروون حدیث العامّة عن الخاصّة

ص:197

و حدیث الخاصّة عن العامّة، فکرهت أن تختلط علیّ، فترکت ذلک و أقبلت علی هذا(1).

5 - النقل بالمعنی و ذهاب خصوصیّات الکلام، فکثیرا مّا یحصل الاختلاف بسبب ذلک(2). و هذا کثیر الوقوع فی أخبار الفریقین، حتّی أنّ الخوارج شنّعوا بذلک علی قاطبة أهل الحدیث، و قالوا: إنّ النبیّ صلی الله علیه و آله ما کان الصحابة تکتب کلامه، و إنّما کانوا یسمعون منه، و ربّما رَوَوا ذلک الکلام بعد ثلاثین سنة. و معلوم أنّ من تعوّد تلفیق الکلام من العلماء لو

سمعوا کلاما قلیلاً فأرادوا إعادته فی تلک الساعة بعین الألفاظ عجزوا عنه، فکیف بالکلام الطویل بعد المدّة الطویلة من غیر تکرار و لا کتابة؟ ثمّ بعد مضیّ مدّة لا یمکن

إعادة المعنی بتمامه، فإنّ الإنسان مظنّة للنسیان(3). و ممّن نسب إنکار العمل بالحدیث

إلی الخوارج هو البغدادیّ فی کتابه أصول الدین(4).

و قد کانوا یحضرون مجلس النبیّ صلی الله علیه و آله و قد ابتدأ بالحدیث، فیلحقه بعضهم فی الأثناء فینقله بانفراده فیتغیّر المعنی لذلک، و لذلک کان صلی الله علیه و آله(5) إذا أحسّ برجل داخل، ابتدأ الحدیث(6).

ص:198

الخلاف فی مسائل الدین. و ما زالت الأئمّة علیهم السلام یحتجّون بآیاته علی المخالفین و فی

مقام بیان أحکام الدین(1)، و لم یُعهد فی ذلک خلاف من السلف.

و خالف فی الأواخر فی حجّیّة ظواهره جملةٌ من متأخّری الأخباریّة من الشیعة، ممّن أقصی درجتهم معرفة ظواهر الآثار و البحث عن مدالیلها بنظر عارٍ عن التدبّر و الاعتبار، فأنکروا حجّیّة ما لم یفسّر منه فی السنّة ؛ اغترارا منهم بظواهر أخبار واردة فی ذلک المعنی حملوها علی غیر محاملها الصحیحة و وجوهها المَرْضیّة(2).

مع ما فی الکتاب من الأمر بالتدبّر فی آیاته و أنّه أُنزل تبیانا لکلّ شیء، و أنّه مصدّق

لما بین یدیه، و أنّه هدیً و بیان، و ما امتنّ اللّه به من إنزال الکتاب بلسان عربیّ مبین ، إلی غیر ذلک من آیات کثیرة(3).

و مع ما فی السنّة من وجوب التمسّک به و الرجوع إلیه و التعویل علیه، و أنّ کلّ شیء مردود إلیه، و أنّ الحدیث إذا کان له شاهد من کتاب اللّه قُبل و إلاّ رُدّ، و أخبار العرض علی کتاب اللّه المدّعی تواترها، إلی غیر ذلک من الأخبار و الآثار(4).

و قد ردّ المجتهدون من الشیعة علی هؤلاء و زیّفوا أقوالهم و أجابوا عن شبهاتهم بما لامزید علیه(5).

ص:200

و هذه الأحادیث الحاکیة للسنّة هی الأخبار الموجودة فی جوامع الفریقین و صحاحهم و أصولهم و مسانیدهم و کتبهم، ممّا رواه الرواة من الفریقین بالأسانید المتّصلة إلی من یروونها عنهم، علی شروط مذکورة فی محالّها من کتب الأصول و الدرایة(1).

و السنّة الکریمة فی المرتبة الثانیة فی استخراج الأحکام الشرعیّة، فهی بعد کتاب اللّه عزّ وجلّ أصل من أصولها یُبنی علی مقتضاها فی معرفة الحلال و الحرام، و حجّة شرعیّة یجب العمل بمؤدّاها مهما ثبت صدورها بالطرق الموثوقة من قول النبیّ صلی الله علیه و آلهو فعله و تقریره، أو من أفعال خلفائه و أوصیائه و أفعالهم و تقاریرهم. و هی المتکفّلة ببیان

تفاصیل ما ثبت من القرآن الکریم من أصول العبادات و الأحکام و المعاملات و أجزائها و جزئیّاتها و شرائطها، و بیان مجملات الآیات و تقیید مطلقاتها و تخصیص عموماتها. و فیها وراء ذلک أحکام قضایا و حوادث لم یرد ذکرها صریحا فی القرآن الکریم(2).

و للأخبار النبویّة و سنّته المقدّسة میزة أخری و رجحان عند الشیعة علی سائر الأخبار، ببُعدها غالبا عن محامل التقیّة الموجودة فی غیرها من أخبار الأئمّة علیهم السلام. و قد ورد کثیر من الأخبار الآمرة بعرض سائر الأخبار الصادرة عن الأئمّة علیهم السلام علیها، کعرضها علی القرآن، و الأخذ بما یوافقها و طرح ما یخالفها(3).

قسم منها متواتر، و هو خبر جماعة یفید بنفسه القطع. و قد عرّفوه بأنّه : خبر جماعة بلغوا فی الکثرة إلی حدّ یُؤمَن تواطؤهم علی الکذب و یحصل بإخبارهم العلم.

و قسم منها آحاد، و هی ما لم تبلغ حدّ التواتر؛ سواء کان المُخبِر واحدا أو متعدّدا، و سواء أفاد العلم أم لا(1).

أمّا الخبر المتواتر فالعلم المستفاد منه ضروریّ(2) و لکنّه قلیل، و بالخصوص المتواتر لفظا، حتّی قال بعضهم: مَن سُئل عن إیراد مثال للمتواتر اللفظیّ أعیاه طلبه(3). و أکثر ما یقال بالتواتر فیه هو من قبیل التواتر المعنویّ. و علی کلّ حال، الخبر المتواتر

مهما وجد بشرائطه فهو حجّة شرعیّة یجب اتّباعه و العمل بمؤدّاه.

و أما أخبار الآحاد ففی جواز التعبّد بها عقلاً و وقوع التعبّد به فی الشرعیّات، خلاف

معروف بین الأصولیّین من الفریقین لا محلّ لبسط القول فیه هاهنا. و قد عنون أهل الأصول مسألة أخبار الآحاد، و تعرّضوا لما یجب التعرّض له من مباحثها بما لا مزید علیه(4)، إلاّ أنّنا نری من اللازم أن نتعرّض لها من الناحیة التاریخیّة لکشف جلیّة الحال فی أطرافها.

یعرف کلّ باحث أنّ السنّة النبویّة المأثورة لم تکن مجتمعة عند شخص أو أشخاص معدودین، بل کانت متفرّقة فی الصحابة، و فیهم المکّیّ و المدنیّ، و الحجازیّ و التِّهامیّ،

و البدویّ و الحَضَریّ و غیر هؤلاء.

کذلک کان تَلقّی تلک السنّة الکریمة؛ فمنها ما یتلقّاه الجماعة الکثیرة من الحاضرین.

ص:203

و من هذا القبیل أغلب أصول العبادات و کیفیّاتها.

و منها ما یختصّ بأشخاص اتّفقت لهم حوادث و قضایا سألوا رسول اللّه صلی الله علیه و آله عنها،

و تعلّموا أحکامها. و ربّما کان یحضر بعض منهم عند مسألة یسأل عنها، أو حکم یحکم به، أو فعل یصدر منه أو أمر أو نهی، و یغیب عنه آخر. و لم یکونوا کلّهم یسألونه، و کانوا فی بعض الأحیان یحبّون أن یجیئ الأعرابیّ و الطارئ، فیسأل النبیَّ صلی الله علیه و آله عن شیء حتّی یسمعوا(1). و أکثر السنّة القولیّة من هذا القسم الأخیر.

و انتشر الصحابة الحاملون لهذه الأحادیث بعد النبیّ صلی الله علیه و آله فی الأعصار بسبب الفتوحات الإسلامیّة، و جنّدوا بها الأجناد، و سکنوا فیها. و اجتمع إلیهم کثیر من الناس

یأخذون عنهم و یتعلّمون منهم الأحکام و یتحمّلون عنهم السنن و الآثار. و خلّفهم التابعون الآخذون علومهم عمّن لَقَوهم من أصحاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فصاروا المرجع بعد الصحابة یأخذ الناس عنهم ما رووه عن الصحابة و یتعلّمون منهم(2).

و قد فشت فاشیة الکذب فی الحدیث من لَدُن عصر الصحابة، بل عُهِد الکذب فی ذلک علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی زمانه، حتّی قام خطیبا فی الناس قائلاً: «أیّها الناس، قد کَثُرَت

الکذّابة علَیّ. ألا من کذب علَیّ متعمّدا فلیتبوّأ مقعده من النار(3)».

من ترویج نحلة، أو دعوة إلی بدعة، أو احتجاج لطریقة، أو ترغیب فی طاعة أو ترهیب عن معصیة، أو احتساب لأجر و ثواب(1). و عن طرق أولئک الأشخاص المختلفین -

و فیهم الصادق و الکاذب، و الواهم و الناسی و المحرّف و الضابط و غیر هؤلاء - وصل معظم تلک الآثار النبویّة إلی المحدّثین مدوّنیها، و إلی أهل الأخبار الذین دأبهم جمع

الأخبار و تدوینها فی مختلف المواضیع.

و کلا الفریقین لا همّ لهم إلاّ کثرة الأخذ و الروایة و الوقوف علی ما لم یکن عند غیره، مع عدم الاعتناء و قلّة المبالاة بحال مَن یؤخذ عنه، حتّی أنّ مِن هؤلاء مَن کان

یحمل الأخبار عن الیهود و النصاری و یسمّیهم : أهل العلم الأوّل(2)، فتفاقم الأمر فی باب الروایات و أشکل تمییز صحیحها من فاسدها.

و کان عموم البلاء بذلک و مقاومة ذاک التیّار الجارف من الموضوعات هو الذی نبّه نقّاد الآثار إلی وضع قواعد للروایة، و تحمّل الأحادیث، و الاهتمام بأمر أسانیدها، و عِلل متونها و غیر ذلک، حتّی نشأت من ذلک علوم الحدیث بأصنافها(3).

أمّا الشیعة فقد کان اجتمع عندهم کتب و أصول کثیرة فی الحدیث ممّا روتها أسلافهم عن الأئمّة علیهم السلام و انتشرت بانتشارهم فی الأکناف و الأصقاع و الأقطار. و لم تسلم مرویّاتهم من بلاء التحریف و الوضع و وجود الأخبار المکذوبة بینها(4). و قد ذکرنا

ص:205

سابقا أنّه کان هناک جمع من الکذّابین دَسُّوا أنفسهم بین الشیعة یضعون الأحادیث و یدسّونها بین روایات الشیعة و کُتُبهم(1).

و هناک أسباب و علل أخری للخلل الواقع فی أحادیث الشیعة لامجال للتعرّض لها هاهنا. و قد تصدّی جمع من العلماء و محدّثی الشیعة لتهذیب الأحادیث المرویّة عن هذا

القبیل من الأخبار(2).

و بالجملة، فالذی علیه نظّارهم و محقّقوهم، أنّه لایجوز الرکون فی الأصول الاعتقادیّة علی أخبار الآحاد، و أنّه لایجوز العمل بمقتضاها فی الفروع أیضا إلاّ بشروط

و بانضمام قرائن توجب العلم بمفادها، و تورث الوثوق و الاطمئنان بصدقها. و لم یکن بناء أهل البصیرة و النقد علی العمل بکلّ ما فی الکتب من الأحادیث المرویّة، و إنّما کان یذهب إلی ذلک جمع من غَفَلة أهل الحدیث ممّن یعوّلون علی التقلید و التسلیم و العمل

بظواهر ما ورد من الأحادیث، کما کانوا موجودین بین رواة الجمهور أیضا، و یطلق علیهم اسم الحشویّة و الظاهریّة و أهل الأخبار(3).

و قد قدح الأجلاّء من علماء الشیعة بهؤلاء الأشخاص و طریقتهم. و شنّع الشیخ المفید علی أصحاب الحدیث هؤلاء الذین لایهتمّون بحال ما یأخذونه من تلک الأحادیث و لایقتصرون فی النقل علی المعلوم. و قال: إنّهم لیسوا بأصحاب نظر و لا تفتیش و لا فکر فیما یروونه، فأخبارهم مختلطة لایتمیّز منها الصحیح من السقیم إلاّ

بنظر فی الأصول و اعتماد علی النظر الذی یوصل إلی العلم بصحّة المنقول(4).

و إنّا نورد فی هذا المقام کلاما جامعا أورده الشریف المرتضی فی أجوبة بعض مسائله فی نظیر المقام، قال:« إنّه لایجب الإقرار بما تضمّنته الروایات ؛ فإنّ الحدیث

المرویّ فی کتب الشیعة و کتب جمیع مخالفینا یتضمّن ضروب الخطأ و صنوف الباطل،

ص:206

من محال لایجوز و لایتصوّر، و من باطل قد دلّ الدلیل علی بطلانه و فساده، کالتشبیه و الجبر و الرؤیة، و القول بالصفات القدیمة. و مَن هذا الذی یحصی ما فی الأحادیث من

الأباطیل؟!

و لهذا وجب نقد الحدیث بعرضه علی العقول، فإذا سلم علیها عُرض علی الأدلّة الصحیحة کالقرآن و ما فی معناه. فإذا سلم علیها جوّز أن یکون حقّا و المخبر به صادقا.

و لیس کلّ خبر جاز أن یکون حقّا و کان واردا من طریق الآحاد، نقطع علی أنّ المخبر به

کان صادقا.

ثمّ ما کان ظاهره من الأخبار مخالفا للحقّ و مجانبا للصحیح، علی ضربین: فضرب یمکن فیه تأویل، و له مخرج قریب لایخرج بشدید التعسّف و بعید التکلّف، فیجوز فی هذا الضرب أن یکون صدقا، و المراد به التأویل الذی خرّجناه.

و أمّا ما لامخرج له و لا تأویل إلاّ بتعسّف و تکلّف یخرجان عن حدّ الفصاحة بل عن حدّ السداد، فإنّا نقطع علی کونه کذبا، لاسیّما إذا کان عن نبیّ أو إمام مقطوع فیهما

علی غایة السداد و الحکمة و البعد عن الألغاز و التعمیة(1)».

ص:207

و ما یصحّ التمسّک به منها و ما لایصحّ، بما لامزید علیه فی محلّه(1).

و القضایا و لم یجدوا حکمه فی صریح القرآن و ظاهر آیاته، و لا فیما وصل إلیهم من سنّة

رسول اللّه صلی الله علیه و آلهالمحکیّة، جمعوا رؤوس الناس و خیارهم و أهل العلم و الفقه منهم،

و استشاروهم فیما یحکمون فیه و یقضون به. فإذا أجمع الرأی منهم علی شیء أو فتوی اتّخذوه حجّة و عملوا به أو قضوا علی طبقه. ثمّ استمرّت السیرة علیه بعد ذلک من زمن

التابعین و تابعیهم إلی الأعصار المتأخّرة زمن الفقهاء المعروفین(1).

و قد کان تحصیل الاتّفاق علی هذا الوجه سهلاً و متیسّرا فی الصدر الأوّل، إذ أهل العلم و أرباب الحلّ و العقد من الصحابة محصورون و مجتمعون فی مکان واحد. ثمّ تعسّر

الأمر و تعذّر تحصیل الاتّفاق علی هذا النحو بکثرة المسلمین و انتشارهم و انتشار العلماء فی الأعصار المختلفة، فاحتاجوا إلی تتبّع الآراء و تفحّص الأقوال ممّا یتعذّر

عادة. و لصعوبة ذلک و تعذّره أحال بعضهم العلم به إلاّ فی زمن الصحابة(2).

و الإجماع منه محصّل و هو ما ثبت و عُلِم بلا واسطة النقل و إن استند إلیه فی الأصل.

و منقول، و هو ما طریق ثبوته واقعا هو النقل بنفسه؛ إمّا بلفظ الإجماع أو بما هو فی معناه أو فی حکمه(3).

و قد عرفت حجّیّة المحصّل منه، فإذا حصل بطریق یقطع به یجب العمل علی مقتضاه.

و أمّا المنقول فقد وقع الخلاف فی حجّیّته بین الأصولیّین و الفقهاء. و من یراه حجّة من الخاصّة فهو عنده بمنزلة خبر صحیح عالی السند، یحکی مضمونه و مدلوله عن الإمام

ص:210

و یرویه عنه بلا واسطة(1). و مباحث الإجماع و مسائله مستقصاة فی کتب أصول

الفقه(2).

یقال: إنّه واجب شرعیّ أیضا لما بین الحکمین من التلازم.

و قسم لایستقلّ العقل بإثباته کأبواب الملازمات؛ فإنّ العقل إنّما یحکم فیها بواسطة الدلیل الشرعیّ، و ذلک کحکمه باستلزام تعلیق شیء علی شیء، انتفاءه عند انتفائه فی الجملة، و أنّ الأمر بالشیء لایجامع النهی عنه مع وحدة الجهة لکونه تکلیفا محالاً، و کحکمه بمطلوبیّة المقدّمة عند قیام الدلیل بمطلوبیّة ذی المقدّمة. و من هذا القسم : أبواب المفاهیم ؛ لابتنائها علی ما یقتضیه من الخطاب الشرعیّ، و یدلّ علیه إمّا بطریق

الموافقة أو المخالفة.

و الذی یعدّ فی المدارک الشرعیّة فی الاصطلاح غالبا و یرجع إلیه فی مقام الاستنباط، هو القسم الثانی من دلیل العقل الذی یحکم به بملاحظة خطاب الشرع علی ما عرفته.

و أمّا القسم الأوّل - و هو الذی یحکم به العقل بدون توقّف فی حکمه علی ملاحظة خطاب الشرع؛ لاستقلاله بإدراک حسنها و قبحها- فهو من المسائل الکلامیّة، و علیه یبتنی

غالب مسائل الخلاف بین العدلیّة من الشیعة و المعتزلة و بین الأشعریّة و موافقیهم. و إذ کان له ارتباط ببعض مسائل الأصول، کخطاب المعدوم، و الخطاب بما لایراد ظاهره و أمثالها، بحث عنه بعض أهل الفنّ فیه فی المبادئ الأحکامیّة، و بحثوا عن الملازمة بین

حکم العقل و الشرع(1). و المعنیّ به قطع العقل بحسن شیء أو قبحه، و الحکم الشرعیّ بوجوبه أو حرمته.

فلا ریب أنّ اللّه تعالی ممّا یحسّن الحسن و یقبّح القبیح، و متی حسّنه أوجبه و حکم بوجوبه، و متی قبّحه حرّمه و حکم بحظره، و أن کان یمکن عدّ هذا القسم أیضا من المدارک للأحکام عند مَن یقول بثبوت الملازمة، و أنّ الاستغناء عنه بما عداه من الأدلّة

الشرعیّة لا یقتضی إسقاطها من بین الأدلّة الشرعیّة، بل یدور علیه تکالیف کثیر من

ص:212

الناس، کأهل الفترة(1) و مَن بمکانتهم، بل المجتهد نفسه إذا لم یَسَعه الرجوع إلی الأدلّة

أو رجع و تعارضت علیه(2).

ص:213

الظنّ الذی لایغنی من الحقّ شیئا.

و إذ کان الرجوع إلی أمثال هذه الأمور یسمّی اجتهادا فی الرأی فی عرف مخالفیهم، فهم ینفون الاجتهاد بهذا المعنی، و إن کانوا یثبتون الاجتهاد بمعنی آخر ستطّلع علیه فی مقام آخر، و یعملون بموجبه(1).

و من اللازم الإشارة إلی ما دعا هؤلاء العاملین بالآراء الظنّیّة الاجتهادیّة إلی اتّخاذها أصلاً و مدرکا من مدارک الاستنباط فی مقابلة الأدلّة القطعیّة، حتّی یظهر جلیّة

الحال و یتّضح موقفهم مِن موقف مَن یخالفهم فی ذلک.

ظهر الإسلام فی جزیرة العرب و کان یقطنها مختلف قبائل عربیّة هم علی جانب کبیر من بساطة العیش و سذاجة الأخلاق. و لهم علی ما کانوا علیه - من اختلاف بینهم و تقاطع و تنازع و تناکر - جملة عادات و قوانین فی أمور معایشهم و معاملاتهم و فصل خصوماتهم أوجدتها لهم البیئة و المناخ(2)، فصارت لهم مألوفا و عادة(3).

ثمّ علت کلمة الدیانة و دخل الناس فی دین اللّه أفواجا، و أصبحت الأقوام و القبائل المتفرّقة التی لاتجمعهم جامعة دین و لا رابطة اجتماع، مجتمعةً تحت جامعة الإسلام و دانوا بآدابه، فبَدَّل المحیطَ العربیّ و قَلَبه من حال إلی حال، فکان له أثر کبیر فی تهذیب

ص:215

أخلاقهم و تقویم نفوسهم، و تطهیرها من الأوهام و الخرافات، و إخراجهم من ظلمات

الجهالة إلی النور(1).

و کانوا طولَ أیّام حیاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله هو مرجعهم فیما یتّفق لهم من القضایا و الأحکام، فیأتیهم من ذلک بالقول الفصل. و قُبض صلی الله علیه و آله و انقطع الوحی، و المرجع للمسلمین هو کتاب اللّه عزّ و جلّ و السنّة النبویّة المأثورة، علی تفصیل أُشیر إلیه فی غیر هذا الموضع(2).

و ازداد انتشار الإسلام و اتّسعت رقعته بامتداد الفتوح و تواصل الغزوات فی بلاد الروم و الفرس و مصر و غیرها من الممالک و الأقالیم التی دخلت فی سیطرة المسلمین، و کانت بالغةً درجةً من التمدّن و الرقیّ بحسب مقتضیات تلک العصور. و انساحت أفانین

العرب فی مختلف بلادها و أقطارها المترامیة، و دخلت الأمم الکثیرة من ساکنیها فی الدیانة الإسلامیّة. و لکلّ من هؤلاء نظمه و قوانینه و عاداته، و امتزجت الأمم المغلوبة

بالأُمّة الفاتحة، و تأثّرت حالاتها و نفسیّاتها بحالاتهم و نفسیّاتهم، و تغیّرت الأحوال

و الأخلاق و الآداب تبعا لذلک التغیّر و الانقلاب الاجتماعیّ الکبیر.

فرأی المسلمون أنفسهم - حیال أمور کثیرة و إزاء وقائع و حوادث فی کلّ شأن من شؤون الحیاة و کلّ ناحیة من ضروریّات الاجتماع - یحتاجون إلی تعرّف أحکامها و ما یلزمهم العمل بها عند حدوثها و وقوعها، و کیفیّة التقاضی و فصل الخصومات فیها، و غیر

ذلک من الحوادث التی لم یکن لهم بها عهد، و هم علی تلک الحیاة البسیطة فی جزیرتهم.

و إذ لم یعثروا من نصوص القرآن و ظواهره، و لا من مأثور السنّة ما یرشدهم إلی

ص:216

أحکامها و یوضح لهم ما یجب العمل به عند حدوثها، فزع کثیر ممّن یُرجَع إلیهم فی أمثال

ذلک إلی استعمال الأقیسة و اجتهاد آرائهم فی استخراج أحکامها عن أشباهها و أمثالها

ممّا لها أصول من الشرع و مدارکه. و هذا هو ما یعبّر عنه بالقول بالرأی أو اجتهاد الرأی،

علی اختلاف طرقه و مسالکه(1).

و بتتبّع ما وصل إلینا من الآثار و التدبّر فی الموارد التی رجعوا فیها إلی الآراء، یمکن

أن یتوصّل إلی التعبیر فی التعریف عن ذلک المعنی بأنّه: عبارة عن التفکّر و إجالة النظر

فیما یجب أن یُعمَل علیه و یُجری علی طبقه فی تلک الحالة، و التحرّی لمعرفة الحقّ و الصواب، أخذا عن أصول من الشرع عامّة أو خاصّة(2).

ص:217

بأس به. فقال عمر: قد کرهته. فقال: یا أمیر المؤمنین، أنا أیضا قد کرهتُه إذ کرهتَه(1). بل یظهر أنّهم لم یکونوا فی أنفسهم علی جزم و ثبات فی آرائهم؛ روی عن الشعبیّ أنّ قوما

سألوا زید بن ثابت عن شیء فأفتاهم فکتبوه، فقال زید: ما یُدریکم، لعلّی قد أخطأت و إنّما اجتهدت لکم رأیی(2).

و روی عنه أیضا عن ابن عبّاس أنّه قال: ربّما أنها کم عن أشیاء لعلّها لیس بها بأس، و آمرکم بأشیاء لعلّ بها بأسا(3).

و قول ابن مسعود فی حدیث بردع بنت و اشق:«أقول فیها برأی فإن کان خطأ فمنّی، و إن کان صوابا فمن اللّه» معروف(4).

و لو ذهبنا إلی نقل الآثار المرویّة فی أمثال ذلک لأدّی إلی التطویل.

و کما أُثِر عن هؤلاء القول بالرأی، فقد نقل ذمّه و التحذیر منه أیضا عن کثیر من الصحابة و التابعین؛ فعن أبی بکر، و عمر، و ابن مسعود، و عبد اللّه بن العبّاس، و ابن عمر و غیرهم آثار کثیرة فی المنع عن العمل بالرأی و ذمّه(5). و لسنا فی هذا المقام بصدد سرد

تاریخ العمل بالرأی و الظنون، و إنّما جَرّنا إلی البحث فیه ما له من علاقة بما یراه الشیعة من خطر العمل بها فی أحکام الدین، و نَفْی أن یکون مثل ذلک من المدارک و الأصول التی

یرجع إلیها فیما یجب أخذه من قواعده.

و منشأ ذلک النفی أنّهم یقولون: إنّ اللّه سبحانه لم یقبض نبیّه صلی الله علیه و آله حتّی أکمل الدین و بیّن له جمیع ما تحتاج الأمّة إلیه من أحکام و فرائض، إذ جعل شریعته خاتمة الشرائع،

و دینه آخر الأدیان، و جعل حلاله و حرامه ثابتا لایتغیّر و دائما لایتبدّل(6)، و أنّ

ص:219

النبیّ صلی الله علیه و آله قد بیّن من ذلک ما وسعه بیانه و اقتضت الحکمة تبلیغه، و أنّه أودع علم جمیع

الأحکام ممّا یحتاج إلیه الناس عند وصیّه و خلیفته، و أمرهم بالرجوع إلیه(1). و أنّه علیه السلام أیضا لم یفارق الدنیا حتّی أقام حجّةً مِن بعدِه، عنده معرفة شرائع الإسلام و علم الحلال

و الحرام، و تَوارَثَه الأوصیاء مِن بعده حجّةً بعد حجّة و إماما بعد إمام.

فللّه تعالی شأنه، فی کلّ واقعة یحتاج إلیها المکلّفون، حکم ثابت معیّن عند أهله. و الطریق إلی معرفته هو الرجوع إلی صاحب الشرع فی زمانه، و إلی أوصیائه القائمین مقامه فی حفظ الدین و بیان أحکامه بسؤالهم أو بالرجوع إلی ما یوصل إلی أقوالهم و فتاویهم من الطرق الثابتة من أدلّة الشرع و العقل، و أنّ ما سوی ذلک ممّا یفزع إلیه

غیرهم من الظنون المبنیّة علی المقاییس و الآراء و المعانی، باطل لم یثبت اعتباره، محظورة العمل بمقتضیاته؛ إذ هو مظنّة الخطأ و مثار التخبّط و الاشتباه.

و قد عمل جماعة من سلف علماء الشیعة کُتبا فی نقض الاجتهاد و المنع عنه و النکیر علی الأخذ به، و کلّها ناظر إلی هذا المعنی الذی ذکرناه(2).

علی أنّه قد حُکی العمل بالرأی و القیاس و الاجتهاد بهذا المعنی عن جماعة من أوائل الإمامیّة، کزرارة بن أعین، و جمیل بن درّاج، و عبد اللّه بن بکیر، و آخرین. و من الأواخر عن یونس بن عبد الرحمن، و الفضل بن شاذان، و غیرهما. و الظاهر أنّ ذلک استفادة من ظواهر کلمات و لوازم تعبیرات منقولة عنهم، إذ لم نعثر لهم بعبارات صریحة فی ذلک تؤیّد ما نقل عنهم(3).

نعم، اشتهر عن أبی علیّ محمّد بن أحمد بن الجُنید الإسکافیّ - من علماء الشیعة المتأخّرین عن عصر الغیبة - القول بالرأی و القیاس، حتّی حکی أنّه نسب القول بذلک إلی

الأئمّة، و أنّه کتب فی ذلک رسالة سمّاها بالمسائل المصریّة، جعل الأخبار فیها أبوابا،

ص:220

و ظنّ أنّها مختلفة فی معانیها، و نسب علّة اختلافها إلی قول الأئمّة علیهم السلام فیها بالرأی(1).

و علی أیّ حال، قد استقرّ مذهب الشیعة علی خلاف ذلک و علی أنّ الأحکام الشرعیّة کلّها منصوصة؛ إمّا مجملاً أو علی سبیل التفصیل، و أنّ علمها عند أهله و یجب

أخذها عمّن یُقطَع فی حقّهم بعدم الخطأ و الزلل فیها و فی غیرها. و لا مجال للظنون و الآراء الظنّیّة التابعة للأهواء المختلفة فی شیء من أحکام الدیانة علی ما عرفته.

و نحن نشیر إلی شیء من هذه الأمور التی لایعوّل علیها الشیعة الإمامیّة باختصار.

و کانوا إذا لم یعثروا فی کتاب اللّه تعالی علی نصّ فی الحوادث الواقعة لهم، أو فی السنّة المحکیّة علی أثر یوضح حکمها، یفزعون إلی الرأی و القیاس و استخراج حکمها

من أشباهها و نظائرها(1).

و قد وردت الآثار الکثیرة عن الأئمّة علیهم السلام فی النهی عنه و عدم جواز العمل به فی

الأحکام الشرعیّة إلاّ فی موارد مخصوصة و رد النصّ بجواز ذلک فیها؛ نحو قِیَم المتلفات، و أُروش الجنایات، و جزاء الصید، و القِبلة و ما جری هذا المجری(1).

و فی بعضها: أنّ فیه محق الدین، و أنّ ما یفسده أکثر ممّا یصلحه، و أنّ دین اللّه لا

یُصاب بالمقاییس(2). إلی غیر ذلک ممّا ادّعی تواتره(3).

و لقد کانوا علی معرفة کاملة بمناهج الأقیسة، و مُتقنین لطُرُقها علی أحسن وجوهها، کما یتّضح ذلک من مراجعة ما اتّفق لهم من المکالمات مع کبار القائسین و أئمّة

الرأی، و مقایستهم إیّاهم بالطرق التی ینهجونها. و کانوا کثیرا ما یعلّمون نظّار الشیعة

و فقهاء أصحابهم ما یحتاجون إلیه من ذلک فی إلزام الخصوم و قهر مناظریهم. و إنّما الذی

منعوا منه هو اتّخاذه أصلاً متّبعا فی مقابل الکتاب و السنّة، یُفزع إلیه و یعوّل عند الحوادث علیه(4).

و لم یُؤثَر عن فقهاء الشیعة المشهورین تعویلٌ علی القیاس و الرأی و عمل به إلاّ ما أسلفناه من جنوح أبی علیّ بن الجُنید الإسکافیّ إلیه ؛ فإنّه عمل بالأقیسة، و اختار فی

ص:223

الفقه لذلک جملة مذاهب و آراء وافق فیها أبا حنیفة و غیره من أصحاب الرأی فیما لم یأتِ

به أثر، فأنکر سائرُ الإمامیّة ذلک علیه غایة الإنکار، و أهملوا أقواله و طرحوها، حتّی أنّه لأجل ذلک صارت مصنّفاته مع کثرتها وجودة ترتیبها و تفریعها، متروکةً مهملة(1).

و لمّا کان عمدة ما دعا القومَ إلی العمل بالقیاس و الرأی هو وفور الحوادث التی لا یُوجد فیها نصّ صریح من ظواهر الکتاب و الحدیث، و التی لایجوز ترکها و إهمالها؛ فالإمامیّة یقولون: إنّ کلّ ما کان من هذا القبیل ممّا فزعوا فیه إلی القیاس و تکلّفوا فیه بالعمل بالرأی، ففیه عندهم نصّ إمّا مجمل و إمّا مفصّل(2).

و قد أشار الشیخ أبو جعفر الطوسیّ إلی ذلک ؛ فإنّه بعد ما نقل طعن فقهاء الجمهور علی الشیعة من هذه الجهة و استحقارهم لفقه الإمامیّة، و استنزارهم إیّاه، و قولهم: إنّهم

أهل حشو و مناقضة؛ لأنّ من ینفی القیاس و الاجتهاد لا طریق له إلی کثرة المسائل و لا

التفریع علی الأصول، لأنّ جلّ ذلک مأخوذ عن هذین الطریقَین، قال: «إنّ هذا جهل منهم

بمذاهب الشیعة و قلّة تأمّل لأصولهم. و لو أنّهم نظروا فی أخبارهم و فقههم لعلموا أنّ جلّ ما ذکروه من المسائل موجودة فی أخبارنا، و منصوص علیه عن أئمّة الدِّین الذین قولُهم

فی الحجّة یجری مجری قول النبیّ صلی الله علیه و آله، إمّا خصوصا أو عموما أو تصریحا أو تلویحا»(3).

الکتاب و السنّة فلایجوز التعویل علیه(1)، لأنّ اللّه تعالی أمر بالردّ عند التنازع إلی کتابه و إلی رسوله صلی الله علیه و آله(2)، و مورد القیاس عند عدم وجود النصّ. و قد شهد القرآن بأنّ اللّه لم یفرّط فی الکتاب شیئا(3)، و أنّ الدین قد أکمل(4)، و أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آلهقد بیّن للناس

کلّ ما نزل، فلا حاجة بأحد إلی قیاس و لا إلی رأی(5). فهم یوافقون الإمامیّة فی هذا

الباب.

و أمّا سائر الفرق فأشدّهم فیه توغّلاً و أرسخهم قَدَما، هم أتباع أبی حنیفة. و من المأثور عنه قوله: عِلمُنا هذا رأی، و هو أحسن ما قَدَرنا علیه، فمَن قدر علی أحسن من

ذلک فله ما رأی(6). نقله عنه صاحباه: القاضی أبو یوسف و الحسن بن زیاد اللؤلؤیّ، و هما من أجلّ الراوین عنه(7).

و قد صرّح الغزالیّ بعدم اکتراثه بمخالفة أبی حنیفة و قال: إنّی أقطع بخطئه فی تسعة أعشار مذهبه التی خالف فیها خصومه(8).

و دونه فی ذلک الشافعیّ و أتباعه، فهم لایرجعون إلی القیاس إذا وجدوا خبرا موثوقا بصدوره. و قد روی عن الشافعیّ أنّه قال: إذا وجدتم لی مذهبا و وجدتم علی خلاف مذهبی خبرا فاعلموا أنّ مذهبی ذلک الخبر(9).

و أمّا مالک بن أنس و تابعوه فهم أهل حدیث، یکرهون غالبا إعمال الرأی و القیاس،

ص:225

و یعیبون علی أهل الرأی من هذه الجهة(1). و کذلک أحمد بن حنبل و من تبعه(2).

لایقال فیه بالتعسّف و الاستحسان(1).

قاطع(1)؟

و قد صرّح أبو حامد الغزالیّ بأنّه لو قلّد الیوم أحد أبا بکر لم یجوّزه أحد من العلماء(2). و وضوح الأمر فی بطلان هذا القول یغنینا عن الإطالة فیه.

و قد ذکر فی عداد الأدلّة الظنّیّة أشیاء و أمور من قبیل الاستقراء، و حجّیّة أحکام

الشرائع السالفة و أمثال ذلک، أعرضنا عن ذکرها مخافة التطویل(3).

ص:229

أحکام الدین، و معرفة ما یعسر علیهم منها، لا سیّما فی أیّام الحجّ و موافاة الموسم الذی کان یمثّل الجمهور الأعظم من العالم الإسلامیّ.

و إنّما حصل انسیاح الشیعة فی الأرض و انتشارها فی معظم الأقالیم الإسلامیّة فی زمان الصادقین علیهماالسلام(1)، و بعد ذلک الانقلاب السیاسیّ العظیم، و تحوّل الملک من الأمویّین إلی العبّاسیّین، فظهرت الدعوة الشیعیّة فی الأقطار، و دخل فی التشیّع من

مختلف الأمم ما لایحصی کثرة، بل أُسّست بلاد علی مبدأ التشیّع رأسا، کقمّ و غیرها(2)، فکانت الشیعة یرجعون إلی أئمّتهم فی مسائل دیانتهم، و یطّلعون علی أحکامها. و من یتعذّر علیه ذلک و لم یکن فی مقدوره لقاؤهم و مشافهتهم، کان میسورا له الرجوع إلی الثقاة من شیعتهم العارفین بالأحکام والآخذین ذلک عنهم.

و من هؤلاء جماعة برزوا فی الفقه و العلم، سمعوا الأحادیث عن الأئمّة و تحمّلوا عنهم العلوم و الآثار، لا سیّما زمان الإمام أبی جعفر محمّد بن علیّ و ابنه الصادق علیهم السلام.

فقد ذکروا أنّ أصحاب الحدیث قد جمعوا أسماء الرواة عن جعفر بن محمّد علیه السلامعلی اختلافهم فی الآراء و المقالات، فکانوا أربعة آلاف رجل(3). و هناک روایات کثیرة واردة عن الأئمّة علیهم السلامفی إرجاع الشیعة إلی أمثال هؤلاء الأجلاّء من فقهاء أصحابهم و العدول

ص:231

الثقاة العارفین بمسائل الحلال و الحرام، کأمثال أبان بن تغلب، و زکریّا بن آدم، و زرارة،

و أبی بصیر، و محمّد بن مسلم، و بُرید بن معاویة، و یونس بن عبد الرحمن، و غیرهم ممّن

یطّلع علیه المراجع لکتب الرجال و فهارس أسماء الرواة من الشیعة(1).

و لمّا وقعت الغَیبة و حُرِمت الشیعة من لقاء الأئمّة و مشاهدتهم، کانت هذه الأخبار و الآثار المرویّة عن الأئمّة مرجع الشیعة فی أبواب الحلال و الحرام فی غیر ما دلّت الأدلّة القطعیّة [من الکتاب و السنّة] علیه؛ یرجعون إلیها و إلی الثقاة الأمناء العارفین بالأحکام من رواتها و حَمَلتها(2).

الطرق المقرّرة فی محلّها، إلی ما سوی ذلک من المباحث التی ألجأتهم إلی النظر فیها

ضرورةُ الحال فی استفادة الأحکام من المدارک وتحصیل العلم بها من الأدلّة.

فنشأت من ذلک أصناف العلوم المحتاج إلیها فی الاستنباط، کعلوم الحدیث ،والدرایة ،والجرح والتعدیل ،وعلل الحدیث، و معرفة أقوال الفقهاء، لاسیّما أصول الفقه

الذی لیس یقاس بسائر ما ذکرناه ممّا یکفی القدر المحتاج إلیه منها؛ فإنّ إعمال الأدّلة

و استثمارها لایمکن بدون الإحاطة التامّة بأکثر مباحثها، و لایتمّ العلم بشیء من الأحکام الفرعیّة من دون إحکام أصولها. و من لم یحکم أصولها فإنّما سبیله الحکایة و التقلید(1).

و الفقه علی علّو قدره، فی حکم الفرع المنشعب عن علم الأصول. و لامطمع فی الإحاطة بالفرع و الاطّلاع علی حقیقته إلاّ بعد تمهید الأصل و إتقانه؛ إذ مثار التخبّط فی الفروع، الذهول عن تنقیح الأصول(2).

و قد کان قدماء المحدّثین و السلف من فقهاء الإمامیّة - لقرب عهدهم من زمان الأئمّة و وجود أصول کتب و أمّهات المصنّفات بین أیدیهم، و احتفافها بالقرائن التی کانوا لأجلها متمکّنین من تمییز الصحیح من السقیم - علی استغناء فی الغالب عن الرجوع إلی هذه القواعد الأصولّیة الممهّدة، و کانوا یتمکّنون عن تحصیل العلم بها بالرجوع إلی الأخبار. لکن فی هذه الأعصار المتأخّرة - بسبب تغیّر الحال و ذهاب قرائن الأحوال، لأجل تقطیع الأخبار و غیره - لم یکد یمکن الاستنباط و الاجتهاد إلاّ بإتقان القواعد

الأصولیّة و الرجوع إلیها، و الممارسة الکثیرة فیها، حتّی تصیر ملکة یُستَقوی بها علی

الأدلّة عند النظر. و لامحیص لمن یرید الاستنباط و استخراج حکم مسألة من المسائل

ص:233

الفرعیّة إلاّ أن یرجع إلی ما بُنی علیه فی المسائل الأصولیّة. و بدونه لایکاد یتمکّن من

اجتهاد و استنباط.

ص:236

لَقَدْ جَاءَکُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِکُمْ عَزیزٌ عَلَیْهِ مَا عَنِتُّمْ حَریصٌ عَلَیْکُمْ... (التوبة 9/118)11

اِنَّا اَنْزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِیًّا لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ (یوسف 12/2)200

کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِی السَّمَاءِ... (إبراهیم 14/24)61

وَ إِنْ مِنْ شَیْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ (الحجر 15/21)29

وَ أَنْزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ (النحل 16/44)19

وَ نَزَّلْنَا عَلَیْکَ الکِتَابَ تِبْیَانا لِکُلِّ شَیْ ءٍ (النحل 16/92)200

الرَّحْمنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوی (طه 20/5)34

وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرانِ مِنْ قَبْلِ اَنْ یُقْضی اِلَیْکَ وَحْیُهُ... (طه 20/114)157

هَلْ اُنَبِّئُکُمْ عَلی مَنْ تَنَزَّلُ الشَّیَاطینُ... (الشعراء 26/221)123

فَاسْتَغَاثَهُ الَّذی مِنْ شیعَتِهِ عَلَی الَّذی مِنْ عَدُوِّهِ (القصص 28/15)66

وَ مَا یُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاَ یُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ اِلاَّ فی کِتَابٍ (فاطر 35/11)155

وَ اِنَّ مِنْ شیعَتِهِ لإَِبْرَاهیمَ (الصافّات 38/83)66

وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اللّه ِ مَا لَمْ یَکُونُوا یَحْتَسِبُونَ (الزمر 39/47)154

و مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلَی اللّه ِ و عَمِلَ صَالِحاً...(فصّلت 41/33)11

وَ اِنَّهُ لَکِتَابٌ عَزیزٌ لاَیَأْتیهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ... (فصّلت 41/42)199

یَا ءَیُّهَا الَّذینَ امَنُوا لاَتُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ (الحجرات 49/1)226

وَ اِنْ یَرَوْا کِسْفا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطا (الطور 52/44)105

وَ مَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر 59/7)11

فی اَیِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَکَّبَکَ (الإنفطار 82/8)115

وَ جَاءَ رَبُّکَ (الفجر 89/22)34

ص:238

أمّا بعد أیّها الناس فأنا فقأت... (الإمام علیّ علیه السلام)، 182

أمّا بعد فإنّا کنّا... (الإمام علیّ علیه السلام)، 182

أنا خالفت بینهم (الإمام الصادق علیه السلام)، 194

أنا عبد الله... (الإمام علی علیه السلام)، 86

أنا فعلت ذلک بکم (أبوالحسن الأوّل علیه السلام)، 194

أنا القائم بالحقّ... و لکن القائم (الإمام الکاظم علیه السلام)، 149

أیّها الناس قد کثرت علیّ الکذابة (رسول اللّه صلی الله علیه و آله)، 204

بادروا أولادکم بالحدیث قبل أن یسبقهم المرجئة (الإمام الصادق علیه السلام)، 28

حلال محمّد حلال أبداً... (الإمام الصادق علیه السلام)، 219

دعونی و التمسوا غیری (الإمام علی علیه السلام)، 40، 180

ذاک الی الإمام... (الإمام الصادق علیه السلام)، 191

ذلک من قِبَلی (الإمام الصادق علیه السلام)، 194

سبحان اللّه أوصی لی... (الإمام الکاظم علیه السلام)، 70

سلّموا علیه بإمرة المؤمنین (رسول اللّه صلی الله علیه و آله)، 138

ضعیف الحدیث خیر من الرأی (أحمد بن حنبل)، 226

العمریّ و ابنه ثقتان (أبومحمّد العسکریّ)، 232

فأکلت معه و أنا أعلم واللّه... (الإمام الصادق علیه السلام)، 193

فأمسکت یدی حتّی رأیت راجعة الناس.. (الإمام علیّ علیه السلام)، 179

قومو عِنّی... (رسول الله صلی الله علیه و آله)، 20

کان رأیی و رأی عمر أن لا یُبعن... (الإمام علیّ علیه السلام)، 147

کان (رسول اللّه صلی الله علیه و آله) إذا أحسّ برجل داخل ابتدأ الحدیث، 198

لا ترجعوا بعدی کفّاراً... (رسول اللّه علیه السلام)، 12

لعن اللّه القدریّة (الإمام الصادق علیه السلام)، 26، 28

لن تنقضی الأیّام و اللیالی حتّی یبعث اللّه رجلاً من أهل بیتی (رسول اللّه صلی الله علیه و آله)، 86

لو سکت الجاهل ما اختلف الناس (الإمام علیّ علیه السلام)، 5

ص:240

لیس شیء من الحلال و الحرام (ما من شیء)... (الإمام الصادق علیه السلام)، 192

ما بدا للّه فی شیء کما بدا له فی إسماعیل (الإمام الصادق علیه السلام)، 156

ما بعث اللّه نبیّاً قطّ إلاّ بتحریم الخمر و أن یقرّ للّه بالبداء (الإمام الرضا علیه السلام)، 155

ما عُبِداللّه بشیء مثل البداء (الإمام الصادق علیه السلام)، 155

ما لقی أحد من الناس ما لقیت (الإمام علی علیه السلام، 144

ما منّا إلاّ و هو قائم بأمر اللّه عزّوجلّ (الإمام الکاظم علیه السلام)، 149

من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّاً... (الإمام صادق علیه السلام)، 197

من کذب علیّ متعمّداً (رسول اللّه صلی الله علیه و آله)، 168

مهما أجبتک فیه لشیء فهو عن رسول اللّه (الإمام الصادق علیه السلام)، 217

واللّه ما کانت لی فی الخلافة رغبة و لا فی الولایة إربة (الإمام علیّ علیه السلام)، 180

و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها رواة أحادیثنا (الإمام المهدیّ علیه السلام)، 232

و أنا لکم وزیراً خیر لکم منّی أمیراً (الإمام علیّ علیه السلام)، 34

و بسطتم یدی فکففتها... (الإمام علیّ علیه السلام)، 180

و طفقت أرتئی بین أن أصول بیدٍ جذّاء أو أصبر علی طخیة عمیاء... (الإمام علیّ علیه السلام)، 39

و لعن اللّه الخوارج (الإمام الصادق علیه السلام)، 28

و لعن اللّه المرجئة (الإمام الصادق علیه السلام)، 28

ویلکم أنا عبد من عبیداللّه... (الإمام علی علیه السلام)، 98

هذا خلیفتی من بعدی... (رسول اللّه صلی الله علیه و آله)، 138

هو شیء بخلاف الأشیاء... (الإمام الصادق علیه السلام)، 164

یا محمّد احمل هذا الصندوق... (علیّ بن الحسین علیه السلام، 184

ص:241

الارتداد، 143

الارتفاع، 123، 124

الإرجاء، 25، 26، 28، 29

الأرزاق، 154

الأرواح، 79، 115، 122

الأزلیّ، 103

الأساطیر، 17

الاستحسان،(الاستحسانات) 58، 177، 192، 199، 214، 217، 222، 226

الاستدراج، 100

الاستصلاح، 227

الاستطاعة، 130، 166

الاستقراء، 229

الاستنباط، 212، 214، 217، 227، 230، 233

الإسلام، 14، 15، 16، 23، 28، 100، 134، 179، 180، 181

الأشباح، 122

الأشباح، 116

الأصلح، 130

الأصول، 90، 145، 161، 185، 186، 188، 233

الأصول، 163، 164، 168، 177، 181، 182، 198، 217

الأصول الاعتقادیّة، 206

الأصولان، 49

الأصول الخمسة، 22

الأصول العملیّة، 213

الأظلّة، 115، 116، 122

الإعادة، 132، 215

الاعتزال، 26، 27، 28، 31، 32، 35، 90، 91، 161

الاعتزال السیاسیّ، 31

الاعتزال الفکریّ، 31

الاعتقاد، 12، 27، 92، 131، 191

الإعدام، 154

الأفضل، 22، 131، 187

الأفکار، 130، 160، 185

الأفکار، 140، 141، 149

الأقطار، 130

الأقیسة، 217

الإکفار، 27، 35

الإلحاد، 110

الألطاف، 136

الألوهیّة، 98، 106

الألوهیّة، 109

الإلهام، 64

الإلهیّة، 98، 113

الإمام، 29، 43، 67، 69، 72، 73، 75، 79، 84، 87، 93، 108، 109،

ص:243

117، 118، 130، 136، 137، 144، 145، 147، 180، 189، 194، 207، 209، 210، 220

الإمام المستقرّ¨، 66، 80

الإمام المستودع، 66، 80

الإمامة، 12، 22، 24، 34، 35، 38، 42، 44، 49، 58، 63، 67، 69، 70، 71، 72، 75، 78، 79، 83، 85، 87، 88، 91، 92، 93، 94، 105، 120، 130، 133، 134، 135، 137، 138، 140، 144، 145، 156، 160، 161، 163، 164، 165، 168، 173، 183، 187، 189، 191، 193، 224